من غير فدية فوجب أن يكون ذلك حكم الحامل والمرضع وفيه دلالة على أنه لا فرق بين الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما إذ لم يفصل النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما وأيضاً لما كانت الحامل والمرضع يرجى لهما القضاء وإنما أبيح لهما الإفطار للخوف على النفس أو الولد مع إمكان القضاء وجب أن تكونا كالمريض والمسافر] أحكام القرآن 1/224.
ومما يدل على أن الحامل والمرضع تقضيان فقط قوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) سورة البقرة الآية 184.
فهذه الآية الكريمة بينت الحكم في حق المريض والمسافر وأن عليهما القضاء فقط
(فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) وفي حديث أنس الكعبي عطفت الحامل والمرضع على المسافر فالظاهر اتحاد الحكم في حق الثلاثة إلا إذا دل دليل قوي على خلاف ذلك ولم يوجد. انظر إعلاء السنن 9/151-152.
وقد قال الإمام مالك بعد أن ذكر أثر ابن عمر عندما سئل عن المرأة الحامل إذا خافت على ولدها واشتد عليها الصيام قال تفطر وتطعم. الخ.
قال مالك: [وأهل العلم يرون عليها القضاء كما قال الله عز وجل: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ] الموطأ 1/254.
وقد رجح هذا القول جماعة من أهل العلم منهم العلامة ولي الله الدهلوي حيث قال:
[والظاهر عندي أنهما - الحامل والمرضع - في حكم المريض فيلزم عليهما القضاء فقط] تحفة الأحوذي 3/331.
واختارت هذا القول اللجنة الدائمة للإفتاء السعودية حيث جاء في فتواها: [إن خافت الحامل على نفسها أو جنينها من الصوم أفطرت وعليها القضاء فقط شأنها في ذلك شأن المريض الذي لا يقوى على الصوم أو يخشى منه على نفسه قال الله تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ] فتاوى إسلامية 1/396.(4/318)
واختار هذا القول أيضاً الدكتور يوسف القرضاوي إلا أنه جعله في حق المرأة التي تتباعد فترات حملها كما هو الشأن في معظم نساء زماننا في معظم المجتمعات الإسلامية وخصوصاً في المدن والتي قد لا تعاني الحمل والإرضاع في حياتها إلا مرتين أو ثلاثاً فالأرجح أن تقضي كما هو رأي الجمهور. فقه الصيام ص 74.
الفرق بين الفدية والكفارة
يقول السائل: ما الفرق بين الفدية والكفارة في الصيام ومتى تلزم كل منهما؟
الجواب: كثير من الناس يلتبس عليه الفرق بين الفدية والكفارة في الصوم.
والفرق بينهما أن الفدية هي المذكورة في قول الله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) سورة البقرة الآية 184.
وهذه الآية في حق الشيخ الكبير ومن في حكمه ممن لا يستطيع الصوم فإنه يفطر ويخرج عن كل يوم أفطره فدية طعام مسكين.
ويلحق بالشيخ الكبير المرأة الكبيرة الهرمة والمريض مرضاً مزمناً لا يرجى شفاؤه.
وألحق بعض العلماء بهم الحامل والمرضع التي تخاف على ولدها تقضي وتطعم مسكيناً ولكن الراجح من أقوال العلماء أن الحامل والمرضع تقضيان فقط.
وقال جمهور الفقهاء من كان عليه قضاء من رمضان فلم يقضه حتى دخل رمضان التالي فعليه القضاء والفدية وقال الحنفية يلزمه القضاء بدون فدية وهو أرجح قولي العلماء في المسألة.(4/319)
ومقدار الفدية مُدُّ بِمُدِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ويساوي في زماننا هذا نصف كيلوغرام ويزيد قليلاً عليه وهذا مذهب جمهور أهل العلم.
وأما الكفارة فهي التي ورد ذكرها في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:
(جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: هلكت يا رسول الله. قال: وما أهلكك؟
قال: وقعت على امرأتي في رمضان. قال: هل تجد ما تعتق رقبة؟ قال: لا.
قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. قال: فهل تجد ما تتطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا. قال: ثم جلس. فأوتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بِعَرَقٍ فيه تمر، فقال - صلى الله عليه وسلم -: تصدق بهذا. قال: أفقر منا، فما بين لابتيها أهل بيت أحوج منا. فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت أنيابه ثم قال: اذهب فأطعمه أهلك) رواه البخاري ومسلم.
والعَرَق هو القفة والمكتل ويسع خمسة عشر صاعاً وهي ستون مُدَّاً لستين مسكيناً لكل مسكين مُدّ، قاله الإمام النووي. شرح النووي على صحيح مسلم 3/184.
وهذه الكفارة لها خصال ثلاث:
الأولى: عتق رقبة.
والثانية: صيام شهرين متتابعين دون أن يكون بينهما فاصل إلا من عذر شرعي كالمرض.
والثالثة: إطعام ستين مسكيناً لكل منهم مُدٌّ بمدِّ النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال الإمام البغوي: [وفيه- أي حديث أبي هريرة - دلالة من حيث الظاهر أن طعام الكفارة مُدُّ لكل مسكين لا يجوز أقل منه ولا يجب أكثر(4/320)
لأن خمسة عشر صاعاً إذا قسمت بين ستين مسكيناً يخص كل واحد منهم مُدٌّ وإلى هذا ذهب الأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد] شرح السنة 6/285.
والكفارة خاصة عند جمهور أهل العلم بمن جامع زوجته في نهار رمضان متعمداً فقط
وقال بعض أهل العلم: تجب الكفارة في حق من تعمد انتهاك حرمة صوم رمضان سواء كان ذلك بأكل أو شرب أو جماع. وقول الجمهور أرجح.
والكفارة واجبة عند جمهور العلماء على الترتيب فيبدأ بالعتق أولاً ونظراً لعدم وجود رقيق في عصرنا الحاضر فيبدأ بصوم ستين يوماً متتابعةً لا يصح قطعها إلا بعذر شرعي. فإن كان عاجزاً عن الصيام فإنه يطعم ستين مسكيناً.
قال الإمام البغوي: [وكفارة الجماع مرتبة مثل الظهار فعليه عتق رقبة مؤمنة فإن لم يجد فعليه أن يصوم شهرين متتابعين فإن لم يستطع فعليه أن يطعم ستين مسكيناً هذا قول أكثر العلماء.] شرح السنة 6/285.
ومما يدل على الترتيب في الكفارة ما جاء في رواية لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - السابق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للرجل: (أعتق رقبة. قال: لا أجد. قال: صم شهرين متتابعين. قال: لا أطيق. قال: أطعم ستين مسكيناً. قال: لا أجد.) رواه ابن ماجة وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر صحيح سنن ابن ماجة 1/280.
قال ابن تيمية الجَدُّ رحمه الله: [وفيه - أي الرواية السابقة للحديث - دلالة قوية على الترتيب] نيل الأوطار 4/240.
وهذا هو الراجح من أقوال أهل العلم أن الكفارة على الترتيب وقد رجحه ابن قدامة المقدسي في المغني 3/140 والشوكاني في نيل الأوطار 4/240.
ويجب على من أفطر بالجماع في نهار رمضان بالإضافة للكفارة أن(4/321)
يقضي ذلك اليوم لأنه قد ورد في بعض روايات حديث أبي هريرة السابق قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجل:
(وصم يوماً واستغفر الله) وقد صححها الشيخ الألباني في كتابه " إرواء الغليل " 4/90-93.
قال الإمام البغوي: [وقوله: (صم يوماً واستغفر الله) فيه بيان أن قضاء ذلك اليوم لا يدخل في صيام الشهرين عن الكفارة وهو قول عامة أهل العلم غير
الأوزاعي] شرح السنة 6/288-289.
فإن عجز عن الكفارة بخصالها الثلاث لم تسقط عنه وتبقى ديناً في ذمته على الراجح من أقوال العلماء إلى أن تتيسر له الكفارة فيكفر.
قال الإمام النووي: [فإن عجز عن الخصال الثلاث فللشافعي قولان أحدهما: لا شيء عليه وإن استطاع بعد ذلك فلا شيء عليه. والقول الثاني وهو الصحيح عند أصحابنا وهو المختار أن الكفارة لا تسقط بل تستقر في ذمته حتى يتمكن قياساً على سائر الديون والحقوق والمؤآخذات كجزاء الصيد وغيره.
وأما الحديث فليس فيه نفي استقرار الكفارة بل فيه دليل لاستقرارها لأنه أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه عاجز عن الخصال الثلاث ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرق التمر فأمره بإخراجه في الكفارة فلو كانت تسقط بالعجز لم يكن عليه شيء ولم يأمره بإخراجه فدل على ثبوتها في ذمته وإنما أذن له في إطعام عياله لأنه كان محتاجاً ومضطراً إلى الإنفاق على عياله في الحال والكفارة على التراخي فأذن له في أكله وإطعام عياله وبقيت الكفارة في ذمته.] شرح النووي على صحيح مسلم 3/182-183
وينبغي أن يعلم أن الكفارة تجب في حالة إفساد صوم رمضان فقط دون غيره من أنواع الصوم الأخرى كصوم القضاء وصوم النذر وصوم النافلة وصوم الكفارة فإن أفسد صوماً منها فعليه القضاء فقط.
قال الشيخ ابن قدامة: [ولا تجب الكفارة بالفطر في غير رمضان في(4/322)
قول أهل العلم وجمهور الفقهاء] المغني 3/138.
يصح صوم من أصبح جنباً
يقول السائل: أصابته جنابة في ليلة من رمضان ولم يغتسل إلا بعد أذان الفجر فهل صومه صحيح أم لا؟
الجواب: لا تشترط الطهارة من الجنابة للصيام فيجوز للجنب أن يدخل عليه وقت الفجر وهو جنب ولكن ينبغي له أن يغتسل حتى يصلي الفجر.
قال الإمام النووي: [فقد أجمع أهل هذه الأمصار على صحة صوم الجنب سواء كان من احتلام أو جماع وبه قال جماهير الصحابة والتابعين.] شرح النووي على صحيح مسلم 3/181.
ويدل على ذلك ما جاء في الحديث عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: (قد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدركه الفجر في رمضان وهو جنب من غير حلم فيغتسل ويصوم) رواه مسلم.
وروى مسلم بإسناده: (أن مروان أرسل إلى أم سلمة رضي الله عنها يسأل عن الرجل يصبح جنباً أيصوم؟ فقالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبح جنباً من جماعٍ لا من حلم ثم لا يفطر ولا يقضي) .
وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستفتيه وهي تسمع من وراء الباب فقال: (يا رسول الله تدركني الصلاة وأنا جنب أفأصوم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم. فقال: لست مثلنا يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال: والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي) رواه مسلم.(4/323)
عقوبة من أفطر عامداً في رمضان
يقول السائل: ورد في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أفطر يوماً في رمضان من غير رخصة ولا مرض لم يقض عنه صوم الدهر وإن صامه) فهل معنى هذا الحديث أن من أفطر عامداً في رمضان أنه لا يقضي اليوم الذي أفطره؟
الجواب: إن هذا الحديث المذكور رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد وذكره البخاري تعليقاً بصيغة التمريض عن أبي هريرة - رضي الله عنه - وهو حديث ضعيف عند المحدثين.
قال الحافظ ابن عبد البر: [وهذا - أي الحديث - يحتمل أن يكون لو صح على التغليظ وهو حديث ضعيف لا يحتج به] الاستذكار 10/104.
وقال الإمام الترمذي: [حديث أبي هريرة لا نعرفه إلا من هذا الوجه وسمعت محمداً - يعني الإمام البخاري - يقول: أبو المطوس اسمه يزيد بن المطوس ولا أعرف له غير هذا الحديث] سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 3/341.
وقال الحافظ ابن حجر: [. وقال البخاري في التاريخ أيضاً: تفرد أبو المطوس بهذا الحديث ولا أدري سمع أبوه من أبي هريرة أم لا؟
قلت: - أي الحافظ - واختلف فيه على حبيب ابن أبي ثابت اختلافاً كثيراً فحصلت فيه ثلاث علل: الاضطراب، والجهل بحال أبي المطوس، والشك في سماع أبيه من أبي هريرة، وهذه الثالثة تختص بطريقة البخاري في اشتراط اللقاء.] فتح الباري 5/63.
وضعفه الحافظ ابن بطال شارح صحيح البخاري. عون المعبود 7/21.
وضعف الحديث أيضاً الشيخ الألباني حيث قال: [. الحديث ضعيف وقد أشار لذلك البخاري بقوله: (ويذكر) وضعفه ابن خزيمة في صحيحه والمنذري والبغوي والقرطبي والذهبي والدميري فيما نقله المناوي والحافظ ابن حجر.] تمام المنة ص 396.(4/324)
والحاصل أن الحديث ضعيف وعلى من أفطر يوماً من رمضان عامداً بالأكل أو الشرب أن يقضي يوماً مكانه وأن يتوب إلى الله توبةً صادقة لأنه أتى ذنباً عظيماً.
قال الإمام البغوي: [هذا- أي الحديث - على طريق الإنذار والإعلام بما لحقه من الإثم وفاته من الأجر فالعلماء مجمعون على أنه يقضي يوماً مكانه] شرح السنة 6/290.
التشريك في النية في الصيام
تقول السائلة: إنها صامت الأيام الستة من شوال ونوت صيام الأيام الستة وقضاء ستة أيام أفطرتها من رمضان لعذر الحيض فما الحكم في ذلك؟
الجواب: إن مسألة التشريك في النية من المسائل التي يكثر السؤال عنها وخاصة في حالة صوم الأيام الستة المندوبة من شوال وهل تقع عن الصوم المندوب وعن القضاء؟
وكذلك صوم يومي الاثنين والخميس ندباً وقضاءً وكذلك التشريك في النية في صلاة ركعتين تحية المسجد وسنة الظهر القبلية والتشريك في نية الغسل عن غسل الجنابة وغسل الجمعة وغير ذلك من المسائل.
وهذه المسائل فيها تفصيل:
قال الحافظ ابن رجب: [إذا اجتمعت عبادتان من جنس واحد في وقت واحد ليست إحداهما مفعولة على جهة القضاء ولا على طريق التبعية للأخرى في الوقت تداخلت أفعالهما واكتفي فيهما بفعل واحد] تقرير القواعد وتحرير الفوائد 1/142.
وهذه القاعدة التي ذكرها الحافظ ابن رجب تقع على أنواع:
النوع الأول: أن يكون مبنى العبادتين على التداخل كغسل الجمعة(4/325)
والجنابة ومثل الوضوء والغسل من الجنابة فإذا اغتسل شخص ونوى بغسله غسل الجمعة وهو مندوب وغسل الجنابة وهو فرض فالراجح من أقوال أهل العلم أن ذلك يجزئه عنهما ويكفيه الغسل الواحد ويحصل له كلا الغسلين.
قال الإمام الشافعي: [وإن كان جنباً فاغتسل لهما جميعاً أجزأه] .
قال الماوردي: [وصورتها في رجل أصبح يوم الجمعة جنباً فعليه غسلان واجب وهو الجنابة ومسنون وهو الجمعة فإن اغتسل لهما غسلين كان أفضل ويقدم غسل الجنابة وإن اغتسل لهما غسلاً واحداً ينويهما معاً أجزأه] الحاوي الكبير 1/375.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [إذا اجتمع شيئان يوجبان الغسل كالحيض والجنابة أو التقاء الختانين والإنزال ونواهما بطهارته أجزأه عنهما قاله أكثر أهل العلم منهم عطاء وأبو الزناد وربيعة ومالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي. ولأنهما سببان يوجبان الغسل فأجزأ الغسل الواحد عنهما كالحدث والنجاسة] .
المغني 1/163.
وقال بعض أهل العلم لا يجزئه غسل واحد ولا بد من غسلين وعلى هذا ابن حزم الظاهري والشيخ الألباني وغيرهما. انظر المحلى 1/289، تمام المنة 126-127.
والصحيح القول الأول أنه يكفي غسل واحد في هذه الحالة لأن مراد الشارع يتحقق بحصول الفعل وقد حصل بالغسل مرة واحدة فالمراد أن يتطهر الإنسان وقد تطهر ولا حاجة للاغتسال مرة ثانية.
قال الإمام النووي: [ولو نوى بغسله غسل الجنابة والجمعة حصلا جميعاً هذا هو الصحيح] المجموع 3/326. وضعف الإمام النووي القول المخالف.
وكذلك يقال فيمن نوى بغسله للجنابة رفع الحدث الأصغر أيضاً يصح لأن الله تعالى يقول: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا) سورة المائدة آية 6.(4/326)
ولم يذكر وجوب الوضوء ولا وجوب نيته وهذا هو القول الراجح على أنه يجزئ إذا نوى رفع الحدث الأكبر أدى عن الأصغر لأن الله تعالى لم يذكر شيئاً آخر سوى أن يتطَّهر الإنسان] تعليق الشيخ ابن عثيمين على قواعد ابن رجب 1/144.
وقال الإمام البيهقي: [باب الدليل على دخول الوضوء في الغسل.] .
ثم ساق الأحاديث في غسل النبي - صلى الله عليه وسلم -. سنن البيهقي 1/177-178.
وأما النوع الثاني: وهو أن تحصل له إحدى العبادتين بنيتها وتسقط عنه الأخرى فمن ذلك إذا دخل شخص المسجد وقد أقيمت صلاة الفجر فصلى مع الجماعة فإنه ينوي الفريضة ولا بد وتسقط عنه تحية المسجد.
لأن تحية المسجد تحصل بأداء الفريضة نوى التحية أولم ينوها لأن المراد شغل البقعة بالعبادة كما ثبت في الحديث أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: [إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين] رواه البخاري ومسلم.
وكذلك إذا دخل المسجد قبل إقامة صلاة الظهر ولا يتسع الوقت لصلاة سنة الظهر القبلية وصلاة تحية المسجد فإنه يصلي السنة الراتبة وتجزؤه عن تحية المسجد.
قال ابن نجيم الحنفي: [. وسنة الوضوء وتحية المسجد وينوب عنها كل صلاة أداها عند الدخول. كذلك تنوب عنها كل صلاة فرضاً كانت أو نفلاً] الأشباه والنظائر 1/123.
ومن ذلك إذا أخر طواف الإفاضة إلى وقت مغادرته مكة فطاف فيجزؤه عن طواف الوداع.
النوع الثالث: لا يصح التشريك في النية في عبادتين مقصودتين لذاتهما كأن ينوي شخص أداء فريضة الظهر وأربع ركعات السنة القبلية فهذا لا يصح ولا يجزئ لأنهما عبادتان مستقلتان لا تندرج إحداهما في الأخرى ومثل ذلك لو نوى بصلاة العصر أدائها وقضاء صلاة الظهر فإن ذلك لا يصح ولا يجزؤه.(4/327)
ومثل ذلك من ينوي بصيام الستة من شوال القضاء وصيام الستة معاً فهذا لا يجزئ لأن صوم القضاء عبادة مستقلة وصيام الستة من شوال عبادة مستقلة فلا يصح التداخل بينهما وينبغي على الشخص في هذه الحالة أن يحدد بنيته أي العبادتين يريد فإما أن ينوي القضاء مستقلاً وإما أن ينوي صيام الستة من شوال مستقلة وأما الجمع بينهما بنية واحدة فلا يصح ولا يجزئ عنهما.
فإذا فعل ذلك فاختلف العلماء عن أي العبادتين يقع؟ والأقرب أنه يقع عن القضاء لأنه فرض ولا يقع عن صيام الستة من شوال لأنها مندوبة والعبادة الأوجب لها الأولوية. انظر مقاصد المكلفين ص 257.(4/328)
الحج(4/329)
تكفير الحج للذنوب
يقول السائل: إنه يريد أداء فريضة الحج وقد قارف كثيراً من المعاصي والآثام في أيامه السابقة فهل الحج يكفر هذه الذنوب كما جاء في الحديث إن الحاج يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أن على من أراد الحج المبادرة إلى التوبة النصوح من جميع الذنوب والخطايا لقوله تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) سورة النور الآية 31.
وحقيقة التوبة الإقلاع عن الذنوب وتركها والندم على ما مضى منها والعزيمة على عدم العودة إليها. وإن كان عنده مظالم للناس فعليه أن يردها وأن يتحلل منها قبل سفره لما صح في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من كانت عنده مظلمة لأخيه من مال أو عرض فليتحللها من صاحبه من قبل أن يؤخذ منه حين لا يكون دينار ولا درهم فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه) رواه البخاري.
وعليه أن يقضي ديونه فإن لم يتمكن من قضائها فعليه أن يوكل بقضائها وعليه أن يترك لأهله نفقة تكفيهم حال غيابه ويجب عليه أن يسعى لإرضاء والديه ومن يتوجه عليه بره وطاعته.(4/331)
ويجب أن تكون نفقته للحج ولغيره حلالاً طيباً لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) سورة البقرة الآية 267.
ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً) رواه مسلم انظر التحقيق والإيضاح ص10-11.
ومما تجب العناية به على من أراد الحج أن يتعلم الأحكام الشرعية اللازمة للحج وللسفر ونحوها.
قال الإمام النووي: [إذا أراد سفر حج أو غزو لزمه تعلم كيفيتهما إذ لا تصح العبادة ممن لا يعرفها ويستحب لمن يريد الحج أن يستصحب معه كتاباً واضحاً في المناسك جامعاً لمقاصدها ويديم مطالعته ويكررها في جميع طرقه لتصير محققة عنده. ومن أخل بهذا من العوام يخاف أن لا يصح حجه لإخلاله بشرط من شروط أركانه ونحو ذلك. وربما قلد بعضهم بعض عوام مكة وتوهم أنهم يعرفون المناسك محققة فاغتر بهم وذلك خطأ فاحش] المجموع 4/386.
وهناك أحكام وآداب أخرى ينبغي للمسلم أن يتحلى بها وليس هذا محل بحثها.
وأما جواب السؤال فأقول إن الحديث الذي أشار إليه السائل هو ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه] رواه البخاري ومسلم.
وهذا الحديث عام مخصوص على الصحيح من أقوال أهل العلم فإن الحج وغيره من الطاعات كالوضوء والصلاة والعمرة تكفر صغائر الذنوب دون كبائرها ولا أثر للطاعات في إسقاط حقوق العباد فلا بد من رد الحقوق لأصحابها ولا بد للمسلم من التوبة الصادقة من كبائر الذنوب.
قال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا) سورة التحريم الآية 8.(4/332)
وقال تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) سورة النور الآية 31.
قال الحافظ ابن عبد البر: [ولو كانت الطهارة والصلاة وأعمال البر مكفرةً للكبائر والمتطهر المصلي غير ذاكر لذنبه الموبق ولا قاصد إليه ولا حضره في حينه ذلك أنه نادم عليه ولا خطرت خطيئته المحيطة به بباله لما كان لأمر الله عز وجل بالتوبة معنى ولكان كل من توضأ وصلى يشهد له بالجنة بأثر سلامه من الصلاة وإن ارتكب قبلها ما شاء من الموبقات الكبائر وهذا لا يقوله أحد ممن له فهم صحيح وقد أجمع المسلمون أن التوبة على المذنب فرض والفروض لا يصح شيء منها إلا بقصد ونية واعتقاد أن لا عودة فأما أن يصلي وهو غير ذاكر لما ارتكب من الكبائر وغير نادم على ذلك فمحال فقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (الندم توبة) - رواه ابن ماجة وهو حديث صحيح قاله الشيخ الألباني - وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة إلى ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر) .
وفي رواية أخرى قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن من الخطايا ما لم تغش الكبائر) رواه مسلم.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما لمن اجتنب الكبائر) رواه ابن ماجة وهو حديث صحيح.
ومما سبق يتضح لك أن الصغائر تكفر بالصلوات الخمس لمن اجتنب الكبائر فيكون على هذا معنى قول الله عز وجل: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) الصغائر بالصلاة والصوم والحج وأداء الفرائض وأعمال البر وإن لم تجتنبوا الكبائر ولم تتوبوا منها لم تنتفعوا بتكفير الصغائر إذا واقعتم الموبقات المهلكات والله أعلم.
وهذا كله قبل الموت فإن مات صاحب الكبيرة فمصيره إلى الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه فإن عذبه فبجرمه وإن عفا عنه فهو أهل العفو وأهل المغفرة.
وإن تاب قبل الموت وقبل حضوره ومعاينته واعتقد أن لا يعود(4/333)
واستغفر ووجل كان كمن لم يذنب وبهذا كله الآثار الصحاح عن السلف قد جاءت وعليه جماعة علماء المسلمين] فتح المالك بتبويب التمهيد لابن عبد البر على موطأ الإمام مالك 1/55-57 بتصرف.
وهذا الذي بينه الحافظ ابن عبد البر هو القول الصحيح الذي تؤيده الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى ذلك يحمل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن) رواه الترمذي وقال: حديث حسن. وهو من أحاديث الأربعين نووية.
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي: [وقد حكى ابن عطية في تفسيره في معنى هذا الحديث قولين. الثاني: أنه تكفر الصغائر مطلقاً ولا يكفر الكبائر إن وجدت لكن يشترط التوبة من الصغائر وعدم الإصرار عليها.] .
ثم قال الحافظ ابن رجب: [والصحيح قول الجمهور أن الكبائر لا تكفر بدون التوبة لأن التوبة فرض على العباد وقد قال عز وجل: (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) سورة الحجرات الآية 11] جامع العلوم والحكم 214-216.
ولا يصح التمسك بظاهر قوله تعالى (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) سورة هود الآية 114. على أن الحسنات تكفر كل سيئة كبيرة وصغيرة.
وعند جمهور أهل العلم لا بد من تقييد ذلك بما صح في الحديث من قول - صلى الله عليه وسلم -:
[إن الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر} وغيره من الأحاديث المقيدة لمطلق الآية. انظر فتح الباري 9/427.
وبناءاً على ما تقدم فإن الحج يكفر صغائر الذنوب مطلقاً وأما الكبائر المتعلقة بحقوق الناس فإن كانت مالية كدين عليه أكله ظلماً وعدواناً فلا يكفره الحج ولا بد من وفاء دينه.
وأما الكبائر المتعلقة بحق الله تعالى فإن كانت مثل الإفطار في رمضان بغير عذر فيجب عليه قضاؤه ولا يكفره الحج.(4/334)
وإن كانت مثل تأخير الصلاة عن وقتها لغير عذر فإن الحج يكفره وعليه أن يتوب توبة صادقة.
قال الإمام الترمذي: [هو مخصوص - أي حديث أبي هريرة - بالمعاصي المتعلقة بحق الله تعالى خاصة دون العباد ولا تسقط الحقوق أنفسها فمن كان عليه صلاة أو كفارة ونحوها من حقوق الله تعالى لا تسقط عنه لأنها حقوق لا ذنوب وإنما الذنوب تأخيرها فنفس التأخير يسقط بالحج لا هي نفسها فلو أخرها بعده تجدد إثم آخر فالحج المبرور يسقط إثم المخالفة لا الحقوق] الفتح الرباني 19/7.
لا يجوز الحج بالمال الحرام
يقول السائل: إنه فاز بمبلغ من المال في اللوتو " اليانصيب " ويريد أن يحج من ذلك المال ويتصدق ببعضه على الفقراء والمحتاجين فما الحكم في ذلك؟
الجواب: إن اليانصيب أو اللوتو شكل من أشكال القمار المحرم بنص كتاب الله تعالى حيث قال سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) سورة المائدة الآيات 90-91.
وهذا المال الذي حصل عليه هذا الشخص من اللوتو مال حرام لأنه مكتسب بطريق محرم وهو القمار أو الميسر حيث إن اللوتو أو اليانصيب يعتمد على الحظ وقد ورد عن محمد بن سيرين ومجاهد وعطاء أنهم قالوا: [الميسر كل شيء فيه حظ] انظر الميسر والقمار ص 28.
وينبغي على السائل أن يتخلص من هذا المال الحرام بصرفه كله إلى الفقراء والمساكين أو صرفه في مصالح المسلمين العامة كبناء مدرسة أو(4/335)
مستشفى أو إصلاح طريق ونحو ذلك ولا يحل له أن ينتفع به هو وأهله وعياله ولا يحل له أن يحتفظ بهذا المال لأنه اكتسبه من طريق غير مشروع.
وقد نص كثير من أهل العلم على أن التخلص من المال الحرام يكون بالتصدق به فقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية: [عن رجل مرابٍ خلَّف مالاً وولداً وهو يعلم بحاله فهل يكون المال حلالاً للولد بالميراث؟ أم لا؟
فأجاب: أما القدر الذي يعلم الولد أنه ربا فيخرجه إما أن يرده إلى أصحابه إن أمكن وإلا تصدق به. والباقي لا يحرم عليه.] مجموع الفتاوى 29/307.
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: [عن امرأة كانت مغنية واكتسبت في جهلها مالاً كثيراً وقد تابت. فهل هذا المال الذي اكتسبته. إذا أكلت وتصدقت منه تؤجر عليه؟
فأجاب بأن هذا المال لا يحل للمغنية التائبة ولكن يصرف في مصالح المسلمين. إلخ) انظر مجموع الفتاوى 29/308-309.
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: [عن الرجل يختلط ماله الحلال بالحرام؟
فأجاب بأنه يخرج قدر المال الحرام فيرده إلى صاحبه وإن تعذر عليه ذلك تصدق
به] مجموع الفتاوى 29/308.
وقال الشيخ القرطبي عند تفسير قوله تعالى: (فَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) سورة البقرة الآية 297.
ما نصه: [قال علماؤنا إن سبيل التوبة مما بيده من الأموال الحرام إن كانت رباً فليردها على من أربى عليه ويطلبه إن لم يكن حاضراً فإن أيس من وجوده فليتصدق بذلك.(4/336)
وإن أخذ بظلم فليفعل كذلك في أمر من ظلمه فإن التبس عليه الأمر ولم يدر كم الحرام من الحلال مما بيده فإنه يتحرى قدر ما بيده مما يجب رده حتى لا يشك أن ما يبقى قد خلص له فيرده من ذلك الذي أزال عن يده إلى من عٌرف ممن ظلمه أو أربى عليه فإن أيس من وجوده تصدق به عنه، فإن أحاطت المظالم بذمته وعلم أنه وجب عليه من ذلك ما لا يطيق أداءه أبداً لكثرته فتوبته أن يزيل ما بيده أجمع إما إلى المساكين وإما إلى ما فيه صلاح المسلمين.] تفسير القرطبي 3/366.
ومما يدل على ذلك ما رواه أبو داود بإسناده عن كليب عن أبيه عن رجل من الأنصار قال: (خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على القبر يوصي الحافر أوسع من قبل رجليه أوسع من قبل رأسه.
فلما رجع استقبله داعي امرأة فجاء وجيء بطعام فوضع يده ثم وضع القوم فأكلوا فنظر آباؤنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلوك لقمة في فمه ثم قال: أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها.
فأرسلت المرأة فقالت: يا رسول الله إني أرسلت إلى البقيع يشتري لي شاة فلم أجد فأرسلت إلى جار لي قد اشترى شاة أن أرسل إليَّ بها بثمنها فلم يوجد فأرسلت إلى امرأته فأرسلت إليَّ بها. فقال: أطعميه الأسارى] وسكت عليه أبو داود والمنذري وقال الشيخ الألباني: رواه ابن منده في المعرفه ثم قال: وهذا سند صحيح.
سلسلة الأحاديث الصحيحة 2/394 وانظر المشكاة 3/1672.
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بالتصدق بالشاة المطبوخة التي قدمت له ولأصحابه لما علم أن الشاة أخذت بغير إذن صاحبها.
قال العلامة علي القاري: [فظهر أن شراءها غير صحيح لأن إذن جارها ورضاه غير صحيح] مرقاة المفاتيح 10/297.
ومما يدل على ذلك أيضاً ما تعددت به الروايات في قصة رهان(4/337)
أبي بكر - رضي الله عنه - لبعض الكفار عندما نزل قوله تعالى: (الم، غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ في بضع سنين) سورة الروم الآيات 1-3.
وجاء في بعض روايات هذه الحادثة: [أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر: (هذا سحت فتصدق به) وكان هذا قبل تحريم القمار كما قال القرطبي، وقد ذكر ابن كثير والقرطبي عدة روايات لهذه الحادثة. تفسير القرطبي 14/2-4، تفسير ابن كثير 3/422-424.
وقال الإمام ابن كثير بعد أن ساق عدداً من روايات هذه الحادثة: [وقد روي نحو هذا مرسلاً عن جماعة من التابعين مثل عكرمة والشعبي ومجاهد وقتادة والسدي والزهري وغيرهم] تفسير ابن كثير 3/423.
وقد قاس بعض أهل العلم التخلص من المال الحرام بالتصدق به قاسوه على اللقطة إن تعذر ردها إلى مالكها فإن الملتقط يتصدق بها. انظر أحكام المال الحرام ص 362.
وينبغي أن يعلم أن إخراج المال الحرام والتحلل منه ودفعه إلى الفقراء والمساكين ويسمى هذا الدفع صدقة بالنظر إلى الفقير لا بالنظر إلى المعطي ذلك أن التائب من المال الحرام بإخراجه إلى الفقراء والمساكين لأجل أن تقبل توبته لا لأجل الأجر والثواب فهذا الإخراج من مكملات التوبة وشروطها ولا أجر لهذا الشخص في تخلصه من المال الحرام. أحكام المال الحرام ص 411-412.
ولا ينبغي لك أيها السائل أن تحج من هذا المال الحرام فالحج من أعظم الطاعات فينبغي أن يكون المال الذي ينفق فيه من أطيب المال وأحله.
يقول الله تعالى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) سورة البقرة الآية 117.
ويقول الله تعالى: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) سورة المائدة الآية 27.
ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - (إن الله تبارك وتعال يقبل الصدقات ولا يقبل(4/338)
منها إلا الطيب) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح وقال الإمام البغوي: هذا حديث صحيح.
شرح السنة 6/130.
وفي حديث آخر قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (والذي نفسي بيده ما من عبد يتصدق بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيباً ولا يصعد إلى السماء إلا الطيب كأنما يضعها في يد الرحمن.) رواه الشافعي وإسناده حسن.
وفي حديث آخر قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (ما تصدق أحد من صدقة من طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه. الحديث) متفق عليه.
الخاطب ليس محرماً لخطيبته في الحج
يقول السائل: رجل خاطب وأرادت خطيبته وأم خطيبته الذهاب إلى الحج أو العمرة فهل يكون هذا الرجل محرماً لها ولأمها؟
الجواب: من المعلوم عند أهل العلم أن الخطبة مقدمة للزواج وهي مجرد وعد بالزواج وليست زواجاً.
وبناءاً على ذلك فيعتبر كل من الخاطب والمخطوبة أجنبياً عن الآخر فلا يحل لهما الاختلاط دون وجود محرم وما يفعله كثير من الخاطبين اليوم من الذهاب إلى الأماكن العامة والجلوس على انفراد والذهاب والإياب معاً مخالف للشرع لأن الخاطب ما زال أجنبياً عن المخطوبة ولا يحل له من المخطوبة سوى ما أباحه الشرع الحكيم ألا وهو النظر عند الخطبة فقد جاء في الحديث عن جابر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال:
(إذا خطب أحدكم المرأة فاستطاع أن ينظر منها ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل)
رواه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي ووافقهما الألباني.
وعن المغيرة بن شعبة أنه خطب امرأة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (انظر إليها فإنه(4/339)
أحرى أن يؤدم بينكما) رواه النسائي والترمذي وابن ماجة وغيرهم وهو حديث صحيح.
ومعنى يؤدم بينكما: أن تقع الألفة والملائمة بينكما.
والخاطب لا يكون محرماً لمخطوبته ولا لأمها في السفر سواء كان لحج أو عمرة أو لغيرهما لأنه أجنبي عنهما ولا يجوز له السفر بهما فقد جاء في الحديث عن ابن عمر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تسافر المرأة ثلاثاً إلا ومعها ذو محرم) رواه مسلم.
وجاء في حديث آخر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يخلونَّ رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم. فقام رجل فقال: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجةً وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا. قال: انطلق فحج مع امرأتك) رواه البخاري ومسلم.
وأخيراً ينبغي التنبيه على أن كثيراً من عامة الناس في بلادنا يطلقون لفظ الخاطب على من كان قد عقد الزواج ولم يدخل بزوجته فإن كان الأمر كذلك فمن عقد على امرأته ولم يدخل بها فهي زوجته شرعاً فيجوز له أن يسافر بها وهو محرم على أمها فيجوز لها أن تسافر معه.
تجوز العمرة قبل أن يحج حجة الفرض
يقول السائل: إنه يريد أن يسافر إلى مكة المكرمة لأداء العمرة وينوي أن يعتمر بعد ذلك عن أبيه الميت فقال له بعض الناس لا يجوز لك أن تعتمر عن أبيك حتى تحج عن نفسك والسائل لم يحج عن نفسه حتى الآن فما قولكم في ذلك؟
الجواب: إن فضل العمرة عظيم وثوابها كبير فقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (العمرة إلى العمرة(4/340)
كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) رواه البخاري مسلم.
ويجوز للمسلم أن يعتمر قبل أن يحج وقد فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الإمام البخاري في صحيحه: [باب من اعتمر قبل الحج] ثم روى بإسناده عن ابن جريح
أن عكرمة بن خالد سأل ابن عمر رضي الله عنهما عن العمرة قبل الحج فقال: لا بأس.
قال عكرمة قال ابن عمر: اعتمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يحج. صحيح البخاري مع فتح الباري 8/348.
وقد أجاز العلماء أن يحج المسلم وأن يعتمر عن غيره كأمه وأبيه وزوجته وإخوته وغيرهم.
فقد جاء في الحديث عن ابن عباس أن امرأة من خثعم قالت: (يا رسول الله إن أبي أدركته فريضة الله في الحج شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره. قال: فحجي عنه) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي رزين العقيلي أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: حج عن أبيك واعتمر) رواه أبو داود والترمذي وقال الترمذي: [هذا حديث حسن صحيح وإنما ذكرت العمرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث أن يعتمر الرجل عن غيره] سنن الترمذي مع شرحه عارضة الأحوذي لابن العربي المالكي 3/127.
فقد دل الحديث السابق على جواز أن يعتمر الشخص عن غيره ولا أعلم أحداً من أهل العلم يشترط فيمن يعتمر عن غيره أن يكون قد حج عن نفسه فإن هذا الاشتراط هو في الحج فقط فمن أراد أن يحج عن غيره فينبغي أن يكون قد حج عن نفسه كما هو مذهب جمهور أهل العلم لما ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يقول: لبيك اللهم عن شبرمة. قال: من شبرمة؟ قال: أخ لي أو قريب. قال: حججت عن نفسك؟ قال: لا. قال: حج عن نفسك ثم حج عن(4/341)
شبرمة) رواه أبو داود وابن ماجة وابن حبان والبيهقي وقال: هذا إسناد صحيح ليس في هذا الباب أصح منه. ومال إلى تصحيحه الحافظ ابن حجر وصححه الشيخ الألباني أيضاً.
وما دام السائل يريد أن يعتمر عن نفسه أولاً فلا بأس أن يعتمر عن أبيه بعد ذلك وإن لم يكن قد حج عن نفسه ولا ارتباط بين الأمرين في هذا.
وإن قلنا بقياس العمرة على الحج في أنه يشترط فيمن يحج عن غيره أن يكون قد حج عن نفسه فنقول ينبغي لمن أراد أن يعتمر عن غيره أن يكون قد اعتمر عن نفسه وهذا هو الغالب من حال المعتمرين إذ المعهود أن يعتمر الإنسان عن نفسه أولاً ثم يعتمر عن غيره ثانياً.(4/342)
الأضحية(4/343)
كيفية توزيع الأضحية
يقول السائل: كيف توزع الأضحية؟
الجواب: قال أهل العلم يكون التصرف بالأضحية بالأكل والصدقة والهدية وتفصيل ذلك كما يلي: ذهب جمهور أهل العلم إلى أن الأكل من الأضحية مندوب.
وقد استدلوا بما ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
(. فكلوا وادخروا وتصدقوا) متفق عليه.
وما ورد في حديث جابر - رضي الله عنه - أنه عليه الصلاة والسلام قال: (. كلوا وتزودوا) رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية أخرى عند مسلم: (. كلوا وتزودوا وادخروا) .
وقد حمل الجمهور الأوامر في هذه الأحاديث على الندب، لأن الأمر فيها جاء بعد الحظر فيحمل على الندب أو الإباحة.
قال الحافظ ابن عبد البر: [وأما قوله: (فكلوا وتصدقوا وادخروا) فكلام خرج بلفظ الأمر، ومعناه الإباحة لأنه أمر ورد بعد نهي، وهكذا شأن كل أمر يرد بعد حظر أنه إباحة لا إيجاب] الاستذكار 15/173.(4/345)
وأما مقدار الأكل فقال الحنفية والحنابلة: يأكل ثلثها ويهدي ثلثها ويتصدق بثلثها.
ولو أكل أكثر من الثلث جاز. بدائع الصنائع 4/223، المغني 9/448.
وجاء عن الشافعي أنه يستحب قسمتها أثلاثاً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (كلوا وتصدقوا وأطعموا) فتح الباري 12/123.
واحتج ابن قدامة المقدسي بما ورد عن ابن عباس - رضي الله عنه - في صفة أضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [ويطعم أهل بيته الثلث ويطعم فقراء جيرانه الثلث ويتصدق على السؤَّال بالثلث] رواه الحافظ أبو موسى الأصفهاني في الوظائف وقال: حديث حسن. المغني 9/448-449.
وقالوا لأنه قول ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما ولم نعرف لهما مخالفاً من الصحابة فكان إجماعاً كما قال ابن قدامة في المغني 9/449.
ومن أهل العلم من استحب أن يأكل نصفاً ويطعم نصفاً لقول الله تعالى في الهدايا: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) سورة الحج الآية 36.
وأما الإمام مالك فلم يحدد في ذلك شيئاً ويقول: يأكل ويتصدق.
والدليل على أنه لا تحديد في المسألة بل الأمر على الاستحباب حديث ثوبان - رضي الله عنه - قال: (ذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحيته ثم قال: يا ثوبان أصلح لحم هذه الأضحية. قال: فلم أزل أطعمه منها حتى قدم المدينة) رواه مسلم.
ويستحب لمن أراد أن يضحي في يوم الأضحى أن يخرج إلى صلاة العيد ولا يأكل شيئاً حتى يصلي ثم يذبح أضحيته فيأكل منها وهذا قول أكثر العلماء.
قال الشيخ ابن قدامة: [. ولا يأكل في الأضحى حتى يصلي وهذا قول أكثر أهل العلم منهم علي وابن عباس ومالك والشافعي وغيرهم لا نعلم فيه خلافاً] .
المغني 2/275.(4/346)
ومما يدل على ذلك ما جاء في الحديث عن عبد الله بن بريدة عن أبيه - رضي الله عنه - قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم ولا يطعم يوم الأضحى حتى يصلي) رواه الترمذي، ثم قال: [وقد استحب قوم من أهل العلم أن لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم شيئاً ويستحب له أن يفطر على تمر ولا يطعم يوم الأضحى حتى يرجع] . والحديث رواه أيضاً ابن ماجة وابن حبان وقال الشيخ الألباني: صحيح. سنن الترمذي مع شرحه التحفة 3/80، صحيح سنن الترمذي 1/168
والحكمة في امتناع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الأكل قبل الصلاة يوم الأضحى هي: [ليكون أول ما يطعم من لحم أضحيته فيكون مبنياً على امتثال الأمر] المرقاة 3/544-545.
وقال الإمام أحمد: [والأضحى لا يأكل فيها حتى يرجع إذا كان له ذبح لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل من ذبيحته وإذا لم يكن له ذبح لم يبالِ أن يأكل] المغني 2/275.
وقال الشعبي: [إن من السنة أن تطعم يوم الفطر قبل أن تغدو، وأن تؤخر الطعام يوم النحر حتى ترجع] .
وقال سعيد بن المسيب: [كان المسلمون يأكلون يوم الفطر قبل المصلى ولا يفعلون ذلك يوم النحر] الاستذكار 7/40.
وأما التصدق منها فقال الحنفية والمالكية إن التصدق من الأضحية مندوب وليس بواجب.
وحجتهم ما سبق في الأكل من الأضحية وهو أرجح أقوال العلماء في المسألة.
ويتصدق منها على المسلمين من الفقراء والمحتاجين ويهدي إلى الأقارب والأصدقاء والجيران وإن كانوا أغنياء.
ونقل النووي عن ابن المنذر قوله: [أجمعت الأمة على جواز إطعام(4/347)
فقراء المسلمين من الأضحية واختلفوا في إطعام فقراء أهل الذمة فرخص فيه الحسن البصري
وأبو حنيفة وأبو ثور. وقال مالك: غيرهم أحب إلينا.
وكره مالك أيضاً إعطاء النصراني جلد الأضحية أو شيئاً من لحمها.
وكرهه الليث قال: فإن طبخ لحماً فلا بأس بأكل الذمي مع المسلمين منه] .
ثم قال النووي: [ومقتضى المذهب أنه يجوز إطعامهم من ضحية التطوع دون الواجبة] المجموع 8/425.
وقال الشيخ ابن قدامة: [ويجوز أن يطعم منها كافراً وبهذا قال الحسن وأبو ثور وأصحاب الرأي. لأنه طعام له أكله فجاز إطعامه للذمي كسائر الأطعمة ولأنه صدقة تطوع فجاز إطعامها للذمي والأسير كسائر صدقة التطوع] المغني 9/450.
والراجح من أقوال العلماء أنه يجوز إطعام أهل الذمة منها، وخاصةً إن كانوا فقراء أو جيراناً للمضحي أو قرابته أو تأليفاً لقلوبهم.
وأما الهدية من الأضحية فقد اتفق أهل العلم على أن الهدية من الأضحية مندوبة. وكثير من العلماء يرون أن يهدي ثلثاً منها كما مرَّ في حديث ابن عباس فإنه يجعل الأضحية أثلاثاً ثلث لأهل البيت وثلث صدقة وثلث هدية.
ونقل هذا عن ابن مسعود وابن عمر وعطاء وإسحاق وأحمد وهو أحد قولي الشافعي.
ويسن أن يجمع بين الأكل والتصدق والإهداء وأن يجعل ذلك أثلاثاً وإذا أكل البعض وتصدق بالبعض فله ثواب الأضحية بالكل والتصدق بالبعض.(4/348)
لا يجوز إعطاء الجزار أجرته من الأضحية
يقول السائل: هل يجوز أن يعطى الجزَّار الذي يتولى ذبح الأضحية أجرته من لحمها؟
الجواب: قال جمهور أهل العلم لا يجوز أن يُعطى الجزَّار شيئاً من الأضحية مقابل ذبحها وسلخها واحتجوا على ذلك بما جاء في الحديث عن علي - رضي الله عنه - قال: (أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقوم على بدنه أي الإبل وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأجلتها وأن لا أعطي الجزَّار منها. وقال: نحن نعطيه من عندنا) رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية أخرى عند مسلم: (ولا يعطي في جزارتها منها شيئاً) .
فهذا الحديث يدل على عدم جواز إعطاء الجزَّار منها لأن عطيته عوض عن عمله فيكون في معنى بيع جزء منها وذلك لا يجوز.
وأما إن كان الجزَّار فقيراً أو صديقاً فأعطاه منها لفقره أو على سبيل الهدية فلا بأس لأنه مستحق للأخذ فهو كغيره بل هو أولى لأنه باشرها وتاقت نفسه إليها.
المغني 9/450.
ولا يجوز بيع شيء من الأضحية لا لحمها ولا جلدها ولا أطرافها واجبة كانت أو تطوعاً.
قال الإمام أحمد: [لا يبيعها ولا يبيع شيئاً منها] .
وقال أيضاً: [سبحان الله كيف يبيعها وقد جعلها لله تبارك وتعالى؟] .
ويجوز أن ينتفع بالجلد بأن يجعله سقاءً أو فرواً أو نعلاً أو غير ذلك.
فقد ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت: [يجعل من جلد الأضحية سقاء ينبذ فيه]
ويدل على أنه لا يجوز بيع شيء من الأضحية، بما في ذلك جلدها(4/349)
وأطرافها.
ما ورد في حديث علي - رضي الله عنه - قال: (أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقوم على بدنه وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأجلتها وأن لا أعطي الجزَّار منها. وقال نحن نعطيه من عندنا) رواه البخاري ومسلم. فقد أمره الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يتصدق بلحومها وجلودها وجلالها كما أنه قد جعلها قربة لله تعالى فلم يجز بيع شيء منها كالوقف.
وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من باع جلد أضحيته فلا أضحية له) رواه الحاكم وقال: حديث صحيح. ورواه البيهقي وقال الشيخ الألباني: حسن.
حكم الجمع بين الأضحية والعقيقة
يقول السائل: إنه رزق مولوداً ويريد أن يعق عنه عقيقة وسيذبحها يوم عيد الأضحى وينوي بها الأضحية والعقيقة فهل يجوز ذلك؟ وهل تقع الذبيحة عن العقيقة وعن الأضحية؟
الجواب: إذا اجتمعت الأضحية والعقيقة كأن أراد شخصٌ أن يعقَ عن ولده يوم عيد الأضحى كما ورد في السؤال أو في أيام التشريق فلا تجزئ الأضحية عن العقيقة على الراجح من أقوال أهل العلم.
وهذا قول المالكية والشافعية ورواية عن الإمام أحمد فقد روى الخلال عن عبد الله بن أحمد قال: [سألت أبي عن العقيقة يوم الأضحى تجزئ أن تكون أضحية
وعقيقة؟ قال: إما أضحية وإما عقيقة على ما سمّى] وعلى هذه الرواية أكثر الحنابلة. انظر تصحيح الفروع 3/565، تحفة المودود ص 68 والذخيرة 4/166.
وحجة هؤلاء العلماء أن كلاً من الأضحية والعقيقة ذبحان بسببين مختلفين فلا يقوم الواحد عنهما كدم التمتع ودم الفدية.(4/350)
وقالوا أيضاً إن المقصود بالأضحية إراقة الدم في كل منهما ولا تقوم إراقة مقام
إراقتين.
وسئل الشيخ ابن حجر المكي عن ذبح شاة أيام الأضحية بنيتها ونية العقيقة فهل يحصلان أو لا؟
فأجاب: [الذي دل عليه كلام الأصحاب وجرينا عليه منذ سنين أنه لا تداخل في ذلك لأن كلاً من الأضحية والعقيقة سنةٌ مقصودةٌ لذاتها ولها سبب يخالف سبب الأخرى والمقصود منها غير المقصود من الأخرى إذ الأضحيةُ فداءٌ عن النفس والعقيقةُ فداءٌ عن الولد إذ بها نُمُّوهُ وصلاحهُ ورجاءُ بِرِّهِ وشفاعته وبالقول بالتداخل يبطل المقصود من كلٍ منهما فلم يمكن القول به نظير ما قالوه في سنة غسل الجمعة وغسل العيد وسنة الظهر وسنة العصر وأما تحية المسجد ونحوها فهي ليست مقصودة لذاتها بل لعدم هتك حرمة المسجد وذلك حاصلٌ بصلاة غيرها وكذا صوم نحو الاثنين لأن القصد منه إحياء هذا اليوم بعبادة الصوم المخصوصة وذلك حاصلٌ بأي صومٍ وقع فيه.
وأما الأضحية والعقيقة فليستا كذلك كما ظهر مما قررته وهو واضح والكلام حيث اقتصر على نحو شاة أو سبع بدنة أو بقرة أما لو ذبح بدنة أو بقرة عن سبعة أسباب منها ضحية وعقيقة والباقي كفارات كنحو الحلق في النسك فيجزي ذلك وليس هو من باب التداخل في شيء لأن كل سبع يقع مجزياً عما نوى به.
وفي شرح العباب: لو ولد له ولدان ولو في بطن واحدة فذبح عنهما شاة لم يتأدى بها أصل السنة كما في المجموع وغيره. وقال ابن عبد البر: لا أعلم فيه خلافاً أ. هـ.
وبهذا يعلم أنه لا يجزي التداخل في الأضحية والعقيقة من باب أولى لأنه إذا امتنع مع اتحاد الجنس فأولى مع اختلافه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب] الفتاوى الكبرى الفقهية 4/256.
وذهب بعض العلماء إلى القول بالإجزاء وقد نقل ذلك عن جماعة من فقهاء السلف. فتح الباري 12/13 وشرح السنة 11/267 والفروع 3/567.(4/351)
ورأوا أنه يجوز أن يصلي المصلي ركعتين ينوي بهما تحية المسجد وسنة المكتوبة ويجوز أن يصلي بعد الطواف فرضاً أوسنة مكتوبة ويقع ذلك عنه وعن ركعتي الطواف وقالوا لو ذبح المتمتع والقارن شاة يوم النحر أجزأ عن دم المتعة وعن الأضحية. تحفة المودود ص 69.
والذي أراه راجحاً هو عدم إجزاء الأضحية عن العقيقة وعدم إجزاء العقيقة عن الأضحية لأن كلاً منهما لها سببها الخاص في إراقة الدم ولا تقوم إحداهما مقام الأخرى.
والمسائل التي ذكروها ليست مسلَّمةً عند جميع العلماء فحصول عبادتين بنية واحدة أجازه من أجازه من أهل العلم لأنهم عدُّوها من قبيل الوسائل لا المقاصد كما لو نوى بغسله رفع الحدث الأصغر والأكبر أو نوى بالغسل الجمعة والجنابة وخالف في ذلك ابن حزم، وأمَّا حصول تحية المسجد وسنَّة المكتوبة، فلأن تحية المسجد تحصل وإن لم يقصدها وأمَّا ما صححوه من تجويز عبادتين بنيَّةٍ واحدةٍ فالذي يظهر أنَّ الشارع قد اعتبر فيه الأمرين المقصودين ولو لم يقصدهما الفاعل كمن يتصدق على ذي رحمه ينال أجرين: أجر الصدقة وأجر صلة الرحم.
انظر مقاصد المكلفين ص 255-256.
الأضحية أفضل من التصدق بثمنها
يقول السائل: أيهما أفضل الأضحية أم التصدق بثمنها؟
الجواب: إن الأضحية شعيرة من شعائر الله وسنة مؤكدة من سنن المصطفى - صلى الله عليه وسلم -.
والمطلوب من المسلم أن يعظم شعائر الله وأن يقتدي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) سورة الحج الآية 32.(4/352)
وقال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) سورة الأحزاب الآية 21.
لذا كانت الأضحية أفضل من التصدق بثمنها كما هو مذهب جمهور أهل العلم بما فيهم أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وربيعة وأبو الزناد وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم. المجموع 8/425 والمغني 9/436 ومجموع الفتاوى 26/304.
روى عبد الرزاق بإسناده عن سعيد بن المسيب قال: [لأن أضحي بشاة أحب إليَّ من أن أتصدق بمئة درهم] المصنف 4/338.
قال الحافظ ابن عبد البر: [الضحية عندنا أفضل من الصدقة] وذكر أن هذا هو الصحيح من مذهب مالك وأصحابه. فتح المالك 7/17-18.
وقال ابن قدامة: [والأضحية أفضل من الصدقة بقيمتها نص عليه أحمد] .
المغني 9 /436.
ونقل عن جماعة من أهل العلم أن التصدق بقيمة الأضحية أفضل فروي عن بلال - رضي الله عنه - قال: [ما أبالي أن لا أضحي إلا بديك ولأن أضعها في يتيم قد ترب فوه أحبُ إليَّ من أن أضحي] وبهذا قال الشعبي وأبو ثور.
والقول الأول هو الراجح، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى والخلفاء من بعده ولو علموا أن الصدقة أفضل من الأضحية لعدلوا إليها.
ولأن إيثار الصدقة على الأضحية يفضي إلى ترك سنة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأن فضل الأضحية لا يخفى وما يترتب عليها من منافع شيء عظيم.
قال الحافظ ابن عبد البر: [الضحية عندنا أفضل من الصدقة لأن الأضحية سنة وكيدة كصلاة العيد ومعلوم أن صلاة العيد أفضل من سائر النوافل وكذلك صلوات السنن أفضل من التطوع كله] فتح المالك 7/18.(4/353)
وقال الإمام النووي: [مذهبنا أن الأضحية أفضل من صدقة التطوع للأحاديث الصحيحة المشهورة في فضل الأضحية ولأنها مختلف في وجوبها بخلاف صدقة التطوع، ولأن الأضحية شعار ظاهر] المجموع 8/425.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [والأضحية والعقيقة والهدي أفضل من الصدقة بثمن ذلك فإذا كان معه مال يريد التقرب إلى الله كان له أن يضحي به والأكل من الأضحية أفضل من الصدقة] مجموع الفتاوى 26/304.
ولا ينبغي لأحد أن يؤثر الصدقة على الأضحية لكون الصدقة أخف مئونة ولما في الأضحية من المشقة من حيث شراؤها والعناية بها وحفظها إلى أن يذبحها ولما في ذبحها وتوزيع بعضها من العناء والتعب فالمسلم له الأجر والثواب على كل ذلك إن أخلص نيته لله تعالى.
منْ تشرع في حقه الأضحية
يقول السائل: في حق من تشرع الأضحية؟
الجواب: يرى الحنفية أنه يشترط في المضحي أن يكون غنياً أي مالكاً لنصاب الزكاة فاضلاً عن حوائجه الأصلية، ودليلهم على ذلك ما ورد في الحديث: (من وجد سعةً فلم يضح فلا يقربنَّ مصلانا) فالرسول - صلى الله عليه وسلم - شرط عليه السعة وهي الغنى وهو أن يكون في ملكه مئتا درهم أو عشرون ديناراً أو شيء تبلغ قيمته ذلك سوى مسكنه وما يتأثث به وكسوته وكسوة من يمونهم..تبيين الحقائق 6/3.
وقال المالكية إن الأضحية لا تسن في حق الفقير الذي لا يملك قوت عامه وتشرع بحيث لا تجحف بمال المضحي بأن لا يحتاج لثمنها في ضرورياته في عامه فإن احتاج فهو فقير وقالوا إن من ليس معه ثمن الأضحية فلا يتسلف ليضحي. الذخيرة 4/142، شرح الخرشي 3/33.
وقال الشافعية تشرع الأضحية في حق من ملك ثمنها فاضلاً عن(4/354)
حاجته وحاجة من يمونه في يومه وليلته وكسوة فصله أي ينبغي أن تكون فاضلة عن يوم العيد وأيام التشريق. مغني المحتاج 6/123.
وأما الحنابلة فقالوا تشرع الأضحية في حق القادر عليها الذي يمكنه الحصول على ثمنها ولو بالدَّين إذا كان يقدر على وفاء دينه. كشاف القناع 3/18.
والذي أرجحه أن الأضحية مشروعة في حق الغني الذي يملك نصاب الزكاة فاضلاً عن حوائجه الأصلية ومقداره في وقتنا الحالي (سنة 1420هجرية وفق 1999 م) حوالي خمسمائة وخمسون ديناراً أردنياً وثمن ما يصح أضحية لا يقل عن مائة وخمسين ديناراً تقريباً ومن لا يملك النصاب فهو فقير.
تجوز الاستعانة في ذبح الأضحية
يقول السائل: ما حكم الاستعانة في ذبح الأضحية والإنابة في ذبحها؟
الجواب: يجوز لمن أراد أن يذبح أضحيته أن يستعين بغيره ويدل على ذلك ما جاء في الحديث عن أبي الخير: (أن رجلاً من الأنصار حدثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أضجع أضحيته ليذبحها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: للرجل أعنِّي على أضحيتي فأعانه) رواه أحمد وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.
وقال الحافظ ابن حجر: ورجاله ثقات. مجمع الزوائد 4/25 وفتح الباري 12/115
وذكر الإمام البخاري تعليقاً: [وأعان رجل ابن عمر في بدنته] .
وقال الحافظ ابن حجر: [أي عند ذبحها وهذا وصله عبد الرزاق عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال: رأيت ابن عمر ينحر بدنة بمنى وهي باركة معقولة ورجلٌ يمسك بحبل في رأسها وابن عمر يطعن] فتح الباري 12/115.(4/355)
وأما الإنابة في ذبح الأضحية فجائزة وينبغي أن يوكل في ذبحها صاحب دين له معرفة بالذبح وأحكامه.
قال القرافي: [كان الناس يتخيرون لضحاياهم أهل الدين لأنهم أولى بالتقرب فإن وكَّل تارك صلاة استحب له الإعادة للخلاف في حل ذكاته] الذخيرة 4/155.
ولا ينبغي أن يوكل فاسقاً في ذبحها ولا ذمياً فإن فعل جاز مع الكراهة على قول جمهور أهل العلم.
وينبغي أن يعلم أن بعض المسلمين من الموسرين من دول الخليج العربي وأوروبا وأمريكا يوكلون لجان الزكاة في بلادنا في التضحية عنهم ويدفعون أثمان الأضاحي لدى بعض الجمعيات الخيرية في بلادهم ثم تنقل هذه المبالغ إلى لجان الزكاة في فلسطين والتي تتولى شرائها ومن ثم ذبحها وتوزيعها على الناس ولا بد هنا من بيان بعض الأمور التي يجب أن تتنبه لها لجان الزكاة:
أولاً: يجب أن تكون الأضحية مستكملة للشروط الشرعية ولذا يجب إعلام أمثال هؤلاء الناس قبل وقت الأضحية بثمن الضحايا في بلادنا لأن أسعارها تختلف من بلد إلى آخر فيمكن أن نشتري أضحية مجزئة بثمانين ديناراً في عمان ونحتاج إلى ضعف هذا المبلغ في فلسطين لشراء أضحية مجزئة ولا يصح أن نشتري أضاحي غير مستكملة للشروط الشرعية بحجة أن المبلغ الذي دفع لا يشترى به أضحية مستكملة للشروط ولا يجوز جمع المبالغ القليلة لشراء شاة واحدة لأن الاشتراك في الشاة لا يصح.
ثانياً: لا بد من الالتزام بذبح هذه الأضاحي في الوقت المقرر شرعاً وإن تأخر وصول أثمان الأضاحي من الخارج لا يعتبر عذراً في ذبح الأضاحي بعد مضي وقتها المقرر شرعاً فإن حصل ذلك فلا تعد أضحية.
وإن لم يتم ذبحها في الوقت المقرر شرعاً فيجب إعلام الذين دفعوا ثمنها أنه لم يتم التضحية عنهم.(4/356)
ثالثاً: يجب الالتزام بتوزيع تلك الأضاحي على الفقراء والمحتاجين أولاً لأن الغالب في الناس الذين يبعثون بأثمان الأضاحي أنهم يقصدون التصدق بها على الفقراء والمحتاجين فلذلك فإني أكره أن يُعطى الأغنياء منها.
حكم تخدير الدجاج قبل ذبحه
يقول السائل: إنه صاحب مسلخ للدواجن ويقوم بذبح الدجاج حسب أحكام الشريعة الإسلامية ويكون الدجاج معلقاً على خط الإنتاج إلا أن الدجاجة وبعد ذبحها تقوم بالرفرفة الشديدة مما يعرّض أجنحتها للتكسير وتصبح غير قابلة للتسويق نتيجة تكسر الأجنحة وحدوث احمرار تحت الجناح وحتى يتم التغلب على هذه المشكلة يمرر الدجاج وهو معلق على حوض ماء به كهرباء بقوة خفيفة فيلامس منقار الدجاجة حوض الماء المكهرب فتصبح الدجاجة في حالة تخدير إلا أنها بوعيها وعلى قيد الحياة وتتحرك عيناها حركة طبيعية إلا أن حركتها تكون ضعيفة وتبقى الدجاجة على هذا الحال عدة دقائق وتعود إلى طبيعتها فيما لو لم تذبح أرجو بيان الحكم الشرعي في مشروعية هذا الذبح؟
الجواب: إذا كانت الصعقة الكهربائية لم تؤد إلى قتل الدجاجة وتم بعد ذلك ذبحها بالطريقة الشرعية فإن هذه الطريقة جائزة شرعاً ولا بأس بها ولكن يجب التأكيد على أن الصعقة الكهربائية لم تقتل الدجاجة فإن قتلت الدجاجة من الصعقة الكهربائية فهي حينئذ ميتة كما ويجب الانتباه إلى أن تكون هنالك مدة من الوقت بعد ذبح الدجاجة وقبل إدخالها في الماء حتى لا تموت الدجاجة خنقاً ولكي يسيل الدم منها.(4/357)
المعاملات(4/359)
تقضى الديون بأمثالها لا بقيمتها
يقول السائل: إنه اشترى سيارة بمبلغ تسعين ألف شيكل ودفع بعض ثمنها للبائع واتفقا على أن يسدد الباقي بعد شهر ثم هبطت قيمة الشيكل ويطالبه البائع الآن بتسديد الثمن حسب سعر صرف الشيكل بالنسبة للدينار في يوم الشراء فما قولكم في ذلك؟
الجواب: لا يجوز للبائع أن يطالب بتسديد ثمن السيارة حسب سعر صرف الشيكل بالنسبة للدينار في يوم شراء السيارة لأن الدين قد استقر في ذمة المشتري وهو تسعون ألف شيكل فعلى المشتري أن يسدد الثمن الذي استقر في ذمته عدداً لا قيمةً أي تسعون ألف شيكل فقط.
وهذا مذهب أكثر الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وكثير من الفقهاء والعلماء المعاصرين حيث إنهم يرون أن الدين إذا استقر في ذمة المشتري بمقدار محدد فالواجب هو تسديد ذلك المقدار بدون زيادة أو نقصان فالديون تقضى بأمثالها في حالة الرخص والغلاء ولا تقضى بقيمتها جاء في المدونة: [كل شيء أعطيته إلى أجل فرد إليك مثله وزيادة فهو ربا] المدونة 4/25.
وقال أبو إسحاق الشيرازي: [ويجب على المستقرض رد المثل فيما له مثل لأن مقتضى القرض رد المثل] المهذب مع المجموع 12/185.(4/361)
وقال الكاساني: [ولو لم تكسد - النقود - ولكنها رخصت قيمتها أو غلت لا ينفسخ البيع بالإجماع وعلى المشتري أن ينقد مثلها عدداً ولا يلتفت إلى القيمة هاهنا] بدائع الصنائع 5/542.
وقال الشيخ ابن عابدين في رسالته عن النقود: [. لأن الإمام الإسبيجاني في شرح الطحاوي قال: وأجمعوا على أن الفلوس إذا لم تكسد ولكن غلت قيمتها أو رخصت فعليه مثل ما قبض من العدد] رسالة تنبيه الرقود على مسائل النقود 2/60 ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين.
ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً وجوب رد المثل بلا زيادة. مجموع الفتاوى 29/535.
وقد بحث مجمع الفقه الإسلامي هذه المسألة بحثاً مستفيضاً وتوصل العلماء المشاركون في المجمع إلى القرار التالي: [العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة لأن الديون تقضى بأمثالها فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أياً كان مصدرها بمستوى الأسعار] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 5
ج 3/2261.
وقد يقول بعض الناس إن رد المثل في القرض والديون فيه ضررٌ للمقرض والبائع فنقول لهم: إن الضرر لا يزال بضرر مثله كما قرر ذلك الفقهاء.
تغير قيمة العملة
يقول السائل: هل صاحب العمل ملزم شرعاً بتعويض عمّاله في حالة نقص قيمة العملة كما حصل مؤخراً؟
الجواب: إن صاحب العمل غير ملزم شرعاً بتعويض العامل عن النقص الحاصل بسبب رخص العملة كما أن العامل غير ملزم برد أي شيء من أجره إذا ارتفعت قيمة العملة.(4/362)
ولكن لما كان الطابع العام هو انخفاض قيمة العملة المستعملة حالياً وهي الشيكل فلا مانع شرعاً من أن يكون هنالك اتفاقٌ بين صاحب العمل والعامل على تعديل أجر العامل دورياً مثلاً كل شهر أو شهرين بنسبة تعادل انخفاض قيمة العملة.
كأن يتفق العامل مع صاحب العمل على أن يعطيه زيادة على أجره كل آخر شهر بنسبة 2% أو 3% أو نحو ذلك من أجل المحافظة على أجر العامل من انخفاض قوته الشرائية.
وسبق لمجمع الفقه الإسلامي أن ناقش هذه القضية وأصدر القرار التالي:
[يجوز أن تتضمن أنظمة العمل واللوائح والترتيبات الخاصة بعقود العمل التي تتحدد فيها الأجور بالنقود شرط الربط القياسي للأجور على أن لا ينشأ عن ذلك ضرر للاقتصاد العام.
والمقصود هنا بالربط القياسي للأجور تعديل الأجور بصورة دورية تبعاً للتغير في مستوى الأسعار وفقاً لما تقدره جهة الخبرة والاختصاص والغرض من هذا التعديل حماية الأجر النقدي للعاملين من انخفاض القدرة الشرائية لمقدار الأجر بفعل التضخم النقدي وما ينتج عنه من الارتفاع المتزايد في المستوى العام لأسعار السلع والخدمات.
وذلك لأن الأصل في الشروط الجواز إلا الشرط الذي يحل حراماً أو يحرم حلالاً] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 8 ج 3 ص 787.
بيع المزايدة
يقول السائل: ما حكم بيع المزايدة وما الفرق بينه وبين البيع على بيع أخيه؟
الجواب: بيع المزايدة هو أن ينادى على السلعة ويزيد فيها بعضهم(4/363)
على بعض حتى تقف على آخر زائد فيها فيأخذها. القوانين الفقهية ص 175.
وبيع المزايدة مشروع وجائز ويدخل في عموم قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) ومما يدل على مشروعيته ما يلي:
1. قال الإمام البخاري في صحيحه: (باب بيع المزايدة) ثم ذكر قول عطاء بن أبي رباح من أئمة التابعين: [أدركت الناس لا يرون بأساً في بيع المغانم فيمن يزيد] .
ثم ذكر بإسناده عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن رجلاً أعتق غلاماً له عن دبر - أي بعد وفاته يكون العبد حراً - فاحتاج فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (من يشتريه مني؟ فاشتراه نعيم بن عبد الله بكذا وكذا فدفعه إليه) .
وذكر الحافظ ابن حجر عن مجاهد قال: لا بأس ببيع من يزيد.
والشاهد في الحديث قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (من يشتريه مني) فعرضه للزيادة. صحيح البخاري مع الفتح 5/257-258.
2. قال الإمام الترمذي: (ما جاء في بيع من يزيد) ثم روى بإسناده عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باع حلساً وقدحاً وقال: (من يشتري هذا الحلس والقدح؟ فقال رجل: أخذتهما بدرهم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من يزيد على درهم؟ من يزيد على درهم؟ فأعطاه رجل درهمين فباعهما منه) وقال الترمذي: حديث حسن. تحفة الأحوذي 4/343.
وجمهور الفقهاء على جواز بيع المزايدة. نيل الأوطار 5/191.
وبيع المزايدة ليس من باب البيع على بيع أخيه الذي ورد النهي عنه في حديث ابن عمر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يبع بعضكم على بيع أخيه) رواه البخاري ومسلم.
والمراد بالبيع على بيع أخيه: قال العلماء البيع على البيع حرام وكذلك الشراء على الشراء وهو أن يقول لمن اشترى سلعة في زمن الخيار افسخ لأبيعك بأنقص أو يقول للبائع افسخ لأشتري منك بأزيد وهو مجمع عليه.(4/364)
وأما السوم فصورته أن يأخذ شيئاً يشتريه فيقول له: رده لأبيعك خيراً منه بثمنه أو مثله بأرخص.
أو يقول للمالك استرده لأشتريه منك بأكثر ومحله بعد استقرار الثمن وركون أحدهما للآخر. فتح الباري 5/257.
وقال الحافظ ابن عبد البر في بيانه: [هو أن يستحسن المشتري السلعة ويهواها ويركن إلى البائع ويميل إليه ويتذاكرن الثمن ولم يبق إلا العقد والرضا الذي يتم به البيع فإذا كان البائع والمشتري على مثل هذه الحال لم يجز لأحد أن يعترضه فيعرض على أحدهما ما به يفسد به ما هما عليه من التبايع فإن فعل أحد ذلك فقد أساء وبئس ما فعل فإن كان عالماً بالنهي عن ذلك فهو عاص لله] فتح المالك 8/180.
وبهذا يظهر لنا الفرق بين بيع المزايدة والبيع على بيع أخيه ففي بيع المزايدة البائع
يعرض سلعته لمن يزيد فإن عرض أحد الناس عليه مبلغاً فلم يرض به البائع فيطلب أكثر منه فيزيده شخص آخر وهكذا، وهذا كله قبل أن يستقر البيع وقبل أن يرضى البائع بالثمن.
ومن الأمور التي تصاحب بيع المزايدة وخاصة المزادات العلنية ما يسمى عند العلماء بالنجش وهو أن يزيد شخص في ثمن السلعة وهو لا يريد شرائها ولكن ليغر غيره وغالباً ما يكون النجش باتفاق بين صاحب السلعة والناجش وهو حرام شرعاً لما فيه من الخديعة فقد ثبت في الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النجش) رواه البخاري.
وقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي المتعلق بعقد المزايدة ما يلي:
[وحيث إن عقد المزايدة من العقود الشائعة في الوقت الحاضر وقد صاحب تنفيذه في بعض الحالات تجاوزات دعت لضبط طريقة التعامل به ضبطاً يحفظ حقوق المتعاقدين طبقاً لأحكام الشريعة الإسلامية كما اعتمدته(4/365)
المؤسسات والحكومات وضبطته بتراتيب إدارية ومن أجل بيان الأحكام الشرعية لهذا العقد قرر ما يلي:
1. عقد المزايدة: عقد معاوضة يعتمد دعوة الراغبين نداء أو كتابة للمشاركة في المزاد ويتم عند رضا البائع.
2. يتنوع عقد المزايدة بحسب موضوعه إلى بيع وإجارة وغير ذلك وبحسب طبيعته إلى اختياري كالمزادات العادية بين الأفراد وإلى إجباري كالمزادات التي يوجبها القضاء وتحتاج إليه المؤسسات العامة والخاصة والهيئات الحكومية والأفراد.
3. إن الإجراءات المتبعة في عقود المزايدات من تحرير كتابي وتنظيم وضوابط وشروط إدارية أو قانونية يجب ألا تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية.
4. طلب الضمان ممن يريد دخول الشراء في المزايدة جائز شرعاً ويجب أن يرد لكل مشارك لم يرس عليه العطاء ويحتسب الضمان المالي من الثمن لمن فاز في الصفقة.
5. لا مانع شرعاً من استيفاء رسم الدخول (قيمة دفتر الشروط بما لا يزيد عن القيمة الفعلية) لكونه ثمنا له.
6. يجوز أن يعرض المصرف الإسلامي أو غيره مشاريع استثمارية ليحقق لنفسه نسبة أعلى من الربح سواء أكان المستثمر عاملاً في عقد مضاربة مع المصرف أم لا.
7. النجش حرام ومن صوره:
أ. أن يزيد في ثمن السلعة من لا يريد شرائها ليغري المشتري بالزيادة.
ب. أن يتظاهر من لا يريد الشراء بإعجابه بالسلعة وخبرته بها ويمدحها ليغر المشتري فيرفع ثمنها.(4/366)
ج. أن يدعي صاحب السلعة أو الوكيل أو السمسار ادعاءاً كاذباً أنه دُفعَ فيها ثمنٌ معينٌ ليدلس على من يسوم.
د. ومن الصور الحديثة للنجش المحظورة شرعاً اعتماد الوسائل السمعية والمرئية والمقروءة التي تذكر أوصافاً رفيعة لا تمثل الحقيقة أو ترفع الثمن لتغر المشتري وتحمله على التعاقد] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 8 ج 2/169-170.
حكم الإعلانات التجارية
يقول السائل: ما قولكم في الإعلانات التجارية عن السلع والبضائع والتي يذكر فيها أوصاف السلعة بالثناء والمدح وعندما نشتري تلك السلعة لا نجدها حسب الأوصاف التي وردت في الإعلان وإنما هي على خلاف ذلك؟
الجواب: الإعلانات التجارية عن السلع أمر جائز ومشروع بضوابط سأذكرها لاحقاً لأن الإعلانات تعرف الناس بأنواع السلع والبضائع وتعرفهم على أماكن بيعها وتسهل عليهم أموراً كثيرة.
ومن المعروف اليوم أن الإعلان صار فناً قائماً بذاته وله طرقه ووسائله المتقدمة والمتعددة.
ولكن يجب على التاجر المسلم ومن يرغب في الإعلان عن سلعه وبضائعه وغير ذلك أن يلتزم بالضوابط التالية حتى يكون إعلانه مشروعاً:
1. أن يكون الإعلان سالماً وخالياً من المحظورات الشرعية فلا يجوز الإعلان عن السلع والأمور المحرمة كالخمور والمخدرات ونوادي القمار وأفلام الجنس ونحوها.
كما لا يجوز أن تستعمل في الإعلان وسائل محرمة كظهور النساء العاريات أو يظهر في الإعلان أناس يشربون الخمر ونحو ذلك.(4/367)
2. أن يكون الإعلان صادقاً في التعبير عن حقيقة السلعة لأننا نلاحظ أن كثيراً من الإعلانات التجارية فيها مبالغة واضحة في وصف السلع وغالباً ما تكون هذه الأوصاف كاذبة وغير حقيقية ويعرف صدق هذا الكلام بالتجربة.
إن الإعلان الكاذب عن السلع والذي يظهرها على غير حقيقتها يعتبر تغريراً وغشاً وخداعاً وكل ذلك محرم شرعاً في شريعتنا الإسلامية ويؤدي إلى أكل أموال الناس بالباطل.
يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) سورة النساء الآية 29.
وقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة- رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (مرََّ على صُبرة طعام - كومة - فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال - صلى الله عليه وسلم -: ما هذا يا صاحب الطعام؟
قال: أصابته السماء يا رسول الله، أي المطر. قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غشنا فليس مني) رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية أخرى عند مسلم: (من غشنا فليس منا) .
ويدخل ضمن الغش والخداع أن يذكر في الإعلان أوصاف للسلعة ولا تكون فيها حقيقة.
وكذلك إذا كان في السلعة عيب أخفاه المعلن ولم يذكره وباع السلعة مع علمه أنها معيبة.
فقد جاء في الحديث أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (المسلم أخو المسلم ولا يحل لمسلم إذا باع من أخيه بيعاً فيه عيب أن لا يبينه) رواه أحمد وابن ماجة والحاكم وصححه وقال الشيخ الألباني: صحيح. إرواء الغليل 5/165.
وعن أبي سباع قال: [اشتريت ناقة من دار واثلة بن الأسفع - رضي الله عنه - فلما خرجت بها أدركني رجل فقال: اشتريت؟ قلت: نعم. قال: وبين(4/368)
لك ما فيها. قلت: وما فيها؟ إنها لسمينة ظاهرة الصحة. قال: أردت بها سفراً أو أردت بها لحماً؟
قلت: أردت بها الحج. قال: ارتجعها. فقال صاحبها: ما أردت إلى هذا أصلحك الله تفسد عليَّ. قال: إني سمعت رسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يحل لأحد أن يبيع شيئاً إلا بين ما فيه ولا يحل لمن علم ذلك إلا بينه) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من غشنا فليس منا والمكر والخداع في النار) رواه ابن حبان والطبراني وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني، إرواء الغليل 5/164.
3. أن لا يترتب على الإعلان عن السلعة إلحاق الضرر بسلع الناس الآخرين كأن يذم الأصناف المشابهة. انظر الإعلان ص 96-98.
لأن هذا من الضرر الممنوع شرعاً وقد صح عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا ضرر ولا ضرار) رواه أحمد وابن ماجة والطبراني وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني، السلسلة الصحيحة حديث رقم 250.
كما لا يجوز استغلال التشابه في الاسم التجاري أو العلامة التجارية من أجل التغرير بالمستهلكين وإيهامهم بأن سلعته مماثلة لتلك السلع المشهورة والمعروفة.
وينبغي أن يعلم أن النصح واجب في المعاملة وقد ثبت في الحديث أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) رواه مسلم.
وقد بين الإمام الغزالي ضوابط النصح المأمور به في المعاملة وهي:
1. أن لا يثني على السلعة بما ليس فيها لأن ذلك يعد كذباً ولا بأس أن يذكر الصفات الحقيقية الموجودة في السلعة من غير مبالغة.
2. أن يظهر جميع عيوب المبيع ولا يكتم منها شيئاً فذلك واجب(4/369)
فإن أخفى شيئاً من العيوب كان ظالماً غاشاً والغش حرام وكان تاركاً للنصح في المعاملة والنصح واجب.
3. أن لا يكتم من مقدار السلعة شيئاً وذلك بتعديل الميزان والمكيال والاحتياط في ذلك.
قال الله تعالى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) سورة المطففين الآيات 1-3.
4. أن يصدق في سعر الوقت ولا يخفي منه شيئاً.
ثم قال الغزالي بعد ذلك: [فليس له أن يغتنم فرصة وينتهز غفلة صاحب المتاع ويخفي من البائع غلاء السعر أو من المشتري تراجع الأسعار فإن فعل ذلك كان ظالماً تاركاً للعدل والنصح للمسلمين] انظر إحياء علوم الدين 4/76-80
حكم شراء أسهم الشركات التي تتعامل بالربا أحياناً
يقول السائل: ما حكم شراء أسهم الشركات التي يكون مجال عملها مباحاً ولكن تلك الشركات قد تقرض وتقترض بالربا؟ وما حكم من له أسهم في تلك الشركات وماذا يصنع بأرباح تلك الأسهم والربا يشكل جزءاً من تلك الأرباح؟
الجواب: لا يجوز للمسلم أن يساهم في شركات تتعامل بالربا أخذاً وإعطاءً كما هو حال كثير من الشركات المساهمة التي ينص في أنظمتها على أن من موارد الشركة الإقراض والاقتراض بالربا.
والنصوص الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - صريحة في تحريم الربا تحريماً قاطعاً لا شك فيه.
ومن المسلّم به عند أهل العلم أن فوائد البنوك هي من الربا المحرم.(4/370)
وإن في طرق الاستثمار الشرعية غنىً عن الاستثمار بالطرق المحرمة كالمساهمة في شركات تتعامل بالحرام أو تتعامل بالربا أخذاً وإعطاءً وهذا القول هو أصح قولي العلماء في هذه المسألة وأقربها للتقوى إن شاء الله.
ولكن بعض أهل العلم المعاصرين لهم رأي آخر في المسألة ولا بأس من ذكره وهو أنه قد تكون الشركة المساهمة ذات أغراض مشروعة وموضع نشاطها حلالاً وتؤدي خدمات عامة للاقتصاد لكنها تتعامل مع البنوك الربوية بالفائدة فتضع أموالها في تلك البنوك وتتقاضى عليها فوائد ربوية تدخل في مواردها وأرباحها كما تقترض في بعض الحالات ما تحتاج إليه من تلك البنوك لقاء فائدة تدفعها وتدخل تلك القروض في إنتاج ما تنتجه والربح الذي تحققه، فالربا يدخل في بعض أعمالها أخذاً وإعطاءً فلا ينبغي أن نُحرِّم على الناس اقتناء أسهم هذه الشركات بصورة مطلقة ولا أن نبيحها لهم بصورة مطلقة بل نراعي ضرورة قيام هذه المؤسسات في المجتمعات ومنها المجتمعات الإسلامية وحاجة كثير من الناس إلى اقتناء أسهمها ولا سيما الذين لا يجدون طريقاً آخر لاستثمار مدخراتهم الصغيرة دون أن يجمدوها حتى تتآكل وفي الوقت نفسه يجب استبعاد العنصر الحرام من أرباح هذه الأسهم. وذلك بأن يحسب مالك الأسهم بصورة دقيقة أو تقريبية جداً عند تعذر الحساب الدقيق ما دخل على عائدات كل سهم من العنصر الحرام في ربحه فيقرر مقداره من عائدات الأسهم ويوزعه على الفقراء دون أن ينتفع به أية منفعة ولا أن يحتسبه من زكاته ولا يعتبره صدقة من خالص ماله ولا أن يدفع به ضريبة حكومية ولو كانت من الضرائب الجائرة الظالمة لأن كل ذلك انتفاع بذلك العنصر الحرام من عائدات أسهمه.
وإن حساب هذا العنصر ولا سيما بصورة تقريبية جداً قد أصبح ميسوراً بالوسائل والأجهزة الحديثة والاستعانة بأهل الخبرة. وهذا يدخل في عموم البلوى وبهذا نيسر على الناس ونجنبهم الحرام دون أن نحرمهم من طريق استثماري لا يجدون بديلاً له بسب صغر مدخراتهم مع ملاحظة أن طريق المشاركات الصغيرة التجارية والمضاربة قد أصبح شديد الخطورة بسب ندرة الأمانة - مع الأسف - في هذا الزمان حيث أصبح الذي يضع(4/371)
ماله في يد غيره لاستثماره يدخل في مخاطرة كبيرة لفساد الذمم ويعرضه للتبخر ولا سيما أيضاً أن كثيراً من المدخرين الصغار أيتام وأرامل لا يستطيعون العمل بأنفسهم لأنفسهم. ولكل زمان حكمه وقد قرر الفقهاء في مناسبات كثيرة أموراً استثنائية عللوها بفساد الزمان.
هذا وفي حالة توافر شركات مساهمة تسد الحاجة وتلتزم بعدم التعامل بالربا أخذاً وإعطاءً يجب على المسلمين عدم التعامل مع الشركات المساهمة التي تقترض بالربا عند الحاجة وتودع أموالها بفائدة. المعاملات المالية المعاصرة ص 170.
ويعلق صاحب الكتاب السابق على الفتوى المذكورة بقوله: نستخلص من هذه الفتوى عدة أمور:
1. إن هذه الفتوى خاصة بالشركات الحيوية التي تؤدي خدمات عامة للناس ويقع الناس في حرج ومشقة نتيجة انهيارها ولا تعم جميع الشركات ويؤكد هذا الدكتور عبد الله الكيلاني في رسالته حيث يقول: [سألت الأستاذ الزرقاء حول موضوع الشركات المساهمة هل هي على إطلاقها أو لا؟ فأجاب: بأن الشركة التي لا تؤمِّن مرفقاً حيوياً ضرورياً أو حاجياً للمجتمع وكانت تتعامل بالربا في ادخار أموالها فأفتي بحرمة الاكتتاب بأسهمها لأنه لا يضر المجتمع انهيارها] .
2. إن هذه الفتوى تستند إلى عدة أمور وهي:
أ. سد حاجة حيوية عامة للمسلمين لا تستطيع رؤوس الأموال الفردية ولا رؤوس أموال الدولة أن تقوم بها فتعين وجودها من خلال شركات المساهمة التي قد تتعامل بالربا في إيداع أموالها والإقتراض من المصارف.
ب. تخريج المسألة على قاعدة (عموم البلوى ورفع الحرج عن الناس) ففي حالة فساد الزمان وخراب الذمم يمكن أن يفتى الناس بالأحكام الاستثنائية، فقد قرر الفقهاء عند فساد الزمان وشيوع الفسق وندرة العدالة قبول شهادة غير العدل فتقبل شهادة الأمثل فالأمثل لعموم البلوى كيلا يتعطل القضاء إذا طلبت العدالة الكاملة في الشاهد.
ج. سد حاجة فردية لصغار المساهمين الذين لا يجدون بديلاً(4/372)
استثمارياً بسب صغر مدخراتهم وعجزهم عن القيام بأنفسهم بالاستثمار بالإضافة إلى عدم الثقة بكثير ممن يقومون بالمشاركات الأخرى كالمضاربة لفساد ذممهم وقلة الأمانة لديهم.
3. الفتوى تمنع انتفاع صاحب الأسهم بالمال الحرام الذي دخل في عوائدها، وينبغي تقديره والتخلص منه بإعطائه للفقراء والمستحقين. انظر كتاب المعاملات المالية المعاصرة ص 171.
وخلاصة الأمر أني لا أجيز لمسلم أن يساهم في شركات تتعامل بالربا أخذاً وإعطاءً ابتداءً.
ومن له أسهم في مثل هذه الشركات فإن أراد التقوى والورع فعليه أن يبيع أسهمه تلك وأن يخلَّص رأس ماله من شوائب الربا.
قال تعالى: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) سورة البقرة الآية 279.
وإن اختار الطريق الآخر وأخذ بالرأي الثاني - وله حظ من النظر والفقه - فذلك شأنه.
حكم السندات
يقول السائل: إنه أراد أن يشتري أسهماً في إحدى الشركات المساهمة العامة واطلع على النظام الداخلي للشركة فوجد أن الشركة يحق لها إصدار سندات عند الحاجة لزيادة رأس المال ويسأل عن هذه السندات وما حكمها؟
الجواب: السندات نوع من الأوراق المالية التي يجري التعامل بها في الأسواق المالية المعاصرة وتسمى أحياناً شهادات الاستثمار وهي عبارة عن قرض طويل الأجل تتعهد الشركة المقترضة بموجبه أن تسدد قيمته في تواريخ محددة. المعاملات المالية المعاصرة ص 176.
أو هو صك قابل للتداول يمثل قرضاً يعقد عادة بواسطة الاكتتاب العام وتصدره الشركات أو الحكومات ويعتبر حامل سند الشركة دائناً للشركة(4/373)
ويعطى حامل السند فائدة ثابتة سنوياً وله الحق في استيفاء قيمته عند حلول أجل معين. مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد 6 جزء 2 ص 1283.
ويلاحظ في تعريف السندات أن السند عبارة عن دين ثابت على الشركة ويستوفي حامل السند فائدة ثابتة سواء ربحت الشركة أو خسرت.
وخلاصة الأمر أن السند عبارة عن قرض ربوي مهما اختلفت أسماؤه وتعددت أوصافه.
وبناءً على أن السند قرض ربوي فيحرم التعامل بالسندات ما دامت تصدر بفائدة ثابتة معينة لذا لا يجوز إصدار السندات ولا تداولها والقول بتحريم السندات واعتبارها من الربا المحرم هو مذهب أكثر العلماء والفقهاء المعاصرين.
لأن السند قرض على الشركة أو الجهة التي أصدرته لأجل معين وبفائدة معينة ثابتة ومشروطة وهذا هو ربا النسيئة بعينه الذي حرمته الشريعة الإسلامية بالنصوص الصريحة في كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
قال الله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) سورة البقرة الآية 275.
وقد حاول بعض العلماء أن يخرج مسألة السندات على عقد المضاربة المعروف في الفقه الإسلامي ولكن هذا التخريج غير صحيح مطلقاً لأن السندات في حقيقتها قروض ربوية ولو سلمنا جدلاً بصحة تخريجها على المضاربة الشرعية فهي مضاربة فقدت شروط صحتها شرعاً كما قال الدكتور القرضاوي: [والخلاصة أن شهادات الاستثمار من فئة (أ) و (ب) إما أنها من باب القرض بفائدة وهو الأمر الواضح بحسب قانون إنشائها أو من باب المضاربة التي فقدت شروطها الشرعية ففقدت بذلك إذن الشرع فيها فهي محرمة على كلا الاحتمالين] فوائد البنوك هي الربا الحرام ص 102.(4/374)
والقول بتحريم السندات هو القول الفصل في المسألة وهو ما قرره مجمع الفقه الإسلامي الذي ضم عدداً كبيراً من العلماء والفقهاء المعاصرين فقد جاء في قرار المجمع ما يلي:
[وبعد الاطلاع على أن السند شهادة يلتزم المصدر بموجبها أن يدفع لحاملها القيمة الاسمية عند الاستحقاق مع دفع فائدة متفق عليها منسوبة إلى القيمة الاسمية للسند أو ترتيب نفع مشروط سواء أكان جوائز توزع بالقرعة أم مبلغاً مقطوعاً أم حسماً (خصماً) .
قرر:
1. إن السندات التي تمثل التزاماً بدفع مبلغها مع فائدة منسوبة إليه أو نفع مشروط محرمة شرعاً من حيث الإصدار أو الشراء أو التداول لأنها قروض ربوية سواء أكانت الجهة المصدرة لها خاصة أو عامة ترتبط بالدولة ولا أثر لتسميتها شهادات أو صكوكاً استثمارية أو ادخارية أو تسمية الفائدة الربوية الملتزم بها ربحاً أو ريعاً أو عمولة أو عائداً.
2. تحرم أيضاً السندات ذات الكوبون الصفري باعتبارها قروضاً يجري بيعها بأقل من قيمتها الاسمية ويستفيد أصحابها من الفروق باعتبارها خصماً لهذه السندات.
3. كما تحرم أيضاً السندات ذات الجوائز باعتبارها قروضاً اشترط فيها نفع أو زيادة بالنسبة لمجموع المقرضين أو لبعضهم لا على التعيين فضلاً عن شبهة القمار.
4. من البدائل للسندات المحرمة - إصداراً أو شراءً أو تداولاً - السندات أو الصكوك القائمة على أساس المضاربة لمشروع أو نشاط استثماري معين بحيث لا يكون لمالكيها فائدة أو نفع مقطوع وإنما تكون لهم نسبة من ربح هذا المشروع بقدر ما يملكون من هذه السندات أو الصكوك ولا ينالون هذا الربح إلا إذا تحقق فعلاً. ويمكن الاستفادة في هذا من الصيغة التي تم اعتمادها في القرار رقم 5 للدورة الرابعة لهذا المجمع بشأن سندات المقارضة] مجلة مجمع الفقه الإسلامي 6/2/1725-1726.(4/375)
وختاماً أقول إن تعامل الناس بالربا في هذا الزمان قد عمّ وطمّ وغلب التعامل بالربا على أكثر معاملات الناس المعاصرة بسبب ارتباط الحياة الحديثة بالبنوك الربوية وقد وقع مصداق حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: (ليأتينّ على الناس زمان لا يبقى أحد منهم إلا أكل الربا ومن لم يأكله أصابه من غباره) رواه أبو داود وابن ماجة والنسائي.
ومع انتشار التعامل بالربا في زماننا إلا أن كثيراً من الناس يقدمون على التعامل به مختارين غير مكرهين ولا مضطرين وإلى هؤلاء وغيرهم أسوق بعض النصوص الشرعية التي تحرم الربا والتعامل به:
1. يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) سورة البقرة الآيتان 276-277.
2. عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: (لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم.
3. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه البخاري ومسلم.
4. وقال - صلى الله عليه وسلم -: (الربا إثنان وسبعون باباً أدناها إتيان الرجل أمه) رواه الحاكم وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/488.
5. وقال - صلى الله عليه وسلم -: (الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه) رواه الحاكم وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 1/633.
6. وقال - صلى الله عليه وسلم -: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من(4/376)
ستة وثلاثين زنية) رواه أحمد والطبراني وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 1/636 وغير ذلك من الأحاديث.
أجرة السمسار في البيع وغيره
يقول السائل: هل يجوز للوسيط [السمسار] أن يأخذ لأجرة من البائع والمشتري؟
الجواب: الوساطة التجارية أو السمسرة أو الدلالة من الأمور المشهورة والمتعارف عليها ويتعامل بها الناس منذ عهد بعيد وهي مشروعة وجائزة.
وقد ورد في الحديث عن قيس بن أبي غرزة قال: (كنا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسمَّى السماسرة فمر بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسمانا باسم هو أحسن منه. فقال: يا معشر التجار إن البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة) رواه أبو داود وسكت عنه وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر صحيح سنن أبي داود 2/640.
وعن ابن عباس قال: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تلقوا الركبان ولا يبع حاضر لباد
- قال طاووس راوي الحديث - فقلت لابن عباس: ما قوله (لا يبع حاضر لباد؟) قال: لا يكون له سمساراً) رواه البخاري ومسلم.
وقال الإمام البخاري في صحيحه: [باب أجرة السمسرة ولم ير ابن سيرين وعطاء وإبراهيم والحسن بأجر السمسار بأساً.
وقال ابن عباس: لا بأس أن يقول بع هذا الثوب فما زاد على كذا وكذا فهو لك.
وقال ابن سيرين: إذا قال له بعه بكذا فما كان من ربح فهو لك أو بيني وبينك فلا بأس به.(4/377)
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (المسلمون عند شروطهم) . ثم ساق الإمام البخاري حديث ابن عباس السابق] صحيح البخاري مع الفتح 5/357-358.
وينبغي أن تكون أجرة السمسار معلومة باتفاق الفقهاء حتى لا يقع أي نزاع فيما بعد. ويصح أن تكون الأجرة مبلغاً مقطوعاً كعشرة دنانير مثلاً ويجوز أن تكون الأجرة نسبة مئوية كأن يقول شخص لسمسار: بع لي هذه الأرض ولك 1% من ثمنها مقابل سعيك وسمسرتك.
وأما أخذ السمسار أجرة من البائع والمشتري فلا بأس به إذا كان مشروطاً أو جرى العرف بذلك فمثلاً لو قال شخص لسمسار: بع لي هذه العمارة ولك 1% من ثمنها. وقال شخص آخر لنفس السمسار اشتر لي تلك العمارة ولك 1% من ثمنها فيجوز ذلك ولا بأس به.
لأن الشرط المذكور شرط جائز ينبغي الوفاء به وقد ورد في الحديث الشريف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (المسلمون عند شروطهم) رواه أبو داود وابن حبان والحاكم وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 5/143.
وأخيراً ينبغي التنبيه على أن السمسرة من الأمور المهمة في عالم التجارة ولكن يجب على السماسرة أن يتقوا الله سبحانه وتعالى في أعمالهم وأن يبتعدوا عن التغرير والتدليس والغش ليكون كسبهم حلالاً طيباً وقد ثبت في الحديث أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (من غشناً فليس منا) رواه مسلم.
وعلى السماسرة ألا يخدعوا الناس في معاملاتهم فيزينوا لهم شراء السلع والبضائع بأكثر من أسعارها الحقيقية أو يزينوا للبائعين أن يبيعوا بضائعهم بأبخس الأثمان فكل ذلك غير جائز شرعاً فلا يجوز إلحاق الضرر بالناس فلا ضَرَرَ ولا ضِرار.
حكم بيع الأغذية المصنعة المنتهية الصلاحية
يقول السائل: ما حكم بيع الأغذية المصنّعة بعد انتهاء صلاحيتها كما هو مثبت عليها من قبل صانعيها؟(4/378)
الجواب: إن الأغذية التي لها تاريخ لانتهاء الصلاحية ومثلها الأدوية، ما وضع عليها تاريخ انتهاء الصلاحية عبثاً وإنما بعد دراسة لصلاحية مركباتها وهذا يعتمد على دراسات علمية يقررها صانعو الأدوية والأغذية.
وبناءاً على ذلك وبعد سؤال أهل الخبرة في هذا الشأن فإن استعمال الأدوية والأغذية التي انتهت صلاحيتها قد يلحق الضرر والأذى بمن يستهلكها.
وعليه فإنه لا يجوز شرعاً بيع الأغذية والأدوية بعد انتهاء صلاحيتها لأن في ذلك إضراراً بالناس وإلحاقاً للأذى بهم ويحرم على المسلم أن يلحق الضرر بغيره لما ورد في الحديث الشريف أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا ضرر ولا ضرار) رواه أحمد وابن ماجة والبيهقي والحاكم وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم ووافقه الذهبي وقال الشيخ الألباني: صحيح. إرواء الغليل 3/408.
وإذا ثبت أنه قد لحق ضرر بمن استهلك الأغذية أو الأدوية المنتهية الصلاحية فإن من باعها يكون مسؤولاً عن ذلك وينبغي أن يعاقب على ذلك.
ومن جهة أخرى فإن بيع الأغذية والأدوية المنتهية الصلاحية مع علم البائع بذلك يعتبر غشاً وكتماناً لعيب السلعة عن المشتري والغش محرم في الشريعة الإسلامية.
فقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة- رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (مرَّ على صُبرة طعام - كومة - فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟
قال أصابته السماء يا رسول الله، أي المطر. قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غش فليس مني) رواه مسلم.
وجاء في حديث آخر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من حمل السلاح علينا فليس منا ومن غشنا فليس منا) رواه مسلم.
والحديثان ظاهران في الدلالة على تحريم الغش باعتباره وسيلة لأكل(4/379)
أموال الناس بالباطل إذ أن حقيقة الغش هي إخفاء وكتمان ما في السلعة من نقص أو عيب.
وهذا ينافي عصمة أموال المسلمين التي جاءت بها الشريعة الإسلامية لما جاء في الحديث الشريف من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس) رواه احمد والبيهقي وابن حبان وغيرهم وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 5/279.
والغش حرام بصورته السلبية وهي مجرد السكوت عن العيب والنقص وبصورته الإيجابية وهي القيام بجهد ما في إخفاء العيب أو تزيين السلعة.
يجوز بيع خثى الأبقار
يقول السائل: يوجد عندي مزرعة أبقار أبيع خثاها إلى المزارعين الذين يستعملونه في تسميد مزروعاتهم فما حكم ذلك؟
الجواب: يجوز بيع خثى الأبقار على الراجح من أقوال أهل العلم وكذلك روث وبعر كل ما يؤكل لحمه من الحيوان كما أنه يجوز استعمالها في تسميد المزروعات وهذا قول جماعة من الفقهاء منهم الحنفية والحنابلة وهو قول في مذهب المالكية وقال به جماعة من فقهاء الشافعية.
قال صاحب الدرّ المختار من الحنفية: [لا يكره بل يصح بيع السرقين أي الزبل خلافاً للشافعي وصح بيعها مخلوطة بتراب أو رماد غلب عليها على الصحيح] حاشية ابن عابدين على الدرّ المختار 6/385.
وقال في الفتاوى الخانية: [وبيع السرقين والبعر جائز] 2/133.
وقال الشيخ ملا علي القاري: [وصحّ بيع السرقين لأنه ينتفع به ويدخر لوقت الحاجة فإنه يلقى في الأرض لاستكثار الزرع] فتح باب العناية 3/22.(4/380)
ونقل عن أبي حنيفة أنه يجوز بيع السرقين - الزبل - لاتفاق أهل الأمصار في جميع الأعصار على بيعه من غير إنكار ولأنه يجوز الانتفاع به فجاز بيعه كسائر الأشياء. انظر المجموع 9/230.
ومما يؤيد القول بجواز بيع الزبل الناتج من الحيوانات مأكولة اللحم أن روثها طاهر على الصحيح من أقوال أهل العلم وبيع الشيء الطاهر جائز بلا خلاف وأما كونه طاهراً فلأنه لم يثبت في الشرع دليل صحيح صريح في نجاسته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [إن الأصل الجامع طهارة جميع الأعيان حتى تتبين نجاستها فكل ما لم يبين لنا أنه نجس فهو طاهر وهذه الأعيان لم يبين لنا نجاستها فهي طاهرة] مجموع الفتاوى 21/542
وقال شيخ الإسلام أيضاً: [إن هذه الأعيان لو كانت نجسة لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يبينه فليست نجسة وذلك لأن هذه الأعيان تكثر ملابسة الناس لها ومباشرتهم لكثير منها خصوصاً الأمة التي بعث فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن الإبل والغنم غالب أموالهم ولا يزالون يباشرونها ويباشرون أماكنها في مقامهم وسفرهم مع كثرة الاحتفاء فيهم. ومحالب الألبان كثيراً ما يقع فيها من أبوالها وليس ابتلاؤهم بها بأقل من ولوغ الكلب في أوانيهم فلو كانت نجسة يجب غسل الأبدان والثياب والأواني منها وعدم مخالطته ويمنع الصلاة مع ذلك ويجب تطهير الأرض مما فيه ذلك إذا صلى فيها والصلاة فيها تكثر في أسفارهم وفي مراعي أغنامهم ويحرم شرب اللبن الذي يقع فيه بعرها وتغسل اليد إذا أصابها البول أو رطوبة البعر إلى غير ذلك من أحكام النجاسة لوجب أن يبين النبي - صلى الله عليه وسلم - بياناً تحصل به معرفة الحكم ولو بين ذلك لنقل جميعه أو بعضه فإن الشريعة وعادة القوم توجب مثل ذلك فلما لم ينقل ذلك علم أنه لم يبين لهم نجاستها.
وعدم ذكر نجاستها دليل على طهارتها من جهة تقريره لهم على مباشرتها وعدم النهي عنه والتقرير دليل الإباحة ومن وجه أن مثل هذا يجب بيانه بالخطاب ولا تحال الأمة فيه على الرأي لأنه من الأصول لا من الفروع ومن(4/381)
جهة أن ما سكت الله عنه فهو مما عفى عنه لا سيما إذا وصل بهذا الوجه. كما أن الصحابة والتابعين وعامة السلف قد ابتلي الناس في أزمانهم بأضعاف ما ابتلوا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يشكّ عاقل في كثرة وقوع الحوادث المتعلقة بهذه المسألة ثم المنقول عنهم أحد شيئين: إما القول بالطهارة أو عدم الحكم بالنجاسة.] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 21/578-579.
وقال الشيخ الشوكاني بعد أن ناقش أدلة من قال بنجاسة أرواث مأكول اللحوم:
[والظاهر طهارة الأبوال والأزبال من كل حيوان يؤكل لحمه تمسكاً بالأصل واستصحاباً للبراءة الأصلية والنجاسة حكم شرعي ناقل عن الحكم الذي يقتضيه الأصل والبراءة فلا يقبل قول مدعيها إلا بدليل يصلح للنقل عنهما ولم نجد للقائلين بالنجاسة دليلاً كذلك.
وغاية ما جاؤوا به حديث صاحب القبر وهو مع كونه مراد به الخصوص كما سلف عموم ظني الدلالة لا ينتهض على معارضة تلك الأدلة المعتضدة بما سلف.] نيل الأوطار 1/64-65.
بيع العقار دون تسجيله قانونياً
يقول السائل: تعاقدت مع صاحب عقار في الأردن واتفقت معه على الثمن وبارك لي في العقار بحضور عدد من الشهود ولكني لم أدفع العربون لاعتبار أني سأعود بعد أسبوع إلى الأردن لاستكمال الإجراءات القانونية من عقود وتنازل وغيره وفوجئت بخبر عبر الهاتف بأن العقار قد بيع لشخص آخر وعندما استفسرت عن الأمر قيل إني لم أدفع العربون وقد علمت أن الشاري الجديد دفع في العقار زيادة عما دفعت.
فهل يجوز للمالك أن يتصرف بالبيع بعد الاتفاق معه مع العلم أنه يقول إن القانون يقف معه بحجة عدم دفع العربون أفيدونا مأجورين؟(4/382)
الجواب: إن عقد البيع قد تم بين البائع والمشتري إذا كانت الأمور قد جرت مثلما ذُكر في السؤال وعقد البيع من العقود اللازمة عند الفقهاء فمتى صدر الإيجاب والقبول من المتعاقدين فقد تم العقد ولا يملك أحدهما فسخه إلا برضى الآخر إذا لم يكن بينهما خيار وفي السؤال لم يرد ذكر للخيار فالعقد لازم والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: [البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا] رواه البخاري ومسلم.
وهنا قد تم التفرق بينهما فلزمهما البيع فلا يجوز شرعاً للبائع أن يفسخ العقد أو يلغيه بإرادة منفردة وهذا البائع وقد فسخ العقد وباع العقار لشخص آخر فقد أثم ووقع في الحرام والله سبحانه وتعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) سورة المائدة الآية 1.
وأما بالنسبة لما ذكره السائل عن الناحية القانونية فإن القانون المدني لا يعترف بأي عقد لبيع العقار ولو كان العقد خطياً إلا إذا تم تسجيله في الدائرة المختصة وبما أنه لم يتم عقد خطي ومسجل في الدوائر الرسمية فإن الموقف القانوني للمشتري ضعيف جداً.
حكم المماطلة وعقوبتها
يقول السائل: ما المقصود بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته) ؟
الجواب: هذا الحديث رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم والبيهقي وورد في مسند أحمد بلفظ: (لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته) .
والحديث قال عنه الحاكم: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي وحسنه الحافظ ابن حجر وحسنه الشيخ الألباني أيضاً. فتح الباري 5/259، إرواء الغليل 5/259. ولي الواجد معناه مطل القادر على قضاء دينه. عون المعبود 10/41.(4/383)
وقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (مطل الغني ظلم) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام النووي: [قوله - صلى الله عليه وسلم - (مطل الغني ظلم) قال القاضي وغيره: المطل منع قضاء ما استحق أداؤه فمطل الغني ظلم وحرام، ومطل غير الغني ليس بظلم ولا حرام لمفهوم الحديث ولأنه معذور.] شرح الإمام النووي على صحيح مسلم 4/174-175.
وهذان الحديثان الشريفان فيهما التحذير الشديد للمماطل القادر على سداد دينه ومع ذلك يماطل في سداد الدين لينتفع بالمال لنفسه ولا يؤدي حقوق العباد وهذه المماطلة سماها الرسول - صلى الله عليه وسلم - ظلماً والظلم ظلمات يوم القيامة.
قال الحافظ ابن عبد البر: [وقد أتى الوعيد الشديد في الظالمين بما يجب أن يكون من فقهه عن قليل الظلم وكثيره منتهياً وإن كان الظلم ينصرف على وجوه بعضها أعظم من بعض. قال الله عز وجل: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) سورة لقمان الآية 13. وقال تعالى: (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا) سورة طه الآية 111.
أي خاب من رحمة الله تعالى ومن بعضها أو من كثير منها على حسب ما ارتكب من الظلم والله يغفر لمن يشاء.
وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال حاكياً عن الله تبارك وتعالى: (يا عبادي إني حرمت عليكم الظلم فلا تظالموا) رواه مسلم.
ومن الدليل على أن مطل الغني ظلم محرم موجب للإثم ما ورد به الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من استحلال عرضه والقول فيه ولولا مطله لم يحل ذلك.] الاستذكار 20/268-269.
والغني المماطل يعدُّ فاسقاً عند جمهور أهل العلم ويدل على ذلك بأن منع الحق بعد طلبه وانتفاء العذر عن أدائه كالغصب والغصب كبيرة وتسميته ظلماً يشعر بكونه كبيرة. فتح الباري 5/372.(4/384)
وقال بعض العلماء إن مطل الغني بعد مطالبته وامتناعه عن الأداء لغير عذر يعتبر من كبائر الذنوب وقد عده ابن حجر المكي من الكبائر: [إذ الظلم وحل العرض والعقوبة أكبر الوعيد] الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/570.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن الغني المماطل مردود الشهادة قال سحنون بن سعيد: [إذا مطل الغني بدين عليه لم تجز شهادته لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سماه ظالماً] الاستذكار 20/270.
وجاء في الحديث عن خولة زوجة حمزة رضي الله عنهما: (أن رجلاً كان له على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسق تمر فأمر أنصارياً أن يقضيه فقضاه دون تمره فأبى أن يقبضه فقال: أترد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: نعم ومن أحق بالعدل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاكتحلت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدموعه ثم قال: صدق ومن أحق مني بالعدل لا قدس الله أمة لا يأخذ ضعيفها حقه من شديدها ولا يتعتعه. ثم قال: يا خوله عديه واقضيه فإنه ليس من غريم يخرج من عنده غريمه راضياً إلا صلت عليه دواب الأرض ونون البحار وليس من عبد يلوى غريمه وهو يجد إلا كتب الله عليه في كل يوم وليلة إثماً) رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/140.
وتعتعه أي أقلقه وأتعبه بكثرة تردده إليه ومطله إياه، ويلوي أي يمطل ويسوف.
وجاء في الحديث عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: (جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يتقاضاه ديناً كان عليه فاشتد عليه حتى قال له: أحرج عليك إلا قضيتني فانتهره أصحابه وقالوا: ويحك تدري من تكلم؟ قال: إني أطلب حقي. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هلاّ مع صاحب الحق كنتم؟ ثم أرسل إلى خولة بنت قيس فقال لها إن كان عندك تمر فأقرضينا حتى يأتينا تمرنا فنقضيك. فقالت: نعم بأبي أنت يا رسول الله. قال: فأقرضته فقضى الأعرابي وأطعمه. فقال: أوفيت أوفى الله لك. فقال - صلى الله عليه وسلم -: أولئك خيار الناس إنه لا قدّست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع) رواه ابن(4/385)
ماجة وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 1/55 وانظر الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/570.
ومعنى غير متعتع: أي من غير أن يصيبه أذى يقلقه ويزعجه.
كما وينبغي أن يعلم هذا الغني المماطل أن الموت قد يخطفه فجأة ويبقى الدين في ذمته إلى يوم القيامة وقد صح الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال:
(من كانت عنده مظلمة لأحد فليتحلله فإنه ليس ثم دينار ولا درهم من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئاته وطرح عليه) رواه البخاري.
وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم - يحل عرضه وعقوبته فمعناه كما قال عبد الله بن المبارك:
[يحل عرضه يغلظ له وعقوبته يحبس] عون المعبود 10/40.
وأخيراً ينبغي أن يعلم أنه لا يجوز فرض غرامة مالية على المدين المماطل لأن ذلك يعتبر من الربا المحرم شرعاً.
حكم الاختلاس من محل العمل
يقول السائل: إنه يعمل في إحدى المؤسسات التي تقدم وجبة الغداء للعاملين فيها حسب نظام التذاكر ويسأل هل يجوز له أن يأخذ الطعام بدون تذكرة ودون أن يراه الموظف الذي يقدم الطعام؟ ويسأل هل يجوز للموظف الذي يقدم الطعام أن يعطي بعض زملائه طعاماً بدون تذكرة؟ ويسأل أيضاً هل يجوز له أن يأخذ بعض الأشياء من تلك المؤسسة مثل أدوات التنظيف والأدوية والقرطاسية ونحوها بدون إذن المسؤولين؟
الجواب: إن الموظف مؤتمن على عمله ويجب عليه أن يحافظ على كل ما يتعلق بعمله ولا يجوز له أن يستعمل شيئاً مما أؤتمن عليه في غير محله المقرر له.
ويحرم على الموظف خيانة الأمانة التي أؤتمن عليها فلا يجوز شرعاً(4/386)
أن يأخذ وجبة طعام بدون ثمنها ما دام أن الطعام يباع للموظفين بيعاً وبواسطة التذاكر وكذلك لا يجوز للموظف الذي يقدم الطعام أن يعطي أحداً منه بدون تذكرة ما دام أن النظام يقضي بأن لا يعطى أحد طعاماً إلا بتذكرة وعمله هذا يعتبر خيانة للأمانة.
وكذلك يحرم على الموظفين أخذ شيء من أموال المؤسسة مهما كانت قليلة وقد أمر الله سبحانه وتعالى بأداء الأمانة وحذّر من خيانتها فقد قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) سورة النساء الآية 58.
وهذه الآية عامة تشمل كل الأمانات كما نقل القرطبي ذلك عن جماعة من الصحابة كالبراء بن عازب وابن مسعود وابن عباس وأبيّ بن كعب رضي الله عنهم قالوا:
[الأمانة في كل شيء في الوضوء والصلاة والزكاة والجنابة والصوم والكيل والوزن والودائع] .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: [لم يرخص الله لمعسر ولا لموسر أن يمسك الأمانة] .
وقال القرطبي: [وأجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها الأبرار منهم والفجار] تفسير القرطبي 5/256.
وقال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) سورة الأنفال الآية 27.
فنهى الله سبحانه وتعالى عن خيانة الله سبحانه وتعالى وخيانة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخيانة بعضهم لبعض.
وخيانة الأمانة من صفات المنافقين كما صحَّ في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان) رواه البخاري ومسلم.(4/387)
وفي رواية عند مسلم: (وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم) .
وجاء في الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان وإذا حدّث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر) رواه البخاري ومسلم.
وقد اعتبر العلماء خيانة الأمانة من كبائر الذنوب. انظر الزواجر 1/617.
وقد وردت أحاديث كثيرة في الترهيب من خيانة الأمانة منها:
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: (خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال في الخطبة: لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له) رواه ابن حبان والبيهقي والبغوي، ثم
قال: هذا حديث حسن. شرح السنة 1/75. وحسّنه الشيخ الألباني لشواهده المشكاة 1/17.
وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اضمنوا لي ستاً أضمن لكم الجنة اصدقوا إذا حدثتم وأوفوا إذا وعدتم وأدوا إذا ائتمنتم واحفظوا فروجكم وغضوا أبصاركم وكفوا أيديكم) رواه أحمد والبيهقي والحاكم وابن حبان وصححه الشيخ الألباني. السلسلة الصحيحة 3/454
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [لا يغرنَّك صلاة امرئ ولا صيامه من شاء صلى ومن شاء صام ولكن لا دين لمن لا أمانة له] شرح السنة 1/75.
وخلاصة الأمر أن الموظف مؤتمن على العمل الذي أنيط به ومؤتمن على ما كان تحت يده من أموال أو أدوات أو طعام وغير ذلك ولا يجوز التصرف بأي شيء من ذلك إلا بإذن مسؤوله ولا يجوز أن يأخذ شيئاً من عمله دون أن يؤذن له فإن فعل فقد خان الأمانة وارتكب الإثم ووقع في المعصية.(4/388)
الهدية إلى الموظف مقابل خدمة تعد رشوة
يقول السائل: إن أحد الموظفين أنجز له إحدى المعاملات فقام صاحب المعاملة بإهداء الموظف هدية فما الحكم في ذلك؟
الجواب: إن ما سميته هدية ما هو في الحقيقة إلا رشوة والهدايا التي تهدى إلى الموظفين بحكم وظائفهم هي رشوة ولا يجوز لك شرعاً أن تهدي الموظف كما تقول على إنجاز معاملة أو نحوها وكذلك يحرم على الموظفين قبول ذلك لأن هذه الهدية
" الرشوة " إنما أعطيت لهم لأنهم في هذه الوظائف ولم تعط لهم بحكم العلاقة الشخصية بين المعطي والآخذ.
وقد ثبت في الحديث عن أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه - قال: (استعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من الأزد على صدقات بني سليم يقال له ابن اللتبيه فلما جاء حاسبه قال: هذا مالكم وهذا هدية. فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقاً ثم خطبنا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله فيأتي فيقول: هذا مالكم وهذا هدية أهديت لي أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقاً والله لا يأخذ أحد منكم منها شيئاً بغير حقه إلا لقي الله تعالى يحمله يوم القيامة فلا أعرفن أحداً منكم لقي الله يحمل بعيراً له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر ثم رفع يديه حتى رؤي بياض إبطيه ثم قال: اللهم هل بلغت. بصر عيني وسمع أذني) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام النووي: (وفي هذا الحديث بيان أن هدايا العمال حرام وغلول لأنه خان في ولايته وأمانته ولهذا ذكر في الحديث في عقوبته وحمله ما أهدي إليه يوم القيامة كما ذكر مثله في الغال وقد بين - صلى الله عليه وسلم - في نفس الحديث السبب في تحريم الهدية عليه وأنها بسبب الولاية بخلاف الهدية لغير العامل فإنها مستحبة) شرح النووي على صحيح مسلم 4/533.(4/389)
وجاء في الحديث عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من استعملناه على عمل فرزقناه رزقاً فما أخذ بعد ذلك فهو غلول) رواه أبو داود وقال الشيخ الألباني: صحيح. أنظر صحيح الترغيب والترهيب ص 330.
فهذا الحديث يدل على أنه لا يحل للموظف أن يأخذ على وظيفته إلا راتبه المخصص له وإن أخذ ما زاد على ذلك فهو غلول أي خيانة. عون المعبود 8/114
وجاء في الحديث عن أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (هدايا العمال غلول) رواه أحمد والبيهقي وغيرهما وصححه الشيخ الألباني في إرواء الغليل 8/246. ويدخل الموظفون في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (العمال) .
وروى الإمام البخاري عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: [كانت الهدية في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هدية واليوم رشوة] .
قال الحافظ ابن حجر: [وصله ابن سعد بقصة فيه فروى من طريق فرات بن مسلم قال: اشتهى عمر بن عبد العزيز التفاح فلم يجد في بيته شيئاً يشتري به فركبنا معه فتلقاه غلمان الدير بأطباق تفاح فتناول واحدة فشمها ثم رد الأطباق فقلت له في ذلك فقال: لا حاجة لي فيه. فقلت: ألم يكن رسول الله وأبو بكر وعمر يقبلون الهدية. فقال: إنها لأؤلئك هدية وهي للعمال بعدهم رشوة] فتح الباري مع الصحيح 6/148.
وجاء في الحديث عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قال: (الهدية إلى الإمام غلول) رواه الطبراني وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع 2/1186.
وهذه الهدايا التي تقدم للموظفين لقيامهم بأعمال هي من ضمن اختصاصهم وصلب عملهم هي من باب الرشوة وإن سماها الناس هدية وقد صح في الحديث: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن الراشي والمرتشي) رواه أبو داود(4/390)
والترمذي وابن ماجة وغيرهم وصححه الشيخ الألباني. إرواء الغليل 8/ 244.
ومما يلحق بالرشوة الهدايا التي تهدى بسبب الشفاعة للمهدي في أمر من الأمور فقد جاء في الحديث عن أبي أمامة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية عليها فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا) رواه أحمد وأبو داود وحسنه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/ 27.
قال صاحب فتح الودود: [وذلك لأن الشفاعة الحسنة مندوب إليها وقد تكون واجبة فأخذ الهدية عليها يضيع أجرها كما أن الربا يضيع الحلال] عون المعبود 10/331
وقد اعتبر الشيخ ابن حجر المكي قبول الهدية بسبب الشفاعة من الكبائر ونقل عن عبد الله بن مسعود أنه قال: (السحت أن تطلب لأخيك الحاجة فتقضى فيهدي إليك هدية فتقبلها منه) .
وفي رواية أخرى عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: (من رد عن مسلم مظلمة فأعطاه على ذلك قليلاً أو كثيراً فهو سحت) انظر الزواجر عن اقتراف الكبائر 2/428-429.
وينبغي أن يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر في أحاديث صحيحة أن من يتلقى رشوة أو هدية في ثوب رشوة فإنه يأتي يوم القيامة حاملاً لها على ظهره وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يشفع له يوم القيامة كما ثبت ذلك في حديث أبي حميد السابق وكما ثبت في الحديث عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إني ممسك بحجزكم عن النار: هلم عن النار وتغلبونني تقاحمون فيه تقاحم الفراش أو الجنادب فأوشك أن أرسل بحجزكم وأنا فرطكم عن الحوض فتردون علي معاً وأشتاتاً فأعرفكم بسيماكم وأسمائكم كما يعرف الرجل الغريبة من الإبل في إبله ويذهب بكم ذات الشمال وأناشد فيكم رب العالمين فأقول: أي رب أمتي. فيقول يا محمد إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم كانوا يمشون بعدك القهقرى على أعقابهم فلا أعرفن أحدكم يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء فينادي: يا محمد يا محمد. فأقول:(4/391)
لا أملك لك شيئاً قد بلغتك. فلا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل بعيراً له رغاء فينادي: يا محمد يا محمد. فأقول لا أملك لك شيئاً قد بلغتك. فلا أعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرساً له حمحمة فينادي: يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك شيئاً قد بلغتك. فلا أعرفن أحدكم يوم القيامة يحمل سقاء من أدم ينادي: يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك شيئاً قد بلغتك) رواه أبو يعلى والبزار وقال الحافظ المنذري: إسنادهما جيد إن شاء الله. وقال الشيخ الألباني: حسن. انظر صحيح الترغيب والترهيب ص 332-333.
ما هو السحت
يقول السائل: ما المقصود بأكل السحت؟
الجواب: ورد الوصف بأكل السحت في ثلاث آيات من القرآن الكريم وذلك في سورة المائدة، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواءَامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍءَاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) سورة المائدة الآيتان 41-42.
وقال الله تعالى: (وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) سورة المائدة الآية 62.
وقوله تعالى: (لوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) سورة المائدة الآية 63.(4/392)
قال أهل التفسير في قوله تعالى: (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) أي الحرام وسمي المال الحرام سحتاً لأنه يسحت الطاعات أي يذهبها ويستأصلها. انظر تفسير القرطبي 6/183.
وقيل لأنه لا بركة فيه لأهله فيهلك هلاك الاستئصال غالباً. وقيل لأنه يسحت مروءة الإنسان. والسحت المقصود في الآية هو الرشوة على الحكم وذلك على المشهور عند المفسرين وقد روي عن ابن عباس والحسن البصري. تفسير الألوسي 3/309.
وروى الإمام البخاري تعليقاً عن محمد بن سيرين أنه قال: [كان يقال السحت الرشوة في الحكم] .
وقال الحافظ ابن حجر: [وأشار ابن سيرين بذلك إلى ما جاء عن عمر وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت من قوله في تفسير السحت أنه الرشوة في الحكم أخرجه ابن جرير بأسانيد عنهم.
ورواه من وجه آخر مرفوعاً ورجاله ثقات ولكنه مرسل ولفظه: كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به. قيل: يا رسول الله وما السحت؟ قال: الرشوة في الحكم] فتح الباري 5/360.
قال الحافظ ابن عبد البر: [وفيه دليل على أن كل ما أخذه الحاكم والشاهد على الحكم بالحق أو الشهادة بالحق سحت وكل رشوة سحت وكل سحت حرام ولا يحل لمسلم أكله وهذا ما لا خلاف فيه بين علماء المسلمين.
وقال جماعة من أهل التفسير في قول الله عز وجل: (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) قالوا: السحت الرشوة في الحكم وفي السحت كل ما لا يحل كسبه] فتح المالك 8/223
ويدخل تحت السحت كل مال حرام لا يحل كسبه ولا أكله ومن السحت الربا والغصب والقمار والسرقة ومهر البغي وثمن الخمر والخنزير والميتة والأصنام والتماثيل والمال المأكول بالباطل كمن يسأل الناس وهو(4/393)
ليس بحاجة فإن ما يأكله من المال يعتبر سحتاً فقد جاء في الحديث عن قبيصة بن مخارق الهلالي - رضي الله عنه -
قال: (تحملت حمالة فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسأله فقال: أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها. قال ثم قال: يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش - أو قال سداداً من عيش - ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه لقد أصابت فلاناً فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش - أو قال سداداً من عيش - فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتاً يأكلها صاحبها سحتاً) رواه مسلم.
وجاء في الحديث عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت وكل لحم نبت من سحت كانت النار أولى به) رواه أحمد والدارمي والبيهقي في شعب الإيمان.
وفي رواية أخرى: [كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به] رواه أحمد والطبراني والحاكم وغيرهم وقال الألباني صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 2/831.
قال الشيخ المناوي بعد أن ذكر الحديث: [هذا وعيد شديد يفيد أن أكل أموال الناس بالباطل من الكبائر] فيض القدير 5/23.
وعن كعب بن عجرة قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أعيذك بالله يا كعب بن عجرة من أمراء يكونون بعدي فمن غشي أبوابهم فصدقهم في كذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ولا يرد عليَّ الحوض ومن غشي أبوابهم أو لم يغش ولم يصدقهم في كذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه ويرد عليَّ الحوض.
يا كعب بن عجرة: الصلاة برهان والصوم جنة حصينة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار. يا كعب بن عجرة إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به)(4/394)
رواه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه وصححه الألباني. صحيح سنن الترمذي 1/189.
وعن أبي بكر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يدخل الجنة جسد غذي بحرام) رواه أبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط ورجال أبي يعلى ثقات وفي بعضهم اختلاف قاله الهيثمي. مجمع الزوائد 10/293.(4/395)
الأسرة والمجتمع(4/397)
يحرم تزويج تارك الصلاة
تقول السائلة: إنها فتاة ملتزمة بأحكام الإسلام وقد تقدم لخطبتها شاب تارك للصلاة ويريد أبوها أن يزوجها منه وهي ترفض ذلك فما قولكم؟
الجواب: إن واجب الآباء النظر والفحص في أحوال من يتقدم لخطبة بناتهم وأن يجعلوا المعيار للقبول والرد هو ما قرره الشرع فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض) رواه الترمذي وابن ماجة، وقال الشيخ الألباني: حسن.
وجاء في الحديث عن أبي حاتم المزني - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد. قالوا: وإن كان فيه؟ قال: إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه) ثلاث مرات. رواه الترمذي وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني. صحيح سنن الترمذي 1/315.
وهذا الحديث يقرر أصلاً مهماً في الزواج وهو اعتبار الكفاءة في الدين فإن تارك الصلاة ليس كفؤاً للمرأة الصالحة المصلية وتارك الصلاة لا ينبغي أن يزوج لأن أمره دائر بين الكفر والفسق على اختلافٍ بين العلماء في حاله.(4/399)
قال العلامة ابن القيم: [لا يختلف المسلمون أن ترك الصلاة المفروضة عمداً من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر وأن إثمه عند الله أعظم من إثم قتل النفس وأخذ الأموال ومن إثم الزنا والسرقة وشرب الخمر وأنه متعرض لعقوبة الله وسخطه وخزيه في الدنيا والآخرة] كتاب الصلاة ص 3-4.
قال الله تعالى مخبراً عن أصحاب الجحيم: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) المدثر الآيتان 42-43.
وقال الله تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) سورة مريم الآية 59.
وقد وردت أحاديث كثيرة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الترهيب من ترك الصلاة تعمداً وكذلك آثار عن الصحابة والسلف أذكر طائفة منها:
عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) رواه مسلم.
وفي رواية: (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) رواه أبو داود والنسائي وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني.
وفي رواية أخرى: (بين الكفر والإيمان ترك الصلاة) رواه الترمذي وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني.
وجاء في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: (عُرَى الإسلام وقواعد الدين ثلاث عليهن أٌسُ الإسلام من ترك واحدة منهن فهو بها كافر حلال الدم: شهادة أن لا إله إلا الله والصلاة المكتوبة وصوم رمضان) وإسناده حسن كما قال المنذري والهيثمي.
وفي رواية أخرى: (من ترك منهن واحد فهو بالله كافر ولا يقبل منه صرف ولا عدل وقد حل دمه وماله) وسندها حسن كما قال الشيخ ابن حجر المكي في الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/284.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله) رواه البخاري ومسلم.(4/400)
وعن بريدة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وقال حديث حسن صحيح وصححه الشيخ الألباني.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر الصلاة يوماً فقال: من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً ولا برهاناً ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف) رواه أحمد والدارمي وقال المنذري: إسناده جيد.
قال بعض العلماء: وإنما حشر مع هؤلاء لأنه إن اشتغل عن الصلاة بماله أشبه قارون فيحشر معه أو بملكه أشبه فرعون فيحشر معه أو بوزارته أشبه هامان فيحشر معه أو بتجارته أشبه أبي بن خلف تاجر كفار مكة فيحشر معه. الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/289.
وعن عبد الله بن شقيق العقيلي - رضي الله عنه - قال: (كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة) رواه الترمذي والحاكم وصححه. وقال الشيخ الألباني: صحيح.
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: (أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم - أن لا تشرك بالله شيئاً وإن قطعت أو حرقت ولا تترك صلاة مكتوبة متعمداً فمن تركها فقد برئت منه الذمة ولا تشرب الخمر فإنها مفتاح كل شر) رواه ابن ماجة والبيهقي وصححه الشيخ الألباني.
وعن أم أيمن رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تترك الصلاة متعمداً فإنه من ترك الصلاة متعمداً فقد برئت منه ذمة الله ورسوله) رواه أحمد والبيهقي وصححه الشيخ الألباني.
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: (من ترك الصلاة فلا دين له) رواه ابن أبي شيبة في كتاب الإيمان والطبراني في المعجم الكبير وحسنه الشيخ الألباني.(4/401)
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: (لا إيمان لمن لا صلاة له ولا صلاة لمن لا وضوء له) رواه ابن عبد البر وصححه الشيخ الألباني. انظر هذه الأحاديث والآثار وحكم الشيخ الألباني عليها صحيح الترغيب والترهيب ص 226-230.
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: (لا حظ لأحد في الإسلام أضاع الصلاة) الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/295.
قال الشيخ ابن حجر المكي بعد أن ساق عدداً كبيراً من الأحاديث والآثار في تارك الصلاة: [اختلف العلماء من الصحابة ومن بعدهم في كفر تارك الصلاة وقد مرّ في الأحاديث الكثيرة السابقة التصريح بكفره وشركه وخروجه من الملة وبأنه تبرأ منه ذمة الله وذمة رسوله وبأنه يحبط عمله وبأنه لا دين له وبأنه لا إيمان له وبنحو ذلك من التغليظات وأخذ بظاهرها جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم فقالوا من ترك صلاة متعمداً حتى خرج جميع وقتها كان كافراً مراق الدم منهم عمر وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبو هريرة وابن مسعود وابن عباس وجابر بن عبد الله وأبو الدرداء ومن غير الصحابة أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه
وعبد الله بن المبارك والنخعي والحكم بن عتيبة وأيوب السختياني وأبو داود الطيالسي وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وغيرهم فهؤلاء الأئمة كلهم قائلون بكفر تارك الصلاة وإباحة دمه] الزواجر 1/298.
وقد سقت هذه النصوص الكثيرة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وآثار السلف لأؤكد على قضية خطيرة جداً ألا وهي إن ترك الصلاة الذي هو من كبائر الذنوب قد صار أمراً عادياً في مجتمعنا ولا يثير في نفوساً شيئاً ولا يحرك ساكناً ولا يعتبره كثير من الناس وبعض المشايخ مما يطعن في شخصية تارك الصلاة بل إن بعض هؤلاء يتعاملون مع تارك الصلاة بكل الحب والاحترام والتقدير الذي لا يحظى به كثير من عباد الله المصلين المحافظين على حدود الله فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ويجب التأكيد على أن تارك الصلاة لا يجوز أن يزوج والولي أباً كان(4/402)
أو أخاً إن أجبر ابنته أو أخته على الزواج من تارك للصلاة فقد ارتكب جرماً عظيماً.
وقد ورد عن الإمام أبي حنيفة أنه قال: [من زوج ابنته لتارك صلاة فكأنما ألقاها في نار جهنم] .
فتارك الصلاة أقل أحواله أنه فاسق والفاسق ليس كفؤاً للمرأة المصلية الملتزمة بشرع الله.
وتارك الصلاة هذا يجب أن ينصح وأن يعاد عليه النصح مراراً وتكراراً لعله يعود ويرجع ويتوب إلى الله سبحانه وتعالى.
وأخيراً لا يجوز لهذا الأب أن يجبر ابنته على الزواج من تارك الصلاة فإن فعل فقد وقع في الحرام وعليه وزر عظيم والعياذ بالله.
اشتراط المرأة في عقد زواجها أن لا يتزوج عليها بأخرى
يقول السائل: هل يجوز للمرأة أن تشترط في عقد زواجها أن لا يتزوج زوجها عليها وما الحكم لو حصل هذا الشرط وقبل به الزوج عند العقد ثم ندم على ذلك بعد مدة فهل عليه الوفاء بالشرط المذكور أم لا؟
الجواب: اتفق أهل العلم على وجوب الوفاء بالشروط التي يقتضيها عقد الزواج كالإنفاق على الزوجة مثلاً.
واختلفوا في الشروط التي لا تنافي مقتضى عقد الزواج ولا تخل بمقصوده الأصلي كالشرط المذكور في السؤال.
والذي أختاره في هذه المسألة أنه يجوز للمرأة أن تشترط في عقد زواجها أن لا يتزوج زوجها عليها وأنه يلزم الزوج الوفاء بهذا الشرط ما دام أنه قبل به عند عقد الزواج وهذا قول الحنابلة في هذه المسألة.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي عند حديثه على الشروط في النكاح:(4/403)
[ما يلزم الوفاء به وهو ما يعود إليها نفعه وفائدته مثل أن يشترط لها أن لا يخرجها من دارها أو بلدها ولا يسافر بها أو لا يتزوج عليها. فهذا يلزمه الوفاء لها به فإن لم يفعل فلها فسخ النكاح يروى هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسعد بن أبي وقاص ومعاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهم وبه قال شريح وعمر بن عبد العزيز وجابر بن زيد وطاووس والأوزاعي وإسحاق] المغني 7/93.
ومما يدل لهذا القول عموم النصوص الشرعية الآمرة بالوفاء بالعهد كقوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) سورة المائدة آية 1.
ومما يدل عليه أيضاً ما جاء في الحديث أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج) رواه البخاري ومسلم.
وقال الإمام البخاري في صحيحه: [باب الشروط في النكاح وقال عمر: مقاطع الحقوق عند الشروط. وقال المسور بن مخرمة: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر صهراً له فأثنى عليه في مصاهرته فأحسن، قال: حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي]
وقال الحافظ ابن حجر عن أثر عمر بأنه قد وصله سعيد بن منصور في سننه. صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 11/124. وقد صحح الشيخ الألباني أثر عمر المذكور.
ومما يدل لهذا القول ما جاء في الحديث أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً) رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح.
وقد أخذ قانون الأحوال الشخصية المعمول به في المحاكم الشرعية عندنا بقول الحنابلة في هذه المسألة فقد جاء في المادة 19 من القانون المذكور ما يلي: [إذا شرط في العقد شرط نافع لأحد الطرفين ولم يكن(4/404)
منافياً لمقاصد الزواج ولم يلتزم فيه بما هو محظور شرعاً وسجل في وثيقة العقد وجبت مراعاته وفقاً لما يلي:
1. إذا اشترطت الزوجة على زوجها شرطاً تتحقق به مصلحة غير محظورة شرعاً ولا يمس حق الغير كأن تشترط عليه أن لا يخرجها من يلدها أو لا يتزوج عليها أو أن يجعل أمرها بيدها تطلق نفسها إذا شاءت أو أن يسكنها في بلد معين كان الشرط صحيحاً وملزماً فإن لم يف به الزوج فسخ العقد بطلب الزوجة ولها مطالبته بسائر حقوقها الزوجية. الخ] .
وبناءاً على ما سبق أقول بأنه يجب على الزوج الوفاء بالشرط المذكور ما دام أنه قبل به ابتداءً وعليه الالتزام بذلك.
ولكني أنصح المقبلين على الزواج أن لا يقبلوا بهذا الشرط ابتداءً فلا ينبغي للرجل أن يقبل أن يشرط عليه في عقد الزواج أن لا يتزوج عليها. لأنه لا يدري ماذا يحصل معه في مستقبل أيامه فقد تمرض زوجته مرضاً يمنع استمرار الحياة الزوجية بالشكل المطلوب كأن تصاب بمرض مزمن أو معد أو قد تصيبها أمور أخرى أو قد تقع العداوة والبغضاء بينهما ولا يستطيع تطليقها لسبب ما فإنه حينئذ يستطيع أن يتزوج عليها ثانية فإن كان قد شرط على نفسه ألا يتزوج عليها فقد قطع الطريق على نفسه.
زوج الأخت أجنبي على أخت الزوجة
يقول السائل: إنه وأخوه متزوجان من أختين ويسكنان في بيت واحد وزوجة كل منهما تظهر على زوج أختها بدون جلباب مع إظهار الزينة لأنهما تعتقدان أن زوج الأخت محرم فما قولكم في ذلك؟
الجواب: إن زوج الأخت يعتبر أجنبياً على أخت زوجته ولا يختلف حكمه عن الرجال الأجانب إلا في حكم واحد فقط وهو أنه لا يجوز أن يتزوج أخت زوجته ما دامت أختها في عصمته.
وهنالك خطأ شائع بين الناس أن زوج الأخت محرم لأخت زوجته(4/405)
وهذا الفهم مغلوط ولا يستند إلى أي دليل شرعي وإنما فهم الناس هذه المحرمية غير الصحيحة شرعاً من كونه لا يجوز شرعاً الجمع بين الأختين ففهم كثير من الناس ثبوت المحرمية بين زوج الأخت وأخت زوجته.
ويجب أن يعلم أن هذا التحريم المؤقت في الجمع بين الأختين في الزواج لا يجعل زوج الأخت محرماً لأخت زوجته.
ومحارم المرأة هم الذين يحرم عليهم نكاحها على التأبيد وهذه المحرمية تكون بسبب النسب أو بسبب الرضاع أو بسبب المصاهرة.
والمحارم من النسب هم الآباء وإن علوا من جهة الذكور والإناث كآباء الآباء وآباء الأمهات.
والمحارم من الأبناء أي أبناء النساء فيدخل فيهم أولاد الأولاد وإن نزلوا من الذكور والإناث مثل بني البنين وبني البنات أما أبناء بعولتهن فهم آبناء أزواجهن من غيرهن وهؤلاء محارم بسبب المصاهرة لا بسبب النسب.
المحارم من الأخوة وهم إخوانهن سواء أكانوا أخوة لأم وأب أو لأب فقط أو لأم فقط.
المحارم من بني إخوانهن وإن نزلوا من ذكران وإناث كبني بني الإخوان.
المحارم من بني أخواتهن وإن نزلوا من ذكران وإناث كبني بنات الأخوات.
العم والخال وهما من المحارم بالنسب ولم يذكروا في الآية الكريمة لأنهما يجريان مجرى الوالدين وهما عند الناس بمنزلة الوالدين.
وأما المحارم من الرضاع فهم مثل المحارم من النسب لما ثبت في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) رواه مسلم.
وأما المحارم من المصاهرة فهم الذين يحرم عليهم نكاحها على التأبيد(4/406)
مثل زوجة الأب وزوجة الابن وأم الزوجة فالمحرم بالمصاهرة بالنسبة لزوجة الأب هو ابنه من غيرها وبالنسبة لزوجة الابن هو أبوه وبالنسبة لأم الزوجة هو الزوج. المفصل في أحكام المرأة 3/161 - 162.
وبين الله سبحانه وتعالى المحرمات من النساء بقوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) سورة النساء الآيتان 22-23.
ولم يقل الله سبحانه وتعالى: (وأخوات نسائكم) وإنما قال: (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) فالأمر المحظور هو الجمع بين الأختين أي في الزواج، وبهذا يظهر لنا بوضوح أن زوج الأخت ليس محرماً لأخت زوجته.
وبناءاً على ذلك فإن زوج الأخت يعتبر أجنبياً على أخت زوجته وتنطبق عليه جميع الأحكام المتعلقة بالأجانب من حيث النظر واللمس والدخول والخلوة فلا يجوز أن ينظر زوج الأخت من أخت زوجته إلى شيء سوى الوجه والكفين ولا يجوز له لمسها ولا مصافحتها ولا يجوز أن يخلو بها.
ولا يجوز لها أن تبدي زينتها أمام زوج أختها لقوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْءَابَائِهِنَّ أَوْءَابَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ) سورة النور الآية 31.
وأخو الزوج ليس من هؤلاء المذكورين في الآية.
وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجال من الدخول على النساء وخاصة أخو(4/407)
الزوج فقد صح في الحديث عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إياكم والدخول على النساء. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام النووي: [قوله - صلى الله عليه وسلم -: (الحمو الموت) قال الليث بن سعد: الحمو أخو الزوج وما أشبهه من أقارب الزوج: ابن العم ونحوه. اتفق أهل اللغة على أن الأحماء أقارب زوج المرأة كأبيه وأخيه وابن أخيه وابن العم ونحوهم، والأختان أقارب زوجة الرجل والأصهار يقع على النوعين.
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (الحمو الموت) فمعناه أن الخوف منه أكثر من غيره والشر يتوقع منه والفتنة أكثر لتمكنه من الوصول إلى المرأة والخلوة من غير أن ينكر عليه بخلاف الأجنبي والمراد بالحمو هنا أقارب الزوج غير آبائه وأبنائه فأما الآباء والأبناء فمحارم لزوجته تجوز لهم الخلوة بها ولا يوصفون بالموت وإنما المراد الأخ وابن الأخ والعم وابنه ونحوهم ممن ليس بمحرم.
وعادة الناس المساهلة فيه ويخلو بامرأة أخيه فهذا هو الموت وهو أولى بالمنع من الأجنبي. وقال ابن الأعرابي: هي كلمة تقولها العرب كما يقال: الأسد الموت. أي لقاؤه مثل الموت، وقال القاضي: معناه الخلوة بالأحماء مؤدية إلى الفتنة والهلاك في الدين فجعله كهلاك الموت فورد الكلام مورد غليظ] شرح النووي على صحيح مسلم 5/329.
وقال أبو العباس القرطبي: [وقوله: (الحمو الموت) أي دخوله على زوجة أخيه يشبه الموت في الاستقباح والمفسدة أي فهو محرم معلوم التحريم وإنما بالغ في الزجر عن ذلك وشبهه بالموت لتسامح الناس في ذلك من جهة الزوج والزوجة لإلْفهم لذلك حتى كأنه ليس بأجنبي من المرأة عادة وخرج هذا مخرج قول العرب: الأسد الموت والحرب الموت أي لقاءه يفضي إلى الموت وكذلك دخول الحمو على المرأة يفضي إلى موت الدين أو إلى موتها بطلاقها عند غيرة الزوج أو برجمها إن زنت معه] المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 5/501-502.(4/408)
ونقل الحافظ ابن حجر عن الطبري قوله: [المعنى أن خلوة الرجل بامرأة أخيه وابن أخيه - أي زوجة ابن أخيه - تنزل منزلة الموت والعرب تصف الشيء المكروه بالموت] فتح الباري 11/245.
مسألة لبن الفحل
يقول السائل: رجل له زوجتان وكل منهما قد أنجبت والأولى منهما أرضعت ولداً لأحد الأقارب فهل يجوز لهذا أن يتزوج ابنة ذلك الرجل من زوجته الثانية؟
الجواب: ثبت في الحديث الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الرضاعة تحرم ما يحرم من النسب) رواه البخاري ومسلم.
وجاء في رواية أخرى: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) وهو حديث صحيح.
وقد اتفق العلماء على ذلك وأنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب وفي السؤال المذكور فإن الولد المشار إليه قد رضع من زوجة الرجل فيصير الرجل أباً لذلك الولد من الرضاعة والبنت التي أراد أن يتزوجها هي أخت لأب من الرضاعة فلا تحل له. وإن كانت البنت من الزوجة الثانية للرجل.
وهذه المسألة يكون التحريم فيها بسبب الرجل وتسمى عند الفقهاء مسألة لبن الفحل وهي التي تكون الحرمة فيها في جانب زوج المرضعة التي نزل لبنها بسبب من الرجل ومعنى ذلك أن المرأة إذا أرضعت طفلاً بلبن هذا الفحل أي الرجل الذي كان وطؤه لها سبباً في إدرار لبن هذه المرأة فإن الطفل الرضيع يصير ولداً لهما فالمرأة تصير أمه بالرضاعة وهو ولدها بالرضاعة والرجل أي زوج المرأة يصير أباً له وهو ولده بالرضاعة وعلى هذا(4/409)
تصير علاقة الرضيع بالرجل وزوجته وبأقاربهما مثل علاقة ولدهما بالنسب. المفصل في أحكام المرأة 6/238.
قال الإمام النووي: [وأما الرجل المنسوب ذلك اللبن إليه لكونه زوج المرأة. فمذهبنا ومذهب العلماء كافة ثبوت حرمة الرضاع بينه وبين الرضيع ويصير ولداً له وأولاد الرجل أخوة الرضيع وأخواته ويكون أخو الرجل أعمام الرضيع وأخواته عماته] شرح النووي على صحيح مسلم 4/18.
ومما يدل على هذا الحكم ما ثبت في الحديث عن عروة بن الزبير عن عائشة: (أنها أخبرته أن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن عليها وهو عمها من الرضاعة بعد أن أنزل الله الحجاب. قالت: فأبيت أن آذن له فلما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبرته بالذي صنعته فأمرني أن آذن له عليَّ) رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية أخرى: (أن عائشة أخبرته أنه جاء أفلح أخو أبي القعيس يستأذن عليها بعدما نزل الحجاب وكان أبو القعيس أبا عائشة من الرضاعة. فقلت: والله لا آذن لأفلح حتى أستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن أبا القعيس ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأته. قالت عائشة: فلما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت: يا رسول الله إن أفلح أخا أبي القعيس جاءني يستأذن عليَّ فكرهت أن آذن له حتى استأذنك. قالت: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إئذني له. قال عروة: فبذلك كانت عائشة تقول حرموا من الرضاع ما تحرمون من النسب] رواه مسلم.
وقد ثبت في الحديث أيضاً أنه طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينكح درة بنت أبي سلمة فقال: (لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها ابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وأباها ثويبة) رواه البخاري ومسلم.
وقد سئل ابن عباس عن رجل تزوج امرأتين فأرضعت إحداهما جارية وأخرى غلاماً فهل يتزوج الغلام بالجارية. فقال: لا اللقاح واحد. رواه مالك والترمذي وإسناده صحيح.
والقول بأن لبن الفحل يحرم هو القول الصحيح في هذه المسألة وحديث عائشة في قصة استئذان أفلح أخي أبي القعيس نص صريح في أن لبن الفحل يحرم.(4/410)
قال الشيخ ابن قدامة بعد أن ساق الحديث: [وهذا نص قاطع في محل النزاع فلا يعول على ما خالفه] المغني 7/114.
وقال العلامة ابن القيم: [الحكم الثاني: المستفاد من هذه السنة أن لبن الفحل يحرم والتحريم ينتشر منه كما ينتشر من المرأة وهذا هو الحق الذي لا يجوز أن يقال بغيره وإن خالف فيه من خالف من الصحابة ومن بعدهم فسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن تتبع ويترك ما خالفها لأجلها ولا تترك هي لأجل قول أحد كائناً من كان ولو تركت السنن لخلاف من خالفها لعدم بلوغها له أو لتأويلها أو غير ذلك لترك سنن كثيرة جداً وتركت الحجة إلى غيرها وقول من يجب اتباعه إلى قول من لايجب اتباعه وقول المعصوم إلى قول غير المعصوم وهذه بلية نسأل الله العافية منها وأن لا نلقاه بها يوم القيامة.
قال الأعمش: كان عمارة وإبراهيم وأصحابنا لا يرون بلبن الفحل بأساً حتى أتاهم الحكم بن عتيبة بخبر أبي القعيس فتركوا قولهم ورجعوا عنه وهكذا يصنع أهل العلم إذا أتتهم السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجعوا إليها وتركوا قولهم بغيرها] زاد المعاد 5/564-565.
وتعليل التحريم بلبن الفحل أن اللبن هو سبب التحريم لأنه ينبت اللحم وينشز العظم واللبن في المرأة يوجد بسب ماء الرجل وماء المرأة وبارتضاعه تثبت الجزئية بين الرضيع وبين المرأة وزوجها وهما اللذان بسبب مائهما حصل اللبن واللبن هو سبب إنبات اللحم وانتشاز العظم وهذا بدوره سبب الجزئية بين الرضيع وبين مسببي الجزئية أي الرجل وامرأته والسبب يقوم مقام المسبب خصوصاً في باب الحرمات ألا ترى أن المرأة تحرم على جدها كما تحرم على أبيها وإن لم يكن تحريمها على جدها منصوصاً عليه في القرآن الكريم لأن البنت وإن حدثت من ماء الأب حقيقة دون ماء الجد ولكن الجد سبب ماء الأب فأقيم السبب مقام المسبب في حق حرمة النكاح احتياطاً كذا هاهنا.
وقد أشار عبد الله بن عباس رضي الله عنهما إلى هذا المعنى فقد روي(4/411)
أنه سئل عن رجل له امرأتان أرضعت إحداهما جارية والأخرى غلاماً هل يصلح للغلام أن يتزوج الجارية؟
فقال ابن عباس: لا، لأن اللقاح واحد.
وبهذا الجواب بين عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الحكم وأشار إلى المعنى وهو اتحاد اللقاح لأن المحرم هو اللبن وسبب اللبن هو ماء الرجل وماء امرأته جميعا فيجب أن يكون الرضاع منهما جميعاً كما كان الولد لهما جميعاً] المفصل في أحكام المرأة 6/240.
ما هو النمص؟
تقول السائلة: هل إزالة الشعر الذي يكون بين الحاجبين من النمص المنهي عنه؟
الجواب: النمص هو نتف الشعر وإزالته كما ذكره أهل اللغة. انظر تاج العروس من جواهر القاموس 9/374.
وقد ورد النهي عن النمص في أحاديث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولكن نتف الشعر وإزالته ليست ممنوعة على إطلاقها بل هناك مواقع في الجسم يندب إزالة الشعر منها.
وقد فسر العلماء النمص الوارد في الأحاديث بأنه إزالة شعر الحاجب أو ترقيقه وهو قول وجيه.
قال أبو داود صاحب السنن: (والنامصة التي تنقش الحاجب حتى ترقه والمتنمصة المعمول بها) سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 11/152.
وقد اتفق أهل العلم على أن ترقيق الحاجب ونتفه داخل في النمص المنهي عنه وأن فاعلته ملعونة كما ثبت في الحديث عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: (لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات(4/412)
والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله. قال: فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب وكانت تقرأ القرآن فأتته فقالت: ما حديث بلغني عنك أنك لعنت الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله؟
فقال عبد الله: ومالي لا ألعن من لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في كتاب الله؟
قالت: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته.
فقال: لئن كنت قرأتيه وجدتيه، قال عز وجل: (وَمَاءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) .
فقالت المرأة: فإني أرى شيئاً من هذا على امرأتك الآن.
قال: اذهبي فانظري. قال: فدخلت على امرأة عبد الله فلم تر شيئاً.
فجاءت إليه فقالت: ما رأيت شيئاً. فقال: أما لوكان ذلك لم نجامعها) رواه مسلم
وفي رواية لأبي داود: [قالت: إني أرى بعض هذا على امرأتك. قال: فادخلي فانظري. فدخلت ثم خرجت فقالت: ما رأيت. فقال: لو كان ذلك ما كانت معنا] عون المعبود 11/151.
قال الإمام النووي: [وأما النامصة. فهي التي تزيل الشعر من الوجه والمتنمصة التي تطلب فعل ذلك بها. وهذا الفعل حرام إلا إذا نبتت للمرأة لحية وشوارب فلا تحرم إزالته بل يستحب عندنا.] شرح النووي على صحيح مسلم 6/288.
وقول ابن مسعود في آخر الحديث: (أما لو كان ذلك لم نجامعها) معناه لم نصاحبها ولم نجتمع نحن وهي بل كنا نفارقها ونطلقها. هذا هو بيان قول ابن مسعود عند جماهير العلماء كما قال الإمام النووي وعليه تدل رواية أبي داود الأخرى.(4/413)
وطلاقها وفراقها بسبب النمص لأنه من كبائر الذنوب نظراً للعن فاعله كما ذكره ابن حجر المكي لأن من علامات كبائر الذنوب اللعن وقد صحت الأحاديث بذلك. انظر الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/308.
واللعن هو الطرد من رحمة الله ويستحق فاعله ذلك لأنه تغيير لخلق الله وهو من إغواء الشيطان للإنسان في تغيير خلق الله كما قال جل جلاله: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّءَاذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا) سورة الأنعام الآيات 117-119.
وقد نص أهل العلم على أن الشعر الذي يكون بين الحاجبين لا تجوز إزالته لأن ذلك داخل في النمص المنهي عنه. فإذا كانت المرأة مقرونة الحاجبين فلا يجوز لها إزالة ذلك لما فيه من تغيير لخلق الله.
ومن شر النمص ما تفعله بعض النسوة من إزالة جميع شعر الحاجبين واستبدال ذلك بخط بقلم المكياج فهذا العمل محرم لا شك في حرمته كما أن له آثاراً ضارة من الناحية الصحية كما بين الأطباء ذلك حيث يقول د. وهبه حسون - الأستاذ بكلية الطب في جامعة الإسكندرية -: [إن إزالة شعر الحواجب بالوسائل المختلفة ثم استخدام أقلام الحواجب وغيرها من ماكياجات الجلد لها تأثيرها الضار فهي مصنوعة من مركبات معادن ثقيلة مثل الرصاص والزئبق تذاب في مركبات دهنية مثل زيت الكاكاو كما أن كل المواد الملونة تدخل فيها بعض المشتقات البترولية وكلها أكسيدات مختلفة تضر بالجلد وإن امتصاص المسام الجلدية لهذه المواد يحدث التهابات وحساسية أما لو استمر استخدام هذه الماكياجات فإن له تأثيراً ضاراً على الأنسجة المكونة للدم والكبد والكلى فهذه المواد الداخلة لها خاصية الترسيب المتكامل فلا يتخلص منها الجسم بسرعة.
إن إزالة شعر الحواجب بالوسائل المختلفة ينشط الحلمات الجلدية فتتكاثر خلايا الجلد وفي حالة توقف الإزالة ينمو شعر الحواجب بكثافة(4/414)
ملحوظة وإن كنا نلاحظ أن الحواجب الطبيعة تلائم الشعر والجبهة واستدارة الوجه] التبرج ص 191.
وقد أجاز بعض العلماء إزالة ما ينبت من الشعر على وجه المرأة غير الحاجبين، قال الإمام العيني: [ولا تمنع الأدوية التي تزيل الكلف وتحسن الوجه للزوج وكذا أخذ الشعر منه] عمدة القاري شرح صحيح البخاري 2/193.
وقال الشيخ ابن قدامة: [فأما حف الوجه فقال مهنا: سألت أبا عبد الله - أي الإمام أحمد - عن الحف فقال: ليس به بأس للنساء] المغني 1/91.
ويؤيد ذلك ما قاله الحافظ ابن حجر العسقلاني أن الطبري أخرج من طريق أبي إسحاق عن امرأته: [أنها دخلت على عائشة وكانت شابة يعجبها الجمال فقالت: المرأة تحف جبينها لزوجها. قالت: أميطي الأذى عنك ما استطعت] فتح الباري 12/500.
وقال الحافظ ابن الجوزي: [وأما الأدوية التي تزيل الكلف وتحسن الوجه للزوج فلا أرى بها بأساً وكذلك أخذ الشعر من الوجه للتحسن للزوج. ثم نقل عن شيخه عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي قوله: إذا أخذت المرأة الشعر من وجهها لأجل زوجها بعد رؤيته إياها فلا بأس به] أحكام النساء ص341-342.
المسؤولية الطبية
يقول السائل: متى يتحمل الطبيب المسؤولية عن الأضرار التي تلحق بالمريض أو التي تؤدي إلى وفاة المريض؟
الجواب: من المعلوم أنه لا يجوز لأي إنسان ممارسة مهنة الطبيب إلا من درس الطب في كليات الطب وأتم سنوات الدراسة بنجاح وأعطي الشهادة الأولى في الطب وقام بالممارسة العملية تحت إشراف الأطباء الأكثر خبرة منه من خلال ما يعرف بسنة الامتياز.(4/415)
وأما من يمارس التطبيب دونما دراسة ودراية فهو متطبب جاهل يضمن كل تصرف يصدر عنه فقد ورد في الحديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من تطبب ولم يعلم منه طب قبل ذلك فهو ضامن) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وقال الشيخ الألباني: حديث حسن.
وجاء في حديث آخر قول عليه الصلاة والسلام: (أيما طبيبُ تَطَببَ على قوم لا يعرف له تَطَبُبٌ قبل ذلك فأعنت فهو ضامن) رواه أبو داود وقال الشيخ الألباني: حديث حسن. انظر صحيح سنن أبي داود 3/866-867.
وقال العلامة ابن القيم شارحاً الحديث الأول: [. وأما الأمر الشرعي فإيجاب الضمان على الطبيب الجاهل. فإذا تعاطى علم الطب وعمله ولم يتقدم له به معرفة فقد هجم بجهل على إتلاف الأنفس وأقدم بالتهور على ما لم يعلم فيكون قد غرر بالعليل فيلزمه الضمان لذلك وهذا إجماع من أهل العلم.
قال الخطابي: لا أعلم خلافاً في أن المعالج إذا تعدى فتلف المريض كان ضامناً. والمتعاطي علماً أو عملاً لا يعرفه متعدٍ. فإذا تولد من فعله التلف ضمن الدية وسقط عنه القود - أي القصاص - لأنه لا يستبد بذلك بدون إذن المريض.] .
ثم بين العلامة ابن القيم الحالات التي يكون فيها الطبيب مسئولاً عن وفاة المريض أو عن الأضرار التي تلحق بالمريض وألخصها فيما يلي:
الأولى: أن يكون الطبيب حاذقاً ماهراً أعطى المهنة حقها ولم تجن يده فتولد من فعله المأذون به من جهة الشارع ومن جهة المريض تلف العضو أو موت المريض فهذا الطبيب لا يتحمل شيئاً من المسؤولية باتفاق الفقهاء لأن وفاة المريض أو تلف العضو ناتج عن فعل مأذون به شرعاً ومأذون به من المريض أو وليه إذا كان عمل الطبيب وفق قواعد الطب المعروفة ولم تخطئ يده.(4/416)
الثانية: متطبب جاهل باشرت يده المريض فتلف عضو منه أو مات فإن هذا المتطبب ضامن لما جنت يداه ويجب أن يعاقب أيضاً على تعديه وممارسته الطب دون أن يكون مؤهلاً لذلك.
الثالثة: أن يكون الطبيب حاذقاً ماهراً أذن له وأعطى الصنعة حقها ولكن أخطأت يده وتعدت إلى عضو صحيح فأتلفته فتقوم لجنة طبية من أهل الاختصاص بفحص ما أقدم عليه الطبيب وتبين أن ما قام به خطأً فحينئذ فإن الطبيب يضمن ما أقدم عليه.
الرابعة: أن يكون الطبيب ماهراً حاذقاً اجتهد فوصف للمريض دواء فأخطأ في اجتهاده فقتله فهذا يخَّرج على قولين عند الفقهاء: فمنهم من يرى أن دية المريض القتيل على بيت المال.
ومنهم من يرى أن الدية على عاقلة الطبيب. الطب النبوي بتصرف ص264-266.
ويرى العلماء المعاصرون أن المسؤولية الطبية تنقسم إلى قسمين:
1. المسؤولية الأخلاقية الأدبية والجنائية: وهي متعلقة بسلوك الطبيب والهيئة الطبية من ممرضين وفنيين في المختبرات والأشعة. الخ.
ومن أمثلتها: قضايا الغش والكذب والتزوير في الشهادات والتقارير الطبية سواء أكانت لمصلحة المريض أو ضده.
ومن أمثلتها: إجراء عملية جراحية مثل الزائدة الدودية لشخص لا يعاني من التهاب الزائدة ويجريها الطبيب للحصول على المال.
وكذلك المستشفيات الخاصة التي تطلب من الأطباء في بعض الأحيان أن يزيدوا من الفحوص الطبية وإن كانت غير مطلوبة لتشخيص المرض ولكن للحصول على المال فينبغي تحميل الأطباء والمشرفين على المستشفيات المسؤولية عن مثل هذه الحالات وخاصة إذا لحق ضرر بالمريض.(4/417)
2. المسؤولية المهنية: ويسأل الطبيب والهيئة الطبية عن الأضرار التي تلحق بالمريض عمداً أو جهلاً أو خطأً.
أما العمد فلا يتصور من الطبيب أن يتعمد الإضرار بالمريض لأن وظيفة الطبيب هي مساعدة المريض على الشفاء. ولكن إن ثبت بالأدلة الصحيحة وجود الاعتداء عن عمد فإن الطبيب يعاقب ويضمن ما لحق بالمريض من الأضرار.
وأما الجهل: فإن الطبيب يسأل عن الجهل بالمهنة سواء أكان جاهلاً بجميع الطب كمن ادعى الطب وهو لا يعلمه أو كان جاهلاً بجزء من الطب كالطبيب يعلم فرعاً من الطب ولا يعرف غيره كالطبيب الباطني إذا أجرى عملية لمريض في عينه فأتلفها فإنه يضمن.
وأما الخطأ فإن الطبيب يسأل عن الخطأ الفاحش الذي يتجاوز فيه الطبيب الحد المعتبر عند أهل الاختصاص ولم يلتزم بأصول الطب المعتبرة حسب الزمان والمكان كأن يجري الطبيب عملية جراحية قد استغني عنها بعملية جراحية أخرى أو أن يداوي قرحة الإثني عشر بإزالة جزء من المعدة والإثني عشر مع وجود أدوية تقوم بمداوة القرحة وشفائها.
وكأن يخطئ الجراح نتيجة الإهمال وعدم الانتباه مثل نسيان الشاش وبعض أدوات الجراحة في جوف المريض أو إصابة شريان أو عضو بسبب من خطأ الجراح أو مساعده أو حدوث إنتان بسبب عدم تعقيم الأدوات الجراحية. فإن الطبيب وطاقمه الطبي يضمنون كل ضرر يلحق بالمريض لأن ما قاموا به يعتبر خروجاً عن الأصول الطبية المعتبرة.
وينبغي أن يعلم أن الخطأ الذي يقع فيه الطبيب يضمنه الطبيب أولاً وكذلك المستشفى أو الجهة التي يعمل فيها الطبيب فإن إدارة المستشفى تتحمل جزءاً من المسؤولية لأن المريض عندما يتعامل مع المستشفى فإنه يتعامل مع شخص معنوي وهو لا يتعامل مع الطبيب بصفته الشخصية ولكن بصفته موظفاً لدى المستشفى.
لذلك فإذا حصل خطأ أو تقصير من الطبيب أو أي فرد في الهيئة الطبية في المستشفى فإن إدارة المستشفى مسؤولة بالتضامن مع موظفيها(4/418)
حيث إن إدارة المستشفى تملك سلطة التوجيه والإشراف والرقابة.
انظر المسؤولية الطبية ص 123.
وأخيراً ينبغي التنبيه على أن تكون العلاقة بين الطبيب ومريضه علاقة طيبة فيتلطف الطبيب بالمريض ويكون به رحيماً وعليه حليماً وبجيبه رفيقاً فلا يطلب منه الأموال الطائلة ولا يحمله ما لا يطيق.
ونلاحظ في أيامنا هذه أن مهنة الطب تلك المهنة الإنسانية تحولت عند بعض الأطباء وعند كثير من أصحاب المستشفيات إلى حسابات مادية خالصة.
وختاماً أذكر وصف الطبيب المسلم كما تبنته الجمعية الطبية الإسلامية بأمريكا الشمالية سنة 1977 م والذي يعكس الفكرة الإسلامية لآداب مهنة الطب فالطبيب المسلم:
[يجب أن يؤمن بالله وبتعاليم الإسلام وسلوكياته في حياته الخاصة والعامة. وأن يكون عارفاً لجميل والديه ومعلميه ومن هم أكبر منه. وأن يكون بسيطاً متواضعاً رفيقاً رحيماً صبوراً متحملاً.
وأن يسلك الطريق المستقيم ويطلب من الله دوام التوفيق.
وأن يظل دائماً على دراية بالعلوم الطبية الحديثة وينمي مهارته باستمرار طلب العون عندما يلزمه ذلك.
وأن يستشعر أن الله هو الذي يخلق ويملك جسد المريض وعقله فيعامل المريض في إطار تعاليم الله متذكراً أن الحياة هي هبة الله للإنسان وأن الحياة الآدمية تبدأ من لحظة الإخصاب ولا يمكن سلبها إلا بيد الله أو برخصة منه ويتذكر أن الله يراقب كل فكر وعمل.
وأن يلتزم بالقوانين التي تنظم مهنته وأن يتبع أوامر الله كمنهج وحيد حتى لو اختلفت مع متطلبات الناس أو رغبات المريض.
وألا يصف أو يعطي أي شيء ضارٍ وأن يقدم المساعدة اللازمة دون(4/419)
اعتبار للقدرة المادية أو أصل المريض أو عمله وأن يقدم النصيحة اللازمة للجسم والعقل وأن يحفظ سر المريض.
وأن يتوخى الأسلوب المناسب في التخاطب وأن يفحص المريض من الجنس الآخر في وجود شخص ثالث ما تيسر ذلك.
وألا ينتقد زملاءه الأطباء أمام المرضى أو العاملين في الحقل الطبي. وأن يسعى دائماً إلى تبني الحكمة في كل قراراته] .
مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 8 ج 3/114.
علاج الطبيب للمرأة
يقول السائل: هل يعتبر دخول المرأة إلى عيادة الطبيب منفردة لأجل الكشف والمعالجة خلوة محرمة؟
الجواب: إن دخول المرأة منفردة إلى عيادة الطبيب لأجل الكشف والمعالجة يعتبر خلوة محرمة والأصل في المرأة المسلمة إذا مرضت واحتاجت للعلاج أن تراجع طبيبة مسلمة كانت أو غير مسلمة ولا يحل لها مراجعة الطبيب الرجل إذا وجدت الطبيبة وكان بإمكانها مراجعتها فإن لم توجد الطبيبة أو تعذرت مراجعتها أو لم تكن من أهل الاختصاص بمرض تلك المرأة فيجوز حينئذ أن تراجع الطبيب الرجل وهنا لا بدّ من الالتزام بالضوابط التالية في تعامل الطبيب مع المرأة الأجنبية:
1. أن تتم المعاينة والكشف بحضور محرم للمرأة أو زوجها أو امرأة موثوقة خشية الوقوع في الخلوة المنهي عنها شرعاً.
2. ألا يطلع الطبيب على شيء من بدنها إلا بمقدار ما تقتضيه ضرورة العلاج فيجب على الطبيب أن يستر جسد المريضة إلا موضع المعالجة.(4/420)
3. إذا استطاع الطبيب معالجة المرأة بالنظر دون اللمس فهو الواجب وعلى الطبيب أن يغض بصره وأن يتق الله ربه في ذلك.
4. ينبغي للمرأة المسلمة إذا احتاجت للمعالجة عند طبيب رجل أن تختار الطبيب الثقة الأمين صاحب الخلق والدين.
تقليم الأظفار
يقول السائل: إن بعض النساء لا يقلمن أظفارهن ويجعلنها تطول وبعضهن يطولنها للزينة كما يزعمن فما الحكم في ذلك؟
الجواب: اتفق أهل العلم على أن تقليم الأظفار من سنن الفطرة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد ثبت ذلك في أحاديث منها:
1. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الفطرة خمس أو خمس من الفطرة الختان والاستحداد وتقليم الأظفار ونتف الإبط وقص الشوارب) رواه البخاري ومسلم.
2. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من الفطرة حلق العانة وتقليم الأظفار وقص الشارب) رواه البخاري.
قال الإمام النووي: [وأما الفطرة فقد اختلف في المراد بها هنا.
فقال أبو سليمان الخطابي: ذهب أكثر العلماء إلى أنها السنة. وكذا ذكره جماعة غير الخطابي. قالوا: ومعناه أنها من سنن الأنبياء صلوات الله وسلامهم عليهم. وقيل هي الدين] شرح النووي على صحيح مسلم 1/492.
وبناء على ما سبق قال العلماء إن تقليم الأظفار سنة في حق الرجل والمرأة وفي أظفار اليدين والرجلين على حد سواء. ولا ينبغي تطويل الأظفار لما في ذلك من الضرر حيث إن الأوساخ قد تجتمع تحتها كما أن الجراثيم تجد مرتعاً خصباً تحت الأظفار الطويلة القذرة التي تترك بدون(4/421)
تقليم وقد تجتمع تحتها البكتيريا والفطريات والفيروسات والطفيليات والتي قد تنتقل إلى الفم والأسنان أثناء تناول الطعام وتسبب مشكلات صحية كثيرة.
فمن السنة والدين تقليمها فهي نظافة من سمات الإيمان والإسلام ودين الإسلام هو دين النظافة والطهارة. انظر الاستذكار 26/239 الحاشية.
وينبغي للمسلم ذكراً كان أو أنثى أن يقلم أظفاره كلما طالت عن رؤوس الأصابع ولا بأس أن يتفقد أظفاره من الجمعة إلى الجمعة. ويرى بعض أهل العلم أن يقصها كل أربعين يوم مرة على الأقل كما ثبت في صحيح مسلم عن أنس - رضي الله عنه - قال: (وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة) صحيح مسلم بشرح النووي 1/492.
وفي رواية أخرى عند أصحاب السنن: (وقت لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.) .
وهذا التوقيت قد يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والضابط في ذلك هو الحاجة كما قال الحافظ ابن حجر. فتح الباري 12/467.
وأما أن النساء يطلن أظفارهن زينة فهذا أمر مصادم للفطرة فإن الفطرة السوية تأبى أن يكون للإنسان أظفار طويلة لأن طول الأظفار والمخالب ليس لبني البشر.
وأي زينة في طول الأظفار؟ وما أصدق قول الشاعر:
قل للجميلة أرسلت أظفارها إني لخوف كدت أمضي هارباً
إن المخالب للوحوش نخالها فمتى رأينا للظباء مخالباً؟
من علم الحسناء أن جمالها في أن تخالف خلقها وتجانبا؟
إن تطويل الأظفار وتركها بدون تقليم ليس من صفات المرأة المسلمة وهو مخالف للفطرة البشرية السوية كما قلت.
فإن فعلته المرأة تقليداً للكافرات فهو حرام شرعاً لأن التشبه بأهل(4/422)
الكفر ممنوع شرعاً وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (من تشبه بقوم فهو منهم) رواه أبو داود وقال الشيخ الألباني: صحيح. غاية المرام ص 86.
يجوز للزوج منع زوجته من التدخين
يقول السائل: إن زوجته تدخن وهو لا يدخن فهل يحق له أن يمنعها من التدخين؟
الجواب: لا شك لدي أن التدخين خبيث من الخبائث وقد ثبت ضرره قطعاً بما لا يدع مجالاً للشك في تحريمه وهذا أصح أقوال أهل العلم في حكم التدخين.
وقد بين الأطباء والعلماء الأضرار الناتجة عن التدخين وآثاره السيئة على المدخن ومن حوله وآثاره الضارة على المجتمع بشكل عام.
وقد سنت بعض الدول قوانين لمنع التدخين في الأماكن العامة وألزمت مصانع الدخان إثبات العبارات الدالة على ضرر التدخين على كل علبة سجائر كما وأن بعض الدول منعت الإعلان عن السجائر عبر وسائل الإعلام العامة وكل هذا وغيره من الإجراءات تمت بعد التأكد من أضرار التدخين القطعية على الإنسان.
وأقول بعد هذا إنه يجب على الزوج أن يمنع زوجته من التدخين لأنه يمنعها من ارتكاب حرام لأن التدخين حرام كما قلت.
والواجب على هذه الزوجة المدخنة أن تطيع زوجها وأن تمتنع عن التدخين حتى وإن لم تقتنع بحرمته فإن التدخين يترك رائحة كريهة وللزوج أن يمنع زوجته عن كل ما يؤدي للرائحة الكريهة من أكل الثوم والبصل وقد نص العلماء على حق الزوج في منع الزوجة من أكل الثوم والبصل.
قال ابن عابدين: [وفي شرح العلامة الشيخ إسماعيل النابلسي والد سيدنا عبد الغني، على شرح الدرر بعد نقله أن للزوج منع الزوجة من أكل(4/423)
الثوم والبصل وكل ما ينتن رائحة الفم. قال: ومقتضاه المنع من شربها التتن - الدخان - لأنه ينتن الفم خصوصاً إذا كان الزوج لا يشربه أعاذنا الله تعالى منه وقد أفتى بالمنع من شربه شيخ مشايخنا المسيري وغيره] حاشية ابن عابدين 6/459.
ومن المعلوم أنه ينبغي للزوجين أن تكون رائحتهما طيبة لأن ذلك من حق أحدهما على الآخر والتدخين يجعل الأسنان صفراء ورائحة الفم كريهة.
وقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي النساء خير قال: (التي تسره إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخالفه في نفسها ولا ماله بما يكره) رواه النسائي وأبو داود وإسناده صحيح.
وفي رواية أخرى: (خير النساء من تسرك إذا أبصرت وتطيعك إذا أمرت وتحفظ غيبتك في نفسها ومالك) رواه الطبراني بإسناد صحيح.
حكم إسقاط الجنين المشوه
يقول السائل: إن زوجته حامل وقرر الأطباء أن الجنين مشوه ونصحوها بإسقاطه فما الحكم في ذلك؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أولاً حكم الإجهاض وإسقاط الحمل بشكل عام قبل الحديث عن إسقاط الجنين المشوه.
اتفق أهل العلم على تحريم الإجهاض بعد مرور مائة وعشرين يوماً على الحمل لأن الروح تنفخ في الجنين عند مرور تلك المدة على رأي كثير من العلماء لما ثبت في حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيأمر بأربع: برزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح.) رواه البخاري.(4/424)
ويستثنى من هذا الحكم حالة واحدة فقط وهي إذا ثبت بتقرير لجنة من الأطباء الثقات أهل الاختصاص أن استمرار الحمل يشكل خطراً مؤكداً على حياة الأم فحينئذ يجوز إسقاط الحمل.
وقد جاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة ما يلي:
[إذا كان الحمل قد بلغ مائة وعشرين يوماً لا يجوز إسقاطه ولو كان التشخيص الطبي يفيد أنه مشوه الخلقة إلا إذا ثبت بتقرير لجنة طبية من الأطباء المختصين أن بقاء الحمل فيه خطر مؤكد على حياة الأم فعندئذ يجوز إسقاطه سواء كان مشوهاً أم لا دفعاً لأعظم الضررين] قرارات المجمع الفقهي الإسلامي ص 123.
وأما الإجهاض قبل مرور مائة وعشرين يوماً على الحمل ففي حكمه خلاف بين العلماء والذي عليه جمهور العلماء هو تحريم الإجهاض بمجرد ثبوت الحمل إلا لعذر شرعي وهذا هو القول المعتمد عند المالكية والإمام الغزالي من الشافعية وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وقول بعض الحنفية والحنابلة وأهل الظاهر.
واختاره كثير من العلماء المعاصرين كالشيوخ محمود شلتوت والقرضاوي والزحيلي وغيرهم. وهذا القول هو الذي أميل إليه وتطمئن إليه نفسي.
وأما إسقاط الجنين المشوه فلا بد من إثبات أن الجنين مشوه حقيقة والفحوصات الحالية قد لا تتيح التأكد من التشخيص والتأكد من التشوهات في الأسابيع الأولى للحمل.
أما بعد ستة عشر أسبوعاً من الحمل فإن معظم التشوهات القاتلة في الجنين يمكن تشخيصها فعند ذلك الوقت يمكن تشخيص تشوهات القلب والدماغ وغيرها بصورة واضحة وقاطعة.
والتشوهات الخلقية لدى الجنين يمكن تشخيصها من قبل اختصاصي(4/425)
الأمراض النسائية أو اختصاصي الأشعة التشخيصية عن طريق السونار وغيره.
ويمكن تقسيم التشوهات الخلقية عند الجنين إلى ثلاثة أقسام:
1. تشوهات لا تؤثر على حياة الجنين.
2. تشوهات يمكن للجنين أن يعيش معها بعد الولادة.
وبعض هذه التشوهات يمكن إصلاحها بعد الولادة مثل تشوهات المعدة والأمعاء.
وبعضها قد يتدرج في شدته وفي المدة الزمنية التي يعيشها الطفل بعد الولادة مثل استسقاء الرأس الذي قد يكون بسيطاً أو شديداً يولد معه الطفل حياً ويموت خلال أيام أو أشهر.
والطفل الذي يولد مختل العقل أو لديه شلل جزئي فإنه يمكن أن يعيش وكذلك الطفل الذي يولد بكلية واحدة فهو يعيش بالكلية الأخرى.
3. وهناك تشوهات خطيرة لا يرجى معها للجنيين حياة بعد الولادة فهو سيموت قطعاً عند الولادة أو بعيدها مباشرة. انظر كتاب " قضايا طبية معاصرة في ضوء الشريعة الإسلامية " ص 274-280.
وينبغي أن يعلم أن ضرر الإجهاض قد يكون أكبر بكثير من الضرر المتوقع لاستمرار الحمل كما يقول الأطباء فالتدخل الطبي المبكر قد تنتج عنه أخطار في بعض الحالات فإذا قارنَّا ووازنا بين نسبة المشاكل التي قد تحدث نتيجة لإنهاء الحمل عند 16-24 أسبوعاً سواءً بالأدوية المعتادة أو بإجراء تنظيفات فإذا قارنها بالمشاكل التي قد تحدث للأم نتيجة لاستمرار الحمل إلى حين الولادة الطبيعية فإننا نجد أن المشاكل المحتملة للأم هي أكثر بكثير منها في حالة التدخل المبكر عنها في الولادات الطبيعية. انظر كتاب " قضايا طبية معاصرة في ضوء الشريعة الإسلامية " ص 275.
إذا تقرر هذا فإن العلماء قد قرروا جواز إسقاط الجنين المشوه تشويهاً خطيراً قبل مرور مائة وعشرين يوماً على الحمل فقد جاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي ما يلي:(4/426)
[قبل مرور مائة وعشرين يوماً على الحمل إذا ثبت وتأكد بتقرير لجنة طبية من الأطباء المختصين الثقات وبناءً على الفحوص الفنية بالأجهزة والوسائل المختبرية أن الجنين مشوه تشويهاً خطيراً غير قابل للعلاج وأنه إذا بقي وولد في موعده ستكون حياته سيئة وآلاماً عليه وعلى أهله فعندئذٍ يجوز إسقاطه بناءً على طلب الوالدين.
والمجلس إذ يقرر ذلك يوصي الأطباء والوالدين بتقوى الله والتثبت في هذا الأمر] قرارات مجمع الفقه الإسلامي ص 123.
وأخيراً لا بد من التنبيه على أن بعض النساء قد يبادرن إلى الإجهاض بمجرد أن يقول طبيب واحد إن الجنين مشوه.
وهذا أمر خطير لا يقبل فيه رأي طبيب واحد لأن احتمالات خطأ الطبيب واردة ولا بد من وجود لجنة طبية من ثلاثة أطباء على الأقل من الأطباء الثقات العدول ومن أهل الاختصاص ومن ذوي الخبرة قبل القيام بإسقاط الجنين.
وأخيراً أدعو نقابة الأطباء وغيرها من الجهات الصحية إلى تشكيل لجنة موسعة من الاختصاصيين في الأمراض النسائية والتوليد وغيرهم من ذوي التخصصات المتعلقة بهذه القضية لوضع قواعد وضوابط للحالات التي تعتبر تشوهات خطيرة في الجنين ولا يرجى للجنين معها حياة حتى لا يبقى الأمر خاضعاً لتخمينات بعض الأطباء لما قد يترتب على ذلك من مفاسد وأضرار.
لا يجوز استئصال القدرة على الحمل مطلقاً
تقول السائلة: إنها مرضت قبل مدة وراجعت أحد الأطباء فنصحها بإغلاق مواسير الحمل فأغلقتها ثم كتب الله لها الشفاء التام وهي نادمة الآن على إغلاق مواسير الحمل فهل عليها كفّارة؟(4/427)
الجواب: لا يجوز شرعاً استئصال القدرة على الإنجاب مطلقاً سواء كان عند الرجل أو المرأة إلا في حالات الضرورة التي يقدرها أهل العلم الثقات من الفقهاء والأطباء.
فلا يجوز إجراء عمليات التعقيم ولا ربط قناتي الرحم أو استعمال أي وسيلة تؤدي إلى ذلك.
ومنع الحمل الدائم من الأمور المحرمة شرعاً كما قلت ويدل على ذلك قوله تعالى:
(وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّءَاذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا) سورة النساء الآيات 117-119.
قال أهل التفسير إن تغيير خلق الله من تزيين الشيطان ويدخل في ذلك خصاء بني آدم لأنه تغيير لخلق الله.
قال القرطبي: [وأما الخصاء في الآدمي فمصيبة فإنه إذا خصي بطل قلبه وقوته عكس الحيوان وانقطع نسله المأمور به ثم هذه مثلة وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المثلة] تفسير القرطبي 5/391.
وروى البخاري ومسلم عن إسماعيل بن قيس قال عبد الله - ابن مسعود -: (كنا نغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس لنا نساء فقلنا ألا نستخصي فنهانا عن ذلك) .
وروى البخاري ومسلم أيضاً عن سعيد بن المسيب أنه سمع سعد بن أبي وقاص يقول أراد عثمان بن مظعون أن يتبتل فنهاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو أجاز ذلك لاختصينا) .
قال الإمام النووي: [الاختصاء في الآدمي حرام صغيراً كان أو كبيراً] شرح النووي على صحيح مسلم 3/526.
وقال الحافظ ابن حجر: [وقوله (فنهانا عن ذلك) هو نهي تحريم بلا خلاف في بني آدم] فتح الباري 12/19-20.(4/428)
وينبغي أن يعلم أن الوسائل الحديثة لمنع الحمل منعاً نهائياً تقوم مقام الخصاء في الرجل فهي تستأصل القدرة على الإنجاب نهائياً كما أنها تغيير لخلق الله لذلك فإنها تلحق بالخصاء فتكون محرمة.
وقد بحث الفقهاء المعاصرون هذه القضية وقرروا حرمة قطع المقدرة على الإنجاب فقد جاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العلم الإسلامي ما يلي:
[نظراً إلى أن الشريعة الإسلامية تحض على تكثير نسل المسلمين وانتشاره وتعتبر النسل نعمة كبرى ومنة عظيمة منَّ الله بها على عباده وقد تضافرت بذلك النصوص الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ودلت على أن القول بتحديد النسل أو منع الحمل مصادم للفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها وللشريعة الإسلامية التي ارتضاها الله تعالى لعباده ونظراً إلى أن دعاة القول بتحديد النسل أو منع الحمل فئة تهدف بدعوتها إلى الكيد للمسلمين لتقليل عددهم بصفة عامة وللأمة العربية المسلمة والشعوب المستضعفة بصفة خاصة حتى تكون لهم القدرة على استعمار البلاد واستعباد أهلها والتمتع بثروات البلاد الإسلامية وحيث إن في الأخذ بذلك ضرباً من أعمال الجاهلية وسوء ظن بالله تعالى وإضعافاً للكيان الإسلامي المتكون من كثرة اللبنات البشرية وترابطها.
لذلك كله فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي يقرر بالإجماع أنه لا يجوز تحديد النسل مطلقاً ولا يجوز منع الحمل إذا كان القصد من ذلك خشية الإملاق لأن الله تعالى هو الرزاق ذو القوة المتين وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها أو كان ذلك لأسباب أخرى غير معتبرة شرعياً.
أما تعاطي أسباب منع الحمل أو تأخيره في حالات فردية لضرر محقق ككون المرأة لا تلد ولادة عادية وتضطر معها إلى إجراء عملية جراحية لإخراج الجنين فإنه لا مانع من ذلك شرعاً وهكذا إذا كان تأخيره لأسباب أخرى شرعية أو صحية يقرها طبيب مسلم ثقة بل قد يتعين منع الحمل في(4/429)
حالة ثبوت الضرر المحقق على أمه إذا كان يخشى على حياتها منه بتقرير من يوثق به من الأطباء المسلمين.
أما الدعوة إلى تحديد النسل أو منع الحمل بصفة عامة فلا تجوز شرعاً للأسباب المتقدم ذكرها وأشد من ذلك في الإثم والمنع إلزام الشعوب بذلك وفرضه عليها في الوقت الذي تنفق فيه الأموال الضخمة على سباق التسلح العلمي للسيطرة والتدمير بدلاً من إنفاقه في التنمية الاقتصادية والتعمير وحاجات الشعوب] قرارات المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي ص 62-63.
وجاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي: [يحرم استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل أو المرأة وهو ما يعرف بالإعقام أو التعقيم ما لم تدع إلى ذلك الضرورة بمعاييرها الشرعية.
ويجوز التحكم المؤقت في الإنجاب بقصد المباعدة بين فترات الحمل أو إيقافه لمدة معينة من الزمان إذا دعت إليه حاجة معتبرة شرعاً بحسب تقدير الزوجين عن تشاور بينهما وتراض بشرط أن لا يترتب على ذلك ضرر وأن تكون الوسيلة مشروعة وأن لا يكون فيها عدوان على حمل قائم] مجلة المجمع الفقهي العدد 5 جزء1 ص748.
وأخيراً فعلى السائلة أن تتوب إلى الله سبحانه وتعالى توبة صادقة وأن تستغفر وتكثر من عمل الخيرات والطاعات لعل الله سبحانه وتعالى أن يغفر لها كما وأني أذكر الأطباء أن يتقوا الله سبحانه وتعالى وألا يبيعوا آخرتهم من أجل دراهم معدودة يقبضونها أجرة لأمثال هذه العمليات وهذه المعالجات المحرمة.
سداد ديون الأب
يقول السائل: توفي والدي وعليه ديون كثيرة ولم يترك مالاً لسداد الديون فهل أولاده ملزمون بسداد الديون عنه؟(4/430)
الجواب: إذا مات المسلم وعليه ديون وكان له أموال فأول عمل يقوم به ورثته هو تجهيزه وتكفينه والصلاة عليه ودفنه ومن ثم تسديد ديونه وبعد ذلك إنفاذ وصيته إن كان قد أوصى وبعد ذلك يوزع باقي المال على الورثة ,
وأما إذا لم يكن له أموال وقد ترك ديوناً فيندب للورثة أن يسددوا ديونه عنه وهذا من باب البر والوفاء للميت وخاصة إذا كان الميت هو أحد الوالدين وليس ذلك واجباً على الورثة ولكنه مندوب إليه.
فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه) رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن. ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي وحسنه الإمام النووي.
قال الشيخ الشوكاني معلقاً على هذا الحديث: [فيه الحث للورثة على قضاء دين الميت والإخبار لهم بأن نفسه معلقة بدينه حتى يقضى عنه وهذا مقيد بمن له مال يقضى منه دينه. وأما من لا مال له ومات عازماً على القضاء فقد ورد في الأحاديث ما يدل على أن الله تعالى يقضي عنه.] نيل الأوطار 4/26.
وقد ورد في أحاديث أخرى أن نفس المؤمن معلقة بدينه فمن ذلك:
عن سعد بن الأطول - رضي الله عنه -: (أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم وترك عيالاً. قال: فأردت أن أنفقها على عياله. قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن أخاك محبوس بدينه فاذهب فاقضه عنه. فذهبت فقضيت عنه ثم جئت. قلت يا رسول الله: قد قضيت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأة وليست لها بينة. قال: أعطها فإنها محقة) وفي رواية أخرى: (صادقة) رواه أحمد وابن ماجة والبيهقي وصححه الشيخ الألباني. انظر أحكام الجنائز ص 15.
وعن سمرة بن جندب - رضي الله عنه -: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلَّى على جنازة فلما انصرف قال: أههنا من آل فلان أحد؟ فسكت القوم وكان إذا ابتدأهم بشيء سكتوا فقال ذلك مراراً. فقال رجل: هو ذا. قال: فقام رجل يجر(4/431)
إزاره من مؤخر الناس. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما منعك في المرتين الأوليين أن تكون أجبتني؟ أما أنّي لم أنوه باسمك إلا لخير: إن فلاناً - رجل منهم - مأسور بدينه عن الجنة فإن شئتم فافدوه وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله. فلو رأيت أهله ومن يتحرون أمره قاموا فقضوا عنه حتى ما أحد يطلبه بشيء) رواه أبو داود والنسائي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وصححه الشيخ الألباني، أحكام الجنائز ص 15.
وينبغي أن يعلم أن أمر الدين عظيم ولا ينبغي أن يدّان الإنسان إلا إذا احتاج للمال فعلاً وعليه أن ينوي سداد الديون حتى لو لم يكن لديه ما يقضي دينه فإن مات بهذه النية فإن الله يسدد عنه كما ورد في أحاديث سأذكر بعضها فيما بعد.
والدين قد يكون سبباً في حبس المؤمن والشهيد عن الجنة لما ثبت في الحديث أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر يكفر الله عني خطاياي؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: نعم. فلمّا أدبر ناداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أمر به فنودي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيف قلت؟ فأعاد عليه قوله. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: نعم إلا الدين كذلك قال جبريل) رواه مسلم.
وجاء في حديث آخر عن محمد بن جحش أنه قال: (كنا جلوساً في موضع الجنائز مع رسول الله فرفع رأسه في السماء ثم وضع راحته على جبهته فقال: سبحان الله ماذا أنزل الله من التشديد؟ فسكتنا وفرقنا. فلما كان الغد سألته: يا رسول الله ما هذا التشديد الذي نزل؟ قال: في الدين والذي نفسي بيده لو أن رجلاً قتل في سبيل الله ثم أحيي ثم قتل ثم أحيي وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى عنه) رواه النسائي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أخذ أموال الناس يريد أدائها أدى الله عنه ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله) رواه البخاري.
فالمسلم إذا استدان لحاجة حقيقية وكان ينوي أداء الدين لأصحابه(4/432)
فإن الله ييسر أمر قضاء الدين فقد ورد في الحديث عن ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ما من مسلم يدّان ديناً يعلم الله أنه يريد أداءه إلا أداه الله عنه في الدنيا) رواه ابن حبان والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وعن أبي أمامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من دان بدين في نفسه وفاءه ومات تجاوز الله عنه وأرضى غريمه بما شاء ومن دان بدين وليس في نفسه وفاءه ومات اقتص الله لغريمه منه يوم القيامة) رواه الطبراني.
وعن ابن عمر - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (الدين دينان فمن مات وهو ينوي قضاءه فأنا وليه ومن مات ولا ينوي قضاءه فذلك الذي يؤخذ من حسناته ليس يومئذ دينار ولا درهم) رواه الطبراني في الكبير وصححه الشيخ الألباني.
أحكام الجنائز ص 5.
المنكرات في الحفلات
يقول السائل: إذا دعي المسلم إلى حفلة وكان هنالك منكر من المنكرات فما موقف المسلم حينئذ؟
الجواب: إذا كان المدعو يعلم مسبقاً بوجود المنكر في الحفلة التي دعي إليها فلا يجوز له أن يلبي الدعوة فقد نص الفقهاء على أن من شروط إجابة الدعوة عدم وجود منكر من المنكرات.
وإذا لم يعلم بالمنكر إلا وقت حضوره فإن استطاع الإنكار وإزالة المنكر فبها ونعمت وإن لم يستطع انصرف. فقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك اضعف الإيمان) رواه مسلم.
والأصل في المسلم ألا يحضر أو يجلس في الأماكن التي يعصى فيها الله سبحانه وتعالى أو يستهان فيها بأحكام الشرع قال الله تعالى: (وَقَدْ(4/433)
نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْءَايَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) سورة النساء الآية 140.
قال الشيخ القرطبي في تفسير هذه الآية: [. (إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ) فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم والرضا بالكفر كفر قال الله تعالى: (إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ) فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء. وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذا الآية. وقد روي عن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - أنه أخذ قوماً يشربون الخمر فقيل له عن أحد الحاضرين إنه صائم فحمل عليه الأدب وقرأ هذه الآية (إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ) أي أن الرضا بالمعصية معصية ولهذا يؤاخذ الفاعل والراضي بعقوبة العاصي حتى يهلكوا بأجمعهم.] .
تفسير القرطبي 5/418.
وقد ورد في الحديث أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يدار عليها الخمر) رواه أحمد والترمذي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وقال الحافظ ابن حجر: إسناده جيد.
قال الإمام الأوزاعي يرحمه الله: [لا تدخل وليمة فيها طبل ولا معزاف] .
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [إذا دعي إلى وليمة فيها معصية كالخمر والزمر والعود ونحوه وأمكنه الإنكار وإزالة المنكر لزمه الحضور والإنكار لأنه يؤدي فرضين إجابة أخيه المسلم وإزالة المنكر. وإن لم يقدر على الإنكار لم يحضر. وإن لم يعلم بالمنكر حتى حضر أزاله فإن لم يقدر انصرف.] المغني 7/279.
وينبغي أن يعلم أن مراتب تغيير المنكر ثلاث وهي المذكورة في الحديث المتقدم:(4/434)
(من رأى منكم منكراً فليغير بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) رواه مسلم وغيره.
قال القاضي عياض فيما نقله عنه الإمام النووي: [. هذا الحديث أصل في صفة التغيير فحق المغير أن يغيره بكل وجه أمكنه زواله به قولاً كان أو فعلاً فيكسر آلات الباطل ويريق المسكر بنفسه أو يأمر من يفعله وينزع الغصوب ويردها إلى أصحابها بنفسه أو بأمره إذا أمكنه ويرفق في التغيير جهده بالجاهل وبذي العزة الظالم المخوف شره إذ ذلك أدعى إلى قبول قوله. كما يستحب أن يكون متولي ذلك من أهل الصلاح والفضل لهذا المعنى. ويغلظ على المتمادي في غيه والمسرف في بطالته إذا أمن أن يؤثر إغلاظه منكراً أشد مما غيره لكون جانبه محمياً عن سطوة الظالم. فإن غلب على ظنه أن تغييره بيده يسبب منكراً أشد منه من قتله أو قتل غيره بسببه كفَ يده واقتصر على القول باللسان والوعظ والتخويف فإن خاف أن يسبب قوله مثل ذلك غير بقلبه وكان في سعة وهذا هو المراد بالحديث إن شاء الله، وإن وجد من يستعين به على ذلك استعان ما لم يؤد ذلك إلى إظهار سلاح وحرب وليرفع ذلك إلى من له الأمر إن كان المنكر من غيره أو يقتصر على تغييره بقلبه. هذا هو فقه المسألة وصواب العمل فيها عند العلماء والمحققين خلافاً لمن رأى الإنكار بالتصريح بكل حال وإن قتل ونيل منه كل أذى] شرح النووي على صحيح مسلم 1/211-220.
وبناءاً على ما سبق فإن المرتبة الأولى هي التغيير باليد وهي أعلى مراتب تغيير المنكر وأفضلها في حق من قدر عليها فمثلاً إذا وجد الرجل في بيته منكراً فعليه أن يغيره بيده لأنه يستطيع ذلك.
ويجب أن يعلم أن تغيير المنكر باليد واجب على المسلم إذا كان قادراً عليه كما قلت وإذا لم يترتب مفسدة أكبر من المنكر إذا غيّره.
وفي زماننا هذا منكرات كثيرة لا يستطيع الأفراد تغييرها ولا ينبغي لهم ذلك لأن ذلك سيجر منكرات أعظم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله: [وليس لأحد أن يزيل المنكر(4/435)
بما هو أنكر منه مثل أن يقوم واحد من الناس يريد أن يقطع يد السارق ويجلد الشارب ويقيم الحدود لأنه لو فعل لأفضى إلى الهرج والفساد. فهذا ينبغي أن يقتصر فيه على وليّ الأمر.] مختصر الفتاوى المصرية ص 579.
والمرتبة الثانية هي التغيير باللسان: وتكون هذه المرتبة لمن يعجز عن التغيير باليد وينبغي أن يكون التغيير باللسان بأسلوب حسن لطيف كما قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) سورة النحل الآية 125.
وقد قال الله سبحانه وتعالى مخاطباً موسى وهارون عليهما السلام لما أرسلهما إلى فرعون: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) سورة طه الآية 44.
والمرتبة الثالثة هي الإنكار بالقلب: وهي أدنى المراتب الثلاث ولا رخصة لمسلم في تركها أبداً بل يجب على المسلم أن يبغض المنكر ويكرهه دائماً وباستمرار. وأما إذا كان القلب لا يعرف المعروف ولا ينكر المنكر فهذا دليل على موته.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله مبيناً قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (وذلك أضعف الإيمان) مراده: [أنه لم يبق بعد هذا الإنكار ما يدخل في الإيمان حتى يفعله المؤمن بل الإنكار بالقلب آخر حدود الإيمان ليس مراده أن من لم ينكر لم يكن معه من الإيمان حبة خردل ولهذا قال: ليس وراء ذلك. فجعل المؤمنين ثلاث طبقات فكل منهم فعل الإيمان الذي يجب عليه.] مجموع الفتاوى 28/127.
لا يجوز هجر المسلم إلا لسبب شرعي
يقول السائل: ورد في الحديث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا يحل(4/436)
لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال.) فما موقف المسلم من أخيه المسلم الذي يأكل حقوق الناس وحقوقه ألا يجوز هجره أكثر من ثلاث ليال؟
الجواب: إن رابطة الأخوة الإيمانية التي تربط المسلم بالمسلم تمنع من هجر المسلم لأخيه المسلم فوق ثلاث ليال إلا لعذر شرعي كما سأبين.
يقول الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) الحجرات الآية 10.
فإذا حصل خلاف أو تشاحن أو غضب بين مسلمين فلا يجوز هجر أحدهما للآخر أكثر من ثلاث ليال وجعلت الثلاث حداً لانتهاء الغضب وسكونه لأن الآدمي مجبول على الغضب فسمح بذلك القدر ليرجع إلى رشده بعد زوال غضبه.
وقد ثبت في أحاديث كثيرة عن الرسول ا- صلى الله عليه وسلم - النهي عن هجران المسلم منها:
1. عن أبي أيوب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) رواه البخاري ومسلم.
2. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (تعرض الأعمال في كل إثنين وخميس فيغفر الله لكل امرئ لا يشرك بالله شيئا ًإلا امرءاً كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول: اتركوا هذين حتى يصطلحا) رواه مسلم.
3. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار) رواه أبو داود بإسناد على شرط البخاري ومسلم كما قال الإمام النووي.
4. وعن أبي خراش - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه) رواه أبو داود بإسناد صحيح كما قاله الإمام النووي.
رياض الصالحين ص 611.(4/437)
5. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يحل لمؤمن أن يهجر مؤمناً فوق ثلاث فإن مرت به ثلاث فليلقه فليسلم عليه فإن ردَّ عليه السلام فقد اشتركا في الأجر وإن لم يرد عليه فقد باء بالإثم وخرج المسلِّمُ من الهجرة) رواه أبو داود بإسناد حسن كما قال الإمام النووي في المصدر السابق.
يؤخذ من هذه الأحاديث أنه يحرم على المسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاث ليال فإذا حصلت مشاحنة بين مسلمين فيجوز الهجر أقل من ثلاث ليال ويحرم أكثر من ذلك وهذا الهجر يكون لحق الإنسان وأما هجر المسلم للمسلم لارتكابه معصية من المعاصي وهو الهجر لحق الله فهو جائز ومشروع ثلاث ليال وأكثر حتى يرجع المهجور عن المعصية ويتوب إلى الله سبحانه وتعالى.
قال الشيخ ابن العربي المالكي: [وأما إن كانت الهجرة لأمر أنكر عليه من الدين كمعصية فعلها أو بدعة اعتقدها فيهجره حتى ينزع عن فعله وعقده فقد أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هجران الثلاثة الذين خلفوا خمسين ليلة حتى صحت توبتهم عند الله فأعلمه فعاد إليهم] عارضة الأحوذي 8/91.
وقال الإمام البخاري في صحيحه: [باب ما يجوز من الهجران لمن عصى. وقال كعب حين تخلف عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كلامنا وذكر خمسين ليلة] .
وقال الحافظ ابن حجر: [أراد بهذه الترجمة بيان الهجران الجائز لأن عموم النهي مخصوص لمن لم يكن لهجره سبب مشروع فبين هنا السبب المسوغ للهجر وهو لمن صدرت منه معصية فيسوغ لمن اطلع عليها منه هجره عليها ليكف عنها. صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 13/109.
وقال الإمام مالك: [ويهجر أهل الأهواء والبدع والفسوق لأن الحب والبغض فيه واجب ولما في ذلك من الحث على الخير والتنفير من الشر والفسوق] .
الذخيرة 13/313.(4/438)
وهجران أهل المعاصي مشروع وثابت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما سبق في كلام البخاري في قصة هجر كعب بن مالك وذلك حدث بعد تخلف الثلاثة عن غزوة تبوك فهجرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة خمسين يوماً حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم ولم يكن أحد يجالسهم أو يكلمهم أو يحيهم حتى أنزل الله في كتابه توبته عليهم وهذه الرواية ثابتة في الصحيحين.
كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هجر بعض نسائه شهراً. رواه أحمد بإسناد صحيح على شرط مسلم كما قال الشيخ الألباني. غاية المرام ص 233.
وهجر عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - ابناً له إلى أن مات فقد روى الإمام أحمد أن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يمنعن رجل أهله أن يأتوا المساجد. فقال ابن
لعبد الله بن عمر: فإنا نمنعهن. فقال عبد الله: أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول هذا؟ قال: فما كلمه عبد الله حتى مات) وإسناده صحيح كما قال الشيخ الألباني. غاية المرام 235.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية مبيناً أنواع الهجر: [النوع الثاني: الهجر على وجه التأديب وهو هجر من يظهر المنكرات يهجر حتى يتوب منها كما هجر النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون - الثلاثة الذين خلفوا حتى أنزل الله توبتهم - حين ظهر منهم ترك الجهاد المتعين عليهم بغير عذر ولم يهجر من أظهر بالخير وإن كان منافقاً فهنا الهجر هو بمنزلة التعزير.
والتعزير يكون لمن ظهر منه ترك الواجبات وفعل المحرمات كتارك الصلاة والزكاة والتظاهر بالمظالم والفواحش والداعي إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة التي ظهر أنها بدع] مجموع الفتاوى 28/204-205.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: [فالهجرة الشرعية هي من الأعمال التي أمر الله بها ورسوله فالطاعة لا بد أن تكون خالصة لله وأن تكون موافقة لأمره فتكون خالصة لله صواباً فمن هجر لهوى نفسه أو هجر هجراً غير مأمورٍ به كان خارجاً عن هذا وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهوى ظانةً أنها تفعله طاعةً لله.(4/439)
والهجر لأجل حظ الإنسان لا يجوز أكثر من ثلاث كما جاء في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) فلم يرخص في هذا أكثر من ثلاث كما لم يرخص في إحداد غير الزوجة أكثر من ثلاث وفي الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
(تفتح أبواب الجنة كل إثنين وخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجلاً كان بينه وبين أخيه شحناء. فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا) فهذا الهجر بحق الإنسان حرام وإنما رخص في بعضه كما رخص للزوج أن يهجر امرأته في المضجع إذا نشزت وكما رخص في هجر الثلاث.
فينبغي أن يفرق بين الهجر لحق الله وبين الهجر لحق نفسه فالأول مأمور به والثاني منهي عنه لأن المؤمنين إخوة] مجموع الفتاوى 28/207-208.
وخلاصة الأمر أن على المسلم إن رأى من أخيه معصية كأكل حقوق الناس بالباطل فعليه أن ينصحه بالحكمة والموعظة الحسنة فإن استجاب فبها ونعمت وإن لم يستجب فيجوز له أن يهجره إلى أن يقلع عن المعصية.
الإصابة بالعين
يقول السائل: ما قولكم فيما يعلقه بعض الناس على بيوتهم أو سياراتهم لدفع الإصابة بالعين كتعليق الخرزة الزرقاء أو حذوة الحصان أو صورة كف فيها عين ونحو ذلك؟
الجواب: ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح أنه قال: (العين حق) رواه البخاري ومسلم.
ومعنى ذلك كما قال الحافظ ابن حجر: [أي أن الإصابة بالعين شيء ثابت وموجود وأكثر أهل العلم على إثبات الإصابة بالعين والمقصود(4/440)
بالإصابة بالعين هو نظر باستحسان مشوب بحسد من خبيث الطبع يحصل للمنظور منه ضرر] .
فتح الباري 12/308.
وقال العلامة ابن القيم: [وعقلاء الأمم - على اختلاف مللهم ونحلهم - لا تدفع أمر العين ولا تنكره وإن اختلفوا في سببه ووجهة تأثير العين. ولا ريب أن الله سبحانه وتعالى خلق في الأجسام والأرواح قوىً وطبائع مختلفة وجعل في كثير منها خواص وكيفيات مؤثرة ولا يمكن للعاقل إنكار تأثير الأرواح في الأجسام فإنه مشاهد ومحسوس.] الطب النبوي ص 290.
ومما يدل على الإصابة بالعين قوله تعالى: (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) سورة القلم الآية 51.
قال القرطبي: [يزلقونك بأبصارهم أي يعتانونك بأبصارهم أخبر بشدة عدواتهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأرادوا أن يصيبوه بالعين.] تفسير القرطبي 18/254.
وقال الله تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) سورة الفلق.
قال ابن القيم: [فكل عائن حاسد وليس كل حاسد عائناً فلما كان الحاسد أعم من العائن كانت الإستعاذة منه استعاذة من العائن] الطب النبوي ص 291.
والعلاج من الإصابة بالعين يكون بالطرق الشرعية الواردة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وأول تلك الطرق أن على المسلم إذا رأى شيئاً يعجبه فعليه التبريك والمراد به الدعاء من العائن للمعين بالبركة عند نظره إليه فذلك بإرادة الله ومشيئته يحول دون إحداث أي ضرر بالمعين ويبطل كل أثر من آثار العين.
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعامر بن ربيعة لما أصاب سهل بن حنيف لما رأى بدنه فقال - صلى الله عليه وسلم -: (سبحان الله علام يقتل أحدكم أخاه؟ وإذا رأى شيئاً يعجبه(4/441)
فليدع له بالبركة) رواه مالك في الموطأ وأحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وقال الحافظ ابن عبد البر: [وقوله - صلى الله عليه وسلم - (ألا بركت) يدل على أن من أعجبه شيء فقال: تبارك الله أحسن الخالقين اللهم بارك فيه ونحو هذا لم يضره إن شاء الله] الاستذكار 27/9.
ومما تدفع به إصابة العين أن يقول الإنسان: ما شاء الله لا قوة إلا بالله فقد جاء عن بعض السلف أنه كان إذا رأى شيئاً يعجبه يقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله.
وقد جاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن رأى أحدكم ما يعجبه في نفسه أو ماله فليبرك عليه فإن العين حق) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي وصححه الألباني. صحيح الكلم الطيب ص 90.
وثاني طرق العلاج من الإصابة بالعين استعمال الرقية الشرعية فإنها تنفع بإذن الله وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرقية من العين فقد ثبت في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسترقى من العين) رواه البخاري ,
وفي حديث آخر عن أم سلمة رضي الله عنها: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة فقال: استرقوا لها فإن بها النظرة) رواه البخاري.
والسفعة هو سواد في الوجه أو لون يخالف لون الوجه وهو محل الإصابة بالعين والنظرة أي الإصابة بالعين.
فمن التعوذات والرقى المأثورة النافعة بإذن الله تعالى في رد الإصابة بالعين الإكثار من قراءة فاتحة الكتاب والمعوذتين وآية الكرسي.
ومن التعوذيات النبوية: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) .
ومنها: (أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامَّة ومن كل عين لامة) .(4/442)
ومن ذلك رقية جبريل عليه السلام التي رقى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ورواها مسلم في صحيحه وهي: (باسم الله أرقيكَ من كل داءٍ يُؤذيكَ من شرِّ كلِ نفس أو عينِ حاسدٍ الله يشفيك باسم الله أرقيك) .
ومن ذلك أيضاً: (أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون) .
ومنها: (اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم وكلماتك التامات من شر ما أنت آخذ بناصيته اللهم أن تكشف المأثم والمغرم اللهم إنه لا يهزم جنُدكَ ولا يُخلف وعدك سبحانك وبحمدك) .
ومنها: (أعوذ بوجه الله العظيم الذي لا شيء أعظم منه وبكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر وبأسماء الله الحسنى - ما علمت منها وما لم أعلم - من شر ما خلق وذرأ وبرأ ومن شر كل ذي شر لا أطيق شره ومن شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته إن ربي على صراط مستقيم) .
ومنها: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت عليك توكلت وأنت رب العرش العظيم ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن لا حول ولا قوة إلا بالله. أعلمُ أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً وأحصى كل شيء عدداً. اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم) .
وإن شاء قال: (تحصنت بالله الذي لا إله إلا هو إلهي وإله كل شيء.
واعتصمت بربي ورب كل شيء. وتوكلت على الحي الذي لا يموت واستدفعت الشر بلا حول ولا قوة إلا بالله. حسبي الله ونعم الوكيل. حسبي الرب من العباد. حسبي الخالق من المخلوق. حسبي الرازق من المرزوق. حسبي الله هو حسبي.
حسبي الذي بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه. حسبي الله وكفى.
سمع الله لمن دعا وليس وراء الله مرمى. حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) الطب النبوي ص 293.(4/443)
وثالث الطرق الشرعية في معالجة الإصابة بالعين هي: الاغتسال أي أن العائن وهو الذي يصيب بالعين يغتسل ويؤخذ الماء فيصب على المعين وهو المصاب بالعين فيبرأ بإذن الله وقد ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين وإذا استغسلتم فاغسلوا) رواه مسلم.
وثبت في حديث سهل بن حنيف عندما أصابه عامر بن ربيعة بالعين حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعامر: (اغتسل له. فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح ثم يصب ذلك الماء على المعين فيبرأ بإذن الله.
ومما ينفع في دفع الإصابة بالعين والاحتراز من ذلك ستر محاسن من يخاف عليه العين بما يردها عنه كما قال العلامة ابن القيم في كتابه الطب النبوي ص 297.
هذه هي الطرق الشرعية في دفع الإصابة بالعين وأما ما ذكره السائل من طرق لدفع الإصابة بالعين كتعليق الخرزة الزرقاء أو تعليق حذوة حصان أو صورة كف وفيها عين وتعليق ذلك على الإنسان أو الحيوان أو السيارة أو البيت فهذا كله ليس له أصل في الشرع ولا يصح التعامل به.
لا يجوز تعليق التمائم
تقول السائلة: إنها لا تحمل إلا بعمل حجاب خاص بها من قبل أحد الشيوخ وهذا الحجاب يلازمها طوال حملها ويمنعها الشيخ من الذهاب إلى الأفراح أو المآتم خشية نزول حملها وتقول إن الحجاب مكتوب فيه آيات قرآنية وبعض الكلمات غير المفهومة وتسأل عن حكم الشرع في ذلك؟
الجواب: إن كثيراً من الدجالين والمشعوذين يستغلون الدين للكسب(4/444)
المادي ويستغلون حالات الضعف البشري عند المرضى وعند النساء وخاصة إذا واجهتهن مشكلة عدم الإنجاب.
إن معالجة عدم الإنجاب لا تكون بالذهاب إلى الدجالين والسحرة والمشعوذين وإنما تكون بالمعالجة الطبية الصحيحة والحجاب لا علاقة له بالحمل أو عدم سقوطه وكل ذلك دجل وكذب ولا يجوز تعليق الحجاب فقد جاء في الحديث عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من تعلق تميمة فلا أتم الله له ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له) رواه أحمد.
وجاء في رواية أخرى: (من علق تميمة فقد أشرك) رواه أحمد وصححه الشيخ الألباني. السلسلة الصحيحة حديث رقم 492.
وعن عبد الله بن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وابن حبان وصححه الشيخ الألباني. السلسلة الصحيحة حديث رقم 331.
ولو كان الحجاب من الآيات القرآنية فقط فلا يجوز تعليقه لعموم نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تعليق التمائم.
وكذلك سداً للذريعة لأن تعليقه يؤدي إلى تعليق غيره ولأن تعليق الآيات القرآنية قد يؤدي إلى امتهانها لأن الإنسان الذي تعلق عليه يحملها في أحواله كلها ومنها وقت قضاء الحاجة ونحوها. انظر فتاوى اللجنة الدائمة 1/166.
هذا إذا كان الحجاب من الآيات القرآنية فقط فكيف والسائلة تقول إن فيه كلمات غير مفهومة فهذه الطلاسم أولى بالمنع من الآيات القرآنية.
وأخيراً ينبغي على السائلة أن تنزع هذه التميمة وعليها أن تراجع الأطباء ذوي الاختصاص لمعرفة أسباب سقوط حملها.(4/445)
المتفرقات(4/447)
ملك الموت لا يقال له عزرائيل
يقول السائل: إنه قرأ في إحدى المجلات الدينية أن ملاك الموت هو عزرائيل فهل صحيح أن ملك الموت يسمى [عزرائيل] ؟
الجواب: لا شك أن الإيمان بالملائكة هو أحد أركان الإيمان والملائكة من عالم الغيب وطريق معرفة الغيب الخبر الصحيح فقط أي ما ورد في كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وهذا هو السبيل الوحيد لمعرفة أي شيء عن الملائكة وملك الموت ورد ذكره في القرآن الكريم في آية واحدة فقط قال تعالى: (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) سورة السجدة الآية 11.
ولم يذكر في القرآن الكريم اسمه وإنما قال الله تعالى: (مَلَكُ الْمَوْتِ) .
وكذلك لم يسمَّ ملك الموت في الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد ورد ذكر ملك الموت في خمسة عشر حديثاً في كتب السنة التسعة وهي صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن أبي داود وسنن الترمذي وسنن النسائي وسنن ابن ماجة وموطأ مالك ومسند أحمد وسنن الدارمي وفي جميع هذه الأحاديث ورد ذكره بملك الموت ولم يسمَّ بعزرائيل أو بغيره.(4/449)
وقد ذكر الحافظ ابن كثير أن ملك الموت قد سمي بعزرائيل في بعض الآثار. تفسير ابن كثير 3/458.
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: [. ولم يجئ مصرحاً باسمه في القرآن ولا في الأحاديث الصحيحة.] أصول الإيمان ص 14.
وبناءً على ذلك فمن عقيدة المسلم الصحيحة الثابتة الإيمان بملك الموت ولا نسميه إلا بذلك ولا نسميه عزرائيل لأن ذلك لم يثبت.
قال صاحب العقيدة الطحاوية: [ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين] شرح العقيدة الطحاوية ص 404.
(اطلبوا العلم ولو في الصين) ليس حديثاً
يقول السائل: إنه سمع خطيب الجمعة يقول: صح الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (اطلبوا العلم ولو في الصين) فهل هذا الحديث صحيح كما زعم ذلك الخطيب؟
الجواب: إن هذا الحديث باطل بل قد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات أي الأحاديث المكذوبة على الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وقال الشوكاني: (رواه العقيلي وابن عدي عن أنس مرفوعاً. قال ابن حبان: وهو باطل لا أصل له وفي إسناده أبو عاتكة وهومنكر الحديث.) الفوائد المجموعة ص 272 وانظر المقاصد الحسنة ص 93 وكشف الخفاء 1/138.
وقال الشيخ الألباني عن الحديث بأنه باطل ثم ذكر من رواه ثم قال: [وخلاصة القول أن هذا الحديث بشطره الأول - أي اطلبوا العلم ولو بالصين - الحق فيه ما قاله ابن حبان وابن الجوزي - أي باطل ومكذوب - إذ ليس له طريق يصلح للاعتضاد به] السلسلة الضعيفة 1/415-416.(4/450)
وأخيراً فإن من الواجب على خطباء المساجد أن يتأكدوا من درجة الأحاديث التي يذكرونها في خطبهم حتى لا يسهموا في الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن في الأحاديث الصحيحة والحسنة ما يغني ويكفي عن الأحاديث الباطلة والمكذوبة.
حكم غيبة الفاسق
يقول السائل: ورد في الحديث: (لا غيبة لفاسق) فهل هذا الحديث ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ وهل تجوز غيبة الفاسق؟
الجواب: يجب أن يعلم أولاً أن الغيبة هي أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه سواء ذكرته بنقص في بدنه أو نسبه أو خلقه أو في فعله أو قوله أو دينه أو دنياه كما قال أبو حامد الغزالي في إحياء علوم الدين 3/140.
وقد جاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكره. قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) رواه مسلم.
والغيبة من كبائر الذنوب عند جمهور أهل العلم.
قال القرطبي: [لا خلاف أن الغيبة من الكبائر وأن من اغتاب أحداً عليه أن يتوب إلى الله عز وجل] تفسير القرطبي 16/337.
والغيبة من المعاصي التي يتساهل فيها كثير من الناس لأنها كلام يجري على اللسان ومعظم الناس لا يلقون بالاً لما يتكلمون ولا يقدرون عواقب أمر الغيبة فقد ورد في شأنها من الترهيب ما تقشعر له قلوب المؤمنين فمن ذلك قول الله تعالى: (ولا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) سورة الحجرات الآية 12.(4/451)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله) رواه مسلم ,
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: حسبك من صفية كذا وكذا
- قال بعض الرواة: تعني قصيرة - فقال: لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) رواه الترمذي وأبو داود والبيهقي وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 3/923.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم) رواه أحمد وأبو داود وصححه الشيخ الألباني في السلسة الصحيحة 2/59.
وغير ذلك من الأحاديث راجعها إن شئت في كتاب " الزواجر عن اقتراف الكبائر " لابن حجر الهيتمي المكي 2/16-24.
إذا تقرر هذا فنعود إلى السؤال فأقول أما ما ورد أنه (لا غيبة لفاسق) فهذا ليس حديثاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد ورد من طرق كلها لا تثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال العلامة ابن القيم: [قال الدارقطني والخطيب قد روي من طرق وهو باطل] المنار المنيف ص 134.
وقال الشيخ الألباني: [باطل رواه الطبراني في الكبير وأبو الشيخ في التاريخ وابن عدي. الخ] سلسلة الأحاديث الضعيفة 2/53.
وقال الشيخ المناوي: [قال الحاكم هذا حديث غير صحيح ولا يعتمد عليه وقال ابن عدي عن أحمد بن حنبل حديث منكر] فيض القدير 5/481.
وقال الشيخ العجلوني بعد أن ذكر أقوال المحدثين في الحديث: [وبالجملة فالحديث كما قال العقيلي ليس له أصل وقال الفلاس إنه منكر] كشف الخفاء ومزيل الإلباس 2/172.(4/452)
وذكر مثل كلامه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين 7/558.
وبهذا يظهر لنا أن هذا الحديث باطل وغير ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن أهل العلم يرون أن الفاسق المجاهر بفسقه تجوز غيبته ضمن الحالات التي تجوز فيها الغيبة.
قال الإمام النووي: [اعلم أن الغيبة تباح لغرض صحيح شرعي لا يمكن الوصول إليه إلا بها وهو ستة أسباب:
الأول: التظلم فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما ممن له ولاية أو قدرة على إنصافه من ظالمه فيقول ظلمني فلان بكذا.
الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر فلان يعمل كذا فازجره عنه ونحو ذلك ويكون مقصوده التوصل إلى إزالة المنكر فإن لم يقصد ذلك كان حراماً.
الثالث: الاستفتاء فيقول للمفتي ظلمني أبي أو أخي أو زوجي أو فلان بكذا فهل له ذلك؟ وما طريقي في الخلاص منه وتحصيل حقي ودفع الظلم؟ ونحو ذلك فهذا جائز للحاجة ولكن الأحوط والأفضل أن يقول: ما تقول في رجل أو شخص أو زوج كان من أمره كذا؟ فإنه يحصل به الغرض من غير تعيين ومع ذلك فالتعيين جائز.
الرابع: تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم وذلك من وجوه:
منها جرح المجروحين من الرواة والشهود وذلك جائز بإجماع المسلمين بل واجب للحاجة.
ومنها المشاورة في مصاهرة إنسان أو مشاركته أو إيداعه أو معاملته أو غير ذلك أو مجاورته.
ويجب على المشاوَر أن لا يخفي حاله بل يذكر المساوئ التي فيه بنية النصيحة.(4/453)
ومنها إذا رأى متفقهاً يتردد إلى مبتدع أو فاسق يأخذ عنه العلم وخاف أن يتضرر المتفقه بذلك فعليه نصيحته ببيان حاله بشرط أن يقصد النصيحة وهذا مما يغلط فيه وقد يحمل المتكلم بذلك الحسد ويلبس الشيطان عليه ذلك ويخيل إليه أنه نصيحة فليتفطن لذلك.
ومنها أن يكون له ولاية لا يقوم بها على وجهها إما بأن لا يكون صالحاً لها وإما بأن يكون فاسقاً أو مغفلاً ونحو ذلك. فيجب ذكر ذلك لمن له عليه ولاية عامة ليزيله ويولي من يصلح أو يعلم ذلك منه ليعامله بمقتضى حاله ولا يغتر به وأن يسعى في أن يحثه على الاستقامة أو يستبدل به.
الخامس: أن يكون مجاهراً بفسقه أو بدعته كالمجاهر بشرب الخمر ومصادرة الناس وأخذ المكس وجباية الأموال ظلماً وتولي الأمور الباطلة فيجوز ذكره بما يجاهر به ويحرم ذكره بغيره من العيوب إلا أن يكون لجوازه سبب آخر مما ذكرناه.
السادس: التعريف فإذا كان الإنسان معروفاً بلقب كالأعمش والأعرج والأصم والأعمى والأحول وغيرهم جاز تعريفهم بذلك ويحرم إطلاقه على جهة التنقص ولو أمكن تعريفه بغير ذلك كان أولى.
فهذه ستة أسباب ذكرها العلماء وأكثرها مجمع عليه ودلائلها من الأحاديث الصحيحة مشهورة فمن ذلك:
عن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً استأذن على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (ائذنوا له بئس أخو العشيرة - أي القبيلة -) متفق عليه. احتج به البخاري في جواز غيبة أهل الفساد وأهل الريب.
وعنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما أظن فلاناً وفلاناً يعرفان من ديننا شيئاً) رواه البخاري.
قال الليث بن سعد أحد رواة هذا الحديث: [هذان الرجلان كانا من المنافقين] .
وعن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت: (أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إن أبا الجهم ومعاوية خطباني؟(4/454)
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما معاوية فصعلوك - أي فقير - لا مال له. وأما أبو الجهم فلا يضع العصا عن عاتقه) متفق عليه.
وفي رواية لمسلم: (فأما أبو الجهم فضرَّاب للنساء) .
وهو تفسير لرواية (لا يضع العصا عن عاتقه) وقيل معناه كثير الأسفار] رياض الصالحين ص 580-583.
والفاسق الذي تجوز غيبته هو المجاهر بفسقه والفسق هو الخروج عن الطاعة وتجاوز الحد بالمعصية والفسق يقع بالقليل من الذنوب إذا كانت كبائر وبالكثير
وأكثر ما يقال الفاسق لمن التزم حكم الشرع وأقرَّ به ثم أخلَّ بجميع أحكامه أو ببعضها. الموسوعة الفقهية 33/140.
فتارك الصلاة فاسق عند كثير من العلماء وبعضهم يكفره وشارب الخمر فاسق ومرتكب المحرمات فاسق كالزاني والديوث فاسق وهو الذي يرى المنكر في أهله ويسكت فهؤلاء الفسقة وأمثالهم تجوز غيبتهم ليحذرهم الناس ويعرفوا حالهم.
قال القرطبي: [ليس من هذا الباب غيبة الفاسق المعلن به المجاهر. وروي عن الحسن أنه قال: ثلاثة ليست لهم حرمة صاحب الهوى والفاسق المعلن والإمام الجائر] تفسير القرطبي 16/339.
وقال الحسن البصري: [أترغبون عن ذكر الفاجر اذكروه بما فيه يحذره الناس] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 28/219.
وقال إبراهيم النخعي: [ثلاث كانوا لا يعدونهن من الغيبة: الإمام الجائر والمبتدع والفاسق المجاهر بفسقه] .
وعن الحسن البصري قال: [ليس بينك وبين الفاسق حرمة] .
وورد عن عمر بن الخطاب أنه قال: [ليس للفاجر حرمة] . روى هذه الآثار ابن أبي الدنيا في كتابه الصمت ص 128-130.(4/455)
وخلاصة الأمر أن غيبة الفاسق المجاهر بفسقه جائزة بل قد تكون واجبة في بعض الحالات.
والمجاهرة بالمعاصي من المصائب التي ابتلي بها الناس ومن كثرة المجاهرة بالمعاصي صار كثير من الناس لا يعدونها شيئا ًكترك الصلاة فهو عند كثير من الناس شيء هين وسهل والعياذ بالله.
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) رواه مسلم. وهم الذين يجاهرون بمعاصيهم.
وأخيراً ينبغي التنبيه على أمر مهم ألا وهو نصيحة الفسقة بأن يتوبوا ويرجعوا إلى الله سبحانه وتعالى وأنه لا بد من الإنكار عليهم لما ثبت في الحديث من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) رواه مسلم.
لا حياء في الدين
ما أخذ بسيف الحياء فهو حرام
يقول السائل: يتداول الناس عبارتين تتعلقان بالحياء الأولى قولهم:
[لا حياء في الدين] والثانية: [ما أخذ بسيف الحياء فهو حرام] فما قولكم في العبارتين؟
الجواب: ثبت في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان) متفق عليه.
وجاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يعظ أخاه في الحياء فقال: (الحياء من الإيمان) رواه مسلم.
وفي حديث عمران بن حصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الحياء لا يأتي إلا بخير) رواه مسلم.(4/456)
وفي رواية أخرى: (الحياء خير كله) أو قال: (الحياء كله خير) رواه مسلم.
والحياء خلق يبعث على اجتناب القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق كما ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري 1/58.
والحياء من الخصال المطلوبة في المسلم الصادق مع الله سبحانه وتعالى وقال العلماء: [الحياء من الحياة وعلى حسب حياة القلب يكون فيه قوة خلق الحياء وقلة الحياء من موت القلب والروح] الموسوعة الفقهية 18/262.
وأولى الحياء هو الحياء من الله سبحانه وتعالى والحياء من الله سبحانه وتعالى ألا يراك حيث نهاك فيكون ذلك عن معرفة ومراقبة وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) رواه البخاري ومسلم.
وجاء في الحديث عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (استحيوا من الله حق الحياء. قلنا يا نبي الله إنا لنستحي والحمد الله. قال: ليس ذاك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء هو أن تحفظ الرأس وما وعى وتحفظ البطن وما حوى وتتذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا - يعني من الله - حق الحياء) رواه الترمذي وحسّنه الشيخ الألباني. صحيح سنن الترمذي 2/299.
إذا تقرر هذا فنعود إلى الجملة الأولى وهي: [لاحياء في الدين] إن مراد العامة من هذه الجملة هو أن الحياء لا يمنع من السؤال في الدين ولو كان السؤال مما يستحي منه الناس وهذه الجملة صحيحة المعنى فقد ورد في حديث أم سلمة رضي الله عنه قال: (جاءت أم سليم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم إذا رأت الماء. فقالت أم سلمة: يا رسول الله وتحتلم المرأة؟ فقال: تربت يداك فبم يشبهها ولدها) رواه مسلم.(4/457)
قال الإمام النووي: [قولها " إن الله لا يستحي من الحق " معناه لا يمتنع من بيان الحق وضرب المثل.] شرح النووي على صحيح مسلم 1/550.
وروى مسلم في صحيحه أن عائشة رضي الله عنه قالت: (نعم النساء نساء الأنصار لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين) .
فينبغي على المسلم أن يسأل عن أمر دينه ولا يمنعه الحياء من ذلك.
وأما العبارة الثانية وهي: [ما أخذ بسيف الحياء فهو حرام] فمعناها صحيح أيضاً فلا يجوز للمسلم أن يأخذ مال غيره بالحياء فيمد يده إلى مال أخيه المسلم والآخذ يعلم أن صاحب المال يمنعه من أخذه ويؤيد هذا المعنى ما ورد في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس) رواه أحمد والبيهقي والدارقطني وصححه الشيخ الألباني. إرواء الغليل 5/279.
وجاء في رواية أخرى: (لا يحل للرجل أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفسه) رواه أحمد وغيره.
حديث سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث ثابت صحيح
يقول السائل: إنه سمع أحد المشايخ على إحدى المحطات الفضائية ينكر حديث سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه بزعمه يتنافى مع عصمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما قولكم في ذلك؟
الجواب: ما قاله الشيخ المذكور أثار تساؤلات كثيرة عند من شاهدوا برنامجه وقد طرح آرائه حول الإمام البخاري وحديث سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - وغير ذلك.
وقد شاهدت بعض حديثه المتعلق بهذه المسألة وسمعته يقول: [إن كان النبي صلى الله عليه وسلم سحر فإن نصف أحكام الإسلام الثوابت تسقط] .(4/458)
واحتج بحديث مكذوب من وضع الزنادقة لتأكيد كلامه وهو أنه عليه الصلاة والسلام قال: (ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فخذوه وإلا فاضربوا به عرض الحائط) .
واعتبر رده لحديث سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - دفاعاً عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعن دينه وأن البخاري مجرد راوٍ للأحاديث. إلى آخر كلامه.
وأقول: إن الشيخ المذكور ليس أول من أنكر حديث سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولن يكون آخرهم فإن كثيراً من الفلاسفة والعقلانيين الذين يحكّمون العقل في النصوص قد ردّوا هذا الحديث.
وحديث سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث صحيح رواه الإمامان الجليلان البخاري ومسلم في صحيحيهما فهو حديث متفق عليه ومعلوم عند أهل العلم أن الحديث الذي يرويه الإمامان البخاري ومسلم هو في أعلى درجات الحديث الصحيح كما أن الحديث قد رواه غيرهما أيضاً كالإمام أحمد وابن ماجة وابن حبان.
فحديث سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث ثابت صحيح لا شك في ذلك ولا ريب وكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد سحر لا يطعن في نبوته ولا في عصمته ولا في رسالته - صلى الله عليه وسلم -.
وقد أجاب علماء الحديث وشرّاحه عن هذا الحديث وبينوا المراد منه.
قال الحافظ ابن حجر: [قال المازري: أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث وزعموا أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها، قالوا: وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل وزعموا أن تجويز هذا يعدم الثقة بما شرعوه من الشرائع إذ يحتمل على هذا أن يخيل إليه أنه يرى جبريل وليس هو ثَمَ، وأنه يوحى إليه بشيء ولم يوح إليه بشيء.
قال المازري: وهذا كله مردود لأن الدليل قد قام على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلغه عن الله تعالى وعلى عصمته في التبليغ والمعجزات شاهدات بتصديقه فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل وأما ما يتعلق(4/459)
ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث لأجلها ولا كانت الرسالة من أجلها فهو في ذلك عرضة لما يعترض البشر كالأمراض فغير بعيد أن يخيل إليه في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين.
قال: وقد قال بعض الناس إن المراد بالحديث أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يخيل إليه أنه وطئ زوجاته ولم يكن وطئهن وهذا كثيراً ما يقع تخيله للإنسان في المنام فلا يبعد أن يخيل إليه في اليقظة.
قلت - أي الحافظ ابن حجر -: وهذا قد ورد صريحاً في رواية ابن عيينة في الباب الذي يلي هذا ولفظه (حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن) وفي رواية الحميدي (أنه يأتي أهله ولا يأتيهم) قال الداودي: يُرى بضم أوله أي يظن. قال عياض: فظهر بهذا أن السحر إنما تسلط على جسده وسائر جوارحه لا على تمييزه ومعتقده.] فتح الباري 12/337- 338.
وقال العلامة ابن القيم: فصل في هديه - صلى الله عليه وسلم - في علاج السحر الذي سحرته اليهود به وقد أنكر هذا طائفة من الناس وقالوا لا يجوز هذا عليه وظنوه نقصاً أو عيباً وليس الأمر كما زعموا بل هو من جنس ما كان يضرّ به - صلى الله عليه وسلم - من الأسقام والأوجاع وهو مرض من الأمراض وإصابته به كإصابته بالسم لا فرق بينهما وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إن كان ليخيل إليه أنه يأتي نساءه ولم يأتهن وذلك أشد ما يكون من السحر.
قال القاضي عياض: والسحر مرض من الأمراض وعارض من العلل يجوز عليه - صلى الله عليه وسلم - كأنواع الأمراض مما لا ينكر ولا يقدح في نبوته وأما كونه يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله فليس في هذا ما يدخل عليه داخلة في شيء من صدقه لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا وإنما هذا فيما يجوز طروه عليه في أمر دنياه التي لم يبعث لسببها ولا فضل من أجلها وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر فغير بعيد من أمورها ما لا حقيقة له ثم ينجلي عنه لما كان] زاد المعاد في هدي خير العباد 4/124.
وقال الإمام الخطابي: [قد أنكر قوم من أصحاب الطبائع السحر(4/460)
وأبطلوا حقيقته ودفع آخرون من أهل الكلام هذا الحديث وقالوا: لو جاز أن يكون له تأثير في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يؤمن أن يؤثر ذلك فيما يوحى إليه من أمر الشرع فيكون فيه ضلال الأمة.
والجواب أن السحر ثابت وحقيقته موجودة. وقد قال الله تعالى: (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) وأمر بالاستعاذة منه فقال عز وجل: (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ) .
وورد في ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبار لا ينكرها إلا من أنكر العيان والضرورة. فأما ما زعموا من دخول الضرر في الشرع بإثباته فليس كذلك لأن السحر إنما يعمل في أبدانهم وهم بشرٌ يجوز عليهم من العلل والأمراض ما يجوز على غيرهم وليس تأثير السحر في أبدانهم بأكثر من القتل وتأثير السم وعوارض الأسقام فيهم وقد قتل زكريا وابنه وَسُمَّ نبينا - صلى الله عليه وسلم - بخيبر فأما أمر الدين فإنهم معصومون فيما بعثهم الله جلّ ذكره وأرصدهم له وهو جل ذكره حافظ لدينه وحارس لوحيه أن يلحقه فساد أو تبديل وإنما كان خيّل إليه أنه يفعل الشيء من أمر النساء خصوصاً وهذا من جملة ما تضمنه قوله: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) فلا ضرر إذاً يلحقه فيما لحقه من السحر على نبوته وشريعته والحمد لله على ذلك] شرح السنة 12/187-188.
وبهذه النقول عن هؤلاء العلماء الأعلام يظهر لنا جلياً أنه لا يجوز أن تكذب الأحاديث الصحيحة بمجرد فهم سيء فهمه من فهمه.
وإني لأعجب من هذا الشيخ إذ يردّ حديثاً في الصحيحين ويستدل على ذلك بحديث مكذوب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو: [ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فخذوه وإلا فاضربوا به عرض الحائط] .
قال الحافظ ابن عبد البر: [قال عبد الرحمن بن مهدي: الزنادقة والخوارج وضعوا ذلك الحديث يعني ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله فإن وافق كتاب الله فأنا قلته وإن خالف كتاب الله فأنا لم أقله وإنما أنا موافق كتاب الله وبه هداني] .(4/461)
وهذه الألفاظ لا تصح عنه - صلى الله عليه وسلم - عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه وقد عارض هذا الحديث قوم من أهل الحديث وقالوا نحن نعرض هذا الحديث على كتاب الله قبل كل شيء ونعتمد على ذلك قالوا فلما عرضناه على كتاب الله وجدناه مخالفاً لكتاب الله لأنا لم نجد في كتاب الله ألا يقبل من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ما وافق كتاب الله بل وجدنا كتاب الله يطلق التآسي به والأمر بطاعته ويحذر من المخالفة عن أمره جملة على أي حال] جامع بيان العلم وفضله 2/191.
وقال البيهقي: [والحديث الذي روي في عرض الحديث على القرآن باطل لا يصح وهو ينعكس على نفسه بالبطلان فليس في القرآن دلالة على عرض الحديث] مفتاح الجنة ص 6 نقلاً عن السنة ومكانتها في التشريع ص161.
وقال الإمام يحيى بن معين عن الحديث السابق: وضعته الزنادقة. ومثل قوله قال الخطابي وابن حزم والصغاني والشوكاني وذكره ابن الجوزي في الموضوعات. انظر الفوائد المجموعة ص291 والإحكام لابن حزم 1/249-253 وكشف الخفاء 1/86 والمقاصد الحسنة ص 36.
وقد فصل الشيخ الألباني الكلام على هذا الحديث وما في معناه في السلسلة الضعيفة 3/203-211.
وأما ما قاله ذلك الشيخ عن الإمام البخاري: [أنه مجرد راوٍ للحديث] فهذا كلام لا يقال في حق إمام أهل الحديث في زمانه والمقتدى به في أوانه والمقدم على سائر أضرابه وأقرانه كما وصفه الحافظ ابن كثير.
وقال ابن السبكي عن الإمام البخاري: [هو إمام المسلمين وقدوة الموحدين وشيخ المؤمنين والمعول عليه في أحاديث سيد المرسلين وحافظ نظام الدين] .
وقد كتب العلماء عنه كثيراً وقال الحافظ ابن حجر بعد ذكر كلام العلماء فيه: [ولو فتحت باب ثناء الأئمة عليه ممن تأخر عن عصره لفني القرطاس ونفدت الأنفاس فذاك بحر لا ساحل له] هدى الساري 2/258.(4/462)
وأما صحيح الإمام البخاري فهو أصح كتاب في الدنيا بعد كتاب الله عز وجل قال الإمام النووي: [اتفق العلماء رحمهم الله على أن أصح الكتب بعد الكتاب العزيز الصحيحان البخاري ومسلم وتلقتهما الأمة بالقبول وكتاب البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد.] .
وقال ابن السبكي: [وأما كتابه الجامع الصحيح فأجل كتب الإسلام بعد كتاب الله] انظر عشرون حديثاً من صحيح البخاري ص 8 فما بعدها.
ولا يتسع المقام لذكر ما قاله العلماء في الإمام البخاري وفي صحيحه.
وأخيراً فهل مثل الإمام البخاري يقال فيه: إنه مجرد راوٍ؟ هذا كلام من لا يعرف مكانة الإمام البخاري ولا عرف فضله!
لا أثر للبيئة في تغير الأحكام الشرعية الثابتة بالنصوص
يقول السائل: إنه قرأ مقالاً يذكر فيه كاتبه أن الإمام الشافعي رحمه الله كان له مذهب فقهي في العراق ولمّا سافر إلى مصر كان له مذهب آخر وأن الشافعي غيَّر مذهبه الأول بسبب اختلاف البيئتين والمجتمعين العراقي والمصري. فما قولكم في ذلك؟
الجواب: الإمام الشافعي ثالث الأئمة الأربعة ومدوّن علم أصول الفقه في كتابه العظيم " الرسالة " وصاحب كتاب " الأم " في الفقه. هذا الإمام العظيم قال عنه تلميذه الإمام أحمد: [كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للبدن فهل ترى لهذين من خَلَفٍ أو عنهما من عوض] .
وقال فيه الإمام الحافظ المحدّث عبد الرحمن بن مهدي: [لما نظرت الرسالة للشافعي أذهلتني لأنني رأيت كلام رجل عاقل فصيح ناصح فإني لأكثر الدعاء له ما ظننت أن الله خلق مثل هذا الرجل] .
وقد أثنى عليه العلماء المتقدمون والمتأخرون وهو أهل لذلك. انظر الإمام الشافعي فقيه السنة الأكبر ص 5.(4/463)
ومن المعلوم أن فقه الإمام الشافعي مرّ بعدة مراحل أثناء حياة الإمام ومن المشهور أن الشافعي له مذهبان قديم وجديد أما القديم فكان في العراق وأما الجديد فكان في مصر ومن هنا جاءت المقولة المشهورة بين طلبة العلم أن الشافعي قد غيَّر مذهبه عندما سكن مصر ونريد أن ندقق في هذه القضية ونسأل هل فعلاً أن الإمام الشافعي غيَّر مذهبه؟ وما مدى هذا التغيير؟
الحقيقة أنه ليس صحيحاً أن الإمام الشافعي غير مذهبه القديم وألغاه تماماً ثم وضع مذهباً جديداً في مصر وخاصة أن فترة إقامته في مصر كانت قصيرة حيث إن إقامته لم تزد على أربع سنوات وهذه مدة لا تكفي لتغيير المذهب جملة وتفصيلاً.
إن الفترة التي عاشها الشافعي في مصر جاءت بعد أن نضجت آراؤه وتكامل اجتهاده فأخذ يمحص آرائه السابقة ويعيد النظر فيها ودرس فيها أصوله التي بنى أقواله عليها ناقداً لها فاحصاً كاشفاً فهذا الإمام الذي كان يتسامى فلا يترك قولاً من غير نقد ولا تمحيص وكشف لمحاسنه ومساويه، وقربه من السنة أو بعده عنها قد أخذ أيضاً يدرس آراء نفسه هذه الدراسة الناقدة الفاحصة الكاشفة.
ثم هو يدون ما انتهى إليه من دراسته فيدون رسالته ويكتب مسائل كثيرة له أو يملي أخرى ويروي عنه أصحابه جملة آرائه في تلك الفترة وينقلون خلافاته مع غيره من الفقهاء. انظر كتاب " الإمام الشافعي حياته وعصره - آراؤه وفقهه " للشيخ محمد أبو زهرة ص 129.
وفي مدة إقامته في مصر أعاد كتابة رسالته في الأصول كتابة جديدة زاد فيها وحذف منها وأبقى لب رسالته القديمة ودرس آراءه في الفروع فعدل عن بعضها إلى جديد لم يقله وكان له بذلك قديم قد رجع عنه وجديد قد اهتدى إليه وقد يتردد بين الجديد والقديم فيذكر الرأيين من غير أن يرجع عن أولهما.
المرجع السابق ص 128.(4/464)
وليس صحيحاً أنه بدّل جميع أقواله أو أكثرها وإنما بدّل بعضها وليس عليه في ذلك جناح فالعالم المجتهد المتجرد لطلب الحق يدور مع الحق حيث دار ومن الطبيعي لإمام مثل الشافعي له ذكاؤه وعقله وفهمه وله الثروة الضخمة من الأدلة وأقوال الصحابة ومن بعدهم وفتاوى العلماء وأدلة أولئك وهؤلاء - أن يقارن ويوازن ويهمل رأياً كان يراه ويعود إلى رأي لم يكن يراه أو يأتي برأي جديد.
وليس الشافعي في هذا بدعاً من المجتهدين فالأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم كثيراً ما رأوا رأياً فثبت لديهم غيره بالأثر أو النظر فرجعوا عن الأول وكثيراً ما ينقل رواة المذهب روايتين أو أكثر في مسألة واحدة عن إمامهم. الإمام الشافعي / عبد الغني الدقر ص 153-154.
إن الإمام الشافعي كما سبق في بداية الجواب هو أول من دوّن علم أصول الفقه فهو رأس هذا العلم ومعلوم أن علم أصول الفقه هو العلم الذي يبين فيه قواعد وضوابط استنباط الأحكام الشرعية أي الفقه فالشافعي أعلم العلماء في قواعد الاستنباط وأصول الاجتهاد وقد بين الأصول التي بنى عليها مذهبه وليس من هذه الأصول تغير المجتمعات أو البيئات فأصول مذهب الشافعي الجديد هي:
1. الكتاب والسنة.
2. الإجماع فيما ليس فيه نص كتاب أو سنة.
3. قول الصحابي الذي لا يعرف له مخالف من الصحابة.
4. التخير من أقوال الصحابة عند اختلافهم.
5. القياس على ما سبق.
ونلاحظ أن اختلاف البيئات أو المجتمعات ليس من أصول الشافعي ولا من أصول أحد من أئمة الإسلام فأصول الأحكام الشرعية ثابتة لا تقبل التغيير ولا التبديل.
كما لو أننا لو ألقينا نظرة سريعة على بعض المسائل التي اختلف فيها(4/465)
اجتهاد الإمام الشافعي وغير رأيه فيها فكان له فيها قولان قديم وجديد لرأينا يقيناً أن لا علاقة لتغير البيئات والمجتمعات بها وسأورد ثلاث مسائل من التي اختلف فيها اجتهاد الشافعي فكان له فيها مذهبان:
المسألة الأولى: قال الإمام الشافعي في القديم: لا يُسن قراءة سورة بعد الفاتحة في الركعتين الثالثة والرابعة.
وقال في الجديد: يستحب قراءة سورة بعد الفاتحة في الركعتين الثالثة والرابعة. المجموع 3/386 وفرائد الفوائد ص 61.
المسألة الثانية: قضاء الصوم عن الميت قال في القديم: يصوم عنه وليه.
وقال في الجديد: لا يصوم عنه وليه. الأشباه والنظائر للسيوطي ص 813 والمجموع 6/368.
المسألة الثالثة: اشترط الإمام الشافعي في الركاز الذي يجب فيه الخمس أن يبلغ نصاباً وهذا قوله في الجديد أما في القديم فلم يشترط ذلك. المجموع 6/77.
ونلاحظ أنه لا أثر لاختلاف البيئة والمجتمع في اختلاف قولي الإمام الشافعي القديم والجديد في هذه المسائل.
وإنما يرجع سبب اختلاف قولي الإمام الشافعي في هذه المسائل إلى الأدلة الشرعية في كل منها.
ففي المسألة الأولى لماّ ثبت عند الإمام الشافعي حديث أبي قتادة - رضي الله عنه - قال به وهو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة في كل ركعة وكان يسمعنا الآية أحياناً وكان يطيل في الأولى ما لا يطيل في الثانية وكان يقرأ في الركعتين الأخيرتين بفاتحة الكتاب) رواه البخاري ومسلم.
وفي المسألة الثانية احتج الشافعي بما جاء عن ابن عمر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
(من مات وعليه صيام فليطعم عنه مكان كل يوم مسكين) .(4/466)
وحجة القديم بصحة صوم الولي عنه حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه) وقد نقل عن الشافعي أنه قال: قد روي في ذلك خبر فإن صح قلت به. المجموع 6/368-369.
وفي المسألة الثالثة: استدل الشافعي لعدم اشتراط بلوغ النصاب في الركاز بعموم الحديث (وفي الركاز الخمس) حيث لم يحدد فيه نصاب.
وفي الجديد اشترط النصاب اعتماداً على أن الركاز مال مستفاد من الأرض فاختص بما تجب فيه الزكاة قدراً أو نوعاً كالمعدن. مغني المحتاج 2/103.
وهكذا يمكن أن يقال في جميع المسائل التي رجع فيها الشافعي عن قوله القديم وقال بالقول الجديد لأن المجتهد يرجع عن قول اجتهد فيه بناءاً على الدليل.
فمن المعلوم عند أهل العلم أن تغيير الفتوى في المسألة الواحدة من العالم الواحد لا بدّ له من سبب صحيح فإذا بنى المجتهد فتواه على اجتهاد ثم بلغه حديث نبوي لم يكن قد سمع به من قبل والفتوى تعارضه يلزمه العدول فوراً عن قوله إلى قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وأخيراً ينبغي التنبيه على أن الفقهاء والعلماء قد قرروا أن الأحكام الاجتهادية التي تبنى على العرف والمصلحة يمكن أن تتغير بتغير الأزمنة نظراً لاختلاف الأعراف من زمان إلى زمان وأما الأحكام المنصوص عليها فهذه ثابتة لا يمكن أن يدخلها التغيير والتبديل.
قال العلامة ابن عابدين: [كثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله أو لحدوث ضرورة أو لفساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولاً للزم منه المشقة والضرر بالناس ولخالف قواعد الشريعة الإسلامية المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد لهذا نرى مشايخ المذهب خالفوا ما نص عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه لعلمهم بأنه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا به أخذاً من قواعد مذهبه] المدخل الفقهي العام 2/983.(4/467)
وقال علي حيدر شارح المجلة: (إن الأحكام التي تتغير بتغير الأزمان هي الأحكام المستندة على العرف والعادة لأنه بتغير الأزمان تتغير احتياجات الناس وبناءً على هذا التغير يتبدل أيضاً العرف والعادة وبتغير العرف والعادة تتغير الأحكام حسبما أوضحنا آنفاً بخلاف الأحكام المستندة إلى الأدلة الشرعية التي لم تبن على العرف والعادة فإنها لا تتغير.) درر الحكام 1/47.
وقال الشيخ مصطفى الزرقا: [وقد اتفقت كلمة فقهاء المذاهب على أن الأحكام التي تتبدل بتبدل الزمان وأخلاق الناس هي الأحكام الاجتهادية من قياسية ومصلحية أي التي قررها الاجتهاد بناءاً على القياس أو على دواعي المصلحة وهي المقصودة بالقاعدة الآنفة الذكر.
أما الأحكام الأساسية التي جاءت الشريعة لتأسيسها وتوطيدها بنصوصها الأصلية الآمرة الناهية كحرمة المحرمات المطلقة وكوجوب التراضي في العقود. إلى غير ذلك من الأحكام والمبادئ الشرعية الثابتة التي جاءت الشريعة لتأسيسها ومقاومة خلافها فهذه لا تتبدل بتبدل الأزمان] المدخل الفقهي العام 2/934-935.
وبعد هذا البيان يظهر لنا جليا أن القول بأن الإمام الشافعي غير مذهبه لما حلَّ في مصر نظراً لاختلاف البيئة والمجتمع قول باطل يؤدي إلى نقض أصول الشريعة والتلاعب بها والإمام الشافعي ذلك الأصولي العظيم مبرؤ مما ينسب إليه.
التزام المسلمين بالأحكام الشرعية في بلاد غير المسلمين
يقول السائل: إنه سمع قولاً لأحد العلماء حول التزام المسلم الذي يعيش في بلاد غير المسلمين بالقوانين التي يضعها غير المسلمين وأن على المسلم احترام تلك الأنظمة وإن خالفت الدين الإسلامي مثل منع المرأة(4/468)
المسلمة من ارتداء الجلباب الشرعي فعلى المسلمة أن تطيع ذلك ولا تلبس الجلباب الشرعي فما قولكم في ذلك؟
الجواب: إن على المسلم الذي يقيم في ديار غير المسلمين أن يفرق بين الأنظمة التي يضعها أهل تلك البلاد والتي لا تتعارض مع أحكام ديننا الإسلامي الحنيف وبين الأنظمة والقوانين التي تعارض أحكام الشرع الثابتة بنصوص صريحة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو التي اتفق عليها أكثر أهل العلم.
فمثلاً إذا كان نظام السير في دولة غربية يفرض على السائق أن لا يحصل على رخصة السياقة إلا إذا بلغ سناً معيناً وأن على السائق أن يجري فحصاً سنوياً لسمعه وبصره أو نحو ذلك فالمسلم الذي يعيش في تلك البلاد يطيع ذلك النظام ولا بأس عليه.
وأما إذا فرض القانون على المسلم الذي يعيش في ديار غير المسلمين أن لا يصلي أو أن لا يصوم أو فرضوا على المرأة المسلمة ألا تلبس الجلباب الشرعي وأن تخرج سافرة فيحرم على المسلم طاعتهم لأن الطاعة لها حدود لا يجوز تجاوزها فإذ أُمِرَ المسلم بالقيام بمعصية سواء أكان الآمر مسلماً أو غير مسلم حاكماً أو غير حاكم فلا يجوز للمسلم الطاعة في المعصية.
وقد ثبت في الحديث الصحيح عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) رواه البخاري.
وقد نص العلماء على أن الطاعة تكون في غير معصية فقد روى الإمام البخاري الحديث السابق في (باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية) صحيح البخاري مع فتح الباري 16/239.
وقال ابن خواز منداد من كبار فقهاء المالكية: [وأما طاعة السلطان فتجب فيما كان لله فيه طاعة ولا تجب فيما كان فيه معصية] تفسير القرطبي 5/259.(4/469)
ومما يدل على أن الطاعة تكون في المعروف ما ثبت في الحديث الصحيح عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: (بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية وأمَّر عليهم رجلاً من الأنصار وأمرهم أن يطيعوه. فغضب عليهم وقال: أليس قد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تطيعوني؟
قالوا: بلى. قال: عزمت عليكم لما جمعتم حطباً وأوقدتم ناراً ثم دخلتم فيها. فجمعوا حطباً فأوقدوا ولما هموا بالدخول نظر بعضهم إلى بعض، فقال بعضهم: إنما تبعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فراراً من النار أفندخلها؟ فبينما هم كذلك إذ خمدت النار وسكن غضبه فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها أبداً إنما الطاعة في المعروف) رواه البخاري.
وجاء في حديث آخر عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا طاعة لأحد في معصية الخالق) رواه احمد والبزار وقال الحافظ ابن حجر: وسنده قوي. فتح الباري 5/241، وقال الألباني: وإسناده صحيح على شرط مسلم.
وجاء في رواية أخرى: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وهي رواية صحيحة. راجع سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ الألباني 1/137-144.
إذا ثبت هذا فأقول إن على المسلم الذي يعيش في ديار غير المسلمين أن ينظر وأن يقيس الأمور بمقياس الشرع فإذا كان ما ألزم به من أنظمة وقوانين تلك البلاد لا يعد معصية فلا بأس أن يعمل بها وأما إن كان في ذلك معصية ومخالفة واضحة لكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فتحرم عليه الطاعة.
قال الحافظ ابن حجر: (فإذا داهن فعليه الإثم ومن عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض) فتح الباري 5/241.
وأوضح الأمر بمثال عملي مما يتعرض له المسلمون في بعض البلاد الغربية فقد ألزمت بعض المؤسسات التعليمية في إحدى الدول الغربية الفتيات المسلمات بخلع الجلباب الشرعي ومنعتهن من الدخول إلى تلك المؤسسات إلا باللباس الذي يظهر العورة ولا يستر البدن.(4/470)
والسؤال الذي طرح نفسه هو: ما حكم ارتداء المرأة المسلمة للجلباب الشرعي؟
الجواب: إن اللباس الشرعي الذي يستر ما أمر الله بستره فرض في حق المرأة المسلمة فلا يجوز لها الخروج من البيت إلا إذا سترت ما أمر الله بستره قال تعالى
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) سورة الأحزاب 59.
وقال تعالى: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) سورة النور الآية 31.
وبناءاً على هذه النصوص الشرعية وغيرها يحرم على المرأة المسلمة أن تخرج من بيتها إلى السوق أو المدرسة أو الجامعة أو المؤسسة التي تعمل فيها إلا وهي ملتزمة باللباس الشرعي الذي أوجبه الله تعالى فإذا ألزمت المرأة المسلمة بنظام أو قانون بأن تخلع اللباس الشرعي فلا يجوز لها أن تطيع من أمرها بذلك لأنه يأمرها بمعصية الله تبارك وتعالى ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وينبغي التنبيه على أنه لو تعلق الأمر بمسألة خلافية بين فقهاء المسلمين فاخذ الإنسان بالرأي الأخف فلا حرج في ذلك وإن كان فيه موافقة لنظام وقوانين غير المسلمين.
فمثلاً لو منعت امرأة من تغطية وجهها في مؤسسة أو جامعة أو مصنع فالتزمت بذلك فلا حرج عليها إن لم تغط وجهها لأن تغطية الوجه ليس فرضاً متفقاً عليه بين علماء المسلمين فكثير من الفقهاء يرون عدم وجوب تغطية المرأة لوجهها وهذا الرأي معتبر ومستند على أدلة قوية فلو أن المرأة المسلمة أخذت بهذا الرأي فلا حرج عليها إن شاء الله.
*****(4/471)
إخفاء العمل عن الناس ثم علمهم
يقول السائل: ما قولكم في رجل يُسئل: هل صليت العصر؟ فيقول: لقد أتيت الآن من المسجد الأقصى حيث صليت جماعة. وفي آخر صائم ويسر أشد السرور إذا دعاه أحد لتناول شراب أو طعام لينتهز الفرصة ويقول: إني صائم. وفي آخر تصدق بصدقة وأخفاها ثم انكشف أمرها فانتعش صدره فرحاً بأن الناس عرفوا أنه قصد إخفاءها. وفي آخر أيضاً تبرع ببناء مسجد وعندما يذكر الموضوع أمامه يقول: بل وتنازلت أيضاً عن أجرة دكان لي لتنفق على ذلك المسجد. أفتونا مأجورين؟
الجواب: إن السرور الحاصل للإنسان عندما تعرف طاعته وفرحه بعلم الناس بعبادته ليس من الرياء لأن هذا الأمر طرأ بعد الفراغ من العبادة. وليس من الرياء أيضاً أن يسر الإنسان بفعل الطاعة لأن ذلك دليل إيمانه وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من سرته حسنته وساءته سيئتة فذلك المؤمن) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم وصححه ووافقه الذهبي. وقال الترمذي: حسن صحيح غريب.
وورد في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (قلت يا رسول الله: بينما أنا في بيتي في مصلاي إذا دخل عليَّ رجل فأعجبني الحال التي رآني عليها. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: رحمك الله يا أبا هريرة لك أجران أجر السر وأجر العلانية) رواه البغوي في شرح السنة 14/328.
وجاء في رواية أخرى عن أبي هريرة: (أن رجلاً قال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الرجل يعمل العمل ويُسِرُهُ - أي يخفيه - فإذا اطُّلع عليه سَرَّهَ؟ قال: له أجران أجر السر وأجر العلانية) رواه الترمذي وقال: حديث غريب؟ ورواه ابن حبان وصححه ورواه ابن ماجة.
وقال الإمام الترمذي: [وقد فسر بعض أهل العلم هذا الحديث بأن معناه أن يعجبه ثناء الناس عليه بالخير لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (أنتم شهداء الله في الأرض) فيعجبه ثناء الناس عليه لهذا فأما إذا أعجبه ليعلم الناس منه الخير ويكرّم ويعظّم على ذلك فهذا رياء.(4/472)
وقال بعض أهل العلم: إذا اطلع عليه فأعجبه رجاء أن يعمل بعمله فتكون له مثل أجورهم] تحفة الأحوذي 7/50.
وقال ابن حبان: [- قوله إن الرجل يعمل العمل ويُسِرُهُ فإذا اطُّلع عليه سَرَّهَ - فمعناه أنه يُسُرُه أن الله تعالى وفقه لذلك العمل فعسى أن يستن به فيه فإذا كان كذلك كتب له أجران وإذا سره ذلك لتعظيم الناس إياه أو ميلهم إليه كان ضرباً من الرياء لا يكون له أجران ولا أجر واحد] صحيح ابن حبان 2/100.
وروى مسلم في صحيحه عن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - قال: (قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه؟ قال تلك عاجل بشرى المؤمن) .
قال الإمام النووي: [قال العلماء معناه هذه البشرى المعجلة له بالخير وهي دليل على رضاء الله تعالى عنه ومحبته له فيحببه إلى الخلق كما سبق في الحديث ثم يوضع له القبول في الأرض.
هذا كله إذا حمده الناس من غير تعرض منه لحمدهم وإلا فالتعرض مذموم] شرح النووي على صحيح مسلم 6/144.
وخلاصة الأمر أن الأمور المذكورة في السؤال وأن معرفة الناس بها بعد حصولها ليس من الرياء وسرور الإنسان بعمله ليس من الرياء ولكن إن أحب أن يحمده الناس لتعرف مكانته وتقضى حوائجه ولكي يعظموه ويمدحوه فهذا مكروه مذموم.
حكم اقتناء الكلاب في البيوت
يقول السائل: ما حكم تربية الكلاب في البيوت؟(4/473)
الجواب: يجوز اقتناء الكلاب في البيوت لحاجة نافعة ككلاب الصيد والحراسة وكذا الكلاب التي تستعمل في الكشف عن المخدارت ونحوها فيصح اقتناؤها.
وقد ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
(من اقتنى كلباً إلا كلب صيد أو كلب ماشية نقص من عمله كل يوم قيراطان)
رواه مسلم.
وفي رواية أخرى أنه عليه الصلاة والسلام قال: (من اتخذ كلباً إلا كلب زرع أو غنم أو صيد ينقص من أجره كل يوم قيراط) رواه مسلم.
وفي حديث آخر عن السائب بن يزيد أنه سمع سفيان بن أبي زهير وهو رجل من أزد شنؤة - وكان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من اقتنى كلباً لا يغني عنه زرعاً ولا ضرعاً نقص كل يوم من عمله قيراط. قلت: أنت سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: إي ورب هذا المسجد) رواه البخاري ومسلم. وغير ذلك من الأحاديث.
وقد أخذا الفقهاء من هذه الأحاديث أنه لا يجوز اقتناء الكلب إلا لحاجة كالصيد والحرث والحراسة ونحوها من وجوه الانتفاع التي أجازها الشرع الحنيف.
قال الحافظ ابن عبد البر: [وفي معنى هذا الحديث تدخل عندي إباحة اقتناء الكلاب للمنافع كلها ودفع المضار إذا احتاج الإنسان إلى ذلك إلا أنه مكروه اقتناؤها في غير الوجوه المذكورة في هذه الآثار لنقصان أجر مقتنيها والله أعلم.
وقد أجاز مالك وغيره من الفقهاء اقتناء الكلاب للزرع والصيد والماشية ولم يجز
ابن عمر اقتناؤه للزرع ووقف عندما سمعه.
وزيادة من زاد في هذا الحديث: الحرث والزرع مقبولة فلا بأس باقتناء الكلب للزرع والكرم وأنها داخلة في معنى الحرث وكذلك ما كان مثل ذلك كما يقتنى للصيد والماشية وما أشبه ذلك.(4/474)
وإنما كره من ذلك اقتناؤها لغير منفعة وحاجة وكيدة فيكون حينئذ فيه ترويع للناس وامتناع دخول الملائكة في البيت والموضع الذي فيه الكلب فمن هاهنا والله أعلم كره اتخاذها.
وأما اتخاذها للمنافع فما أظن شيئاً من ذلك مكروهاً لأن الناس يستعملون اتخاذها للمنافع ودفع المضرة - قرناً بعد قرن في كل مصر وبادية فيما بلغنا - والله أعلم.
وبالأمصار علماء ينكرون المنكر ويأمرون بالمعروف ويسمع السلطان منهم فما بلغنا عنهم تغيير ذلك إلا عند أذى يحدث من عقر الكلب ونحوه وإن كنت ما أحب لأحد أن يتخذ كلباً ولا يقتنيه إلا لصيد ماشية أو في بادية أو ما يجري مجرى البادية من المواضع المخوف فيها الطرق والسرق فيجوز حينئذ اتخاذ الكلاب فيها للمزارع وغيرها لما يخشى من عادية الوحش وغيره والله اعلم.
وقد سئل هشام بن عروة عن الكلب يتخذ للدار فقال: لا بأس به إذا كانت الدار مخوفة] فتح المالك 10/308.
وأما نقصان العمل المذكور في الأحاديث السابقة بسبب اقتناء الكلاب لغير حاجة فقد اختلف أهل العلم في سبب ذلك النقصان.
قال الإمام النووي: [واختلف العلماء في سبب نقصان الأجر باقتناء الكلب.
فقيل: لامتناع الملائكة من دخول بيته بسببه.
وقيل: لما يلحق المارين من الأذى من ترويع الكلب لهم وقصده إياهم.
وقيل: إن ذلك عقوبة له لاتخاذه ما نهي عن اتخاذه وعصيانه في ذلك.(4/475)
وقيل: لما يبتلى به من ولوغه في غفلة صاحبه ولا يغسله بالماء والتراب. والله أعلم] شرح النووي على صحيح مسلم 4/184.
وقال الحافظ ابن عبد البر: [ووجه قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث من نقصان الأجر محمول عندي والله أعلم على أن المعاني المتعبد بها في الكلاب من غسل الإناء سبعاً إذا ولغت فيه لا يكاد يقام بها ولا يكاد يتحفظ منها لأن متخذها لا يسلم من ولوغها في إنائه ولا يكاد يؤدي حق الله في عبادة الغسلات من ذلك الولوغ فيدخل عليه الإثم والعصيان فيكون ذلك نقصاً في أجره بدخول السيئات عليه وقد يكون ذلك من أجل أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ونحو ذلك.
وقد يكون ذلك بذهاب أجره في إحسانه إلى الكلاب لأن معلوماً أن في الإحسان إلى كل ذي كبد رطبة أجراً لكن الإحسان إلى الكلب ينقص الأجر فيه أو يبلغه ما يلحق مقتنيه ومتخذه من السيئات لترك أدبه لتلك العبادات في التحفظ من ولوغه والتهاون بالغسلات منه ونحو ذلك مثل ترويع المسلم وشبهه والله أعلم بما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قوله ذلك.
روى حماد بن زيد عن واصل مولى أبي عيينة قال: [سأل الرجل الحسن فقال: يا أبا سعيد أرأيت ما ذكر من الكلب أنه ينقص من أجر أهله كل يوم قيراط. قال: يذكر ذلك. فقيل له: مم ذلك يا أبا سعيد؟ قال: لترويعه المسلم] .
وذكر ابن سعدان عن الأصمعي قال: [قال أبو جعفر المنصور لعمرو بن عبيد: ما بلغك في الكلب؟ فقال: بلغني أنه من اقتنى كلباً لغير زرع ولا حراسة نقص من أجره كل يوم قيراط.
قال: ولما ذلك؟ قال: هكذا جاء الحديث. قال: خذها بحقها إنما ذلك لأنه ينبح الضيف ويروع السائل] فتح المالك 10/310.
إذا تقرر هذا فينبغي التحذير من اقتناء الكلاب لغير حاجة والاعتناء بها عناية كبيرة قد تصل إلى أكثر من العناية بالإنسان كما هو الحال في الحضارة(4/476)
الغربية الحديثة التي تهتم بالكلاب أكثر من اهتمامها بالإنسان ففي الوقت الذي يموت فيه الناس جوعاً ومرضاً في مناطق كثيرة من العالم نرى أن الدول الغربية تنفق الملايين على الكلاب وهذا من انحدار الحضارة الغربية وانحطاطها.
وأخيراً يجب التنبيه أنه في حالة اقتناء الكلب لحاجة فيجب أن يعلم أنه نجس فإذا ولغ في إناء فيجب غسل الإناء سبعاً لما ثبت في الحديث من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:
(طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب) رواه مسلم.
كما يجب الإحسان إلى الكلب إذا اقتني لحاجة ولا يجوز إلحاق الأذى والضرر به فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (بينما رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئراً فشرب منها ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال: قد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقي فسقى الكلب. قالوا: يا رسول الله إن لنا في البهائم أجراً؟ قال: في كل كبد رطبة أجر) رواه البخاري ومسلم.
رسم الكاريكاتير
يقول السائل: ما قولكم في الرسم المسمى - الكاريكاتير - وما يتضمنه من إشارات ساخرة واستعمال بعض النصوص الشرعية في الرمز والتعبير فيه؟
الجواب: الرسم الساخر المعروف بالكاريكاتير من الأمور المشهورة في الصحافة بحيث لا تكاد تخلو منه صحيفة أو مجلة ويقدم رسام الكاريكاتير الأحداث والأشخاص بقالب نقدي أو حالة هزلية مضحكة.
وهو وسيلة من وسائل التعبير عن الرأي إن أحسن استخدامه ولكن الواقع والمشاهد في الصحافة المحلية والعربية أن بعض رسامي الكاريكاتير(4/477)
يطلقون العنان لرسوماتهم فنراهم يسخرون من بعض الأمور الدينية ويستهزؤون ببعض الناس وبعضهم قد يرسم النساء في صور لا تقرها الشريعة الإسلامية كما أن بعضهم قد يستخدمون الآيات القرآنية بطريقة تنطوي على السخرية والاستهزاء.
ولا بد من وضع الضوابط لرسم الكاريكاتير وأهمها عندي:
أولاً: لا ينبغي أن يكون المقصد من الكاريكاتير السخرية والتشهير بل لا بد أن يكون المقصد منه هو النقد البناء والإصلاح. فالسخرية بالأشخاص من الأمور الممنوعة شرعاً يقول الله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ ولا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ولا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) سورة الحجرات الآية 11.
وقال تعالى: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) سورة الهمزة الآية 1.
وجاء في الحديث عن أبي هريرة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) رواه مسلم في صحيحه.
ثانياً: لا يجوز أن يمس رسم الكاريكاتير بعقيدة الأمة وتحرم السخرية بأمور الدين وقد تؤدي إلى الكفر والعياذ بالله كالاستهزاء بالصلاة أو باللحية ونحوهما.
قال الله تعالى: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) سورة التوبة الآيتان 65- 66.
ثالثاً: لا يجوز استخدام النصوص الشرعية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في التعليقات الساخرة مع رسم الكاريكاتير لما في ذلك من التلاعب بها وخاصة كلام رب العالمين سبحانه وتعالى الذي يجب احترامه والتأدب معه وصيانته عن كل مالا يليق بل المطلوب من المسلم أن يقرأ كلام الله جل جلاله بتدبر وتفكر. قال تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) سورة القمر الآية 17.(4/478)
رابعاً: ينبغي أن يكون رسم الكاريكاتير متفقاً في عرضه للأحداث والأشخاص مع الأحكام الشرعية والآداب المرعية فلا تستعمل فيه العبارات البذيئة والألفاظ الخسيسة ولا تستعمل فيه رسومات للأشخاص بأشكال وأوضاع لا يقرها الشرع الحنيف. انظر الشريعة الإسلامية والفنون ص 103 -104.
كتاب (الرحمة في الطب والحكمة) فيه دجل وأكاذيب
أحضر لي أحد طلابي كتاباً بعنوان (الرحمة في الطب والحكمة) تأليف جلال الدين السيوطي وقال إنه قرأ فيه أموراً غريبة عجيبة، وطلب مني أن أبين رأيي في هذا الكتاب.
الجواب: هذا الكتاب المنسوب للعلامة جلال الدين السيوطي كتاب مكذوب عليه ونسبته إلى السيوطي باطلة فهو من الكتب المنحولة حيث إن السيوطي لم يورده في ثبت كتبه ولا في (التحدث بنعمة الله) .
والسيوطي عالم جليل يصان عن مثل ما في هذا الكتاب من أباطيل وترهات وخزعبلات كما سأذكر أمثلة منها بعد قليل.
وقد نسبه صاحب كتاب (كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون) لمهدي بن علي بن إبراهيم الصبنري اليمني المهجمي المتوفى سنة 815 هجرية.
قال ابن الجزري في ترجمته [. وطبيب حاذق وهو مؤلف كتاب الرحمة في الطب والحكمة] . انظر كتب حذر منها العلماء 2/330.
وهذا الكتاب مملوء بالدجل والخرافات والترهات والخزعبلات والأمور الساقطة التي لا يقرها شرع ولا عقل، وفيه وصفات لعلاج كثير من الأمراض التي لا يقول بها إلا جاهل أو دجال أو مخرف.
وقد تصفحت الكتاب ورأيت فيه العجب العجاب وطلاسم وكلمات(4/479)
غير مفهومات فمنها ما جاء في ص32 [علاج وجع الرأس تكتب هذه الأحرف م ح أك ك ح ع ح أم ألصداع الرأس قال الرقيشي: من كتب في رق ظبي خشن عشرين دالاً كاملة وأضاف إليها ثلاث ياآت. الخ.
لوجع الرأس تكتب البسملة. وبحرمة أنوش فريوش بربوش أنوش أحياش ترش تربوش. الخ هذه الطلاسم.
وجاء في ص99 من الكتاب [في علاج الطحال بالكتابة. وهذا ما تكتب ح أب فاح ناخ وديوح ع هرخ ماع ويروج وحاميا وطايرا ووع ع ع محا حا وسلوهم ليكطاع لح دلي أجيبوا يا خدام هذه الأسماء برفع الطحال عن هذا الآدمي بحق هذه الأحرف] إلى آخر هذا الدجل والخزعبلات.
وخلاصة الأمر أن هذا الكتاب كتاب دجل وخرافة وأباطيل فلا يجوز اقتناؤه ولا القراءة فيه لما فيه من الأباطيل وينبغي إتلافه.
ولا يصح الاعتماد على الوصفات الواردة فيه لعلاج الأمراض وإنما ينبغي مراجعة الأطباء أهل الاختصاص لتشخيص الداء ومن ثم وصف الدواء.
والله الهادي إلى سواء السبيل
تمَّ الكتاب بحمد الله تعالى(4/480)
[الجزء الخامس]
الطهارة
المسح على الجوربين ثابت شرعاً
يقول السائل: إنه سأل إمام المسجد عن المسح على الجوربين عند الوضوء فأجابه بأنه لا يجوز المسح على الجوارب التي اعتاد الناس لبسها ولا بد من غسل الرجلين، فما قولكم في ذلك؟
الجواب: بعض الناس يحجرون واسعاً على الأمة ويشددون عليهم ويظنون أن في هذا التشدد التزاماً تاماً بالدين.
يقول الدكتور يوسف القرضاوي: [إن جمهور الناس في عصرنا أحوج ما يكونون إلى التيسير والرفق رعايةً لظروفهم وما غلب على أكثرهم من رقة الدين وضعف اليقين وما ابتلوا به من كثرة المغريات بالإثم والمعوقات عن الخير ولهذا كان على أهل الفقه والدعوة أن ييسروا عليهم في مسائل الفروع على حين لا يتساهلون في قضايا الأصول ومن كان يعمل بالأحوط فهذا حسن إذا كان ذلك لنفسه ولأولي العزم من المؤمنين أما من كان يفتي الناس عامة أو يكتب للجماهير كافة فينبغي أن يكون شعاره التيسير لا التعسير والتبشير لا التنفير اتباعاً لوصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن فقال: (يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا) وقال: (إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) .
وهذا يجعل الفقيه يستحضر الرخص فإن الله يحب أن تؤتى رخصه(5/7)
ويقدر الأعذار والضرورات ويبحث عن التيسير ورفع الحرج والتخفيف عن العامة (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) ... ويسرني أن أذكر هنا كلمة لإمام كبير انعقدت له الإمامة في ثلاثة مجالات في الفقه حيث كان له مذهب وأتباع لمدة من الزمن ثم انقرضوا، وفي الحديث والرواية، حيث كان يسمى أمير المؤمنين في الحديث وفي الورع والزهد حيث عد من أئمة التقوى وأعني به الإمام سفيان بن سعيد الثوري فقد روى عنه الإمام النووي في مقدمات المجموع هذه الكلمة المضيئة: إنما الفقه الرخصة من ثقة أما التشديد فيحسنه كل أحد!!] بيع المرابحة للآمر بالشراء ص 22-23.
ومسألة المسح على الجوربين فيها تيسير وتسهيل على الناس وخاصة في أيام الشتاء الباردة حيث إن كثيراً من الناس وخاصة كبار السن يجدون صعوبة في غسل أرجلهم عند كل وضوء فيمسحون على جواربهم ولا حرج في ذلك إن شاء الله تعالى، والمسح على الجوربين ثابت بالسنة وبه عمل الصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون ولا ينكره إلا جاهل لم يشم رائحة العلم الشرعي.
وهذه بعض الأدلة والشواهد الشرعية على جواز المسح على الجوربين:
1. قال أبو داود صاحب السنن باب المسح على الجوربين ثم روى بإسناده عن المغيرة بن شعبة- رضي الله عنه -: (أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح على الجوربين والنعلين) رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح. ورواه ابن ماجة وابن حبان والبيهقي وابن خزيمة وابن أبي شيبة وغيرهم وصححه ابن حبان.
قال العلامة أحمد محمد شاكر: [والحديث صحيح وإسناده كلهم ثقات] مقدمة رسالة المسح على الجوربين للقاسمي ص 7، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/33.
2. وعن ثوبان - رضي الله عنه - قال: (بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية(5/8)
فأصابهم البرد فلما قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - شكوا إليه ما أصابهم من البرد فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين) رواه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الشيخ الألباني والشيخ شعيب الأرناؤوط، وقال الشيخ أحمد محمد شاكر: [حديث متصل صحيح الإسناد] مقدمة رسالة المسح على الجوربين ص 6. وانظر صحيح ابن حبان 4/167، صحيح سنن أبي داود 1/30.
3. وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن رسول - صلى الله عليه وسلم -: (توضأ ومسح على الجوربين والنعلين) رواه ابن ماجة والطحاوي وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 1/91.
وقد ثبت المسح على الجوربين عن جماعة كبيرة من الصحابة رضي الله عنهم، قال الإمام النووي: [وحكى ابن المنذر إباحة المسح على الجوربين عن تسعة من الصحابة علي وابن مسعود وابن عمر وأنس وعمار بن ياسر وبلال والبراء وأبي أمامة وسهل بن سعد] المجموع 1/499.
وقال العلامة ابن القيم: [قال ابن المنذر روي المسح على الجوربين عن تسعة من أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم - علي وعمار وأبي مسعود الأنصاري وأنس وابن عمر والبراء وبلال وعبد الله ابن أبي أوفى وسهل بن سعد. وزاد أبو داود - صاحب السنن - أبو أمامة وعمرو بن حريث وعمر وابن عباس فهؤلاء ثلاثة عشر صحابياً والعمدة في الجواز على هؤلاء رضي الله عنهم ... وقد نص أحمد على جواز المسح على الجوربين وعلل رواية أبي قيس. وهذا من إنصافه وعدله رحمه الله وإنما عمدته هؤلاء الصحابة وصريح القياس فإنه لا يظهر بين الجوربين والخفين فرق مؤثر يصح أن يحال الحكم عليه ... ولا نعرف في الصحابة مخالفاً لمن سمينا] تهذيب سنن أبي داود 1/187-189.
ومن الروايات المنقولة عن الصحابة في المسح على الجوربين:
1. ما رواه الدولابي في الكنى والأسماء من طريق أحمد بن شعيب عن عمرو بن علي أخبرني سهل بن زياد أبو زياد الطحان حدثنا الأزرق بن(5/9)
قيس قال: [رأيت أنس بن مالك أحدث فغسل وجهه ويديه ومسح على جوربين من صوف، فقلت: أتمسح عليهما فقال: إنهما خفان ولكن من صوف] .
قال العلامة أحمد شاكر: [وهذا إسناد صحيح ... وهذا الحديث موقوف على أنس من فعله وقوله ولكن وجه الحجة فيه أنه لم يكتف بالفعل بل صرح بأن الجوربين خفان ولكنهما من صوف) مقدمة رسالة المسح على الجوربين ص13.
2. روى عبد الرزاق بإسناده عن كعب بن عبد الله قال: [رأيت علياً بال فمسح على جوربيه ونعليه ثم قام يصلي] مصنف عبد الرزاق 1/199، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه 1/188.
3. وروى عبد الرزاق بإسناده عن خالد بن سعد قال: [كان أبو مسعود الأنصاري يمسح على جوربين له من شعر ونعليه] مصنف عبد الرزاق 1/199، ورواه ابن أبي شيبة في المصنف 1/188.
4. وروى عبد الرزاق بإسناده عن ابن عمر أنه كان يمسح على جوربيه ونعليه. مصنف عبد الرزاق 1/199.
5. وروى عبد الرزاق عن أبي مسعود أنه كان يمسح على الجوربين والنعلين. مصنف عبد الرزاق 1/200.
6. وروى عبد الرزاق بإسناده عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه قال: [رأيت البراء بن عازب يمسح على جوربيه ونعليه] مصنف عبد الرزاق 1/200، ورواه أبن أبي شيبة في مصنفه 1/189.
7. وروى عبد الرزاق بإسناده عن يحيى البكاء قال: سمعت ابن عمر يقول: المسح على الجوربين كالمسح على الخفين. مصنف عبد الرزاق 1/201.
8. وروى ابن أبي شيبة بإسناده أن عمر توضأ يوم جمعة ومسح على جوربيه ونعليه. مصنف ابن أبي شيبة 1/188.(5/10)
9. وروى عبد الرزاق وابن أبي شيبة بإسناديهما عن أنس بن مالك: [أنه كان يمسح على الجوربين قال: نعم، يمسح عليهما مثل الخفين] مصنف عبد الرزاق 1/200، مصنف ابن أبي شيبة 1/188.
10. وورى ابن أبي شيبة بإسناده عن أبي غالب قال: رأيت أبا أمامة يمسح على الجوربين. مصنف ابن أبي شيبة 1/188.
وهنالك روايات أخرى كثيرة في المصنفين المذكورين والمحلى 1/323 راجعها إن شئت.
وقد قال بالمسح على الجوربين كبار الفقهاء من التابعين والأئمة المجتهدين وغيرهم كسعيد بن المسيب وعطاء والحسن وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والأعمش والثوري والحسن بن صالح وعبد الله بن المبارك وإسحاق وأبي ثور وهو قول الإمام أحمد وأهل الظاهر وأبي يوسف ومحمد وزفر أصحاب أبي حنيفة، ورجع إليه أبو حنيفة في آخر أيامه وهو قول الإمام الشافعي بشروط، ومالك في أحد القولين عنه كما في الاستذكار لابن عبد البر 2/253..
وقد ذكر الإمام الكاساني: [أن أبا حنيفة كان يقول بعدم جواز المسح على الجوربين وكان أبو يوسف ومحمد يخالفانه في ذلك ويريان جواز المسح وأن الإمام رجع عن قوله إلى قولهما في آخر عمره وذلك أنه مسح على جوربيه في مرضه ثم قال لعواده: فعلت ما كنت أمنع الناس عنه، فاستدلوا به على رجوعه] بدائع الصنائع 1/83.
والقول بالمسح على الجوربين هو الذي عليه الفتوى عند الحنفية كما ذكره صاحب الهداية وشارحها ابن الهمام شرح فتح القدير1/139.
وأما ما ذكره بعض الفقهاء من شروط للجوربين الذين يمسح عليهما بأن يكونا منعلين أو مجلدين أو ثخينين وغير ذلك من الشروط فلم يقم دليل صحيح على اعتبار هذه الشروط ولم يرد دليل على تقييد الجوربين بهذه الشروط.
قال ابن حزم: [اشتراط التجليد خطأ لا معنى له لأنه لم يأت به قرآن ولا سنة ولا قياس صاحب. والمنع من المسح على الجوربين خطأ لأنه خلاف السنة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلاف الآثار ولم يخص عليه الصلاة والسلام في الأخبار التي ذكرنا خفين من غيرهما] المحلى 1/324.(5/11)
وعقب الشيخ القاسمي على كلام ابن حزم المذكور بقوله: [يؤيده أن كل المروي في المسح على الجوربين مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس فيه قيد ولا شرط ولا يفهم ذلك لا من منطوقه ولا من مفهومه ولا من إشارته وجلي أن النصوص تحمل على عمومها إلى ورود مخصص وعلى إطلاقها حتى يأتي ما يقيدها ولم يأت هنا مخصص ولا مقيد لا في حديث ولا أثر. هذا أولاً وثانياً قدمنا أن الإمام أبا داود روى في سننه عن عدة من الصحابة المسح على الجوربين مطلقاً غير مقيد كما قدمناه وهكذا كل من نقل عن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين المسح على الجوربين لم يروه بقيد ولا شرط مما يدل على أن تقييده لم يكن معروفاً في عصورهم التي هي خير القرون، وثالثاً الجورب بين بنفسه في اللغة والعرف كما نقلنا معناه عن أئمة اللغة والفقه ولم يشرط أحد في مفهومه ومسماه نعلاً ولا ثخانة وإذا كان موضوعه في الفقه واللغة مطلقاً فيصدق بالجورب الرقيق والغليظ والمنعل وغيره] رسالة المسح على الجوربين 70 - 71.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [نعم يجوز المسح على الجوربين إذا كان يمشي فيهما سواء أكانت مجلدة أو لم تكن في أصح قولي العلماء ففي السنن: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على جوربيه ونعليه وهذا الحديث إذا لم يثبت فالقياس يقتضي ذلك فإن الفرق بين الجوربين والنعلين إنما هو كون هذا من صوف وهذا من جلود ومعلوم أن مثل هذا الفرق غير مؤثر في الشريعة فلا فرق بين أن يكون جلوداً أو قطناً أو كتاناً أو صوفاً كما لم يفرق بين سواد اللباس في الإحرام وبياضه ومحظوره ومباحه وغايته أن الجلد أبقى من الصوف فهذا لا تأثير له كما لا تأثير لكون الجلد قوياً بل يجوز المسح على ما يبقى وما لا يبقى. وأيضاً فمن المعلوم أن الحاجة إلى المسح على هذا كالحاجة إلى المسح على هذا سواء. ومع التساوي في الحكمة والحاجة يكون التفريق بينهما تفريقاً بين المتماثلين، وهذا خلاف العدل والاعتبار الصحيح الذي جاء به الكتاب والسنة، وما أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله.
ومن فرق بكون هذا ينفذ الماء منه وهذا لا ينفذ منه: فقد ذكر فرقاً طردياً عديم التأثير] مجموع الفتاوى 21/214.(5/12)
وسئل الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين عما اشترطه بعض العلماء من كون الجورب والخف ساترين لمحل الفرض فأجاب بقوله: [هذا الشرط ليس بصحيح لأنه لا دليل عليه فإن اسم الخف أو الجورب ما دام باقياً فإنه يجوز المسح عليه لأن السنة جاءت بالمسح على الخف على وجه مطلق وما أطلقه الشارع فإنه ليس لأحد أن يقيده إلا إذا كان لديه نص من الشارع أو إجماع أو قياس صحيح وبناءً على ذلك فإنه يجوز المسح على الخف المخرق ويجوز المسح على الخف الخفيف لأن كثيراً من الصحابة كانوا فقراء وغالب الفقراء لا تخلو خفافهم من خروق فإذا كان هذا غالباً أو كثيراً في قوم في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم ينبه عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - دل ذلك على أنه ليس بشرط، ولأنه ليس المقصود من الخف ستر البشرة، وإنما المقصود من الخف أن يكون مدفئاً للرجل ونافعاً لها، وإنما أجيز المسح على الخف لأن نزعه يشق وهذا لا فرق فيه بين الجورب الخفيف والجورب الثقيل ولا بين الجورب المخرق والجورب السليم والمهم أنه ما دام اسم الخف باقياً فإن المسح عليه جائز لما سبق من الدليل] مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين ص 165-166.
وخلاصة الأمر أن المسح على الجوربين جائز ولا حرج فيه أبداً، وأقول للقراء امسحوا على جواربكم مطمئنين.
حكم عدم انتظام الحيض
تقول السائلة: عند اقتراب المرأة من سن اليأس يختل انتظام العادة الشهرية فتزداد الأيام التي ينزل فيها الدم وقد تستمر إلى عشرين يوماً بل وأكثر وتكون الأيام التي لا ينزل فيها الدم قليلة فكيف تصلي المرأة وتصوم في هذه الحال؟
الجواب: قال الله سبحانه وتعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) سورة البقرة الآية 222.(5/13)
فهذه الآية الكريمة ذكرت أن نهاية المنع من قربان الحائض هو الطهر وبالتالي ما دام أن هذا الدم الذي تراه المرأة هو دم حيض فهي حائض وإن زادت أيامه فلا تصلي ولا تصوم حتى تتطهر فإن الراجح من أقوال أهل العلم أن الحيض لا حد لأكثره ولا حد لأقله لأن علة الحكم المذكور في الآية السابقة هي الحيض وجوداً وعدماً فمتى وجد الحيض ثبت الحكم الشرعي ومتى عدم الحيض أي طهرت زال الحكم وانتفى.
وقد اختار طائفة من أهل العلم هذا القول ورجحوه لأن الحيض أمر طبيعي خلقه الله في النساء ويختلف من امرأة إلى أخرى وللبيئة أثر في اختلاف عادات النساء.
ومما يدل على ذلك ما ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:
(قدمت مكة وأنا حائض ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة. قالت: فشكوت ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إفعلي كما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري) رواه البخاري. فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن غاية المنع من الطواف الطهر أي انقطاع الحيض.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: [فصل جامع نافع: الأسماء التي علق الله بها الأحكام في الكتاب والسنة منها ما يعرف حده ومسماه بالشرع فقد بينه الله ورسوله كاسم الصلاة والزكاة والصيام والحج ... ومنه ما يرجع حده إلى عادة الناس وعرفهم فيتنوع بحسب عادتهم ... ومن ذلك اسم الحيض علق الله به أحكاماً متعددة في الكتاب والسنة ولم يقدر لا أقله ولا أكثره ولا الطهر بين الحيضتين مع عموم بلوى الأمة بذلك واحتياجهم إليه واللغة لا تفرق بين قدر وقدر فمن قدر في ذلك حداً فقد خالف الكتاب والسنة والعلماء منهم من يحد أكثره وأقله ثم يختلفون في التحديد ومنهم من يحد أكثره دون أقله والقول الثالث أصح: أنه لا حد لأقله ولا لأكثره بل ما رأته المرأة عادة مستمرة فهو حيض وإن قدر أنه أقل من يوم استمر بها على ذلك فهو حيض وإن قدر أن أكثره سبعة عشر استمر بها على(5/14)
ذلك فهو حيض وأما إذا استمر الدم بها دائماً فهذا قد علم أنه ليس بحيض لأنه قد علم من الشرع واللغة أن المرأة تارة تكون طاهراً وتارة تكون حائضاً ولطهرها أحكام ولحيضها أحكام] .
ثم قال شيخ الإسلام: [والأصل في كل ما يخرج من الرحم أنه حيض حتى يقوم دليل على أنه استحاضة لأن ذلك هو الدم الأصلي الجبلي وهو دم ترخية الرحم ودم الفساد دم عرق ينفجر وذلك كالمرض والأصل الصحة لا المرض فمتى رأت المرأة الدم جارياً من رحمها فهو حيض تترك لأجله الصلاة ... ] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 19/235-238.
وبناءً على كل ما سبق فإن هذه المرأة تترك الصلاة والصوم ولا يأتيها زوجها ما دام أن الدم الذي ينزل عليها دم حيض وإن تجاوز مدة العادة الشهرية، وأما إن اختلف الدم كأن يكون دم فساد وعلة - أي نزيف - فهو استحاضة لما ثبت في الحديث أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يا رسول الله إني لا أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: إنما ذلك عرق وليس بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي) رواه البخاري.
ففي هذا الحديث أن المرأة إذا ميزت دم الحيض من دم الاستحاضة تعتبر دم الحيض فإذا انقضى قدر دم الحيض اغتسلت منه وصلت وتتوضأ لوقت كل صلاة. فتح الباري 1/425.(5/15)
الصلاة(5/17)
مسألة الفتح على الإمام في الصلاة
يقول السائل: أرجو توضيح مسألة الفتح على الإمام في الصلاة لأننا نرى كثيراً من المصلين يفتحون على الإمام مما يؤدي إلى حصول تشويش في الصلاة؟
الجواب: الفتح على الإمام في الصلاة معناه إرشاد الإمام إلى الصواب في القراءة أو هو تلقين المأموم الإمام الآية عند التوقف فيها.
والفتح على الإمام مشروع عند جمهور أهل العلم وحكاه ابن المنذر عن عثمان وعلي وابن عمر من الصحابة وحكاه أيضاً عن جماعة من التابعين كعطاء والحسن ومحمد بن سيرين وهو قول الأئمة الأربعة. انظر المجموع 4/240، المغني 2/42.
ومما يدل على مشروعية الفتح على الإمام ما ورد في الحديث عن مسور بن يزيد المالكي قال: (صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فترك آية فقال له رجل: يا رسول الله آية كذا وكذا. قال: فهلا ذكرتنيها) رواه أبو داود وقال الإمام النووي: إسناده جيد. المجموع 4/241.
وقال الشيخ الألباني: حديث حسن. صحيح سنن أبي داود 1/171.
وعن عبد الله بن عمر: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة فقرأ فيها فلبس عليه(5/19)
فلما انصرف قال لأبيّ بن كعب: أصليت معنا؟ قال: نعم. فقال: فما منعك؟) أي ما منعك أن تذكرنيها. رواه أبو داود، وقال الإمام النووي: رواه أبو داود بإسناد صحيح كامل الصحة وهو حديث صحيح. المجموع 4/241. وصححه أيضاً الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/171.
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: (كنا نفتح على الأئمة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وعن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه - قال: (إذا استطعمك الإمام فأطعمه) رواه البيهقي والحاكم وصححه الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 1/284. فهذه الأحاديث والآثار تدل على مشروعية الفتح على الإمام في الجملة.
ولكن ينبغي بيان بعض الأمور المتعلقة بالفتح على الإمام:
1. لا ينبغي للمأموم أن يبادر بالفتح على الإمام ما دام الإمام يتردد في القراءة فلعل الإمام يصلح قراءته وإنما إذا سكت الإمام فتح عليه المأموم.
2. يكره للإمام أن يُلجىء المأمومين للفتح عليه فإذا كان الإمام قد قرأ ما تصح به الصلاة - آية طويلة أو ثلاث آيات قصار - فإنه يركع أو ينتقل إلى آية أخرى ولا يُلجىء المصلين للفتح عليه.
3. لا ينبغي للمأمومين في الصفوف المتأخرة والبعيدة عن الإمام أن يفتحوا على الإمام بل يتركون ذلك للمأمومين الذين يقفون خلف الإمام لأن الإمام في الغالب لا يسمع صوت من كان في آخر المسجد.
4. لا ينبغي أن يفتح على الإمام إلا من كان حافظاً للآيات التي وقف فيها الإمام حتى لا يلقن الإمام خطأ ولما في ذلك من التشويش على المصلين.
5. ينبغي أن يفتح على الإمام شخص واحد فقط لا أن يفتح عليه جماعة من المصلين(5/20)
6. إذا فتحت المرأة على الإمام فلا بأس بذلك إن كانت الجماعة جماعة نساء،
وإن كانت الجماعة جماعة رجال فالأولى أن لا تفتح المرأة على الإمام اللهم إلا إذا ألجأها إليه ولم يفتح عليه أحد من الرجال فيجوز ولا تفسد به صلاتها. انظر إعلاء السنن 3/59.
7. ويجوز لغير المصلي أن يفتح على المصلي. قال الشيخ ابن قدامة: [ولا بأس أن يفتح على المصلي من ليس معه في الصلاة وقد روى النجاد بإسناده قال: كنت قاعداً بمكة فإذا رجل عند المقام يصلي وإذا رجل قاعد خلفه يلقنه فإذا هو عثمان - رضي الله عنه -] المغني 2/45.
قضاء صلاة الصبح
يقول السائل: قد فاتته صلاة الصبح لنومه عنها ثم لما استيقظ صلاها فهل يعتبر مؤدياً لها في وقتها؟
الجواب: الأصل في المسلم أن يحافظ على أداء الصلوات في أوقاتها لقوله تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) أي مؤقتاً.
وإن من أفضل الأعمال أداء الصلاة في وقتها المقدّر لها شرعاً فقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أي العمل أفضل؟ فقال: الصلاة على وقتها) رواه البخاري ومسلم.
ولكن قد ينام المسلم عن الصلاة أو ينساها فالواجب عليه أن يصلي الصلاة الفائتة إذا استيقظ من نومه أو تذكر فقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قفل من غزوة خيبر سار ليله حتى إذا أدركه الكرى عرَّس - التعريس نزول المسافر آخر الليل للنوم - وقال لبلال: إكلأ لنا الليل فصلى بلال ما قدر له ونام رسول الله وأصحابه(5/21)
فلما تقارب الفجر استند بلال إلى راحلته مواجه الفجر فغلبت بلالاً عيناه وهو مستند إلى راحلته فلم يستيقظ رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ولا بلال ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولهم استيقاظاً ففزع رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فقال: أي بلال فقال بلال: أخذ بنفسي الذي أخذ بأبي أنت وأمي يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسك. قال: اقتادوا، فاقتادوا رواحلهم شيئاً ثم توضأ رسول الله وأمر بلالاً فأقام الصلاة فصلى بهم الصبح فلما قضى الصلاة قال: من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها فإن الله قال: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)) رواه مسلم.
وعن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من نسي صلاة فليصل إذا ذكر لا كفارة لها إلا ذاك) رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية أخرى أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها) رواه مسلم.
وفي رواية ثالثة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها فإن الله يقول: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)) رواه مسلم.
وهذه الأحاديث تدل على وجوب قضاء الصلاة الفائتة بمجرد أن يتذكر الناسي أو يستيقظ النائم.
وكثير من الفقهاء يرون أن قضاء الفائتة واجب على الفور أي أن الناسي إذا تذكر والنائم إذا استيقظ وجب عليهما قضاء ما فات ولا يجوز لهما تأخير ذلك.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: (لا كفارة لها إلا ذاك) قال الخطابي: [يحتمل وجهين أحدهما: أنه لا يكفرها غير قضائها والآخر أنه لا يلزمه في نسيانها غرامة ولا زيادة تضعيف ولا كفارة من صدقة ونحوها كما تلزم في ترك الصوم من رمضان من غير عذر الكفارة وكما تلزم المحرم إذا ترك شيئاً من نسكه فدية من دم أو إطعام إنما يصلي ما ترك سواء وليس هذا على العموم حتى يلزمه إن كان في صلاة أن يقطعها ولكن معناه: أن لا يغفل أمرها ويشتغل بغيرها فإن في حديث أبي قتادة أنهم لما ناموا عن صلاة الفجر ثم(5/22)
انتبهوا بعد طلوع الشمس أمرهم النبي- صلى الله عليه وسلم - أن يقودوا رواحلهم ثم صلاها] شرح السنة 2/244.
وأما قول هذا المصلي الذي فاتته الصلاة فصلاها بعدما استيقظ من نومه فهل يوصف فعله بالأداء أم القضاء فالذي عليه الأصوليون أن الأداء هو فعل الواجب في وقته المقيد به شرعاً والقضاء هو فعل الواجب خارج وقته المقيد به شرعاً. انظر تيسير التحرير 2/198.
فإذا نظرنا في صلاة هذا النائم وقد صلاها خارج وقتها أي بعد طلوع الشمس فإنه يكون قاضياً لها لا مؤدياً بناءً على هذا الاصطلاح ويؤيد ذلك ما ورد في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) رواه البخاري ومسلم.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن صلاة النائم والناسي خارج الوقت تعتبر أداءً لما ورد في بعض روايات حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من نسي صلاة فوقتها إذا ذكرها) .
فهذا الحديث رواه البيهقي والدارقطني والطبراني وقد ضعفه البخاري والبيهقي والهيثمي وغيرهم.
قال البيهقي بعد أن ذكر رواية أبي هريرة السابقة: [كذا رواه حفص بن عمر بن أبي العطاف عنه عن أبي الزناد عن القعقاع بن حكيم أو عن الأعرج عن أبي هريرة - رضي الله عنه - وهو منكر الحديث. قال البخاري وغيره: الصحيح عن أبي هريرة وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ذكرنا ليس فيه: (فوقتها إذا ذكرها) ] سنن البيهقي 2/219.
وقال الهيثمي: [وعن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من نسي صلاة فوقتها إذا ذكرها) رواه الطبراني في الأوسط وفيه حفص بن عمر بن أبي العطاف وهو ضعيف جداً] مجمع الزوائد 1/322.
وضعفه الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 1/155. وكذا ضعفه صاحب التعليق المغني على سنن الدارقطني 1/433.(5/23)
وأما ما قاله الإمام الشوكاني: [واعلم أن الصلاة المتروكة في وقتها لعذر النوم والنسيان لا يكون فعلها بعد خروج وقتها المقدر لها لهذا العذر قضاء وإن لزم ذلك باصطلاح الأصول لكن الظاهر من الأدلة أنها أداء لا قضاء فالواجب الوقوف عند مقتضى الأدلة حتى ينتهض دليل يدل على القضاء] نيل الأوطار 2/30.
فهو أخذ منه بظاهر النصوص ولكن ورد في نصوص أخرى ما يوافق ما عليه أهل الأصول أن ذلك يعتبر قضاءً لا أداء وسواء قلنا إن الفعل في هذه الحالة يوصف بالأداء أو القضاء فلا يترتب عليه كبير أثر وإنما الواجب هو أن يصلي المصلي تلك الصلاة بمجرد انتباهه من نومه أو تذكره.
ويجب أن يعلم أنه يجب الترتيب في قضاء الصلوات الفوائت كما هو مذهب جمهور الفقهاء ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: (جاء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق فجعل يسب كفار قريش ويقول: يا رسول الله: والله ما صليت صلاة العصر حتى كادت أن تغيب - أي الشمس - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: وأنا والله ما صليتها بعد. قال فنزل إلى بُطحان - وهو واد بالمدينة - فتوضأ وصلى العصر بعد ما غابت الشمس ثم صلى المغرب بعدها) رواه البخاري ومسلم.
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: (أن المشركين شغلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق عن أربع صلوات حتى ذهب من الليل ما شاء الله قال فأمر بلالاً فأذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ثم أقام فصلى المغرب ثم أقام فصلى العشاء) رواه الترمذي والنسائي ومالك وسنده جيد. الفتح الرباني 2/33.
وكذلك فينبغي التنبيه على أن الصلوات التي تقضى هي الصلوات الخمس باتفاق الفقهاء لما سبق من الأدلة، وتقضى السنن الرواتب عند كثير من الفقهاء فقد ثبت في الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - لما فاتته صلاة الفجر صلى سنتها قبلها. رواه مسلم.(5/24)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من لم يصل ركعتي الفجر فليصلها بعدما تطلع الشمس) رواه الترمذي والبيهقي والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين. وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/133.
وقال أكثر أهل العلم إن صلاة الوتر إذا فاتت تقضى فقد ورد في الحديث عنى أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من نام عن الوتر أو نسيه فليوتر إذا ذكره أو استيقظ) رواه أبو داود والترمذي وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/145.
الأوقات المنهي عن الصلاة فيها
يقول السائل: ما هي الأوقات المنهي عن الصلاة فيها وهل يجوز قضاء الفوائت فيها وصلاة تحية المسجد والاستخارة وكيف نستطيع معرفتها عن طريق الساعة؟
الجواب: وردت أحاديث كثيرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها وقد فصل الفقهاء الكلام عليها وذكروا الأحكام المتعلقة بها وأوجزها فيما يلي:
عن عقبة بن عامر الجهني - رضي الله عنه - قال: (ثلاث ساعات كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نصلي فيهن أو نقبر فيهن موتانا حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب) رواه مسلم. ففي هذا الحديث ثلاثة أوقات منهي عن الصلاة فيها:
الأول: عند شروق الشمس.
الثاني: عند استواء الشمس.
الثالث: عندما تميل الشمس للغروب.(5/25)
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس ولا صلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس) رواه مسلم. وهذا الحديث اشتمل على وقتين نهي عن الصلاة فيهما وهما:
الرابع: بعد صلاة فريضة العصر.
الخامس: بعد صلاة فريضة الفجر.
فهذه الأوقات الخمسة لا يصح أن يتنفل فيها ولكن يجوز فيها قضاء الصلوات الفائتة لما ثبت في الحديث عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك) رواه البخاري ومسلم.
فهذا الحديث وما في معناه مخصص لعموم النهي السابق.
فمثلاً إذا استيقظ شخص وكادت الشمس أن تشرق فإنه يصلي الفجر وكذا إذا نام واستيقظ وقت الغروب فإنه يصلي العصر كما ويجوز أن يصلي في أوقات النهي تحية المسجد لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين) رواه البخاري ومسلم.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا صلاة بعد الفجر إلا سجدتين) رواه الترمذي وقال: ومعنى هذا الحديث إنما يقول: لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر.
وقال الترمذي: [وهو ما اجتمع عليه أهل العلم: كرهوا أن يصلي الرجل بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر] سنن الترمذي مع شرحه عارضة الأحوذي 2/179-180.
وقال الشيخ الألباني: حديث صحيح. إرواء الغليل 2/232.
وحديث ابن عمر متضمن النهي عن الصلاة في هذا الوقت وهو السادس وهو ما بين أذان الفجر وإقامة الصلاة للفجر فيكره التنفل في هذا الوقت ويستثنى من ذلك صلاة سنة الفجر وكذا تحية المسجد للداخل إلى المسجد.(5/26)
ويؤيد ذلك ما جاء في الحديث عن حفصة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتين خفيفتين) رواه البخاري ومسلم.
وأما الوقت السابع من الأوقات المنهي عن الصلاة فيها فهو ما ورد في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) رواه مسلم والترمذي وقال: [والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم إذا أقيمت الصلاة أن لا يصلي الرجل إلا الصلاة المكتوبة وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق] سنن الترمذي مع شرحه عارضة الأحوذي 2/182.
فإذا أقيمت الصلاة فلا ينبغي لأحد أن يشتغل بنافلة ولو كانت سنة الفجر وإنما عليه أن يدخل في صلاة الجماعة.
وأما الوقت الثامن من الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها فهو قبل صلاة العيدين فقد ورد في الحديث عن ابن عباس - رضي الله عنه -: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يوم عيد فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما) رواه البخاري ومسلم.
وأما الوقت التاسع من الأوقات المنهي عن الصلاة فيها فهو عند صعود خطيب الجمعة إلى المنبر إلى أن ينهي خطبته لما ثبت في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت) رواه البخاري.
ويستثنى من ذلك تحية المسجد لمن دخل المسجد والخطيب يخطب فإنه يصلي ركعتي التحية ويخففهما.
لما ورد في الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (دخل رجل يوم الجمعة المسجد والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب. فقال له: أصليت ركعتين؟ قال: لا. قال: فصل ركعتين) رواه البخاري ومسلم.(5/27)
وجاء في رواية أخرى عن جابر - رضي الله عنه - قال: (جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب فجلس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا جاء أحدكم الجمعة والإمام يخطب فليصل ركعتين خفيفتين ثم يجلس) رواه مسلم.
وأوقات النهي يمكن معرفتها بالتوقيت فإذا كان لدى الشخص توقيت للصلوات فإنه يبين فيه أوقات شروق الشمس وغروبها وغير ذلك وأما بالنسبة للنهي عن الصلاة بعد الفجر وبعد العصر فإن النهي مرتبط بفعل الصلاة لا بالوقت فإذا صلى شخص العصر في أول وقتها فإنه يكون منهياً عن الصلاة بعدها.
وإذا لم يصل العصر إلا بعد دخول الوقت بنصف ساعة مثلاً فإنه يجوز له أن يتنفل حتى يصلي العصر فإذا صلى العصر فلا نافلة ويدل على ذلك ما جاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس ولا صلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس) رواه مسلم.
ما الذي يقطع الصلاة؟
يقول السائل: إنه سمع حديثاً عن النبي- صلى الله عليه وسلم - فيه أن الصلاة يقطعها مرور المرأة والحمار والكلب فهل هذا الحديث وارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولماذا تقطع المرأة الصلاة؟
الجواب: إن الحديث الذي ذكره السائل حديث صحيح رواه الإمام مسلم في صحيحه بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب ويقي ذلك مثل مؤخرة الرحل) صحيح مسلم بشرح النووي 3/169.
وروى مسلم أيضاً بإسناده عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال:(5/28)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل فإذا لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود قلت: يا أبا ذر ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر، قال: يا ابن أخي سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما سألتني فقال: الكلب الأسود شيطان) صحيح مسلم بشرح النووي 3/169. وقد وردت أحاديث أخرى بمعنى الحديثين السابقين.
وقد اختلف العلماء منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم ومن جاء بعدهم من أهل العلم في هذه المسألة، هل هذه الأمور المذكورة في الحديث تقطع الصلاة أم لا؟
وقد قال بعض أهل العلم بأن مرور المرأة يقطع الصلاة فعلاً ويبطلها وهذا قول ابن حزم الظاهري والإمام أحمد في رواية عنه ونقل عن بعض الصحابة ولكن أكثر أهل العلم قالوا بخلاف ذلك فهم يرون أن مرور المرأة لا يقطع الصلاة وهذا قول الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في الرواية التي اختارها أكثر أصحاب أحمد وقد صح ذلك عن أكثر الصحابة وقد ذكر الإمام الترمذي أن أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم من التابعين قالوا: لا يقطع الصلاة شيء. سنن الترمذي مع شرحه عارضة الأحوذي 2/115، وانظر المغني 2/183، الذخيرة 2/159.
قال الإمام النووي: [وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي رضي الله عنهم وجمهور العلماء من السلف والخلف لا تبطل الصلاة بمرور شيء من هؤلاء ولا من غيرهم] شرح النووي على صحيح مسلم 3/170
وقال الإمام ابن العربي المالكي: [وقالت طائفة لا يقطع الصلاة شيء وهم علماء الإسلام ومحققوه] عارضة الأحوذي 2/116.
وقد أجاب هؤلاء العلماء على الحديثين السابقين بأنهما إما منسوخين أو أن المراد بالقطع هو قطع الخشوع وليس القطع حقيقة وهذا الجواب أقوى من الأول لأن النسخ لا يثبت بمجرد الاحتمال.
قال الإمام النووي: [وأما الجواب عن الأحاديث الصحيحة التي(5/29)
احتجوا بها فمن وجهين أصحهما وأحسنهما ما أجاب به الشافعي والخطابي والمحققون من الفقهاء والمحدثين أن المراد بالقطع القطع عن الخشوع والذكر للشغل بها والالتفات إليها لا أنها تفسد الصلاة ... فهذا الجواب هو الذي نعتمده وأما ما يدعيه أصحابنا وغيرهم من النسخ فليس بمقبول] المجموع 3/251.
وقال الحافظ القرطبي: [ ... لما كان الكلب الأسود أشد ضرراً من غيره وأشد ترويعاً كان المصلي إذا رآه اشتغل عن صلاته فانقطعت عليه لذلك وكذا تأول الجمهور قوله: (يقطع الصلاة المرأة والحمار) فإن ذلك مبالغة في الخوف على قطعها وإفسادها بالشغل بهذه المذكورات ذلك أن المرأة تفتن والحمار ينهق والكلب يروع فيتشوش المتفكر في ذلك حتى تنقطع عليه الصلاة وتفسد فلما كانت هذه الأمور تفيد آيلة إلى القطع جعلها قاطعة كما قال للمادح: قطعت عنق أخيك، أي فعلت به فعلاً يخاف هلاكه فيه كمن انقطع عنقه] المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 2/109.
وقد احتج جمهور أهل العلم على أن مرور المرأة لا يقطع الصلاة بما ثبت في الحديث عن عائشة أنها قالت: (كنت أنام بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضت رجليَّ فإذا قام بسطتهما، قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح) رواه البخاري ومسلم.
وكذلك احتجوا بما جاء في رواية أخرى عن عائشة أنه ذكر عندها ما يقطع الصلاة - الكلب والحمار والمرأة - فقالت عائشة: (شبهتمونا بالحمر والكلاب والله لقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم -يصلي وإني على السرير بينه وبين القبلة مضطجعة فتبدو لي الحاجة فأكره أن أجلس فأؤذي النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنسل من عند رجليه) رواه البخاري ومسلم.
وعن ابن عباس قال: (كنت رديف الفضل على أتان فجئنا والنبي - صلى الله عليه وسلم -يصلي بأصحابه بمنى فنزلنا عنها فوصلنا الصف فمرت بين أيديهم فلم تقطع صلاتهم) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/107.(5/30)
وعن صهيب مولى ابن عباس قال: (تذاكرنا ما يقطع الصلاة عند ابن عباس فقال: جئت وغلام من بني عبد المطلب على حمار ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي فنزل ونزلت وتركنا الحمار أمام الصف فما بالاه وجاءت جاريتان من بني عبد المطلب فدخلتا بين الصف فما بالى ذلك) رواه أبو داود وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/138.
وقد وردت بعض الآثار عن جماعة من الصحابة أنه لا يقطع الصلاة شيء فمن ذلك ما رواه مالك في الموطأ أن ابن عمر كان يقول: [لا يقطع الصلاة شيء مما يمر بين يدي المصلي] .
قال الحافظ ابن عبد البر: [لا خلاف عن ابن عمر في ذلك] التمهيد 6/179، وعن علي بن أبي طالب مثل ذلك رواه مالك وعبد الرزاق في المصنف 2/29 والبيهقي في السنن 2/278.
وروى ابن أبي شيبة بإسناده أن ابن عمر قيل له: [إن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة يقول: يقطع الصلاة الحمار والكلب، قال: لا يقطع صلاة المسلم شيء] مصنف ابن أبي شيبة 1/280، وذكره الحافظ ابن عبد البر في التمهيد 6/180.
وقال سعيد ابن المسيب لما سئل عن ذلك: [لا يقطع الصلاة إلا الحدث] . وقال عروة بن الزبير: [لا يقطع الصلاة إلا الكفر] المصدران السابقان.
وروى الإمام البخاري بإسناده: [أن ابن أخي ابن شهاب أنه سأل عمه عن الصلاة يقطعها شيء؟ فقال: لا يقطعها شيء] صحيح البخاري مع الفتح 2/137.
وبهذا يظهر لنا أن المراد بقطع الصلاة هو قطع الخشوع وليس القطع بمعنى الإبطال.(5/31)
صفة سجود التلاوة
يقول السائل: هل يشرع لمن أراد أن يسجد سجود التلاوة خارج الصلاة وهو جالس أن يقوم فيهوي إلى السجود من قيام؟
الجواب: صفة سجود التلاوة لمن كان خارج الصلاة وقرأ سورة فيها سجدة أن يكبر ويسجد سجدة واحدة بدون رفع يديه وبدون تشهد ولا تسليم، وهذا قول أكثر العلماء.
ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ علينا القرآن فإذا مرّ بالسجدة كبر وسجد وسجدنا) رواه البخاري ومسلم.
وقد قال بعض الفقهاء إنه يشرع في حق من أراد السجود للتلاوة أن يستوي قائماً ثم يكبر ويهوي للسجود.
قال الشيخ المرداوي: [الأفضل أن يكون سجوده عن قيام جزم به المجد في شرحه ومجمع البحرين وغيره وقدمه في الفروع وغيره واختاره الشيخ تقي الدين، وقال: قاله طائفة من أصحاب الإمام أحمد] الإنصاف 2/198.
وقال ابن مفلح: [والأفضل سجوده عن قيام] الفروع 1/504.
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية: [عن الرجل إذا كان يتلو الكتاب العزيز بين جماعة فقرأ سجدة فقام على قدميه وسجد فهل قيامه أفضل من سجوده وهو قاعد؟ أم لا؟ وهل فعله ذلك رياء ونفاق؟
فأجاب: بل سجود التلاوة قائماً أفضل منه قاعداً كما ذكر ذلك من ذكره من العلماء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما وكما نقل عن عائشة بل وكذلك سجود الشكر كما روى أبو داود في سننه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من سجوده للشكر قائماً وهذا ظاهر في الاعتبار فإن صلاة القائم أفضل من صلاة القاعد.(5/32)
وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان أحياناً يصلي قاعداً فإذا قرب من الركوع فإنه يركع ويسجد وهو قائم وأحياناً يركع ويسجد وهو قاعد فهذا قد يكون للعذر أو للجواز ولكن تحريه مع قعوده أن يقوم ليركع ويسجد وهو قائم دليل على أنه أفضل إذ هو أكمل وأعظم خشوعاً لما فيه من هبوط رأسه وأعضائه الساجدة لله من القيام ... ] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 23/173.
واستحب القيام لسجدة التلاوة بعض متأخري الحنفية فقد جاء في الدرّ المختار وحاشية ابن عابدين عليه: [قوله بين قيامين مستحبين أي قيام قبل السجود ليكون خروراً وهو السقوط من القيام وقيام بعد رفع رأسه] رد المحتار 2/107.
وحجة هؤلاء الفقهاء القائلين باستحباب القيام لسجود التلاوة أن الله تعالى قال:
(إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا) سورة الإسراء الآية 107. فالخرور سقوط من قيام.
واحتجوا بما رواه ابن أبي شيبة عن وكيع قال: [حدثنا شعبة عن شمسية أم سلمة عن عائشة رضي الله عنها: (أنها كانت تقرأ في المصحف فإذا مرّت بالسجدة قامت فسجدت) ] مصنف ابن أبي شيبة 2/499.
وكل ما ذكره هؤلاء الفقهاء الأجلاء لا يصلح لإثبات مشروعية القيام لمن أراد سجود التلاوة فمن المعلوم أن سجدة التلاوة عبادة والأصل في العبادات التوقيف على رسول الله- صلى الله عليه وسلم -.
أما الآية الكريمة فلا دلالة فيها على القيام لسجدة التلاوة وأما أثر عائشة فضعيف غير ثابت عنها فلا يصلح دليلاً، قال الإمام النووي: [وهل يستحب لمن أراد السجود أن يقوم فيستوي قائماً ثم يكبر للإحرام ثم يهوي للسجود بالتكبيرة الثانية فيه وجهان:
أحدهما: يستحب، قاله الشيخ أبو محمد الجويني والقاضي حسين والبغوي والمتولي وتابعهم الرافعي.(5/33)
والثاني: وهو الأصح لا يستحب، وهذا اختيار إمام الحرمين والمحققين، قال الإمام: ولم أر لهذا القيام ذكراً ولا أصلاً.
قلت - أي النووي -: ولم يذكر الشافعي وجمهور الأصحاب هذا القيام ولا ثبت فيه شيء يعتمد مما يحتجّ به فالاختيار تركه لأنه من جملة المحدثات وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على النهي عن المحدثات.
وأما ما رواه البيهقي بإسناده عن أم سلمة الأزدية قالت: (رأيت عائشة تقرأ في المصحف فإذا مرّت بسجدة قامت فسجدت) فهو ضعيف، أم سلمة هذه مجهولة. والله أعلم] المجموع 4/65.
وقد سئل الإمام أحمد عن ذلك فقيل له: [يقوم ثم يسجد؟ فقال: يسجد وهو قاعد] الإنصاف 2/198.
وسئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء السعودية عن هذه المسألة: [إذا كان الإنسان يقرأ القرآن في المسجد أو غيره وهو جالس ووصل إلى سجدة من السجدات هل الأفضل أن يقوم قائماً ويسجد أم يسجد في مكانه وهو جالس، أيهما أفضل؟
الجواب: لا نعلم دليلاً على شرعية القيام من أجل سجود التلاوة] فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 7/265.
وأخيراً أنقل ما ذكره العلامة ابن القيم في هديه- صلى الله عليه وسلم - في سجود القرآن " التلاوة " حيث قال: [كان - صلى الله عليه وسلم - إذا مرّ بسجدة كبّر وسجد وربما قال في سجوده: (سجد وجهي للذي خلقه وصوّره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته) .
وربما قال: (اللهم احطط عني بها وزراً واكتب لي بها أجراً واجعلها لي عندك ذخراً وتقبّلها مني كما تقبلتها من عبدك داود) . ذكرهما أهل السنن.
ولم يذكر عنه انه كان يكبر للرفع من هذا السجود ولذلك لم يذكره الخرقي ومتقدمو الأصحاب ولا نقل فيه عنه تشهد ولا سلام البتة. وأنكر أحمد والشافعي السلام فيه فالمنصوص عن الشافعي: أنه لا تشهد فيه ولا تسليم، وقال أحمد أما التسليم فلا أدري ما هو وهذا هو الصواب الذي لا ينبغي غيره] زاد المعاد في هدي خير العباد 1/362-363.(5/34)
صلاة الجمعة(5/35)
حكم ترك صلاة الجمعة
يقول السائل: إن كثيراً من الناس يظن أنه إذا ترك صلاة الجمعة مرة أو مرتين لا بأس عليه وإنما الإثم أن يترك ثلاث جمع متواليات فما قولكم؟
الجواب: صلاة الجمعة فريضة ثابتة بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
يقول الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) سورة الجمعة الآية 9.
فأمر الله سبحانه وتعالى بالسعي إليها والأصل أن الأمر يفيد الوجوب كما أنه سبحانه وتعالى أمر بترك البيع وهو في معنى النهي عن البيع والنهي يفيد التحريم وهذا يدل دلالة واضحة على وجوبها.
وثبت في الحديث عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الخاسرين) رواه مسلم.
وهذا الحديث يدل على أن الجمعة فرض عين كما قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم 2/463.
ولا شك أن من ترك صلاة جمعة واحدة بغير عذر فهو آثم وتارك لفريضة من فرائض الله سبحانه وتعالى.(5/37)
وأما ما يستدل به بعض الناس على أنه يجوز ترك جمعة أو جمعتين ولا يأثم الإنسان إلا إذا ترك ثلاث جمع متواليات وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من ترك ثلاث جمع تهاوناً طبع الله على قلبه) رواه أصحاب السنن وأحمد وهو حديث صحيح صححه الحاكم ووافقه الذهبي وحسنه الإمام الترمذي والبغوي والحافظ ابن حجر، وجاء في رواية أخرى: (من ترك الجمعة ثلاثاً من غير عذر فهو منافق) رواه ابن خزيمة والحاكم.
فهذا الحديث بروايتيه لا يدل على جواز ترك جمعة أو جمعتين وأن المسلم لا يأثم إلا بترك الجمعة ثلاثاً فهذا الفهم غير صحيح. وإنما يدل الحديث على أن من ترك ثلاث جمع من غير عذر فإن الله يطبع على قلبه أو أنه يصير منافقاً والعياذ بالله.
والطبع على القلب هو الختم عليه كما في قوله تعالى: (وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ) ومعنى ذلك أن الإنسان إذا استمر على ارتكاب المحظورات ولا يكون منه رجوع إلى الحق يورثه ذلك هيئة تمرنه على استحسان المعاصي وكأنما يختم بذلك على قلبه. انظر المفردات في غريب القرآن ص 143.
فمن يترك ثلاث جمع بغير عذر يختم الله على قلبه ويصل به الأمر إلى حد النفاق.
ويدل على ذلك ما جاء في الحديث عن كعب بن مالك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لينتهين أقوام يسمعون النداء يوم الجمعة ثم لا يأتونها أو ليطبعن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين) رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن قاله الهيثمي في مجمع الزوائد 2/194.
حكم قراءة خطبة الجمعة من ورقة مكتوبة
يقول السائل: ما حكم قراءة خطبة الجمعة من ورقة مكتوبة؟
الجواب: لا مانع أن تكون خطبة الجمعة مكتوبة بل إنه من الأفضل في هذا الزمان أن يكتب الخطيب خطبته وأن لا يرتجلها نظراً لأن كثيراً(5/38)
من الخطباء هم خطباء بحكم الوظيفة ولا يملكون مقومات الخطابة الحقيقية فعندما يرتجل أمثال هؤلاء خطبة الجمعة فإنهم لا يحسنونها أبداً وترى العجب العجاب منهم فأخطاء في الآيات القرآنية وخلط للأحكام الشرعية وأفكار ينقصها الترتيب والتنسيق ولا أبالغ إن قلت إن الواحد منا يخرج يوم الجمعة من المسجد ولم يستفد شيئاً من الخطبة.
فيجب على الخطباء أن يتقوا الله سبحانه وتعالى في المسلمين وأن يعدوا جيداً لخطبة الجمعة فجمهور المصلين فيهم المعلمون والمثقفون وطلاب الجامعات وغيرهم فلا يصح أن يستهين الخطيب بعقول الناس فيقول كلاماً صار ممجوجاً لدى السامعين. لذا أؤكد مرةً أخرى أن تكون الخطبة مكتوبة ومعدة مسبقاً على أن تعالج قضايا الناس الشرعية والعامة.
رفع اليدين عند الدعاء في خطبة الجمعة
يقول السائل: نرى كثيراً من الخطباء حين يدعون في خطبة الجمعة يرفعون أيديهم فهل هذا من السنة؟
الجواب: إن الدعاء خلال خطبة الجمعة من السنة فيدعو الخطيب للمسلمين والمسلمات ويستغفر لهم فقد ورد في الحديث عن سمرة بن جندب: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يستغفر للمؤمنين والمؤمنات كل جمعة) رواه الطبراني في الكبير والبزار بإسناد ضعيف كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد 2/191.
ولكن رفع الخطيب يديه أثناء الدعاء ليس من السنة بل هو بدعة عند كثير من أهل العلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [ويكره للإمام رفع يديه حال الدعاء في الخطبة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان يشير بإصبعه إذا دعا] الاختيارات العلمية ص 48.(5/39)
وقال العلامة ابن القيم: [وكان - صلى الله عليه وسلم - يشير بإصبعه السبابة في خطبته عند ذكر الله سبحانه وتعالى ودعائه] زاد المعاد 1/428.
ويؤيد ذلك ما جاء في الحديث أن عمارة بن رؤيبة رأى بشر بن مروان رفع يديه في الخطبة فقال: [قبح الله هاتين اليدين لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يزيد أن يقول بيده هكذا وأشار بإصبعه المسبِّحة] رواه مسلم.
قال الإمام النووي: [هذا فيه أن السنة أن لا يرفع اليد في الخطبة] شرح النووي على صحيح مسلم 6 /162.
وقد اعتبر كثير من العلماء رفع الخطيب يديه أثناء الدعاء بدعة ومنهم الشيخ جلال الدين السيوطي في كتابه الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع ص 247.
والعلامة أبو شامة في الباعث على إنكار البدع والحوادث ص 84.
الخطبة على المنبر
يقول السائل: إن الخطيب في مسجدهم يرفض أن يخطب على المنبر ويخطب واقفاً على الأرض فما قولكم؟
الجواب: من السنة أن يخطب الخطيب على المنبر ويدل على ذلك ما جاء في الحديث عن عبد العزيز بن حازم عن أبيه: (أن نفراً جاؤوا إلى سهل بن سعد قد تماروا في المنبر من أي عود هو؟ فقال: أما والله إني لأعرف من أي عود هو ومن عمله ورأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول يوم جلس عليه قال: فقلت له: يا أبا عباس فحدثنا قال: أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى امرأة قال أبو حازم: إنه ليسميها يومئذ انظري غلامك النجار يعمل لي أعواداً أكلم الناس عليها فعمل هذه الثلاث درجات ثم أمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضعت هذا الموضع فهي من طرفاء الغابة ولقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام عليه فكبر وكبر الناس وراءه وهو على المنبر ثم رفع(5/40)
فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته ثم أقبل على الناس فقال: يا أيها الناس إني إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام النووي: [فيه صلاته - صلى الله عليه وسلم - على المنبر ونزوله القهقرى حتى سجد في أصل المنبر ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته. قال العلماء: كان المنبر الكريم ثلاث درجات كما صرّح به مسلم في روايته فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - بخطوتين إلى أصل المنبر ثم سجد في جنبه ففيه فوائد منها استحباب اتخاذ المنبر واستحباب كون الخطيب ونحوه على مرتفع كمنبر أو غيره] شرح النووي على صحيح مسلم 2/200.
فعلى هذا الخطيب أن يقتدي بالرسول الله فيرقى المنبر لخطبة الجمعة فإذا كان المنبر على خلاف السنة كما هو الحال في كثير من المساجد رقي الخطيب ثلاث درجات فقط من المنبر ليخطب.
حكم صلاة الظهر بعد الجمعة
السؤال: أحضر لي أحد طلبة العلم نشرة وزعت في بعض المساجد حول صلاة الظهر بعد الجمعة ذكر فيها كاتبها كلاماً كثيراً في المسألة وذكر عنواناً يقول: تاريخ صلاة الظهر بعد الجمعة في الإسلام، وما جاء بشيء يشير إلى العنوان السابق ثم ذكر أقوال المذاهب الأربعة في حكم تعدد الجمعة في البلد الواحد ثم خلص إلى القول [أخيراً أخي المسلم ينبغي أن نعلمك أن صلاة الظهر بعد الجمعة استنبطت من السنة المطهرة باحتياط المرء لدينه من قبل الأئمة الأربعة وهي مدونة في كتبهم جميعاً وكتب التاريخ وهي دائرة بينهم في فلك الواجب والمندوب حيث إنها لم تصل في زمنه - صلى الله عليه وسلم - وعصر الخلفاء الراشدين والتابعين من بعدهم إلا في مسجد واحد] وسألني طالب العلم عن صحة هذا الكلام.
الجواب: إن مما ابتلي به المسلمون في هذا الزمان أن يتسور على العلم الشرعي من ليس له بأهل حتى صارت الفتوى في أمور الدين حمىً(5/41)
مستباحاً للذين ليس بينهم وبين العلم نسب ولا علاقة مودة أو قربى، إن ما جاء في هذه النشرة في جعل صلاة الظهر بعد الجمعة إما واجبة وإما مندوبة كلام باطل لم يقم عليه دليل والزعم بأن صلاة الظهر بعد الجمعة استنبطت من السنة المطهرة باحتياط المرء لدينه فرية عظيمة على السنة النبوية ولم يذكر الكاتب دليلاً واحداً من السنة يثبت صحة زعمه وأقول في رد هذه الفرية: يجب أن يعلم أن هذه المسألة وهي صلاة الظهر بعد الجمعة قد بنيت على مسألة أخرى وهي حكم تعدد الجمعة في البلد الواحد فأقول إن تعدد صلاة الجمعة في البلد الواحد جائز عند أهل العلم نظراً للحاجة الداعية إلى تعدد الجمعة فإذا كان البلد كبيراً وأهله كثير لا يسعهم مسجد واحد فلا مانع من تعدد الجمعة. وبهذا قال المحققون من العلماء من أتباع المذاهب الأربعة وغيرهم قال السرخسي: [والصحيح من قول أبي حنيفة في هذه المسالة أنه يجوز إقامة الجمعة في مصر واحد في موضعين وأكثر] المبسوط 2/102.
وقال الزيلعي شارحاً ومحللاً لقول النسفي: [وتؤدى في مصر في مواضع أي تؤدى الجمعة في مصر واحد في مواضع كثيرة وهو قول أبي حنيفة ومحمد وهو الأصح لأن في الاجتماع في موضع واحد في مدينة كبيرة حرجاً بيناً وهو مدفوع] تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 1/218.
وأجاز فقهاء المالكية تعدد الجمعة للضرورة كما في شرح الخرشي وحاشية العدوي عليه 2/74-75.
وذكر الإمام النووي أن الصحيح من مذهب الشافعية جواز تعدد الجمعة في موضعين وأكثر وقال: [وقد دخل الشافعي بغداد وهم يقيمون الجمعة في موضعين وقيل في ثلاثة فلم ينكر ذلك واختلف أصحابنا في الجواب عن ذلك وفي حكم بغداد في الجمعة على أربعة أوجه ذكر المصنف الثلاثة الأولى منها هنا وكلامه في التنبيه يقتضي الجزم بالرابع، أحدها أن الزيادة على جمعة في بغداد جائزة وإنما جازت لأنه بلد كبير يشق اجتماعهم في موضع منه قال أصحابنا فعلى هذا تجوز الزيادة على جمعة(5/42)
في جميع البلاد التي يكثر الناس فيها ويعسر اجتماعهم في موضع وهذا الوجه هو الصحيح وبه قال أبو العباس بن سريج وأبو إسحاق المروزي، قال الرافعي: واختاره أكثر أصحابنا تصريحاً وتعريضاً وممن رجحه ابن كج والحناطي بالحاء المهملة والقاضي أبو الطيب في كتابه المجرد والروياني والغزالي وآخرون، قال الماوردي وهو اختيار المزني ودليله قوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ] المجموع 4/585-586.
وقال الخرقي من الحنابلة: [وإذا كان البلد كبيراً يحتاج إلى جوامع فصلاة الجمعة في جميعها جائزة]
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي شارحاً كلام الخرقي السابق: [وجملته: أن البلد متى كان يشق على أهله الاجتماع في مسجد واحد ويتعذر ذلك لتباعد أقطاره أو ضيق مسجده عن أهله كبغداد وأصبهان ونحوهما من الأمصار الكبيرة جازت إقامة الجمعة فيما يحتاج إليه من جوامعهما وهذا قول عطاء وأجازه أبو يوسف في بغداد دون غيرها، لأن الحدود تقام فيها في موضعين والجمعة حيث تقام الحدود، ومقتضى قوله: أنه لو وجد بلد آخر تقام فيه الحدود في موضعين جازت إقامة الجمعة في موضعين منه. لأن الجمعة حيث تقام الحدود وهذا قول ابن المبارك ... ولنا: أنها صلاة شرع لها الاجتماع والخطبة فجازت فيما يحتاج إليه من المواضع كصلاة العيد. وقد ثبت أن علياً - رضي الله عنه - كان يخرج يوم العيد إلى المصلى ويستخلف على ضَعَفَةِ الناس أبا مسعود البدري فيصلي بهم. فأما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - إقامة جمعتين فلغناهم عن إحداهما ولأن أصحابه كانوا يرون سماع خطبته وشهود جمعته وإن بعدت منازلهم. لأنه المبلغ عن الله تعالى وشارع الأحكام ولما دعت الحاجة إلى ذلك في الأمصار صليت في أماكن ولم ينكر فصار إجماعاً] المغني 2/248.
وبهذا يظهر لنا أن المعتمد في المذاهب الأربعة جواز تعدد الجمعة للحاجة وهذا القول هو الصواب الموافق لقواعد الشرع المطهر ولعمل المسلمين فيما مضى من الأعصار في جميع الأمصار.(5/43)
وكيف يصنع المسلمون في المدن الكبيرة التي تغص بالسكان وقد يبلغ سكانها الملايين وكيف يجتمعون في مسجد واحد فمدينة كالقاهرة مثلاً فيها أكثر من عشرة ملايين نسمة، كيف يصلون في مكان واحد؟! إن نصوص الشريعة وقواعدها القاضية برفع الحرج ودفع المشقة تجيز تعدد الجمعة في مساجد كثيرة مهما بلغ عددها ما دامت الحاجة تدعو لذلك.
إذا تقرر هذا نعود إلى مسألة صلاة الظهر بعد الجمعة فأقول إن إقامة صلاة الظهر بعد الجمعة بدعة منكرة ليس لها أصل في الدين وهي تشريع لما لم يأذن به الله. ولم تثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا عن الصحابة ولا عن التابعين ولا عن الأئمة المهديين وزعم كاتب النشرة أنها ثبتت بالسنة المطهرة زعم باطل ليس عليه أدنى دليل بل هو لم يقدم أي دليل على ذلك.
وهذه البدعة وإن قال بها بعض متأخري أتباع المذاهب ليس عليها دليل صحيح فقد صح في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ) رواه مسلم.
وقد ثبت أن الإمام الشافعي رحمه الله قد دخل بغداد وأقام بها مدة من الزمن وكانت الجمعة تقام بأكثر من موضع ولم ينقل عنه أنه كان يصلي الظهر بعد الجمعة. القول المبين ص 384.
قال الشيخ القاسمي: [والذي اعتمده الإمام ابن نجيم والعلامة ابن عبد الحق الأخير ووافقه غيره من أن لا وجوب للظهر - أي بعد الجمعة - هو الحق لما فيه من رفع الحرج وهل يطالب مكلف بفريضتين في وقت واحد مع ما في أدائه جماعة من صورة نقض الجمعة وإيقاع العامة في اعتقاد أن ليوم الجمعة بعد زواله فرضين صلاة الجمعة وصلاة الظهر بل هو الذي لا يرتابون فيه ويزيدون عليه أنه لا يصح إلا جماعة بل تنطع بعض الغلاة المتصولحين مرة فقال لي: كيف السبيل إلى سنة الظهر القبلية قبل فرض يوم الجمعة وهي تفوتني بعجلة أداء الظهر.
فتأمل كيف رحم الله العباد ففرض عليهم ركعتين في ذلك اليوم وأمرهم إذا قضوهما أن ينتشروا في الأرض ويبتغوا من فضله تيسيراً عليهم(5/44)
إذ يحتاجون لصرف حصة في سماع الخطبة، وانظر كيف شددوا على أنفسهم وربما المتنطع منهم يطالب بأداء اثنتين وعشرين ركعة بعد الزوال إذا يصلي قبل الجمعة أربعاً وبعدها أربعاً كالظهر وكلاهما مع الجمعة عشر، ثم يتطوع بأربع قبل الظهر وأربع بعدها وكلاهما مع الظهر اثنا عشر أيضاً، فالجملة ما ذكرنا ولا يخفى أن محو اعتقاد غير الصواب من صدور العامة لتمحيص الحق باب عظيم من أبواب الدعوة إلى سبيل الله وهدى نبيه عليه السلام، وقد اتفق في عهد حسين باشا والي مصر المذاكرة لديه في بدعة الظهر جماعة بعد الجمعة فمنع أهل الأزهر منها، نقله الشبراملسي في رسالته التي ألفها في سبب صلاة الظهر يومئذ فرحمه الله على منعه من هذه البدعة وأثابه خيراً ووفق من تنبه لمنعها بمنّه وكرمه] إصلاح المساجد ص 50-51.
وقال الشيخ الغلايني: [ومن الأدلة على عدم طلب الظهر بعد الجمعة بل على عدم مشروعيتها يوم الجمعة مطلقاً صليت الجمعة أم لم تصل ما ورد من اجتماع عيد وجمعة في عهد الرسول الأكرم فصلى العيد ورخص في الجمعة ولم يرد أنه أمرهم بالظهر لأنه لم يثبت ذلك وهاك النصوص:
عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - وسأله معاوية: (هل شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عيدين اجتمعا؟ قال: نعم، صلى العيد أول النهار ثم رخص في الجمعة فقال: من شاء أن يجمع فليجمع) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزئه من الجمعة وإنا مجمعون) رواه أبو داود وابن ماجة.
وعن وهب بن كيسان قال: (اجتمع عيدان على عهد ابن الزبير فأخر الخروج حتى تعالى النهار ثم خرج فخطب ثم نزل ثم صلى ولم يصل للناس بوم الجمعة فذكرت ذلك لابن عباس فقال: أصاب السنة) رواه النسائي وأبو داود بنحوه لكن من رواية عطاء. ولأبي داود عن عطاء قال:(5/45)
(اجتمع يوم الجمعة ويوم الفطر على ابن الزبير في يوم واحد فجعلهما جميعاً فصلاهما ركعتين بكرة لم يزد عليهما حتى صلى العصر) .
فهذه الأحاديث ناطقة بلسان فصيح على منبر الحق بأنه لا ظهر بعد الجمعة بل إن الظهر لم تشرع ذلك اليوم أقيمت الجمعة أم لم تقم] البدعة في صلاة الظهر بعد الجمعة ص 138-139.
وأما ما احتج به بعضهم على مشروعية الظهر بعد الجمعة بأن الجمعة لمن سبق فقد قال الشيخ الألباني: [وأما ما اشتهر على الألسنة في هذه الأزمنة وهو قولهم الجمعة لمن سبق فلا أصل له في السنة وليس بحديث وإنما هو رأي لبعض الشافعية ظنه من لا علم عنده حديثاً نبوياً] الأجوبة النافعة ص 46.
وقال د. وهبة الزحيلي: [وينبغي العمل على منع الظهر بجماعة بعد الجمعة حفاظاً على وحدة المسلمين ولا يصح قياس حالة البلدان وكثرة سكانها على حالة المدينة في صدر الإسلام حيث كان المسلمون قلة والخليفة خطيب المسلمين وخبره وسيلة إعلام جميع المسلمين في الجهاد وعلاج أزمة القحط والوباء ونحو ذلك من الأحداث الكبرى] الفقه الإسلامي وأدلته 2/311.
اجتماع الجمعة والعيد في يوم واحد
يقول السائل: قد يوافق يوم الجمعة القادم عيد الفطر فماذا نفعل بالنسبة لصلاة الجمعة حيث أنني أنوي أن أصلي العيد إن شاء الله تعالى؟
الجواب: إذا وافق يوم الجمعة يوم عيد فقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة اختلافاً كبيراً، فقال الحنفية يجب إقامة صلاة الجمعة ولا تسقط عمن شهد العيد وهذا هو المشهور عن المالكية كما في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1/391.(5/46)
وهؤلاء العلماء يرون أن عموم الأدلة التي أوجبت الجمعة لم يقم دليل على تخصيصها وما ورد من أحاديث وآثار في المسألة لا يصح تخصيصها للعموم عندهم لما فيها من مقال.
وذهب الشافعية إلى أن الجمعة تسقط عن أهل القرى والبوادي الذين يصلون العيد مع أهل البلد، وأما أهل البلد فمطالبون بصلاة الجمعة وهذا أيضاً رواية عن الإمام مالك ويدل لهذا القول ما ورد عن عثمان - رضي الله عنه - أنه قال في خطبته: (أيها الناس قد اجتمع عيدان في يومكم فمن أراد من أهل العالية أن يصلي معنا الجمعة فليصل ومن أراد أن ينصرف فلينصرف) رواه مالك في الموطأ.
وذهب الحنابلة وعامة أهل الحديث إلى أن الجمعة تسقط عمن حضر العيد سواء أكان من البلد أو من القرى إلا الإمام فينبغي أن يقيم الجمعة ليشهدها من شاء شهودها، ويدل على هذا القول ما ورد في الحديث عن إياس بن أبي رملة الشامي قال: (شهدت معاوية بن أبي سفيان وهو يسأل زيد بن أرقم قال: أشهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -عيدين اجتمعا في يوم؟ قال: نعم. قال: فكيف صنع؟ قال: صلى العيد ثم رخص في الجمعة فقال: من شاء أن يصلي فليصلِ) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وفي سنده اختلاف فصححه جماعة من أهل الحديث وضعّفه آخرون.
وعن عطاء بن أبي رباح قال: [صلى بنا ابن الزبير في يوم عيد في يوم جمعة أول النهار ثم رحنا إلى الجمعة فلم يخرج إلينا فصلينا وحداناً وكان ابن عباس بالطائف فلما قدم ذكرنا ذلك له. فقال: أصاب السنة] رواه أبو داود والنسائي.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (قد اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون) رواه أبو داود وابن ماجة والحاكم وصحح الإمام أحمد والدارقطني إرساله وقال الخطابي: [في إسناد حديث أبي هريرة مقال ويشبه أن يكون معناه لو صح أن يكون المراد بقوله (فمن شاء أجزأه من الجمعة) أي عن حضور الجمعة(5/47)
ولا يسقط عنه الظهر] عون المعبود شرح سنن أبي داود 3/289.
وضعّفه الحافظ ابن عبد البرّ، فتح المالك 3/337، وقال الإمام النووي: إسناده ضعيف، المجموع 4/392. وانظر أيضاً التلخيص الحبير 2/87-88، إعلاء السنن 4/93-98، الفتح الرباني 6/32-36.
وهذه الأحاديث والآثار لو صحّت ينبغي المصير إليها ولكن في النفس من صحتها شيء نظراً للخلاف فيها بين المحدثين.
قال الحافظ ابن عبد البرّ: [فقد اختلف العلماء في تأويل قول عثمان هذا واختلفت الآثار في ذلك أيضاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - واختلف العلماء في تأويلها والأخذ بها] فتح المالك 3/335.
وقال الحافظ ابن عبد البرّ أيضاً بعد أن ذكر حديث أبي هريرة السابق وضعّفه وذكر روايات أخرى له قال: [فقد بان في هذه الرواية ورواية الثوري لهذا الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع ذلك اليوم بالناس وفي ذلك دليل على أن فرض الجمعة والظهر لازم وأنها غير ساقطة وأن الرخصة إنما أريد بها من لم تجب عليه الجمعة ممن شهد العيد من أهل البوادي والله أعلم وهذا تأويل تعضده الأصول وتقوم عليه الدلائل ومن خالفه فلا دليل معه ولا حجة له] فتح المالك 3/337.
وقال الحافظ ابن عبد البرّ أيضاً: [وإذا احتملت هذه الآثار من التأويل ما ذكرنا لم يجز لمسلم أن يذهب إلى سقوط فرض الجمعة عمن وجبت عليه لأن الله عزّ وجل يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) سورة الجمعة الآية 9. ولم يخص الله ورسوله يوم عيد من غيره من وجه تجب حجته فكيف بمن ذهب إلى سقوط الجمعة والظهر المجتمع عليهما في الكتاب والسنة والإجماع بأحاديث ليس منها حديث إلا وفيه مطعن لأهل العلم بالحديث] فتح المالك 3/338-339.
وقد رجحّ جماعة من العلماء القول بسقوط الجمعة عمن صلى العيد كشيخ الإسلام ابن تيمية والشوكاني والصنعاني وغيرهم.(5/48)
وخلاصة الأمر أنه ينبغي على من صلى العيد أن يصلي الجمعة خروجاً من خلاف العلماء فإن مراعاة الخلاف مطلوبة لأن المسألة فيها احتمالات قوية ومن لم يفعل فأخذ بقول من قال بسقوط الجمعة عمن صلى العيد فلا حرج عليه إن شاء الله تعالى.(5/49)
صلاة الكسوف(5/51)
كسوف الشمس آية من آيات الله سبحانه وتعالى
يقول السائل: ما قولكم فيما تنشره وسائل الإعلام عن ظاهرة كسوف الشمس وكيف كان هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - عند حدوث الكسوف؟
الجواب: اهتمت وسائل الإعلام المختلفة بظاهرة كسوف الشمس وبينت أسبابها وحذرت الناس من آثارها الضارة على العين عند نظرهم إلى الشمس في حال الكسوف.
وأغفلت جانباً هاماً يتعلق بكسوف الشمس وهو أن هذه الحادثة هي جزء من النظام العجيب والدقيق الدال على قدرة الله سبحانه وتعالى:
قال الله تعالى: (خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) سورة الزمر الآية 5.
وقال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) سورة النحل الآية 12.
وقال تعالى: (وَيُرِيكُمْءَايَاتِهِ فَأَيَّءَايَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ) سورة غافر الآية 81.
وقال تعالى: (لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) سورة يس الآية 40.(5/53)
وقال تعالى: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) سورة فاطر الآية 13.
وقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) سورة لقمان 29.
وقال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) سورة الحج 46.
وقد قرر علماء الفلك أسباباً معينة لكسوف الشمس وظن كثير من الناس أن هذا يتنافى مع كون الكسوف آية من آيات الله سبحانه وتعالى يخوف الله بهما عباده.
فقد ورد في الحديث أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف بهما عباده وإنهما لا ينخسفان لموت أحد من الناس فإذا رأيتم منها شيئاً فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام ابن دقيق العيد: [وفي قوله عليه الصلاة والسلام (يخوف بهما عباده) إشارة إلى أنه ينبغي الخوف عند وقوع التغيرات العلوية. وقد ذكر أصحاب الحساب لكسوف الشمس والقمر أسباباً عادية. وربما يعتقد معتقد أن ذلك ينافي قوله عليه السلام (يخوف الله بهما عباده) وهذا الاعتقاد فاسد. لأن لله تعالى أفعالاً على حسب الأسباب العادية وأفعالاً خارجة عن تلك الأسباب. فإن قدرته تعالى حاكمة على كل سبب ومسبب فيقطع ما شاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض فإذا كان ذلك كذلك فأصحاب المراقبة لله تعالى ولأفعاله الذين عقدوا أبصار قلوبهم بوحدانيته وعموم قدرته على خرق العادة واقتطاع المسببات عن أسبابها إذا وقع شيء غريب، حدث عندهم الخوف لقوة اعتقادهم في فعل الله تعالى ما شاء.(5/54)
وذلك لا يمنع أن يكون ثمة أسباب تجري عليها العادة إلى أن يشاء الله تعالى خرقها. ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عند اشتداد هبوب الريح يتغير ويدخل ويخرج خشية أن تكون كريح عاد وإن كان هبوب الريح موجوداً في العادة.
والمقصود بهذا الكلام: أن يعلم أن ما ذكره أهل الحساب من سبب الكسوف لا ينافي كون ذلك مخوفاً لعباد الله تعالى. وإنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الكلام لأن الكسوف كان عند موت ابنه إبراهيم. فقيل: إنها إنما كسفت لموت إبراهيم. فرد النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك] إحكام الأحكام 1/349-350.
على أن في ظاهرة الكسوف أمراً يتنبه له المؤمن ويلتفت إليه إذا كان غيره لا يلتفت إليه وهو التذكير بقيام الساعة وانتهاء هذا العالم فإن مما ثبت بطريق الوحي اليقيني أن هذا الكون سيأتي عليه يوم ينفرط فيه عقده وينتثر نظامه فإذا سماؤه قد انفطرت وكواكبه قد انتثرت وشمسه قد كورت وجباله قد سيرت وأرضه قد زلزلت زلزالها وأخرجت أثقالها وآذن ذلك كله بتبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبروز الخلق لله الواحد القهار.
إن الشمس والقمر ليسا أبديين ككل شيء في هذا العالم إنهما يجريان كما قال الله خالقهما إلى أجل مسمى، نعم مسمى معلوم عند الله خفي مجهول عند الناس ولكن المؤمن يوقن به ولا يغفل عنه فإذا شاهد ظاهرة كالكسوف والخسوف انتقل قلبه من اليوم إلى الغد ومن الحاضر إلى المستقبل وخصوصاً إذا تذكر قول الله تعالى: (وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) ولعل هذا سر ما جاء في رواية بعض الصحابة في حديث الكسوف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام فزعاً يخشى أن تكون الساعة - مع أن للساعة مقدمات وعلامات وأشراط كثيرة اخبر عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفسه ولم تقع بعد - ولهذا استشكل بعض العلماء هذه الرواية ولكن يمكن حملها على أنه - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك تعليماً لأمته وإرشاداً لها لتكون على ذكر من أمر الساعة على كل حال ولا سيما إذا تأخر الزمان وظهرت معظم الأشراط والأمارات. فتاوى معاصرة 1/242.(5/55)
وبهذا يظهر لنا أنه لا إشكال في كون الكسوف يقع حسب أسباب فلكية معروفة لتوسط القمر بين الأرض والشمس فيحجب ضوء الشمس وأنه يحدث في مواعيد معروفة مسبقاً ومحسوبة بدقة وبين كون الكسوف آية من آيات الله يخوف الله بها عباده فإن المؤمن يتيقن أن كل سبب ومسبب خاضع لإرادته تعالى مخلوق بقدرته سبحانه فإذا وقع شيء غريب حدث عند المؤمن الخوف لقوة اعتقاده بأن الله تعالى يفعل ما يشاء وأنه ذو العظمة الباهرة التي لا نهاية لها وذلك لا يمنع أن يكون ثمة أسباب أدت إلى تلك الحادثة الغريبة التي خرقت النظام المعتاد.
وذلك كمثل من ضبط الساعة ذات الجرس المنبه كي يرن جرسها في وقت معين فهل يمتنع عن الاستيقاظ والانتباه لكونه يعلم ذلك من قبل؟ فكذلك أعلمنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذه التغييرات جعلها الله لحكمة عظيمة ألا وهي العظة والذكرى فهل من مدكر) هدي النبي- صلى الله عليه وسلم - في الصلوات الخاصة ص 163.
هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف:
لما كسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السنة العاشرة للهجرة خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد فزعاً يجر رداءه فتقدم فصلى ركعتين قرأ في الأولى فاتحة الكتاب وسورة طويلة جهر بالقراءة ثم ركع فأطال الركوع ثم رفع رأسه من الركوع فأطال القيام وهو دون القيام الأول وقال لما رفع رأسه سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد ثم أخذ في القراءة ثم ركع فأطال الركوع وهو دون الركوع الأول ثم رفع رأسه من الركوع ثم سجد سجدة طويلة فأطال السجود ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ما فعل في الأولى فكان في كل ركعة ركوعان وسجودان ... ثم انصرف فخطب بهم خطبة بليغة حفظ منها قوله: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا يا أمة محمد والله ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) .(5/56)
وقال: (لقد رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدتم به حتى لقد رأيتني أريد أن آخذ قطفاً من الجنة حين رأيتموني أتقدم ولقد رأيت جهنم يحطم بعضها بعضاً حين رأيتموني تأخرت) .
وفي لفظ: (ورأيت النار فلم أر كاليوم منظراً قط أفظع منها. ورأيت أكثر أهل النار النساء. قالوا: وبم يا رسول الله؟ قال: بكفرهن. قيل: أيكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط) زاد المعاد 1/450-451.
أحكام صلاة الكسوف وما يتعلق بها:
1. صلاة الكسوف سنة مؤكدة عند أكثر أهل العلم.
2. صلاة الكسوف ركعتان في كل ركعة ركوعان تصلى جماعة في المسجد يقرأ الإمام جهراً الفاتحة ثم سورة طويلة كالبقرة ثم يركع ركوعاً طويلاً ثم يقوم من الركوع ويقول: سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد، ثم يقرأ الفاتحة وسورة طويلة كآل عمران ثم يركع ركوعاً طويلاً ثم يرفع ثم يسجد وفي الركعة الثانية يفعل مثلما فعل في الأولى.
3. يشرع للإمام أن يخطب بعد انتهاء صلاة الكسوف اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الإمام البخاري باب خطبة الإمام في الكسوف وقالت عائشة وأسماء: (خطب النبي - صلى الله عليه وسلم -) ثم ساق الإمام البخاري حديث عائشة رضي الله عنها وفيه: (ثم قام - أي النبي - صلى الله عليه وسلم - فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: هما آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة) ورواه مسلم أيضاً.
وفي رواية أخرى عند البخاري ومسلم، أيضاً عن عائشة رضي الله عنها ذكرت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد انتهائه من صلاة الكسوف: (خطب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا(5/57)
ثم قال: يا أمة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) .
4. علّمنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه عند حدوث الكسوف فعلينا أن نفزع إلى الصلاة وإلى ذكر الله والتكبير والصدقة والتعوذ من عذاب القبر ودعانا إلى الإقلاع عن المعاصي وخاصة الزنا وما أدى إليه لما في هذه الفاحشة من خطورة وفظاعة وتدمير للمجتمع وتحطيم للقيم والأخلاق.
فعلى المسلمين أن يتذكروا هذه التوجيهات النبوية وأن يعملوا بمقتضاها وأن يقلعوا عن الذنوب والمعاصي التي عمت وطغت وانتشرت وظهرت في كل مكان.(5/58)
الزكاة(5/59)
زكاة المحاجر
يقول السائل: إنه صاحب محجر يستخرج الحجارة من الأرض على شكل كتل كبيرة ثم يقوم بتقطيعها وبيعها فكيف يؤدي زكاة ذلك؟
الجواب: يقول الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) سورة البقرة الآية 267.
هذه الآية أصل عظيم اعتمد عليه العلماء في وجوب الزكاة فيما تخرج الأرض من نبات ومعادن وركاز كما قال القرطبي في تفسيره 3/321.
وقد صح في الحديث عن أبي هريرة أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: [العجماء جبار والبئر جبار والمعدن جبار وفي الركاز الخمس] رواه البخاري ومسلم.
ففي هذا الحديث ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - المعدن وقد قال العلماء: المعدن: اسم للمال المخلوق في الأرض. التهذيب في فقه الإمام الشافعي 3/116.
والمعدن يشمل الذهب والفضة والحديد والنحاس والفحم الحجري ويشمل أيضاً الرخام وحجارة المحاجر محل السؤال.
وقد ذكر بعض أهل العلم أن المعدن والركاز شيء واحد لذا أوجبوا فيهما الخمس كما هو نص الحديث السابق.
ولكن الراجح من أقوال أهل العلم في نظري التفريق بين المعدن والركاز.(5/61)
قال الإمام البخاري: [باب في الركاز الخمس وقال مالك وابن إدريس - يعني الشافعي - الركاز دفن الجاهلية في قليله وكثيرة الخمس. وليس المعدن بركاز وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (في المعدن جبار وفي الركاز الخمس ... ) وقال بعض الناس: المعدن ركاز مثل دفن الجاهلية لأنه يقال أركز المعدن إذا خرج منه شيء قيل له قد يقال لمن وهب له شيء أو ربح ربحاً كثيراً أو كثر ثمره أركزت] صحيح البخاري مع الفتح 3/106-107.
وما ذكره الإمام البخاري في التفريق بين الركاز والمعدن هو الراجح وهو الذي عليه الإمام مالك حيث قال: [الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا والذي سمعت أهل العلم يقولون إن الركاز إنما هو دفن يوجد من دفن الجاهلية ما لم يطلب بمال ولم يتكلف فيه نفقة ولا كبير عمل ولا مؤونة فأما ما طلب بمال وتكلف فيه كبير عمل فأصيب مرة وأخطئ مرة فليس بركاز] الموطأ 1/214.
وقال الحافظ ابن عبد البر: [ومن حجة مالك أيضاً في تفريقه بين ما يؤخذ من المعدن وما يؤخذ من الركاز قوله- صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة: ( ... والمعدن جبار وفي الركاز الخمس) فرق بين المعدن والركاز ب " و " فاصلة فدل ذلك على أن الخمس في الركاز لا في المعدن] الاستذكار 9/56.
وقال القرطبي: [وأما المعدن فروى الأئمة عن أبي هريرة عن رسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
(العجماء جرحها جبار والبئر جبار والمعدن جبار وفي الركاز الخمس) . قال علماؤنا: لمّا قال - صلى الله عليه وسلم -: (وفي الركاز الخمس) دلّ على أن الحكم في المعادن غير الحكم في الركاز لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد فصل بين المعدن والركاز بالواو الفاصلة ولو كان الحكم فيهما سواء لقال والمعدن جبار وفيه الخمس فلما قال: (وفي الركاز الخمس) علم أن حكم الركاز غير حكم المعدن فيما يؤخذ منه، والله أعلم] تفسير القرطبي 3/322.
وقال الشيخ أحمد محمد شاكر: [الركاز عند أهل الحجاز كنوز(5/62)
الجاهلية المدفونة في الأرض وعند أهل العراق المعادن، والقولان تحتملها اللغة.
لأن كلاً منهما مركوز في الأرض أي ثابت والحديث إنما جاء في التفسير الأول وهو الكنز الجاهلي وإنما كان فيه الخمس لكثرة نفعه وسهولة أخذه] تعليق الشيخ أحمد محمد شاكر على الموطأ 1/214.
إذا تقررت التفرقة بين المعدن والركاز فأقول إن الواجب في زكاة المعدن ربع العشر أي 2. 5% وهذا قول عمر بن عبد العزيز والإمام مالك في رواية ابن نافع عنه وهو القول الصحيح عند الشافعية وقول الحنابلة.
روى الإمام البخاري في صحيحه تعليقاً: [وأخذ عمر بن عبد العزيز من المعادن من كل مئتين خمسة] . قال الحافظ ابن حجر: [وصله أبو عبيد في كتاب الأموال] صحيح البخاري مع الفتح 3/107.
وما أشار إليه الحافظ رواه أبو عبيد أن عمر بن عبد العزيز أخذ من المعادن الزكاة.
وفي رواية أخرى أن عمر بن عبد العزيز كتب أن خذ من المعادن الصدقة ولا تأخذ منها الخمس. الأموال ص 424.
وروى مالك في الموطأ عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن غير واحد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قطع لبلال بن الحارث المزني معادن القبلية وهي من ناحية الفرع فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلى اليوم إلا الزكاة) الموطأ 1/211.
قال الحافظ ابن عبد البر: [هذا الخبر منقطع في الموطأ وقد روي متصلاً مسنداً ... من رواية الداروردي عن ربيعة ... ] الاستذكار 9/55.
وقال ابن عبد البر أيضاً: [وإسناد ربيعة فيه صالح حسن وهو حجة لمالك ومن ذهب مذهبه في المعادن] فتح المالك 5/23.
ورواه أبو داود في سننه، انظر عون المعبود 8/216 وحسنه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/592-593.(5/63)
وبناءً على ما تقدم فإن المحاجر تجب الزكاة فيها بنسبة 2. 5% ولا يشترط لذلك حولان الحول.
وأما النصاب فالمعروف من حال أصحاب المحاجر أن ما يستخرجونه يبلغ أنصبة كثيرة لا نصاباً واحداً وعليه فإن صاحب المحجر كلما استخرج كمية من الحجارة فباعها فإنه يخرج الزكاة بنسبة 2. 5% بعد أن يخصم من ذلك أجور العمال وتكلفة تشغيل الآلات والمعدات فمثلاً لو أن صاحب محجر جعل له حساباً شهرياً يحسب فيه ثمن الحجارة المستخرجة التي يتم بيعها محسوماً منها أجور العمال وتكلفة تشغيل الأجهزة والمعدات وما يبقى بعد ذلك يزكيه بنسبة 2. 5% وهكذا في كل شهر.
ومما يؤيد تقدير الزكاة في المعادن بربع العشر 2. 5% وليس الخمس 20% أنه قد جرت عادة الشرع أن ما غلظت مؤونته خفف عنه في قدر الزكاة وما خفت مؤونته زيد في زكاته. انظر فتح الباري 3/107، التهذيب في فقه الإمام الشافعي 3/115.
قضاء الديون من الزكاة
يقول السائل: توفي شخص وعليه ديون ولم يترك وفاءً لديونه فهل يجوز أن نقضي ديونه من أموال الزكاة؟
الجواب: إن من مصارف الزكاة مصرف الغارمين كما نصت على ذلك الآية الكريمة:
(إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) سورة التوبة الآية 60.
والأصل عند أهل العلم أن الميت إذا كان عليه ديون وترك أموالاً أن تسدد ديونه من تركته فإن لم يترك أموالاً تفي بقضاء الدين فإن على بيت(5/64)
مال المسلمين قضاء ديونه لما صح في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن مات وعليه دين ولم يترك وفاءً لدينه فعلينا قضاؤه ومن ترك مالاً فلورثته) رواه البخاري ومسلم.
فإن لم يتيسر سداد الدين من بيت مال المسلمين كما هو الحال الآن في زماننا فيجوز على الراجح من قولي العلماء قضاء الدين عن الميت لأن الميت المدين داخل في عموم قوله تعالى: (وَالْغَارِمِينَ) لأنها شاملة لكل غارم حياً كان أو ميتاً.
بل إن بعض العلماء قد قال: قضاء دين الميت أحق من قضاء دين الحي لأن دين الميت لا يرجى قضاؤه.
قال الشيخ ابن العربي المالكي: [فإن كان ميتاً - أي الغارم - قضي منها دينه لأنه من الغارمين] أحكام القرآن 2/968.
وقال الشيخ القرطبي: [وقال علماؤنا وغيرهم: يقضى منها دين الميت لأنه من الغارمين، قال - صلى الله عليه وسلم -: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالاً فلأهله ومن ترك دينا أو ضياعاً - أي عيال - فإلي وعليّ] تفسير القرطبي 8/185.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وأما الدين الذي على الميت فيجوز أن يوفى من الزكاة في أحد قولي العلماء وهو إحدى الروايتين عن أحمد لأن الله تعالى قال:
(وَالْغَارِمِينَ) ولم يقل: (وللغارمين) فالغارم لا يشترط تمليكه وعلى هذا يجوز الوفاء عنه وأن يملك لوارثه ولغيره] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 25/80.
والقول بجواز قضاء دين الميت من الزكاة هو قول مالك وأكثر أصحابه والشافعي في وجه وأصحابه وأحمد في إحدى الروايتين عنه وبه قال أبو ثور وأبو جعفر الطحاوي وغيرهم من أهل العلم.(5/65)
قال العلامة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله: [والذي نرجحه: أن نصوص الشريعة وروحها لا تمنع قضاء دين الميت من الزكاة لأن الله تعالى جعل مصارف الزكاة نوعين: نوع عبر عنه استحقاقهم باللام التي تفيد التمليك وهم الفقراء والمساكين والعاملون عليها والمؤلفة قلوبهم - وهؤلاء هم الذين يملكون -.
ونوع عبر عنه بـ (فِي) وهم بقية الأصناف: (وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ) فكأنه قال: الصدقات في الغارمين ولم يقل: للغارمين ... فالغارم على هذا لا يشترط تمليكه وعلى هذا يجوز الوفاء عنه وهذا ما اختاره وأفتى به شيخ الإسلام ابن تيمية ويؤيد هذا حديث: (من ترك ديناً أو ضياعاً فإليّ وعليّ) ] فقه الزكاة 2/633.
إعطاء من يريد الزواج من أموال الزكاة
يقول السائل: هل يجوز صرف الزكاة لشاب يريد الزواج وكما تعلمون فإن تكاليف الزواج صارت باهظة في وقتنا الحالي؟
الجواب: لا شك أن الزواج من الحاجات الأساسية للإنسان وقد نصّ بعض أهل العلم على أن الزواج من تمام الكفاية فيجوز إعطاء الشاب من الزكاة ليستعين على الزواج إذا كان لا يستطيع الزواج بإمكاناته المادية أي أنه فقير.
وكذلك يجوز إعطاء من تزوج فتحمّل ديوناً بسبب زواجه ولا وفاء عنده فيعطى من مال الزكاة ليقضي ديونه وينبغي الانتباه عند صرف الزكاة لمن يريد الزواج أن ينفق ذلك في الأمور الأساسية للزواج ودون مبالغة في تكاليف الزواج.(5/66)
إعطاء طلبة العلم من الزكاة
يقول السائل: هل يجوز إعطاء طلبة العلم من الزكاة؟
الجواب: من المعلوم أن مصارف الزكاة هي المنصوص عليها في قوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) سورة التوبة الآية 60.
ومن المتفق عليه بين أهل العلم أن طالب العلم إن كان فقيراً يعطى من الزكاة لفقره.
ومن العلماء من قال: يعطى طالب العلم لكونه طالب علم وإن كان قادراً على الكسب إذا تفرغ لطلب العلم.
ومنهم من أجاز لطالب العلم أن يأخذ من الزكاة باعتباره داخلاً في مصرف: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) حيث فسر قوله تعالى: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) بأنه طلبة العلم كما في الدر المختار 2/343، وحاشية الطحطاوي ص 392.
ونقل ابن عابدين عن بعض الحنفية أن تفسير: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) بطلب العلم وجيه. حاشية ابن عابدين 2/343.
وهذا بناءً على التوسع في مصرف في سبيل الله وهو قول جيد ولكن ليس على إطلاقه بل لا بد من ضوابط معينة لكل حالة من الحالات التي تدخل في هذا المصرف.
قال العلامة الشيخ صديق حسن خان: [ومن جملة سبيل الله: الصرف في العلماء الذين يقومون بمصالح المسلمين الدينية فإن لهم في مال الله نصيباً سواء أكانوا أغنياء أو فقراء بل الصرف في هذه الجهة من أهم الأمور لأن العلماء ورثة الأنبياء وحملة الدين وبهم تحفظ بيضة الإسلام وشريعة سيد الأنام وقد كان علماء الصحابة يأخذون من العطاء ما يقوم بما(5/67)
يحتاجون إليه مع زيادات كثيرة يتفوضون بها في قضاء حوائج من يرد عليهم من الفقراء وغيرهم والأمر في ذلك مشهور ومنهم من كان يأخذ زيادة على مئة ألف درهم.
ومن جملة هذه الأموال التي كانت تفرق بين المسلمين على هذه الصفة الزكاة وقد قال - صلى الله عليه وسلم -لعمر لما قاله له يعطي من هو أحوج منه: ما أتاك من هذا المال وأنت غير مستشرف ولا سائل فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك، كما في الصحيح والأمر ظاهر] الروضة الندية 1/533 - 534.
وقال الدكتور محمد أبو فارس: [المراد بقوله تعالى: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) طلبة العلم.
أورد هذا القول صاحب الفتاوى الظهيرية من الحنفية واقتصر عليه وهذا قول في مذهب الأباضية كما ذكره كتاب شرح النيل عن التاج. وذكر صاحب منهاج الصالحين من الإمامية جواز أخذ طالب العلم من سهم سبيل الله. أقول: إنني لم أعثر على دليل من الكتاب والسنة استدل به أصحاب هذا القول على مدعاهم وكل الذي استندوا إليه القياس وصورته إذا كان للعامل على الزكاة أن يأخذ منها لأنه يصرف وقته أو جزءاً منه في منفعة للمسلمين فكذلك الذي يتفرغ لطلب العلم فإن مآله إلى نفع المسلمين.
وقياس الطالب المتفرغ للعلم على العامل على الزكاة بجامع حبس النفس لمصلحة المسلمين قياس موفق نؤيده ونراه. إلا أننا لا نحصر سهم سبيل الله في طلبة العلم بل نقول يجوز أن يصرف من هذا السهم لطلبة العلم المتفرغين.
ونقول أيضاً: أن طلب العلم جهاد إذ الجهاد مجاهدة النفس على حمل الحق وتعلم العلم وتعليمه للآخرين.
ونقول أيضاً: إذا كان طالب العلم فقيراً عاجزاً عن الكسب فيعطى من(5/68)
سهم الفقراء لفقره وحاجته وعجزه عن الكسب وإذا كان فقيراً قادراً على الكسب فيعطى من سهم سبيل الله ولا يعطى من سهم الفقراء لأنه غني بقوته وقدرته على الكسب إلا أنه حبس نفسه لمجاهدتها على تعلم العلم وتعليم الناس فدخل بهذا تحت المجاهدين الذين يستحقون سهم سبيل الله مع قدرتهم على الكسب والله سبحانه وتعالى أعلم] إنفاق الزكاة في المصالح العامة ص 82-83.
وقال الدكتور يوسف القرضاوي: [المتفرغ للعلم يأخذ من الزكاة فإذا ما تفرغ لطلب علم نافع وتعذر الجمع بين الكسب وطلب العلم فإنه يعطى من الزكاة قدر ما يعينه على أداء مهمته وما يشبع حاجاته ومنها كتب العلم التي لا بد منها لمصلحة دينه ودنياه.
وإنما أعطي طالب العلم لأنه يقوم بفرض كفاية ولأن فائدة علمه ليست مقصورة عليه بل هي لمجموع الأمة. فمن حقه أن يعان من مال الزكاة لأنها لأحد رجلين: إما لمحتاج من المسلمين أو لمن يحتاج إليه المسلمون وهذا قد جمع بين الأمرين.
واشترط بعضهم أن يكون نجيباً يرجى تفوقه ونفع المسلمين به وإلا لم يستحق الأخذ من الزكاة ما دام قادراً على الكسب وهو قول وجيه.
وهو الذي تسير عليه الدول الحديثة حيث تنفق على النجباء بأن تتيح لهم دراسات خاصة أو ترسلهم في بعثات خارجية أو داخلية] فقه الزكاة 2/560-561.
وقد ذكر الإمام النووي أن المشتغل بتحصيل بعض العلوم الشرعية بحيث لو أقبل على الكسب لانقطع عن التحصيل حلت له الزكاة لأن تحصيل العلم فرض كفاية. المجموع 6/190.
وقال بعض فقهاء الحنفية يجوز لطالب العلم الأخذ من الزكاة ولو(5/69)
كان غنياً إذا فرغ نفسه لإفادة العلم واستفادته لعجزه عن الكسب والحاجة داعية إلى ما لا بد منه. حاشية الطحطاوي ص 392.
وخلاصة الأمر أنه يجوز صرف الزكاة إلى طلبة العلم بشكل عام والمبدعون منهم على وجه الخصوص.(5/70)
الصيام(5/71)
الاختلاف في بداية الصيام
يقول السائل: ما قولكم فيمن ابتدأ صيام رمضان هذا العام يوم الأربعاء اتباعاً لما أعلن في اليمن من ثبوت رؤية الهلال مساء الثلاثاء؟
الجواب: إن قضية بداية شهر الصوم ونهايته تشكل مثاراً للنزاع والاختلاف في كل عام تقريباً والمسألة محل اختلاف بين أهل العلم منذ عهد بعيد فمن العلماء من يرى أن لا عبرة باختلاف المطالع وأن على المسلمين جميعاً أن يصوموا إذا ثبتت رؤية الهلال في بلد والرأي الآخر في المسالة وهو أن لكل بلد رؤيتهم قال به جماعة من أهل العلم والمسألة مسألة اجتهادية محتملة واستدل كل فريق بأدلة من الكتاب والسنة والقياس ولم يكن لهذا الاختلاف بينهم أثر سيىء على الأمة تخشى عاقبته، لحسن قصدهم واحترام كل مجتهد منهم اجتهاد الآخر.
وإن كنت أعتقد رجحان القول الأول بعد النظر في أدلته ولكن هذا القول وهو عدم اعتبار اختلاف المطالع رأي نظري لم يجد طريقه إلى التطبيق العملي في تاريخ المسلمين من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عصرنا الحاضر لعدم توفر وسائل الاتصال التي تربط أنحاء الدولة الإسلامية بعضها مع بعض ومعلوم أن وسائل الاتصال حديثة العهد.(5/73)
إذا تقرر هذا فأقول إن الأمل كبير أن تتوحد الأمة الإسلامية تحت راية لا إله إلا الله، محمد رسول الله وأن تلتزم بشرع الله كاملاً.
ومن ضمن ذلك بداية الصوم ونهايته ولكن إلى أن يتحقق هذا الأمل المنشود أرى أن على مسلمي كل بلد أن يلتزموا بالصوم جميعا بناءً على ما تعلنه الجهة المخولة في كل بلد كالقضاء الشرعي أو الإفتاء أو المراكز الإسلامية.
ويدل على ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحّون) رواه أبو داود والترمذي والبيهقي وهو حديث صحيح.
قال الإمام الترمذي: [وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال: معنى هذا الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس] .
إن المحافظة على وحدة المسلمين الجزئية في البلد الواحد مطلوبة ويجب العمل لها إلى أن تتحقق وحدة المسلمين الكلية أقول هذا ونحن قد وجدنا تمزق هذه الوحدة في البلد الواحد بل في الأسرة الواحدة فبعض الناس صام يوم الأربعاء والأكثر صاموا يوم الخميس وقلة صامت يوم الجمعة فهل هذا مقبول في شرع الله أن تكون بداية رمضان في ثلاثة أيام وماذا سنصنع في العيد، هل سيكون عيد الفطر ثلاثة أعياد وهل ستقام صلاة العيد على مدى ثلاثة أيام؟
ويزعم الذين صاموا يوم الأربعاء أن رأيهم هو الصواب لأنهم أخذوا بالحديث النبوي: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) متفق عليه، وعلى الناس أن يتبعوا ذلك.
ولكن أقول لهم ما هي نتيجة صومكم يوم الأربعاء اتباعاً لليمن؟ النتيجة هي تفرق الأسرة الواحدة في الصيام وتفرق البلدة الواحدة!! ثم هل تتحقق وحدة المسلمين إن صاموا في يوم واحد وأفطروا في يوم واحد مع هذا التمزق السياسي الموجود!!؟(5/74)
إن الحديث عن وحدة المسلمين في الصيام وفي العبادة في ظل الواقع السياسي الممزق للأمة الإسلامية ما هو إلا ترف فكري وقصور في الهمة وتعامي عن مواجهة الحقيقة والواقع فلو فرضنا جدلاً أن جميع دول مسلمي اليوم صامت في يوم واحد فهل توحدت الأمة؟ الجواب بالتأكيد لا.
إن وحدة الأمة الإسلامية أعمق من وحدتهم في الصيام والعيد وإن وحدة المسلمين الحقيقية تكون بتحكيم شرع الله تعالى في جميع شؤونهم!
إن الذين صاموا يوم الأربعاء لم يتعلموا الدرس مما حصل في رمضان سنة 1413 هـ عندما اختلف المسلمون في نهاية رمضان ولم يستخلصوا العبر مما حدث حينذاك.
السؤال الآن ما هو المخرج من هذا الخلاف والنزاع في بداية رمضان ونهايته فالذين يقولون نصوم مع أول بلد يعلن الصوم، ليس لديهم السلطان ليلتزم الناس بقولهم فالخلاف سيستمر ولن ينقطع.
وأعتقد أنه يسع المسلمين اليوم ما وسع المسلمين خلال تاريخهم الطويل وحين كانت لهم دولة واحدة فما كانوا يصومون في يوم واحد وما كان عيدهم واحداً.
وبناءً على ما تقدم أرى أن الحل الصحيح لهذه القضية هو الالتزام بما تعلنه الجهة المخولة في كل بلد كالقاضي الشرعي أو دار الإفتاء فيصوم أهل القطر الواحد جمعياً ويفطرون جميعاً وإذا أطعنا هؤلاء القضاة والمفتين في هذا الأمر فإنما نطيعهم في المعروف بغض النظر عمن عينهم فحكم الحاكم الشرعي في مثل هذه المسألة يقطع النزاع ويرفع الخلاف.
ومعلوم أن جميع المسلمين في هذه البلاد يرجعون إلى القضاء الشرعي في قضاياهم المتعلقة بالزواج والطلاق والميراث وغيرها فيقبلون قولهم فلم لا يقبلون قولهم في هذه المسألة؟
كما وإني لأستغرب لم لا تثار هذه القضية عند بداية شهر ذي الحجة الذي ترتبط به فريضة الحج!! ولا فرق بين هلال رمضان وبين هلال ذي الحجة!! ولماذا يقبل جميع المسلمين ما يقرره مجلس القضاء الأعلى في(5/75)
السعودية؟!! ولا نسمع أحداً من الناس يدعي خلاف ذلك فيقف في عرفات حسب رؤيته!!
كما وأود أن أبين أنه ينبغي الاستئناس بما يقرره علم الفلك وإن كان الأصل هو رؤية العين المجردة ولكن أصول الشريعة الإسلامية وقواعدها العامة لا تمنع أن نستعين بعلم الفلك وخاصة أنه علم متقدم ومتطور وعلم الفلك ليس مجرد حسابات وإنما هو رؤية ولكن بالمراصد والآلات فلا مانع شرعاً من الاستفادة من التقدم العلمي في هذا المجال وبالذات في حالة النفي أي إذا نفى علم الفلك احتمال رؤية الهلال بشكل قطعي فينبغى حينئذ عدم قبول ادعاء الرؤية وهذا هو ما حصل في هذا العام فإن علم الفلك نفى احتمال رؤية الهلال مساء الثلاثاء وأن الهلال لم يكن قد تولد لذا فإني أعتقد أن إعلان اليمن عن ثبوت الرؤية ما هو إلا قرار سياسي ولم يكن القرار بناءً على رؤية حقيقية للهلال لاستحالة ذلك كلياً، وأعتقد أن بداية الصوم الصحيحة كانت يوم الخميس.
وأخيراً أقول إن على المنادين بوحدة المسلمين في الصوم أن يكفوا عن هذه الدعوى لما فيها من تفريق للمسلمين في البلد الواحد وأن يسعوا سعياً حقيقياً إلى الوحدة الحقيقية للمسلمين لا مجرد كلام وتنظير فلسفي وعليهم أن يتركوا قضية إثبات الهلال إلى دور الإفتاء والقضاء في دول مسلمي اليوم وإن الذي يكفل وحدة المسلمين الحقيقية هو اتفاقهم على العمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - في جميع شؤونهم وليس مجرد اتفاقهم على الصيام والعيد في يوم واحد.
المشقة المبيحة للفطر
يقول السائل: ما هي المشقة التي تبيح الفطر في رمضان؟
الجواب: يظن بعض الناس أن اشتغالهم بالأعمال التي فيها شيء من المشقة يبيح لهم الفطر في رمضان كالخباز الذي يقف أمام بيت النار طوال(5/76)
النهار والحداد والحجار ولا بد من بيان متى يجوز الفطر في رمضان بسب المشقة فأقول:
إن الشريعة الإسلامية جاءت برفع الحرج ودفع المشقة عن الناس بل إن هذا أصل من أصول الشريعة الإسلامية وقد قامت الأدلة الكثيرة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - على اعتبار هذا الأصل يقول الله سبحانه وتعالى: (ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) سورة المائدة الآية 6.
وقال تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) سورة الحج الآية 78.
وقال تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) سورة البقرة الآية 185.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وبشروا) رواه البخاري.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما لمّا بعثهما إلى اليمن:
(يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا) رواه البخاري.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلماً ميسراً) رواه مسلم، وغير ذلك من النصوص الشرعية.
ومن خلال هذه النصوص نرى أن الشريعة الإسلامية شريعة يسر وسهولة رفعت الحرج ودفعت المشقة عن الناس وليس معنى هذا أن يتحلل الناس من الأحكام الشرعية لأدنى مشقة تلحق بهم فإنه لا يكاد عمل في الدنيا يخلو من نوع من المشقة وقد جعل العلماء المشقة على نوعين:
1. مشقة معتادة يتحملها الناس عادة ولا تخلو منها التكاليف الشرعية كالوضوء بالماء البارد وكالصوم في اليوم الحارّ والحج في أشهر الصيف وغيرها فهذه المشاق كلها لا أثر لها في إسقاط العبادات والطاعات(5/77)
ولا في تخفيفها كما قال العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام 2/7.
2. ومشقة غير معتادة لا يستطيع الناس أن يداوموا عليها باستمرار كالوصال في الصوم وقيام الليل كله باستمرار ونحو ذلك.
فهذه المشاق لا يجوز شرعاً للمكلف أن يجلبها على نفسه فيقع في الحرج والمشقة وإن حصلت في التكاليف الشرعية فيجوز حينئذ الأخذ بالرخصة الشرعية.
وبناءً على ما تقدم أقول لا يجوز للإنسان أن يفطر في رمضان إلا إذا لحقه أذى شديد بسبب الصوم فالمريض الذي منعه الأطباء من الصوم لأن الصوم يزيد المرض أو يؤخر الشفاء يجوز له الفطر وأما أصحاب المهن كالنجار والحداد والخباز والحجار فعليهم أن يصوموا ولا يجوز لهم الفطر لأن هؤلاء قد اعتادوا على مهنتهم وصارت حياتهم منسجمة تماماً مع أعمالهم فالخباز الذي يقف أمام بيت النار يومياً صار ذلك بالنسبة له شيء عادي فلا يجوز له أن يفطر.
ومن المعلوم أن صيام رمضان فرض لا يجوز للمكلف تركه إلا لعذر شرعي والذين يدعون أنهم يعملون في أشغال شاقة بإمكانهم أن يأخذوا إجازة من عملهم في شهر رمضان أو أن يبحثوا عن أعمال أخرى لا مشقة شديدة فيها فإن لم يتيسر لهم ذلك واضطروا للعمل كما يضطر الإنسان إلى أكل الميتة فإن عليهم أن يصوموا فإذا شعروا بالحرج والضيق من الصوم أفطروا ثم أمسكوا بقية يومهم وعليهم القضاء فيما بعد.
قال الله جل جلاله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) سورة الطلاق الآيتان 2-3.(5/78)
فتح المطاعم في نهار رمضان
يقول السائل: إنه صاحب مطعم في مدينة القدس ويسأل عن فتح مطعمه في نهار رمضان مع العلم أن الزبائن هم من السياح الأجانب فما حكم ذلك؟
الجواب: لا يجوز فتح المطاعم والمقاهي ونحوها في نهار رمضان وإن كان زبائنها من غير المسلمين محافظةً على حرمة شهر رمضان فإن الواجب على كل مسلم أن يسعى جاهداً لمنع مظاهر التهاون في الصيام بشكل عام فلا يجوز تقديم الطعام والشراب للمفطرين في رمضان من المسلمين وكذلك لغير المسلمين لما في ذلك من التعاون على الإثم والعدوان والمفروض في الشخص المسلم الذي يبتلى بالإفطار في رمضان لعذر شرعي كالمرض أو السفر أو الحيض أو النفاس أو غير ذلك من الأعذار أن لا يجاهر بالفطر على مرأى من الصائمين وعلى هؤلاء أن يستتروا عن أعين الصائمين.
وأما الذين يفطرون عمداً دونما عذر فهؤلاء فسقة فاسدون فإذا جاهروا بالفطر فقد ازدادوا فسقاً على فسقهم وأما غير المسلمين فينبغي لهم أن يراعوا مشاعر المسلمين في الصوم فلا يجاهروا بالأكل والشرب بين المسلمين.
فإن جاهروا ولا حول ولا قوة للمسلمين كما هو حال المسلمين الآن فالمطلوب من المسلم ألا يعينهم على هذا الأمر وهذا أقل الواجب.
وبناءاً على ذلك لا يجوز فتح المطاعم والمقاهي في نهار رمضان ويحرم على المسلم أن يقدم الطعام للمسلم المفطر في نهار رمضان المجاهر بالمعصية فإن أعانه على ذلك فهو آثم وهذا من التعاون على الإثم والعدوان.(5/79)
صيام يوم عاشوراء
يقول السائل: إنه سمع أحد المشايخ يمنع من صيام يوم عاشوراء هذا العام لأنه صادف يوم السبت لما ورد في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم) فما قولكم؟
الجواب: قد أخطأ هذا الشيخ في منعه صيام يوم عاشوراء لأنه صادف يوم السبت اعتماداً على الحديث وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجر فليمضغه) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم.
وهذا الحديث اختلف فيه أهل الحديث اختلافاً كبيراً فصححه بعضهم وأعله آخرون بالاضطراب وقد فصل الكلام عليه الشيخ الألباني في إرواء الغليل 4/118-125 وحكم بصحته. وقال أبو داود صاحب السنن إنه منسوخ ولم يسلم له ذلك.
وعلى كل حال فإن الحديث ثابت إلا أنه لا يؤخذ منه منع صوم يوم عاشوراء إن صادف يوم سبت فهذا الفهم غريب عجيب وإذا قلنا به فمعنى ذلك أنه لا ينبغي لنا أن نصوم يوم عرفة أيضاً إن وافق يوم سبت وهذا لم يقل به أحد من العلماء فيما أعلم.
فنحن نصوم يوم عاشوراء لأنه يوم عاشوراء بغض النظر صادف الجمعة أو السبت أو الأحد، وكذلك نصوم يوم عرفة بغض النظر صادف الجمعة أو السبت أو الأحد اقتداءً بهدي المصطفى- صلى الله عليه وسلم - وقد قال العلماء إن المقصود بالنهي في الحديث هو إفراد يوم السبت بالصيام، قال الإمام الترمذي بعد أن ذكر الحديث: [ومعنى كراهته في هذا أن يخص الرجل يوم السبت بصيام لأن اليهود تعظم السبت] سنن الترمذي مع شرحه عارضة الأحوذي 2/220.
وقال العلامة ابن القيم: [وقال جماعة من أهل العلم: لا تعارض بينه وبين حديث أم سلمة فإن النهي عن صومه إنما هو عن إفراده وعلى ذلك(5/80)
ترجم أبو داود فقال: باب النهي أن يخص يوم السبت بالصوم وحديث صيامه إنما هو مع يوم الأحد.
قال: ونظير هذا أنه نهى عن إفراد يوم الجمعة بالصوم إلا أن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده وبهذا يزول الإشكال الذي ظنه من قال: إن صومه نوع تعظيم له فهو موافقة لأهل الكتاب في تعظيمه وإن تضمن مخالفتهم في صومه فإن التعظيم إنما يكون إذا أفرد بالصوم ولا ريب أن الحديث لم يجىء بإفراده وأما إذا صامه مع غيره لم يكن فيه تعظيم. والله أعلم] زاد المعاد 2/79-80.
وقال العلامة علي القاري: [قال الطيبي: قالوا النهي عن الإفراد كما في الجمعة والمقصود مخالفة اليهود فيهما والنهي فيهما للتنزيه عند الجمهور وما افترض يتناول المكتوب والمنذور وقضاء الفوائت وصوم الكفارة وفي معناه ما وافق سنة مؤكدة كعرفة وعاشوراء، أو وافق ورداً] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 4/599.
وقال الإمام النووي: [والصواب على الجملة ما قدمناه عن أصحابنا أنه يكره إفراد السبت بالصيام إذا لم يوافق عادة له] المجموع 6/440.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي بعد أن ذكر الحديث: [والمكروه إفراده فإن صام معه غيره لم يكره لحديث أبي هريرة وجويرية وإن وافق صوماً لإنسان لم يكره..] المغني 3/171.
ويوم السبت وافق صوماً لمحمد - صلى الله عليه وسلم - فنصومه ولا نسمع لقول من منع صومه لجموده على ظاهر النص.(5/81)
الحج(5/83)
إبراء الذمة من الحقوق قبل الحج
يقول السائل: يقول السائل إن أحد الأشخاص ينوي الحج وأن في ذمته حقوقاً للسائل ويرفض إعطاءه هذه الحقوق حتى يعود من الحج فما حكم ذلك؟
الجواب: الواجب على المسلم إذا نوى الحج أن يبرئ ذمته من حقوق العباد بأن يخلص نفسه وينقيها مما وجب عليه شرعاً لعباد الله، يقول الله تعالى: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) سورة البقرة الآية 188.
ويقول الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) سورة المائدة الآية 1.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء) رواه مسلم.
وعنه أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله) رواه البخاري.
وعنه أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أتدرون من المفلس، قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإذا فنيت(5/85)
حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار) رواه مسلم.
وغير ذلك من الأحاديث التي يؤخذ منها أن على المسلم أن يبرئ ذمته من حقوق العباد وقد أكد العلماء على إبراء الذمة من حقوق العباد لمن أراد الحج فينبغي عليه أن يبرئ ذمته.
قال الأمام النووي: [إذا استقر عزمه لسفر حج أو غزو أو غيرهما فينبغي أن يبدأ بالتوبة من جميع المعاصي والمكروهات ويخرج من مظالم الخلق ويقضي ما أمكنه من ديونهم ويرد الودائع ويستحل كل من بينه وبينه معاملة في شيء أو مصاحبة ويكتب وصيته ويشهد عليه بها ويوكل من يقضي ما لم يتمكن من قضائه من ديون ويترك لأهله ومن يلزمه نفقته نفقتهم إلى حين رجوعه] المجموع 4/385.
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز: [إذا عزم المسلم السفر إلى الحج أو العمرة استحب له أن يوصي أهله وأصحابه بتقوى الله عز وجل وهي فعل أوامره واجتناب نواهيه وينبغي أن يكتب ماله وما عليه من الدين ويشهد على ذلك ويجب عليه المبادرة إلى التوبة النصوح من جميع الذنوب لقوله تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وحقيقة التوبة الإقلاع من الذنوب وتركها والندم على ما مضى منها والعزيمة على عدم العودة فيها وإن كان عنده للناس مظالم من نفس أو مال أو عرض ردها إليهم أو تحللهم منها قبل سفره لما صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من كان عنده مظلمة لأخيه من مال أو عرض فليتحلل اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه) ] التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة ص 10-11.
فالواجب على هذا الشخص أن يبرىء ذمته من جميع حقوق العباد قبل سفره للحج.(5/86)
هل الردة مبطلة للحج؟
يقول السائل: حج شخص قبل مدة ثم ارتد عن الإسلام وبقي مرتداً مدة من الزمن ثم هداه الله وعاد الآن إلى الإسلام وندم على ما حصل منه ويسأل عن حجته التي حجها هل تعد مسقطة لحجة الإسلام أم يلزمه أن يحج مرة أخرى؟
الجواب: الردة هي خروج المسلم عن الإسلام وكفره به والعياذ بالله وقد اختلف أهل العلم في إحباط العمل بالردة واختلفوا في تفسير الآيات الواردة في ذلك.
يقول الله تعالى: (ومن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) سورة البقرة الآية 217.
ويقول الله تعالى: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) سورة المائدة الآية 5.
فمن العلماء من قال إن الردة التي تحبط الأعمال وتبطلها هي الردة المستمرة حتى الوفاة بأن يموت الشخص على الكفر لما في الآية الكريمة (فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ) فإذا لم يمت على الكفر بأن عاد إلى الإسلام فإن ثواب عمله يحبط ولا يطالب بإعادة العمل. ومنهم من رأى أن الأعمال تبطل بمجرد الارتداد لقول الله تعالى: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) .
والمراد بحبوط الأعمال: [أي صارت أعمالهم الحسنة التي عملوها في حالة الإسلام فاسدة بمنزلة ما لم تكن. قيل وأصل الحبط فساد يلحق الماشية بأكل الحباط وهو ضرب من الكلأ مضر وفي النهاية أحبط الله تعالى عمله أبطله، يقال: حبط عمله وأحبط وأحبطه غيره وهو من قولهم حبطت الدابة حبطاً بالتحريك إذا أصابت مرعى طيباً فأفرطت في الأكل حتى تنتفخ فتموت وقرء حبطت بالفتح وهو لغة فيه] تفسير الألوسي 1/505.(5/87)
قال الإمام النووي: [ومن حج ثم ارتد ثم أسلم لم يلزمه الحج بل يجزئه حجته السابقة عندنا وقال أبو حنيفة وآخرون يلزمه الحج ومبنى الخلاف على أن الردة متى تحبط العمل؟ فعندهم تحبطه في الحال سواء أسلم بعدها أم لا فيصير كمن لم يحج. وعندنا لا تحبطه إلا إذا اتصلت بالموت لقوله تعالى: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) ] المجموع 7/9.
وقال الإمام النووي أيضاً: [إذا صلى المسلم ثم ارتد ثم أسلم ووقت تلك الصلاة باق لم يجب إعادتها وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد في رواية عنه يجب والمسألة مبنية على أصل سبق وهو أن عندنا لا تبطل الأعمال بالردة إلا أن تتصل بالموت وعندهم يبطل بنفس الارتداد احتجوا بقول الله تعالى: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) واحتج أصحابنا بقول الله تعالى: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) فعلق الحبوط بشرطين الردة والموت عليها والمعلق بشرطين لا يثبت بأحدهما والآية التي احتجوا بها مطلقة وهذه مقيدة فيحمل المطلق على المقيد، قال الشافعي والأصحاب يلزم المرتد إذا أسلم أن يقضي كل ما فاته في الردة أو قبلها وهو مخاطب في حال الردة بجميع ما يخاطب به المسلم وإذا أسلم لا يلزمه إعادة ما كان فعله قبل الردة من حج وصلاة وغيرهما والله أعلم] المجموع 3/5.
وقال الإمام ابن العربي المالكي: [اختلف العلماء رحمة الله عليهم في المرتد هل يحبط عمله نفس الردة أم لا يحبط إلا على الموافاة على الكفر؟ فقال الشافعي: لا يحبط له عمل إلا بالموافاة كافراً وقال مالك يحبط بنفس الردة ويظهر الخلاف في المسلم إذا حج ثم ارتد ثم أسلم فقال مالك: يلزمه الحج لأن الأول قد حبط بالردة. وقال الشافعي: لا إعادة عليه لأن عمله باق، واستظهر عليه علماؤنا بقول الله تعالى: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ ليَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) وقالوا: هو خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد به أمته(5/88)
لأنه - صلى الله عليه وسلم - يستحيل منه الردة شرعاً، وقال أصحاب الشافعي: بل هو خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - على طريق التغليظ على الأمة وبيان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - على شرف منزلته لو أشرك لحبط عمله فكيف أنتم؟ لكنه لا يشرك لفضل مرتبته، كما قال الله تعالى:
(يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ) وذلك لشرف منزلتهن وإلا فلا يتصور إتيان فاحشة منهن صيانة لصاحبهن المكرم المعظم، قال ابن عباس حين قرأ: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا) والله ما بغت امرأة نبي قط ولكنهما كفرتا. وقال علماؤنا: إنما ذكر الموافاة شرطاً هاهنا لأنه علق عليها الخلود في النار جزاءً فمن وافى كافراً خلّده الله في النار بهذه الآية ومن أشرك حبط عمله بالآية الأخرى، فهما آيتان مفيدتان لمعنيين مختلفين وحكمين متغايرين وما خوطب به النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو لأمته حتى يثبت اختصاصه به وما ورد في أزواجه - صلى الله عليه وسلم -فإنما قيل ذلك فيهن ليبين أنه لو تصور لكان هتكاً لحرمة الدين وحرمة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكل هتك حرمة عقاب وينزل ذلك منزلة من عصى في شهر حرام أو في البلد الحرام أو في المسجد الحرام فإن العذاب يضاعف عليه بعدد ما هتك من الحرمات والله الواقي لا رب غيره] أحكام القرآن 1/147-148، وانظر تفسير القرطبي 3/48- 49.
وقال الألوسي: [واستدل الشافعي بالآية على أن الردة لا تحبط الأعمال حتى يموت عليها وذلك بناءً على أنها لو أحبطت مطلقاً لما كان للتقييد بقوله سبحانه: (فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ) فائدة والقول بأن فائدته أن إحباط جميع الأعمال حتى لا يكون له عمل أصلاً موقوف على الموت على الكفر حتى لو مات مؤمناً لا يحبط إيمانه ولا عمل يقارنه وذلك لا ينافي إحباط الأعمال السابقة على الارتداد بمجرد الارتداد مما لا معنى له لأن المراد من الأعمال في الآية الأعمال السابقة على الارتداد إذ لا معنى لحبوط ما لم يفعل فحينئذ لا يتأتى هذا القول كما لا يخفى وقيل بناءً على أنه جعل الموت عليها شرطاً في الإحباط وعند انتفاء الشرط ينتفي المشروط(5/89)
واعترض بأن الشرط النحوي والتعليقي ليس بهذا المعنى بل غايته السببية والملزومية وانتفاء السبب أو الملزوم لا يوجب انتفاء المسبب أو اللازم لجواز تعدد الأسباب ولو كان شرطاً بهذا المعنى لم يتصور اختلاف القول بمفهوم الشرط.
وذهب إمامنا أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إلى أن مجرد الارتداد يوجب الإحباط لقوله تعالى: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) المائدة الآية 5.
وما استدل به الشافعي ليس صريحاً في المقصود لأنه إنما يتم إذا كان جملة: (وأؤلئك) الخ، تذييلاً معطوفاً على الجملة الشرطية وأما لو كانت معطوفة على الجزاء وكان مجموع الإحباط والخلود في النار مرتباً على الموت على الردة فلا نسلم تماميته ومن زعم ذلك اعترض على الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه بأن اللازم عليه حمل المطلق على المقيد عملاً بالدليلين وأجيب بأن حمل المطلق على المقيد مشروط عنده بكون الإطلاق والتقييد في الحكم واتحاد الحادثة وما هنا في السبب فلا يجوز الحمل لجواز أن يكون المطلق سبباً كالمقيد] تفسير الألوسي 1/505.
وبعد هذا العرض لأقوال العلماء يظهر أن حمل المطلق على المقيد وجيه جداً.
قال الشوكاني: [والواجب حمل ما أطلقته الآيات في غير هذا الموضع على ما في هذه الآية من التقييد] تفسير فتح القدير 1/218.
وقال الشيخ الشنقيطي: [ومقتضى الأصول حمل هذا المطلق على هذا المقيد فيقيد إحباط العمل بالموت على الكفر وهو قول الشافعي ومن وافقه خلافاً لمالك القائل بإحباط الردة العمل مطلقاً] أضواء البيان 2/6.
ومع وجاهة هذا القول وقوته وهو أن الحج السابق على الردة معتبر ولا يلزم إعادته فأقول خروجاً من خلاف أهل العلم أرى أن يحج هذا(5/90)
الشخص مرة أخرى وقد صح في الحديث قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (دع ما يريبك إلا ما لا يريبك) رواه أحمد والنسائي والترمذي وقال: حسن صحيح. وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي.(5/91)
الأضحية(5/93)
الأضحية عن الأسرة الواحدة
يقول السائل: نحن أسرة كبيرة مكونة من الوالدين وعدد من الأبناء المتزوجين وكلنا نسكن في بيت واحد ونأكل جميعاً فهل تجزىء عنا أضحية واحدة؟
الجواب: قال جمهور أهل العلم إن الشاة الواحدة تجزئ عن أهل البيت الواحد، فإذا ضحى بها واحد من أهل البيت، تأدى الشعار والسنة بجميعهم، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والأوزاعي. المغني 9/438 المجموع 8/384. ويدل على ذلك ما يلي:
1. روى الترمذي بإسناده عن عُمارة بن عبد الله قال: (سمعت عطاء بن يسار يقول: سألت أبا أيوب: (كيف كانت الضحايا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: كان الرجل يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون ويطعمون حتى تباهى الناس فصارت كما ترى) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ورواه ابن ماجة ومالك. قال الإمام النووي: هذا حديث صحيح. والصحيح أن هذه الصيغة تقتضي أنه حديث مرفوع. وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 2/203.
2. وروى ابن ماجة بإسناده عن الشعبي عن أبي سريحة - رضي الله عنه - وهو صحابي شهد الحديبية - قال: (حملني أهلي على الجفاء بعد ما(5/95)
علمت من السنة. كان أهل البيت يضحون بالشاة والشاتين والآن يُبَخِّلُنا جيراننا) . قال في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله موثقون. ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي وقال الشيخ الألباني: صحيح الإسناد. المستدرك 4/245، صحيح سنن ابن ماجه 2/203.
3. ومما يدل على ذلك حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: (شهدتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأضحى في المصلى فلما قضى خطبته نزل من منبره وأُتِيَ بكبشٍ فذبحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده وقال: باسم الله والله أكبر، هذا عني وعمن لم يضح من أمتي) . رواه أبو داود في باب: الشاة يضحى بها عن جماعة وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/540.
4. وعن عبد الله بن هشام قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحي بالشاة الواحدة عن جميع أهله) رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. المستدرك 4/255.
5. وعن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله أمر بكبش أقرن، يطأ في سواد، ويبرك في سواد، وينظر في سواد، فأُتِيَ به ليضحي به فقال لها: يا عائشة هلمي المدية.
ثم قال: اشحذيها بحجر ففعلت، ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه ثم قال: باسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد، ومن أمة محمد ثم ضحى به) رواه مسلم وأبو داود وغيرهما.
قال النووي: [واستدل بهذا من جوَّز تضحية الرجل عنه وعن أهل بيته واشتراكهم معه في الثواب، وهو مذهبنا ومذهب الجمهور ... ] شرح النووي على صحيح مسلم 5/105 -106.
وقال الخطابي: [وفي قوله: (تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد) دليل على أن الشاة الواحدة تجزئ عن الرجل وأهله وإن كثروا، وروي عن أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهم أنهما كانا يفعلان ذلك، وأجازه مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد، وكره ذلك الثوري وأبو حنيفة] معالم السنن 2/197.(5/96)
6. ونقل ابن قدامة عن صالح بن أحمد بن حنبل قال: [قلت لأبي: يُضَحَّى بالشاة عن أهل البيت؟ قال: نعم لا بأس. قد ذبح النبي - صلى الله عليه وسلم - كبشين فقرَّب أحدهما فقال: بسم الله اللهم هذا عن محمد وأهل بيته. وقرَّب الآخر فقال: بسم الله اللهم هذا منك ولك عمن وَحَّدَكَ من أمتي] المغني 9/438.
وحكى عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: (أنه كان يضحي بالشاة فتجئ ابنته فتقول: عني، فيقول: وعنك) المغني 9/438.
قال العلامة ابن القيم: [وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - أن الشاة تجزئ عن الرجل وعن أهل بيته ولو كثر عددهم] ثم ذكر حديث أبي أيوب السابق. زاد المعاد 2/323.
وقال الشوكاني: [قوله: (يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته) فيه دليل على أن الشاة تجزئ عن أهل البيت، لأن الصحابة كانوا يفعلون ذلك في عهده - صلى الله عليه وسلم - والظاهر اطلاعه فلا ينكر عليهم ... والحق أنها تجزئ عن أهل البيت، وإن كانوا مئة نفس أو أكثر كما قضت بذلك السنة] نيل الأوطار 5/137.
وبهذا يظهر لي بأن الشاة الواحدة تجزئ عن الرجل وعن أهل بيته، مهما كان عددهم لقوة الأدلة على ذلك.
أفضل أنواع الأضحية
يقول السائل: ما هو الأفضل في الأضحية من أنواع الأنعام؟
الجواب: اختلف الفقهاء في الأفضل في الأضحية من أنواع الأنعام فمنهم من قال أفضل الأضاحي هي البدنة ثم البقرة ثم الشاة. ومنهم من قال أفضلها ما كان أكثر لحماً وأطيب، ومنهم من قال أفضلها الضأن ثم البقر ثم الإبل.(5/97)
والذي يظهر لي رجحان قول من قال إن الأفضل في الأضحية الغنم ثم الإبل ثم البقر وهو قول المالكية ويدل على ذلك قول الله تعالى: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) سورة الصافات الآية 107.
وكان الذبح العظيم كبشاً، فالله سبحانه وتعالى وصفه بالعظيم، ولم يحصل هذا الوصف لغيره. الذخيرة 4/143.
وقال القرطبي: [ (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) ، أي ضخم الجثة سمين، وذلك كبشٌ لا جملٌ ولا بقرة] تفسير القرطبي 15/107.
وقال ابن دقيق العيد: [وقد يستدل للمالكية باختيار النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأضاحي للغنم، وباختيار الله تعالى في فداء الذبيح] إحكام الأحكام 2/291.
ولأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يضحي بالغنم بل بالكباش وقد ثبت ذلك في أحاديث منها:
ما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أمر بكبش أقرن، يطأ في سواد ويبرك في سواد وينظر في سواد ... وأخذ الكبش فأضجعه ... ) رواه مسلم.
قال الشنقيطي: [وقد تكرر من الرسول - صلى الله عليه وسلم - التضحية بالغنم، وهو - صلى الله عليه وسلم - لا يضحي مكرراً ذلك عاماً بعد عام، إلا بما هو الأفضل في الأضحية، فلو كانت التضحية بالإبل والبقر أفضل لفعل - صلى الله عليه وسلم - ذلك الأفضل] أضواء البيان 5/435.
فعن أنس - رضي الله عنه -: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يضحي بكبشين وأنا أضحي بكبشين) رواه البخاري ومسلم.
وفي قول أنس (كان يضحي) ما يدل على المداومة.
وعن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بكبش أقرن يطأ في سواد ويبرك في سواد وينظر في سواد فأتي به ليضحي به ... الخ) رواه مسلم.(5/98)
حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: (ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عيد بكبشين ... ) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة.
وعن عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كان إذ أراد أن يضحي اشترى كبشين عظيمين سمينين أقرنين أملحين موجوئين ... الخ) رواه أحمد وابن ماجة.
وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: (ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكبش أقرن فحيل، يأكل في سواد، ويمشي في سواد، وينظر في سواد) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.
وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: (شهدتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأضحى بالمصلى فلمَّا قضى خطبته نزل من منبره وأُتِيَ بكبش فذبحه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بيده ... الخ) رواه أبو داود والترمذي.
وعن ثوبان - رضي الله عنه - قال: (ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: يا ثوبان أصلح لنا لحم هذه الشاة. فما زلت أطعمه منها حتى قدمنا المدينة) رواه مسلم.
وعن علي - رضي الله عنه -: (أنه كإن يضحي بكبشين أحدهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والآخر عن نفسه. فقيل له. فقال: أمرني به يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا أدعه أبداً) رواه الترمذي وأبو داود.
ومما يدل على أفضلية التضحية بالكبش، أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقتدون بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في تضحيته بالكبش، كما في حديث أنس - رضي الله عنه - السابق وفيه: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يضحي بكبشين وأنا أضحي بكبشين) .
فهذا يدل على اتباع أنس - رضي الله عنه - للرسول - صلى الله عليه وسلم - في التضحية بالكبشين، كما يدل الحديث أيضاً على مداومة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على التضحية بالكبش.(5/99)
وعن يونس بن ميسرة بن حلس قال: (خرجت مع أبي سعيد الزرقي صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى شراء الضحايا. قال يونس: فأشار أبو سعيد إلى كبش أدغم ليس بالمرتفع ولا المتضع في جسمه فقال: اشتر لي هذا. كأنه شبهه بكبش رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) رواه ابن ماجة، وقال البوصيري في الزوائد: إسناده صحيح. وصححه الشيخ الألباني ورواه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي.
وعن النعمان بن أبي فاطمة - رضي الله عنه -: (أنه اشترى كبشاً أعين أقرن، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رآه فقال: كأنَّ هذا الكبش الذي ذبح إبراهيم. فعمد رجل من الأنصار فاشترى للنبي - صلى الله عليه وسلم - من هذه الصفة، فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - فضحى به) رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات قاله الهيثمي. وغير ذلك من النصوص.(5/100)
الأَيمان(5/101)
كثرة حلف الأيمان
يقول السائل: كثير من الناس وخاصة التجار يكثرون من الحلف في تعاملهم مع بعضهم بعضاً فتسمع التاجر يحلف والسائق يحلف وصاحب الحرفة يحلف، فما حكم هذه الأيمان؟
الجواب: إن كثرة حلف الأيمان من الناس تدل على نقصان ثقتهم بعضهم ببعض فيلجئون للحلف حتى يصدقوا فيما يقولون وهذه حال أكثر التجار فإنهم يكثرون من الأيمان ليصدقهم الناس في كلامهم.
وكثرة الحلف مكروهة هذا إذا كان الحالف صادقاً قال الله تعالى: (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) سورة المائدة الآية 89.
قال القرطبي: [أي بترك الحلف فإنكم إذا لم تحلفوا لم تتوجه عليكم هذه التكليفات] تفسير القرطبي 6/285.
ونقل القرطبي أيضاً عن بعض المفسرين في قوله تعالى: (ولآ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) سورة البقرة الآية 224، [بأن المعنى لا تكثروا من اليمين بالله تعالى فإنه أهيب للقلوب ولهذا قال الله تعالى: (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) وذمَّ من كثّر اليمين فقال الله تعالى: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) والعرب تمتدح بقلة الأيمان ... ] تفسير القرطبي 3/97.(5/103)
وأما إذا كان الحالف كاذباً متعمداً للكذب فقد وقع في الحرام قال الله تعالى: (إن الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) سورة آل عمران الآية 77.
وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كثرة الحلف في البيع والشراء ويلحق به غيرهما من وجوه التعامل بين الناس فقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي قتادة الأنصاري أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إياكم وكثرة الحلف في البيع فإنه ينفق ثم يمحق) رواه مسلم.
قال الإمام النووي: [وفيه النهي عن كثرة الحلف في البيع فإن الحلف من غير حاجة مكروه وينضم إليه ترويج السلعة وربما اغتر المشتري باليمين] شرح النووي على صحيح مسلم 3/220.
وقال الحافظ أبو العباس القرطبي المحدّث - وهو شيخ القرطبي المفسر -: [وقوله: (الحلف منفقة للسلعة ممحقة للربح) الرواية: منفقة ممحقة - بفتح الميم وسكون ما بعدها وفتح مابعدها - وهما في الأصل مصدران مزيدان محدودان بمعنى: النَّفاق. والمحق أي الحلف الفاجرة تنفق السلعة وتمحق بسببها البركة فهي ذات نفاق وذات محق. ومعنى تمحق البركة أي تذهبها وقد تذهب رأس المال كما قال الله تعالى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) وقد يتعدى المحق إلى الحالف فيعاقب بإهلاكه وبتوالي المصائب عليه وقد يتعدى ذلك إلى خراب بيته وبلده كما روي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (اليمين الفاجرة تذر الديار بلاقع) أي: خالية من سكانها إذا توافقوا على التجرؤ على الأيمان الفاجرة. وأما محق الحسنات في الآخرة فلا بد منه لمن لم يتب وسبب هذا كله أن اليمين الكاذبة يمين غموس يؤكل بها مال المسلم بالباطل.
وقوله: (إياكم وكثرة الحلف فإنه ينفق ثم يمحق) إياكم معناه الزجر(5/104)
والتحذير ... أي: إحذره واتقه وإنما حذر من كثرة الحلف لأن الغالب ممن كثرت أيمانه وقوعه في الكذب والفجور وإن سلم من ذلك على بعده لم يسلم من الحنث أو الندم لأن اليمين حنث أو مندمة وإن سلم من ذلك لم يسلم من مدح السلعة المحلوف عليها والإفراط في تزيينها ليروجها على المشتري مع ما في ذلك من ذكر الله تعالى لا على جهة التعظيم بل على جهة مدح السلعة فاليمين على ذلك تعظيم للسلع لا تعظيم لله تعالى وهذه كلها أنواع من المفاسد لا يقدم عليها إلا من عقله ودينه فاسد] المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 4/522-523.
وجاء في الحديث عن عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه -: (أن رجلاً أقام سلعة وهو في السوق فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يعط ليوقع فيها رجلاً من المسلمين فنزلت:
(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا)) رواه البخاري.
وعن أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم قال: فقرأها رسول الله ثلاث مرار. قال أبو ذر: خابوا وخسروا من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب) رواه مسلم. والمسبل هو الذي يجر رداءه تكبراً واختيالاً والمنان هو الذي لا يعطي شيئاً إلا منة.
وعن سلمان - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: أشيمط زان وعائل مستكبر ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه) رواه الطبراني في معاجمه الثلاثة وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير 1/589.
وجاء في رواية أخرى: (رجل اتخذ الأيمان بضاعة يحلف في كل حق وباطل) رواه الطبراني وقال الشيخ الألباني: حسن، كما في المصدر السابق.
والأشيمط الزاني هو الرجل الكبير في العمر ومع ذلك يزني والعائل المستكبر هو ذو العيال المتكبر وغير ذلك من الأحاديث.(5/105)
فعلى التجار أن يتقوا الله في أنفسهم وأن لا يكثروا من الأيمان.
قال أبو حامد الغزالي: [ولا ينبغي أن يحلف عليه البتة فإنه إن كان كاذباً فقد جاء باليمين الغموس وهي من الكبائر التي تذر الديار بلاقع. وإن كان صادقاً فقد جعل الله عرضة لأيمانه وقد أساء فيه إذا الدنيا أخس من أن يقصد ترويجها بذكر اسم الله من غير ضرورة ... فإذا كان الثناء على السلعة مع الصدق مكروهاً من حيث أنه فضول لا يزيد في الرزق فلا يخفى التغليظ في أمر اليمين] إحياء علوم الدين 2/77.
وأخيراً فإن التاجر إذا كثر منه الحلف فعليه أن يكثر من الصدقة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يا معشر التجار إن البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة) أي اخلطوه بالصدقة رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/640.
إذا حلف يميناً ثم ندم عليه
يقول السائل: إن متسولاً ألح عليه في الطلب ليتصدق عليه وإن السائل حلف يمينأً ألا يتصدق عليه ثم ندم على يمينه فماذا يصنع؟
الجواب: يقول الله تعالى: (ولآ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) سورة البقرة الآية 224.
لا يجوز للمسلم أن يجعل الأيمان حائلاً دون فعل الخيرات ومن ذلك التصدق على الفقراء والمحتاجين فيجب على السائل أن يكفر عن يمينه ثم يتصدق على ذلك المتسول إن كان مستحقاً للصدقة.
وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه) رواه مسلم.
وقد ذكر الإمام القرطبي: [أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - لما(5/106)
وقعت حادثة الإفك حلف أبو بكر - رضي الله عنه - ألا ينفق على مسطح بن أثاثة وكان قد شارك في حادثة الإفك وكان أبو بكر - رضي الله عنه - ينفق على مسطح حيث كان ابن خالته ومن المهاجرين البدريين المساكين فنزل قول الله تعالى: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) سورة النور الآية 22.
فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: والله إني لأحب أن يغفر لي، فأرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال أبو بكر: لا أنزعها منه أبداً.
ومعنى قوله تعالى: (وَلَا يَأْتَلِ) أي لا يحلف مأخوذ من الألية وهي اليمين] تفسير القرطبي 12/207-208.
من أحكام كفارة اليمين
يقول السائل: هل يجوز للشخص أن يكفر عن يمين أو أكثر كفارة واحدة؟ وما هو مقدار الإطعام في الكفارة؟ وما هو مقدار النقود في الكفارة؟ وهل يجوز أن تعطى الكفارة لشخص واحد أم يجب تفريقها على عشرة مساكين؟
الجواب: إذا حلف المسلم يميناً ثم حنث بها فتجب الكفارة في حقه وقد صح في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من حلف على يمين فرأى خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه) رواه مسلم.
وسواء كفر عن يمينه قبل الحنث أو بعده فإن ذلك جائز على الراجح من أقوال أهل العلم.
والأصل أن الكفارة تكون عن اليمين الواحدة ولكن هنالك حالات قال الفقهاء تتداخل فيها الكفارة فتجزئ الكفارة الواحدة عن الأيمان المتعددة فمن ذلك:(5/107)
إذا حلف شخص أيماناً مكررة على شيء واحد كأن يحلف قائلاً: والله لا آكل هذا الطعام، والله لا آكل هذا الطعام، والله لا آكل هذا الطعام. فإذا حنث بهذه الأيمان فتلزمه كفارة واحدة فقط على الراجح من أقوال العلماء وهذا هو القول المعتمد عند الشافعية وهو قول الحنابلة ونقل عن جماعة من الصحابة والتابعين كابن عمر رضي الله عنهما والحسن البصري وعروة بن الزبير وهو قول إسحاق بن راهويه والإمام الأوزاعي وابن حزم واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية. المغني 9/514، المحلى 6/312، الاستذكار 15/82.
وروى عبد الرزاق عن ابن جريج قال: حدثت أن ابن جريج قال: حدثت أن ابن عمر قال لغلام له ومجاهد يسمع وكان يبعث غلامه ذاك إلى الشام: [إنك تزمن عند امرأتك (أي تطيل المكث) فطلقها. فقال الغلام: لا. فقال ابن عمر: والله لتطلقنها. فقال الغلام: والله لا أفعل، حتى حلف ابن عمر ثلاث مرات لتطلقنها وحلف العبد أن لا يفعل. فقال ابن عمر: غلبني العبد. قال مجاهد: فقلت لابن عمر: فكم تكفرها؟ قال: كفارة واحدة] المصنف 8/503-504، ورواه ابن حزم في المحلى 6/312، وقال التهانوي: سنده صحيح، إعلاء السنن 11/471. وقال البيهقي: [ويذكر عن مجاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أقسم مراراً فكفر كفارة واحدة] سنن البيهقي 10/56.
وروى عبد الرزاق بإسناده أن إنساناً استفتى عروة بن الزبير فقال: [يا أبا عبد الله إن جارية لي قد تعرضت لي فأقسمت أن لا أقربها ثم تعرضت لي فأقسمت أن لا أقربها ثم تعرضت لي فأقسمت أن لا أقربها، فأكفر كفارة واحدة أو كفارات متفرقات؟ قال: هي كفارة واحدة] المصنف 8/504-505.
وقال التهانوي: [أخرجه ابن حزم من طريق عبد الرزاق وسنده صحيح] إعلاء السنن 11/472.
وأما إذا حلف شخص أيماناً متعددة على أشياء متعددة كأن يقول:(5/108)
والله لا أزورك والله لا أكلمك والله لا أزوجك. فهذه أيمان متعددة على أمور مختلفة فإذا حنث بها جميعاً فتلزمه عن كل يمين كفارة على الراجح من أقوال العلماء وهو قول جمهور الفقهاء.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وإن حلف أيماناً على أجناس فقال: والله لا أكلت والله لا شربت والله لا لبست فحنث في واحدة منها فعليه كفارة فإن أخرجها ثم حنث في يمين أخرى لزمته كفارة أخرى ... ورواه المروزي عن أحمد وهو قول أكثر أهل العلم] المغني 9/515.
ثم قال ابن قدامة: [ولنا أنهن أيمان لا يحنث في إحداهن بالحنث في الأخرى فلم تتكفر إحداهما بكفارة الأخرى] المغني 9/515.
وأما مقدار الإطعام في الكفارة فينبغي القول أولاً بأن خصال الكفارة على التخيير كما قال الله تعالى: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) سورة المائدة الآية 89.
فخصال الكفارة هي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو عتق رقبة فإذا عجز الحانث عن هذه الخصال الثلاث انتقل إلى الصوم.
وأما مقدار الإطعام فقال: جمهور أهل العلم يطعم كل مسكين مداً بمقدار مدّ النبي - صلى الله عليه وسلم - من غالب قوت البلد. فقد ذكر مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يكفر عن يمينه بإطعام عشرة مساكين لكل مسكين مدً من حنطة.
وروى مالك عن سليمان بن يسار أنه قال: [أدركت الناس وهم إذا أعطوا في كفارة اليمين أعطوا مداً من حنطة بالمد الأصغر ورأوا ذلك مجزئاً عنهم] قال الحافظ ابن عبد البر: [والمد الأصغر عندهم مد النبي - صلى الله عليه وسلم -] الاستذكار 15/87-88. والمد يساوي في زماننا نصف كيلو وزيادة قليلة.(5/109)
ويرى بعض العلماء أنه يكفي في الإطعام أن يطعم المساكين العشرة وجبتي غداء وعشاء.
قال الإمام مالك: [إن غدى عشرة مساكين وعشاهم أجزأه] الاستذكار 15/89.
ويجوز إخراج قيمة الطعام والكسوة في الكفارة على أرجح قولي العلماء في المسألة وهو قول الحنفية والإمام الأوزاعي إمام أهل الشام.
لأن من مقاصد الكفارة بالإضافة إلى تكفير ذنب الحانث سد حاجة المسكين وسد الحاجة يقع بالقيمة كما يقع بالإطعام والكسوة بل لعل الأنفع للمسكين في زماننا أن يعطى القيمة فهي أقرب لسد حاجته فالمسكين ينتفع بالنقود أكثر من انتفاعه بالقمح أو الأرز أو الطبيخ فيستطيع المسكين أن يقضي حاجاته وحاجات أسرته ومصالحهم بالنقود.
وأما إعطاء الكفارة لشخص واحد فظاهر الآية الكريمة يدل على إطعام عشرة مساكين وليس إطعام مسكين واحد وهذا قول أكثر العلماء أنه لا يجزئ إعطاء مسكين واحد بل لا بد من إطعام عشرة مساكين وقال الإمام الأوزاعي يجوز أن يعطيها لمسكين واحد.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: [إن خص بها أهل بيت شديدي الحاجة جاز بدليل أنه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للمجامع في رمضان حين أخبره بشدة حاجته وحاجة أهله: أطعمه أهلك] متفق عليه، انظر المغني 9/443.
وهذا الرأي يظهر لي أنه الأقوى في المسألة، فإذا أعطى الكفارة أو قيمتها لعائلة محتاجة فأرجو أن يجزئه إن شاء الله.(5/110)
المعاملات(5/111)
دفاع عن فقيه العصر الشيخ العلامة يوسف القرضاوي
يقول السائل: ما قولكم في ما نسب إلى العلامة الدكتور يوسف القرضاوي أنه أباح الربا وذلك في مقال نشر في إحدى المجلات الإسلامية حيث رد الكاتب على الدكتور القرضاوي وبين أنه أحلّ الربا.
الجواب: قرأت المقال المشار إليه وأسفت أسفاً شديداً أن مجلة إسلامية تنشر مثل هذا المقال الذي يغلف النقد فيه بالسبّ والشتم والطعن واتهام نيات العلماء.
أهكذا يكون النقد العلمي؟ هل هذا هو أدب الاختلاف؟ أهكذا يوجه الكلام إلى العلماء؟
إن العبارات النابية التي استخدمها الكاتب لا توجد في كتب الاختلاف، إنها ألفاظ نابية سوقية بذيئة لا يجوز شرعاً أن توجه لعالم جليل من علماء العصر ولا لغيره من الناس وحتى لا يظن أحد أني أبالغ فيما نسبته لكاتب المقال، أسوق بعض عباراته: قال الكاتب: [ ... الذين يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال] ، [ ... لكنهم يدسون السموم لهذه الأمة بأساليب تضليلية] ، [ ... والجريمة أنه يقول ... ] ، [وقوله هذا ضابط جريمة أكبر ... ] ، [ ... لنبين نموذجاً من خطورة فتاوى مثل هؤلاء وكيف أنهم يحكمون عقولهم في شرع الله اتباعاً(5/113)
للهوى دون دليل أو شبهة دليل] ، [ ... وإظهار من يخرب على المسلمين دينهم] .
هذه بعض العبارات التي قالها الكاتب في حقّ الدكتور القرضاوي حفظه الله من سهام الحاقدين. وقد ألصق الكاتب بالدكتور القرضاوي أموراً لا تصدر عن طويلب علم مبتدئ فضلاً أن تصدر من طالب علم فكيف تصدر من عالم كالشيخ القرضاوي مضى عليه أكثر من نصف قرن من الزمان وهو يدعو إلى الله ويكتب ويؤلف ويعلّم ويحاضر؟! زعم الكاتب أن القرضاوي يخالف القطعيات التي هي من المحكمات غير المتشابهات؟! وزعم أن القرضاوي يعتبر عقله من مصادر التشريع وهذا كلام لا يقوله أحد ينسب إلى العلم فهو تجنٍ واضح على الشيخ، وزعم الكاتب أنه سيحاكم القرضاوي ونصب الكاتب نفسه قاضياً ومدعياً وشاهداً باسم النصوص الشرعية التي يتباكى على مخالفتها، فكان خصماً لدوداً وحكماً ظالماً وأنّى له أن يكون حكماً عادلاً وهو لا يملك شيئاً من مقومات الحَكَم العدل؟!
وزعم الكاتب أنه لا يصح لأحد أن يعترض على تفنيد مثل هذه الفتاوى وإدحاضها. ثم استدل على ذلك بحديث رواه الدارقطني أنه- صلى الله عليه وسلم - قال: [من غش أمتي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. قالوا: يا رسول الله، ما الغش؟ قال: أن يبتدع لهم بدعة فيعملوا بها] وأقول للكاتب إن هذا الحديث ضعيف جداً لا يصلح دليلاً ومن يعترض على القرضاوي وأمثاله من العلماء لا بد أن يعرف ما يصدر منه حتى لا يحتج بما لا يصلح دليلاً، وعليه أن يراجع تخريج العراقي لإحياء علوم الدين ليرى الحكم على الحديث السابق.
وقد زعم الكاتب أن الشيخ القرضاوي أباح قليل الربا اعتماداً على قول الله تعالى:
(لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) وقد قوّل القرضاوي ما لم يقل وأعظَمَ الفرية على الشيخ وما قرأ الكاتب كلام الشيخ القرضاوي ولا يريد أن(5/114)
يقرأ ما كتبه العلامة القرضاوي حول هذه الآية في كتابه " فوائد البنوك هي الربا الحرام " قال الشيخ القرضاوي حفظه الله تحت عنوان ربا الأضعاف المضاعفة: [ومما قيل في تبرير فوائد اليوم: إن الربا الذي حرمه القرآن هو ما كان (أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) أما الربا القليل مثل 8% أو 10% ونحوه فهذا لا يدخل في الربا المحظور. وهي شبهات أثيرت منذ أوائل هذا القرن الميلادي بدعوى الاستناد إلى الآية الكريمة من سورة آل عمران: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) . ومن المعلوم لمن يتذوقون العربية ويفقهون أساليبها: أن هذا الوصف للربا (أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) إنما سيق لبيان الواقع وتبشيعه وأنهم بلغوا فيه إلى هذا الحدّ عن طريق الربا المركب المتصاعد. ومثل هذا الوصف لا يعتبر قيداً في المنع بحيث يجوز ما لم يكن أضعافاً مضاعفة. وهذا مثل أن نقول اليوم: قاوموا المخدرات القاتلة التي تقتل الإنسان من أول شمة! هذا الوصف لهذا النوع من المخدرات المنتشر في الواقع والذي فاق خطره كل خطر لا يعني إخراج الأنواع الأخرى من المخدرات عن دائرة الحظر والمقاومة بل هو تفظيع وتبشيع للواقع المؤسف حتى يعمل الجميع على تغييره. وقد جرت سنة التحريم في الإسلام أن يمنع القليل خشية الوقوع في الكثير وأن يغلق الباب الذي يمكن أن تهب منه رياح الفساد والإفساد. ثم ما هو القليل والكثير؟ وما الذي يجعل الـ 10% قليلاً؟ والـ 12% كثيراً؟ وما المعيار الذي يحتكم إليه؟ ولو أخذنا بظاهر ألفاظ الآية الكريمة لكانت الأضعاف المضاعفة ما بلغ 600% " ستمائة في المائة " كما قال شيخنا الدكتور محمد عبد الله دراز
رحمه الله. لأن كلمة " أضعاف " جمع وأقله ثلاثة فإذا ضوعفت الثلاثة - ولو مرة واحدة - كانت ستة! فهل يقول بهذا أحد؟ على أن البيان الحاسم هنا هو ما جاءت به آيات سورة البقرة وهي من أواخر ما نزل من القرآن الكريم وفيها إبطال لكلّ تعلّة. يقول تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا(5/115)
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) سورة البقرة الآيتان 278-279] ص 55-57.
وزعم الكاتب أن الشيخ القرضاوي أباح قليل الربا عندما تحدث عن الشركات المساهمة التي معظم عملها في الحلال ولكنها قد تقرض وتقترض بالربا. واعتبر الكاتب أن كلام القرضاوي فيه إباحة قليل الربا فقال الكاتب في مقاله: [إنه افترض أن الربا المحرم هو الربا الكثير] وسبق كلام الشيخ القرضاوي في تحريم قليل الربا وكثيره، وفي الحقيقة إن الكاتب لم يحرر المسألة محل النزاع التي كان القرضاوي يتحدث فيها وحتى تتضح الصورة لا بد من توضيح ما يلي:
أولاً: إن الشركات المساهمة التي زعم الكاتب أنها باطلة من أساسها سواء تعاملت بالربا أم لم تتعامل، إن هذا الرأي الذي يتبناه الكاتب هو الباطل بعينه وإن هذا الرأي بني على أسس واهية هي أوهى من بيت العنكبوت وإذا أراد أن يعرف حقيقة فساد وبطلان هذا القول فليرجع إلى ما كتبه الدكتور عبد العزيز الخياط في نقض هذا القول في كتابه " الشركات " وأظنه كان يتبنى هذا القول من قبل ورجع عنه. فالشركات المساهمة صحيحة عند العلماء المعاصرين ضمن الضوابط والشروط التي وضعها أهل العلم والقول ببطلانها قول شاذ وليس هذا محل بحثها.
ثانياً: إن الشيخ القرضاوي تكلم عن شركات مساهمة كبيرة قائمة فعلاً مثل: شركة الكهرباء وشركة النفط وشركة الاتصالات، وهذه الشركات معظم تعاملها بالحلال ولكنها تتعامل بالربا فيرى الشيخ القرضاوي أنه ما دام معظم كسب هذه الشركات من حلال فلا بأس إن خالطه شيء من حرام أي لا ينبغي للمسلمين أن يتركوا هذه الشركات لغيرهم خاصة وأنها شركات تسيطر على مرافق أساسية في البلاد وإنما عليهم الدخول في مثل هذه الشركات لمحاولة أسلمتها، وضرب مثلاً بأحد رجال الأعمال المسلمين الذي دخل في عدة شركات واستطاع أن يغير أحوال كثير فيها. وقال الشيخ القرضاوي إنّه إذا لم نستطع أن نصل إلى أسلمة هذه الشركات فعلينا أن(5/116)
نخرج ما يقابل الفوائد الربوية. وما ذهب إليه الشيخ القرضاوي في هذه المسألة ووافقه عليه عدد من العلماء المعاصرين لا يعني إباحة الربا القليل كما زعم الكاتب وادعى. وإن كان بعض العلماء قد خالفوا الشيخ فيما ذهب إليه.
ثالثاً: إن ما ذكره الكاتب حول قاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فيه مغالطات وسوء فهم للقاعدة وبيان ذلك: أن الكاتب قال: [صحيح أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ولكن العبرة بخصوص الموضوع ... ] وكلام الكاتب الأخير يبطل العمل بالقاعدة الأصولية لأن خصوص الموضوع هو السبب الخاص الذي ورد فيه العام فإذا حصرنا العام بالموضوع الخاص فعنئذ لا نعمل بالقاعدة ونبطل مفعولها وبيان ذلك أنه قد ثبت في حديث جابر في صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -:
( ... ثم خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) أبدأ بما بدأ الله به) رواه مسلم، وفي رواية أخرى قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إبدأوا بما بدأ الله به) رواه النسائي. فسبب ورود هذا الحديث كان في السعي بين الصفا والمروة وأن بداية السعي تكون بالصفا. والموضوع الذي ورد فيه الحديث هو السعي. ومع ذلك قال العلماء العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فعندما بحث العلماء مسألة الترتيب في الوضوء احتجوا بهذا الحديث مع أنه ورد في موضوع السعي وليس في الوضوء، قال الصنعاني معلقاً على إيراد الحافظ ابن حجر لهذه القطعة من حديث جابر في باب الوضوء: [وذكر المصنف هذه القطعة من حديث جابر هنا لأنه أفاد أن ما بدأ الله به ذكراً نبتدئ به فعلاً ... فإن اللفظ عام والعام لا يقتصر على سببه أعني بما بدأ الله به لأن كلمة " ما " موصولة والموصولات من ألفاظ العموم وآية الوضوء وهي قوله تعالى: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) داخلة تحت الأمر بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (ابدأوا ما بدأ الله به) فيجب البداءة بغسل الوجه ثم ما بعده على الترتيب] سبل السلام 1/52. فها هم العلماء يحتجون بالقاعدة المذكورة في غير الموضوع الذي وردت فيه وهذا هو(5/117)
المعروف عند الأصوليين وأما قول الكاتب بأن العبرة بخصوص الموضوع فهذا كلام غير صحيح.
وذكر الكاتب أيضاً: [قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ... أيصح لنا أن نقول استناداً إلى هذه الآية إن العطايا والمنح والهبات التي يقدمها الرجل لأبنائه في حياته ينبغي أن تكون للذكر مثل حظ الأنثيين ونعتمد على القاعدة " العبرة بعموم اللفظ " لأن أولادكم لفظ عام لأنه مضاف ومضاف إليه. والإضافة تفيد العموم، أيصح لنا ذلك؟ إن جعل حصة الذكر مثل حظ الأنثيين خاص بالإرث فلا ينبغي أن يتعدى ذلك ويستدل به على غير هذا الموضوع] وأقول رداً على هذا الكلام نعم يصح لنا ذلك وقد استدل العلماء بهذه الآية وأجازوا ما زعم الكاتب أنه غير جائز. ففي مسألة عطية الأب لأولاده قال جماعة من أهل العلم بأنه يجوز للأب إذا أراد أن يعطي أولاده من أمواله أن يعاملهم وفق آية المواريث فيعطي الذكر مثل حظ الأنثيين، قال الشوكاني: [فقال محمد بن الحسن وأحمد وإسحاق وبعض الشافعية والمالكية العدل أن يعطي الذكر حظين كالميراث] نيل الأوطار 6/10، وانظر الاستذكار لابن عبد البر 22/297، والفقه الإسلامي وأدلته 5/34.
وبهذا يظهر لنا أن فهم الكاتب لقاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فهم غير صحيح.
وأخيراً أذكِّر الكاتب وأمثاله ممن يتبنون مثل هذه الأساليب في التعرض للعلماء أنّ عليهم أن يتقوا الله عزّ وجلّ وأن يتأدبوا بأدب الإسلام في التعامل مع العلماء وأن يفرقوا بين النقد العلمي وبين السبّ والشتم فالعلماء غير معصومين من الوقوع في الخطأ فنقدهم شيء وسبهم والنيل من أعراضهم شيء آخر.
قال الحافظ ابن عساكر: [اعلم يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حقّ تقاته أن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله(5/118)
قبل موته بموت القلب (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ] .
الفرق بين البنوك الإسلامية والبنوك الربوية
يقول السائل: إنه سمع خطيب المسجد يقول إنه لا فرق بين البنوك الإسلامية وبين البنوك الربوية وأن البنوك الإسلامية تتحايل لأكل الربا فما قولكم في ذلك؟
الجواب: كثير من الناس يلقون الكلام جزافاً دون معرفة أو اطلاع على حقائق الأمور وأمثال هذا الكلام الذي قاله خطيب الجمعة يردده كثير من الوعاظ والعامة وبعض المنتسبين إلى العلم الشرعي من أرباع المثقفين وليس من أنصافهم الذين ما عرفوا الأسس الشرعية التي تقوم عليها فكرة البنوك الإسلامية وما عرفوا كيفية تطبيق المعاملات في البنوك الإسلامية ومن جهل شيئاً عاداه وبعض هؤلاء المعادين لفكرة البنوك الإسلامية يرفضونها لأنهم يعتبرونها ترقيعاً ويظنون أنه عندما تقوم للمسلمين دولة سيضغط الخليفة على زر فتتحول البنوك الربوية إلى بنوك إسلامية في لحظة واحدة ولكن هؤلاء واهمون ومخطئون.
ولو سألت هؤلاء ما هو الحل لهذه المشكلة العظيمة التي يعاني منها العالم الإسلامي وهي هذا الطوفان الربوي الجارف فلا يحرون جواباً سديداً.
والغريب في مقولة المحاربين لفكرة البنوك الإسلامية أنهم يسوون بين الحلال والحرام دونما بصر أو بصيرة ودعواهم هذه قالها المشركون قديماً كما حكى الله سبحانه وتعالى قولهم: (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا) وقد رد الله سبحانه وتعالى عليهم رداً قاطعاً واضحاً فقال جل جلاله: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) .(5/119)
وأقول لهؤلاء هل درستم نظام المعاملات في الشريعة الإسلامية دراسة واعية ودرستم كيفية تطبيق البنوك الإسلامية لمعاملاتها قبل أن تلقوا الكلام على عواهنه.
إن الفكرة الأساسية التي تقوم عليها البنوك الإسلامية هي البعد عن الربا في جميع معاملاتها أخذاً وإعطاءً فكيف تسوون بينها وبين البنوك الربوية التي تقوم أكثر معاملاتها على الربا أخذاً وإعطاءً.
إن البنوك الإسلامية تعلن جهاراً نهاراً أنها لا تتعامل بالربا بجميع أشكاله وتنص أنظمتها ولوائحها الداخلية على ذلك ويأتي هؤلاء ويقولون إنه لا فرق بين البنوك الإسلامية والبنوك الربوية!!؟
إن خاصية البنوك الإسلامية في عدم التعامل بالربا هي الخاصية الأساسية التي يتميز بها البنك الإسلامي عن البنك الربوي لأن الربا كما هو معلوم محرم بالنصوص الصريحة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، يقول الله سبحانه وتعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أثيم إن الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين َفإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) سورة البقرة الآيات 275 - 279.
ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء) رواه مسلم.
يقول الدكتور غريب الجمال: [تشكل خاصية استبعاد الفوائد من معاملات المصارف الإسلامية المعلم الرئيسي لها وتجعل وجودها متسقاً مع البنية السليمة للمجتمع الإسلامي وتصبغ أنشطتها بروح راسية ودوافع عقائدية تجعل القائمين عليها يستشعرون دائماً أن العمل الذي يمارسونه ليس مجرد عمل تجاري يهدف إلى تحقيق الربح فحسب بل إضافة إلى ذلك أسلوب من أساليب الجهاد في حمل عبء الرسالة والإعداد لاستنقاذ الأمة من مباشرة أعمال مجافية للأصول الشرعية وفوق كل ذلك وقبله يستشعر هؤلاء العاملون(5/120)
أن العمل عبادة وتقوى مثاب عليها من الله سبحانه وتعالى إضافة إلى الجزاء المادي الدنيوي] عن المصارف الإسلامية بين النظرية والتطبيق ص 192-193.
كما أن البنوك الإسلامية توجه كل جهودها نحو استثمار المال بالحلال فمن المعلوم أن المصارف الإسلامية مصارف تنموية بالدرجة الأولى ولما كانت هذه المصارف تقوم على اتباع منهج الله المتمثل بأحكام الشريعة الغراء، لذا فإنها وفي جميع أعمالها تكون محكومة بما أحله الله وهذا يدفعها إلى استثمار وتمويل المشاريع التي تحقق الخير للبلاد والعباد والتقيد في ذلك بقاعدة الحلال والحرام التي يحددها الإسلام مما يترتب عليه ما يأتي:
أ. توجيه الاستثمار وتركيزه في دائرة إنتاج السلع والخدمات التي تشبع الحاجات السوية للإنسان المسلم.
ب. تحري أن يقع المنتج - سلعة كان أو خدمة - في دائرة الحلال.
ج. تحري أن تكون كل مراحل العملية الإنتاجية (تمويل - تصنيع - بيع - شراء) ضمن دائرة الحلال.
د. تحري أن تكون كل أسباب الإنتاج (أجور - نظام عمل) منسجمة مع دائرة الحلال.
هـ. تحكيم مبدأ احتياجات المجتمع ومصلحة الجماعة قبل النظر إلى العائد الذي يعود على الفرد] . المصارف الإسلامية بين النظرية والتطبيق ص 193.
ويضاف إلى ذلك ما للبنوك الإسلامية من دور هام في إحياء نظام الزكاة من خلال صندوق الزكاة وتوزيع الزكاة على المستحقين لها.
وكذلك دور البنوك الإسلامية الذي لا ينكره إلا مكابر أو جاهل في بعث الروح في فقه المعاملات في الشريعة الإسلامية الذي طالما كان(5/121)
مهجوراً فتوجهت همم الباحثين والدارسين لنفض الغبار عنه وبدأت الدراسات الكثيرة عن مفردات هذا النظام فحفلت المكتبة الإسلامية بمئات المؤلفات التي درست المرابحة والمضاربة والشركات والصرف وغير ذلك.
وينبغي أن يعلم أن كلامي هذا عن البنوك الإسلامية لا يعني أنها بلغت الدرجة العالية في التطبيق والتنفيذ وأنها لا تخطئ وأنها كلها تسير على المنهج الشرعي بشكل تام.
لا فإن البنوك الإسلامية حالها كحال الناس تماماً فكما أنك تجد في أفراد المسلمين من هو ملتزم تماماً بالحكم الشرعي وتجد فيهم من خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً فكذلك البنوك الإسلامية تجد بعضها لديه التزام عال بالمنهج الشرعي وبعضها يخلط الخطأ بالصواب وإن وجود الأخطاء في التطبيق لدى البنوك الإسلامية لا يعني بحال من الأحوال أن الخطأ في الفكرة والقاعدة التي تسير عليها البنوك الإسلامية ولكن وجود الأخطاء من العاملين أمر عادي جداً فالذي لا يعمل هو الذي لا يخطئ أما الذي يعمل فلا بد أن يقع منه الخطأ.
وأخيراً يجب التنبيه إلى أن البنوك الإسلامية تسير في مسيرتها التي تشهد تقدماً ونجاحاً بمرور الأيام - والحمد لله - معتمدةً على أسس وقواعد وضعها عدد كبير من علماء المسلمين في هذا العصر من خلال دراسات وأبحاث ومجامع علمية وفقهية ومن خلال مؤتمرات علمية يشارك فيها خبراء في الاقتصاد بجانب علماء الشريعة كما أن لكل بنك إسلامي هيئة للرقابة الشرعية مؤلفة من أهل الخبرة والاختصاص الشرعيين والاقتصاديين لمراقبة أعمال البنك تتولى التوجيه والإرشاد والتدقيق وغير ذلك.
وأختم كلامي بعبارات نيرة لأستاذنا فقيه العصر الدكتور العلامة يوسف القرضاوي حفظه الله ورعاه فقد قال: [ ... كلمة أوجهها للناقدين للمصارف والمؤسسات المالية الإسلامية أيا كانت دوافعهم وأعتقد أن بعضهم مخلص في نقده وكلمتي إليهم تتمثل في أمور ثلاثة:(5/122)
أ. أن يكونوا واقعيين ولا ينشدوا الكمال في البنوك الإسلامية وحدها في مجتمع يعج بالنواقص في كل ميدان وأن يصبروا على التجربة فهي لا زالت في بدايتها وأن يقدموا لها العون بدل أن يوجهوا إليها الطعن من أمام ومن خلف.
وان يذكروا هذه الحكمة جيداً: إن من السهل أن نقول ونحسن القول ولكن من الصعب كل الصعب أن يتحول القول إلى عمل.
ب. أن يقدموا حسن الظن بالناس بدل المسارعة بالاتهام للغير وسوء الظن بالآخرين وأن يتخلوا عن الإعجاب بالرأي فهو أحد المهلكات وعن الغرور بالنفس فهو أحد الموبقات وأن يذكروا قول الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) سورة الحجرات الآية 12.
وقول رسوله الكريم: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث) متفق عليه.
ج. أن يذكروا أن المصارف الإسلامية - وإن كان لها بعض السلبيات وعليها بعض المآخذ - لها إيجابيات مذكورة وإنجازات مشكورة نذكر منها:
1. أنها يسرت للفرد المسلم سبيل التعامل الحلال وأراحت ضمائر المسلمين من التعامل مع البنوك الربوية.
2. زرعت الثقة والأمل في أنفس المسلمين بإمكان قيام بنوك بغير ربا وأن تطبيق الشريعة عندما تتجه الإرادة الجماعية إليه ميسور غير معسور.
3. شجعت قاعدة كبيرة من جماهير الشعوب المسلمة على الادخار والاستثمار على حين قلما تتعامل البنوك الربوية إلا مع الأغنياء.
4. هيئت فرصة مساعدة الفقراء ومساعدة المؤسسات الخيرية والجمعيات الإسلامية عن طريق صناديق الزكاة والبر والقرض الحسن.(5/123)
5. ساهمت في تنمية الجانب التربوي الثقافي] بيع المرابحة للآمر بالشراء كما تجريه المصارف الإسلامية ص 86- 87.
الاقتراض بالربا للضرورة!!
يقول السائل: ما قولكم فيمن اقترض قرضاً ربوياً [بالفائدة] لشراء سيارة جديدة معللاً ذلك بأن السيارة شيء أساسي في حياة الإنسان وأنه لم يجد من يقرضه قرضاً حسناً فاضطر للاقتراض بالفائدة والضرورات تبيح المحظورات؟
الجواب: لا بد أولاً من معرفة الضرورة عند العلماء وما هي المحظورات التي تباح بالضرورة لنرى هل ما فعله هذا الشخص يدخل ضمن ذلك أم لا؟
فنقول إن الشريعة الإسلامية جاءت باليسر والسماحة ودفع المشقة ورفع الحرج عن الناس.
يقول الله تعالى: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) سورة البقرة الآية 173.
ويقول الله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) سورة المائدة الآية 3.
ويقول الله تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ(5/124)
لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) سورة الأنعام الآية 145.
ويقول الله تعالى: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) سورة الأنعام الآية 119.
فهذه الآيات الكريمات بينت أن حالات الضرورة مستثناة من التحريم وبناءً على ذلك قال الفقهاء: [الضرورة هي أن تطرأ على الإنسان حالة من الخطر أو المشقة الشديدة بحيث يخاف حدوث ضرر أو أذى بالنفس أو بالعضو أو بالعرض أو بالعقل أو بالمال وتوابعها ويتعين أو يباح عندئذ ارتكاب الحرام أو ترك الواجب أو تأخيره عن وقته دفعاً للضرر عنه في غالب ظنه ضمن قيود الشرع] نظرية الضرورة الشرعية ص 67-68.
وقاعدة الضرورات تبيح المحظورات ليست على عمومها ولم يقل أحد من أهل العلم أن كل محظور يباح عند الضرورة.
فالضرورة لا تدخل في كل الأمور المحرمة بمعنى أن هنالك محرمات لا تباح بالضرورة كالقتل فلا يباح قتل المسلم بحجة الضرورة فلا يجوز لمسلم أن يقتل مسلماً ولو كان مضطراً أو مكرهاً لأن قتل النفس لا يباح إلا بالحق يقول الله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) سورة الإسراء الآية 33.
فقد اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز للمسلم أن يقدم على قتل غيره بحجة الضرورة.
وكذلك فإن الزنا لا يباح بحجة الضرورة فلا يحل لمسلم أن يزني بحجة الضرورة ولو كان مكرهاً.
ولكن يجوز أكل الميتة وأكل لحم الخنزير في حال الاضطرار وكذا إساغة اللقمة بالخمر عند الغصة أو عند العطش الشديد أو عند الإكراه الملجىء فهذه الأمور ونحوها تباح عند الضرورة.
وقد ذكر الفقهاء قديماً وحديثاً قواعد وضوابط للضرورة منها: أن(5/125)
يحصل فعلاً خوف الهلاك أو التلف على النفس أو المال وذلك بغلبة الظن.
أو يتحقق المرء من وجود خطر حقيقي على إحدى الضرورات الخمس وهي الدين والنفس والعرض والعقل والمال ومنها ألا يتمكن الشخص من دفع الضرورة بوسيلة أخرى من المباحات.
ومنها أن الضرورة تقدر بقدرها فلا يصح التوسع في باب الضرورات فيقتصر المضطر على الحد الأدنى لدفع الضرر. نظرية الضرورة الشرعية ص 69-70.
إذا تقرر هذا فأقول: إنه لا يجوز شرعاً الاقتراض بالربا لشراء السيارة لأن اقتناء السيارة ليس من باب الضرورة التي تبيح الحرام " الربا ".
لا شك أن السيارة حاجة مهمة في الحياة ولكن لا يصل الحال إلى اعتبارها من الأمور الضرورية التي يتوقف عليها حفظ إحدى الضروريات الخمس فكم من الناس لا يملكون سيارة وحياتهم تسير بشكل طبيعي.
فلا يجوز شرعاً أن نبيح الربا باسم الضرورة وخاصة إذا كانت هذه الضرورة متوهمة وليست حقيقية كما هو الحال في شراء سيارة جديدة بقرض ربوي باسم الضرورة.
قال الشيخ المودودي: [لا تدخل كل ضرورة في باب الاضطرار بالنسبة للاستقراض بالربا. فإن التبذير في مجالس الزواج ومحافل الأفراح والعزاء ليس بضرورة حقيقية.
وكذلك شراء السيارة أو بناء المنزل ليس بضرورة حقيقية وكذلك ليس استجماع الكماليات أو تهيئة المال لترقية التجارة بأمر ضروري. فهذه وأمثالها من الأمور التي قد يعبر عنها بالضرورة والاضطرار ويستقرض لها المرابون آلافاً من الليرات لا وزن لها ولا قيمة في نظر الشريعة والذين يعطون الربا لمثل هذه الأغراض آثمون.
فإذا كانت الشريعة تسمح بإعطاء الربا في حالة من الاضطرار فإنما هي حالة قد يحل فيها الحرام كأن تعرض للإنسان نازلة لا بد له فيها من(5/126)
الاستقراض بالربا أو حلت به مصيبة في عرضه أو نفسه أو يكون يخاف خوفاً حقيقياً حدوث مشقة أو ضرر لا قبل له باحتمالها ففي مثل هذه الحالات يجوز للمسلم أن يستقرض بالربا ما دام لا يجد سبيلاً غيره للحصول على المال غير أنه يأثم بذلك جميع أولي الفضل والسعة من المسلمين الذين ما أخذوا بيد أخيهم في مثل هذه العاهة النازلة به حتى اضطروه لاستقراض المال بالربا. بل أقول فوق ذلك أن الأمة بأجمعها لا بد أن تذوق وبال هذا الإثم لأنها هي التي غفلت وتقاعست عن تنظيم أموال الزكاة والصدقات والأوقاف مما نتج عنه أن أصبح أفرادها لا يستندون إلى أحد ولم يبق لهم من بدّ من استجداء المرابين عند حاجاتهم.
لا يجوز الاستقراض حتى عند الاضطرار إلا على قدر الحاجة ومن الواجب التخلص منه ما استطاع الإنسان إليه سبيلاً لأنه من الحرام له قطعاً أن يعطي قرشاً واحداً من الربا بعد ارتفاع حاجته وانتفاء اضطراره.
أما: هل الحاجة شديدة؟ .. أم لا..؟ وإذا كانت فإلى أي حدّ؟ .. ومتى قد زالت؟ فكل هذا مما له علاقة بعقل الإنسان المبتلى بمثل هذه الحالة وشعوره بمقتضى الدين والمسؤولية الأخروية. فهو على قدر ما يكون متديناً يتقي الله ويرجو حساب الآخرة يكون معتصماً بعروة الحيطة والورع في هذا الباب] الربا ص 157-158.
وأخيراً يجب أن يعلم أن كثيراً من الناس يدخلون إلى الربا الحرام من باب الضرورة كما يزعمون وهذه دعوى باطلة كما بينت فالربا محرم بالنص القطعي من كتاب الله سبحانه وتعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) سورة البقرة الآية 275-279.
وقد صح في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم.(5/127)
كل قرض جرَّ نفعاً فهو ربا
يقول السائل: ما معنى الحديث: (كل قرض جرّ نفعاً فهو ربا) وهل يدخل فيه أي منفعة صارت إلى المقرض مهما كانت؟
الجواب: هذا الحديث بهذا اللفظ لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وروي بلفظ آخر وهو: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قرض جر منفعة) فقد رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده وفي إسناده متروك كما قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 3/34.
ورواه البيهقي في السنن 5/350، بلفظ: (كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا) وقال البيهقي: موقوف. ورواه البيهقي أيضاً في معرفة السنن والآثار 8/169 والحديث ضعيف، ضعفه ابن حجر كما سبق وضعفه الشيخ الألباني في إرواء الغليل 5/235.
ومعنى الحديث صحيح ولكن ليس على إطلاقه، فالقرض الذي يجر نفعاً ويكون رباً أو وجهاً من وجوه الربا هو القرض الذي يشترط فيه المقرض منفعة لنفسه فهو ممنوع شرعاً.
وأما إذا لم يشترط ذلك فرد المقترض للمقرض القرض وهدية مثلاً بدون شرط سابق فهذا جائز ولا بأس به، بل هو من باب مكافأة الإحسان بالإحسان وقد قال عليه الصلاة والسلام: (خيركم أحسنكم قضاء) رواه البخاري ومسلم.
وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: (أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد ضحى فقال: صل ركعتين وكان لي عنده دين فقضاني وزادني) رواه البخاري.
ومن هذا يتبين لنا أن المنفعة التي يجرها القرض تكون محرمة إذا كانت مشروطة وينطبق عليها كل قرض جر منفعة فهو ربا.(5/128)
ويلحق بالمنفعة المشروطة الهدية أو المنفعة التي يقدمها المقترض للمقرض قبل السداد. ولم تجر العادة في التهادي بينهما ففيها شبه بالربا وقد ورد في آثار عن الصحابة المنع من ذلك.
فقد روى البخاري عن أبي بردة قال: (أتيت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام فقال لي: ألا تجيء إلى البيت حتى أطعمك سويقاً وتمراً فذهبنا فأطعمنا سويقاً وتمراً، ثم قال: إنك بأرض الربا فيها فاش - أي منتشر - فإذا كان لك على رجل دين فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فلا تقبله فإن ذلك من الربا) .
وعن سالم بن أبي الجعد قال: (كان لنا سماك عليه لرجل خمسون درهماً فكان يهدي إليه السمك فأتى ابن عباس فسأله عن ذلك؟ فقال: قاصه بما أهدى إليك) رواه البيهقي وقال الألباني إسناده صحيح.
وله رواية أخرى: (أن ابن عباس قال في رجل كان له على رجل عشرون درهماً فجعل يهدي إليه وجعل كلما أهدى إليه هدية باعها حتى بلغ ثمنها ثلاثة عشر درهما فقال ابن عباس: لا تأخذ منه إلا سبعة دراهم) سنن البيهقي 5/349 - 350 وقال الألباني إسناده صحيح. إرواء الغليل 5/234.
تحديد مقدار الربح مسبقاً في المصارف الإسلامية
يقول السائل: هل يجوز شرعاً تحديد مقدار الربح مسبقاً للمستثمرين في المصارف الإسلامية بنسبة مئوية ثابتة وهل يعتبر هذا التحديد من الربا؟
الجواب: كثير من الاستثمارات التي تقوم بها المصارف الإسلامية والتي يستثمر فيها المستثمرون من غير المساهمين في البنك هي في حقيقتها عقد مضاربة حيث إن المستثمر أو المستثمرين هم أصحاب الأموال والمصرف الإسلامي هو العامل.
والمضاربة جائزة شرعاً باتفاق الفقهاء وقامت الأدلة العامة على مشروعيتها من كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وهو المأثور عن الصحابة والتابعين(5/129)
فقد كانوا يتعاملون بها من غير نكير فهذا بمثابة الإجماع على جوازها. انظر الشركات للخياط 2/53.
ومن شروط عقد المضاربة أن يتم الاتفاق على تحديد نصيب كل من الشريكين أو الشركاء من الربح نصاً صريحاً يمنع النزاع والخلاف وليكون كل منهم على بصيرة من الأمر.
وقال الفقهاء: لا بد أن يكون الربح نصيباً شائعاً كأن يكون مثلاً ربعاً أو ثلثاً أو نصفاً.
قال ابن المنذر: [أجمع أهل العلم على أن للعامل أن يشترط على رب المال ثلث الربح أو نصفه أو يجمعان عليه بعد أن يكون ذلك معلوماً جزءاً من أجزاء] المغني 5/23.
وحساب الربح بالنسبة المئوية جائز شرعاً ولا بأس به وهو بمعنى حساب الربح بالربع أو الثلث أو النصف، فإن الربع يساوي 25% والثلث 33% وهكذا ولا مانع مطلقاً من حساب الربح بالنسبة المئوية وما يظنه كثير من الناس أن حساب الربح بالنسبة المئوية هو من باب الربا غير صحيح ويرجع هذا الظن الخاطىء إلى تعامل الناس مع البنوك الربوية التي تحسب فوائدها بالنسبة المئوية كأن يقترض شخص من البنك الربوي عشرة آلاف دينار لمدة سنتين فيقال له إن عليك فائدة بنسبة 9% مثلاً وفي الحقيقة والواقع أن حساب المصارف الإسلامية للأرباح بالنسبة المئوية ليس له علاقة بالربا ولا بمعدلات الفائدة الربوية.
رسوم خدمات القروض
يقول السائل: هنالك إحدى المؤسسات تقدم قروضاً لمشاريع صغيرة لتوسيعها وتطويرها وجاء في النشرة التي تصدرها المؤسسة المذكورة تحت عنوان: [فوائد ورسوم القروض بأنهم لا يأخذون أية فائدة أو رسوم ولكن(5/130)
الأشخاص الذين يحصلون على القروض يدفعون رسوم خدمات وهذه الرسوم تختلف تبعاً لحجم وشروط القرض] فما قولكم في ذلك؟
الجواب: لقد صار شائعاً عند كثير من المتعاملين بالربا التلاعب بالألفاظ والعبارات محاولةً منهم لتغيير الحقائق والمسميات بتغيير أسمائها فقط فالربا يسمى فائدة ويسمى رسم خدمات كما في السؤال وتغيير الأسماء لا يغير من حقائق المسميات شيئاً وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مثل هذا التلاعب من تغيير الناس لأسماء المحرمات كما جاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ليستحلن طائفة من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها) رواه أحمد والنسائي وابن ماجة وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في غاية المرام ص 24، وفي السلسلة الصحيحة 1/136.
وجاء في رواية أخرى: (إن ناساً من أمتي يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها) رواه الحاكم والبيهقي وله شواهد تقويه، وقد صدق الصادق المصدوق فإن الخمور تسمى في زماننا بالمشروبات الروحية.
وروي في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: (يأتي على الناس زمان يستحلون الربا باسم البيع) ذكره ابن القيم في إغاثة اللهفان 1/352، وضعفه الشيخ الألباني في غاية المرام ص 25 ثم قال: [ ... معنى الحديث واقع كما هو مشاهد اليوم] .
والملاحظ في السؤال أن ما سموه رسم خدمات يختلف مقداره تبعاً لحجم القرض وشروطه وهذه إشارة واضحة إلى أنه ربا لأنه لو كان رسماً للخدمات فعلاً لما اختلف مقداره باختلاف حجم القرض وشروطه إذ أن الخدمات التي تؤدى لمن يقترض ألفاً هي ذاتها الخدمات التي تؤدى لمن يقترض عشرة آلاف ولكنه التلاعب ومحاولة تغيير الأسماء ليخدع الناس ويظنوا أن ذلك لا شيء فيه ويجب أن يعلم أن هذه الرسوم هي ربا وإن غيرت أسماؤها لأن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني كما قرر ذلك فقهاؤنا.(5/131)
الوفاء بالوعد
يقول السائل: ما حكم الوفاء بالوعد في الشريعة الإسلامية؟
الجواب: إن كثيراً من النصوص من كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - أمرت بالوفاء بالوعد وحثت على ذلك وذمت من لم يف بوعده فمن هذه النصوص قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) سورة المائدة الآية 1.
فهذه الآية الكريمة تأمر بالوفاء بالعقود والوعد داخل في ذلك.
قال الزجاج: [المعنى أوفوا بعقد الله عليكم وبعقدكم مع بعضكم مع بعض] نقله عنه القرطبي في تفسيره 6/33.
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) سورة الصف الآية 3.
وهذه الآية من أشد الآيات في وجوب الوفاء بالوعد لأنها تضمنت الذم الشديد لمن لم يف بما يعد. قال القرافي: [والوعد إذا أخلف قول لم يفعل فيلزم أن يكون كذباً وأن يحرم إخلاف الوعد مطلقاً] الفروق 4/20.
وقال تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ) سورة النحل الآية 91.
وقال تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا) سورة الإسراء الآية 34.
كما أن الله سبحانه وتعالى ذم بعض المنافقين الذين لم يفوا بوعودهم كما في قوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْءَاتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّاءَاتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) سورة التوبة الآيات 75-77.
كما أن الله سبحانه وتعالى مدح الموفين بعهودهم ووعودهم وأثنى عليهم كما في قول الله تعالى: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) سورة البقرة الآية 177.(5/132)
وقال تعالى: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) سورة النجم الآية 37.
ومدح الله سبحانه وتعالى إسماعيل بقوله: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا) سورة مريم الآية 54.
وورد في السنة النبوية ما يدل على وجوب الوفاء بالوعد فمن ذلك ما جاء في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول اله - صلى الله عليه وسلم - قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا أؤتمن خان، وإذا وعد أخلف) رواه البخاري ومسلم.
وجاء في رواية أخرى عند مسلم: (من علامات المنافق ثلاث ... ) .
وفي رواية ثالثة عند مسلم أيضاً: (آية المنافق ثلاث ... وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم) .
وجاء في حديث آخر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر) رواه البخاري ومسلم.
وجاء في الحديث عن عبد الله بن عامر - رضي الله عنه - قال: (دعتني أمي يوماً ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد في بيتها فقالت: تعال أعطك. فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أردت أن تعطيه؟ فقالت: أعطيه تمراً. فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما إنك لو لم تعطه شيئاً كتبت عليك كذبة) رواه أبو داود وحسّنه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 3/943، وفي السلسة الصحيحة 2/384.
وجاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يستعيذ في صلاته كثيراً من المأثم والمغرم - الإثم والدين - فقيل له: يا رسول الله، ما أكثر ما تستعيذ من المغرم؟ فقال: إن الرجل إذا غرم - أي استدان - حدث فكذب ووعد فأخلف) رواه البخاري.
وبعد عرض هذه النصوص القرآنية والأحاديث النبوية أقول إن أهل(5/133)
العلم اختلفوا في حكم الوفاء بالوعد فمنهم من قال بأنه مندوب ومنهم من قال بأنه واجب ومنهم من قال بالتفصيل ففي حالات يجب الوفاء وفي أخرى يندب.
والذي أميل إليه وأختاره وجوب الوفاء بالوعد ديانة وقضاء وهذا قول جماعة من أهل العلم منهم جماعة من فقهاء السلف كالفقيه المعروف ابن شبرمة والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز والقاضي سعيد بن الأشوع وإسحاق بن راهويه وغيرهم.
قال الإمام البخاري في صحيحه: [باب من أمر بإنجاز الوعد وفعله الحسن - (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ) - وقضى ابن الاشوع بالوعد وذكر ذلك عن سمرة.
وقال المسور بن مخرمة سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر صهراً له فقال: وعدني فوفاني. قال أبو عبد الله - أي البخاري - رأيت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع] صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 6/217-218.
ثم ساق البخاري أربعة أحاديث في الوفاء بالوعد منها قصة أبي سفيان مع هرقل وفيه: (سألتك ماذا يأمركم؟ فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة. قال: وهذه صفة نبي) .
ثم ذكر حديث أبي هريرة السابق في علامات المنافق ثم ذكر حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: (لما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء أبا بكر مالٌ من قبل العلاء بن الحضرمي. فقال أبو بكر: من كان له على النبي - صلى الله عليه وسلم - دين أو كانت له قبله عدة فليأتنا. قال جابر: فقلت: وعدني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا فبسط يديه ثلاث مرات. قال جابر: فعدَّ في يدي خمسمئة ثم خمسمئة ثم خمسمئة) .
ثم ذكر حديث ابن عباس في قصة وفاء موسى عليه السلام بوعده لوالد الفتاتين.
فهذه الأدلة وغيرها تدل على وجوب الوفاء بالوعد.
وقد ذكر الحافظ السخاوي تفصيلاً أكثر من هذا في كتابه القيم " التماس السعد في الوفاء بالوعد " وبين قوة هذا القول فقال في مقدمة كتابه: [وبعد،(5/134)
فهذا تصنيف لطيف سميته التماس السعد في الوفاء بالوعد، جمعت فيه ما تيسر لي الوقوف عليه من الأحاديث والآثار ومناسبات الأشعار وافتتحته بآية في المعنى مع طرف من تفسيرها الأسنى ليتوافق دليل السنة والكتاب ويظهر قوة من جنح في ذلك للوجوب من الأصحاب] التماس السعد في الوفاء بالوعد ص 30.
ومن لطيف ما ذكره الحافظ السخاوي: [أن مطرفاً بن عبد الله الشخير وكان من فضلاء السلف سمع رجلاً يقول: أستغفر الله وأتوب إليه. فأخذ بذراعه وقال: لعلك لا تفعل من وعد فقد أوجب] .
وذكر أيضاً: [أنه قيل لبعض الصالحين وقد أصبح صائماً تطوعاً: أفطر فإن المتطوع أمير نفسه. فقال: إني لأستحي من ربي عز وجل أن أعده وعداً وهو أن أصوم ولا أوفي له بوعدي] التماس السعد ص 57-58.
ومن كلمات السلف: [الوعد سحابة والإنجاز مطر وأحسن المواعيد ما صدقه الإمطار] التماس السعد ص 96.
وأخيراً ينبغي أن يقال إن الأخذ بقول من أوجب الوفاء بالوعد يضبط معاملات الناس وخاصة في الأمور المالية وقد أخذت كثير من المصارف الإسلامية التي تتعامل وفق الأحكام الشرعية بمبدأ الإلزام بالوعد لما في ذلك من ضبط للمعاملات المالية.
المواعدة على الصرف
يقول السائل: هل يجوز شرعاً أن أتفق مع شخص على أن أبيعه عشرة آلاف دولار بما يعادلها من الدنانير بالسعر الحاضر على أن يتم التسليم والاستلام بعد شهرين؟
الجواب: هذه العملية تسمى مواعدة على الصرف وهي محل خلاف(5/135)
بين أهل العلم قديماً وحديثاً، ومن المعروف أن الصرف هو بيع الثمن بالثمن جنساً بجنس أو بغير جنس.
وشروط الصرف تقابض البدلين في مجلس العقد وأن يخلو عقد الصرف من الأجل ومن خيار الشرط لأنه يخل بالقبض كما قرر ذلك جمهور الفقهاء. انظر الموسوعة الفقهية 24/348 فما بعدها.
وبناءً على اشتراط عدم التأجيل في عقد الصرف اختلف الفقهاء في جواز المواعدة على الصرف والذي أميل إليه وأطمئن إليه هو جواز المواعدة على الصرف على أن تكون المواعدة غير لازمة.
فإذا تواعد شخصان على المصارفة بعد ستة أشهر مثلاً بأن حدَّدا نوع العملة وسعرها اليوم واتفقا على أن يتم التقابض عندما يحل الأجل وعندما حل الأجل عقد الطرفان عقداً جديداً وتم التسليم والاستلام فهذا العقد جائز ولا بأس به حيث إن المواعدة في هذه الحال ليست لازمة.
وأما إن كانت المواعدة لازمة في عقد الصرف فلا تصح المعاملة لأن كلاً من الطرفين يكون ملزماً بتنفيذ الوعد عند حلول الأجل ولا يحتاج إلى إنشاء عقد جديد فحينئذ يكون ذلك بمثابة عقد صرف تأخر فيه تقابض البدلين وتقابض البدلين قبل التفرق شرط لصحة عقد الصرف ولا عبرة بتسمية اتفاقهم الأول مواعدة إذ العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني.
وقد قال بجواز هذه المعاملة الإمام الشافعي وابن حزم الظاهري وابن نافع من المالكية وبعض العلماء المعاصرين.
قال الإمام الشافعي: [وإذا تواعد الرجلان الصرف فلا بأس أن يشتري الرجلان الفضة ثم يقرانها عند أحدهما حتى يتبايعاها ويصنعا بها ما شاءا] الأم 3/32.
وقال ابن حزم: [والتواعد في بيع الذهب بالذهب أو بالفضة وفي بيع الفضة بالفضة وفي سائر الأصناف الأربعة بعضها ببعض جائز تبايعا بعد ذلك(5/136)
أو لم يتبايعا لأن التواعد ليس بيعاً. وكذلك المساومة أيضاً جائزة - تبايعا أو لم يتبايعا - لأنه لم يأت نهي عن شيء من ذلك وكل ما حرم علينا فقد فصل باسمه قال تعالى: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) .
فكل ما لم يفصل لنا تحريمه فهو حلال بنص القرآن إذ ليس في الدين إلا فرض أو حرام أو حلال فالفرض مأمور به في القرآن والسنة والحرام مفصل باسمه في القرآن والسنة وما عدا هذين فليس فرضاً ولا حراماً بالضرورة حلال إذ ليس هنالك قسم رابع - وبالله التوفيق] المحلى 76/465-466.
وقال الشيخ العدوي: [ ... وأما لو أراد أن يعقدا بعد ذلك فلا ضرر كأن يقول له سر بنا إلى السوق بدراهمك فإن كانت جياداً تصارفنا أي أوقعنا عقد الصرف بعد ذلك يوافقه الآخر فلا ضرر فيه] حاشية العدوي على شرح الخرشي على مختصر خليل 5/38.
وقد أجازت المواعدة على الصرف عدد من الهيئات العلمية الشرعية فقد جاء في فتاوى ندوات البركة ما يلي:
1. ما هو الرأي في المواعدة بشراء العملات مختلفة الجنس بسعر يوم الاتفاق " يوم المواعدة " على أن يكون تسليم كل من البدلين مؤجلاً لكي يتم التبادل في المستقبل يداً بيد وذلك في حالة كون مثل هذه المواعدة ملزمة وحالة كونها غير ملزمة؟
الفتوى: إن هذه المواعدة إذا كانت ملزمة للطرفين فإنها تدخل في عموم النهي عن بيع الكالئ بالكالئ " بيع الدين بالدين " فلا تكون جائزة وإذا كانت غير ملزمة للطرفين فإنها جائزة. فتاوى ندوات البركة ص 28.
2. ما حكم المواعدة في صرف العملات؟
الفتوى: يؤكد على ما جاء في قرارات المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي بالكويت في مارس 1983 من أن المواعدة في بيع العملات مع تأجيل الثمن جائزة إذا كانت المواعدة غير ملزمة " هذا رأي الأغلبية " أما(5/137)
المواعدة إذا كانت ملزمة فهذه المعاملة غير جائزة شرعاً. فتاوى ندوات البركة ص 107.
وجاء في الفتاوى الشرعية للبنك الإسلامي الأردني السؤال التالي: [تسهيلاً لحجاج بيت الله الحرام ترغب وزارة الأوقاف بأن يتفق البنك الإسلامي الأردني معها لبيعها ريالات سعودية بسعر محدد مسبقاً - اليوم مثلاً - خلال فترة مستقبلية محددة - ستين يوماً من تاريخه مثلاً - على أن تقوم وزارة الأوقاف بتسليم البنك خلال أي يوم من الستين يوماً ثمن الريالات السعودية بالدنانير الأردنية وأن يقوم البنك في ذات اليوم بتسليمها شيكاً بالريالات السعودية محسوباً على أساس السعر المحدد سابقاً لهذه الغاية - والذي قد يزيد أو يقل عن سعر صرف الريال في ذلك اليوم - فهل يجوز شرعاً السير في هذه المعاملة؟
الجواب: إن الاتفاق على تبادل العملات مختلفة الأجناس بسعر يحدد حين الاتفاق على أن يتم التسليم والتسلم من قبل البنك والوزارة في وقت واحد على أساس السعر المتفق عليه سابقاً بغض النظر عن سعر العملة يوم التنفيذ يشمله ما جاء في نيل الأوطار من أن مذهب الحنفية والشافعية أنه يجوز التبادل بسعر يومها وأغلى وأرخص وإن هذا الاتجاه وإن كان يخالف ما جاء في حديث ابن عمر الذي يتضمن الإجازة بسعر يومها إلا أنه يظهر أن الأمامين أخذا بالحديث العام وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) وعليه فإني أوافق على السير في معاملة الاتفاق على الوجه المشروح عملاً برأي الحنفية والشافعية المشار إليه والله سبحانه وتعالى أعلم] فتاوى البنك الإسلامي الأردني 2/10-11.
وجاء في فتاوى بيت التمويل الكويتي: [ما الرأي الشرعي في مدى جواز الاتفاق على بيع أو شراء العملة وبسعر يتفق عليه مقدماً على أن تنفذ العملية في زمن لاحق ويكون التسليم والاستلام بالنقد في وقت واحد؟
الجواب: مثل هذه المعاملة تعتبر وعداً بالبيع فإن أنفذاه على الصورة الواردة في السؤال فلا مانع شرعاً والله أعلم.(5/138)
وزيادة في إيضاح هذه المسألة أقول: إن تنفيذ هذا الوعد على الصورة الواردة في السؤال يكون مشروعاً ولكنه إذا اقترن الوعد بما يدل على أنه عقد بيع بأن دفع بعض الثمن دون بعض فيكون من قبيل بيع الكالئ بالكالئ " المؤجل بالمؤجل " وهو ممنوع مطلقاً ولا سيما في عقد الصرف الذي يشترط لصحته تقابض كلا البدلين في مجلس العقد ويعتبر اشتراط التأجيل مفسداً له عند جميع الأئمة] فتاوى بيت التمويل 1/203.
ومما يدل على جواز هذه المعاملة أن المواعدة في الصرف خارجة عن نطاق النصوص التي تحرم تأخير تسليم العوضين أو أحدهما لأن المراد من هذه النصوص النهي عن قبض أحد العوضين فقط دون الآخر لأن ذلك يؤدي إلى ربا النسيئة فوجود الفترة الزمنية بين قبض أحد العوضين وتأجيل قبض الآخر هو الذي أوجد الربا وهذه الصورة لا خلاف في تحريمها وهي تختلف عن المواعدة في الصرف في أن المواعدة في الصرف لا يحصل فيها تسليم أحد البدلين وتأجيل الآخر وإنما يكون فيها التسليم والتسلم في المستقبل معاً فليس هناك تسليم مسبق وتأجيل بل التسليم يتم في الموعد المحدد في نفس اللحظة التي يتم فيها تسليم العملة المحلية يتم تسلم العملة الأجنبية وما يتم حين التواعد هو تحديد السعر الذي يتم على أساسه هذا التسليم في المستقبل وليس إنشاء عقد الصرف. أحكام صرف النقود والعملات في الفقه الإسلامي ص 123.
وهذه المعاملة تحقق مصلحة للمتعاملين بها كما أنه ليس في هذه العملية ما يقضي بحرمتها لانتفاء الغرر والجهالة والربا، غاية ما في الأمر أن العميل يطمئن من خلال هذه العملية أنه سيحصل على المبلغ الذي يريده في زمن محدد، يقول الدكتور سامي حمود: [وإذا نظرنا إلى واقع الحال بالنسبة لما تؤديه العملية من خدمة للمستورد في حال المواعدة على الشراء وللمصدِّر في حال المواعدة على البيع نجد أن اطمئنان كل من المستورد لما سيدفعه من ثمن والمصدر لما سيقتضيه أمر له اعتباره، أما المصرف فإنه إذا كانت لديه عمليات واسعة فإنه يستطيع أن يوازن بين المواعدة بالبيع مع(5/139)
المواعدة بالشراء] تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية ص 320، أحكام صرف النقود والعملات ص 126.
وخلاصة الأمر أن هذه المعاملة جائزة شرعاً بشرط أن تكون المواعدة غير لازمة.
حكم بيع الحلي الذهبية القديمة بجديدة
يقول السائل: كثير من النساء عندما يردن بيع الحلي الذهبية القديمة التي لديهن يذهبن إلى الصائغ فيعطينه الذهب القديم ويأخذن ذهباً جديداً ويدفعن فرق السعر، فما حكم ذلك؟
الجواب: هذا البيع باطل ولا يجوز شرعاً لأنه يشترط في بيع الذهب بالذهب أمران أولهما اتحاد الوزن أي التساوي في الوزن والثاني التقابض في مجلس البيع والشراء وفي صورة السؤال فإن الذهب الجديد لم يساو الذهب القديم في الوزن حيث إنه تم دفع الفرق في السعر بينهما.
وحتى يكون هذا البيع صحيحاً فإن المرأة تبيع الذهب القديم إلى الصائغ بالسعر الذي يتم الاتفاق عليه وتقبض الثمن ثم تشتري منه ذهباً جديداً بالسعر الذي يتم الاتفاق عليه والأولى والأفضل أن تبيع المرأة الذهب القديم إلى الصائغ وتقبض الثمن ثم تذهب إلى السوق فتطلب حاجتها من الذهب من غيره من الصاغة فهذا أحسن كما ذهب إليه الإمام أحمد. المغني 4/42
وقد صح في الحديث عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض - أي لا تزيدوا - ولا تبيعوا الورق - الفضة - بالورق إلا مثلاً بمثل بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائباً بناجز) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام النووي: [قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق(5/140)
بالورق إلا سواء بسواء) ، قال العلماء: هذا يتناول جميع أنواع الذهب والورق من جيد ورديء وصحيح ومكسور وحلي وتبر وغير ذلك وسواء الخالص والمخلوط بغيره وهذا كله مجمع عليه] شرح النووي على مسلم 4/195.
وقال ابن قدامة المقدسي: (والجيد والرديء والتبر والمضروب والصحيح والمكسور سواء في جواز البيع مع التماثل وتحريمه مع التفاضل وهذا قول أكثر أهل العلم) المغني 4/8.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الذهب بالذهب وزناً بوزن مثلاً بمثل والفضة بالفضة وزناً بوزن مثلاً بمثل فمن زاد أو استزاد فهو ربا) رواه مسلم.
وعن فضالة بن عبيد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزناً بوزن) رواه مسلم.
ويؤخذ من هذه الأحاديث وغيرها أن الأموال الربوية أي التي يجري فيها الربا لا يجوز بيع بعضها ببعض إلا إذا تساوى الوزن وتم القبض في مجلس العقد.
فلا يصح بيع الرديء منها بالجيد مع اختلاف الوزن وكذلك القديم بالجديد ويدل على ذلك ما ثبت في الحديث أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: (بعث أخا عدي الأنصاري فاستعمله على خيبر فقدم بتمر جنيب - أي جيد - فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله يا رسول الله إنا لنشتري الصاع بالصاعين من الجمع - تمر رديء -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تفعلوا ولكن مثلاً بمثل أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا وكذلك الميزان) رواه مسلم.
وفي رواية أخرى عند مسلم: فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: (فلا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً) .
ويدل على ذلك أيضاً ما ثبت في الحديث عن أبي سعيد قال: (جاء(5/141)
بلال بتمر برني - تمر جيد - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أين هذا؟ فقال بلال: تمر كان عندنا رديء فبعت منه صاعين بصاع لمطعم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أوه عين الربا لا تفعل لكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ببيع آخر ثم اشتر به) رواه مسلم. وفي رواية أخرى عند مسلم: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (هذا الربا فردوه ثم بيعوا تمرنا واشتروا لنا من هذا) .
وخلاصة الأمر أن الصحيح في هذه المعاملة أن يباع الذهب القديم بالنقود وبعد قبضها من الصائغ يشترى الذهب الجديد ولا ينبغي أن يكون هنالك تواطئ على العقدين والأفضل هو بيع القديم لصائغ وشراء الجديد من صائغ آخر.
استلام الشيك الحالّ بمثابة قبض النقود
يقول السائل: هل استلام الشيك في الصرف يعتبر بمثابة قبض النقود وما حكم أخذ العمولة على الشيكات الحالة والمؤجلة وما تعليقكم على ما جاء في إحدى الفتاوى التي نشرت في جريدة القدس من منع استعمال الشيك في عمليات الصرف وعدم جواز دفع العمولة عليها؟
الجواب: إن الأصل في نظام المعاملات في الشريعة الإسلامية الإباحة مع الإلتزام بالقواعد العامة الحاكمة لنظام المعاملات المالية الشرعية وإن التطور الملموس الذي ظهر في باب المعاملات المالية يحتاج إلى دراسة وبحث لصور المعاملات المالية الحديثة على ضوء القواعد الشرعية وينبغي التروي في إصدار الأحكام ودراستها دراسة عميقة ومن المعروف أن التعامل بالشيكات صار من الأمور المشهورة والمعروفة والتي لا يستغني عنها الناس في معاملاتهم المالية والشيك عبارة عن أمر من العميل إلى المصرف ليدفع إلى شخص ثالث المبلغ المدون في الشيك من حسابه الجاري في المصرف. المصارف الإسلامية ص 314.(5/142)
والشيكات على أنواع وأشكال مختلفة ولا يتسع المقام للحديث عن تفاصيل ذلك ولكن سأذكر حكم استعمال الشيك في الصرف وهل يقوم استلام الشيك مقام قبض المبلغ في الصرف لأنه من المعلوم فقهاً أنه يشترط لصحة عقد الصرف تقابض البدلين في المجلس فإذا ما تصارف اثنان أحدهما لديه ألف دينار مثلاً ويريد أن يصرفها إلى دولارات فدفع الأول الألف دينار للصراف فأعطاه الصراف شيكاً حال الأجل بالدولارات التي تقابل الدنانير فهل عملية الصرف هذه صحيحة أم لا؟
الجواب: إذا نظرنا إلى حقيقة التعامل بالشيكات وأن منزلتها لا تقل عن منزلة التعامل بالأوراق النقدية وإذا اشترطنا في الشيك الحلول بمعنى أن يكتب تاريخ الشيك في تاريخ المصارفة وأن يكون المبلغ المكتوب فيه محدداً فإنه يجوز استعمال الشيك في هذه الحالة ويعتبر استلام الشيك بمثابة قبض المبلغ المدون فيه فقبض الشيك في هذه الحالة يقوم مقام قبض بدل الصرف ذاته.
يقول الشيخ مصطفى الزرقا رحمه الله: [فإذا نظرنا إلى أن الشيكات تعتبر في نظر الناس وعرفهم وثقتهم بمثابة النقود الورقية وأنها يجري تداولها بينهم كالنقود تظهيراً وتحويلاً وأنها محمية في قوانين جميع الدول من حيث أن سحب الشيك على بنك ليس للساحب فيه رصيد يفي بقيمة الشيك المسحوب يعتبر جريمة شديدة تعاقب عليها قوانين العقوبات في الدول جميعاً، إذا نظرنا إلى هذه الاعتبارات يمكن القول معها بأن تسليم المصرف الوسيط شيكاً بقيمة ما قبض من طالب التحويل يعتبر بمثابة دفع بدل الصرف في المجلس أي أن قبض ورقة الشيك كقبض مضمونه فيكون الصرف قد استوفى شريطته الشرعية في التقابض] أحكام صرف النقود والعملات ص 101.
وبهذا يتضح لنا أن إعطاء شيك حال بمنزلة التقابض في المجلس فلا مانع من ذلك شرعاً وأما أخذ العمولة على الشيكات المؤجلة كأن تكون قيمة الشيك ألف دينار مثلاً وتاريخ الشيك بعد شهرين فيذهب حامل الشيك(5/143)
إلى الصراف فيعطيه 950 ديناراً فأرى أن هذه الصورة ممنوعة شرعاً لاشتمالها على الربا.
وأما إذا كان الشيك حالاً فلا مانع من أخذ العمولة عليه كما جرت عادة المصارف والصرافين من خصم 1% مثلاً على الشيك فهذه الصورة تخرج على أنها وكالة والوكالة تجوز بأجر وبدون أجر فهذه العملية ظاهر فيها الجواز شرعاً لأن العمولة التي يأخذها البنك هي أجرة له على التحصيل فهو وكيل مفوّض من قبل أصحاب هذه الأوراق علماً أن تحصيلها يتطلب جهداً كبيراً من البنك ويكلفه مصاريف انتقال المحصلين وإرسال الإخطارات للمدينين والإشعارات بسدادهم يقول الأستاذ الهمشري: [وبالتأمل في مفهوم كل من التحصيل للأوراق التجارية والوكالة أستطيع أن أقرر أن عملية التحصيل للأوراق التجارية لا تخرج عن كونها عملية توكيل للبنك بأجر وإذا أجزنا للمحامي الأجر مقابل وكالته في الدفاع سواء أكسب القضية أم خسرها فإن الوكيل - البنك - في عملية التحصيل للدين يستحق الأجر سواء تم التحصيل أم لا لأنه قام بالوكالة وحقق المطالبة بسداد الدين في ميعاد الاستحقاق واتخذ كافة وسائل التحصيل الممكنة ... ] البنوك الإسلامية ص 137-138.
وأما ما جاء في الفتوى المنشورة في جريدة القدس قبل حوالي أسبوعين حيث ورد فيها ما يلي: [وأما إذا كان قبض المبلغ غير مؤجل أي أنه حال ويستطيع الصيرفي قبض المبلغ من الجهة الموجه إليها الشيك في أي وقت يريد فالأمر فيه تفصيل فإذا كانت العملية تسمى صرفاً فتكون العملية غير جائزة وذلك لأن صورة الصرف الشرعية هي مبادلة مال بمال مثلاً بمثل دون زيادة وفي نفس المجلس يستلم الطرفان كل من الآخر دون أن يفترقا وفي هذه الصورة قد استلم صاحب الشيك مبلغه نقداً وأما الصيرفي فقد استلم ورقة فيها أمر بالدفع ولم يستلم نقوداً وقدم المبلغ أيضاً ناقصاً.
وأما إذا كانت العملية غير صورة الصرف ... فصاحب الشيك(5/144)
المضمون قبضه حالاً غير مؤجل لسبب من الأسباب لا يتمكن من الذهاب للجهة الموجه إليها الأمر بالقبض فيكلف شخصاً آخر سواء الصيرفي أو غيره بأن يقوم بهذه المهمة مقابل أجرة معينة فيستلم الصيرفي الشيك المضمون قبضه حالاً ويعطي صاحبه مبلغه باستثناء الأجرة المتفق عليها ... فهذه الصورة ليست فيها مخالفة شرعية ... الخ] .
أقول هذه الفتوى فرقت بين المتماثلين في الحقيقة والواقع واعتمدت في التفريق على اختلاف الاسم فقط ففي الصورة الأولى التي تسمى صرفاً لا تجوز وفي الصورة الثانية التي تسمى مهمة مقابل الأجر تجوز وليس فيها مخالفة شرعية.
إن الشريعة الإسلامية لا تفرق بين المتماثلين وإن مضمون الصورتين واحد وإن اختلفت التسمية كما جاء في الفتوى.
إن من القواعد المعلومة في الشريعة الإسلامية أن العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني وهذه القاعدة مستمدة من القاعدة الكلية الأخرى وهي الأمور بمقاصدها.
قال العلامة ابن القيم: [قواعد الفقه وأصوله تشهد أن المرعي في العقود حقائقها ومعانيها لا صورها وألفاظها] زاد المعاد 5/200.
وقال في موضع آخر: [والتحقيق أنه لا فرق بين لفظ ولفظ فالاعتبار في العقود بحقائقها ومقاصدها لا بمجرد ألفاظها] زاد المعاد 5/813.
وبهذا يظهر لنا أن تفريق الفتوى بين الصورتين المذكورتين في صرف الشيك الحال تفريق غير صحيح لأن حقيقة الصورتين واحدة وإن اختلفت التسمية كما ورد في الفتوى.
وختاماً فالذي يظهر لي هو جواز صرف الشيكات الحالة مع دفع عمولة عليها كما هو متعارف الآن لدى البنوك والصرافين وأن هذه العمولة تخرج على أنها وكالة بأجر.(5/145)
توثيق المعاملات بالكتابة
يقول السائل: كثير من معاملات الناس التي تحتاج كتابة عقود واتفاقيات يعتمد الناس فيها على عامل الثقة بينهم فلا يكتبونها ولا يوثقونها فما قولكم في ذلك؟
الجواب: إن كتابة العقود وتوثيقها بمختلف أنواعها أمر مطلوب شرعاً وخاصة في هذا الزمان حيث خربت ذمم كثير من الناس وقل دينهم وورعهم وزاد طمعهم وجشعهم.
وإن الاعتماد على عامل الثقة بين الناس ليس مضموناً لأن قلوب الناس متقلبة وأحوالهم متغيرة وقد يكون المتعاقدان متحابين وصديقين حميمين وقت العقد ووقت الإقراض ثم يقع بينهما من العداوة والبغضاء ما الله به عليم فتضيع الحقوق.
أو تنكر أو تنقض لذا كان من الأمور المندوبة شرعاً توثيق الدين وغيره من العقود والاتفاقيات.
ومما يدل على مشروعية ذلك آية الدين وهي أطول آية في القرآن الكريم حيث يقول الله سبحانه وتعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌوَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُءَاثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) سورة البقرة الآيتان 282-283.(5/146)
ففي هاتين الآيتين دلالة واضحة على مشروعية كتابة الدين وتوثيقه.
قال الإمام ابن العربي المالكي: [قوله تعالى: (فَاكْتُبُوهُ) يريد أن يكون صكاً ليستذكر به عند أجله لما يتوقع من الغفلة في المدة التي بين المعاملة وبين حلول الأجل والنسيان موكل بالإنسان والشيطان ربما حمل على الإنكار والعوارض من موت وغيره تطرأ فشُرِع الكتاب والإشهاد] أحكام القرآن 1/247.
ومما يرشد إلى مشروعية كتابة العقود وتوثيقها ما جاء في الحديث عن ابن عمر - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يريد أن يوصي فيه إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه) رواه البخاري ومسلم.
وقد روى الترمذي بإسناده عن عبد المجيد بن وهب قال: (قال لي العداء بن خالد بن هوذة: ألا أقرئك كتاباً كتبه لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: قلت بلى، فأخرج لي كتاباً: هذا ما اشترى العداء ابن خالد بن هوذة من محمد - صلى الله عليه وسلم - اشترى منه عبداً أو أمة لا داء ولا غائلة ولا خبثة بيع المسلم المسلم) رواه الترمذي وحسّنه ورواه ابن ماجة ورواه البخاري تعليقاً وقال الشيخ الألباني: حسن. سنن الترمذي مع شرحه عارضة الأحوذي 5/176، صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 5/213، صحيح سنن الترمذي 2/5.
وبناءً على هذه الأدلة قال جمهور أهل العلم إن كتابة الدين وتوثيقه أمر مندوب إليه وقال بعض العلماء بوجوب ذلك أخذاً بظاهر الآية وهو قول وجيه له حظ من النظر وينبغي حمل الناس عليه في هذا الزمان قطعاً لأكل حقوق الآخرين بالباطل وسداً لأبواب النزاع والخصومات ولما نرى في مجتمعنا من نزاع وشقاق وخلاف بسبب عدم توثيق الديون والعقود وكتابتها فكم من المنازعات حدثت بين المؤجر والمستأجر بسبب عدم كتابة عقد الإجارة وكم من خصومات حصلت بين الشركاء لاختلافهم في قضية ما ويعود ذلك لعدم كتابة اتفاق الشراكة وهكذا الحال في كل المعاملات التي لم توثق.(5/147)
لذا فإني أنصح كل متعاقدين في أي من العقود الشرعية أن يوثقا العقد بجميع شروطه وتفصيلاته الصغيرة قبل الكبيرة، قال الله تعالى: (ولا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ) .
قال ابن العربي المالكي: [هذا تأكيد من الله تعالى في الإشهاد بالدين تنبيهاً لمن كسل فقال: هذا قليل لا أحتاج إلى كتبه والإشهاد عليه. لأن أمر الله تعالى فيه والتحضيض عليه واحد والقليل والكثير في ذلك سواء] أحكام القرآن 1/257.
كما أن المعاملة التي لا تكتب ولا يستشهد عليها يترتب عليها مفاسد كثيرة منها ما يكون عن عمد إذا كان أحد المتداينين ضعيف الأمانة فيدعي بعد طول الزمن خلاف الواقع ومنها ما يكون عن خطأ ونسيان فإذا ارتاب المتعاملان واختلفا ولا شيء يُرجع إليه في إزالة الريبة ورفع الخلاف من كتابة أو شهود أساء كل منهما الظن بالآخر ولم يسهل عليه الرجوع عن اعتقاده إلى قول خصمه فلج خصامه وعدائه وكان وراء ذلك من شرور المنازعات ما يرهقهما عسراً ويرميهما بأشد الحرج وربما ارتكبا في ذلك محارم كثيرة. تفسير المنار 3/134 بتصرف.
وكتابة الدين وتوثيقه تعود بالمنفعة على الناس من عدة وجوه:
1. صيانة الأموال وقد أمرنا بصيانتها ونهينا عن إضاعتها.
2. قطع المنازعة فإن الوثيقة تصير حكماً بين المتعاملين ويرجعان إليها عند المنازعة تكون سبباً لتسكين الفتنة ولا يجحد أحدهما حق صاحبه مخافة أن تخرج الوثيقة وتشهد الشهود عليه بذلك فينفضح أمره بين الناس.
3. التحرز عن العقود الفاسدة لأن المتعاملين بها ربما لا يهتديان إلى الأسباب المفسدة للعقد ليتحرزا عنها فيحملهما الكاتب على ذلك إذا رجعا إليه ليكتب.(5/148)
4. رفع الارتياب فقد يشتبه على المتعاملين إذا تطاول الزمان مقدار البدل ومقدار الأجل فإذا رجعا إلى الوثيقة لا يبقى لواحد منهما ريبة] الموسوعة الفقهية 14/135.
ويجب التنبيه على أن كاتب الديون أو العقود بين الناس لا ينبغي أن يكون أحد المتعاقدين حتى يكون أقرب للعدل المشار إليه في قوله تعالى: (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ) .
قال القرطبي: [قوله تعالى: (بِالْعَدْلِ) أي بالحق والمعدلة أي لا يكتب لصاحب الحق أكثر مما قاله ولا أقل وإنما قال: (بَيْنَكُمْ) ولم يقل أحدكم لأنه لما كان الذي له الدين يهتم في الكتابة الذي عليه الدين وكذلك بالعكس شرع الله سبحانه وتعالى كاتباً غيرهما يكتب بالعدل لا يكون في قلبه
ولا قلمه موادة لأحدهما على الآخر] تفسير القرطبي 3/383.
وأخيراً فينبغي الإشارة إلى قوله تعالى: (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) إن المدين - الذي عليه الحق - هو الذي يملي على الكاتب اعترافه بالدين ومقدار الدين وشرطه وأجله ذلك خيفة أن يقع الغبن على المدين لو أملى الدائن فزاد في الدين أو قرب الأجل أو ذكر شروطاً معينة في مصلحته والمدين في موقف ضعيف قد لا يملك معه إعلان المعارضة رغبةً في إتمام الصفقة لحاجته إليها فيقع عليه الغبن فإذا كان المدين هو الذي يملي لم يمل إلا ما يريد الارتباط به عن طيب خاطر ثم ليكون إقراره بالدين أقوى وأثبت وهو الذي يملي وفي الوقت ذاته يناشد ضمير المدين وهو يملي أن يتقي الله ربه وأن لا يبخس شيئاً من الدين الذي يقرّ به) ظلال القرآن 1/492.(5/149)
المماطلة في سداد الدين
يقول السائل: إنه صاحب محل تجاري وإن بعض الناس يشتري منه البضاعة بالدين على أن يقضيه في آخر الشهر ثم يمضي الشهر والشهران والشهور وهذا المدين لا يسدد دينه مع أنه مستطيع فما قولكم في ذلك؟
الجواب: مما يؤسف له أن كثيراً من الناس يتساهلون في الدين تساهلاً كبيراً فتراهم يشترون البضاعة ويطلبون من البائع أن يمهلهم حتى استلام رواتبهم أو حتى نهاية الشهر أو نحو ذلك ثم يماطلون ويسوفون في سداد الدين وقد تمضي عليهم الشهور والسنون وهم كذلك مع مقدرتهم على قضاء ديونهم، إن ما يقوم به هؤلاء الناس ما هو إلا أكل لأموال الناس بالباطل وقد قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) سورة النساء الآية 29.
وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمثال هؤلاء الذين يأخذون أموال الناس ويماطلون فيها فقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله) رواه البخاري.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: (كانت ميمونة تدان فتكثر فقال لها أهلها في ذلك ولاموها ووجدوا عليها فقالت: لا أترك الدين وقد سمعت خليلي وصفيي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما من أحد يدان ديناً يعلم الله منه أنه يريد قضاءه إلا أداه الله عنه في الدنيا) رواه النسائي وابن ماجة وابن حبان وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في صحيح ابن ماجة 2/52.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من مات وعليه دينار أو درهم قضي من حسناته ليس ثم دينار ولا درهم) رواه ابن ماجة وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 2/53.
وعن صهيب- رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أيما رجل يدين(5/150)
ديناً وهو مجمع على أن لا يوفيه إياه لقي الله سارقاً) رواه ابن ماجة والبيهقي وقال الشيخ الألباني: حسن صحيح. المصدر السابق 2/52.
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ من الدين كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: (دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة جالساً فيه فقال: يا أبا أمامة ما لي أراك جالساً في المسجد في غير وقت الصلاة؟ قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله، قال: أفلا أعلّمك كلاماً إذا قلته أذهب الله عز وجل همك وقضى عنك دينك؟ فقال: بلى يا رسول الله، قال: قل إذا أصبحت وأمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من البخل والجبن وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال. قال: فقلت ذلك فأذهب الله عز وجل همي وقضى عني ديني) رواه أبو داود.
فلا ينبغي لأحد من الناس أن يتساهل في الدين وخاصة أن الإنسان قد يموت وهو مدين ويكون بذلك على خطر عظيم لأن نفس المؤمن تكون معلقة بدينه، فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة- رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه) رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن، ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: (توفي رجل فغسّلناه وكفّناه وحنّطناه ثم أتينا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي عليه، فقلنا: تصلي عليه؟ فخطا نحوه خطوة ثم قال: أعليه دين؟ قلنا: ديناران، فانصرف فتحملهما أبو قتادة فأتيناه، فقال أبو قتادة: الديناران عليّ، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: قد أوفى الله حق الغريم وبرئ منهما الميت؟ قال: نعم فصلى عليه، ثم قال بعد ذلك بيوم: ما فعل الديناران؟ قلت: إنما مات أمس، فعاد إليه من الغد فقال: قد قضيتهما، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الآن بردت جلدته) رواه أحمد بإسناد حسن كما قال الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب 2/591.
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمتنع عن الصلاة عمن عليه دين حتى يقضى دينه(5/151)
فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يؤتى بالرجل الميت عليه الدين فيسأل: هل ترك لدينه قضاء؟ فإن حدث أنه ترك وفاء صلّى عليه، وإلا قال: صلوا على صاحبكم. فلما فتح الله عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي وعليه دين فعليّ قضاؤه ومن ترك مالاً فهو لورثته) رواه مسلم.
ويجب أن يعلم أن هؤلاء الذين يتلاعبون بأموال الناس ويماطلون في تسديد الدين أن المماطلة في أداء الدين محرمة مع القدرة على الأداء فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة- رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (مطل الغني ظلم) متفق عليه.
قال الإمام النووي: [قوله - صلى الله عليه وسلم - (مطل الغني ظلم) قال القاضي وغيره: المطل منع قضاء ما استحق أداؤه فمطل الغني ظلم وحرام] شرح النووي على صحيح مسلم 4/174-175.
ومن المعلوم عند أهل العلم أن أداء الدين واجب باتفاق بدلالة الأحاديث الصحيحة الواردة في تحريم مال الغير كما قال القرطبي في تفسيره 3/415.
ولأهمية قضاء الدين من أموال الميت فهو مقدم على الوصية وإن ذكرت قبله في قول الله تعالى: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ) سورة النساء الآية 12، وعلى هذا أكثر أهل العلم.
وكذلك فإن الدين يقضى عن الميت قبل توزيع تركته.
وأخيراً أنبه الدائنين أن يوثقوا ديونهم ويكتبوها ويشهدوا على ذلك لأن ذمم كثير من الناس قد خربت وفسدت وكثير من هؤلاء ينكرون الدين إن لم يكن موثقاً بالكتابة وقد قال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ(5/152)
يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) سورة البقرة الآية 282.
تبديل السيارة القديمة بسيارة جديدة
يقول السائل: ما حكم من يبدل سيارته بسيارة أخرى مع دفع الفرق وهل يعتبر هذا البيع من الربا؟
الجواب: هذا البيع جائز ولا ربا فيه لأن الربا لا يجري في بيع سيارة بسيارة فالسيارات ليست من الأموال الربوية وعادة كثير من الناس أن يتم هذا البيع باستبدال السيارة القديمة بأخرى أحدث منها ودفع الفرق. وهذا العقد يتم فيه شراء السيارة الثانية بثمن مكون من السيارة الأولى مضافاً إلى ذلك الفرق في السعر بين السيارتين وهذا البيع داخل في عموم قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) فهو جائز ولا بأس به.
بيع الكلاب
يقول السائل: ما حكم بيع الكلاب؟
الجواب: يجب أن يعلم أولاً أنه لا يجوز اقتناء الكلب في البيوت إلا لحاجة نافعة ككلاب الصيد وكلاب الحراسة لما ثبت في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من اقتنى كلباً إلا كلب(5/153)
صيد أو كلب ماشية نقص من عمله كل يوم قيراطان) رواه مسلم.
وأما بيع الكلاب فمحل خلاف كبير بين أهل العلم وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى تحريم بيع الكلب وأن ثمنه حرام واستدلوا على ذلك بما يلي:
1. عن أبي مسعود الأنصاري- رضي الله عنه -: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الكلب) رواه البخاري ومسلم.
2. وعن رافع بن خديج - رضي الله عنه - قال: (سمعت رسول الله يقول: شر الكسب مهر البغي وثمن الكلب وكسب الحجام) رواه مسلم.
وفي رواية أخرى عند مسلم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ثمن الكلب خبيث ومهر البغي خبيث وكسب الحجام خبيث) وغير ذلك من الأحاديث.
وأجاز جماعة من أهل العلم بيع الكلاب التي ينتفع بها ككلاب الحراسة والصيد ويلحق بها في زماننا الكلاب التي تقتفي الأثر والتي تستعمل في تعقب آثار المجرمين والكشف عن المخدرات ونحوها فيجوز بيع هذه الكلاب، وهذا قول أبي حنيفة ومالك في رواية عنه وبه قال عطاء وإبراهيم النخعي. شرح النووي على صحيح مسلم 4/179.
وسحنون من المالكية حيث قال: [أبيعه وأحج بثمنه] أي كلب الصيد كما نقله عنه في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3/11، وهو قول بعض الحنابلة. الإنصاف 4/28.
ومال إلى هذا القول الإمام الشوكاني والألباني وغيرهما وهو الذي أميل إليه، لما يلي:
أولاً: قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) سورة المائدة الآية 4.
ووجه الدليل في الآية الكريمة قوله تعالى: (مُكَلِّبِينَ) ، قال القرطبي: [معنى: (مُكَلِّبِينَ) ، أصحاب الكلاب وهو كالمؤدب صاحب التأديب] تفسير القرطبي 6/66.(5/154)
وهذه الآية تدل على جواز اتخاذ الكلاب للصيد ويفهم من ذلك أنها أداة للصيد ينتفع بها وما كان كذلك يجوز بيعه ما دام أنه يجوز اقتناؤه.
ثانياً: وردت بعض الأحاديث التي تستثني كلب الصيد وكلب الماشية وما في معناهما من عموم النهي المذكور في الأحاديث التي احتج بها الجمهور على المنع فمن ذلك:
1. عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن ثمن الكلب إلا كلب الصيد) رواه الترمذي وقال لا يصح من هذا الوجه، ولكن الشيخ الألباني ذكر أن الحديث حسن، صحيح سنن الترمذي 2/24.
وقد ذكر الشيخ أحمد الغماري عدة طرق يتقوى بها حديث أبي هريرة السابق، الهداية في تخريج أحاديث البداية 7/169 فما بعدها.
2. وعن جابر قال: (نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب إلا الكلب المعلم) رواه النسائي وأحمد والدارقطني وطعن النسائي في سنده ولكن قال الحافظ ابن حجر: رجاله ثقات، إلا أن النسائي طعن في صحته فتح الباري 5/331.
وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 3/4: [ورد الاستثناء من حديث جابر ورجاله ثقات] وقال الشيخ أحمد الغماري: [هذا سند على شرط الصحيح] ثم ذكر له طرقا تقويه وذكر رواية عن ابن عباس فيها استثناء كلب الصيد. الهداية 7/171.
وقال الإمام الشوكاني بعد أن ذكر حديث جابر: [فينبغي حمل المطلق على المقيد ويكون المحرم بيع ما عدا كلب الصيد إن صلح هذا المقيد للاحتجاج به] نيل الأوطار 5/163.
وقال الشيخ الألباني: [ ... ولكن معنى الاستثناء صحيح دراية للأحاديث الصحيحة التي تبيح اقتناء كلب الصيد وما كان كذلك حل بيعه وحل ثمنه كسائر الأشياء المباحة كما حققه الإمام أبو جعفر الطحاوي في شرح معاني الآثار ... ] السلسلة الصحيحة 6/1156.(5/155)
والذي حققه أبو جعفر الطحاوي أن النهي عن ثمن الكلب كان في الوقت الذي أمر فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتل الكلاب كما ثبت في أحاديث كثيرة، ثم استثنى من القتل كلب الصيد والماشية والحراسة فجاز بيع هذه دون مطلق الكلاب.
قال الطحاوي: [إن الكلاب قد كان حكمها أن تقتل كلها ولا يحل إمساك شيء منها فلم يكن بيعها حينئذ بجائز ولا ثمنها بحلال] شرح معاني الآثار 4/53. ثم ذكر طائفة من الأحاديث في قتل الكلاب ثم قال: [فكان هذا حكم الكلاب أن تقتل ولا يحل إمساكها ولا الانتفاع بها فما كان الانتفاع به حراماً وإمساكه حراماً فثمنه حرام فإن كان نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب كان وهذا حكمها فإن ذلك قد نسخ فأبيح الانتفاع بالكلاب] ثم ذكر طائفة من الأحاديث التي تبيح الانتفاع بكلاب الصيد والماشية ثم قال: [فلما ثبتت الإباحة بعد النهي أباح الله عز وجلّ في كتابه ما أباح بقوله: (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ) اعتبرنا حكم ما ينتفع به هل يجوز بيعه ويحل ثمنه أم لا؟ فرأينا الحمار الأهلي قد نهي عن أكله وأبيح كسبه والانتفاع به فكان بيعه إن كان هذا حكمه حلالاً وثمنه حلالاً وكان يجيء في النظرأيضاً أن يكون كذلك الكلاب لما أبيح الانتفاع بها حل بيعها وأكل ثمنها ويكون ما روي في حرمة أثمانها كان وقت حرمة الانتفاع بها وما روي في إباحة الانتفاع بها دليل على حل أثمانها. وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمة الله عليهم أجمعين] شرح معاني الآثار 4/57.
وذكر الشيخ الألباني في موضع آخر أن حديث جابر وهو: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب إلا كلب الصيد) قد رواه النسائي والبيهقي وهو على شرط مسلم وذكر له شاهدين ثم قال: [فلعل هذا الاستثناء يقوى بهذه الطرق والشواهد] التعليقات الرضية 2/347.
وذكر صاحب إعلاء السنن - 14/486 فما بعدها - عدداً من الشواهد تتقوى بها هذه الأحاديث ويدل على أن الحديث الوارد في استثناء كلب الصيد لا يقل عن درجة الحسن وعليه فيجوز بيع الكلاب التي ينتفع بها في الحراسة والصيد وكلاب الأثر وغير ذلك.(5/156)
ضوابط الكسب
يقول السائل: في عالم التجارة والمال والأعمال مجالات واسعة للكسب والحصول على الأموال ولكن هنالك أمور كثيرة يقف المرء حائراً أمامها متسائلاً، هل يجوز هذا العمل شرعاً؟! وهل هذا الكسب حلال أم حرام؟ أرجو بيان ضوابط تضبط ذلك.
الجواب: إن المسلم ينطلق في حياته من عقيدته الإسلامية وأنه عبد لله سبحانه وتعالى ملتزم بشرعه فالإسلام لا يعطي الفرد الحرية المطلقة في أن يفعل ما يشاء وكيفما يشاء كما هو الحال في النظام الرأسمالي.
إن الحرية المطلقة رذيلة ممقوتة حيث إنها تؤدي بالانسان إلى الشرود والجموح والانفلات من جميع القيم والمبادئ، يقول الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله: [إن الحرية التي شرعها الإسلام في مجال الاقتصاد ليست حرية مطلقة من كل قيد كالحرية التي توهمها قوم شعيب (أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ) بل هي حرية منضبطة مقيدة بالعدل الذي فرضه الله تعالى. ذلك أن في الطبيعة الإنسانية نوعاً من التناقض خلقها الله عليه لحكمة اقتضاها عمران الأرض واستمرار الحياة.
فمن طبيعة الإنسان الشغف بجمع المال وحبه حباً قد يخرجه عن حد الاعتدال كما قال تعال في وصف الإنسان: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) وكما صوّر الرسول - صلى الله عليه وسلم - مدى طمع الإنسان بقوله: (لو كان لابن آدم واديان من تراب لابتغى إليهما ثالثاً ولا يملاً جوف ابن آدم إلا التراب) متفق عليه.
ومن طبيعة الإنسان الشح والحرص كما قال تعالى: (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) ، (وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا) وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (يشيب ابن آدم وتشب معه خصلتان: الحرص، وطول الأمل) رواه البخاري.
ومن طبيعته حب الخلود إن لم يكن بنفسه فبذريته من بعده وحب الاستعلاء والسيطرة على الآخرين وهاتان الغريزتان كانتا الأحبولة التي أوقع إبليس بها آدم أبا البشر في شرك المخالفة بالأكل من الشجرة: (فَوَسْوَسَ(5/157)
إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى) ] دور القيم والأخلاق في الاقتصاد الإسلامي ص 371 - 372.
إذا تقرر هذا فإن الإسلام حث على العمل والسعي في الأرض للكسب، قال تعالى:
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) سورة الملك الآية 15.
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا) سورة البقرة الآية 168.
وقد وضع العلماء أصولاً وضوابط لما يحل ويحرم في باب المعاملات فمن هذه الضوابط والأصول تحريم الربا فهو محرم بنص كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فنتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأؤلئك أصحَابُ النّارِ هُمْ فِيْها خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) سورة البقرة الآيتان 275- 276.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) رواه مسلم.
ويترتب على تحريم الربا تحريم العمل في البنوك الربوية مهما كان العمل لأن العمل فيها إما إعانة على الربا أو رضىً بهذا العمل المحرم وكلاهما ممنوع شرعاً.
يقول الله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) سورة المائدة الآية 2.
ويدخل في ذلك تأجير المحلات والمباني للبنوك الربوية فهو حرام لما سبق من أنه تعاون على الإثم والعدوان.
ومن هذه الضوابط تحريم كل معاملة فيها غش وخداع وقد ثبت في(5/158)
الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من غشنا فليس منا) رواه مسلم. فهذا الحديث عام ويشمل المعاملات كلها والعمل كذلك.
وصور الغش والخداع في زماننا كثيرةٌ جداً وخاصة في التجارة والأعمال المختلفة فمن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
1. بيع المواد الفاسدة والمنتهية الصلاحية.
2. التلاعب في الأوزان كأن يكتب على العبوة وزن معين ثم لا يكون وزنها في الحقيقة كذلك.
3. تسويق بضاعة رديئة على أنها بضاعة جيدة وذلك بوضع العلامة التجارية للبضاعة الجيدة على الرديئة.
4. بيع المواد الضارة بالصحة والتي تسبب الأمراض المستعصية.
5. وصف مكونات المواد المصنعة بأوصاف غير حقيقية.
6. الغش في تنفيذ المقاولات وأعمال البناء مثل تقليل الحديد والإسمنت في البنايات مما قد يتسبب في انهيار المبنى ومقتل سكانه أو إصابتهم بأذى.
ومن الضوابط التي تحكم عالم التجارة والعمل تحريم الاتجار والعمل بالمحرمات سواء كان ذلك بانتهاك محرم أو ترك واجب.
يقول الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) سورة المنافقون الآية 9.
ومن صور الاتجار في المحرمات وكذا العمل فيها:
التجارة في الخمر بمختلف أسمائها وكذا العمل في صناعتها والعمل في قطف العنب لتصنيعها وبيع العنب لمن يعصره خمراً.
وقد صح في الحديث من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله تعالى حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام) رواه بالبخاري ومسلم.
وجاء في الحديث: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن الخمر وشاربها وساقيها وبائعها(5/159)
ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمول إليه وآكل ثمنها) رواه أبو داود والحاكم وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير 2/907.
ويلحق بتحريم الاتجار بالخمر الاتجار بالمخدرات والسموم القاتلة كالهيروين والأفيون والحشيش.
ومن الصور المحرمة المتاجرة في الأفلام الساقطة الخليعة والصحف والمجلات التي تنشر الفحشاء والمنكر وكذا العمل في طباعتها وطباعة أي مادة تحارب الله ورسوله ودينه.
ومن صور العمل المحرمة الأعمال التي يجبر فيها الإنسان على ترك الفرائض كمن يعمل في مصنع ويمنع من أداء الصلاة المفروضة في وقتها فهذا عمل محرم.
وكذا العمل الذي تكون فيه خلوة محرمة شرعاً كعمل السكرتيرة في مكتب المدير أو المحامي أو الطبيب إذا وجدت الخلوة المحرمة.
وكذا العمل الذي يقتضي أن تتخلى المرأة المسلمة عن لباسها الشرعي المفروض.
وكذا العمل الذي تنتهك فيه المحرمات كعمل الراقصات والمغنيات والممثلات ومن يشاركهن في ذلك من الرجال والنساء كالمصورين والمخرجين وغيرهم فهذا العبث الذي يسميه الناس في زماننا فناً والمتضمن انتهاك المحرمات كالعري والتقبيل والمعاشرة الجنسية وإن لم تكن تامة كل ذلك من المحرمات ويمنع ترويج وبيع هذه الأفلام والأشرطة أو تأجيرها أو الإعلان عنها وغير ذلك.
ومن الأعمال المحرمة الحفلات الغنائية المختلطة وما يصاحبها من رقص ماجن وعري وتهتك.
ومن الأعمال المحرمة الاشتغال بعمل أو وظيفة من شأنها الإعانة على ظلم أو حرام فهي حرام كمن يشتغل في عمل ربوي أو محل للخمر أو في مرقص أو ملهى أو نحو ذلك. الحلال والحرام ص 141.(5/160)
وكذلك العمل في وظيفة تلحق الضرر والأذى بالمسلمين سواء كان الضرر أو الأذى مادياً أو معنوياً.
ومن الأعمال المحرمة المتاجرة بالمواد المسروقة والمغصوبة وهي التي أخذت من أصحابها بغير رضا كالمواد التي تصادر من الناس ظلماً وعدواناً.
ومن الضوابط في هذا المجال تحريم المعاملات التي فيها غرر وخطر كالقمار الذي هو الميسر، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) سورة المائدة الآيتان 90-91.
ومن ذلك ما يعرف باللوتو والتوتو وكذلك اليانصيب المسمى زوراً وبهتاناً باليانصيب الخيري فكل ذلك حرام.
وأخيراً لا يظنن أحد أن فيما تقدم من المحرمات تضييق لموارد الرزق على الناس بل إن طرق الكسب الحلال مفتوحة وهي أكثر من أن تعد وتحصى.
إيثار المؤسس والمساهم في الشركات المساهمة
يقول السائل: هل يجوز إيثار المؤسس والمساهم في الشركات المساهمة على غيره في معاملات تلك الشركات عملاً بقوله تعالى: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) ؟
الجواب: كثير من الناس يخطئ في فهم الآية الكريمة المذكورة في السؤال ويحملونها على غير وجهها الصحيح فيفهمون أن معنى الآية: أن الأقرب هو الأولى بالمعروف أو بالمعاملة وبعضهم يقول الأقرب فالأقرب، وهذا فهم خاطئ تماماً وحتى نفهم الآية فهماً صحيحاً لا بد من فهم ما يسبقها من الآيات وما يلحقها وكيف فسرها علماء التفسير.(5/161)
يقول الله تعالى: (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) سورة القيامة 31-40.
قال أهل التفسير في معنى قوله تعال: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) أي ويل لك يا أيها الشقي ثم ويل لك.
وقال المفسرون هذه العبارة في لغة العرب ذهبت مذهب المثل في التخويف والتحذير والتهديد فاحذر وانتبه لأمرك.
قال الراغب الأصفهاني: [وقوله تعالى: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) كلمة تهديد وتخويف يخاطب به من أشرف على هلاك فيحث به على التحرز أو يخاطب به من نجا ذليلاً منه فينهى عن مثله ثانياً وأكثر ما يستعمل مكرراً وكأنه حث على تأمل ما يئول إليه أمره ليتنبه للتحرز منه] المفردات في غريب القرآن ص 32.
وقال الإمام القرطبي: [قوله تعالى: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) تهديد بعد تهديد ووعيد بعد وعيد أي فهو وعيد أربعة لأربعة كما روي أنها نزلت في أبي جهل الجاهل بربه فقال: (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أي لا صدق رسول الله ولا وقف بين يدي فصلى، ولكن كذب رسولي وتولى عن التصلية بين يدي.
فترك التصديق خصلة والتكذيب خصلة وترك الصلاة خصلة والتولي عن الله تعالى خصلة فجاء الوعيد أربعة مقابلة لترك الخصال الأربع والله أعلم. لا يقال: فإن قوله: (ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) خصلة خامسة فإنا نقول: تلك كانت عادته قبل التكذيب والتولي فأخبر عنها وذلك بين في قول قتادة على ما نذكره.
وقيل: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - خرج من المسجد ذات يوم فاستقبله أبو جهل على باب المسجد مما يلي باب بني مخزوم فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده فهزه مرةً أو مرتين ثم قال: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) فقال له أبو جهل:(5/162)
أتهددني؟ فوالله إني لأعز أهل الوادي وأكرمه. ونزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال لأبي جهل وهي كلمة وعيد ... قال قتادة: أقبل أبو جهل بن هشام يتبختر فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده فقال: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) . فقال: ما تستطيع أنت ولا ربك لي شيئاً إني لأعز من بين جبليها. فلما كان يوم بدر أشرف على المسلمين فقال: لا يعبد الله بعد هذا اليوم أبداً. فضرب الله عنقه وقتله شرّ قتلة. وقيل: معناه الويل لك ... وعلى هذا التأويل قيل: هو من المقلوب كأنه قيل: أويل ثم أخر الحرف المعتل والمعنى: الويل لك حياً والويل لك ميتاً والويل لك يوم البعث والويل لك يوم تدخل النار ... وقيل: المعنى أنت أولى وأجدر بهذا العذاب.
وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: قال الأصمعي (أَوْلَى) في كلام العرب معناه مقاربة الهلاك كأنه يقول: قد وليت الهلاك، قد دانيت الهلاك، وأصله من الولى وهو القرب. قال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) أي يقربون منكم ... وكان أبو العباس ثعلب يستحسن قول الأصمعي ويقول: ليس أحد يفسر كتفسير الأصمعي. وقال النحاس: العرب تقول أولى لك: كدت تهلك ثم أفلت وكأن تقديره: أولى لك وأولى بك الهلكة] تفسير القرطبي 19/114-116.
وقال ابن منظور: [وقوله عز وجل (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) معناه التوعد والتهدد أي الشر أقرب إليك وقال ثعلب: معناه دنوت من الهلكة وكذلك قوله تعالى: (فَأَوْلَى لَهُمْ) أي وليهم المكروه وهو اسم لدنوت أو قاربت وقال الأصمعي: أولى لك قاربك ما تكره أي نزل بك يا أبا جهل ما تكره ... ، قال ثعلب: ولم يقل أحد في أولى لك أحسن مما قال الأصمعي وقال غيرهما: أولى يقولها الرجل لآخر يحسره على ما فاته وبقول له: يا محروم أي شيء فاتك؟ وقال الجوهري: أولى لك تهدد ووعيد]
لسان العرب 15/404، وراجع أيضاً تفسير الألوسي 15/164، وتفسير ابن كثير 4/451.(5/163)
إذا تقرر أن المراد بالآية التهديد والوعيد والآية لا تدل على الفهم الخاطئ الذي يفهمه كثير من الناس من هذه الآية، أقول بالنسبة لإيثار المساهم والمؤسس بمعاملات الشركة التي أسسها وأسهم فيها بأن ذلك لا يجوز لأن محاباة بعض المؤسسين يجعل الشركة شركة خاصة ويؤدي إلى الإضرار بمصالح جمهور المساهمين.
والواجب على إدارة الشركة هو القيام على مصالح جميع المساهمين ومعاملة الجميع على قدم المساواة، بل إن بعض أنظمة الشركات المساهمة تمنع التعامل مع بعض المساهمين في الشركة كأعضاء مجلس الإدارة من أجل المحافظة على مصالح الشركة بشكل عام.
خُلو الرِجل
يقول السائل: ما قولكم فيما يعرف بِخُلو الرِجل المعمول به حالياً؟
الجواب: بدل خلو الرجل أو المفتاحية هو مبلغ من المال يدفعه الشخص نظير تنازل المنتفع بعقار عن حقه في الانتفاع.
ومسألة خلو الرجل من المسائل الشائكة التي خاض فيها العلماء واختلفوا في حكمها اختلافاً بيناً وخاصة أنه لا يوجد فيها نصوص شرعية لأنها من المسائل المتأخرة الحدوث.
وعلى كل حال فقد صار خلو الرجال معروفاً ومعمولاً به في كثير من بلاد المسلمين وخاصة في بلادنا.
وتنقسم صور الاتفاق على بدل الخلو إلى أربع صور وهي:
1. أن يكون الاتفاق بين مالك العقار وبين المستأجر عند بدء العقد وتسمى هذه الصورة المفتاحية.
فإذا اتفق المالك والمستأجر على أن يدفع المستأجر للمالك مبلغاً(5/164)
مقطوعاً زائداً عن الأجرة الدورية فلا مانع شرعاً من دفع هذا المبلغ المقطوع على أن يعد جزءاً من أجرة المدة المتفق عليها، وفي حالة الفسخ تطبق على هذا المبلغ أحكام الأجرة.
2. أن يكون الاتفاق بين المستأجر وبين المالك وذلك في أثناء مدة عقد الإجارة أو بعد انتهائها.
فإذا تم الاتفاق بين المالك والمستأجر أثناء مدة الإجارة على أن يدفع المالك للمستأجر مبلغاً مقابل تخليه عن حقه الثابت بالعقد في ملك منفعة بقية المدة فإن بدل الخلو هذا جائز شرعاً لأنه تعويض عن تنازل المستأجر برضاه عن حقه في المنفعة التي باعها للمالك.
أما إذا انقضت مدة الإجارة ولم يتجدد العقد صراحة أو ضمناً عن طريق التجديد التلقائي حسب الصيغة المفيدة له فلا يحل بدل الخلو لأن المالك أحق بملكه بعد انقضاء حق المستأجر.
3. أن يكون الاتفاق بين المستأجر ومستأجر جديد في أثناء مدة عقد الإجارة أو بعد انتهائها.
4. أن يكون الاتفاق بين المستأجر الجديد وبين كل من المالك والمستأجر الأول قبل انتهاء المدة أو بعد انتهائها.
فإذا تم الاتفاق بين المستأجر الأول وبين المستأجر الجديد أثناء مدة الإجارة على التنازل عن بقية مدة العقد لقاء مبلغ زائد عن الأجرة الدورية فإن بدل الخلو هذا جائز شرعاً مع مراعاة مقتضى عقد الإجارة المبرم بين المالك والمستأجر الأول ومراعاة ما تقضي به القوانين النافذة الموافقة للأحكام الشرعية.
على أنه في الإجارات الطويلة المدة خلافاً لنص عقد الإجارة طبقاً لما تسوغه بعض القوانين لا يجوز للمستأجر إيجار العين لمستأجر آخر ولا أخذ بدل الخلو فيها إلا بموافقة المالك.
أما إذا تم الاتفاق بين المستأجر الأول وبين المستأجر الجديد بعد(5/165)
انقضاء المدة فلا يحل بدل الخلو لانقضاء حق المستأجر الأول في منفعة العين.
هذا ما قرره مجمع الفقه الإسلامي في دورته الرابعة، انظر مجلة المجمع عدد 4/ ج3/ص 2329/2330.
وبناءً على ذلك يتبين لنا أن ما يفعله كثير من مستأجري الدور السكنية والشقق والمحلات التجارية الذين يطالبون ببدل خلو مقابل إخلاء المأجور بعد انتهاء مدة الإجارة أن مطالبتهم تلك باطلة وإن أخذوا بدل الخلو فإنه يكون أكلاً لأموال الناس بالباطل.
ويظهر الظلم واضحاً في كثير من قضايا المطالبة بالخلو وخاصة إذا كان المستأجر قد استأجر منزلاً للسكن منذ مدة طويلة كعشرين سنة خلت والأجرة زهيدة وبقية الأجرة على حالها لأن المستأجر محمي بحكم القانون ويطالب صاحب المنزل الآن بإخلائه والمستأجر يرفض الإخلاء ويطالب بالخلو والمبلغ الذي يطلبه أضعاف الأجرة التي دفعها طوال العشرين عاماً، أليس هذا ظلماً وأكلاً لأموال الناس بالباطل.
وأخيراً أدعو المالكين والمستأجرين إلى التراحم فيما بينهم والاحتكام إلى شرع الله سبحانه وتعالى.
عزل المحكمين
يقول السائل: هل يجوز لأحد الخصمين اللذين اتفقا على التحكيم في نزاع بينهما عزل المحكم قبل أن يصدر الحكم؟
الجواب: إن تعيين المحكم أو المحكمين في قضية ما لا بد أن يكون بتراضي الخصمين في النزاع فإذا اتفق الخصمان على تعيين المحكم بينهما وشرع المحكم في النظر في القضية فلا ينبغي لأحد الخصمين عزل المحكم(5/166)
ولا بد من استمرار المحكم في القضية إلى أن يصدر الحكم لأن ذلك يؤدي إلى عدم استقرار أمور التحكيم ويقلل من هيبة المحكم وهذا قول جماعة من الفقهاء وهو رأي القانون المدني في كثير من البلاد العربية فلا يصح عزل المحكمين إلا بتراضي الخصوم جميعاً.(5/167)
الأسرة والمجتمع(5/169)
عرض المرء ابنته على شخص ليتزوجها
يقول السائل: من المعلوم أن الرجل هو الذي يختار المرأة عند رغبته في الزواج فهل يجوز أن يعرض الإنسان ابنته على شخص ليتزوجها؟
الجواب: لا مانع شرعاً من أن يعرض المسلم ابنته أو أخته على من يرى فيه الصلاح للزواج منها.
قال الله تعالى في قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع والد الفتاتين اللتين سقى لهما موسى الغنم: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ فَجَاءَتهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَه وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) سورة القصص الآيات 23-28.(5/171)
قال القرطبي: [قوله (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ) الآية. فيه عرض الولي بنته على الرجل وهذه سنة قائمة عرض صالح مدين ابنته على صالح بني اسرائيل وعرض عمر ابن الخطاب ابنته حفصة على أبي بكر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين وعرضت الموهوبة نفسها على النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن الحسن عرض الرجل وليته والمرأة نفسها على الرجل الصالح اقتداء بالسلف الصالح] تفسير القرطبي 13/271.
وقال الإمام البخاري في صحيحه " باب عرض الإنسان ابنته أو أخته على أهل الخير " ثم روى بسنده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حدَّث: (أن عمر بن الخطاب حين تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتوفي في المدينة، فقال عمر بن الخطاب: أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة فقال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يرجع إلي شيئاً، وكنت أوجد عليه مني على عثمان. فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لقد وجدت عليَّ حين عرضت عليّ حفصة فلم أرجع إليك شيئاً. قال عمر: قلت: نعم، قال: أبوبكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت عليّ إلا أنني كنت علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو تركها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبلتها) .
قال الحافظ ابن حجر في أول شرحه للباب بأن الإمام البخاري أورد عرض البنت في الحديث الأول وعرض الأخت في الحديث الثاني - وسيأتي ذكره - فتح الباري 11/80.
ثم قال الحافظ ابن حجر: [وفيه - أي الحديث - عرض الانسان بنته وغيرها من مولياته على من يعتقد خيره وصلاحه لما فيه من النفع العائد على المعروضة عليه وأنه لا استحياء في ذلك] فتح الباري 11/82.
ثم ذكر الإمام البخاري الحديث الثاني وفيه إشارة إلى عرض أم حبيبة(5/172)
رضي الله عنها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوج أختها وقد ذكر البخاري الرواية المصرحة بذلك في موضع آخر من صحيحه ونصها: (عن أم حبيبة قالت: قلت يا رسول الله هل لك في بنت أبي سفيان؟ قال: فأفعل ماذا؟ قلت: تنكح، قال: أتحبين؟ قلت: لست لك بمخلية وأحب من شركني فيك أختي، قال: إنها لا تحل لي ... الخ) الحديث. صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 11/62 وأم حبيبة هي بنت أبي سفيان عرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوج أختها.
وكذلك يجوز للمرأة أن تعرض نفسها على الرجل الصالح ليتزوج بها. قال الإمام البخاري في صحيحه " باب عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح " ثم روى بسنده عن أنس - رضي الله عنه -: (جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعرض عليه نفسها قالت: يا رسول الله، ألك بي حاجة؟ فقالت بنت أنس: ما أقل حياءها واسوأتاه، واسوأتاه، قال هي خير منك، رغبت في النبي - صلى الله عليه وسلم - فعرضت عليه نفسها) .
وروى البخاري أيضاً بسنده عن سهل بن سعد: (أن امرأة عرضت نفسها على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له رجل: يا رسول الله زوجنيها، فقال: ما عندك؟ قال: ما عندي شيء، قال: اذهب فالتمس ولو خاتماً من حديد، فذهب ثم رجع فقال: لا، ما وجدت شيئاً ولا خاتماً من حديد، ولكن هذا إزاري ولها نصفه. قال سهل: وماله رداء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: وما تصنع بإزارك؟ إن لبسته لم يكن عليها منه شيء، وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء، فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام فرآه النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعاه أو دعي له، فقال له: ماذا معك من القرآن؟ فقال: معي سورة كذا وسورة كذا، لسور يعددها. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أملكناكها بما معك من القرآن) . صحيح البخاري 11/79.
وقال الحافظ ابن حجر: [وفي الحديثين جواز عرض المرأة نفسها على الرجل وتعريفه رغبتها فيه وأن لا غضاضة عليها في ذلك وأن الذي تعرض المرأة نفسها عليه بالاختيار لكن لا ينبغي أن يصرح لها بالرد بل يكفي السكوت] فتح الباري 11/80.(5/173)
وعرض الرجل ابنته على الرجل الصالح ليتزوج بها أمر لا بأس به كما سبق وفعله جماعة من السلف كما جاء في قصة سعيد بن المسيب أن عبد الملك بن مروان خطب ابنته لولده الوليد حين ولاه العهد، فأبى أن يزوجها، قال أبو وداعة: [كنت أجالس سعيد بن المسيب ففقدني أياماً، فلما جئت قال: أين كنت؟ قلت: توفيت أهلي، فاشتغلت، قال: فهّلا أخبرتنا فشهدناها؟ قال: ثم أردت أن أقوم. فقال: هل أحدثت أمرأة غيرها؟ فقلت: يرحمك الله، ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟ فقال: إن أنا فعلت تفعل؟ قلت: نعم، فحمد الله تعالى وصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - وزوجني على درهمين أو على ثلاثة، فقال: فقمت وما أدري ما أصنع من الفرح، وصرت إلى منزلي. وجعلت أفكر ممن آخذ وأستدين؟ وصليت المغرب، وكنت صائماً فقدمت عشائي لأفطر، وكان خبزاً وزيتاً، وإذا بالباب يقرع، فقلت: من هذا؟ فقال: سعيد، ففكرت في كل إنسان اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب، فإنه لم ير منذ أربعين سنة إلا ما بين بيته والمسجد، فقمت وخرجت، وإذا سعيد بن المسيب، وظننت أنه بدا له، فقلت: يا أبا محمد! هلا أرسلت إليّ فأتيتك؟ قال: لا، أنت أحق أن تزار، قلت: فما تأمرني؟ قال: رأيتك رجلاً عزباً قد تزوجت فكرهت أن تبيت الليلة وحدك، وهذه امرأتك، فإذا هي قائمة خلفه في طوله، ثم دفعها في الباب، ورد الباب، فسقطت المرأة من الحياء، فاستوثقت من الباب، ثم صعدت إلى السطح، وناديت الجيران، فجاءوني وقالوا: ما شأنك؟ قلت: زوجني سعيد بن المسيب ابنته، وقد جاء بها على غفلة وها هي في الدار، فنزلوا إليها، وبلغ أمي فجاءت، وقالت: وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها ثلاثة أيام، فأقمت ثلاثاً ثم دخلت بها، فإذا هي من أجمل الناس، وأحفظهم لكتاب الله تعالى، وأعلمهم بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأعرفهم بحق الزوج، قال:
فمكثت شهراً لا يأتيني ولا آتيه، ثم أتيته بعد شهر وهو في حلقته فسلمت عليه فردَّ عليَّ ولم يكلمني حتى انفض من في المسجد، فلما لما يبق غيري، قال: ما حال ذلك الإنسان؟ قلت: على ما يحب الصديق ويكره العدو) عن عشرة النساء ص 87-88.(5/174)
معاملة الزوجة بالحسنى
تقول السائلة: إن زوجها يسيء معاملتها ويهينها أمام أولادها ويقتّر عليها في الإنفاق مع العلم أنه يحافظ على الصلوات في المسجد فما قولكم في ذلك؟
الجواب: كثير من الناس عندهم انفصال ما بين القول والعمل ويعرفون الأحكام الشرعية معرفة نظرية فقط ولا يحولون تلك المعرفة إلى ممارسة عملية في الحياة وقد قال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) سورة الصف الآيتان 2-3.
وكثير من أمثال هذا الشخص المشار إليه في السؤال يفهمون الأحكام الشرعية المتعلقة بالمرأة بطريقة غير صحيحة فهم يفهمون القوامة على أنها تسلط على المرأة وهكذا. وينسى هؤلاء النصوص الشرعية الكثيرة التي حثت على حسن التعامل مع الزوجة حيث إن الزوجة آية من آيات الله تعالى التي منَّ بها على عباده كما قال تعالى: (وَمِنْءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) سورة الروم الآية 21.
إن الأساس الذي ينبغي أن تقوم عليه العلاقة الزوجية هو المودة والرحمة وتعني عطف قلوبهم بعضهم على بعض وقال بعض أهل التفسير: المودة المحبة والرحمة الشفقة وقال ابن عباس رضي الله عنهما: [المودة حب الرجل امرأته والرحمة رحمته إياها أن يصيبها سوء] تفسير القرطبي 14/17.
وقد أمر الله تعالى بحسن معاشرة الزوجة فقال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَاءَاتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) سورة النساء الآية 19.
قال الإمام القرطبي: [قوله تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي على ما(5/175)
أمر الله به من حسن المعاشرة والخطاب للجميع إذ لكل أحد عشرة زوجاً كان أو ولياً ولكن المراد بهذا الأمر في الأغلب الأزواج وهو مثل قوله تعالى: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ) وذلك توفية حقها من المهر والنفقة وألا يعبس في وجهها بغير ذنب وأن يكون منطلقاً في القول لا فظاً ولا غليظاً ولا مظهراً ميلاً إلى غيرها، والعشرة: المخالطة والممازجة ... فأمر الله سبحانه بحسن صحبة النساء إذا عقدوا عليهن لتكون أدمة ما بينهم وصحبتهم على الكمال فإنه أهدأ للنفس وأهنأ للعيش وهذا واجب على الزوج ولا يلزمه في القضاء وقال بعضهم: هو أن يتصنع لها كما تتصنع له، قال يحيى بن عبد الرحمن الحنظلي: أتيت محمد بن الحنفية فخرج إلي في ملحفة حمراء ولحيته تقطر من الغالية - نوع من الطيب - فقلت: ما هذا؟ قال: إن هذه الملحفة ألقتها عليّ امراتي ودهنتني بالطيب وإنهن يشتهين منا ما نشتهيه منهن.
وقال ابن عباس - رضي الله عنه -: إني أحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين المرأة لي] تفسير القرطبي 5/97.
وقد حثّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على حسن معاملة الزوجة وقد وردت في ذلك أحاديث كثيرة وقد بوب على بعضها الإمام البخاري بتراجم مناسبة فقال: " باب الوصاة بالنساء "، وقال الإمام البخاري أيضاً: " باب المداراة مع النساء "، وقال الإمام البخاري أيضاً: " باب حسن المعاشرة مع الأهل ".
ومن هذه الأحاديث حديث أبي هريرة أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن خلقن من ضلع أعوج وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء خيراً) .
قال الحافظ ابن حجر معلقاً على هذا الحديث: [وفي الحديث الندب إلى المداراة لاستمالة النفوس وتألف القلوب وفي سياسة النساء بأخذ العفو منهن والصبر على عوجهن وأن من رام تقويمهن فاته الانتفاع بهن مع أنه لا غنى للإنسان عن امرأة يسكن إليها ويستعين بها على معاشه] فتح الباري 11/163.(5/176)
وجاء في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إني أحرج عليكم حق الضعيفين اليتيم والمرأة) رواه ابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وورد في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبة حجة الوداع: (واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهم ألا إن لكم على نسائكم حقاً ولنسائكم عليكم حقاً فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن) رواه الترمذي وقال حسن صحيح ورواه ابن ماجة وحسّنه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/341.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (اتقوا الله في النساء) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وخياركم خياركم لنسائهم) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
قال العلامة ابن علان المكي: [ (وخياركم خياركم لنسائهم) وفي رواية (خيركم خيركم لأهله) قال في النهاية هو إشارة إلى صلة الرحم والحث عليها، قيل ولعل المراد من حديث الباب أن يعامل زوجته بطلاقة الوجه وكف الأذى والإحسان إليها والصبر على أذاها قلت ويحتمل أن الإضافة فيه للعهد والمعهود هو النبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد (أنا خيركم لأهلي) وقد كان - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس لأهله وأصبرهم على اختلاف أحوالهم] دليل الفالحين 3/106.
ويجب أن يعلم أن الإنفاق على الزوجة واجب على الزوج كما قال تعالى: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) سورة البقرة الآية 233، وقال تعالى:
(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّاءَاتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَاءَاتَاهَا) سورة الطلاق الآية 7.
وهذا الإنفاق يؤجر عليه الزوج أجراً عظيماً فقد جاء في الحديث عن(5/177)
أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة ودينار تصدقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك) رواه مسلم.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله) رواه مسلم.
وعن أبي مسعود البدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال: (إذا أنفق الرجل على أهله نفقة يحتسبها فهي له صدقة) رواه البخاري ومسلم.
وقال الحافظ ابن حجر: [وقال الطبري ما ملخصه: الإنفاق على الأهل واجب والذي يعطيه يؤجر على ذلك بحسب قصده ولا منافاة بين كونها واجبة وبين تسميتها صدقة بل هي من صدقة التطوع وقال المهلب: النفقة على الأهل واجبة بالإجماع وإنما سماها الشارع صدقة خشية أن يظنوا أن قيامهم بالواجب لا أجر لهم فيه وقد عرفوا ما في الصدقة من الأجر فعرّفهم أنها لهم صدقة حتى لا يخرجوها إلى غير الأهل إلا بعد أن يكفوهم ترغيباً لهم في تقديم الصدقة الواجبة قبل صدقة التطوع] فتح الباري 11/425.
وعن سعد - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنك مهما أنفقت على أهلك من نفقة فإنك تؤجر حتى اللقمة ترفعها إلى فيّ امرأتك) رواه البخاري ومسلم.
والأصل في الإنفاق على الزوجة والأولاد هو الإنفاق بالمعروف كما في الآية المذكورة أولاً.
والمعروف هو المتعارف في عرف الشرع من غير تفريط ولا إفراط ويقدر ذلك بحسب حال الزوج يسراً أو عسراً ويدل على ذلك قوله تعالى: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّاءَاتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَاءَاتَاهَا) سورة الطلاق الآية 7، وقوله تعالى: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) سورة الطلاق الآية 6.(5/178)
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أطعموهن مما تأكلون واكسوهن مما تكتسون ولا تضربوهن ولا تقبحوهن) رواه أبو داود وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/402.
وإذا كان الزوج بخيلاً شحيحاً فإنه يجوز للمرأة أن تأخذ من مال زوجها بالمعروف لتنفق على نفسها وأولادها من دون علم الزوج فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن هند بنت عتبة قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم. فقال - صلى الله عليه وسلم -: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) رواه البخاري ومسلم.
منع الزوجة من الذهاب إلى المسجد
تقول السائلة: إنها سيدة متزوجة وملتزمة بالدين وزوجها ليس كذلك وهو يمنعها من الذهاب إلى المسجد لحضور الصلوات والدروس الدينية وتقول إنها لم تدخل المسجد ولا مرة ولكنها تعوض ذلك بسماع القرآن الكريم وسماع الأشرطة الدينية وتسأل هل ينطبق عليها ما ورد في الحديث من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا غشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة ... الخ) أفيدونا جزاكم الله خيراً.
الجواب: كثيرون من الناس يسيؤون فهم وضع المرأة في الإسلام، وكثيرون يعاملون المرأة بشدة وقسوة بحكم عاداتهم وتقاليدهم الموروثة والتي لا تقرها الشريعة الإسلامية ويبدو أن زوج السائلة من هذا النوع.
إن معاملة الإسلام للمرأة أكرم وأعظم مما يظن كثير من الناس ولا يتسع المقام لتفصيل ذلك وأقتصر على ما يتعلق بالسؤال فقط فينبغي أن يعلم أن للمرأة الحق في الذهاب إلى المسجد للصلاة وحضور الدروس وليس الأمر خاصاً بالرجال فقد ورد في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنما(5/179)
النساء شقائق الرجال) رواه أبو داود وصححه الشيخ الألباني، صحيح الجامع الصغير 1/461.
ومن المعلوم عند أهل العلم أن النساء كن في العهد النبوي يحضرن صلاة الجماعة بما في ذلك صلاتي الفجر والعشاء وهما وقت الظلمة فعن عائشة رضي الله عنها قالت (كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الفجر متلفعات بمروطهن - أي أكسيتهن - ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من الغلس) رواه البخاري ومسلم.
وكذلك كن النساء يحضرن صلاة الجمعة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فعن أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت: (ما حفظت: " ق " إلا من فيّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب بها كل جمعة) رواه مسلم.
وثبت في الحديث أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها) متفق عليه.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهن خير لهن) رواه أبو داود وإسناده صحيح كما قال الشيخ الألباني في تعليقه على إعلام الساجد ص 225.
وغير ذلك من الأحاديث الواردة في حضور النساء لصلاة العيدين وصلاة الكسوف وطلب النساء من النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً ليعظهن ... الخ، فلا يجوز لهذا الزوج أن يمنع زوجته من الخروج للمسجد.
وأما الحديث الذي ذكرته في السؤال وهو: (ما اجتمع قوم ... الخ) فهذا الحديث في حق من يجتمعون على تلاوة القرآن ويذكرون الله عز وجل، وأما السائلة فلها الأجر والثواب من الله سبحانه وتعالى لصبرها على زوجها الظالم لها ولقيامها بما أوجب الله عليها ولسماعها للقرآن ولما تقوم به من ذكر وعبادة قال الله تعالى (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) سورة الأحزاب الآية 35.
ووردت أحاديث كثيرة في فضل الذكر والذاكرين منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من(5/180)
قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل) متفق عليه وغير ذلك من الأحاديث.
المعاشرة الزوجية قبل الزفاف
يقول السائل: ما حكم المعاشرة الزوجية بين الزوجين بعد العقد وقبل الزفاف؟
الجواب: من المعلوم أن عقد الزواج إذا وقع صحيحاً ترتبت عليه آثاره الشرعية ومنها حل استمتاع كل من الزوجين بالآخر فهذا الأمر واضح ومعلوم.
ولكن العرف قد جرى بأن المعاشرة الزوجية لا تكون إلا بعد الزفاف لا قبله أي بعد أن ينقل الزوج زوجته إلى بيت الزوجية.
لذا فإني أرى تقييد هذا المباح بالعرف حيث إن هذا العرف صحيح ويحقق مقاصد الشارع الحكيم وبيان ذلك بما يلي:
إن العرف قد جرى في بلادنا أن يتم عقد الزواج ويكتب وتبقى الزوجة في بيت أبيها مدة من الزمن قد تطول وقد تقصر فأحياناً تمكث الزوجة في بيت أبيها سنة أو اكثر أو أقل.
وفي هذه الحال يتردد الزوج لزيارة زوجته في بيت أبيها ويسميه الناس خاطباً مع أن هذه التسمية فيها نظر لأنه ليس بخاطب وإنما هو زوج شرعاً.
وعندما يتفق الزوجان وأهلهما على الزفاف ويعين موعد لذلك وتقام الأفراح وفي يوم الزواج يحضر الزوج وأقاربه لأخذ الزوجة من بيت أبيها إلى بيت الزوج فعندها تتم المعاشرة الزوجية بينهما وأما قبل ذلك فينبغي(5/181)
منع إقامة أي علاقة جنسية بينهما لما قد يترتب على إقامة العلاقة الزوجية في الفترة التي تسبق الزفاف من مفاسد.
فمثلاً إذا تمت معاشرة بينهما في تلك الفترة وحصل الحمل فقد لا يستطيع الزوج إتمام الزفاف لسبب من الأسباب فعندئذ تظهر علامات الحمل على الفتاة وهذا ينعكس عليها سلباً وعلى زوجها، وماذا لو قدر الله سبحانه وتعالى وفاة هذا الزوج قبل الزفاف وكان قد عاشرها وحملت منه فلا شك أن مشكلات كثيرة ستقوم وتؤدي إلى نزاع وخصام.
وهنالك احتمال أن يقع سوء تفاهم بينهما وقد يصل الأمر إلى الفراق بالطلاق أو غيره فحينئذ ستكون الفتاة في موقف صعب جداً وكذلك إذا تم الزفاف وكانت العلاقة الجنسية قد تمت قبله فقد يطعن الزوج في عفاف زوجته وهذا يوقع الفتاة وأهلها في مشكلات عويصة.
وقد يقول قائل ما دام أن العقد قد وقع صحيحاً فهي زوجته شرعاً وقانوناً فلماذا تحرمون استمتاع كل منهما بالآخر.
وأقول إنني لا أحرم ما أحل الله سبحانه وتعالى ولكن نقيد هذا المباح حفظاً لمصالح العباد ودفعاً للمفاسد التي قد تترتب على هذا الفعل.
والعرف الصحيح الذي لا يصادم النصوص الشرعية معتبر عند أهل العلم.
قال الإمام القرافي: [وأما العرف فمشترك بين المذاهب ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها] شرح تنقيح الفصول ص 488.
وقال الشيخ ابن عابدين:
والعرف في الشرع له اعتبار لذا عليه الحكم قد يدار
رسالة " نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف " ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين 2/112.
وقد قامت الأدلة الكثيرة على اعتبار العرف ووضع الفقهاء القواعد(5/182)
الفقهية في ذلك كما في قولهم: العادة محكمة، والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً واستعمال الناس حجة يجب العمل بها وغير ذلك.
[وسلطان العرف العملي كبير في أحكام الأفعال المعتادة والمعاملات المختلفة المتعلقة بحقوق الناس أو أحوالهم الشخصية أو القضاء أو الشهادات والعقوبات وغيرها ويعمل بالعرف ما لم يصادم نصاً شرعياً من القرآن أو السنة واضح الدلالة قطعياً أو نصاً تشريعياً كالقياس ويعتبر ما ثبت بالعرف حينئذ ثابتاً بالنص اتباعاً للقاعدة الشرعية الثابت بالعرف كالثابت بالنص أو الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي] نظرية العرف ص 48.
ومن أوسع مجالات اتباع العرف ما يتعلق بالأسرة مثل عشرة النساء والنفقة عليهن ومن ضمن ذلك ما تعارف عليه الناس أن الزوج لا يعاشر زوجته المعاشرة الزوجية إلا بعد الزفاف وهذا عرف صحيح ينبغي اعتباره والعمل به فهو لا يصادم النصوص الشرعية بل يؤكد مقاصد الشارع الحكيم.
كما أنه يمكن منع المعاشرة الزوجية بين الزوجين قبل الزفاف استناداً إلى قاعدة سد الذرائع وهي قاعدة معتبرة عند أهل العلم فمعلوم كم هي المفاسد التي قد تترتب على إقامة مثل هذه العلاقات وقد صرح بعض الآباء الذين سئلوا عن رأيهم في ذلك لو حصل هذا الأمر مع بناتهم بأن بعضهم سيقتل ابنته وزوجها لما في ذلك من مس بشرفه وشرف عائلته.
وصرح بعضهم بأمور أفظع من ذلك وقد جاء هذا في دراسة واستطلاع لرأي بعض الناس قام به بعض طلبة العلم.
وهذا على سبيل المثال لا على سبيل الحصر من ردود الأفعال التي قد تقع من الآباء والأهل تجاه بناتهم إن حصلت هذه المعاشرة.
ومن المفاسد التي قد تقع ووقعت فعلاً أنه في إحدى الحالات التي(5/183)
تمت فيها المعاشرة قبل الزفاف وحصل الحمل ولم يتمكن الزوج من إتمام إجراءات الزفاف أقدم على إجهاض زوجته وأدى ذلك إلى قتل الجنين؟!
فَسَدّاً لطرق الفساد هذه وغيرها ينبغي منع الزوجين من ذلك وحصره على ما بعد الزفاف فقط.
إصلاح غشاء البكارة
تقول السائلة: إنها شابة في العشرينات من عمرها وأنها قد انحرفت ووقعت في الرذيلة وعاشت عدة سنوات في المنكرات والآن كما تقول فقد رجعت إلى الله وتابت توبة صادقة وتسأل عن حكم إصلاح غشاء البكارة بعملية جراحية لإعادته لوضعه السابق وتسأل عن حكم استعمال العادة السرية؟
الجواب: إنه لشيء طيب أن يعود الإنسان عن غيه وضلاله وأن يرجع إلى الله سبحانه وتعالى ويتوب توبة صادقة ولكن يجب على الأسرة أن تربي أبناءها على شرع الله وأن تؤدبهم بأدب الإسلام كي تجنبهم الوقوع في الفواحش والمنكرات ابتداءً فأسرة هذه الفتاة التي استمرت في انحرافها لعدة سنوات كما جاء في رسالتها عليها مسؤولية عظيمة لأنها قصرت في ذلك.
وما دام أنها عادت إلى الله وصارت محافظة على الصلاة ولبست الجلباب الشرعي كما قالت فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يقبل توبتها ويغفر لها وأن يثبتها على طاعته وأما بالنسبة للشق الأول من السؤال حول إصلاح البكارة بعملية جراحية فإن إصلاح البكارة يسمى عند العلماء رتق غشاء البكارة أو عملية الرتق العذري ومن المعروف أن البكارة هي الجلدة التي تكون على فرج المرأة وتسمى عذرة ولذا يقال للفتاة البكر عذراء ورتق البكارة معناه إصلاحها وإعادتها لوضعها السابق قبل التمزق.
وهنالك أسباب عديدة لزوال غشاء البكارة منها:
1. الدخول في الزواج.(5/184)
2. الزنى والاغتصاب.
3. حصول حادثة للفتاة كالقفز مثلاً ونحو ذلك.
إذا تقرر هذا فإن هذه المسألة من المسائل الحديثة التي لم يرد فيها نص ولم يتعرض الفقهاء المتقدمون لها لعدم إمكان حصولها في زمانهم وإنما بحثها العلماء المعاصرون على ضوء أحكام الشرع وقواعده العامة.
والذي يظهر لي بعد دراسة أقوال العلماء المعاصرين وما اعتمدوا عليه في هذه المسألة أن عملية الرتق العذري أو إصلاح غشاء البكارة غير جائزة شرعاً ولا يجوز الإقدام عليها لا من الفتاة التي زالت بكارتها بأي سبب من الأسباب ولا من الطبيبة أو الطبيب المعالج لما يلي:
أولاً: إن رتق غشاء البكارة قد يؤدي إلى اختلاط الأنساب فقد تحمل المرأة من الجماع السابق ثم تتزوج بعد رتق غشاء بكارتها وهذا يؤدي إلى إلحاق الحمل بالزوج واختلاط الحلال بالحرام.
ثانياً: إن رتق غشاء البكارة فيه اطلاع على المنكر.
ثالثاً: إن رتق غشاء البكارة يسهل على الفتيات ارتكاب جريمة الزنا لعلمهن بإمكان رتق غشاء البكارة بعد الزنا.
رابعاً: إذا اجتمعت المصالح والمفاسد فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعلنا ذلك وإن تعذر درء المفاسد وتحصيل المصالح فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة درأنا المفسدة ولا نبالي بفوات المصلحة كما قرر ذلك فقهاء الإسلام.
وتطبيقاً لهذه القاعدة فإننا إذا نظرنا إلى رتق غشاء البكارة وما يترتب عليه من مفاسد حكمنا بعدم جواز الرتق لعظيم المفاسد المترتبة عليه.
خامسا ً: إن من قواعد الشريعة الإسلامية أن الضرر لا يزال بالضرر ومن فروع هذه القاعدة أنه لا يجوز للإنسان أن يدفع الغرق عن أرضه بإغراق أرض غيره ومثل ذلك لا يجوز للفتاة وأهلها أن يزيلوا الضرر عن الفتاة برتق الغشاء ويلحقونه بالزوج.(5/185)
سادساً: إن مبدأ رتق غشاء البكارة مبدأ غير شرعي لأنه نوع من الغش والغش محرم شرعاً.
سابعاً: إن رتق غشاء البكارة يفتح أبواب الكذب للفتيات وأهليهن لإخفاء حقيقة سبب زوال البكارة والكذب محرم شرعاً.
ثامناً: إن رتق غشاء البكارة يفتح الباب للأطباء أن يلجأوا إلى إجراء عمليات الأجهاض وإسقاط الأجنة بحجة الستر على الفتيات. أحكام الجراحة الطبية ص 429-430.
وما يقال من أن الرتق العذري فيه ستر على الفتاة التي أزيلت بكارتها باغتصاب أو إكراه على الزنا والستر مطلوب شرعاً. أبحاث فقهية في قضايا طبية معاصرة ص 229.
فيجاب عن ذلك بأن الستر الذي ندبت إليه الشريعة الإسلامية هو المحقق لمصالح معتبرة ورتق غشاء البكارة فيه كشف للعورة بدون حاجة وفيه فتح لباب الشر وهو الزنا كما أن الحكم بجواز رتق غشاء البكارة في حالة الزنا الذي لم يشتهر فيه فتح لباب من الشر عظيم والله يأمرنا أن يشهد عذاب الزاني طائفة من المؤمنين نكاية به وتأديباً لغيره من مغبة الوقوع في الفاحشة فجواز هذه الصورة لا يعتبر ستراً بل هو ترك لمبدأ معاقبته وإشعاره بذنبه فرفض الطبيب إجراء هذه العملية فيه ردع للزانية وتأديب لغيرها. الأحكام الطبية المتعلقة بالنساء ص 218.
ويضاف لذلك أن الستر المطلوب شرعاً هو الذي شهدت له نصوص الشرع باعتبار وسيلته ورتق غشاء البكارة لم يتحقق فيه ذلك بل الأصل حرمته لمكان كشف العورة وفتح باب الفساد. أحكام الجراحة الطبية ص 432.
وإن القول بجواز هذه العملية يؤدي إلى فتح أبواب الفساد وانتشار الرذيلة وما زعم من مصالح قد تترتب على ذلك إنما هي مصالح وهمية وليست حقيقية كما أن حالات تمزق غشاء البكارة بسبب حادث ما غير الزنا والاغتصاب تعتبر نادرة وقليلة ويمكن إذا حصل ذلك الحصول على تقرير(5/186)
طبي موثق لبيان السبب الحقيقي لزوال غشاء البكارة حتى تكون الفتاة بعيدة عن تهمة الزنا.
وأخيراً فإن على الأطباء المسلمين أن يكونوا دعاة صدق فيرشدوا الفتاة وأهلها إلى عدم إجراء هذه العملية وأخذ تقرير طبي يثبت براءة الفتاة فيكونوا بذلك قد وجهوا الناس إلى الأخذ بالصدق قولاً وفعلاً كما أن على الأطباء أن يرفضوا إجراء هذه العملية لكي يسدوا على المجتمع باب الزنا والتلاعب في الأعراض وأن يحاربوا الكسب غير المشروع بإجراء هذه العمليات مهما تنوعت الأسباب فإذا انتهج الأطباء هذه السبل لمعالجة فقد الفتاة لبكارتها أمكن إقناع الناس بأن فقدها بغير الفاحشة ليس أمراً معيباً ولا يمنع من الزواج منها. الأحكام الطبية المتعلقة بالنساء ص222.
وأما بالنسبة للشق الثاني من السؤال والمتعلق بالعادة السرية أو الاستمناء فإن هذا الأمر حرام في حق الشاب والفتاة على حد سواء كما هو مذهب جماهير علماء المسلمين ويدل على ذلك قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) سورة المؤمنون الآيات 5-7، والعادون هم الظالمون المتجاوزون الحلال إلى الحرام.
وقال تعالى: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) سورة النور الآية 33.
وقد أرشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى أنه عند ثوران الشهوة فالمطلوب هو اللجوء إلى تسكينها ويكون ذلك بالزواج إن كان مستطيعاً له وإلا فعلى الإنسان أن يصوم لما للصوم من أثر في تسكين الشهوة فعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) رواه البخاري ومسلم.
فعلى هذه الفتاة السائلة أن تكثر من الصوم وأن تحاول أن تشغل نفسها بالأمور النافعة والمفيدة كتلاوة القرآن ومطالعة الكتب الثقافية وعليها(5/187)
أن تبتعد عن المثيرات بشتى أنواعها وخاصة الأفلام والمسلسلات وأن تحاول أن تنسى الماضي وألا تجلس لوحدها وإنما تختلط مع أسرتها لأن ذلك أصون لها وأبعد عن الشيطان.
الزواج المبكر
يقول السائل: زعم بعض المنادين بتأخير سن الزواج والمعارضين للزواج المبكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تزوج عائشة رضي الله عنها أنها كانت في سن ثلاث وعشرين سنة أو سبع عشرين فما قولكم في ذلك؟
الجواب: لقد كثر الكلام حول قضية الزواج المبكر وكثر اللغط حول تأخير سن الزواج في هذه الأيام وأقدم قبل الجواب عن السؤال كلاماً موجزاً حول الزواج المبكر وأذكر بعض النصوص الشرعية التي تحض على الزواج:
قال تعالى: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ) سورة النور 32.
وقال تعالى: (فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ) سورة النساء الآية 3.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) رواه البخاري.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني) رواه البخاري.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة) رواه مسلم.
ويجب أن يعلم أن الشريعة الإسلامية لم تحدد سناً معيناً بالسنوات لعقد الزواج بل أجاز جمهور الفقهاء المتقدمين زواج الصغير والصغيرة أي دون البلوغ ولكن قوانين الأحوال الشخصية في البلاد الإسلامية حددت سناً للزواج فقد نصّ القانون الأردني للأحوال الشخصية في المادة الخامسة منه(5/188)
على ما يلي: [يشترط في أهلية الزواج أن يكون الخاطب والمخطوبة عاقلين، وأن يتم الخاطب السن السادسة عشرة وأن تتم المخطوبة الخامسة عشرة من العمر] .
[ونصَّ قانون الأحوال الشخصية لدولة الإمارات العربية في الفقرة الأولى من المادة عشرين على أن سن الزواج للفتى ثمانية عشر عاماً وللفتاة ستة عشر] .
وكذلك فإن القوانين الأوروبية قد حددت سن الزواج فالقانون الفرنسي قد جعل سن الثامنة عشرة للفتى والخامسة عشر للفتاة. وكذلك فإن الديانات الأخرى حددت سناً للزواج ففي الشريعة اليهودية جعلت سن زواج الرجل الثالثة عشرة والمرأة الثانية عشرة.
إن المعنى الحقيقي للزواج المبكر من الناحية الطبية والعلمية هو الزواج قبل البلوغ فبالنسبة للفتاة الزواج المبكر هو زواجها قبل الحيض.
وأما تسمية من تتزوج قبل الثامنة عشرة بأنه زواج مبكر فهذا لا يستند إلى قاعدة علمية أو قاعدة شرعية فأمر الزواج مربوط بالبلوغ والبلوغ عند الفتاة هو الفترة الزمنية التي تتحول فيها الفتاة من طفلة إلى بالغة وعندها تصبح الفتاة بالغة.
وأما سن البلوغ فيتراوح عالمياً ما بين 9-16 سنة وفي بلادنا ما بين 11-12 سنة حسب دراسة علمية صادرة عن الجامعة الأردنية.
ويقال لمعارضي الزواج المبكر ما يلي:
إن قانون الأحوال الشخصية قد منع زواج الصغار أخذاً بالرأي الفقهي الذي يمنع ذلك واشترط بلوغ الزوجة خمسة عشرة عاماً وأما الزوج فستة عشرة عاماً وهذا السن بالنسبة للرجل والمرأة هو سن يكون كل منهما قد بلغ ويدخل سن الأهلية والتكليف، والدعوة إلى تأخير الزواج هو انتقاص لأهلية الرجل والمرأة وحجر على حريتهما التي تتبجح هذه المراكز بالمناداة بها.(5/189)
وكذلك فقد جاء في كتاب " القانون ومستقبل المرأة الفلسطينية " لمؤلفته أسمى خضر ص 131: [الدعوة إلى تأخير سن الزواج إلى 18 عاماً للفتاة والفتى وذلك تمشياً مع تعريف الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل إذ أن نهاية سن الطفولة بلوغ 18 عاماً] .
وأقول إنه لأمر عجيب حقاً تمديد سن الطفولة إلى بلوغ 18 عاماً ليتمشى ذلك مع الاتفاقيات الدولية ولماذا لا نسير وفق ما جاء في ديننا وتاريخنا وحضارتنا، لقد دق محمد بن القاسم أبواب الصين وهو دون الثامنة عشرة وقاد أسامة بن زيد جيوش المسلمين وهو ابن ستة عشرة عاماً فهل تأخير سن الطفولة إلى ثمانية عشرة عاماً في مصلحة الأمة والمجتمع.
وبالنظر إلى سجلات عقود الزواج في المحاكم الشرعية نجد أنه قلما تتزوج فتاة دون سن السابعة عشر أو دون سن العشرين للشباب.
إن أولياء الأمور يستطيعون تقدير أمور الزواج المتعلقة ببناتهم فإذا وجد في ابنته القدرة على ذلك زوَّجها، وإذا لم يجد فيها القدرة على ذلك لم يزوِّجها.
إن البحوث العلمية والدراسات العالمية تثبت أنه لا يوجد زيادة في مضاعفات الحمل عند النساء اللاتي تتراوح أعمارهن ما بين 15-19 سنة. وإن المضاعفات التي تحصل عند الحوامل أقل من 15 سنة هي نسبياً قليلة كما أن أورام الثدي والرحم والمبايض هي أقل عند النساء اللواتي يبدأن الحمل والإنجاب في السنين المبكرة.
إن العمليات القيصرية والولادة المبكرة والتشوهات الخلقية ووفاة الجنين داخل الرحم ووفاة الأطفال بعد الولادة جميعها تزداد نسبياً كلما زاد عمر الحامل.
إن الحمل والإنجاب هو عمل متكرر وإن المرأة بحاجة إلى فترة زمنية طويلة لإنجاب ما كتب الله لها من أطفال. فالمرأة التي تتزوج في سن متأخر فإنها سوف تنجب أطفالها وهي في سن متأخر، ومن المثبت طبياً أن الأمراض المزمنة تبدأ بالظهور أو تزيد استفحالاً كلما تقدم الإنسان عمراً(5/190)
وهذه الأمراض المزمنة تزيد مخاطر الحمل والإنجاب وأحياناً تقف عائقاً للحمل والإنجاب.
إذا ثبت هذا فنعود إلى جواب السؤال ونقول إنه قد ثبت عند المحققين من أهل العلم أن عائشة رضي الله عنها لما تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت ابنة تسع سنين ولم ينقل خلاف ذلك فيما اطلعت عليه من المصادر، فقد روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (تزوجني النبي - صلى الله عليه وسلم - أي عقد عليّ - وأنا بنت ست سنين فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن خزرج فوعكت فتمزق شعري فوفى جميمة فأتتني أمي أم رومان وإني لفي أرجوحة ومعي صواحب لي فصرخت بي فأتيتها لا أدري ما تريد بي فأخذت بيدي حتى أوقفتني على باب الدار وإني لأنهج حتى سكن بعض نفسي ثم أخذت شيئاً من ماء فمسحت به وجهي ورأسي ثم أدخلتني الدار فإذا نسوة من الأنصار في البيت فقلن على الخير والبركة وعلى خير طائر فأسلمتني إليهن فأصلحن من شأني فلم يرعني إلا رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ضحى فأسلمتني إليه وأنا يومئذ بنت تسع سنين) وفي حديث آخر روى البخاري عن عروة قال: (توفيت خديجة قبل مخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بثلاث سنين فلبث سنتين أو قريباً من ذلك ونكح عائشة وهي بنت ست سنين ثم بنى بها وهي بنت تسع سنين) صحيح البخاري مع الفتح 8/224-225.
وذكر الإمام النووي في ترجمة عائشة: [أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجها وهي بنت ست سنين ودخل بها وهي بنت تسع] تهذيب الأسماء واللغات 2/351.
وذكر الحافظ ابن حجر في ترجمة عائشة أن قد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجها وهي بنت ست وقيل سبع ودخل بها وهي بنت تسع وكان دخوله بها في شوال في السنة الأولى ثم ذكر الحافظ ابن حجر ما ثبت في الصحيح من رواية الأسود عن عائشة قال: (تزوجني الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأنا بنت ست سنين وبنى بي وأنا بنت تسع وقبض وأنا بنت ثمان عشرة سنة) الإصابة 8/139.(5/191)
ومثل ذلك ذكر الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 8/95 ومثله ذكر الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء 2/135.
وختاماً فإني أقول إنه لا يجوز شرعاً سن قانون يحظر الزواج قبل الثامنة عشرة لما يترتب على ذلك من مفاسد كثيرة. ومع أنني من أنصار التبكير في الزواج وأحث على ذلك ولكنني أرى أنه ينبغي أن يكون الزوجان قد أتما المرحلة الجامعية الأولى وهذا لا يعني منع حالات الزواج في أقل من ذلك وحسب ما حدده قانون الأحوال الشخصية.
الحجاب الشرعي
تقول السائلة: نشرت إحدى الصحف مقالاً تعترض فيه كاتبته على الحجاب الشرعي وتقول إن قضية اللباس قضية شخصية وإن الحجاب من القشور وإن قضية الحجاب هي قضية فقهية وهي محل خلاف بين الفقهاء، فما قولكم في ذلك؟
الجواب: إن الحملة المعادية للباس الشرعي ليست جديدة وإنما لها جذور قديمة وقد حمل وزرها دعاة كثر مثل رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين وهدى شعراوي ونوال السعداوي وغيرهم كثير.
وزعم هؤلاء أنهم من أنصار المرأة وأنهم يدافعون عن حقوقها ويعتبرون اللباس الشرعي عائقاً في سبيل تقدم المرأة المسلمة ولهم شبهات كثيرة حول هذه القضية لا يتسع المقام لبيانها والرد عليها وقد بحثت هذه القضية عشرات المؤلفات.
ولكن لا بد من توضيح ما جاء في السؤال حول الإدعاء بأن اللباس الشرعي قضية شخصية، صحيح أن اللباس قضية شخصية من حيث إن الإنسان ذكراً كان أو أنثى حرّ فيما يختاره من ملابس فيختار لونها وشكلها وقماشها وغير ذلك من المواصفات ولكن اللباس ليس قضية شخصية من(5/192)
حيثيات أخرى فهل نقبل أن يمشي رجل في السوق وليس عليه إلا لباس البحر " المايوه "!!؟
إن الشريعة الإسلامية وضعت قواعد عامة للباس سواء كان لباس الرجل أو لباس المرأة فأوجبت أن يكون لباس الرجل وكذا لباس المرأة ساتراً لعورة كل منهما.
فالإنسان المسلم عليه أن يلتزم بشرع الله سبحانه وتعالى في جميع مجالات حياته ومن ضمن ذلك اللباس فليس اللباس الشرعي اختيارياً للمرأة بل إنه أمر واجب وفريضة شرعية كما سأذكر فيما بعد.
كما أن وصف اللباس الشرعي للمرأة بأنه من القشور وأن المهم هو ما في داخل النفوس، مغالطة وخطأ واضح فأحكام الشريعة الإسلامية ليس فيها ما يوصف بأنه قشور أو لباب، فأحكام الشريعة الإسلامية كلها لباب ولا قشور فيها لأنها تعالج كل قضايا الناس فلا يصح أن نقول هذا الحكم من القشور وهذا من اللباب فهي جميعاً من عند الله سبحانه وتعالى اللطيف الخبير.
وأما الادعاء بأن اللباس الشرعي أو قضية الحجاب هي قضية فقهية مثارة بين الفقهاء فهذا الكلام غير صحيح أبداً فإن قضية الحجاب أو الجلباب الشرعي قضية مسلَّمة بين الفقهاء لأنها ثابتة بالنصوص الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهو فريضة من فرائض الله سبحانه وتعالى، وأما الخلاف بين الفقهاء فقد وقع في قضايا تابعة لقضية الجلباب المتفق عليها.
مثلاً هل يجب على المرأة أن تغطي وجهها وكفيها أم لا؟
وكذا الخلاف في بعض التفاصيل المتعلقة بالجلباب وليس الخلاف في أصل وجوب الجلباب فهذه مسألة متفق عليها بين علماء المسلمين يقول الله تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) سورة الأحزاب الآية 59.(5/193)
فهذه الآية الكريمة أوجبت اللباس الشرعي على جميع النساء المسلمات.
وقال تعالى: (قل لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) سورة النور الآيتان 30-31.
وعن أم عطية الأنصارية قالت: (أمرنا أن نخرج الحُيَّض يوم العيدين وذوات الخدور فيشهدون جماعة المسلمين ودعوتهم ويعتزل الحيض عن مصلاهن. قالت امرأة: يا رسول الله، إحدانا ليس لها جلباب؟ قال: لتلبسها أختها من جلبابها) رواه البخاري ومسلم.
وجاء في حديث أسماء بنت أبي بكر: (أنها كانت عند أختها عائشة وعليها ثياب واسعة الأكمام فلما نظر إليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - قام فخرج. فقالت عائشة رضي الله عنها تنحي فقد رأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أمراً كرهه فتنحت فدخل رسول الله فسألته عائشة رضي الله عنها لم قام؟ قال: أو لم تري هيئتها إنه ليس للمرأة المسلمة أن يبدو منها إلا هذا وهذا - أي وجهها وكفيها -) رواه الطبراني والبيهقي وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني في جلباب المرأة المسلمة ص 59. وغير ذلك من الأدلة.
دية المرأة نصف دية الرجل
يقول السائل: إن أحد المدرسين استنكر أن تكون دية المرأة نصف دية الرجل واعتبر أن هذا القول غير صحيح فما قولكم في ذلك؟
الجواب: إن بعض الناس يحاول أن يظهر أنه من أنصار المرأة والمدافعين عن حقوقها ويجعله ذلك يتمسك بما هو أوهى من بيت العنكبوت في الاحتجاج لما يراه من أحكام يزعم أن فيها نصرة للمرأة ولا(5/194)
يتسع المقام للرد على أمثال هؤلاء وبيان ما أعطاه الإسلام للمرأة في جميع جوانب الحياة.
والمسلم الصادق لا ينخدع بالدعوات الزائفة التي تدعو لنصرة المرأة والتخلي عن الأحكام الشرعية المنصوصة في حق المرأة كإعطاء الأنثى نصف ميراث الذكر ونحو ذلك من الأحكام.
وأما بالنسبة لدية المرأة فيجب أن يعلم أولاً أن العلماء قد بينوا أن الرجل يقتل بالمرأة إن قتلها عمداً وأما إن قتلت المرأة خطأً فإن ديتها على النصف من دية الرجل وهذا باتفاق أهل العلم إلا من شذ ولا عبرة بالأقوال الشاذة التي يحاول بعض الناس نفخ الروح فيها وأنّى لهم ذلك!!
قال الحافظ ابن عبد البر: [أجمعوا على أن دية المرأة نصف دية الرجل] الاستذكار 25/63.
وقال الإمام القرطبي: [وأجمع العلماء على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل قال أبو عمر - يعني ابن عبد البر -: إنما صارت ديتها والله أعلم على النصف من دية الرجل من أجل أن لها نصف ميراث الرجل وشهادة امرأتين بشهادة رجل وهذا إنما هو في دية الخطأ وأما العمد ففيه القصاص بين الرجال والنساء لقوله عز وجل: (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ... الخ] تفسير القرطبي 5/325.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي معلقاً على قول الخرقي: [ودية الحرة المسلمة نصف دية الحر المسلم. قال ابن المنذر وابن عبد البر أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل] المغني 8/402.
وهذا قول الأئمة الأربعة وأتباعهم وعلماء السلف والخلف ونقل عن عمر بن الخطاب وعثمان وعلي وابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهم ولا يعرف لهم مخالف فصار إجماعاً، الحاوي الكبير 12/289.(5/195)
وقد شذّ الأصم وابن علية فقالا دية المرأة كدية الرجل وتابعهما على ذلك بعض المعاصرين كالمالكي في نظام العقوبات ص 121.
ومما يدل على قول جماهير أهل العلم ما رواه الشافعي وغيره عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قوَّم دية الحرة المسلمة إذا كانت من أهل القرى خمسمائة دينار أو ستة آلاف درهم فإذا كان الذي أصابها من الأعراب فديتها خمسون من الإبل ودية الأعرابية إذا أصابها الأعرابي خمسون من الإبل] رواه الشافعي في الأم 6/91-92 والبيهقي في السنن 8/95.
وقد ذكر عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي عدة روايات عن الصحابة تفيد أن دية المرأة على النصف من دية الرجل، انظر مصنف عبد الرزاق 9/393-397، مصنف ابن أبي شيبة 9/299-302، سنن البيهقي 8/95-96.
وروى ابن أبي شيبة بإسناده عن شريح القاضي عن عمر - رضي الله عنه - قال: [ ... دية المرأة على النصف من دية الرجل] مصنف ابن أبي شيبة 9/300، وقال الشيخ الألباني: إسناده صحيح. إرواء الغليل 7/307.
وقد رويت بعض الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ولكنها غير ثابتة ولكن ثبوت تنصيف دية المرأة عن عدد من الصحابة ونقل بعض أهل العلم الإجماع على ذلك يكفي في ثبوت هذا الحكم لأن مثل هذا الأمر لا يعرف إلا توقيفاً لأنه من المقدرات التي لا مجال للعقل فيها فيكون له حكم الرفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وخاصة أن عدداً كبيراً من الفقهاء والأئمة قالوا بذلك كسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والزهري وعطاء ومكحول والليث وابن شبرمة وهو قول الأئمة الأربعة كما سبق. انظر فقه عمر في الجنايات 2/474، فتح باب العناية 3/348.
وأما حجة من شذ فخالف فقد قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وحكي عن ابن علية والأصم أنهما قالا: ديتها كدية الرجل لقوله عليه الصلاة والسلام: (في النفس المؤمنة مئة من الإبل) وهذا قول شاذ يخالف إجماع الصحابة وسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -] المغني 8/402.(5/196)
وأما ما استدل به المالكي في نظام العقوبات ص 121-122 من العمومات التي تسوي بين الذكر والأنثى في الدية فغير مسلّم لأن هذه النصوص مخصوصة يخصصها إجماع الصحابة الذي نقله العلماء ولم يعرف لهم مخالف والإجماع يخصص عموم الكتاب والسنة كما قال الأصوليون.
قال الآمدي: [لا أعرف خلافاً في تخصيص القرآن والسنة بالإجماع ودليله المنقول والمعقول أما المنقول فهو إن إجماع الأمة خصص آية القذف بتنصيف الجلد في حقّ العبد كالأمة وأما المعقول فهو أن الإجماع دليل قاطع والعام غير قاطع في آحاد مسمياته ... فإذا رأينا أهل الإجماع قاضين بما يخالف العموم في بعض الصور علمنا أنهم ما قضوا به إلا وقد اطلعوا على دليل مخصص له نفياً للخطأ عنهم وعلى هذا فمعنى إطلاقنا أن الإجماع مخصص للنص أنه معرّ ف للدليل المخصص لا أنه في نفسه هو المخصص] الإحكام للآمدي 2/327. وانظر إرشاد الفحول ص 169، شرح الكوكب المنير 3/369.
وأما قول المالكي: [ ... إن الذين يقولون إن دية المرأة نصف دية الرجل لا يوجد لهم دليل صحيح ... ] فكلامه غير صحيح وليس عنده إلا العمومات وقد قام الدليل على تخصيصها بالإجماع كما سبق بيانه.
القتل على خلفية شرف العائلة
تقول السائلة: ما قولكم فيما يسمى بالقتل على خلفية شرف العائلة وهل يجوز للأب أو الأخ قتل ابنته أو أخته الزانية مع العلم أنه قد يقع القتل بمجرد الشك في سلوك الفتاة ودون إثبات لواقعة الزنا؟
الجواب: لا شك أن الزنا من كبائر الذنوب ومن الجرائم الاجتماعية الفظيعة، يقول الله سبحانه وتعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) سورة الإسراء الآية 32.(5/197)
قال الإمام القرطبي: [قال العلماء، قوله تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) أبلغ من أن يقول ولا تزنوا فإن معناه لا تدنوا من الزنا] تفسير القرطبي 10/253.
وقد جعل الله سبحانه وتعالى من صفات عباد الرحمن ترك الزنا فقال تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًاءَاخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) سورة الفرقان الآيتان 68-69.
وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة التحذير من الزنا وبيان ضرر الزنا فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) رواه البخاري ومسلم.
وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه تضمنت له بالجنة) رواه البخاري، وما بين لحييه أي اللسان وما بين رجليه أي فرجه.
وورد في حديث السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله) رواه البخاري ومسلم. وغير ذلك من الأحاديث.
وقد قرر الإسلام عقوبة للزاني المحصن " المتزوج " وللزاني غير المحصن قال الله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) سورة النور الآية 2.
وهذه الآية في حق الزانية والزاني غير المحصنين وعند جمهور الفقهاء يغرب الزاني لمدة عام بعد الجلد لما جاء في الحديث عن عبادة بن الصامت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً البكر بالبكر جلد مئة ونفي سنة والثيب بالثيب جلد مئة والرجم) رواه مسلم، ويرى بعض أهل العلم أن التغريب خاص بالزاني الرجل دون المرأة.(5/198)
وأما الزانيان المحصنين فعقوبتهما الرجم لما ثبت أن النبي- صلى الله عليه وسلم - أمر برجم ماعز عندما اعترف بالزنا وكان محصناً فقال عليه الصلاة والسلام: (اذهبوا به فارجموه) رواه مسلم. وغير ذلك من النصوص.
إذا ثبت هذا فإن تنفيذ العقوبات من اختصاص الدولة المسلمة بأمر الإمام ولي أمر المسلمين وليس من اختصاص الأفراد أو الجماعات أو الأحزاب أو غيرها.
قال الشيخ عبد القادر عوده رحمه الله تحت عنوان " من الذي يقيم الحدّ ": [من المتفق عليه بين الفقهاء أنه لا يجوز أن يقيم الحدّ إلا الإمام أو نائبه لأن الحدّ حق الله تعالى ومشروع لصالح الجماعة فوجب تفويضه إلى نائب الجماعة وهو الإمام ولأن الحدّ يفتقر إلى الاجتهاد ولا يؤمن في استيفائه من الحيف والزيادة على الواجب فوجب تركه لولي الأمر يقيمه إن شاء بنفسه أو بواسطة نائبه وحضور الإمام ليس شرطاً في إقامة الحد لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ير حضوره لازماً فقال: اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها. وأمر عليه الصلاة والسلام برجم ماعز ولم يحضر الرجم وأتي بسارق فقال: اذهبوا به فاقطعوه. لكن إذن الإمام بإقامة الحدّ واجب، فما أقيم حدّ في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بإذنه وما أقيم حدّ في عهد الخلفاء إلا بإذنهم] التشريع الجنائي الإسلامي 2/444.
وجاء في الموسوعة الفقهية: [اتفق الفقهاء على أنه لا يقيم الحدّ إلا الإمام أو نائبه وذلك لمصلحة العباد وهي صيانة أنفسهم وأموالهم وأعراضهم والإمام قادر على الإقامة لشوكته ومنعته وانقياد الرعية له قهراً وجبراً كما أن تهمة الميل والمحاباة والتواني منتفية عن الإقامة في حقه فيقيهما على وجهه فيحصل الغرض المشروع بيقين، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقيم الحدود وكذا خلفاءه من بعده] 17/144-145.
ومما يدل على أن تنفيذ العقوبات من اختصاص الدولة المسلمة ممثلة بالإمام أو من يقوم مقامه قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) سورة النور الآية 2.(5/199)
قال الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية: [لا خلاف أن المخاطب بهذا الأمر الإمام ومن ناب منابه] تفسير القرطبي 12/161.
وبناء على ما سبق لا يجوز لشخص مهما كان أن يتولى تنفيذ العقوبات الشرعية بنفسه سواء أكان أباً أو أخاً أو عمّاً أو خالاً أو غير ذلك فلا يجوز لهؤلاء أن يقتلوا من تتهم بالزنا لتطهير شرف العائلة كما يدعون.
وهنا لا بد من بيان عدة أمور:
أولاً: إن الزنا يثبت بأحد أمور ثلاثة: الشهادة والإقرار والقرائن.
وقد شدد الإسلام في قضية الشهادة على الزنا واشترط أربعة شهود، قال تعالى: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) سورة النساء الآية 15.
وقال تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثمَانِينَ جَلْدَةً) سورة النور الآية 4.
والشهادة في الزنا لها شروط مفصلة مذكورة في كتب الفقه، ولا بد في الإقرار من أن يكون مفصلاً مبيناً كما في قصة ماعز، والقرائن لا بد أن تكون صحيحة ومعتبرة عند العلماء حتى يثبت الزنا. انظر الموسوعة الفقهية 24/37 فما بعدها.
ثانياً: إن كثيراً من حالات القتل على خلفية شرف العائلة تكون الفتاة فيها مظلومة ظلماً شديداً فقد تقتل لمجرد الشك في تصرفاتها ولا يكون زناها قد ثبت فعلاً أو تكون قد ارتكبت مخالفة أقل من الزنا غير موجبة للحد وإنما توجب التعزير فقط.
ثالثاً: ورد في بعض النصوص الشرعية جواز قتل الزناة حال تلبسهم بالجريمة فقط فقد ورد في الحديث أن سعد بن عبادة قال: (لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح. فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير منا) رواه البخاري.(5/200)
ومعنى قوله: (لضربته بالسيف غير مصفح) أي أضربه بحد السيف لأقتله لا بعرض السيف تأديباً.
وورد عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه -: (أنه كان يوماً يتغذى إذ جاءه رجل يعدو وفي يده سيف ملطخ بالدم ووراءه قوم يعدون خلفه فجاء حتى جلس مع عمر فجاء الآخرون فقالوا: يا أمير المؤمنين إن هذا قتل صاحبنا. فقال له عمر: ما يقولون؟ قال: يا أمير المؤمنين إني ضربت فخذي امرأتي فإن كان بينهما أحد فقد قتلته. فقال عمر: ما يقول؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين إنه ضرب بالسيف فوقع في وسط الرجل وفخذي المرأة فأخذ عمر سيفه فهزه ثم دفعه إليه وقال: إن عادوا فعد) فقه عمر 1/334.
وبناءاً على ذلك قال جمهور الفقهاء يجوز للزوج أن يقتل رجلاً شاهده مع زوجته متلبساً بجريمة الزنا سواء أكانت الزوجة مطاوعة أو مكرهة ودم المتلبس بالجريمة هدر إن ثبت ذلك عند القاضي بالشهادة أو بالإقرار. انظر فقه عمر 1/337-338.
وهذا القتل قال الفقهاء إنه يكون في حالة ضبط الزاني متلبساً بجريمته لأن الزوج في هذه الحالة يكون في حالة غضب شديد جداً.
رابعاً: إن كثيراً من حالات القتل على خلفية شرف العائلة تقع بعد حصول حادثة الزنا بفترة طويلة وغالباً ما تكون بعد أن تظهر على الفتاة علامات الحمل من الزنا وفي مثل هذه الحالات تكون الفتاة بكراً فلا يجوز قتلها لأن عقوبتها الشرعية ليست القتل ولو كانت متزوجة فلا تقتل لأن تنفيذ العقوبة كما سبق من اختصاص إمام المسلمين وليس الأمر للزوج أو الأب أو الأخ أو غيرهم.
خامساً: إن الآباء والأمهات والأخوة يتحملون جزءاً من المسؤولية عن وقوع ابنتهم في الفاحشة فالواجب هو تحصين البنات والشباب وتربيتهم تربية صحيحة وسد المنافذ التي تؤدي إلى وقوعهم في الفحشاء والمنكر فإن الوقاية خير من العلاج.
سادساً: إذا تم قتل الفتاة الزانية غير المحصنة فإن قاتلها يتحمل(5/201)
مسؤولية قتلها وينبغي أن يعاقب العقوبة الشرعية إلا إذا وجد مانع من ذلك كالأبوة فهي مانعة من القصاص عند جماهير أهل العلم. والمسألة فيها تفصيل لا يحتمله المقام.
المنكرات في الأعراس
يقول السائل: ظهرت في الآونة الأخيرة في حفلات الأعراس عادات مشينة وظواهر غريبة عن تعاليم ديننا منها:
1. الرقص المشترك للعروسين أمام الحاضرات من النساء وهو ما يسمى رقصة " سلو "، " slow ".
2. تقبيل العريس للعروس أمام النساء.
3. كثير من النساء يلبسن ملابس فاضحة. فما قولكم فيها، وما حكم حضور هذه الأعراس؟
الجواب: إن أغلب الأعراس اليوم مخالفة لشرع الله سبحانه وتعالى من جوانب كثيرة ويستسيغ الناس ذلك لأنهم يريدون أن يفرحوا كما زعموا.
فالفرح عندهم لا يتم إلا بالاختلاط الماجن بين الرجال والنساء وفرحهم لا يتم إلا باستعمال المفرقعات المزعجة والتي قد تؤدي إلى حوادث مؤسفة.
وفرحهم لا يتم إلا بالرقص المختلط والعري والتهتك وبشرب الخمور ولا يتم فرحهم إلا بالفرق الموسيقية ومكبرات الصوت التي تزعج أهل الحي وأهل البلد إلى ساعة متأخرة من الليل مع أن الناس فيهم المريض الذي يحتاج إلى الراحة والهدوء وفيهم طالب العلم الذي لا يستطيع الدراسة بسبب إزعاج الأفراح وفيهم العامل الذي يريد النوم ليستيقظ مبكراً ليذهب إلى عمله.(5/202)
وهكذا يبدأ الزوجان حياتهما بالمنكرات وانتهاك المحرمات الموجبة لغضب الله سبحانه وتعالى.
ولا شك لدي أن الرقص فيه خفة ورعونة ويكون حراماً إذا رقصت النساء أمام الرجال ولا يفعل ذلك إلا الفاسقات الفاجرات كما تفعله الراقصات في زماننا هذا.
وأما رقص النساء فيما بينهن فإذا لم يكن كرقص الفاسقات الفاجرات فلا بأس به وأما إن كان كرقص الفاجرات الفاسقات فهو ممنوع وغير جائز شرعاً وقد عده كثير من الفقهاء من منكرات الأعراس.
وأما رقص العروسين وسط النساء فمنكر قبيح وحرمته أشد وخاصة أنهما يقلدان في الرقص أهل الكفر والفسق والفجور.
وأما تقبيل العريس لعروسه أمام النساء فمنكر وخلاعة وقلة أدب وفعل ذلك أمام الناس يدل على قلة الدين ويدعو إلى الفحش والوقوع في المنكرات.
وأما الملابس الفاضحة التي تلبسها النساء في الأعراس فإن فعلن ذلك بحضور الرجال فهو حرام ومن يرضَ ذلك لزوجته أو بنته فهو ديوث كما ورد في الحديث عن ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة العاق لوالديه والمرأة المترجلة والديوث) رواه أحمد والنسائي وابن حبان وقال الشيخ الألباني: حسن صحيح أنظر صحيح سنن النسائي 2/541.
والديوث هو الذي يرى المنكر في أهله ثم يسكت ولا ينكره كما ورد تفسيره في رواية أخرى عن ابن عمر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة: مدمن خمر والعاق والديوث الذي يقر في أهله الخبث) رواه أحمد.
وأما إن لم يكن بحضور الرجال فلا يخرج عن كونه تقليداً للفاسقات الفاجرات الكافرات فالصحيح المنع منه.(5/203)
وواجب المسلمة ألا تحضر مثل هذه الأعراس التي تقع فيها هذه المنكرات والمخالفات ولا يكفي في هذا المقام الإنكار بالقلب وإنما الواجب هو عدم الحضور خشية الفتنة والاندفاع إلى اقتراف الحرام.
الحداد على الأخ الميت
تقول السائلة: إن أخاها قد مات فحدت عليه لمدة عام وكانت لا تلبس إلا الملابس السوداء في ذلك العام فما حكم ذلك؟
الجواب: لا يشرع الإحداد على الأخ الميت أو أي قريب مات أكثر من ثلاثة أيام أما زوج المرأة إن مات فتحد زوجته عليه أربعة أشهر وعشرة أيام إلا إذا كانت حاملاً عند الوفاة فتحدّ حتى تضع حملها وهي عدة الوفاة في حقها في الحالتين.
والمقصود بالإحداد هو امتناع المرأة من الزينة وما في معناها خلال مدة الإحداد الشرعي.
ومما يدل على مشروعية الإحداد ما ثبت في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً) رواه البخاري ومسلم.
وعن أم عطية رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة اشهر وعشراً ولا تلبس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عصب ولا تكتحل ولا تمس طيباً إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار) رواه البخاري ومسلم. وثوب العصب نوع من الثياب اليمانية.
وقوله نبذة من قسط أو أظفار - وهما نوعان من البخور - أي قطعة منهما.(5/204)
من هذين الحديثين يؤخذ أنه لا يجوز للمرأة أن تحدّ على غير زوجها أكثر من ثلاثة أيام فإحداد المرأة على زوجها في عدة الوفاة واجب طوال العدة وأما إحدادها على غير زوجها كأبيها وأمها وأخيها وأختها وابنها وابنتها وغيرهم من الأقارب فليس بواجب بل هو جائز إن شاءت حدت وإن شاءت لم تحد.
ونقل الحافظ ابن حجر عن الحافظ ابن بطال قوله: [الإحداد امتناع المرأة المتوفى عنها زوجها من الزينة كلها من لباس وطيب وغيرهما وكل ما كان من دواعي الجماع وأباح الشارع للمرأة أن تحدّ على غير زوجها ثلاثة أيام لما يغلب من لوعة الحزن ويهجم من ألم الوجد وليس ذلك واجباً] فتح الباري 3/388.
ويحرم على المرأة أن تزيد مدة الإحداد عن ثلاثة أيام لموت أي قريب من أقربائها فلا يجوز الإحداد لمدة أسبوع ولا لأربعين يوماً ولا لسنة ولا لغير ذلك كما اعتاده كثير من النساء وللمرأة المسلمة اليوم أسوة حسنة في نساء النبي- صلى الله عليه وسلم - أمهات المؤمنين وغيرهن من الصحابيات فقد ثبت في الحديث عن زينب بنت أبي سلمة قالت: (لما جاء نعي أبي سفيان من الشام دعت أم حبيبة رضي الله عنها - وهي أم المؤمنين - بصفرة في اليوم الثالث فمسحت عارضيها وذراعيها وقالت: إني كنت عن هذا لغنية لولا أني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج فإنها تحدّ عليه أربعة أشِهر وعشراً) رواه البخاري ومسلم.
فهذه أم حبيبة لما مات أبوها وفي رواية أخرى أخوها وبعد مرور ثلاثة أيام طلبت صفرة والصفرة نوع من الطيب فدعت به فمسحت عارضيها أي خديها وذراعيها مع أنها ليست محتاجة للتطيب وإنما لتثبت التزامها بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وثبت في الحديث عن محمد بن سيرين قال: (توفي ابن لأم عطية رضي الله عنها فلما كان اليوم الثالث دعت بصفرة فتمسحت به وقالت: نهينا أن نحد أكثر من ثلاث إلا على زوج) رواه البخاري.(5/205)
وأما لبس السواد في الإحداد واتخاذ ذلك شعاراً للنساء في فترة الإحداد فليس مشروعاً وإنما يجوز للمرأة أن تلبس ما تشاء من ثيابها بشرط ألا يكون زينة في نفسه.
ويجب أن يعلم أن الإحداد خاص بالنساء وليس على الرجال إحداد بإجماع أهل العلم. الموسوعة الفقهية 2/104.
لذلك فليس مشروعاً ما يفعله بعض الرجال عند موت قريب لهم من لبس ملابس سوداء وإعفاء بعض الرجال لحاهم لعدة أيام حزناً على ميتهم مع أنهم كانوا يعتادون حلق لحاهم.
فإذا انقضت أيام الحزن عادوا إلى حلق لحاهم فهذا الأمر في معنى نشر الشعر المنهي عنه كما قال الشيخ الألباني عند ذكره لما لا يجوز فعله عند الوفاة فقال: [- نشر الشعر، لحديث امرأة من المبايعات قالت: (كان فيما أخذ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المعروف الذي أخذ علينا أن لا نعصيه فيه وأن لا نخمش وجهاً ولا ندعو ويلاً ولا نشق جيباً وأن لا ننشر شعراً) أخرجه أبو داود ... بسند صحيح - إعفاء بعض الرجال لحاهم أياماً قليلة حزناً على ميتهم فإذا مضت عادوا إلى حلقها! فهذا الإعفاء في معنى نشر الشعر كما هو ظاهر يضاف إلى ذلك أنه بدعة وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) رواه النسائي والبيهقي في الأسماء والصفات بسند صحيح عن جابر) أحكام الجنائز وبدعها ص 30.
ومن صور الإحداد الجاهلي المعاصر الإحداد العام في الدول لموت رئيس أو عظيم أو حلول مصاب عام ومن مظاهر هذا الإحداد إيقاف الأعمال وتنكيس الأعلام وتغيير برامج الإعلام بما يناسب المقام من ثناء على الميت وذكر أعماله وغير ذلك مما يندرج تحت تقديس الأشخاص وتعظيمهم.
ولا يشك عالم بقواعد الشريعة ونصوصها عارف بسيرة أهل القرون الفاضلة أن هذا الفعل ليس مما يجيء بمثله الشرع الحنيف ولا فعله السلف الصالح مع كثرة من فقدوا رحمهم الله من العظماء والأكابر فهؤلاء الصحابة(5/206)
خير القرون رضي الله عنهم مات فيهم خير الخلق وسيد البشر وخليل الرحمن النعمة المسداة والرحمة المهداة رسولنا محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يفعلوا ما فعله المتأخرون مع الصعاليك العظماء فدل ذلك على عدم مشروعيته إذ لو كان مشروعاً لفعلوه مع إمام العظماء نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وتقدم نقل الإجماع على أن الإحداد مما اختصت به النساء دون الرجال وهي إنما تحدّ على زوجها المتوفى عنها أربعة أشهر وعشراً أو على غيره ثلاثة أيام وأما ما سوى ذلك فهو من الإحداد الممنوع.
ولا شك أن تعطيل أعمال الناس لأجل موت أحدهم فيه إفساد لمصالح الأحياء وإهدار لطاقاتهم وربطهم بالموتى وكأن الحياة لا تصلح ولا تطيب إلا بمن فقدوا ومن جهة أخرى فإن هذا الإحداد المبتدع مما أخذه بعض المسلمين عن الكفار ومعلوم من نصوص الكتاب والسنة أن التشبه بهم ممنوع قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) والتشبه بهم من موالاتهم. وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التشبه بهم فعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ومن تشبه بقوم فهو منهم) رواه أحمد وأبو دواد.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد هذا الحديث: [وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم] اقتضاء الصراط المستقيم 1/236 أحكام الإحداد ص 29- 30.
ومن الأمور التي أحدثها الناس في الإحداد امتناع أحدهم عن الزواج لمدة سنة بعد وفاة قريب له أو أكثر أو أقل، ومثل ذلك عدم حضورهم للأعراس بعد وفاة قريب لهم لمدة قد تطول أو تقصر حسب أهوائهم.
فكل ذلك ليس له أصل في الشرع والخير كل الخير في الاتباع والشر كل الشر في الابتداع.(5/207)
الاحتفاظ بالبييضات الملقحة في عمليات أطفال الأنابيب
يقول السائل: في عمليات أطفال الأنابيب يتم تلقيح عدد من البييضات ويتم زرعها في رحم الزوجة ويبقى بعد ذلك فائض من البييضات الملقحة يحتفظ بها مجمدة فما حكم ذلك؟
الجواب: كثر إقبال الناس الذين لا ينجبون بالطريقة الطبيعية على مراكز أطفال الأنابيب التي انتشرت في الفترة الأخيرة وهذه المراكز الطبية تقوم بممارسة أعمالها دون وجود قانون أو نظام ينظم عملها ودون وجود هيئة طبية وشرعية تشرف على أعمالها وإن الموضوع جد خطير لما قد يترتب عليه من آثار سلبية كاختلاط الأنساب مثلاً.
لذلك لا بد من وضع ضوابط وقواعد للعمل في هذه المراكز وخاصة أن غلبة الجانب التجاري واضح في بعضها تماماً.
ومن المشكلات التي نشأت عن قضية أطفال الأنابيب القضية محل السؤال فمن المعلوم أن الأطباء يحرصون على إفراز أكبر عدد من البييضات بواسطة العقاقير وقد ذكر أحد الباحثين أنه أمكن استخراج خمسين بييضة من امرأة واحدة وأن أحد مراكز أطفال الأنابيب كان لديه أكثر من ألف ومئتي جنين فائض أودعت الثلاجة وجمدت وقد أخذت من أكثر من أربعين امرأة أجريت لهن عملية طفل الأنبوب وهذه الأجنة سميت أجنة تجاوزاً وإلا فهي في مرحلة ما قبل الجنين. انظر بحث د. محمد علي البار لمجمع الفقه الإسلامي ص 1803، مجلة المجمع عدد6/ج3.
والأطباء يسحبون البييضات الكثيرة لأن عملية طفل الأنابيب تتطلب استنبات العديد من البييضات من المبيض عند المرأة يصل عددها في المتوسط ما بين 4-8 بويضات وفي العادة تسحب كل تلك البييضات من المبيض وتلقح في المختبر وينقل منها ثلاثة أجنة فقط إلى رحم الأم والفائض من تلك الأجنة يحتفظ به بعد تبريده وتجميده. انظر بحث د.(5/208)
عبد الله باسلامة لمجمع الفقه الإسلامي ص 1841 مجلة المجمع عدد6/ج3.
إن الاحتفاظ بالبييضات الملقحة لفترة طويلة يعتبر مشكلة قد تنتج عنها أمور لا يحمد عقباها. فقد يحتفظ بالبييضات الملقحة ريثما يثبت نجاح عملية طفل الأنبوب وثبوت الحمل وقد يحتفظ بها حتى تتم عملية زرع أخرى وهكذا.
إن الأصل الذي قرره العلماء المعاصرون في هذه المسألة هو أن لا يكون هناك فائض من البييضات الملقحة وأن لا يتم تلقيح البييضات إلا بالعدد الذي لا يؤدي إلى وجود فائض منها وإذا ما بقي شيء من البييضات الملقحة بعد عملية الزرع فلا بد من التخلص منها.
وقد درس مجمع الفقه الإسلامي هذه المسألة في دورته السادسة سنة 1410 هـ وقرر ما يلي: [
1. في ضوء ما تحقق علمياً من إمكان حفظ البييضات غير ملقحة للسحب منها يجب عند تلقيح البييضات الاقتصار على العدد المطلوب للزرع في كل مرة تفادياً لوجود فائض من البييضات الملقحة.
2. إذا حصل فائض من البييضات الملقحة بأي وجه من الوجوه تترك دون عناية طبية إلى أن تنتهي حياة ذلك الفائض على الوجه الطبيعي.
3. يحرم استخدام البييضة الملقحة في امرأة أخرى ويجب اتخاذ الإجراءات الكفيلة بالحيلولة دون استعمال البييضة الملقحة في حمل غير مشروع] مجلة المجمع الفقهي العدد السادس ج3ص2151-2152.
التخارج في الميراث
يقول السائل: باع شخص حصته من الميراث لأخيه قبل القسمة والآن قد باع الورثة حصصهم ويطالبهم هذا الشخص بجزء من حصته وهذا الجزء هو(5/209)
حصته من ثُمن والدته مع العلم أن الوالدة كانت متوفاة لما باع حصته من أخيه فهل يحق له ذلك؟
الجواب: ما فعله هذا الوارث من بيع حصته في التركة لأخيه يسمى عند الفقهاء التخارج وهو أن يتصالح الورثة على إخراج بعضهم عن الميراث بشيء معلوم.
والتخارج جائز شرعاً بشرط التراضي من الورثة وقد روى الإمام البخاري تعليقاً عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (يتخارج الشريكان وأهل الميراث) وقال الحافظ ابن حجر وصله ابن أبي شيبة بمعناه. صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 5/370.
وعن عمرو بن دينار: (أن امرأة عبد الرحمن بن عوف أخرجها أهله من ثلث الثمن بثلاثة وثمانين ألف درهم) رواه عبد الرزاق في المصنف 8/289، ورواه البيهقي بنحوه في السنن الكبرى 6/65.
وما دام أن هذا الشخص قد باع حصته لأخيه قبل تقسيم الميراث وكانت الوالدة قد توفيت قبل ذلك فلا يجوز له أن يطالب بأي شيء لأنه قد خرج من الميراث بشرط أن يكون التخارج قد تم بالتراضي.(5/210)
متفرقات(5/211)
شروط الفتوى في دين الإسلام
يقول السائل: هنالك عدة أصناف من الناس يتحدثون ويكتبون في الأمور الشرعية فمنهم حملة الشهادات الشرعية ومنهم الموظفون الرسميون في الوظائف الدينية ومنهم المثقفون الذين ثقفوا أنفسهم بأنفسهم وجميع هؤلاء يتكلمون في قضايا الدين وقد يفتي بعضهم في المسائل الشرعية، فمن يجوز له أن يتكلم في أمور الدين من هؤلاء؟
الجواب: كثر في زماننا المتسورون على العلم الشرعي والمتصدون له من غير أن يكونوا أهلاً لذلك وهذه سيئة من سيئات الواقع المرير الذي تعيشه الأمة الإسلامية في هذا العصر والأوان، ولعل انتشار وسائل الإعلام العصرية قد أسهم في ذلك وأذكر مثالاً واحداً على ذلك وهو أن محطات التلفزة العربية والمحلية كثرت بشكل واضح، ومن ضمن الديكورات التي تقدمها تخصيص برامج دينية للإجابة على المسائل المختلفة وهذه المحطات تستضيف أصنافاً من المنتسبين للعلم الشرعي للإجابة على أسئلة المشاهدين وهؤلاء المشايخ منهم من هو أهل للإفتاء والحديث في العلم الشرعي بلا ريب ومنهم من ليس كذلك، فبعض محطات التلفزيون المحلية تستضيف مشايخ ليتحدثوا في أمور الدين وهم ليسوا أهلاً لذلك فتصدر منهم أخطاء بشعة وتقول على دين الله وخاصة إذا كان الحديث على الهواء مباشرة(5/213)
وكانت الأسئلة في موضوعات مختلفة فيخبطون خبط عشواء.
ويظن كثير من الناس أن إطلاق لقب شيخ على شخص ما يكفي ليكون فقيهاً ومفتياً كما ويظن آخرون أنه إذا حصل أحد المشايخ على شهادة جامعية عليا كانت أو دنيا فهذا مؤهل كاف للفتوى في دين الله كما يظن آخرون أن أئمة المساجد هم أهل الفتوى. ويظن آخرون أنه إذا قرأ كتاباً من الكتب الشرعية فإنه قد صار شافعي زمانه، وهكذا.
وأود أن أنبه أننا نعيش في عصر اعتبر فيه الاختصاص شيئاً أساسياً فالاختصاص معتبر في جميع نواحي الحياة تقريباً.
فمثلاً يشترط في أعضاء هيئة التدريس في الجامعات أن يكون الواحد منهم متخصصاً في العلم الذي يدرّسه وكذلك يشترط الاختصاص في الطب وفروعه المتعددة وكذلك يشترط الاختصاص في الحرف والمهن وغيرها.
بل إن الاختصاص تطور وصار هنالك في العلم الواحد تخصصات كثيرة وقد يكون المتخصص في أحد فروع العلم المعاصر عامياً في فرع آخر من فروع ذلك العلم.
وإذا كان الاختصاص له كل هذا الاعتبار في مجتمعنا فلماذا لا يعتبر في العلوم الشرعية؟
إن العلم الشرعي بحر لا ساحل له وفروع العلم الشرعي عديدة كعلوم القرآن وعلوم الحديث والفقه وأصول الفقه والعقيدة وغيرها ونحن في هذا الزمان كدنا نفقد ذلك العالم الموسوعي الذي يحيط بمعظم العلوم الشرعية فنحن نقرأ في كتب التراجم في وصف عالم من علمائنا المتقدمين أنه كان مفسراً محدثاً فقيهاً عالماً بالأصلين. الخ.
وهذا في زماننا صار نادراً بل إن كثيراً من حملة الشهادات في العلوم الشرعية لا يكادون يتقنون تخصصهم الذي كانت معظم دراستهم فيه فضلاً أن يتقنوا تخصصاً آخر من التخصصات الشرعية.(5/214)
وبناء على ذلك أقول: إنه لا يكفي أن يتعرض للفتوى في دين الله من ليس له صلة بالفقه والأصول وإن كان قد درس التفسير أو علوم القرآن أو الحديث أو السياسة الشرعية وكذلك فإن كثيراً من الموظفين الرسميين في الوظائف الدينية ليسوا أهلاً للإفتاء في دين الله وإن لبسوا لباس العلماء.
وكذلك المثقفون بالثقافة الدينية الذين قرأوا الكتب بأنفسهم أو على أقرانهم فهؤلاء لا يوثق بعلمهم لأن العلم الشرعي لا بد فيه من التلقي على أيدي العلماء والشيوخ ولا يكفي أخذه من الكتب أو أن يأخذه طالب علم عن طالب علم مثله بل الصحيح أن يأخذه طالب العلم عن شيخه، قال الإمام الشافعي: [من تفقه من الكتب ضيع الأحكام] مقدمة المجموع للنووي 2/38.
وقال الإمام النووي: [قالوا ولا تأخذ العلم ممن كان أخذه له من بطون الكتب من غير قراءة على شيوخ أو شيخ حاذق فمن لم يأخذه إلا من الكتب يقع في التصحيف ويكثر منه الغلط والتحريف] مقدمة المجموع للنووي 1/36.
وقديماً قالوا: [من كان شيخه كتابه غلب خطؤه صوابَه] .
ويضاف إلى ذلك أن من المشاهد في الذين يثقفون أنفسهم بأنفسهم أو يتثقفون على أقرانهم أنه يغلب عليهم الغرور والكبر فيتيهون على الناس لأنهم لم يجالسوا العلماء ولم يتأدبوا بأدبهم.
وقد ذكر العلماء كثيراً من الشروط التي يجب أن تتوفر فيمن يفتون ويوقعون عن رب العالمين.
فمن ذلك أن يكون عالماً بالكتاب والسنة بشكل عام وبآيات وأحاديث الأحكام على وجه الخصوص فلابد أن يعرف وجوه دلالات النصوص على الأحكام وأن يعرف أسباب نزول الآيات وأسباب ورود الحديث لما لذلك من فائدة عظيمة في معرفة المقصود بالنصوص الشرعية وإن كان الراجح عند الأصوليين أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولابد من معرفة الناسخ والمنسوخ في الكتاب والسنة ولا بد من معرفة ما يتعلق بعلم أصول(5/215)
الحديث، فلا بد أن يكون ممن له تمييز بين الصحيح والحسن والضعيف من الأحاديث ولا بد أن يكون عارفاً بمسائل الإجماع حتى لا يفتي بخلاف ما وقع الإجماع عليه ولابد من معرفة اللغة العربية معرفة تيسر له فهم لغة العرب ليفهم كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فهما عربيان.
ومما لا بد من معرفته والتمكن منه علم أصول الفقه فإن هذا العلم هو عماد فسطاط الاجتهاد وأساسه الذي تقوم عليه أركان بنائه كما قال الإمام الشوكاني في إرشاد الفحول ص 252.
وقال العلامة الدكتور يوسف القرضاوي: [وقد رأينا عجباً ممن يقحمون أنفسهم في ميدان الاجتهاد والفتوى وهم لم يتقنوا علم الأصول بل أحياناً دون أن يقرأوا كتاباً واحداً فيه فكثيراً ما يستدلون بالمطلق وينسون المقيد ويحتجون بالعام ويهملون الخاص ويأخذون بالقياس ويغفلون النص أو يقيسون على غير أصل أو يقيسون مع عدم وجود علة مشتركة أو مع وجود فارق معتبر بين الفرع المقيس والأصل المقيس عليه] الاجتهاد في الشريعة الإسلامية ص 26.
ولا بد من معرفة مقاصد الشرع الحكيم ولا بد من معرفة اختلاف الفقهاء، قال قتادة: [من لم يعرف الاختلاف لم يشم أنفه الفقه] وقال غيره: [من لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه] .
وقال الإمام أحمد: [ينبغي لمن أفتى أن يكون عالماً بقول من تقدم وإلا فلا يفتي] وقال عطاء: [لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالماً باختلاف الناس فإن لم يكن كذلك ردَّ من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه] ، وقال سعيد بن أبي عروبة: [من لم يسمع الاختلاف فلا تعدوه عالماً] .
وقال سفيان بن عيينة [أجسر الناس على الفتوى أقلهم علماً باختلاف العلماء] الاجتهاد في الشريعة الإسلامية ص 36.
وفوق كل ذلك لا بد أن يكون هؤلاء المتصدين للفتوى وبيان الأحكام الشرعية من أهل التقوى والورع الذين يخافون الله سبحانه وتعالى ولا يبيعون آخرتهم بدنياهم أو بدنيا غيرهم.(5/216)
فقد ورد في الحديث عن علي بن أبي طالب قال: (قلت يا رسول الله: إن نزل بنا أمر ليس فيه بيان أمر ولا نهي فما تأمرني؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: شاوروا فيه الفقهاء والعابدين ولا تمضوا فيه رأي خاصة) رواه الطبراني في الأوسط ورجاله موثقون من أهل الصحيح كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/178.
وروى الدارمي في سننه عن أبي سلمة الحمصي أن النبي- صلى الله عليه وسلم -: (سئل عن الأمر يحدث ليس في كتاب ولا سنة؟ فقال: ينظر فيه العابدون من المؤمنين) ورجاله رجال الصحيح، انظر شرح الدارمي 2/65.
وما أحسن ما قاله الإمام أحمد بن حنبل [لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال، أولها: أن تكون له نية فإن لم تكن له نية لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور. والثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة. والثالثة: أن يكون قوياً على ما هو فيه وعلى معرفته. والرابعة: الكفاية وإلا مضغه الناس. والخامسة: معرفة الناس] قال العلامة ابن القيم معلقاً على كلام الإمام أحمد: [وهذا مما يدل على جلالة أحمد ومحله من العلم والمعرفة فإن هذه الخمسة هي دعائم الفتوى وأي شىء نقص منها ظهر الخلل في المفتي بحسبه] .
ثم شرح ابن القيم عبارة الإمام أحمد وأذكر بعض كلامه: [فأما النية فهي رأس الأمر وعموده وأساسه وأصله الذي عليه يبنى فإنها روح العمل وقائده وسائقه والعمل تابع لها يبنى عليها يصح بصحتها ويفسد بفسادها ... وقد جرت عادة الله التي لا تبدل وسنته التي لا تحول أن يُلبس المخلص من المهابة والنور والمحبة في قلوب الخلق وإقبال قلوبهم إليه ما هو بحسب إخلاصه ونيته ومعاملته لربه ويلبس المرائي اللابس ثوبي الزور من المقت والمهانة والبغضاء ما هو اللائق به فالمخلص له المهابة والمحبة وللآخر المقت والبغضاء.
وأما قوله أن يكون له حلم ووقار وسكينة فليس صاحب العلم والفتيا إلى شيء أحوج منه إلى الحلم والسكينة والوقار فإنها كسوة علمه وجماله(5/217)
وإذا فقدها كان علمه كالبدن العاري من اللباس وقال بعض السلف: ما قرن شيء إلى شيء أحسن من علم إلى حلم] إعلام الموقعين 4/199 فما بعدها.
مسألة اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم -
يقول السائل: إنه سمع الدكتور يوسف القرضاوي في برنامج الشريعة والحياة يتكلم عن مسألة اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه قال إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يمكن أن يخطئ في الاجتهاد في الأمور الدنيوية وأن كثيراً من الناس قد احتجوا عليه واستفظعوا صدور ذلك منه ونالوا من الدكتور القرضاوي وطعنوا فيه، فما قولكم في ذلك؟
الجواب: جزى الله خيراً الشيخ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي على جهوده العلمية المميزة في التأليف والمحاضرات والبرامج التلفزيونية وغيرها، فإنه حقاً فقيه العصر والأوان ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو الفضل.
وإن من مصائب الأمة الإسلامية في هذا الزمان أن يتكلم في مسائل العلم الشرعي أشباه طلبة العلم الذين إن قرأ الواحد منهم كتاباً أو كتابين ظن نفسه من كبار العلماء ومن أهل الاجتهاد المطلق فيجعل من نفسه حكماً يحكم بين العلماء فيرد عليهم ويصحح ويخطىء كما يشاء ويهوى من دون سند ولا أثارة من علم وهذا مع الأسف نشاهده ونسمعه باستمرار.
إن ما قاله الدكتور يوسف القرضاوي سبقه إليه عدد من كبار علماء الإسلام وهو مسطور في كتب أصول الفقه من مئات السنين ولكن ما ذنب الشيخ القرضاوي أن شاتميه لا يقرأون ولا يفقهون.
إن مسألة اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - مسألة اختلف فيها العلماء قديماً وتفرع عليها مسألة جواز خطأ اجتهاده - صلى الله عليه وسلم - وليست من المسائل الجديدة وقد ذكرها(5/218)
العلماء في كتبهم وحكوا فيها اختلاف العلماء فما سبوا ولا شتموا وإن كان بعض العلماء قد خطأ بعض الآراء وصوب غيرها.
ولكنهم علماء علماء علماء وليسوا طلبة علم مبتدئين في طلب العلم، قال أبو إسحاق الشيرازي: [كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجتهد في الحوادث ويحكم فيها بالاجتهاد وكذلك سائر الأنبياء عليهم السلام. ومن أصحابنا من قال ما كان له ذلك وبه قال بعض المعتزلة] التبصرة في أصول الفقه ص 521.
وجاء في جمع الجوامع وشرحه لجلال الدين المحلي 2/386: [والصحيح جواز الاجتهاد للنبي - صلى الله عليه وسلم - ووقوعه لقوله تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) ، (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) عوتب على استبقاء أسرى بدر بالفداء وعلى الإذن لمن ظهر نفاقهم في التخلف عن غزوة تبوك ولا يكون العتاب فيما صدر من الوحي فيكون عن اجتهاد. وقيل يمنع ... الخ] .
وفصل الشوكاني مسألة اجتهاد الأنبياء فذكر خلاف العلماء فقال: [المذهب الأول ليس لهم ذلك لقدرتهم على النص بنزول الوحي ... المذهب الثاني أنه يجوز لنبينا - صلى الله عليه وسلم - ولغيره من الأنبياء وإليه ذهب الجمهور ... ] إرشاد الفحول ص 255-256.
هذه بعض النقول في مسألة الاجتهاد وأما في مسألة الخطأ في الاجتهاد فقال أبو إسحاق الشيرازي: [يجوز الخطأ على رسول - صلى الله عليه وسلم - في اجتهاده إلا أنه لا يقر عليه بل ينبه عليه. ومن أصحابنا من قال لا يجوز عليه الخطأ] التبصرة في أصول الفقه ص 524 ثم ساق أدلة الفريقين وانتصر للقول الأول.
وقال الآمدي: [القائلون بجواز الاجتهاد للنبي عليه الصلاة والسلام اختلفوا في جواز الخطأ عليه في اجتهاده فذهب بعض أصحابنا إلى المنع من ذلك.
وذهب أكثر أصحابنا والحنابلة وأصحاب الحديث والجبائي وجماعة من المعتزلة إلى جوازه لكن بشرط أن لا يقر عليه وهو المختار ودليله(5/219)
المنقول والمعقول ... الخ] الإحكام في أصول الأحكام 4/216.
وقال الكمال بن الهمام: [وقد ظهر أن المختار جواز الخطأ في اجتهاده عليه الصلاة والسلام إلا أنه لا يقر على خطأ بخلاف غيره] تيسير التحرير 4/190.
ويكفي هذا من كتب الأصول لأن المقام لا يتسع لاستقصاء ما قال الأصوليون في المسألة.
وأنا هنا لست في مقام بحث مسألة اجتهاد النبي- صلى الله عليه وسلم - وهل يخطئ في اجتهاده أم لا؟ ولست في مقام الترجيح بين أقوال العلماء في ذلك والذي أريد أن أصل إليه هو أن هذه المسائل وغيرها لا يبحثها ولا يناقشها العوام من طلبة العلم وأشباه المتعلمين وأنه ليس في مقدرتهم الترجيح بين أقوال العلماء في هذه المسائل الاجتهادية الخلافية وكون عالم قال بأحد الأقوال في المسألة لا ينبغي الإنكار عليه والهجوم عليه وسبه وشتمه لأن قوله لا يوافق ما نهوى ونتمنى.
إن العلماء كما ترى أخي القارئ قد اختلفوا في هذه المسألة الاجتهادية وأمثالها من المسائل التي لا يوجد فيها نص صريح من كتاب الله أو سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فلا يصح الإنكار على عالم قال برأي فيها.
وقديماً قال العلماء: [لا يصح الإنكار في مسائل الخلاف] والمقصود بذلك مسائل الخلاف الاجتهادية التي لا يوجد فيها نصوص صريحة من الكتاب أو السنة.
فكل مسألة اختلف فيها العلماء ولم يثبت فيها نص صريح يدل على صحة أحد الأقوال فيها وإنما المستند فيها الاجتهاد فلا يجوز الإنكار على العالم فيما قال باجتهاده. لأن المجتهد لم يخالف نصاً بل خالف اجتهاد مجتهد آخر وهذه المسائل لا يعرف فيها المجتهد المصيب على وجه القطع لذا لا ينبغي الإنكار على من خالف رأياً لم يثبت بأنه صواب قطعاً. راجع حكم الإنكار في مسائل الخلاف ص 72-73.(5/220)
قال الإمام النووي: [ولا ينكر محتسب ولا غيره على غيره وكذلك قالوا ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جلياً] شرح النووي على صحيح مسلم 2/24.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عمن يقلد بعض العلماء في مسائل الاجتهاد فهل ينكر عليه أم يهجر؟ وكذلك من يعمل بأحد القولين؟
فأجاب: [الحمد لله، مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 20/207.
وختاماً فينبغي على طلبة العلم وعلى عامة الناس أن تتسع صدورهم لسماع خلاف العلماء في مسائل العلم الشرعي وعلى هؤلاء وأولئك أن يعلموا أن العلماء عندما يختلفون فإنهم لا يصدرون في اختلافهم عن هوى أو تشهي أو قول في دين الله بغير علم أو مستند. وعليهم أن يعلموا أن الخلافات العلمية في المسائل التي لا يوجد فيها نصوص قطعية ليست مذمومة والخلاف فيها قديم والأمر فيه سعة، فلا تحجروا واسعاً.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [فإن الله برحمته وطوله وقوته وحوله ضمن بقاء طائفة من هذه الأمة على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك وجعل السبب في بقائهم بقاء علمائهم واقتدائهم بأئمتهم وفقهائهم وجعل هذه الأمة مع علمائها كالأمم الخالية مع أنبيائها وأظهر في كل طبقة من فقهائها أئمة يقتدى بها وينتهى إلى رأيها وجعل في سلف هذه الأمة أئمة من الأعلام مهد بهم قواعد الإسلام وأوضح بهم مشكلات الأحكام اتفاقهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة تحيا القلوب بأخبارهم وتحصل السعادة باقتفاء آثارهم ثم اختص منهم نفراً أعلى قدرهم ومناصبهم وأبقى ذكرهم ومذاهبهم فعلى أقوالهم مدار الأحكام وبمذاهبهم يفتي فقهاء الإسلام] المغني 1/ 4-5.(5/221)
ولا بد أن يتأدب طلبة العلم وعامة الناس مع العلماء وأن ينزلوهم منزلة الإكرام والاحترام وإن لم ترق لبعضنا آراؤهم واجتهاداتهم، فلكل مجتهد نصيب.
حديث طلب العلم فريضة
يقول السائل: هل حديث: (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) حديث ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟
الجواب: إن هذا الحديث المشهور على الألسنة محل اختلاف بين علماء الحديث فمنهم من يضعفه ومنهم من يرى أنه حديث حسن أو صحيح.
والحديث ورد بدون زيادة (ومسلمة) فهذه اللفظة لم ترد في أي من طرق الحديث الكثيرة، قال الحافظ السخاوي [تنبيه: قد ألحق بعض المصنفين بآخر هذا الحديث (ومسلمة) وليس لها ذكر في شيء من طرقه وإن كان معناها صحيحاً] المقاصد الحسنة ص 277.
ولفظ مسلم الوارد في الحديث يشمل المسلمة.
قال الإمام النووي: [وهذا الحديث وإن لم يكن ثابتاً فمعناه صحيح] المجموع 1/24.
وقال البيهقي [متنه مشهور وإسناده ضعيف وقد روي من أوجه كلها ضعيفه] المقاصد الحسنة ص 276.
وضعفه آخرون كأحمد وإسحاق وابن الصلاح وغيرهم.
وترى طائفة من أهل العلم أن الحديث وإن ورد من طرق ضعيفة إلا أنه يتقوى ويرتقي إلى درجة الحسن أو الصحيح لغيره.
قال السيوطي: [جمعت له خمسين طريقاً وحكمت بصحته لغيره. ولم(5/222)
أصحح حديثاً لم أسبق لتصحيحه سواه] فيض القدير 4/353.
وقال السخاوي [ ... ولكن له شاهد عند ابن شاهين في الأفراد ... ورجاله ثقات بل يروى عن نحو عشرين تابعياً عن أنس ... ] المقاصد ص 275.
وقال العلامة القاري [لكن كثرة الطرق تدل على ثبوته ويقوى بعضه ببعض. قال المزي تلميذ النووي إن طرقه تبلغ رتبة الحسن] المرقاة 1/478.
وحكم بصحة الحديث الشيخ أبو الفيض الغماري بعد أن استوعب طرقه، وحكم بصحته أيضاً الألباني فقد صححه في صحيح الترغيب والترهيب ص 34، وفي صحيح سنن ابن ماجه 1/44 ونقل تصحيح الحديث عن غيرهم من العلماء، انظر شرح السنة 1/290، الحطة ص 48.
وخلاصة الأمر أن الحديث لا يقل عن درجة الحسن والله أعلم.
إذا تقرر هذا فلا بد من الإشارة إلى أن أهل العلم قد اختلفوا في المراد من الحديث وما هو العلم الذي طلبه فريضة على أكثر من عشرين قولاً وأجود ما قيل فيه ما قاله الحافظ ابن عبد البر: [ ... قد أجمع العلماء على أن من العلم ما هو فرض متعين على كل امرئ في خاصته بنفسه ومنه ما هو فرض على الكفاية إذا قام به قائم سقط فرضه على أهل ذلك الموضع واختلفوا في تلخيص ذلك والذي يلزم الجميع فرضه من ذلك ما لا يسع الإنسان جهله من جملة الفرائض المفترضة عليه نحو الشهادة باللسان والإقرار باللقب بأن الله وحده لا شريك له لا شبه له ولا مثل لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد خالق كل شيء وإليه مرجع كل شيء المحيي المميت الحي الذي لا يموت والذي عليه جماعة أهل السنة أنه لم يزل بصفاته وأسمائه ليس لأوليته ابتداء ولا لآخريته انقضاء وهو على العرش استوى.
والشهادة بأن محمداً عبده ورسوله وخاتم أنبيائه حق وأن البعث بعد الموت للمجازاة بالأعمال والخلود في الآخرة لأهل السعادة بالإيمان والطاعة(5/223)
في الجنة ولأهل الشقاوة بالكفر والجحود في السعير حق وأن القرآن كلام الله وما فيه حق من عند الله يجب الإيمان بجميعه واستعمال محكمه وأن الصلوات الخمس فرض ويلزمه من علمها علم ما لا تتم إلا به من طهارتها وسائر أحكامها وأن صوم رمضان فرض ويلزمه علم ما يفسد صومه ومالا يتم إلا به وإن كان ذا مال وقدرة على الحج لزمه فرضاً أن يعرف ما تجب فيه الزكاة ومتى تجب وفي كم تجب ويلزمه أن يعلم بان الحج عليه فرض مرة واحدة في دهره إن استطاع إليه سبيلاً إلى أشياء يلزمه معرفة جملها ولا يعذر بجهلها نحو تحريم الزنا والربا وتحريم الخمر والخنزير وأكل الميتة والأنجاس كلها والغصب والرشوة على الحكم والشهادة بالزور وأكل أموال الناس بالباطل وبغير طيب من أنفسهم إلا إذا كان شيئاً لا يتشاح فيه ولا يرغب في مثله وتحريم الظلم كله وتحريم نكاح الأمهات والأخوات ومن ذكر معهن وتحريم قتل النفس المؤمنة بغير حق وما كان مثل هذا كله مما قد نطق الكتاب به وأجمعت الأمة عليه] جامع بيان العلم وفضله 1/10-11.
حديث يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله
يقول السائل: ورد في الحديث قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين) فكيف نفهم هذا الحديث ونحن نرى أن هنالك ممن ينتسب إلى العلم وهم من الفسقة؟
الجواب: روى هذا الحديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم ولهذا الحديث طرق كثيرة عنهم وهو حديث حسن لتعدد طرقه قال العلامة إبراهيم بن الوزير: [وهو حديث مشهور صححه ابن عبد البر] .
وروي عن أحمد أنه قال: هو حديث صحيح.(5/224)
قال زين الدين: [وفي كتاب العلل للخلال عن أحمد سئل عنه فقيل له كأنه كلام موضوع؟ فقال: لا هو صحيح فقيل له: ممن سمعته؟ فقال من غير واحد ... ] العواصم والقواصم 1/308، وذكر العلامة ابن القيم طرق الحديث في مفتاح دار السعادة ص 163-164، وجزم الحافظ العلائي بأن الحديث حسن. انظر الحطة ص 71.
والمقصود بهذا الحديث أن علم الكتاب والسنة يحمله من كل قرن يخلف السلف عدوله أي ثقاته يعني من كان عدلاً صاحب التقوى والديانة نافين عنه أي طاردين عن هذا العلم تحريف الغالين أي المبتدعة الذين يتجاوزون في كتاب الله وسنة رسوله عن المعنى المراد فينحرفون عن جهته.
وانتحال المبطلين أي الادعاءات الكاذبة وتأويل الجاهلين أي تأويل الجهلة لبعض القرآن والسنة إلى ما ليس بصواب. المرقاة 1/508-509.
وقال الإمام النووي: [ ... وفي الحديث الآخر (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين) وهذا إخبار منه - صلى الله عليه وسلم - بصيانة العلم وحفظه وعدالة ناقليه وأن الله تعالى يوفق له في كل عصر خلفاً من العدول يحملونه وينفون عنه التحريف وما بعد فلا يضيع وهذا تصريح بعدالة حامليه في كل عصر وهكذا وقع ولله الحمد وهذا من أعلام النبوة ولا يضر مع هذا كون بعض الفساق يعرف شيئاً من العلم فإن الحديث إنما هو إخبار بأن العدول يحملونه لا أن غيرهم لا يعرف شيئاً منه والله أعلم] تهذيب الأسماء واللغات 1/17.
فالأصل في أهل العلم أن يكونوا عدولاً ثقاة يجمعون بين العلم والعمل كما كان علماؤنا المتقدمون ولكن كثيراً ممن ينتسبون للعلم أغرتهم الدنيا بملذاتها ومتعها وشهواتها المادية والمعنوية فانغمسوا فيها.
وواجب العلماء أن يصونوا العلم وأن يبتعدوا عن مواطن الريب ومن ذلك إتيان السلاطين والحكام فقد جاء في الحديث عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من سكن البادية فقد جفا ومن اتبع الصيد فقد غفل ومن أتى أبواب السلاطين فقد افتتن) رواه أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي(5/225)
والبيهقي وغيرهم وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير 2/1079.
وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: [لو أن أهل العلم صانوا العلم ووضعوه عند أهله لسادوا به أهل زمانهم ولكنهم بذلوه لأهل الدنيا لينالوا به من دنياهم فهانوا عليهم] رواه ابن ماجة والبيهقي في شعب الإيمان. انظر ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين ص 54-55.
وقال الشاعر:
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما
قصة الظبية التي تكلمت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مكذوبة
يقول السائل: إنه سمع خطيب الجمعة يذكر قصة الظبية التي تكلمت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن الظبية نطقت بالشهادتين فهل هذه القصة ثابتة أفيدونا؟
الجواب: كثير من الخطباء والمدرسين لا يهتمون بمعرفة درجة الأحاديث التي يذكرونها في خطبهم ودروسهم مع أن ذلك واجب عليهم لأن المصلين يتلقون كلامهم ويسمعونه ومعظم المصلين لا يعرفون شيئاً عن الحكم على الأحاديث وأن هنالك أحاديث باطلة وأخرى مكذوبة وأخرى ضعيفة.
إن واجب كل من يتصدى للتدريس أو الخطابة أو الوعظ أو التأليف أن يكون على بينة وبصيرة من الأحاديث التي يذكرها وينسبها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن الكذب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس كالكذب على غيره فقد صح في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من كذب عليَّ عامداً متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) وهو حديث صحيح متواتر رواه البخاري ومسلم.
فإن هؤلاء الخطباء والوعاظ وإن لم يتعمدوا الكذب على(5/226)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مباشرة فقد ارتكبوه تبعاً لنقلهم الأحاديث التي يقفون عليها جميعاً وهم يعلمون أن فيها ما هو ضعيف وما هو مكذوب قطعاً وقد أشار إلى هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (كفى بالمرء إثماً أن يحدّث بكل ما سمع) رواه مسلم.
قال ابن حبان في صحيحه: فصل: " ذكر أسباب دخول النار لمن نسب الشيء إلى المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وهو غير عالم بصحته " ثم ساق بسنده عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من قال عليَّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار) وسنده حسن وأصله في الصحيحين بنحوه.
ثم ذكر حديث سمرة بن جندب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من حدّث بحديث يُرى - بضم الياء- أنه كذب فهو أحد الكاذبين) رواه مسلم.
يتبين من هذه الأحاديث أنه لا يجوز نشر الأحاديث وروايتها دون التثبت من صحتها ومن فعل ذلك فهو حسبه من الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القائل: إن كذباً عليّ ليس كالكذب على أحد فمن كذب عليّ عامداً متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) رواه مسلم.
ولو قلنا بأنه يجوز التساهل في الترغيب والترهيب ولكن لا يجوز أن يصل الأمر إلى ذكر الأحاديث الباطلة والمكذوبة وإنما العلماء تساهلوا بذكر الأحاديث الضعيفة في باب الترغيب والترهيب ولكنهم بينوا أسانيدها.
قال الحافظ ابن الصلاح: [ويجوز عند أهل الحديث وغيرهم التساهل في الأسانيد ورواية ما سوى الموضوع - أي المكذوب - من أنواع الأحاديث الضعيفة من غير اهتمام ببيان ضعفها فيما سوى صفات الله وأحكام الشريعة من الحلال والحرام وغيرهما وذلك كالمواعظ والقصص وفضائل الأعمال وسائر فنون الترغيب والترهيب وسائر ما لا تعلق له بالأحكام والعقائد] علوم الحديث ص 113.
إذا تقرر هذا فنعود إلى حديث الظبية لبيان حاله وقبل ذلك أذكر نصه:
عن زيد بن أرقم قال: (كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض سكك المدينة(5/227)
فمررنا بخباء أعرابي فإذا ظبية مشدودة إلى الخباء فقالت: يا رسول الله إن هذا الأعرابي صادني ولي خشفان - ولدان - في البرية وقد تعقد اللبن في أخلافي - ضرعي - فلا هو يذبحني فأستريح ولا يدعني فأرجع إلى خشفي في البرية فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن تركتك ترجعين؟ قالت: نعم، وإلا عذبني الله عذاب العشار - قابض العشور أي الضرائب - فأطلقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم تلبث أن جاءت تلمظ فشدها رسول الله إلى الخباء وأقبل الأعرابي ومعه قربة. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: أتبيعها مني؟ فقال الأعرابي: هي لك يا رسول الله. قال: فأطلقها رسول - صلى الله عليه وسلم -. قال زيد بن أرقم: وأنا والله رأيتها تسيح في البر وهي تقول لا إله إلا الله محمد رسول الله] .
وقد وردت روايات أخر لهذه القصة الطريفة وقد رواها أبو نُعَيم في دلائل النبوة والبيهقي في دلائل النبوة أيضاً.
قال العلامة ملا علي القاري: [حديث تسليم الغزالة اشتهر على الألسنة وفي المدائح النبوية. قال ابن كثير ليس له أصل ومن نسبه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد كذب] المصنوع في معرفة الحديث الموضوع ص 80.
وقال الحافظ ابن حجر: [وأما تسليم الغزالة فلم نجد له إسناداً لا من وجه قوي ولا من وجه ضعيف والله أعلم] فتح الباري 7/404.
وقد تكلم الحافظ ابن حجر بالتفصيل على هذه القصة وذكر عدة روايات لها في كتابه " تخريج أحاديث مختصر ابن الحاجب " فقال: [وأما تسليم الغزالة فمشتهر على الألسنة وفي المدائح النبوية ولم أقف لخصوص السلام على سند وإنما ورد الكلام في الجملة. وبالسند الماضي إلى البيهقي قال: باب كلام الظبية إن صح الخبر] . ثم ذكر أن هذه القصة وردت منسوبة إلى عيسى عليه السلام.
ثم قال الحافظ ابن حجر: [وقد ورد كلام الظبية من طرق أخرى أشد وهاءً من الأول] انظر تخريج أحاديث مختصر ابن الحاجب 1/245-246.
كما أن الحافظ الذهبي ذكره في ميزان الاعتدال وأشار إلى أنه خبر(5/228)
باطل. ميزان الاعتدال 4/456، وقد ذكر الحافظ ابن حجر أن هذا الحديث باطل موضوع في " لسان الميزان " 6/311.
وقد ضعف هذه القصة بروايتها المختلفة الحافظ ابن كثير أيضاً في تحفة الطالب بمعرفة أحاديث مختصر ابن الحاجب ص 186-189.
وقال العلامة السخاوي: [حديث تسليم الغزالة الذي اشتهر على الألسنة وفي المدائح النبوية وليس له أصل كما قال ابن كثير ومن نسبه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد كذب] المقاصد الحسنة ص 156.
وقال العجلوني مثل كلام السخاوي انظر كشف الخفاء 1/306.
وذكر الشيخ عبد الفتاح أبو غده يرحمه الله كلام الحافظ ابن حجر والسخاوي وابن كثير وذكر أن للقصة روايات متعددة.
ثم قال الشيخ أبو غدة: [هي أحاديث ضعيفة واهية لا يصح الاعتماد عليها في إثبات ما هو خرق للعادة وإن كانت لتعدد طرقها لا يحكم الحديثي عليها بالوضع فإن إثبات مضمونها لا يقبل ولا يثبت إلا بالحديث الصحيح الرجيح ولدى النظر في أسانيدها يتبين أنها لا تخلو من مطاعن شديدة مردية فلا تغفل. وبالنظر في متونها يتبدّى تعارض شديد فيما بينها وفي الجمع بينها تعسف ظاهر] المصنوع في معرفة الحديث الموضوع ص 80.
حديث ضعيف
يقول السائل: قرأت حديثاً معلقاً في المسجد ونصه: (عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قال حين يأوي إلى فراشه: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ثلاث مرات غفر الله له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر وإن كانت عدد ورق الشجر وإن كانت عدد رمال عالج وإن كانت عدد أيام الدنيا) فما درجة هذا الحديث؟
الجواب: هذا الحديث رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب(5/229)
لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث الوصافي عبيد الله بن الوليد، سنن الترمذي 5/439، ورواه أحمد في المسند كما في الفتح الرباني 14/248.
وقد ضّعف العلماء هذا الحديث، قال الحافظ ابن حجر في تخريج الأذكار: [هذا الحديث غريب والوصافي وشيخه - يعني عطية العوفي - ضعيفان لكن رواه غيره عن عطية عن أبي سعيد بنحوه] الأذكار ص 77.
وضعف الحديث أيضاً الشيخ الألباني في ضعيف سنن الترمذي ص 444، وفي ضعيف الجامع الصغير الحديث رقم 5728.
ويغني عن هذا الحديث الضعيف ما ثبت من أحاديث صحيحة في الذكر قبل النوم ومنها: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه ثم يقول: باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين) رواه البخاري ومسلم.
وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن وقل: اللهم أسلمت نفسي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت فإن مت مت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تقول) رواه البخاري ومسلم.
استعمال الأشهر الميلادية
يقول السائل: ما قولكم في أن كثيراً من الناس والمؤسسات الرسمية وغيرها تستعمل الأشهر الميلادية في التأريخ لمراسلاتها وكتاباتها وقد أدى هذا الأمر إلى أن كثيراً من الناس لا يكادون يعرفون الأشهر الهجرية وكذلك(5/230)
فهنالك دعاوى لتغيير الأرقام العربية إلى أرقام أوروبية، أفيدونا وجزاكم الله خيراً؟
الجواب: مما يؤسف له أن هجمة التغريب التي تعرضت لها الأمة المسلمة قد امتدت إلى كل ما يتعلق بالأمة الإسلامية، دينها ولغتها وعاداتها وتقاليدها.
وقد لقيت دعوات التغريب آذاناً صاغيةً وأيادٍ منفذة لهذه الأفكار ولم يسلم شيء تقريباً من هذه الهجمات التغريبية ومن ضمن ذلك اعتماد التأريخ الميلادي في مختلف شؤون الحياة والدعوة إلى استبدال رسم الأرقام العربية بالأرقام الأوروبية.
أما بالنسبة لاعتماد التأريخ الميلادي فيجب أن يعلم أن التاريخ الهجري هو سمة من سمات الأمة الإسلامية لا يجوز الاستغناء عنه واستبداله بالتاريخ الميلادي بشكل تام.
ومن المعلوم أن عمر بن الخطاب هو الذي سن فكرة التأريخ من أول محرم، قال ابن الأثير: [والصحيح المشهور أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أمر بوضع التأريخ والسبب في ذلك: أن أبا موسى الأشعري كتب إلى عمر أنه يأتينا منك كتب ليس لها تأريخ. فجمع عمر الناس للمشورة فقال بعضهم: أرخ بمبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال بعضهم: بمهاجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال عمر: بل نؤرخ بمهاجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن مهاجرته فرق بين الحق والباطل، قال الشعبي: وقال محمد بن سيرين: قام رجل إلى عمر، فقال: أرخوا، فقال عمر: ما أرخوا؟ فقال: شيء تفعله الأعاجم في شهر كذا من سنة كذا، فقال عمر حسن فأرخوا فاتفقوا على الهجرة ثم قالوا: من أي الشهور؟ فقالوا: من رمضان، ثم قالوا: فالمحرم هو منصرف الناس من حجهم وهو شهر حرام فأجمعوا عليه] التشبه المنهي عنه ص 543-544.
إن علماء الأمة كرهوا استعمال التقويم الميلادي لما له من ارتباط ديني عند النصارى وهو ميلاد عيسى عليه السلام ولا يجوز التشبه بهم في أمر دينهم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وما زال السلف يكرهون تغيير(5/231)
شعائر العرب في المعاملات وهو التكلم بغير العربية إلا لحاجة كما نص على ذلك مالك والشافعي وأحمد. بل قال مالك من تكلم في مسجدنا بغير العربية أخرج منه مع أن سائر الألسن يجوز النطق بها لأصحابها ولكن سوغوها للحاجة وكرهوها لغير الحاجة.
ولحفظ شعائر الإسلام فإن الله أنزل كتابه باللسان العربي وبعث نبيه العربي وجعل الأمة العربية خير الأمم فصار حفظ شعارهم من تمام حفظ الإسلام] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 32/255.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: [وأما الرطانة وتسمية شهورهم بالأسماء العجمية فقال أبو محمد الكرماني - المسمى بحرب -: باب تسمية الشهور بالفارسية: قلت لأحمد: فإن للفرس أياماً وشهوراً يسمونها بأسماء لا تعرف؟ فكره ذلك أشد الكراهة وروى فيه عن مجاهد حديثاً أنه كره أن يقال: آذرماه، وذي ماه - أسماء شهور فارسية - قلت: فإن كان اسم رجل أسميه به؟ فكرهه.
قال: وسألت إسحاق قلت: تاريخ الكتاب يكتب بالشهور الفارسية مثل: آذرماه، وذي ماه؟ قال: إن لم يكن في تلك الأسامي اسم يكره فأرجو. قال وكان ابن المبارك يكره إيزدان يحلف به، وقال: لا آمن أن يكون أضيف إلى شيء يعبد وكذلك الأسماء الفارسية قال: وكذلك أسماء العرب كل شيء مضاف. قال: وسألت إسحاق مرة أخرى قلت: الرجل يتعلم شهور الروم والفرس؟ قال: كل اسم معروف في كلامهم فلا بأس.
فما قاله أحمد من كراهة الأسماء له وجهان:
أحدهما: إذا لم يعرف معنى الاسم جاز أن يكون معنى محرماً فلا ينطق المسلم بما لا يعرف معناه ولهذا كرهت الرقى العجمية كالعبرانية أو السريانية أو غيرها خوفاً أن يكون فيها معان لا تجوز.
وهذا المعنى هو الذي اعتبره إسحاق لكن إن علم أن المعنى مكروه فلا ريب في كراهته وإن جهل معناه فأحمد كرهه وكلام إسحاق يحتمل أنه لم يكرهه.(5/232)
الوجه الثاني: كراهته أن يتعود الرجل النطق بغير العربية فإن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون] اقتضاء الصراط المستقيم 1/ 518-519.
وكذلك فإن في اعتماد التأريخ الميلادي ربطاً لأجيال المسلمين بتأريخ النصارى وأعيادهم وإبعاداً لهم عن تأريخهم الهجري الذي ارتبط برسولهم عليه الصلاة والسلام وبشعائر دينهم وعبادتهم.
قال القرطبي: تعليقاً على قوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ) سورة التوبة الآية 36.
قال: [هذه الآية تدل على أن تعلق الأحكام في العبادات وغيرها إنما يكون بالشهور والسنين التي تعرفها العرب دون الشهور التي تعتبرها العجم والروم والقبط وإن لم تزد على اثني عشر شهراً لأنها مختلفة الأعداد منها ما يزيد على ثلاثين ومنها ما ينقص وشهور العرب لا تزيد على ثلاثين وإن كان منها ما ينقص] التشبه المنهي عنه ص 544-545.
وخلاصة الأمر أنه لا يجوز إهمال استعمال التقويم الهجري واستعمال التقويم الميلادي بدلاً عنه.
والأصل أن نستعمل التقويم الهجري ولا بأس باستعمال التقويم الميلادي إلى جانبه.
وأما بالنسبة لتغيير الأرقام العربية إلى الأرقام الأوروبية فيجب أن يعلم أن الزعم بأن الأرقام التي نستعملها حالياً " 1، 2، 3 ... " هي أرقام هندية وأن الأرقام الأوروبية " 1,2,3 ... " هي الأرقام العربية كلام غير صحيح لم تقم عليه أدلة معتبرة وإنما ذلك مجرد دعوى وقد بحث هذه المسألة المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي وكذلك هيئة كبار العلماء السعودية وقد صدر عن المجمع القرار التالي:
[فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي قد نظر في الكتاب الوارد ... المتضمن أن هناك نظرية تشيع بين بعض المثقفين مفادها أن الأرقام العربية(5/233)
في رسمها الراهن هي أرقام هندية وأن الأرقام الأوروبية هي الأرقام العربية الأصلية ويقودهم هذا الإستنتاج إلى خطوة أخرى هي الدعوة إلى اعتماد الأرقام في رسمها الأوروبي في البلاد العربية داعمين هذا المطلب بأن الأرقام الأوروبية أصبحت وسيلة للتعامل الحسابي مع الدول والمؤسسات الأجنبية التي باتت تملك نفوذاً واسعاً في المجالات الاقتصادية والاجتماعية في البلدان العربية وإن ظهور أنواع الآلات الحسابية والكمبيوتر التي لا تستخدم إلا هذه الأرقام يجعل اعتماد رسم الأرقام الأوروبي في البلاد العربية أمراً مرغوباً فيه إن لم يكن شيئاً محتوماً لا يمكن تفاديه. واطلع المجلس على قرار مجلس هيئة كبار العلماء ... في هذا الموضوع والمتضمن أنه لا يجوز تغيير رسم الأرقام العربية المستعملة حالياً إلى رسم الأرقام المستعملة في العالم الغربي للأسباب التالية:
أولاً: أنه لم يثبت ما ذكره دعاة التغيير من أن الأرقام المستعملة في الغرب هي الأرقام العربية بل إن المعروف غير ذلك والواقع يشهد له كما أن مضي القرون الطويلة على استعمال الأرقام الحالية في مختلف الأحوال والمجالات يجعلها أرقاماً عربيةً وقد وردت في اللغة العربية كلمات لم تكن في أصولها عربية وباستعمالها أصبحت من اللغة العربية حتى أنه وجد شيء منها في كلمات القرآن الكريم - وهي التي توصف بأنها كلمات معربة -.
ثانياً: إن الفكرة لها نتائج سيئة وآثار ضارة فهي خطوة من خطوات التغريب للمجتمع الإسلامي تدريجياً يدل لذلك ما ورد في الفقرة الرابعة من التقرير المرفق بالمعاملة ونصها: [صدرت وثيقة من وزراء الإعلام في الكويت تفيد بضرورة تعميم الأرقام المستخدمة في أوروبا لأسباب أساسها وجوب التركيز على دواعي الوحدة الثقافية والعلمية وحتى السياحية على الصعيد العالمي] .
ثالثاً: إنها- أي هذه الفكرة - ستكون ممهدة لتغيير الحروف العربية واستعمال الحروف اللاتينية بدل العربية ولو على المدى البعيد.
رابعاً: إنها أيضاً مظهر من مظاهر التقليد للغرب واستحسان طرائقه.(5/234)
خامساً: إن جميع المصاحف والتفاسير والمعاجم والكتب المؤلفة كلها تستعمل الأرقام الحالية في ترقيمها أو في الإشارة إلى المراجع وهي ثروة عظيمة هائلة وفي استعمال الأرقام الإفرنجية الحالية - عوضاً عنها - ما يجعل الأجيال القادمة لا تستفيد من ذلك التراث بسهولة ويسر.
سادساً: ليس من الضروري متابعة بعض البلاد العربية التي درجت على استعمال رسم الأرقام الأوروبية فإن كثيراً من تلك البلاد قد عطلت ما هو أعظم من هذا وأهم وهو تحكيم شريعة الله كلها مصدر العز والسيادة والسعادة في الدنيا والآخرة فليس عملها حجة.
وفي ضوء ما تقدم يقرر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي ما يلي:
أولاً: التأكيد على مضمون القرار الصادر عن مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في هذا الموضوع والمذكور آنفاً والمتضمن عدم جواز تغيير رسم الأرقام العربية المستعملة حالياً برسم الأرقام الأوروبية المستعملة في العالم الغربي للأسباب المبينة في القرار المذكور.
ثانياً: عدم جواز قبول الرأي القائل بتعميم رسم الأرقام المستخدمة في أوروبا بالحجة التي استند إليها من قال ذلك، وذلك أن الأمة لا ينبغي أن تدع ما اصطلحت عليه قروناً طويلة لمصلحة ظاهرة وتتخلى عنه تبعاً لغيرها.
ثالثاُ: تنبيه ولاة الأمور في البلاد العربية إلى خطورة هذا الأمر والحيلولة دون الوقوع في شرك هذه الفكرة الخطيرة العواقب على التراث العربي والإسلامي] قرارات المجمع الفقهي والإسلامي ص 129-131.
وخلاصة الأمر أن استعمال رطانة الأعاجم في شهورهم وسنينهم وحساباتهم وغيرها تضعف الأمة بجعلها تابعة لغيرها مفضلة له على نفسها وتضعف لغتها وسائر روابطها كما هو مشاهد في الأمصار التي قلدت الإفرنج في هذه الأمور وأمثالها حتى ضاع استقلالهم وعزهم. الآداب الشرعية 3/432.(5/235)
الكلام باللغات الأجنبية
يقول السائل: بعض الناس يتحدثون باللغة الإنجليزية في بيوتهم مع أولادهم وكذلك في أعمالهم يكون معظم كلامهم بالإنجليزية ويعتبرون ذلك نوعاً من التقدم والرقي فما قولكم في ذلك؟
الجواب: يجب أن يعلم أولاً أن تعلم اللغات الأخرى أمر لا بد منه وخاصة اللغات الحية كالإنجليزية، وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه طلب من بعض الصحابة أن يتعلموا بعض اللغات.
ونص العلماء على جواز ذلك وخاصة في زماننا حيث إن اللغة الإنجليزية هي لغة العلوم والتقدم في مختلف مجالات الحياة.
ويجب أن يعلم أن تعلم اللغات الأخرى لا يجوز أن يكون على حساب لغتنا الأصلية اللغة العربية، ومن المؤسف جداً أن بعض الناس يتفاخرون بأنهم يدرسون أبنائهم اللغات الأجنبية في المدارس الأجنبية مع تقصيرهم الشديد في تعليمهم اللغة العربية إن اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم ولغة رسوله - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا) سورة يوسف الآية 2، وقال تعالى: (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) سورة الشعراء الآية 195، وقال تعالى: (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) سورة النحل 103.
والمسلم مطلوب منه أن يتعلم اللغة العربية وأن يعلمها أبنائه وأن يتحدث بها وقد كره العلماء أن يخلط الإنسان في كلامه بين العربية وغيرها من اللغات فقد ورد عن عمر- رضي الله عنه - قال: [تعلموا العربية فإنها تزيد في العقل والمروءة] .
وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري: [أن مر من قبلك بتعلم العربية فإنها تدل على صواب الكلام ومرهم برواية الشعر فإنه يدل على معالي الأخلاق] .
وورد عن عمر - رضي الله عنه -: [أنه مرَّ على قوم يقرئ بعضهم بعضاً فقال: اقرأوا ولا تلحنوا] .(5/236)
وورد عنه أنه قال: [عليكم بالفقه في الدين والتفهم في العربية وحسن العباره] .
وورد عنه أنه قال: [لا تعلموا رطانة الأعاجم] .
وسئل الحسن البصري: [ما تقول في قوم يتعلمون العربية؟ فقال: أحسنوا، يتعلمون لغة نبيهم] .
وقال ابن شهاب الزهري: [ما أحدث الناس مروءة أعجب من تعلم الفصاحة] انظر الصقعة الغضبية ص 243 -250.
ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية عن الشافعي قوله: [سمى الله الطالبين من فضله في الشراء والبيع تجاراً ولم تزل العرب تسميهم التجار ثم سماهم رسول الله بما سمى الله به من التجارة بلسان العرب والسماسرة اسم من أسماء العجم فلا نحب أن يسمى رجل يعرف العربية تاجراً إلا تاجراً ولا ينطق بالعربية فيسمي شيئاً بالعجمية وذلك أن اللسان الذي اختاره الله عز وجل لسان العرب فأنزل به كتابه العزيز وجعله لسان خاتم أنبيائه - صلى الله عليه وسلم - ولهذا نقول ينبغي لكل واحد يقدر على تعلم العربية أن يتعلمها لأنها اللسان الأولى مرغوباً فيه من غير أن يحرم على أحد أن ينطق بالعجمية] اقتضاء الصراط المستقيم ص 204.
وبين شيخ الإسلام ابن تيمية أنه يكره تعود الرجل النطق بغير العربية فإن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون. المصدر السابق ص 203.
وقال شيخ الإسلام: [وأما اعتياد الخطاب بغير العربية التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن حتى يصير ذلك عادة للمصر وأهله ولأهل الدار وللرجل مع صاحبه ولأهل السوق أو للأمراء أو لأهل الديوان أو لأهل الفقه فلا ريب أن هذا مكروه فإنه من التشبه بالأعاجم وهو مكروه] الاقتضاء ص 206.
وقال ابن تيمية أيضاً: [وما زال السلف يكرهون تغيير شعائر العرب(5/237)
حتى في المعاملات وهو - التكلم بغير العربية - إلا لحاجة كما نص على ذلك مالك والشافعي وأحمد بل قال مالك: من تكلم في مسجدنا بغير العربية أخرج منه] مجموع الفتاوى 32/255.
وهذا الذي ذكره الشافعي وشيخ الإسلام من كراهة الرطانة أي الحديث بغير العربية قال به كثير من أهل العلم من الأئمة والصحابة والتابعين وغيرهم.
وقال حرب الكرماني - من أصحاب الإمام أحمد -: [باب تسمية الشهور بالفارسية، قلت لأحمد: فإن للفرس أياماً وشهوراً يسمونها بأسماء لا تعرف؟ فكره ذلك أشد الكراهة!] اقتضاء الصراط المستقيم ص 202، الآداب الشرعية لابن مفلح 3/432-433.
واللغة العربية التي وسعت القرآن الكريم وسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ووسعت شعر العرب وأدبهم قادرة على أن تسع أسماء المخترعات الجديدة والعلوم الحديثة فلا يظنن أحد أن اللغة العربية عاجزة وإنما العجز في الناطقين بها.
قال الإمام الشافعي: [ولسان العرب أوسع الألسنة مذهباً وأكثر ألفاظاً] الرسالة ص 42.
وقال الشافعي منبهاً إلى فضل العربية: [وأولى الناس بالفضل في اللسان من لسانه لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يجوز والله أعلم أن يكون أهل لسانه أتباعاً لأهل لسان غير لسانه في حرف واحد بل كل لسان تبع للسانه وكل أهل دين قبله فعليهم اتباع دينه وقد بين الله ذلك في غير آية من كتابه قال الله تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) ، وقال تعالى:
(وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا) وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا) وقال تعالى: (حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ، وقال تعالى: (قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) ... الخ] الرسالة ص 46-47.(5/238)
وصدق حافظ إبراهيم شاعر النيل عندما قال مدافعاً عن اللغة العربية:
رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي وناديت قومي فاحتسبت حياتي
رموني بعقم في الشباب وليتني عقمت فلم أجزع لقول عداتي
ولدت ولما لم أجد لعرائسي رجالاً وأكفاءً وأدت بناتي
وسعت كتاب الله لفظاً وغايةً وما ضقت عن آي به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة وتنسيق أسماء لمخترعات
أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
لا يسمى المسجد الأقصى حرماً
يقول السائل: هل تصح تسمية المسجد الأقصى " بالحرم "؟
الجواب: شاعت تسمية المسجد الأقصى المبارك بالحرم عند عامة الناس في ديار فلسطين وعند بعض الكاتبين المعاصرين فنجدهم يطلقون على المسجد الأقصى الحرم.
وهذه التسمية غير صحيحة لأن المعلوم عند أهل العلم أنه لا يوجد عند المسلمين إلا حرمان وهما حرم مكة وحرم المدينة وهذا باتفاق أكثر العلماء وأضاف الشافعية ثالثاً وهو وادي وج بالقرب من الطائف، المجموع 7/483. وإليك تفصيل ذلك:
أولاً: قال الله تعالى: (وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًاءَامِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) سورة القصص الآية 57. والمقصود بالحرم في هذه الآية الكريمة هو حرم مكة المكرمة.
وقال تعالى: (أو لم يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًاءَامِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ) سورة العنكبوت الآية 67. والمقصود أيضاً بالحرم في هذه الآية الكريمة هو حرم مكة المكرمة.(5/239)
وثبت في الحديث عن عبد الله بن زيد- رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أن إبراهيم حرّم مكة ودعا لها وحرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم لمكة) متفق عليه.
وحرم مكة وحرم المدينة ثابتان بالأدلة الصحيحة واتفق أهل العلم على ذلك وأما وادي وج بالقرب من الطائف فقد اعتبره الشافعية حرماً وخالفهم بقية العلماء واحتج الشافعية بما ورد في حديث الزبير- رضي الله عنه - قال: (لما أقبلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لية حتى إذا كنا عند السدرة وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طرف القرن الأسود حذوها فاستقبل نخباً ببصره وقال: مرة واديه ووقف حتى اتقف الناس كلهم ثم قال: إن صيد وج وعضاهه حرم محرم لله وذلك قبل نزوله الطائف وحصاره لثقيف) رواه أبو داود وأحمد والبيهقي.
وقوله: (من لية) هو جبل قرب الطائف، (وطرف القرن) جبل قرب الطائف أيضاً وقوله: (فاستقبل نخباً) ، هو واد بالطائف وقوله: (اتقف) أي حتى وقف الناس وقوله: (وعضاهه) هو كل شجر فيه شوك. عون المعبود 6/9 وهذا الحديث ضعفه جماعة من أهل العلم.
قال البخاري: لا يصح. ونحوه قال الأزدي وذكر الخلال أن أحمد ضعّفه، وضعّفه ابن حبان وضعّفه النووي. التلخيص الحبير 2/280.
والراجح من أقوال أهل العلم أن " وج " ليس بحرم لضعف الحديث كما سبق.
وبناء على ما تقدم لا يصح إطلاق اسم الحرم إلا على الحرمين حرم مكة وحرم المدينة ولا يجوز شرعاً إطلاق اسم الحرم على المسجد الأقصى المبارك ولا على المسجد الإبراهيمي في الخليل وتسميتهما حرماً بدعة لا أصل لها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وليس ببيت المقدس مكان يسمى حرماً ولا بتربة الخليل ولا بغير ذلك من البقاع إلا ثلاثة أماكن أحدها: هو حرم باتفاق المسلمين وهو حرم مكة شرفها الله تعالى والثاني حرم عند جمهور(5/240)
العلماء وهو حرم النبي - صلى الله عليه وسلم - من عير إلى ثور بريد في بريد فإن هذا حرم عند جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد وفيه أحاديث صحيحة مستفيضة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والثالث " وج " وهو واد بالطائف فإن هذا روي فيه حديث رواه أحمد في المسند وليس في الصحاح وهذا حرم عند الشافعي لاعتقاده صحة الحديث وليس حرماً عند أكثر العلماء وأحمد ضعف الحديث المروي فيه فلم يأخذ به وأما ما سوى هذه الأماكن الثلاثة فليس حرماً عند أحد من علماء المسلمين فإن الحرم ما حرّم الله صيده ونباته ولم يحرم الله صيد مكان ونباته خارجاً عن هذه الأماكن الثلاثة] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 27/14- 15.
وقال شيخ الإسلام أيضاً: [ ... والأقصى اسم للمسجد كله ولا يسمى هو ولا غيره حرماً وإنما الحرم بمكة والمدينة خاصة. وفي وادي وج بالطائف نزاع بين العلماء] اقتضاء الصراط المستقيم ص 434.
ولم تثبت تسمية المسجد الأقصى حرماً عن أحد من العلماء المحققين ولما تكلم الإمام بدر الدين الزركشي عن الأحكام المتعلقة بالمسجد الأقصى لم يذكر منها شيئاً في تسميته حرماً وإنما سماه المسجد الأقصى كما هو شأن بقية العلماء. إعلام الساجد بأحكام المساجد ص 191 فما بعدها.
كما أن الشيخ مجير الدين الحنبلي لم يستعمل كلمة الحرم في وصف المسجد الأقصى في كتابه " الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل " وكذلك الشيخ عبد الغني النابلسي في كتابه " الحضرة الأنسية في الرحلة المقدسية ".
ماذا أصنع بالمصحف القديم؟
يقول السائل: لدي مصحف قديم قد بلي وتمزقت أوراقه فماذا أصنع فيه؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أنه يجب على المسلم المحافظة على المصحف والاعتناء به جيداً على أكمل الوجوه، قال الإمام النووي: [أجمع(5/241)
المسلمون على وجوب صيانة المصحف واحترامه] التبيان في آداب حملة القرآن ص 108.
ومن المحافظة على المصحف صيانته من التمزق والعناية بتجليده ولا ينبغي وضع أي كتاب عليه. وإنما يوضع المصحف فوق الكتب واستحب بعض أهل العلم أن يوضع المصحف في مكان خاص كأن يوضع على كرسي خاص به كذا ذكره ابن مفلح في الآداب الشرعية 2/333.
وأما إذا بلي المصحف وتمزقت أوراقه ولم يعد صالحاً للقراءة فيه فحينئذ يجوز حرقه على رأي جماعة من أهل العلم، أو دفنه في أرض طيبه على قول آخرين من العلماء.
وأما حرق المصحف إذا بلي فيؤيده ما رواه الإمام البخاري في صحيحه بإسناده عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: (أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة، إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردَّ عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق) .
والشاهد من هذا الحديث قوله: (وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق) .
وقد ورد في بعض روايات الحديث السابق: (أن يخرق) بالخاء وليس بالحاء ولكن صحح كثير من العلماء رواية (أن يحرق) بالحاء ورجحوها على الرواية بالخاء.(5/242)
قال الحافظ ابن حجر: [وقد وقع في رواية شعيب عند ابن أبي داود والطبراني وغيرهما: وأمرهم أن يحرقوا كل مصحف يخالف المصحف الذي أرسل به، قال: فذلك زمان حرقت المصاحف في العراق بالنار، وفي رواية سويد بن غفلة عن علي قال: لا تقولوا لعثمان في إحراق المصاحف إلا خيراً، وفي رواية بكير بن الأشج: فأمر بجمع المصاحف فأحرقها ثم بث في الأجناد التي كتب.
ومن طريق مصعب بن سعد قال: أدركت الناس متوافرين حين حرق عثمان المصاحف فأعجبهم ذلك أو قال لم ينكر ذلك منهم أحد، وفي رواية أبي قلابة: فلما فرغ عثمان من المصحف كتب إلى أهل الأمصار: إني قد صنعت كذا وكذا، ومحوت ما عندي فامحوا ما عندكم، والمحو أعم أن يكون بالغسل أو التحريق. وأكثر الروايات صريح في التحريق فهو الذي وقع ويحتمل وقوع كل منهما بحسب ما رأى من كان بيده شيء من ذلك وقد جزم عياض بأنهم غسلوها بالماء ثم أحرقوها مبالغة في إذهابها، قال ابن بطال: في هذا الحديث جواز تحريق الكتب التي فيها اسم الله بالنار وأن ذلك إكرام لها وصون عن وطئها بالأقدام، وقد أخرج عبد الرزاق من طريق طاووس أنه كان يحرق الرسائل التي فيها البسملة إذا اجتمعت وكذا فعل عروة وكرهه إبراهيم وقال ابن عطية: الرواية بالحاء المهملة أصح، وهذا الحكم هو الذي وقع في ذلك الوقت وأما الآن فالغسل أولى لما دعت الحاجة إلى إزالته] فتح الباري 10/395.
وروى أبو بكر بن أبي داود عن طاووس بإسناده: [أنه لم يكن يرى بأساً أن تحرق الكتب، وقال: إن الماء والنار خلق من خلق الله] وإسناده صحيح غاية المرام 2/122.
وروى عبد الرزاق بإسناده عن ابن طاووس قال: [كان أبي يحرق الصحف إذا اجتمعت عنده فيها الرسائل فيها: بسم الله الرحمن الرحيم] مصنف عبد الرزاق 11/425.
وقال ابن جرير الطبري فيما فعله عثمان: [وجمعهم على مصحف(5/243)
واحد وحرف واحد وحرق ما عدا المصحف الذي جمعهم عليه وعزم على كل من كان عنده مصحف مخالف للمصحف الذي جمعهم عليه أن يحرقه فاستوثقت له الأمة على ذلك بالطاعة ورأت أن فيما فعل من ذلك الرشد والهداية] تفسير ابن جرير الطبري 1/64-65، نقلاً عن مباحث في علوم القرآن ص 132.
وقال الشيخ القرطبي: [وذكر أبو بكر الأنباري في كتاب الرد عن سويد بن غفلة، قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: يا معشر الناس اتقوا الله! وإياكم والغلو في عثمان وقولكم: حرّاق المصاحف فوالله ما حرقها إلا عن ملأ منا أصحاب محمد- صلى الله عليه وسلم -. وعن عمير بن سعيد قال: قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت في المصاحف مثل الذي فعل عثمان. قال أبو الحسن بن بطال: وفي أمر عثمان بتحريق الصحف والمصاحف حين جمع القرآن جواز تحريق الكتب التي فيها أسماء الله تعالى وأن ذلك إكرام لها وصيانة عن الوطء بالأقدام وطرحها في ضياع من الأرض. روى معمر عن ابن طاووس عن أبيه: أنه كان يحرق الصحف إذا اجتمعت عند الرسائل فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، وحرق عروة بن الزبير كتب فقه كانت عنده يوم الحرّه، وكره إبراهيم أن تحرق الصحف إذا كان فيها ذكر الله تعالى وقول من حرقها أولى بالصواب وقد فعله عثمان وقد قال القاضي أبو بكر لسان الأمة: جائز للإمام تحريق الصحف التي فيها القرآن إذا أداه الاجتهاد إلى ذلك] تفسير القرطبي 1/54-55.
وأما دفن المصحف إذا بلي وتمزق فنص عليه الإمام أحمد رحمه الله وذكر الإمام أحمد أن أبا الجوزاء بلي له مصحف فحفر له في مسجده فدفنه، ذكره ابن مفلح في الفروع 1/194.
وروى عبد الرزاق بإسناده عن إبراهيم النخعي أنه كره أن تحرق الصحف إذا كان فيها ذكر الله. مصنف عبد الرزاق 11/425.
وعند الحنفية يدفن المصحف في أرض طيبة كما قال الإمام العيني: [قال أصحابنا الحنفية إن المصحف إذا بلي بحيث لا ينتفع به يدفن في(5/244)
مكان طاهر بعيد عن وطء الناس] عمدة القاري شرح صحيح البخاري 13/537، وانظر الفتاوى الهندية 5/323.
وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: [وأما المصحف العتيق والذي تخرق وصار بحيث لا ينتفع به بالقراءة فيه فإنه يدفن في مكان يصان فيه كما أن كرامة بدن المؤمن دفنه في موضع يصان فيه] مجموع الفتاوي 12/599.
وخلاصة الرأي الذي أراه جواز الأمرين وهما الحرق والدفن في أرض طيبة لأن فيهما صيانة للمصحف من الإهانة ومحافظة على حرمته وقد أجازت الأمرين اللجنة الدائمة للإفتاء السعودية. فتاوى اللجنة 4/52.
وأخيراً ينبغي أن يعلم أنه يلحق بالمصحف الذي بلي ولم يعد صالحاً للقراءة فيه المصحف الذي يقع في طباعته أخطاء كإسقاط بعض الآيات أو تقديم بعض الآيات عن محلها أو تأخيره وأود تنبيه الأخوة القراء بأن هنالك طبعة للقرآن الكريم مع تفسير الجلالين ومعه أسباب النزول للسيوطي صادرة عن دار العربية للطباعة والنشر والتوزيع في بيروت لبنان سنة 1968 م قد وقع فيها سقط في بعض آيات القرآن الكريم كما يلي:
- في الآية 197 من سورة البقرة حيث سقط آخر الآية.
- وسقط أول الآية 198.
- وسقط جزء من الآية 201.
- وفي سورة الأعراف سقط جزء من الآية 44.
- وسقط آخر الآية 55.
- وفي سورة الإسراء سقط معظم الآية 35.
- وفي سورة الحج كتب أول الآية الثانية بشكل معكوس.
فينبغي الانتباه إلى ذلك وأنصح بإتلاف نسخ الطبعة المشار إليها بحرقها أو دفنها في مكان طاهر.(5/245)
حكم إقامة نصب للشهداء
يقول السائل: ما حكم إقامة نصب للشهداء تكتب عليه أسماؤهم وبعض الآيات القرآنية؟
الجواب: ليس من منهج الإسلام في تكريم الشهداء إقامة ما يسمى بنصب الشهداء أو نصب الجندي المجهول أو نحو ذلك من الأمور المبتدعة والتي عملها بعض المسلمين تقليداً لغير المسلمين.
ومن المعلوم عند أهل العلم أن البناء على القبور محرم شرعاً وعلى ذلك دلت الأحاديث النبوية الشريفة فقد ثبت في الحديث عن جابر - رضي الله عنه - قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه) رواه مسلم.
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبنى على القبور أو يقعد عليها أو يصلى عليها) رواه أبو يعلى وقال الهيثمي: رجاله ثقات وغير ذلك من الأحاديث.
وقد اتفق العلماء من لدن صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا الوقت على حرمة البناء على القبور.
ويضاف إلى ذلك أن إقامة نصب للشهداء ما هو إلا تشبه بغير المسلمين وقد نهينا عن التشبه بهم في مثل هذه الأمور وقد قامت على إثبات هذا الأصل الأدلة الكثيرة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فمن ذلك قوله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَءَامَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) سورة الحديد الآية 16.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [فقوله (وَلَا يَكُونُوا) نهي مطلق عن مشابهتهم وهو خاص أيضاً في النهي عن مشابهتهم في قسوة قلوبهم وقسوة القلوب من ثمرات المعاصي] اقتضاء الصراط المستقيم ص 43.(5/246)
وكما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (خالفوا المشركين) رواه البخاري ومسلم.
ومن المعلوم أن الشهداء لهم مكانة عظيمة عند الله سبحانه وتعالى فلا يحتاجون إلى إقامة هذه النصب لتكريمهم.
قال الله تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) سورة النساء الآية 69.
وقال تعالى: (وَالَّذِينَءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) سورة الحديد الآية 19.
وثبت في الحديث عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وأن له ما على الأرض من شيء إلا الشهيد فإنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة) رواه البخاري. وغير ذلك من الأحاديث.
لا يجوز المزاح في الأمور الشرعية
يقول السائل: كنا في أحد المجالس وكان هنالك شخص يمازح الآخرين ويذكر بعض النكت التي تتضمن الاستخفاف بالأمور الشرعية كالاستخفاف بمعرفة الله سبحانه وتعالى والاستخفاف بالجنة فما حكم ذلك؟
الجواب: المزاح مفتاح من مفاتيح الشر كما هو معلوم لأنه قد يؤدي إلى مفاسد كثيرة ولكن الإنسان لا يستغني عن شيء من المزاح فلذا وضع العلماء له ضوابط معينة حتى يكون المزاح جائزاً فلذلك قال العلماء: لا بأس بالمزاح إذا راعى المازح فيه الحق وتحرى الصدق فيما يقوله في مزاحه وتحاشى عن فحش القول. الموسوعة الفقهية 37/43.
وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يمزح فمن ذلك ما ورد في الحديث عن الحسن قال: (إن امرأة عجوزاً جاءته تقول: يا رسول الله ادع الله أن(5/247)
يدخلني الجنة، فقال لها: يا أم فلان إن الجنة لا يدخلها عجوز. وانزعجت المرأة وبكت ظناً منها أنها لن تدخل الجنة فلما رأى ذلك منها، بين لها غرضه: أن العجوز لن تدخل الجنة عجوزاً بل ينشئها الله خلقاً آخر فتدخلها شابة بكراً ... ) رواه الترمذي في الشمائل وقال الشيخ الألباني حديث حسن. مختصر الشمائل المحمدية ص 128، غاية المرام 215.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (قالوا: يا رسول الله! إنك تداعبنا. قال: نعم غير أني لا أقول إلا حقاً) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. وصححه الشيخ الألباني في مختصر الشمائل المحمدية ص 126، وفي السلسلة الصحيحة 4/304.
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: (أن رجلاً استحمل رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أي سأله أن يحمله على دابه - فقال - صلى الله عليه وسلم -: إني حاملك على ولد ناقة. فقال الرجل: يا رسول الله ما أصنع بولد الناقة؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: وهل تلد الإبل إلا النوق) رواه الترمذي في الشمائل وابن حبان وأحمد وقال الشيخ الألباني: إسناده صحيح على شرط الشيخين. مختصر الشمائل المحمدية ص 127.
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: يا ذا الأذنين - يعني يمازحه -) رواه الترمذي في الشمائل وأبو داود وصححه الشيخ الألباني، مختصر الشمائل ص 124.
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أيضاً: (أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهر بن حرام، قال: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحبه وكان دميماً فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصر فقال: أرسلني، من هذا؟ فالتفت فعرف النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجعل لا يألو ما ألزق ظهره بصدر النبي - صلى الله عليه وسلم - حين عرفه وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: من يشتري العبد. فقال: يا رسول الله إذاً والله تجدني كاسداً. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ولكن عند الله لست بكاسد - أو قال: لكن عند الله غال) رواه الترمذي في الشمائل وأحمد وصححه الحافظ ابن حجر والألباني. مختصر الشمائل المحمدية ص 127.(5/248)
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: (كان ابن لأم سليم يقال له أبو عمير، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربما مازحه إذا جاء فدخل يوماً يمازحه فوجده حزيناً فقال: ما لي أرى أبا عمير حزيناً؟ فقالوا: يا رسول الله مات نغره الذي كان يلعب به. فجعل يناديه - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا عمير ما فعل النغير) رواه البخاري. وغير ذلك من الأحاديث.
ولكن المزاح قد يخرج عن الإباحة إلى التحريم إذا اشتمل المزاح على سخرية واستهزاء فيحرم شرعاً المزاح الذي يشتمل على تحقير مسلم أو استخفاف به، يقول الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ) سورة الحجرات الآية 11.
وثبت في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) رواه مسلم.
ولا يجوز أن يشتمل المزاح على اللمز والتنابز بالألقاب لقوله تعالى: (وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) سورة الحجرات الآية 11.
ولا يجوز أن يشتمل المزاح على ترويع المسلم وإخافته لما جاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً) رواه أبو داود وأحمد والطبراني وصححه الشيخ الألباني في غاية المرام ص 257.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جاداً ومن أخذ عصا أخيه فليردها) رواه أبو داود والترمذي وأحمد وقال الشيخ الألباني: حديث حسن. صحيح سنن أبي داود 3/944.
وكذلك لا يجوز أن يشتمل المزاح على الكذب من أجل أن يضحك الناس لما ورد في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب، ويل له! ويل له) رواه أبو داود والترمذي وأحمد وحسّنه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/268.
فالحديث نص صريح مؤكد على حرمة اختلاق أفعال وأقوال ذريعة لإضحاك الناس.(5/249)
قال المناوي في الحكمة من تكرار الويل في الحديث: [كرره إيذاناً بشدة هلكته، وذلك لأن الكذب وحده رأس كل مذموم وجماع كل فضيحة فإذا انضم إليه استجلاب الضحك الذي يميت القلب ويجلب النسيان ويورث الرعونة كان أقبح القبائح ومن ثم قال الحكماء: إيراد المضحكات على سبيل السخف نهاية القباحة] فيض القدير 6/369.
والحكمة من هذا المنع أنه يجرّ إلى وضع أكاذيب ملفقة على أشخاص معينين يؤذيهم الحديث عنهم كما أنه يعطي ملكة التدرب على اصطناع الكذب وإشاعته فيختلط في المجتمع الحقّ بالباطل والباطل بالحقّ ومن هذا المنطلق حرّم الإسلام الكذب على وجه العموم وتوعّد المتخلق به عاقبة سوء فقد جاء في الحديث عن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) رواه البخاري ومسلم] قضايا اللهو والترفيه بين الحاجة النفسية والضوابط الشرعية ص 210-211.
هذا بالنسبة للمزاح وأما اشتمال النكات والمزاح على الاستخفاف بالأمور الشرعية فهذا حرام شرعاً وقد يكون في بعض الحالات كفراً مخرجاً من الملة والعياذ بالله.
فالاستخفاف بالله سبحانه وتعالى كوصف الله سبحانه وتعالى بما لا يليق فهذا كفر صريح مخرج من الملة والعياذ بالله كوصف الله سبحانه وتعالى بالإجرام عند وفاة شخص عزيز على الإنسان فهذا كفر لا شك فيه.
وقد اتفق العلماء على أن الاستخفاف بالله تعالى بالقول أو الفعل أو الاعتقاد حرام وفاعله مرتد عن الإسلام سواء أكان مازحاً أم جاداً. الموسوعة الفقهية 3/249.
ويدل على ذلك قوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا(5/250)
نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) سورة التوبة الآية 65.
وكذلك الاستخفاف بالعقيدة الإسلامية بشكل عام كالاستخفاف والاستهزاء بالملائكة والأنبياء والمرسلين، قال تعالى: (إن الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا) سورة الأحزاب الآية 57.
ومن ذلك الاستخفاف بالجنة والاستهزاء بما أعده الله من جزاء للطائعين فيها كمن يستهزئ بما أعده الله لعباده الصالحين من الحور العين وغير ذلك فهذا حرام قطعاً.
ومثله الاستخفاف والاستهزاء بالأحكام الشرعية ومثله الاستهزاء والاستخفاف بالصحابة رضوان الله عليهم.
حكم التسليم بالإشارة
يقول السائل: ما حكم التسليم على المسلم بالإشارة، وما قولكم في استعمال عبارات صباح الخير ومساء الخير ونحوها بدلاً من لفظ السلام عليكم؟
الجواب: التسليم أي طرح السلام من السنن الثابتة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد صح في الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف) رواه البخاري ومسلم.
وثبت في الحديث أيضاً عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: (أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع: بعيادة المريض واتباع الجنائز وتشميت العاطس ونصر الضعيف وعون المظلوم وإفشاء السلام وإبرار المقسم) رواه البخاري ومسلم.(5/251)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) رواه مسلم.
والأصل في التسليم أن يكون باللسان أي باللفظ وليس باليد أو بالرأس بدون تلفظ.
والسلام بالإشارة باليد أو بالرأس بدون تلفظ مكروه عند أهل العلم لما ورد في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع وتسليم النصارى بالكف) رواه الترمذي وضعفه ولكن له شواهد تقويه لذا حسنه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/346، وفي السلسلة الصحيحة 5/227.
ويؤيد ذلك ويقويه ما رواه النسائي في عمل اليوم والليلة ص 288 عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تسلموا تسليم اليهود فإن تسليمهم بالرؤوس والأكف والإشارة) ، قال الحافظ ابن حجر: أخرجه النسائي بسند جيد. فتح الباري 13/255.
ويؤيد ذلك أيضاً أن السلف كانوا يكرهون التسليم باليد فقد روى الإمام البخاري في الأدب المفرد عن عطاء بن أبي رباح قال: كانوا يكرهون التسليم باليد. وقال الشيخ الألباني: صحيح الإسناد. صحيح الأدب المفرد 1/385. وقال الشيخ الألباني في موضع آخر: وإسناده صحيح على شرطه في الصحيح. حجاب المرأة المسلمة ص 99.
ويجوز التسليم بالإشارة مع التلفظ إذا كان المسلًّم عليه بعيداً بحيث لا يسمع التسليم قال العلامة فضل الله الجيلاني: [والنهي عن السلام بالإشارة مخصوص بمن قدر على اللفظ حساً وشرعاً وإلا فهي مشروعة لمن يكون في شغل يمنعه من التلفظ بجواب السلام كالمصلي والبعيد والأخرس وكذا الأصم] فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد 2/489.
وقال الحافظ ابن حجر: [واستدل بالأمر بإفشاء السلام على أنه لا(5/252)
يكفي سراً بل يشترط الجهر وأقله أن يسمع في الابتداء وفي الجواب.
ولا تكفي الإشارة باليد ونحوه ... ويستثنى من ذلك حالة الصلاة فقد وردت أحاديث جيدة أنه - صلى الله عليه وسلم - ردَّ السلام وهو يصلي إشارة ... وكذا من كان بعيداً بحيث لا يسمع التسليم يجوز السلام عليه إشارة ويتلفظ مع ذلك بالسلام) فتح الباري 13/255.
ويجب أن يعلم أن تحية المسلمين هي السلام وليس صباح الخير ولا مساء الخير ولا أي عبارة أخرى سواء أكانت بالعربية أو بغيرها من اللغات كما يفعل بعض الناس حيث إنهم يحيون بعضهم بعضاً بألفاظ غير عربية.
فالسلام هو تحية أهل الإسلام بل إنها تحية أهل الجنة أيضاً، قال الله تعالى: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْءَابَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) سورة الرعد الآيتان 23-24.
وقال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) سورة النور الآية 27.
وقال تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) سورة الذاريات الآيتان 24 - 25.
فتحية الأنبياء والملائكة والمسلمين هي السلام فقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (خلق الله عز وجل آدم على صورته - أي صورة آدم - فلما خلقه قال: اذهب فسلم على أؤلئك، نفر من الملائكة جلوس فاستمع ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه ورحمة الله) رواه البخاري ومسلم.
فالسلام هي تحيتنا التي ينبغي أن نستعملها وهي تحية عظيمة تحمل معنى عظيماً فهي دعاء بالسلامة من الآفات في الدين والنفس ولأن في تحية(5/253)
المسلمين بعضهم لبعض بهذا اللفظ عهداً بينهم على صيانة دمائهم وأعراضهم وأموالهم. الموسوعة الفقهية 25/156.
ولا ينبغي للمسلمين أن يستبدلوا هذه التحية العظيمة بألفاظ مستوردة مثل: Good morning، أو بونجور، أو صباح الخير، أو مساء الخير.
قال الله تعالى: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) سورة البقرة الآية 61.
وقد كره العلماء استعمال هذه الألفاظ وأمثالها، قال الشيخ ابن حجر الهيتمي المكي: [مطلب على أنه تكره التحية بصباح الخير بخلاف صبحك الله بالخير] الفتاوى الحديثية ص 133.
وقال الأستاذ عمر فروخ: [ومعظم الناس إذا حيا بعضهم بعضاً قالوا: صباح الخير أو مساء الخير! والرد على هذه التحية هو: صباح النور، مساء النور، وهذه التحية هي التحية المجوسية يعتقد المجوسي بقوتين: الخير والشر يمثلهما النور والظلمة. وللمجوسي إله للخير أو النور، وإله للشر أو الظلمة وهما يتنازعان السيطرة على العالم فكان من المعقول أن يحي المجوس بعضهم بعضاً بقولهم: صباح الخير - صباح النور! ومع أن الإسلام قد أمرنا بأن نأخذ تحية الإسلام: (السلام عليكم) مكان كل تحية أخرى فلا يزال العرب في معظمهم - من المسلمين ومن غير المسلمين - يتبادلون التحية بقولهم صباح الخير-صباح النور] معجم المناهي اللفظية ص 334-335.
قبول هدية غير المسلم
يقول السائل: إنه يعمل عند شخص غير مسلم وقد أهداه هدية فقبلها فما حكم ذلك؟
الجواب: يجوز للمسلم أن يقبل الهدية من غير المسلم بشرطها كما سأذكر فيما بعد ويدل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل هدية غير المسلمين وأهدى لهم.(5/254)
قال الإمام البخاري: [" باب قبول الهدية من المشركين " وقال أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هاجر ابراهيم عليه السلام بسارة فدخل قرية فيها ملك أو جبار، فقال: أعطوها آجر - هاجر -.
وأُهديت للنبي - صلى الله عليه وسلم - شاة فيها سم. وقال أبو حميد: أهدى ملك أيلة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بغلة بيضاء فكساه برداً وكتب إليه ببجرهم] .
ثم روى البخاري بسنده عن أنس قال: (أهدي للنبي - صلى الله عليه وسلم - جبة من سندس وكان ينهى عن الحرير فعجب الناس منها فقال: والذي نفس محمد بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا. وقال سعيد عن قتادة عن أنس: إن أكيدر دومة أهدى إلى النبي- صلى الله عليه وسلم -) .
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: (أن يهودية أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - بشاة مسمومة فأكل منها فجيء بها فقيل: ألا نقتلها؟ قال: لا. فما زلت أعرفها في لهوات - جمع لهات وهي سقف الحلق - رسول الله- صلى الله عليه وسلم -) .
وعن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال: (كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثين ومائة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل مع أحد منكم طعام؟ فإذا مع رجل صاع من طعام أو نحوه فعجن ثم جاء رجل مشرك مشعان طويل بغنم يسوقها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: بيعاً أم عطية؟ أو قال: أم هبة؟ قال: لا، بل بيع، فاشترى منه شاة فصنعت وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بسواد البطن أن يشوى وأيم الله ما في الثلاثين ومائة إلا وقد حز النبي - صلى الله عليه وسلم - له حزة من سواد بطنها إن كان شاهداً أعطاها إياه وإن كان غائباً خبأ له فجعل منها قصعتين فأكلوا أجمعون وشبعنا ففضلت القصعتان فحملناه على البعير أو كما قال] صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 6/158-160.
قال الحافظ ابن حجر: [قوله باب قبول الهدية من المشركين، أي جواز ذلك وكأنه أشار إلى ضعف الحديث الوارد في رد هدية المشرك وهو ما أخرجه أبو موسى بن عقبة في المغازي عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ورجال من أهل العلم أن عامر بن مالك الذي يدعى ملاعب الأسنة قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مشرك فأهدى له(5/255)
فقال: إني لا أقبل هدية مشرك، الحديث. رجاله ثقات إلا أنه مرسل وقد وصله بعضهم عن الزهري ولا يصح. وفي الباب حديث عياض بن حمار أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما من طريق قتادة عن يزيد بن عبد الله عن عياض قال: أهديت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ناقة فقال: أسلمت؟ قلت: لا، قال: إني نهيت عن زبد المشركين. والزبد بفتح الزاي وسكون الموحدة الرفد صححه الترمذي وابن خزيمة] فتح الباري 6/158.
وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن النهي عن قبول هدية المشركين المذكور في الحديث السابق منسوخ كما ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح 6/158.
ونقل العيني عن الخطابي قوله: [يشبه أن يكون هذا الحديث منسوخاً لأنه - صلى الله عليه وسلم - قبل هدية غير واحد من المشركين أهدى له المقوقس مارية والبغلة وأهدى له أكيدر دومة فقبل منهما] عمدة القاري 9/436.
وقد ذكر العيني عدداً من الأحاديث في قبول النبي- صلى الله عليه وسلم - لهدايا الكفار منها: (عن أنس أن أكيدر دومة الجندل أهدى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبة من سندس) رواه مسلم.
ومنها حديث بلال - رضي الله عنه - الطويل في قصة الدين الذي تحمله بلال - رضي الله عنه - فقال له رسول الله: (أبشر فقد جاء الله بقضائك. ثم قال: ألم تر الركائب المناخات الأربع؟ فقلت: بلى. فقال: إن لك رقابهن وما عليهن فإن عليهن كسوة وطعاماً أهداهن إلي عظيم فدك فاقبضهن واقض دينك. ففعلت) رواه أبو داود وقال الشيخ الألباني صحيح الإسناد. صحيح سنن أبي داود 2/592.
وعن عبد الله بن الزبير قال: (قدمت قتيلة ابنة عبد العزى على ابنتها أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما بهدايا ضباب وأقط وسمن وهي مشركة فأبت أسماء أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها، فسألت عائشة النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله عز وجل: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) فأمرها أن تقبل(5/256)
هديتها وتدخلها بيتها) رواه أحمد والطبراني وجوّده، كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/152. وغير ذلك من الأحاديث.
وخلاصة الأمر أنه يجوز قبول هدية غير المسلمين بشرط أن تكون الهدية مما له قيمة في عرف الشرع فلا يجوز للمسلم أن يقبل الخمر كهدية لأن الخمر مال غير متقوم شرعاً.
كما أنه يجوز أن للمسلم أن يهدي لغير المسلم وخاصة إذا كان ذا رحم للمسلم، قال الإمام البخاري: [باب الهدية للمشركين وقوله الله تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) .
ثم روى البخاري بإسناده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (رأى عمر حلة على رجل تباع، فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - ابتع هذه الحلة تلبسها يوم الجمعة وإذا جاءك الوفد، فقال: إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة، فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها بحلل فأرسل إلى عمر منها بحلة فقال عمر: كيف ألبسها وقد قلت فيها ما قلت؟ قال: إني لم أكسكها لتلبسها تبيعها أو تكسوها فأرسل بها عمر إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يسلم) .
وروى البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: (قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستفتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قلت إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصل أمي؟ قال: نعم، صلي أمك) صحيح البخاري مع الفتح 6/160-162.
وذكر الحافظ ابن حجر أن المراد من سياق الآية التي ذكرها البخاري بيان من يجوز بره من المشركين وأن الهدية للمشرك إثباتاً ونفياً والتواد المنهي عنه في قوله تعالى: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) فتح الباري 6/160.(5/257)
تعزية غير المسلم
يقول السائل: كيف نعزي غير المسلمين بموتاهم؟
الجواب: يجوز للمسلم أن يعزي غير المسلم في ميته وهذا قول جمهور أهل العلم وذكر العلماء عدة عبارات تقال في هذه التعزية منها:
- أخلف الله عليك ولا نقص عددك.
- أعطاك الله على مصيبتك أفضل ما أعطى أحداً من أهل دينك. المغني 2/46.
- ألهمك الله الصبر وأصلح بالك، ومنها: أكثر الله مالك وأطال حياتك أو عمرك.
- ومنها لا يصيبك إلا خير. أحكام أهل الذمة 1/161.
دخول النجاسة في المصنوعات
يقول السائل: إن كثيراً من الأدوية ومواد التنظيف مثل بعض أنواع الصابون والشامبو يدخل في تركيبها عناصر مأخوذة من حيوانات ميتة أو من الخنزير أو الكحول، فما حكم استعمالها؟
الجواب: لا شك أن التقدم العلمي الكبير في مجال الصناعة وما يتبعها حمل في طياته مشكلات عويصة للناس وخاصة في معرفة مركبات المصنوعات التي يتناولها المسلم كالأغذية والأدوية والأشربة المختلفة الأشكال والأنواع ومما زاد في صعوبة الأمر أن العناصر المكونة للمنتج غذاءً كان أو دواءً - وإن كتبت على العبوات - إلا أن كثيراً منها عبارة عن اصطلاحات علمية لا يعرف حقيقتها كثير من الناس لذا صار الأمر عسراً على المسلم وخاصة إذا علمنا أن كثيراً من هذه المنتجات مستوردة.(5/258)
وإزاء هذا الوضع يمكننا القول إن على المسلم أن يتعرف على المواد التي يتناولها ويسأل أهل الخبرة في ذلك بقدر الاستطاعة ولا يجوز للمسلم أن يطلق الأحكام بالتحريم دونما تثبت لأن الأصل في الأشياء الإباحة، قال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) سورة لقمان الآية 20.
وقال تعالى أيضاً: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَميعًا) سورة البقرة الآية 29.
وجاء في الحديث عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرَّم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو. فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئاً وتلا: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا)) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي وحسّنه الشيخ الألباني. غاية المرام ص 14.
ومطلوب من المسلم أيضاً أن يتقي الشبهات بقدر الوسع والطاقة.
إذا تقرر هذا فنعود إلى السؤال ونقول إن الإسلام حرّم الميتة وحرّم استعمالها وكذا حرّم الخنزير ويترتب على ذلك حرمة استعمالهما في المأكل والمشرب باتفاق العلماء وإثبات نجاستهما.
وأما الكحول فهو محرم وليس بنجس لأنه لم يثبت دليل على نجاسته وليس كل محرم نجس فالحرير محرم على الذكور وليس بنجس والسمَّ حرام وليس بنجس.
وقد قرر الفقهاء أن هذه المواد المحرّمة تبقى محرمة ما دامت على حالها لم تتغير صفاتها وطبائعها ولكن إن تغيرت تلك الأوصاف والطبائع فيتغير الحكم وهذا ما يعرف عند الفقهاء بالاستحالة وهي تغير الشيء عن صفته وطبعه. الموسوعة الفقهية 10/278.
أو هي تغير حقيقة المادة النجسة أو المحرم تناولها وانقلاب عينها إلى مادة مباينة لها في الاسم والخصائص والصفات ويعبر عنها في المصطلح(5/259)
العلمي الشائع بأنها كل تفاعل كيميائي يحول المادة إلى مركب آخر كتحول الزيوت والشحوم على اختلاف مصادرها إلى صابون وتحلل المادة إلى مكوناتها المختلفة كتفكك الزيوت والدهون إلى حموض دسمة وغليسرين وكما يحصل التفاعل الكيميائي بالقصد إليه بالوسائل العلمية الفنية يحصل أيضاً - بصورة غير منظورة - في الصورة التي أوردها الفقهاء على سبيل المثال: كالتخلل والدباغة والإحراق، وبناءً على ذلك تعتبر:
1. المركبات الإضافية ذات المنشأ الحيواني المحرَّم أو النجس التي تتحقق فيها الاستحالة - كما سبقت الإشارة إليها - تعتبر طاهرة حلال التناول في الغذاء والدواء.
2. المركبات الكيميائية المستخرجة من أصول نجسة أو محرّمة كالدم المسفوح أو مياه المجاري والتي لم تتحقق فيها الاستحالة بالمصطلح المشار إليه لا يجوز استخدامها في الغذاء والدواء مثل: الأغذية التي يضاف إليها الدم المسفوح كالنقانق المحشوة بالدم، والعصائد المدماة " البودينغ الأسود " والهابمرجر المدمى وأغذية الأطفال المحتوية على الدم وعجائن الدم والحساء بالدم ونحوها، تعتبر طعاماً نجساً محرّم الأكل لاحتوائها على الدم المسفوح الذي لم تتحقق به الاستحالة.
أما بلازما الدم - التي تعتبر بديلاً رخيصاً لزلال البيض - وقد تستخدم في الفطائر والحساء والعصائد [بودينغ] والخبز ومشتقات الألبان وأدوية الأطفال وأغذيتهم والتي قد تضاف إلى الدقيق فقد رأت الندوة أنها مادة مباينة للدم في الاسم والخصائص والصفات فليس لها حكم الدم.
الاستهلاك:
ويكون ذلك بامتزاج مادة محرّمة أو نجسة بمادة أخرى طاهرة حلال غالبة مما يذهب عنها صفة النجاسة والحرمة شرعاً إذا زالت صفات ذلك المخالط المغلوب من الطعم واللون والرائحة حيث يصير المغلوب مستهلكاً بالغالب ويكون الحكم للغالب ومثال ذلك:(5/260)
1. المركبات الإضافية التي يستعمل من محلولها في الكحول كمية قليلة جداً في الغذاء والدواء كالملونات والحافظات والمستحلبات مضادات الزنخ.
2. الليستين والكوليسترول المستخرجان من أصول نجسة بدون استحالة يجوز استخدامهما في الغذاء والدواء بمقادير قليلة جداً مستهلكة في المخالط الغالب الحلال الطاهر.
3. الأنزيمات الخنزيرية المنشأ كالببسين وسائر الخمائر الهاضمة ونحوها المستخدمة بكميات زهيدة مستهلكة في الغذاء والدواء الغالب.
وترى الندوة ما يلي:
1. إن المذيبات الصناعية والمواد الحاملة والدافعة للمادة الفعالة في العبوات المضغوطة إذا استخدمت وسيلة لغرض أو منفعة مشروعة جائزة شرعاً أما استعمالها من أجل الحصول على تأثيرها المخدر أو المهلوس باستنشاقها فهو حرام شرعاً اعتباراً للمقاصد ومآلات الأفعال] توصيات الندوة الفقهية الطبية التاسعة / مجلة المجمع الفقهي عدد10 ج 2/ 461-463.
وقد بحثت المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية موضوع المواد المحرمة في الغذاء والدواء وقررت ما يلي:
[- مادة الكحول غير نجسة شرعاً بناءً على ما سبق تقريره من أن الأصل في الأشياء الطهارة سواء كان الكحول صرفاً أم مخففاً بالماء ترجيحاً للقول بأن نجاسة الخمر وسائر المسكرات معنوية غير حسية لاعتبارها رجساً من عمل الشيطان.
وعليه فلا حرج شرعاً من استخدام الكحول طبياً كمطهر للجلد والجروح والأدوات وقاتل للجراثيم أو استعمال الروائح العطرية [ماء الكولونيا] التي يستخدم الكحول فيها كمذيب للمواد العطرية الطيارة أو استخدام الكريمات التي يدخل الكحول فيها. ولا ينطبق ذلك على الخمر لحرمة الانتفاع به.(5/261)
- لما كان الكحول مادة مسكرة فيحرم تناولها وريثما يتحقق ما يتطلع إليه المسلمون من تصنيع أدوية لا يدخل الكحول في تركيبها ولا سيما أدوية الأطفال والحوامل فإنه لا مانع شرعاً من تناول الأدوية التي تصنع حالياً ويدخل في تركيبها نسبة ضئيلة من الكحول لغرض الحفظ أو إذابة بعض المواد الدوائية التي لا تذوب في الماء على ألا يستعمل الكحول فيها كمهدىء وهذا حيث لا يتوافر بديل عن تلك الأدوية.
- لا يجوز تناول المواد الغذائية التي تحتوي على نسبة من الخمور مهما كانت ضئيلة ولا سيما الشائعة في البلاد الغربية كبعض الشكولاته وبعض أنواع المثلجات " الآيس كريم، الجيلاتي، البوظة " وبعض المشروبات الغازية اعتباراً للأصل الشرعي في أن ما أسكر كثيره فقليله حرام ولعدم قيام موجب شرعي استثنائي للترخيص فيها.
- المواد الغذائية التي يستعمل في تصنيعها نسبة ضئيلة من الكحول لإذابة بعض المواد التي لا تذوب بالماء من ملونات وحافظات وما إلى ذلك يجوز تناولها لعموم البلوى ولتبخر معظم الكحول المضاف أثناء تصنيع الغذاء.
- المواد الغذائية التي يدخل شحم الخنزير في تركيبها دون استحالة عينه مثل بعض الأجبان وبعض أنواع الزيت والدهن والسمن والزبد وبعض أنواع البسكويت والشكولاته والآيس كريم، هي محرمة ولا يحل أكلها مطلقاً اعتباراً لإجماع أهل العلم على نجاسة شحم الخنزير وعدم حل أكله ولانتفاء الاضطرار إلى تناول هذه المواد.
- الأنسولين الخنزيري المنشأ يباح لمرضى السكري التداوي به للضرورة بضوابطها الشرعية.
-الاستحالة التي تعني انقلاب العين إلى عين أخرى تغايرها في صفاتها تحول المواد النجسة أو المتنجسة إلى مواد طاهرة وتحول المواد المحرمة إلى مواد مباحة شرعاً.
وبناءً على ذلك:(5/262)
- الجيلاتين المتكون من استحالة عظم الحيوان النجس وجلده وأوتاره: طاهر وأكله حلال.
-الصابون الذي ينتج من استحالة شحم الخنزير أو الميتة يصير طاهراً بتلك الاستحالة ويجوز استعماله.
- الجبن المنعقد بفعل إنفحة ميتة الحيوان المأكول اللحم طاهر ويجوز تناوله.
- المراهم والكريمات ومواد التجميل التي يدخل في تركيبها شحم الخنزير لا يجوز استعمالها إلا إذا تحققت فيها استحالة الشحم وانقلاب عينه. أما إذا لم يتحقق ذلك فهي نجسة.
- المواد المخدرة محرمة لا يحل تناولها إلا لغرض المعالجة الطبية المتعينة وبالمقادير التي يحددها الأطباء وهي طاهرة العين.
ولا حرج في استعمال جوزة الطيب ونحوها في إصلاح نكهة الطعام بمقادير قليلة لا تؤدي إلى التفتير أو التخدير] توصيات الندوة الثامنة للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية / الفقه الإسلامي وأدلته 9/662-664.
وأخيراً فإن على أصحاب مصانع الأغذية والمشروبات وألأدوية أن يراعوا الحلال والحرام في منتوجاتهم وأن يتقوا الله في ذلك وأن يعلموا أنهم مسؤولون أمام الله عز وجل الذي لا تخفى عليه خافية وأن يجنبوا الناس تناول المحرمات ويبعدوهم عن الشبهات.
حديثان مكذوبان
أعطاني أحد المصلين نشرتين وجدهما معلقتين في المسجد تتضمن الأولى منهما حديثاً قدسياً وتتضمن الأخرى حديثاً طويلاً وسألني هل هذين الحديثين ثابتين؟!
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا هو نص الحديث الأول كما جاء في النشرة وعنوانها " حديث قدسي جليل ": [عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: قال الله(5/263)
عز وجل: يا ابن آدم لا تخف من ذي سلطان ما دام سلطاني باقياً وسلطاني لا يزول أبداً، يا ابن آدم لا تخشى من ضيق رزق ما دامت خزائني مملوءة وخزائني لا تنفذ أبداً، يا ابن آدم لا تطلب غيري وأنا لك فإن طلبتني وجدتني وإن فتني فتك وفاتك الخير كله، يا ابن آدم خلقتك للعبادة فلا تلعب وقسمت لك رزقاً فلا تتعب فإن أنت رضيت بما قسمته لك أرحت لك قلبك وبدنك وكنت عندي محموداً وإن لم ترض بما قسمته لك فوعزتي وجلالي لأسلطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في البرية ثم لا يكون لك منها إلا ما قسمته لك وكنت عندي مذموماً، يا ابن آدم خلقت السموات السبع والأرضين السبع ولم أعيَ بخلقهنّ أَفيعييني رغيف عيش أسوقه لك بلا تعب! يا ابن آدم إنه لم أنسى من عصاني فكيف من أطاعني وأنا رب رحيم وعلى كل شيْ قدير! يا ابن آدم لا تسألني رزق غدٍ كما لم أطلب منك عمل غد، يا ابن آدم أنا لك محب فبحقي عليك كن لي محباً] عن أحمد والترمذي وابن ماجه.
وأما نص الحديث الثاني فقد جاء في النشرة بعنوان " الحديث الشريف الذي جمع فأوعى ": [عن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله: جئت أسألك عما يغنيني في الدنيا والآخرة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سل عما بدا لك: قال: أريد أن أكون أعلم الناس. فقال - صلى الله عليه وسلم -: اتق الله تكن أعلم الناس. قال: أريد أن أكون أغنى الناس. فقال - صلى الله عليه وسلم -: كن قانعاً تكن أغنى الناس. قال: أحب أن أكون أعدل الناس. فقال - صلى الله عليه وسلم -: أحب للناس ما تحب لنفسك تكن أعدل الناس. قال: أحب أن أكون خير الناس. فقال - صلى الله عليه وسلم -: كن نافعاً للناس تكن خير الناس. قال: أحب أن أكون أخص الناس إلى الله. فقال - صلى الله عليه وسلم -: أكثر ذكر الله تكن أخص الناس إلى الله. قال: أحب أن يكمل إيماني. فقال - صلى الله عليه وسلم -: حسن خلقك يكمل إيمانك. قال: أحب أن أكون من المحسنين. فقال - صلى الله عليه وسلم -: اعبد الله كأنك تراه وإن لم تكن تراه فإنه يراك تكن من المحسنين. قال: أحب أن أكون من المطيعين. فقال - صلى الله عليه وسلم -: أد فرائض الله تكن من المطيعين. قال: أحب أن ألقى الله نقياً من الذنوب.(5/264)
فقال - صلى الله عليه وسلم -: اغتسل من الجنابة متطهراً تلقى الله نقياً من الذنوب. قال: أحب أن أحشر يوم القيامة في النور. فقال - صلى الله عليه وسلم -: لا تظلم أحداً تحشر يوم القيامة في النور. قال: أحب أن يرحمني ربي يوم القيامة. فقال - صلى الله عليه وسلم -: ارحم نفسك وارحم عباده يرحمك ربك يوم القيامة. قال: أحب أن تقل ذنوبي. فقال - صلى الله عليه وسلم -: أكثر من الاستغفار تقل ذنوبك. قال: أحب أن أكون أكرم الناس. فقال - صلى الله عليه وسلم -: لا تشكو من أمرك شيئاً إلى الخلق تكن
أكرم الناس. قال: أحب أن أكون أقوى الناس. قال - صلى الله عليه وسلم -: توكل على الله تكن أقوى الناس. قال: أحب أن يوسع الله علي في الرزق. قال - صلى الله عليه وسلم -: دم على الطهارة يوسع الله عليك في الرزق. قال: أحب أن أكون من أحباب الله ورسوله. قال - صلى الله عليه وسلم -: أحب ما أحبه الله ورسوله تكن من أحبابهم. قال: أحب أن أكون آمناً من سخط الله يوم القيامة. قال - صلى الله عليه وسلم -: لا تغضب على أحدٍ من خلق الله تكن آمناً من سخط الله يوم القيامة. قال: أحب أن تٌستجاب دعوتي. قال - صلى الله عليه وسلم -: اجتنب أكل الحرام تستجاب دعوتك. قال: أحب أن يسترني ربي يوم القيامة. قال - صلى الله عليه وسلم -: استر عيوب إخوانك يسترك الله يوم القيامة. قال: ما الذي ينجي من الذنوب؟ أو قال من الخطايا؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: الدموع والخضوع والأمراض. قال: أي حسنة أعظم عند الله تعالى؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: حسن الخلق والتواضع والصبر على البلاء. قال: أي سيئة أعظم عند الله تعالى؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: سوء الخلق والشح المناع. قال: ما الذي يسكن غضب الرب في الدنيا والآخرة؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: الصدقة الخفية وصلة الرحم. قال: ما الذي يطفئ نار جهنم يوم القيامة؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: الصبر في الدنيا على البلاء والمصائب] .
قال الإمام المستغفري: ما رأيت حديثاً أعظم وأشمل لمحاسن الدين وأنفع من هذا الحديث جمع فأوعى. رواه الإمام أحمد بن حنبل.
الجواب: هذان الحديثان الطويلان ليس لهما أصل في كتب السنة النبوية وعلامات الوضع ظاهرة عليهما أي الكذب ومن المعلوم أن الحديث الموضوع هو الكذب المختلق كما ذكره الشيخ القاسمي في قواعد التحديث ص 155.(5/265)
فالحديث الأول وهو حديث قدسي كما جاء في النشرة ما هو إلا كذب على الله سبحانه وعلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أنه كذب على الأئمة الذين ذكروا في النشرة على أنهم خرجوا الحديث في كتبهم وهم أحمد والترمذي وابن ماجة وقد بحثت عنه في كتبهم وهي المسند للإمام أحمد وسنن الترمذي وسنن ابن ماجة فلم أجد الحديث فيها ولا ذكره أحد من الذين صنفوا الفهارس الحديثية، وكذلك فإن الحديث لا يوجد في الكتب التي اعتنت بالأحاديث القدسية.
وأما الحديث الثاني فواضح أنه مكذوب باطل. وينبغي أن يعلم أن جماعة من أدعياء الزهد والورع والدجاجلة يزعمون أنهم يرغبون الناس في السنة النبوية فيكذبون على رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فيحتسبون وضعهم للأحاديث في الترغيب والترهيب ظناً منهم أنهم يتقربون إلى الله ويخدمون دين الإسلام ويحببون الناس في العبادات والطاعات ولما أنكر العلماء عليهم ذلك وذكروهم بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من كذب عليّ عامداً متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) قالوا: نحن نكذب له - صلى الله عليه وسلم - لا عليه، وهذا كله من الجهل بالدين وغلبة الهوى والغفلة ومن أمثلة ما وضعوه في هذا السبيل حديث فضائل القرآن سورة سورة فقد اعترف بوضعه نوح بن أبي مريم واعتذر لذلك بأنه رأى الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي ابن إسحاق ومن هؤلاء الوضاعين غلام خليل وقد كان زاهداً متخلياً عن الدنيا وشهواتها منقطعاً إلى العبادة والتقوى محبوباً من العامة حتى أن بغداد أغلقت أسواقها يوم وفاته حزناً عليه ومع ذلك فقد زين له الشيطان وضع أحاديث في فضائل الأذكار والأوراد حتى قيل له: هذه الأحاديث التي تحديث بها من الرقائق؟ فقال: وضعناها لنرقق بها قلوب العامة انظر كتاب السنة ومكانتها في التشريع ص 87.
وقال الإمام أبو حامد الغزالي: [وقد ظن ظانون أنه يجوز وضع الأحاديث في فضائل الأعمال وفي التشدد في المعاصي وزعموا أن القصد منه صحيح وهو خطأ محض إذ قال - صلى الله عليه وسلم -: (من كذب علي عامداً متعمداً(5/266)
فليتبوأ مقعده من النار) وهذا لا يترك إلا لضرورة ولا ضرورة إذ في الصدق مندوحة عن الكذب ففيما ورد من الآيات والأخبار كفاية عن غيرها وقول القائل: إن ذلك قد تكرر على الأسماع وسقط وقعه وما هو جديد فوقعه أعظم فهذا هوس إذ ليس هذا من الأغراض التي تقاوم محذور الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى الله تعالى ويؤدي فتح بابه إلى أمور تشوش الشريعة فلا يقاوم خير هذا شره أصلاً والكذب على رسول الله- صلى الله عليه وسلم - من الكبائر التي لا يقاومها شيء نسأل الله العفو عنا وعن جميع المسلمين] إحياء علوم الدين 2/68.
إن من واجب أهل العلم أن يتصدوا لهؤلاء الذين ينشرون مثل هذه الأحاديث المكذوبة بين الناس ويعلقونها في المساجد وأن يبينوا لهؤلاء أن في الأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يغني ويكفي عن مثل هذه المكذوبات.
قال الإمام الشوكاني: [فلما كان تمييز الموضوع من الحديث على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أجل الفنون وأعظم العلوم وأنبل الفوائد من جهات يكثر تعدادها ولو لم يكن منها إلا تنبيه المقصرين من علم السنة على ما هو مكذوب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويحذروا من العمل به واعتقاد ما فيه وإرشاد الناس إليه. كما وقع لكثير من المصنفين في الفقه والمتصدرين للوعظ والمشتغلين بالعبادة والمتعرضين للتصنيف في الزهد فيكون لمن بين لهؤلاء ما هو كذب من السنة أجر من قام بالبيان الذي أوجبه الله مع ما في ذلك من تخليص عباد الله من معرة العمل بالكذب وأخذه على أيدي المتعرضين لما ليس من شأنه من التأليف والاستدلال والقيل والقال، وقد أكثر العلماء رحمهم الله من البيان للأحاديث الموضوعة وهتكوا أستار الكذابين ونفوا عن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتحال المبطلين وتحريف الغالين وافتراء المفترين وزور المزورين] الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ص 3.(5/267)
قول عبارة "عليه السلام " عند ذكر علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -
يقول السائل: إنه لاحظ أن بعض كتب الحديث كلما ذكر فيها علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قالوا: علي عليه السلام. فلماذا يخص علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بذلك دون غيره من الصحابة؟
الجواب: اتفق أهل العلم على أن آل النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلى عليهم بغير خلاف بين الأمة كما قال العلامة ابن القيم في جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام ص 259 والمسلمون يصلون على النبي وآله في صلواتهم.
وأما إفراد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بالسلام فهذا من فعل الشيعة وتأثر بهم بعض نساخ الكتب الدينية على مرّ العصور والأزمان.
قال العلامة القسطلاني: [وقد جرت عادة بعض النساخ أن يفردوا علياً وفاطمة رضي الله عنهما بالسلام فيقولوا عليه أو عليها السلام من دون سائر الصحابة رضي الله عنهم في ذلك. وهذا وإن كان معناه صحيحاً لكن ينبغي أن يساوى بين الصحابة رضي الله عنهم في ذلك فإن هذا من باب التعظيم والتكريم والشيخان وعثمان أولى بذلك منهما] المواهب اللدنية 3/355
وقد كره أهل العلم إفراد علي- رضي الله عنه - بالسلام دون غيره من الصحابة ولم يرد دليل يخصص علياً - صلى الله عليه وسلم - بذلك بل هو من فعل الشيعة وسرى ذلك إلى أهل السنة.
قال الإمام النووي: [وأما السلام فقال الشيخ أبو محمد الجويني من أصحابنا هو في معنى الصلاة فلا يستعمل في الغائب فلا يفرد به غير الأنبياء فلا يقال علي عليه السلام وسواء في هذا الأحياء والأموات] الأذكار ص 100.(5/268)
وعلل الحافظ ابن حجر المنع من ذلك لكونه صار شعاراً للرافضة. فتح الباري 13/424.
وما ذكره السائل في رسالته عن استعمال هذه العبارة كثيراً في نيل الأوطار للشوكاني وأحياناً في صحيح البخاري فهذا من فعل النساخ والعلم عند الله تعالى.
وأخيراً أنبه على عبارة دارجة ومستعملة أيضاً في حق علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - حيث يقولون عند ذكر علي كرّم الله وجهه، فاستعمال هذه العبارة من غلو الشيعة في علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - وليس لتخصيصه بذلك أي دليل شرعي فلا ينبغي استعمالها.
محدث العصر العلامة محمد ناصر الدين الألباني
إن هذا العام لجدير أن يسمى عام الحزن على العلماء، لقد فقد العالم الإسلامي ثلة خيرة طيبة من علماء المسلمين، فقدنا الشيخ الشعراوي والشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ علي الطنطاوي والشيخ مصطفى الزرقا وفقدنا أول أمس السبت محدث هذا العصر والأوان العلامة محمد ناصر الدين الألباني رحمهم الله رحمة واسعة وتقبلهم في الصالحين وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) رواه البخاري ومسلم.
وفي هذه المقالة القصيرة أحببت أن أقوم ببعض الواجب تجاه محدثنا الراحل فأذكر بعض ما كان فيه وبعض جوانب خدمته للسنة النبوية الشريفة وأنا أعلم أنني لن أوفيه حقه في هذه المقالة فإن الأمر يحتاج إلى مؤلفات ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله فأقول، هو محدث هذا العصر والزمان العالم الرباني أبو عبد الرحمن محمد ناصر الدين بن نوح نجاتي الأرناؤوط(5/269)
الألباني وكما يظهر من سياق نسبه أنه ليس عربي الأصل وإنما هو من مسلمي ألبانيا وهذا لا يضيره فإن كبار علماء المسلمين كانوا من غير العرب كالبخاري ومسلم وإمام الحرمين الجويني والغزالي وغيرهم كثير جداً.
اشتغل الشيخ الألباني بالحديث النبوي الشريف منذ عهد بعيد وقام على خدمة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقدم لنا أعمالاً جليلة وترك ثروة علمية كبيرة فقد مضى عليه أكثر من ستين عاماً وهو في هذا العمل الجليل دراسةً وتدريساً تأليفاً وتحقيقاً وعملاً ودعوة فرسخ في رياض الفقه قدمه وسبح في بحار التخريج قلمه فأتى بتحقيقات جليلة خلت عنها الدفاتر وأشار إلى تدقيقات نفيسة لم تحوها كتب الأكابر شهد له بذلك شائنوه قبل محبيه ومخالفوه قبل موافقيه.
ولذلك فإنني لست بمبالغ إذا قلت: إنه لا يستغني باحث هذه الأيام عن الرجوع إلى آرائه في التضعيف والتصحيح فإنها محض النصح النصيح ومخض عن زبد الحق الصريح ينقح فيها ما لا يستغني عن التنقيح ويرجح ما هو مفتقر إلى الترجيح ويوضح ما لا بد من التوضيح. انظر مقدمة الجامع المفهرس 1/11-12.
كان الشيخ الألباني يرحمه الله كما وصفه الشيخ محمد إبراهيم شقرة: [راحلة علم عالية السنام تامة الخلق متماسكة البناء تغدو إليها رواحل العلم خفافاً خماصاً وتروح عنها ثقالاً بطاناً فقد أنعم الله عليه بعلم أوثقه إلى القرون الأولى وأقامه على جادتها وأراه فيها من آيات العلم الكبرى فكان لزاماً عليها أن تقصده في رغبة مقسطة تعرف له بها حقاً لا تؤديه إياه إلا أن تأتيه بهذه الرغبة فلا يرتد طرفها عنه إلا بأخذها منه حظاً وافراً تعرف به أنه حظ لا يكون إلا منه وأن الشيخ ما نيل منه بأذى ولا ينال - إن نيل - إلا بسب الحسد فالحسد في الناس قديم ... وللشيخ - نفع الله بعلومه - تفرد علمي يقوم على أسس قوية وأهمها:
1. وضوح منهجه العلمي بكل مراحله وسماته وقواعده وأصوله التي يقوم عليها.(5/270)
2. قدرته الحوارية التي أمكنت لها في عقله إحاطته الواسعة بالسنن والآثار والأخبار.
3. حجته البالغة التي تداعت إليها الحجج وتناهت عندها الأدلة فأصاب منها قدراً وأعجز بها خصمه.
وهذه الثلاثة أفضت به إلى رابعة وهي:
4. شدته في الحق الذي يراه بما عنده من دليل وجرأته فيه لو عاد عليه بعداوة رعاع الناس فالعالم لا ترهبه عداوة الأعداء ولا ينعشه حب الأصدقاء والأولياء.
وفتاواه الصريحة الجريئة التي تناقلها الناس وشاعت في أرجاء الأرض في مناسبات شتى، شاهد عدل على ذلك] فتاوى الشيخ الألباني ص 3-4.
ولقد استفاد من علم الشيخ الألباني طلاب العلم الشرعي بل إن العلماء كانوا يطلبون منه أن يخرج لهم الأحاديث النبوية التي وردت في كتبهم كما في كتاب فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي يرحمه الله وكتاب الحلال والحرام للشيخ العلامة يوسف القرضاوي يحفظه الله.
خلف الشيخ الألباني ثروة علمية ضخمة أذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر:
1. إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل.
وهذا الكتاب أعظم مؤلفات الشيخ الألباني وقد خرج فيه 2707 حديثاً أوردها العلامة الشيخ إبراهيم بن محمد بن ضويان في كتابه منار السبيل شرح الدليل للشيخ مرعي الكرمي ويقع في ثماني مجلدات وكانت مدة عمل الشيخ الألباني فيه أكثر من عشر سنوات وألحق به جزء للفهارس.
2. سلسلة الأحاديث الصحيحة وصدر منها سبع مجلدات تضم ثلاثة ألاف حديث خرجها تخريجاً علمياً دقيقاً وموسعاً.
3. سلسلة الأحاديث الضعيفة وصدر منها خمس مجلدات تضم ألفين وخمسمئة حديث.(5/271)
4. صحيح الجامع الصغير وزيادته في ثلاثة مجلدات كبيرة مع ضعيف الجامع وبلغ مجموع أحاديثه أربعة عشر ألف حديث.
5. صحيح السنن الأربعة وضعيفها.
وهو مشروع علمي جليل حيث قام العلامة الألباني بالحكم على الأحاديث الواردة في كتب السنن الأربعة وهي سنن أبي داود وسنن الترمذي وسنن النسائي وسنن ابن ماجة وجعل عمله على قسمين: قسم لصحيح السنن وقسم آخر لضعيفها وأخرج لنا مجموعة علمية قيمة يقع الصحيح منها في أحد عشر مجلداً من الحجم الكبير ويقع الضعيف منها في أربع مجلدات.
هذا غيض من فيض من مؤلفات العلامة الألباني يرحمه الله والتي بلغت أكثر من ثمانين كتاباً مطبوعاً وخمسين كتاباً مخطوطاً.
وقد أثنى على الشيخ الألباني عدد كبير من علماء العصر كالشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد بن عثيمين والشيخ محمد المجذوب رحمهم الله والشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله.
ومن شعر الشيخ محمد المجذوب في الشيخ الألباني:
فما عسى أن يقول الشعر في رجل ... يدعوه حتى عداه ناصر الدين
وأي خير إذا فرد تجاهله ... وقد فشا فضله بين الملايين
وقال فيه الشيخ ابن عثيمين: [.. فالرجل طويل الباع واسع الاطلاع قوي الإقناع] .
وقال الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق: [كان ناصر الدين وما زال كالمطر لا يبالي على أي أرض سقط] انظر حياة الألباني وآثاره وثناء العلماء عليه.
وأخيراً فإن هذا العالم الرباني قد تطاول عليه كثيرون من أشباه طلبة العلم حسداً أو جهلاً أو إنكاراً لجهوده أو لأنهم لا يعترفون بأي عالم في(5/272)
عالمنا الإسلامي إلا إذا كان على مشربهم فإلى هؤلاء وأؤلئك أسوق كلمة الحافظ ابن عساكر النيرة وهي:
[إعلم يا أخي وفقنا الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة وإن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب ابتلاه الله تعالى قبل موته بموت القلب] .
رحم الله الشيخ الألباني رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته ونفعنا والمسلمين بعلمه.
والله الهادي إلى سواء السبيل
تم الكتاب بحمد الله(5/273)
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) سورة آل عمران الآية 102.
(يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) النساء الآية 1.
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) سورة الأحزاب الآيتان 70-71.
أما بعد، فإن أشرف الأمور قدراً وأعظمها أجراً تعليمُ العلم.
وقد منَّ الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالعلم فقال: (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) سورة النساء الآية 113.
وأظهر فضل آدم - صلى الله عليه وسلم - على الملائكة بالعلم فقال: (وَعَلَّمَءَادَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ) سورة البقرة الآية 31.
وورد عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(6/277)
يقول من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضى لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات، ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وهو حديث صحيح.
وورد عن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - قال: [ذُكِرَ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلان: أحدهما عابد، والآخر عالم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم) ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير) رواه الترمذي وهو حديث صحيح.
وأولى العلم بالتعلم بعد معرفة الله تعالى بالوحدانية والصفات والإيمان بملائكته وكتبه ورسله، علمُ الفقه ومعرفة أحكام الشرع، لأن الله تعالى خلق الخلق للعبادة، فقال جلَّ ذكره: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) سورة الذاريات الآية 56.
وأرسل الرسل إلى العباد، وأنزل معهم الكتاب ليبينوا لهم الشرائع والأحكام قال الله تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) سورة البقرة الآية 213.
وقال جلَّ ذكره: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ) سورة النساء الآية 105.
وقال جلَّ ذكره: (قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ ... الآية) سورة المائدة الآيتان 15-16.(6/278)
وقال جلَّ ذكره: (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ ... ) سورة آل عمران الآية 79.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (أي حكماء فقهاء) .
وورد عن ابن عباس ومعاوية رضي الله عنهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) رواه البخاري ومسلم.
وقال سفيان الثوري رحمة الله عليه: (ليس عملاً يُعملُ من الفرائض أفضل من طلب العلم) .
وقال الإمام الشافعي رحمة الله عليه: (طلب العلم أفضل من صلاة النافلة) وهو كما قال، لأن نفع صلاته لا تتعدى عنه، ونفع علمه يتعدى إلى كافة الناس، ولأن طلب العلم فريضة. (1)
ولما كان العلم والفقه بالمكانة الجليلة التي ذكرت، كان الواجب على أهل العلم والمنتسبين إليه، أن يمضوا على خطى الأئمة الأعلام، من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان، في نشر العلم الشرعي وتدريسه لطلبة العلم.
وإني لأرجو أن يكون هذا الكتاب - وهو الجزء السادس من كتابي يسألونك - لبنة في إعادة بناء صرح العلم الشرعي في بلادنا، فنحن في أمس الحاجة إلى إحياء المنهج الصحيح في التعاطي مع العلم الشرعي من حيث الطريقة والمكان.
أما من حيث الطريقة فلا بد لنا من سلوك سبيل العلماء المحققين الجامعين بين الفقه والحديث فإن العلم مدينة أحد بابيها الرواية والثاني الدراية.
وأما من حيث المكان فلا بد من إحياء دور المسجد في نشر العلوم الشرعية، حيث كان المسجد قديماً هو المدرسة والجامعة، فكان المسجد
_________
(1) مقتبس من مقدمة التهذيب للإمام البغوي 1/99-104.(6/279)
موئلاً لتدريس القرآن الكريم وعلومه، والحديث النبوي وعلومه، وكذا الفقه والأصول، وغير ذلك من العلوم الشرعية وعلوم العربية.
ولكن دور المسجد في زماننا قد تقلص وتراجع تراجعاً كبيراً، وفرغت المساجد من العلماء، وحلَّ محلهم الوعاظ والقصاص والمتعالمون، الذين يخبطون خبط عشواء، والذين يشوهون حقائق الإسلام الناصعة، ويتطاولون على العلم وأهله، لذا فإنني أدعو أهل العلم في هذه الديار أن يعودوا إلى المسجد، لنشر العلم الصحيح، المعتمد على كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وليسدوا الفراغ في المساجد ويحيوا سنة العلماء الأعلام في عقد حلقات العلم في المساجد.
والحمد لله أننا قد بدأنا نرى بعض حلقات العلم تعقد في المسجد الأقصى المبارك وبعض المساجد في أكناف بيت المقدس ولعل ذلك يكون أول الخير إن شاء الله تعالى.
وختاماً فإنني أشير إلى أن أصل هذا الجزء السادس كسابقيه إنما هو حلقات تنشر في جريدة القدس المقدسية صباح كل يوم جمعة أجيب فيها على أسئلة القراء.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أبوديس / القدس ... كتبه د. حسام الدين بن موسى عفانه
7 رجب 1422 هـ ... الأستاذ المشارك في الفقه والأصول
وفق 24 /9/2001 ... كلية الدعوة وأصول الدين
جامعة القدس(6/280)
الأذان والإقامة(6/281)
الصلاة خير من النوم في أذان الفجر
يقول السائل: إنه مؤذن مسجد وعندما يؤذن للفجر كان يقول في أذانه الصلاة خير من النوم مرتين ثم قال له بعض المصلين إن الصواب أن تقال عبارة الصلاة خير من النوم في الأذان الأول الذي يسبق أذان صلاة الفجر فما قولكم في ذلك؟
الجواب: قول المؤذن في أذان صلاة الفجر: الصلاة خير من النوم مرتين يسمى التثويب على قول جماعة من أهل العلم، قال الإمام الترمذي: [وقد اختلف أهل العلم في تفسير التثويب، قال بعضهم: التثويب أن يقول في أذان الفجر الصلاة خير من النوم وهو قول ابن المبارك وأحمد] ثم ذكر الترمذي قولاً آخر ثم قال: [والذي فسر ابن المبارك وأحمد أن التثويب أن يقول المؤذن في أذان الفجر الصلاة خير من النوم وهو قول صحيح ويقال له التثويب أيضاً وهو الذي اختاره أهل العلم ورأوه وروي عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول في صلاة الفجر الصلاة خير من النوم] سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 1/506-507.
والتثويب سنة مشروعة عند جمهور أهل العلم وبه قال عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وأنس رضي الله عنهم والحسن البصري ومحمد بن سيرين والزهري ومالك والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود والشافعي(6/283)
في الصحيح عنه وكثير من أهل العلم. انظر المجموع 3/94 المغني 1/296 نيل الأوطار 2/43. وقد ورد إثبات مشروعية التثويب المذكور في عدة أحاديث منها: عن أبي محذورة - رضي الله عنه - قال: (كنت أؤذن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكنت أقول في أذان الفجر الأول حي على الفلاح، الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله) رواه النسائي وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي 1/140.
وفي رواية عند أبي داود: (عن أبي محذورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، الصلاة خير من النوم في الأولى من الصبح) وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن ... أبي داود 1/100.
وفي رواية أخرى عند أبي داود عن أبي محذورة قال: (قلت يا رسول الله علمني سنة الأذان قال: فمسح مقدم رأسي وقال: تقول الله أكبر ... إلى أن قال: فإن كان صلاة الصبح قلت: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله) وهي رواية صحيحة كما قال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/100.
وفي رواية أخرى عند أبي داود أيضاً عن أبي محذورة قال: (قال ألقى عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأذان حرفاً حرفاً) وفي آخر الحديث: (وكان يقول في الفجر الصلاة خير من النوم) وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في صحيح سنن ... أبي داود 1/101.
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: (من السنة إذا قال المؤذن في أذان الفجر حي على الفلاح قال الصلاة خير من النوم) رواه ابن خزيمة والدارقطني والبيهقي وصححه ابن السكن كما قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 1/201.
وعن سعيد بن المسيب عن بلال - رضي الله عنه - أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤذنه بصلاة الفجر فقيل: هو نائم فقال: (الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم، فأقرت في تأذين الفجر فثبت الأمر على ذلك) رواه ابن ماجة،(6/284)
وقال في الزوائد: إسناده ثقات إلا أن فيه انقطاعاً سعيد بن المسيب لم يسمع من بلال. سنن ابن ماجة 1/237، ونحوه قال الحافظ ابن حجر وذكر له طرقاً أخرى، التلخيص الحبير 1/201.
إذا ثبت أن التثويب مشروع في أذان الفجر فإن الراجح من أقوال العلماء أن التثويب يكون في أذان الفجر وهو أذان الصلاة وليس محله الأذان الذي يكون قبل دخول وقت الفجر كما قال بعض أهل العلم وليس محله في الأذانين كما قال آخرون من أهل العلم والذي يرجح أن التثويب يكون في أذان الفجر وهو أذان الصلاة ما ورد في حديث أبي محذورة: (فإن كان صلاة الصبح قلت الصلاة خير من النوم) ، وفي الرواية الأخرى: (وكان يقول في الفجر الصلاة خير من النوم) . وما ورد عن أنس أنه قال: (من السنة إذا قال المؤذن في أذان الفجر حي على الفلاح قال الصلاة خير من النوم) .
فالمقصود بهذه الروايات هو أذان صلاة الفجر وليس الأذان الذي يكون قبل ذلك لأن ذلك الأذان لا يسمى أذان الفجر أو أذان الصبح لأن صلاة الفجر لا يدخل وقتها به وإنما يدخل وقتها بأذان الفجر ويدل على ذلك ما ورد في الحديث: (إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن مكتوم) رواه البخاري ومسلم.
وأما ما ورد في رواية حديث أبي محذورة وفيها: (في أذان الفجر الأول) وفي الرواية الأخرى: (الصلاة خير من النوم في الأولى من الصبح) فالمراد بذلك أيضاً هو أذان الفجر أي أذان الصلاة لأنه هو المقصود بالأذان الأول وأما الأذان الثاني فهو الإقامة لما ورد في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (بين كل أذانين صلاة) فالأذان الأول هو أذان الصلاة والأذان الثاني هو الإقامة.
قال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين يرحمه الله: [كلمة (الصلاة خير من النوم) في الأذان الأول كما جاء في الحديث: فإذا أذنت أذان الصبح الأول فقل (الصلاة خير من النوم) فهي في الأذان الأول لا(6/285)
الثاني ولكن يجب أن تعلم ما هو الأذان الأول في هذا الحديث؟ هو الأذان الذي يكون بعد دخول الوقت والأذان الثاني هو الإقامة لأن الإقامة تسمى أذاناً قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (بين كل أذانين صلاة) والمراد الأذان والإقامة. وفي صحيح البخاري أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان زاد الأذان الثالث في الجمعة، الأذان الأول الذي أمر فيه بلالاً أن يقول: (الصلاة خير من النوم) هو الأذان لصلاة الفجر.
أما الأذان الذي قبل طلوع الفجر فليس أذاناً للفجر فالناس يسمون أذان آخر الليل بأنه الأذان الأول لصلاة الفجر والحقيقة أنه ليس لصلاة الفجر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن بلالاً يؤذن بليل ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم) أي لأجل النائم يقوم ويتسحر والقائم يرجع ويتسحر.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضاً لمالك بن الحويرث: (إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم) ومعلوم أن الصلاة لا تحضر إلا بعد طلوع الفجر. إذن الأذان الذي قبل طلوع الفجر ليس أذاناً للفجر.
وعليه فعمل الناس اليوم وقولهم (الصلاة خير من النوم) في الأذان الذي للفجر هذا هو الصواب.
وأما من توهم بأن المراد هو الأذان الأول في الحديث هو الأذان الذي قبل طلوع الفجر فليس له حظ من النظر] دروس وفتاوى في الحرم المكي ص 113-114.
وقالت اللجنة الدائمة للإفتاء السعودية برئاسة العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز يرحمه الله جواباً على سؤال نصه: [ما المانع من الإتيان بسنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في التثويب في الأذان الأول للفجر كما جاء في سنن النسائي وابن خزيمة والبيهقي؟
الجواب: نعم ينبغي الإتيان بالتثويب في الأذان الأول للفجر امتثالاً لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وواضح من الحديث أنه الأذان الذي يكون عند طلوع الفجر الصادق وسمي أولاً بالنسبة للإقامة فإنها أذان شرعاً كما في حديث (بين كل أذانين صلاة) وليس المراد بالأذان الأول ما ينادى به قبل ظهور الفجر(6/286)
الصادق فإنه شرع ليلاً ليستيقظ النائم وليرجع القائم وليس أذاناً للإعلام بالفجر ومن تدبر أحاديث التثويب لم يفهم منها إلا أن التثويب في أذان الإعلام بوقت الفجر لا الأذان الذي يكون ليلاً قبيل الفجر] فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 6/61.
واختارت لجنة الموسوعة الفقهية الكويتية هذا الرأي أيضاً فقالت: [اللجنة ترى أن المعمول به الآن من تخصيص الأذان الثاني للفجر بالتثويب أقوى لما فيه من تتابع عمل المسلمين وهو مرجح] الموسوعة الفقهية 10/150.
وقد ذهب الشيخ العلامة ناصر الدين الألباني يرحمه الله إلى أن التثويب يكون في الأذان الأول للصبح الذي يكون قبل دخول الوقت بنحو ربع ساعة وذكر الأدلة على ما ذهب إليه وهو اجتهاد له حظ من النظر والأثر إلا أنه قول مرجوح كما أنني أخالفه فيما قاله بعد ذلك: [ومما سبق يتبين أن جعل التثويب في الأذان الثاني بدعة مخالفة للسنة] انظر تمام المنة ص 146- 148.
أقول ما ذهب إليه القائلون بأن التثويب يكون في أذان الفجر وهو أذان الصلاة ليس بدعة وليس مخالفاً للسنة النبوية لأن المسألة اجتهادية وليس فيها نص صريح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يقال: إن قولهم بدعة مخالف للسنة النبوية كما قال الشيخ الألباني. بل إن الإمام النووي يرى أن الظاهر أن التثويب يشرع في كل أذان للصبح سواء ما قبل الفجر وبعده، أي في الأذانين. المجموع 3/92.
ويرى نحو ذلك بعض الشافعية والحنابلة. انظر غاية المرام شرح مغني ذوي الأفهام 3/108-109.
وكذلك فإن القول بأن التثويب يكون في أذان الفجر وهو أذان الصلاة ليس فيه مخالفة للسنة لأنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص صريح في محل التثويب وإنما المسألة محل بحث واجتهاد وفي مثل هذه المسألة لا يقال إنه مخالف للسنة وخاصة أن من كبار العلماء من أهل الحديث والفقه قالوا(6/287)
بذلك الرأي كالعلامة الشيخ عبد العزيز بن باز والعلامة محمد صالح العثيمين والعلامة الشيخ عبد الرزاق عفيفي من المعاصرين وغيرهم.
يقول العلامة عبد العزيز بن باز يرحمه الله: [الأفضل أن يقال ذلك في الأذان الأخير الذي هو الثاني: الذي يقال بعد طلوع الفجر كما جاء في حديث عائشة أن المؤذن كان يقوله فإذا فرغ المؤذن قام النبي - صلى الله عليه وسلم - لصلاة الفجر ثم أدى سنة الفجر ثم خرج للناس فهذا يقال في الأذان الأخير لأنه هو محل الإيقاظ الواجب أما الأول فهو للتنبيه لإنهاء التهجد وإيقاظ النائم وصلاة الوتر ونحو ذلك] مجلة الدعوة العدد1547 بتاريخ 11/2/1417 هـ.
وخلاصة الأمر أن عبارة الصلاة خير من النوم تقال في أذان الفجر الذي يكون عند دخول وقت صلاة الفجر ولا تقال في الأذان الذي يسبق الوقت.
* * *
حكم الخروج من المسجد بعد الأذان
يقول السائل: ورد في الحديث أن أبا هريرة - رضي الله عنه -: (رأى رجلاً قد خرج من المسجد بعد الأذان فقال: أمَّا هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم) فما معنى قول أبي هريرة بأن الرجل قد عصى النبي - صلى الله عليه وسلم - بخروجه من المسجد بعد الأذان؟
الجواب: وردت عدة أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن الخروج من المسجد بعد الأذان منها ما ذكره السائل في سؤاله وهو ما رواه مسلم في صحيحه بإسناده عن أبي الشعثاء قال: (كنا قعوداً في المسجد مع أبي هريرة فأذن المؤذن فقام رجل من المسجد يمشي فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد فقال أبو هريرة: أمَّا هذا فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -) .(6/288)
وجاء في رواية أخرى عند مسلم عن أبي الشعثاء قال: (سمعت أبا هريرة ورأى رجلاً يجتاز المسجد خارجاً بعد الأذان فقال: أمَّا هذا فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يسمع النداء في مسجدي هذا ثم يخرج منه إلا لحاجة ثم لا يرجع إليه إلا منافق) رواه الطبراني في الأوسط وروايته محتج بها في الصحيح كما قال المنذري في الترغيب والترهيب 1/260 وقال الشيخ الألباني: حسن صحيح. انظر صحيح الترغيب والترهيب 1/224.
وورد عن عثمان - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من أدركه الأذان في المسجد ثم خرج لم يخرج لحاجة وهو لا يريد الرجعة فهو منافق) رواه ابن ماجة وقال الشيخ الألباني صحيح لغيره. انظر صحيح الترغيب والترهيب 1/224.
وعن سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يخرج من المسجد أحد بعد النداء إلا منافق إلا أحد أخرجته حاجة وهو يريد الرجوع) رواه أبو داود في مراسيله، وقال الشيخ الألباني: صحيح لغيره. انظر صحيح الترغيب والترهيب 1/224.
فهذه الاحاديث تدل على النهي عن الخروج من المسجد بعد الأذان إلا لحاجة وقد حمل بعض أهل العلم النهي في هذه الأحاديث على التحريم ويؤكد ذلك على حسب حملهم أن أبا هريرة اعتبر الخروج من المسجد بعد الأذان عصياناً لأبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -.
قال القرطبي المحدّث: [قول أبي هريرة في الخارج من المسجد: (أمَّا هذا فقد عصى أبا القاسم) محمول على أنه حديث مرفوع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدليل ظاهر نسبته إليه في معرض الاحتجاج به وما كان يليق بواحد منهم للذي علم من دينهم وأمانتهم وضبطهم وبعدهم عن التدليس ومواقع الإيهام وكأنه سمع ما يقتضي تحريم الخروج من المسجد بعد الأذان فأطلق لفظ المعصية فإذا ثبت هذا استثمر منه أن من دخل المسجد لصلاة فرض فأذن مؤذن ذلك الوقت حرم عليها أن يخرج منه لغير ضرورة حتى يصلي فيه تلك الصلاة لأن ذلك المسجد تعين لتلك الصلاة أو لأنه إذا خرج قد يمنعه مانع من الرجوع إليه أو إلى غيره فتفوته الصلاة] المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 2/281.(6/289)
ولكن أكثر أهل العلم يرون أن النهي في هذه الأحاديث محمول على الكراهة، قال الإمام البخاري في صحيحه: [باب هل يخرج من المسجد لعلة] ثم روى بسنده عن أبي هريرة: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج وقد أقيمت الصلاة وعدلت الصفوف حتى إذا قام في مصلاه انتظرنا أن يكبر انصرف، قال: على مكانكم فمكثنا على هيئتنا حتى خرج إلينا ينطف رأسه وقد اغتسل) .
قال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث: [قوله باب هل يخرج من المسجد لعلة أي ضرورة وكأنه يشير إلى تخصيص ما رواه مسلم وأبو داود وغيرهما من طريق أبي الشعثاء عن أبي هريرة: (أنه رأى رجلاً خرج من المسجد بعد أن أذن المؤذن فقال: أما هذا فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -) فإن حديث الباب يدل على أن ذلك مخصوص بمن ليس له ضرورة.
فيلحق بالجنب المحدث والراعف والحاقن ونحوهم وكذا من يكون إماماً لمسجد آخر ومن في معناه] فتح الباري 2/261.
وقال الإمام الترمذي بعد أن ذكر حديث أبي هريرة: [وعلى هذا العمل عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم أن لا يخرج أحد من المسجد بعد الأذان إلا من عذر أن يكون على غير وضوء أو أمر لا بد منه.
ويروى عن إبراهيم النخعي أنه قال: يخرج ما لم يأخذ المؤذن في الإقامة، قال أبو عيسى - الترمذي -: وهذا عندنا لمن له عذر في الخروج منه] سنن الترمذي مع شرحه التحفة 1/518.
وقال الإمام النووي: [يكره الخروج من المسجد بعد الأذان حتى يصلي إلا لعذر لحديث أبي الشعثاء قال: (كنا قعوداً مع أبي هريرة - رضي الله عنه - في المسجد فأذن المؤذن فقام رجل من المسجد يمشي ... ) ] المجموع 2/179.
وقال الإمام النووي في شرح حديث أبي هريرة: [فيه كراهة الخروج(6/290)
من المسجد بعد الأذان حتى يصلي المكتوبة إلا لعذر] شرح النووي على صحيح مسلم 2/290.
وذهب إلى القول بكراهة الخروج من المسجد بعد الأذان الحنفية والمالكية والشافعية.
وقال مالك: [بلغني أن رجلاً قدم حاجاً وأنه جلس إلى سعيد بن المسيب وقد أذن المؤذن وأراد أن يخرج من المسجد واستبطأ الصلاة فقال له سعيد: لا تخرج فإنه بلغني أنه من خرج بعد الأذان خروجاً لا يرجع إليه أصابه أمر سوء. قال: فقعد الرجل ثم إنه استبطأ الإقامة فقال: ما أراه إلا قد حبسني فخرج فركب راحلته فصرع فكسر فبلغ ذلك ابن المسيب فقال: قد ظننت أنه سيصيبه ما يكره] .
قال ابن رشد: قول ابن المسيب بلغني معناه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ لا يقال مثله بالرأي وهي عقوبة معجلة لمن خرج بعد الأذان من المسجد على أنه لا يعود إليه لإيثاره تعجيل حوائج دنياه على الصلاة التي أذن لها وحضر وقتها.
قال أبو عمر بن عبد البر: [أجمعوا على القول بهذا الحديث لمن لم يصل وكان على طهارة وكذا إن كان قد صلى وحده إلا ما لا يعاد من الصلوات فلا يحل الخروج من المسجد بإجماع إلا أن يخرج للوضوء وينوي الرجوع. أهـ ملخصاً
ومن الأعذار المبيحة أيضاً الخروج من المسجد بعد الأذان ما أحدث أهل زماننا في المساجد من البدع كرفع الصوت بقراءة قرآن أو ذكر لأنه يشوش على المتعبدين وكالتبليغ لغير حاجة إليه ... ويدل لذلك ما يأتي للمصنف في باب التثويب عن مجاهد قال كنت مع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فثوب رجل أي قال الصلاة خير من النوم في الظهر أو العصر فقال ابن عمر لمجاهد: اخرج بنا فإن هذه بدعة] المنهل العذب المورود 4/218-219.
* * *(6/291)
حكم إقامة الصلاة للمنفرد
يقول السائل: إنه يصلي أحياناً منفرداً في بيته بدون إقامة للصلاة فما حكم صلاته؟
الجواب: الإقامة من السنن المؤكدة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي مشروعة في صلاة الجماعة ولمن صلى منفرداً من الرجال دون النساء فليس على النساء أذان ولا إقامة.
فقد ورد في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم) متفق عليه.
وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يَعْجَبُ ربك من راعي غنم في رأس الشظية للجبل يؤذن ويصلي فيقول الله عز وجل: انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة يخاف مني قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة) رواه أبو داود والنسائي وأحمد وقال الشيخ الألباني: صحيح، انظر صحيح سنن ... أبي داود 1/223.
وإذا صلى المنفرد بدون إقامة فصلاته صحيحة ولا شيء عليه، قال الإمام النووي: [فرع في مذاهب العلماء في الأذان والإقامة: مذهبنا المشهور أنهما سنة لكل الصلوات في الحضر والسفر للجماعة والمنفرد لا يجبان بحال فإن تركهما صحت صلاة المنفرد والجماعة وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وإسحاق بن راهويه ونقله السرخسي عن جمهور العلماء] المجموع 3/82.
وقال الخرقي الحنبلي: [ومن صلى بلا أذان ولا إقامة كرهنا له ذلك ولا يعيد] وذكر الشيخ ابن قدامة المقدسي في شرحه لكلام الخرقي أنه لا يعرف مخالف في ذلك إلا عطاء ثم قال: [والصحيح قول الجمهور لما ذكرنا ولأن الإقامة أحد الأذانين فلم تفسد الصلاة بتركها كالأخر] المغني 1/302-303.
ويدل على ذلك ما جاء في الحديث عن إبراهيم النخعي عن الأسود(6/292)
وعلقمة قالا: (أتينا عبد الله بن مسعود في داره فقال: أصلى هؤلاء خلفكم. فقلنا: لا. قال: فقوموا فصلوا فلم يأمرنا بأذان ولا إقامة ... ) رواه مسلم.
وخلاصة الأمر أن من صلى منفرداً بدون إقامة فصلاته صحيحة ولكن الأولى والأفضل أن يقيم الصلاة خروجاً من خلاف من أوجبها من أهل العلم.
* * *(6/293)
الصلاة(6/295)
المحافظة على أداء الصلاة في وقتها
وحكم السهر بعد العشاء
يقول السائل: ما قولكم في ظاهرة السهر التي يعاني منها كثير من الناس حيث إنهم يسهرون إلى ساعة متأخرة من الليل ثم ينامون وتضيع عليهم صلاة الفجر فلا يصلونها في وقتها الشرعي؟
الجواب: إن من أعظم النعم التي أنعم الله بها على الإنسان نعمة الوقت أو الزمن، يقول الله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَءَاتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) سورة إبراهيم الآيات 32-34.
وقال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) سورة النحل الآية 12.
وقد اعتنى الإسلام عناية فائقة بالوقت وحث المسلم على تنظيم وقته فكثير من الأحكام الشرعية مرتبطة بالوقت ارتباطاً وثيقاً قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله: [وقد رسم الشرع الحنيف: التوقيت في تكاليف كثيرة غير الصلاة، فوقت في أحكام الحج والزكاة والصوم وزكاة الفطر والأضحية(6/297)
والسفر والتيمم والمسح على الخفين، والرضاع والطلاق والعدة والرجعة والنفقة والدين والرهن والضيافة والعقيقة والحيض والنفاس وغيرها. وما ذلك إلا لمعنى هام رتب الشرع التوقيت عليه ولحظ المصلحة والنفع به.
وقد غفل كثير من المسلمين اليوم عن هذا التوجيه الإسلامي الدقيق لهم من جانب الشرع الأغر، فجعلوا يأخذون ويتعلمون أهمية ربط الأعمال بالتوقيت المناسب، من غيرهم! وكأنهم لم يمرنوا أو يربوا على ذلك من أول يوم كلفوا فيه بأحكام الشريعة الغراء وفي أولها الصلاة.
فيجب على المسلم أن ينتبه إلى الوقت في حياته وإلى تنفيذ كل عمل من أعماله في توقيته المناسب، فالوقت من حيث هو معيار زمني: من أغلى ما وهب الله تعالى للإنسان وهو في حياة العالم وطالب العلم رأس المال والربح جميعاً فلا يسوغ للعاقل أن يضيعه سدى، ويعيش فيه هملاً سبهللاً ومن أجل هذا دونت هذه الصفحات حافزاً لنفسي ولأبناء جنسي رجاء الانتفاع بما فيها من أخبار آبائنا وسلفنا الماضين والله ولي التوفيق] قيمة الزمن عند العلماء ص10-11.
وعلى الرغم من عظم نعمة الوقت وأهميتها في حياة المسلم إلا أن أكثر المسلمين عنها غافلون وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما قال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ) رواه البخاري.
فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (مغبون فيهما كثير من الناس) يدل على أن المنتفعين من أوقاتهم وصحتهم قلة قليلة.
ويجب على المسلم ان يستفيد من وقته وينتفع به، قال العلامة الشيخ القرضاوي: [وأول واجب على الإنسان المسلم نحو وقته أن يحافظ عليه كما يحافظ على ماله بل أكثر منه، وأن يحرص على الاستفادة من وقته كله، فيما ينفعه في دينه ودنياه، وما يعود على أمته بالخير والسعادة والنماء الروحي والمادي.
وقد كان السلف - رضي الله عنهم - أحرص ما يكونون على أوقاتهم، لأنهم كانوا أعرف الناس بقيمتها.(6/298)
يقول الحسن البصري: أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصاً على دراهمكم ودنانيركم!
ومن هنا كان حرصهم البالغ على عمارة أوقاتهم بالعمل الدائب والحذر أن يضيع شيء منه في غير جدوى، يقول عمر بن عبد العزيز: إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما!
وكانوا يقولون: من علامة المقت إضاعة الوقت. ويقولون: الوقت سيف إن لم تقطعه قطعك. وكانوا يحاولون دائماً الترقي من حال إلى حال أحسن منها، بحيث يكون يوم أحدهم أفضل من أمسه وغده أفضل من يومه ويقول في هذا قائلهم: من كان يومه كأمسه فهو مغبون ومن كان يومه شراً من أمسه فهو ملعون!
وكانوا يحرصون كل الحرص على ألا يمر يوم أو بعض يوم أو برهة من الزمان وإن قصرت دون أن يتزودوا منها بعلم نافع أو عمل صالح أو مجاهدة للنفس أو إسداء نفع إلى الغير حتى لا تتسرب الأعمار سدى وتضيع هباء وتذهب جفاء وهم لا يشعرون.
وكانوا يعتبرون من كفران النعمة ومن العقوق للزمن: أن يمضي يوم لا يستفيدون منه لأنفسهم ولا للحياة من حولهم نمواً في المعرفة ونموا في الإيمان ونمواً في عمل الصالحات.
يقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي!
وقال آخر: كل يوم يمر بي لا أزداد فيه علماً يقربني من الله عز وجل فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم] الوقت في حياة المسلم ص12-13.
وبعد هذا الكلام الموجز في بيان أهمية الوقت في حياة المسلم أعود إلى إجابة السؤال فأقول بأنه قد صح في الحديث عن أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ... (كان يكره النوم قبل صلاة العشاء والحديث بعدها) رواه البخاري ومسلم.(6/299)
وفي رواية لمسلم: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يحب النوم قبلها ولا الحديث بعدها) .
ورواه الترمذي بلفظ: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها) وقال الترمذي بعد رواية الحديث السابق: [وقد كره أكثر أهل العلم النوم قبل صلاة العشاء والحديث بعدها ورخص في ذلك بعضهم] سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 1/435.
وورد في الحديث عن عائشة - رضي الله عنه - قالت: (ما نام رسول الله قبل العشاء ولا سمر بعدها) رواه ابن ماجة وقال الألباني: صحيح. انظر صحيح سنن ... ابن ماجة 1/117.
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: (جدب لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السمر بعد العشاء يعني زجرنا) رواه أحمد وابن ماجة وابن حبان وهو حديث صحيح كما قال الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 1/117، وانظر السلسلة الصحيحة 5/562.
قال الإمام النووي: [وسبب كراهة الحديث بعدها أنه يؤدي إلى السهر ويخاف منه غلبة النوم عن قيام الليل أو الذكر فيه أو عن صلاة الصبح في وقتها الجائز أو وفي وقتها المختار أو الأفضل ولأن السهر في الليل سبب للكسل في النهار عما يتوجه من حقوق الدين والطاعات ومصالح الدنيا. قال العلماء: والمكروه من الحديث بعد العشاء هو ما كان في الأمور التي لا مصلحة فيها. أما ما فيه مصلحة وخير فلا كراهة فيه، وذلك كمدارسة العلم وحكايات الصالحين ومحادثة الضيف والعروس للتأنيس ومحادثة الرجل أهله وأولاده للملاطفة والحاجة ومحادثة المسافرين بحفظ متاعهم أو أنفسهم والحديث في الإصلاح بين الناس والشفاعة إليهم في خير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإرشاد إلى مصلحة ونحو ذلك، فكل هذا لا كراهة فيه وقد جاءت أحاديث صحيحة ببعضه والباقي في معناه] شرح النووي على صحيح مسلم 2/282.
وقال الإمام النووي أيضاً: [ويكره لمن صلى العشاء الآخرة أن(6/300)
يتحدث بالحديث المباح في غير هذا الوقت وأعني بالمباح الذي استوى فعله وتركه فأما الحديث المحرم في غير هذا الوقت أو المكروه فهو في هذا الوقت أشد تحريماً وكراهة وأما الحديث في الخير كمذاكرة العلم وحكايات الصالحين ومكارم الأخلاق والحديث مع الضيف فلا كراهة فيه بل هو مستحب وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة به وكذلك الحديث للعذر والأمور العارضة لا بأس به وقد اشتهرت الأحاديث بكل ما ذكرته] الأذكار ص 321.
ثم ذكر الإمام النووي طائفة من الأحاديث التي تدل على جواز السمر في الأمور النافعة وقد ترجم الإمام البخاري في صحيحه ليدل على جواز ذلك بقوله: [باب السمر في الفقه والخير بعد العشاء] .
ثم ذكر حديث أنس - رضي الله عنه - قال: (نظرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة حتى كان شطر الليل يبلغه فجاء فصلى لنا ثم خطبنا فقال: ألا إن الناس قد صلوا ثم رقدوا وإنكم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة؟ قال الحسن: وإن القوم لا يزالون بخير ما انتظروا الخير. قال قرة: هو من حديث أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -) صحيح البخاري مع الفتح 2/213-214. ثم ذكر البخاري حديثاً آخر.
ثم ترجم في الباب الذي بعده بقوله: [باب السمر مع الأهل والضيف] ثم ذكر حديث عبد الرحمن بن أبي بكر في قصة أصحاب الصفة. المصدر ... السابق 2/215-216.
وخلاصة الأمر أن السهر بعد صلاة العشاء مكروه بشكل عام إلا إذا كان في الأمور النافعة كما سبق.
وأما السهر في الأمور التافهة كالسهر لمتابعة الأفلام والتمثيليات الساقطة وفي غيرها من الأمور المنكرة فهو محرم.
كما أن السهر الذي يؤدي إلى ضياع صلاة الفجر محرم لأن ما أدى إلى الحرام فهو حرام.
وإذا حصل أن بعض الناس لا يستطيع أن ينام مبكراً ولا بد له من(6/301)
السهر فعليه أن ينتفع بوقته في الأمور النافعة كما ويجب عليه ان يأخذ بالأسباب التي تعينه على أداء صلاة الفجر في وقتها الشرعي.
* * *
متى يقوم المسبوق لإتمام صلاته؟
يقول السائل: هل يقوم المسبوق في الصلاة لإتمام صلاته بعد تسليم إمامه التسليمتين أم بعد التسليمة الأولى، وما حكم صلاة المسبوق إذا قام بعد التسليمة الأولى ولم ينتظر التسليمة الثانية؟
الجواب: اتفق أكثر أهل العلم على أن التسليم فريضة من فرائض الصلاة وقد ثبتت الأحاديث بذلك ومنها عن علي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (مفتاح الصلاة الطهور وتحريها التكبير وتحليلها التسليم) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم وصححه الترمذي والنووي وابن حجر والألباني، انظر إرواء الغليل 2/9.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يختم الصلاة بالتسليم) رواه مسلم.
وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: (كنت أرى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسلم عن يمينه وعن يساره حتى أرى بياض خده) رواه مسلم.
وبعد اتفاق جمهور أهل العلم على أن التسليم فرض اختلفوا هل المطلوب تسليمة واحدة أو تسليمتان؟
فذهب جمهور العلماء إلى أن التسليمة الأولى واجبة والثانية سنة، قال ابن المنذر: [أجمع العلماء على أن صلاة من اقتصر على تسليمة واحدة جائزة] المجموع 32/482.
وقال الإمام النووي: [وأجمع العلماء الذين يعتد بهم على أنه لا يجب إلا تسليمة واحدة] شرح النووي على صحيح مسلم 2/236.(6/302)
وقال الداودي: [وأجمع العلماء على أن من سلم واحدة فقد تمت صلاته] المفهم 2/204.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [والواجب تسليمة واحدة والثانية سنة، قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن صلاة من اقتصر على تسليمة واحدة جائزة] المغني 1/396.
ثم استدل الشيخ ابن قدامة لما قرره بقوله: [والصحيح: ما ذكرناه. وليس نص أحمد بصريح بوجوب التسليمتين، إنما قال: التسليمتان أصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث ابن مسعود وغيره أذهب إليه، ويجوز أن يذهب إليه في المشروعية والاستحباب دون الإيجاب كما ذهب إلى ذلك غيره، وقد دل عليه قوله في رواية مُهنَّا: أعجب إليَّ التسليمتان، ولأن عائشة وسلمة بن الأكوع وسهل بن سعد قد رووا: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم تسليمة واحدة) وكان المهاجرون يسلّمون تسليمة واحدة، ففيما ذكرناه جمع بين الأخبار وأقوال الصحابة رضي الله عنهم في أن يكون المشروع والمسنون تسليمتين والواجب واحدة.
وقد دل على صحة هذا: الإجماع الذي حكاه ابن المنذر فلا معدل عنه، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يُحملُ على المشروعية والسنة فإن أكثر أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة مسنونة غير واجبة فلا يمتنع حمل فعله لهذه التسليمة على السنة عند قيام الدليل عليها والله أعلم. ولأن التسليمة الواحدة يخرج بها من الصلاة فلم يجب عليه شيء آخر فيها] المغني 1/396-397.
إذا تقرر هذا فنعود إلى السؤال حيث إن صلاة المسبوق مرتبطة بصلاة الإمام في المتابعة فأقول: الأكمل في حق المسبوق أن لا يقوم إلى قضاء ما فاته من الصلاة إلا بعد أن يفرغ إمامه من التسليمتين لأن الإمام جعل ليؤتم به كما هو ثابت في الحديث والمسبوق يأتي بما فاته بعد انتهاء الإمام من الصلاة.
فقد جاء في الحديث عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال: (تخلفت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك فتبرز، وذكر وضوءه ثم عمد(6/303)
الناس وعبد الرحمن يصلي بهم فصلى مع الناس الركعة الأخيرة فلما سلّم عبد الرحمن قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتم صلاته فلما قضاها أقبل عليهم فقال: قد أحسنتم وأصبتم يغبطهم أن صلوا الصلاة لوقتها) متفق عليه.
فيؤخذ من هذا الحديث أن المسبوق يقوم لقضاء ما فاته بعد سلام إمامه والظاهر من الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام لقضاء الركعة الفائتة بعد أن سلم الإمام التسليمتين وهذا مستحب.
قال الحافظ ابن عبد البر: [ولم يختلف قول مالك أن المسبوق لا يقوم إلى القضاء حتى يفرغ الإمام من التسليمتين إذا كان ممن يسلم التسليمتين] الاستذكار 4/290.
وأما إذا قام المسبوق لقضاء ما فاته من صلاته بعد فراغ إمامه من التسليمة الأولى ولم ينتظر التسليمة الثانية فصلاته صحيحة ولا شيء عليه لأن صلاة الإمام ينقضي الواجب فيها بالتسليمة الأولى والتسليمة الثانية سنة.
نقل الحافظ ابن عبد البر عن الليث بن سعد فقيه مصر أنه قال في المسبوق ببعض الصلاة: [لا أرى بأساً أن يقوم بعد التسليمة الأولى] الاستذكار 4/291.
وقال الإمام النووي: [اتفق أصحابنا على أنه يستحب للمسبوق أن لا يقوم ليأتي بما بقي عليه إلا بعد فراغ الإمام من التسليمتين وممن صرح به البغوي والمتولي وآخرون ونص عليه الشافعي رحمه الله في مختصر البويطي فقال ومن سبقه الإمام بشيء من الصلاة فلا يقوم لقضاء ما عليه إلا بعد فراغ الإمام من التسليمتين.
قال أصحابنا فإن قام بعد فراغه من قوله السلام عليكم في الأولى جاز لأنه خرج من الصلاة] المجموع 3/483.
وقال الإمام النووي أيضاً: [إذا سلم الإمام التسليمة الأولى انقضت قدوة المأموم الموافق والمسبوق لخروجه من الصلاة] المجموع 3/384.
* * *(6/304)
الجهر والإسرار في الصلاة للمنفرد
يقول السائل: إنه يصلي أحياناً في بيته فهل يجهر أم يسر في القراءة؟
الجواب: من الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يجهر في صلاة الفجر وفي الركعتين الأوليين من المغرب والعشاء وهذا الجهر مشروع في حق الإمام.
وأما المنفرد فالراجح من أقوال أهل العلم أنه يجهر وهذا قول المالكية والشافعية ورواية في مذهب الحنابلة. ومن العلماء من خيَّر المنفرد بين الجهر والإسرار وهذا قول الحنفية ورواية أخرى في مذهب الحنابلة. قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [الجهر في مواضع الجهر والإسرار في مواضع الإسرار لا اختلاف في استحبابه والأصل فيه فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد ثبت ذلك بنقل الخلف عن السف فإن جهر في موضع الإسرار أو أسر في موضع الجهر ترك السنة وصحت صلاته ... وهذا الجهر مشروع للإمام ولا يشرع للمأموم بغير اختلاف وذلك لأن المأموم مأمور بالإنصات والاستماع له، بل قد منع من القراءة لأجل ذلك. وأما المنفرد فظاهر كلام أحمد أنه يخير، وكذلك من فاته بعض الصلاة فقام ليقضيه، قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله - أي للإمام أحمد -: رجل فاتته ركعة مع الإمام من المغرب أو العشاء فقام ليقضي أيجهر أو يخافت؟ قال: إن شاء جهر وإن شاء خافت ثم قال إنما الجهر للجماعة. وكذلك قال طاووس فيمن فاته بعض الصلاة وهو قول الأوزاعي ولا فرق بين القضاء والأداء] المغني 1/407-408.
وقال الإمام النووي: [وأما المنفرد فيسن له الجهر عندنا وعند الجمهور، قال العبدري: هو مذهب العلماء كافة إلا أبا حنيفة فقال: جهر المنفرد وإسراره سواء.
دليلنا أن المنفرد كالإمام في الحاجة إلى الجهر للتدبر فسن له الجهر كالإمام وأولى لأنه أكثر تدبراً لقراءته لعدم ارتباط غيره وقدرته على إطاقة القراءة ويجهر بها للتدبر كيف شاء] المجموع 3/389-390.
ويؤيد ذلك ما رواه مالك في الموطأ أن عبد الله بن عمر رضي الله(6/305)
عنهما كان إذا فاته شيء من الصلاة مع الإمام فيما جهر فيه الإمام بالقراءة أنه إذا سلَّم الإمام قام عبد الله بن عمر فقرأ لنفسه فيما يقضي وجهر] موطأ مالك 1/90.
ومع أن الحنفية خيَّروا المنفرد بين الإسرار والجهر إلا أن الجهر أفضل عندهم، قال الزيلعي: [ ... أي إن شاء جهر وهو أفضل ليكون الأداء على هيئة الجماعة] تبيين الحقائق 1/127.
* * *
زيادة لفظة سيدنا في الصلاة الإبراهيمة غير مشروع
السؤال: أعطاني أحد طلبة العلم نشرات وزعت في بعض المساجد باسم نشرات فقهية وتضمنت إحداها كلاماً حول لفظ السيادة في الصلاة الإبراهيمية أي زيادة لفظ " سيدنا "، وطلب مني بيان الحكم الشرعي في هذه المسألة؟
الجواب: قرأت هذه النشرة وغيرها مما وزع في بعض المساجد وقبل الجواب التفصيلي عن السؤال أقول: إن هذه النشرات غفل عن ذكر اسم الفقيه!!! الذي كتبها والفقه لا يؤخذ عن النكرات والمجاهيل، فلا بد من معرفة كاتب هذه النشرات لنعرف هل هو من أهل هذا الشأن أم لا؟
إن الفقه له أهله ورجاله وليس من أهله ولا رجاله طلبة العلم المبتدئون ولا الدراويش الذين لا يعرفون ألف باء الفقه، أما أن تسود الصفحات وتنشر ويكذب فيها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باسم الفقه فهذا منكر من القول وزور.
بعد هذا أعود إلى المسألة المتعلقة بزيادة لفظ " سيدنا " في الصلاة الإبراهيمية فأقول:
من المعلوم عند أهل العلم أن الأصل في العبادات هو التلقي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد صح في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) رواه البخاري وغيره، وقد علّم النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة(6/306)
رضوان الله عليهم الصلاة وكيفيتها وهيئتها وأذكارها ونقل الصحابة رضي الله عنهم ذلك لمن بعدهم ومن ضمن ما نقلوه الصلاة الإبراهيمة في التشهد ولم يثبت في أي حديث من الأحاديث الواردة في ذلك زيادة لفظ " سيدنا " مع أن هذه الأحاديث كثيرة العدد فلم يرد في أي منها زيادة لفظ
" سيدنا " لذلك يجب الاقتصار على الألفاظ النبوية كما وردت في الصلاة الإبراهيمية ولا يجوز زيادة لفظ " سيدنا " في الصلاة.
ويجب أن يعلم أن ما جاء في النشرة المشار إليها أن: [رعاية الأدب خير من الامتثال] كلام مغلوط بل إن كمال الأدب هو في الامتثال لأن من كان متؤدباً مع غيره يكون ممتثلاً لكلامه وهذا حال المسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن التزم بهديه - صلى الله عليه وسلم - فهو في غاية الأدب معه - صلى الله عليه وسلم -.
كما ينبغي أن يعلم أننا عندما نقول لا تجوز زيادة لفظ " سيدنا " في الصلاة الإبراهيمية فهذا لا يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس هو سيدنا
بل هو سيدنا - صلى الله عليه وسلم -.
ولكن في العبادة لا بد من الاتباع ولو فتح باب الزيادة في العبادة بهذه الحجة وهي احترام النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقديره لكان ينبغي زيادة لفظ " سيدنا " في الأذان وفي الإقامة فلا فرق بين الصلاة وبين الأذان والإقامة فكلها عبادات.
فهل يقول هؤلاء أن نزيد لفظ سيدنا في الأذان فنقول: [أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله] ولو كان هذا الاحترام مشروعاً بهذه الزيادة لسبقنا إليها من هم أشد احتراماً وحباً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هؤلاء أعني الصحابة رضوان الله عليهم.
إذا ثبت هذا فأقول إن أهل الفقه وأهل العلم الحقيقين وليس الأدعياء قد قرروا أنه لا تجوز زيادة لفظ " سيدنا " لا في الصلاة الإبراهيمية ولا في الأذان ولا في الإقامة وهذا لا يتنافى مع تقدير النبي - صلى الله عليه وسلم - واحترامه لأن احترامه - صلى الله عليه وسلم - يكون باتباعه والتزام سنته - صلى الله عليه وسلم -.
قال العلامة الشيخ الألباني بعد كلام طويل حول المسألة وأنه لم يثبت في شيء من الأحاديث زيادة لفظ السيادة قال: [والمسألة مشهورة في كتب(6/307)
الفقه والغرض منها أن كل من ذكر هذه المسألة من الفقهاء قاطبة لم يقع في كلام أحد منهم "سيدنا" ولو كانت هذه الزيادة مندوبة ما خفيت عليهم كلهم حتى أغفلوها والخير كله في الاتباع والله أعلم.
قلت - الألباني -: وما ذهب إليه الحافظ ابن حجر رحمه الله من عدم مشروعية تسويده - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة عليه اتباعاً للأمر الكريم هو الذي عليه الحنفية وهو الذي ينبغي التمسك به لأنه الدليل الصادق على حبه - صلى الله عليه وسلم -: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) سورة آل عمران الآية 31.
ولذلك قال الإمام النووي في الروضة: وأكمل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -: اللهم صلى على محمد ... الخ ... فلم يذكر فيه السيادة!] صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ص 155.
وقال الشيخ الدكتور بكر أبو زيد حفظه الله: [من استقرأ صيغ الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - الواردة لم يجد فيها لفظ السيادة لا داخل الصلاة ولا خارجها ومن استقرأ أحاديث الأذان لم يجدها في ذكر الشهادة بأن محمداً رسول الله. والمحدثون كافة في كتب السنة لا يذكرون لفظ السيادة عند ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقد استقرأ جماعة من المحققين ومنهم الحافظ ابن حجر كما نقله عنه السخاوي في " القول البديع "، والقاسمي في " الفضل المبين في شرح الأربعين " للعجلوني إذ قرر رحمه الله تعالى أن لفظ السيادة لم يثبت في الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا في الشهادة له بالرسالة - صلى الله عليه وسلم - وأنها داخل الصلاة لا تشرع لعدم التوقيف بالنص وأما خارجها فلا بأس] معجم المناهي اللفظية ص 304-305.
ثم نقل عن الفضل المبين ما يلي: [سئل الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى عن صفة الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة أو خارج الصلاة سواء قيل بوجوبها أو بندبها هل يشترط فيها أن يصفه - صلى الله عليه وسلم - بالسيادة بأن يقول مثلاً: صل على سيدنا محمد، أو على سيد الخلق أو سيد ولد آدم؟ أو يقتصر على قوله: اللهم صل على محمد؟ وأيهما أفضل: الإتيان بلفظ السيادة،(6/308)
لكونها صفة ثابتة له - صلى الله عليه وسلم - أو عدم الاتيان لعدم ورود ذلك في الآثار؟ فأجاب رضي الله عنه: نعم اتباع الألفاظ المأثورة أرجح ولا يقال: لعله ترك ذلك تواضعاً منه - صلى الله عليه وسلم - كما لم يكن يقول عند ذكره - صلى الله عليه وسلم -: وأمته مندوبة إلى أن تقول ذلك كلما ذكر، لأنا نقول: لو كان ذلك راجحاً لجاء عن الصحابة ثم عن التابعين ولم نقف في شيء من الآثار عن أحد من الصحابة ولا التابعين أنه قال ذلك مع كثرة ما ورد عنهم من ذلك وهذا الإمام الشافعي - أعلى الله درجته - وهو من أكثر الناس تعظيماً للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبة كتابه الذي هو عمدة أهل مذهبه: اللهم صل على محمد إلى آخر ما أداه إليه اجتهاده وهو قوله: كلما ذكره الذاكرون وكلما غفل عن ذكره الغافلون وكأنه استنبط ذلك من الحديث الصحيح الذي فيه سبحان الله عدد خلقه وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لأم المؤمنين ورآها قد أكثرت التسبيح وأطالته: (لقد قلت بعدك كلمات لو وزنت بما قلت لوزنتهن. وذكر ذلك وكان - صلى الله عليه وسلم - يعجبه الجوامع في الدعاء) ] معجم المناهي ... اللفظية ص 305-306.
وقال الشيخ العلامة القاسمي: [رأيت أيام رحلتي إلى بيت المقدس من يقيم الصلاة وأحياناً يؤم بالقوم وكالة فيزيد لفظ " سيدنا " في قوله أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله. فقلت له بعد الصلاة: لم تزيد هذه اللفظة وهي سيدنا وليست مشروعة في الإقامة؟
فقال لي: هذه مسألة كان وقع فيها نزاع بين علماء القدس ويافا - يعني أحدثها مبتدع - فمن قائل ينبغي الاقتصار في ألفاظ الأذان والإقامة على الوارد دون زيادة ومن قائل تستحب زيادة سيدنا عند ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ثم اشتد النزاع وتراسلوا وكاد الأمر يفضي إلى تجاوز الحد والآن نحن نقولها اتباعاً لمن استحبها وقطعاً للقالة فيها.
فقلت: يا أخي إن ألفاظ الأذانيين مأثورة متعبد بها رويت بالتواتر خلفاً عن سلف في كتب الحديث الصحاح والحسان والمسانيد والمعاجم ولم يرو أحد قط استحباب هذه الزيادة عن صحابي ولا تابعي بل ولا فقيه من فقهاء الأمة ولا أتباعهم وهذه كتبهم بين أيديكم وأنتم تقلدونهم ولا تخالفونهم فما هذا الابتداع وليس تعظيمه صلوات الله عليه بزيادة ألفاظ في عبارات(6/309)
مشروعة لم يسنها هو ولم يستحبها خلفاؤه الراشدون مما يرضاه صلوات الله عليه لأن لكل مقام مقالاً على أنه ثبت أنه نهى من خاطبه بقوله: يا سيدنا وابن سيدنا، روى النسائي بإسناد جيد عن أنس - رضي الله عنه - أن ناساً قالوا: (يا رسول الله يا خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا. فقال: يا أيها الناس قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان أنا محمد عبد الله ورسوله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل) ] والحديث صححه الشيخ الألباني في تخريجه، إصلاح المساجد من البدع والعوائد ص 138-139.
وخلاصة الأمر أنه لا يجوز إضافة لفظة " سيدنا " في الصلاة الإبراهيمية في التشهد ولا في الأذان ولا في الإقامة، لأن هذه عبادات والأصل في العبادات الاتباع.
* * *
الضحك مبطل للصلاة
يقول السائل: ما حكم من ضحك في الصلاة؟
الجواب: إن الصلاة من مقامات وقوف العبد بين يدي ربه عز وجل وهذا المقام يقتضي الخشوع والخضوع لله تعالى وقد قال الله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) سورة المؤمنون الآيتان 1-2.
قال ابن كثير: [ ... عن ابن عباس (خَاشِعُونَ) خائفون ساكنون وكذا روي عن الحسن ومجاهد وقتادة والزهري ... وقال الحسن البصري كان خضوعهم في قلوبهم فغضوا بذلك أبصارهم وخفضوا الجناح ... والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه لها واشتغل بها عمن عداها وآثرها على غيرها وحينئذ تكون راحة له وقرة عين كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي عن أنس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (حبب إلي الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة) ] تفسير ابن كثير 3/238.(6/310)
وقال الألوسي: [وفي تقديم وصفهم في الخشوع بالصلاة على سائر ما يذكر بعد ما لا يخفى من التنويه بشأن الخشوع وجاء أن الخشوع أول ما يرفع من الناس ففي خبر رواه الحاكم وصححه أن عبادة بن الصامت قال: يوشك أن تدخل المسجد فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد والحاكم وصححه عن حذيفة قال: (أول ما تفقدون من دينكم الخشوع وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة وتنتقض عرى الإسلام عروة عروة) ] تفسير الألوسي 9/208.
وقال العلماء أكثر ما يستعمل الخشوع فيما يوجد على الجوارح وقد ورد عن سعيد بن المسيب أنه لما رأى رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة قال: [لو خشع قلبه لخشعت جوارحه] .
والمطلوب من المسلم إذا قام في صلاته أن يخشع بقلبه وجوارحه فقلبه يخضع وجوارحه تهدأ وتسكن ولا تتحرك وقد ورد في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يقوم فيصلي ركعتين مقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة) رواه مسلم.
وعن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع ولا تكلم بكلام تعتذر منه وأجمع الإياس مما في أيدي الناس) رواه أحمد والبيهقي وهو حديث صحيح كما قال الألباني في صحيح الجامع الصغير 1/190.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن أحدكم إذا قام يصلي إنما يناجي ربه فلينظر كيف يناجيه) رواه الحاكم وهو حديث صحيح كما قال الألباني في صحيح الجامع الصغير 1/320.
وقد وردت عن السلف حكايات كثيرة في خشوعهم في صلاتهم حريّ بنا أن نقرأها ونستفيد منها وانظر بعضها في إحياء علوم الدين 1/149-151.
إذا تقرر هذا وأن الخشوع مطلوب في الصلاة فلا شك أن الضحك في الصلاة مما ينافي الخشوع ويدل على اشتغال العبد عن ربه وانصرافه عنه.(6/311)
وقرر العلماء أن الضحك بصوت مبطل للصلاة، قال الإمام النووي: [وأما الضحك والبكاء والأنين والتأوه والنفخ فإن بان - أي ظهر - منه حرفان بطلت صلاته وإلا فلا] المجموع 4/79.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وإن ضحك فبان حرفان فسدت صلاته وكذلك إن قهقه ولم يكن حرفان وبهذا قال جابر بن عبد الله وعطاء ومجاهد والحسن وقتادة والنخعي والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفاً.
قال ابن المنذر أجمعوا على أن الضحك يفسد الصلاة. وأكثر أهل العلم على أن التبسم لا يفسدها] المغني 2/39-40.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [والأظهر أن الصلاة تبطل بالقهقهة إذا كان فيها أصوات عالية فإنها تنافي الخشوع الواجب في الصلاة وفيها من الاستخفاف والتلاعب ما يناقض مقصود الصلاة فأبطلت لذلك لا لكونها كلاماً] الاختيارات العلمية ص 59.
والضحك يكون مع الصوت بحيث يسمع نفسه ومن قرب منه والقهقهة تكون بصوت مرتفع وأما التبسم فيكون بدون صوت والضحك والقهقهة يبطلان الصلاة كما سبق وأما التبسم فلا يبطلها وإن كان مخلاً بالخشوع.
وخلاصة الأمر أن من ضحك في صلاته فصلاته باطلة ويجب عليه أن يعيدها ويتوب إلى الله سبحانه وتعالى ويكثر من الاستغفار ولا يعود لمثل ذلك مستقبلاً.
* * *
لحن الإمام في القراءة في الصلاة
يقول السائل: إن إمام المسجد عندهم يخطىء في قراءة سورة الفاتحة وينطق الحروف نطقاً غير صحيح فما حكم الصلاة خلفه؟
الجواب: ثبت في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) رواه مسلم.(6/312)
والأقرأ هو الأحسن تلاوة وقراءة أو الأكثر قراءة ومن العلماء من قال الأقرأ هو الأفقه. انظر شرح النووي على صحيح مسلم 2/301.
وقد أخذ العلماء من الحديث السابق أنه يشترط في إمام الصلاة أن يكون صحيح اللسان بحيث ينطق الحروف على وجهها الصحيح وخاصة في قراءته للفاتحة.
فإذا كان الإمام يخطئ في القراءة أو يلحن ففي حكم إمامته تفصيل عند أهل العلم فإذا كان اللحن في الفاتحة وكان لحناً جلياً وهو الذي يغير المعنى فلا يصح أن يكون إماماً ولا يصح الاقتداء به واللحن الذي يغير المعنى مثل أن يضم التاء في قوله تعالى: (أَنْعَمْتَ) أو يكسرها أو يبدل الميم نوناً في قوله تعالى: (الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) أو يفتح الهمزة في قوله تعالى: (اهْدِنَا) فإذا كان حال الإمام كذلك فكثير من الفقهاء يمنعون الاقتداء به ولا يصح أن يكون إماماً إذا كان في المصلين من لا يلحن كلحنه.
وأما إذا كان اللحن لا يغير المعنى وهو اللحن الخفي فتصح الصلاة خلفه مع الكراهة ومثال اللحن الذي لا يغير المعنى أن يضم الهاء في قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أو يفتح الدال في قوله تعالى: (نَعْبُدُ) أو يبدل الضاد ظاءً في قوله تعالى: (وَلَا الضَّالِّينَ) قال الحافظ ابن كثير: [والصحيح من مذاهب العلماء أنه يغتفر الإخلال بتحرير ما بين الضاد والظاء لقرب مخرجيهما وذلك أن الضاد مخرجها من أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس ومخرج الظاء من طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا ولأن كلاً من الحرفين من الحروف المجهورة ومن الحروف الرخوة ومن الحروف المطبقة ولهذا كله اغتفر استعمال أحدهما مكان الآخر لمن لا يميز ذلك] تفسير ابن كثير 1/30.
قال الإمام النووي: [إذا لحن في القراءة كرهت إمامته مطلقاً فإن كان لحناً لا يغير المعنى كرفع الهاء من الحمد لله كانت كراهة تنزيه وصحت صلاته وصلاة من اقتدى به وإن كان لحناً يغير المعنى كضم التاء من(6/313)
أنعمت أو كسرها أو يبطله بأن يقول الصراط المستقين فإن كان لسانه يطاوعه وأمكنه التعلم فهو مرتكب للحرام ويلزمه المبادرة بالتعلم فإن قصر وضاق الوقت لزمه أن يصلي ويقضي ولا يصح الاقتداء به وإن لم يطاوعه لسانه أو لم يمض ما يمكن التعلم فيه فصلاة مثله خلفه صحيحة وصلاة صحيح اللسان خلفه كصلاة قارئ خلف أمي وإن كان في غير الفاتحة صحت صلاته وصلاة كل أحد خلفه لأن ترك السورة لا يبطل الصلاة فلا يمنع الاقتداء] المجموع 4/268-269.
وأما اللحَّان في غير الفاتحة فتكره إمامته أيضاً ولكنها صحيحة، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [تكره إمامة اللحان الذي لا يحيل المعنى، نص عليه أحمد وتصح صلاته بمن لا يلحن لأنه أتى بفرض القراءة فإن أحال المعنى في غير الفاتحة لم يمنع صحة الصلاة ولا الإئتمام به إلا أن يتعمده فتبطل صلاتهما] المغني 2/146.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [أما اللحن في الفاتحة الذي لايحيل المعنى فتصح صلاة صاحبه إماماً أو منفرداً] غاية المرام 6/261.
وعلى الإمام الذي يلحن في صلاته أن يتعلم النطق الصحيح بالحروف وأن يتدرب على تقويم لسانه فإن استقام لسانه فبها ونعمت وإلا فلا يجوز أن يستمر في إمامة الناس بالصلاة ويجب تغييره.
* * *
حكم قول بلى ونحوها في الصلاة
يقول السائل: إن الإمام في صلاة المغرب قرأ سورة التين ولما قرأ قوله تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) قال بعض المصلين [بلى] وبعد انتهاء الصلاة قام رجل وقال: من قال بلى بعد قراءة الإمام فصلاته باطلة. فما قولكم في ذلك؟
الجواب: إن كثيراً من الناس يفتون بغير علم ويتجرؤون على دين الله(6/314)
سبحانه وتعالى وهذا يدل على قلة العلم وقلة التقوى والورع والعياذ بالله.
وقد كان السلف ينكرون أشد الإنكار على من اقتحم حمى الفتوى ولم يتأهل لها ويعتبرون ذلك ثلمة في الإسلام ومنكراً عظيماً يجب أن يمنع.
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء. فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساء جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا) .
وروى الإمام أحمد وابن ماجة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من أُفتِيَ بغير علم كان إثم ذلك على الذي أفتاه) وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني في المشكاة 1/81.
وذلك لأن المستفتي معذور إذا كان من أفتاه لبس لبوس أهل العلم وحشر نفسه في زمرتهم وغر الناس بمظهره وسمته.
ومن ثم قرر العلماء: أن من أفتى وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص ومن أقره على ذلك فهو عاص أيضاً.
وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق. وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطب الناس بل هو أسوأ حالاً من هؤلاء كلهم.
وإذا كان يتعين منع من لم يحسن التطبيب من مداواة المرضى فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين؟
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية شديد الإنكار على هؤلاء ولما قال له بعضهم يوماً: أجعلت محتسباً على الفتوى؟ قال له: يكون على الخبازين والطباخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب. الفتوى بين الانضباط والتسيب ص22-24(6/315)
بتصرف.
إذا تقرر هذا فأعود إلى موضوع السؤال فأقول أولاً: إن الادعاء بإبطال صلاة المصلين لقولهم بلى في الصلاة المذكورة إدعاء بلا دليل ولا يجوز لأحد أن يقدم على إبطال صلاة أحد بدون دليل شرعي معتبر.
ثانياً: إن قول بعض المصلين بلى عند قراءة الإمام لقوله تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) له دليل ومستند وإن كان فيه كلام لأهل العلم فمن العلماء من يرى أن المصلي يقول ذلك في الصلاة إماماً كان أو مأموماً أو منفرداً ويقوله المستمع خارج الصلاة وبه قال جمهور العلماء كما في المجموع للنووي 4/67.
ومن العلماء من قال يقوله خارج الصلاة لا داخلها ولو قال ذلك داخل الصلاة لا تبطل صلاته. انظر المنهل العذب المورود شرح سنن الإمام أبي داود 5/336.
ومما يدل على أن المصلي يقول ذلك في صلاته ما رواه أبو داود بإسناده عن موسى بن أبي عائشة قال: (كان رجل يصلي فوق بيته وكان إذا قرأ: (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) قال: سبحانك فبلى. فسألوه عن ذلك فقال: سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال الشيخ الألباني: صحيح. انظر صحيح سنن أبي داود 1/168.
وقال الشيخ الألباني في تمام المنة: [أخرجه أبو داوود بسند صحيح عن الرجل وهو صحابي وجهالته لا تضر كما هو معروف عند العلماء] تمام المنة ... ص 186.
وورد في حديث آخر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من قرأ منكم بـ: (والتينِ وَالزَّيْتُونِ) فانتهى إلى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين. ومن قرأ (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) فانتهى إلى ... : (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) فليقل: بلى. ومن قرأ المرسلات فبلغ (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) فليقل آمنا بالله) رواه أبو داود وروى الترمذي بعضه إلى قوله:(6/316)
(وأنا من الشاهدين) والحديث ضعيف عند أكثر المحدثين. انظر المجموع للنووي 4/67 وتمام المنة في التعليق على فقه السنة ص 186 وشرح السنة 3/105.
وقواه الحافظ ابن حجر بتعدد الطرق والشواهد كما فصله ابن علان في شرح الأذكار 2/236-238 فيما نقله عن الحافظ ابن حجر في كلام طويل أذكر بعضه: [قال الحافظ هذا حديث حسن يتقوى بكثرة طرقه] ثم ذكر من أخرجه.
ثم قال الحافظ: [وإطلاق الضعف على هذا الحديث متعقب فإنه قد جاء عن غير أبي هريرة فجاء من حديث البراء بن عازب أخرجه عنه ابن مردويه ... ومن حديث جابر أخرجه ابن المنذر في تفسيره ... ومن حديث ابن عباس ... ومن حديث صحابي لم يسم أخرجه أبو داود عنه ... وورد مرسلاً عن قتادة ... أخرجه الطبري وسنده صحيح أو حسن لشواهده ومع تعدد هذه الطرق يتضح أن إطلاق كون هذا الحديث ضعيفاً ليس بمتجه] انتهى كلام الحافظ ملخصاً من شرح ابن علان على الأذكار.
وأشار الحافظ إلى أن هذا الحديث من فضائل الأعمال فيعمل به وإن كان فيه اختلاف. انظر مرقاة المفاتيح 2 /586.
وقال الإمام النووي: [ويستحب له أن يقول ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من قرأ والتين والزيتون فقال: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين) رواه أبو داود والترمذي بإسناد ضعيف عن رجل عن أعرابي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
قال الترمذي: هذا الحديث إنما يروى بهذا الإسناد عن الأعرابي عن أبي هريرة قال ولا يسمى. وروى ابن أبي داود والترمذي: (ومن قرأ آخر (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) فليقل: بلى. ومن قرأ: (فَبِأَيِّءَالَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) أو (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) فليقل آمنت بالله) .(6/317)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما وابن الزبير وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهم أنهم كانوا إذا قرأ أحدهم (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال: سبحان ربي الأعلى.
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه كان يقول فيها سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات.
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه صلى فقرأ آخر سورة بني إسرائيل ثم قال: الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً.
وقد نص بعض أصحابنا على أنه يستحب أن يقال في الصلاة ما قدمناه، وفي حديث أبي هريرة في السور الثلاث وكذلك يستحب أن يقال باقي ما ذكرناه وما كان في معناه والله أعلم] . التبيان في آداب حملة القرآن ص 65-66.
وقال الإمام النووي أيضاً: [قال الشافعي وأصحابنا يسن للقارئ في الصلاة وخارجها إذا مرّ بآية رحمة أن يسأل الله تعالى الرحمة أو بآية عذاب أن يستعيذ به من العذاب أو بآية تسبيح أن يسبح أو بآية مثل أن يتدبر قال أصحابنا ويستحب ذلك للإمام والمأموم والمنفرد وإذا قرأ (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) قال بلى وأنا على ذلك من الشاهدين وإذا قرأ (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) قال آمنا بالله. وكل هذا يستحب لكل قارئ في صلاته أو غيرها وسواء صلاة الفرض والنفل والمأموم والإمام والمنفرد لأنه دعاء فاستووا فيه كالتأمين ... ثم ذكر أدلة ذلك ثم قال: هذا تفصيل مذهبنا وقال أبو حنيفة رحمه الله يكره السؤال عند آية الرحمة والاستعاذة في الصلاة. وقال بمذهبنا جمهور العلماء من السلف فمن بعدهم] المجموع 4/66-67
والذي يظهر لي من كلام أهل العلم أنه يجوز للمصلي أن يقول بلى في المواقع التي سبقت سواء أكان إماماً أو مأموماً أو منفرداً وسواء صلى فريضة أم نافلة. ولا يصح القول ببطلان صلاة المصلي إن قال ذلك حتى(6/318)
عند من يمنع من قول ذلك في الصلاة المفروضة وهو قول الحنفية حيث قالوا: [ولو عمل به أحد في الصلاة لا تفسد] إعلاء السنن 4/168.
* * *
حديث مكذوب في قضاء الصلاة الفائتة
تقول السائلة: إنها قرأت في كتاب بعنوان سور من القرن الكريم حديثاً عن الصلاة لما فات من الأوقات، وهذا نصه: [عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من فاته في عمره صلاة ولم يقضها فليقم آخر جمعة من شهر رمضان يصلي أربع ركعات يتشهد وأخذ يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وسورة القدر وسورة الكوثر خمسة عشر مرة ويقول في النية: نويت أن أصلي أربع ركعات كفارة لما فاتني من الصلاة. قال أبو بكر: سمعت رسول الله يقول: هي كفارة أربعمئة سنة فقال علي هي كفارة ألف، قالوا يا رسول الله: ابن آدم يعيش مائة سنة فلمن تكون الصلاة الزائدة؟ قال: تكون لأبويه وزوجته وأولاده وأقاربه، فإذا فرغ من الصلاة صلى على النبي مائة مرة ثم يدعو بهذا الدعاء:
اللهم يا من لا تنفعك طاعتي ولا تضرك معصيتي تقبل ما لا ينفعك واغفر لي ما لا يضرك يا من إذا وعد وفى وإذا توعد تجاوز وعفا اغفر لعبد ظلم نفسه وأساء اللهم إني أعوذ بك من بطر الغنى وجهد الفقر إلهي خلقتني ولم أكن شيئاً ورزقتني ولم أكن شيئاً وارتكبت المعاصي فإني مقر لك بذنوبي فإن عفوت عني فلا ينقص من ملكك شيء وإن عذبتني فلا يزيد في سلطانك شيء إلهي أنت تجد من تعذبه غيري وأنا لا أجد من يرحمني غيرك اغفر لي ما بيني واغفر ما بيني وبين خلقك يا ارحم الراحمين ويا رجاء السائلين ويا أمان الخائفين ارحمني برحمتك الواسعة اللهم اغفر لي ولوالدي وللمسلمين] فما قولكم في هذا الكلام؟
الجواب: لا شك أن هذا الحديث مكذوب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(6/319)
وعلامات الوضع ظاهرة عليه وهذا الحديث تكذبه القواعد الشرعية، قال الشيخ العلامة عبد الحي اللكنوي: [حديث من قضى صلوات من الفرائض في آخر جمعة من رمضان كان ذلك جابرا لكل صلاة فائتة من عمره إلى سبعين سنة. قال علي القاري في موضوعاته الصغرى والكبرى باطل قطعياً لأنه مناقض للإجماع على أن شيئاً من العبادات لا يقوم مقام فائتة سنوات ثم لا عبرة بنقل صاحب النهاية ولا بقية شراح الهداية لأنهم ليسوا من المحدثين ولا أسندوا الحديث إلى أحد المخرجين، انتهى] الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة ص 85.
وقال الشيخ الشوكاني: [حديث من صلى في آخر جمعة من رمضان الخمس الصلوات المفروضة في اليوم الليلة قضت عنه ما أخل به من صلاة سنته.
هذا: موضوع لا إشكال فيه ولم أجده في شيء من الكتب التي جمع مصنفوها فيها الأحاديث الموضوعة ولكنه اشتهر عند جماعة من المتفقهة بمدينة صنعاء في عصرنا هذا. وصار كثير منهم يفعلون ذلك ولا أدرى من وضعه لهم. فقبح الله الكذابين] الفوائد المجموعة ص 54.
وخلاصة الأمر أن هذا من الكذب والافتراء على النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
الصلاة في مسجد فيه قبر
يقول السائل: ما حكم الصلاة في مسجد مبني على قبر والقبر في قبلة المسجد وما الجواب عمن يجيز الصلاة في المساجد التي فيها قبور بحجة أن المسجد النبوي فيه قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وصا حبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؟
الجواب: إن الإسلام قد سد الطرق التي تؤدي إلى خدش التوحيد ومن ذلك النهي عن اتخاذ القبور مساجد لأنه قد يوقع في الشرك وذلك(6/320)
بعبادة أصحاب القبور بالاستعانة بهم ودعائهم وتقديم النذور لهم وغير ذلك من مظاهر الشرك.
وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك منها:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي لم يقم منه: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد] رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) رواه البخاري ومسلم.
وعن عائشة رضي الله عنها: (لما كان مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - تذاكر بعض نسائه كنيسة بأرض الحبشة يقال لها مارية وقد كانت أم سلمة وأم حبيبة قد أتتا أرض الحبشة فذكرن من حسنها وتصاويرها، قالت: فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - رأسه فقال: أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً ثم صوروا تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة) رواه البخاري ومسلم.
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي: [هذا الحديث يدل على تحريم بناء المساجد على قبور الصالحين] انظر تحذير الساجد ص 17.
وعن جندب بن جنادة - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ( ... ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك) رواه مسلم، وغير ذلك من الأحاديث.
وبناء على ما تقدم فإنه يحرم بناء مسجد على قبر بمعنى أن يكون القبر سابقاً ثم بني عليه لاحقاً مسجد وهذا با تفاق أهل العلم فيما أعلم وهو ما تدل عليه النصوص الشرعية فالقبور ليست محلاً للصلاة فلا يجوز لأحد أن يصلي على قبر أو إليه ولا يستثنى من ذلك إلا صلاة الجنازة كما هو مبين في محله من كتب العلماء.
وقد صح في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها) رواه مسلم.(6/321)
قال القرطبي المحدث: [أي لا تتخذوها قبلة ... وكل ذلك لقطع الذريعة أن يعتقد الجهال في الصلاة إليها أو عليها الصلاة لها فيؤدي ذلك إلى عبادة من فيها كما كان السبب في عبادة الأصنام] المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 2/628.
وأما إذا كان المسجد هو السابق ووضع القبر فيه لاحقاً فإن الصلاة تكره في هذا المسجد وينبغي نبش القبر وإخراجه من المسجد.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية: [هل تصح الصلاة في المسجد إذا كان فيه قبر والناس تجتمع فيه لصلاتي الجماعة والجمعة أم لا؟ وهل يمهد القبر أو يعمل عليه حاجز أو حائط؟
فأجاب: الحمد لله، اتفق الأئمة أنه لا يبنى مسجد على قبر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك) وأنه لا يجوز دفن ميت في مسجد فإن كان المسجد قبل الدفن غير إما بتسوية القبر وإما بنبشه إن كان جديداً.
وإن كان المسجد بني بعد القبر فإما أن يزال المسجد وإما أن تزال صورة القبر فالمسجد الذي على القبر لا يصلى فيه فرض ولا نفل فإنه منهي عنه] مجموع الفتاوى 22/194-195.
وأما الاحتجاج بوجود قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه لأنه لم يكن كذلك في عهد الصحابة رضي الله عنهم فإنهم لما مات - صلى الله عليه وسلم - دفنوه في حجرته التي كانت بجانب مسجده وكان يفصل بينهما جدار فيه باب كان - صلى الله عليه وسلم - يخرج منه إلى المسجد وهذا أمر معروف مقطوع به عند العلماء ولا خلاف في ذلك بينهم والصحابة رضي الله عنهم حينما دفنوه - صلى الله عليه وسلم - في الحجرة إنما فعلوا ذلك كي لا يتمكن أحد بعدهم من اتخاذ قبره مسجداً] تحذير الساجد ص 84.
والوليد بن عبد الملك هو الذي أمر سنة ثمان وثمانين هجرية بإضافة حجرات أزواج الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد النبوي وكان ذلك بعد موت عامة الصحابة رضي الله عنهم. انظر تحذير الساجد ص 84.(6/322)
وعلى كل حال فالمسجد النبوي مستثنى من الحكم السابق لما للمسجد النبوي من فضائل معروفة وثابتة عند أهل العلم. انظر تحذير الساجد ص 195 فما بعدها.
وأخيراً ينبغي التنبيه على أنه لا يجوز دفن أحد من الأموات في المساجد وإنما السنة المعروفة هي الدفن في المقابر والمساجد ليست مقابر وإنما هي لعبادة الله سبحانه وتعالى فينبغي أن تكون المساجد خالية من المقابر لما يترتب على وجود القبر في المسجد من مفاسد عظيمة تخل بالعقيدة.
وقد سئل العلامة محمد بن صالح العثيمين عن رجل بنى مسجداً وأوصى أن يدفن فيه فدفن فما العمل الآن؟
فأجاب: [هذه الوصية أعني الوصية أن يدفن في المسجد غير صحيحة لأن المساجد ليست مقابر ولا يجوز الدفن في المسجد وتنفيذ هذه الوصية محرم والواجب الآن نبش هذا القبر وإخراجه إلى مقابر المسلمين] فتاوى العقيدة ص 461.
وخلاصة الأمر أن الصلاة تصح مع الكراهة في المسجد الذي به قبر إلا إذا كان القبر في قبلة المسجد مباشرة فلا تصح.
لا تشترط الطهارة للمس شريط تسجيل القرآن
يقول السائل: هل يشترط لمس الشريط المسجل عليه القرآن الكريم الطهارة؟
الجواب: لا شك أن ما نسمعه من الشريط المسجل عليه آيات من كتاب الله بصوت القارىء هو القرآن الكريم ولكن هذا الشريط لا يأخذ نفس الحكم المتعلق بالقرآن الكريم من حيث أنه لا يجوز مسه إلا على طهارة كما هو مذهب أكثر أهل العلم فيجوز مس الشريط بدون طهارة.
* * *(6/323)
بناء مدرسة على ظهر المسجد الموقوف
يقول السائل: عندنا أرض موقوفة بني عليها مسجد وقام أهل الحي ببناء طابق ثان فوق المسجد ويريدون أن يجعلوه مدرسة فما حكم ذلك؟
الجواب: لا يجوز بناء مدرسة فوق المسجد حيث إن الأرض موقوفة على بناء المسجد فقط، ولا يجوز لأهل الحي أو غيرهم التغيير في الوقف لأن شرط الواقف كنص الشارع.
وكذلك فإن الأصل أن يكون بناء المسجد مستقلاً ومتميزاً ومنفصلاً عن أي بناء آخر سواء أكان مدرسة أو عيادة طبية أو غير ذلك، والمدرسة وأمثالها من الأبنية العامة يختار لها مكان مناسب غير سطح المسجد.
* * *(6/324)
صلاة الجمعة(6/325)
تلاوة آية فيها سجدة أثناء خطبة الجمعة
يقول السائل: إذا قرأ خطيب الجمعة وهو على المنبر آية فيها سجدة فماذا يعمل بالنسبة لسجود التلاوة؟
الجواب: إذا قرأ خطيب الجمعة وهو على المنبر آية فيها سجدة فإن أمكنه السجود على المنبر فبها ونعمت، وإن لم يمكنه السجود على المنبر فإن شاء نزل وسجد وإن شاء ترك السجود ولا حرج في ذلك إن شاء الله تعالى.
وهذا قول جماعة من أهل العلم وقد فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمحضر من الصحابة فهو بمثابة الإجماع.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وإن قرأ السجدة في أثناء الخطبة فإن شاء نزل فسجد وإن أمكنه السجود على المنبر سجد عليه وإن ترك السجود فلا حرج، فعله عمر وترك وبهذا قال الشافعي وترك عثمان وأبو موسى وعمار والنعمان بن بشير وعقبة بن عامر ... ] المغني 2/230.
وفعل عمر الذي أشار إليه ابن قدامة رواه البخاري في صحيحه بإسناده أن عمر بن الخطاب: (قرأ يوم الجمعة على المنبر سورة النحل حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ(6/327)
بها حتى إذا جاء السجدة قال: يا أيها الناس إنما نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه ولم يسجد عمر - رضي الله عنه -. صحيح البخاري مع فتح الباري 3/213.
وفعل عمر - رضي الله عنه - وقوله في هذا الموطن والمجمع العظيم من الصحابة دليل على جواز السجود وتركه وأن لا حرج في ذلك.
وقال الحافظ ابن حجر: [وفي الحديث من الفوائد أن للخطيب أن يقرأ القرآن في الخطبة وأنه إذا مر بآية سجدة ينزل إلى الأرض ليسجد بها إذا لم يتمكن من السجود فوق المنبر وأن ذلك لا يقطع الخطبة ووجه ذلك فعل عمر مع حضور الصحابة ولم ينكر عليه أحد منهم] فتح الباري 3/213.
ومما يدل على أنه يجوز للخطيب أن ينزل عن المنبر ليسجد سجود التلاوة ما جاء في الحديث عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: (قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر " ص" فلما بلغ السجدة نزل سجد وسجد الناس معه فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشزَّن الناس للسجود فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما هي توبة نبي ولكني رأيتكم تشزنتم للسجود فنزل فسجد وسجدوا) رواه أبو داود والبيهقي والحاكم وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/265.
والتشزن معناه التأهب والتهيؤ للشيء والاستعداد له، أي استعدوا للسجود.
وأخيراً فإن بعض العلماء يرون أن الأولى في الخطيب أن لا يقرأ آية فيها سجدة أثناء الخطبة.
قال الماوردي: [والأولى بالإمام أن لا يقرأ في خطبته آية سجدة] الحاوي الكبير 2/444.
* * *(6/328)
الاعتراض على خطيب الجمعة أثناء الخطبة
يقول السائل: إن خطيب الجمعة في مسجد بلدتهم أطال الخطبة فاعترض عليه عدد من المصلين أثناء الخطبة وطلبوا منه أن ينهي خطبته وحصل كلام ولغط في المسجد أثناء الخطبة، فما حكم ذلك؟
الجواب: إن خير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم تقصير خطبة الجمعة وغيرها من الخطب إلا نادراً فقد ثبت في الحديث عن أبي وائل قال: (خطبنا عمار فأوجز وأبلغ فلما نزل قلنا يا أبا اليقظان لقد أبلغت وأوجزت فلو كنت تنفست فقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة وإن من البيان سحراً) رواه مسلم.
وقوله لو تنفست أي لو أطلت قليلاً، وقوله مئنة من فقهه أي علامة على فقهه قاله الإمام النووي في شرح صحيح مسلم 6/158.
وورد في رواية أخرى عن أبي راشد قال: (خطبنا عمار فتجوز في الخطبة فقال رجل: قد قلت قولاً شفاءً لو أنك أطلت، فقال عمار: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن نطيل الخطبة) رواه ابن أبي شيبة.
وجاء في الحديث عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: (أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإقصار الخطب) رواه أبو داود والبيهقي، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/205-206.
وجاء في الحديث عن جابر بن سمرة قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يطيل الموعظة يوم الجمعة إنما هن كلمات يسيرات) رواه أبو داود وحسّنه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/206.
وورد في رواية أخرى عن جابر بن سمرة قال: (كانت صلاة رسول - صلى الله عليه وسلم - قصداً وخطبته قصداً يقرأ آيات من القرآن ويذكر الناس) رواه مسلم.(6/329)
وقوله: (قصداً وخطبته قصداً) القصد في الشيء هو الاقتصاد فيه وترك التطويل وإنما كانت صلاته صلى الله عليه وسلم وخطبته كذلك لئلا يمل الناس والحديث فيه مشروعية إقصار الخطبة ولا خلاف في ذلك بين العلماء، عون المعبود شرح سنن أبي داود 3/316-317.
وهذه الأحاديث تدل على أن السنة تقصير خطبة الجمعة وتطويل الصلاة فهذا هو هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن أكثر خطباء الجمعة اليوم لا يقتدون بهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - بل إنهم يعكسون الأمر فيطيلون الخطبة ويقصرون الصلاة.
إذا تقرر هذا فنعود إلى السؤال حيث إن الخطيب قد أطال الخطبة فاعترض عليه عدد من المصلين فأقول لا ينبغي لأحد أن يعترض على خطيب الجمعة ولا يجوز لأحد أن يتكلم أثناء الخطبة فإذا أطال الخطيب فعلى المصلين أن يصبروا ويحتسبوا وقال جمهور أهل العلم يمنع جميع أنواع الكلام أثناء الخطبة ويدل على ذلك عموم قوله تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) سورة الأعراف الآية 204.
ومن المعلوم أن الخطبة تشتمل على آيات من القرآن الكريم فتدخل في وجوب الإنصات والاستماع إليها وقد ذكر جماعة من التابعين كمجاهد وعطاء وسعيد بن جبير أن هذه الآية نزلت في الخطبة وضعف ذلك الإمام القرطبي في تفسيره 7/353.
وأقوى من ذلك في الاستدلال على منع الكلام أثناء الخطبة ما جاء في الحديث عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت) رواه البخاري ومسلم.
قال الحافظ ابن حجر: [واستدل به على منع جميع أنواع الكلام حال الخطبة وبه قال الجمهور في حق من سمعها وكذا الحكم في حق من لا يسمعها عند الأكثر قالوا: وإذا أراد الأمر بالمعروف فليجعله بالإشارة] فتح الباري 3/66.
ويدل على ذلك أيضاً ما جاء في الحديث عن أبي ذر أنه قال: (دخلت المسجد يوم الجمعة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب فجلست قريباً من أبي بن(6/330)
كعب فقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - سورة براءة فقلت لأبي: متى نزلت هذه السورة؟ قال: فتجهمني ولم يكلمني ثم مكثت ساعة ثم سألته فتجهمني ولم يكلمني ثم مكثت ساعة ثم سألته فتجهمني ولم يكلمني فلما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قلت لأبي: سألتك فتجهمتني ولم تكلمني، قال أبي: مالك من صلاتك إلا ما لغوت. فذهبت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت يا نبي الله: كنت بجنب أبي وأنت تقرأ براءة فسألته متى نزلت هذه السورة؟ فتجهمني ولم يكلمني ثم قال: مالك من صلاتك إلا ما لغوت! قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: صدق أبي) رواه ابن خزيمة وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ص 303.
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: (دخل عبد الله من مسعود المسجد والنبي - صلى الله عليه وسلم - فجلس إلى جنب أبي بن كعب فسأله عن شيء أو كلمه بشيء فلم يرد عليه أبي وظن ابن مسعود أنها موجدة - أي غضب - فلما انفتل النبي - صلى الله عليه وسلم - من صلاته قال ابن مسعود: يا أبي ما منعك أن ترد علي؟ قال: إنك لم تحضر معنا الجمعة. قال: لمَ؟ قال: تكلمت والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب. فقام ابن مسعود فدخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صدق أبي، صدق أبي، أطع أبياً) رواه أبو يعلى بإسناد جيد وابن حبان وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ص 304.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من اغتسل يوم الجمعة ومسّ من طيب امرأته إن كان لها ولبس من صالح ثيابه ثم لم يتخط رقاب الناس ولم يلغ عند الموعظة كان كفارة لما بينهما ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً) رواه ابو داود وابن خزيمة وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ص 305.
وعن عبد الله بن عمرو أيضاً قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يحضر الجمعة ثلاثة نفر فرجل حضرها يلغو فذلك حظه منها ورجل حضرها بدعاء فهو رجل دعا الله إن شاء أعطاه وإن شاء منعه ورجل حضرها بإنصات وسكوت ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحداً فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة(6/331)
أيام وذلك أن الله يقول:
(مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)) رواه أبو داود وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني في المصدر السابق.
وقد شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - من يتكلم أثناء خطبة الجمعة بالحمار يحمل أسفاراً فقد جاء في الحديث عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً والذي يقول له أنصت ليست له جمعة) قال الحافظ ابن حجر: رواه أحمد بإسناد لا بأس به. وهو يفسر حديث أبي هريرة في الصحيحين مرفوعاً: (إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت) بلوغ المرام ص 91.
وذكر ابن حزم بإسناده عن بكر بن عبد الله المزني: (أن علقمة بن عبد الله المزني كان بمكة فجاء كريه - أي الذي أجره الدابة - والإمام يخطب يوم الجمعة فقال له: حسبت القوم قد ارتحلوا فقال له: لا تعجل حتى تنصرف فلما قضى صلاته قال له ابن عمر: أما صاحبك فحمار وأما أنت فلا جمعة لك) ... المحلى 3/269-270.
وأخيراً أبين أن جماعة من أهل العلم يرون أن من تكلم عامداً أثناء الخطبة فلا جمعة له وتحسب له ظهراً لما جاء في الحديث: (ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً) وقد سبق.
ومن العلماء من قال إن الجمعة تجزئ ولكن أجرها قد بطل ولم ينل الفضيلة.
* * *
لا سنة قبلية يوم الجمعة
يقول السائل: إنه قد صلى الجمعة في أحد المساجد وبعد انتهاء الصلاة قام ليبين للمصلين حكماً شرعياً يتعلق بصلاة السنة القبلية للجمعة وأنها غير ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمره إمام المسجد بالسكوت لأنه يثير فتنة بين المصلين كما زعم وحصل بعد ذلك صياح في المسجد من المصلين فكانوا بين مؤيد له بالكلام ومعارض، ويسأل عن حكم ذلك؟
الجواب: مما يؤسف له أن بيان الحكم الشرعي الصحيح المستند(6/332)
على الأدلة القوية الثابتة صار في عرف بعض أئمة المساجد يثير فتنة بين المصلين ويحدث النزاع والشقاق بينهم.
إن بعض أئمة المساجد يعتبر نفسه قيماً على أفكار الناس وحارساً على عقولهم فلا يريد أن يسمعوا إلا ما يوافق رأيه وهواه إن ما فعله الإمام المذكور خطأ واضح وليس له الحق في الحجر على أفكار الناس ما دام أن هذا الشخص يريد أن يبين حكماً شرعياً بأدلته وقد أطلعني على الورقة التي كان يريد أن يقرأها وفيها بيان حكم سنة الجمعة القبلية وأنها لم تثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل بها أحد من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب الفقهية ولم يثبتها المحققون من أهل الحديث وهذا هو القول الصحيح في المسألة.
والقول بإثبات سنة الجمعة القبلية ضعيف ولم يأت القائلون به بشيء يركن إليه ولا يعول عليه وكثرة الفاعلين لها لا يدل على مشروعيتها بل هؤلاء مجرد مقلدة لبعض المتأخرين من أتباع المذاهب.
وقد نص العلماء على أنه لا يجوز لأحد أن يمنع الناس من الأخذ برأي فقهي وإن كان المانع إماماً للمسلمين - خليفة - أو قاضياً أو والياً ومن باب أولى إمام المسجد لا يجوز له أن يمنع الناس من رأي معين بحجة أن ذلك قد يثير الفتنة كما زعم.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه عمن ولي أمراً من أمور المسلمين ومذهبه لا يجوز " شركة الأبدان " فهل يجوز له منع الناس؟
فأجاب: [ليس له منع الناس من مثل ذلك ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد، وليس معه بالمنع نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا ما هو معنى ذلك لا سيما وأكثر العلماء على جواز ذلك وهو مما يعمل به عامة المسلمين في عامة الأمصار.
وهذا كما أن الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل ولا للعالم والمفتي أن يلزم الناس باتباعه في مثل هذه المسائل، ولهذا لما استشار الرشيد مالكاً أن يحمل الناس على " موطئه " في مثل هذه المسائل منعه من ذلك، وقال: إن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفرقوا في(6/333)
الأمصار، وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم. وصنف رجل كتاباً في الاختلاف، فقال أحمد: لا تسمه " كتاب الاختلاف " ولكن سمه " كتاب السنة ".
ولهذا كان بعض العلماء يقول: إجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة. وكان عمر بن عبد العزيز يقول: ما يسرني أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يختلفوا لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالاً وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة. وكذلك قال غير مالك من الأئمة: ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه.
ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره: إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها، ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه. ونظائر هذه المسائل كثيرة: مثل تنازع الناس في بيع الباقلاء الأخضر في قشريه، وفي بيع المقاثي جملة واحدة، وبيع المعاطاة والسلم الحال، واستعمال الماء الكثير بعد وقوع النجاسة فيه إذا لم تغيره والتوضؤ من مس الذكر والنساء، وخروج النجاسات من غير السبيلين والقهقهة وترك الوضوء من ذلك، والقراءة بالبسملة سراً أو جهراً، وترك ذلك. وتنجيس بول ما يؤكل لحمه وروثه، أو القول بطهارة ذلك، وبيع الأعيان الغائبة بالصفة وترك ذلك والتيمم بضربة أو ضربتين إلى الكوعين أو المرفقين والتيمم لكل صلاة أو لوقت كل صلاة أو الاكتفاء بتيمم واحد وقبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض أو المنع من قبول شهادتهم. ومن هذا الباب الشركة بالعروض وشركة الوجوه والمساقاة على جميع أنواع الشجر والمزارعة على الأرض البيضاء، فإن هذه المسائل من جنس شركة الأبدان بل المانعون من هذه المشاركات أكثر من المانعين من مشاركة الأبدان ومع هذا فما زال المسلمون من عهد نبيهم وإلى اليوم في جميع الأعصار والأمصار يتعاملون بالمزارعة والمساقاة ولم ينكره عليهم أحد ولو منع الناس مثل هذه المعاملات لتعطل كثير من مصالحهم التي لا يتم دينهم ولا دنياهم إلا بها. ولهذا كان أبو(6/334)
حنيفة يفتي بأن المزارعة لا تجوز ثم يفرع على القول بجوازها ويقول: إن الناس لا يأخذون بقولي في المنع، ولهذا صار صاحباه إلى القول بجوازها كما اختار ذلك من اختاره من أصحاب الشافعي وغيره] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 30/ 79 - 81.
* * *(6/335)
صلاة التراويح(6/337)
عدد ركعات صلاة التراويح
يقول السائل: نشرت إحدى المجلات الإسلامية مقالاً حول عدد ركعات صلاة التراويح وخلص الكاتب إلى أن عدد الإحدى عشر ركعة هو الأولى والأحرى أن يستمسك به ويعض عليه بالنواجذ بل هو الذي يجب أن يصار إليه ولا يلتف إلى سواه لأنه وحده هو السنة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة أجمعين والتي لم يثبت عنهم سواها. فما قولكم في ذلك؟
الجواب: صلاة التراويح من السنن الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد اختلف أهل العلم في عدد ركعاتها فمنهم من يرى أنها إحدى عشرة ركعة مع الوتر.
ويرى جمهور الفقهاء أنها عشرون ركعة والوتر ثلاث ركعات وهذا قول مشهور من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى يومنا الحاضر وكثير من مساجد المسلمين تصلى فيها التراويح كذلك ومنهم من زاد على العشرين فقيل تسع وثلاثين وقيل إحدى وأربعين وقيل غير ذلك.
ومن أهل العلم من يرى أنه لا حد لعدد ركعات صلاة التراويح فيجوز أن يزيد على إحدى عشرة ركعة ولا حرج في ذلك.
وأقول من يزعم أنه لا تجوز الزيادة على إحدى عشرة ركعة فقد حجر واسعاً وضيق على المسلمين بدون دليل يركن إليه أو يعول عليه، فصلاة التراويح من السنن والسنن يتساهل فيها ما لا يتساهل في الفرائض،(6/339)
وزعم صاحب المقال المشار إليه بأنه يجب الأخذ بالإحدى عشرة ركعة ولا يلتف إلى سواه زعم غير صحيح وإيجاب لما لم يوجبه الشارع الحكيم فصلاة التراويح ذاتها ليست واجبة فضلاً أن يوجب هذا العدد من الركعات.
ولم يأت دليل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في إيجاب هذا العدد وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بمجرده لا يدل على الإيجاب حتى تدل القرائن على ذلك والحديث الصحيح الوارد عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة) رواه البخاري ومسلم، لا يدل على إيجاب ذلك العدد كما قاله المحققون من أهل العلم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [كما أن نفس قيام رمضان لم يوقت النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه عدداً معيناً بل كان هو - صلى الله عليه وسلم - لا يزيد في رمضان ولا في غيره على ثلاث عشرة ركعة ولكن كان يطيل الركعات فلما جمعهم عمر على أبي كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة ثم يوتر بثلاث وكان يخف القراءة بقدر ما زاد من الركعات لأن ذلك أخف على المأمومين من تطويل الركعة الواحدة ثم كان طائفة من السلف يقومون بأربعين ركعة ويوترون بثلاث وآخرون قاموا بست وثلاثين وأوتروا بثلاث وهذا كله سائغ فكيفما قام في رمضان من هذه الوجوه فقد أحسن.
والأفضل يختلف باختلاف أحوال المصلين فإن كان فيهم احتمال لطول القيام فالقيام بعشر ركعات وثلاث بعدها كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي لنفسه في رمضان وغيره هو الأفضل وإن كانوا لا يحتملونه فالقيام بعشرين هو الأفضل وهو الذي يعمل به أكثر المسلمين فإنه وسط بين العشر والأربعين وإن قام بأربعين وغيرها جاز ذلك ولا يكره شيء من ذلك. وقد نص على ذلك غير واحد من الأئمة كأحمد وغيره.
ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد موقت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يزاد فيه ولا ينقص منه فقد أخطأ] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 22/272.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع آخر: [ ... ويشبه ذلك من بعض الوجوه تنازع العلماء في مقدار القيام في رمضان فإنه قد ثبت أن(6/340)
أبي بن كعب كان يقوم بالناس عشرين ركعة في قيام رمضان ويوتر بثلاث فرأى كثير من العلماء أن ذلك هو السنة لأنه أقامه بين المهاجرين والأنصار ولم ينكره منكر واستحب آخرون تسعة وثلاثين ركعة بناء على أنه عمل أهل المدينة القديم.
وقال طائفة: قد ثبت في الصحيح عن عائشة: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة) واضطرب قوم في هذا الأصل لما ظنوه من معارضة الحديث الصحيح لما ثبت من سنة الخلفاء الراشدين وعمل المسلمين.
والصواب أن ذلك جميعه حسن، كما قد نص على ذلك الإمام أحمد - رضي الله عنه - وأنه لا يتوقت في قيام رمضان عدد فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوقت فيها عدداً، وحينئذ فيكون تكثير الركعات وتقليلها بحسب طول القيام وقصره، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يطيل القيام بالليل حتى إنه قد ثبت عنه في الصحيح من حديث حذيفة (أنه كان يقرأ في الركعة بالبقرة والنساء وآل عمران فكان طول القيام يغني عن تكثير الركعات) وأبي بن كعب لما قام بهم - وهم جماعة واحدة - لم يمكن أن يطيل بهم القيام فكثر الركعات ليكون ذلك عوضاً عن طول القيام وجعلوا ذلك ضعف عدد ركعاته فإنه كان يقوم بالليل إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ثم بعد ذلك كأن الناس بالمدينة ضعفوا عن طول القيام فكثروا الركعات حتى بلغت تسعاً وثلاثين] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 23/112-113.
وقال الإمام الشوكاني: [والحاصل أن الذي دلت عليه أحاديث الباب وما يشبهها هو مشروعية القيام في رمضان والصلاة فيه جماعة وفرادى فقصر الصلاة بالتراويح على عدد معين وتخصيصها بقراءة مخصوصة لم يرد به سنة] نيل الأوطار 3/61.
وقال الشيخ المرداوي: [قوله وهي عشرون ركعة هكذا قال الأصحاب وقال في الرعاية عشرون وقيل أو أزيد. قال: في الفروع والفائق ولا بأس بالزيادة، نص عليه، وقال: روي في هذا ألوان ولم يقض فيها(6/341)
بشيء، وقال الشيخ تقي الدين: كل ذلك أو إحدى عشرة أو ثلاث عشرة حسن كما نص عليه أحمد لعدم التوقيت فيكون تكثير الركعات وتقليلها بحسب طول القيام وقصره] الإنصاف 2/180.
وقد أجابت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء السعودية برئاسة العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز يرحمه الله عن سؤال حول عدد ركعات صلاة التراويح بما يلي: [صلاة التراويح سنة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد دلت الأدلة على أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة ... وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في بعض الليالي ثلاث عشرة ركعة فوجب أن يحمل كلام عائشة رضي الله عنها في قولها (ما كان يزيد - صلى الله عليه وسلم - في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة) على الأغلب جمعاً بين الأحاديث ولا حرج في الزيادة على ذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحدد في صلاة الليل شيئاً بل لما سئل عن صلاة الليل قال: (مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى) متفق عليه، ولم يحدد إحدى عشرة ركعة ولا غيرها فدل على التوسعة في صلاة الليل في رمضان وغيره] فتاوى اللجنة الدائمة 7/194-196.
وقال العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز يرحمه الله: [وليس في قيام رمضان حد محدود لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوقت لأمته في ذلك شيئاً وإنما حثهم على قيام رمضان ولم يحدد ذلك بركعات محدودة ولما سئل عليه الصلاة والسلام عن قيام الليل قال: (مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى) ... فدل ذلك على التوسعة في هذا الأمر فمن أحب أن يصلي عشرين ركعة ويوتر بثلاث فلا بأس ومن أحب أن يصلي عشر ركعات ويوتر بثلاث فلا بأس ومن أحب أن يصلي ثمان ركعات ويوتر بثلاث فلا بأس ومن زاد عن ذلك أو نقص عنه فلا حرج عليه والأفضل ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله غالباً وهو أن يقوم بثماني ركعات يسلم من كل ركعتين ويوتر بثلاث مع الخشوع والطمأنينة وترتيل القراءة] فضل الصوم وقيامه ص 7.
وبعد هذه النقول عن هؤلاء العلماء يظهر لنا أن الإنصاف يقضي بأن(6/342)
القول بأن الواجب إحدى عشرة ركعة في التراويح قولٌ غير مسلّم وأن الراجح من أقوال أهل العلم جواز الزيادة على ذلك العدد وأن الأمر فيه سعة ولا دليل على قصر التراويح على إحدى عشرة ركعة فقط.
* * *
إمام يصلي صلاة التراويح قاعداً
يقول السائل: إن إمام المسجد عندهم اعتاد في صلاة التراويح في كل رمضان أن يصلي قاعداً في الركعة الثانية من كل ترويحة والناس خلفه قعود وتعليل إمام المسجد لفعله هذا أنه يريد أن يسهل على المصلين صلاتهم، فما قولكم في ذلك؟
الجواب: من المعلوم عند أهل العلم أن الأصل هو القيام في صلاة الفريضة والنافلة فالإمام يصلي قائماً والمأمومون يصلون قياماً كما في الصلوات الخمس والجمعة وكما في صلوات الكسوف والاستسقاء والعيدين وكذلك الحال في صلاة التراويح عند صلاتها جماعة فالأصل أن يقوم الإمام وكذا المأمومون وإن لم يكن القيام فرضاً في صلاة النافلة حيث اتفق الفقهاء على جواز التنفل قاعداً بعذر ولغير عذر.
ولكن المحفوظ من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - القيام في صلوات النافلة التي تصلى جماعة كالتراويح فقد صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة التراويح بالصحابة ولم ينقل قعوده ولا قعود المأمومين خلفه.
وما نقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قعد وهو يؤم الصحابة إلا في حالات مرضه فقط كما رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
وأما عدا ذلك فلا أعرف خبراً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته قاعداً والناس خلفه قعود.
والذي توارثه المسلمون من لدن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - والصحابة من بعده إلى(6/343)
عصرنا الحاضر أن الإمام في صلاة التراويح يصلي قائماً والمصلون من خلفه قيام.
وبناء على ما سبق فإن هذا الإمام قد خالف الهدي النبوي والمأثور عن الصحابة والتابعين من بعدهم ولا أقول إن صلاته ومن معه باطلة لأن القيام ليس ركناً في النافلة كما هو الحال في الفريضة ولكن أقول ينبغي لهذا الإمام وأهل مسجده أن يجعلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدوتهم فيصلوا قياماً فإذا أصاب أحدهم تعب أو كان أحدهم مريضاً لا يستطيع الوقوف فإنه يجوز له الجلوس باتفاق العلماء.
أما أن يكون الإمام وجميع المصلين جلوساً فهذا أمر مستغرب وخاصة أنه يقع بدون عذر للإمام ولا للمأمومين.
* * *
حكم الأذكار بين كل ترويحتين
يقول السائل: ما حكم الأذكار التي يقولها المؤذنون بين كل ترويحتين في صلاة التراويح وهل لذلك مستند من الشرع؟
الجواب: إن الأصل الذي قرره العلماء في العبادات عامة والصلاة بشكل خاص هو التلقي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فالأصل فيها التوقيف أو الحظر كما يعبر بعض العلماء أي أن الأصل أن لا نفعل شيئاً في باب العبادات ما لم يكن وارداً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد ثبت في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) رواه البخاري، وهذا أمر نبوي يجب الالتزام به وقد وقع كثير من المسلمين في مخالفات كثيرة في باب العبادات وخاصة في الصلاة ومن المخالفات في صلاة التراويح ما ذكره السائل وهو الأذكار المبتدعة التي يقولوها المؤذنون بين كل ترويحتين فهذه الأذكار لا أصل لها في السنة بين الترويحتين في صلاة التراويح فهي بدعة مخالفة لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -.(6/344)
ومن ذلك قول بعض المؤذنين سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير وقولهم صلوا يا حضار على النبي المختار وغير ذلك من الأذكار فيكرر المصلون هذه الأذكار بصوت جماعي فهذا ليس عليه دليل من الشرع ومخالف للهدي النبوي وتشويش في بيوت الله. انظر السنن والمبتدعات ص 53.
وقال الإمام ابن الحاج: [فصل في الذكر بعد التسليمتين من صلاة التراويح وينبغي له - أي الإمام - أن يتجنب ما أحدثوه من الذكر بعد كل تسليمتين من صلاة التراويح ومن رفع أصواتهم بذلك والمشي على صوت واحد فإن ذلك كله من البدع وكذلك ينهى عن قول المؤذن بعد ذكرهم بعد التسلميتين من صلاة التراويح الصلاة يرحمكم الله فإنه محدث أيضاً والحدث في الدين ممنوع وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، ثم الخلفاء بعده ثم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ولم يذكر عن أحد من السلف فعل ذلك فيسعنا ما وسعهم] المدخل 1/443.
* * *
كيف يفعل من فاتته صلاة العيد
يقول السائل: ماذا يفعل من فاتته صلاة العيد مع الإمام؟
الجواب: يشرع لمن فاتته صلاة العيد مع الإمام أن يقضيها على صفتها أي أنه يصلي ركعتين ويكبر التكبيرات الزوائد، سبع في الركعة الأولى وخمس في الركعة الثانية لأن هذا أصح ما ورد في عدد التكبيرات الزوائد. ومن فاتته صلاة العيد يصليها بدون خطبة لأن الخطبة مشروعة مع الجماعة.
قال الإمام البخاري في صحيحه: [باب إذا فاتته صلاة العيد يصلي ركعتين، وكذلك النساء ومن كان في البيوت والقرى لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: هذا عيدنا أهل الإسلام
وأمر أنس بن مالك مولاه ابن أبي عتبة بالزاوية فجمع أهله وبنيه وصلى كصلاة أهل المصر وتكبيرهم.(6/345)
وقال عكرمة: أهل السواد يجتمعون في العيد يصلون ركعتين كما يصنع الإمام. وقال عطاء: إذا فاته العيد صلى ركعتين.
وذكر الحافظ ابن حجر أن أثر أنس المذكور قد وصله ابن أبي شيبة في المصنف وقوله الزاوية اسم موضع بالقرب من البصرة كان به لأنس قصر وأرض وكان يقيم هناك كثيراً.
وقول عكرمة وعطاء وصلهما ابن أبي شيبة أيضاً] صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 3/127-128.
وروى البيهقي بإسناده عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس بن مالك خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: [كان أنس إذا فاتته صلاة العيد مع الإمام، جمع أهله فصلى بهم مثل صلاة الإمام في العيد] .
ثم قال البيهقي: [ويذكر عن أنس بن مالك أنه كان بمنزله بالزاوية فلم يشهد العيد بالبصرة جمع مواليه وولده ثم يأمر مولاه عبد الله بن أبي عتبة فيصلي بهم كصلاة أهل المصر ركعتين ويكبر بهم كتكبيرهم] .
وذكر البيهقي أن عكرمة قال: [أهل السواد - أهل الريف - يجتمعون في العيد يصلون ركعتين كما يصنع الإمام.
وعن محمد بن سيرين قال: كانوا يستحبون إذا فات الرجل الصلاة في العيدين أن يمضي إلى الجبان فيصنع كما يصنع الإمام. وعن عطاء إذا فاته العيد صلى ركعتين ليس فيهما تكبيرة] سنن البيهقي 3/305.
وروى عبد الرزاق بإسناده عن قتادة قال: [من فاتته صلاة يوم الفطر صلى كما يصلي الإمام.
قال معمر: إن فاتت إنساناً الخطبة أو الصلاة يوم فطر أو أضحى ثم حضر بعد ذلك فإنه يصلي ركعتين] مصنف عبد الرزاق 3/300-301.
وروى ابن أبي شيبة أيضاً بإسناده عن الحسن البصري قال: [فيمن فاته العيد يصلي مثل صلاة الإمام.(6/346)
وروى أيضاً عن إبراهيم النخعي قال: إذا فاتتك الصلاة مع الإمام فصل مثل صلاته] .
قال إبراهيم: [وإذا استقبل الناس راجعين فلتدخل أدنى مسجد ثم فلتصل صلاة الإمام ومن لا يخرج إلى العيد فليصل مثل صلاة الإمام] .
وروى عن حماد في من لم يدرك الصلاة يوم العيد قال: [يصلي مثل صلاته ويكبر مثل تكبيره] مصنف ابن أبي شيبة 2/183-184.
وبمقتضى هذه الآثار قال جمهور أهل العلم أن من فاتته صلاة العيد صلى ركعتين كما صلى الإمام مع التكبيرات الزوائد.
ومن العلماء من قال: يصليها أربعاً واحتج بأثر وارد عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: من فاته العيد فليصل أربعاً] ولكنه منقطع كما قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 3/121.
ومن العلماء من خيره بين صلاة ركعتين أو أربع ركعات.
وأولى الأقوال هو القول الأول وهو أنه يقضيها ركعتين كأصلها، ولا يصح قياسها على الجمعة فمن فاتته الجمعة صلى أربعاً أي الظهر لأن الجمعة إنما تفوت إلى بدل وهو الظهر.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وإن شاء صلاها على صفة صلاة العيد بتكبير، نقل ذلك عن أحمد إسماعيل بن سعد واختاره الجوزجاني وهذا قول النخعي ومالك والشافعي وأبي ثور وابن المنذر لما روي عن أنس: أنه كان إذا لم يشهد العيد مع الإمام بالبصرة جمع أهله ومواليه ثم قام عبد الله بن أبي عتبة مولاه فصلى بهم ركعتين يكبر فيهما ولأنه قضاء صلاة فكان على صفتها كسائر الصلوات وهو مخير إن شاء صلاها وحده وإن شاء في جماعة. قيل لأبي عبد الله: أين يصلي؟ قال: إن شاء مضى إلى المصلى وإن شاء حيث شاء] المغني 2/290.
ونقل القرافي أن مذهب الإمام مالك كما في المدونة أنه يستحب لمن فاتته صلاة العيد مع الإمام أن يصليها على هيئتها. الذخيرة 2/423.(6/347)
وقال الإمام الشافعي: [ونحن نقول: إذا صلاها أحد صلاها كما يفعل الإمام يكبر في الأولى سبعاً وفي الآخرة خمساً قبل القراءة] معرفة السنن والآثار 5/103.
وذكر المرداوي الحنبلي أن المذهب عند الحنابلة هو أنها تقضى على صفتها. الإنصاف 2/433.
واختارت هذا القول اللجنة الدائمة للإفتاء السعودية برئاسة العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز - يرحمه الله - فقد جاء في فتواها: [ومن فاتته وأحب قضاءها استحب له ذلك فيصليها على صفتها من دون خطبة بعدها وبهذا قال الإمام مالك والشافعي وأحمد والنخعي وغيرهم من أهل العلم والأصل في ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أتيتم الصلاة فامشوا وعليكم السكينة والوقار فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا) وما روي عن أنس رضي الله عنه أنه كان إذا فاتته صلاة العيد مع الإمام جمع أهله ومواليه ثم قام عبد الله بن أبي عتبة مولاه فيصلي بهم ركعتين يكبر فيهما. ولمن حضر يوم العيد والإمام يخطب أن يستمع الخطبة ثم يقضي الصلاة بعد ذلك حتى يجمع بين المصلحتين] فتاوى اللجنة الدائمة 8/306.
وخلاصة الأمر أن من فاتته صلاة العيد فإنه يقضيها كما صلاها الإمام أي مع التكبيرات الزوائد.
* * *
أخذ المصاحف من المسجد
يقول السائل: يوجد في المسجد الذي يصلي فيه عدد كبير من المصاحف وإن أحد المصلين أخذ مصحفاً منها لنفسه ليقرأ في منزله فما حكم ذلك؟
الجواب: لا يجوز لأحد أن يأخذ شيئاً مما هو موقوف على المساجد كالمصاحف والكتب والسجاد والحصير وغير ذلك من الأشياء فهذه الأشياء(6/348)
الموقوفة يكون الانتفاع بها داخل المسجد فقط ولا يجوز لأحد أن يأخذ شيئاً لنفسه منها وإن أذن بذلك إمام المسجد أو مؤذنه لأنهما يتصرفان فيما لا يملكان فالمصاحف والكتب الموقوفة على المسجد لا يملك أحد أن يبطل وقفيتها على المسجد ويحولها إلى ملكية خاصة لبعض المصلين.
وقد نص العلماء على تحريم مثل هذه التصرفات، قال الإمام النووي: [لا يجوز أخذ شيء من أجزاء المسجد كحجر وحصاة وتراب وغيره ... وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة قال بعض الرواة أراه رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الحصاة لتناشد الذي يخرجها من المسجد) المجموع 2/179.
وقال الزركشي: [يحرم إخراج الحصى والحجر والتراب من أجزاء المسجد منه.. ومثله الزيت والشمع] إعلام الساجد بأحكام المساجد ص 239.
ثم ذكر الحديث الذي ذكره الإمام النووي في كلامه السابق، وهذا الحديث قال عنه المنذري: [رواه أبو داود بإسناد جيد، وذكر أن الدارقطني رجح وقفه على أبي هريرة الترغيب والترهيب 1/279. والحديث يدل على منع إخراج الحصى من المسجد وقد كان المسجد في العهد النبوي مفروشاً بالحصى فإذا كان لا يجوز إخراج الحصى فغير الحصى أولى بالمنع من باب أولى.
وخلاصة الأمر أنه يحرم على المسلم أن يأخذ لنفسه شيئاً من الأشياء الموقوفة على المسجد ولو ادعى أنه سينتفع به أكثر مما ينتفع به لو بقيت في المسجد كمن يقول إنه يوجد في المسجد مصاحف كثيرة وليس لديَّ مصحف فآخذ مصحفاً لأقرأ في بيتي فهذا لا يجوز.
كما وأنبه على قضية أخرى لها ارتباط بالمسألة وهي أنه يوجد في بعض المساجد صندوق لجمع التبرعات وتكون مسؤولية هذا الصندوق مناطة بشخص معين فيتصرف هذا الشخص في الأموال التي تجمع للمسجد فإما أن يأخذ منها لنفسه أو لغيره على أن تسدد فيما بعد فهذه التصرفات باطلة(6/349)
شرعاً لأن هذا المسؤول عن هذه الأموال يده عليها يد أمانة فإذا تصرف فيها لنفسه أو لغيره فقد خان الأمانة. ويضاف إلى ذلك أن بعض هؤلاء الناس قد يتصرف في أموال المسجد في مصالح عامة للناس فهذا أيضاً ممنوع شرعاً لأن هذه الأموال جمعت للمسجد فتصرف في مصالح المسجد فقط وليس في أي مصلحة عامة أخرى. وأما إذا زادت الأموال التي جمعت لمسجد معين عن حاجته فيمكن أن تصرف في مسجد آخر وكذا لو زادت المصاحف والكتب والسجاد عن حاجة مسجد معين فيمكن أن توضع في مسجد آخر.
* * *(6/350)
الجنائز(6/351)
وضع الجنائز إذا اجتمعت أمام الإمام
يقول السائل: إذا اجتمعت جنائز فكيف توضع أمام الإمام في صلاة الجنازة؟
الجواب: إذا اجتمعت عدة جنائز فيجوز أن يصلى عليها صلاة واحدة كما يجوز أن يصلى على كل منها صلاة مستقلة فإن صلي عليها صلاة واحدة فتوضع الجنائز أمام الإمام صفاً مما يلي القبلة بعضها خلف بعض ويكون الرجال مما يلي الإمام ثم النساء مما يلي القبلة فإذا كان الأموات رجالاً ونساءً وأطفالاً فيوضع الرجال أولاً ثم الأطفال الذكور ثم النساء وبهذا القول قال أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين والفقهاء فبه قال عثمان وعلي وابن عمر وابن عباس وأبو هريرة وأبو قتادة الأنصاري وزيد بن ثابت وأبو سعيد الخدري وواثلة بن الأسقع والحسن والحسين من الصحابة والشعبي وإبراهيم النخعي وسعيد بن المسيب والزهري من التابعين وهو قول مالك والثوري والحنفية والشافعية وإسحاق وابن المنذر وغيرهم، انظر الاستذكار لابن عبد البر 8/278، المجموع للنووي 5/288 معرفة السنن والآثار 5/288.
قال الزرقاني: [وعلى هذا أكثر العلماء وقال به جماعة من الصحابة والتابعين وقال ابن عباس وأبو هريرة وأبو قتادة هي السنة وقول الصحابي ذلك له حكم الرفع] عون المعبود 8/335.(6/353)
ويدل لهذا القول ما يلي: عن نافع عن ابن عمر (أنه صلى على تسع جنائز جميعاً فجعل الرجال يلون الإمام والنساء يلين القبلة فصفهن صفاً واحداً ووضعت جنازة أم كلثوم بنت علي امرأة عمر بن الخطاب وابن لها يقال له: زيد، وضعا جميعاً والإمام يومئذ سعيد بن العاص وفي الناس ابن عباس
وأبو هريرة وأبو سعيد وأبو قتادة فوضع الغلام مما يلي الإمام فقال رجل فأنكرت ذلك فنظرت إلى ابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد وأبي قتادة فقلت: ما هذا؟ قالوا: هي السنة) رواه النسائي والبيهقي والدارقطني وقال الإمام النووي إسناده صحيح، المجموع 5/224. وقال الشيخ الألباني: صحيح على شرط الشيخين، أحكام الجنائز ص 103.
وعن عمار مولى الحارث بن نوفل: (أنه شهد جنازة أم كلثوم وابنها فجعل الغلام مما يلي الإمام ووضعت المرأة وراءه فصلى عليها، فأنكرت ذلك وفي القوم ابن عباس وأبو سعيد الخدري وأبو قتادة وأبو هريرة فسألتهم عن ذلك فقالوا: هذه السنة) رواه أبو داود والنسائي والبيهقي وقال الشيخ الألباني: إسناده صحيح على شرط مسلم، أحكام الجنائز ص 104.
وقال البيهقي بعد أن ذكر الحديث السابق: [ورواه حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار دون كيفية الوضع بنحوه وذكر أن الإمام كان ابن عمر قال: وكان في القوم الحسن والحسين وأبو هريرة وابن عمر ونحو ثمانين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم] سنن البيهقي 4/33.
وروى البيهقي بإسناده: [أن واثلة بن الأسقع في الطاعون كان بالشام مات فيه بشر كثير فكان يصلي على جنائز الرجال والنساء جميعاً الرجال مما يليه والنساء مما يلي القبلة] سنن البيهقي 4/23.
وروى عبد الرزاق بإسناده عن علي قال: [إذا كان الرجال والنساء كان الرجال يلون الإمام والنساء من وراء ذلك] ، وروى أيضاً بإسناده عن علي قال: [الرجال قبل النساء والكبار قبل الصغار] ، وروى أيضاً قتادة عن ابن المسيب عن أبي هريرة: [أنه كان يصلي على الجنائز فيجعل الرجال يلون الإمام والنساء أمام ذلك وبه نأخذ] .(6/354)
وروى أيضاً عن عثمان بن موهب قال: [صليت مع أبي هريرة ومع ابن عمر على رجل وامرأة فجعل الرجل يلي الإمام والمرأة وراء ذلك وكبّر أربعاً] .
وروى أيضاً عن الزهري قال: [الرجال يلون الإمام والنساء وراء ذلك] .
وروى أيضاً عن عثمان: [أنه جعل الرجل يلي الإمام والمرأة أمام ذلك] .
وروى أيضاً عن إبراهيم أنه قال: [إذا اجتمعت جنائز الرجال والنساء كان الرجال يلون الإمام والنساء أمام ذلك] .
وروى أيضاً عن عطاء قال: [الرجال مما يلي الإمام والنساء أمام ذلك] .
وروى أيضاً عن الشعبي قال: [رأيته جاء إلى جنائز رجال ونساء ... قال: ثم جعل الرجال مما يلون الإمام والنساء أمام ذلك، بعضهم على إثر بعض، ثم ذكر أن ابن عمر فعل ذلك بأم كلثوم وزيد، وثم رجال من بني هاشم قال: أراه ذكر حسناً وحسيناً] .
وروى أيضاً عن أبي إسحاق قال: [رأيت الشعبي صلى على جنازة رجلين وصف أحدهما خلف الآخر، ثم قال: اصنعوا بهم هكذا، وإن كان عشرة] . مصنف عبد الرزاق 3/463-466.
وفي المسألة أقوال أخرى أرجحها ما ذكرته.
قال الحافظ ابن عبد البر بعد أن ذكر أقوال العلماء في المسألة مرجحاً ما ذكرته: [القول الأول أعلى وأولى لما فيه من الصحابة وقد قالوا إنها السنة وعليه جماعة الفقهاء] الاستذكار 8/279.
وينبغي أن يقدم أمام الإمام أفضل الأموات وأورعهم قال الإمام النووي: ... [قال إمام الحرمين وغيره والمعتبر في الفضيلة هنا الورع والتقوى وسائر الخصال المرعية في الصلاة عليه والغلبة على الظن كونه أقرب من رحمة الله تعالى] المجموع 5/266-277.(6/355)
تقبيل أهل الميت عند التعزية
يقول السائل: إن بعض الناس يقبلون أقارب الميت عند تعزيتهم فما حكم ذلك؟
الجواب: إن التعزية مستحبة عند أهل العلم فقد ورد في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله عز وجل من حلل الكرامة يوم القيامة) رواه ابن ماجة والبيهقي بإسناد حسن كما قال الإمام النووي في الأذكار ص 126.
قال الإمام النووي: [وأما لفظ التعزية فلا حجر فيه فبأي لفظ عزاه حصلت واستحب أصحابنا أن يقول في تعزية المسلم للمسلم أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك وغفر لميتك ... وأحسن ما يعزى به ما روينا في صحيح البخاري ومسلم
عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: أرسلت إحدى بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه تدعوه وتخبره أن صبياً لها أو ابناً في الموت فقال للرسول: ارجع إليها فأخبرها أن لله تعالى ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فمرها فلتصبر وتحتسب ... ] الأذكار ص 127.
ولم يثبت التقبيل ولا المعانقة في التعزية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد كره كثير من أهل العلم المعانقة والتقبيل من الرجل للرجل إلا للقادم من السفر.
وعليه فينبغي الاقتصار في التعزية على المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو التعزية بالكلام وليس بالمعانقة ولا بالتقبيل.
* * *
دفن رجل وامرأة في قبر واحد
يقول السائل: ما حكم دفن رجل مع امرأة في قبر واحد؟
الجواب: السنة أن يدفن كل ميت في قبر منفرد كذلك فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا معروف من سنته - صلى الله عليه وسلم - بالاستقراء كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في التلخيص الحبير 2/136.(6/356)
وأجاز العلماء دفن اثنين فأكثر في قبر واحد عند الضرورة والضيق والشدة قال الإمام الشافعي: [ويدفن في موضع الضرورة من الضيق والعجلة الميتان والثلاثة في القبر] الأم 1/276.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ولا يدفن اثنان في قبر واحد إلا لضرورة وسئل أحمد عن الاثنين والثلاثة يدفنون في قبر واحد، قال أما في المصر فلا، وأما في بلاد الروم فتكثر القتلى فيحفر شبه النهر رأس هذا عند رجل هذا ويجعل بينهما حاجزاً لا يلتزق واحد بالآخر وهذا قول الشافعي وذلك أنه لا يتعذر في الغالب إفراد كل واحد بقبر في المصر ويتعذر ذلك غالباً في دار الحرب وفي موضع المعترك وإن وجدت الضرورة جاز دفن الاثنين والثلاثة وأكثر في القبر الواحد حيثما كان من مصر أو غيره] المغني 2/ 420.
ويدل على ذلك ما ورد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الرجلين والثلاثة من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟ فإذا أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد ... ) رواه البخاري.
وعن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال: (أتى عمرو بن الجموح إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله! أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة؟ وكانت رجله عرجاء فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم فقتلوا يوم أحد هو وابن أخيه ومولى لهم فمر عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: كأني أنظر إليك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهما وبمولاهما فجعلوا في قبر واحد) رواه أحمد بسند حسن كما قال الحافظ ابن حجر، انظر أحكام الجنائز ص 146.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [وأما دفن الرجل مع المرأة فروى عبد الرزاق بإسناد حسن عن واثلة بن الأسقع أنه كان يدفن الرجل والمرأة في القبر الواحد فيقدم الرجل ويجعل المرأة وراءه] وكأنه كان يجعل بينهما حائلاً من تراب ولا سيما إن كانا أجنبيين. فتح الباري 3/ 455.(6/357)
وبناءً على ذلك فيجوز دفن الرجل مع المرأة في قبر واحد عند الضرورة ويوضع حاجز بينهما وأما في الأحوال العادية فينبغي أن يدفن كل ميت في قبر لوحده قال الإمام الشافعي (ولا أحب أن تدفن المرأة مع الرجل على حال وإن كانت ضرورة ولا سبيل إلى غيرها كان الرجل أمامها وهي خلفه ويجعل بين الرجل والمرأة في القبر حاجز من تراب) الأم 1/ 276.
* * *
الدفن في غرفة مقامة على وجه الأرض
يقول السائل: ما قولكم فيما يفعله بعض الناس حيث إن المقبرة عندهم عبارة عن بناء قائم على وجه الأرض أشبه ما تكون بغرفة فإذا مات الميت فتحوا باب الغرفة ووضعوا الميت على الأرض بدون دفن فإذا مات آخر فتحوا الغرفة ووضعوا الميت الآخر بجانبه وهكذا فهل هذه المقبرة معتبرة شرعاً؟ أفيدونا.
الجواب: الأصل الثابت من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - الفعلية والقولية أن الميت يدفن تحت التراب ولا يترك على وجه الأرض ولو كان في غرفة مغلقة كما في السؤال.
ودفن الميت فرض كفاية ومعنى الدفن أن يخفى الشيء في التراب ودفن الميت جعله تحت التراب وقد جاء في الحديث عن هشام بن عامر قال: (شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد فقلنا يا رسول الله: الحفر علينا لكل إنسان شديد فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: احفروا وأعمقوا وأحسنوا وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد، فقالوا: فمن نقدم يا رسول الله؟ قال: قدموا أكثرهم قرآنا، وكان أبي ثالث ثلاثة في قبر واحد) رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال حسن صحيح وقال الشيخ الألباني إسناد الحديث صحيح كما قال الترمذي وهو على شرط الشيخين. أحكام الجنائز ص143.(6/358)
فهذا الحديث يدل على أن الميت يدفن تحت التراب ويدل على تعميق القبر، قال الشوكاني: [فيه دليل على مشروعية إعماق القبر وإحسانه وقد اختلف في حد الإعماق فقال الشافعي: قامة. وقال عمر بن عبد العزيز إلى السرة، وقال الإمام يحيى إلى الثدي وأقله ما يواري الميت ويمنع السبع] نيل الأوطار 4/89.
والمراد بقول الشافعي في حد الإعماق قامة أي قامة رجل معتدل فقد أوصى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن يعمق قبره إلى قامة وبسطة. رواه ابن أبي شيبة في المصنف 3/326 وانظر نيل الأوطار 4/89، الموسوعة الفقهية 32/246.
وجاء في الحديث عن رجل من الأنصار قال: (خرجنا في جنازة فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حفيرة القبر فجعل يوصي الحافر ويقول: أوسع من قبل الرأس وأوسع من قبل الرجلين) رواه أبو داود والبيهقي وإسناده صحيح كما قال الإمام النووي في المجموع 5/286.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [قال أحمد رحمه الله: يعمق القبر إلى الصدر الرجل والمرأة في ذلك سواء كان الحسن وابن سيرين يستحبان أن يعمق القبر إلى الصدر. وقال سعيد: حدثنا إسماعيل بن عياش عن عمرو بن مهاجر:
أن عمر بن عبد العزيز لما مات ابنه أمرهم أن يحفروا قبره إلى السرة ولا يعمقوا فإن ما على ظهر الأرض أفضل مما سفل منها. وذكر أبو الخطاب: أنه يستحب أن يعمق قدر قامة وبسطة وهو قول الشافعي. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (احفروا وأوسعوا وأعمقوا) رواه أبو داود. ولأن ابن عمر أوصى بذلك في قبره ولأنه أحرى ألا تناله السباع وأبعد على من ينبشه. والمنصوص عن أحمد: أن المستحب تعميقه إلى الصدر لأن التعميق قدر قامة وبسطة يشق ويخرج عن العادة. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أعمقوا) ليس فيه بيان لقدر التعميق ولم يصح عن ابن عمر أنه أوصى بذلك في قبره ولو صح عند أبي عبد الله لم يعده إلى غيره.
إذا ثبت هذا فإنه يستحب تحسينه وتعميقه وتوسيعه للخبر، وقد روى(6/359)
زيد بن أسلم قال: (وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قبر. فقال: اصنعوا كذا، اصنعوا كذا، ثم قال: ما بي أن يكون يغني عنه شيئاً ولكن الله يحب إذا عمل العمل أن يحكم) قال معمر: وبلغني أنه قال: (ولكنه أطيب لأنفس أهله) رواه عبد الرزاق في كتاب الجنائز] المغني 2/371.
وبناء على ما تقدم فإن ترك الأموات في غرفة بدون دفن كما في السؤال هو خلاف سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وينبغي تخصيص قطعة أرض لتكون مقبرة كما توارثه المسلمون منذ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وحتى الآن.
* * *
صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي
يقول السائل: إنه سمع أحد الوعاظ يذكر صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي ويقول إن جثمان النجاشي أحضر أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن ذلك كان من خصوصياته - صلى الله عليه وسلم - فما قولكم في ذلك؟
الجواب: وردت روايات كثيرة في صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي منها:
1. روى الإمام البخاري بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى على النجاشي فكنت في الصف الثاني أو الثالث) .
2. وروى الإمام البخاري بسنده عن عطاء أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قد توفي اليوم رجل صالح من الحبش فهلم فصلوا عليه قال فصففنا فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه ونحن صفوف) .
3. وروى الإمام البخاري بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (نعى النبي - صلى الله عليه وسلم - النجاشي ثم تقدم فصفوا خلفه فكبر أربعاً) .
4. وروى الإمام مسلم بسنده عن أبي الزبير عن جابر ابن عبد الله(6/360)
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن أخا لكم قد مات فقوموا فصلوا عليه. قال فقمنا فصفنا صفين) .
وغير ذلك من الروايات التي تثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صلى على النجاشي صلاة الغائب.
وقد زعم بعض أهل العلم أنه قد جيىء بجثمان النجاشي أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أنه أريه فقالوا إن الأرض دحيت له - صلى الله عليه وسلم - جنوباً وشمالاً حتى رأى نعش النجاشي كما دحيت له جنوباً وشمالاً حين رأى المسجد الأقصى صباح ليلة الإسراء والمعراج حين وصفه لكفار قريش. تفسير القرطبي 2/81-82.
قال ابن عابدين: [لأنه رفع سريره - أي النجاشي- حتى رآه عليه الصلاة والسلام بحضرته فتكون صلاة من خلفه على ميت يراه الإمام وبحضرته دون المأمومين وغير مانع من الإقتداء] حاشية ابن عابدين 2/209
وأيدوا قولهم بما ورد من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن أخاكم النجاشي توفي فقوموا فصلوا عليه فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصفوا خلفه فكبر أربعاً وهم لا يظنون إلا أن جنازته بين يديه) رواه ابن حبان وإسناده صحيح كما قال الشيخ الأرناؤوط، صحيح ابن حبان 7/369.
وهذا الإدعاء غير مسلم لأن الأصل عدم الخصوصية.
قال الإمام الخطابي: [وزعموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مخصوصاً بهذا الفعل إذ كان في حكم المشاهدين للنجاشي لما روي في بعض الأخبار أنه قد سويت له أعلام الأرض حتى كان يبصر مكانه. وهذا تأويل فاسد لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فعل شيئاً من افعاله الشريفة كان علينا متابعته والإيتساء به والتخصيص لا يعلم إلا بدليل.
ومما يبين ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - خرج بالناس إلى المصلى فصف بهم فصلوا معه فعلمت ان هذا التأويل فاسد] معالم السنن 1/ 270- 271.(6/361)
وقال الإمام البغوي: [وزعموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مخصوصاً به، وهذا ضعيف لأن الإقتداء به في أفعاله واجب على الكافة ما لم يقم دليل التخصيص ولا تجوز دعوى التخصيص هاهنا لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل عليه وحده إنما صلى مع الناس] شرح السنة 5/341-342.
وقال صاحب عون المعبود: [قلت دعوى الخصوصية ليس عليها دليل ولا برهان بل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فهلموا فصلوا عليه) وقوله: (فقوموا فصلوا عليه) وقول جابر: (فصففنا خلفه فصلى عليه ونحن صفوف) وقول أبي هريرة: (ثم قال: استغفروا له ثم خرج بأصحابه فصلى بهم كما يصلى على الجنازة) وقول عمران: (فقمنا فصففنا عليه كما يصف على الميت وصلينا عليه كما يصلى على الميت) وتقدم هذه الروايات يبطل دعوى الخصوصية لأن صلاة الغائب إن كان خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فلا معنى لأمره - صلى الله عليه وسلم - بتلك الصلاة بل نهى عنها لأن ما كان خاصاً به - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز فعله لأمته. ألا ترى صوم الوصال لم يرخص لهم به مع شدة حرصهم لأدائه والأصل في كل أمر من الأمور الشرعية عدم الخصوصية حتى يقوم الدليل عليها وليس هنا دليل على الخصوصية بل قام الدليل على عدمها] عون المعبود 9/9.
وأما قولهم إن الأرض دحيت للنبي - صلى الله عليه وسلم - فرأى نعش النجاشي أو أحضر النعش بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكلام ينقصه الدليل وقد ردّ ذلك كثير من أهل العلم: قال الإمام النووي: [إنه لو فتح هذا الباب لم يبق وثوق بشيء من ظواهر الشرع لاحتمال انحراف العادة في تلك القضية مع أنه لو كان شيء من ذلك لتوفرت الدواعي بنقله] المجموع 5/253 وانظر المغني 2/382.
وقال الإمام ابن العربي المالكي جواباً على هذا الزعم بأن الأرض طويت وأحضرت الجنازة بين يديه - صلى الله عليه وسلم -: [قلنا إن ربنا عليه لقادر وإن نبينا لأهل لذلك ولكن لا تقولوا إلا ما رويتم ولا تخترعوا من عند أنفسكم ولا تحدثوا إلا بالثابتات ودعوا الضعاف فإنها سبيل تلاف إلى ما ليس له تلاف] عارضة الأحوذي 4/260.(6/362)
وقال شمس الحق العظيم آبادي: [وأما قولهم رفع له سريره أو أحضر روحه بين يديه فجوابه: أن الله تبارك وتعالى لقادر عليه وأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - لأهل لذلك لكن لم يثبت ذلك في حديث النجاشي بسند صحيح أو حسن وإنما ذكره الواحدي عن إبن عباس بلا سند فلا يحتج به. ولهذا قال ابن العربي: ولا تحدثوا إلا بالثابتات ودعوا الضعاف.
وأما ما رواه أبو عوانه وابن حبان من حديث عمران بن حصين، فلا يدل على ذلك فإن لفظه "وهم لا يظنون إلا أن جنازته بين يديه " وفي لفظ " ونحن لا نرى إلا الجنازة قدَّامنا " ومعنى هذا القول أنا صلينا عليه خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يصلي على الميت والحال أنا لم نر الميت لكن صففنا عليه كما يصف على الميت كأن الميت قدَّامنا ونظن أن جنازته بين يدي - صلى الله عليه وسلم - لصلاته - صلى الله عليه وسلم - كعلى الحاضر المشاهد فحينئذ يؤول معنى لفظ هذا الحديث الى معنى لفظ أحمد ويؤيد هذا المعنى حديث مجمع عند الطبراني " فصففنا خلفه صفين وما نرى شيئا "] عون المعبود 9/9-10.
وخلاصة الأمر أن ما ادعاه الواعظ المشار إليه غير صحيح والصواب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صلى على النجاشي صلاة الغائب.
* * *(6/363)
الزكاة(6/365)
اشتراط الحول في الزكاة
يقول السائل: إنه قرأ في كتاب فقه الزكاة للدكتور يوسف القرضاوي أنه لم يثبت حديث صحيح في اشتراط الحول في الزكاة فما قولكم في ذلك؟
الجواب: من المعروف عند أهل العلم أن أهم مصدر في المكتبة الإسلامية المعاصرة في موضوع الزكاة هو كتاب فقه الزكاة للدكتور العلامة الشيخ يوسف القرضاوي فقيه العصر والأوان بلا منازع حيث إنه بحث الزكاة بتوسع وعمق يشكر عليه. وقد تعرض لمسألة اشتراط الحول في الزكاة في موضعين من كتابه ففي الموضع الأول ذكر حولان الحول ضمن شروط المال الذي تجب فيه الزكاة فقد ذكر أنه يشترط فيه ... ما يلي:
1. الملك التام.
2. النماء.
3. بلوغ النصاب.
4. الفضل عن الحوائج الأصلية.
5. السلامة من الدين.
6. حولان الحول.(6/367)
فقال: [ومعناه: أن يمر على الملك في ملك المالك اثنا عشر شهراً عربياً وهذا الشرط إنما هو بالنسبة للأنعام والنقود والسلع التجارية " وهو ما يدخل تحت اسم زكاة رأس المال " أما الزروع والثمار والعسل والمستخرج من المعادن والكنوز ونحوها فلا يشترط لها حول وهو ما يمكن أن يدخل تحت اسم " زكاة المدخل "] فقه الزكاة 1/161.
ثم نقل الشيخ القرضاوي كلام بعض أهل العلم في اشتراط الحول وخلاف بعض العلماء في عدم اشتراط الحول ثم قال: [وقد ذكر ابن رشد في سبب الاختلاف أنه لم يرد في ذلك حديث ثابت، ثم عقب الشيخ القرضاوي على ذلك بقوله: وهو توجيه صحيح كما سنبينه في موضعه إن شاء الله] فقه الزكاة 1/163.
وقد وفى الشيخ القرضاوي بما وعد فقد فصل الكلام على الأحاديث الواردة في اشتراط الحول فقال: [روي اشتراط الحول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أربعة من الصحابة هم علي وابن عمر وأنس وعائشة رضي الله عنهم ولكن هذه الأحاديث كلها ضعيفة لا تصلح للحجة] فقه الزكاة 1/492.
ثم فصل الكلام على الأحاديث الأربعة من حيث السند.
وبعد كلام طويل عن الأحاديث السابقة قال العلامة القرضاوي حفظه الله ورعاه: [وبهذا البيان يتضح لنا أنه ليس في اشتراط الحول حديث ثابت مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -] فقه الزكاة 1/497.
ثم قال في موضع آخر: [إن اشتراط الحول في كل مال - حتى المستفاد منه - ليس فيه نص في مرتبة الصحيح أو الحسن الذي يؤخذ منه حكم شرعي عام للأمة وتقيد به النصوص المطلقة وهذا ما صرح به علماء الحديث وإنما صح ذلك من قول بعض الصحابة كما ذكرنا] فقه الزكاة 1/505.
هذا مختصر كلام العلامة القرضاوي في المسألة وقد اعتمد فيما ذهب إليه على كلام بعض أهل الحديث في الحكم على الأحاديث الواردة في اشتراط الحول وأنها ضعيفة لا تصلح للحجة ولكنني أخالفه فيما ذهب(6/368)
وأرى أن ما ذهب إليه الشيخ القرضاوي من عدم اشتراط الحول في الزكاة هو قول ضعيف ومخالف لما عليه جماهير الصحابة وأئمة الفتوى من الفقهاء، انظر المجموع 5/361، مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 25/14.
وقد وقفت بعد البحث والتقصي على كلام لبعض أهل العلم يقوى الأحاديث التي اشترطت الحول في الزكاة فأقول وبالله التوفيق:
إن كلام العلامة ابن رشد الذي ساقه الشيخ القرضاوي وصوبه فيه إثبات قوي لاشتراط الحول وإليك نص كلام ابن رشد: [وأما وقت الزكاة فإن جمهور الفقهاء يشترطون في وجوب الزكاة في الذهب والفضة والماشية الحول لثبوت ذلك عن الخلفاء الأربعة ولانتشاره في الصحابة رضي الله عنهم ولانتشار العمل به ولاعتقادهم أن مثل هذا الانتشار من غير خلاف لا يجوز أن يكون إلا عن توقيف. وقد روي مرفوعاً من حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول) وهذا مجمع عليه عند فقهاء الأمصار وليس فيه في الصدر الأول خلاف إلا ما روي عن ابن عباس ومعاوية وسبب الاختلاف أنه لم يرد في ذلك حديث ثابت] بداية المجتهد 5/78-79.
وقال الحافظ ابن عبد البر: [وأما الذهب والورق فلا تجب الزكاة في شيء منها إلا بعد تمام الحول أيضاً وعلى هذا جمهور العلماء والخلاف فيه شذوذ ولا أعلمه إلا شيء روي عن ابن عباس ومعاوية أنهما قالا: من ملك النصاب من الذهب والورق وجبت عليه الزكاة في الوقت. وهذا قول لم يعرج عليه أحد من العلماء ولا قال به أحد من أئمة الصحابة ولا قال به أحد من أئمة الفتوى إلا رواية عن الأوزاعي ... ] فتح المالك بتبويب التمهيد لابن عبد البر على موطأ مالك 5/20.
وذكر الحافظ ابن عبد البر أن القول باشتراط الحول في الزكاة عليه جماعة الفقهاء قديماً وحديثاً لا يختلفون فيه أنه لا يجب في مال من العين ولا في ماشية زكاة حتى يحول عليه الحول إلا ما روي عن ابن عباس وعن(6/369)
معاوية أيضاً ... ولا أعلم أحداً من الفقهاء قال بقول معاوية وابن عباس في اطراح مرور الحول إلا مسألة جاءت عن الأوزاعي
وعقب الحافظ ابن عبد البر بقوله: [هذا قول ضعيف متناقض] انظر الاستذكار 9/32-33.
إن القول باشتراط الحول في الزكاة قال به الأئمة الأربعة وثبت ذلك عن الخلفاء الأربعة وهو قول مشهور بين الصحابة وعملوا به وهذا الانتشار لا يجوز إلا أن يكون عن توقيف كما قال العلامة ابن رشد. بداية المجتهد 5/78.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام مؤيداً اشتراط الحول: [فقد تواترت الآثار عن علية أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا] كتاب الأموال ص 505.
إذا ثبت هذا فنعود إلى أقوال المحدثين في الأحاديث الواردة في اشتراط الحول وهي عدة أحاديث، منها حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول] رواه الترمذي وابن ماجة والبيهقي والدارقطني وغيرهم.
وقد ورد بهذا اللفظ ونحوه عن جماعة من الصحابة منهم علي وعائشة وأنس وأم سعد الأنصارية وسراء بنت نبهان رضي الله عنهم.
وهذه الأحاديث فيها كلام طويل لأهل الحديث لا يتسع المقام لإيراده وهذه الأحاديث حكم عليها بعض أهل الحديث بالضعف كما فصله الشيخ القرضاوي في كتابه إلا أن جماعة أخرى من أهل الحديث يرون أن هذه الأحاديث تصلح للاستدلال بمجموع طرقها بل إن بعض طرقها صحيح أو حسن.
قال الشيخ أحمد الغماري بعد أن تكلم على أسانيد هذه الأحاديث: ... [ ... إلا أن مجموع هذه الأحاديث مع حديث علي الذي هو حسن يصل إلى درجة المعمول به لا سيما مع تواتر ذلك عن الصحابة كما قال أبو عبيد في الأموال: قد تواترت الآثار عن علية أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا ثم(6/370)
أسند ذلك عن علي وابن عمر وأبي بكر وعثمان وابن مسعود وطارق بن شهاب وفي مصنف ابن أبي شيبة زيادة أبي بكرة وعائشة وبعض ذلك في الموطأ كأثر ابن عمر وعثمان] الهداية في تخريج أحاديث البداية 5/84-86
وحديث علي الذي أشار إليه الشيخ الغماري هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (قد عفوت عن صدقة الخيل والرقيق فهاتوا من الرقة ربع العشر من كل مئتي درهم خمسة دراهم ومن كل عشرين ديناراً نصف دينار وليس في مئتي درهم شيء حتى يحول عليها الحول ففيها خمسة دراهم ... الخ) رواه أبو داود والبيهقي وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/296.
وكذلك فإن الشيخ الألباني صحح حديث ابن عمر المذكور بمجوع طرقه وذكر أن حديث علي السابق يقويه فقال: [ثم وجدت للحديث طريقاً أخرى بسند صحيح عن علي - رضي الله عنه - خرجته في صحيح أبي داود فصح الحديث والحمد لله] إرواء الغليل 3/258.
وقال الإمام الزيلعي عن حديث علي المذكور: [ ... فالحديث حسن ... قال النووي رحمه الله في الخلاصة وهو حديث صحيح أو حسن] نصب الراية 2/328.
وقال الحافظ ابن حجر: [ ... حديث علي لا بأس بإسناده والآثار تعضده فيصلح للحجة والله أعلم] التلخيص الحبير 2/156. وقال الحافظ أيضاً: إنه حديث حسن. بلوغ المرام ص 121.
كما أن الحافظ العراقي قد جود إسناد حديث علي كما في إتحاف السادة المتقين 4/16.
وقال الإمام الشوكاني بعد أن ذكر الأحاديث الواردة في اشتراط الحول: ... [ومجموع هذه الأحاديث تقوم به الحجة في اعتبار الحول] السيل الجرار 2/13.
وأما ما نقله العلامة القرضاوي عن الشيخ ابن حزم من تضعيفه لحديث علي المذكور فقد رجع ابن حزم عن كلامه هذا في كتابه المحلى(6/371)
فقال في آخر المسألة: [ثم استدركنا فرأينا أن حديث جرير ابن حازم مسند صحيح لا يجوز خلافه ... الخ كلامه] تهذيب السنن 8/312.
وبعد هذا العرض الموجز لأقوال العلماء يظهر لي أن اشتراط الحول في الزكاة ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول وما كان أكثر الصحابة رضي الله عنهم ليقولوا بهذا القول لولا وقوفهم فيه على شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أن هذا الشرط متعلق بعبادة من العبادات والأصل في العبادات التوقيف على النبي - صلى الله عليه وسلم - فما ورد عن الصحابة في هذا الشرط له حكم الرفع إذ لا مسرح للاجتهاد في ذلك. انظر سبل السلام 2/263.
* * *
التهرب من أداء الزكاة
يقول السائل: ما حكم ما يفعله بعض الناس من التهرب من أداء الزكاة بطرق ملتوية كمن لديه مال أوشك أن يحول عليه الحول فيقوم بشراء عمارة وهو ليس بحاجة لها حتى لا يزكي ماله ثم بعد مدة وجيزة يقوم ببيعها ليستأنف حولاً جديداً؟
الجواب: صح في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) فالله سبحانه وتعالى مطلع على النوايا ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فالمسلم يجب أن يلتزم بما أمر الله سبحانه وتعالى به والزكاة من جملة فرائض الله سبحانه وتعالى فعلى من وجبت عليه الزكاة أن يلتزم بإخراجها وأن يضعها في مصارفها الشرعية ولا يجوز لأحد أن يحتال لإسقاط الزكاة ويحرم الفرار من الزكاة وهذا مذهب جماهير أهل العلم وقالوا إن من حاول الفرار من الزكاة فإنها تؤخذ منه ويعامل على خلاف قصده كما في قصة أصحاب الجنة التي قصها الله علينا قال الله تعالى: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا(6/372)
يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ) سورة القلم 17-32.
فأصحاب البستان عزموا على حرمان المساكين من الصدقة فعاقبهم الله سبحانه وتعالى بخلاف قصدهم، قال العلامة ابن كثير: [هذا مثل ضربه الله تعالى لكفار قريش فيما أهدى إليهم من الرحمة العظيمة وأعطاهم من النعمة الجسيمة وهو بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - فقابلوه بالتكذيب والرد والمحاربة ولهذا قال تعالى (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ) أي اختبرناهم (كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ) وهي البستان المشتمل على أنواع الثمار والفواكه (إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ) أي فيما بينهم ليجذن ثمرها ليلاً لئلا يعلم بهم فقير ولا سائل ليتوفر ثمرها عليهم ولا يتصدقوا منه بشيء (وَلَا يَسْتَثْنُونَ) أي فيما حلفوا به، ولهذا حنثهم الله في أيمانهم فقال تعالى (فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ) أي أصابتها آفة سماوية (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) ] .
ثم قال ابن كثير أيضاً: [قد ذكر بعض السلف أن هؤلاء قد كانوا من أهل اليمن، قال سعيد بن جبير: كانوا من قرية يقال لها ضروان على ستة أميال من صنعاء، وقيل كانوا من أهل الحبشة وكان أبوهم قد خلف لهم هذه الجنة، وكانوا من أهل الكتاب وقد كان أبوهم يسير فيها سيرة حسنة فكان ما يستغل منها يرد فيها ما تحتاج إليه ويدخر لعياله قوت سنتهم ويتصدق بالفاضل فلما مات وورثه بنوه قالوا: لقد كان أبونا أحمق إذ كان يصرف من هذه شيئاً للفقراء ولو أنا منعناهم لنوفر ذلك علينا، فلما عزموا على ذلك عوقبوا بنقيض قصدهم فأذهب الله ما بأيديهم بالكلية رأس المال والربح والصدقة فلم يبق لهم شيء قال الله تعالى (كَذَلِكَ الْعَذَابُ) أي هكذا عذاب من خالف أمر الله وبخل بما أتاه الله وأنعم عليه ومنع حق المساكين والفقير وذوي الحاجات وبدل نعمة الله كفراً (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) أي هذه عقوبة(6/373)
الدنيا كما سمعتم وعذاب الآخرة أشق] تفسير ... ابن كثير 4/406-407.
ومما يدل على تحريم الفرار من الزكاة ما ورد عن أنس - رضي الله عنه -: (أن أبا بكر - رضي الله عنه - كتب له فريضة الصدقة التي فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة) رواه البخاري.
وقد ذكر الإمام البخاري هذا الحديث في صحيحه في كتاب الحيل باب الزكاة أي ترك الحيل في الزكاة لإسقاطها. صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 15/363.
قال الحافظ ابن حجر: [قال مالك في الموطأ: معنى هذا الحديث أن يكون النفر الثلاثة لكل واحد منهم أربعون شاة وجبت فيها الزكاة فيجمعونها حتى لا تجب عليهم كلهم فيها إلا شاة واحدة أو يكون للخليطين مائتا شاة وشاتان فيكون عليهما فيها ثلاث شياه فيفرقونها حتى لا يكون على كل واحد إلا شاة واحدة. وقال الشافعي: هو خطاب لرب المال من جهة وللساعي من جهة فأمر كل واحد منهم أن لا يحدث شيئاً من الجمع والتفريق خشية الصدقة. فرب المال يخشى أن تكثر الصدقة فيجمع أو يفرق لتقل والساعي يخشى أن تقل الصدقة فيجمع أو يفرق لتكثر، فمعنى قوله (خشية الصدقة) أي خشية أن تكثر الصدقة أو خشية أن تقل الصدقة فلما كان محتملاً للأمرين لم يكن الحمل على أحدهما بأولى من الآخر فحمل عليهما معا. لكن الذي يظهر أن حمله على المالك أظهر والله أعلم] فتح ... الباري 4/56.
وقال العلامة ابن القيم: [ويدل على تحريم الحيل الحديث الصحيح وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة) وهذا نص في تحريم الحيلة المفضية إلى إسقاط الزكاة أو تنقيصها بسبب الجمع والتفريق فإذا باع بعض النصاب قبل تمام الحول تحيلاً على إسقاط الزكاة فقد فرق بين المجتمع فلا تسقط الزكاة عنه بالفرار منها] إعلام الموقعين 3/172.(6/374)
وذكر الخرقي في مختصره مسألة الفرار من الزكاة فقال: [من كانت عنده ماشية فباعها قبل الحول بدراهم فراراً من الزكاة لم تسقط الزكاة عنه] .
وقد فصل الشيخ ابن قدامة المقدسي المسألة بقوله: [قد ذكرنا أن إبدال النصاب بغير جنسه يقطع الحول ويستأنف حولاً آخر فإن فعل هذا فراراً من الزكاة لم تسقط عنه سواء أكان المُبدل ماشية أو غيرها من النصب. وكذا لو أتلف جزءاً من النصاب قصداً للتنقيص لتسقط عنه الزكاة، لم تسقط وتؤخذ الزكاة منه في آخر الحول إذا كان إبداله أو إتلافه عند قرب الوجوب ولو فعل ذلك في أول الحول لم تجب الزكاة. لأن ذلك ليس بمظنة للفرار، وبما ذكرناه قال مالك والأوزاعي وابن الماجشون وإسحاق وأبو عبيد....
ولنا: قول الله تعالى: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) فعاقبهم الله تعالى بذلك لفرارهم من الصدقة ولأنه قصد إسقاط نصيب من انعقد سبب استحقاقه، فلم يسقط كما لو طلّق امرأته في مرض موته، ولأنه لمّا قصد قصداً فاسداً اقتضت الحكمة معاقبته بنقيض قصده كمن قتل مورثه لاستعجال ميراثه عاقبه الشرع بالحرمان وإذا أتلفه لحاجته لم يقصد قصداً فاسداً] المغني 2/504.
وخلاصة الأمر أنه يحرم على المسلم أن يفر من أداء الزكاة بأي وسيلة كانت لأن ذلك من الحيل المحرمة في الشرع وقد نعى الله سبحانه وتعالى تحيل اليهود لانتهاك المحرمات فقال تعالى: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) سورة الأعراف الآية 163.
ورد في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: (لا ترتكبوا ما ارتكبت يهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل) رواه ابن بطة في إبطال الحيل، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [هذا إسناد جيد يصحح مثله الترمذي وغيره تارة ويحسنه تارة] إبطال الحيل ص 112.(6/375)
وقال الشيخ الألباني: [وحسن إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية وابن كثير] صفة الفتوى والمفتي والمستفتي ص 33.
وبناءً على كل ماسبق يجب على هذا الشخص أن يؤدي الزكاة التي وجبت عليه وهي باقية في ذمته إلى أن يؤديها ولا تسقط عنه بما فعل من الحيلة.
* * *
زكاة الزيتون على المالك دون الأجير
يقول السائل: إنه اتفق مع شخص يملك أشجار زيتون على أن يقوم بقطف الزيتون على أن يكون له ربع المحصول فعلى من تكون الزكاة؟
الجواب: هذه المعاملة تعتبر إجارة والأجرة بعض المعمول بعد العمل كما وسبق أن بينت ذلك في حلقة سابقة وهذا الأجير لا زكاة عليه فيما يحصل عليه من المحصول. وإنما الزكاة على مالك الشجر فهو الذي يزكي المحصول.
ولكن أهل العلم اختلفوا هل يزكي جميع المحصول قبل خصم أجرة من قام بالقطف؟ أم أنه يزكي المحصول بعد خصم حصة الأجير؟
اتجاهان لأهل العلم فمنهم من يرى أن المزارع يخصم النفقات التي تحملها في الإنفاق على زرعه ويدخل في ذلك ما أنفقه على الحراثة والتسميد وأجرة العمال والحصادين فيخصم قبل إخراج الزكاة، باستثناء نفقات الري التي أنزل الشارع الواجب في مقابلها من العشر إلى نصفه وهذا ما اختاره العلامة القرضاوي في فقه الزكاة وهو الذي أرجّحه وأختاره. انظر فقه الزكاة 1/396-397.
قال الإمام أحمد: [من استدان ما أنفق على زرعه واستدان ما أنفق على أهله - عياله - احتسب ما أنفق على زرعه دون ما أنفق على أهله] وعلل الحنابلة ذلك بأنه من مئونة الزرع كما بينه الشيخ ابن قدامة في المغني 3/30.(6/376)
وورد عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أنه قال في الرجل ينفق على ثمرته، فقال: يرفع النفقة ويزكي ما بقي) وعن عطاء قال: [إنه يسقط مما أصاب النفقة فإن بقي مقدار الزكاة زكى وإلا فلا] المحلى 4/66.
وروى يحيى بن آدم عن وكيع عن إسماعيل بن عبد الملك قال: [قلت لعطاء: الأرض أزرعها؟ قال فقال: ارفع نفقتك وزك ما بقي] الخراج ص 152.
وروى يحيى بن آدم بإسناده عن ابن عباس وابن عمر في الرجل: [يستقرض فينفق على ثمرته وأهله قال: قال ابن عمر: يبدأ بما استقرض فيقضيه ويزكي ما بقي. قال: وقال ابن عباس: يقضي ما أنفق على الثمرة ثم يزكي ما بقي] .
قال الشيخ أحمد محمد شاكر يرحمه الله: هذا إسناد صحيح. كتاب الخراج ص 153.
وروى يحيى بن آدم أيضاً عن الثوري، قال: [فيما أخرجت الأرض الخراج قال: ارفع دينك وخراجك فإن بلغ خمسة أوسق بعد ذلك فزكها] الخراج ص 153.
قال القرطبي: [قال مالك وما استهلكه منه ربه - أي صاحب الثمر - بعد بدو صلاحه أو بعدما أفرك حسب عليه. وما أعطاه ربه منه في حصاده وجذاذه ومن الزيتون في التقاطه تحرى ذلك وحسب عليه. وأكثر الفقهاء يخالفونه في ذلك ولا يوجبون الزكاة إلا فيما حصل في يده بعد الدرس] تفسير القرطبي 7/108.
وقال العلامة الشيخ القرضاوي: [والذي يلوح أن الشارع حكم بتفاوت الواجب في الخارج بناء على تفاوت المشقة والجهد المبذول في سقي الأرض فقد كان ذلك أبرز ما تتفاوت به الأراضي الزراعية أما النفقات الأخرى فلم يأت نص باعتبارها ولا بإلغائها ولكن الأشبه بروح الشريعة إسقاط الزكاة عما يقابل المؤنة من الخارج والذي يؤيد هذا أمران:(6/377)
الأول: أن للكلفة والمؤونة تأثيراً في نظر الشارع فقد تقلل مقدار الواجب كما في السقي بآلة جعل الشارع فيه نصف العشر فقط، وقد تمنع الوجوب أصلاً كما في الأنعام المعلوفة أكثر العام، فلا عجب أن تؤثر في إسقاط ما يقابلها من الخارج من الأرض.
الثاني: أن حقيقة النماء هي الزيادة ولا يعد المال زيادة وكسباً إذا كان قد أنفق مثله في الحصول عليه ولهذا قال بعض الفقهاء: إن قدر المؤنة بمنزلة ما سلم له بعوض فكأنه اشتراه وهذا صحيح.
هذا على ألا تحسب في ذلك نفقات الري التي أنزل الشارع الواجب في مقابلها من العشر إلى نصفه.
فمن كانت له أرض أخرجت عشرة قناطير من القطن تساوي مائتي جنيه وقد أنفق عليها - في غير الري - مع الضريبة العقارية مبلغ ستين جنيهاً (أي ما يعادل ثلاثة قناطير) فإنه يخرج الزكاة عن سبعة قناطير فقط، فإذا كانت سقيت سيحاً ففيها العشر أو بآلة فنصف العشر. والله أعلم] فقه الزكاة 1/396-397.
ومما يؤيد هذا القول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الخارص - وهو الذي يقدر كمية الثمار التي تجب فيها الزكاة - أن يترك ثلث الثمر أو ربعه لأصحاب الثمر ولا يحسب فيه زكاة فقد جاء في حديث سهل بن أبي حثمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ... : (إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع) رواه أبو داود وسكت عليه هو والمنذري ورواه الترمذي وابن خزيمة وصححه ورواه ابن حبان وصححه ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي وضعفه آخرون.
قال الحاكم: [هذا حديث صحيح الإسناد وله شاهد بإسناد متفق على صحته. عمر بن الخطاب أمر به ثم روى الحاكم بسنده عن سهل بن أبي حثمة: (أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بعثه إلى خرص التمر وقال: إذا أتيت أرضاً فاخرصها ودع لهم قدر ما يأكلون) المستدرك 2/22-23.
ومعنى ترك الثلث أو الربع على أحد قولي العلماء هو ما قاله الشيخ(6/378)
ابن قدامة المقدسي: [وعلى الخارص أن يترك في الخرص الثلث أو الربع توسعة على أرباب الأموال لأنهم يحتاجون إلى الأكل هم وأضيافهم ويطعمون جيرانهم وأهلهم وأصدقاءهم وسؤالهم ويكون في الثمرة السقاطة وينتابها الطير وتأكل منه المارة فلو استوفى الكل منهم أضر بهم وبهذا قال إسحاق ونحوه قال الليث وأبو عبيد والمرجع في تقدير المتروك إلى الساعي باجتهاده فإن رأى الأكلة كثيراً ترك الثلث وإن كانوا قليلاً ترك الربع. لما روى سهل بن أبي حثمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: (إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع) رواه أبو عبيد وأبو داود والنسائي والترمذي وروى أبو عبيد بإسناده عن مكحول قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث الخراص قال: خففوا على الناس فإن في المال العرية والواطئة والآكلة) قال أبو عبيد: الواطئة: السابلة، سموا بذلك لوطئهم بلاد الثمار مجتازين، والآكلة: أرباب الثمار وأهلوهم ومن لصق بهم. ومنه حديث سهل في مال سعد بن أبي سعد حين قال: لولا أني وجدت فيه أربعين عريشاً لخرصته تسعمائة وسق. وكانت تلك العرش لهؤلاء الآكلة، والعرية: النخلة أو النخلات يهب إنساناً ثمرتها، فجاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ليس في العرايا صدقة) .
وروى ابن المنذر عن عمر - رضي الله عنه - انه قال لسهل بن أبي حثمة: (إذا أتيت على نخل قد حضرها قوم فدع لهم ما يأكلون) والحكم في العنب كالحكم في النخيل سواء فإن لم يترك لهم الخارص شيئاً فلهم الأكل قدر ذلك ولا يحتسب عليهم به، نصّ عليه. لأنه حق لهم] المغني 3/16-17.
وقال الشيخ ابن العربي المالكي: [وكذلك اختلف قول علمائنا هل تحط المؤنة من المال المزكى وحينئذ تجب الزكاة أو تكون مؤنة المال وخدمته حتى يصير حاصلا في حصة رب المال وتؤخذ من الرأس؟ والصحيح أنها محسوبة وأن الباقي هو الذي يؤخذ عشره ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (دعوا الثلث أو الربع) وهو قدر المؤنة ولقد جربناه فوجدناه كذلك في الأغلب وبما يأكل رطباً ويحتسب المؤنة يتخلص الباقي ثلاثة(6/379)
أرباع أو [ثلثين] والله أعلم. ومن حديث ابن لهيعة وغيره عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (خففوا في الخرص فإن في المال العرية والرطبة والأكل والوصية والعامل والنوائب) .
وقد روى سهل بن أبي حثمة: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا حثمة خارصا، فجاءه رجل فقال: يا رسول الله إن أبا حثمة قد زاد علي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن ابن عمك يزعم أنك زدت عليه. فقال: يا رسول الله لقد تركت له قدر عرية أهله وما يطعم المساكين وما تسقط الريح. فقال: قد زادك ابن عمك في نصفك) فقال الطحاوي: ترك له واخطأ إنما زاده ما تسقط الريح لأنه يجمعه لنفسه وكان حقه أن يعيده عليه وأما الذي يأكل أهله ومن نزل به أو مرّ عليه فقد تقدم في الحديث أنه لا يعيد عليه في الزكاة. قال القاضي أبو بكر بن العربي - رضي الله عنه -: والمتحصل من صحيح النظر أن يترك له قدر الثلث أو الربع كما بيناه في مقابلة المؤنة من واجب فيها ومندوب إليها منه والله أعلم] عارضة الأحوذي 3/116.
* * *
زكاة الزيتون على المالك والمتضمن
يقول السائل: إنه قد اتفق مع أحد أصحاب شجر الزيتون على أن يقوم بما يلزم شجر الزيتون من حراثة وتسميد وتقليم وقطاف على أن له نصف المحصول فهل تلزمه الزكاة؟
الجواب: هذا الاتفاق بين صاحب شجر الزيتون والسائل هو عقد مساقاة وهي إعطاء الشجر المثمر لمن يقوم عليه بخدمته من حرث وسقي وتسميد وتقليم ونحو ذلك على أن يكون للعامل نصيب من الثمر. والمساقاة عقد صحيح جائز شرعاً كما هو مذهب أكثر أهل العلم، وقد صح في الحديث: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى خيبر على الشطر) متفق عليه، ويشترط لصحة عقد المساقاة أن يكون نصيب كل من المتعاقدين نسبة شائعة كالنصف(6/380)
أو الثلث أو الربع فمهما رزق الله من ثمر فهو بينهما على النسبة التي يتفقان عليها.
إذا تقرر هذا فأقول إن الزكاة تكون في هذه الحالة على المتعاقدين جميعاً فكل منهما يزكي حصته إذا بلغت نصاباً وهو خمسة أوسق ويقدر في زماننا بحوالي 653 كيلو غراماً. فإذا قل نصيب أحدهما عن النصاب فلا زكاة حينئذ إلا أن يكون لهما أو لأحدهما أرضاً أخرى تنتج فعندها يكمل النصاب منها
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وإن زارع رجلاً مزارعة فاسدة فالعشر على من يجب الزرع له وإن كانت صحيحة فعلى كل واحد منهما عشر حصته إن بلغت خمسة أوسق أو كان له من الزرع ما يبلغ بضمه إليها خمسة أوسق وإلا فلا عشر عليه وإن بلغت حصة أحدهما دون صاحبه النصاب فعلى من بلغت حصته النصاب عشرها ولا شيء على الآخر لأن الخلطة لا تؤثر في غير السائمة في الصحيح] المغني 30-31
وينبغي أن يعلم أن هذه المسألة تختلف فيما لو كان الشخص مجرد أجير لقطف الزيتون وأجرته نسبة شائعة من الثمر كالربع أو الثلث فلا زكاة عليه كما بينته في حلقة سابقة.
* * *
استيعاب مصارف الزكاة
يقول السائل: إذا قامت لجنة الزكاة بجمع الزكاة فهل المطلوب منها أن توزع الزكاة على جميع المستحقين للزكاة من الأصناف المذكورين في آية مصارف الزكاة؟
الجواب: بين الله سبحانه وتعالى مصارف الزكاة وحصرها في ثمانية مصارف، فقال تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) سورة التوبة الآية 60.(6/381)
وقد اتفق أهل العلم على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلا لهذه الأصناف التي ذكرت في الآية الكريمة ولكنهم اختلفوا بعد ذلك هل يجب استيعاب هذه المصارف؟ أم أنه يجوز الصرف لبعض هذه المصارف دون بعض. والذي عليه أكثر أهل العلم أنه لا يجب صرف الزكاة لجميع الأصناف المذكورين في الآية ويجوز صرفها إلى صنف واحد وهذا قول الحنفية والمالكية والحنابلة ومنقول عن جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي شارحاً قول الخرقي: [وإن أعطاها كلها في صنف واحد أجزأه] وجملته أنه يجوز أن يقتصر على صنف واحد من الأصناف الثمانية ويجوز أن يعطيها شخصاً واحداً وهو قول عمر وحذيفة وابن عباس وبه قال سعيد بن جبير والحسن والنخعي وعطاء وإليه ذهب الثوري وأبو عبيد وأصحاب الرأي] المغني 2/498-499.
وقال الإمام النووي: [وقال الحسن البصري وعطاء وسعيد بن جبير والضحاك والشعبي والثوري ومالك وأبو حنيفة وأحمد وأبو عبيد له صرفها إلى صنف واحد قال ابن المنذر وغيره وروي هذا عن حذيفة وابن عباس قال أبو حنيفة وله صرفها إلى شخص واحد من أحد الأصناف قال مالك ويصرفها إلى أمسهم حاجة وقال إبراهيم النخعي إن كانت قليلة جاز صرفها إلى صنف وإلا وجب استيعاب الأصناف] المجموع 6/186.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: [باب تفريق الصدقة في الأصناف الثمانية وإعطائها بعضهم دون بعض، ثم روى بإسناده عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: [إذا وضعت الزكاة في صنف واحد من الأصناف الثمانية أجزأك. قال أبو معاوية: قال حجاج وسألت عطاء عن ذلك فقال لا بأس به، قال: حدثنا ... عن سعيد بن جبير وعن عطاء قالا إذا وضعتها في صنف واحد أجزأك ... وعن ابن عباس أنه قال: إذا وضعتها في صنف واحد من هذه الأصناف فحسبك إنما قال الله تبارك وتعالى:
(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) وكذا وكذا لئلا يجعلها في غير هذه(6/382)
الأصناف ... وعن الحسن قال: إنما الزكاة علم حيث وضعت أجزأت عنك. وقال عكرمة: فرقها في الأصناف.
وعن إبراهيم قال: إذا كان المال ذا مز - أي كثيراً -ففرقه في الأصناف وإذا كان قليلاً فأعطه صنفاً واحداً] الأموال ص 688-689.
وروى البيهقي نحو ذلك عن سعيد بن جبير وعطاء وابراهيم النخعي والحسن البصري. انظر سنن البيهقي 7/8.
وقال الطحاوي والحافظ ابن عبد البر: [لا نعلم لابن عباس وحذيفة في ذلك مخالفاً من الصحابة.
وقال أبو بكر الرازي - الجصاص - روي ذلك عن عمر وحذيفة وابن عباس ولا يروى عن أحد من الصحابة خلافه] الجوهر النقي 7/7.
وقال الكمال ابن الهمام: [إن ذلك قد ورد عن سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وإبراهيم النخعي وأبي العالية وميمون بن مهران بأسانيد حسنة] شرح فتح القدير 2/206.
ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية قول الإمام أبي جعفر الطبري [عامة أهل العلم يقولون: للمتولي قسمتها ووضعها في أي الأصناف الثمانية شاء وإنما سمى الله الأصناف الثمانية إعلاماً منه أن الصدقة لا تخرج من هذه الأصناف إلى غيرها لا إيجاباً لقسمتها بين الأصناف الثمانية وروى بإسناده عن حذيفة وعن ابن عباس أنهما قالا: إن شئت جعلته في صنف أو صنفين أو ثلاثة. قال وروى عن عمر أنه قال: أيما صنف أعطيته أجزأك وروى عنه أنه كان عمر يأخذ الفرض في الصدقة فيجعله في الصنف الواحد وهو قول أبي العالية وميمون بن مهران وإبراهيم النخعي] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 25/40.
ويدل لما ذهب إليه جمهور أهل العلم من جواز إعطاء صنف واحد من أصناف الزكاة وأنه لا يجب تعميمها على الأصناف الثمانية ما قاله القرطبي:(6/383)
[وتمسك علماؤنا بقوله تعالى: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) سورة البقرة الآية 271. والصدقة متى أطلقت في القرآن فهي صدقة الفرض] تفسير القرطبي 8/168. ومراد القرطبي أن الآية لم تذكر إلا صنفاً واحداً - الفقراء - من الأصناف الثمانية.
واحتج الشيخ ابن قدامة المقدسي لقول الجمهور بحديث معاذ - رضي الله عنه - لما بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن فقال: [ (أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم) فأخبر أنه مأمور برد جملتها في الفقراء وهم صنف واحد ولم يذكر سواهم ثم أتاه بعد ذلك مال فجعله في صنف ثان سوى الفقراء وهم المؤلفة: الأقرع بن حابس وعينية بن حصن وعلقمة ابن علاثة وزيد الخيل قسّم فيهم الذهبية التي بعث بها إليه علي من اليمن وإنما يؤخذ من أهل اليمن الصدقة ثم أتاه مال آخر: فجعله في صنف آخر لقوله لقبيصة بن المخارق حين تحمل حمالة فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله فقال: (أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها) وفي حديث سلمة بن صخر البياضي: أنه أمر له بصدقة قومه ولو وجب صرفها إلى جميع الأصناف لم يجز دفعها إلى واحد] المغني 2/499.
وحديث معاذ الذي ذكره ابن قدامة رواه البخاري ومسلم، وأما حديث الذهبية فهو ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: (بعث علي - رضي الله عنه - وهو باليمن بذهبة في تربتها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أربعة نفر الأقرع بن حابس الحنظلي وعينية بن بدر الفزاري وعلقمة بن ملائة العامري ثم أحد بني كلاب وزيد الخير الطائي ثم أحد بني نبهان فغضبت قريش فقالوا: أيعطي صناديد نجد ويدعنا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني إنما فعلت ذلك لأتألفهم ... ) الحديث، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى هؤلاء المؤلفة قلوبهم فقط ولو كان استيعاب الأصناف واجباً لاستوعبها.
وأما حديث قبيصة فهو ما رواه مسلم بإسناده عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: (تحملت حمالة فأتيت رسول الله أسأله فيها فقال: أقم حتى(6/384)
تأتينا الصدقة فنأمر لك بها) قال: ثم قال: يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو قال سداداً من عيش ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه لقد أصابت فلاناً فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو قال سداداً من عيش فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتاً يأكلها صاحبها سحتاً) صحيح مسلم مع شرح ... النووي 3/110.
والشاهد في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دفع الزكاة إلى صنف واحد بل إلى شخص واحد من مصرف واحد وهو مصرف الغارمين وأما حديث سلمة بن صخر البياضي فقد جاء فيه أنه قد ظاهر من زوجته ثم واقعها ثم ذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطلب عونه في الكفارة فقال له رسول الله: (انطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك) رواه أبو داود والترمذي وقال الترمذي حديث حسن. والشاهد في هذا الحديث كسابقه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بدفع الزكاة لصنف واحد بل لشخص واحد.
قال العلامة صديق حسن خان: [والحاصل أن الله سبحانه جعل الصدقة مختصة بالأصناف الثمانية غير سائغة لغيرهم واختصاصها بهم لا يستلزم أن تكون موزعة بينهم على السوية ولا أن يقسط كل ما حصل من قليل أو كثير عليهم بل المعنى أن جنس الصدقات لجنس هذه الأصناف من وجب عليه شيء من جنس الصدقة ووضعه في جنس الأصناف فقد فعل ما أمره الله به وسقط عنه ما أوجبه الله عليه.] الروضة الندية 1/534.
وخلاصة الأمر في هذه المسألة أنه يجب أخذ الأمور الآتية بالاعتبار عند توزيع الزكاة من قبل لجان الزكاة أو من الأفراد: أولاً: إذا كان مال الزكاة كثيراً فينبغي تعميم المال على المصارف الثمانية إذا وجدت. قال الشيخ ابن قدامة: [فإن المستحب صرفها إلى جميع الأصناف أو إلى من أمكن منهم لأنه يخرج بذلك عن الخلاف ويحصل الإجزاء يقيناً] المغني 2/499. وهذا ما رجحه الشيخ يوسف القرضاوي إذا كانت الزكاة توزع من قبل إمام المسلمين.(6/385)
ثانياً: إذا كان المال قليلاً فيعجبني ما ذهب إليه إبراهيم النخعي حيث قال: [إذا كان المال ذا مز - أي ذا فضل وكثرة - ففرقه في الأصناف وإذا كان قليلاً فأعطه صنفاً واحداً] الأموال ص 689.
فإذا كان لدى شخص ألف دينار فزكاتها خمسة وعشرون ديناراً فأرى له أن يعطيها فقيراً واحداً أو مسكيناً واحداً ولا أرى له أن يفرقها لقلة النفع بها حينئذ.
ثالثاً: إذا كان في أحد الأصناف الثمانية حاجة ماسة وظاهرة فينبغي العناية بالصرف إليه وهذا ما ذهب إليه الإمام مالك حيث إنه يرى أنه إن وجدت الأصناف كلها فينبغي إيثار أهل الحاجة. الذخيرة 3/149.
رابعاً: قال الشيخ يوسف القرضاوي: [ينبغي أن يكون الفقراء والمساكين هم أول الأصناف الذين تصرف لهم الزكاة، فإن كفايتهم وإغنائهم هو الهدف الأول للزكاة حتى إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر في حديث معاذ وغيره إلا هذا المصرف:
(تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) وذلك لما لهذا المصرف من أهمية خاصة] فقه الزكاة 2/693.
* * *(6/386)
الصيام(6/387)
أحاديث مشهورة في شهر رمضان
هنالك أحاديث يكثر ترديدها في شهر رمضان المبارك على ألسنة الوعاظ والخطباء وهي منتشرة وشائعة وتكرر السؤال عنها فرغبت في ذكرها وبيان ما قاله أهل الحديث في الحكم عليها وهذه الأحاديث هي:
الحديث الأول: عن سلمان - رضي الله عنه - قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آخر يوم من شعبان قال: (يا أيها الناس! قد أظلكم شهر عظيم مبارك شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعاً من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة وشهر المواساة وشهر يزاد في رزق المؤمن فيه من فطر فيه صائماً كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء.
قالوا: يا رسول الله! ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يعطي الله هذا الثواب من فطر صائماً على تمرة أو على شربة ماء أو مذقة لبن وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار من خفف عن مملوكه فيه غفر الله له وأعتقه من النار واستكثروا فيه من أربع خصال خصلتين ترضون بهما ربكم وخصلتين لا غناء بكم عنهما فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله وتستغفرونه وأما(6/389)
الخصلتان اللتان لا غناء بكم عنهما: فتسألون الله الجنة وتعوذون به من النار ومن أسقى صائماً سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة) .
قال الحافظ المنذري: [رواه ابن خزيمة في صحيحه] ثم قال: [إن صح الخبر ورواه من طريقه البيهقي] .
ثم ذكر المنذري رواية أخرى للحديث وقال: [وفي أسانيدهم علي بن زيد بن جدعان] الترغيب والترهيب 2/24-25.
وعلي بن زيد ضعيف ضعفه جماعة من أهل الحديث، قال الحافظ ابن حجر: [مداره - أي الحديث على علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف ويوسف بن زياد الراوي عنه ضعيف جداً] نقل كلام الحافظ محقق شعب الإيمان 3/305.
وقال الشيخ الألباني عن الحديث السابق إنه منكر. سلسلة الأحاديث الضعيفة 2/263.
الحديث الثاني: (صوموا تصحوا) .
قال الزبيدي: [قال العراقي رواه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الطب النبوي من حديث أبي هريرة بسند ضعيف] إتحاف السادة المتقين 7/401.
فالحديث ضعيف وممن ضعفه أيضاً الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة 1/277، وفي ضعيف الجامع الصغير أيضاً ص 512.
وقد اعتبر الإمام الصاغاني الحديث من الأحاديث الموضوعة كما في رسالته في الأحاديث الموضوعة ص 104.
وأنظر أيضاً المقاصد الحسنة ص 236 كشف الخفاء 1/445، تمييز الطيب من الخبيث ص 146.
الحديث الثالث: عن أبي مسعود الغفاري - رضي الله عنه - قال: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم وأهلَّ رمضان فقال: لو يعلم العباد ما رمضان(6/390)
لتمنت أمتي أن تكون السنة كلها رمضان. فقال رجل من خزاعة: يا نبي الله حدثناّ. فقال: إن الجنة لتزين لرمضان من رأس الحول إلى الحول فإذا كان أول يوم من رمضان هبت ريح من تحت العرش فصفقت ورق أشجار الجنة فتنظر الحور العين إلى ذلك فيقلن: يا ربنا! اجعل لنا من عبادك في هذا الشهر أزواجاً تقر أعيننا بهم وتقر أعينهم بنا. قال: فما من عبد يصوم يوماً من رمضان إلا زوج زوجة من الحور العين في خيمة من درة كما نعت الله عز وجلّ: (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ) سورة الرحمن الآية 72. على كل امرأة منهن سبعون حلة ليس منها حلة على لون الأخرى وتعطى سبعين لوناً من الطيب ليس منه لون على ريح الآخر لكل امرأة منهن سبعون ألف وصيفة لحاجتها وسبعون ألف وصيف مع كل وصيف صحفة من ذهب فيها لون طعام يجد لآخر لقمة منها لذة لم يجد لأوله ولكل امرأة منهن سبعون سريراً من ياقوتة حمراء على كل سرير سبعون فراشاً بطائنها من استبرق فوق كل فراش سبعون أريكة ويعطي زوجها مثل ذلك على سرير من ياقوت أحمر موشحاً بالدر عليه سواران من ذهب هذا بكل يوم صامه من رمضان سوى ما عمل من الحسنات) رواه ابن خزيمة والبيهقي في شعب الإيمان والطبراني في الكبير وغيرهم وهو حديث موضوع أي مكذوب على النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قرر ذلك أهل الحديث وقد ذكره في الموضوعات ابن الجوزي والشوكاني وغيرهما. انظر الفوائد المجموعة ص 88، الترغيب والترهيب 2/31-32.
الحديث الرابع: حديث: (يوم صومكم يوم نحركم يوم رأس سنتكم) .
قال الإمام أحمد لا أصل له، وذكره في الموضوعات ابن الصلاح وابن عراق وملا علي القاري وابن القيم وغيرهم. انظر المنار المنيف ص 124، المقاصد الحسنة ص 480، المصنوع في معرفة الحديث الموضوع ص 219، تمييز الطيب من الخبيث ص 313.
الحديث الخامس: حديث: (السخي قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس بعيد من النار والبخيل بعيد من الله بعيد من الجنة بعيد من الناس، قريب من النار وجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل) رواه الترمذي وضعفه ورواه الطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان.(6/391)
وقد عده الشيخ ابن الجوزي في الموضوعات وكذلك ابن القيم، وقال الشيخ الألباني: ضعيف جداً. وقال الحافظ أبو حاتم هذا حديث منكر، وقال أيضا عن رواية أخرى للحديث هذا حديث باطل. انظر السلسلة الضعيفة 1/184-185، المنار المنيف ص 26.
وأخيراً ينبغي التنبيه على أن في صحيح السنة النبوية وحسنها ما يغني عن ذكر هذه الأحاديث الموضوعة والواهية وينبغي على الخطباء والوعاظ أن يعتنوا عناية خاصة بالأحاديث التي يذكرونها في خطبهم ودروسهم وأن يراجعوا كلام أهل الحديث عليها حتى لا يقعوا في الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يقصدون أو لا يقصدون فإن الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس كالكذب على سواه.
* * *
بداية الصوم ونهايته
يقول السائل: ما قولكم فيما يفعله بعض طلبة العلم الشرعي في رمضان حيث إنهم يستمرون في الأكل والشرب إلى ما بعد أذان الفجر الثاني ويزعمون أنهم بهذا يتحققون من طلوع الفجر الصادق ويفطرون قبل أذان المغرب بعدة دقائق لأن الشمس قد غابت بزعمهم؟
الجواب: يقول الله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) سورة البقرة الآية 187.
فهذه الآية الكريمة قد حددت بداية الصوم ونهايته وقد ذكر الإمام القرطبي قولين لأهل العلم في تفسير بداية الصوم فقال: [واختلف في الحد الذي بتبينه يجب الإمساك، فقال الجمهور: ذلك الفجر المعترض في الأفق يمنة ويسرة وبهذا جاءت الأخبار ومضت عليه الأمصار. روى مسلم عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا) وحكاه حماد بيديه قال: يعني معترضاً.(6/392)
وفي حديث ابن مسعود: (إن الفجر ليس الذي يقول هكذا - وجمع أصابعه ثم نكسها إلى الأرض ولكن الذي يقول هكذا ووضع المسبحة ومد يديه) وروى الدارقطني عن عبد الرحمن بن عباس أنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (هما فجران فأما الذي كأنه ذنب السرحان فإنه لا يحل شيئاً ولا يحرمه وأما المستطيل الذي عارض الأفق ففيه تحل الصلاة ويحرم الطعام) هذا مرسل.
وقالت طائفة ذلك بعد طلوع الفجر وتبينه في الطرق والبيوت روى ذلك عن عمر وحذيفة وابن عباس وطلق بن علي وعطاء بن أبي رباح والأعمش بن سليمان وغيرهم أن الإمساك بحيث يتبين الفجر في الطرق وعلى رؤوس الجبال وقال مسروق لم يكن يعدون الفجر فجركم إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت وروى النسائي عن عاصم عن زر قال، قلنا لحذيفة: أي ساعة تسحرت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع. وروى الدارقطني عن طلق بن علي أن نبي الله قال: (كلوا واشربوا ولا يغرنكم الساطع المصعد وكلوا واشربوا حتى يعرض لكم الأحمر) قال الدارقطني: قيس بن طلق ليس بالقوي، وقال أبو داود: هذا مما تفرد به أهل اليمامة.
قال الطبري: [والذي قادهم إلى هذا أن الصوم إنما هو في النهار والنهار عندهم من طلوع الشمس وآخره غروبها وقد مضى الخلاف في هذا بين اللغويين وتفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك بقوله: (إنما هو سواد الليل وبياض النهار) الفيصل في ذلك وقوله: (أياماً معدودات) .
وروى الدارقطني عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له) تفرد به عبد الله بن عبادة عن المفضل بن فضالة بهذا الإسناد وكلهم ثقات وروى عن حفصة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له) رفعه عبد الله بن أبي بكر وهو من الثقات الرفعاء وروى عن حفصة مرفوعاً من قولها ففي هذين الحديثين دليل على ما قاله الجمهور في الفجر] تفسير القرطبي 2/318-319.(6/393)
وذكر الشيخ ابن قدامة المقدسي قول جمهور أهل العلم، ثم ذكر قول مسروق والأعمش أن الفجر هو الذي يملأ البيوت والطرق، ثم قال الشيخ ابن قدامة مستدلاً لقول الجمهور: [ولنا قول الله تعالى: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) يعني بياض النهار من سواد الليل وهذا يحصل بطلوع الفجر قال ابن عبد البر في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن مكتوم) دليل على أن الخيط الأبيض هو الصباح وأن السحور لا يكون إلا قبل الفجر وهذا إجماع لم يخالف فيه إلا الأعمش وحده فشذ ولم يعرج أحد على قوله والنهار الذي يجب صيامه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس قال: هذا قول جماعة علماء المسلمين] المغني 3/105.
وقال الإمام النووي: [هذا الذي ذكرناه من الدخول في الصوم بطلوع الفجر وتحريم الطعام والشراب والجماع به هو مذهبنا ومذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم قال ابن المنذر وبه قال عمر بن الخطاب وابن عباس وعلماء الأمصار قال وبه نقول، قال روينا عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال حين صلى الفجر الآن حين تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود قال وروي عن حذيفة أنه لما طلع الفجر تسحر ثم صلى قال وروي معناه عن ابن مسعود وقال مسروق لم يكونوا يعدون الفجر فجركم إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت والطرق قال وكان إسحاق يميل إلى القول الأول من غير أن يطعن على الآخرين قال إسحاق ولا قضاء على من أكل في الوقت الذي قاله هؤلاء هذا كلام ابن المنذر، وحكى أصحابنا عن الأعمش وإسحاق بن راهويه إنهما جوزا الأكل وغيره إلى طلوع الشمس ولا أظنه يصح عنهما] المجموع 6/305.
ثم استدل الإمام النووي لقول الجمهور بالأحاديث التالية:
حديث عدي بن حاتم - رضي الله عنه - قال: (لما نزلت: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) قلت يا رسول الله: إني أجعل تحت وسادتي عقالين عقالاً أبيض وعقالاً أسود أعرف الليل من النهار.(6/394)
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن وسادك لعريض إنما هو سواد الليل وبياض النهار) رواه البخاري ومسلم.
وعن سهل بن سعد رضي الله عنهما قال: (أنزلت (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) ولم ينزل من الفجر فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل الله تعالى من الفجر فعلموا أنه يعني به الليل من النهار) رواه البخاري ومسلم.
وعن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا العارض لعمود الصبح حتى يستطير) رواه مسلم.
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يمنعن أحدكم أو أحداً منكم أذان بلال من سحوره فإنه يؤذن أو ينادي بليل ليرجع قائمكم ولينبه نائمكم وليس أن يقول الفجر أو الصبح وقال بأصابعه ورفعها إلى فوق وطأطأ إلى أسفل حتى يقول هكذا وقال بسبابتيه إحداهما فوق الأخرى ثم مدّ هما عن يمينه وشماله) رواه البخاري ومسلم. المجموع 6/305-306.
وبعد هذا البيان والاستدلال أوضح الأمور التالية:
أولاً: يجب أن يعلم أن الصوم والفطر يكون مع عامة المسلمين لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون) رواه الترمذي وقال: [هذا حديث غريب حسن وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال إنما معنى هذا الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس] وقال الشيخ الألباني: حديث صحيح كما في صحيح سنن الترمذي 1/213.
فلا ينبغي لفرد أو لجماعة أن تنفرد عن جمهور المسلمين فيجعلون لأنفسهم وقتاً خاصاً يبدؤون به الصوم ووقتاً خاصاً يفطرون فيه ويخالفون عامة الناس لأن هذا شذوذ منبوذ.
ثانياً: إن الذين يسكنون اليوم في المدن والقرى الكبيرة لا يمكنهم أن(6/395)
يتحققوا من طلوع الفجر الصادق أو غروب الشمس المؤكد لعوامل كثيرة منها: عدم معرفة كثير من الناس بالتمييز بين الفجر الصادق والكاذب فإن عرف بعضهم ذلك صعب عليه بسبب الأضواء الكهربائية المنتشرة في المدن والقرى ولا يصح أن يقاس حال هؤلاء على سكان الصحارى والمدن في العهد النبوي وما بعده من عهود الصحابة والتابعين لأن ذلك قياس مع الفارق.
لذا فإن الاعتماد على التوقيت المعتبر والمعتمد على الدراسات والحسابات الفلكية وآلات الرصد ونحوها اعتماد صحيح.
وأما الزعم بأن أحكام الصوم متعلقة بالرؤية البصرية " العين البشرية " ولا ينبغي التكلف والتنطع ورصد الهلال ومراقبة الفجر بالآلات الفلكية الحديثة كما ورد في صفة صوم النبي - صلى الله عليه وسلم - ص 41-42.
فهذا القول مردود جملة وتفصيلاً فالاستعانة بعلم الفلك والأجهزة والآلات الحديثة لا مانع منه شرعاً وهذه الوسائل الحديثة تعين الإنسان في ضبط هذه الأمور ويجب أن يعلم أن هنالك فرقاً شاسعاً بين علم الفلك والتنجيم حيث إن بعض الناس يظنهما شيئاً واحداً وهما مختلفان فالفلك علم معروف وله قواعد وأسس والآخر دجل وباطل.
جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية برئاسة الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز يرحمه الله في جواب سؤال مضمونه أن بعض المسلمين الملتزمين لا يصومون حتى يروا الهلال بالعين المجردة ولا يفطرون حتى يروه بالعين المجردة ولا يعترفون بالرؤية بالأجهزة الحديثة ويخالفون الناس في صلاة العيد في وقتها ... الخ.
فأجابت اللجنة بقولها: [يجب عليهم أن يصوموا مع الناس ويفطروا مع الناس ويصلوا العيدين مع المسلمين في بلادهم لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة) متفق عليه والمراد بالأمر بالصوم والفطر إذا ثبتت الرؤية بالعين المجردة أو بالوسائل التي تعين(6/396)
العين على الرؤية لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الصوم يوم تصومون والإفطار يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون) ] فتاوى اللجنة الدائمة 10/95.
ثالثاً: إن إفطار هؤلاء قبل أذان المغرب وزعمهم أن الشمس قد غابت قبل أذان المغرب بعدة دقائق أقول إن هذا خطأ واضح فقد ورد في الحديث عن عمر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغابت الشمس فقد أفطر الصائم) رواه البخاري ومسلم.
والمراد بالحديث أنه لا بد من إقبال الليل وليس مجرد مغيب الشمس عن أعين الناس بل لا بد أن تغرب الشمس حقيقة وأما قول بعضهم إن الإفطار يتحقق بعد غروب الشمس مباشرة وإن كان ضوؤها ظاهراً. صفة صوم النبي - صلى الله عليه وسلم - ص 40.
أقول هذا كلام ينقض آخره أوله فكيف يغيب قرص الشمس ويبقى ضوؤها ظاهراً فإذا كان شخص يمشي في واد وغاب عنه قرص الشمس فلا يجوز له أن يفطر حتى يتحقق من غروب الشمس.
قال الإمام النووي: [قال العلماء إنما ذكر غروب الشمس وإقبال الليل وإدبار النهار ليبين أن غروبها عن العيون لا يكفي لأنها قد تغيب في بعض الأماكن عن العيون ولا تكون قد غربت حقيقة فلا بد من إقبال الليل وإدبار النهار] المجموع 6/303. وقال الإمام النووي أيضا: [وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أقبل الليل وأدبر النهار وغربت الشمس) قال العلماء كل واحد من هذه الثلاثة يتضمن الآخرين ويلازمهما وإنما جمع بينها لأنه قد يكون في واد ونحوه بحيث لا يشاهد غروب الشمس فيعتمد إقبال الظلام وإدبار الضياء] شرح النووي على صحيح مسلم 7/209.
وقال الحافظ ابن حجر: [وذكر في هذا الحديث ثلاثة أمور وإن كانت متلازمة في الأصل لكنها قد تكون في الظاهر غير متلازمة فقد يظن إقبال الليل من جهة المشرق ولا يكون إقبال حقيقة بل لوجود أمر يغطي ضوء الشمس إشارة إلى اشتراط تحقق الإقبال والإدبار وأنهما بواسطة غروب(6/397)
الشمس لا سبب آخر] فتح الباري 5/99.
وخلاصة الأمر يجب على هؤلاء وأمثالهم أن يصوموا ويفطروا مع الناس وألا يشذوا فإن الشذوذ شر عظيم.
* * *(6/398)
الحجّ(6/399)
لا شيء على من مُنِعَ من الحج وأعيد من الحدود
يقول السائل: إنه سافر إلى الأردن في طريقه لأداء فريضة الحج ولكنه أعيد عن الجسر ومنع من السفر فأفتاه أحدهم بأنه يجب عليه أن يذبح شاة لأنه محصر فما قولكم في ذلك؟
الجواب: يقول الله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) سورة البقرة الآية 196.
وهذه الآية الكريمة أصل في بيان حكم المحصر ولكن لا بد أولاً من بيان معنى الإحصار عند العلماء فقد قال فقهاء الحنفية: [الإحصار هو المنع من الوقوف بعرفة والطواف جميعاً بعد الإحرام بالحج الفرض والنقل وفي العمرة عن الطواف] طلبة الطلبة ص 118.
وبمثل هذا التعريف قال بقية فقهاء المذاهب وكل الفقهاء فيما أعلم متفقون على أن الحاج لا يكون محصراً إلا إذا تلبس بالإحرام أي أنه لا إحصار قبل الإحرام. انظر الموسوعة الفقهية 2/199.
فإذا أحرم الحاج ثم عرض له عدو منعه من إتمام النسك فإنه يتحلل من إحرامه وعليه ذبح قال الله تعالى: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) والمقصود به عند جمهور أهل العلم ذبح شاة. تفسير القرطبي 2/378.(6/401)
وثبت في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قد أحصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحلق رأسه وجامع نساءه ونحر هديه حتى اعتمر عاماً قابلاً) رواه البخاري
وبناء على ما تقدم فإن هذا الشخص الذي منع من السفر وأعيد عن الجسر لا يعتبر محصراً حيث إنه لم يحرم فلا شيء عليه ومن أفتاه بأن عليه شاة فقد أفتاه بغير علم وجاء بشيء منكر لم يقل به أحد من أهل العلم وإنها لجرأة كبيرة على العلم الشرعي أن يفتى بدون علم ولا فقه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، قال تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) وقال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) .
* * *
الحج عن الوالدين
يقول السائل: إن والديه قد ماتا ولم يؤديا فريضة الحج لفقرهما وهو رجل غني يريد أن يحج عنهما فهل يحج عن أبيه أولاً أم عن أمه أفيدونا؟
الجواب: إن الحج عن الوالدين الذين قد ماتا وهما فقيرين ولم يؤديا فريضة الحج هو من باب البر بهما والإحسان إليهما، قال تعالى: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) سورة الإسراء الآية 23، وهذا الولد له الأجر والثواب الجزيل إن شاء الله تعالى ويقع الحج عن الوالدين الميتين وينتفعان به بإذن الله تعالى.
ويدل على جواز الحج عن الغير أدلة كثيرة من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - منها:
عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟(6/402)
قال: نعم حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟! اقضوا الله فالله أحق بالوفاء) رواه البخاري.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان الفضل بن عباس رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاءت امرأة من خثعم فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر فقالت: إن فريضة الله أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: نعم وذلك في حجة الوداع) رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية مسلم: (قالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: نعم) .
وعن أبي رزين العقيلي أنه قال: (يا رسول الله: إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن قال: حج عن أبيك واعتمر) رواه النسائي، وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي 2/556، والظعن أي الارتحال والسفر.
وعن عبد الله بن الزبير قال: جاء رجل من خثعم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الركوب وأدركته فريضة الله في الحج فهل يجزىء أن أحج عنه قال: آنت أكبر ولده؟ قال: نعم، قال: أرأيت لو كان عليه دين أكنت تقضيه؟ قال: نعم، قال: فحج عنه) رواه النسائي وأحمد والبيهقي وقال الحافظ ابن حجر: إسناده صالح. التلخيص الحبير 2/225.
وقد أخذ جمهور أهل العلم بمقتضى هذه الأحاديث فأجازوا الحج عن الميت وأجازوا الحج عن المريض مرضاً لا يرجى برؤه ولا يستطيع تحمل مشاق السفر وكذلك الكبير الذي لا يحتمل مشاق السفر فيجوز الحج عن هؤلاء بشرط أن يكون النائب وهو من يحج عن غيره قد حج عن نفسه وهذا قول الشافعية والحنابلة والأوزاعي وإسحاق بن راهويه كما قال الشيخ ابن قدامة في المغني 3/235.(6/403)
ويدل على هذا الإشتراط ما ورد في الحديث عن ابن عباس: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من شبرمة؟ قال: أخ لي أو قريب لي، قال: هل حججت قط؟ قال: لا، قال: فاجعل هذه عن نفسك ثم احجج عن شبرمة) رواه أبو داود وابن ماجة وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 4/171.
إذا تقرر جواز الحج عن الغير وبما في ذلك الأب والأم بالشرط السابق فينبغي أن يبدأ بالحج عن أمه أولاً ثم يحج عن أبيه في عام آخر لأن الأم مقدمة في البر على الأب، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [يستحب أن يحج الإنسان عن أبويه إذا كانا ميتين أو عاجزين لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أبا رزين فقال: (حج عن أبيك واعتمر) و (سألت امرأة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أبيها مات ولم يحج فقال: حجي عن أبيك) ويستحب البداءة بالحج عن الأم إن كان تطوعاً أو واجباً عليهما نص عليه أحمد في التطوع لأن الأم مقدمة في البر، قال أبو هريرة: (جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك) رواه مسلم والبخاري، وإن كان الحج واجباً على الأب دونها بدأ به لأنه واجب فكان أولى من التطوع.
وروى زيد بن أرقم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا حج الرجل عن والديه يقبل منه ومنهما واستبشرت أرواحهما في السماء وكتب عند الله براً) .
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من حج عن أبويه أو قضى عنهما مغرماً بعث يوم القيامة مع الأبرار) ] المغني 3/235.
والحديثان الأخيران اللذان وردا في كلام ابن قدامة ضعيفان عند أهل الحديث، قال الشيخ الألباني عن حديث زيد بن أرقم: (إذا حج الرجل عن والديه يقبل منه ... الخ) ضعيف أخرجه الدارقطني وابن شاهين، السلسلة الضعيفة 3/626.
وقال الشيخ الألباني عن حديث ابن عباس: (من حج عن أبويه ... )(6/404)
ضعيف جداً أخرجه ابن شاهين والطبراني في الأوسط والدارقطني. السلسة الضعيفة 3/628.
ومع ضعف الحديثين السابقين إلا أنه يستأنس بهما لأنهما يدخلان تحت أصل صحيح كما سبق في حديث الخثعمية وحديث أبي رزين وغيرهما.
* * *
لا يجوز الحلف كذباً ليتمكن من الحج
يقول السائل: إنه قد أدى فريضة الحج سابقاً ويريد أن يحج مرة ثانية وقد طلب منه أن يحلف يميناً أنه لم يحج فهل يجوز له أن يحلف أم لا؟
الجواب: من المعلوم أن فريضة الحج مطلوبة من المسلم مرة في العمر، ويسن أن يحج نافلة إن استطاع لذلك سبيلاً وبما أنه قد فرضت في زماننا هذا قيود على من يريد الحج وأحياناً يطلب من الشخص أن يحلف يميناً أنه لم يحج فإذا كان الشخص لم يحج فعلاً فلا حرج عليه إن حلف اليمين وأما إن كان قد حج سابقاً فيحرم عليه أن يحلف اليمين لأنها يمين كاذبة محرمة.
قال تعالى: (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) سورة المجادلة الآية 14.
وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) سورة آل عمران الآية 77.
وجاء في الحديث عن عمران بن حصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من حلف على يمين مصبورة كاذبة فليتبوأ مقعده من النار) رواه أبو داود والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم، ووافقه الذهبي.
واليمين المصبورة هي اللازمة لصاحبها، وخلاصة الأمر أنه يحرم على هذا السائل أن يحلف هذه اليمين الكاذبة وإن كان يريد الحج فالحج طاعة ولا يتوصل إلى الطاعة بما هو محرم.
* * *(6/405)
الأضحية(6/407)
من نوى الأضحية فلا يحلق شعره
يقول السائل: سمعت أنه لا يجوز لمن نوى أن يضحي أن يحلق رأسه قبل أن يضحي أفيدونا؟
الجواب: ثبت في الحديث الصحيح عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا دخلت العشر، وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئاً) رواه مسلم.
وفي رواية أخرى: (من كان له ذِبح يذبحه فإذا أهلَّ هلالُ ذي الحجة فلا يأخذ من شعره وأظفاره شيئاً حتى يضحي) رواه مسلم. والذِبح بكسر الذال: الذبيحة.
وقد قال بمقتضى هذا الحديث طائفة من أهل العلم فيحرم على من أراد الأضحية أخذ شيء من شعره وأظفاره حتى يضحي في وقت الأضحية وهو قول سعيد بن المسيب وربيعة الرأي والإمام أحمد وإسحاق وداود وابن حزم الظاهريين وأبي الحسن العبادي من الشافعية، واحتجوا بحديث أم سلمة السابق وقد ورد بروايات عند مسلم وهي:
أ. عن أم سلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئاً) . قيل لسفيان: فإن بعضهم لا يرفعه. قال: لكني أرفعه.(6/409)
ب. عن أم سلمة رضي الله عنها ترفعه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا دخل العشر وعنده أضحية يريد أن يضحي فلا يأخذنَّ شعراً ولا يقلمن ظفراً) .
ج. عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره) .
د. عن أم سلمة رضي الله عنها قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من كان له ذبح يذبحه فإذا أهل هلال ذي الحجة فلا يأخذنَّ من شعره ولا من أظفاره شيئاً حتى يضحي) .
ووجه الاستشهاد به أن فيه نهي عن أخذ الشعر والأظفار، ومقتضى النهي التحريم كما قال الشيخ ابن قدامة المقدسي في المغني 9/437.
وروى مسلم بإسناده عن عمرو بن مسلم بن عمار الليثي قال: (كنا في الحمام قبيل الأضحى فأطلى فيه ناس فقال بعض أهل الحمام: إن سعيد بن المسيب يكره هذا أو ينهى عنه. فلقيت سعيد بن المسيب فذكرت ذلك له فقال: يا ابن أخي هذا حديث قد نُسِيَ وترك. حدثتني أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... الحديث. وقوله في الحديث أطلى فيه ناس: أي أزالوا شعر العانة بالنورة.
واحتجوا أيضاً بما رواه ابن حزم بإسناده أن يحيى بن يعمر كان يفتي بخراسان أن الرجل إذا اشترى أضحية ودخل العشر أن يكف عن شعره وأظفاره حتى يضحي.
قال سعيد قال قتادة: فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب فقال: نعم. ... فقلت: عمن يا أبا محمد؟ قال عن أصحاب رسول الله.
وقد حمل طائفة من أهل العلم النهي الوارد في حديث أم سلمة على كراهة التنزيه فقط
وأيدوا قولهم بما ثبت من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (لقد كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيبعث هديه إلى الكعبة فما يحرم عليه مما حلَّ للرجال من أهله حتى يرجع الناس) متفق عليه.(6/410)
قال الماوردي: [فكان هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضحاياه، لأنه كان بالمدينة وأنفذها مع أبي بكر - رضي الله عنه - سنة تسع، وحكمها أغلظ لسوقها إلى الحرم، فلما لم يحرم على نفسه شيئاً كان غيره أولى إذا ضحى في غير الحرم] الحاوي ... الكبير 15/74.
والذي يغلب على ظني ـ بعد طولِ تأملٍ وتفكرٍ ـ رجحان القول الأول لقوة أدلته ويظهر ذلك فيما يلي: أولاً: إن حديث أم سلمة خاص، وحديث عائشة عام، والخاص مقدم على العام.
قال الشيخ ابن قدامة: [وحديثهم عام وهذا خاص يجب تقديمه بتنزيل العام على ما عدا ما تناوله الحديث الخاص] المغني 9/437.
وقال الشوكاني: [ولا يخفى أن حديث الباب - أي حديث أم سلمة - أخص منه - أي من حديث عائشة - مطلقاً فيبنى العام على الخاص ويكون الظاهر مع من قال بالتحريم ولكن على من أراد التضحية] نيل الأوطار 5/128.
ثانياً: يجب حمل حديث عائشة على غير محل النزاع لوجوه منها:
أ. أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ليفعل ما نهى عنه وإن كان مكروهاً، قال الله تعالى: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عنه) سورة هود الآية 88.
ب. ولأن أقلَّ أحوال النهي أن يكون مكروهاً، ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليفعل المكروه فيتعين حمل ما فعله في حديث عائشة على غيره.
ج. ولأن عائشة تخبر عن فعله - صلى الله عليه وسلم -، وأم سلمة تخبر عن قوله - صلى الله عليه وسلم -، والقول يقدم على الفعل، لاحتمال أن يكون فعله خاصاً له.
ثالثاً: إن ما قاله بعض أهل العلم بأن حديث أم سلمة موقوف؛ غير صحيح، بل هو حديث مرفوع، رفعه جماعة من المحدثين، وقد رواه مسلم مرفوعاً من وجوه:
أ. الرواية الأولى في صحيح مسلم بإسناده وفيها حدثنا سفيان ... قيل لسفيان: فإن بعضهم لا يرفعه. قال لكني أرفعه.(6/411)
ب. الرواية الثانية في صحيح مسلم وفيها: (عن أم سلمة ترفعه ... ) .
ج. الرواية الثالثة في صحيح مسلم مرفوعة.
د. الرواية الخامسة في صحيح مسلم مرفوعة.
وأجاب العلامة ابن القيم جواباً مفصلاً عن الادعاء بأن حديث أم سلمة موقوف فقال: [وقد اختلف الناس في هذا الحديث وفي حكمه. فقالت طائفة: لا يصح رفعه وإنما هو موقوف. قال الدارقطني في كتاب العلل: ووقفه عبد الله بن عامر الأسلمي ويحيى القطان وأبو حمزة عن عبد الرحمن بن حميد عن سعيد، ووقفه عقيل على سعيد. ووقفه يزيد بن عبد الله بن قسيط عن سعيد عن أم سلمة: قولها ووقفه عبد الرحمن بن حرملة وقتادة وصالح بن حسان عن سعيد: قوله. والمحفوظ عن مالك موقوف. قال الدارقطني: والصحيح عندي قول من وقفه.
ونازعه في ذلك آخرون فصححوا رفعه منهم مسلم بن الحجاج ورواه في صحيحه مرفوعاً. ومنهم أبو عيسى الترمذي قال: هذا حديث حسن صحيح. ومنهم ابن حبان خرَّجه في صحيحه. ومنهم أبو بكر البيهقي قال: هذا حديث قد ثبت مرفوعاً من أوجه لا يكون مثلها غلطاً، وأودعه مسلم في كتابه. وصححه غير هؤلاء وقد رفعه سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن بن حميد عن سعيد عن أم سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ورفعه شعبة عن مالك عن عمرو بن مسلم عن سعيد عن أم سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وليس شعبة وسفيان بدون هؤلاء الذين وقفوه.
ولا مثل هذا اللفظ من ألفاظ الصحابة بل هو المعتاد من خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله (لا يؤمن أحدكم) (أيعجز أحدكم) (أيحب أحدكم) (إذا أتى أحدكم الغائط) (إذا جاء أحدكم خادمه بطعام) ونحو ذلك] شرح ابن القيم على سنن أبي داود 7/346.
وقال صاحب تحفة الأحوذي بعد أن ذكر الطرق المرفوعة لحديث أم سلمة: [وهذه الطرق المرفوعة كلها صحيحة، فكيف يصح القول بأن حديث(6/412)
أم سلمة الموقوف هو أصل الحديث بل الظاهر أن أصل الحديث المرفوع] تحفة الأحوذي 5/100.
وقد بيَّن الشيخ الألباني أن الصحيح أن هذا الحديث مرفوع؛ حتى وإن لم يصرح سعيد بن المسيب برفعه فله حكم الرفع لأنه لا يقال بالاجتهاد والرأي إرواء الغليل 4/378.
وقال ابن حزم: [ ... ثم لو صح القياس لكان هذا منه عين الباطل، لأنه ليس إذا وجب أن لا يمس الشعر والظفر بالنص الوارد في ذلك، يجب أن يتجنب النساء والطيب، كما أنه إذا وجب اجتناب الجماع والطيب، لم يجب بذلك اجتناب مس الشعر والظفر، فهذا الصائم فرضٌ عليه اجتناب النساء، ولا يلزمه اجتناب الطيب، ولا مس الشعر والظفر، وكذلك المعتكف، وهذه المعتدة يحرم عليها الجماع والطيب، ولا يلزمها اجتناب قص الشعر والأظفار. ... وهذه فتيا صحت عن الصحابة رضي الله عنهم، ولا يعرف فيها مخالفٌ منهم لهم] المحلى 6/26.
وقال ابن القيم: [وأسعد الناس بهذا الحديث من قال بظاهره لصحتة وعدم ما يعارضه ... ولهذا كان أحمد وغيره يعمل بكلا الحديثين: هذا في موضعه وهذا في موضعه.
وقد سأل الإمام أحمد أو غيره عبد الرحمن بن مهدي عن هذين الحديثين؟ فقال: هذا له وجه وهذا له وجه] شرح ابن القيم على سنن أبي داود 7/348.
وبعد هذا العرض أرجو أن يكون ما رجحته هو الراجح، وقد كنت أميل للقول بالكراهة فقط، ثم ترجح عندي القول بالتحريم، والله أعلم.
والحكمة في النهي عن الأخذ من الشعر والأظفار في حق من أراد الأضحية هي ما قاله الإمام النووي: [قال أصحابنا: والحكمة في النهي أن يبقى كامل الأجزاء ليعتق من النار] شرح النووي على صحيح مسلم 5/120.
وإذا لم يلتزم مريد الأضحية بهذا النهي فأخذ شيئاً من شعره أو أظفاره(6/413)
فإنه يستغفر الله سبحانه وتعالى ولا فدية فيه إجماعاً سواء فعله عمداً أو نسياناً كما قال الشيخ ابن قدامة في المغني 9/437.
* * *
بداية وقت الأضحية ونهايته
يقول السائل: متى يبدأ وقت ذبح الأضحية ومتى ينتهي؟
الجواب: يدخل وقت ذبح الأضحية بعد طلوع شمس اليوم العاشر من ذي الحجة، وبعد دخول وقت صلاة الضحى، ومُضي زمان من الوقت يسع صلاة ركعتين وخطبتين خفيفتين، لا فرق في ذلك بين أهل الحضر والبوادي.
وهذا قول الشافعية والحنابلة، وبه قال ابن المنذر وداود الظاهري والطبري، ويرى الحنابلة أيضاً أن يكون الذبح بعد صلاة الإمام وخطبته خروجاً من الخلاف. المغني 9/452، المجموع 8/387.
ويدل على ذلك ما يلي:
1. حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا، نصلي ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح فإنما هو لحم قدمه لأهله، وليس من النسك في شيء) رواه البخاري ومسلم.
2. وفي رواية أخرى عن البراء قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم نحر فقال: (لا يضحين أحدٌ حتى يصلي. قال رجل: عندي عناق لبن هي خير من شاتي لحم. قال: فضح بها ولا تجزئ جذعة عن أحد بعدك) رواه مسلم.
3. وفي رواية ثالثة قال البراء - رضي الله عنه -: (ذبح أبو بردة قبل الصلاة. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أبدلها ... الخ) رواه البخاري ومسلم.(6/414)
4. وفي رواية رابعة عن البراء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يذبحن أحد حتى يصلي) رواه مسلم.
5. وفي رواية خامسة عن البراء - رضي الله عنه - قال: (صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم فقال: من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا فلا يذبح حتى ينصرف) رواه البخاري.
6. وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر: (من كان ذبح قبل الصلاة فليعد فقام رجل فقال يا رسول الله ... ) رواه البخاري ومسلم.
قالوا إن هذه الأحاديث تدل على أن وقت الأضحية يكون بعد الصلاة. قال الحافظ ابن حجر معلقاً على الرواية الخامسة من حديث البراء - رضي الله عنه -: [تمسك به الشافعية في أن أول وقت الأضحية قدر فراغ الصلاة والخطبة، وإنما شرطوا فراغ الخطيب، لأن الخطبتين مقصودتان مع الصلاة في هذه العبادة فيعتبر مقدار الصلاة والخطبتين على أخف ما يجزي بعد طلوع الشمس، فإذا ذبح بعد ذلك أجزأه الذبح عن الأضحية سواء صلَّى العيد أم لا وسواء ذبح الإمام أضحيته أم لا، ويستوي في ذلك أهل المصر والحاضر والبادي
قال القرطبي: ظواهر الأحاديث تدل على تعليق الذبح بالصلاة، لكن لما رأى الشافعي أن من لا صلاة عيد عليه مخاطب بالتضحية حمل الصلاة على وقتها] فتح الباري 12/117-118.
وظاهر الأحاديث السابقة اعتبار نفس الصلاة فيبدأ وقت الأضحية بعد الصلاة في حق من يصلي العيد، وأما من لا يصلي العيد كأهل البوادي , فأول وقتها في حقهم مضي قدر الصلاة والخطبتين بعد الصلاة، لأنه لا صلاة في حقهم تعتبر فوجب الاعتبار بقدرها. انظر المغني 9/ 452.
وبناءً على ما تقدم فإن وقت الأضحية يبدأ بعد انتهاء صلاة العيد والخطبة، إن صليت صلاة العيد كما كان يصليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد طلوع الشمس وارتفاعها بمقدار رمح أو رمحين، سواء صلَّى مريدُ الأضحية العيد(6/415)
أم لم يصل، وسواء كان من أهل البوادي أو الحضر، وسواء ذبح الإمام أو لم يذبح، وفي زماننا هذا حيث إنه لا إمام للمسلمين، فلا يرتبط أمر الأضحية بفعل الحكام الموجودين.
ولا أرى التفريق بين أهل البوادي والحضر، لعموم الأحاديث الواردة كحديث أنس - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين) رواه البخاري.
وأما آخر وقت ذبح الأضحية فهو غروب شمس اليوم الثالث من أيام التشريق، أي أن أيام النحر أربعة؛ يوم العيد وثلاثة أيام بعده، وهذا أرجح أقوال العلماء في المسألة وهو قول الشافعية ونقل هذا القول عن عمر بن عبد العزيز وسليمان بن موسى الأسدي فقيه أهل الشام، وهو قول عطاء والحسن والأوزاعي ومكحول واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والشوكاني.
انظر المغني 9/453، المجموع 8/390، زاد المعاد 2/318، نيل الأوطار 5/142.
قال الإمام الشافعي: [فإذا غابت الشمس من آخر أيام التشريق ثم ضحى أحد فلا ضحية له] الأم2/222..
ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (كل فجاج مكة منحر، وكل أيام التشريق ذبح) رواه أحمد وابن حبان وصححه ورواه البيهقي والطبراني في الكبير والبزار والدراقطني وغيرهم.
وقال البيهقي: وهو مرسل. وذكر له طرقاً متصلة، ولكنها ضعيفة كما قال إلا أنه قال أيضاً إن حديث جبير أولى أن يقال به. سنن البيهقي 9/295-298.
وقال الهيثمي: [رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير إلا أنه قال:(6/416)
(وكل فجاج مكة منحر) ورجاله موثقون] مجمع الزوائد 3/251.
وقال الحافظ ابن حجر: [أخرجه أحمد لكن في سنده انقطاع، ووصله الدارقطني ورجاله ثقات] فتح الباري 12/103.
وذكره السيوطي في الجامع الصغير ورمز له بالصحة وأقره المناوي فيض القدير 5/35.
وقال الشيخ الألباني: صحيح كما في صحيح الجامع الصغير 2/834.
وقال الشيخ أحمد الغماري: [فحديث جبير بن مطعم، رواه أحمد والبزار والطبراني وابن حبان في الصحيح، والبيهقي عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
(كل عرفات موقف، وكل مزدلفة موقف، وارفعوا عن محسر، وكل فجاج منى منحر، وكل أيام التشريق ذبح) اختصره البيهقي فاقتصر على ذكر أيام التشريق منه، وهو حديث حسن، وإن كان سند أحمد وقع فيه انقطاع.
أما الاختلاف الواقع من سليمان بن موسى، فمحمول على أنه سمعه من عبد الرحمن بن أبي حسين عن جبير بن مطعم، وسمعه من نافع بن جبير عن أبيه أيضاً، ومن محمد بن المنكدر عن جبير، فهو لم يخرج بالحديث عن جبير الذي تعدد من حدثه به، وهو ثقة فالحديث حسن أو صحيح كما قال ابن حبان] الهداية في تخريج أحاديث البداية 403-404.
واحتجوا بأن هذا القول قد نقل عن علي وابن عباس وعطاء وعمر بن عبد العزيز، فقد روى البيهقي بإسناده عن ابن عباس قال: الأضحى ثلاثة أيام بعد يوم النحر.
وروى أيضاً عن الحسن وعطاء قالا: يُضَحَّى إلى آخر أيام التشريق.
وروى أيضاً عن عمر بن عبد العزيز قال: الأضحى يوم النحر وثلاثة أيام بعده. سنن البيهقي 9/296-297.
ومما يؤيد هذا القول أن تفسير الأيام المعلومات في قوله تعالى:(6/417)
(وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ) سورة الحج الآية 28. بأنها يوم النحر وثلاثة أيام بعده مروي عن ابن عباس وابن عمر وإبراهيم النخعي، وإليه ذهب الإمام أحمد بن حنبل في رواية عنه. تفسير ابن كثير 3/ 216-217، أضواء البيان 5/344.
وكذلك فإن هذا القول منقول عن جماعة من الصحابة منهم علي وابن عباس وابن عمر وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم.
ومنقول عن جماعة من التابعين منهم الحسن وعطاء وبه قال عمر بن عبد العزيز وسليمان بن موسى وكان أحد أئمة أهل الشام في العلم.
وخلاصة الأمر أن وقت الأضحية يبدأ بعد انتهاء صلاة العيد والخطبة وينتهي وقتها بغروب شمس اليوم الثالث من أيام التشريق وهو رابع أيام العيد كما هو معروف بين الناس.
* * *(6/418)
الأيمان(6/419)
الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم
يقول السائل: ما حكم الحلف بالنبي - صلى الله عليه وسلم -؟
الجواب: اتفق أهل العلم على أن الحلف يكون بالله سبحانه وتعالى وبأسمائه وصفاته وعلى ذلك تدل الأدلة الكثيرة من السنة النبوية فمن ذلك:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب وعمر يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله فقال: ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)
رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله) وكانت قريش تحلف بآبائها فقال: لا تحلفوا بآبائكم) رواه مسلم
وروى الترمذي بإسناده أن ابن عمر سمع رجلاً يقول: لا والكعبة، فقال ابن عمر: لا تحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) ، وقال الترمذي: هذا حديث حسن وفُسِرَ هذا الحديث عند بعض أهل العلم أن قوله فقد كفر أو أشرك على التغليظ والحجة في ذلك حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع عمر يقول: وأبي وأبي فقال: ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم. وحديث أبي هريرة عن(6/421)
النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من قال في حلفه واللات والعزى فليقل لا إله إلا الله.) سنن الترمذي مع شرحه عارضة الأحوذي 7/15.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد ولا تحلفوا إلا بالله ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون) رواه النسائي واللفظ له ورواه أبو داود أيضاً. وقال الشيخ الألباني صحيح، انظر صحيح سنن النسائي 2/799.
وجاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من حلف فليحلف برب الكعبة) رواه أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وبناء على هذه الأحاديث قال جماهير أهل العلم لا يجوز الحلف إلا بالله سبحانه وتعالى وبأسمائه وصفاته لأن الحصر - من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله - الوارد في الأحاديث يدل على ذلك ولا يجوز الحلف بغير الله سواء كان المحلوف به وجيهاً عند الله عز وجل أم كان من سائر العباد.
فلا يجوز الحلف بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يجوز الحلف بجبريل عليه السلام ولا يجوز الحلف بالكعبة أو بأي شيء من المخلوقات.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ولا تنعقد اليمين بالحلف بمخلوق كالكعبة والأنبياء وسائر المخلوقات ولا تجب الكفارة بالحنث فيها هذا ظاهر كلام الخرفي وهو قول أكثر الفقهاء] المغني 9/513.
وقال صاحب الهداية من الحنفية: [ومن حلف بغير الله لم يكن حالفاً كالنبي والكعبة] شرح فتح القدير 4/356.
قال الإمام النووي: [قال العلماء والحكمة في النهي عن الحلف بغير الله تعالى أن الحلف يقتضي تعظيم المحلوف به وحقيقة العظمة مختصة بالله تعالى فلا يضاهى به غيره وقد جاء عن ابن عباس لأن أحلف بالله(6/422)
مئة مرة فآثم خير من أحلف بغيره فأبر] شرح النووي على صحيح مسلم 11/105.
ويؤيد كلام ابن عباس ما قاله عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم: [لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أحلف بغيره صادقاً] رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/177. وصححه الشيخ الألباني في إرواء الغليل 8/191.
وكلام ابن مسعود هذا يدل على أنه اختار أن يحلف بالله كاذباً ولا يحلف بغيره صادقاً فهذا يدل على أن الحلف بغير الله أكبر من الكذب مع أن الكذب من المحرمات في جميع الملل فدل ذلك على أن الحلف بغير الله من أكبر المحرمات. تيسير العزيز الحميد ص 526.
وقال الحافظ ابن حجر: [قال العلماء: السر في النهي عن الحلف بغير الله أن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده وظاهر الحديث تخصيص الحلف بالله خاصة لكن قد اتفق الفقهاء على أن اليمين تنعقد بالله وذاته وصفاته العلية، واختلفوا في انعقادها ببعض الصفات كما سبق وكأن المراد بقوله بالله الذات لا خصوص لفظ الله وأما اليمين بغير ذلك فقد ثبت المنع فيها وهل المنع للتحريم؟ قولان عند المالكية كذا قال ابن دقيق العيد والمشهور عندهم الكراهة والخلاف أيضاً عند الحنابلة لكن المشهور عندهم التحريم وبه جزم الظاهرية، وقال ابن عبد البر: لا يجوز الحلف بغير الله بالإجماع، ومراده بنفي الجواز الكراهة أعم من التحريم والتنزيه فإنه قال في موضع آخر: أجمع العلماء على أن اليمين بغير الله مكروهة منهي عنها لا يجوز لأحد الحلف بها، والخلاف موجود عند الشافعية من أجل قول الشافعي: أخشى أن يكون الحلف بغير الله معصية فأشعر بالتردد وجمهور أصحابه على أنه للتنزيه وقال إمام الحرمين: المذهب القطع بالكراهة وجزم غيره بالتفصيل فإن اعتقد في المحلوف فيه من التعظيم ما يعتقده في الله حرم الحلف به(6/423)
وكان بذلك الاعتقاد كافراً وعليه يتنزل الحديث المذكور وأما إذا حلف بغير الله لاعتقاده تعظيم المحلوف به على ما يليق به من التعظيم فلا يكفر بذلك ولا تنعقد يمينه، قال الماوردي: لا يجوز لأحد أن يحلف أحداً بغير الله، لا بطلاق ولا عتاق ولا نذر وإذا حلف الحاكم أحداً بشيء من ذلك وجب عزله لجهله] فتح الباري 14/336.
وقال الإمام أحمد في رواية عنه يجوز الحلف بالنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وروي عن أحمد أنه قال: إذا حلف بحق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحنث فعليه الكفارة، قال أصحابنا لأنه أحد شرطي الشهادة] المغني 9/513.
ولكن العلماء لم يسلموا ما قاله الإمام أحمد في هذه الرواية من جواز الحلف بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأجابوا عن ذلك بأجوبة منها ما قاله القرطبي: [لا تنعقد اليمين بغير الله تعالى وأسمائه وصفاته وقال أحمد بن حنبل: [إذا حلف بالنبي - صلى الله عليه وسلم - انعقدت يمينه لأنه حلف بما لا يتم الإيمان إلا به فيلزمه الكفارة كما لو حلف بالله. وهذا يرده ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وعمر يحلف بأبيه فناداهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) وهذا حصر في عدم الحلف بكل شيء سوى الله تعالى وأسمائه وصفاته كما ذكرنا، ومما يحقق ذلك ما رواه أبو داود والنسائي وغيرهم عن أبي هريرة قال: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد ولا تحلفوا إلا بالله ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون) ثم ينتقض عليه بمن قال: وآدم وإبراهيم فإنه لا كفارة عليه وقد حلف بما لا يتم الإيمان إلا به] تفسير القرطبي 6/270-271.
وقال ابن العربي المالكي: [وقال أحمد: إذا حلف بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وجبت عليه الكفارة لأنه حلف بما لم يتم الإيمان إلا به فوجبت عليه الكفارة ... قلنا عنه جوابان: لفظي ومعنوي أما اللفظي فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من كان(6/424)
حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت وأما المعنوي فلأن الإيمان عند أحمد لا يتم إلا بفعل الصلاة ومن تركها متعمداً كفر فلزمه إذا حلف أن تلزمه الكفارة إذا حنث ولم يقل به ... ] عارضة الأحوذي 7/16.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [ولهذا تنازع الناس هل يحلف بالنبي - صلى الله عليه وسلم -؟ مع اتفاقهم بأنه لا يحلف بشيء من المخلوقات المعظمة كالعرش والكرسي والكعبة والملائكة، فذهب جمهور العلماء كمالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد في أحد قوليه إلى أنه لا يحلف بالنبي ولا تنعقد اليمين كما لا يحلف بشيء من المخلوقات ولا تجب الكفارة على من حلف بشيء من ذلك وحنث، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (لا تحلفوا إلا بالله) وقال: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) وفي السنن: (من حلف بغير الله فقد أشرك) .
وعن أحمد بن حنبل رواية أنه يحلف بالنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة لأنه يجب الإيمان به خصوصاً ويجب ذكره في الشهادتين والأذان فللإيمان به اختصاص لا يشركه فيه غيره وقال ابن عقيل: بل هذا لكونه نبياً وطرد ذلك في سائر الأنبياء مع أن الصواب الذي عليه عامة علماء المسلمين سلفهم وخلفهم أنه لا يحلف بمخلوق لا نبي ولا غير نبي ولا ملك من الملائكة ولا ملك من الملوك ولا شيخ من الشيوخ.
والنهي عن ذلك نهي تحريم عند أكثرهم كمذهب أبي حنيفة وغيره وهو أحد القولين في مذهب أحمد كما تقدم حتى إن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما يقول أحدهم: لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغير الله صادقاً وفي لفظ: لأن احلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أضاهي فالحلف بغير الله شرك والشرك أعظم من الكذب وغاية الكذب أن يشبه بالشرك، كما في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله) قالها مرتين أو ثلاثاً، وقرأ قوله تعالى: (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي(6/425)
مَكَانٍ سَحِيقٍ) ] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 27/349-350
وينبغي أن يعلم أن منع العلماء من الحلف بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعني بحال من الأحوال التقليل من تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - وإجلاله فهم متفقون على أن إيمان المرء لا يكمل إلا بتعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - وإجلاله واحترامه.
* * *(6/426)
المعاملات(6/427)
الفرق بين الربح والربا
يقول السائل: كثير من الناس لا يفرق بين نسبة الربح التي تتقاضاها البنوك الإسلامية ونسبة الفائدة التي تأخذها البنوك الربوية فأرجو بيان الفرق بينهما؟
الجواب: إن أسس عمل البنوك الإسلامية لا زالت غير واضحة عند كثير من الناس والأمر بحاجة ماسة إلى مزيد من الشرح والتوضيح والبيان والتوعية وللأسف أن البنوك الإسلامية مقصرة في شرح فكرتها للناس فواجب البنوك الإسلامية أن تبادر إلى مخاطبة جمهور الناس ببيان قواعد العمل في البنوك الإسلامية ويمكن أن يتم ذلك بوسائل كثيرة كعقد الندوات والمحاضرات وإصدار النشرات وهذا الأمر كفيل بزيادة تفهم الناس لطبيعة عمل البنوك الإسلامية.
ومن القضايا المشكلة في أذهان كثير من الناس ما ورد في السؤال وهو عدم التفريق بين الربح والفائدة " الربا ".
فيقول هؤلاء إنه لا فرق بين ما يتم التعامل به في البنوك الإسلامية وبين ما يتم التعامل به في البنوك الربوية فيقول أحدهم مثلاً: إنه ذهب لشراء سيارة إلى البنك الإسلامي فأخبروه أن ثمن السيارة مثلاً مئة ألف شيكل وأنهم سيربحون منه ثمانية آلاف شيكل وأنه ذهب إلى بنك ربوي(6/429)
ليحصل على قرض لشراء ذات السيارة فأخبروه أنهم سيقرضونه مئة ألف شيكل بفائدة قدرها 6. 5% فهو يرى أنه لا فرق بين المعاملتين بل إن الفائدة في البنك الربوي أقل من الربح في البنك الإسلامي ولذلك قرر أن يختار أقل التكلفتين.
ولتوضيح الفرق بين الصورتين أقول: إن الربح في لغة العرب هو النماء في التجارة والعرب تقول: ربحت تجارته إذا ربح صاحبها فيها ويقولون تجارة رابحة كما ورد في تاج العروس 4/44.
وقد وردت الإشارة إلى ذلك في القرآن الكريم حيث قال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) سورة البقرة ص 116.
وقد ذكر الطبري في تفسيره لهذه الآية ما يلي: [ ... الرابح من التجار المستبدل من سلعته المملوكة عليه بدلا هو أنفس من سلعته أو أفضل من ثمنها الذي يبتاعها به فأما المستبدل من سلعته بدلاً دونها ودون الثمن الذي يبتاعها به فهو الخاسر في تجارته] تفسير الطبري 1/315-316.
فالربح هو الزيادة على رأس المال نتيجة تقليبه في النشاط التجاري أو هو الزائد على رأس المال نتيجة تقليبه في الأنشطة الاستثمارية المشروعة كالتجارة والصناعة وغيرها. انظر الربح في الفقه الإسلامي ص 44.
والربح عند الفقهاء ينتج من تفاعل عنصري الإنتاج الرئيسيين وهما العمل ورأس المال فالعمل له دور كبير في تحصيل الربح. المصدر السابق ص 44-45.
قال د. سامي حمود: [والخلاصة أن الربح في النظر الفقهي الإسلامي هو نوع من نماء المال الناتج عن استخدام هذا المال في نشاط استثماري وأن هذا النشاط الاستثماري ملحوظ فيه عنصر تقليب راس المال من حال إلى حال كما هو الحال عند الاتجار بالمال حيث تصبح النقود عروضاً ثم تعود نقوداً أكثر بالربح أو أقل بالخسارة إذا حصلت خسارة بالفعل.(6/430)
وإن هذا التقليب المعتبر للمال والذي يحصل الربح نتيجة له ما هو إلا إظهار للجهد البشري المرتبط بعمل الإنسان في المال. وذلك لأن هذا المال الجامد لا يزيد، ولولا مخالطة العمل للمال لبقي الدينار فيه ديناراً عاماً بعد عام ولكن هذا الدينار يمكن أن يصبح دنانير إذا أمسكته يد الإنسان الخبير بالبيع والشراء وسائر وجوه التقليب المعتبرة فالمال الجامد لا ينمو إلا بالعمل فيه حيث إن النقود لا تلد النقود.
ولذا فإن الإسلام في نظرته لرأس المال - كما تجلت قواعده الفقهية - لم يقرر للنقود حقاً في الحصول على أي ربح إلا إذا كان ذلك على وجه المشاركة للعمل في السراء والضراء، وفي هذا دليل ملموس على مدى اعتبار هذا العنصر المعنوي المتمثل في جهد الإنسان الذي كرمه الله تكريماً لم يقدره هذا المخلوق الجزوع والذي لا يتوانى عن الخضوع ذليلاً لكل ما يشرعه أهل الأرض بينما لا يخجل من نفسه أن يتطاول - وإذا نظر للمسائل دون إيمان - على ما شرع الله لعباده بالعدل والإحسان] تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية ص 254.
وأما الفائدة فهي زيادة مستحقة للدائن على مبلغ الدين يدفعها المدين مقابل احتباس الدين إلى تمام الوفاء. الفائدة والربا ص 16.
إذا تأملنا تعريف الفائدة فنجد أنها زيادة في مبادلة مال بمال لأجل أي أن الفائدة هي مقابل المدة الزمنية.
فمثلاً إذا اقترض شخص ألف دينار من البنك الربوي على أن يردها ألفاً ومئة دينار فالمئة دينار هي الفائدة وهذه استحقت مقابل تأجيل السداد لمدة سنة، ولتوضيح الفرق بين الربح والفائدة " الربا " لا بد أن نلاحظ أن الربح ناتج عن اجتماع العمل مع رأس المال فالتاجر يشتري ويبيع فيتولد من عمله ورأس ماله ربح وأما الفائدة فهي متولدة من رأس المال فقط بلا عمل أي أن المال هو الذي يولد المال.
وقد يقول قائل إن كلاً من الربح والفائدة يحملان معنى الزيادة في المال وهذا الكلام صحيح ولكن الزيادة في الربح مرتبطة بالتصرف الذي(6/431)
يتحول به المال من حال إلى حال، وأما الزيادة في الفائدة فهي حاصلة بشكل يزداد فيه المال نفسه أي أن الألف دينار صارت ألفاً ومئة.
وينبغي التنبيه إلى ما يقال من أن نتيجة الأعمال التي تقوم بها البنوك الإسلامية هي نفس نتيجة الأعمال التي تقوم بها البنوك الربوية فلوا افترضنا أن شخصاً اشترى سلعة من بنك إسلامي وكان ثمنها أحد عشر ألف دينار وشخص آخر اقترض عشرة آلاف دينار بفائدة قدرها 10% لشراء ذات السلعة فإن النتيجة في الحالتين واحدة وأقول إن العبرة ليست بالنتيجة وإنما بالطريق الموصل إلى تلك النتيجة.
فلو افترضنا أن شخصين كل منهما عنده ألف دينار فقام الأول بشراء كمية من الأرز بالألف التي يملكها ثم باع الأرز بألف ومئة دينار فإن هذا الشخص يكون قد زاد رأس ماله مئة دينار وتسمى هذه الزيادة ربحاً.
وإذا قام الشخص الثاني بإقراض الألف التي يملكها لآخر على أن يردها ألفاً ومئة فإنه يكون قد زاد رأس ماله مئة دينار وهذه الزيادة تمسى ربا وفائدة.
فنلاحظ أن كلاً منهما زاد رأس ماله مئة دينار فالنتيجة في الحالتين واحدة ولكن الزيادة الأولى حلال والزيادة الثانية حرام. فليست العبرة بالنتيجة وإنما العبرة بالطريق الموصل إليها.
* * *
حكم التعامل في الأسواق المالية (البورصة)
يقول السائل: ما حكم عمليات البيع والشراء التي تتم في سوق الأوراق المالية (البورصة) ؟
الجواب: سوق الأوراق المالية المسماة بالبورصة تعني المكان الذي يلتقي فيه المصرفيون وسماسرة الأوراق المالية والتجار لإجراء الصفقات التجارية في الأسهم والسندات وحصص التأسيس.(6/432)
سوق الأوراق المالية أمر حديث نسبياً في العالم الإسلامي حيث إنه من نتاج الحضارة الرأسمالية وليس معنى ذلك أنه مرفوض شرعاً وإنما لا بد من وضع ضوابط شرعية معينة حتى يصح التعامل في الأسواق المالية، وقد وضع العلماء المعاصرون هذه القيود والضوابط للحالات التي يجوز التعامل بها في السوق المالي.
وينبغي أولاً التذكير بأن الأصل في باب المعاملات في الشريعة الإسلامية هو الإباحة وبناءً على ذلك لا يجوز منع أي معاملة إلا بنص صريح من الشارع الحكيم أو قياس صحيح عليه.
ويدل على ذلك قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) سورة المائدة الآية 1.
فالآية الكريمة أوجبت الوفاء بالعقود من غير تعيين قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [والأصل في هذا أنه لا يحرم على الناس من المعاملات التي يحتاجون إليها إلا ما دل الكتاب والسنة على تحريمه كما لا يشرع لهم من العبادات التي يتقربون بها إلى الله إلا ما دل الكتاب والسنة على شرعه إذ الدين ما شرعه الله والحرام ما حرمه الله بخلاف الذين ذمهم الله حيث حرموا من دين الله ما لم يحرمه الله وأشركوا به ما لم ينزل به سلطاناً وشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله، اللهم وفقنا لأن نجعل الحلال ما حللته والحرام ما حرمته والدين ما شرعته] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 28/386.
ويقول العلامة الشيخ يوسف القرضاوي: [إن الأصل في المعاملات والعقود الإذن والإباحة إلا ما جاء نص صحيح الثبوت صريح الدلالة يمنعه ويحرمه فيوقف عنده ... وهذا بخلاف العبادات التي تقرر: أن الأصل فيها المنع حتى يجيء نص من الشارع لئلا يشرع الناس في الدين ما لم يأذن به الله فإذا كان الأساس الأول للدين ألا يعبد إلا الله فإن الأساس الثاني ألا يعبد الله إلا بما شرع.
وهذه التفرقة أساسية ومهمة فلا يجوز أن يقال لعالم: أين الدليل على(6/433)
إباحة هذا العقد أو هذه المعاملة؟ إذ الدليل ليس على المبيح لأنه جاء على الأصل وإنما الدليل على المُحّرّم، والدليل المحرم يجب أن يكون نصاً لا شبهة فيه كما هو اتجاه السلف الذين نقل عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية أنهم ما كانوا يطلقون الحرام إلا على ما علم تحريمه جزماً] بيع المرابحة للقرضاوي ص 13.
كما وأن الأصل في البيع الحل لعموم قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) سورة البقرة الآية 275.
إذا تقرر هذا فأعود إلى بيان حكم التعامل بالأسواق المالية (البورصة) فأقول: تتعامل البورصة بالأسهم والسندات بشكل عام، فأما الأسهم فهي عبارة عن حصص الشركاء في الشركات المساهمة حيث إن رأسمال الشركة المساهمة يقسم إلى أجزاء متساوية يطلق على كل منها سهماً فالسهم هو جزء من رأس مال الشركة وهو يمثل حق المساهم مقدراً بالنقود لتحديد نصيبه في ربح الشركة أو خسارتها وكذلك تحديد مسؤولية المساهم في الشركة.
والأصل في الشركة المساهمة الجواز إذا كانت خالية من الربا والتعامل المحرم فالمساهمون فيها يتحقق فيهم معنى الشركاء حيث إنهم يقدمون أسهمهم حصصاً في رأس المال فيشتركون في رأس المال ويقتسمون الأرباح والخسائر فيكونون شركاء بمجرد توقيع عقد الاكتتاب في الشركة فيعتبر ذلك إيجاباً وقبولاً لأن الإيجاب والقبول لا يشترط فيهما التلفظ بل يصحان بالكتابة وهؤلاء الشركاء يوكلون مجلس إدارة الشركة بالقيام بالعمل وهو توكيل صحيح. والقول بمنع شركة المساهمة قول ضعيف لا دليل يؤيده. انظر شركة المساهمة ص 303 فما بعدها.
وأما السندات فهي عبارة عن قروض طويلة الأجل تتعهد الشركة المقترضة بموجبها أن تسدد قيمتها في تواريخ محددة مع فائدة متفق عليها. المعاملات المالية المعاصرة ص 176.
والصحيح من أقوال أهل العلم جواز التعامل بالأسهم ضمن ضوابط معينة وحرمة التعامل بالسندات لأنها قروض ربوية.(6/434)
وأما ضوابط التعامل بالأسهم فهي:
أولاً: أن تكون الأسهم صادرة من شركات ذات أغراض مشروعة بأن يكون موضوع نشاطها حلالاً مباحاً مثل الشركات الإنتاجية للسلع والخدمات كشركة الكهرباء وشركة الأدوية وغير ذلك، أما إذا كان موضوع نشاطها محرماً كشركات إنتاج الخمور أو شركات إنشاء البنوك الربوية فلا يجوز امتلاك شيء من أسهمها وتداوله بين المسلمين كما تحرم أرباحها لأن شراء الأسهم من تلك الشركة من باب المشاركة في الإثم والعدوان
ثانياً: أن تكون الأسهم صادرة عن شركة معروفة ومعلومة لدى الناس بحيث تتضح سلامة تعاملها ونزاهته لذا لا يجوز التعامل بأسهم سلة شركات مساهمة كما هو في الغرب دون أن يعرف المشتري للأسهم حقيقة تلك الشركات فمن الأساليب الجديدة في الاستثمار استثمار في سلة مشتركة لشركات مساهمة أمريكية (Mutual Fund) وكل سلة لها مدير مشرف عليها ويديرها حسب تعليمات ودراسات تجريها شركة: " مريل لينش الاستثمارية " فالأسهم التي يشتريها المستثمر في السلة المشتركة عرضة للربح والخسارة ففي عام 1995 حققت سلة " ميرل ليتس بيسك فاليو " أرباحاً بنسبة 18% في ستة أشهر في حين أنها في عام 1990 خسرت بنسبة 13%.
فبالرغم من أن الاستثمار في هذه السلة عرضة للربح والخسارة إلا أن هذا الأسلوب من الاستثمار لا يجوز لأمرين:
الأول: عدم معرفة ماهية تلك الشركات التي تتضمنها تلك السلة فهي لا تخلو من شركات مساهمة ذات أنشطة اقتصادية محرمة كشركات إنتاج الخمور أو شركات البنوك الربوية التي حرم الإسلام التعامل بأسهمها.
والثاني: إن هذه السلات تقوم بأنشطة اقتصادية غير مشروعة كبيع دين بدين على حساب الفائدة.
ولذلك ترفض المصارف الإسلامية التعامل مع تلك السلات واستثمار أموالها عن طريقها.(6/435)
ثالثاً: أن لا يترتب على التعامل بها أي محظور شرعي كالربا والغرر والجهالة وأكل أموال الناس بالباطل فلا يجوز للمسلم قبول أسهم الامتياز التي تعطي له حق الحصول على ربح ثابت سواء أربحت الشركة أم خسرت لأن هذا ربا محرم شرعاً ولا يجوز للمسلم قبول أسهم التمتع التي تعطي صاحبها حق الحصول على الأرباح دون أن يكون شريكاً في المال والعمل لأن هذا أكل لأموال الناس بالباطل. المعاملات المالية المعاصرة ص 169-173.
وقد بحث مجمع الفقه الإسلامي في مؤتمره السابع التعامل مع الأسواق المالية وقرر ما يلي:
[أولاً: الأسهم:
1. الإسهام في الشركات:
أ. بما أن الأصل في المعاملات الحل فإن تأسيس شركة مساهمة ذات أغراض وأنشطة مشروعة أمر جائز.
ب. لا خلاف في حرمة الإسهام في شركات غرضها الأساسي محرم كالتعامل بالربا أو إنتاج المحرمات أو المتاجرة بها.
ج. الأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحياناً بالمحرمات بالربا ونحوه بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة
التعامل بالأسهم بطرق ربوية:
أ. لا يجوز شراء السهم بقرض ربوي يقدمه السمسار أو غيره للمشتري لقاء رهن السهم لما في ذلك من المراباة وتوثيقها بالرهن وهما من الأعمال المحرمة بالنص على لعن آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه.
ب. لا يجوز أيضاً بيع سهم لا يملكه البائع وإنما يتلقى وعداً من السمسار بإقراضه السهم في موعد التسليم لأنه من بيع ما لا يملك البائع(6/436)
ويقوى المنع إذا اشترط إقباض الثمن للسمسار لينتفع به بإيداعه بفائدة للحصول على مقابل الإقراض ... ] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد7 ج1 ص 711- 717.
وأما التعامل بالسندات فهو محرم كما قلت لأنها قروض ربوية بفوائد محددة وقرر ذلك مجمع الفقه الإسلامي في دورته السادسة حيث جاء في قراره:
1. إن السندات التي تمثل التزاماً بدفع مبلغها مع فائدة منسوبة إليه أو نفع مشروط محرمة شرعاً من حيث الإصدار أو الشراء أو التداول لأنها قروض ربوية سواء أكانت الجهة المصدرة لها خاصة أم عامة ترتبط بالدولة ولا أثر لتسميتها شهادات أو صكوكاً استثمارية أو ادخارية أو تسمية الفائدة الربوية الملتزم بها ربحاً أو ريعاً أو عمولة أو عائداً.
2. تحرم أيضاً السندات ذات الكوبون الصفري باعتبارها قروضاً يجري بيعها بأقل من قيمتها الإسمية ويستفيد أصحابها من الفروق باعتبارها حسماً
(خصماً) لهذه السندات.
3. كما تحرم أيضاً السندات ذات الجوائز باعتبارها قروضاً اشترط فيها نفع أو زيادة بالنسبة لمجموع المقرضين أو لبعضهم لا على التعيين فضلاً عن
شبهة القمار ... ] . مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد6 ج 2 ص1725 - 1726.
وبناء على كل ما تقدم فإنه لا يجوز شرعاً تداول أسهم البنوك الربوية وشركات التأمين وكل شركة تتعامل بالمحرمات كشركات إنتاج الخمور ونحوها كما لا يجوز إجراء عمليات البيع الآجلة لأن هذا النوع من العمليات لا يتم فيه تسليم المعقود عليه لا الثمن ولا المثمن بل يشترط تأجيلها فهذه العملية لا تجوز لأن شرط صحة العقود أن يتم تسليم العوضين أو أحدهما ولا يجوز تأجيل الاثنين حيث إنها تدخل في معنى بيع الكالئ بالكالئ فهذه العمليات تدخل في القمار الممنوع لأن البائع يضارب(6/437)
على هبوط السعر في اليوم المحدد والمشتري يضارب على صعوده ومن يصدق توقعه يكسب الفرق. الأسواق المالية ص 327.
* * *
الخصم من الدين إذا عجل السداد
يقول السائل: إنه اشترى بضاعة بالتقسيط لمدة أربعة وعشرين شهراً وبعد مضي سبعة أشهر توفر له ثمن البضاعة فطلب من البائع أن يحط عنه من الثمن على أن يسدده فوراً فقيل له إن هذا من الربا فلا يجوز، فما قولكم في ذلك؟
الجواب: مضمون هذا السؤال يسمى عند الفقهاء مسألة " ضع وتعجل " وهي مسألة خلافية بينهم فذهب جمهور أهل العلم إلى منعها وقال آخرون بالجواز وهو منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما وبه قال إبراهيم النخعي وابن سيرين وأبو ثور وهو راوية عن الإمام أحمد ومنقول عن الإمام الشافعي وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن عابدين الحنفي وقال به جماعة من العلماء المعاصرين كما سيأتي.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [إذا كان عليه دين مؤجل فقال لغريمه: ضع عني بعضه وأعجل لك بقيته لم يجز كرهه زيد بن ثابت وابن عمر والمقداد وسعيد بن المسيب وسالم والحسن وحماد والحكم والشافعي ومالك والثوري وهشيم وابن علية وإسحاق وأبو حنيفة وقال المقداد لرجلين فعلا ذلك كلاكما قد آذن بحرب من الله ورسوله وروي عن ابن عباس: أنه لم ير به بأساً وروي ذلك عن النخعي وأبي ثور لأنه آخذ لبعض حقه تارك لبعضه فجاز كما لو كان الدين حالَّاً] المغني 4/39.
وقال العلامة ابن القيم بعد أن ذكر القول بمنع " ضع وتعجل " قال: ... [والقول الثاني أنه يجوز وهو قول ابن عباس وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد حكاها ابن أبي موسى وغيره واختاره شيخنا] أي شيخ الإسلام ابن تيمية. إعلام الموقعين 3/359.(6/438)
وقد احتج هذا الفريق من أهل العلم بما ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لمَّا أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخرج بني النضير قالوا: يا رسول الله إنك أمرت بإخراجنا ولنا على الناس ديون لم تحل، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ضعوا وتعجلوا) رواه الحاكم وقال هذا حديث صحيح الإسناد. المستدرك 2/362.
وأخرجه الطبراني في الكبير وفيه مسلم بن خالد الزنجي وهو ضعيف وقد وثق كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد 4/130، ورواه البيهقي في السنن الكبرى 6/28، وقال إنه ضعيف لضعف مسلم بن خالد الزنجي.
وروى البيهقي بإسناده: [أن ابن عباس كان لا يرى بأساً أن يقول أعجل لك وتضع عني] سنن البيهقي 6/28.
وتضعيف مسلم بن خالد الزنجي غير مسلَّم قال الذهبي عنه: ... [الإمام فقيه مكة] ثم ذكر اختلاف العلماء في توثيقه وتجريحه فقال: [قال يحيى بن معين ليس به بأس، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال أبو حاتم: لا يحتج به، وقال ابن عدي: حسن الحديث أرجو أنه لا بأس به، وقال أبو داود: ضعيف. قلت - أي الذهبي -: بعض النقاد يرقي حديث مسلم إلى درجة الحسن] سير أعلام النبلاء 8/176-177.
وسبق كلام الهيثمي أن مسلم بن خالد الزنجي قد وثق وهو شيخ الإمام الشافعي وقد روى عنه الإمام الشافعي واحتج به!
قال ابن القيم بعد أن ساق الحديث: [قلت هو على شرط السنن وقد ضعفه البيهقي وإسناده ثقات وإنما ضعف بمسلم بن خالد الزنجي وهو ثقة فقيه روى عنه الشافعي واحتج به] إغاثة اللهفان 2/13.
وبهذا يظهر لنا أن الحديث صالح للاحتجاج به.
وقال هذا الفريق من أهل العلم إن مسألة ضع وتعجل تعتبر من قبيل الصلح وليس فيه مخالفة لقواعد الشرع وأصوله بل حكمة الشرع ومصالح المكلفين تقتضي أن المدين والدائن قد اتفقا وتراضيا على أن يتنازل الأول(6/439)
عن الأجل والدائن عن بعض حقه فهو من قبيل الصلح والصلح جائزٌ بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً وحرم حلالاً. الربا والمعاملات المصرفية ص 237.
وأجاب العلامة ابن القيم عن دعوى أن مسألة ضع وتعجل من باب الربا بقوله: [لأن هذا عكس الربا فإن الربا يتضمن الزيادة في أحد العوضين في مقابلة الأجل وهذا يتضمن براءة ذمته من بعض العوض في مقابلة سقوط الأجل فسقط بعض العوض في مقابلة سقوط بعض الأجل فانتفع به كل واحد منهما ولم يكن هنا ربا لا حقيقةً ولا لغةً ولا عرفاً فإن الربا الزيادة وهي منتفية ههنا والذين حرموا ذلك إنما قاسوه على الربا ولا يخفى الفرق الواضح بين قوله: إما أن تربي وإما أن تقضي، وبين قوله: عجل لي وأهب لك مائة. فأين أحدهما من الآخر؟ فلا نص في تحريم ذلك ولا إجماع ولا قياس صحيح] إعلام الموقعين 3/359.
وقال ابن القيم أيضاً: [قالوا: وهذا ضد الربا فإن ذلك يتضمن الزيادة في الأجل والدين وذلك إضرار محض بالغريم ومسألتنا تتضمن براءة ذمة الغريم من الدين وانتفاع صاحبه بما يتعجله فكلاهما حصل له الانتفاع من غير ضرر بخلاف الربا المجمع عليه فإن ضرره لاحق بالمدين ونفعه مختص برب الدين فهذا من الربا صورة ومعنى] إغاثة اللهفان 2/13.
وقد أجاز مجمع الفقه الإسلامي مسألة ضع وتعجل عند بحثه لبيع التقسيط فقد جاء في قرار المجمع ما يلي: [الحطيطة من الدين المؤجل لأجل تعجيله سواء أكانت بطلب الدائن أو المدين " ضع وتعجل " جائزة شرعاً لا تدخل في الربا المحرم إذا لم تكن بناءً على اتفاق مسبق وما دامت العلاقة بين الدائن والمدين ثنائية فإذا دخل طرف ثالث لم تجز لأنها تأخذ عندئذ حكم حسم الأوراق التجارية]
مجلة مجمع الفقه الإسلامي 7/2/218.
كما وأجازت هذه المسألة عدد من الهيئات العلمية الشرعية.
* * *(6/440)
التعامل بالشيكات
يقول السائل: إن معه شيك مؤجل الدفع بقيمة 680 ديناراً وأنه اشترى بضاعة من تاجر قيمتها 600 دينار وأعطاه الشيك المؤجل وطلب من التاجر أن يدفع له ما بقي من قيمة الشيك أي 80 ديناراً فما حكم ذلك؟
الجواب: لا مانع شرعاً من ذلك حيث إن التاجر أعطاك الثمانين ديناراً على أنها قرض حسن واستوثق لنفسه بأخذ الشيك حيث إن الشيك وثيقة بالدين في هذه الحالة فهذه المعاملة جائزة إن شاء الله.
وأما المحظور الذي يقع فيه كثير ممن يتعاملون بالشيكات الآجلة أنهم يعطونها للتجار أو للصرافين ويأخذون أقل من المبلغ المرقوم فيها فهذا نوع من الربا حيث إن الشخص في هذه الحالة يكون قد اقترض مبلغاً من المال على أن يسدد أكثر منه. فإذا كان المبلغ المرقوم في الشيك ألف دينار مثلاً فإن التاجر أو الصراف يعطيه 950 ديناراً. وهذا ما تفعله البنوك الربوية في الإقراض حيث إنها عندما تقرض تخصم الربا (الفائدة) سلفاً.
* * *
التعامل بالشيكات الآجلة
يقول السائل: ما قولكم في تاجر يبيع البضائع لزبائنه بشيكات مؤجلة من شهر إلى ستة أشهر ثم يقوم هذا التاجر ببيع الشيكات لأحد البنوك بأقل من قيمتها الحقيقية؟
الجواب: لا يجوز شرعاً بيع الشيكات الآجلة بأقل من قيمتها الحقيقية ويعتبر ذلك من الربا المحرم حيث إن هذه العملية عند التدقيق فيها يتبين لنا أن التاجر الذي أخذ الشيكات الآجلة من زبائنه وتساوي قيمتها مثلاً مئة ألف دينار يبيعها إلى البنك بسبعة وتسعين ألف دينار فكأن البنك أقرض التاجر سبعة وتسعين ألف دينار الآن وسوف يستوفيها مئة ألف دينار عندما يقوم الزبائن بدفع قيمة هذه الشيكات فهذا هو الربا المحرم بعينه.
* * *(6/441)
عقد مضاربة
يقول السائل: اتفق عدد من الأشخاص على أن يدفعوا مبلغاً من المال لشخص على أن يتاجر لهم بأنواع معينة من البضائع ولكن هذا الشخص أدخل في التجارة أنواعاً أخرى من البضائع ويتاجر بها لنفسه فما حكم تصرفه؟
الجواب: هذا الاتفاق يعتبر عقد مضاربة عند الفقهاء ويسميه بعض العلماء عقد قراض أيضاً، والمضاربة مشروعة عند أهل العلم وإن لم يرد نص صحيح صريح من الكتاب والسنة في خصوصها قال الشيخ ابن حزم: [كل أبواب الفقه ليس منها باب إلا وله أصل في القرآن والسنة حاشا القراض فما وجدنا له أصلاً فيهما البتة ولكنه إجماع صحيح مجرد] نيل الأوطار 5/301. وقال ابن المنذر: [وأجمعوا على أن القراض بالدنانير والدراهم جائز] الإجماع ص 58.
وقد استدل العلماء على جواز المضاربة بأدلة عامة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - واحتجوا ببعض الأحاديث والآثار في ذلك كما سأبين.
قال الماوردي: [والأصل في إحلال القراض وإباحته عموم قول الله عز وجل: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) سورة البقرة الآية 198، وفي القراض ابتغاء فضل وطلب نماء] الحاوي الكبير 7/305.
وجاء عن حكيم بن حزام صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أنه كان يشترط على الرجل إذا أعطاه مالاً مقارضة يضرب له به أن لا تجعل مالي في كبد رطبة ولا تحمله في بحر ولا تنزل به بطن مسيل فإن فعلت شيئاً من ذلك فقد ضمنت مالي) رواه البيهقي والدارقطني وقوى الحافظ إسناده كما ذكر الشوكاني في نيل الأوطار 5/300.
وروى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال: (خرج عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب في جيش إلى العراق فلما قفلا مرا على أبي موسى الأشعري وهو أمير البصرة فرحب بهما وسهّل ثم قال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت، ثم قال: بلى هاهنا مال من مال الله أريد أن(6/442)
أبعث به إلى أمير المؤمنين فأسلفكماه فتبتاعان به متاعاً من متاع العراق ثم تبيعانه بالمدينة فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين ويكون الربح لكما فقالا: وددنا ذلك ففعل وكتب إلى عمر بن الخطاب أن يأخذ منهم المال فلما قدما باعا فأربحا فلما دفعا ذلك إلى عمر قال: أكل الجيش أسلفه مثل ما أسلفكما؟ قالا: لا، فقال عمر بن الخطاب: ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما أديا المال وربحه فأما عبد الله فسكت وأما عبيد الله فقال: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا لو نقص هذا المال أو هلك لضمناه فقال عمر: أدياه فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضاً فقال عمر: قد جعلته قراضاً فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه وأخذ عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب نصف ربح المال) ورواه الدارقطني أيضاً، قال الحافظ ابن حجر وإسناده صحيح، نيل الأوطار 5/300 وانظر الاستذكار 21/120.
وقد وردت آثار أخرى عن الصحابة كعلي وابن مسعود وابن عباس وجابر وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين، قال الشوكاني: [فهذه الآثار تدل على أن المضاربة كان الصحابة يتعاملون بها من غير نكير إجماعاً منهم على الجواز] نيل الأوطار 5/300-301.
إذا ثبتت مشروعية المضاربة فنعود إلى ما ورد في السؤال فأقول:
إذا كانت المضاربة مطلقة أي غير مقيدة بشرط يمنع المضارب من خلط ماله مع مال المضاربة فلا بأس بذلك فالمضارب في السؤال طلب منه أن يتاجر في أنواع معينة من البضائع لشركائه فأضاف هو أنواعاً أخرى لنفسه فلا بأس بذلك وعمله صحيح بشرط أن يميز ماله من مال شركائه وبشرط أن لا يعطل مال شركائه فلا يعطيه الجهد المطلوب.
فإذا كان المضارب يستطيع العمل في المالين فله أن يخلط ماله بمال المضاربة، قال الحطاب من المالكية: [وللعامل أن يخلط القراض بماله إذا كان قادراً على التجر بهما وإن كان لا يقدر على التجر بأكثر من مال القراض لم يكن ذلك له] شرح الحطاب على مختصر خليل.
* * *(6/443)
المضارب يضارب في مالين
يقول السائل: إن المضارب في السؤال الأول بعد أن اتفق مع الشركاء ليضارب لهم بأموالهم في أنواع معينة من البضائع اتفق مع أشخاص آخرين ليتاجر لهم بنفس نوعية البضائع في المضاربة الأولى فما حكم ذلك؟
الجواب: إن هذا العامل ضارب في رأس مالين أخذهما من جهتين ومحل المضاربة نفس نوعية البضاعة وهذا العمل قد يلحق ضرراً بصاحب المال الأول ولا يجوز له أن يضارب للثاني إذا كان يلحق ضرراً بالأول قال الخرقي من الحنابلة: [وإذا ضارب لرجل لم يجز أن يضارب لآخرين إذا كان فيه ضرر على الأول] وقال الشيخ ابن قدامة موضحاً كلام الخرقي: [وجملة ذلك: أنه إذا أخذ من انسان مضاربة ثم أراد أخذ مضاربة أخرى من آخر فأذن له الأول جاز وإن لم يأذن له ولم يكن عليه ضرر جاز أيضاً بغير خلاف، وإن كان فيه ضرر على رب المال الأول ولم يأذن مثل أن يكون المال الثاني كثيراً يحتاج إلى أن يقطع زمانه ويشغله عن التجارة في الأول ويكون المال الأول كثيراً متى اشتغل عنه بغيره انقطع عن بعض تصرفاته لم يجز له ذلك] المغني 5/37.
* * *
المضارب يعطي مال المضاربة لغيره
هل للمضارب أن يعطي مال المضاربة لغيره مضاربة؟
الجواب: الأصل أن المضارب عليه أن يتولى العمل بنفسه لأن صاحب المال ما أعطى ماله للمضارب إلا لحصول الثقة به وبخبرته في العمل فلا يجوز له أن يعطي مال المضاربة لغيره إلا أن يأذن له صاحب المال فإن أذن له في ذلك جاز وهذا مذهب جمهور الفقهاء.
قال الشيخ المرداوي: [ليس للمضارب دفع مال المضاربة لآخر من غير إذن رب المال على الصحيح] الإنصاف 2/438.
* * *(6/444)
المضارب لا يضمن مال المضاربة
هل يضمن المضارب مال المضاربة؟
الجواب: المضاربة شركة تقوم على العمل من العامل والمال من صاحب المال ومن المعلوم أن الربح يكون بينهما بحسب ما يتفقان عليه والخسارة تكون على صاحب المال والعامل يخسر جهده وعمله ولا يجوز أن يضمن العامل رأس المال إلا إذا قصر أو تعدى وأما بدون حصول تقصير أو تعدٍ فهو غير ضامن لأن المضاربة مبنية على الأمانة والوكالة والمضارب فيها وكيل عن صاحب المال ويكون المال أمانة في يده عند قبضه أما إذا تعدى كأن يكون صاحب المال شرط عليه أن يتاجر مثلاً في المواد الغذائية فتاجر في الحيوانات فماتت فهو ضامن، وكذلك فإنه يضمن بالتقصير كأن يسرق مال المضاربة لأن العامل لم يأخذ بالأسباب التي تحافظ عليه وهكذا.
ولا يجوز أن يشترط في عقد المضاربة أن يضمن العامل رأس مال المضاربة.
وعلى العامل أن يلتزم بالشروط التي يفرضها صاحب المال لأن صاحب المال أدرى بما يحفظ ماله وقد كان الصحابة والتابعون يشترطون ما يرونه مناسباً لحفظ أموالهم كما سبق عن حكيم بن حزام صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أنه كان يشترط على الرجل إذا أعطاه مالاً مقارضة يضرب له به أن لا تجعل مالي في كبد رطبة ولا تحمله في بحر ولا تنزل به بطن مسيل فإن فعلت شيئاً من ذلك فقد ضمنت مالي) رواه البيهقي والدارقطني وقوى الحافظ إسناده كما سبق.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان العباس بن عبد المطلب إذا دفع مالاً مضاربة اشترط على صاحبه أن لا يسلك به بحراً ولا ينزل به وادياً ولا يشتري به ذات كبد رطبة فإن فعل فهو ضامن فرفع شرطه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجازه) رواه البيهقي في سننه 6/111 وفيه ضعف.(6/445)
وقد جاء في فتاوى هيئة الرقابة الشرعية لبنك دبي الإسلامي ما يلي:
السؤال: هناك أموال أيتام يريدون استثمارها في المضاربة الشرعية وقد اشترطت الجهة القائمة على هذه الأموال ضمان هذه الأموال خوفاً عليها من الخسارة فهل يجوز ضمان هذه الأموال عن طريق إصدار خطاب ضمان يضمن فيها أموال اليتامى وهل يمكن اعتبارها إذا صح المخرج عن طريق خطاب الضمان كأمانة ترد كما هي ربحت المضاربة أم خسرت؟
الجواب: بحثت الهيئة مسألة ضمان أموال الأيتام المستثمرة ورأت أنه لا يجوز شرعاً ضمان المال المستثمر بقصد الربح لأن الاستثمار في الإسلام يقوم على أساس الغرم بالغنم فالضمان المطلوب بهذه الصورة لا أساس له شرعاً وإنما يجب اتخاذ الحيطة والحذر لذلك باختيار المضارب الثقة الأمين المتمسك بدينه مع الأخذ بالأساليب العلمية في الاستثمار من دراسة السوق ودراسة الجدوى الاقتصادية والمتابعة والتقييم لكل الخطوات التنفيذية وغير ذلك مما تتطلبه أساليب الاستثمار السليمة.
* * *
بيع العينة وبيع التورق
يقول السائل: ما هو بيع العينة الذي ورد ذكره في الحديث وما الفرق بينه وبين التورق؟
الجواب: ورد في الحديث عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
(إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم) رواه أبو داود والبيهقي وأحمد قال الحافظ ابن حجر: [رجاله ثقات وصححه ابن القطان] بلوغ المرام ص 172. وصححه الشيخ العلامة الألباني في غاية المرام ص 121 وفي السلسلة الصحيحة 1/15. وبيع العينة هو أن يبيع شخص شيئاً(6/446)
لغيره بثمن مؤجل ثم يشتريه قبل قبض الثمن بثمن نقد أقل من ذلك القدر وهذه أشهر صور بيع العينة فمثلاً اشترى زيد سيارة من عمرو بمبلغ إثني عشر ألف دينار مؤجلة ثم باع زيد السيارة إلى عمرو بمبلغ عشرة آلاف دينار حالة فهنا دخلت السيارة في عملية البيع وليست مقصودة بالبيع لأن السيارة عادت إلىصاحبها فوراً وإنما المقصود النقود " العين " وهذه العملية تعتبر رباً حيث إن زيداً قد اقترض عشرة آلاف وسيقوم بتسديد اثني عشر ألفاً.
فالعينة قرض ربوي مستتر تحت صورة البيع وبناء على كونها رباً قال جمهور أهل العلم بتحريم بيع العينة. انظر نيل الأوطار 5/234، شرح ابن القيم على مختصر سنن أبي داود 9/241 فما بعدها، الموسوعة الفقهية 9/69.
وقد ساق العلامة ابن القيم أدلة كثيرة على تحريم العينة منها عن ابن عباس: (أنه سئل عن العينة يعني بيع الحريرة؟ فقال: إن الله لا يُخدع، هذا مما حرم الله ورسوله) وقال ابن القيم: وهذا في حكم المرفوع اتفاقاً عند أهل العلم.
وعن امرأة أبي إسحق قالت: [ (دخلت على عائشة في نسوة فقالت: ما حاجتكن؟ فكان أول من سألها أم محبة فقالت: يا أم المؤمنين هل تعرفين زيد بن أرقم؟ قالت: نعم. قالت: فإني بعته جارية لي بثمانمائة درهم إلى العطاء وإنه أراد أن يبيعها فابتعتها بستمائة درهم نقداً. فأقبلت عليها وهي غضبى فقالت: بئسما شريت وبئسما اشتريت، أبلغي زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يتوب. وأفحمت صاحبتنا فلم تتكلم طويلاً ثم إنه سهل عنها فقالت: يا أم المؤمنين أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي؟ فتلت عليها: (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف) فلولا أن عند أم المؤمنين علماً لا تستريب فيه أن هذا محرم لم تستجز أن تقول مثل هذا بالاجتهاد ولا سيما إن كانت قد قصدت أن العمل يحبط بالردة وأن استحلال الربا كفر وهذا منه ولكن زيداً معذور لأنه لم يعلم أن هذا محرم ولهذا قالت أبلغيه.(6/447)
ويحتمل أن تكون قد قصدت أن هذا من الكبائر التي يقاوم إثمها ثواب الجهاد فيصير بمنزلة من عمل حسنة وسيئة بقدرها فكأنه لم يعمل شيئاً.
وعلى التقديرين لجزم أم المؤمنين بهذا دليل على أنه لا يسوغ فيه الاجتهاد ولو كانت هذه من مسائل الاجتهاد والنزاع بين الصحابة لم تطلق عائشة ذلك على زيد فإن الحسنات لا تبطل بمسائل الاجتهاد] شرح ابن القيم على مختصر أبي داود 9/246. ثم ذكر ابن القيم أدلة أخرى على تحريم بيع العينة.
وأما التورق فهو أن يشتري شخص سلعة إلى أجل ثم يبيعها لغير البائع بأقل مما اشتراها نقداً ليحصل بذلك على النقد فمثلاً اشترى زيد ثلاجة بستة آلاف مؤجلة واستلم الثلاجة من البائع وباعها إلى شخص آخر بخمسة آلاف نقداً فهذا هو التورق. انظر الموسوعة الفقهية 14/147، الجامع في أصول الربا ص 174.
وهذه المعاملة جائزة عند جمهور أهل العلم وقال شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم بكراهة هذه المعاملة ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: [التورق أخية الربا] مجموع الفتاوى 29/303،
وقال العلامة مصطفى الزرقا: [إن هذه المسألة التي سألتم عنها تسمى عند الفقهاء " مسألة التورق " لأن مشتري البضاعة لا يريد البضاعة لذاتها وإنما يريد الرقة أو الورق وهي الفضة أي: مقصوده الدراهم "وحكمها الشرعي في رأي العلماء أنها إذا كانت نتيجة تواطؤ " تفاهم مسبق " بين المشتري والتاجر البائع على أن يعيد بيعها للبائع بسعر أقل نقداً " وقد كان اشتراها منه بسعر أعلى مؤجلاً " فذلك غير جائز شرعاً، لأنه كالمراباة الصريحة - وهذه هي العينة -
أما إذا كان المحتاج إلى النقود " ولا يجد من يقرضه قرضاً حسناً " قد ذهب من تلقاء نفسه إلى السوق، فاشترى بضاعة بثمن مؤجل، ثم باعها بدون سابق تواطؤ نقداً بسعر أقل، لكي يحصل على(6/448)
الدراهم التي هي حاجته دون أن يلجأ إلى الاقتراض بالربا، فلا مانع منه شرعاً، بل يعتبر حسن تصرف منه كيلا يقع في المراباة والله سبحانه أعلم] فتاوى العلامة مصطفى الزرقا ص 496.
وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين بعد أن ذكر خلاف العلماء في المسألة: [لكن أرى أنها حلال بشروط هي: الشرط الأول: أن يتعذر القرض أو السلم أي أن يتعذر الحصول على المال بطريق مباح والقرض في وقتنا الحاضر الغالب أنه متعذر ...
الشرط الثاني: أن يكون محتاجاً لذلك حاجة بينة.
الشرط الثالث: أن تكون السلعة عند البائع فإن لم تكن عند البائع فقد باع مالم يدخل في ضمانه وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - (نهى عن بيع السلع في مكان شرائها حتى ينقلها التاجر إلى رحله) - متفق عليه - فهذا من باب أولى لأنها ليست عنده فإذا اجتمعت هذه الشروط الثلاثة فأرجو أن لا يكون بها بأس لأن الإنسان قد يضطر أحياناً لهذه المعاملات] الشرح الممتع على على زاد المستقنع 8/232-233.
وخلاصة الأمر أن التورق جائز عند توفر الشروط السابقة.
* * *
حقوق الطبع والنشر
يقول السائل: كثيراً ما نقرأ على الكتب عبارة تقول: [حقوق الطبع محفوظة للمؤلف] فهل يجوز للمؤلف أو للناشر أن يحتفظ بحقوق الطبع ولا يسمح لغيره بنشر الكتاب وهل يعتبر المنع من باب كتمان العلم؟
الجواب: إن مسألة حقوق الطبع والنشر وحقوق التأليف والترجمة ونحو ذلك من المنافع المعتبرة شرعاً على الصحيح من أقوال أهل العلم المعاصرين حيث إن هذه الأمور لم تكن معروفة عند فقهائنا المتقدمين وإنما عرفت في العصر الحديث وصارت هذه الحقوق محمية بموجب القانون في الدول الغربية.(6/449)
وقد بحث الفقهاء المعاصرون هذه المسألة بتوسع في الآونة الأخيرة وصدرت فيها فتاوى وبحوث علمية موثقة وقد ذهب أكثر العلماء المعاصرين إلى اعتبار هذه الحقوق مصونة شرعاً ويجوز شرعاً لأصحابها التصرف فيها بالبيع والشراء ولا يجوز الاعتداء على هذه الحقوق فيجوز للمؤلف أن يحتفظ بحق الطبع لنفسه كما يجوز له أن يبيع حقه هذا لصاحب دار نشر ولا يجوز لأحد أن يقوم بطبع كتاب ما لم يأذن مؤلفه أو ناشره إذا شرطا حقوق الطبع لنفسيهما وأما إذا أباحا ذلك للناس فلا بأس بطبعه ونشره كما يفعل بعض أهل العلم عندما يكتبون على كتبهم يجوز نشره لمن أراد توزيعه مجاناً ويدل على جواز ذلك ما يلي:
1. إن المنافع تعتبر أموالاً عند جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة وهي من الأمور المعنوية ولا ريب أن الإنتاج الذهني يمثل منفعة من منافع الإنسان فيعد مالاً تجوز المعاوضة عنه شرعاً.
والمراد بالمنافع: هي ما يستفاد من الأعيان: كسكنى الدار وركوب السيارة ويدل على كونها مالاً أن طبع الإنسان يميل إليها كالأعيان فيسعى إلى اقتنائها ولأن العرف العام في الأسواق يعتبرها أموالاً ولأن الشارع اعتبرها أموالاً بدليل قوله تعالى على لسان شعيب عليه السلام لموسى عليه السلام: (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) فالشارع أجاز أن يكون عمل الإنسان " المنفعة مهراً والأصل في المهر أن يكون مالاً بدليل قوله تعالى: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ) فتكون المنفعة مالاً.
2. أن العرف العام جرى على اعتبار حق المؤلف في تأليفه وإبداعه، فأقر التعويض عنه والجائزة عليه ولو كان هذا الحق لا يصلح محلاً للتبادل والكسب الحلال لعدت الجائزة والتعويض عنه كسباً محرماً. ومن المعلوم أن العرف العام يعد مصدراً من مصادر التشريع إذا لم يتصادم مع نص شرعي أو أصل عام في الشريعة الإسلامية كما أن العرف له دخل كبير في(6/450)
مالية الأشياء كما قال السيوطي: لا يقع اسم المال إلا على ما له قيمة يباع بها وتلزم متلفه وإن قلَّت وما لا يطرحه الناس.
ومفاد هذا أن العرف هو أساس مالية الأشياء لقوله: لا يقع اسم المال إلا على ما له قيمة، أي بين الناس عرفاً بحيث أضحى محلاً للمعاوضة، يباع بها، ومن المقرر أن الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي.
3. إن الشريعة الإسلامية حرمت انتحال الرجل قولاً لغيره أو إسناده إلى غير من صدر منه وقضت بضرورة نسبة القول إلى قائله والفكرة إلى صاحبها لينال هو دون غيره أجر ما قد تنطوي عليه من الخير أو يتحمل وزر ما قد تجره من شر فقد روي عن الإمام أحمد: أنه امتنع عن الإقدام على الاستفادة بالنقل أو الكتابة عن مقال أو مؤلف عرف صاحبه إلا بعد الاستئذان منه فقد روى الغزالي أن الإمام أحمد سئل عمن سقطت منه ورقة كتب فيها أحاديث أو نحوها أيجوز لمن وجدها أن يكتب منها ثم يردها؟ قال: لا، بل يستأذن ثم يكتب.
4. إذا كان المؤلف مسؤولاً عما يكتبه ويتلفظ به ويحاسب عليه بدليل قوله تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفع الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم) فيكون له الحق فيما أبدعه من خير عملاً بقاعدة: الغنم بالغرم، وقاعدة: الخراج بالضمان.
5. الإبداع الذهني أصل للوسائل المادية من سيارة وطائرة ومذياع وغير ذلك مما له صفة المالية فلا بد من اعتبار الأصل له صفة المالية.
6. التخريج على قاعدة: المصالح المراسلة، في ميدان الحقوق الخاصة ويتحقق ذلك من جهتين كما قال الدريني:
أ. من ناحية كونه ملكاً منصباً على مال: أي كونه حقاً عينياً مالياً إذ المصلحة فيه خاصة عائدة إلى المؤلف أولاً وإلى الناشر والموزع ومن إليهما وهذا ظاهر في كونه حقاً خاصاً مالياً.(6/451)
ب. أن فيه مصلحة عامة مؤكدة راجعة إلى المجتمع الإنساني كله وهي الانتفاع بما فيه من قيم فكرية ذات أثر بالغ في شتى شؤون الحياة وهو بهذه المثابة حق من حقوق الله تعالى لشمول نفعه وعظيم خطره. والمصلحة المرسلة بنوعيها مرعية في الدين تبنى عليها الأحكام لأنها من مباني العدل والحق وعلى هذا فالإنتاج الفكري ملك لأن الحكم الشرعي المقدر وجوده فيه نهضت به المصلحة المرسلة والعرف] المعاملات المالية المعاصرة في الفقه الإسلامي ص 57-60.
إذا تقرر هذا فإنه من المعلوم أن الكتاب بعد أن كان عبارة عن خط على ورق أو على رق أصبح هناك طباعة والطباعة معناها أن طابع الكتاب يربح في الكتاب ويأتي الناشر فيربح من الكتاب ثم يأتي الذي يبيع الكتاب صاحب المكتبة ويربح في الكتاب 30% مثلاً فهذه هي المراحل التي يمر بها الكتاب والكتاب لا يمكن أن يوجد إلا بها وقيمة الكتاب التي من أجلها دفع المشتري ليست في الورق ولا في أي شيء إلا فيما يحويه فعندما نجعل الأصل لاغياً لا قيمة له وأن البقية لها قيمتها أظن أن هذا غير صحيح وأنه قلب للأوضاع وأنه إرادة تسليط الأحكام كما كان الأمر يوم كان الكتاب نسخة واحدة على حالة جديدة لا تتفق مع الماضي] مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 5 ج 3 ص 2538.
وقال الشيخ العلامة القرضاوي: [ ... قياس هذا الأمر على ما اختلف فيه من قضية الأذان والإمامة والخطابة والوعظ والتدريس فهذه قد اختلف فيها من قبل وكثير ممن منعوها قديماً أجازوها في العصور المتأخرة منهم الحنفية فأئمة المذهب ومشايخه السابقون منعوها ثم جاء المتأخرون فأجازوها حفظاً لمصلحة المسلمين وهذه شبيهة بها هي أشبه شيء بها تماماً وكما قال الأخوة إننا نحن الآن نعمل في الجامعات ونعلم أبناء المسلين العلوم الشرعية ونتقاضى على ذلك رواتب وأجوراً فهذه من هذه وأذكر ها هنا كلمة للإمام أبي محمد بن أبي زيد القيرواني صاحب الرسالة حينما اتخذ في بيته كلباً للحراسة فقيل له: أتتخذ كلباً وقد كرهه مالك؟ فقال لو كان مالك في زماننا لاتخذ أسداً ضارياً. فنحن في زمن غير زمن مالك وغير(6/452)
زمن ابن حنبل والذين قالوا كيف تأخذون حقوق التأليف وذهبوا وأخذوا كتبنا وربحوا فيها واستفادوا منها لو كانوا يوزعونها مجاناً فهذا معقول! وأنا فعلاً إذا كان هناك جمعية خيرية أو انسان يريد أن يتبرع بطبع كتاب ونشره فأرى أنه لا يجوز لإنسان أن يأخذ حقاً عليه في هذه الحالة أما وقد دخل دائرة الإجارة فهنا للمؤلف حق خصوصاً أن كثيراً من الناس يعيشون على مثل هذا الأمر] المصدر السابق عدد 5 ج 3 ص 2542.
وأما الادعاء بأن الاحتفاظ بحقوق الطبع والتأليف يعد كتماناً للعلم وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك في الحديث: (من كتم علماً ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار) رواه ابن حبان والحاكم وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في صحيح الترغيب ص 52.
فالجواب أن هذه الدعوى غير مسلمة فالمؤلف لا يكتم العلم بل هو ينشره وخاصة أن الحديث منصوص العلة وهو " الكتمان " لا " المعارضة " بقوله عليه الصلاة والسلام: (من كتم علماً ... ) وما نحن فيه ليس فيه كتمان بل فيه نشر وتوزيع وإذا انتفت العلة في المعاوضة انتفى الحكم وهو التحريم.
وإذا لوحظ أن هذا العالم أو الباحث قد وقف حياته كلها على هذا الجهد فكيف تستقيم حياته إذا حرم من حقه فيه؟ أيعيش على الصدقات وما تجود به أنفس المحسنين؟ وحقه في عمله ثابت له شرعاً؟
على أنا رأينا الفقهاء الأعلام يقومون جهود الحيوانات لأصحابها ومنافع الهوام والحشرات والديدان وأصوات الببغاوات وتغريد البلابل ومنفعة الكلاب في الحراسة أفلا يكون للجهد العقلي الإنساني المبتكر - في منطق هذا الفقه - مكان في هذا التقويم الشرعي!؟ الشرع الإسلامي عدل كله ومعقول المعاني والمقاصد فثبتت المالية للابتكار الذهني بالأقيسة الأولوية.
ألم يجز الرسول - صلى الله عليه وسلم - جعل تعليم بعض آيات القرآن الكريم مهراً ومعلوم أن المهر لا يكون إلا مالاً فثبت أن التعليم " يقوّم بالمال شرعاً بدليل جعله مهراً وعوضاً وتعليم القرآن الكريم طاعة بلا ريب وهو جهد محدود لا(6/453)
يعدو أن يكون مجرد ترديد لآيات من القرآن الكريم ممن يحفظها ويتلوها تعليماً أو تحفيظاً لغيره فلا يرقى مثل هذا الجهد إلى مستوى الجهد العقلي للعلماء بالبداهة بما يتسم به من الابتكار الذي هو مظهر الثقافة الواسعة والتعمق الفكري بل لا سبيل إلى المقارنة بينهما فإذا كان التعليم جهداً مقوماً بالمال فالإنتاج المبتكر من باب أولى] بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي 2/72-73.
وخلاصة الأمر أن حقوق التأليف مصونة شرعاً ولأصحابها حق التصرف فيها ولا يجوز الاعتداء عليها كما ورد في قرار مجمع الفقه الإسلامي. انظر مجلة المجمع المذكور عدد5 ج 3 ص2581.
* * *
حكم مسابقة من سيربح المليون
يقول السائل: ما قولكم في مسابقة من سيربح المليون التي تبثها إحدى المحطات الفضائية؟
الجواب: إن من آفات الأمة الإسلامية أنها تحاكي وتقلد غيرها من الأمم في كثير من الأمور وليت هذه المحاكاة وهذا التقليد كان في الأمور النافعات ولكن ومع الأسف الشديد فمعظم هذا التقليد يقع في أتفه الأمور وذميم الخصال والفعال وصدق الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - عندما قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم. قيل يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام النووي: (السنن بفتح السين والنون وهو الطريق والمراد بالشبر والذراع وجحر الضب التمثيل بشدة الموافقة لهم والمراد الموافقة في المعاصي والمخالفات لا في الكفر وفي هذا معجزة ظاهرة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد وقع ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم -) شرح النووي على صحيح مسلم 5/167.(6/454)
ومن هذا التقليد الأعمى للغربيين تقليدهم في هذه المسابقات التافهة المتعددة في الأشكال والألوان التي تزخر بها برامج محطات الإفساد الفضائية.
فهناك مسابقات ثقافية كما يزعمون تطرح فيها أسئلة تافهة مثل: أسماء الممثلين والمطربين وعناوين الأغنيات والأفلام وغير ذلك من التفاهات التي يعتبر الجهل بها خير من العلم بها.
ويضاف إلى ذلك المناظر السيئة التي تظهر فيها المذيعات والمقدمات لأمثال هذه المسابقات.
والمسابقات أصبحت ظاهرة منتشرة في المحطات الفضائية وكذلك لدى أصحاب المصانع والشركات الذين يروجون لبضائعهم بطرق يغلب عليها القمار المغطى باسم الجوائز.
ومن ذلك مسابقة من سيربح المليون أو مسابقة كنز الأحلام أو هل تريد أن تصبح مليونيراً أو نحو ذلك من الأسماء البراقة وهذه المسابقات تقوم على فكرة الحظ.
فمثلاً في مسابقة كنز الأحلام ألوف الناس يتصلون بالأرقام الهاتفية المعلن عنها ويدفعون الملايين وقلة قليلة تفوز منهم اعتماداً على الحظ.
فالشركات والمحطات التي تنظم هذه المسابقات تحقق أموالاً طائلة نتيجة هذه الاتصالات وتعطي الشيء القليل منها كجوائز وإن كان مبلغ الجائزة في نظر كثير من الناس كبير جداً كمليون ولكنهم قد جمعوا من الناس ملايين ويظهر لي أن هذا نوع من القمار والقمار من المحرمات بنص كتاب الله تعالى، يقول الله جل جلاله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) سورة المائدة الآية 90.
وينبغي أن يعلم الناس أن المكالمات الهاتفية في هذه المسابقات(6/455)
تكلف أكثر بكثير من المكالمات العادية وأن الشركات المنظمة لهذه المسابقات تتفق مع شركات الاتصالات على رفع أسعار المكالمات التي تتم على الأرقام المعلن عنها. فلذلك تحقق الجهات المنظمة للمسابقات مبالغ طائلة نتيجة الاتصالات الكثيرة ومن هذه المبالغ الضخمة التي يحصلون عليها تدفع الجوائز.
ويضاف إلى ذلك أن مسابقة من سيربح المليون مشتملة على أسئلة وأجوبة وكلما أجاب المتسابق على سؤال زاد رصيده في الجائزة وهكذا وأقول إن هذه مقامرة صريحة لأن المتسابق عندما يجيب على السؤال الأول يعطى مئة ريال مثلاً فهذه المئة ريال تصبح من حق المتسابق ويستطيع أن ينسحب من المسابقة ويأخذها، فعندما يسئل السؤال الثاني فإنه يقامر على المبلغ الأول، فإذا أجاب عن السؤال الثاني يتضاعف المبلغ ليصبح مئتي ريال مثلاً وإذا لم يجب الجواب الصحيح فإنه يخسر المئتين وهكذا يتكرر الموقف في كل سؤال وجواب فهذه مقامرة واضحة.
وقد صدرت عدة فتاوى من عدد من العلماء والهيئات العلمية في تحريم هذه المسابقات وأمثالها، منها ما صدر عن لجنة الفتوى في موقع " إسلام أون لاين " على الإنترنت ونص السؤال هو: [هل المال الذي يربحه المتسابقون في المسابقات التلفزيونية عبر الهاتف حلال أم حرام؟
الجواب: بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد
السائل الكريم: المسابقات في الأصل حلال لأنها استنهاض لهمة المشاركين، شريطة أن تكون في أمور نافعة، لا في أسئلة عن أفلام هذا الممثل والدور الذي أدته الممثلة في مسرحية ما، فهذا كله مبني على ما الجهل به خير.
عموماً هناك بعض الضوابط التي يجب أن نأخذ بها حتى نبتعد بمسابقتنا عن القمار وهي كالتالي:
أولاً: ألا يتم الاتفاق بين الهيئة المنظمة وإحدى شركات الاتصال ... (وهذا غالباً ما يحدث) على إجراء مثل هذه المسابقات على أن يكون المال(6/456)
الوارد من المكالمات بينهما بعد أخذ ثمن الجائزة منه فهذا أقرب ما يكون إلى الميسر.
ثانياً: أن تكون المسابقات بين أفراد لا يدفعون مالاً للاشتراك فيها بطريقة أو بأخرى كزيادة سعر المكالمة إن كانت وسيلة الاشتراك الاتصال الهاتفي.
ثالثاً: أن تكون في أمور نافعة لا في أسئلة عن أفلام هذا الممثل والدور الذي أدته الممثلة في مسرحية ما فهذا كله مبني على ما الجهل به خير.
رابعاً: ألا تقوم: على ابتزاز أموال الجمهور المشارك فتؤدي إلى الشره في الاستهلاك أملاً في الحصول على جائزة باهظة القيمة.
وخلاصة القول: شراء الجوائز من أموال المشتركين في المسابقات المختلفة أو تقسيم أموال المشتركين بين الهيئة المنظمة وإحدى شركات الاتصالات ووجود جوائز باهظة تؤدي إلى الشره في الاستهلاك فلكل هذه الأسباب نقول: إن مثل هذه المسابقات هي أقرب للميسر من كونها مسابقات شريفة لغرض نبيل.
وأنت تستطيع من خلال معرفة سير إجراءات المسابقات المختلفة والاستعانة بالضوابط السابقة للحكم على نوعية المسابقة] .
ومن الفتاوى الصادرة في هذه المسابقات فتوى الشيخ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي وكان نص السؤال هو [ما هو الحكم في المسابقات المليونية أو ما دون المليون عبر الهواتف الدولية والمحلية؟
الجواب: هذه المسابقات التي يشترك فيها الناس عن طريق الاتصال بالهواتف المحلية أو الدولية على أمل أن يربحوا المليون أو ما دون المليون ثم تكون النتيجة أن الملايين منهم يخسرون أجرة الاتصالات الهاتفية التي يدفعونها لشركات الهاتف وتتقاسمها مع منظمي المسابقة ولا يحصلون في النهاية إلا على الريح.(6/457)
هذه المسابقات ليست إلا لوناً من ألوان القمار - أو الميسر بلغة القرآن - تدخله الملايين الطامعة في المليون أو ما دونه بما تدفعه للهاتف على احتمال أن تربح أو تخسر ثم تخسر الأغلبية الساحقة، ويكسب واحد في المليون أو في كل عدة ملايين.
صحيح أنه لا يخسر مبلغاً كبيراً ولكن العبرة بالمبدأ وليس بحجم الخسارة المهم أنه دخل العملية مقامراً لعله يكسب ويصبح مليونيراً في لحظة.
والإسلام يحرم القمار أو الميسر تحريماً باتاً ويقرنه بالخمر في كتاب الله، ويجعله - مع الخمر والأنصاب والأزلام - رجساً من عمل الشيطان مما يدل على أنه من كبائر المحرمات لا من صغائرها وما ذلك إلا ليحمي الناس من التعلق بالأوهام والأحلام الزائفة، التي تبنى على غير أساس والإسلام لا يمنع أن يكسب الإنسان المال، ضمن شبكة الأسباب والمسببات، ووفق سنن الله في الكون والمجتمع، والأصل في هذه السنن أن يكسب الإنسان المال بكد اليمين وعرق الجبين وإعمال الفكر وإجهاد الجسم ومواصلة الليل بالنهار حتى يحقق الآمال.
أما أن ينام على أذنه ويغرق في الأحلام ويحصل الثروة عن طريق ... (ضربة حظ) تواتيه، فليس هذا من هدي الإسلام، ولا من نهج الإسلام، ولا من خلق المسلمين.
ثم إن هذه الشركات التي تنظم هذه المسابقات وأمثالها تجمع من الناس أضعاف ما تدفع لهم لأنهم أعداد كبيرة فهي - من ناحية أخرى - تأكل أموال الناس بالباطل، أي هي - بصريح العبارة - عملية سرقة مقنعة ومغلفة بالمسابقة.
ومما يؤسف له أن يشيع في مجتمعاتنا المسلمة هذا النوع من المسابقات وجوائز السحب الكبرى وألوان اليانصيب ونحوها مما ينكره الإسلام ويحرمه وينشئ شبابنا المسلم على هذه التطلعات غير المشروعة ليسبح في غير ماء ويطير بغير جناح وقد حذر سيدنا علي - رضي الله عنه -(6/458)
قديماً من ذلك ابنه الحسن في وصية له إذ قال: وإياك والاتكال على المنى فإنها بضائع النوكى (أي الحمقى) وقال الشاعر:
ولا تكن عبد المنى ... فالمنى رؤوس أموال المفاليس!] .
* * *
خيانة الأمانة في المال
يقول السائل: إنه يعمل أمين صندوق لدى إحدى الجمعيات الخيرية وأنه أخذ مبلغاً من المال من صندوق الجمعية لنفسه خفية ثم رده بعد مدة فما حكم ذلك؟
الجواب: لا يجوز للإنسان أن يتصرف في الأموال الموجودة تحت تصرفه بحكم عمله ووظيفته في أموره الشخصية وأخذك للمال من صندوق الجمعية التي تعمل فيها حرام شرعاً ويعتبر خيانة للأمانة وإن نويت رد المال ورددته فعلاً فهذا لا يعفيك من المسؤولية فأنت خائن للأمانة وقد وقعت في الحرام فقد استعملت مال غيرك بطريقة غير مشروعة وهذا ظلم واضح والظلم ظلمات يوم القيامة يقول الله تعالى: (إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) سورة إبراهيم الآية 22.
وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرً) سورة النساء الآية 10.
وصح في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حجة الوداع: (إن دمائكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم) رواه البخاري ومسلم.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله) رواه الترمذي وابن ماجة وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/180.(6/459)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه) رواه أحمد والبيهقي وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 5/279.
وعلى من وقع منه هذا الظلم أن يبادر إلى التوبة الصادقة وإن من شروطها أن يعيد الحقوق إلى أصحابها قال الله تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) سورة النور الآية 31. وقال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا) سورة التحريم الآية 8.
وجاء في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ... (من كانت له مظلمة لأخيه أو شيء فليتحلله قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه) رواه البخاري.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء) رواه مسلم، والشاة الجلحاء هي التي لا قرن لها.
* * *
الأموال التي تدفع لذوي الشهداء تجري مجرى الدية
يقول السائل: إن له أخاً قد استشهد وأن أموالاً دفعت لهم بعد استشهاده فكيف توزع هذه الأموال علماً أن لأخيه الشهيد زوجة وأطفالاً وأباً وأماً وإخوة وأخوات؟
الجواب: من المعروف عند العلماء أن ما يتركه الميت بعد وفاته يوزع على ورثته حسب التوزيع الشرعي الثابت في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
ولما كانت هذه الأموال قد دفعت لذوي الشهيد بعد استشهاده فأرى أن تقاس على دية المقتول حيث إن دية المقتول تدفع بعد موته وقد دلت السنة النبوية على أن دية المقتول توزع على ورثته فالدية موروثة كسائر الأموال التي كان يملكها القتيل حال حياته يرثه فيها ورثته حسب نصيبهم الشرعي.(6/460)
فقد ورد عن سعيد بن المسيب أن عمر - رضي الله عنه - كان يقول: [الدية على العاقلة ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئاً حتى أخبره الضحاك بن سفيان الكلابي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إليه أن ورّث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها] رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم.
قال الإمام الترمذي: [هذا حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند أهل العلم] وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/61.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (قضى أن العقل - أي الدية - ميراث بين ورثة القتيل على فرائضهم) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 2/98.
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: (جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدية على عاقلة القاتلة فقالت عاقلة المقتولة: يا رسول الله ميراثها لنا. قال: لا. ميراثها لزوجها وولدها) رواه ابن ماجة وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في صحيح سنن ... ابن ماجة 2/99.
فهذه الأحاديث تدل على أن الدية موروثة كسائر الأموال، قال الإمام البغوي بعد أن ذكر حديث توريث امرأة أشيم الضبابي من ديته: [وفيه دليل على أن الدية تجب للمقتول ثم تنتقل منه إلى ورثته كسائر أملاكه وهذا قول أكثر أهل العلم] شرح السنة 8/372.
وخلاصة الأمر أن الذي يظهر لي أن الأموال التي تدفع باسم الشهيد توزع على ورثته التوزيع الشرعي قياساً على دية المقتول.
* * *
إعادة المال لأصحابه عند انتفاء الغرض من جمعه
يقول السائل: جمع رجل مالاً من أقربائه ومن أهل الخير ليدفع دية ولكن أولياء المقتول عفوا وسامحوا ولم يأخذوا شيئاً من المال، فهل يجوز لهذا الشخص أن يتصرف بهذا المال لنفسه.(6/461)
الجواب: بما أن هذا الشخص قد جمع المال من أهل الخير وأقربائه ليدفع الدية وقد عفا مستحقوها فإن عليه أن يعيد هذا المال إلى الناس الذين جمعه منهم ولا يجوز له أن يتصرف فيه لنفسه لأنه جمع المال لغرض معين وقد زال هذا الغرض فعليه أن يعيد المال لأصحابه وإن لم يفعل فيكون قد أكل هذا المال بالباطل والله سبحانه وتعالى يقول: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) سورة النساء الآية 29.
* * *
الهدية تهدى وتباع
يقول السائل: هل يصح ما يقوله بعض الناس أن الهدية لا تهدى ولا تباع؟
الجواب: الهدية ما يتحف الإنسان به غيره على سبيل التودد والإعظام كما قال تعالى في قصة ملكة سبأ: (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ) سورة النمل الآية 35. ويقرب من معنى الهدية الهبة.
والتهادي مشروع وقد دلت على ذلك كثير من الأدلة فمن ذلك ما جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية ويثيب عليها) رواه البخاري.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لو أهديت إليَّ ذراع لقبلت ولو دعيت إلى كراع لأجبت) رواه البخاري، والكراع ما دون الركبة إلى الساق من نحو شاة أو بقرة.
وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (تهادوا فإن الهدية تذهب الضغائن) رواه الترمذي وصحح الجزري إسناده. المرقاة 6/215.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (تهادوا تحابوا) رواه البخاري في الأدب المفرد والبيهقي في السنن وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 6/44.(6/462)
وعن عائشة: (أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة يبتغون بذلك مرضاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) رواه البخاري.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: (أهدت أم حفيد خالة ابن عباس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إقطاً وسمناً وأضباً فأكل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الإقط والسمن وترك الأضب تقذراً، قال ابن عباس: فأكل على مائدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو كان حراماً ما أكل على مائدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) رواه البخاري.
قال الحافظ ابن عبد البر: [كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية وندب أمته إليها وفيه الأسوة الحسنة به - صلى الله عليه وسلم - ومن فضل الهدية مع اتباع السنة أنها تورث المودة وتذهب العداوة على ما جاء في حديث مالك وغيره مما في معناه ... عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (تهادوا فإن الهدية تذهب وحر الصدور) ولقد أحسن القائل: هدايا الناس بعضهم لبعض تولد في قلوبهم الوصلا وتزرع في الضمير هوى ووداً وتكسوهم إذا حضروا جمالاً] فتح المالك بتبويب التمهيد على موطأ مالك 9/358-359.
إذا تقرر هذا فنعود إلى العبارة المتداولة بين الناس وهي قولهم " الهدية لا تباع ولا توهب " أو " الهدية لا تهدى ولا تباع "، فهذه العبارة غير صححية شرعاً لأن الهدية إذا استقرت في ملك المهدى له فقد صار حرّ التصرف فيها فيجوز له أن يتصرف بها كما يتصرف في حرّ ماله فله أن يبيعها أو يهديها لغيره أو يتصدق بها ونحو ذلك من التصرفات.
ومما يدل على جواز تصرف المهدى إليه في الهدية بجميع أنواع التصرفات الشرعية ما ورد في الحديث عن أنس - رضي الله عنه -: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي بلحم تصدق به على بريرة - وهي مولاة عائشة - فقال: هو عليها صدقة وهو لنا هدية) رواه البخاري ومسلم. وقد ذكر الحافظ ابن حجر أنه يؤخذ من الحديث أن الهدية تملك بوضعها في بيت المهدى له ولا يحتاج إلى التصريح بالقبول وأن لمن تصدق عليه بصدقة أن يتصرف فيها بما يشاء. فتح الباري 11/334.(6/463)
وقد ترجم الإمام البخاري في صحيحه لهذا الحديث بقوله " باب إذا تحولت الصدقة "
وقال الإمام العيني في شرحه لعنوان الباب: [أي هذا باب يذكر فيه إذا تحولت الصدقة يعني إذا خرجت من كونها صدقة بأن دخلت في ملك المتصدق عليه] عمدة القاري 6/550.
وذكر الإمام البخاري حديث أم عطية الأنصارية رضي الله عنها قال: ... (دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - على عائشة رضي الله عنها فقال: هل عندكم شيء؟ فقالت: لا إلا شيء بعثت به إلينا نسيبة - وهي أم عطية - من الشاة التي بعثت بها من الصدقة. فقال: إنها قد بلغت محلها) .
قال الإمام العيني: [وفيه - أي الحديث السابق - دليل على تحويل الصدقة إلى هدية لأنه لما كان يجوز التصرف للمتصدق عليه فيها بالبيع والهبة لصحة ملكه لها حكم لها بحكم الهبة] عمدة القاري 6/551.
وبناء على ما سبق فيجوز لمن أهدي إليه شيء أن يتصرف فيه كيفما شاء ولا حرج عليه في ذلك.
* * *(6/464)
الأسرة والمجتمع(6/465)
خُطبة النكاح
يقول السائل: هل من السنة أن تُلقى خُطبة عند عقد النكاح أفيدونا؟
الجواب: خُطبة النكاح بضم الخاء غير الخِطبة بكسر الخاء فالأولى هي الكلام الذي يقال عند العقد والثانية هي مقدمة لعقد النكاح وخُطبة النكاح من مستحبات عقد النكاح عند أكثر أهل العلم وإن تم العقد بدون خطبة فالنكاح جائز ولا بأس به ولكن اتباع السنة أولى وأحسن.
قال الإمام أبو داود في سننه: [باب في خطبة النكاح] ثم روى بإسناده عن عبد الله بن مسعود في خطبة الحاجة في النكاح وغيره قال: (علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة الحاجة إنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) .
(يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)(6/467)
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) .
وهو حديث صحيح رواه أيضاً الترمذي وابن ماجة وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن ابي داود 2/398.
وقال الشيخ الألباني: [وهذه الزيادة (في النكاح وغيره) هي لأبي داود من طريق سفيان عن أبي إسحاق وظاهرها أنها من قول ابن مسعود لكن خالف شعبة فجعلها من قول أبي إسحاق حيث قال قلت لأبي إسحاق هذه في خطبة النكاح أو في غيرها؟ قال في كل حاجة] رواه الطيالسي، انظر خطبة الحاجة للألباني ص 13.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ويستحب أن يخطب العاقد أو غيره قبل التواجب ثم يكون العقد بعده لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع) وقال: (كل خطبة ليس فيها شهادة فهي كاليد الجذماء) رواهما ابن المنذر ويجزئ من ذلك أن يحمد الله ويتشهد ويصلي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمستحب أن يخطب بخطبة عبد الله بن مسعود] ثم ذكر الحديث المتقدم ثم قال ابن قدامة: [قال الخلال: حدثنا أبو سليمان إمام طرسوس قال: كان الإمام ... أحمد بن حنبل إذا حضر عقد نكاح فلم يخطب فيه بخطبة عبد الله بن مسعود قام وتركهم. وهذا كان من أبي عبد الله من المبالغة في استحبابها لا على الإيجاب. فإن حرب بن إسماعيل قال: قلت لأحمد فيجب أن تكون خطبة النكاح مثل قول ابن مسعود؟ فوسع في ذلك. وقد روى عن عمر أنه إذا كان دعي ليزوج قال: لا تعصفوا علينا الناس: الحمد لله وصلى الله على محمد إن فلاناً يخطب إليكم فإن أنكحتموه فالحمد لله وإن رددتموه فسبحان الله.
والمستحب خطبة واحدة يخطبها الولي أو الزوج أو غيرهما وقال الشافعي: المسنون خطبتان هذه التي ذكرناها في أوله وخطبة من الزوج قبل قبوله والمنقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن السلف خطبة واحدة وهو أولى ما اتبع] المغني 7/81-82.(6/468)
وقال الإمام النووي: [يستحب أن يبدأ الخاطب بالحمد لله والثناء عليه والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقول أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله جئتكم راغباً في فتاتكم فلانة أو في كريمتكم فلانة بنت فلان أو نحو ذلك] الأذكار ص 240.
وروى عبد الرزاق بإسناده عن إبراهيم النخعي قال: [كانوا - أي الصحابة - يحبون أن يتشهدوا إذا خطب الرجل على نفسه أو على غيره والخصمان إذا اختصما: إن الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ثم بحسب إمرىء أن يبلغ حاجته. قال: وأما الخصمان فينطقان بحجتهما] مصنف عبد الرزاق 6/188.
* * *
الفحص الطبي قبل الزواج
يقول السائل: إنه يريد التقدم لخطبة فتاة ولكن يوجد في عائلتها أمراض وراثية فهل يجوز له أن يشترط عليها إجراء الفحص الطبي قبل أن يدخل في إجراءات الخطبة؟
الجواب: لا بأس بأن يشترط هذا الشخص على الفتاة التي سيتقدم إليها أن تقوم بإجراء فحص طبي نظراً لوجود أمراض وراثية في عائلتها.
وكذلك لا مانع من إجراء الفحص الطبي قبل الزواج بشكل عام لمن يرغبون في الزواج، ولكني لا أرى أن يلزم كل من يريد الزواج بإجراء فحص طبي وإنما يبقى الأمر اختياراً لا إجبار فيه لا بقانون ولا بغيره.
قال د. محمد علي البار: [ولا يوجد ما يمنع من إجراء فحص للراغبين في الزواج يثبت خلوهما من الأمراض المعدية والعيوب الوراثية الظاهرة أو الموجودة في تاريخ الأسرة، ولا بد على الأقل من التأكد من عدم وجود مرض من أمراض الزنا أو اللواط لدى أحد الخاطبين وإن كان هناك مرض تم معالجته قبل عقد الزوجية.(6/469)
وهناك باب جديد في الطب يسمى الاستشارة الوراثية وقد بدأ في الظهور في الدول الغربية وسيصل عما قريب إلينا مع ما يفد من حضارة الغرب خيرها وشرها] الجنين المشوه والأمراض الوراثية ص 366.
والفحص الطبي قبل الزواج مشروع ويدل على ذلك الأدلة العامة الآمرة بالتداوي ومعروف أن الفحص الطبي قبل الزواج من باب الوقاية والوقاية خير من العلاج.
ومن المعلوم أيضاً أن من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية طلب الأولاد ومقصود أيضاً أن تكون الذرية صالحة جسمانياً ومعنوياً ولا تكون الذرية كذلك إلا إذا كانت خالية من الأمراض وخاصة الوراثية، قال الله تعالى على لسان زكريا ... عليه السلام: (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) سورة آل عمران الآية 38.
ودعا المؤمنون ربهم قائلين: (هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) سورة الفرقان الآية 74.
ولا تكون الذرية قرة أعين وذرية طيبة إذا كانت ذرية مشوهة الخلقة أو ناقصة الأعضاء أو متخلفة عقلياً.
وقد حث النبي - صلى الله عليه وسلم - من أراد الزواج أن يحسن اختيار الزوجة فقد ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (تخيروا لنطفكم وأنكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم) رواه ابن ماجة وقال الشيخ الألباني، حديث حسن، كما في صحيح سنن ابن ماجة 1/333.
وعن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (تزوجوا الودود الولود) رواه أحمد وصححه ابن حبان والحاكم وسئل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (ما حق الولد على أبيه؟ قال: أن ينتقي أمه ويحسن اسمه ويعلمه القرآن) .
وهذا الانتقاء للزوجة يشمل الصفات الخلقية والمعنوية ويتفق مع قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك) رواه البخاري ومسلم.(6/470)
ومما يدل على جواز الفحص الطبي قبل الزواج للذكر والأنثى على حد سواء قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا توردوا الممرض على المصح) رواه البخاري ومسلم.
وكذلك فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة: (أن رجلاً خطب امرأة فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً) رواه مسلم.
فهذا الحديث يدل على أنه ينبغي للخاطب أن ينظر إلى مخطوبته لئلا يكون فيها عيوب.
ومما يؤيد الفحص الطبي قبل الزواج أن الفقهاء أجازوا للزوج أن يفسخ الزواج لوجود عيب جنسي في زوجته يمنع من الوصول إليها. وكذلك أجاز الفقهاء للزوجة أن تطلب التفريق بينها وبين زوجها إذا وجدت به علة تحول دون دخوله بها.
فيمكن بواسطة الفحص الطبي أن يجتنب الزوجان الوصول للفراق بسبب العيوب الجسمية فيجريان فحصاً طبياً قبل الزواج وهذا خير من الزواج ثم اكتشاف العيوب التي تجيز الفسخ أو طلب التفريق بينهما فيفترقان ويقعان في المشكلات الاجتماعية والمالية.
وقد ذكر قانون الأحوال الشخصية المعمول به في بلادنا العيوب التي تجيز فسخ الزواج فقد ورد في المادة 113: [للمرأة السالمة من كل عيب يحول دون الدخول بها أن تراجع القاضي وتطلب التفريق بينها وبين زوجها إذا علمت أن فيه علة تحول دون بنائه بها كالجب والعنة والخصاء]
وجاء في المادة 116: [إذا ظهر للزوجة قبل الدخول أو بعده أن الزوج مبتلى بعلة أو مرض لا يمكن الإقامة معه بلا ضرر كالجذام أو البرص أو السل أو الزهري أو طرأت مثل هذه العلل والأمراض فلها أن تراجع القاضي وتطلب التفريق]
أما المادة 117 فنصها: [للزوج حق طلب فسخ عقد الزواج إذا وجد في زوجته عيباً جنسياً مانعاً من الوصول إليها كالرتق والقرن أو مرضاً منفراً(6/471)
بحيث لا يمكن المقام معها عليه بلا ضرر ولم يكن الزوج قد علم به قبل العقد أو رضي به صراحة أو ضمناً] نظام الأسرة في الإسلام 3/ 237.
وهنالك إيجابيات عديدة للفحص الطبي قبل الزواج منها:
[1. تعتبر الفحوصات الطبية قبل الزواج من الوسائل الوقائية الفعالة جداً في الحدّ من الأمراض الوراثية والمعدية والخطرة.
2. وهي تشكل حماية للمجتمع من انتشار الأمراض والحد منها والتقليل من أي كوارث تحدث هزات مالية وإنسانية للأفراد والأسر والمجتمعات، خاصة لدى ارتفاع نسب المعاقين في المجتمع وتأثيره المالي والإنساني من كون متطلباتهم أكثر من حاجات الأفراد الآخرين.
3. تحاول هذه الفحوصات أن تضمن إنجاب أطفال أصحاء سليمين عقلياً وجسدياً من تزاوج الخاطبين المعنيين وعدم انتقال الأمراض الوراثية التي يحملها أو يظهرها أحد الخاطبين أو كلاهما.
4. تحديد قابلية الزوجين المؤهلين للإنجاب من عدمه بصورة عامة وإلى حد ما لأن أسباب العقم ليست معروفة كلها ويحقق رغبة الخطيبين لمعرفة الأسباب المحتملة للعقم وبهذا يقدمان على الزواج وهما مطمئنين بأنهما سيكون لهما أولاد بإذن الله لأن وجود العقم في أحد الزوجين قد يكون من أهم أسباب الاختلاف والنزاع بين الزوجين وقد يصل ذلك إلى الطلاق.
5. ويهدف الفحص الطبي إلى التحقق من قدرة كل من الزوجين المؤهلين على ممارسة علاقة جنسية سليمة مع الطرف الآخر بما يشبع رغبات كل منهما بصورة طبيعية والتأكد من عدم وجدود عيوب عضوية أو فيزيولوجية مرضية تقف أمام هذا الهدف المشروع لكل من الزوجين.
6. كذلك يهدف الفحص الطبي للتحقق من وجود أمراض مزمنة مؤثرة على مواصلة الحياة بعد الزواج مثل السرطانات وغيرها مما له دور في إرباك استقرار الحياة الزوجية المؤملة.(6/472)
7. ضمان عدم تضرر صحة كل من الخاطبين نتيجة معاشرة الآخر جنسياً وحياتياً والتأكد من سلامتهما من الأمراض الجنسية والمعدية وغيرها من الوبائيات ويشتمل كذلك على عدم تضرر صحة المرأة أثناء الحمل وبعد الولادة نتيجة اقترانها بالزوج المأمول] مستجدات فقهية في قضايا الزواج ص 84-85.
وخلاصة الأمر أن الفحص الطبي قبل الزواج يحقق مصالح مشروعة للفرد وللأسرة وللمجتمع ويدرأ مفاسد اجتماعية وخسائر مالية فلا مانع منه على أن يكون بشكل اختياري وليس إجبارياً.
* * *
ما يترتب على الإجهاض
تقول السائلة: إنها كانت حاملاً في الشهر الخامس وطلب منها زوجها إسقاط الحمل فذهبت هي وزوجها إلى طبيب فأسقط حملها وبعد مضي سنوات على تلك الحادثة ندمت على ما فعلت فما هو المطلوب منها؟
الجواب: إن كثيراً من النساء والأزواج والأطباء يتساهلون تساهلاً كبيراً في موضوع الإجهاض ويظنون أن الأمر هين وهو عند الله عظيم وما عرفوا أن الإجهاض جناية وأنه قد يكون قتلاً ولا شك لدي أن كل من يشارك في عمليات الإجهاض يكون آثماً وعليه مسؤولية كبيرة وله عقوبة كما سأبين فيما بعد، ما لم يكن هنالك عذر شرعي لإسقاط الجنين كأن تقرر ذلك لجنة طبية متخصصة بأن استمرار الحمل يشكل خطراً مؤكداً على حياة الأم ولا بد من إستشارة علماء الشرع قبل ذلك.
قال الشيخ ابن الجوزي تحت عنوان إثم المرأة إذا تعمدت الإسقاط: [لما كان موضوع النكاح لطلب الولد وليس من كل الماء يكون الولد فإذا تكون فقد حصل المقصود من النكاح فتعمد إسقاطه مخالفة لمراد الحكمة إلا أنه إن كان ذلك في أول الحمل فقبل نفخ الروح كان فيه إثم كبير لأنه(6/473)
مترق إلى الكمال وسار إلى التمام إلا أنه أقل إثماً من الذي نفخ فيه الروح. فإذا تعمدت إسقاط ما فيها الروح كان كقتل مؤمن وقد قال تعالى: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) الموؤدة: البنت كانوا يدفنونها حية فهي تسأل يوم القيامة لتبكت قاتليها] أحكام النساء ص 37.
وقد اتفق أهل العلم على تحريم الإجهاض بعد مرور مائة وعشرين يوماً على الحمل لأن الروح تنفخ في الجنين عند مرور تلك المدة على رأي كثير من العلماء لما ثبت في حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيأمر بأربع: برزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح ... ) رواه البخاري.
ويستثنى من هذا الحكم حالة واحدة فقط وهي إذا ثبت بتقرير لجنة من الأطباء الثقات من أهل الاختصاص أن استمرار الحمل يشكل خطراً مؤكداً على حياة الأم فحينئذ يجوز إسقاط الحمل.
وقد جاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة ما يلي:
[إذا كان الحمل قد بلغ مائة وعشرين يوماً لا يجوز إسقاطه ولو كان التشخيص الطبي يفيد أنه مشوه الخلقة إلا إذا ثبت بتقرير لجنة طبية من الأطباء المختصين أن بقاء الحمل فيه خطر مؤكد على حياة الأم فعندئذ يجوز إسقاطه سواء كان مشوهاً أم لا دفعاً لأعظم الضررين] قرارات المجمع الفقهي الإسلامي ص 123.
وأما الإجهاض قبل مرور مائة وعشرين يوماً على الحمل ففي حكمه خلاف بين العلماء والذي عليه جمهور العلماء هو تحريم الإجهاض بمجرد ثبوت الحمل إلا لعذر شرعي وهذا هو القول المعتمد عند المالكية والإمام الغزالي من الشافعية وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وقول بعض الحنفية والحنابلة وأهل الظاهر.(6/474)
واختاره كثير من العلماء المعاصرين كالشيوخ محمود شلتوت والقرضاوي والزحيلي وغيرهم. وهذا القول هو الذي أميل إليه وتطمئن إليه نفسي.
إذا تقرر هذا فإن العلماء قد أوجبوا الضمان المالي والكفارة على من يسقط الجنين سواء أسقطه بضرب المرأة الحامل فأدى الضرب لإسقاط الجنين أو شربت المرأة دواء فأسقطت أو قام طبيب بإسقاط الجنين أو غير ذلك من الطرق التي تؤدي إلى إسقاط الجنين.
أما الضمان المالي في إسقاط الجنين فهو ما يعرف عند الفقهاء بالغرة وهو ما ورد في الحديث الشريف عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: (أن امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى فطرحت جنينها فقضى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بغرة عبد أو أمة) رواه البخاري ومسلم.
وعن عمر - رضي الله عنه - أنه استثارهم - أي الصحابة - في إملاص المرأة فقال المغيرة - رضي الله عنه -: (قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالغرة عبد أو أمة فشهد محمد بن مسلمة - رضي الله عنه - أنه شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى به) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة وقضي بدية المرأة على عاقلتها) رواه البخاري ومسلم. وغير ذلك من الأحاديث.
قال الحافظ ابن حجر: [والغرة في الأصل البياض يكون في جبهة الفرس ... وتطلق الغرة على الشيء النفيس آدمياً كان أو غيره] فتح الباري 15/273.
أي أن الواجب في قتل الجنين عبد أو أمة ولما كان لا يوجد في زماننا هذا رقيق فإن قيمة ذلك عشر دية المرأة أو نصف عشر دية الرجل أي خمس من الإبل وتجب الغرة في مال الجاني أو على العاقلة بناء على اختلاف الفقهاء في ذلك وتكون حقاً لورثة الجنين.(6/475)
قال الخرقي: [وإذا شربت الحامل دواء فألقت به جنيناً فعليها غرة لا ترث منها شيئاً وتعتق رقبة] . وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي شارحاً عبارة الخرقي: ليس في هذه الجملة اختلاف بين أهل العلم نعلمه إلا ما كان من قول من لم يوجب عتق الرقبة على ما قدمنا] المغني 8/418.
وقال الحافظ ابن عبد البر: [أجمع العلماء أن الغرة تجب في الجنين الذي يسقط من بطن أمه ميتاً وهي حية حين سقوطه وأن الذكر والأنثى في ذلك سواء في كل واحد منهما الغرة.
واختلفوا على من تجب الغرة في ذلك فقالت طائفة منهم مالك والحسن بن حي هي في مال الجاني وهو قول الحسن البصري والشعبي وقال آخرون: هي على العاقلة وممن قال ذلك الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم وهو قول إبراهيم وابن سيرين] الاستذكار 25/78-79.
هذا بالنسبة للضمان المالي في إسقاط الجنين.
وأما بالنسبة للكفارة فقد أوجب جمهور أهل العلم الكفارة على من أسقط الجنين.
وقد ذكر الشيخ ابن قدامة المقدسي أن: [هذا قول أكثر أهل العلم منهم الحسن وعطاء والزهري والحكم ومالك والشافعي وإسحاق. قال ابن المنذر: كل من نحفظ عنه من أهل العلم أوجب على ضارب بطن المرأة تلقي جنيناً الرقبة مع الغرة وروى ذلك عن عمر - رضي الله عنه - وقال أبو حنيفة: لا تجب الكفارة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوجب الكفارة حين أوجب الغرة.
ولنا قول الله تعالى: (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) وقال: (وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) وهذا الجنين إن كان من مؤمنين أو كان أحد أبويه مؤمناً فهو محكوم بإيمانه تبعاً له يرثه ورثته المؤمنون ولا يرث الكافر منه شيئاً وإن كان من أهل الذمة فهو من قوم بيننا وبينهم ميثاق ولأنه نفس مضمون بالدية فوجبت فيه الرقبة كالكبير وترك ذكر الكفارة لا يمنع وجوبها(6/476)
كقوله عليه الصلاة والسلام: (في النفس المؤمنة مئة من الإبل) وذكر الدية في مواضع ولم يذكر الكفارة ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بدية المقتولة على عاقلة القاتلة ولم يذكر كفارة وهي واجبة كذا هاهنا وإنما كان كذلك لأن الآية أغنت عن ذكر الكفارة في موضع آخر] المغني 8/417-418.
وبناء على ما سبق فإنه يجب على هذه المرأة الكفارة وكذلك يجب على زوجها وعلى الطبيب الذي تولى عملية الإجهاض الكفارة أيضاً وهي المذكورة في قوله تعالى: (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) سورة النساء الآية 92.
وبما أنه يتعذر في زماننا عتق رقبة فعلى كل واحد من هؤلاء صيام شهرين متتابعين. كما يجب عليهم أن يتوبوا إلى الله توبة صادقة.
وختاماً أقول إن على الأزواج والزوجات أن يتقوا الله سبحانه وتعالى وألا يقدموا على عمليات الإجهاض إلا عند وجود العذر الذي ذكرته سابقاً.
كما أن على الأطباء أن يتقوا الله سبحانه وتعالى وعليهم أن يعلموا أنه لا يجوز لهم القيام بعمليات الإجهاض ولو أذن في ذلك الزوجان ما لم يكن هنالك عذر شرعي وعلى هؤلاء الأطباء ألا يبيعوا آخرتهم بدراهم معدودة يجنونها.
وأخيراً فإني أدعو وزارة الصحة إلى تشديد الرقابة على الأطباء الذي يمارسون عمليات الإجهاض ومعاقبة المخالفين معاقبة شديدة وإن اقتضى الأمر سحب رخص مزاولة المهنة منهم نظراً لانتشار هذا الأمر مع انعدام الرقابة عليه.
* * *(6/477)
من موانع الحمل
تقول السائلة: إنها امرأة متزوجة وعندها تسعة أطفال وأنها تعاني من مشكلات صحية في القلب وقد نصحها الأطباء بأن لا تحمل مرة أخرى وأن تجري عملية ربط للأنابيب. فما حكم الشرع في ذلك؟
الجواب: الأصل أنه لا يجوز شرعاً استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل والمرأة، إلا في حالات الضرورة والضرورة تقدر بقدرها ولعل حالة هذه المرأة تعد من الضرورات التي تبيح المحظورات إذا كان واقع حالها كما ذكرت، وقد نصحها الأطباء بأن لا تحمل ثانية نظراً لما تعانيه من مشكلات صحية فيجوز لها أن تجري عملية ربط للأنابيب لأنه قد يترتب على الحمل في هذه الحالة ضرر كبير على المرأة ويخشى على حالها فصحتها وبقاؤها مقدم على حصول الولد، حيث إن القاعدة الفقهية تقول: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وتقول القاعدة الأخرى: إذا وجد مفسدتان ارتكب أخفهما.
وقد قرر مجمع الفقه الإسلامي ما يلي:
[أولاً: لايجوز إصدار قانون عام يحد من حرية الزوجين في الإنجاب.
ثانياً: يحرم استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل أو المرأة وهو ما يعرف بالإعقام أو التعقيم مالم تدع إلى ذلك الضرورة بمعاييرها الشرعية.
ثالثاً: يجوز التحكم المؤقت بالإنجاب بقصد المباعدة بين فترات الحمل أو إيقافه لمدة معينة من الزمان إذا دعت حاجة معتبرة شرعاً بحسب تقدير الزوجين عن تشاور بينهما وتراض بشرط أن لا يترتب على ذلك ضرر وأن تكون الوسيلة مشروعة وأن لا يكون فيها عدوان على حمل قائم] مجلة المجمع الفقهي الإسلامي ... عدد 5 ج1 ص 748.
وينبغي التذكير هنا أن بعض الأطباء قد يتساهلون في الأمور الموجبة لمنع الحمل أو قطعه نهائياً فتراهم ينصحون النساء بقطع الحمل والإجهاض لأسباب واهية وغير معتبرة شرعاً لذا أرى أن على النساء وأزواجهن عدم(6/478)
الأخذ بأقوال الأطباء على إطلاقها بل لا بد أن يكون الطبيب الذي يقبل قوله في هذه القضايا الخطيرة من أهل الاختصاص وأن يكون ثقة في دينه وحبذا لو صدر تقرير طبي في هذه الحالات وأمثالها عن لجنة طبية لا تقل عن ثلاثة أطباء ثقات ومن أهل الاختصاص فيكون هذا أولى وأحسن لأننا قد سمعنا عن حالات كثيرة وقع فيها تساهل كبير في هذه القضايا من بعض الأطباء.
* * *
مرض الثلاسيميا
السؤال من جمعية أصدقاء مرضى الثلاسيميا الفلسطينية ونصه: إن مشكلة الثلاسيميا هي ما تعرفون في بلادنا وإن نسبة انتشار المرض والسمة الوراثية تصل إلى 4% أي أن مئة وعشرين ألف مواطن يحملون سمة المرض الوراثية. فما هو الحكم الشرعي لإجراء الفحص الطبي لمثل هذه الأمراض سيما وأن السمة الوراثية لا تكتسب لاحقاً وإنما هي تبقى ملازمة للإنسان وجوداً أو نفياً طوال حياته.
الجواب: أولاً لا بد من التعريف بمرض الثلاسيميا وأخطاره وطرق علاجه وأساليب الوقاية منه.
[فالثلاسيميا مرض وراثي يؤثر على صنع الدم، فتكون مادة الهيموغلوبين في كريات الدم الحمراء غير قادرة على القيام بوظيفتها مما يسبب فقر الدم عند المريض. وهناك نوعان من الثلاسيميا:
نوع يكون الشخص فيه حاملاً للمرض ولا تظهر عليه أعراضه، أو قد تظهر أعراض فقر دم بسيط ويكون هذا الشخص قادراً على نقل المرض لأبنائه.
ونوع يكون فيه الشخص مصاباً بالمرض وتظهر عليه أعراض واضحة للمرض منذ الصغر.(6/479)
وينتشر مرض الثلاسيميا في جميع أنحاء العالم، ولكن بنسبة أكبر في بعض البلدان، مثل بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط. وقد أوضحت الدراسات أن حوالي 3-4% من السكان في فلسطين يحملون المرض أي ما يقارب 80-100 ألف شخص أو أكثر من ذلك. وينتقل مرض الثلاسيميا بالوراثة من الآباء إلى الأبناء إذا كان أحد الوالدين حاملاً للمرض أو مصاباً به، فمن الممكن أن ينتقل المرض إلى بعض الأبناء بصورته البسيطة (أي أن يصبحوا حاملين للمرض) .
أما إذا كان الوالدان يحملان المرض فإن هناك احتمالاً بنسبة 25% أن يولد طفلهما مصاباً بالمرض بصورته الشديدة. وتظهر أعراض الإصابة بالثلاسيميا على المريض خلال السنة الأولى من العمر. ونتيجة لتكسر كريات الدم الحمراء مبكراً ... (السابق لأوانه) ، تظهر أعراض فقر دم شديد على النحو التالي: شحوب البشرة، مع الاصفرار أحياناً. والتأخر في النمو. وضعف الشهية. وتكرر الإصابة بالالتهابات. ومع استمرار فقر الدم، تظهر أعراض أخرى مثل التغير في شكل العظام وخاصة عظام الوجه والوجنتين، وتصبح ملامح الوجه مميزة لهذا المرض. كما يحدث تضخم في الطحال والكبد، ويتأخر الطفل في النمو. أما في الحالات البسيطة (لدى حاملي المرض) فقد يحدث فقر دم بسيط لدرجة لا يكون المرض فيها بادياً للعيان ويعيش صاحبه بشكل طبيعي جداً ولا يحتاج إلى أي علاج وقد لا تكتشف هذه الحالات إلا صدفة.
والمريض بالثلاسيميا بحاجة إلى نقل دم بشكل دوري لتعويضه عن كريات الدم التي تتكسر وللمحافظة على مستوى مقبول من الهيموغلوبين في دمه. وكثرة نقل الدم إلى المريض تسبب ترسب الحديد بشكل يحمل الضرر لأعضاء جسمه ولذلك فمن المهم أن يحصل المريض على أدوية تساعد على طرد الحديد الزائد من الجسم. ويتم علاج المضاعفات التي قد تظهر لدى المريض حسب كل حالة. وهنالك أبحاث تجري لاكتشاف علاجات أفضل للثلاسيميا وتجرى أحياناً عمليات لزرع نخاع عظمي، ولكن هذه العمليات مكلفة جداً ونتائجها ليست مضمونة.(6/480)
ويعتبر الفحص الطبي قبل الزواج أهم وسيلة للوقاية من الثلاسيميا ويوصى بإجراء هذا الفحص في مجتمعنا للأشخاص المقبلين على الزواج وذلك لتجنب الزواج بين شخصين حاملين للمرض، وهذه الحالة الوحيدة التي يمكن أن تؤدي إلى ولادة طفل مصاب بالمرض بصورته الشديدة كما تتوفر القدرة على فحص الجنين في الأشهر الأولى من الحمل عند الشك بإمكانية إصابته.
والطريقة الوحيدة للوقاية من الثلاسيميا هي تجنب ولادة أطفال مصابين به من خلال ما يلي:
- الاستشارة الطبية والفحص الطبي قبل الزواج: إجراء المقبلين على الزواج لفحص طبي للتأكد من أنهما لا يحملان الثلاسيميا في آن واحد وخاصة أن نسبة الحاملين للمرض في بلادنا كبيرة
- فحص الجنين في حالة الشك بإصابته بالثلاسيميا للتأكد من الإصابة واتخاذ الإجراءات الطبية اللازمة.
- التقليل من ظاهرة الزاوج بين الأقارب فمرض الثلاسيميا كسائر الأمراض الوراثية يزداد انتشاراً في حالة الزاوج بين الأقارب إذ يزيد ذلك احتمال نقل الصفات الوراثية غير الحميدة إلى الأبناء. ولكن هذا لا ينفي ضرورة أن يقوم المقبلون على الزواج الذين لا تربطهم صلة قرابة بإجراء الفحص الطبي قبل الزواج] نشرة حول الثلاسيميا إصدار جمعية أصدقاء مرضى الثلاسيميا.
هذه المعلومات الموثقة تبين لنا خطورة مرض الثلاسيميا وأثره السيء على مستقبل الأجيال وبناء على ذلك فلا بد من اتخاذ السبل للوقاية من هذا المرض.
ومن المعلوم أن من مقاصد الشريعة الإسلامية المحافظة على النسل. حيث إن النسل هو أحد الكليات الخمس أو الضرورات الخمس التي جاءت الشريعة الإسلامية بصيانتها والمحافظة عليها وشرع الإسلام أحكاماً كثيرة للمحافظة على النسل ليس هذا محل بحثها. ولكن المقصود هو وجوب المحافظة على النسل ويظهر هذا في نوعين من الأحكام الأول وقائي قبل(6/481)
وقوع المرض والثاني علاجي بعد وقوعه ويكون بالتداوي وأود أن أبين هنا ما يتعلق بالوقائي فمن المعلوم أن الوقاية خير من العلاج ولذا شرع الإسلام حسن اختيار الزوجة فقد جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (تخيروا لنطفكم فأنكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم) رواه ابن ماجة والحاكم وصححه الشيخ الألباني بمجموع طرق كما في السلسة الصحيحة 3/56-67 وحسنه في صحيح سنن ابن ماجة 1/333. ومن الوقاية أيضاً الابتعاد عن زواج الأقارب تفادياً لضعف النسل وخاصة إذا تكرر زواج الأقارب فإن النسل يكون أكثر ضعفاً. وقد ورد في الأثر عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال لآل السائب: قد أضوأتم فانكحوا في النوابغ قال الحربي يعني تزوجوا الغرائب. ذكره الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 3/146. وقد رويت بعض الأحاديث في تغريب النكاح ولكنها ليست ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ذكر الحافظ ابن حجر في المصدر السابق. وذكر طرفاً منها الزبيدي في إتحاف السادة المتقين 5/348-349. ومع ذلك فإن تغريب النكاح أمر معروف لدى الناس قديماً وحديثاً. وما دام أن العلم الحديث قد أثبت أن الزواج بين الأقارب من أسباب انتشار مرض الثلاسيميا فينبغي أخذ ذلك بالاعتبار والتقليل ما أمكن من زواج الأقارب.
وإن حصل زواج بين الأقارب فينبغي أن لا يتكرر في العائلة الواحدة حيث إن توالي الزواج بين الأقارب في الآباء والأبناء يؤول إلى تأخر الذرية وانحطاطها بدناً وعقلاً ذلك الانحطاط الذي نرى آثاره ظاهرة في الأسر الكبيرة التي تلتزم ذلك فيما بين أفرادها.
أما أسباب هذا الانحطاط فهي على الغالب اتحاد الأوصاف والأخلاق الموروثة المتشابهة من سيئة أو حسنة في العقب فتتجلى بوضوح أكثر مما كانت عليه في كل من الأبوين منفرداً. لهذا نرى في ثمرة هذا التزواج القريب الخوارق والتطرف في الحسن أو القبح والجودة أو الرداءة إلى غير ذلك وبما أن الأول من النوادر والثاني هو الغالب كان الأولى في التزاوج أن يكون بين الأباعد ليقل اتحاد الصفات المتشابهة. الطب النبوي والعلم الحديث 2/97-98.(6/482)
ومن طرق وأساليب الوقاية المعروفة حديثاً الفحص الطبي قبل الزواج وهو أمر مشروع أخذاً من عموم الأدلة الآمرة بالتداوي ويدل على مشروعية الفحص الطبي قبل الزواج قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا توردوا الممرض على المصح) رواه مسلم. ويؤيده أيضاً ما جاء في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: (أن رجلاً خطب امرأة فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً) رواه مسلم.
والفحص الطبي قبل الزواج يشمل الفحوصات التي تعنى بمعرفة الأمراض الوراثية والمعدية والجنسية وغيرها. والفحص الطبي قبل الزواج له منافع كثيرة منها
[1. تعتبر الفحوصات الطبية قبل الزواج من الوسائل الوقائية الفعالة جداً في الحدّ من الأمراض الوراثية والمعدية والخطرة.
2. وهي تشكل حماية للمجتمع من انتشار الأمراض والحد منها والتقليل من أي كوارث تحدث هزات مالية وإنسانية للأفراد والأسر والمجتمعات، خاصة لدى ارتفاع نسب المعاقين في المجتمع وتأثيره المالي والإنساني من كون متطلباتهم أكثر من حاجات الأفراد الآخرين.
3. تحاول هذه الفحوصات أن تضمن إنجاب أطفال أصحاء سليمين عقلياً وجسدياً من تزاوج الخاطبين المعنيين وعدم انتقال الأمراض الوراثية التي يحملها أو يظهرها أحد الخاطبين أو كلاهما.
4. تحديد قابلية الزوجين المؤهلين للإنجاب من عدمه بصورة عامة وإلى حد ما لأن أسباب العقم ليست معروفة كلها ويحقق رغبة الخطيبين لمعرفة الأسباب المحتملة للعقم وبهذا يقدمان على الزواج وهما مطمئنين بأنهما سيكون لهما أولاد بإذن الله لأن وجود العقم في أحد الزوجين قد يكون من أهم أسباب الاختلاف والنزاع بين الزوجين وقد يصل ذلك إلى الطلاق.
5. ويهدف الفحص الطبي إلى التحقق من قدرة كل من الزوجين المؤهلين على ممارسة علاقة جنسية سليمة مع الطرف الآخر بما يشبع(6/483)
رغبات كل منهما بصورة طبيعية والتأكد من عدم وجدود عيوب عضوية أو فيزيولوجية مرضية تقف أمام هذا الهدف المشروع لكل من الزوجين.
6. كذلك يهدف الفحص الطبي للتحقق من وجود أمراض مزمنة مؤثرة على مواصلة الحياة بعد الزواج مثل السرطانات وغيرها مما له دور في إرباك استقرار الحياة الزوجية المؤملة.
7. ضمان عدم تضرر صحة كل من الخاطبين نتيجة معاشرة الآخر جنسياً وحياتياً والتأكد من سلامتهما من الأمراض الجنسية والمعدية وغيرها من الوبائيات ويشتمل كذلك على عدم تضرر صحة المرأة أثناء الحمل وبعد الولادة نتيجة اقترانها بالزوج المأمول] مستجدات فقهية في قضايا الزواج ص 84-85.
وبناءً على ذلك فإن الفحص الطبي أخذ بالأسباب المشروعة وعليه فينبغي تشجيع الناس على إجراء الفحص الطبي قبل الزواج لأنه يحقق الأهداف المشروعة من الزواج فننصح المقبلين على الزواج إجراء فحوصات للدم لتحديد ما إذا كان الشخص حاملاً للثلاسيميا أو خالياً منها ويعتبر هذا الفحص من طرق الوقاية المطلوبة شرعاً. وكذلك فإن الفحص الطبي قبل الزواج يحقق مصالح مشروعة للفرد وللأسرة والمجتمع ويدرأ مفاسد اجتماعية ومالية على المستوى الإجتماعي والاقتصادي. انظر المصدر السابق ص 96-97.
* * *
لا يجوز تزيين الملابس بالآيات القرآنية
يقول السائل: إنه قرأ فتوى في إحدى الصحف تتعلق بالملابس التي كتبت عليها آيات من القرآن الكريم وقد جاء فيها: [يجوز لبس الثوب المطرز بآيات من القرآن حتى للمحدث حدثاً أكبر أو أصغر ... ] فما قولكم في ذلك؟
الجواب: القرآن الكريم كتاب هداية ودستور ومنهاج للأمة وقد أنزل القرآن ليسير الناس وفق هداه ويطبقوه في حياتهم.(6/484)
وتعظيم كتاب الله أمر واجب في حق كل مسلم ومن وقر القرآن فقد وقر الله سبحانه وتعالى ومن استخف بالقرآن فقد استخف بالله تعالى: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) وقد ورد عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: (عظموا القرآن) تفسير القرطبي 1/29.
وقد ذكر العلماء جملة من الآداب التي ينبغي للمسلم أن يتحلى بها عند التعامل مع القرآن الكريم. انظر التبيان في آداب حملة القرآن للإمام النووي.
إذا تقرر هذا فنعود إلى السؤال فنقول: إنه لا يجوز أن يكتب شيء من القرآن على الملابس أو تطرز الملابس بالآيات القرآنية لما في ذلك من امتهان لكلام الله سبحانه وتعالى واحتقار له حيث إن الإنسان إذا لبس ثوباً عليه آيات من القرآن فقد يجلس عليها أو يقضي حاجته وهو يلبس تلك الثياب فيدخل محل النجاسات، وكتاب الله ينزه عن ذلك الامتهان.
وكم يكون امتهان كتاب الله كبيراً وفظيعاً إذا كتبت بعض الآيات على الملابس الداخلية للرجال والنساء أو على ملابس البحر كما فعلت بعض المصانع الأجنبية؟
كما أن القول بجواز ذلك للمحدث حدثاً أكبر أو أصغر كما جاء في الفتوى فيه استخفاف بكلام الله وتحقير له فإذن يجوز بناء على هذه الفتوى أن يجامع الرجل زوجته وهما أو أحدهما يلبس ملابس طرزت بآيات القرآن الكريم؟ هل يصح هذا شرعاً؟!!
فالقول بجواز ذلك فيه فتح باب شر كبير يؤدي إلى استهانة الناس بكتاب الله سبحانه وتعالى أو ببعضه وبعض المصحف له حكم المصحف كما قرر ذلك أهل العلم، انظر كشاف القناع 1/59.
والقول بجواز ذلك غير صحيح لما فيه من تعريض آيات القرآن للامتهان والاحتقار، فالملابس قد تتسخ أو تصيبها نجاسة كما أن الإنسان قد يخلع الثوب الذي كتب عليه بعض القرآن ويضعه مع غيره من الملابس القذرة أو في محل قذر وكذلك قد ينام فيها، فهذا كله فيه إهانة لكلام الله(6/485)
سبحانه وتعالى، فالقول بجواز ذلك لا وجه له وترده الأصول والقواعد العامة القاضية بوجوب احترام كلام الله عز وجل وقد ذكر الحافظ ابن رجب أن الإمام أحمد سئل عن الستر يكتب عليه القرآن فكره ذلك وقال: [لا يكتب القرآن على شيء منصوب لا ستر ولا غيره] أحكام الخواتم ص 103.
وقد منع كثير من أهل العلم نقش جدران المساجد بآيات من القرآن الكريم والجدران مرفوعة ومصانة فكيف بالملابس التي تلبس وتتعرض للنجاسات وللدخول بها إلى محل قضاء الحاجة ولغير ذلك من الامتهان؟ فالقرآن الكريم له حرمته في قلب كل مسلم وما زال المسلمون إلى وقتنا الحاضر يرفضون كتابة آيات من القرآن الكريم أو لفظ الجلالة أو لفظ محمد - صلى الله عليه وسلم - أو أي شيء مقدس على الملابس والمصنوعات أو إطلاق مثل ذلك على المحلات.
وكم مرة قرأنا أو سمعنا تقديم احتجاجات من المسلمين وجمعياتهم في بلاد الغرب ضد شركات أو مصانع وضعت آيات من القرآن الكريم على منتوجاتها ثم يأتي بعض المفتين في ديارنا فيجيزون ذلك اعتماداً على أقوال بعض متأخري الفقهاء دون حجة أو دليل صحيح. وقد تكون فتواهم مناسبة لزمانهم وأما في زماننا فقد تغيرت الظروف والأحوال فيتغير مناط الحكم.
إن الأصول العامة للشريعة الإسلامية ترد هذه الفتوى ولو من باب سد الذرائع لما قد تؤدي إليه من امتهان واحتقار لكلام رب العالمين ولما في ذلك من مصادمة مقاصد الشارع الحكيم في تعظيم القرآن الكريم.
وقد منع أهل العلم المعاصرون مثل هذه الأمور وصدرت فتاوى كثيرة بهذا الخصوص منها فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء السعودية حيث ورد سؤال عرض على اللجنة متعلق بكتابة آية الكرسي والبسملة على ساعة حائط فأجابت اللجنة بما يلي:
[أنزل الله القرآن ليتعبد الناس بتلاوته وتدبر معانيه فيعرفوا أحكامه(6/486)
ويأخذوا أنفسهم بالعمل بها وهكذا يكون موعظة له وذكرى تقشعر منه جلودهم وتلين به قلوبهم ويكون شفاء لما في الصدور من الجهل والضلال وطهارة للنفوس من أدران الشكوك وما ارتكبته من المعاصي والذنوب وجعله سبحانه هدى ورحمة لمن فتح له قلبه وألقى إليه السمع وهو شهيد قال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) وقال: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ) وقال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) وجعل الله سبحانه القرآن معجزة لرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وآية باهرة على أنه رسول الله من عند الله إلى الناس كافة رحمة بهم وإقامة للحجة عليهم قال تعالى: (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِءَايَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) وقال: (تِلْكَءَايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) وقال: (تِلْكَءَايَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) إلى غير ذلك من الآيات، وإذاً فالقرآن كتاب هداية وتشريع ومواعظ وعبر وبيان للأحكام وآية بالغة ومعجزة باهرة وحجة دامغة أيد الله بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولم ينزله سبحانه ليكتب كلمة أو آية منه على ساعات الدليل زينة لها أو ترويجاً لها وإغراء بشرائها أو
ليتخذها حاملها حرزاً له إلى جانب استخدامها في معرفة الجهات فكتابة آية من القرآن أو اكثر على ساعات الدليل أو نحوها فيه انحراف بالقرآن عما أنزل من أجله واستعماله فيما فيه إزراء به وإهانة له بتعريضه إلى ما لا يليق به من الأوساخ والأقذار ودخول بيت الخلاء به ونحو ذلك ومع هذا فهو عمل مخالف لهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهدي أصحابه رضي الله عنهم ولما كان عليه السلف الصالح فعلى من آمن بالقرآن وسنة النبي عليه الصلاة والسلام وأراد الخير لنفسه أن يبتغي البركة وصلاح شؤونه في دينه ودنياه من الله سبحانه بتلاوة كتابه الكريم والعمل به في عباداته ومعاملاته ليفيض سبحانه عليه ويعظم له الأجر ويحفظه في كل أحواله وييسر له سائر شؤونه.(6/487)
وكذلك الحكم في كتابة الكلمات: (الله أكبر ولا إله إلا الله محمد رسول الله) التي جعلت داخل إطار ساعة الدليل فإنها جعلت في الشرع لإعظام الله وإكباره والثناء عليه بها ومفتاحاً للدخول في الإسلام وعلامة على الإيمان ويعصم بها دم من قالها وماله ولم تجعل لتكون رسوماً على أجهزة أو ساعات أو آلات للاستهانة بها فمن المعلوم أن ساعات الدليل وغيرها تؤدي الغرض الذي صنعت من أجله من غير أن يتوقف ذلك على كتابة الآية أو هذه الأذكار عليها أو فيها] فتاوى اللجنة الدائمة 4/34-35.
وسئل العلامة الشيخ عبد الله بن حميد رحمة الله عليه: [ما حكم وضع آية الكرسي على قلب من ذهب للنساء والأطفال وكذلك كلمة الله ومحمد - صلى الله عليه وسلم - وحكم الدخول به في دورات المياه أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
فأجاب: هذا خطأ، القرآن لم ينزل للهو بأن يجعل على ذهب أو أواني أو ما أشبه ذلك إنما القرآن أنزله الله شفاء لأمراض القلوب وهداية للناس ونوراً ورحمة وموعظة للمؤمنين ولم ينزل القرآن من اجل أن يعلقوه على حليهم!! أو يعلقوه على ملابسهم!! ثم دخولهم به دورات المياه لقضاء حاجتهم فهذا لا يجوز ولا ينبغي.
القرآن يجل ويعظم وينزه أن يسلك به هذا المسلك السيىء القرآن أنزله الله هدى، قال الله تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) الإسراء الآية 82. فتعليق القرآن على هذه الكيفية لا يجوز، بل لا بد من محي القرآن وإزالته عن هذه المعلقات من ذهب أو غيره لأن فيها امتهان للقرآن وكذلك فإن دخولهم لدورات المياه وللحمامات ولأمكنة قضاء الحاجة وهم حاملون للقرآن فلا يجوز بكل حال بل لا بد من إزالة القرآن تعظيماً له وتوقيراً عن مثل هذا الصنيع كما قرره أهل العلم] فتاوى المرة المسلمة 1/458.
* * *(6/488)
مصافحة الأم والأخت
يقول السائل: عندنا شخص لا يصافح أمه ولا أخته ولا يزور أخته المتزوجة إلا وزوجها حاضر لأنه يعتبر وجوده مع أخته في بيت واحد خلوة فما قولكم في ذلك؟
الجواب: مصافحة الرجل لأمه ولأخته ولمحارمه على التأبيد جائزة شرعاً ولا بأس بها بشرط أمن الشهوة فإذا خشي حصول الشهوة عند مصافحة إحدى محارمه فيحرم عليه مصافحتها.
وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يصافح ابنته فاطمة رضي الله عنها ويقبلها فقد جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما رأيت أحداً من الناس كان أشبه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كلاماً ولا حديثاً ولا جلسة من فاطمة. قالت: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رآها قد أقبلت رحب بها ثم قام إليها فقبلها ثم أخذ بيدها فجاء بها حتى يجلسها في مكانه وكانت إذا أتاها النبي - صلى الله عليه وسلم - رحبت به ثم قامت إليه فأخذت بيده فقبلته] رواه الإمام البخاري في الأدب المفرد وأبو داود والبيهقي والحاكم وصححه الشيخ الألباني في صحيح الأدب المفرد 1/355.
وعن ابن عباس قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قدم من سفر قبل ابنته فاطمة) رواه الطبراني في الأوسط ورجاله ثقات وفي بعضهم ضعف لا يضر كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد 8/42.
وروى البيهقي بإسناده: (أن أبا بكر دخل على عائشة وقد أصابتها الحمى فقال لها: كيف أنت يا بنية؟ وقبل خدها) سنن البيهقي 7/101.
وأما الخلوة مع الأخت فالأصل أن الانفراد مع الأخت أو البنت وغيرهما من المحرمات على التأبيد لا يعتبر خلوة محرمة إلا إذا خشي المرء على نفسه الفتنة والشهوة فقد ورد في الحديث عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ألا لا يبيتن رجل عند امرأة ثيب إلا أن يكون ناكحاُ أو محرماً) رواه مسلم.(6/489)
قال الإمام النووي: [معناه لا يبيتن رجل عند امرأة إلا زوجها أو محرم لها. قال العلماء: إنما خص الثيب لكونها التي يدخل إليها غالباً وأما البكر فمصونة متصونة في العادة مجانبة للرجال أشد مجانبة فلم يحتج إلى ذكرها ولأنه من باب التنبيه لأنه إذا نهي عن الثيب التي يتساهل الناس في الدخول عليها في العادة فالبكر أولى. وفي هذا الحديث والأحاديث بعده تحريم الخلوة بالأجنبية وإباحة الخلوة بمحارمه وهذان الأمران مجمع عليهما وقد قدمنا أن المحرم هو كل من حرم عليه نكاحها على التأبيد لسبب مباح لحرمتها. فقولنا: على التأبيد احتراز من أخت امرأته وعمتها وخالتها ونحوهن ومن بنتها قبل الدخول بالأم] شرح النووي على صحيح مسلم 5/328.
* * *
الديوث
يقول السائل: ما المقصود بالديوث الذي ورد ذكره في الحديث النبوي؟
الجواب: ورد ذكر الديوث في عدة أحاديث منها:
ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاثة قد حرّم الله عليهم الجنة مدمن الخمر والعاق والديوث الذي يقر الخبث في أهله) .
وفي رواية أخرى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاث لا يدخلون الجنة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق والديه والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال والديوث) رواه أحمد وذكر الشيخ الألباني أن حديث ابن عمر رواه النسائي والحاكم والبيهقي في سننه من طريقين صحيحين وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وأقرهما الألباني على ذلك. جلباب المرأة المسلمة ص 145.
وعن عمار - رضي الله عنه - أن عليه الصلاة والسلام قال: (ثلاثة لا يدخلون الجنة أبداً الديوث والرجلة من النساء ومدمن الخمر. قالوا: يا(6/490)
رسول الله أما مدمن الخمر فقد عرفناه فما الديوث؟ قال: الذي لا يبالي من دخل على أهله. قلنا: فما الرجلة من النساء؟ قال: التي تشبه بالرجال) رواه الطبراني والبيهقي في الشعب وهو حديث حسن، وقال المنذري: [رواه الطبراني ورواته لا أعلم فيهم مجروحاً وشواهده كثيره] الترغيب 3/214.
والديوث هو الذي يقر الخبث في أهله كما ورد مفسراً في حديث ابن عمر، وقال ابن منظور: [الديوث هو الذي لا يغار على أهله] لسان العرب 4/456، وفسره به ابن الأثير في النهاية 2/147.
وقال العلامة علي القاري: [والديوث الذي يقر أي يثبت بسكوته على أهله أي من امرأته أو جاريته أو قرابته الخبث أي الزنا أو مقدماته وفي معناه سائر المعاصي كشرب الخمر وترك غسل الجنابه ونحوهما، قال الطيبي أي: الذي يرى فيهن ما يسوءه ولا يغار عليهن ولا يمنعهن فيقر في أهله الخبث]
مرقاة المفاتيح 7/ 241.
وخلاصة الأمر أن الديوث هو الذي لا يغار على زوجته ومحارمه والدياثة من كبائر الذنوب وقد عدها ابن حجر المكي منها وذكر الأحاديث السابقة وغيرها ثم قال: [قال الجلال البلقيني: فهذه كبيرة بلا منازع ومفسدتها عظيمة] الزواجر عن اقتراف الكبائر 2/109-111.
والديوث فاسق عند العلماء ومردود الشهادة عند الشافعية والحنابلة لأنه يرى المنكرات في أهله ومحارمه ويسكت.
قال العلامة ابن القيم: [وذكر الديوث في هذا الحديث وما قبله يدل على أن أصل الدين الغيرة، من لا غيرة له لا دين له فالغيرة تحمي القلب فتحمي له الجوارح فترفع السوء والفواحش وعدمها يميت القلب فتموت الجوارح فلا يبقى عندها دفع البتة والغيرة في القلب كالقوة التي تدفع المرض وتقاومه فإذا ذهبت القوة كأنه الهلاك] فيض القدير 3/430-431.
* * *(6/491)
تدريب الرجل المرأة على السياقة
ما حكم أن يدّرب الرجل امرأة على قيادة السيارة؟
الجواب: يجوز للرجل أن يدرب المرأة على قيادة السيارة بشرط أن لا يخلو بها كأن يكونا منفردين أثناء التدريب بل لا بد من وجود شخص ثالث كزوج المرأة أو أخيها أو أختها أو ابنها أو غيرهم، لأن انفراد المدرب مع المرأة قد يوقعهما في الفساد وخاصة أن بعض مدربي قيادة السيارات يأخذون المتدربين إلى مناطق خالية فسداً لطرق الفساد لا بد من وجود شخص ثالث مأمون على المرأة.
والأولى أن تتعلم المرأة القيادة على يد امرأة مثلها ويوجد الآن مدربات لهذا الأمر فإن تعذر ذلك فيجوز كما قلت أن تتعلم مع رجل وخاصة أن حاجة النساء لقيادة السيارات تكاد تكون كحاجة الرجال.
* * *
الحفلات المختلطة
تقول السائلة: إن إحدى الجمعيات تقيم حفلاً لتكريم مجموعة من النساء اللواتي أكملن حفظ أجزاء من القرآن الكريم ويحضر الاحتفال الرجال والنساء فتقوم إحدى الأخوات بتلاوة القرآن بصوت جميل أمام الجمهور ثم تقوم أخت أخرى بإلقاء خطبة وثالثة تقوم بإلقاء قصيدة ومجموعة من النساء ينشدن أنشودة على المسرح وكل ذلك أمام النساء والرجال مع العلم أنه يمكن أن يكون الاحتفال خاصاً بالنساء فما قولكم في ذلك؟
الجواب: إن التهاون في الأحكام الشرعية صار سمة واضحة عند بعض العاملين للإسلام وخاصة في مجال الأحكام الشرعية المتعلقة بالمرأة وما ذكر في السؤال هو مثال واضح يتكرر دائماً تحت راية العصرنة والتقدم وعدم الجمود.(6/492)
إن الإسلام قرر أن النساء شقائق الرجال وأن للمرأة أن تتعلم وتتقدم في العلوم كلها وشهد تاريخ الإسلام الحافظات للقرآن الكريم والمحدثات والفقيهات والأديبات والشاعرات ... الخ، ولكن ضمن ضوابط وقواعد الشريعة.
والذي أراه أن الأصل هو أن تختص النساء بنشاطاتهن بشكل عام وكذلك الحال بالنسبة للرجال.
وما دام يمكن تكريم الحافظات للقرآن الكريم ضمن احتفال نسائي خاص بهن فلماذا مشاركة الرجال؟
صحيح أن صوت المرأة الطبيعي ليس عورة كما هو قول جمهور أهل العلم، ولكن عندما تنشد المرأة نشيداً فلا بد من أن تتصنع في صوتها! وكذلك الحال عندما تنشد مجموعة من النساء وكل ذلك على المسرح وأمام الرجال!!
وأين ذلك من قوله تعالى: (فَلَا تَخْضَعْنَ بالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا) سورة الأحزاب الآية 32.
قال الشيخ ابن كثير في تفسير الآية: [ومعنى هذا أنها تخاطب الأجانب بكلام ليس فيه ترخيم] تفسير ابن كثير 3/482.
إن ترخيم صوت المرأة وتحسينه قد يثير الفتنة بها وهذا مما يحرم من باب سد الذرائع، وكذلك فإن الرجال سينظرون إلى النساء أو إلى المرأة عندما تنشد أو ينشدن؟!
وخلاصة الأمر أن هذه الأمور لا تجوز شرعاً فلا يجوز القيام بها.
* * *
اللعب المختلط للشباب والفتيات
يقول السائل: ما حكم الشرع في لعب طالب وطالبة كرة الطاولة أمام الطلبة؟
الجواب: إن الناظر إلى حال طلبتنا وطالباتنا في الجامعات ليحزن مما(6/493)
يشاهده من اختلاط ومناظر سيئة تتكرر يومياً في الجامعات ومن هذه المناظر جلوس طالب مع طالبة منفردين وأجسامهما متلاصقة، ومنها اتخاذ الطالب صديقة له من الطالبات يذهب ويأتي معها باستمرار ومنها جلسات صاخبة بين الطلبة والطالبات وخصوصاً أن كثيراً من هذه النوعية من الطالبات متبرجات سافرات يلبسن الملابس الضيقة والفاضحة وشعورهن منفوشة ... الخ، وهذا شيء قليل مما هو واقع في جامعاتنا وإنني عندما أرى هذه المشاهد أتساءل في نفسي:
أين هؤلاء من الأحكام الشرعية؟ أين هؤلاء من قيمنا وعاداتنا وتقاليدنا؟ أين أباء هؤلاء الطلبة والطالبات أليس عندهم شيء من الغيرة؟ هل يقبل هؤلاء الطلبة أن يتعامل الآخرون مع أخواتهم بهذه الطريقة؟ إلى غير ذلك من التساؤلات التي تثير المرارة والأسى في النفس.
وإذا كان المسلم مطلوب منه غض البصر وكذلك المسلمة فكيف حال هذا اللاعب وتلك اللاعبة؟ ومعروف أن اللعب فيه حركة وصوت ... الخ وأين هؤلاء من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة) رواه أبو داود وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 2/403
وعن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نظر الفجأة فقال: اصرف بصرك) رواه مسلم.
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (كان الفضل بن عباس رديف رسول الله فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر ... الخ الحديث) رواه البخاري ومسلم.
وجاء في رواية أخرى أن العباس - رضي الله عنه - سأله: (لماذا لويت عنق ابن عمك؟ قال: رأيت شاباً وشابة فلم آمن الشيطان عليهما) رواه الترمذي وقال حسن صحيح.
وينبغي أن يعلم أنه نظراً لعدم الالتزام بشريعة الإسلام في كثير من(6/494)
جوانب حياتنا ومنها التعليم المختلط وعدم وجود بدائل شرعية فلا بد من التذكير بالضوابط الشرعية لتعامل الرجال مع النساء وهذه الضوابط بينها الشيخ العلامة يوسف القرضاوي فقال:
[1. الالتزام بغض البصر من الفريقين فلا ينظر إلى عورة ولا ينظر بشهوة ولا يطيل النظر في غير حاجة، قال تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) سورة النور الآيتان 31-32.
2. الالتزام من جانب المرأة باللباس الشرعي المحتشم الذي يغطي البدن ما عدا الوجه والكفين ولا يشف ولا يصف، قال تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) سورة النور الآية 31. وقد صح عن عدد من الصحابة أن ما ظهر من الزينة هو الوجه والكفان.
وقال تعالى في تعليل الأمر بالاحتشام: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) سورة الأحزاب الآية 59. أي أن هذا الزي يميز المرأة الحرة العفيفة الجادة من المرأة اللعوب المستهترة فلا يتعرض أحد للعفيفة بأذى لأن زيها وأدبها يفرض على كل من يراها احترامها.
3. الالتزام بأدب المسلمة في كل شيء وخصوصاً في التعامل مع الرجال:
أ. في الكلام بحيث يكون بعيداً عن الإغراء والإثارة وقد قال تعالى: (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا) سورة الأحزاب الآية 32.
ب. في المشي كما قال تعالى: (ولا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) سورة النور الآية 31. وأن تكون كالتي وصفها الله بقوله: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) سورة القصص الآية 25.
جـ. في الحركة فلا تتكسر ولا تتمايل كأولئك اللائي وصفهن الحديث الشريف بـ: (المميلات المائلات) ولا يصدر عنها ما يجعلها من صنف المتبرجات تبرج الجاهلية الأولى أو الأخيرة.(6/495)
4. أن تتجنب كل ما شأنه أن يثير ويغري من الروائح العطرية وألوان الزينة التي ينبغي أن تكون للبيت لا للطريق وللقاء مع الرجال.
5. الحذر من أن يختلي الرجل بامرأة وليس معهما محرم فقد نهت الأحاديث الصحيحة عن ذلك وقالت: (إن ثالثهما الشيطان) إذ لا يجوز أن يخلى بين النار والحطب.
وخصوصاً إذا كانت الخلوة مع أحد أقارب الزوج وفيه جاء: (إياكم والدخول على النساء. قالوا: يا رسول الله، أرأيت الحمو؟! قال: الحمو الموت) أي هو سبب الهلاك لأنه قد يجلس ويطيل الجلوس وفي هذا خطر شديد.
6. أن يكون اللقاء في حدود ما تفرضه الحاجة وما يوجبه العمل المشترك دون إسراف أو توسع يخرج المرأة عن فطرتها الأنثوية أو يعرضها للقيل والقال أو يعطلها عن واجبها المقدس في رعاية البيت وتربية الأجيال] فتاوى معاصرة 2/285-286.
* * *
مظاهر الأعراس
يقول السائل: ما قولكم فيما يفعله بعض الناس في الأعراس حيث إنهم يزفون العروسين بالسيارات ويطلقون العنان لأبواق السيارات فما حكم ذلك؟
الجواب: إن مظاهر إزعاج الناس وإلحاق الأذى والضرر بهم كثيرة في مجتمعنا وللأسف.
وإن كثيراً من الناس لا يراعون حقوق الآخرين ومشاعرهم بل يضربون بها عرض الحائط في حالات كثيرة منها:
1. ما ذكره السائل من استعمال أبواق السيارات بشكل مؤذٍ ومزعج.
2. ومنها استعمال مكبرات الصوت في الأعراس والحفلات حتى ساعة متأخرة من الليل.(6/496)
3. ومنها إطلاق النار في الحفلات والأعراس.
4. وإطلاق الألعاب النارية في الأعراس والمناسبات الأخرى.
إن هذه الأمور وأمثالها تسبب الأذى وتلحق الضرر بالناس ومعلوم عند العلماء أن إلحاق الأذى حرام شرعاً فلا يجوز للمسلم أن يؤذي غيره سواء كان الإيذاء معنوياً أو مادياً بل إن الإيذاء المعنوي قد يكون أشد من الإيذاء المادي فشتم المسلم في عرضه أشد من صفعه وهكذا.
وقد وردت نصوص كثيرة تحرم إلحاق الأذى وتحث على ترك إيذاء عباد الله.
فمن ذلك أنه لا يجوز إيذاء المسلمين في طرقاتهم وشوارعهم فمن المعلوم أن الطريق من الحقوق العامة التي ينتفع بها الناس كافة فلا يجوز لأحد أن يؤذي غيره فيها.
فاستعمال الطرق والشوارع له أحكام شرعية متعلقة به وليس للإنسان مطلق الحرية أن يتصرف في الشوارع حسبما يريد وكيفما يريد.
جاء في الحديث عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إياكم والجلوس على الطرقات. فقالوا: ما لنا بد إنما هي مجالسنا نتحدث فيها. قال: فإذا أتيتم إلى المجالس فأعطوا الطريق حقها. قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غض البصر وكف الأذى وردّ السلام وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر) رواه البخاري.
فانظر أخي المسلم إلى هذه المعاني العظيمة التي تضمنها هذا الحديث وقارنها بواقع كثير من الناس اليوم في سوء استعمالهم للطريق فستجد الشباب الذين يعاكسون الفتيات في الطرقات، وأصحاب المحلات وغيرهم الذين يلقون القاذورات في الشوارع، وأصحاب السيارات الذين يطلقون العنان لأبواق سياراتهم أو الذين يعتبرون الشوارع ملكاً خاصاً لهم، والناس الذين يتعدون على الشوارع فيأخذون منها بدل أن يعطوها شيئاً من أرضهم لتوسعة الشوارع أو يتركون فيها مخلفات البناء.(6/497)
إن إزالة الأذى من طرقات الناس تعتبر صدقة كما جاء في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (تميط الأذى عن الطريق صدقة) رواه البخاري.
وعنه أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فأخذه فشكر الله له فغفر له) رواه البخاري ومسلم.
وإزالة الأذى من طرقات الناس إحدى مراتب الإيمان كما جاء في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان) رواه مسلم.
وعن أبي برزة - رضي الله عنه - قال: (قلت يا نبي الله علمني شيئاً أنتفع به قال: اعزل الأذى عن طريق المسلمين) رواه مسلم.
قال الإمام النووي: [هذه الأحاديث المذكورة في الباب ظاهرة في فضل إزالة الأذى عن الطريق سواء كان الأذى شجرة تؤذي أو غصن شوكة أو حجراً يعثر به أو قذراً أو جيفة أو غير ذلك] شرح النووي على صحيح مسلم 6/131.
وما ذكره الإمام النووي من أنواع الأذى المادية التي كانت معروفة في زمانهم قد يكون يسيراً مع أنواع الأذى المعنوية الموجودة في زماننا مثل استعمال مكبرات الصوت في المناسبات حتى ساعات متأخرة من الليل واستعمال أبواق السيارات وإطلاق الألعاب النارية وغيرها.
فهذه مزعجة للنائم والمريض ولطالب العلم ومخيفة للأطفال فكل ذلك أذى يجب الامتناع عنه ديانة ومنع الناس منه قانوناً ونظاماً، وأنواع الأذى هذه يشملها عموم الأحاديث السابقة فإن كلمة الأذى الواردة فيها تعمها جميعاً.
وكذلك ما ورد في أحاديث أخرى من تحريم للأذى بشكل عام كما(6/498)
جاء في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره) رواه البخاري.
فهذا النهي الوارد في الحديث يعم كل أذى فلا يجوز إلحاق الأذى بالجار سواء أكان الأذى مادياً أو معنوياً.
* * *
الموسيقى
يقول السائل: إنه سمع الشيخ يوسف القرضاوي في برنامج الشريعة والحياة يضعف الحديث الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه وهو: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف) وإن الشيخ القرضاوي يرى أن هذا الحديث لا يصلح للاستدلال على تحريم الموسيقى والأغاني المصاحبة لها فما قولكم في ذلك؟
الجواب: ما قاله الشيخ العلامة القرضاوي في برنامج الشريعة والحياة قاله منذ زمن طويل فقد ذكر في كتابه الحلال والحرام ص 293 ما نصه: [أما ما ورد فيه - أي الغناء - من أحاديث نبوية فكلها مثخنة بالجراح لم يسلم منها حديث من طعن عند فقهاء الحديث وعلمائه، قال القاضي أبو بكر ابن العربي: لم يصح في تحريم الغناء شيء، وقال ابن حزم: كل ما روي فيها باطل موضوع] .
وقال الشيخ القرضاوي نحو هذا الكلام في كتابه فتاوى معاصرة 1/690-691
وفصّل الشيخ القرضاوي الكلام على المسألة في كتابه الإسلام والفن ... ص 30-90 وفي هذا الكتاب تكلم الشيخ القرضاوي على الحديث المذكور في السؤال فقال: [والحديث وإن كان في صحيح البخاري إلا أنه من المعلقات لا من المسندات المتصلة ولذلك رده ابن حزم لانقطاع سنده ومع التعليق فقد قالوا: إن سنده ومتنه لم يسلما من الاضطراب وقد اجتهد الحافظ ابن حجر لوصل الحديث ووصله بالفعل من تسع طرق ولكنها(6/499)
جميعاً تدور على راوٍ تكلم فيه عدد من الأئمة النقاد ألا وهو هشام بن عمار وهو وإن كان خطيب دمشق ومقرئها ومحدثها وعالمها وثَّقهُ ابن معين والعجلي فقد قال عنه أبو داود: حدث بأربعمائة حديث لا أصل لها، وقال أبو حاتم: صدوق وقد تغير فكان كل ما دفع إليه قرأه وكل ما لقنه تلقن وكذلك قال ابن سيار: وقال الإمام أحمد: طياش خفيف. وقال النسائي: لا بأس به، وهذا ليس بتوثيق مطلق ورغم دفاع الحافظ الذهبي عنه قال: صدوق مكثر له ما ينكر. وأنكروا عليه أنه لم يكن يحدث إلا بأجر ومثل هذا لا يقبل حديثه في مواطن النزاع وخصوصاً في أمر عمت به البلوى. ورغم ما في ثبوته من الكلام ففي دلالته كلام آخر فكلمة المعازف لم يتفق على معناها بالتحديد ما هو؟ فقد قيل الملاهي وهذه مجملة وقيل آلات العزف ولو سلمنا بأن معناها آلات الطرب المعروفة بآلات الموسيقى فلفظ الحديث المعلق في البخاري غير صريح في إفادة حرمة المعازف لأن عبارة يستحلون كما ذكر ابن العربي لها معنيان: أحدهما يعتقدون أن ذلك حلال.
والثاني أن تكون مجازاً عن الاسترسال في استعمال تلك الأمور إذ لو كان المقصود بالاستحلال المعنى الحقيقي لكان كفراً فإن استحلال الحرام المقطوع به مثل الخمر والزنا المعبر عنه بالحر كفر بالإجماع ولو سلمنا بدلالتها على الحرمة فهل يستفاد منها تحريم المجموع المذكور من الحر والخمر والحرير والمعازف أو كل فرد منها على حدة والأول هو الراجح فإن الحديث في الواقع ينعى على أخلاق طائفة من الناس انغمسوا في الترف والليالي الحمراء وشرب الخمور فهم بين خمر ونساء ولهو وغناء وخز وحرير ولذا روى ابن ماجة هذا الحديث عن أبي مالك الاشعري بلفظ: (ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير) وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه والبخاري في تاريخه وكل من روى الحديث من طريق غير طريق هشام بن عمار جعل الوعيد على شرب الخمر وما المعازف إلا مكملة وتابعة ... ] الإسلام والفن ص 41-44.(6/500)
وواضح من كلام الشيخ القرضاوي أنه اتكأ فيه على كلام الشيخ ابن حزم في تضعيف الحديث ورده من حيث السند واستند إلى قول ابن حزم أن كل ما روي في الغناء باطل موضوع.
وقد أخطأ الشيخ ابن حزم في هذه المسألة خطأً كبيراً وتابعه الشيخ القرضاوي في خطئه ومعلوم كما قال بعض السلف: [كل يؤخذ من قوله ويترك إلا الرسول - صلى الله عليه وسلم -] وليس أحد من أهل العلم معصوم عن الوقوع في الخطأ.
وقد بين أهل الحديث والمحققون من الفقهاء خطأ ابن حزم ومن تابعه في حكمه على الحديث الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه حيث قال الإمام البخاري: [وقال هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثنا عطية بن قيس الكلابي حدثني عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال حدثني أبو عامر أوأبو مالك الأشعري والله ما كذبني سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ... الخ الحديث] .
وهذا الحديث رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم محتجاً به وما رواه البخاري معلقاً مجزوماً به فهو صحيح يحتج به قال الحافظ ابن حجر: [وقد تقرر عند الحفاظ أن الذي يأتي به البخاري من التعاليق كلها بصيغة الجزم يكون صحيحاً إلى من علق عنه ولو لم يكن من شيوخه لكن إذا وجد الحديث المعلق من رواية بعض الحفاظ موصولاً إلى من علقه بشرط الصحة أزال الإشكال ولهذا عنيت في ابتداء الأمر بهذا النوع وصنفت كتاب تغليق التعليق وقد ذكر شيخنا في شرح الترمذي وفي كلامه على علوم الحديث أن حديث هشام بن عمار جاء عنه موصولاً في مستخرج الإسماعيلي قال حدثنا الحسن بن سفيان حدثنا هشام بن عمار وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين فقال حدثنا محمد بن يزيد بن عبد الصمد حدثنا هشام بن عمار قال وأخرجه أبو داود في سننه فقال: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا بشر بن بكر حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بسنده] فتح الباري 12/152-153.(6/501)
وقال الإمام النووي: [قال الشيخ أبو عمرو رحمه الله - يعني ابن الصلاح - وهكذا الأمر في تعليقات البخاري بألفاظ جازمة مثبتة على الصفة التي ذكرناها كمثل ما قال فيه قال فلان أو روى فلان أو ذكر فلان أو نحو ذلك ولم يصب أبو محمد بن حزم الظاهري حيث جعل مثل ذلك انقطاعاً قادحاً في الصحة واستروح إلى ذلك في تقرير مذهبه الفاسد في إباحة الملاهي وزعمه أنه لم يصح في تحريمها حديث مجيباً عن حديث أبي عامر أو أبي مالك الأشعري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... (ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحرير والخمر والمعازف.. إلى آخر الحديث) فزعم أنه وإن أخرجه البخاري فهو غير صحيح لأن البخاري قال فيه: قال هشام بن عمار وساقه بإسناده فهو منقطع فيما بين البخاري وهشام.
وهذا خطأ من ابن حزم من وجوه: أحدها: أنه لا انقطاع في هذا أصلاً من جهة أن البخاري لقي هشاماً وسمع منه وقد قررنا في كتابنا علوم الحديث أنه إذا تحقق اللقاء والسماع مع السلامة من التدليس حمل ما يرويه عنه على السماع بأي لفظ كان كما يحمل قول الصحابي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سماعه منه إذا لم يظهر خلافه وكذا غير قال من الألفاظ. الثاني: أن هذا الحديث بعينه معروف الاتصال بصريح لفظه من غير جهة البخاري. الثالث: أنه وإن كان ذلك انقطاعاً فمثل ذلك في الكتابين - أي الصحيحين - غير ملحق بالانقطاع القادح لما عرف من عادتهما وشرطهما وذكرهما ذلك في كتاب موضوع لذكر الصحيح خاصة فلن يستجيزا فيه الجزم المذكور من غير ثبت وثبوت بخلاف الانقطاع أو الإرسال الصادر من غيرهما هذا كله في المعلق بلفظ الجزم] شرح النووي على صحيح مسلم 1/18-19، وانظر الباعث الحثيث ص34-35.
ويرى جماعة من أهل العلم أن هذا الحديث ليس معلقاً وإنما هو في صورة المعلق قال الإمام العيني: [والحديث صحيح وإن كانت صورته صورة التعليق وقد تقرر عند الحفاظ أن الذي يأتي به البخاري من التعاليق كلها بصيغة الجزم يكون صحيحاً إلى من علقه عنه ولو لم يكن من شيوخه] عمدة القاري 14/591.(6/502)
وقال العلامة الشيخ الألباني: [وهذا النوع من التعليق صورته صورة التعليق كما قال الحافظ العراقي في تخريجه لهذا الحديث في المغني عن حمل الأسفار 2/271، وذلك لأن الغالب على الأحاديث المعلقة أنها منقطعة بينها وبين معلقها ولها صور عديدة معروفة وهذا ليس منها لأن هشام بن عمار من شيوخ البخاري الذين احتج بهم في صحيحه في غير ما حديث كما بينه الحافظ في ترجمته من مقدمة الفتح ولما كان البخاري غير معروف بالتدليس كان قوله في هذا الحديث قال في حكم قوله عن أو حدثني أو قال لي.... ويشبه قول العراقي المذكور قول ابن الصلاح في مقدمة علوم الحديث ص 72 صورته صورة الانقطاع وليس حكمُه حكمَه، وليس خارجاً من الصحيح إلى الضعيف.
ثم رد على ابن حزم إعلاله إياه بالانقطاع وسيأتي تمام كلامه إن شاء الله في الفصل الثالث.
والمقصود أن الحديث ليس منقطعاً بين البخاري وشيخه هشام كما زعم ابن حزم ومن قلده من المعاصرين كما سيأتي بيانه في الفصل المذكور إن شاء الله تعالى على أنه لو فرض أنه منقطع فهي علة نسبية لا يجوز التمسك بها لأنه قد جاء موصولاً من طرق جماعة من الثقات الحفاظ سمعوه من هشام بن عمار فالمتشبث والحالة هذه بالانقطاع يكابر مكابرة ظاهرة كالذي يضعف حديثاً بإسناد صحيح متشبثاً بإسناد له ضعيف] تحريم آلات الطرب ص 39-40.
ويضاف إلى ذلك أن الحافظ ابن حجر ذكر تسع طرق موصولة للحديث في كتابه تغليق التعليق 5/17-22. قال الحافظ ابن حجر في " تغليق التعليق ": [وهذا حديث صحيح لا علة له ولا مطعن فيه وقد أعله أبو محمد بن حزم بالانقطاع بين البخاري وصدقة بن خالد وبالاختلاف في اسم أبي مالك وهذا كما تراه قد سقته من رواية تسعة عن هشام متصلاً فيهم مثل الحسن بن سفيان وعبدان وجعفر الفريابي وهؤلاء الحفاظ أثبات وأما الاختلاف في كنية الصحابي فالصحابة كلهم عدول] نقلاً عن تحريم آلات الطرب ص 87.(6/503)
وذكر الشيخ الألباني أن الحديث قد وصله الطبراني والبيهقي وابن عساكر وابن أبي شيبة وأحمد وغيرهم انظر السلسلة الصحيحة 1/14، تحريم آلات الطرب ص 45.
وذكر الشيخ الألباني أيضاً جماعة من العلماء الذين صححوا الحديث منهم:
1. البخاري 2. ابن حبان 3. الإسماعيلي 4. ابن الصلاح 5. النووي 6. ابن تيمية 7. ابن القيم 8. ابن كثير 9. العسقلاني 10. ابن الوزير الصنعاني 11. السخاوي 12. الأمير الصنعاني.... إلى غير هؤلاء ممن لا يحضرني فهل يدخل في عقل مسلم أن يكون المخالفون كابن حزم ومن جرى خلفه وليس فيهم مختص في علم الحديث هل يعقل أن يكون هؤلاء على صواب وأؤلئك الأئمة على خطأ؟!
(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) ، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) ] تحريم آلات الطرب ص 89.
وقال العلامة ابن القيم: [ولم يصنع من قدح في صحة هذا الحديث شيئاً كابن حزم نصرة لمذهبه الباطل في إباحة الملاهي وزعم أنه منقطع لأن البخاري لم يصل سنده به.
وجواب هذا الوهم من وجوه: أحدها أن البخاري قد لقي هشام بن عمار وسمع منه فإذا قال: قال هشام، فهو بمنزلة قوله عن هشام.
الثاني: أنه لو لم يسمع منه فهو لم يستجز الجزم به عنه إلا وقد صح عنه أنه حدث به.
وهذا كثيراً ما يكون لكثرة من رواه عنه عن ذلك الشيخ وشهرته فالبخاري أبعد خلق الله من التدليس.
الثالث: أنه أدخله في كتابه المسمى بالصحيح محتجاً به فلولا صحته عنده لما فعل ذلك.
الرابع: أنه علقه بصيغة الجزم دون صيغة التمريض فإنه إذا توقف في(6/504)
الحديث أو لم يكن على شرطه يقول ويروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويذكر عنه ونحو ذلك فإذا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد جزم وقطع بإضافته إليه.
الخامس: أنا لو أضربنا عن هذا كله صفحاً فالحديث صحيح متصل عند غيره] إغاثة اللهفان 1/259-260.
وأما ما ادعاه الشيخ القرضاوي من أن الحديث مضطرب سنداً ومتناً فكلام غير مسلم، قال الإمام الشوكاني: [ويجاب عن دعوى الاضطراب في السند بأنه قد رواه أحمد وابن أبي شيبة من حديث أبي مالك بغير شك ورواه أبو داود من حديث أبي عامر وأبي مالك وهي رواية ابن داسه عن أبي داود ورواية ابن حبان أنه سمع أبا عامر وأبا مالك الأشعريين فتبين بذلك أنه من روايتهما جميعاً.
وأما الاضطراب في المتن فيجاب بأن مثل ذلك غير قادح في الاستدلال لأن الراوي قد يترك بعض ألفاظ الحديث تارة ويذكرها أخرى. والرابع أن لفظة المعازف التي هي محل الاستدلال ليست عند أبي داود ويجاب بأنه قد ذكرها غيره وثبتت في الصحيح والزيادة من العدل مقبولة وأجاب المجوزون أيضاً على الحديث المذكور من حيث دلالته فقالوا: لا نسلم دلالته على التحريم وأسندوا هذا المنع بوجوه: أحدها أن لفظة يستحلون ليست نصاً في التحريم فقد ذكر أبو بكر ابن العربي لذلك معنيين: أحدهما أن المعنى يعتقدون أن ذلك حلال. الثاني أن يكون مجازاً عن الاسترسال في استعمال تلك الأمور ويجاب بأن الوعيد على الاعتقاد يشعر بتحريم الملابسة بفحوى الخطاب وأما دعوى التجوز فالأصل الحقيقة ولا ملجأ إلى الخروج عنها وثانيها أن المعازف مختلف في مدلولها كما سلف وإذا كان اللفظ محتملاً لأن يكون للآلة ولغير الآلة لم ينتهض للاستدلال لأنه إما أن يكون مشتركاً والراجح التوقف فيه أو حقيقة ومجازاً ولا يتعين المعنى الحقيقي ويجاب بأنه يدل على تحريم استعمال ما صدق عليه الاسم والظاهر الحقيقة في الكل من المعاني المنصوص عليها من أهل اللغة وليس من قبيل المشترك لأن اللفظ لم يوضع لكل واحد على حدة بل وضع للجميع على أن الراجح جواز استعمال المشترك في جميع معانيه مع عدم(6/505)
التضاد كما تقرر في الأصول وثالثها أنه يحتمل أن تكون المعازف المنصوص على تحريمها هي المقترنة بشرب الخمر كما ثبت في رواية بلفظ: (ليشربن أناس من أمتي الخمر تروح عليهم القيان وتغدو عليهم المعازف) ويجاب بأن الاقتران لا يدل على أن المحرم هو الجمع فقط وإلا لزم أن الزنى المصرح به في الحديث لا يحرم إلا عند شرب الخمر واستعمال المعازف واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله وأيضاً يلزم في مثل قوله تعالى:
(إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) أنه لا يحرم عدم الإيمان بالله إلا عند عدم الحض على طعام المسكين فإن قيل تحريم مثل هذه الأمور المذكورة في الإلزام قد علم من دليل آخر فيجاب بأن تحريم المعازف قد علم من دليل آخر أيضاً كما سلف على أنه لا ملجأ إلى ذلك حتى يصار إليه ورابعها أن يكون المراد يستحلون مجموع الأمور المذكورة فلا يدل على تحريم واحد منها على الانفراد وقد تقرر أن النهي عن الأمور المتعددة أو الوعيد على مجموعها لا يدل على تحريم كل فرد منها ويجاب عنه بما تقدم في الذي قبله] نيل الأوطار 8/115-116.
ويكفي هذا القدر من كلام أهل العلم وإلا فالمسألة فيها كلام كثير للعلماء في إبطال كلام ابن حزم ومن تابعه. وينبغي أن يعلم أنه على الرغم من كون الشيخ ابن حزم من كبار الفقهاء المجتهدين إلا أن له أوهاماً ليست قليلة في علم الحديث كتسرعه في الحكم على الرجال تعديلاُ وتجريحاً فوقع في أوهام شنيعة كتضعيفه بعض أحاديث الصحيحين وتجهيله عدداً من الرواة الثقاة وغير ذلك من الأوهام ولا يتسع المقام للتفصيل ومن أراد التوسع فيه فلينظر كتاب (الصناعة الحديثية عند ابن حزم) للشيخ علي رضا فقد ذكر مئة وثمانين وهماً لابن حزم في الأحاديث.
وأما كلام الشيخ القرضاوي عن هشام بن عمار الذي روى عنه الإمام البخاري الحديث السابق فكلام غير مقبول وغير مسلم.
فهشام بن عمار هذا قال عنه الحافظ الذهبي: [الإمام الحافظ المقرئ عالم أهل الشام ... خطيب دمشق ... فقد كان من أوعية العلم ... وثقه(6/506)
يحيى بن معين وقال عنه كيّس كيس ووثقه العجلي وقال النسائي لا بأس به وقال الدارقطني: صدوق كبير المحل.
وأطال الذهبي في ترجمته انظر سير أعلام النبلاء 11/420-435 وهشام بن عمار احتج به البخاري والنسائي وابن ماجة وغيرهم.
وترجم الحافظ المزي لهشام بن عمار وذكر في ترجمته ما يلي: [ ... وقال معاوية بن صالح وإبراهيم بن الجنيد عن يحيى بن معين: ثقة.
وقال أبو حاتم عن يحيى بن معين: كيّس كيّس.
وقال العجلي: ثقة. وقال في موضع آخر صدوق.
.... وقال عبدان بن أحمد الجواليقي: ... ما كان في الدنيا مثله] تهذيب الكمال في أسماء الرجال 30/247-248.
وخلاصة الأمر أن الشيخ القرضاوي حفظه الله قد جانب الصواب في هذه المسألة.
* * *
لا توارث بسبب الرضاع
يقول السائل: هل يرث الإبن من الرضاع من أمه؟
الجواب: من المعروف عند جمهور أهل العلم أن أسباب الميراث ثلاثة وهي القرابة والزوجية والولاء. فأما القرابة فهي كل صلة بين شخصين بسبب الولادة من قبل أب وأم قريبة كانت أو بعيدة. انظر العذب الفائض 1/19. يقول الله سبحانه وتعالى: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا) سورة النساء الآية 11.
وقال تعالى: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) سورة الأنفال الآية 75. وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ألحقوا الفرائض(6/507)
بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر) رواه البخاري. وفي رواية لمسلم: (اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله فما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر) والمستحقون للميراث بالقرابة هم أصحاب الفرائض والعصبات النسبية وذوو الأرحام وهذا فيه تفصيل كثير عند العلماء.
وأما الزوجية فيدل على توارث الزوجين قوله تعالى: (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ) سورة النساء الآية 12.
ويشترط لتوارث الزوجين أن ينعقد النكاح صحيحاً ولو لم يتم دخول أو خلوة بعد العقد الصحيح ويشترط أيضاً أن تكون الزوجية الصحيحة قائمة عند الوفاة.
وأما الولاء فهو قرابة غير حقيقية أي حكمية تحصل بسبب العتق أو عقد الموالاة. وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إنما الولاء لمن أعتق) رواه البخاري ومسلم.
ونظراً لانتهاء عصر الرق فلا حاجة للحديث عن ذلك الآن.
إذا تقرر هذا فإن الرضاعة ليست من أسباب الميراث باتفاق أهل العلم والإبن من الرضاع لا يرث من أمه الرضاعية ولا أثر للرضاع في الميراث.
قال الإمام النووي: [الرضاع يؤثر في تحريم النكاح وثبوت المحرمية المقيدة لجواز النظر والخلوة دون سائر أحكام النسب كالميراث والنفقة والعتق بالملك وسقوط القصاص ورد الشهادة وغيرها وهذا كله متفق عليه) روضة الطالبين 6/418-419.
وقال الإمام البغوي (ولا يتعلق بالرضاع من أحكام النسب إلا شيئان: تحريم النكاح والمحرمية وهي أنه يجوز للرجل أن يخلو بالمحرمة عليه بالرضاع وأن يسافر بها.(6/508)
أما الميراث ووجوب النفقة وحصول العتق وغيرها من أحكام النسب فلا يتعلق شيء منها بالرضاع) التهذيب 6/ 285.
* * *
حرمان البنات في الوقف
يقول السائل: لدينا وقفية وقد شرط الواقف فيها إعطاء الذكور من ورثته دون الإناث فما الحكم في هذا الشرط؟
الجواب: الوقف قربة يتقرب بها الواقف إلى الله سبحانه وتعالى وهو داخل في عموم النصوص التي تحث على أفعال البر كما في قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) سورة البقرة الآية 267.
وقوله تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) سورة آل عمران الآية 92
ويدخل في عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) رواه البخاري ومسلم
وثبت في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن عمر بن الخطاب أصاب أرضاً بخيبر فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأمره فيها فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه فما تأمرني به؟ قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها.
قال: فتصدق بها عمر أنه لا يباع ولا يوهب ولا يورث وتصدق بها في الفقراء وفي القربي وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متمول) رواه البخاري ومسلم.
وجاء في رواية أخرى أن عمر - رضي الله عنه - قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن المئة سهم التي بخيبر لم أصب مالاً قط أعجب إليَّ منها وقد أردت أن أتصدق(6/509)
بها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: احبس أصلها وسبل ثمرتها) رواه النسائي وابن ماجة والبيهقي وهو حديث صحيح كما قال الألباني في إرواء الغليل 6/31.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علماً علَّمه ونشره وولداً صالحاً تركه ومصحفاً ورَّثه أو مسجداً بناه أو بيتاً لابن السبيل بناه أو نهراً أجراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته يلحقه بعد موته) رواه ابن ماجة وابن خزيمة وهو حديث حسن كما قال الألباني، صحيح سنن ابن ماجة 1/46. وغير ذلك من النصوص.
إذا تقرر هذا فنعود إلى ما ذكره السائل من شرط الواقف بحرمان البنات من وقفيتة فأقول إن كثيراً من الواقفين للوقفيات الأهلية أو الذرية يشترطون شروطاً لا تقرها الشريعة الإسلامية ومن ذلك حرمان البنات وهذا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية التي أوجبت العدل بين الذكور والإناث ومن المعلوم عند أهل العلم أن الإنسان ليس حراً فيما يشترطه من شروط في عقوده ومعاملاته بل لا بد أن تكون هذه الشروط لا تتعارض مع قواعد الشريعة وأصولها، قال الإمام البخاري في صحيحه: [باب المكاتب وما لا يحل من الشروط التي تخالف كتاب الله ... وقال ابن عمر أو عمر: كل شرط خالف كتاب الله فهو باطل وإن اشترط مئة شرط] ثم روى البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أتتها بريرة تسألها في كتابها فقالت: إن شئت أعطيت أهلك ويكون الولاء لي فلما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرته ذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ابتاعيها فأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق. ثم قام رسول الله على المنبر فقال: ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله! فمن اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فليس له وإن اشترط مئة شرط) رواه البخاري.
قال الحافظ ابن حجر: [وأن المراد ما خالف كتاب الله ثم استظهر على ذلك بما نقله عن عمر أو ابن عمر وتوجيه ذلك أن يقال المراد بكتاب الله في الحديث المرفوع حكمه وهو أعم من أن يكون نصاً أو(6/510)
مستنبطاً فكل ما كان ليس من ذلك فهو مخالف لما في كتاب الله] فتح الباري 6/282.
ولا شك أن اشتراط حرمان الإناث من الوقفية مخالف للأحكام الشرعية التي أمرت بالعدل بين الأبناء فعن عامر قال: سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما وهو على المنبر يقول: (أعطاني أبي عطية فقالت عمرة بنت رواحة - أم النعمان -: لا أرضى حتى تشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله. قال عليه الصلاة والسلام: أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟ قال: لا. فقال - صلى الله عليه وسلم -: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، قال فرجع فرد عطيته) رواه البخاري.
وفي رواية أخرى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبشير والد النعمان: (لا تشهدني على جور أليس يسرك أن يكونوا لك في البر سواء. قال: نعم. قال: أشهد على هذا غيري) رواه أبو داود بسند صحيح.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (سووا بين أولادكم في العطية لو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء) رواه سعيد بن منصور والبيهقي وقال الحافظ ابن حجر إسناده حسن وغير ذلك من الأحاديث.
فبناءً على ذلك فيجب إبطال هذا الشرط لمعارضته للشريعة كما سلف ولا ينبغي التمسك بما قرره الفقهاء أن شرط الواقف كنص الشارع حيث إن بعض الفقهاء اعتبروا هذه القاعدة موجبة لتنفيذ شروط الواقفين وأنه يجب العمل بها مهما كانت وإن خالفت الشرع وهذا غير مسلم وغير مقبول.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وقد اتفق المسلمون على أن شروط الواقف تنقسم إلى صحيح، وفاسد، كالشروط في سائر العقود ومن قال من الفقهاء: إن شروط الواقف نصوص كألفاظ الشارع، فمراده أنها كالنصوص في الدلالة على مراد الواقف لا في وجوب العمل بها أي أن مراد الواقف يستفاد من ألفاظه المشروطة كما يستفاد مراد الشارع من ألفاظه فكما يعرف(6/511)
العموم والخصوص والإطلاق والتقييد والتشريك والترتيب في الشرع من ألفاظه الشارع فكذلك تعرف في الوقف من ألفاظ الواقف.
مع أن التحقيق في هذا أن لفظ الواقف ولفظ الحالف والشافع والموصي وكل عاقد يحمل على عادته في خطابه ولغته التي يتكلم بها، سواء وافقت العربية العرباء أو العربية المولدة أو العربية الملحونة أو كانت غير عربية وسواء وافقت لغة الشارع أو لم توافقها فإن المقصود من الألفاظ دلالتها على مراد الناطقين بها فنحن نحتاج إلى معرفة كلام الشارع لأن معرفة لغته وعرفه وعادته تدل على معرفة مراده وكذلك في خطاب كل أمة وكل قوم فإذا تخاطبوا بينهم في البيع والإجارة أو الوقف أو الوصية أو النذر أو غير ذلك بكلام رجع إلى معرفة مرادهم وإلى ما يدل على مرادهم من عادتهم في الخطاب وما يقترن بذلك من الأسباب.
وأما أن تجعل نصوص الواقف أو نصوص غيره من العاقدين كنصوص الشارع في وجوب العمل بها فهذا كفر باتفاق المسلمين إذ لا أحد يطاع في كل ما يأمر به من البشر - بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والشروط إن وافقت كتاب الله كانت صحيحة. ... وإن خالفت كتاب الله كانت باطلة كما ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه خطب على منبره وقال: (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل. وإن كان مئة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق] مجموع الفتاوى 31/47-48.
وقال العلامة ابن القيم: [فالصواب الذي لا تسوغ الشريعة غيره عرض شرط الواقفين على كتاب الله سبحانه وعلى شرطه، فما وافق كتابه وشرطه فهو صحيح وما خالفه كان شرطاً باطلاً مردوداً ولو كان مئة شرط وليس ذلك بأعظم من رد حكم الحاكم إذا خالف حكم الله ورسوله ومن رد فتوى للمفتي وقد نص الله سبحانه على رد وصية الجانف في وصيته والآثم فيها مع أن الوصية تصح في غير قربة وهي أوسع من الوقف وقد صرح صاحب الشرع برد كل عمل ليس عليه أمره فهذا الشرط مردود بنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يحل لأحد أن يقبله ويعتبره ويصححه ...(6/512)
معنى قولهم: شرط الواقف كنص الشارع ثم إن العجب العجاب قول من يقول إن شروط الواقف كنصوص الشارع ونحن نبرأ إلى الله من هذا القول ونعتذر مما جاء به قائله ولا نعدل بنصوص الشارع غيرها أبداً وإن أحسن الظن بقائل هذا القول حمل كلامه على أنها كنصوص الشارع في الدلالة وتخصيص عامها بخاصها وحمل مطلقها على مقيدها واعتبار مفهومها كما يعتبر منطوقها وأما أن تكون كنصوصه في وجوب الإتباع وتأثيم من أخل بشيء منها فلا يظن ذلك بمن له نسبه ما إلى العلم فإذا كان حكم الحاكم ليس كنص الشارع بل يرد ما خالف حكم الله ورسوله من ذلك فشرط الواقف إذا كان كذلك كان أولى بالرد والإبطال] إعلام الموقعين 1/315-316.
وقال العلامة صديق حسن خان: [والحاصل أن الأوقاف التي يراد بها قطع ما أمر الله به أن يوصل ومخالفة فرائض الله - عز وجل - فهي باطلة من أصلها لا تنعقد بحال.
وذلك كمن يقف على ذكور أولاده دون إناثهم وما أشبه ذلك فإن هذا لم يرد التقرب إلى الله تعالى بل أراد المخالفة لأحكام الله عز وجل والمعاندة لما شرعه لعباده وجعل هذا الوقف الطاغوتي ذريعة إلى ذلك المقصد الشيطاني فليكن هذا منك على ذكر فما أكثر وقوعه في هذه الأزمنة] التعليقات الرضية 2/515-516.
وخلاصة الأمر أنه ينبغي إبطال الشرط بحرمان البنات من الوقفية وإذا لم يمكن الإلغاء أمام المحكمة الشرعية فالمطلوب هو أن يصطلح المنتفعون بالوقفية على إلغاء الشرط.
* * *
الحناء للرجال
يقول السائل: ما حكم استعمال الحناء في اليدين في حق الرجل؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أن جمهور أهل العلم يرون أن خضاب شعر(6/513)
الرأس واللحية سنة ويدل على ذلك عدة أحاديث منها: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: (خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم فقال: يا معشر الأنصار حمروا وصفروا وخالفوا أهل الكتاب) رواه أحمد، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، مجمع الزوائد 5/163.
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن أحسن ما غير به الشيب الحناء والكتم) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وصححه الشيخ الألباني أيضاً في صحيح سنن أبي داود 2/792، والكتم نوع من النبات.
وعن جابر بن عبد الله قال: (أتي بأبي قحافة يوم فتح مكة ورأسه ولحيته كالثغامة بياضاً فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد) رواه مسلم. والثغامة نبت أبيض الزهر.
قال الشيخ ابن قدامة: [ويستحب خضاب الشيب بغير السواد قال أحمد: إني لأرى الشيخ المخضوب فأفرح به] المغني 1/68.
ثم ذكر حديث: [غيروا الشيب] وأن أبا بكر وعمر والمهاجرين قد خضبوا
والاختضاب مشروع في حق المرأة المتزوجة أيضاً فيجوز لها أن تخضب رأسها وكفيها وقدميها وأما غير المتزوجة فيكره لها ذلك.
وأما الرجل فلا يجوز له أن يخضب كفيه وقدميه لأن في اختضابه فيهما تشبهاً بالنساء والتشبه بالنساء ممنوع. الموسوعة الفقهية 2/281-284.
وقد ثبت في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء) رواه البخاري(6/514)
قال الإمام النووي: [أما خضاب اليدين والرجلين فمستحب للمتزوجة من النساء للأحاديث المشهورة فيه وهو حرام على الرجال إلا لحاجة التداوي ونحوه، ومن الدلائل على تحريمه قوله صلى الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: (لعن الله المتشبهين بالنساء من الرجال) ويدل عليه الحديث الصحيح عن انس أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى أن يتزعفر الرجل) رواه البخاري ومسلم وما ذاك إلا للونه لا لريحه فإن ريح الطيب للرجال محبوب والحناء في هذا كالزعفران وفي كتاب الأدب من سنن أبي داود عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أتي بمخنث قد خضب يديه ورجليه بالحناء فقال: ما بال هذا، فقيل: يا رسول الله يتشبه بالنساء فأمر به فنفي إلى النقيع، فقالوا: يا رسول الله ألا نقتله، فقال: إني نهيت عن قتل المصلين) لكن إسناده فيه مجهول) المجموع 1/294-295.
وكلام النووي يفيد أن الحديث ضعيف ولكن الشيخ الألباني صحح الحديث في صحيح سنن أبي داود 2/931.
وقد اعتبر ابن حجر المكي الهيتمي خضب الرجل ليديه وقدميه من كبائر الذنوب!! الزواجر 1/348
* * *(6/515)
متفرقات(6/517)
تكره الأسئلة التي لا يترتب عليها عمل
السؤال: يسألني بعض الناس أسئلة لا يترتب عليها عمل ولا نفع فيها للسائل كالسؤال عن المدة التي مكثها يونس عليه السلام في بطن الحوت وأمثال ذلك، فما الحكم في السؤال عن مثل هذه الأمور؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أن أهل العلم والفتوى قد بينوا ووضحوا أن على المسلم إن أراد السؤال والاستفتاء فعليه أن يسأل عما ينفعه في دينه ودنياه فلا بأس بالسؤال عما يعترض المسلم في شؤونه كلها فيسأل عن أمور العبادات والمعاملات وعن قضايا العقيدة وما يتعلق بذلك.
وأما السؤال عما لا نفع فيه للمسلم في حياته وآخرته فلا ينبغي السؤال عن ذلك ولا يجب على المسؤول أي العالم أو المفتي أن يجيبه على أمثال هذه الأسئلة كأن يسأل كيف هبط جبريل؟ وعلى أي صورة رآه النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ وحين رآه على صورة البشر هل بقي ملكاً أم لا؟ وأين الجنة وأين النار؟ ومتى الساعة ونزول عيسى عليه السلام؟ وإسماعيل أفضل أم إسحاق؟ وأيهما الذبيح؟ وفاطمة أفضل من عائشة أم لا؟ وأبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - كانا على أي دين؟ وما دين أبي طالب؟ ومن المهدي؟ إلى غير ذلك مما لا حاجة بالإنسان إليه ولا ينبغي أن يسأل عنه لأنه ليس تحته عمل ولا تجب عليه(6/519)
معرفته ولم يرد التكليف به. كما ذكره العلامة ابن عابدين في حاشيته رد المحتار على الدر المختار.
وقد أرشد ابن عباس - رضي الله عنه - مولاه عكرمة إلى قاعدة هامة في أمر الفتوى حين أمره أن يفتي الناس فقال له: (انطلق فأفت الناس وأنا عون لك فمن جاءك يسألك عما يعنيه فأفته ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته) .
وقال القاضي إياس بن معاوية: من المسائل ما لا ينبغي للسائل أن يسأل عنها ولا للمسؤول أن يجيب فيها.
ومن سؤال الفراغ والفضول ما وقع للإمام الشعبي فقد أتاه رجل فقال له: ما اسم امرأة إبليس؟ قال: ذاك عرس ما شهدته! .
ومن سؤال الفراغ أيضاً ما وقع لأحد كبار السادة المالكية (زياد بن عبد الرحمن القرطبي الملقب بشبطون) تلميذ مالك حكى القاضي عياض في ترجمته في ... " ترتيب المدارك " ما يلي: قال حبيب: كنا جلوساً عند زياد فأتاه كتاب من بعض الملوك ... فكتب فيه ثم طبع الكتاب ونفذ به الرسول. فقال زياد: أتدرون عما سأل صاحب هذا الكتاب؟ سأل عن كفتي ميزان الأعمال يوم القيامة أمن ذهب هي أم من ورق؟ - أي فضة - فكتبت إليه: حدثنا مالك عن ابن شهاب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) وسترد فتعلم.
وجاء في " ترتيب المدارك " للقاضي عياض في باب تحري مالك في العلم والفتيا والحديث وورعه فيه وإنصافه، وسأل مالكاً رجل عن رجل وطئ بقدمه دجاجة ميتة فأخرجت منها بيضة فأفقست البيضة عنده عن فرخ أيأكله؟ ... فقال مالك: سل عما يكون ودع ما لا يكون، وسأله آخر عن نحو هذا فلم يجبه فقال له: لم لا تجيبني يا أبا عبد الله؟ فقال له: لو سألت عما تنتفع به لأجبتك.
وسأله رجل عمن قال للآخر: يا حمار؟ قال: يجلد. قال: فإن قال له يا فرس؟ قال: تجلد أنت، ثم قال: يا ضعيف! وهل سمعت أحداً يقول لآخر: يا فرس؟! .(6/520)
وجاء في " الآداب الشرعية " لابن مفلح الحنبلي: قال أحمد بن حنبل سألني رجل مرة عن يأجوج ومأجوج أمسلمون هم؟ فقلت له: أحكمت العلم - كله - حتى تسأل عن ذا؟!
قال الحافظ ابن حجر: وقد ذم السلف البحث عن أمور معينة ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها ومنها ما لا يكون له شاهد في عالم الحس كالسؤال عن الساعة والروح ومدة هذه الأمة إلى أمثال ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل الصرف وأكثر ذلك لم يثبت فيه شيء فيجب الإيمان به بغير بحث] الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ص 264-266 الهامش.
وقد فصل الإمام الشاطبي المواضع التي يكره السؤال عنها فقال: [ويتبين من هذا أن لكراهية السؤال مواضع نذكر منها عشرة مواضع:
أحدها السؤال عما لا ينفع في الدين، كسؤال عبد الله بن حذافة: من أبي وروي في التفسير أنه عليه السلام الصلاة والسلام: (سئل ما بال الهلال يبدو رقيقاً كالخيط ثم لا يزال ينمو حتى يصير بدراً ثم ينقص إلى أن يصير كما كان؟ فأنزل الله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) الآية، فإنما أجيب بما فيه منافع الدين.
والثاني: أن يسأل بعد ما بلغ من العلم حاجته كما سأل الرجل عن الحج أكل عام؟ مع أن قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) قاض بظاهره أنه للأبد لإطلاقه، ومثله سؤال بني إسرائيل بعد قوله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) .
والثالث: السؤال من غير احتياج إليه في الوقت وكأن هذا - والله أعلم - بما لم ينزل فيه حكم وعليه يدل قوله: (ذروني ما تركتمكم) وقوله: (وسكت عن أشياء رحمة لكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها) .
والرابع: أن يسأل عن صعاب المسائل وشرارها كما جاء في النهي عن الأغلوطات.
والخامس: أن يسأل عن علة الحكم وهو من قبيل التعبدات التي لا(6/521)
يعقل لها معنى أو السائل ممن لا يليق به ذلك السؤال كما في حديث قضاء الصوم دون الصلاة.
والسادس: أن يبلغ بالسؤال إلى حد التكلف والتعمق وعلى ذلك يدل قوله تعالى: (مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) ولما سأل الرجل: يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع؟ قال عمر بن الخطاب: يا صاحب الحوض لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا. الحديث.
والسابع: أن يظهر من السؤال معارضة الكتاب والسنة بالرأي ولذلك قال سعيد: أعراقي أنت؟ وقيل لمالك بن أنس الرجل يكون عالماً بالسنة أيجادل عنها؟ قال: لا ولكن يخبر بالسنة فإن قبلت منه وإلا سكت.
والثامن السؤال عن المتشابهات وعلى ذلك يدل قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ) الآية. وعن عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه عرضا للخصومات أسرع التنقل. ومن ذلك سؤال من سأل مالكاً عن الاستواء فقال الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والسؤال عنه بدعة.
والتاسع: السؤال عما شجر بين السلف الصالح وقد سئل عمر بن عبد العزيز عن قتال أهل صفين فقال: تلك الدماء كف الله عنها يدي فلا أحب أن يلطخ بها لساني.
والعاشر: سؤال التعنت والإفحام وطلب الغلبة في الخصام وفي القرآن في ذم نحو هذا: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) ، وقال: (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) . وفي الحديث: (أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم) .
هذه جملة المواضع التي يكره السؤال فيها يقاس عليها ما سواها وليس النهي فيها واحداً بل فيها ما تشتد كراهيته ومنها ما يخف، ومنها ما يحرم ومنها ما يكون محل اجتهاد وعلى جملة منها يقع النهي عن الجدال في الدين كما جاء ... (إن المراء في القرآن كفر) وقال تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيءَايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) الآية! وأشباه ذلك من الآيات والأحاديث فالسؤال في مثل ذلك منهي عنه والجواب بحسبه] الموافقات 4/319-321.(6/522)
وقد روى أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال عن الصحابة رضي الله عنهم: (ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم) . الفتوى في الإسلام ص 175.
وقال الشيخ القرافي: [وينبغي للمفتي: إذا جاءته فتيا في شأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو فيما يتعلق بالربوبية يسأل عن أمور لا تصلح لذلك السائل لكونه من العوام الجلف أو يسال عن المعضلات ودقائق أصول الديانات ومتشابه الآيات والأمور التي لا يخوض فيها إلا كبار العلماء ويعلم أن الباعث له على ذلك إنما هو الفراغ والفضول والتصدي لما لا يصلح له: فلا يجيبه أصلاً ويظهر له الإنكار على مثل هذا، ويقول له: اشتغل بما يعنيك من السؤال عن صلاتك وأمور معاملاتك ولا تخض فيما عساه يهلكك لعدم استعدادك له.
وإن كان الباعث له شبهة عرضت له: فينبغي أن يقبل عليه ويتلطف به في إزالتها بما يصل إليه عقله فهداية الخلق فرض على من سئل. والأحسن أن يكون البيان له باللفظ دون الكتابة فإن اللسان يفهم ما لا يفهم القلم لأنه حي والقلم موات فإن الخلق عيال الله وأقربهم إليه أنفعهم إلى عياله لا سيما في أمر الدين وما يرجع إلى العقائد] الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ص 264-266.
وخلاصة الأمر أن المسلم لا يسأل إلا عن الأمور التي يتعلق بها عمل وتكليف وأما الأمور التي لا يترتب عليها عمل فلا ينبغي السؤال عنها.
* * *
حكم سب العلماء
لا ريب أن احترام العلماء وتقديرهم من الأمور الواجبة شرعاً وإن خالفناهم الرأي فالعلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء قد ورثوا العلم وأهل العلم لهم حرمة. وقد وردت نصوص كثيرة في تقدير العلماء واحترامهم، قال(6/523)
الإمام النووي: [باب توقير العلماء والكبار وأهل الفضل وتقديمهم على غيرهم ورفع مجالسهم وإظهار مرتبتهم] . ثم ذكر قول الله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) سورة الزمر الآية 9، ثم ساق الإمام النووي طائفة من الأحاديث في إكرام العلماء والكبار وأحيل القارئ إلى كتاب رياض الصالحين للإمام النووي ص 187-192.
ومع كل هذه النصوص التي تحث على ما سبق وغيرها من النصوص الشرعية التي تحرم السب والشتم واللعن والوقوع في أعراض المسلمين إلا أن بعض الناس من أشباه طلبة العلم ليس لهم شغل إلا شتم العلماء وسبهم على رؤوس الأشهاد في المساجد وفي الصحف والمجلات ويحاول هؤلاء الصبية تشويه صورة العلماء وتنفير عامة الناس منهم لأن هؤلاء العلماء علماء السلاطين - كما يزعم هؤلاء النكرات - ومن العلماء الفضلاء الذين تعرضوا وما زالوا يتعرضون لهذه الهجمة الشرسة العلامة الفقيه الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله ورعاه، فالشيخ القرضاوي لا ينكر علمه وفضله إلا حاقد أو جاهل. والشيخ القرضاوي لا يحبه ويقدره إلا من تأدب بأدب الإسلام ولا يبغضه ولا يشتمه إلا سفيه أو جاهل أو حاقد ليس له نصيب من أدب الإسلام.
إن أدعياء الوعي وأدعياء الفكر والثقافة يشتمون الشيخ القرضاوي بغير وعي ولا يعرفون ماذا يصدر منهم من فظائع لا يجوز أن تقال في حق واحد من عامة الناس فضلاً أن تقال في حق عالم من علماء الأمة كالشيخ القرضاوي.
إن هجمتهم الشرسة على العلامة القرضاوي تثير التساؤل، فهذه الهجمة تخدم أعداء الأمة الذين طالبوا بإغلاق السبل أمام الشيخ القرضاوي كيلا يخاطب الأمة الإسلامية.
وأتساءل لمصلحة من يهاجم علماء الأمة؟ ولمصلحة من يشتم العلماء؟
هل هذه هي الطريق لإقامة الخلافة؟ هل علماء الأمة حالوا دون إقامة(6/524)
دولة الخلافة؟ أم أن بعض الناس يعلق فشله وعجزه على الآخرين؟ لماذا يوصف العلماء بالخيانة أو السذاجة والبلاهة؟ هل يصح أن يقال في علماء الأمة: " ومن الملمَّعين المنافقين "؟ كيف عرفتم أنهم منافقون؟ هل شققتم على قلوبهم؟
ألم تسمعوا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأسامة بن زيد - رضي الله عنه - لما قتل رجلاً بعد أن قال لا إله إلا الله: (أفلا شققت على قلبه؟) رواه مسلم.
ألم تسمعوا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم) رواه البخاري ومسلم.
هل علمتم دخيلة الشيخ القرضاوي ونيته وأنه لا يريد من برامجه إلا المحافظة على مكاسب الشهرة؟! هل كلام الشيخ القرضاوي ينضح بالجهل أو التجاهل؟ أم أن كل إناء بما فيه ينضح؟
إن الشيخ القرضاوي محل ثقة أهل العلم وجماهير الناس شرقاً وغرباً والشيخ القرضاوي ليس بحاجة لينال ثقة أشباه طلبة العلم وصغارهم.
فالناس يأخذون علمهم عن الشيخ القرضاوي وأمثاله من العلماء الكبار ولا يأخذون عن الأصاغر فإن الأخذ عن الأصاغر هَلَكَةٌ في الدين.
قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: (لا يزال الناس مشتملين بخير ما أتاهم العلم من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن أكابرهم فإذا أتاهم العلم من قبل أصاغرهم وتفرقت أهواؤهم هلكوا) رواه أبو عبيد والطبراني في الكبير والأوسط، وقال الهيثمي رجاله موثقون.
ورواه أبو نعيم في الحلية ولفظه قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - (لا يزال الناس بخير ما أتاهم العلم من علمائهم وكبرائهم وذوي أسنانهم فإذا أتاهم العلم عن صغارهم وسفهائهم فقد هلكوا) .
وورد في رواية أخرى عند الخطيب في تاريخه بلفظ (فإذا أتاهم العلم عن صغارهم وسفلتهم فقد هلكوا) . إتحاف الجماعة 2/ 105.
إن الأمة بحاجة ماسة لعلم الشيخ القرضاوي وفهمه النير لأحكام(6/525)
الإسلام، وليست بحاجة إلى العلم بطلب النصرة من الكفرة وأعداء الدين حتى يقدموا الخلافة على طبق من ذهب لبعض الناس! وهم فقط ينتظرون حدوث ذلك الأمر البعيد إن لم يكن المستحيل.
إن مبدأ طلب النصرة من غير المقتنعين بالفكرة مبدأ خاطئ ليس عليه دليل صحيح من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنهجه وإن حاولوا إثباته.
إن الأمة لن تنظر إن شاء الله بارتياب إلى فتاوى وآراء العلامة القرضاوي، بل تتقبلها قبولاً حسناً، ولكن الأمة لتنظر بارتياب لمن يهاجم القرضاوي ويسبه ويشتمه لأن هؤلاء السابين الشاتمين هم الذين خرجوا عن أدب الحوار والخلاف ووصل بهم الأمر إلى اتهام نيات العلماء وطعنهم في إيمانهم!!
أهكذا يكون النقد العلمي؟ قال الإمام الذهبي يرحمه الله: [ما زال الأئمة يخالف بعضهم بعضاً ويرد هذا على هذا ولسنا ممن يذم العالم بالهوى والجهل] سير أعلام النبلاء 19/342.
أيها الناس تأدبوا مع العلماء، واعرفوا لهم مكانتهم، فما فاز من فاز إلا بالأدب وما سقط من سقط إلا بسوء الأدب.
واعلموا أن الأمة لا تحترم ولا تقدر إلا من يحترم العلماء والأئمة.
قال الحافظ ابن عساكر يرحمه الله مخاطباً رجلاً تجرأ على العلماء: [إنما نحترمك ما احترمت الأئمة] .
وأخيراً أختم بكلمة نيرة مضيئة قالها الحافظ ابن عساكر يرحمه الله: [اعلم يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ]
* * *(6/526)
حكم سب الأموات
يقول السائل: ما حكم سب الأموات وذكر مساوئهم؟
الجواب: وردت أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تنهى عن سب الأموات عامة كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا) رواه البخاري في باب ما ينهى عن سب الأموات. صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 3/502.
وورد في الحديث عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تسبوا أمواتنا فتؤذوا أحياءنا) رواه أحمد والنسائي. وفي رواية عند ابن حبان: (لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء) وقال محقق صحيح ابن حبان: إسناده صحيح على شرط الشيخين. وذكر أن الحديث رواه أحمد والطبراني. انظر صحيح ابن حبان 7/292. ورواه الترمذي أيضاً وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 2/190.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا مات صاحبكم فدعوه) رواه أبو داود والترمذي وابن حبان وفي رواية أبي داود: (إذا مات صاحبكم فدعوه لا تقعوا فيه) وقال الألباني: صحيح. انظر صحيح سنن أبي داود 3/926.
وجاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساوئهم) رواه أبو داود والترمذي وابن حبان والحديث فيه اختلاف فقد سكت عنه أبو داود وصححه ابن حبان، وقال الحافظ ابن حجر: إنه من شرط الحسن. شرح ابن علان على الأذكار 4/211، وذكر محقق الأذكار أن الحديث حسن بشواهده ص 141.
وعن عائشة رضي الله عنها: (أنه ذكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - هالك - أي ميت - بسوء فقال: لا تذكروا هلكاكم إلا بخير) رواه النسائي وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي 2/417.(6/527)
ويرى كثير من أهل العلم أن عموم هذه الأحاديث مخصوص ويرى بعض شراح صحيح البخاري أن ترجمة البخاري للباب بما ذكر أعلاه يشير إلى ذلك.
قال الحافظ ابن حجر: [قال الزين بن المنير: لفظ الترجمة يشعر بانقسام السب إلى منهي وغير منهي، ولفظ الخبر مضمونه النهي عن السب مطلقاً، والجواب أن عمومه مخصوص بحديث أنس السابق حيث قال - صلى الله عليه وسلم - عند ثنائهم بالخير وبالشر: (وجبت وأنتم شهداء الله في الأرض) ولم ينكر عليهم.
ويحتمل أن اللام في الأموات عهدية والمراد به المسلمون لأن الكفار مما يتقرب إلى الله بسبهم.
وقال القرطبي في الكلام على حديث وجبت: يحتمل أجوبة:
الأول: أن الذي كان يحدث عنه بالشر كان مستظهراً به فيكون من باب لا غيبة لفاسق أو كان منافقاً ثانيها: يحمل النهي على ما بعد الدفن والجواز على ما قبله ليتعظ به من يسمعه.
ثالثها: يكون النهي العام متأخراً فيكون ناسخاً وهذا ضعيف.
وقال ابن رشيد ما محصله: إن السب ينقسم في حق الكفار وفي حق المسلمين أما الكافر فيمنع إذا تأذى به الحي المسلم. وأما المسلم فحيث تدعو الضرورة إلى ذلك كأن يصير من قبيل الشهادة وقد يجب في بعض المواضع وقد يكون فيه مصلحة للميت كمن علم أنه أخذ ماله بشهادة زور ومات الشاهد فإن ذكر ذلك ينفع الميت إن علم أن ذلك المال يرد إلى صاحبه. قال ولأجل الغفلة عن هذا التفصيل ظن بعضهم أن البخاري سها عن حديث الثناء بالخير والشر وإنما قصد البخاري أن يبين أن ذلك الجائز كان على معنى الشهادة وهذا الممنوع وهو على معنى السب
وتأول بعضهم الترجمة الأولى على المسلمين خاصة والوجه عندي(6/528)
حمله على العموم إلا ما خصصه الدليل بل لقائل أن يمنع ما كان على جهة الشهادة، وقصد التحذير يسمى سباً في اللغة.
وقال ابن بطال: سب الأموات يجري مجرى الغيبة فإن كان أغلب أحوال المرء الخير وقد تكون منه الفلتة فالاغتياب له ممنوع وإن كان فاسقاً معلناً فلا غيبة له فكذلك الميت ويحتمل أن يكون النهي على عمومه فيما بعد الدفن والمباح ذكر الرجل بما فيه قبل الدفن ليتعظ بذلك فسّاق الأحياء فإذا صار إلى قبره أمسك عنه لإفضائه إلى ما قدم وقد عملت عائشة راوية هذا الحديث بذلك في حق من استحق عندها اللعن فكانت تلعنه وهو حي فلما مات تركت ذلك ونهت عن لعنه
قوله: (أفضوا) أي وصلوا إلى ما عملوا من خير أو شر واستدل به على منع سب الأموات مطلقاً وقد تقدم أن عمومه مخصوص وأصح ما قيل في ذلك أن أموات الكفار والفساق يجوز ذكر مساوئهم للتحذير منهم والتنفير عنهم. وقد أجمع العلماء على جواز جرح المجروحين من الرواة أحياءً وأمواتاً] فتح ... الباري 3/502-503.
وقال الإمام النووي: [قال العلماء يحرم سب الميت المسلم الذي ليس معلناً بفسقه وأما الكافر والمعلن بفسقه من المسلمين ففيه خلاف للسلف وجاءت فيه نصوص متقابلة وحاصله أنه ثبت في النهي عن سب الأموات ما ذكرناه في هذا الباب وجاء في الترخيص في سب الأشرار أشياء كثيرة منها ما قصه الله علينا في كتابه العزيز وأمرنا بتلاوته وإشاعة قراءته ومنها أحاديث كثيرة في الصحيح كالحديث الذي ذكر فيه - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن لحي وقصة أبي رغال الذي كان يسرق الحاج بمحجنه وقصة ابن جدعان وغيرهم. ومنها الحديث الصحيح الذي قدمناه لما مرّت جنازة فأثنوا عليها شراً فلم ينكر عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بل قال: (وجبت) .
واختلف العلماء في الجمع بين هذه النصوص على أقوال أصحها وأظهرها أن أموات الكفار يجوز ذكر مساوئهم وأما أموات المسلمين المعلنين بفسق أو بدعة أو نحوهما فيجوز ذكرهم بذلك إذا كان فيه مصلحة(6/529)
لحاجة إليه للتحذير من حالهم والتنفير من قبول ما قالوه والاقتداء بهم فيما فعلوه وإن لم تكن حاجة لم يجز، وعلى هذا التفصيل تنزل هذه النصوص. وقد أجمع العلماء على جرح المجروح من الرواة والله أعلم] الأذكار ص 141.
وخلاصة ما يؤخذ من هذه الأحاديث ما يلي:
1. تحريم سب الأموات لأنهم قد أفضوا إلى ما قدموا من خير أو شر فلا فائدة من سبهم ولأن ذلك يؤذي الأحياء.
2. حرمة الأموات من المسلمين كحرمة الأحياء منهم.
3. يجوز ذكر الأموات بما فيهم إن كان لمصلحة شرعية لا تتحقق إلا بذلك كتحذير الناس من بدعته والاقتداء بآثاره والتخلق بأخلاقه.
4. الكافر والمنافق معلوم النفاق كلام أهل الإيمان فيه شهادة عليه فمن ذكره المؤمنون بشر فقد وجبت له. انظر موسوعة المناهي الشرعية 2/49-50.
* * *
حكم من مات وليس في عنقه بيعة
يقول السائل: ما معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) ؟
الجواب: هذا بعض حديث رواه الإمام مسلم في صحيحه بإسناده عن زيد بن محمد عن نافع قال: جاء عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - إلى عبد الله بن مطيع حين كان أمر الحرة ما كان زمن يزيد بن معاوية فقال: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة. فقال: إني لم آتك لأجلس أتيتك لأحدثك حديثاً، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوله، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية] صحيح مسلم 4/549.(6/530)
والمراد بالبيعة في هذا الحديث بيعة إمام المسلمين أو خليفة المسلمين الذي يبايعه أهل الحل والعقد من أمة الإسلام وهذا الحديث لا ينطبق على حكام هذا الزمان أو زعماء الأحزاب والجماعات المختلفة لأن كلاً منهم ليس إماماً لجماعة المسلمين وقد ذكر أهل العلم شروطاً لصحة البيعة منها أن يكون في المبَايَعُ له شروط الإمامة وقد فصلها العلماء في كتبهم وأن يكون المتولي لعقد البيعة - بيعة الانعقاد - أهل الحل والعقد، قال الماوردي: [فإذا اجتمع أهل العقد والحل للاختيار تصفحوا أحوال أهل الإمامة الموجودة فيهم شروطها فقدموا للبيعة منهم أكثرهم فضلاً وأكملهم شروطاً ومن يسرع الناس إلى طاعته ولا يتوقفون عن بيعته] الأحكام السلطانية ص 19.
وعليه فإن أهل الحل والعقد من المسلمين هم الذين يتولون اختيار إمام المسلمين وخليفتهم ولا عبرة بقول العوام في بيعة الانعقاد قال الرملي الشافعي: [أما بيعة غير أهل الحل والعقد من العوام فلا عبرة لها] نهاية المحتاج 7/390.
ولا يصح دعوى بعض الحزبيين أن من لم يبايع أمير حزبهم فإنه إذا مات مات ميتة جاهلية فهذه الدعوى تعدٍ على سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتنزيل للنصوص على غير محلها الصحيح وتلاعب بعقول العوام وترهيب لهم في غير موضعه فإن المقصود بالحديث إمام جماعة المسلمين وليس زعيم فئة من فئات المسلمين الكثيرة والمتناحرة فيما بينها.
وإمام المسلمين الذي تجب له البيعة له شروط ذكرها أهل العلم كما أشرت سابقاً وهذه الشروط لا تنطبق على قادة الأحزاب والجماعات الموجودة حالياً.
وحديث ابن عمر محل السؤال ذكره الإمام النووي في: [باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين ... ] شرح النووي على صحيح مسلم 4/546.
فالمقصود بالحديث: [من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية(6/531)
أي عند وجود الإمام الشرعي فقط وهذا هو الفهم الصحيح للحديث أنه إذا كان هناك إمام شرعي توفرت فيه شروط صحة البيعة وانتفت نواقضها فإنه يجب على المسلم أن يبادر إلى البيعة إذا كان من أهل الحل والعقد أو طلبت منه ولا يجوز له أن يبيت ولا يراه إماماً أما إذا لم تكن شروط صحة البيعة متوفرة في هذا الحاكم فليس عليه واجب البيعة بل عليه أن يسعى لإيجاد الإمام الشرعي حسب طاقته ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
والذي يدل على أن الحديث خلاف ظاهره ما يلي:
1. أن البيعة واجبة وجوباً كفائياً إذا قام به البعض سقط عن الباقين كما هو قول الجمهور.
2. فعل راوي الحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما نفسه فهو أولى بفهم الحديث على وجهه الصحيح من غيره فقد قال عنه الحافظ ابن حجر: أنه امتنع أن يبايع لعلي أو معاوية، ثم بايع لمعاوية لما اصطلح مع الحسن بن علي واجتمع عليه الناس، وبايع لابنه يزيد بعد موت معاوية لاجتماع الناس عليه ثم امتنع من المبايعة لأحد حال الاختلاف إلى أن قتل ابن الزبير وانتظم الملك كله لعبد الملك بن مروان فبايع له حينئذ.
فلو فهم الحديث على ظاهره لما بات ليلة إلا وفي عنقه بيعة لأحدهما يعطيها من يدله عليه اجتهاده على أنه أقرب للصواب وقد روي عنه قوله: ... لكني أكره أن أبايع أميرين قبل أن يجتمع الناس على أمير واحد.
فالمقصود أنه أخذ مدة وليس في عنقه بيعة لأحد وهذا على خلاف ظاهر الحديث لانتفاء أحد شروط صحة البيعة وهو أن يكون المبايع واحداً كما مرّ] الإمامة العظمى ص 214-215.
وخلاصة الأمر أن البيعة المقصودة في الحديث هي بيعة إمام جماعة المسلمين وليس زعيم جماعة من جماعات المسلمين.
* * *(6/532)
موقف المسلم عند حلول المصائب
يقول السائل: ما موقف المسلم عندما تحل عليه المصائب كموت عزيز عليه؟
الجواب: المطلوب من المسلم أن يصبر ويحتسب ويسترجع فيقول " إنا لله وإنا إليه لراجعون " ويحرم شق الجيوب أي تمزيق الثياب ولطم الخدود ونشر الشعر والنياحة
أما الصبر فقد حث الله سبحانه وتعالى المؤمنين في كتابه الكريم على الصبر وكذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد وردت نصوص كثيرة في كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - في الصبر منها:
قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) سورة آل عمران الآية 200.
وقال تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) سورة البقرة 45.
وقال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) سورة البقرة الآية 155-157.
وقال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) سورة محمد الآية 31.
وقال تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) سورة الزمر الآية 10.
وقال تعالى: (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) سورة النحل الآية 126.
وقال تعالى: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) سورة الشورى الآية 43.
وصح في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (والصبر ضياء) رواه مسلم.(6/533)
وعن صهيب الرومي - رضي الله عنه - قال: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له) رواه مسلم.
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله به -إنا لله وإنا إليه راجعون - اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها إلا أخلف الله له خيرا منها) رواه مسلم.
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: (أرسلت بنت النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن ابني قد احتضر فاشهدنا فأرسل يقرئ السلام ويقول: إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فلتصبر ولتحتسب. فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينها. فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال رضي الله عنهم فرفع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبي فأقعده في حجره ونفسه تقعقع ففاضت عيناه فقال سعد: يا رسول الله ما هذا؟ فقال: هذه رحمة جعلها الله تعالى في قلوب عباده) وفي رواية: (في قلوب من شاء من عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء) متفق عليه.
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: (مرّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بامرأة تبكي عند قبر فقال: اتقي الله واصبري. فقالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي! ولم تعرفه فقيل لها: إنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتت باب النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم تجد عنده بوابين فقالت: لم أعرفك. فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى) متفق عليه.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله قال: (يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة) رواه البخاري.
فالصبر على البلاء بشتى أنواعه وأشكاله مطلوب من المسلم فإنه وإن كان شديداً على النفس وصعباً عليها فعلى المسلم أن يصبر نفسه فالصبر على البلاء بضاعة الصديقين ويدل على قوة اليقين بالله تعالى فلذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه: ... (وأسألك من اليقين ما تهون عليَّ به مصائب(6/534)
الدنيا) رواه الترمذي وقال حديث حسن، ورواه النسائي والحاكم وصححه.
ومما يؤسف له أن كثيراً من الناس وخاصة من النساء إذا أصابتهم مصيبة كموت ولد أو أخ أو زوج أو قريب أنهم يفقدون السيطرة على أعصابهم فيقعون في أمور محرمة نهى عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقد أخبر الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - أن من أمور الجاهلية الباقية في الأمة النياحة على الأموات فقد جاء في الحديث عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة وقال: النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: (اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة على الميت) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (لما مات إبراهيم ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاح أسامة بن زيد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليس هذا مني وليس بصائح حق، القلب يحزن والعين تدمع ولا نغضب الرب) رواه ابن حبان والحاكم وسنده حسن كما قال الشيخ الألباني في أحكام الجنائز ص 27.
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية) متفق عليه.
وجاء في حديث إحدى النساء اللواتي بايعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: (كان فيما أخذ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المعروف الذي أخذ علينا أن لا نعصيه فيه وأن لا نخمش وجهاً ولا ندعو ويلاً ولا نشق جيباً وأن لا ننشر شعراً) رواه أبو داود والبيهقي بسند صحيح، قاله الشيخ الألباني في أحكام الجنائز ص 30
* * *(6/535)
ثواب المسلم على مصيبته
يقول السائل: هل يثاب الإنسان على المصائب التي تصيبه كالمرض والعمى وموت قريب؟
الجواب: الذي عليه جمهور العلماء أن الإنسان المؤمن يثاب على المصائب التي تنزل به وتكفر خطاياه وترفع درجته ويزاد في حسناته وقد وردت أحاديث كثيرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك منها:
عن عائشة رضي الله قالت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ما من شيء يصيب المؤمن حتى الشوكة تصيبه إلا كتب الله له حسنة أو حطت عنه بها خطيئة) رواه مسلم.
وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر به من سيئاته) رواه البخاري ومسلم واللفظ له، والوصب هو المرض والنصب هو التعب.
وفي رواية البخاري: (ما يصب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه) .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يوعك فمسسته بيدي فقلت يا رسول الله: إنك لتوعك وعكاً شديداً. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم. قال فقلت: ذلك أن لك أجرين. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أجل.
ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها) رواه البخاري ومسلم واللفظ له، وغير ذلك من الأحاديث.
قال الإمام النووي: [في هذه الأحاديث بشارة عظيمة للمسلمين فإنه قلما ينفك الواحد منهم ساعة من شيء من هذه الأمور وفيه تكفير الخطايا(6/536)
بالأمراض والأسقام ومصائب الدنيا وهمومها وإن قلت مشقاتها وفيه رفع الدرجات بهذه الأمور وزيادة الحسنات وهذا هو الصحيح الذي عليه الجماهير] شرح النووي على صحيح مسلم 6/99-100.
وينبغي أن يعلم أن الذنوب التي تكفرها المصائب والأمراض والهم والغم هي صغائر الذنوب لا كبائرها كما قال جمهور العلماء.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [وفي هذه الأحاديث بشارة عظيمة لكل مؤمن لأن الآدمي لا ينفك غالباً من ألم بسب مرض أو هم أو نحو ذلك مما ذكر وأن الأمراض والأوجاع والآلام بدنية كانت أو قلبية تكفر ذنوب من تقع له. وسيأتي في الباب الذي بعده من حديث ابن مسعود: (ما من مسلم يصيبه أذى إلا حاتَّ الله عنه خطاياه) وظاهره تعميم جميع الذنوب لكن الجمهور خصوا ذلك بالصغائر للحديث الذي تقدم التنبيه عليه في أوائل الصلاة (الصلوات الخمس والجمعة للجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر) فحملوا المطلقات الواردة في التكفير على هذا المقيد ويحتمل أن يكون معنى هذه الأحاديث التي ظاهرها التعميم أن المذكورات صالحة لتكفير الذنوب فيكفر الله بها ما شاء من الذنوب ويكون كثرة التكفير وقلته باعتبار شدة المرض وخفته. ثم المراد بتكفير الذنب ستره أو محو أثره المرتب عليه من استحقاق العقوبة] فتح الباري 12/212.
وقد اشترط بعض أهل العلم لحصول الثواب والتكفير عن الخطايا والذنوب بأن يصبر المصاب بها ويحتسب أما إذا لم يصبر ولم يحتسب فلا أجر له.
قال الإمام أبو العباس القرطبي المحدث: [ومقصود هذه الأحاديث أن الأمراض والأحزان وإن دقت والمصائب وإن قلت أجر المؤمن على جميعها وكفرت عنه بذلك خطاياه حتى يمشي على الأرض وليست له خطيئة كما جاء في الحديث الآخر لكن هذا كله إذا صبر المصاب واحتسب وقال ما أمر الله به في قوله: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) سورة البقرة 156. فمن كان كذلك وصل إلى ما وعد الله به ورسوله من ذلك] المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 6/546(6/537)
ولكن الحافظ ابن حجر لم يوافق القرطبي على ذلك ويرى أن مجرد حصول المرض أو غيره مما ذكر يترتب عليه التكفير المذكور سواء انضم إلى ذلك صبر المصاب أم لا. فتح الباري 12/212.
ويرى بعض أهل العلم أن الذنوب والمصائب تكون كفارة للذنوب فقط ولا يثاب الإنسان عليها.
والذي تؤيده الأدلة أن الذنوب والمصائب تكفر الذنوب ويثاب المؤمن عليها فقد ورد في إحدى روايات حديث عائشة المتقدم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له درجة ومحيت عنه بها خطيئة) رواه مسلم.
وجاء في حديث آخر قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ما ضرب على مؤمن عرق قط إلا حط الله به عنه خطيئة وكتب له حسنة ورفع له درجة) رواه الطبراني في الأوسط وسنده جيد كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري 12/208.
وورد في الحديث عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (عجب للمؤمن إذا أصابه خير حمد الله وشكر وإن أصابته مصيبة حمد الله وصبر فالمؤمن يؤجر في كل أمره حتى يؤجر في اللقمة يرفعها إلى في امرأته) رواه أحمد، وسنده قوي كما قال محقق شرح السنة 5/448.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [وممن جاء عنه أن المريض يكتب له الأجر بمرضه أبو هريرة فعند البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح عنه أنه قال: (ما من مرض يصيبني أحب إليَّ من الحمى لأنها تدخل في كل عضو مني وإن الله يعطي كل عضو قسطه من الأجر) ومثل هذا لا يقوله أبو هريرة برأيه] فتح الباري 12/213.
وقال الحافظ أيضاً: [والتحقيق أن المصيبة كفارة لذنب يوازيها وبالرضا يؤجر على ذلك فإن لم يكن للمصاب ذنب عوض عن ذلك من الثواب بما يوازيه] المصدر السابق.
* * *(6/538)
أول خلق الله
يقول السائل: إنه قرأ في إحدى النشرات التي وزعت في بعض المساجد أن نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - هو أول مخلوقات الله، فما قولكم في ذلك؟
الجواب: إن الزعم بأن سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو أول خلق الله كما يقول بعض الدجالين ما هو إلا كذب وافتراء على دين الله والإسلام منه بريء. وهذا من الغلو في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الغلو فقد جاء في الحديث عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إياكم والغلو في الدين إنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين) رواه أحمد والنسائي وابن ماجة وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة 1283.
وعن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله) رواه البخاري. والزعم بأن سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو أول مخلوقات الله من ترهات الصوفية وضلالاتهم فمن المعروف عند أهل العلم أن المتصوفة قد انحرفوا انحرافاً خطيراً تجاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتجاوزوا به المنزلة التي أنزله الله سبحانه وتعالى فادعوا أنه أول مخلوق وأنه مخلوق من نور وأن جميع ما في هذا الكون تفرع عنه بعد ذلك وأن جميع علوم الرسل الذين أرسلوا من قبله فاضت عليهم من علمه بل ادعوا بأن علم اللوح والقلم من علمه - صلى الله عليه وسلم - وأن الدنيا وما فيها والآخرة وما فيها من جوده - صلى الله عليه وسلم - إلى غير ذلك من الأباطيل التي قالها هؤلاء كشيخهم الأكبر ابن عربي فقد قال: [قال تعالى: (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح) فشبه نوره بالمصباح فلم يكن أقرب إليه تعالى قبولاً في ذلك الهباء إلا حقيقة محمد - صلى الله عليه وسلم - المسماة بالعقل فكان سيد العالم بأسره وأول ظاهر في الوجود فكان وجوده من ذلك النور الإلهي ... ) الفتوحات المكية 2/227.
وقد اعتمد هؤلاء الدجاجلة على بعض الأحاديث المكذوبة لتأييد مزاعمهم الباطلة هذه فمنها ما نسبوه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (كنت نبياً وآدم(6/539)
بين الماء والطين) فهذا الحديث مكذوب موضوع ومثله ما نسبوه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (كنت نبياً ولا آدم ولا ماء ولا طين) فهذا الحديث أيضاً مكذوب موضوع كما قال العلامة الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 1/316.
وذكره السيوطي في ذيل الأحاديث الموضوعة وقال الزركشي لا أصل له بهذا اللفظ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [لا أصل له من نقل ولا من عقل فإن أحداً من المحدثين لم يذكره ومعناه باطل فإن آدم عليه السلام لم يكن بين الماء والطين فإن الطين ماء وتراب وإنما كان بين الروح والجسد ثم هؤلاء الضلال يتوهمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان حينئذ موجوداً وأن ذاته خلقت قبل الذوات ويستشهدون على ذلك بأحاديث مفتراة مثل حديث فيه أنه كان نوراً حول العرش فقال: يا جبريل أنا كنت ذلك النور ويدعي أحدهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحفظ القرآن قبل أن يأتيه به جبريل] السلسلة الضعيفة 1/316. واحتجوا أيضاً بالحديث المكذوب: [كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث] وهذا الحديث موضوع ذكره ملا علي القاري في الموضوعات الكبرى وذكره الشوكاني في الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ص 326، وذكر أن الصغاني قال أنه موضوع واحتجوا بما ورد في الحديث المكذوب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يا جابر إن الله تعالى قد خلق قبل الأشياء نور نبيك ... الخ) فحديث جابر هذا المنسوب إلى عبد الرزاق موضوع لا أصل له وقد عزاه غير واحد إلى عبد الرزاق خطأ فهو غير موجود في مصنفه ولا جامعه ولا تفسيره. ومن الذين نسبوه إلى عبد الرزاق ابن العربي الحاتمي في " تلقيح الأذهان " والديار بكري في كتاب " الخميس في تاريخ أنفس نفيس " والعجلوني في " كشف الخفاء " وفي " الأوائل العجلونية " وقال السيوطي في الحاوي في الفتاوى: أما حديث أولية النور المحمدي فلا يثبت. وقد حكم الشيخ عبد الله بن الصديق في رسالة " مرشد الحائر لبيان وضع حديث جابر " على هذا الحديث بالوضع وقد سبقه إلى ذلك أخوه أحمد بن الصديق فليتنبه إلى ذلك] شرح الزرقاني على المواهب 1/89. وذكر الشيخ الألباني أنه(6/540)
باطل.
السلسلة الصحيحة 459 وبين بطلانه الشيخ أحمد الشنقيطي في رسالته بعنوان تنبه الحذاق على بطلان ما شاع بين الأنام من حديث النور المنسوب لمصنف عبد الرزاق.
فهذه الأحاديث التي احتج بها هؤلاء مكذوبة لا تصلح لأن يثبت بها أمر من أمور العقيدة فالرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - ليس أول مخلوق ولا هو مخلوق من نور كما يزعم المتصوفة بل الرسول - صلى الله عليه وسلم - مخلوق بشري خلق مما يخلق منه البشر ومرَّ بنفس الأدوار التي يمر بها البشر في بطن أمه ثم وضعته أمه كما تضع الأمهات ثم توفي عنه أبوه وتربى يتيماً مع أعمامه ومع هذا أقول: كوننا نقول إنه بشر مثلنا لا يحط هذا من مكانة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بل الكل يقر بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أفضل الخليقة على الإطلاق من إنس وجن وملائكة وله خصائص كثيرة خصه الله بها دون غيره من الرسل عليهم الصلاة والسلام. وبما أن الرسول محمداً - صلى الله عليه وسلم - من ذرية آدم عليه السلام كغيره من البشر وآدم أصله من تراب فإن أصل الرسول محمد أيضاً من تراب ومما يدل على أن أصل البشر من تراب الآيات التالية:
قول الله تعالى: (وإذ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) سورة ص الآيات 71-74. وقوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًاءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) سورة المؤمنون الآيات 12-14.
وعلى هذا نقول إن أول مخلوق بشري هو آدم عليه السلام وبما أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من ذرية آدم عليه السلام فهو بشر إذن وقد خلق مما يخلق منه البشر وهو الماء كما في قوله تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) سورة الإنسان الآية 2. والرسول - صلى الله عليه وسلم - بشر فهو مخلوق إذاً من نطفة كغيره من البشر وقد أمره الله أن يقول إنه بشر بقوله تعالى: (قل إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ(6/541)
فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) سورة الكهف الآية 110. ومعلوم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولد من أبوين قرشيين معروفين في القرن السادس الميلادي ولذا أقول إن اعتقاد المتصوفة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أول مخلوق وأنه مخلوق من نور اعتقاد باطل يصطدم مع النصوص القرآنية والحديثية القاطعة التي تثبت بشرية الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -] مظاهر الانحرافات العقدية عند ... الصوفية 1/374-375.
إن الغلو في شخصية المصطفى - صلى الله عليه وسلم - مخالف للعقيدة الصحيحة التي عليها أهل السنة والجماعة ومخالف لكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإن الاعتقاد الصحيح في شخصية المصطفى - صلى الله عليه وسلم - هو كما جاء في كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) سورة فصلت الآية 6.
وقال تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) سورة آل عمران الآية 144. وقال تعالى: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) سورة الضحى الآيتان 5-6. وقال تعالى: (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) سورة الشورى الآية 52.
وقال تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) سورة النساء الآية 113. وقال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) سورة الإسراء الآية 1. فسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو عبد الله ورسوله وهو بشر يجري عليه ما يجري على البشر في الأمور العادية وأوحى الله إليه وختم به النبوات والرسالات عليه أفضل الصلوات وأتم التسليمات ونحن حينما نعتقد في شخصية محمد - صلى الله عليه وسلم - ما أخبر به القرآن الكريم وما جاء عنه عليه الصلاة والسلام إنما نضع الأمور في موضعها الصحيح كما أراد الله سبحانه وتعالى وهذا هو الحق إن شاء الله وماذا بعد الحق إلا الضلال ولقد(6/542)
جاء في الحديث عن أنس أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (يا سيدنا وابن سيدنا ويا خيرنا وابن خيرنا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا أيها الناس قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان أنا محمد بن عبد الله ورسول الله والله ما أحب أن ترفعوني فوق ما رفعني الله عز وجل) رواه أحمد وسنده صحيح ورجاله ثقات كما قال الشيخ الساعاتي في الفتح الرباني 22/21 وقال الشيخ الألباني: صحيح على شرط مسلم. غاية المرام ص 99.
* * *
حديث لا يصح
يقول السائل: علقت في المسجد نشرة بعنوان علامات اقتراب الساعة ذكر فيها حديث طويل أخرجه أبو نعيم في الحلية أرجو بيان الحكم عليه ونص الحديث هو: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من اقتراب الساعة اثنتان وسبعون خصلة: إذا رأيتم الناس أماتوا الصلاة وأضاعوا الأمانة وأكلوا الربا واستحلوا الكذب واستخفوا بالدماء واشتغلوا بالبناء وباعوا الدين بالدنيا وتقطعت الأرحام ويكون الحكم ضعفاً والكذب صدقاً والحرير لباساً وظهر الجور وكثر الطلاق وموت الفجأة وائتمن الخائن وخوَّن الأمين وصدق الكاذب وكذب الصادق وكثر القذف وكان المطر قيظاً والولد غيظاً وفاض اللئام فيضاً وغاض الكرام غيضاً وكان الأمراء فجرة والوزراء كذبة والأمناء خونة والعرفاء ظلمة والقراء فسقه إذا لبسوا مسوك الضأن قلوبهم أنتن من الجيفة وأمرّ من الصبر يغشيهم الله فتنه يتهاوكون فيها تهاوك اليهود الظلمة وتظهر الصفراء وتطلب البيضاء وتكثر الخطباء ويقل الأمر بالمعروف وخليت المصاحف وصورت المساجد وطولت المنابر وخربت القلوب وشربت الخمور وعطلت الحدود وولدت الأمة ربتها وترى الحفاة العراء قد صاروا ملوكاً وشاركت المرأة زوجها في التجارة وتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال وحلف لغير الله وشهد المرء من غير أن يستشهد وسلم للمعرفة وتفقه لغير دين الله وطلبت الدنيا بعمل الآخرة واتخذ المغنم دولاً والأمانة مغنماً والزكاة مغرماً وكان(6/543)
زعيم القوم أرذلهم وعق الرجل أباه وجفا أمه وبر صديقه وأطاع امرأته وعلت أصوات الفسقة في المساجد واتخذ القينات والمعازف وشربت الخمور في الطرق واتخذ الظلم فخراً وبيع الحكم وكثرت الشرط واتخذ القرآن مزاميراً وجلود السباع صفاقاً ولعن آخر هذه الأمة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحاً حمراء وخسفاً ومسخاً وقذفاً وآيات) .
الجواب: هذا الحديث ضعيف كما قال الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة 3/ 314 وهذا نص كلامه: [ضعيف أخرجه أبو نعيم في الحلية من طريق سويد بن سعيد فرج بن فضالة عن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي عن حذيفة بن اليمان مرفوعاً، قال أبو نعيم: غريب من حديث عبد الله بن عبيد بن عمير لم يوره عنه فيما أعلم إلا فرج بن فضالة.
قلت - الألباني - وهو ضعيف كما قال الحافظ العراقي وفيه علة أخرى وهي الانقطاع فقد قال أبو نعيم في ترجمة عبد الله بن عبيد هذا: أرسل عن أبي الدرداء وحذيفة وغيرهم.
* * *
حكم تشريح الجثث
يقول السائل: إنه طالب في كلية الطب وأنه يدرس علم التشريح وتتم دراستهم العملية على جثث آدمية فما هي الضوابط الشرعية لعملية تشريح الجثث؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أولاً أن مسألة تشريح جثث الموتى من المسائل العصرية التي لم يبحثها الفقهاء المتقدمون بحثاً مفصلاً وإن وجدت بعض الإشارات لمثل ذلك في كلامهم كما نص جمهور الفقهاء على جواز شق بطن الحامل إذا ماتت وكان جنينها حياً فأجازوا شق بطنها لإخراج الجنين. المجموع 5/301.
وقد بحث الفقهاء المعاصرون مسألة التشريح بحثاً موسعاً فكانوا بين(6/544)
مبيح ومانع والذي ترجح لدي بعد دراسة ما وقفت عليه من أبحاث في المسألة القول بإباحة التشريح بضوابط سأبينها لاحقاً. ولكن أذكر أولاً الغاية من التشريح المباح وهي:
1. التحقيق في دعوى جنائية لمعرفة أسباب الوفاة المرتكبة وذلك عندما يشكل على القضاء معرفة أسباب الوفاة ويكون التشريح هو السبيل الوحيد لمعرفة هذه الأسباب.
2. التحقق من الأمراض الوبائية التي تستدعي التشريح لاتخاذ الاحتياطات الكفيلة بالوقاية منها.
3. تعليم الطب.
ومما يدل على جواز التشريح لهذه الدواعي ما يلي:
أولاً: القياس على جواز شق بطن الحامل لاستخراج جنينها الذي ترجى حياته حيث أجاز ذلك فقهاء الحنفية والشافعية وبعض المالكية والحنابلة. المجموع 5/301، الإنصاف 2/556، أبحاث هيئة كبار العلماء 2/27-33.
ويجوز التشريح قياساً على جواز تقطيع الجنين لإنقاذ أمه إذا غلب على الظن هلاكها بسببه. ومن العلماء من قاسه أيضاً على جواز شق بطن الميت إذا كان قد ابتلع مالاً ثميناً مغصوباً قبل وفاته. وهذه الأوجه الثلاثة من القياس اشتمل الأصل فيها على التصرف في جثة الميت بالشق، والقطع، طلباً لمصلحة الحي المتمثلة في إنقاذه من الموت كما في الوجه الأول، والثاني، وهي مصلحة ضرورية، كما اشتمل الوجه الثالث منها على مصلحة حاجية وهي رد المال المغصوب إلى صاحبه. وكلتا هاتين المصلحتين موجودتان في حال تعلم الجراحة الطبية، إذ يقصد منها تارة إنقاذ حياة المريض وهي المصلحة الضرورية، كما يقصد منها تارة أخرى إنقاذ المريض من آلام الأمراض والأسقام المضنية وهي المصلحة الحاجية، وأما إهانة الميت بتشريح جثته فقد رخص فيها أصحاب هذا القول بناء على القياس أيضاً، حيث استندوا على ما قرره بعض الفقهاء المتقدمين -(6/545)
رحمهم الله - من جواز نبش قبر الميت، وأخذ كفنه المسروق أو المغصوب، فقاسوا إهانته بالتشريح على إهانته بنبش كفنه، وكشف عورته بجامع تحصيل مصلحة الحي المحتاج إليها] أحكام الجراحة الطبية ص 172.
ثانياً: ومما يدل على جواز التشريح للأغراض السابقة أن قواعد الشريعة الإسلامية تجيزه فإن من قواعد الشريعة الكلية ومقاصدها العامة أنه إذا تعارضت مصلحتان قدم أقواهما وإذا تعارضت مفسدتان ارتكب أخفهما تفادياً لأشدهما ومسألة التشريح داخلة في هذه القاعدة على كل حال فإن مصلحة حرمة الميت مسلماً كان أو ذمياً تعارضت مع مصلحة أولياء الميت والأمة والمتهم عند الاشتباه فقد ينتهي الأمر بالتشريح والتحقيق مع المتهم إلى إثبات الجناية عليه وفي ذلك حفظ لحق أولياء الميت وإعانة لولي الأمر على ضبط الأمن وردع لمن تسول له نفسه ارتكاب مثل هذه الجريمة خفية وقد ينتهي الأمر بثبوت موته موتاً عادياً وفي ذلك براءة المتهم كما أن في التشريح المرضي معرفة ما إذا كان هناك وباء ومعرفة نوعه فيتقى شره بوسائل الوقاية المناسبة وفي هذا المحافظة على نفوس الأحياء والحد من أسباب الأمراض وقد حثت الشريعة على الوقاية من الأمراض وعلى التداوي مما أصابها وفي هذا مصلحة للأمة ومحافظة على سلامتها وإنقاذها مما يخشى أن يصيبها جرياً على ما اقتضت به سنة الله شرعاً وقدراً. وفي تعريف الطلاب تركيب الجسم وأعضائه الظاهرة والأجهزة الباطنة ومواضعها وحجمها صحيحة ومريضة وتدريبهم على ذلك عملياً وتعريفهم بإصابتها وطرق علاجها في هذا وغيره مما تقدم بيانه ... وما ذكره الأطباء مصالح كثيرة تعود على الأمة بالخير العميم فإذا تعارضت مصلحة المحافظة على حرمة الميت مع هذه المصالح نظر العلماء أي المصلحتين أرجح فبني عليها الحكم منعاً أو إباحة وقد يقال ان مصلحة الأمة في مسألتنا أرجح لكونها كليةً عامة ولكونها قطعية كما دل على ذلك الواقع والتجربة وهي عائدة إلى حفظ نفوس الناس وحفظها من الضروريات التي جاءت بمراعاتها وصيانتها جميع شرائع الأنبياء وقد وجدت نظائر لمسألة التشريح بحثها فقهاء(6/546)
الإسلام ...
فلا يبعد أن يقال يجوز التشريح إلحاقاً له بهذه النظائر في الحكم] أبحاث هيئة كبار العلماء 2/63-64.
وكذلك فإن قاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب تدل على جواز التشريح للأغراض السابقة فإن تعلم الجراحة الطبية فرض كفاية أي أنها واجبة على الأمة فيجب على الأمة سد حاجة الناس من هذه العلوم النافعة، ولا بد لمن أراد مزاولة الطب وعلاج الناس وإجراء الجراحات العملية أن يعرف الأعضاء وأماكنها علمياً وعملياً وواقعياً، ولا تتأتى هذه المعرفة إلا بالتشريح فإذا كان الطب تعلماً وتعليماً ومباشرة فرض كفاية، كان ما لا يتم هذا الفرض إلا به واجباً ولا يتم التعلم للطب إلا بذلك التشريح فيعتبر مشروعاً بل واجباً من هذا الوجه. حكم تشريح الإنسان ص41.
هذه هي أهم الأدلة التي تدل على جواز التشريح وقد صدرت عدة فتاوى من هيئات علمية شرعية معتبرة تجيز ذلك فمنها ما صدر عن هيئة كبار العلماء في السعودية بجواز ذلك وقد جاء في قرار الهيئة ما يلي: [وظهر أن الموضوع ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: التشريح لغرض التحقق عن دعوى جنائية. الثاني: التشريح لغرض التحقق عن أمراض وبائية لتتخذ على ضوئه الاحتياطات الكفيلة بالوقاية منها. الثالث: التشريح للغرض العلمي تعلماً وتعليماً.
وبعد تداول الرأي والمناقشة ودراسة البحث المقدم من اللجنة المشار إليه أعلاه قرر المجلس ما يلي: بالنسبة للقسمين الأول والثاني فإن المجلس يرى أن في إجازتهما تحقيقاً لمصالح كثيرة في مجالات الأمن والعدل ووقاية المجتمع من الأمراض الوبائية ومفسدة انتهاك كرامة الجثة المشرحة مغمورة في جنب المصالح الكثيرة والعامة المتحققة بذلك، وإن المجلس لهذا يقرر بالإجماع إجازة التشريح لهذين الغرضين سواء كانت الجثة المشرحة جثة معصوم أم لا. وأما بالنسبة للقسم الثالث وهو التشريح للغرض التعليمي فنظراً إلى أن الشريعة الإسلامية قد جاءت بتحصيل المصالح وتكثيرها، وبدرء المفاسد وتقليلها، وبارتكاب أدنى الضررين لتفويت أشدهما، وأنه إذا تعارضت المصالح أخذ بأرجحها، وحيث إن تشريح غير الإنسان من(6/547)
الحيوانات لا يغني عن تشريح الإنسان وحيث إن في التشريح مصالح كثيرة ظهرت في التقدم العلمي في مجالات الطب المختلفة: فإن المجلس يرى جواز تشريح جثة الآدمي في الجملة إلا أنه نظراً إلى عناية الشريعة الإسلامية بكرامة المسلم ميتاً كعنايتها بكرامته حياً وذلك لما روى أحمد وأبو داود وابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (كسر عظم الميت ككسره حياً) ونظراً إلى أن التشريح فيه امتهان لكرامته، وحيث أن الضرورة إلى ذلك منتفية بتيسر الحصول على جثث أموات غير معصومة: فإن المجلس يرى الاكتفاء بتشريح مثل هذه الجثث وعدم التعرض لجثث أموات معصومين والحال ما ذكر] أبحاث هيئة كبار العلماء 2/68-69.
ومنها قرار مجمع الفقه الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي ونصه: [بناء على الضرورات التي دعت إلى تشريح جثث الموتى والتي يصير بها التشريح مصلحة تربو على مفسدة انتهاك كرامة الإنسان الميت. قرر مجلس المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي ما يأتي:
أولاً: يجوز تشريح جثث الموتى لأحد الأغراض التالية:
أ. التحقيق في دعوى جنائية لمعرفة أسباب الموت أو الجريمة المرتكبة وذلك عندما يشكل على القاضي معرفة أسباب الوفاة ويتبين أن التشريح هو السبيل لمعرفة هذه الأسباب.
ب. التحقق من الأمراض التي تستدعي التشريح ليتخذ على ضوئه الاحتياطات الواقية والعلاجات المناسبة لتلك الأمراض.
جـ. تعليم الطب وتعلمه كما هو الحال في كليات الطب] قرارات المجمع الفقهي الإسلامي ص 17.
وصدرت فتاوى أخرى بجواز التشريح كفتوى دار الإفتاء المصرية ولجنة الفتوى الأردنية ولجنة الفتوى الكويتية وغيرها.
وينبغي أن يعلم أنه لا بد من مراعاة الضوابط التالية عند تشريح جثة الآدمي(6/548)
1. التيقن من موت الشخص قبل إجراء التشريح عليه لأن تشريح الإنسان قبل موته فيه إيذاء وهو محرم شرعاً.
2. موافقة الشخص قبل موته على تشريح جثته إذا مات أو موافقة ذويه بعد موته ولا تشترط موافقة الميت ولا ذويه في الحالات الجنائية لما في التشريح في مثل هذه الحالات من مصلحة راجحة ولأن ممانعة الأهل قد تفوت حقاً من الحقوق العامة أو الخاصة. ويجوز تشريح جثث المتوفين المجهولين الذين ليس لهم أهل تؤخذ موافقتهم كما جاء مثلاً في الفتوى التي صدرت عن دار الإفتاء المصرية " يجوز شرعاً الحصول على جثث بعض المتوفين ممن لا أهل لهم للإفادة العلمية من تشريحهم مراعاة للمصلحة العامة على أن يقتصر في ذلك على ما تقضي به الضرورة القصوى"] الموسوعة الطبية الفقهية ص 201.
3. أن تراعى آداب تكريم الميت فلا يساء التصرف في جسده بما لا يخدم البحث العلمي والغرض التعليمي ولا تبقى الجثة مقطعة الأجزاء على منصات التشريح تتقاذفها أيدي الطلبة دون رادع أو زاجر بل لا بد من احترام إنسانية الميت والاقتصار فقط على موضع الحاجة والضرورة.
ولا يجوز العبث بالجثة ويحسن أن يكون درس التشريح درساً جاداً يوجهه مدرس التشريح لبيان قدرة الله في الخلق وحكمته من خلق الإنسان في أحسن تقويم.
4. تجميع أجزاء الجثة بعد الفراغ من تشريحها ودفنها وفقاً للأحكام الشرعية المتعلقة بوجوب دفن الميت.
5. إذا كانت الجثة جثة امرأة فيجب أن يقتصر نظر الطالب ومسه على مواضع الضرورة والحاجة فقط ولا يمسها بدون ضرورة.
6. أن تكون الجثة لغير معصوم الدم فإذا وجد غير المعصوم فلا يجوز تشريح جثة المسلم إلا عند الضرورة كما جاء في قرار المجمع الفقهي ص 17.(6/549)
فهذه جملة من الضوابط لا بد من الالتزام بها من قبل الأطباء وطلبة الطب حتى لا يتجاوزوا الحد المشروع ويقتصر فيه على موضع الحاجة فمهنة الطب خلق في المقام الأول لأنه يتعامل مع خلق كريم. قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِيءَادَمَ) . يقول الشيخ إبراهيم اليعقوبي: (وكلامنا مع الأطباء والأساتذة والطلاب فالكل مسؤول أمام الله تعالى عن مثل هذه التصرفات ونخص بالذكر الأطباء المشرحين والطلاب الذي يتعلمون منهم ونأمرهم بتقوى الله عز وجل وباحترام الإنسان الآدمي الذي كرمه الله تعالى، وفضله على كل من سواه. ونأمرهم بأن لا يتخذوه هدفاً للعبث أو آلة للعب، بل يضعون نصب أعينهم مخافة الله عز وجل، وحرمة الآدمي، ويقصدون بهذا العمل تقديم النفع والعلم الصحيح لطلابهم ويقصد الطلاب من ذلك أيضاً وجه الله تعالى بهذا التعلم وخدمة الإنسانية واضعين نصب أعينهم خوف الله تعالى وحرمة الإنسان وكرامته] حكم تشريح الإنسان بين الشريعة والقانون ص 59-60.
* * *
معالجة مياه المجاري
يقول السائل: هل يجوز استعمال مياه المجاري التي تمت تنقيتها في الوضوء والغسل والشرب ونحو ذلك من الاستعمالات؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أولاً أن الماء الطاهر الذي يصح استعماله في جميع الاستعمالات هو الماء المطلق الباقي على أصل خلقته ولم يتغير أحد أوصافه الثلاثة وهي اللون والطعم والرائحة فإذا تغير أحد أوصافه الثلاثة فينظر فيما خالطه أطاهر أم نجس؟ وقد فصل الفقهاء الكلام على أحكام المياه في كتبهم والذي يهمنا هنا أن مياه المجاري نجسة بلا ريب.
فإذا تمت تنقيتها في محطات تنقية مياه المجاري بالوسائل العلمية الحديثة حيث إن التنقية تتم بإزالة النجاسة من مياه المجاري على أربعة مراحل وهي الترسيب والتهوية وقتل الجراثيم والتعقيم بالكلور، وهذه الطرق(6/550)
كفيلة بإزالة كل أثر للنجاسة في الطعم واللون والرائحة فإذا تمت التنقية بإزالة كل أثر للنجاسة فإن الماء يعود إلى أصل طهوريته لأن الحكم بنجاسة الماء معلل بعلة تغيره فإذا زالت هذه العلة رجع الحكم إلى أصله، لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، ويدل على ذلك ما ورد في الحديث: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الوضوء من بئر بضاعة فقال - صلى الله عليه وسلم -: الماء طهور لا ينجسه شيء) رواه أحمد والترمذي وأبو داود والشافعي وغيرهم وقال الترمذي: حديث حسن. وصححه جماعة من أهل الحديث منهم أحمد ويحيى بن معين وابن حزم من المتقدمين والألباني من المتأخرين. انظر التلخيص الحبير 1/12 فما بعدها، إرواء الغليل 1/45.
وقد ورد في بعض روايات الحديث السابق: (الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه) .
وفي رواية أخرى: (إن الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه) .
وقد اتفق المحدثون على أن الاستثناء الوارد وهو قوله: (إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه] لم يثبت مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن معناه صحيح ثابت بالإجماع.
قال الحافظ ابن حجر: [قال الشافعي: ما قلت من أنه إذا تغير طعم الماء وريحه ولونه كان نجساً، يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجه لا يثبت أهل الحديث مثله وهو قول العامة لا أعلم بينهم خلافاً.
قال النووي: اتفق المحدثون على تضعيفه وقال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت له طعماً أو لوناً أو ريحاً فهو نجس] التلخيص الحبير 1/15.
وبناءً على ما سبق فإن المياه التي تنقى في محطات التنقية إذا تمت إزالة كل أثر للنجاسة منها فيجوز استعمالها في الوضوء والغسل وفي سائر الاستعمالات الأخرى
وقد بحثت هذه المسألة سابقاً من عدة مجامع علمية معتبرة فمن ذلك ما صدر عن هيئة كبار العلماء في السعودية حيث جاء في القرار ما يلي:(6/551)
[بناءً على ما ذكره أهل العلم من أن الماء الكثير المتغير بنجاسةٍ يطهر إذا زال تغيره بنفسه أو بإضافة ماء طهور إليه أو زال تغيره بطول مكث أو تأثير الشمس ومرور الرياح عليه أو نحو ذلك لزوال الحكم بزوال علته.
وحيث إن المياه المتنجسة يمكن التخلص من نجاستها بعدة وسائل وحيث إن تنقيتها وتخليصها مما طرأ عليها من النجاسات بواسطة الطرق الفنية الحديثة لأعمال التنقية يعتبر من أحسن وسائل الترشيح والتطهير حيث يبذل الكثير من الأسباب المادية لتخليص هذه المياه من النجاسات كما يشهد بذلك ويقرره الخبراء المختصون بذلك ممن لا يتطرق الشك إليهم في عملهم وخبرتهم وتجاربهم.
لذلك فإن المجلس يرى طهارتها بعد تنقيتها التنقية الكاملة بحيث تعود إلى خلقتها الأولى لا يُرى فيها تغيرٌ بنجاسة في طعم ولا لون ولا ريح ويجوز استعمالها في إزالة الإحداث والأخباث وتحصل الطهارة بها منها كما يجوز شربها إلا إذا كانت هناك أضرار صحية تنشأ عن استعمالها فيمتنع ذلك محافظة على النفس وتفادياً للضرر لا لنجاستها.
والمجلس إذ يقرر ذلك يستحسن الاستغناء عنها في استعمالها للشرب متى وجد إلى ذلك سبيل احتياطاً للصحة واتقاء للضرر وتنزهاً عما تستقذره النفوس وتنفر منه الطباع] غاية المرام شرح مغني ذوي الأفهام 1/128-129.
وجاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي ما يلي: [إن ماء المجاري إذا نقى بالطرق المذكورة أو ما يماثلها ولم يبق للنجاسة أثر في طعمه ولا في لونه ولا في ريحه صار طهوراً يجوز رفع الحدث وإزالة النجاسة به بناء على القاعدة الفقهية التي تقرر أن الماء الكثير الذي وقعت فيه نجاسة يطهر بزوال هذه النجاسة منه إذا لم يبق لها أثر فيه، والله أعلم] قرارات المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي ص 91.
* * *
والله الهادي إلى سواء السبيل
تم الكتاب بحمد الله(6/552)
يسألونك
الجزء السابع
تأليف
الدكتور حسام الدين بن موسى عفانه
الأستاذ المشارك في الفقه والأصول
منسق برنامج ماجستير دراسات إسلامية معاصرة
كلية الدعوة وأصول الدين
طباعة شفاء بنت حسام الدين عفانه(7/1)
بِسمِ الله الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ(7/4)
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) سورة آل عمران الآية 102.
(يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) النساء الآية 1
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) سورة الأحزاب الآيتان 70-71.
أما بعد
فلما كان التبليغ عن الله سبحانه وتعالى يعتمد العلمَ بما يبلغ، والصدق فيه، لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق، فيكون عالماً بما يبلغ، صادقاً فيه، ويكون مع ذلك حَسَنَ الطريقة، مرضيَّ السيرة، عدلاً في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله، وإذا كان مَنصِبُ التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا يُنكَرُ فضله، ولا يُجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسموات؟(7/5)
فحقيقٌ بمن أقيم في هذا المنصب أن يُعدَ له عُدَّته، وأن يتأهب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به، فإن الله ناصره وهاديه، وكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب، فقال تعالى: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ) ، وكفى بما تولاه الله تعالى بنفسه شرفاً وجلالةً، إذ يقول في كتابه: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ) ، وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه، وليوقن أنه مسؤول غداً وموقوف بين يدي الله.
وأول من قام بهذا المنصب الشريف سيد المرسلين، وإمام المتقين، وخاتم النبيين، عبد الله ورسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده، فكان يفتي عن الله بوحيه المبين، وكان كما قال له أحكم الحاكمين: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) ، فكانت فتاويه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جوامعَ الأحكام، ومشتملة على فصل الخطاب، وهي في وجوب اتباعها وتحكيمها والتحاكم إليها ثانية الكتاب وليس لأحدٍ من المسلمين العُدول عنها ما وجد إليها سبيلاً، وقد أمر الله عباده بالرد إليها حيث يقول: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) (1) .
ومع هذه الأهمية الخطيرة للفتوى في دين الله، فقد تسوَّر عليها عددٌ كبيٌر ممن ليسوا لها أهلاً، وأسهمت وسائل الإعلام، وخاصة المحطات الفضائية في تعدي كثيرين على شرع الله، وسمعنا فتاوى عجيبة وغريبة، فيها تساهل كبير بحجة أن الدين يسر، أو أن الدين يجب أن يساير العصر، أو بحجة المصلحة ونحو ذلك.
وصار التساهل في الفتوى، طابعاً لبعض المتصدرين على الفضائيات، فهنالك من أفتى بإباحة الربا، ومن أفتى بجواز خروج المرأة متعطرة متزينة
_________
(1) إعلام الموقعين 1/ 10-11.(7/6)
إلى الشوارع والأسواق، ومنهم من أفتى بجواز عرض المرأة للأزياء أمام الرجال، وغير ذلك من الفتاوى العرجاء.
وقد حذر العلماء قديماً وحديثاً من التساهل في الفتوى، قال الإمام النووي رحمة الله عليه: [يحرم التساهل في الفتوى، ومن عرف به حَرُمَ استفتاؤه، فمن التساهل أن لا يتثبت ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر، فإن تقدمت معرفته بالمسئول عنه فلا بأس بالمبادرة، وعلى هذا يُحمل ما نقل عن الماضين من مبادرة، ومن التساهل أن تحمله الأغراض الفاسدة، على تتبع الحيل المحرمة أو المكروهة، والتمسك بالشبه طلباً للترخيص، لمن يروم نفعه، أو التغليظ على من يريد ضره، وأما من صح قصدُه فاحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها للتخليص من ورطة يمين ونحوها، فذلك حسنٌ جميلٌ، وعليه يحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا كقول سفيان - الثوري -: [إنما العلمُ عندنا الرخصة من ثقة فأما التشديد فيحسنه كل أحد] (1) .
ولا شك أن من دوافع التساهل في الفتاوى بحجج واهية، التقرب إلى السلاطين والحكام، والحرص على الدنيا، وما فيها من جاهٍ ومناصب وأموال، قال العلامة ابن القيم: [كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها، فلا بد أن يقول على الله غيرَ الحق في فتواه وحكمه في خبره والتزامه] (2) .
وختاماً أقول هذا هو الجزء السابع من كتابي يسألونك سرت فيه كما في الأجزاء السابقة، على منهج أهل السنة والجماعة في الاعتماد عل كتاب الله سبحانه وتعالى، وما صح عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وما قرره الأئمة الأعلام، من فقهاء الصحابة والتابعين وسلف الأمة، من إجماع وقياس صحيح، من غير تعصبٍ لمذهبٍ أو إمام. وسعيت فيه إلى الوصول إلى ما أعتقد أنه الحق والصواب، فإن تعارضت الأقوال، اخترت ما أعتقد أنه
_________
(1) المجموع 1/46.
(2) الفوائد ص100.(7/7)
أرجحها وأقواها دليلاً وأهداها سبيلاً، فإن أصبت بغيتي فذلك الفضل من الله تعالى وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان والعياذ بالله.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين
أبوديس / القدس كتبه الدكتور حسم الدين بن موسى عفانه
29 رجب 1423هـ الأستاذ المشارك في الفقه والأصول
وفق 6/10/ 2002م منسق برنامج ماجستير دراسات إسلامية معاصرة
كلية الدعوة وأصول الدين
جامعة القدس(7/8)
الصلاة(7/9)
الأدعية أثناء الوضوء
يقول السائل: نسمع كثيراً من الناس عندما يتوضؤون يذكرون أدعية أثناء الوضوء فما حكم هذه الأدعية؟
الجواب: الأدعية أثناء الوضوء مشهورة وذكرها بعض الفقهاء في كتبهم فمن ذلك ما ذكره الرافعي من الشافعية حيث قال: [أن يحافظ على الدعوات الواردة في الوضوء فيقول في غسل الوجه: اللهم بَيِّض وجهي يوم تبيَض وجوهٌ وتسود وجوهٌ، وعند غسل اليد اليمنى اللهم أعطني كتابي بيميني وحاسبني حساباً يسيراً، وعند غسل اليسرى: اللهم لا تعطني كتابي بشمالي ولا من وراء ظهري، وعند مسح الرأس اللهم حرم شعري وبشري على النار. وروي اللهم احفظ رأسي وما حوى وبطني وما وعى، وعند مسح الأذنين اللهم اجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وعند غسل الرجلين اللهم ثبت قدمي على الصراط يوم تزل فيه الأقدام، ورد بها الأثر عن السلف الصالحين] الشرح الكبير 1/449-450.
وذكر أبو حامد الغزالي الأدعية أثناء الوضوء بأكثر من ذلك فقال: [بعد ذكر البسملة في أوله ويقول عند ذلك أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون ثم يغسل يديه ثلاثاً قبل أن يدخلهما الإناء ويقول اللهم إني أسألك اليمن والبركة وأعوذ بك من الشؤم والهلكة.(7/11)
وذكر أنه عند المضمضة يقول: اللهم أعنِّي على تلاوة كتابك وكثرة الذكر لك ثم يأخذ غرفةً لأنفه ويستنشق ثلاثاً ويصعد الماء بالنفس إلى خياشيمه ويستنثر ما فيها ويقول في الاستنشاق اللهم أوجد لي رائحة الجنة وأنت عني راضٍ، وفي الاستنثار اللهم إني أعوذ بك من روائح النار ومن سوء الدار.
وعند غسل وجهه يقول: اللهم بيِّض وجهي بنورك يوم تبيض وجوه أوليائك ولا تُسَوِّد وجهي بظلماتك يوم تَسْودُ وجوه أعدائك.
وعند غسل اليد اليمنى: اللهم أعطني كتابي بيميني وحاسبني حساباً يسيراً.
وعند غسل اليد اليسرى: اللهم إني أعوذ بك أن تعطيني كتابي بشمالي أو من وراء ظهري.
وعند مسح أذنيه: اللهم اجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه اللهم أسمعني مناديا الجنة مع الأبرار. وعند مسح رقبته يقول: اللهم فك رقبتي من النار وأعوذ بك من السلاسل والأغلال.
وعند غسل الرجل اليمنى يقول: اللهم ثبت قدمي على الصراط المستقيم يوم تزل الأقدام في النار.
وعند غسل الرجل اليسرى يقول: أعوذ بك أن تزل قدمي عن الصراط يوم تزل فيه أقدام المنافقين. فإذا فرغ رفع رأسه إلى السماء وقال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت عملت سوءاً وظلمت نفسي أستغفرك اللهم وأتوب إليك فاغفر لي وتب عليَّ، إنك أنت التواب الرحيم اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين واجعلني من عبادك الصالحين واجعلني عبداً صبوراً شكوراً واجعلني أذكرك كثيراً وأسبحك بكرة وأصيلاً] إحياء علوم الدين 1/132-133.(7/12)
وهذه الأدعية التي تقال أثناء الوضوء غير ثابتة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال الإمام النووي:
[وأما الدعاء على أعضاء الوضوء فلم يجئ فيه شيء عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] الأذكار ص24.
وقال الحافظ ابن حجر معلقاً على الأدعية التي ذكرها الرافعي والمذكورة أعلاه: [قال النووي في الروضة هذا الدعاء لا أصل له ولم يذكره الشافعي والجمهور. وقال ابن الصلاح: لم يصح فيه حديث.
قلت - أي الحافظ ابن حجر -: روي فيه عن علي من طرقٍ ضعيفةٍ جداً] التلخيص الحبير 1/100.
وقال العلامة ابن القيم: [ولم يحفظ عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول على وضوئه شيئاً غير التسمية، وكل حديث في أذكار الوضوء الذي يقال عليه، فكذب مختلق لم يقل رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئاً منه ولا علَّمه لأمته ولا ثبت عنه غير التسمية في أوله وقوله
" أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين " في آخره.] زاد المعاد1/195-196.
وقال النووي أيضاً: [وحذفت دعاء الأعضاء إذ لا أصل له] المنهاج مع شرحه 1/194.
وقد خالف بعض المتأخرين من العلماء ما قاله النووي وغيره في نفي ثبوت الأحاديث الواردة أثناء الوضوء وقالوا إنه قد ورد ذلك ولكن بطرق ضعيفة والضعيف يعمل به في فضائل الأعمال وهذا منها.
ولكن يجاب على قولهم هذا، بأن تلك الأحاديث بطرقها المختلفة لا تخلو من كذاب أو متهم بالوضع كما بين ذلك السيوطي في رسالته الإغضاء عن دعاء الأعضاء. انظر الفتوحات الربانية على الأذكار النووية 2/27.
وسئل الحافظ ابن حجر العسقلاني عن قول النووي: [وحذفت دعاء(7/13)
الأعضاء إذ لا أصل له هل أراد بطلانه وكيف يقول الولي العراقي له أصل؟
والجواب: إذا قال المحدث لا أصل للحديث الفلاني فمراده أنه ليس له طريق يعتمد لا أنه لم يرو أصلاً، وحينئذ فإن كان النووي اطلع على الحديث وعرف شدة ضعفه وأن طرقه لا تخلو من شخص نسب إلى الكذب والتهمة بالكذب فالمراد بقوله لا أصل له أنه ليس بصحيح ولا حسن فيحتج به ولا ضعيف يصلح للعمل به في فضائل الأعمال وإن كان لم يطلع على طرقه التي أشرت إليها في تخريج أحاديث الأذكار فلا يضره لأنه ليس فيها ما يصلح للعمل به لا منفرداً ولا منضماً بعضه إلى بعض وقول من قال له أصل إن أراد به كونه ورد مع قطع النظر عن صلاحيته للعمل فمسلَّم ولكن لا يرد على النووي وإن أراد له أصلاً يعمل به فمردود.
وقال ابن حجر في شرح العباب فيما نقله عن بعضهم فقول سائر المتأخرين إن تلك الطرق ضعيفة يعمل بها في الفضائل مردود وهو كما قال وغاية أمر تلك الطرق أنها شديدة الضعف والحديث إذا اشتد ضعفه لا يعمل به في الفضائل ولا في غيرها كما اقتضاه كلام المجموع في باب صلاة النفل وبذلك صرح السبكي ثم حيث قال وفي ابن ماجة كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي قبل الجمعة أربعاً لا يفصل في شيء منهن وهو ضعيف جداً لا يصلح الاحتجاج به وقد نقل العلائي وغيره الاتفاق على أن شرط العمل بالضعيف أن يكون الضعف غير شديد قالوا فيخرج من انفرد من كذاب ومتهم به ومن فحش غلطه وقد علمت مما ذكرناه أن جميع روايات هذه الأدعية لا تخلو عن كذاب ومتهم به وحينئذ فقد بان صحة ما قاله المصنف - أي النووي - العلم المفرد الإمام أدام الله به وله النفع والرفعة على الدوام ورد ما اعترض به عليه] المصدر السابق 2/29.
هذا بالنسبة للأدعية أثناء الوضوء، وأما بالنسبة للتسمية في أول الوضوء فأكثر أهل العلم على أنها سنة قال الإمام النووي: [قد ذكرنا أن التسمية سنة وليست بواجبة فلو تركها عمداً صح وضوءه هذا مذهبنا وبه قال(7/14)
مالك وأبو حنيفة وجمهور العلماء وهو أظهر الروايات عن أحمد وعنه رواية أنها واجبة] المجموع 1/346.
وقد ورد في التسمية عند الوضوء عدة أحاديث ولكنها ضعيفة وقد ذكر الإمام النووي بعضها ثم قال: [وأسانيد هذه الأحاديث كلها ضعيفة وذكر البيهقي هذه الأحاديث ثم قال أصح ما في التسمية حديث أنس أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وضع يده في الإناء الذي فيه الماء ثم قال: (توضؤوا باسم الله قال فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه والقوم يتوضؤون حتى توضؤا من عند آخرهم وكانوا نحو سبعين رجلاً) وإسناده جيد واحتج به البيهقي في كتابه معرفة السنن والآثار وضعف الأحاديث الباقية] المجموع 1/344.
وقال الحافظ ابن حجر بعد أن تكلم على أسانيد تلك الأحاديث: [والظاهر أن مجموع الأحاديث يحدث منها قوة تدل على أن له أصلاً] التلخيص الحبير 1/75
وقال الحافظ المنذري: [ولا شك أن الأحاديث التي وردت فيها وإن كان لا يسلم شيء منها عن مقال فإنها تتعاضد بكثرة طرقها وتكتسب قوة والله أعلم] الترغيب والترهيب 1/164، وأيد كلامه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ص 88
وأما الدعاء بعد الوضوء فقد ثبت في الحديث الصحيح عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبد الله ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء) رواه مسلم. انظر شرح النووي على صحيح مسلم 1/472. وفي رواية للترمذي بزيادة (اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين) تحفة الأحوذي 1/150. وقال الشيخ الألباني عن زيادة الترمذي: حسن. صحيح الترغيب والترهيب ص 94(7/15)
قول حي على خير العمل في الأذان بدعة
يقول السائل: إنه سمع الأذان من إحدى المحطات التلفزيونية الفضائية وسمع عبارة: [حي على خير العمل] فما حكم ذكر هذه العبارة في الأذان؟
الجواب: ألفاظ الأذان محفوظة ومعروفة عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد ثبتت هذه الألفاظ في عدد من الأحاديث منها ما جاء في حديث عبد الله بن زيد - رضي الله عنه - قال: (لما أمر رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالناقوس يعمل ليضرب به للناس لجمع الصلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوساً في يده فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة قال أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك، فقلت له بلى قال: فقال تقول الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله. قال ثم استأخر عني غير بعيد ثم قال وتقول إذا أقمت الصلاة الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله حي على الصلاة حي على الفلاح قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، فلما أصبحت أتيتُ رسولَ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته بما رأيت، فقال إنها لرؤيا حق إن شاء الله فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فإنه أندى صوتاً منك فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به، قال فسمع ذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج يجر رداءه ويقول والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما رأى فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلله الحمد) رواه أبو داود والترمذي وقال الترمذي: حسن صحيح، واللفظ لأبي داود، وقال الألباني حسن صحيح. انظر صحيح سنن أبي داود 1/98-99.
وعن أبي محذورة - رضي الله عنه - قال لما خرج رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حنين خرجت عاشر عشرة من أهل مكة نطلبهم فسمعناهم يؤذنون بالصلاة(7/16)
فقمنا نؤذن نستهزئ بهم فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد سمعت في هؤلاء تأذين إنسان حسن الصوت فأرسل إلينا فأذنا رجل رجل وكنت آخرهم فقال حين أذنت تعال فأجلسني بين يديه فمسح على ناصيتي وبرَّك عليَّ ثلاث مرات ثم قال اذهب فأذن عند البيت الحرام قلت كيف يا رسول الله فعلمني كما تؤذنون الآن بها: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الصلاة خير من النوم في الأولى من الصبح قال وعلمني الإقامة مرتين الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر صحيح سنن النسائي 1/ 136-137. وغير ذلك من الأحاديث.
هذه هي ألفاظ الأذان المحفوظة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
إذا تقرر هذا فإن زيادة [حي على خير العمل] ليست من ألفاظ الأذان وإنما هي من زيادة الشيعة على ألفاظ الأذان وليس لهم مستند صحيح يعتمد عليه وقد عقد الإمام البيهقي فصلاً في سننه بعنوان: [باب ما روي في حي على خير العمل] . وذكر فيه بعض الآثار عن ابن عمر وعلي بن الحسين وبلال رضي الله عنهم وفيها عبارة (حي على خير العمل) ثم قال الإمام البيهقي: [وهذه اللفظة لم تثبت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما علَّم بلالاً وأبا محذورة ونحن نكره الزيادة فيه] سنن البيهقي 1/424-425.
وذكر ابن حزم أن هذه الجملة لم تصح عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. المحلى 2/194.
وكذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية. مجموع الفتاوى 23/103.(7/17)
وقال الإمام النووي: [يكره أن يقال في الأذان " حي على خير العمل " لأنه لم يثبت عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وروى البيهقي فيه شيئاً موقوفاً على ابن عمر وعلي بن الحسين رضي الله عنهم قال البيهقي: لم تثبت هذه اللفظة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنحن نكره الزيادة في الأذان والله أعلم] المجموع 3/98.
وقال الشوكاني في أثناء شرحه لحديث عبد الله بن زيد المتقدم ما نصه:
[والحديث ليس فيه ذكر حي على خير العمل وقد ذهبت العترة إلى إثباته وأنه بعد قول المؤذن حي على الفلاح قالوا: يقول مرتين حي على خير العمل ونسبه المهدي في البحر إلى أحد قولي الشافعي وهو خلاف ما في كتب الشافعية فإنا لم نجد في شيء منها هذه المقالة بل خلاف ما في كتب أهل البيت، قال في الانتصار: إن الفقهاء الأربعة لا يختلفون في ذلك، يعني في أن حي على خير العمل ليس من ألفاظ الأذان وقد أنكر هذه الرواية الإمام عز الدين في شرح البحر وغيره ممن له اطلاع على كتب الشافعية. احتج القائلون بذلك بما في كتب أهل البيت كأمالي أحمد بن عيسى والتجريد والأحكام وجامع آل محمد من إثبات ذلك مسنداً إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال في الأحكام: وقد صح لنا أن حي على خير العمل كانت على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤذن بها ولم تطرح إلا في زمن عمر. وهكذا قال الحسن بن يحيى روى ذلك عنه في جامع آل محمد وبما أخرج البيهقي في سننه الكبرى بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمر أنه كان يؤذن بحي على خير العمل أحياناً. وروى فيها عن علي بن الحسين أنه قال: هو الأذان الأول وروى المحب الطبري في أحكامه عن زيد بن أرقم أنه أذن بذلك، قال المحب الطبري: رواه ابن حزم ورواه سعيد بن منصور في سننه عن أبي أمامة بن سهل البدري ولم يرو ذلك من طريق غير أهل البيت مرفوعاً. وقول بعضهم: وقد صحح ابن حزم والبيهقي والمحب الطبري وسعيد بن منصور ثبوت ذلك عن علي بن الحسين وابن عمر وأبي أمامة بن سهل موقوفاً ومرفوعاً، ليس بصحيح اللهم إلا أن يريد بقوله مرفوعاً قول علي بن الحسين هو الأذان الأول ولم يثبت عن ابن عمر وأبي أمامة الرفع(7/18)
في شيء من كتب الحديث. وأجاب الجمهور عن أدلة إثباته بأن الأحاديث الواردة بذكر ألفاظ الأذان في الصحيحين وغيرهما من دواوين الحديث ليس في شيء منها ما يدل على ثبوت ذلك، قالوا: وإذا صح ما روي من أنه الأذان
الأول فهو منسوخ بأحاديث الأذان لعدم ذكره فيها وقد أورد البيهقي حديثاً في نسخ ذلك ولكنه من طريق لا يثبت النسخ بمثلها] نيل الأوطار 2/43-44.
وقال الشوكاني أيضاً معلقاً على قول صاحب حدائق الأزهار [حي على خير العمل] : [أقول هذا اللفظ قد صار من المراكز العظيمة عند غالب الشيعة ولكن الحكم بين المختلفين من العباد هو كتاب الله وسنة رسوله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فما جاءنا فيهما فسمعاً وطاعة وما لم يكن فيهما فإن وضح فيه وجه قياس بمسلك من المسالك المقبولة التي لا ترفع ولا تنقض كالنص على العلة أو دلالة الدليل على ثبوت الحكم في المسكوت عنه بفحوى الخطاب كان للمتمسك بذلك أن يقول به على ما فيه من خلاف وهكذا إذا صح الإجماع على حكم ولكن دون تصحيح الإجماع مفاوز متلوية وطرائق متشعبة وعقاب شامخة كما أوضحنا ذلك في إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول.
وإذا كان اختلاف المختلفين في حكم ثابت من السنة فالمرجع دواوينها التي وضعها علماء الرواية وهي الأمهات وما يلتحق بها من المسانيد ونحوها ولم يثبت رفع هذا اللفظ إلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شيء من كتب الحديث على اختلاف أنواعها وغاية ما يروى في ذلك ما أخرجه الطبراني والبيهقي عن بلال أنه كان يؤذن للصبح فيقول: حي على خير العمل، فأمره رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يجعل مكانها الصلاة خير من النوم وترك حي على خير العمل، وفي إسناده عبد الرحمن بن عمار بن سعد وهو ضعيف، وقد قال البيهقي بعد إخراجه: هذا اللفظ لم يثبت فيما علم النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلالاً وأبا محذورة ونحن نكره الزيادة فيه، انتهى.
ومع هذا ففي هذا التصريح بأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بلالاً أن يترك ذلك فلو(7/19)
قدرنا ثبوته لكان منسوخاً] السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار 1/205.
وأجابت اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه حول زيادة هذه الجملة في الأذان بقولها: [الأذان عبادة من العبادات والأصل في العبادات التوقيف وأنه لا يقال: إن هذا العمل مشروع إلا بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع والقول بأن هذه العبادة مشروعة بغير دليل شرعي قول على الله بغير علم فقد قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) وقال تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) وقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌ) وفي رواية: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌ) إذا عُلم ذلك فالأذان الشرعي الثابت عن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو خمس عشرة جملة هي: (الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله) هذا هو الثابت أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بلالاً أن يؤذن به كما ذكر ذلك أهل السنن والمسانيد إلا في أذان الصبح فإنه ثبت أن مؤذن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يزيد فيه بعد الحيعلة (الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم) واتفق الأئمة الأربعة على مشروعية ذلك لأن إقرار الرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهذه الكلمة من بلال يدل على مشروعية الإتيان بها وأما قول المؤذن في أذان الصبح حي على خير العمل فليس بثابت ولا عمل عليه عند أهل السنة وهذا من مبتدعات الرافضة فمن فعله ينكر عليه بقدر ما يكفي للامتناع عن الإتيان بهذه الزيادة في الأذان] فتاوى اللجنة الدائمة 6/94.
وخلاصة الأمر أن ذكر عبارة [حي على خير العمل] في الأذان بدعة لا يجوز أن تكون من ضمن ألفاظ الأذان.(7/20)
يجوز إقامة الصلاة بواسطة مكبر الصوت
يقول السائل: إن إمام المسجد عندهم قال بأن إقامة الصلاة عبر جهاز مكبر الصوت بدعة، فما قولكم في ذلك؟
الجواب: إقامة الصلاة بواسطة مكبر الصوت إنما هي استعمال لوسيلة مشروعة في الدعوة للصلاة وتنبيه للمصلين ولا حرج في ذلك شرعاً ولا أرى فرقاً معتبراً بين الأذان باستعمال مكبر الصوت وبين الإقامة باستعماله والأمر ليس له علاقة بالبدعة لا من قريب ولا من بعيد.
حكم رفع اليدين بين السجدتين
يقول السائل: حصل نقاشٌ بين المصلين في مسألة رفع اليدين في الصلاة عند الرفع من السجدة الأولى وعند الهوي إلى السجدة الثانية فهل ثبت رفع اليدين في هذين الموطنين من الصلاة؟ أفيدونا.
الجواب: الثابت من سنة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع اليدين في الصلاة في أربعة مواضع فقط وهي: الأول عند تكبيرة الإحرام، الثاني عند الركوع، الثالث عند الرفع من الركوع الرابع عند القيام من التشهد الأوسط في الصلاة الثلاثية والرباعية، هذه هي المواطن التي ثبت فيها رفع الأيدي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودلت على ذلك الأدلة، منها: ما رواه البخاري بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (رأيت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - افتتح التكبير في الصلاة فرفع يديه حين يكبر حتى يجعلهما حذو منكبيه وإذا كبّر للركوع فعل مثله وإذا قال سمع الله لمن حمده فعل مثله وقال ربنا ولك الحمد ولا يفعل ذلك حين يسجد ولا حين يرفع رأسه من السجود) . ورواه مسلم بلفظ: (رأيت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي منكبيه وقبل أن يركع وإذا رفع من الركوع ولا يرفعهما بين السجدتين) . وفي رواية مسلم: (ولا(7/21)
يفعله حين يرفع رأسه من السجود) . هذه الأحاديث أثبتت الرفع في ثلاثة مواطن عند تكبيرة الإحرام وعند الركوع وعند الرفع منه، وأما الموطن الرابع وهو عند القيام من الركعتين فقد ثبت في حديث نافع أن ابن عمر- رضي الله عنه -: (كان إذا دخل في الصلاة كبّر ورفع يديه وإذا ركع رفع يديه. وإذا قال سمع الله لمن حمده رفع يديه. وإذا قام من الركعتين رفع يديه ورفع ذلك ابن عمر إلى النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) رواه البخاري.
وقال الإمام البخاري (باب رفع اليدين إذا قام من الركعتين) ثم ذكر حديث نافع عن ابن عمر السابق. وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [قوله: (ورفع ذلك ابن عمر إلى النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . وقد توبع نافع على ذلك عن ابن عمر وهو فيما رواه أبو داود وصححه البخاري في الجزء المذكور من طريق محارب بن دثار عن ابن عمر قال: (كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قام في الركعتين كبر ورفع يديه) وله شواهد منها حديث أبي حميد الساعدي وحديث علي بن أبي طالب أخرجهما أبو دواد وصححهما ابن خزيمة وابن حبان وقال البخاري في الجزء المذكور: [ما زاده ابن عمر وعلي وأبو حميد في عشرة من الصحابة من الرفع عند القيام من الركعتين صحيح لأنهم لم يحكوا صلاة واحدة فاختلفوا فيها وإنما زاد بعضهم على بعض والزيادة مقبولة من أهل العلم وقال ابن بطال: هذه زيادة يجب قبولها لمن يقول بالرفع وقال الخطابي: لم يقل به الشافعي وهو لازم على أصله في قبول الزيادة. وقال ابن خزيمة: هو سنة وإن لم يذكره الشافعي فالإسناد صحيح وقد قال: قولوا بالسنة ودعوا قولي. وقال ابن دقيق العيد: قياس نظر الشافعي أنه يستحب الرفع فيه لأنه أثبت الرفع عند الركوع والرفع منه لكونه زائداً على من اقتصر عليه عند الافتتاح والحجة في الموضعين واحدة وأول راضٍ سيرةً من يسيرها. وقال: والصواب إثباته] فتح الباري 12/288
هذه المواطن الأربعة التي ثبت فيها رفع اليدين عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصلاة وأما رفع اليدين عند الهوي إلى السجود وعند الرفع من السجدة الأولى وعند الهوي إلى السجدة الثانية فلم يثبت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهذا مذهب(7/22)
جماهير أهل العلم والقول بإثبات الرفع في غير المواطن الأربعة قول مخالف للصواب.
قال العلامة ابن القيم في وصفه لصلاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: [ثم كان يكبر ويخر ساجداً ولا يرفع يديه. وقد روي أنه كان يرفعهما أيضاً وصححه بعض الحفاظ كأبي محمد بن حزم رحمه الله وهو وهمٌ فلا يصح ذلك عنه البتة والذي غرّه أن الراوي غلط من قوله: (كان يكبر في كل خفض ورفع) إلى قوله (وكان يرفع يديه عند كل خفض ورفع) وهو ثقة ولم يفطن لسبب غلط الراوي ووهمه فصححه والله أعلم] زاد المعاد 1/222-223.
وقال العلامة ابن القيم أيضاً: [ثم كان - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرفع رأسه مكبراً - من السجود - غير رافعٍ يديه] زاد المعاد1/238.
ويدل على عدم الرفع في غير المواطن الأربعة السابقة ما جاء في حديث ابن عمر السابق: (ولا يفعل ذلك حين يسجد ولا حين يرفع رأسه من السجود) وفي الرواية الثانية: (ولا يرفعهما بين السجدتين) .
وفي الرواية الثالثة: (ولا يفعله حين يرفع رأسه من السجود) . وهذا النص الثابت في الصحيحين لا يصح العدول عنه حتى يقوم دليلٌ صحيحٌ يثبت الرفع ولم يقم دليلٌ على ذلك.
قال الشوكاني بعد أن ذكر بعض الروايات الواردة في رفع اليدين عند السجود وعند الرفع منه قال: [وهذه الأحاديث لا تنتهض للاحتجاج بها على الرفع في غير تلك المواطن فالواجب البقاء على النص الثابت في الصحيحين حتى يقوم دليل صحيح يقتضي تخصيصه كما قام في الرفع عند القيام من التشهد الأوسط] نيل الأوطار 2/204.
وأما ما ذهب إليه الشيخ العلامة الألباني من إثبات رفع اليدين عند السجود وعند الرفع منه وأنه لا تعارض بين حديث ابن عمر وبين الأحاديث المثبتة للرفع عند السجود والرفع منه لأن حديث ابن عمر نافٍ والمثبت مقدم على النافي كما تقرر في علم الأصول. انظر تمام المنة في التعليق على فقه السنة ص172.(7/23)
فكلام الشيخ الألباني غير مسلَّم، لأن النفي هنا في قوة الإثبات وابن عمر من أكثر الصحابة اتباعاً للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال العلامة محمد بن صالح العثيمين: [. لأن رفع اليدين عند السجود ليس بسنة فقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وهو من أشد الناس حرصاً على السنة وأضبط الناس لها أنه ذكر (أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يرفع يديه إذا كبر للإحرام وإذا كبر للركوع وإذا رفع من الركوع قال: وكان لا يفعل ذلك في السجود ولا إذا قام من السجود) والرجل قد ضبط وفصَّل وبيَّن وليس هذا من باب النفي المجرد، هذا نفي يدل على إثبات ترك الفعل لأن الرجل قد تحرى الصلاة وضبط تكبيره ورفعه عند الدخول في الصلاة وعند الركوع وعند الرفع منه فأثبت التكبير والرفع في ثلاثة مواضع ونفى الرفع في السجود وعند القيام من السجود وعلى هذا فليس من السنة أن يرفع يديه إذا سجد وقد روي عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يرفع في كل خفض ورفع ولكن الحافظ ابن القيم رحمه الله ذكر أن هذا وهم وأن صواب الحديث (كان يكبر في كل خفض ورفع) ووجه الوهم فيه حديث ابن عمر فإنه صريح بعدم الرفع عند السجود وعند الرفع من السجود وليس هذا من باب تعارض مثبت ومنفي حتى نقول بالقاعدة المشهورة: إن المثبت مقدم على النافي لأن النفي هنا في قوة الإثبات فإنه رجل يحكي عن عمل واحد فصَّلَه قال: هذا فيه كذا وأثبته وهذا ليس فيه كذا ونفاه وفرق بين النفي المطلق وبين النفي المقرون بالتفصيل فإن النفي المقرون بالتفصيل دليل على أن صاحبه قد ضبط حتى وصل إلى هذه الحال عرف ما ثبت فيه الرفع وما لم يثبت فيه الرفع وعلى هذا فنقول إن حديث ابن عمر الثابت في الصحيحين مقدم على ذلك الحديث الضعيف والوهم فيه قريب] الشرح الممتع على زاد المستقنع 3/149-151.
وقال العلامة ابن عثيمين في موضع آخر: [بالنسبة لرفع اليدين حذو المنكبين فالصواب أن الأمر فيه واسع ويكون في أربعة مواضع عند التكبير وعند الركوع وعند الرفع منه وعند القيام من التشهد الأول هذا هو الذي ثبت عنه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأما ما روي أنه يرفع في كل رفع وخفض فإن هذا من باب(7/24)
الوهم وهو أن الراوي نقل حكم التكبير إلى الرفع فإن الذي ثبت فعله عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في كل خفض ورفع إنما هو التكبير ويدل لذلك أن ابن عمر رضي الله عنهما أخبر أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يرفع يديه في هذه المواضع الأربعة كما أخبر أنه لا يفعل ذلك في السجود فجزم أنه لا يفعله في السجود مما يدل على أن ابن عمر رضي الله عنهما كان مشاهداً للنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رفعه وعدم رفعه وعلى ذلك يكون ابن عمر رضي الله عنهما مثبتاً للترك فالصواب أنه لا رفع إلا في هذه المواضع الأربعة] فتاوى منار الإسلام 1/162-163.
وخلاصة الأمر أن من السنة رفع اليدين في المواضع الأربعة المذكورة ولا رفع فيما عداها.
حكم من يصلي الفريضة ولا يصلي النافلة
يقول السائل: ما حكم من يصلي الفريضة ولا يصلي النافلة؟
الجواب: المطلوب من المسلم أن يحافظ على الصلاة محافظة تامة فيصلي الفرائض والسنن وإن التقصير في النافلة قد يؤدي إلى التقصير في الفريضة. والنوافل بمثابة سياج للفرائض فإذا حصل نقص في الفرائض أكمل من النوافل وخاصة إن كثيراً من المصلين لا يعطون الصلاة المفروضة حقها فلا يتمونها وقد جاء في الحديث عن أبي اليسر كعب بن عمرو السلمي - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (منكم من يصلي الصلاة كاملة ومنكم من يصلي النصف والثلث والربع والخمس حتى بلغ العشر) رواه النسائي بإسناد حسن كما قال المنذري وحسنه الألباني أيضاً. انظر صحيح الترغيب والترهيب حديث رقم 539.
وعن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: (إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته تسعها ثمنها سبعها سدسها خمسها ربعها ثلثها نصفها) رواه أبو داود والنسائي وابن حبان وهو حديث صحيح كما قال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب حديث رقم 538.
فإذا حصل نقص في صلاة الفريضة فإن النقص يكمل من النوافل فلذا على المسلم أن يحافظ على النوافل وقد ورد في الحديث عن حريث بن قبيصة قال: قدمت المدينة فقلت: اللهم يسر لي جليساً صالحاً قال فجلست إلى أبي هريرة فقلت: إني سألت الله أن يرزقني جليساً صالحاً فحدثني بحديث سمعته من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعل الله أن ينفعني به؟ فقال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: (إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته فإن صلحت فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وخسر فإن انتقص من فريضته شيء قال الرب تبارك وتعالى: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فيكمل بها ما انتقص من الفريضة ثم يكون سائر عمله على ذلك) رواه الترمذي وحسنه ورواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم وهو حديث صحيح كما قال الألباني في صحيح سنن الترمذي 1/130.
وجاء في رواية أخرى عن تميم الداري - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته فإن أكملها كتبت له نافلة فإن لم يكن أكملها يقول الله سبحانه لملائكته انظروا هل تجدون لعبدي من تطوع؟ فأكملوا بها ما ضيع من فريضته ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وهو حديث(7/25)
صحيح كما قال الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 1/241.
قال الحافظ ابن عبد البر: [أما إكمال الفريضة من التطوع فإنما يكون ذلك - والله أعلم - فيمن سها عن فريضة فلم يأت بها أو لم يحسن ركوعها ولم يدر قدر ذلك وأما من تعمد تركها أو نسي ثم ذكرها فلم يأت بها عامداً واشتغل بالتطوع عن أداء فرضه وهو ذاكر له فلا تكمل له فريضته تلك من تطوعه والله أعلم] فتح المالك 3/297.
وقال الإمام ابن العربي المالكي شارحاً لحديث أبي هريرة الأول: [يحتمل أن يكون يكمل له ما نقص من فرض الصلاة وأعدادها بفضل التطوع ويحتمل ما نقصه من الخشوع والأول عندي أظهر لقوله: ثم الزكاة(7/26)
كذلك وسائر الأعمال وليس في الزكاة إلا فرض أو فضل فكما يكمل فرض الزكاة بفضلها كذلك الصلاة وفضل الله أوسع ووعده أنفذ وعزمه أعم وأتم] عارضة الأحوذي 2/175-176.
وقال الحافظ العراقي: [يحتمل أن يراد به ما انتقصه من السنن والهيئات المشروعة فيها من الخشوع والأذكار والأدعية وأنه يحصل له ثواب ذلك في الفريضة وإن لم يفعله فيها وإنما فعله في التطوع ويحتمل أن يراد به ما انتقص أيضاً من فروضها وشروطها ويحتمل أن يراد ما ترك من الفرائض رأساً فلم يصله فيعوض عنه من التطوع والله سبحانه وتعالى يقبل من التطوعات الصحيحة عوضاً عن الصلوات المفروضة] تحفة الأحوذي 2/384.
وقال العلامة علي القاري في بيان ما جاء في الحديث: [انظروا هل لعبدي من تطوع.) - أي - في صحيفته وهو أعلم به منهم أي: سنة أو نافلة من صلاة على ما هو ظاهر من السياق قبل الفرض أو بعده أو مطلقاً ولم يعلم العبد نقصان فرضه حتى يقضيه فيكمَّل: بالتشديد ويخفف على بناء الفاعل أو المفعول وهو الأظهر وبالنصب ويرفع بها: أي بنافلته قال ابن الملك: أي بالتطوع وتأنيث الضمير باعتبار النافلة قال الطيبي: الظاهر نصب فيكمَّل على أنه من كلام الله سبحانه وتعالى جواباً للاستفهام ويؤيده رواية أحمد فكمِّلوا بها فريضته وإنما أنث ضمير التطوع في بها نظراً إلى الصلاة، ما انتقص من الفريضة أي: مقداره ثم يكون سائر عمله من الصوم والزكاة وغيرهما على ذلك أي: إن ترك شيئاً من المفروض يكمَّل له بالتطوع.
وفي رواية ثم الزكاة مثل ذلك: يعني: الأعمال المالية مثل الأعمال البدنية على السوية ثم تؤخذ الأعمال أي: سائر الأعمال من الجنايات والسيئات على حسب ذلك من الطاعات والحسنات فإن الحسنات يذهبن السيئات وقال ابن الملك أي: على حسب ذلك المثال المذكور فمن كان حق عليه لأحد يؤخذ من عمله الصالح بقدر ذلك ويدفع إلى صاحبه] المرقاة 3/142.(7/27)
وخلاصة الأمر أن على المسلم المحافظة على الصلاة بشكل عام، الفرض منها والسنة فإن النوافل والسنن تكمل ما يطرأ على صلاة الفريضة من نقص وكثير من المصلين تكون صلاة الفريضة عنده ناقصة إلا من رحم الله جل وعلا.
حكم القنوت في صلاة الفجر
يقول السائل: اختلف المصلون في المسجد الذي نصلي فيه في مسألة القنوت في صلاة الفجر أرجو توضيح ذلك.
الجواب: ثبت في الحديث الصحيح عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - (أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت في صلاة الفجر شهراً يدعو في قنوته على أحياء من أحياء العرب ثم تركه) رواه البخاري ومسلم.
وثبت (أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقنت في صلاة المغرب والفجر) رواه مسلم.
وجاء في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (قنت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهراً متتابعاً في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح في دبر كل صلاة إذا قال سمع الله لمن حمده من الركعة الأخيرة يدعو على أحياء من بني سليم على رعل وذكوان وعصية ويؤمِّن من خلفه) رواه أحمد وأبو داود وهو حديث حسن، كما في صحيح سنن أبي داود 1/271.
ووردت أحاديث أخرى في قنوت النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصلوات المفروضات وهذه الأحاديث تدل على أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقنت في النوازل وعند حلول المصائب في الصلوات الخمس وليس في صلاة الفجر فقط. لذا فإن الصحيح من أقوال أهل العلم أن القنوت ليس خاصاً بصلاة الفجر وإنما يقنت في الصلوات الخمس عند حلول المصائب فقط.
وأما القنوت في الفجر دائماً وباستمرار، فليس بثابت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الراجح من أقوال أهل العلم.(7/28)
قال العلامة ابن القيم: [وقنت - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الفجر بعد الركوع شهراً ثم ترك القنوت ولم يكن من هديه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القنوت فيها دائماً ومن المحال أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في كل غداة - أي صلاة الفجر - بعد اعتداله من الركوع يقول: (اللهم اهدني فيمن هديت وتولني فيمن توليت. إلخ) ويرفع بذلك صوته ويؤمِّن عليه أصحابه دائماً إلى أن فارق الدنيا ثم لا يكون ذلك معلوماً عند الأمة بل يضيعه أكثر أمته وجمهور أصحابه بل كلهم حتى يقول من يقول منهم: إنه محدث كما، قال سعد بن طارق الأشجعي قلت لأبي: (يا أبت إنك قد صليت خلف رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم هاهنا وبالكوفة منذ خمس سنين فكانوا يقنتون في الفجر؟ فقال: أي بني محدث) . رواه أهل السنن وأحمد وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وذكر الدارقطني عن سعيد بن جبير قال: أشهد أني سمعت ابن عباس يقول: إن القنوت في صلاة الفجر بدعة. وذكر البيهقي عن أبي مجلز قال: صليت مع ابن عمر صلاة الصبح فلم يقنت فقلت له: لا أراك تقنت فقال: لا أحفظه عن أحد من أصحابنا.
ومن المعلوم بالضرورة أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لو كان يقنت كل غداة ويدعو بهذا الدعاء ويؤمِّن الصحابة لكان نقل الأمة لذلك كلهم كنقلهم لجهره بالقراءة فيها وعددها ووقتها وإن جاز عليهم تضييع أمر القنوت منها جاز عليهم تضييع ذلك ولا فرق] زاد المعاد في هدي خير العباد 1/271-272.
وأما ما ورد أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - داوم على القنوت في الفجر فليس بثابت عند أهل العلم، والحديث الوارد في ذلك وهو عن أنس - رضي الله عنه - قال: (ما زال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا) فهو حديث ضعيف لا تقوم به الحجة. انظر السلسلة الضعيفة 3/384-388.
وبناءً على ما تقدم فإن القول الراجح في هذه المسألة هو عدم المداومة على القنوت في الفجر وإنما يقنت عند النوازل والمصائب والبلايا(7/29)
حيث إن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت وترك القنوت وتركه القنوت أكثر من فعله له فإنه إنما قنت عند النوازل للدعاء لقوم وللدعاء على آخرين ثم تركه لما قدم من دعا لهم وتخلصوا من الأسر وأسلم من دعا عليهم وجاءوا تائبين فكان قنوته لعارض فلما زال ترك القنوت ولم يخصه بالفجر.
فالمطلوب من المسلمين أن يقنتوا حيث قنت رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويتركوا القنوت حيث تركه وهذا هو الاقتداء المطلوب شرعاً ففعله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سنة وتركه سنة.
ومع هذا لا ينبغي الإنكار على من داوم على القنوت ولا الإنكار على من تركه، بل من قنت فقد أحسن وخاصة مع كثرة المصائب والكوارث التي حلت وتحل بالمسلمين في هذه الأيام ومن تركه فقد أحسن ولا يترتب على فعل القنوت أو تركه بطلان الصلاة عند القائل بمشروعية القنوت أو عدم مشروعيته من الفقهاء. انظر زاد المعاد 1/274-275.
السهو عن الجلوس الأوسط
يقول السائل: إن إمام مسجدهم قد سها في صلاة العشاء فقام من الركعة الثانية إلى الثالثة دون أن يجلس للتشهد الأوسط ولم يقم المصلون معه بل سبحوا ثم رجع الإمام إلى الجلوس وأتمَّ الإمام الصلاة وسجد للسهو. وبعد الانتهاء من الصلاة قام أحد المصلين وقال إن الصلاة باطلة ثم أعادوا الصلاة جميعاً. فما قولكم؟
الجواب: النسيان والسهو من الأمور الملازمة للإنسان والسهو في الصلاة واقع فقد سها النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكثر من مرة في صلاته كما ثبت ذلك في عدة أحاديث منها: عن عبد الله بن بحينة - رضي الله عنه - أنه قال: (صلى لنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين من بعض الصلوات، ثم قام فلم يجلس فقام الناس معه فلما قضى صلاته ونظرنا تسليمه كبر قبل التسليم فسجد سجدتين وهو جالس ثم سلَّم) رواه البخاري ومسلم.(7/30)
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: (أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الظهر خمساً فقيل له: أزيد في الصلاة؟ فقال: وما ذاك؟ قال: صليت خمساً فسجد سجدتين بعدما سلَّم) رواه البخاري ومسلم. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (صلَّى بنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إحدى صلاتي العشي إما الظهر وإما العصر فسلم في ركعتين ثم أتى جذعاً في قبلة المسجد فاستند إليها مغضباً وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يتكلما وخرج سرعان الناس قصرت الصلاة فقام ذو اليدين فقال: يا رسول الله أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فنظر النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يميناً وشمالاً فقال: ما يقول ذو اليدين؟ قالوا: صدق لم تصل إلا ركعتين فصلى ركعتين وسلَّم ثم كبر ثم سجد ثم كبر فرفع ثم كبر وسجد ثم كبر ورفع قال: وأخبرت عن عمران بن حصين أنه قال: وسلَّم) رواه البخاري ومسلم. وغير ذلك من الأحاديث. وسجود السهو واجب في الصلاة إذا وُجد المقتضي له على الراجح من أقوال أهل العلم كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى 23/27-28
إذا تقرر هذا فأعود إلى جواب السؤال فأقول: إذا سها الإمام بعد الركعتين الأوليين فقام إلى الثالثة فينبغي أن لا يرجع ويتم صلاته ثم يسجد للسهو. وأما إذا عاد إلى الجلوس بعد أن استتم قائماً فقد أساء وأتى مكروهاً وصلاته لا تبطل بل صحيحة وهذا قول جمهور أهل العلم. قال الحافظ ابن عبد البر شارحاً لحديث عبد الله بن بحينة المذكور أولاً ما نصه: [وفي هذا الحديث من الفقه أن المصلي إذا قام من اثنتين واعتدل قائماً لم يكن له أن يرجع وإنما قلنا واعتدل قائماً لأن الناهض لا يسمى قائماً حتى يعتدل على الحقيقة وإنما القائم المعتدل وفي حديثنا هذا: ثم قام وإنما قلنا لا ينبغي له إذا اعتدل قائماً أن يرجع لأنه معلوم أن من اعتدل قائماً في هذه المسألة لا يخلو من أن يذكر بنفسه أو يُذكِّره من خلفه بالتسبيح ولا سيما قوم قيل لهم: من نابه شيء في صلاته فليسبح وهم أهل النهى وأولى من عمل بما حفظ ووعى وأي الحالين كانت فلم ينصرف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الجلوس بعد قيامه فكذلك ينبغي لكل من قام من اثنتين أن لا يرجع فإن رجع إلى الجلوس بعد قيامه لم تفسد صلاته عند جمهور العلماء وإن(7/31)
اختلفوا في سجود سهوه وحال رجوعه وقد قال بعض المتأخرين: تفسد صلاته وهو قول ضعيف لا وجه له لأن الأصل ما فعله وترك الرجوع رخصة وتنبيه على أن الجلسة لم تكن فرضاً والله أعلم] فتح المالك 2/204.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [فأما القيام في موضع الجلوس ففي ثلاث صور إحداها: أن يترك التشهد الأول ويقوم وفيه ثلاث مسائل: الأولى ذكره قبل اعتداله قائماً فيلزمه الرجوع إلى التشهد وممن قال يجلس: علقمة والضحاك وقتادة والأوزاعي والشافعي وابن المنذر وقال مالك: إن فارقت أليتاه الأرض مضى وقال حسان بن عطية: إذا تجافت ركبتاه عن الأرض مضى. ولنا: ما روى المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (فإذا قام أحدكم في الركعتين فلم يستتم قائماً فليجلس فإذا استتم قائماً فلا يجلس ويسجد سجدتي السهو) رواه أبو داود وابن ماجة ولأنه أخل بواجب ذكره قبل الشروع في ركن مقصود فلزمه الإتيان به كما لو لم تفارق أليتاه الأرض.
المسألة الثانية: ذكره بعد اعتداله قائماً وقبل شروعه في القراءة فالأولى له أن لا يجلس وإن جلس جاز نص عليه - أي الإمام أحمد - قال النخعي: يرجع ما لم يستفتح القراءة وقال حماد بن أبي سليمان: إن ذكر ساعة يقوم جلس.
ولنا: حديث المغيرة وما نذكره فيما بعد ولأنه ذكره بعد الشروع في ركن فلم يلزمه الرجوع كما لو ذكره بعد الشروع في القراءة ويحتمل أنه لا يجوز له الرجوع لحديث المغيرة ولأنه شرع في ركن فلم يجز له الرجوع كما لو شرع في القراءة.
المسألة الثالثة: ذكره بعد الشروع في القراءة فلا يجوز له الرجوع ويمضي في صلاته في قول أكثر أهل العلم وممن روي عنه أنه لا يرجع عمر وسعد بن أبي وقاص وابن مسعود والمغيرة بن شعبة والنعمان بن بشير وابن الزبير والضحاك بن قيس وعقبة بن عامر وهو قول أكثر الفقهاء] المغني 2/20.(7/32)
والحديث الذي ذكره الشيخ ابن قدامة رواه أبو داود وابن ماجة وقال أبو داود بعد أن ذكره: [وليس في كتابي عن جابر الجعفي إلا هذا الحديث] وجابر الجعفي ضعيف لا يحتج به عند كثير من أهل الحديث. انظر عون المعبود 3/247 والتلخيص الحبير 2/4. وكلام أبو داود يشير إلى أن الحديث ضعيف. ولكن الشيخ الألباني صحح الحديث لشواهده. انظر السلسلة الصحيحة الجزء الأول حديث رقم 321.
وقد ذكر العلامة ابن عثيمين أن المصلي إن عاد بعد أن استتم قائماً فقد أتى مكروهاً ولم تبطل صلاته لأنه لم يفعل محرماً. الشرح الممتع على زاد المستقنع 3/512.
وأخيراً أنبه على أن جماعة من العلماء كالحنفية والشافعية ذهبوا إلى إبطال صلاة من عاد من القيام إلى الجلوس ولكن قولهم مرجوح. ويضاف إلى ما سبق أن عدداً ليس قليلاً من أئمة المساجد والمصلين الذين يقعون في هذا السهو يجهلون الحكم الشرعي له وقد قال جمهور العلماء إن المصلي إذا عاد للتشهد الأوسط بعد أن استتم قائماً ناسياً أو جاهلاً فإن صلاته لا تبطل لما ورد في الحديث من قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه ابن ماجة والحاكم وصححه ووافقه الذهبي. انظر الموسوعة الفقهية 24/245.
وقال الحطاب الفقيه المالكي معلقاً على كلام الشيخ خليل: [ولا تبطل إن رجع ولو استقل يعني أن من فارق الأرض بيديه وركبتيه إذا قلنا إنه لا يرجع فرجع فلا تبطل صلاته وسواء رجع عمداً أو سهواً أو جهلاً] مواهب الجليل لشرح مختصر خليل 2/338.
وخلاصة الأمر أنه لا ينبغي إبطال صلاة المصلين ما دام يمكن حملها على الصحة. لأن إبطال صلاة المصلين ليس أمراً هيناً.(7/33)
سنة العصر
يقول السائل: هل لصلاة العصر سنة راتبة؟
الجواب: ثبت عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يصلي قبل العصر ركعتين وأحياناً أربع ركعات ولكن الراجح من أقوال أهل العلم أن هذه الصلاة لم تكن راتبة لذا لم يعتبرها المحققون من العلماء من السنن الرواتب بل اعتبروها من السنن المستحبة وبعضهم يعتبرها من السنن غير المؤكدة وهي السنن التي لم يواظب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليها، ومن الأحاديث الواردة في الصلاة قبل العصر ما يلي:
عن ابن عمر - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (رحم الله امرءً صلى قبل العصر أربعاً) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه ورواه ابن خزيمة وابن حبان وصححاه وحسنه الألباني انظر صحيح الترغيب والترهيب 1/382.
وعن علي - رضي الله عنه - قال: (كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي قبل العصر أربع ركعات يفصل بينهن بالتسليم على الملائكة المقربين ومن تبعهم من المسلمين) رواه الترمذي وحسنه وقال الألباني سنده حسن. مشكاة المصابيح 1/368.
وعن علي - رضي الله عنه - أيضاً قال: (كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي قبل العصر ركعتين) رواه أبو داود وإسناده صحيح كما قال الإمام النووي في المجموع 4/8. وقال الألباني إسناده حسن انظر المصدر السابق.
ومما يؤيد صلاة ركعتين قبل العصر عموم قول النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (بين كل أذانين صلاة) وهو حديث صحيح. والمقصود بالأذانين الأذان والإقامة.
وبناء على هذه الأحاديث المتقدمة فإن المصلي مخير بين أن يصلي ركعتين أو أربعاً قبل العصر جمعاً بين هذه الأحاديث والأربع أفضل، انظر عون المعبود 4/105. واختار الحنفية والإمام أحمد في رواية صلاة أربع ركعات قبل العصر، انظر غاية المرام 5/391.(7/34)
قال الشوكاني: [والأحاديث المذكورة تدل على استحباب أربع ركعات قبل العصر والدعاء منه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالرحمة لمن فعل ذلك والتصريح بتحريم بدنه على النار مما يتنافس فيه المتنافسون] نيل الأوطار 3/21.
صلاة العصر هي الصلاة الوسطى
يقول السائل: إنه سمع أحد العلماء على إحدى القنوات الفضائية يذكر أن الصلاة الوسطى المذكورة في قوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) أنها صلاة الجمعة لما لها من فضائل وأن المسلم يتهيأ لها ويتطيب ويلبس أجمل ثيابه ونحو ذلك فما قولكم فيما قال؟
الجواب: لقد أمر الله سبحانه وتعالى بالمحافظة على الصلوات جميعاً والمحافظة هي المداومة على الشيء والمواظبة عليه فينبغي للمسلم أن يحافظ على أداء الصلوات في أوقاتها بجميع أركانها وشروطها وسننها وآدابها وخص الصلاة الوسطى بالذكر لأهميتها وفضلها والوسطى تأنيث الأوسط ووسط الشيء خيره وأعدله. انظر تفسير القرطبي 3/208-209.
وقد اختلف أهل العلم على أقوال عديدة في المراد بالصلاة الوسطى المذكورة في قوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) سورة البقرة الآية 238
وأرجح الأقوال وأصحها أنها صلاة العصر ويدل على ذلك ما يلي:
عن علي - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم الخندق: (حبسونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس ملأ الله قبورهم وبيوتهم أو أجوافهم ناراً) رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية لمسلم عن علي - رضي الله عنه - قال: (لما كان يوم الأحزاب قال رسول الله: ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً كما حبسونا وشغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس) .(7/35)
وفي رواية أخرى لمسلم: (شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً ثم صلاها بين العشائين بين المغرب والعشاء) .
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: (حبس المشركون رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس أو اصفرت فقال رسول الله: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً أو قال: حشا الله أجوافهم وقبورهم ناراً) رواه مسلم.
وروى الترمذي بإسناده عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: (قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الوسطى صلاة العصر) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وروى الترمذي أيضاً عن الحسن عن سمرة بن جندب عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: (صلاة الوسطى صلاة العصر) . وقال الترمذي: [وفي الباب عن علي وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وعائشة وحفصة وأبي هريرة وأبي هاشم بن عتبة، قال أبو عيسى - الترمذي - قال محمد - هو البخاري - قال علي بن عبد الله حديث الحسن عن سمرة بن جندب حديث صحيح وقد سمع منه.
وقال أبو عيسى الترمذي: (حديث سمرة في صلاة الوسطى حديث حسن وهو قول أكثر العلماء من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيرهم) سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 1/456.
وعن علي - رضي الله عنه - قال كنا نراها الفجر فقال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هي صلاة العصر يعني صلاة الوسطى. رواه أحمد وسنده جيد. الفتح الرباني 2/261.
وعن عبيدة السلماني قال كنا نرى أن صلاة الوسطى صلاة الصبح قال فحدثنا علي - رضي الله عنه - أنهم يوم الأحزاب اقتتلوا وحبسونا عن صلاة العصر فقال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللهم املأ قبورهم نارا أو املأ بطونهم نارا كما حبسونا عن صلاة الوسطى قال فعرفنا يومئذ أن صلاة الوسطى صلاة العصر. رواه أحمد.(7/36)
وعن البراء بن عازب قال نزلت هذه الآية (حافظوا على الصلوات وصلاة العصر) فقرأناها ما شاء الله أن نقرأها ثم نسخها الله فنزلت (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) فقال رجل كان جالساً عند شقيق له: هي إذن صلاة العصر فقال البراء: قد أخبرتك كيف نزلت وكيف نسخها الله تعالى والله أعلم. رواه مسلم. وغير ذلك من الأدلة.
وقد اختار هذا القول جماعة من أهل العلم. قال الإمام النووي: [اختلف العلماء من الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم في الصلاة الوسطى المذكورة في القرآن فقال جماعة: هي العصر ممن نقل هذا عنه علي بن أبي طالب وابن مسعود وأبو أيوب وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وعبيدة السلماني والحسن البصري وإبراهيم النخعي وقتادة والضحاك والكلبي ومقاتل وأبو حنيفة وأحمد وداود وابن المنذر وغيرهم رضي الله عنهم. قال الترمذي: هو قول أكثر العلماء من الصحابة فمن بعدهم رضي الله عنهم. وقال الماوردي من أصحابنا: هذا مذهب الشافعي رحمه الله لصحة الأحاديث فيه، قال وإنما نص على أنها الصبح لأنه لم تبلغه الأحاديث الصحيحة في العصر ومذهبه اتباع الحديث] شرح النووي على صحيح مسلم 2/268.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وصلاة العصر هي الصلاة الوسطى في قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيرهم منهم علي بن أبي طالب وأبو هريرة وأبو أيوب وأبو سعيد وعبيدة السلماني والحسن والضحاك وأبو حنيفة وأصحابه] المغني 1/274
وقال المرداوي: [قوله عن العصر وهي الوسطى هو المذهب نص عليه الإمام أحمد وقطع به الأصحاب ولا أعلم عنه خلافاً ولا فيه خلافاً] الإنصاف 1/432.
وقد عدد الحافظ ابن حجر أقوال العلماء في المسألة وأوصلها إلى عشرين قولاً وذكر القول الثالث أنها العصر فقال: [قول علي بن أبي طالب فقد روى الترمذي والنسائي من طريق زر بن حبيش قال: قلنا لعبيدة سل(7/37)
علياً عن الصلاة الوسطى فسأله فقال: كنا نرى أنها الصبح حتى سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول يوم الأحزاب: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ... انتهى، وهذه الرواية تدفع دعوى من زعم أن قوله صلاة العصر مدرج من تفسير بعض الرواة وهي نص في أن كونها العصر من كلام النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأن شبهة من قال إنها الصبح قوية لكن كونها العصر هو المعتمد وبه قال ابن مسعود وأبو هريرة وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة وقول أحمد والذي صار إليه معظم الشافعية لصحة الحديث فيه، قال الترمذي هو قول أكثر علماء الصحابة. وقال الماوردي هو قول جمهور التابعين وقال ابن عبد البر هو قول أكثر أهل الأثر وبه قال من المالكية ابن حبيب وابن العربي وابن عطية ويؤيده أيضاً ما روى مسلم عن البراء بن عازب قال نزل حافظوا على الصلوات وصلاة العصر فقرأناها ما شاء الله ثم نسخت فنزلت حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى فقال رجل فهي إذن صلاة العصر. فقال أخبرتك كيف نزلت] فتح الباري 9/262.
ثم قال الحافظ: [وأقوى شبهة لمن زعم أنها غير العصر مع صحة الحديث حديث البراء الذي ذكرته عند مسلم فإنه يشعر بأنها أبهمت بعدما عينت كذا قاله القرطبي قال: وصار إلى أنها أبهمت جماعة من العلماء المتأخرين قال وهو الصحيح لتعارض الأدلة وعسر الترجيح. - قال الحافظ - وفي دعوى أنها أبهمت ثم عينت من حديث البراء نظر بل فيه أنها عينت ثم وصفت ولهذا قال الرجل فهي إذن العصر ولم ينكر عليه البراء. نعم جواب البراء يشعر بالتوقف لما نظر فيه من الاحتمال وهذا لا يدفع التصريح بها في حديث علي.
ومن حجتهم أيضاً ما روى مسلم وأحمد من طريق أبي يونس عن عائشة أنها أمرته أن يكتب لها مصحفاً فلما بلغت حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى قال فأملت علي وصلاة العصر قالت سمعتها من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وروى مالك عن عمرو بن رافع قال: قال كنت أكتب مصحفاً لحفصة فقالت إذا بلغت هذه الآية فآذني فأملت عليَّ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر....(7/38)
ثم ذكر الحافظ عدة روايات لهذا الحديث ثم قال: فتمسك قوم بأن العطف يقتضي المغايرة فتكون صلاة العصر غير الوسطى. وأجيب بأن حديث علي ومن وافقه أصح إسناداً وأصرح وبأن حديث عائشة قد عورض برواية عروة أنه كان في مصحفها وهي العصر فيحتمل أن تكون الواو زائدة ويؤيده ما رواه أبو عبيد بإسناد صحيح عن أبي ابن كعب أنه كان يقرؤها حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر بغير واو أو هي عاطفة لكن عطف صفة لا عطف ذات وبأن قوله والصلاة الوسطى والعصر لم يقرأ بها أحد ولعل أصل ذلك ما في حديث البراء أنها نزلت أولاً والعصر ثم نزلت ثانياً بدلها والصلاة الوسطى فجمع الراوي بينهما ومع وجود الاحتمال لا ينهض الاستدلال فكيف يكون مقدماً على النص الصريح بأنها صلاة العصر؟
قال شيخ شيوخنا الحافظ صلاح الدين العلائي: حاصل أدلة من قال إنها غير العصر يرجع إلى ثلاثة أنواع: أحدها تنصيص بعض الصحابة وهو معارض بمثله ممن قال منهم إنها العصر ويترجح قول العصر بالنص الصريح المرفوع وإذا اختلف الصحابة لم يكن قول بعضهم حجة على غيره فتبقى حجة المرفوع قائمة.
ثانيها معارضة المرفوع بورود التأكيد على فعل غيرها كالحث على المواظبة على الصبح والعشاء ... وهو معارض بما هو أقوى منه وهو الوعيد الشديد الوارد في ترك صلاة العصر ...
ثالثها ما جاء عن عائشة وحفصة من قراءة حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر فإن العطف يقتضي المغايرة وهذا يرد عليه إثبات القرآن بخبر الآحاد وهو ممتنع وكونه ينزل منزلة خبر الواحد مختلف فيه. سلمنا لكن لا يصلح معارضاً للمنصوص صريحا وأيضاً فليس العطف صريحاً في اقتضاء المغايرة لوروده في نسق الصفات كقوله تعالى: (الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ) ] فتح الباري 9/263-264.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [فقد ثبت بالنصوص الصحيحة(7/39)
عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الصلاة الوسطى هي العصر وهذا أمر لا يشك فيه من عرف الأحاديث المأثورة ولهذا اتفق على ذلك علماء الحديث وغيرهم وإن كان للصحابة والعلماء في ذلك مقالات متعددة فإنهم تكلموا بحسب اجتهادهم] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 23/106.
وقد رجح هذا القول الإمام ابن دقيق العيد وقال هذا هو القول الصحيح في المسألة كما في إحكام الأحكام شرح عمدة الحكام 1/171.
وقال الشوكاني: [وهو المذهب الحق الذي يتعين المصير إليه ولا يرتاب في صحته من أنصف من نفسه واطرح التقليد والعصبية وجوًّد النظر إلى الأدلة] نيل الأوطار 1/264
وخلاصة الأمر أن ما قاله الشيخ المذكور بأن الصلاة الوسطى هي الجمعة قول ضعيف ليس معه دليل كما أنه مخالف للأحاديث الثابتة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسألة.
لا يشترط النوم قبل صلاة القيام
يقول السائل: هل من الواجب على الإنسان أن يكون قد نام بعد صلاة العشاء حتى تصح صلاة قيام الليل في حقه؟
الجواب: صلاة قيام الليل من السنن الثابتة عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد ورد في فضلها نصوص كثيرة من كتاب الله ومن سنة رسوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمن ذلك: قوله تعالى: (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ) سورة الذاريات الآية 17. وقال تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) سورة السجدة الآية 16.
وجاء في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل] رواه مسلم. وصح في الحديث عن عائشة رضي الله عنها(7/40)
قالت: (كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه فقلت له: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا ركعتين جميعاً كتبا من الذاكرين والذاكرات) رواه أبو داود بإسناد صحيح كما قال الإمام النووي في رياض الصالحين ص468. وغير ذلك من النصوص.
وقد اتفق أهل العلم على أن صلاة الليل لا تكون إلا بعد صلاة العشاء ولا يشترط لصحة قيام الليل أن ينام الإنسان قبلها فلو بقي مستيقظاً إلى نصف الليل ثم صلى ما كتب له ثم نام فصلاته صحيحة باتفاق العلماء. ومن العلماء من قال إذا نام الإنسان من أول الليل ثم استيقظ فصلى ما كتب له فهذا هو التهجد. قال القرطبي عند تفسير قوله تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) سورة الإسراء الآية 79: [والتهجد التيقظ بعد رقدة فصار اسماً للصلاة لأنه ينتبه لها. فالتهجد القيام من الصلاة إلى النوم، قال معناه الأسود وعلقمة وعبد الرحمن بن الأسود وغيرهم. وروى إسماعيل بن إسحاق القاضي من حديث الحجاج بن عمر صاحب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: أيحسب أحدكم إذا قام من الليل كله أنه قد تهجد! إنما التهجد الصلاة بعد رقدة ثم الصلاة بعد رقدة ثم الصلاة بعد رقدة. كذلك كانت صلاة رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] تفسير القرطبي 10/308.
وأفضل وقت لقيام الليل هو نصف الليل الآخر أو ثلث الليل الآخر فهذا أفضل من أوله وقد ورد في الحديث (أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل أي الليل أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر فصل ما شئت) رواه الترمذي وقال حسن صحيح.
وخلاصة الأمر أنه لا يشترط لصحة صلاة قيام الليل أن ينام قبلها.(7/41)
شروط الجمع بين الصلاتين بسبب المطر
يقول السائل: متى يكون الجمع بين الصلاتين بسبب المطر صحيحاً وأرجو بيان شروطه؟
الجواب: إن الأصل في الصلوات الخمس أن تؤدى في الأوقات المخصصة لها شرعاً قال الله تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) سورة النساء الآية 103. ويدل على ذلك أيضاً حديث إمامة جبريل بالنبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو حديث صحيح مروي في دواوين السنة.
والجمع بين الصلاتين رخصة حيث وجدت أسبابها.
وإن من المؤسف أن بعض أئمة المساجد وكذا بعض عامة الناس يتساهلون في الجمع بين الصلاتين بسبب المطر فنرى بعضهم يجمع بدون سبب موجب كأن يكون المطر صباحاً فيجمع الإمام بين المغرب والعشاء وكذلك يجمعون بين الظهر والعصر ثم ينطلقون إلى أعمالهم وأسواقهم ولا يمنعهم المطر عنها وإنما منعهم عن الصلاة فقط.
ومثل هذا التساهل جمع المنفرد في بيته بين الصلاتين بسبب المطر كما يزعمون ونحو ذلك من التساهل.
وقد أجاز جمهور أهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة الجمع بين الصلاتين بسبب المطر على تفصيل عندهم أوضحه بما يلي: الجمع بين صلاتي الظهر والعصر بسبب المطر أجازه الشافعية في القول المعتمد عندهم ومنعه المالكية والحنابلة.
والجمع بين المغرب والعشاء بسبب المطر أجازه المالكية والشافعية والحنابلة والأدلة في الجمع بين المغرب والعشاء أقوى منها في الجمع بين الظهر والعصر ومن المعلوم أن لا جمع عند الحنفية إلا في عرفة ومزدلفة فقط. وعلى كل حال فإن الجمع بين الصلاتين للمطر عند القائلين به هو رخصة شرعية مقيدة بسبب وهو المطر فلا بد من التقيد بذلك ومن المعلوم(7/42)
أن هذه الرخصة شرعت من أجل رفع الحرج ودفع المشقة عن المصلين لتحصيل صلاة الجماعة.
وعليه فمن أخذ برأي العلماء القائلين بالجمع بين الصلوات للمطر فلا بد أن يلتزم بما قرره هؤلاء العلماء من سبب لهذا الجمع. فالشافعية الذين يقولون بالجمع بين الظهر والعصر للمطر وكذا المغرب والعشاء نصوا على أن سبب الجمع وجود مطر يبل الثياب ولا يجمع لأجل مطر لا يبل الثياب. انظر المجموع4/381.
وقال الشيخ ابن عثيمين: [قوله " لمطر يبل الثياب " يعني إذا كان هناك مطر يبل الثياب لكثرته وغزارته فإنه يجوز الجمع بين العشائين فإن كان المطر قليلاً لا يبل الثياب فإن الجمع لا يجوز لأن هذا النوع من المطر لا يلحق المكلف فيه مشقة بخلاف الذي يبل الثياب ولا سيما إذا كان في أيام الشتاء فإنه يلحقه مشقة من جهة البلل ومشقة أخرى من جهة البرد ولا سيما إذا انضم إلى ذلك ريح فإنها تزداد المشقة] الشرح الممتع 4/555.
كما أن العلماء القائلين بالجمع للمطر نصوا على وجود العذر وهو المطر عند الإحرام بالصلاة الأولى ومنهم من اعتبره حال الإحرام بالثانية أيضاً قال الإمام الشافعي: [ولا يجمع إلا والمطر مقيم في الوقت الذي تجمع فيه فإن صلى إحداهما ثم انقطع المطر لم يكن له أن يجمع الأخرى إليها] الأم 1/95. وقال الإمام النووي: [ويشترط وجود المطر في أول الصلاتين باتفاق الأصحاب] المجموع 4/382. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ومتى جمع في وقت الأولى اعتبر وجود العذر المبيح حال افتتاح الأولى والفراغ منها وافتتاح الثانية فمتى زال العذر في أحد هذه الثلاثة لم يبح الجمع] المغني 2/207. وقد نص العلماء القائلون بالجمع للمطر على أن الجمع رخصة لمن يصلي في المسجد جماعة وهذا قول المالكية والشافعية وقول عند الحنابلة وعليه لا يجوز الجمع للمنفرد الذي يصلي في بيته. قال الإمام الشافعي: [ولا يجمع إلا من خرج من بيته إلى المسجد(7/43)
يجمع فيه، قَرُبَ المسجد أو كثر أهله أو قلَّوا أو بعدوا ولا يجمع أحد في بيته لأن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع في المسجد والمصلي في بيته مخالف المصلي في المسجد] الأم 1/95. وانظر الجمع بين الصلاتين في المطر ص226.
وعلل ذلك الماوردي بأن الجمع يجوز لأجل المشقة وما يلحقه من أذى المطر وإذا عدم هذا المعنى امتنع جواز الجمع. الحاوي الكبير 2/399. وقال الإمام النووي: [قال أصحابنا والجمع بعذر المطر وما في معناه من الثلج وغيره يجوز لمن يصلي جماعة في مسجد يقصده من بعد ويتأذى بالمطر في طريقه] المجموع 4/381. وقالت اللجنة الدائمة للإفتاء السعودية ما نصه: [المشروع أن يجمع أهل المسجد إذا وجد مسوغ للجمع كالمطر كسباً لثواب الجماعة ورفقاً بالناس وبهذا جاءت الأحاديث الصحيحة أما جمع جماعة في بيت واحد من أجل العذر المذكور فلا يجوز لعدم وروده في الشرع المطهر وعدم وجود العذر المسبب للجمع] فتاوى اللجنة الدائمة 8/135.
وهذا هو الموافق للحكمة من مشروعية الجمع وهي رفع الحرج ودفع المشقة عمن يصلي في المسجد فأي حرج أو مشقة في حق من صلى في بيته؟
وأخيراً أنبه على بعض الأحكام المتعلقة بالجمع:
1. لا يشترط تقدم نية الجمع على الراجح من أقوال العلماء ولا يشترط للجمع أن يخبر الإمام المأمومين أنه يجمع فإن أخبرهم فحسن.
2. إذا جمعوا بين المغرب والعشاء فإنهم يصلون سنة المغرب بعد انتهائهم من الجمع أي بعد صلاة العشاء ثم يصلون سنة العشاء ولهم أن يصلوا الوتر أيضاً.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وإذا جمع في وقت الأولى فله أن يصلي سنة الثانية ويوتر قبل دخول وقت الثانية لأن سنتها تابعة لها فتتبعها في فعلها ووقتها والوتر وقته ما بين صلاة العشاء إلى صلاة الصبح وقد صلى العشاء فدخل وقته] المغني 2/207.(7/44)
وقال الإمام النووي في كيفية صلاة سنة الظهر والعصر إذا جمع بينهما: [والصواب الذي قاله المحققون أنه يصلي سنة الظهر التي قبلها ثم يصلي الظهر ثم العصر ثم سنة الظهر التي بعدها ثم سنة العصر] روضة الطالبين 1/503.
3. إن حضر المصلي إلى المسجد فوجدهم في صلاة العشاء وهو لم يصلِ المغرب فيدخل معهم بنية صلاة المغرب فإذا قام الإمام إلى الرابعة فالمأموم مخير بين حالين إما أن ينوي المفارقة فيسلم وإما أن يبقى جالساً منتظراً الإمام حتى يتم فيسلم معه والانتظار أفضل كما قال الإمام النووي في المجموع 4/270.
وأخيراً أنبه على أن كثيراً من أهل العلم يرون أن ترك الجمع أفضل وأولى بسبب خلاف من رأى عدم جواز الجمع.
قال الإمام النووي: [وترك الجمع أفضل بلا خلاف فيصلي كل صلاة في وقتها للخروج من الخلاف فإن أبا حنيفة وجماعة من التابعين لا يجوِّزونه. وممن نص على أن تركه أفضل الغزالي وصاحب التتمة. قال الغزالي في البسيط: لا خلاف أن ترك الجمع أفضل] روضة الطالبين 1/505. وقال ابن مفلح: [وتركه أفضل] الفروع 2/68.
وقال المرداوي: [يؤخذ من قول المصنف " ويجوز الجمع " أنه ليس بمستحب وهو كذلك بل تركه أفضل على الصحيح من المذهب وعليه أكثر الأصحاب] الإنصاف 2/334.
وخلاصة الأمر فإني أنصح أئمة المساجد بأن يلتزموا بما قرره أهل العلم وأحذرهم من التساهل في الجمع لأنه قد يوقع في معصية ألا وهي الجمع بين الصلاتين بدون عذر وقد ورد في بعض الآثار عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: [الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر] رواه البيهقي وذكر أنه مرسل ثم روى بسنده أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كتب إلى عامل له: ثلاث من الكبائر الجمع بين الصلاتين إلا في عذر والفرار من الزحف والنهبى) أبو قتادة العدوي أدرك عمر - رضي الله عنه - فإن كان شهده(7/45)
كتب فهو موصول وإلا فهو إذا انضم إلى الأول صار قوياً] السنن الكبرى 3/169. وقوى الأثرين صاحب الجوهر النقي.
الجمع بسبب فرض نظام حظر التجول
يقول السائل: إن إمام المسجد عندهم يجمع بين المغرب والعشاء في هذه الأيام بسبب فرض نظام منع التجول حيث إن كثيراً من المصلين يخافون الحضور للمسجد وقت العشاء فهل يجوز هذا الجمع؟
الجواب: من المعلوم عند أهل العلم أن الأصل أن تصلى الصلوات الخمس في أوقاتها المحددة شرعاً لقوله تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) سورة النساء الآية 103. وقد أجاز كثير من أهل العلم الجمع بين الصلاتين في السفر والحضر لأعذار معتبرة شرعاً. ومن الأعذار التي تجيز الجمع بين الصلاتين عذر الخوف فقد صح في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (صلَّى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر والعصر جميعاً والمغرب والعشاء جميعاً في غير خوف ولا سفر) رواه مسلم وفي رواية أخرى عنه قال: (صلَّى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر والعصر جميعاً بالمدينة في غير خوف ولا سفر. قال أبو الزبير - أحد الرواة -: فسألت سعيداً لم فعل ذلك؟ فقال: سألت ابن عباس كما سألتني فقال: أراد أن لا يحرج أحداً من أمته) رواه مسلم. وغير ذلك من الأدلة. وقد أجاز الجمع في الحضر لعذر الخوف جماعة من أهل العلم نقله عنهم الإمام النووي في المجموع 4/383 وفي شرحه على صحيح مسلم حيث قال: [وذهب من الأئمة إلى جواز الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتخذه عادة وهو قول ابن سيرين وأشهب من أصحاب مالك وحكاه الخطابي عن القفال والشاشي الكبير من أصحاب الشافعي عن أبي إسحاق المروزي عن جماعة من أصحاب الحديث واختاره ابن المنذر ويؤيده ظاهر قول ابن عباس: أراد أن لا يحرج أمته فلم يعلله بمرض ولا غيره والله أعلم] شرح النووي على صحيح مسلم 2/335.(7/46)