ـ[فتاوى يسألونك]ـ
المؤلف: الأستاذ الدكتور حسام الدين بن موسى عفانة
الطبعة: الأولى
عدد الأجزاء: 14
__________
الناشر:
جـ 1 - 10: مكتبة دنديس، الضفة الغربية - فلسطين،
جـ 11 - 14: المكتبة العلمية ودار الطيب للطباعة والنشر، القدس - أبو ديس
عام النشر:
جـ 1 - 10، 12: 1428 هـ - 2007 م
جـ 11: 1427 هـ - 2006 م
جـ 13: 1429 هـ - 2008 م
جـ 14: 1430 هـ - 2009 م
[ترقيم الأجزاء من 1 - 12 موافق للمطبوع](/)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الثانية
الحمد لله حمداً مباركاً فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه نحمده سبحانه وتعالى ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونصلي ونسلم على رسوله المصطفى خير البشر وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد ...
فهذه الطبعة الثانية من الجزء الأول من كتابي (يسألونك) الذي لقي قبولاً واستحساناً من الإخوة القراء والحمد لله رب العالمين وقد نفذت طبعته الأولى وألحّ عليّ كثير من طلبة العلم لإعادة طبعه فعزمت على ذلك فقمت بمراجعة الكتاب وتصحيح ما وقع فيه من أخطاء مطبعية ووضعت عناوين للمسائل التي اشتمل عليها وزدت بعض المسائل توضيحاً وخرجت بعض الأحاديث التي لم تكن مخرجة في الطبعة الأولى، وأرجو أن تكون هذه الطبعة أجود من سابقتها مضموناً وشكلاً.
وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يتقبل عملي هذا وأن يجعله خالصاً لوجهه
الكريم وأن يجعله في ميزان حسناتي يوم يقوم الناس لرب العالمين.(1/5)
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
كتبه د. حسام الدين موسى عفانة
أبوديس - القدس
صباح يوم السبت الثاني عشر من ذي الحجة 1417هـ
وفق التاسع عشر من نيسان 1997م(1/6)
تقديم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أحمعين
وبعد:
فإن أشرف العلوم على الإطلاق علم توحيد الله ومعرفته، وأنفع العلوم علم الأحكام المتعلقة بأفعال العباد وما من سبيل إلى أخذ هذين النورين، وتلقي هذين العلمين العظيمين إلا من النبي المعصوم الذي قامت الأدلةالقاطعة على عصمته، وصرحت الآيات القرآنية بوجوب طاعته ومتابعته، فهو الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
ثم إننا مأمورون بالأمتثال إلى أوامر الله ورسوله واجتناب ما نهى عنه والتزام هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم وهدي الخلفاء الراشدين المهديين، والخير كل الخير في الإتباع والشر كل الشر في الإحداث والإبتداع.
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) .
فالرد عند التنازع إلى الله تعالى بالرجوع إلى كتابه المبين، والإحتكام إليه والرضى بما فيه وعدم التقديم بين يديه.
والرد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بطاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه، وزجر، وأن لا نتلقى شيئاً من المأمورات والمنهيات إلا من مشكاته، ولا نسلك إلا طريقه، ونرضى بما شرعه حتى لا نجد في أنفسنا حرجاً مما قضاه، وتنتخلق بأخلاقه.(1/7)
وأولو الأمر، إنما هم العلماء، ورثة الأنبياء، فهم في المكانة الرفيعة، والمنزلة السامية، ويقيمون الحجة، ويبلغون عن الله ورسوله.
ومرتبة التبليغ والفتيا، لا تصلح إلا لمن اتصف بالعلم والصدق، فيكون عالماً بما بلغ صادقاً فيه. وهؤلاء العلماء العاملون هم الذين أمرنا الله بسؤالهم عما أبهم وأشكل في قوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) . ومعلوم أن أمر الإفتاء عظيم خطير، تكفل الله تعالى به، وأسنده إليه فقال في كتابه: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ) سورة النساء آية 176. وقال تعالى: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ) سورة النساء آية 127.
ثم تولى رسوله صلى الله عليه وسلم الإجابة عما يورده الصحابة من أسئلة، فيعطي الإحابة الشافية الكاملة. مبلغاً عن ربه: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) سورة البقرة آية220.
وحمل الصحابة رضوان الله عليهم لواء الفتوى بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وهم من هم منزلة من الرسول صلى الله عليه وسلم ومكانة، رباهم على عينه " هم ألين الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأحسنها بياناً، وأصدقها إيماناً، وأعمها نصيحة، وأقربها إلى الله وسيلة ".
هم أهل العلم الذين نص عليهم بقوله تعالى: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ) . قال مجاهد: [هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم] .
ومن الصحابة من أكثر من الفتوى ومنهم من أقل منها، ورحم الله مسروقاً إذ يقول: [جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فكانوا كالإخاذ يعني كالغدير، الإخاذة تروي الراكب، والإخاذة تروي الراكبين والإخاذة تروي العشرة، والإخاذة لو نزل بها أهل الأرض لأصدرتهم] .(1/8)
غير أن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم، كانوا مثالاً للورع في إصدار الفتوى، فكان الواحد منهم يود لو أن أخاه كفاه الإجابة عن السؤال في دين الله، هذا ابن أبي ليلى يقول:
[أدركت عشرين ومائة من الأنصار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منهم من رجل يسأل عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه] .
وذكر ابن وهب عن محمد بن سليمان المرادي عن أبي إسحاق قال: [كنت أرى الرجل في ذلك الزمان، وإنه ليدخل يسأل عن الشيء، فيدفعه الناس من مجلس إلى مجلس حتى يدفع إلى مجلس سعيد بن المسيب كراهية للفتيا] .
وكان السلف الصالح رضوان الله عليهم يكرهون الجرأة على الفتوى والتسرع فيها.
قال سحنون: [أجسر الناس على الفتوى أقلهم علماً] .
ويقول ابن القيم: [الجرأة على الفتيا تكون من قلة العلم ومن غزارته وسعته، فإذا قل علمه أفتى عن كل ما يسؤل عنه بغير علم، وإذا اتسع علمه اتسعت فتياه] .
إن التسرع في الفتيا خطأ وخطر يفضي إلى عدم إصابة الحق والجرأة على الله تعالى والوقوع فيما نهى عنه يقول تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) ، ومن أفتى بغير علم فعمل بفتواه عامل كان إثم العامل على من أفتاه، فليتق الله المتسرعون في الفتيا.
ولا بد للمتصدر للإفتاء من أن يمتلك أدواته، من فهم لمعاني النصوص وعللها الصحيحة التي ناط الشارع بها الأحكام.
كما لا بد من التضلع في معرفة الأحاديث ومدى ثبوتها، وتتبع طرقها وأقوال العلماء فيها ولا بد من البحث والتنقير عن الأدلة الشرعية حتى ينشرح الصدر للعمل بالدليل الذي يحصل عليه، ومثل ذلك الأمر صعب وليس بالهين.(1/9)
إننا لا نزال نرى في الإمة الإسلامية خيراً ظاهراً، من حرص كثير من الناس على السؤال عن أمور دينهم ابتغاء تصحيح العقيدة والتصور والسلوك والمنهاج.
وكثيراً ما يواجه الدعاة والعلماء أسئلة الجمهور الكريم في مختلف مناحي الحياة، فيتصدر أخوة لنا الإفتاء في الدين فجزاهم الله عنا خير الجزاء.
ويَردُ على الأخ الدكتور حسام الدين عفانه سيل لا ينقطع من رسائل الأهل والأحبة، إلى زاوية "يسألونك " في "جريدة القدس " الغراء فيقوم مشكوراً بإفتائهم والإجابة على تساؤلاتهم، وقد نظرت في هذه الفتاوى فألفيتها هامة نافعة، سلك فيها الأخ الفاضل مسلك التثبت والتحري والأناة والإستدلال بالأدلة الشرعية المعتمدة، بل يؤصل فتواه باعتماد المصادر الأصلية في فقه المذاهب الإسلامية المتعددة معتمداً الراجح منها بالدليل مع عناية بتخريج الأحاديث وتمييز الصحيح من السقيم، ولا يختصر في الإفتاء فيقتصر على موطن السؤال فحسب، بل يجيب بأكثر مما يُسأل عنه وهذا من محاسن الفتوى وهو اتباع لهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم حين سئل عن ماء البحر أطاهر هو؟ فأجاب قائلاً: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) صححه الترمذي وغيره وتلقته الأمة بالقبول، أسأل الله أن ينفعنا بهذه الفتاوى وأن يثيب الدكتور حسام الدين عفانه عنا وعن الإسلام خيراً.
د. موسى البسيط
عميد كلية الدعوة والعلوم الإسلامية / أم الفحم(1/10)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد ان محمداً عبده ورسوله.
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) .
(يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) .
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
فقد أشار عليّ الأخ الفاضل الأستاذ إبراهيم خليل عفانه بكتابة زاوية أسبوعية في جريدة القدس الغراء للإجابة على أسئلة القراء الدينية فكانت زاوية يسألونك في عدد كل يوم جمعة ولقد لقيت هذه(1/11)
الزاوية ترحيباً وإقبالاً من القراء المهتمين فتوالت الرسائل والمكالمات الهاتفية التي تحمل كثيراً من الأسئلة بالإضافة إلى الأسئلة التي كانت توجه إليّ مباشرة.
وقد حرصت على أن تكون الإجابات واضحة جلية وبلغة سهلة وميسرة ومستندة إلى الأدلة الشرعية الصحيحة.
وبعد مرور عامين على زاوية يسألونك عزمت على جمع حلقاتها لتصدر في كتاب ولتعم الفائدة فقمت بترتيبها وتنسيقها حسب الموضوعات. وهذا هو الجزء الأول منها.
وأسأل الله العظيم أن يتقبل هذا العمل ويجعله خالصاً لوجهه الكريم وأن يتجاوز عما فيها من الخطأ والتقصير، ولا أظن أن عملي هذا خالٍ من النقص والعيوب فإن ذلك من شأن البشر.
وأخيراً أقول ما قاله القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني رحمه الله: [إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتاباً في يومه إلا قال في غده: لو غير هذا لكان أحسن ولو زيد كذا لكان يستحسن ولو قدم هذا لكان أفضل ولو ترك هذا لكان أجمل وهذا من أعظم العبر وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر] .
وصلى الله وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
كتبه: الدكتور حسام الدين موسى عفانه.
أبوديس / القدس
صباح يوم الخميس الخامس عشر من صفر الخير 1416 /هـ
وفق الثالث من تموز / 1995م.(1/12)
الصلاة(1/13)
المال الحرام والصلاة
يقول السائل: هل من شروط صحة الصلاة أن تكون ملابس المصلي من كسب مشروع، وهل تصح صلاة من يلبس خاتماً أو ساعةً من مال حرام؟
وهل تصح الصلاة وفي جيب المصلي أموال اكتسبها من حرام؟
الجواب: إن الصلاة صحيحة إن شاء الله في الحالات الثلاث الواردة في السؤال وهو مذهب جمهور أهل العلم.
وهذا المصلي آثم لأنه اكتسب المال بطريق محرم وعليه أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى ويرجع إلى طريق الحق والصواب وأن يعيد الحقوق إلى أصحابها؟
وعلى هذا المصلي أن يتذكر قول الله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) .
فالصلاة ليست مجرد حركات رياضية يقوم بها الإنسان بل يجب أن تترك الصلاة آثاراً إيجابية في سلوك المصلي ومنهجه في الحياة.
فإذا كان يصلي ويكسب ماله من طريق حرام ويرتكب المحرمات فإن صلاته لن تنفعه يوم القيامة وإن أداها في الدنيا وينطبق عليه ما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال(1/15)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاته وصيامه وزكاته وقد شتم هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يعطي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه فطرح في النار) رواه مسلم.
فلا بد للصلاة أن تكون عاملاً رادعاً عن ارتكاب المحرمات.
المسح على الجوربين
يقول السائل: نرى بعض الناس عندما يتوضؤون يمسحون على جواربهم بدل غسل أرجلهم فهل يجوز ذلك وهل المسح خاص بأيام الشتاء؟
الجواب: إن المسح على الجوربين رخصة قال بها أكثر العلماء وقد ورد في ذلك ثلاثة أحاديث:
الأول: عن ثوبان قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فأصابهم البرد فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم شكوا إليه ما أصابهم من البرد فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين. رواه أبو داوود وأحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وقال العلامة أحمد محمد شاكر إنه حديث متصل صحيح الإسناد. والتساخين كل ما يسخن به القدم من خف أو جورب ونحوهما.
الثاني: عن المغيرة بن شعبة (أن رسول الله توضأ ومسح على الجوربين والنعلين) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.
الثالث: عن أبي موسى الأشعري: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على الجوربين والنعلين) رواه بن ماجة.
وقد ثبت المسح على الجوربين عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم قال ابن المنذر: [يروى المسح على الجوربين عن تسعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، علي وعمار وأبي مسعود الأنصاري وأنس وابن عمر والبراء(1/16)
وبلال وعبد الله بن أبي أوفى وسهل بن سعد وزاد أبو داود عدداً آخر من الصحابة ثبت عنهم المسح وهم: أبو أمامة وعمرو بن حريث وعمر وابن عباس فهؤلاء ثلاثة عشر صحابياً ثبت عنهم المسح فهذا يدل على أنهم نقلوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأن مثل هذا الأمر لا يدرك بالعقل.
والمسح على الجوربين رخصة عامة وليست خاصة بفصل الشتاء كما يظن بعض الناس بل يجوز المسح عليهما صيفاً وشتاءً وسفراً وحضراً.
ولكن للمسح مدة محدودة بيوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليها للمسافر وينبغي أن يعلم أنه يشترط لجواز المسح على الجوربين لبسهما على طهارة وتبدأ مدة المسح بعد الحدث فمثلا لو توضأ شخص لصلاة الفجر ولبس جوربيه ثم انتقض وضوءه وعند صلاة الظهر توضأ ومسح عليهما فمن هذا الوقت تبدأ مدة المسح فإن كان مقيما فيجوز له أن يمسح إلى ظهر اليوم التالي وإن كان مسافراً فيمسح إلى ظهر اليوم الثالث.
وهذا هو أصح القولين في المسألة وإذا مضت مدة المسح ولم يحدث المتوضئ فوضوءه صحيح إلى أن يحدث لأن إنتهاء مدة المسح ليس من نواقض الوضوء على الصحيح من أقوال أهل العلم.
الصلاة بالأحذية
يقول السائل: هل تصح الصلاة بالأحذية؟
الجواب: نعم تصح الصلاة والمصلي ينتعل حذاءه ولا بأس بذلك فقد ورد في الحديث الشريف عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى فخلع نعليه فخلع الناس نعالهم فلما انصرف قال لهم لم خلعتم؟ قالوا رأيناك خلعت فخلعنا فقال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثا فإذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعليه ولينظر فيهما فإن رأى خبثا فليمسحه بالأرض ثم ليصل فيهما) رواه أحمد وأبو داود والبيهقي والحاكم وغيرهم وهو(1/17)
حديث صحيح صححه الحاكم ووافقه الذهبي وكذلك قال النووي إسناده صحيح، وصححه الألباني.
فهذا الحديث يدل على صحة الصلاة بالنعلين ولا يعني هذا أن ندخل المساجد المفروشة بالسجاد والموكيت بأحذيتنا فإن هذا مناف للذوق السليم، ولكن إن صلينا في الساحات أو في أفنية المساجد نصلي بأحذيتنا ولا شيء في ذلك ولا نبغي لأحد أن ينكر على من يصلي بحذائه لأن هذا الأمر ثابت بالسنة النبوية المطهرة.
السترة بين يدي المصلي
يقول السائل: ماحكم السترة بين يدي المصلي وإذا لم يصل لسترة فإلى أي مدى يجوز المرور بين يديه؟
الجواب: من السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي المصلي إلى سترة بين يديه فالسترة سنة مؤكدة عن الرسول صلى الله عليه وسلم بل إن بعض الفقهاء يرون وجوبها.
والمراد بالسترة: أن يضع المصلي بين يديه شيئا أو يصلي إلى شيء كالعمود أو الكرسي أو الشجرة أو نحو ذلك.
ومن الأحاديث الواردة في السترة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تصل إلا إلى سترة ولا تدع أحداً يمر بين يديك) رواه مسلم.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة وليدن منها ولايدع أحداً يمر بينه وبينها) رواه أبو داود وابن ماجة وابن حبان وهو حديث حسن.
وعن سهل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها ولا يقطع الشيطان عليه صلاته) رواه أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم وهو حديث صحيح.(1/18)
وإن صلى المصلي إلى سترة فلا يجوز لأحدٍ أن يمر بينه وبين السترة ويجوز للمصلي أن يدفع المار دون السترة وقد جعل العلماء مقدار دنو المصلي من السترة ثلاثة أذرع فإذا كانت المسافة أكثر من ذلك فيجوز المرور بين يدي المصلي ولا إثم في ذلك.
وإذا لم يصل المصلي إلى سترة فيجوز المرور بين يديه بعد ثلاثة أذرع على قول أكثر أهل العلم.
وينبغي أن يعلم أن المرور بين يدي المصلي إثم عظيم، فقد ورد في الحديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه) ، وقال أبو النضر - أحد رواة الحديث -: [لا أدري أقال أربعين يوماً أو شهراً أو سنة] . رواه البخاري ومسلم.
والسترة تلزم من يصلي منفرداً وكذلك الإمام وأما من يصلي مأموماً فسترة الإمام سترة له.
الخشوع في الصلاة
يقول السائل: ما حكم الخشوع في الصلاة وما الأمور التي تعين عليه؟
الجواب: الخشوع في الصلاة مطلوب وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على المؤمنين الخاشعين، يقول الله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) . والخشوع: هيئة في النفس يظهر منها في الجوارح سكون وتواضع كما قال الإمام القرطبي.
وقال قتادة: الخشوع في القلب وهو الخوف وغض البصر في الصلاة وقد وردت نصوص كثيرة في الخشوع منها:
قوله تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) .(1/19)
وقوله تعالى: (قُلْءَامِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا) .
ومنها حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يقوم فيصلي ركعتين يقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة) رواه مسلم.
وورد في حديث عمر بن عبسة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في حديث: ( ... من قام فصلى فحمد الله وأثنى عليه ومجده بالذي هو له أهل وفرغ قلبه لله إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه) رواه مسلم.
وعن عثمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من مسلم يحضر صلاة مكتوبة فيحسن وضوئها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة وذلك الدهر كله) رواه مسلم.
وحكم الخشوع: سنة من سنن الصلاة عند جمهور أهل العلم وقد صححوا صلاة من يفكر بأمر دنيوي إذا كان ضابطاً لأفعال الصلاة، ولا بد من مراعاة الأمور التالية حتى يخشع المصلي في صلاته:
1. أن يستحضر أنه واقف بين يدي الله سبحانه وتعالى الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
2. أن يحصر فكره في الصلاة ويبعد أي تفكير آخر.
3. أن يخشع بجوارحه فلا يتحرك ما استطاع إلى ذلك سبيلاً فلا يعبث بشيءٍ من جسده ولا بشيءٍ آخر كملابسه.
4. أن يتدبر القراءة فبذلك يكمل مقصود الخشوع.
وينبغي أن يعلم أن كثرة الحركة بالصلاة تتنافى مع الخشوع لأن الخشوع كما ذكرت محله القلب ويظهر أثره على الجوارح وقد جعل بعض العلماء الحركة في الصلاة على خمس أقسام:
1. الحركة الواجبة وهي التي تتوقف عليها صحة الصلاة كمن كان يصلي لغير القبلة فنبهه آخر إلى أن القبلة عن يمينه أو يساره مثلاً فيجب عليه أن ينحرف لأنه إن بقي على حاله فصلاته باطلة.(1/20)
2. حركة مستحبة وهي التي يتوقف عليها فعل مستحب مثل أن يتقدم المصلي إلى صف أمامه صار فيه فراغ فتحرك ليتم الصف فهذه الحركة مستحبة لأن فيها وصلاً للصف.
3. حركة مكروهة: وهي الحركة اليسيرة بدون حاجة لأنها عبث منافٍ للخشوع كمن ينظر إلى ساعته أثناء الصلاة.
4. حركة محرمة: وهي الحركة الكثيرة المتوالية لغير ضرورة كما يحصل من بعض المصلين من كثرة الحركة في الصلاة في إصلاح ملابسهم أو العبث بأجسادهم ونحو ذلك.
ومثل هذه الحركات تكون مبطلة للصلاة ولا شك أن كثرة الحركة في الصلاة تدل على عدم الخشوع وتنقص من الأجر فقد ورد في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: (منكم من يصلي الصلاة كاملة ومنكم من يصلي النصف والثلث والربع والخمس حتى بلغ العشر) رواه النسائي بإسناد صحيح كما قال الإمام النووي.
5. حركة مباحة: وهي الحركة اليسيرة للحاجة كالمرأة التي تصلي وابنها يبكي فيجوز لها حمله أثناء الصلاة وقد ثبت: (أن النبي صلى الله عليه وسلم حمل أمامة بنت زينب في الصلاة) رواه البخاري ومسلم.
وكما قلت على المسلم أن يستحضر وهو في الصلاة أنه بين يدي ملك الملوك سبحانه وتعالى فإن هذا يدفعه إلى الخشوع والسكون وعدم الحركة وما أجمل ما قال الشاعر:
ألا في الصلاة الخير والفضل أجمع ... لأن بها الآراب لله تخضع
وأول فرض من شريعة ديننا ... وآخر ما يبقى إذا الدين يرفع
فمن قام للتكبير لاقته رحمة ... وكان كعبد باب مولاه يقرع
وصار لرب العرش حين صلاته ... نجيا فيا طوباه لو كان يخشع
والآراب: هي الأعضاء.(1/21)
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم أخشع الناس في صلاته حتى أنه كان يبكي في صلاته كما في الحديث عن مطرف عن أبيه قال: (أتيت الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزير كأزير المرجل، يعني يبكي) رواه النسائي وأبو داود بإسنادٍ صحيح.
وقد ورد عن الصحابة والتابعين والصالحين أمور عجيبة في الخشوع في الصلاة منها أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما كان إذا قام في الصلاة كأنه عود من الخشوع وكان يسجد فتنزل العصافير على ظهره لا تحسبه إلاجذع حائط.
وكان مسلم بن يسار لا يلتفت في صلاته ولقد انهدمت ناحية من المسجد ففزع الناس لهدتها وإنه لفي المسجد يصلي فما التفت.
كان علي بن الحسن رضي الله عنهما إذا توضأ اصفر لونه فقيل له: [ما هذا الذي اعتادك عند الوضوء؟ فقال: أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم ... ] .
قضاء الصلاة
يقول السائل: كنت تاركاً للصلاة عدة سنوات ثم تبت ورجعت إلى الصلاة فماذا أصنع في صلوات تلك السنين هل أقضيها أم لا؟
الجواب: الحمد الله الذي هداك إلى طريق الحق والصواب وأخرجك من الظلمات إلى النور، وسأبين حكم تارك الصلاة أولاً ثم أجيب على السؤال، فأقول: إن الصلاة عمود الدين وهي ركن من أركان الإسلام ولا خلاف بين علماء المسلمين في كفر تارك الصلاة جحوداً وإنكاراً لها. وأما تارك الصلاة كسلاً وتهاوناً فقد اختلف الفقهاء في حكمه: فيرى الإمام أحمد في أصح الروايات عنه أن تاركها كسلاً وتهاوناً كافر خارج
من ملة الإسلام ينبغي قتله إن لم يتب ويرجع إلى الإسلام(1/22)
واحتج الإمام أحمد ومن تبعه على ذلك بأدلة كثيرة منها:
1. قوله سبحانه تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ) . ففي هذه الآية إشارة إلى أن الكفار هم الذين لا يصلون.
2. وقال سبحانه وتعالى: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) .
3. قوله سبحانه وتعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) .
4. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) رواه مسلم.
5. وقوله صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) رواه أصحاب السنن الربعة وأحمد وهو حديث صحيح.
6. وما جاء في الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الصلاة يوماً فقال: (من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم يكن له برهاناً ولا نوراً ولا نجاةً وكان يوم القيامة مع قارون وهامان وفرعون وأبي بن خلف) ، رواه بن حبان بسند صحيح رواه أحمد ورجال أحمد ثقات كما قال الهيثمي.
وذهب جمهور الفقهاء إلى عدم كفر تارك الصلاة تهاوناً بل هو فاسق يقتل حداً عند الإمامين مالك والشافعي.
وأما الحنفية فقالوا إنه يحبس ويضرب ضرباً شديداً حتى يصلي ويتوب أو يبقى مسجوناً حتى يموت واحتجوا بأدلة كثيرة منها:
1. قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) .
2. قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرء مسلم إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة) متفق عليه.
3. عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله(1/23)
ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان العمل) متفق عليه.
4. عن أن أنس أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ومعاذ رديفه على الرحل: (يا معاذ قال: لبيك يارسول الله وسعديك ثلاثاً فقال صلى الله عليه وسلم: ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا حرمه على النار) متفق عليه.
5. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصة من قلبه) رواه البخاري.
6. وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خمس صلوات إفترضهن الله على عباده فمن جاء بهن وقد أكملهن ولم ينتقصهن استخفافاً بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن جاء بهن قد انتقصهن استخفافاً بحقهن لم يكن له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء رحمه) رواه أحمد وابن حبان وهو حديث صحيح. وغير ذلك من الأدلة.
وعلى كل حال فلا يخفى على المسلم إذا امعن النظر أن تارك الصلاة على خطر عظيم بين الكفر والفسق والعياذ بالله.
نعود الآن إلى أصل السؤال حول قضاء الصلاة لمن تركها تهاوناً وتكاسلاً، إن من يرى أن تارك الصلاة تهاوناً كافر لا يطالبه بقضاء ما فاته من الصلوات إذا رجع وتاب لأنه رجع إلى الإسلام من جديد، وهذا قول الحنابلة.
وأما جمهور الفقهاء: فيرون أن عليه قضاء ما فاته من الصلوات مع كونه آثماً ومذنباً ذنباً عظيماً لتركه لها وتأخيرها عن وقتها فيقضي ما فاته منها حسب ما يتيسر له فلا يشترط الترتيب فيها لأن في ذلك نوعاً من الحرج فيقضي حتى يغلب على ظنه أنه قد قضى ما عليه من الفوائت.
ولا بد من تذكير السائل هنا بأن التوبة الصادقة لا بد لها من شروط ثلاثة:
أولها: الإقلاع عن المعصية فلا توبة مع مباشرة الذنب واستمرار الوقوع في المعصية.(1/24)
ثانيها: الندم على ما مضى وفات فمن لم يندم على ما صدر عنه من المعاصي والآثام فلا توبة له لأن عدم ندمه يدل على رضاه بما كان منه وإصراره عليه.
ثالثها: أن يعزم على عدم العودة إلى المعصية مستقبلاً وهذا العزم ينبغي أن يكون مؤكداً قوياً وعلى التائب أن يكثر من فعل الخيرات ليكسب الحسنات (فإن الحسنات يذهبن السيئات) .
حديث مكذوب في تارك الصلاة
يقول السائل: يتداول كثير من الناس حديثاً طويلاً في عقوبة تارك الصلاة وقد طبع هذا الحديث وعلق في المساجد وغيرها فهل ثبت هذا الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا نص الحديث: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من تهاون في الصلاة عاقبه الله بخمسة عشرة عقوبة منها ستة في الدنيا وثلاثة عند الموت وثلاثة في القبر وثلاثة عند خروجه من القبر. أما الستة التي تصيبه في الدنيا:
1. ينزع الله البركة من عمره.
2. يمسح الله سيما الصالحين من وجهه.
3. كل عمل يعمله لا يؤجره الله عليه.
4. لا يرفع له دعاء في السماء.
5. ليس له حظ في دعاء الصالحين.
6. تخرج روحه بغير إيمان.
أما الثلاثة التي تصيبه عند الموت فهي:
1. أنه يموت ذليلاً.
2. أنه يموت جائعاً.(1/25)
3. أنه يموت عطشاً ولو سقي ماء الدنيا ما روي من عطشه.
وأما الثلاثة التي تصيبيه في قبره فهي:
1. يضيق الله عليه القبر حتى تختلف ضلوعه.
2. يوقد الله عليه في قبره ناراً ويتقلب على الجمر ليلاً ونهاراً.
3. يسلط الله عليه في قبره ثعباناً يسمى الشجاع الأقرع يضربه على ترك صلاة الصبح من الصبح إلى الظهر وعلى تضييع صلاة الظهر من الظهر إلى العصر وهكذا كلما ضربه يغوص في الأرض سبعين ذراعاَ.
وأما الثلاثة التي تصيبه يوم القيامة فهي:
1. يسلط الله عليه من يسحبه إلى نار جهنم على جمر على وجهه.
2. ينظر الله تعالى إليه بعين الغضب وقت الحساب فيقع لحم وجهه.
3. يحاسبه الله عز وجل حساباً شديداً ويأمر الله به إلى النار وبئس القرار.
الجواب: إن هذا الحديث مكذوب على الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا ظاهر من ركاكة ألفاظه وضعف سياقه وقد نص أهل الحديث على أنه مفترى على النبي صلى الله عليه وسلم وقد كذب هذا الحديث وركبه أحد الكذابين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدعى محمد بن علي بن عباس البغدادي العطار.
قال الإمام الذهبي في ميزان الاعتدال: [محمد بن علي بن عباس العطار ركب على أبي بكر بن زياد النيسابوري حديثا باطلاً في تارك الصلاة] ميزان الاعتدال 3/ 653.
ونقل الحافظ ابن حجر كلام الإمام الذهبي وقال الحافظ: [زعم المذكور أن ابن زياد أخذه عن الربيع عن الشافعي عن مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة وقال الحافظ بن حجر: وهو ظاهر البطلان من أحاديث الطرقية] . لسان الميزان 5/334.(1/26)
ذكر الإمام بن عراق الحديث من ضمن الأحاديث المكذوبة على الرسول صلى الله عليه وسلم ونقل كلام الإمامين الذهبي وابن حجر ووافقهما على ذلك. تنزيه الشريعة 2/ 114.
وبهذا يظهر أن الحديث مكذوب وباطل ولا يجوز نشره على الناس ولا تعليقه في المساجد، لأن ذلك من الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم. وينبغي على من يرغب في نشر كتيبات أو نشرات تتضمن أحاديث نبوية أن يعرضها على أهل العلم والاختصاص للنظر فيها وتمحيصها قبل نشرها حتى لا يدخل في دائرة الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم لأن الكذب عليه صلى الله عليه وسلم من الكبائر وقد ثبت في الحديث الصحيح قوله: (من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) .
وإن في الأحاديث الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما يغني عن أمثال هذه الأخبار المكذوبة.
السهو في الصلاة
يقول السائل: إذا نسي أو سها في صلاته عن عدد الركعات التي صلاها فماذا يصنع؟
الجواب: إذا شك المصلي في صلاته فلم يدر أثلاثاً صلى أم أربعاً؟ أو نحو ذلك، فعليه أن يطرح الشك وليبن على اليقين. فمثلاً إذا كان في صلاة العشاء وشك في عدد الركعات التي صلاها أثلاثاً هي أم أربعاً فليطرح الشك وهو الأربع وليبن على الثلاث المتيقن منها أي أنه يعتبر نفسه قد صلى ثلاثاً ويكمل صلاته ويسجد سجدتي السهو قبل السلام. ويدل على ذلك حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثة أم أربعة فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم فإن كان صلى خمساً شفعن له صلاته وإن كان صلى إتماماً لأربع كانت ترغيماً للشيطان) رواه مسلم.(1/27)
قضاء صلاة الفجر بعد طلوع الشمس
يقول السائل: إن صلاة الصبح تفوته كثيراً فلا يصليها في وقتها وإنما يقضيها بعد طلوع الشمس فما قولكم في ذلك؟
الجواب: إن أداء الصلاة في وقتها فرض ولا بد من المحافظة على أداء الصلوات الخمس في أوقاتها.
يقول الله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) . ويقول صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن أفضل الأعمال قال: (الصلاة على وقتها) رواه البخاري ومسلم.
وكثير من المصلين يعانون من هذه المشكلة وهي تفويت صلاة الفجر عن وقتها وخاصة في أيام الصيف وأعتقد أن السبب في ذلك في هذه المسألة هو السهر الكثير الذي يترتب عليه ضياع صلاة الفجر، والسهر إذا كان فيما حرم الله فهو حرام كالذين يسهرون إلى ساعة متأخرة في متابعة المسلسلات والتمثيليات والأفلام الساقطة أو في الألعاب المحرمة شرعاً فإن سهرهم هذا يؤدي إلى فوات صلاة الفجر وما أدى إلى الحرام فهو حرام. وعلى الذين يسهرون في الأمور النافعة والمفيدة كطالب العلم الذي يقضي وقته في المذاكرة، على هؤلاء أن يتخذوا الأسباب التي تعينهم على الإستيقاظ وقت الصلاة كأن يتخذوا ساعة منبهة أو يطلبوا من شخص ما أن يوقظهم وقت الصلاة ونحو ذلك فإذا أخذوا بالأسباب ومع ذلك فاتتهم الصلاة فلا إثم عليهم إن شاء الله لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة) رواه النسائي والترمذي وصححه.
نسيان فريضة
يقول السائل: إذا نسي الإنسان أداء فريضة من الفروض. - أي الصلاة - وتذكر بعد يومين فما هو العمل؟(1/28)
الجواب: إن الأصل في المسلم أن يحافظ على أداء الصلوات في أوقاتها لأن الشارع الحكيم قد حدد أوقاتاً معلومة للصلوات ينبغي التقيد بها فقال تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) .
وقد أثنى الله على المؤمنين الصادقين الذين يحافظون على صلواتهم بأدائها كما أوجبها الشارع مستكملة الأركان والشروط بقوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) إلى أن قال: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) وهذا الكلام الذي ذكرته يكون في حال التذكر واليقظة أما إذا نام الإنسان أو نسي وفاتته صلاة أو صلوات فلا إثم عليه في ذلك. يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه الحاكم والدارقطني وغيرهما وهو حديث صحيح.
وعن أبي قتادة قال: ذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم نومهم عن الصلاة فقال: (إنه ليس في النوم تفريط وإنما التفريط في اليقظة) رواه النسائي والترمذي وابو داود وصححه الترمذي وقال الحافظ ابن حجر إسناده على شرط مسلم.
ويجب على من نسي صلاة أو نام عنها أن يبادر إلى قضائها لأن من شغلت ذمته بفريضة لا تبرأ إلا بتفريغها لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فدين الله أحق أن يقضى) رواه البخاري.
فعلى هذا السائل أن يبادر إلى قضاء الفريضة التي فاتته حال تذكره لها ويدل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها) وهو حديث صحيح وجزء من حديث أبي قتادة السابق.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك) رواه البخاري ومسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها، فإن الله عز وجل يقول: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)) رواه مسلم.(1/29)
مسابقة الإمام في الصلاة
يقول السائل: إن إمام المسجد الذي يصلي فيه ذو حركة بطيئة في الصلاة فمثلاً إذا كبر للركوع فإن المأمومين يسبقون الإمام في ركوعه وفي سجوده وهكذا فما حكم صلاتهم؟
الجواب: لا يجوز للمأمومين مسابقة إمامهم في الصلاة وعليهم أن يأتوا بأفعالهم وأقوالهم في الصلاة بعد إتيان الإمام بها ويدل على ذلك أحاديث كثيرة منها:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فلما قضى الصلاة أقبل علينا بوجهه فقال: أيها الناس إني أمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالإنصراف) رواه مسلم.
ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا ... ) رواه البخاري ومسلم.
ونلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل أقوال المأمومين وأفعالهم مترتبة على أقوال وأفعال الإمام.
ومنها عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: (سمع الله لمن حمده) لم يحن أحد منا ظهره حتى يقع النبي صلى الله عليه وسلم ثم نقع سجوداً بعده. رواه البخاري.
ولهذه الأحاديث وغيرها قرر أهل العلم حرمة مسابقة المأمومين للإمام، إذا تعمدوا ذلك.
إذا اتضح هذا فنقول للسائل إن عليك ألا تسابق إمامك مع علمك ببطء حركته في الركوع والسجود وغيرهما، وعليك أن تقتدي به في أفعاله وأقواله بعد وقوعها منه، وإذا حصل منك مسابقة له خطأً أو جهلاً فعليك الإنتظار حتى يدرك الإمام في الفعل الذي سبقته فيه، وصلاتك صحيحة إن شاء الله.(1/30)
وعلى هذا الإمام ألا يوقع المصلين في الحرام لأن مسابقة المأمومين لإمامهم محرمة وعليه أن يكبر خلال تأديته للركن وليس قبل الشروع فيه حتى يجنب المصلين الخطأ.
الجمع بين الصلوات للمطر
يقول السائل: هل يجوز الجمع بين الصلوات بسبب المطر؟ وما هي الصلوات التي يجمع بينها؟ وهل يجوز الجمع لمن كان بيته قرب المسجد؟ وهل يجوز الجمع لمن يصلي في البيت؟
الجواب: إن الجمع بين الصلاتين رخصة لدفع الحرج ورفع المشقة عن الناس ومن الأسباب التي يجوز الجمع بسببها بين الصلاتين المطر وهذا مذهب أكثر العلماء وعند الحنفية لا يجوز الجمع بين الصلاتين مطلقاً إلا في الحج فقط.
وقد أجاز جمهور العلماء الجمع بين المغرب والعشاء بسبب المطر جمع تقديم أي تقدم صلاة العشاء فتصلى بعد المغرب مباشرة.
وأما الجمع بين الظهر والعصر بسبب المطر فلا يجوز على مذهب جمهور العلماء، وأجازه الشافعية في أحد القولين عندهم وأرى أن قولهم مرجوح ومذهب الجمهور أقوى دليلاً وأهدى سبيلاً فلا أرى جواز الجمع بين الظهر والعصر بسبب المطر لأن الدليل ورد فقط في المغرب والعشاء دون الظهر والعصر وهو ما رواه الأثرم: أن أبا سلمة بن عبد الرحمن قال: [إن من السنة إذا كان يوم مطير أن يجمع بين المغرب والعشاء] والظاهر أن قوله من السنة أي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم. ومما يدل على ذلك ما رواه البيهقي أن عمر بن عبد العزيز كان يجمع بين المغرب والعشاء بسبب المطر. سنن البيهقي 3/168-169.
والمطر الذي يجوز الجمع بسببه، هو المطر الذي يبل الثياب ويتقيه(1/31)
عامة الناس وينبغي أن يكون المطر موجوداً عند الجمع وأما ما يفعله بعض الناس من الجمع مع عدم وجود المطر وانقطاعه قبل ساعات من الجمع فهذا لا يجوز ولا ينبغي التساهل في هذا الأمر لأن الجمع رخصة لها سبب وهو المطر فإذا وجد المطر يجوز الجمع وإلا فلا.
ولا يجوز الجمع إلا لمن يصلي مع الجماعة في المسجد ولو كان بيته قريباً من المسجد فيجوز له الجمع. وأما من يصلي في بيته فلا يجوز له الجمع بسبب المطر لأن الجمع يجوز للمشقة التي تلحق بالمصلين مع الجماعة وهذا المعنى مفقود فيمن يصلي في البيت.
صلاة العشاء خلف الإمام في التراويح
يقول السائل: عدة أشخاص فاتتهم صلاة العشاء مع الجماعة ودخلوا المسجد فوجدوا الإمام في التراويح فماذا يصنعون؟ هل يصلون العشاء جماعة لوحدهم؟ أم ماذا يفعلون؟
الجواب: إن الذين تفوتهم صلاة العشاء مع الجماعة ويدركون الإمام في صلاة التراويح فأرى لهم أن يدخلوا مع الإمام بنية صلاة العشاء فيصلون خلف الإمام فإن سلم الإمام قاموا وأتموا صلاة العشاء وأرى أنه لا ينبغي لهم إقامة صلاة جماعة أخرى في المسجد لما في ذلك من تعدد للجماعات ولما فيه من التشويش على الجماعة الأولى الذين يصلون مع الإمام الراتب.
ولما ثبت في الحديث عن جابر: (أن معاذاً كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة) رواه البخاي ومسلم.
وجاء في رواية: (هي له تطوع ولهم مكتوبة العشاء) رواها الشافعي والدارقطني. وصححها الحافظ ابن حجر في فتح الباري.(1/32)
فهذا الحديث يدل على جواز اقتداء من يصلي فريضة بمن يصلي نافلة فيصح لهم أن يصلوا فريضة العشاء خلف الإمام الذي يصلي نافلة التراويح وهذا القول هو أرجح قولي العلماء في المسألة وهو قول الشافعية والخنابلة.
صلاة المسافر ومدة القصر
يقول السائل: ما حكم قصر الصلاة في حق المسافر وما هي المدة التي يقصر فيها وهل يجوز له أن يجمع بين الصلاتين؟
الجواب: إن الإسلام دين يسر وسهولة ومن مقاصد الشرع الحنيف دفع الحرج ورفع المشقة عن المكلفين ولا شك أن السفر فيه نوع من الحرج والمشقة فشرع الإسلام قصر الصلاة والجمع بين الصلاتين وتوضيح ذلك فيما يلي:
أولاً: حكم القصر في السفر: القصر مشروع شرعه الله في كتابه الكريم وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ويلاحظ في الآية الكريمة أن القصر علق على الخوف من فتنة الذين كفروا ولكن هذا التعليق جاء لبيان الواقع حيث إن أغلب أسفار النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت كان فيها خوف فيجوز القصر أيضاً حالة الأمن. ويدل على ذلك حديث علي بن أمية قال: [قلت لعمر بن الخطاب: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) فقد أمن الناس قال عمر: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (صدقة تصدق بها الله عليكم فاقبلوا صدقته) ] رواه مسلم وأصحاب السنن.
وقد وردت أحاديث نبوية كثيرة تدل على جواز القصر للمسافر منها حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: (صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فكان لا يزيد في(1/33)
السفر على ركعتين وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك) رواه البخاري ومسلم.
والقصر رخصة أو سنة عند أكثر العلماء فيجوز للمسافر أن يقصر ويجوز له أن يتم والقصر أفضل إقتداءً بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول: (إن الله يحب أن تؤتى رخصة كما يكره ان تؤتى معصيته) رواه أحمد وابن حبان وابن خزيمة وصححاه.
ثانياً: مسافة القصر تقدر قي وقتنا الحاضر بحوالي تسعة وثمانين كيلو متراً ويجوز للمسافر القصر إذا قطع تلك المسافة بغض النظر عن وسيلة السفر سواء سافر بالطائرة أو بالسيارة أو بالباخرة.
ثالثاً: مدة القصر، يجوز للمسافر أن يقصر الصلاة ما لم ينو الإقامة في بلد مدة محدودة على خلاف بين فقهاء المذاهب الأربعة في تحديدها:
فقال الحنفية: يجوز للمسافر أن يستمر في قصر الصلاة ما لم ينو الإقامة في بلد خمسة عشر يوماً فإذا نوى الإقامة خمسة عشر يوماً فأكثر فيجب عليه الإتمام.
وعند الشافعية والمالكية والحنابلة: إذا نوى المسافر الإقامة أربعة أيام فأكثر يلزمه الإتمام على خلاف بينهم في احتساب يوم الدخول ويوم الخروج.
وذهب بعض العلماء من أهل الحديث وبعض المعاصرين إلى أن المسافر يجوز له القصر وإن امتدت مدة إقامته في بلد ما إلى سنين ما لم ينو اتخاذ ذلك البلد وطناً، فأجازوا مثلاً لطالب العلم أن يقصر ما دام في البلد الذي يدرس فيه وهو ينوي الرجوع إلى بلده الأصلي. ولكني لا أميل لهذا الرأي وينبغي التقيد في هذه المسألة بقول جمهور العلماء القائلين بتحديد مدة القصر.
رابعاً: الجمع بين الصلاتين للمسافر:
يجوز للمسافر أن يجمع بين الظهر والعصر تقديماً وتأخيراً وكذلك(1/34)
المغرب والعشاء تقديماً وتأخيراً وقد ثبت ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم بأحاديث منها:
حديث معاذ: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر يصليها جميعاً وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً ثم سار وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب) رواه أحمد وأبو داود والترمذي. فيجوز للمسافر أن يقدم العصر إلى أول وقت الظهر فيصليهما جمعاً وقصراً أي ركعتين للظهر وركعتين للعصر وهذا جمع التقديم ويجوز ان يؤخر الظهر إلى وقت العصر فيصليهما كذلك وهو جمع التاخير وكذلك الحال في المغرب والعشاء.
خامساً: لا بد أن يعلم أن المسافر لا يصير مسافراً بمجرد نية السفر وإنما يصير مسافراً إذا شرع في السفر فعلاً. وبناء على ذلك لا يجوز للمسافر أن يتلبس بأحكام المسافر حتى يبدأ السفر فعلاً فإذا خرج المسافر من حدود بلده الذي يقيم فيه يجوز له أن يقصر ويجمع ويجوز له أن يفطر في رمضان فمثلاً إذا كان الشخص مقيماً في القدس ونوى السفر إلى عكا فلا يقصر ولا يجمع ولا يفطر إلا إذا غادر مدينة القدس ويدل على ذلك حديث أنس قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعاً وصليت معه العصر بذي الحليفة ركعتين) رواه البخاري ومسلم.
وذو الحليفة هو المكان المعروف الآن بآبار علي وهو على مشارف المدينة المنورة.
وكثير من الناس يقعون في هذا الخطأ فإذا نوى أحدهم السفر فإنه يصلي الظهر والعصر جميعاً ثم يخرج إلى سفره وهذا غير جائز لأنه لم يشرع في سفره بعد.(1/35)
لا تصلى الضحى جماعة دائماً
يقول السائل: اعتدنا أن نصلي صلاة الضحى جماعة فما حكم ذلك؟
الجواب: إن صلاة النافلة أو التطوع تنقسم إلى قسمين من حيث صلاتها جماعة:
القسم الأول: ما تشرع فيه صلاة الجماعة كصلاة التراويح وصلاة الكسوف وصلاة العيدين عند من يرى أنها سنة وصلاة الإستسقاء فهذه صلوات الأصل فيها أن تصلى جماعة لأنها ثبتت كذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
القسم الثاني: ما لا تسن له الجماعة الراتبة وذلك كالسنن والرواتب وهي سنة الفجر وسنة الظهر القبلية والبعدية وسنة المغرب وسنة العشاء، وكذلك سنة الضحى وتحية المسجد وقيام الليل. فهذه الصلوات كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصليها في جماعة راتبة وإنما المشروع أن تصلى فرادى ولكن إن فعلت هذه الصلوات جماعة أحياناً وبشرط أن لا يتخذ ذلك عادة يجوز إن شاء الله ولا بأس به.
وأما إذا اتخذ ذلك عادة وصار لهذه الصلوات جماعة راتبة فهذه بدعة مكروهة مخالفة لهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم ومما يدل على جواز فعلها جماعةً أحياناً لا دائماً ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه صلى بعض هذه الصلوات جماعةً أحياناً فمثلاً كان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي قيام الليل منفرداً وهذا في أغلب أحواله عليه الصلاة والسلام ولكن ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى قيام الليل جماعة في بعض الحالات منها:
ما ورد في حديث ابن عباس قال: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقمت عن يساره فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسي من ورائي فجعلني عن يمينه) رواه البخاري.
ومنها حديث عتبان بن مالك قال: (يا رسول الله إن السيول لتحول بيني وبين مسجد قومي فأحب أن تأتيني فتصلي في مكان من بيتي أتخذه مسجداً فقال: سنفعل. فلما دخل قال أين تريد؟ فأشرت له إلى ناحية من البيت فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصففنا خلفه فصلى بنا ركعتين) رواه البخاري ومسلم.(1/36)
وبناء على ما تقدم لا أرى لكم المداومة على صلاة الضحى جماعة وإنما أرى أن تصلوها فرادى وإن صليتموها جماعة أحياناً فلا بأس في ذلك.
صلاة الوتر
يقول السائل: ما حكم صلاة الوتر؟ وهل صحيح ما يقال بأنها تصلى ركعة واحدة؟ وهل القنوت فيها واجب؟
الجواب: صلاة الوتر من السنن المؤكدة الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وقد ورد في فضلها أحاديث كثيرة منها:
عن علي رضي الله عنه قال: الوتر ليس بحتم كالصلاة المكتوبة ولكن سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله وتر يحب الوتر فأوتروا يا أهل القرآن) رواه أبو داوود والترمذي وقال حديث حسن.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أوتروا قبل أن تصبحوا) رواه مسلم.
وتجوز صلاة الوتر بركعة واحدة وكذا بثلاثة أو خمس أو سبع أو تسع ركعات فقد جاء في الحديث عن ابن عمر قال: (قام رجل فقال يا رسول الله كيف صلاة الليل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة) رواه البخاري ومسلم.
وعن ابن عمر رضي الله عنه: (أنه كان يسلم بين الركعتين والركعة في الوتر حتى أنه كان يأمر ببعض حاجته) رواه البخاري.
وعن أم سلمة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بسبع وخمس لا يفصل بينهن بسلام ولا كلام) رواه النسائي وابن ماجة وأحمد.
وإذا صلى المسلم الوتر ثلاث ركعات فيجوز فيها ثلاث هيئات كما يلي:(1/37)
الأولى: أن يصلي ركعتين ثم يسلم وبعدها يأتي بالثالثة.
الثانية: أن يصلي ركعتين ثم يجلس بعد الثانية ثم يأتي بالثالثة كهيئة صلاة المغرب.
الثالثة: أن يصلي الركعات الثلاث متصلة ولا يجلس إلا بعد الثالثة وكل ذلك جائز إن شاء الله ووردت فيه الأحاديث.
أما القنوت في صلاة الوتر فهو سنة وليس بواجب فإذا تركه المصلي فلا شيء عليه والذي ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان أحياناً يقنت في الوتر وأحياناً أخرى لا يقنت. ويجوز القنوت قبل الركوع وبعده وهو الأفضل والأقوى.
وأفضل وقت لصلاة الوتر آخر الليل في حق من يغلب على ظنه الاستيقاظ في آخر الليل وإلا فليصلي الوتر بعد صلاة العشاء فقد ورد في الحديث عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيكم خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر ثم ليرقد ومن وثق بقيام الليل فليوتر آخره فإن قراءة آخر الليل محضورة وذلك أفضل) رواه مسلم.
ومن السنة في القراءة في الوتر إذا صلى ثلاثاً أن يقرأ في الركعة الأولى سورة الأعلى وفي الثانية سورة الكافرون وفي الثالثة سورة الإخلاص كما ورد في الحديث عن أبي بن كعب: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الوتر سبح اسم ربك الأعلى وفي الركعة الثانية بقل يا أيها الكافرون وفي الثالثة بقل هو الله أحد) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
ومن صلى صلاة الوتر أول الليل ثم رغب أن يصلي في آخر الليل يصلي ما يشاء ولا يعيد الوتر.(1/38)
لا يوجد سنة قبلية لصلاة الجمعة
يقول السائل: إننا نشاهد أكثر المصلين يوم الجمعة وبعد الإنتهاء من الآذان يقومون فيصلون ركعتين يسمونها سنة الجمعة القبلية فهل ثبت ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب: إن قوام هذا الدين في أمرين:
1. ألا يعبد إلا الله.
2. أن لا يعبد الله إلا بما شرع.
ولقد قرر علماء الإسلام أن الأصل في العبادات التوقيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن في أمورنا مأمورون باتباعه والاقتداء به. قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) وقد بين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم كيفية الصلاة وعدد ركعاتها وأوقاتها وكل ما يتعلق بها وعلم الصحابة كيف يصلون وصلى أمامهم وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) رواه البخاري.
إني أقر جازماً أنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سن لأمته ركعتين تسميان سنة الجمعة القبلية فلم يثبت ذلك عنه قولاً ولا فعلاً ولم يرد في سنة الجمعة القبلية حديث صحيح صريح وإنما وردت بعض الأحاديث التي لا يعول عليها ولا يحتج بها.
ولا بد من الرجوع إلى هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في صلاة الجمعة وكيف كان يفعل حتى نرى هل سن لأمته سنة قبل الجمعة أم لا.
قال العلامة ابن القيم: [وكان إذا فرغ بلال من الآذان أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة ولم يقم أحد يركع ركعتين ولم يكن الآذان إلا واحداً وهذا يدل على أن الجمعة كالعيد لا سنة لها وهذا أصح قولي العلماء وعليه تدل السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج من بيته فإذا رقى المنبر أخذ بلال في آذان الجمعة فإذا أكمله أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة من غير فصل وهذا رأي عين فمتى كانوا يصلون السنة؟ ومن ظن أنهم كانوا إذا فرغ بلال رضي الله(1/39)
عنه من الآذان قاموا كلهم فركعوا ركعتين فهو أجهل الناس بالسنة] . زاد المعاد في هدي خير العباد 1/431 - 432.
ومن المعلوم كما أشار ابن القيم أن الآذان يوم الجمعة كان واحداً على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وإنه كان عند جلوس النبي عليه الصلاة والسلام على المنبر وكذلك الأمر في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فلما كان عثمان رضي الله عنه زاد الآذان الثاني وعلى هذا يدل حديث السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: (كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فلما كان عثمان رضي الله عنه وكثر الناس زاد النداء الثاني على الزوراء) رواه البخاري.
فما دام أن الأذان كان واحداً وأن الأذان يكون عندما يجلس الإمام على المنبر ومن المتفق عليه عند العلماء أن الصلاة النافلة تنقطع بمجرد جلوس الإمام على المنبر إلا من كان في صلاة فيخففها أو من كان داخلاً إلى المسجد فيصلي ركعتين خفيفتين. فمتى كانوا يصلون السنة القبلية؟
قال الحافظ العراقي: [لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي قبل الجمعة لأنه كان يخرج إليها فيؤذن بين يديه ثم يخطب] نيل الأوطار 3/389. وقال الحافظ بن حجر: [وأما سنة الجمعة التي قبلها فلم يثبت فيها شيء] فتح الباري 3/ 61.
وأما ما ورد في بعض الأحاديث من إشارة إلى سنة الجمعة القبلية فهي أحاديث باطلة أو ضعيفة لا تقوم بها الحجة فمنها ما جاء عن عائشة رضي الله عنه: (أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي قبل الجمعة ركعتين في بيته) فهذا حديث باطل مكذوب.
ومنها حديث أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام: (كان يصلي قبل الجمعة ركعتين وبعدها أربعاً) وهذا حديث ضعيف بهذا السياق ومنها أنه عليه الصلاة والسلام: (كان يصلي قبل الجمعة أربعاً وبعدها أربعاً) وهذا ضعيف جداً.
وهنالك أحاديث أخرى ضعيفة تكلم عليها الحافظ ابن حجر في فتح الباري 3/73.
قال الشيخ ناصر الدين الألباني بعد أن ذكر بعض الأحاديث الواهية(1/40)
في سنة الجمعة القبلية ما نصه: [ولهذا كان جماهير الأمة متفقين على أنه ليس قبل الجمعة سنة مؤقتة بوقت مقدرة بعدد لأن ذلك يثبت بقول النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسن في ذلك شيئاً لا بقوله ولا بفعله وهذا هو مذهب مالك والشافعي وأكثر الصحابة وهو مشهور في مذهب أحمد] . وقال الحافظ العراقي: [ولم أر للأئمة الثلاثة ندب سنة قبلها] الأجوبة النافعة ص 30-32.
وقال الحافظ المناوي في فيض القدير: [ولذلك لم يرد لهذه السنة المزعومة ذكر في كتاب " الأم " للإمام الشافعي ولا في " المسائل " للإمام أحمد ولا عند غيرهما من الأئمة المتقدمين] .
وبعد هذه الجولة القصيرة يظهر لنا جلياً أنه لم يثبت عن رسول الله عليه وسلم سنة قبلية للجمعة وإنما الثابت عنه السنة بعد الجمعة فقط.
وينبغي ألا يعتز بكثرة الفاعلين لما يسمى بالسنة القبلية فإن هذه القضية من العبادات والأصل فيها كما ذكرت ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم من دليل صحيح يحتج به وأما كثرة الفاعلين لها فلا دليل معهم فلا عبرة بفعلهم.
الدروس قبل صلاة الجمعة
يقول السائل: ما هو المشروع في حق المسلم الذي ينتظر صلاة الجمعة؟ وما الحكم في الدروس التي تعقد قبل صلاة الجمعة؟ وكذلك تلاوة القارئ للقرآن الكريم بواسطة مكبرات الصوت قبل صلاة الجمعة؟
الجواب: إن المشروع في حق المسلم قبل صلاة الجمعة أن ينشغل في الصلاة النافلة وفي قراءة القرآن الكريم وبالذات سورة الكهف وفي الأذكار وفي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وقد ورد في ذلك عدد من الأحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم منها:
1. عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا(1/41)
يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر بما استطاع من طهر ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته ثم يروح إلى المسجد ولا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت للإمام إذا تكلم إلا غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة الأخرى) رواه البخاري.
2. وعن أبي أيوب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب إن كان عنده ولبس من أحسن ثيابه ثم خرج وعليه السكينة حتى يأتي المسجد فيركع إن بدا له ولم يؤذ أحداً ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى) رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات كما قال الهيثمي.
3. عن نافع: (أن ابن عمر رضي الله عنه كان يغدو إلى المسجد يوم الجمعة فيصلي ركعات وقال: هكذا كان يفعل رسول الله) رواه أحمد وأبو داود وقال العراقي إسناده صحيح.
4. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم: (ذكر يوم الجمعة فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله تعالى إلا أعطاه إياه) رواه البخاري ومسلم.
5. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين) رواه النسائي والبيهقي والحاكم وصححه الشيخ الألباني أيضاً.
6. وعن أوس بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه الله خلق آدم ... فأكثروا عليّ من الصلاة فيه) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وصححه ابن خزيمة والحاكم وافقه الذهبي.
وأما الجواب عن الشق الثاني من السؤال حول الدروس والتلاوة قبل صلاة الجمعة وخاصة مع استعمال مكبرات الصوت فأرى أن تلك الدروس وتلك التلاوة مخالفة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم فقد تصل إلى درجة الحرام ولا تقل عن درجة المكروه لأن تلك الدروس وتلك التلاوة تشتمل على إيذاء المصلين والذاكرين والقارئين وهذه أمور منهي عنها ومحرمة شرعاً كما ثبت في(1/42)
الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف عن الستر وقال: ألا إن كلكم مناجٍ ربه فلا يؤذي بعضكم بعضاً ولا يرفع بعضكم على بعض في قراءة أو قال في الصلاة) رواه أبو داود بإسناد صحيح كما قال الإمام النووي وصححه الشيخ الألباني.
وكذلك ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المصلي مناجٍ ربه فلينظر بما يناجيه ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن) رواه مالك بسند صحيح قاله الشيخ الألباني وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يا علي لا تجهر بقراءتك ولا بدعائك حيث يصلي الناس فإن ذلك يفسد عليهم صلاتهم) .
وكذلك فإن الدروس التي تعقد قبل صلاة الجمعة وتلاوة القرآن من قبل القارئ مخالفة لما كان عليه الأمر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أصحابه رضي الله عنهم وقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن عقد حلقات الدروس قبل صلاة الجمعة فقد روى أبو داود بسنده: (أن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن البيع والشراء في المسجد وأن تنشد فيه ضالة وأن ينشد فيه شعر ونهى عن التحلق قبل الصلاة يوم الجمعة) ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وهو حديث حسن كما قال الترمذي والألباني.
قال الإمام البغوي: [وفي الحديث كراهية التحلق والاجتماع يوم الجمعة قبل الصلاة لمذاكرة العلم بل يشتغل بالذكر والصلاة والإنصات للخطبة ثم لا بأس بالاجتماع والتحلق بعد الصلاة في المسجد وغيره] شرح السنة 2/374.
وبهذه المناسبة فإني أناشد أئمة المساجد والمسؤولين عن المساجد أن يوقفوا هذه الدروس والتلاوة قبل صلاة الجمعة وأن يمنعوا التشويش على عباد الله فهم في ذلك الوقت ما بين راكع وساجد وذاكر وقارئ ومتفكر وعليهم أن يسعوا إلى إحياء سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم كما وأن الموعظة الحاصلة بخطبتي الجمعة تغني عن الدروس ومن شاء أن يدرس فليكن ذلك بعد
صلاة الجمعة(1/43)
يحرم ترك صلاة الجمعة بسبب العمل
يقول السائل: أعمل في أحد المصانع وتفوتني صلاة الجمعة غالباً لأن صاحب العمل يمنعني من ترك العمل يوم الجمعة فما الحكم في ذلك؟
الجواب: من المعلوم أن صلاة الجمعة فرض على كل مكلف بها لقوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) .
وصلاة الجمعة هي فرض الوقت يوم الجمعة وليس صلاة الظهر كما يظن بعض الناس فصلاة الجمعة هي الأصل وصلاة الظهر بدل عنها. ولا يجوز للمسلم المكلف بصلاة الجمعة أن يتركها لغير عذر شرعي وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من يترك الجمعة لغير عذر وأن تاركها يطبع الله على قلبه فيصير قلبه قلب منافق والعياذ بالله وقد ورد في ذلك أحاديث منها:
1. عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: (لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم) رواه مسلم.
2. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لينتهين أقوام عن ودعهم - أي تركهم - الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين) رواه مسلم.
3. وعن أبي الجعد الضمري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك ثلاث جمع تهاوناً بها طبع الله على قلبه) رواه أصحاب السنن وغيرهم وهو حديث صحيح.
4. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا هل عسى أحدكم أن يتخذ الصبة من الغنم على رأس ميل أو ميلين فيتعذر عليه الكلأ فيرتفع ثم تجيء الجمعة فلا يجيء ولا يشهدها وتجيء الجمعة فلا يشهدها فيطبع على قلبه) رواه ابن ماجة وابن خزيمة في صحيحه وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني.(1/44)
والصبة: المجموعة من الغنم ما بين العشرين إلى الثلاثين وقيل غير ذلك من العدد.
ومن خلال هذه الأحاديث يظهر لنا عدم جواز ترك الجمعة ولا يعد العمل يوم الجمعة عذراً لتركها ولا يجوز للمسلم أن يشتغل في عمل يصده عن أداء ما فرض الله عليه ولو أدى ذلك إلى تركه للعمل.
قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) . ولتعلم أخي المسلم أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وتذكر قول الله سبحانه وتعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) وقوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) .
هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة
يقول السائل: كيف كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة مع ربط ذلك بما عليه خطباء المسلمين؟
الجواب: لا شك أن خير الحديث كتاب الله وأن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وأن من يطلع على هدي المصطفى عليه الصلاة والسلام ليعجب مما يفعله كثير من خطباء اليوم في خطب الجمعة والعيدين وغيرها، فخطبة النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقريراً لأصول الإيمان، من إيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه وذكر الجنة والنار وما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته وما أعد لأعدائه وأهل معصيته فتملأ القلوب من خطبته إيماناً وتوحيداً كما كان عليه الصلاة والسلام يعلم الصحابة في خطبه قواعد الإسلام وشرائعه ويأمرهم وينهاهم ... ألخ.
وكان عليه الصلاة والسلام يقرأ آيات من القرآن الكريم في خطبته أحياناً سوراً من القرآن كسورة (ق) كما ثبت في الحديث عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان رضي الله عنهما قالت: (ما أخذت (ق وَالْقُرْءَانِ(1/45)
الْمَجِيدِ) إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس) رواه مسلم وأحمد وغيرهما.
وكان من هدي المصطفى عليه الصلاة والسلام تقصير الخطبة وإطالة الصلاة فقد ثبت في الحديث عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة) رواه مسلم. والمئنة هي العلامة. أي أن قصر الخطبة وطول الصلاة علامة على فقه الخطيب.
وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيل الصلاة ويقصر الخطبة) رواه النسائي وإسناده صحيح.
وكان عليه الصلاة والسلام إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش.
هذا بعض ما جاء في الهدي النبوي في خطبة الجمعة ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد للعلامة ابن القيم يرحمه الله.
تلكم الصورة المشرقة التي كان عليها هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة. وإذا نظرنا إلى الصورة الواقعة في مساجدنا فماذا نرى؟
إن بعض الخطباء لا يكادون يقرؤون آية من القرآن في خطبهم ويكادون لا يذكرون حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونرى أن كثيراً منهم يركزون خطبهم على موضوع واحد وكأن الإسلام محصور فيه فقط. فمثلاً نجد كثيراً من الخطباء لا يخطبون إلا في الموضوع السياسي للأمة أضف الى ذلك ما يضيفه بعض الخطباء على خطبهم من السباب والشتائم.
ولا شك أن الموضوع السياسي مهم جداً ولكن الإسلام ليس مقصوراً عليه وخاصة أن كثيراً من الكلام الذي يقال هو مجرد كلام نظري لا يجد طريقه إلى أرض الواقع، وإنما العملية مجرد تنظير فلسفي فقط والناس في زماننا يحتاجون إلى التبصير في أمور دينهم كلها فيجب على الخطباء أن يتناولوا مختلف قضايا المسلمين وما يهمهم في الدنيا والآخرة.(1/46)
كذلك نجد أن بعض الخطباء يطيلون الخطبة طولاً يصيب المصلين بالسآمة والملل فإذا قاموا إلى الصلاة قرأ الإمام أقصر سور القرآن الكريم.
ومن الأمور المخالفة لهدي المصطفى عليه الصلاة والسلام في خطبة الجمعة أن بعض الخطباء يقصرون الخطبة الثانية على الدعاء فقط ولا يذكرون فيها شيئاً من الوعظ والإرشاد والترغيب والترهيب.
أضف إلى ذلك أن كثيراً من الخطباء يستشهدون بالأحاديث دون التثبت من صحة نسبتها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فكم مرة سمعنا الخطيب يملأ فمه قائلاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا ... ويكون الحديث مكذوباً على الرسول صلى الله عليه وسلم أو ضعيفاً واهياً. فواجب الخطيب أن يتأكد من درجة الأحاديث التي يستشهد بها في خطبته بالرجوع إلى كتب أهل الحديث.
ولا يكفي أن يأخذ الخطيب حديثاً من كتاب الترغيب والترهيب للمنذري مثلاً دون أن يعرف اصطلاح الإمام المنذري الذي ذكره في مقدمة كتابه فهذه مسؤولية وأمانة وخاصةً أن عامة الناس يتلقفون تلك الأحاديث من أفواه الخطباء فيكون ذلك سبباً في انتشارالأحاديث المكذوبة والواهية بين الناس.
ومن الأمور المؤسفة أن كثيراً من الخطباء يسكتون عن البدع التي تقع في المساجد يوم الجمعة وغيره والمخالفة للهدي النبوي دون أن يحركوا ساكناً لإنكارها بل أن بعضهم يعمل على نشرها قولاً وفعلاً.
ومن الأمور اللافتة للنظر أن بعض الخطب تكون على شكل البيانات الرسمية والمراسيم الحكومية، وليس لها نصيب من الخطبة إلا في الإسم فقط.
هذا فضلاً عن كثرة الأخطاء النحوية والأخطاء في تلاوة الآيات القرآنية التي يقع فيها كثير من الخطباء.
وختاماً أدعو كل من يتصدى للخطابة أن ينهل من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم وأن تكون الخطبة على منوال خطب النبي عليه الصلاة والسلام.(1/47)
هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم العيد
يقول السائل: ما هو هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في يوم العيد؟
الجواب: كان من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العيد في مصلى العيد وهو ليس المسجد النبوي وإنما كان أرض خلاء وكان عليه الصلاة والسلام يأمر بإخراج النساء يشهدن الصلاة ويسمعن الذكر حتى الحيض منهن فقد جاء في الحديث عن أم عطية رضي الله عنها قالت: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى العواتق والحيض وذوات الخدور. فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين قلت يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب قال: لتلبسها أختها جلبابها) رواه البخاري ومسلم.
وجاء في رواية أخرى: (والحيّض يكن خلف الناس يكبرن مع الناس) رواه مسلم، والعواتق أي الشابات، والحيّض: جمع حائض، وذوات الخدور: ربات البيوت.
وكان من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم الاغتسال للعيد.
وكان يلبس أجمل ثيابه يوم العيد، فإن التجمل باللباس يوم العيد والجمعة واجتماع الناس من الأمور المشروعة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من هديه عليه الصلاة والسلام الخروج ماشياً إلى الصلاة فإذا وصل إلى المصلى بدأ الصلاة من غير أذان ولا إقامة فكان يصلي ركعتين فيهما تكبيرات زوائد.
وأصح ما ورد في صفة صلاة العيد وعدد التكبيرات الزوائد ما جاء في الحديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كبر في عيد ثنتي عشرة تكبيرة سبعاً في الأولى وخمساً في الآخرة ولم يصل قبلها ولا بعدها) رواه أحمد وابن ماجة وقال الحافظ العراقي إسناده صالح ونقل الترمذي تصحيحه عن البخاري.
ويكون التكبير سبعاً في الأولى بعد(1/48)
القراءة وهذا مذهب جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين والأئمة.
وأما ما ورد في التكبير ثلاثاً في الأولى قبل القراءة وثلاثاً في الثانية بعد القراءة فإن الحديث فيه ضعيف لا يعول عليه وما تقدم أصح.
وكان عليه الصلاة والسلام يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة سورة (ق) وفي الركعة الثانية سورة القمر. كما جاء في الحديث عن أبي واقد الليثي وقد سأله عمر: ما كان رسول الله يقرأ به في الأضحى والفطر؟ فقال: كان يقرأ فيهما بـ (ق والقرآن المجيد، واقتربت الساعة وانشق القمر) رواه مسلم.
وأحياناً كان يقرأ في الأولى سورة الأعلى وفي الثانية سورة الغاشية كما في الحديث عن سمرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيدين بـ سبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية) رواه أحمد.
وبعد انتهائه عليه الصلاة والسلام من الصلاة كان يشرع في الخطبة وكان يبدؤها بالحمد لله وليس بالتكبير كما يفعل أكثر الخطباء اليوم.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: [وكان يفتتح خطبه كلها بالحمد لله ولم يحفظ عنه في حديث واحد أنه كان يفتتح خطبتي العيدين بالتكبير] زاد المعاد 1 /447 وكان عليه الصلاة والسلام يكبر كثيراً خلال خطبتي العيد.
ومما يجدر ذكره أن التكبير في عيد الأضحى يبدأ من فجر يوم عرفة ويستمر حتى عصر اليوم الثالث من أيام التشريق وقد صح ذلك عن جماعة من الصحابة منهم عمر وعلي وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود , فصح عنهم التكبير من غداة عرفة إلى آخر أيام التشريق.
ويكون التكبير في أعقاب الصلوات المفروضة وغيرها من الأوقات.
قال الإمام الشوكاني: [والظاهر أن تكبير التشريق لا يختص استحبابه بعقب الصلوات المفروضة بل هو مستحب في كل وقت من تلك الأيام] نيل الأوطار 3/358.
وينبغي أن يعلم أن أيام العيد هي أيام ذكر لله تعالى وليست أياماً(1/49)
للتحلل من الأحكام الشرعية كما يظن كثير من الناس قال عليه الصلاة والسلام (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل) رواه مسلم.
وكان عليه الصلاة والسلام بعد انتهاء الصلاة والخطبة يأتي النساء فيعظهن ويذكرهن فقد جاء في الحديث عن جابر رضي الله عنه قال: (شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة ثم قام متوكأً على بلال فأمر بتقوى الله وحث على الطاعة ووعظ الناس وذكرهم ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكرهن) رواه مسلم. وكان عليه الصلاة والسلام يعود من المصلى من طريق غير الطريق الذي سلكه في ذهابه ليكثر الناس الذين يسلم عليهم أو لغير ذلك من الحكم. وبعد رجوعه إلى منزله كان يتولى أضحيته بنفسه أو يوكل أحداً بذبحها فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ... ) رواه مسلم.
وأخيراً ينبغي التذكير بصلة الأرحام والإحسان إلى الفقراء والمساكين يوم العيد وكذلك فلا بأس بالتهنئة بالعيد والتوسعة على الأهل والأولاد.
سجود التلاوة وسجود الشكر
يقول السائل: هل لسجدة التلاوة ولسجدة الشكر تكبيرة إحرام وتسليم أم لا؟
وهل يجوز للمرأة أن تسجد سجدة التلاوة وهي غير مرتدية للباسها الكامل وهل تصح سجدة الشكر بدون وضوء؟
الجواب: إن كلاً من سجود التلاوة وسجود الشكر مشروع فقد ثبت ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم فمن ذلك:
1. ما رواه ابن مسعود رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ والنجم فسجد فيها وسجد من كان معه ... ) رواه البخاري ومسلم.(1/50)
2. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سجدنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) و (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) رواه مسلم.
3. وعن ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في (ص) وقال: سجدها داود عليه السلام توبةً ونسجدها شكراً) رواه النسائي والدارقطني وصححه ابن السكن.
هذا بعض ما ورد في سجود التلاوة:
أما في سجود الشكر فقد وردت أحاديث منها:
1. عن أبي بكرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمر يسره أو بشر به خر ساجداً لله تعالى) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وهو حديث حسن.
2. وعن عبد الرحمن بن عوف أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم (إن الله عز وجل يقول لك: من صلى عليك صليت عليه ومن سلم عليك سلمت عليه فسجدت شكراً) رواه أحمد وهو حديث حسن.
3. وورد عن أبي بكر رضي الله عنه أنه سجد حين علم بمقتل مسيلمة الكذاب.
وكذلك ورد عن كعب بن مالك رضي الله عنه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سجد لما بشر بتوبة الله عليه وغير ذلك من الأحاديث والآثار.
وحكم سجود التلاوة وكذلك سجود الشكر سنة عند أكثر أهل العلم.
وصفة سجود التلاوة وكذا سجود الشكر كما يلي:
أولاً: خارج الصلاة: يكبر من يريد السجود دون أن يرفع يديه ويسجد سجدةً واحدة يقول فيها ما يقوله في سجود الصلاة ثم يكبر عند الرفع بدون تسليم على قول جمهور الفقهاء وهذه الصفة مشتركة بين سجود التلاوة وسجدة الشكر.
ثانياً: في الصلاة: أما سجدة التلاوة في الصلاة فإذا قرأ الإمام آية فيها(1/51)
سجدة فإنه يكبر ويهوي إلى السجود ويسبح كما يسبح في سجود الصلاة ثم يكبر ثانية ويقوم فيتم القراءة ثم يكمل صلاته كالمعتاد.
وأما سجدة الشكر فلا تشرع في الصلاة وإنما خارج الصلاة فقط.
وعند جمهور العلماء يشترط في سجود التلاوة والشكر ما يشترط في الصلاة من حيث الوضوء واستقبال القبلة وستر العورة وطهارة الثوب وطهارة المكان.
وبهذا يظهر لنا أنه في سجدة التلاوة وسجدة الشكر لا تشرع تكبيرة للإحرام ولا يشرع فيها التسليم على قول أكثر أهل العلم. وكذلك يجب على المرأة أن تستر بدنها كاملاً عند السجود كما هو الحال في الصلاة ولا بد من الوضوء فيهما.
صلاة الاستسقاء
يقول السائل: ما هي صلاة الاستسقاء؟ وكيف تصلى؟ ومتى تصلى؟
الجواب: صلاة الاستسقاء مشروعة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قلة الأمطار وانحباسها فلا بد للناس أن يبادروا إلى التوبة والاستغفار مصداقاً لقوله تعالى: (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جناتٍ ويجعل لكم أنهاراً) .
وقد وردت عن الرسول صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث في الاستسقاء منها:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال (خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوماً يستسقي فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة ثم خطبنا ودعا الله عز وجل وحول وجهه نحو القبلة رافعاً يديه ثم قلب ردائه فجعل الأيمن الأيسر والأيسر الأيمن) رواه أحمد ورواته ثقات.
وصلاة الاستسقاء ركعتان تصلى جماعة في المصلى خارج البلد وهو الأفضل وبدون أذان ولا إقامة كصلاة العيدين وهذا قول أكثر أهل العلم لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقد سئل عن الصلاة في الاستسقاء(1/52)
فقال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متواضعاً متبذلاً متخشعاً متتضرعاً فصلى ركعتين كما يصلي في العيد) رواه أحمد والنسائي وابن ماجة وابن حبان وصححه.
فيصلي الإمام بالناس ركعتين مع تكبيرات زوائد سبع في الأولى وخمس في الثانية ويقرأ فيهما جهراً ثم يخطب الإمام بعد الصلاة خطبتين كما في صلاة العيدين ويستحب أن يكثر الخطيب من الاستغفار ويلح في الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل.
ويستحب رفع اليدين عند الدعاء للإمام والمأمومين وكما يستحب قلب الرداء وتحويله تفاؤلاً بتحويل الحال من القحط إلى الرخاء ويحوّل الرجال فقط أرديتهم وهم جلوس فمثلا من كان يلبس عباءه يقلبها على ظهره بأن يجعل أعلاها أسفلها ونحو ذلك.
ووقت صلاة الاستسقاء المستحب هو وقت صلاة العيد لقول عائشة رضي الله عنها: (فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدا حاجب الشمس) رواه أبو داود وابن حبان والحاكم وإسناده جيد.
وتجوز في أي وقت آخر ما عدا أوقات الكراهة. وبهذه المناسبة أذكر الأخوة أئمة المساجد بإحياء هذه السنة ودعوة الناس إلى إقامة صلاة الاستسقاء والإكثار من الاستغفار وطلب السقيا من الله عز وجل.
صلاة الأوابين
يقول السائل ما المقصود بصلاة الأوابين وما عدد ركعاتها؟
الجواب: إن المشهور بين الناس أن صلاة الأوابين هي التي تصلى بين المغرب والعشاء فمنهم من يصلي أربع ركعات ومنهم من يصلي ست ركعات ومنهم من يصلي اثنتي عشرة ركعة ويسمون هذه الصلاة كما ذكرت سابقاً صلاة الأوابين.(1/53)
ولكن الأصح أن صلاة الأوابين هي صلاة الضحى لما ورد في الحديث أن زيد بن الأرقم رضي الله عنه رأى قوماً يصلون من الضحى فقال أما لقد علموا أن الصلاة في غير هذه الساعة أفضل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال) رواه مسلم.
وفي رواية أخرى عن زيد بن الأرقم قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل قباء وهم يصلون فقال: (صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال) رواه مسلم.
والأوابون: جمع أواب وهو الراجع إلى الله تعالى.
ترمض الفصال: أي حين تشتد حرارة الشمس فيسخن الرمل فتجد أولاد الإبل حر الشمس، الفصال: جمع فصيل وهو الصغير من أولاد الإبل.
وقد ذكر في بعض الروايات أن سبب ذكر الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم مر عليهم وهم يصلون الضحى عند شروق الشمس فذكر الحديث الذي يشير إلى أن وقت صلاة الضحى عند ارتفاع الشمس.
ويرى الإمام الشوكاني أنه لا مانع من إطلاق صلاة الأوابين على كل من الصلاتين المذكورتين أي صلاة الضحى والصلاة بين المغرب والعشاء واحتج على ذلك بخبر مرسل عن محمد بن المنكدر أن الرسول صلى الله عليه وسلم سمى الصلاة بين المغرب والعشاء صلاة الأوابين.
ومما يجب التنبيه عليه أنه قد وردت أحاديث كثيرة في مشروعية الصلاة ما بين المغرب والعشاء وإن كانت في معظمها ضعيفة إلا أن كثيراً من أهل العلم من الصحابة والتابعين وغيرهم قد عملوا بها لأن هذا من فضائل الأعمال كما حققه الإمام الشوكاني وغيره.
فلا بأس بصلاة النافلة بين المغرب والعشاء من غير تحديد عدد معين للركعات.
وأما صلاة الضحى فالأحاديث فيها صحيحة وثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم فمنها:(1/54)
(عن أبي هريرة قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: بصيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أنام) رواه البخاري ومسلم.
(وعن أم هانيء رضي الله عنها أنه لما كان عام الفتح رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأعلى مكة ثم صلى ثماني ركعات سبحة الضحى) رواه البخاري ومسلم.
ويجوز أن تصلى الضحى ركعتين أو أربعاً أو ستاً أو ثمانياً وبكل ذلك وردت الأحاديث وفي الأمر سعة.
قول المصلين "يتقبل الله منكم"
يقول السائل: اعتاد كثير من المصلين بعد انتهاء الصلوات المفروضات أن يصافح بعضهم بعضاً قائلين "يتقبل الله منكم" ثم يقومون إلى صلاة السنة فما حكم ذلك؟
الجواب: قرر أهل العلم أن الأصل في العبادة هو التوقيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أشار الرسول عليه الصلاة والسلام الى ذلك حيث قال عليه الصلاة والسلام: (صلوا كما رأيتموني أصلي) رواه البخاري.
ولما لم يثبت هذا الأمر عن الرسول صلى الله عليه وسلم فلا ينبغي فعله ولا الالتزم به وخاصة أنه يقابله ترك سنة مؤكدة من سنن النبي عليه الصلاة والسلام ألا وهي ترك الأذكار المشروعة عقب الصلوات المفروضة كما هو مشاهد في كثير من المساجد حيث أن أغلب المصلين يلتزمون بهذه المصافحة بعد تسليم الإمام ثم يقومون إلى صلاة السنة وبعد ذلك يخرجون من المسجد فهم قد أتوا بالبدعة وتركوا السنة.
ومن المعلوم عند أهل العلم أن الذكر بعد الصلوات المكتوبات من السنن الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال الإمام النووي رحمه الله: [أجمع العلماء على استحباب الذكر بعد الصلاة وجاءت فيه أحاديث كثيرة صحيحة في(1/55)
أنواع متعددة] الأذكار ص 57. ثم ساق طائفة من الأحديث منها:
1. عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي الدعاء أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر ودبر الصلوات المكتوبات) رواه الترمذي وقال حديث حسن.
2. وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من الصلاة سلَّم وقال: (لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد) رواه البخاري ومسلم.
3. وعن أبي هريرة رضي الله عنه (أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم يصلون كما نصلي يصومون كما نصوم ولهم فضل من أموال يحجون بها ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون. فقال: ألا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: (تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثاً وثلاثين) رواه البخاري ومسلم.
4. وعن معاذٍ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذه بيده وقال: يا معاذ والله إني لأحبك ثم قال: أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح.
وغير ذلك من الأحاديث الواردة في هذا الموضوع وهي كثيرة جداً فينبغي على المصلين أن يحافظوا على هذه الأذكار النبوية بعد صلواتهم وأن يكثروا أيضاً من الدعاء لله عز وجل لتفريج همومهم وكربهم والدعاء بما فيه الخير لهم في الدنيا والآخرة.
فقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدعاء هو العبادة) رواه أصحاب السنن الأربعة وهو حديث حديث حسن صحيح.
وقال عليه الصلاة والسلام: (ليس شيء أكرم على الله تعالى من(1/56)
الدعاء) رواه الترمذي وهو حديث حسن.
وقال أيضاً: (من سرّه أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء) رواه الترمذي وهو حديث حسن.
فأكثروا يا عباد الله من الدعاء في جميع الأوقات وخاصة بعد الصلوات المكتوبات.
مسح الوجه بعد دعاء القنوت بدعة
يقول السائل: ما حكم مسح الوجه وبعض الجسم باليدين بعد الإنتهاء من دعاء القنوت كما يفعله كثير من الناس؟
الجواب: إن مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من دعاء القنوت أمر مشهور بين عامة الناس ولكن هذا الأمر مع شهرته وانتشاره وعمل كثير من الناس به لا سند له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن السلف الصالح رضي الله عنهم وإن قال به بعض الفقهاء.
قال الإمام النووي رحمه الله عند حديثه عن هذه المسألة إن فيها وجهين:
الأول: أنه يستحب وذكر جماعة من الفقهاء الذين قالوا بذلك ثم قال النووي.
والثاني: لا يسمح وهذا هو الصحيح صححه البيهقي والرافعي وآخرون من المحققين. المجموع 3/501.
ثم ذكر كلام البيهقي التالي. وأنقله من سننه رحمه الله حيث قال:
[فأما مسح اليدين بالوجه عند الفراغ من الدعاء فلست أحفظ عن أحد من السلف في دعاء القنوت وإن كان يروى عن بعضهم في الدعاء خارج الصلاة. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث ضعيف وهو مستعمل عند بعضهم خارج الصلاة.(1/57)
وأما في الصلاة فهو عمل لم يثبت بخبر صحيح ولا أثر ثابت ولا قياس.
فالأولى أن لا يفعله ويقتصر على ما فعله السلف رضي الله عنهم من رفع اليدين دون مسحهما بالوجه في الصلاة وبالله التوفيق] السنن الكبرى 2/212.
وأقول جزى الله أئمتنا وعلمائنا خيراً فإنهم وقافون عند موارد النصوص فإن الخير كل الخير في الاتباع وإن الشر كل الشر في الابتداع.
وأما الحديث الذي أشار إليه البيهقي فهو ما رواه أبو داوود في سننه بسنده عن محمد بن كعب القرظي عن ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (سلوا الله ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم) قال أبو داوود روي هذا الحديث من غير وجه عن محمد بن كعب كلها واهية وهذا الطريق أمثلها وهو ضعيف أيضاً. عن المعبود 4/251.
وقد علق الشيخ الألباني على هذه الرواية: [ (فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم) فقال: ... وعلى ذلك فهذه الزيادة منكرة ولم أجد لها حتى الآن شاهداً ... ثم قال: لا يصلح شاهداً للزيادة حديث ابن عمر مرفوعاً: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه) لأن فيه متهماً في الوضع - أي الكذب - وقال أبو زرعة: حديث منكر أخاف أن لا يكون له أصل] السلسلة الصحيحة 2/146.
وروى البيهقي بسنده عن علي الباشاني قال: [سألت عبد الله بن المبارك عن الذي إذا دعا مسح وجهه. قال: لم أجد له ثبتاً. أي مستنداً] .
وورد عن العز بن عبد السلام سلطان العلماء أنه قال: [لا يمسح وجهه إلا جاهل] .
وبمناسبة الحديث عن دعاء القنوت أذكر بعض الأمور منها:
أولاً: ما نراه من بعض المصليين من المبالغة برفع أيديهم فوق رؤوسهم وأرى أن هذا الأمر فيه مبالغة واضحة وأن الأحاديث الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في رفع اليدين عند الدعاء تدل على مد اليدين وبسطهما ولا تدل على هذا الرفع المبالغ فيه.(1/58)
قال الحافظ ابن حجر عند كلامه على حديث أنس أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء وأنه يرفع حتى يرى بياض إبطيه. قال الحافظ: [وهو معارض بالأحاديث الثابتة في الرفع في غير الاستسقاء ... إلى أن قال: وذهب آخرون إلى تأويل حديث أنس المذكور لأجل الجمع بأن يحمل النفي على صفة مخصوصة أما الرفع البليغ فيدل عليه قوله " حتى يرى بياض إبطيه " ويؤديه أن غالب الأحاديث التي وردت في رفع اليدين في الدعاء إنما المراد به مد اليدين وبسطهما عند الدعاء وكأنه عند الاستسقاء مع ذلك زاد فرفعهما إلى جهة وجهه حتى حاذتاه وبه حينئذ يرى بياض إبطيه] فتح الباري 3/171.
لذلك فإني أرى أن ما يفعله بعض الناس من المبالغة الشديدة في رفع اليدين وجعلهما فوق الرأس إنما هو من الغلو في الدين وقد نهينا عن ذلك.
والأمر الثاني الذي أود التنبيه عليه وأذكر به اخواننا أئمة المساجد وهو التطويل في دعاء القنوت وغيره من الأدعية والأذكار والأفضل هو الاقتصار على الأدعية والأذكار الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وإن زاد على ذلك فلا بأس به بشرط ألا يكون الدعاء متكلفاً أو متضمناً مخالفة شرعية.
قال الإمام النووي عند ذكره لآداب الدعاء [الخامس: أن لا يتكلف السجع وقد فسر به الاعتداء في الدعاء والأولى أن يقتصر على الدعوات المأثورة فما كل أحد يحسن الدعاء فيخاف عليه الاعتداء] الأذكار ص342.
وبعض أئمة المساجد من أجل أن يحافظ على السجع يأتي بأمور غير مقبولة في الدعاء.
الكلام في المسجد
يقول السائل: ما قولكم في حديث الناس وكلامهم في المساجد وارتفاع أصواتهم فيها؟(1/59)
الجواب: إن حال كثير من المساجد اليوم محزن نتيجةً لجهل كثير من المسلمين بأحكام المساجد وآدابها فترى في المساجد الحلقات التي يعقدها الناس ويدور الحديث فيها عن الأمور الدنيوية وإذا وقف الحديث عند الأمور المباحة فحسن، ولكن كثيراً منهم يتجاوز المباح إلى الحرام فيتكلمون في أعراض الناس ويستغيبونهم ونحو ذلك.
والأصل أن الجلوس في المسجد عبادة وينبغي للمسلم أن يشغل وقته في المسجد إما بالصلاة أو بالذكر والدعاء أو يقرأ القرآن فإن لم يفعل شيء من ذلك فلا يتجاوز الكلام في الأمور المباحة.
ولقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن زمان يتحلق الناس فيه في المساجد لا همّ لهم ولا كلام إلا في أمور الدنيا وقد ذمهم على ذلك، فقد ورد في الحديث عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي على الناس زمان يتحلقون في مساجدهم وليس همهم إلا الدنيا وليس لله فيهم حاجة فلا تجالسوهم) رواه ابن حبان والحاكم وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وصححه الألباني.
ومن الأمور المخالفة للشرع والتي تشوش على المصلين والتالين والذاكرين ويفعلها الناس في المساجد، البحث عن المفقودات فتسمع هذا يبحث عن نقوده وترى المؤذن يعلن عن وجود نقود أو نحوها ويطلب من صاحبها مراجعته وغير ذلك من الأمور التي نهى عنها السشارع الحكيم فقد ورد في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك وإذا رأيتم من ينشد الضالة فقولوا: لا رد الله عليك) رواه الترمذي والدارمي وهو حديث صحيح.
وفي رواية أخرى: (من سمع رجلاً ينشد في مسجد ضالة فليقل لا أداها الله إليك فإن المساجد لم تبن لهذا) رواه مسلم.
وينبغي أن يعلم أن التشويش في المسجد على المصلين والتالين لكتاب الله والذاكرين لا يجوز حتى ولو كان ذلك بقراءة القرآن فقد ورد في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر وقال: ألا إن كلكم مناجٍ(1/60)
ربه فلا يؤذي بعضكم بعضاً ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة أو قال في الصلاة) رواه أبو داوود بإسناد صحيح كما قال الإمام النووي وصححه الألباني. وورد في الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال (إن المصلي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن) رواه مالك بسند صحيح قاله الألباني.
وقد همّ عمر بن الخطاب بتعزير من يرفعون أصواتهم في المسجد، روى البخاري عن السائب بن يزيد قال: كنت قائماً في المسجد فحصبني رجل - أي رماني بحصاة - فنظرت فإذا هو عمر بن الخطاب فقال: اذهب فائتني بهذين، فجئته بهما، فقال: ممن أنتما؟ قال: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
ومن التشويش الذي يقع الصياح الذي نسمعه من بعض المصلين في آخر المسجد عند إقامة الصلاة لإتمام الصفوف أو الدخول إلى داخل المسجد وهذا أمر لا يجوز لأن المسلم يوم الجمعة عليه أن يتقدم للصفوف الأولى ولا يترك فراغاً أمامه وهذه هي السنة كما ورد في الحديث من قوله عليه الصلاة والسلام في حق القادم إلى المسجد يوم الجمعة: ( ... ودنا من الإمام) أي اقترب من الإمام ثم إذا إقيمت الصلاة فإن من واجب الإمام أن يأمر بتسوية الصفوف وإكمالها وينبغي على المصليين أن يسمعوا ويطيعوا فيتموا الصفوف ويسدوا الفراغ الموجود في المسجد.
وأما أن يأخذ المصلون في آخر المسجد بالصياح واللغط فهذا الأمر لا ينبغي ومخالف للهدي النبوي.
صلاة الاستخارة
يقول السائل: ما هي صلاة الاستخارة وفي أي الأمور يستخير المسلم وكيف تصلى؟(1/61)
الجواب: صلاة الاستخارة سنة ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم فقد روى الإمام البخاري بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم يقول: (اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال في عاجلة أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم ارضني به ويسمي حاجته) .
ومعنى الاستخارة أن المسلم يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يختار له خير الأمرين وأولاهما ومن المستحسن أن يستخير المسلم في أموره فقد ورد في الحديث: (من سعادة ابن آدم استخارته الله) رواه أحمد في المسند وقال الحافظ ابن حجر وسنده حسن. والاستخارة تكون في الأمور التي لا يعرف العبد فيها وجه الصواب.
وأما أمور الخير الواضحة فلا مجال للاستخارة فيها.
وينبغي أن يعلم أن الاستخارة لا تدخل باب الفرض ولا الحرام ولا المكروه وإنما تقع ضمن دائرة المندوب والمباح ولا تكون الاستخارة أيضاً في أصل المندوب وإنما تكون عند تعارض أمرين أيهما يبدأ به أو يأخذ به كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري.
وتكون الاستخارة عندما يهمّ المسلم بأمر ما كما ورد في الحديث السابق (إذا همّ أحدكم بالأمر ... ) وهذا يعني أن الاستخارة تكون عندما يرد الأمر على القلب فيستخير فيظهر له ببركة الصلاة والدعاء ما هو الخير بخلاف ما إذا كان الأمر متمكناً في نفسه وقويت عزيمته عليه.
أما كيفية صلاة الاستخارة فإن المسلم إذا أراد الاستخارة صلى ركعتين نافلة لله تعالى ويفضل أن يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة (قُلْ يَاأَيُّهَا(1/62)
الْكَافِرُونَ) وفي الركعة الثانية بعد الفاتحة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) واستحب بعض أهل العلم أن يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ويقرأ في الركعة الثانية بعد الفاتحة قوله تعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) ولو قرأ غير ذلك أجازه.
وبعد أن يسلم من صلاته يدعو بدعاء الاستخارة المذكور في الحديث سابقاً.
ويستحب له أن يفتتح الدعاء بالحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله عليه الصلاة والسلام ويختمه بذلك مستقبلاً القبلة رافعاً يديه فإذا فعل المسلم ذلك فإنه يفعل ما ينشرح صدره له فإذا شعر المسلم أنه يميل إلى ذلك الشيء فإنه يقدم عليه ويفعله.
تخصيص ليلة النصف من شعبان بالعبادة بدعة
يقول السائل: ما حكم إحياء ليلة النصف من شعبان بالصلاة والذكر؟
الجواب: إن الأصل في العبادات التوقيف عن الرسول عليه الصلاة والسلام والواجب أن نعبد الله كما شرع في كتابه وكما جاء في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ويجب علينا أن نلتزم بذلك بلا زيادة ولا نقصان. يقول الله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) رواه مسلم.
وكان عليه الصلاة والسلام يقول في خطبه: (أما بعد فإن خير(1/63)
الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة) رواه مسلم.
إن الأصل في المسلم أن يقف عند موارد النصوص فلا يتجاوزها لأننا أمرنا بالاتباع ونهينا عن الابتداع وإن إحياء ليلة النصف من شعبان والصلاة الألفية التي تصلى فيها من البدع المنكرة التي أحدثها بعض الناس والتي لم ترد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد قرر أهل العلم أنه لا يجوز تخصيص ليلة النصف من شعبان بعبادة خاصة بها كتخصيصها بالصلاة المعروفة بالصلاة الألفية وهي صلاة تقرأ فيها سورة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ألف مرة فهذه الصلاة مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلها ولا نقلت عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، قال الإمام الشوكاني: [حديث يا علي من صلى مائة ركعة ليلة النصف من شعبان يقرأ بكل ركعة بفاتحة الكتاب وقل هو الله أحد عشر مرات إلا قضى له كل حاجة ... الخ هو موضوع - أي مكذوب-] .
وكذلك قال ابن الجوزي والحافظ العراقي وغيرهم من أهل العلم.
قال الإمام النووي ما نصه: [الصلاة المعروفة بصلاة الرغائب وهي اثنتا عشر ركعة بين المغرب والعشاء ليلة أول جمعة من رجب وصلاة ليلة النصف من شعبان مائة ركعة هاتان الصلاتان بدعتان منكرتان ولا يغتر بذكرهما في كتاب قوت القلوب وإحياء علوم الدين ولا بالحديث المذكور فيهما فإن كل ذلك باطل ولا يغتر ببعض من اشتبه عليه حكمهما من الأئمة فصنف ورقات في استحبابهما فإنه غالط في ذلك.
وقد صنف الشيخ الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن اسماعيل المقدسي كتاباً نفيساً في إبطالهما فأحسن فيه وأجاد] .
وقد ذكر بعض أهل العلم أن صلاة ليلة النصف من شعبان أحدثت في بيت المقدس سنة 448هـ ولم تكن معروفة قبل ذلك وهذا يدل على أنها مبتدعة لا أصل لها في الشرع.(1/64)
قال أبو محمد المقدسي: [لم يكن عندنا في بيت المقدس صلاة الرغائب هذه التي تصلى في رجب ولا صلاة شعبان وأول ما حدثت عندنا صلاة شعبان في سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، قدم علينا رجل في بيت المقدس من نابلس يعرف بابن أبي الحمراء وكان حسن التلاوة فقام فصلى في المسجد الأقصى ليلة النصف من شعبان فأحرم خلفه رجل ثم انضاف إليهما ثالث ورابع فما ختمها إلا وهو في جماعة كبيرة ثم جاء في العام القابل فصلى معه خلق كثير وشاعت في المسجد وانتشرت في المسجد الأقصى وبيوت الناس ومنازلهم ثم استمرت كأنها سنة إلى يومنا هذا ... الخ) .
وبناء على ما تقدم يظهر لنا أن إحياء ليلة النصف من شعبان بدعة منكرة لا أصل له في الشرع ولو كانت من الشرع لبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأحياها هو وأصحابه رضي الله عنهم وما دام أن ذلك لم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يجوز إحياؤها بنوع خاص من العبادة. والله الهادي إلى سواء السبيل(1/65)
الصيام(1/67)
تفرق المسلمين في رؤية الهلال
يقول السائل: ما قولكم في رؤية أهل بلد الهلال، فهل يلزم المسلمين في البلدان الأخرى الصوم؟
الجواب: إن هذه المسألة محل اختلاف بين أهل العلم قديماً وحديثاً، وكثر الحديث عنها في هذه الديار وخاصة في أعقاب ما حصل في نهاية رمضان من العام 1413هـ حيث حصلت بلبلة يبن الناس في اليوم الأخير من رمضان وفي يوم العيد أدت إلى أمور تتعارض مع شريعتنا الإسلامية.
فأقول وبالله التوفيق:
لا شك أن جمهور أهل العلم يرون أنه لا عبرة باختلاف المطالع وأن على المسلمين جميعاً أن يصوموا في يوم واحد.
وأنا أقول بهذا القول وأعتقد رجحانه، ولكن هذا الرأي مع قوته ورجحانه إلا أنه رأي نظري لم يأخذ طريقه إلى التطبيق الفعلي في تاريخ المسلمين منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا تعلم فترة جرى فيها توحيد المسلمين على رؤية واحدة إلا أن يكون حصل ذلك عرضاً ودون ترتيب لذلك الأمر.(1/69)
وقد يستغرب بعض الناس هذا الكلام ولكنه الواقع، لأن جمع المسلمين على رؤية واحدة عند الصيام أو عند الأعياد، يحتاج إلى وسائل إتصالات حديثة وسريعة حتى يصل الخبر خلال ساعات إلى جميع أنحاء العالم الإسلامي ليصوموا في نفس اليوم. وهل هذا الأمر كان متوفراً للمسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء من بعده! ونحن نعلم أن وسائل الاتصال الحديثة قريبة العهد، ولنضرب مثلاً يقرب الصورة ففي عهد الخلافة الراشدة كان مقر الخليفة في المدينة المنورة وكانت دولة الخلافة مترامية الأطراف فهل كان إذا ثبت رؤية هلال رمضان لدى الخليفة في المدينة المنورة تطير البرقيات وتشتغل الهواتف لإخبار المسلمين في اليمن وفي مصر والشام وفي العراق ليصوموا في يوم واحد؟ كل ذلك ما حصل وما وقع.
ومن قال بخلاف هذا فقد أخطأ.
ولا شك أنني آمل أن يتحقق جمع المسلمين على رؤية واحدة وأن هذا الأمر لسهل ميسور في هذا الزمان في ظل دولة إسلامية واحدة ومع تقدم وسائل الإتصال ولكن إلى أن يتحقق هذا الأمل، أقول: بأنه يجب على أهل كل بلد من بلدان المسلمين أن يصوموا في يوم واحد وأن يكون عيدهم في يوم واحد. فنحن أهل فلسطين علينا أن نصوم جميعاً في يوم واحد وأن يكون عيدنا واحداً لأن في هذا الأمر محافظة على وحدتنا الجزئية إلى أن تتحقق وحدة العالم الإسلامي الكلية، فلا يقبل أن يختلف أهل البلدة الواحدة أو المدينة الواحدة أو القرية الواحدة، فبعضهم صائم وبعضهم يصلي العيد.
وضابط هذا الأمر هو الإلتزام بما يصدر عن أهل العلم في ذلك البلد وهم القضاة في المحاكم الشرعية وطاعتهم في ذلك طاعة في المعروف وإن كان هذا مخالفاً لرؤية أهل بلد آخر، لأن الأصل في الصوم أن يكون مع جماعة المسلمين وعامتهم لما ثبت في الحديث من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون) رواه(1/70)
الترمذي وأبو داود والبيهقي وهو حديث صحيح.
قال الإمام الترمذي رحمه الله: [وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال: معنى هذا الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس وعلى المسلمين في هذه الديار أن يعلموا أنه يسعهم ما وسع المسلمين في السابق، بل أيام قيام دولة الإسلام، فما كانوا يصومون في يوم واحد وما كان عيدهم في يوم واحد لما ذكرته سابقاً، وأنقل كلام بعض أهل العلم في ذلك:
قال الإمام السبكي رحمه الله، في كتابه " العلم المنشور في إثبات الشهور " ص15 ما نصه: [ ... لأن عمر بن الخطاب وسائر الخلفاء الراشدين لم ينقل أنهم كانوا إذا رأوا الهلال يكتبون إلى الآفاق ولو كان لازماً لهم لكتبوا إليهم لعنايتهم بأمور الدين] .
وقال الشيخ المحدث ناصر الدين الألباني: [ ... وإلى أن تجتمع الأمة الإسلامية على ذلك - توحيد الصوم والعيد - فإني أرى على شعب كل دولة أن يصوم مع دولته ولا ينقسم على نفسه فيصوم بعضهم معها وبعضهم مع غيرها، تقدمت في صيامها أو تأخرت. لما في ذلك من توسيع دائرة الخلاف في الشعب الواحد] تمام المنه في التعليق على فقه السنة، ص 398.
ويقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي: [إن السعي إلى وحدة المسلمين في صيامهم وفطرهم وسائر شعائرهم وشرائعهم أمر مطلوب دائماً ولا ينبغي اليأس من الوصول إليه، ولا من إزالة العوائق دون، ولكن الذي يجب تأكيده وعدم التفريط فيه بحال هو: أننا إذا لم نصل إلى الوحدة الكلية العامة بين أقطار المسلمين في أنحاء العالم، فعلى الأقل يجب أن نحرص على الوحدة الجزئية الخاصة بين أبناء الإسلام في القطر الواحد، فلا يجوز أن نقبل بأن ينقسم أبناء البلد الواحد أو المدينة الواحدة فيصوم فريق اليوم على أنه من رمضان ويفطر آخرون على أنه من شعبان وفي آخر الشهر تصوم جماعة وتعيّد أخرى فهذا وضع غير مقبول] .(1/71)
فمن المتفق عليه أن حكم الحاكم أو قرار ولي الأمر يرفع الخلاف في الأمور المختلف فيها فإذا أصدرت السلطة الشرعية المسؤولة عن إثبات الهلال في بلد إسلامي - المحكمة العليا أو دار الإفتاء أو رئاسة الشؤون الدينية - قراراً بالصوم أو الإفطار فعلى مسلمي ذلك البلد الطاعة والالتزام.
لأنها طاعة في المعروف وإن كان ذلك مخالفاً لما ثبت في بلد آخر، فإن حكم الحاكم هنا رجح الرأي الذي يقول: إن لكل بلد رؤيته. وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صوكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون) وفي لفظ (وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون) فتاوى معاصرة ج 2 ص223.
الإمساك قبل طلوع الفجر
يقول السائل: ما قولكم فيما يسمى بموعد الإمساك المطبوع في الكثير من التقاويم (الإمساكيات) وعادة ما يكون قبل أذان الفجر بربع أو ثلث ساعة فهل يحرم على المسلم أن يأكل في هذا الوقت؟
الجواب: إن الإمساك قبل أذان الفجر والمتعارف عليه لدى كثير من الناس حيث أنهم يمتنعون عن الطعام والشراب إذا حان موعد الإمساك ويعتبرون أن وقت الصوم قد بدأ، إن هذا الإمساك بدعة ما أنزل الله بها من سلطان ولا دليل على جوازه من الكتاب أو السنة وفيه نوع من الغلو والتشدد الذي نهى عنه الشرع إذا التزم به المسلم.
والأصل أن وقت الصيام يبدأ بطلوع الفجر الصادق وهو موعد أذان الفجر يقول الله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) وبناءً على ذلك يجوز للمسلم أن يستمر في الأكل والشرب إلى أن يؤذن لصلاة الفجر ولا يحرم عليه الطعام أو الشراب إلا إذا دخل وقت صلاة الفجر.
وهذا الإمساك المبتدع يتعارض مع ما ورد في السنة النبوية من تأخير السحور فقد ورد في ذلك أحاديث منها:(1/72)
1. ما رواه الإمام البخاري قال: [باب تعجيل السحور ثم ساق بسنده عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: كنت أتسحر في أهلي ثم تكون سرعتي أن أدرك السجود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- أي صلاة الفجر -] .
وقال الحافظ ابن حجر قوله باب تعجيل السحور أي الإسراع بالأكل إشارة إلى أن السحور كان يقع قرب طلوع الفجر. وقد ورد في بعض نسخ صحيح البخاري في ترجمة الباب قوله: باب تأخير السحور.
2. روى مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه: كنا ننصرف من صلاة الليل فنستعجل بالطعام مخافة الفجر.
3. وعن ابن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنّا معاشر الأنبياء أمرنا أن نعجل فطرنا وأن نأخر سحورنا وأن نضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة) رواه الطبراني والأوسط ورجاله رجال الصحيح. قاله الهيثمي.
دواء مرضى الربو والصوم
يقول السائل: هل البخاخ الذي يستعمله بعض المرضى في الفم يفطر الصائم؟ وهل التحاميل تفطر الصائم؟
الجواب: إن البخاخ المذكور في السؤال هو سائل يستعمل لتوسيع شرايين الرئتين عند ضيق النفس ولا يصل إلى المعدة عند استعماله من المريض كما قال الأطباء وبناءً على ذلك فهو غير مفسد للصيام إن شاء الله.
وأما التحاميل فلا تعد من مفسدات الصوم ولا بأس باستعمالها إذا أخذت على أنها علاج.
تأثير المعاصي والآثام في الصيام
يقول السائل: هل للمعاصي والآثام التي يرتكبها الإنسان في نهار رمضان(1/73)
تأثير على الصيام كالغيبة والنميمة والكذب ونحوها؟
الجواب: يقول الله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) "ولعل" في لغة العرب تفيد الترجي فالذي يرجى من الصوم تحقق التقوى أي أن الصوم سبب من أسباب التقوى.
وبناء على ذلك فليس الصوم هو مجرد الإمتناع عن المفطرات الثلاث الطعام والشراب والشهوة فحسب بل لا بد من صوم الجوارح أيضاً، فاليد لا بد أن تكف عن أذى الناس، والعين لا بد أن تكف عن النظر إلى المحرمات والأذن لا بد أن تكف عن السماع للمحرمات واللسان لا بد أن يكف عن المحرمات كالغيبة والنميمة والكذب ونحوها، والرِجل لا بد أن تكف عن المحرمات فلا تمشي إلى ما حرم الله.
إن الصائم مأمور بتقوى الله عز وجل وهي امتثال ما أمر الله واجتناب ما نهى الله عنه وهذه طائفة عطرة من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تشير إلى هذه المعاني:
1. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به والصيام جنة فإذا كان يوم يصوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سآبه أحد أو قاتله فليقل إني صائم) رواه البخاري ومسلم.
2. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) رواه البخاري.
3. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس الصيام من الأكل والشرب إنما الصيام من اللغو والرفث فإن سآبك أحد أو جهل عليك فقل إني صائم إني صائم) رواه ابن خزيمة والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم وصححه الشيخ الألباني.
4. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رب صائم ليس له بصيامه إلا الجوع ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر)(1/74)
رواه النسائي وابن ماجة وابن خزيمة والحاكم وقال صحيح على شرط البخاري وصححه الشيخ الألباني.
فهذه الأحاديث وغيرها يؤخذ منها أن الصوم لا يقصد به مجرد الإمتناع عن الطعام والشراب، بل لا بد من صوم الجوارح عن المعاصي، فعلى الصائم أن يجتنب كل المحرمات ويلتزم بكل ما أمر الله سبحانه وتعالى به حتى تتحقق فيه معاني الصوم الحقيقية، وإن لم يفعل ذلك فإنه لا ينتفع بصومه ويكون نصيبه من صومه مجرد الجوع والعطش، والعياذ بالله، كما أشار إلى ذلك الحديث الأخير، وله رواية أخرى وهي: (رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ورب قائم حظه من قيامه السهر) وهي رواية صحيحة.
فالأصل في المسلم الالتزام بشرع الله كاملاً وأن يأتي بالعبادات كما أرادها الله سبحانه وتعالى، بأن تكون هذه العبادات محققة لثمارها الإيجابية في سلوك المسلم وحياته، وأما إن كانت الصلاة مجرد حركات خالية من روحها والصوم مجرد جوع وعطش، والزكاة للرياء والسمعة والحج للشهرة واللقب فقد خاب المسلم وخسر وحبط عمله وكان من المفلسين يوم القيامة كما قال صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار) رواه مسلم وابن حبان والترمذي والبيهقي وأحمد. وبناء على كل ما تقدم نرى أن المعاصي والآثام لها تأثير واضح في الصيام فهي تفسد المعنى الحقيقي للصيام ولكنها لا تعد من المفطرات.
قضاء الحامل ما أفطرته من رمضان
تقول السائلة: امرأة أفطرت في رمضان بسبب الحمل وجاء رمضان التالي(1/75)
ولم تقض الأيام التي أفطرتها فماذا يجب عليها؟ وهل تلزمها الفدية مع القضاء؟ وما مقدار الفدية إن وجبت؟
الجواب: إن المشروع في حق المسلم أن يبادر إلى قضاء الصوم إبراء للذمة ولأنه لا يعلم ما يحدث له من مرض أو سفر أو موت يمنعه من القضاء فإذا دخل رمضان التالي ولم يقض ما عليه فالمسألة فيها خلاف بين أهل العلم فقال جمهور العلماء إن كان تأخير القضاء لعذر شرعي كالمرض مثلاً فيجب القضاء فقط.
وإن كان تأخير القضاء لغير عذر فيلزم القضاء والفدية وهي إطعام مسكين عن كل يوم وحجتهم بعض الآثار المنقولة عن بعض الصحابة كابن عمر وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم.
وقال أبو حنيفة وأصحابه يجب القضاء فقط سواء كان تأخير القضاء بعذر أو بدون عذر ولا تجب الفدية لقوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) .
وهذا هو القول الراجح فيما يظهر لي لأن المسألة لا يوجد فيها نص ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال الإمام الشوكاني: [وذهاب الجمهور إلى قول لا يدل على أنه الحق والبراءة الأصلية قاضية بعدم وجوب الاشتغال بالأحكام التكليفية حتى يقوم الدليل الناقل عنها ولا دليل ههنا فالظاهر عدم الوجوب] .
فهذه المرأة عليها قضاء الأيام التي أفطرتها من رمضان ولا فدية عليها.
قضاءالصوم عن الميت
يقول السائل: إذا توفي شخص وكان عليه صيام أيام من رمضان لم يصمها بسبب مرضه فهل يجوز لأولاده صيام تلك الأيام عنه؟
الجواب: لا يصح صيام الأولاد عن أبيهم الذي مات وعليه صيام(1/76)
أيام من رمضان لم يصمها بسبب مرضه لأن صوم الفرض عبادة بدنية محضة لا تدخلها النيابة، ولأن فرض الصيام جار مجرى الصلاة فكما لا يصلي أحد عن أحد فكذلك الصوم لا يصوم أحد عن أحد صوم رمضان.
ويجوز أن يصام عن الميت صوم النذر لأن النذر إلتزام في الذمة بمنزلة الدين فيجوز أن يقوم ولي الميت بالقضاء عنه كما يقضي الدين عنه وعلى هذا يحمل قول الرسول صلى الله عليه وسلم (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) رواه البخاري ومسلم.
وعلى أولاد هذا الشخص أن يطعموا مسكيناً عن كل يوم أفطره والدهم الذي مات مريضاً ويدل على ذلك (ما روت عمرة أن أمها ماتت وعليها من رمضان فقالت لعائشة: رضي الله عنها: أقضيه عنها؟
قالت عائشة: لا بل تصدقي عنها مكان كل يوم نصف صاع على كل مسكين) . أخرجه الطحاوي وهو أثر صحيح.
وكذلك ما ورد عن ابن عباس قال: (إذا مرض الرجل في رمضان ثم مات ولم يصم أطعم عنه ولم يكن عليه قضاء وإن كان عليه نذر قضى عنه وليه) رواه أبو داود بسند صحيح كما قال الألباني.
وهذا القول الذي ذكرته هو قول السيدة عائشة رضي الله عنها وابن عباس وبه قال الإمام احمد بن حنبل واختاره جماعة من المحققين.
قطع الصوم المندوب
يقول السائل: إنه صام يوم اثنين تطوعاً لله تعالى ولما كان وقت الظهر زار قريباً له فدعاه إلى الطعام فأفطر ويسأل هل يلزمه قضاء يوم مكان اليوم الذي أفطره؟
الجواب: إن المشروع في حق المسلم إذا بدأ بأمر مندوب كصلاة مندوبة (نافلة) أو صوم مندوب أن يتمه ويكمله (كصوم الإثنين والخميس) .(1/77)
والذي عليه جمهور الفقهاء أن ذلك ليس واجباً وإنما هو في دائرة الاستحباب وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة تفيد ذلك منها:
1. عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل عليّ رسول الله يوماً فقال هل عندكم شيء؟ فقلت لا قال: فإني صائم ثم مر بعد ذلك اليوم وقد أهدي إلي حيس فخبأت له منه وكان يحب الحيس قلت يا رسول الله أهدي إلي حيس فخبأت لك منه قال: أدنيه أما إني قد أصبحت وأنا صائم فأكل منه ثم قال لنا: إنما مثل صوم التطوع مثل الرجل يخرج من ماله الصدقة فإن شاء أمضاها وإن شاء حبسها) رواه مسلم وأبو داود والنسائي واللفظ له.
والحيس: تمر نزع نواه ويدق مع إقط ويعجنان بالسمن كما في المصباح المنير 1/159.
2. عن أم هانيء رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دخل عليها فدعى بشراب ثم ناولها فشربت فقالت يا رسول الله أما إني كنت صائمة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر) رواه أبو داود والنسائي والترمذي وأحمد والبيهقي وضعفه الترمذي وغيره إلا أن الحديث يتقوى بكثرة طرقه كما قال الشيخ الألباني.
وقال النووي إسناده جيد وقال الحاكم صحيح ووافقه الذهبي وقال الحافظ العراقي إسناده حسن.
3. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم طعاماً فلما وضع قال رجل: أنا صائم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاك أخوك وتكلف لك أفطر وصم مكانه إن شئت) رواه البيهقي وإسناده حسن كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح 5/112.
4. عن أبي جحيفة قال: (آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء فرآى أم الدرداء متبذلة فقال لها ما شأنك قالت أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً فقال كل فإني صائم فقال سلمان ما أنا بآكل حتى تأكل فأكل فلما ذهب الليل ذهب أبو الدرداء يقوم. قال سلمان نم فنام ثم ذهب يقوم فقال(1/78)
سلمان نم فلما كان آخر الليل قال سلمان قم الآن فصليا فقال سلمان: إن لربك عليك حقاً ولنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً فأعط كل ذي حق حقه فأتى أبو الدرداء النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان) رواه البخاري وغيره.
فهذه الأحاديث وغيرها يؤخذ منها أن المتطوع أمير نفسه فيجوز له أن يتم وهو الأفضل ويجوز له أن يقطع تطوعه ولا شيء عليه فلا يلزمه القضاء وإلى هذا ذهب الشافعية والحنابلة ونقل عن جماعة من الصحابة كعمر وابن عباس وابن مسعود وجابر رضي الله عنهم أجمعين.
إلا أنه ينبغي أن يعلم أنه استثني من هذا الحكم الذي ذكرته الحج والعمرة فإذا شرع المسلم بحج أو عمرة فيجب عليه إتمامهما بلا خلاف كما قال النووي: [وأما إذا دخل في حج تطوع أو عمرة فإنه يلزمه إتمامها بلا خلاف] المجموع 6/393.
صوم النافلة بعد منتصف شعبان
يقول السائل ما حكم صوم التطوع بعد منتصف شعبان؟
الجواب: إن صوم التطوع بعد منتصف شعبان جائز ولا بأس به عند جمهورأهل العلم وقد ورد في ذلك أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم منها:
1. عن أبي سلمة أن عائشة رضي الله عنها حدثته قالت: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهراً أكثر من شعبان وكان يقول خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا وأحب الصلاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما دووم عليه وإن قلّت وكان إذا صلى صلاة دوام عليها) رواه البخاري.
2. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم أكثر من شعبان فإنه كان يصومه كله) متفق عليه.(1/79)
3. وفي رواية أخرى: (ما كان يصوم في شهر ما كان يصوم في شعبان كان يصومه إلا قليلا ً) متفق عليه.
إلا أنه يجب أن يعلم أنه يكره للمسلم أن يتقدم رمضان بصوم يوم أو يومين لئلا يختلط النفل بالفرض، أو حتى يستريح الصائم ليدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط.
وقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صوماً فليصم ذلك اليوم) رواه البخاري.
صوم ستة أيام من شوال لمن عليه قضاء من رمضان
يقول السائل: هل يجوز صيام ستة أيام من شوال لمن عيه قضاء أيام من رمضان وهل تصام متتابعة أم يجوز تفريقها؟
الجواب: إن صيام ستة أيام من شوال من السنن الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم فقد ورد ذلك في أحاديث منها:
1. عن أبي أيوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال فذاك صيام الدهر) رواه مسلم وغيره.
2. عن ثوبان مولى رسول الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان وستة بعد الفطر كان تمام السنة) ، (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) رواه ابن ماجة والنسائي وهو حديث صحيح.
3. ما رواه ثوبان عند النسائي أنه عليه الصلاة والسلام قال: (صيام رمضان بعشرة أشهر وصيام ستة أيام بشهرين فذلك صيام السنة) وهي رواية صحيحة وغير ذلك من الأحاديث.(1/80)
وبناء على ذلك فمن السنة أن تصوم ستة أيام من شهر شوال والأفضل في حق من كان عليه قضاء أيام من رمضان أن يقضيها أولاً ثم يصوم ستاً من شوال فإن القضاء واجب وصيام الستة سنة والواجب مقدم على السنة.
ولا يشترط في صيام الأيام الستة من شوال التتابع بل يجوز تفريقها.
وإن صامها أيام الإثنين والخميس فهو حسن وله الأجر والثواب الذي يقع بصيام الإثنين والخميس.
صوم عاشوراء
يقول السائل: ما حكم صوم عاشوراء وهل يصام ذلك اليوم منفرداً أم يصام قبله أو بعده؟
الجواب: إن صوم عاشوراء وهو اليوم العاشر من محرم من الأمور المستحبة عند أكثر أهل العلم وقد وردت أحاديث كثيرة في صوم عاشوراء منها:
1. عن عائسة رضي الله عنها قالت: (كان يوم عاشوراء يوماً تصومه قريش في الجاهلية وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه فلما قدم المدينة صامه وأمر الناس بصيامه فلما فرض رمضان قال: من شاء صامه ومن شاء تركه) رواه البخاري ومسلم.
2. وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن هذا يوم عاشوراء ولم يكتب عليكم صيامه وانا صائم فمن شاء صام ومن شاء فليفطر) رواه البخاري ومسلم.
3. وعن ابن عباس قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أن اليهود تصوم عاشوراء فقال: ما هذا؟ قالوا: يوم صالح نجّى الله فيه موسى وبني اسرلئيل من عدوهم فصامه موسى فقال: أنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه) رواه البخاري ومسلم وغير ذلك من الأحاديث.
ويستحب أن يصام اليوم التاسع مع اليوم العاشر من محرم لما ثبت(1/81)
في الحديث عن ابن عباس قال: (لما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى فقال: إذا كان عام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع قال فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه مسلم.
أكثر شهر صامه النبي صلى الله عليه وسلم نافلة
يقول السائل: ما هو أكثر شهر كان النبي عليه الصلاة والسلام يصومه غير شهر رمضان؟
الجواب: إن أكثر شهر صامه النبي صلى الله عليه وسلم صوم نافلة هو شهر شعبان فقد وردت في ذلك أحاديث كثيرة منها:
1. عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان) رواه البخاري ومسلم.
2. وفي رواية عن عائشة أيضاً قالت: (ولم أره صائماً من شهر قط أكثر من صيامه من شعبان كان يصوم شعبان كله كان يصوم شعبان إلا قليلاً) رواه البخاري ومسلم.
3. وفي رواية أخرى عن عائشة قالت: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشهرمن السنة أكثر صياماً منه في شعبان وكان يقول خذوا من الأعمال ما تطيقون فغن الله لن يمل حتى تملوا وكان يقول أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل) رواه البخاري ومسلم وهذه الأحاديث وغيرها يؤخذ منها أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصوم أكثر شعبان.
والحكمة من ذلك كما قال بعض أهل العلم إن كثيراً من الناس يغفلون عن الصيام في شعبان فكان عليه الصلاة والسلام يصوم أكثره وقد(1/82)
ورد ذلك معللاً في حديث أسامة قال قلت: يا رسول الله لم أرك تصوم من شهر ما تصوم من شعبان قال: (ذلك شهر يغفل الناس بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم) رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة.
وقيل في الحكمة من إكثار الرسول صلى الله عليه وسلم من صوم شعبان أقوال أخرى. وهنا لا بد من الإشارة إلى حديث قد يتعارض مع ما ذكرنا وهو ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) رواه أصحاب السنن الأربعة.
فيجاب عنه من وجهين:
الأول: إن الحديث ضعيف ضعفه أحمد وابن معين والبيهقي.
الثاني: إن صح فيحمل النهي في الحديث على من لم يدخل تلك الأيام في صيام اعتاده قاله الحافظ ابن حجر.
والله الهادي إلى سواء السبيل(1/83)
الجنائز والقبور(1/85)
المشروع في زيارة القبور
يقول السائل: ما هو المشروع في زيارة القبور؟
الجواب: لا شك أن زيارة القبور مشروعة في كل الأوقات لما ورد في الحديث عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم بالآخرة ولتزدكم زيارتها خيراً فمن أراد أن يزور فليزر ولا تقولوا هجراً) رواه مسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم.
وفي رواية أخرى (لا تقولوا ما يسخط الرب) .
فزيارة القبور سنة مشروعة تذكر بالموت وتجعل الإنسان يتعظ ويعتبر ويتذكر أنه سيصير إلى ما صار إليه الأموات وهذا يدفعه إلى العمل الصالح.
وكذلك فإن زيارة القبور فيها نفع للميت بالسلام عليه والدعاء له والاستغفار له.
والمشروع للزائر أن يقول: (السلام على أهل الديار المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) رواه مسلم.
والمشروع أيضاً في حق الزائر أن يدعو للأموات لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يخرج إلى البقيع فسألته عائشة عن ذلك(1/87)
فقال إني أمرت أن أدعو لهم) رواه أحمد بسند صحيح.
وينبغي لزائر القبر أن يراعي حرمة الأموات فلا يجلس على القبور ولا يطؤها بقدمه وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال: (لأن يجلس أحدكم عل جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر) رواه مسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم.
تأبين الميت بدعة
يقول السائل: ما حكم تأبين الميت قبل الدفن أو بعده بإقامة حفلات التأبين؟
الجواب: إن تأبين الميت بدعة تدور بين الكراهة والتحريم فهي من الأمور المحدثة المخالفة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم لأن المشروع الثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الدعاء للميت بعد دفنه والاستغفار له كما ورد في الحديث عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل) رواه أبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
هذه هي السنة ولكن وللأسف فإن الناس قد تركوا السنة وعملوا بالبدعة وهي التأبين هذا إذا كان المؤبن صادقاً فيما يقوله عن الميت ولا يصفه إلا بما كان فيه فعلاً فيكون الأمر بدعة مكروهة.
وأما إذا كان التأبين يشتمل على أمور مكذوبة كأن يقول بأن موته خسارة فظيعة للأمة وإن النساء لم يلدن مثله وإن الميت كان قد قضى حياته في أعمال البر والتقوى والناس يعرفون أنه لم يدخل المسجد إلا وهو ميت وغير ذلك من الكذب والزور والبهتان فهذا أمر محرم يؤذي الميت ويعود على المؤبن بالإثم والوبال فيرجع آثماً غير مأجور.
وهذا الحكم في التأبين سواء كان قبل الدفن أو بعده أو بعد مرور أربعين يوماً على وفاته أو غير ذلك فكله مخالف لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم فقد جاء(1/88)
في الحديث عن عبد الله بن أبي أوفى قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المراثي) رواه أحمد وابن ماجة والحاكم وصححه، كما قال الحافظ ابن حجر.
وكذلك فإن التأبين قبل الدفن تأخير لدفن الميت وهذا أيضاً مخالف لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم لأن من السنة الإسراع في دفن الميت.
وكذلك ما يصاحب التأبين من الأمور المخالفة للشرع كدعوة الحضور للوقوف دقيقة حداداً على الميت فهذا ليس من شرع الإسلام في شيء وكذلك تصفيق الحاضرين للمؤبن وإنني أدعو المسلمين إلى ترك البدع والالتزام بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن الشر كل الشر في الابتداع والخير كل الخير في الاتباع.
نقل الميت من دولة إلى أخرى
يقول السائل: توفي لي قريب في إحدى دول الخليج وأصر ابنه على نقل الجثمان إلى الضفة الغربية ليدفن فيها بناء على وصية الميت وقد تأخر دفنه عدة أيام فما حكم ذلك؟
الجواب: لقد حث الإسلام على تعجيل دفن الميت فقد ورد في الحديث بما معناه: (لا ينبغي لجثة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله) رواه أبو داود وغيره.
ولا شك أن نقل الميت من بلد إلى بلد وخاصة أنه قد أدى إلى تأخير الدفن أياماً عدة يتنافى مع ما ذكرنا.
ومن ناحية أهرى فإن نقل الأموات في هذه الأيام يؤدي إلى امتهانهم وانتهاك حرماتهم في نقاط الحدود والمطارات وغيرها.
كما وأن نقل الميت قد يعرضه للتغيير ويكلف ذويه مبالغ طائلة كان من الأوْلى أن تكون لورثته وخاصة إذا كانوا أطفالاً لا معين لهم.
لذلك فإني أرى حرمة نقل الميت من دولة إلى اخرى لاشتماله المفاسد التي ذكرت بعضها.(1/89)
وإذا أوصى الميت بنقله، فإن وصيته لا تنفذ لأن في تنفيذها مخالفة للشرع ويدل على ما قلت ما ورد في الحديث عن جابر بن عبد الله قال: كنا حملنا القتلى يوم أحد لندفنهم فجاء منادي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تدفنوا القتلى في مضاجعهم فرددناهم) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وقال الترمذي: حسن صحيح.
ويؤيد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالإسراع في الجنائز وتعجيل دفنها فقد ورد في الحديث: (إن طلحة بن البراء مرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقال: إني لأرى طلحة قد حدث فيه الموت فآذنوني به وعجلوا) رواه أبو داود. أي عجلوا في التجهيز والتكفين.
وقد نص الإمام النووي في المجموع على حرمة نقل الميت وهذا قول جماعة من الشافعية ونص الحنفية أيضاً على ذلك. ويؤيد ذلك ما ورد عن ابن عمر مرفوعاً: (إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره) وفي رواية أخرى: (من مات في بكرة فلا تقيلوه إلا في قبره ومن مات عشية فلا يتبين إلا في قبره) .
وإني أرى أن الفقهاء الذين أجازوا نقل الميت من بلد إلى بلد أجازوه لمصلحة ما ولو أنهم رأوا ما يجري للأموات الذين ينقلون من بلد لآخر في زماننا هذا لأفتوا ولا شك بتحريم ذلك.
ثم إن تأخير دفن الميت فيه زيادة ومضاعفة للأحزان فإذا مات اليوم في أمريكا فإنهم ينتظرون أياماً حتى يصل جثمانه وهذا مما يزيد آلامهم وأحزانهم. بخلاف ما لو دفن بعد موته مباشرة لذلك فإن على المسلمين المبادرة بدفن موتاهم حيث ماتوا والإقلاع عن هذه العادة السيئة وهي نقل الموتى لأن إكرام الميت دفنه.
الختمة عند الوفاة بدعة
يقول السائل: عند وفاة شخص فإن أهله يذبحون ذبيحة أو أكثر ويعدون(1/90)
الطعام للناس بعد دفنه ومنهم من يصنع ذلك في الأيام الثلاثة التالية لوفاته أو بعد أسبوع أو بمناسبة الأربعين ويجمعون الناس ويقرأون بعض سور القرآن وبعض الأذكار فما حكم ذلك؟
الجواب: لا شك أن خير الهدي هو هدي محمد صلى الله عليه وسلم وإن ترك السنة شر عظيم ومن القضايا التي تركت فيها السنن ما يتعلق بالأموات فأن البدع في هذا المجال كثيرة جداً ومن ذلك ما هو محل السؤال.
وتوضيح ذلك أن صنع أهل الميت للطعام مخالف لسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام فإن أهل الميت حلت بهم مصيبة الموت وهم مشغولون بتجهيز الميت ودفنه وتعمهم الأحزان فلا ينبغي أن يكلفوا بإعداد الطعام وتقديمه للناس بل الواجب عكس ذلك أن على أقاربهم أو جيرانهم أو أهل بلدهم أن يكفوهم ذلك فيصنعون الطعام لأهل الميت ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم) رواه أبو داود والترمذي والحاكم والبيهقي وغيرهم وقال الحاكم صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وحسنه الألباني.
والحديث النبوي يرشد إلى نوع من التكافل الإجتماعي حيث إن إعداد الطعام لأهل الميت أمر له أثر طيب في نفوسهم بالإضافة إلى تعزيتهم ومواساتهم وعلى المسلمين التمسك بسنة رسولهم صلى الله عليه وسلم لتحقيق هذه المعاني العظيمة.
وكذلك يقال في الجواب عن بقية السؤال فلا ينبغي لأهل الميت ارتكاب هذه البدع من إحياء ذكرى الأربعين أو ما يعرف بالختمة أو ما يسمى بالونيسة فهذه أمور مخالفة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بدع منكرة.
وبدلاً من إنفاق الأموال في هذه الأمور المخالفة لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ينبغي إنفاق الأموال في ما يعود بالنفع والفائدة على الميت بإذن الله وأبواب الخير التي ينتفع بها الميت كثيرة كالتصدق عن الميت فإن ذلك ينفعه بإذن الله سبحانه وتعالى ويدل عليه ما ورد في الحديث: (عن ابن عباس(1/91)
رضي الله عنه أن سعد بن عبادة رضي الله عنه توفيت أمه وهو غائب عنها فقال: يا رسول الله أن أمي توفيت وأنا غائب عنها فهل ينفعها إن تصدقت بشيء عنها؟ فقال: نعم. قال: فإني أشهدك أن حائط المخراف صدقة عنها) رواه البخاري وغيره، وحائط المخراف: بستان نخل أو عنب كثير الثمر.
وكذلك ما جاء في الحديث: (عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي عليه الصلاة والسلام: إن أبي مات وترك مالاً ولم يوص فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه: قال نعم.) رواه مسلم وغيره.
ولا ينبغي أن يقال إن قراءة ما يعرف بالختمة ما هي إلاّ قراءة قرآن فلا يجوز منعها.
لأننا نقول إن الختمة المعروفة هي قراءة السور الأخيرة من القرآن من سورة الضحى إلى سورة الناس وتلاوة بعض الأذكار كتكرار لفظ الجلالة مئة مرة وغير ذلك من الأذكار، إن هذه الختمة طريقة مبتدعة في الذكر لم ترد عن الرسول صلى الله عليه وسلم فكم من صحابي مات على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد عنه صلى الله عليه وسلم أنه فعل ذلك أو أمر أحداً من الصحابة بفعل ذلك.
ولو كان هذا الأمر مشروعاً لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعمل به الصحابة رضي الله عنهم ولو كان خيراً لسبقونا إليه.
وما دام لم ينقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يجوز فعله لأن الأصل في باب العبادات التوقيف عن المصطفى عليه الصلاة والسلام.
لا يجوز البناء على القبور
يقول السائل: ما الحكم فيما يصنعه الناس في القبور من بنائها بالحجارة والرخام ونحو ذلك؟
الجواب: إن ما آلت إليه مقابر كثيرة من المسلمين في وقتنا الحاضر ليشعر بالأسى والحزن لبعد الناس عن هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم وإن الزائر لهذه(1/92)
القبور ليرى أموراً عجيبة من حيث البناء على القبور فيرى هذا القبر قد بني من الرخام الإيطالي وذلك بني بأغلى أنواع الحجارة وهذا بني برخام أبيض وذاك بأسود حتى إن كثيراً من الناس أصبحوا يتفاخرون بالبناء على قبور موتاهم وسمعنا أن بعض هذه القبور كلف بناؤها مبالغ طائلة وكل ذلك من شؤم الابتعاد عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى باتباع نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام فقال: (وَمَاءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ) . وقال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) وقال تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) وغير ذلك من الآيات.
واعلم أخي المسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن البناء على القبور وقد ثبت ذلك عنه في أحاديث منها:
1. عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب (ألا أبعثك على ما بعثتني رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) رواه مسلم وغيره.
2. وعن جابر رضي الله عنه قال (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن بينى عليه) رواه مسلم.
3. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبنى على القبور أو يقعد عليها أو يصلى عليها) رواه أبو علي وقال الهيثمي رجاله ثقات.
4. وعن فضالة بن عبيد: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بتسوية القبور) رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم.
إن هذه الأحاديث تدل دلالة صريحة على تحريم البناء على القبور لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك والأصل في النهي أنه يفيد التحريم لذلك فإن جماهير علماء المسلمين متفقون على أن البناء على القبور من المحرمات.
قال الإمام الشوكاني رحمه الله (إعلم أنه اتفق الناس سابقهم ولاحقهم وأولهم وآخرهم من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى هذا الوقت(1/93)
أن رفع القبور والبناء عليها بدعة من البدع التي ثبت النهي عنها واشتد وعيد رسول الله لفاعلها.. ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين أجمعين) شرح الصدور بتحريم رفع القبور ص 8.
وقد أفتى جماعة من العلماء بهدم الأبنية التي على القبور ومنهم العلامة ابن حجر الهيتمي إذ قال (وتجب المبادرة لهدم المساجد والقباب التي على القبور إذ هي أضر من مسجد الضرار لأنها أسست على معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه نهى عن ذلك وأمر صلى الله عليه وسلم بهدم القبور المشرفة وتجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر ولا يصح وقفه ونذره) الإبداع ص 198.
ولا بد للمسلم أن يعرف هدي النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة فلم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم تعلية القبور ولا بناؤها بآجر ولا بحجر ولا تشيديها ولا بناء القباب عليها فسنته صلى الله عليه وسلم تسوية القبور المشرفة كلها ونهى عن تجصيص القبور والبناء عليها والكتابة عليها وكانت قبور الصحابة ضي الله عنهم وما زال كثير منها غير مبني عليه كما هو الحال إلى الآن في شهداء بدر وشهداء أحد وقبور الصحابة في البقيع وغيره.
وينبغي أن يعلم أن القبور ليست محلاً لتفاخر الناس في البناء عليها وزخرفتها وتخطيط اللوحات التي توضع عليها ويكتب فيها آيات من القرآن الكريم وغير ذلك.
وإن الميت لا ينتفع بالبناء على قبره أو وضع (الدرابزين) عليه وإن إنفاق الأموال في هذا المجال إنفاق فيما حرم الله وكان الواجب أن تنفق هذه الأموال في أمور أخرى قد تنفع الميت كالصدقة عنه أو عمل صالح ينتفع به.
وإنني لأذكر إخواننا المشايخ والعلماء أن من واجبهم إنكار هذه البدعة المحرمة وعدم السكوت عليها وتبين الحكم الشرعي فيها لأن هذا المنكر قد استشرى وانتشر حتى لا تكاد مقبرة تخلو منه. وإن سكوت العلماء عن هذا المنكر وغيره فيه تضليل للعوام فيظنون أن البناء على القبور من الأمور المشروعة.(1/94)
وإن من منهج علماء المسلمين إنكار المنكرات وإظهار كلمة الحق وإن خالفها الكثير من الناس، بل إن الصحابة رضي الله عنهم أنكروا أموراً أقل من هذا بكثير وإن علماء المسلمين في عهد الملك الظاهر أنكروا البناء على القبور وأفتوا أنه يجب على ولي الأمر أن يهدم ذلك كله وهذا هو الحق. فماذا بعد الحق إلا الضلال؟
يحرم استئجار المقرئين للقراءة على الأموات
بقول السائل: ما حكم استئجار المقرئين للقراءة على روح الميت؟
الجواب: إن استئجار المقرئين لقراءة القرآن على روح الأموات غير جائز شرعاً ومن البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان ودفع المال لهؤلاء المتاجرين بكتاب الله إنفاق فيما حرم الله وهم يأخذون هذا المال بطريق حرام. والقرآن الكريم ما أنزل للمتاجرة به من هؤلاء الكسالى والعاطلين عن العمل ولا ليتكسب به الدجاجلة والمشعوذون وما أنزل هذا الكتاب الكريم ليقرأ على المقابر أو لافتتاح برامج الإذاعة والتلفاز التي تحارب الله ورسوله ودينه طوال الوقت، إنما أنزل هذا القرآن لنتدبر آياته ولتكون لنا سراجاً منيراً ودستوراً ومنهاجاً لحياة الأمة المسلمة.
وهؤلاء الذين يتاجرون بكتاب الله ينطبق عليهم قول بعض السلف (كم من تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه) وهؤلاء المرتزقة يحددون أسعاراً لقراءاتهم وإذا لم يدفع لهم ما يطلبون فإنهم لا يقرؤون وتزداد حرمة هذا الأمر إذا صاحبته أمور منكرة كالأدعية والأذكار التي لا يقرها الشرع الحنيف وكإزعاج الجيران وأهل الحي باستخدام مكبرات الصوت.
زيارة القبور يوم العيد غير مشروعة
يقول السائل: جرت العادة عندنا أن يذهب الناس يوم العيد بعد انتهاء(1/95)
صلاة العيد لزيارة القبور ويقرؤون القرآن حول القبر وتخرج النساء كذلك معهم ويوزعون الحلوى والقهوة والشاي ويضعون جريد النخل والزهور على القبور فما قولكم في ذلك؟
الجواب: إن زيارة القبور سنة مشروعة عن الرسول صلى الله عليه وسلم فقد ثبت في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم بالآخرة) رواه مسلم.
ولكن الشرع لم يحدد يوما ً معيناً لزيارة القبور لذلك فإن تخصيص يومي العيد بزيارة القبور بدعة مكروهة وقد تكون حراماً إذا رافقتها الأمور المنكرة التي نشاهدها في أيامنا هذه يوم العيد من خروج النساء المتبرجات إلى القبور واختلاطهن بالرجال وكذلك انتهاك حرمات الأموات من الجلوس على القبور ووطئها بالأقدام وغير ذلك من الأمور المخالفة لهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وينبغي أن يعلم أنه لا يجوز تخصيص زمان أو مكان بشيء من العبادة إلا بدليل شرعي. وتخصيص يوم العيد بزيارة القبور مما لم يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يكن من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم ولا صحابته رضي الله عنهم زيارة القبور يوم العيد وإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الخير كل الخير بالاتباع والشر كل الشر بالابتداع.
وأما قراءة القرأن على القبور فأمر غير مشروع أيضاً بل هو بدعة منكرة ما فعلها رسول صلى الله عليه وسلم ولا نقلت عن صحابته رضي الله عنهم ولا يجوز فعل ذلك وعلى المسلم أن يقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الأخيار رضي الله عنهم.
والرسول صلى الله عليه وسلم علم الصحابة ما يقولون عند زيارتهم للقبور فقد ورد في الحديث عن بريدة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: السلام عليكم أهل الديار المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية) رواه مسلم.(1/96)
فالمشروع في حق من يزور المقابر أن يسلم على الأموات بهذه الصيغة أو نحوها وأن يدعو ويستغفر لهم وأما قراءة الفاتحة كما يفعله أكثرالناس اليوم وكذا قراءة غيرها من القرآن لا أصل له في الشرع وإن توارثه الناس في بلادنا كابراً عن كابر فإن الحق في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا فيما يعتاده الناس.
قال الشيخ محمد رضا صاحب تفسيرالمنار ( ... فاعلم أن ما اشتهر وعم ّ البدو والحضر من قراءة الفاتحة للموتى لم يرد في حديث صحيح ولا ضعيف فهو من البدع المخالفة لما تقدم من النصوص القطعية ولكنه صار بسكوت اللابسين لباس العلماء وبإقرارهم له ثم بمجاراة العامة عليه من قبيل السنن المؤكدة أو الفرائض المحتمة) 8/268.
ومما يدل على عدم مشروعية قراءة القرآن على القبور قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تجعلوا بيوتكم مقابر فإن الشيطان يفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة) رواه مسلم.
فهذا يدل على أن القبور ليست محلاً لقراءة القرآن شرعاً فلذلك حض الرسول صلى الله عليه وسلم على قراءة القرآن في البيوت ونهى عن جعل البيوت كالمقابر في عدم قراءة القرأن.
وأما خروج النساء إلى زيارة القبور في أي يوم من أيام السنة فالأصل فيه الجواز لدخول النساء في عموم قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم (كنت نهيتكم ... ألا فزوروها) ولأن العلة في زيارة القبور وهي التذكرة بالآخرة تشارك النساء فيها الرجال ولثبوت ذلك بأحاديث منها حديث عبد الله بن أبي مليكة: أن عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر فقلت لها: يا أم المؤمنين من أين أقبلت؟ قالت: من قبر عبد الرحمن ابن أبي بكر فقلت لها: أليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور؟ قالت: نعم، ثم أمر بزيارتها) رواه الحاكم والبيهقي، وإسناده صحيح قاله الألباني.
وفي رواية عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في زيارة القبور) رواه ابن ماجة.(1/97)
وفي الباب أيضاً حديث عائشة عند مسلم وهو حديث طويل لم أذكره لذلك.
وأما خروج النساء لزيارة القبور يوم العيد فحكمه كما قلت سابقاً لا يجوز فهو بدعة مكروهة لأنه تخصيص لعبادة بزمان معين بدون دليل وقد يصل إلى درجة التحريم إذا عرفنا حال كثير من النساء اللواتي يخرجن إلى المقابر من التبرج، وإبداء الزينة والاختلاط الفاحش بالرجال فأرى أنه يجب على أولياء أمورهن منعهن من الخروج إلى المقابر وهن على تلك الحال وإن لم يفعلوا فهم آثمون والعياذ بالله.
وأما وضع جريد النخل وباقات الزهور أو أكاليل الزهور على القبور فلا يجوز أيضاً لأنه أمر محدث ولا يصح الاحتجاج بحديث ابن عباس وهو بما معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين فقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير.. ثم أخذ جريدة فشقها نصفيفن فوضع كل نصف على قبر وقال لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا) .
فهذا الحديث صحيح ولا شك ولكن لا دلالة فيه على أن وضع جريدة النخل وأكاليل الزهور على قبور الأموات عامة جائز لما يلي:
أولاً: إن النبي صلى الله عليه وسلم أعلمه الله أن الرجلين يعذبان ونحن لا نعرف هل أصحاب القبور يعذبون أم لا؟
ثانياً: إذا فعلنا ذلك فقد أسأنا إلى الأموات لأننا نظن ظن السوء أنهم يعذبون وما يدرينا لعلهم ينعمون.
ثالثاً: إن وضع الجريد والزهور لما كان عليه سلف الأمة الصالحة الذين هم أعلم بشريعة الله منا.
رابعاً: إن وضع جريد النخل على القبر خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم قال الخطابي في معالم السنن " أنه من التبرك بأثر النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه بالتخفيف عنهما.. إلى أن قال: والعامة في كثير من البلدان تغرس الخوص في قبور موتاهم وأراهم ذهبوا إلى هذا وليس لما تعاطوه من ذلك وجه " 1/27.
ويؤيد أن وضع الجريد خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم ما ورد في حديث جابر(1/98)
عند مسلم وفيه (أني مررت بقبرين يعذبان فأحببت بشفاعتي أن يرد عنهما ما دام الغصنان رطبين) فهذا دليل على أن رفع العذاب عنهما كان بسبب شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ودعائه لا بسبب نداوة الغصنين.
وبناء على ما تقدم لا أنصح أحداً من المسلمين بوضع جريد النخل أو أكاليل الزهور على القبور وأنصح من يفعلون ذلك بأن يتصدقوا بثمن ذلك عن أمواتهم فإن ذلك ينفعهم ويصلهم ثوابه إن شاء الله كما قاله بعض المحققين من العلماء.
الأعمال التي ينتفع بها الأموات
يقول السائل: ما هي الأمور التي ينتفع بها الإنسان بعد وفاته ويصل ثوابها إليه؟
الجواب: إن مما اتفق عليه علماء الإسلام أن الميت ينتفع بدعاء غيره له، قال الإمام النووي: [أجمع العلماء على أن الدعاء للأموات ينفعهم ويصل ثوابه إليهم] .
ويدل على ذلك قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) سورة الحشر آية 10.
وكذلك ثبت في أحاديث كثيرة من الدعاء للأموات في صلاة الجنازة وعند زيارة القبور وغير ذلك كما ورد في الحديث من قول النبي صلى الله عليه وسلم (دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة وعند رأسه ملك موكل، كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل آمين ولك بمثل) رواه مسلم وغيره.
وكذلك ما ثبت في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) رواه مسلم وغيره.(1/99)
ومن الأمور التي اتفق العلماء على أن الميت ينتفع بها ويصل ثوابها له الصدقة عنه، وكذلك فإن المتصدق ينتفع بتلك الصدقة أيضاً ويدل على ذلك أحاديث وردت عن الرسول صلى الله عليه وسلم منها:
عن ابن عباس رضي الله عنه أن سعد بن عبادة رضي الله عنه توفيت أمه وهو غائب عنها فقال: يا رسول الله إن أمي توفيت وأنا غائب عنها فهل ينفعها إن تصدقت بشيء عنها؟ قال: نعم، فقال: فإني أشهدك أن حائط المخراف صدقة عنها) رواه البخاري وغيره. وحائط المخراف: بستان نخل وعنب كان لسعد فتصدق به عن أمه.
وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أمي أفتلتت نفسها - أي ماتت فجأة - ولم توص وأظنها تكلمت تصدقت فهل لها أجر إن تصدقت عنها ولي أجر؟ قال: نعم فتصدق عنها) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه (إن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أبي مات وترك مالاً ولم يوص فهل يكفر عنه إن تصدقت عنه؟ قال: نعم) رواه مسلم وغيره. ومن الأمورالتي ينتفع بها الميت قضاء صوم النذر عنه فإذا كان الميت قد نذر صوما ًلله تعالى فمات قبل أن يصوم فيجوز لوليه أن يصوم عنه ذلك النذر.
ويدل على ذلك الحديث عن عائشة رضي الله عنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه) رواه البخاري ومسلم.
وهذا ارجح أقوال العلماء في الصوم عن الميت أنه يجوز في صوم النذر دون صوم الفريضة وهذا منقول عن عائشة وابن عباس وهو قول الإمام أحمد.
ويؤيد ذلك ما جاء في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنه، أن امرأة ركبت البحر فنذرت إن الله تبارك وتعالى أنجاها أن تصوم شهرأ فأنجاها الله عز وجل فلم تصم حتى ماتت فجاءت قرابة لها إما أختها أو ابنتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: أرأيتك لو كان عليها دين كنت تقضيه؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق أن يقضى) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.(1/100)
ومن الأمور التي تصل إلى الميت وينتفع بها الحج والعمرة عنه حج الفريضة والنافلة أو النذر وكذا العمرة وقد وردت الأحاديث بذلك فمنها:
عن ابن عباس قال: أمرت امرأة سنان بن سلمة الجهني أن تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن أمها ماتت ولم تحج أفيجزى أن تحج عنها؟ قال: نعم، لو كان على أمها دين فقضته عنها ألم يجزيء عنها فلتحج عن أمها) رواه النسائي وقال الألباني صحيح الإسناد.
وعن ابن عباس أن امرأة نذرت أن تحج فماتت فأتى أخوها النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك فقال: أرأيت لو كان عل أختك دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم، قال: فاقضوا الله فهو أحق بالوفاء) رواه البخاري وغيره.
وهناك أعمال أخرى ينتفع بها الميت على قول طائفة من أهل العلم كتلاوة القرآن وجعل ثواب التلاوة للميت والأضحية عن الميت.
أفضل الأعمال التي ينتفع بها الأموات من أبنائهم
يقول السائل: ما هي أفضل الأعمال التي يستطيع الابن عملها وينتفع بها الأب بعد وفاته؟
الجواب: إنَّ من أفضل الأعمال التي يستطيع الولد أن يعملها وينتفع بها أبوه الميت الصدقة.
فالصدقة عن الميت تنفعه ويصله ثوابها كما هو مذهب جماهير علماء المسلمين ودل على ذلك ما جاء بالحديث (عن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أمي إفتلت نفسها ولم توص - أي ماتت فجأةً - وأظنها لو أنها تكلمت تصدقت فهل لها أجر إن تصدقت عنها ولي أجر؟ قال: نعم فتصدق عنها) ، رواه البخاري ومسلم.
ويدل على ذلك أيضاً (ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أن سعد بن عبادة رضي الله عنه توفيت أمه وهو غائب عنها فقال: يا رسول اله إن أمي توفيت و؟ أنا غائب عنها فهل ينفعها إن تصدقت بشيء(1/101)
عنها؟ قال نعم، فقال إني أشهدك أن حائط المخراف صدقةٌ عنها) والمقصود بالحائط: بستان نخلٍ أو عنب. والحديث رواه البخاري وغيره.
ومن الأمور التي ينتفع بها الميت الدعاء له عند زيارة القبور أو كان بشكلٍ عام، يقول الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ) فهذه الآية تدل على انتفاع الأموات باستغفار الأحياء لهم.
قال الإمام النووي: [أجمع العلماء على أن الدعاء للأموات ينفعهم ويصلهم ثوابه] الأذكار ص 140.
ويدل على ذلك أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد) ، رواه مسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم لغفر لحينا وميتنا ... ) رواه أبو داود والترمذي وهو حديثٌ صحيح.
ومن الأمور التي ينتفع بها الميت على قول بعض العلماء الحج عنه تطوعاً إن كان الميت قد أدى فريضة الحج وكذا قراءة القرآن بأن يجعل القارئ ثواب ما تلى للميت.(1/102)
الزكاة والحج(1/103)
زكاة أموال التجارة
يقول السائل: كيف يزكي التجار تجارتهم؟
الجواب: إذا حلَّ الشهر الذي يؤدي التاجر فيه زكاة أمواله فإنه يقوم بحصر أمواله من التجارة والتي تشمل البضائع الموجودة لديه والتي لم تبع بعد ذلك وكذلك أمواله السائلة وماله من ديون الناس إذا كانت مضمونة فيقوِّم البضائع الموجودة لديه بسعرها الحاضر ويضم إلى ذلك أرباحه ومدخراته وديونه المضمونة الأداء ويخصم ما عليه من دين إن كان هناك دين ثم يخرج زكاة الباقي بنسبة 2,5% أي ربع العشر.
وينبغي التنبيه على أن الأجهزة والمعدات لا تدخل في الزكاة مثلاً إذا كانت لديه ثلاجات أو خزائن أو مبنى أو سيارة لخدمة المحل أو نحو ذلك فلا تحسب من ضمن مال الزكاة وإنما الزكاة على الأموال السائلة وهي الأموال المعدة للبيع لما ورد في الحديث عن سمرة بن جندب قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة مما يعد للبيع) ، رواه أبو داود والدارقطني واختلف في سنده وحسنه ابن عبد البر.
كما وأن تقويم البضائع والسلع يكون بناءً على سعرها الحالي الذي تباع به وقت التقويم وهذا قول أكثر الفقهاء.
ويجوز للتاجر أن يخرج زكاة تجارته من أعيان تلك التجارة كتاجر(1/105)
المواد الغذائية فيجوز له أن يخرجها مما عنده من أرزٍ أو طحينٍ أو سكر وغيرها، ويجوز له أيضاً أن يخرج القيمة مما وجب عليه نقداً.
زكاة الزيتون
يقول السائل: كيف تخرج زكاة الزيتون؟ وإذا عصر الزيتون فهل تخرج من الزيت؟ وما هو النصاب الشرعي في ذلك؟ وهل يجوز إخراج النقود بدلاً من الزيت والزيتون؟
الجواب: قال أكثر أهل العلم بوجوب الزكاة في الزيتون إذا تحققت شروط وجوب الزكاة فيه وهذا القول هو الراجح إن شاء الله وهو الذي تؤيده عمومات الأدلة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتشهد له حكمة الشريعة الإسلامية وعدلها وهو المنقول عن ابن عباس رضي الله عنه وعن الزهري والأوزاعي والليث الثوري والحنفية في القول المعتمد عندهم والمالكية وهو أحد القولين في مذهب أحمد وهو قول الشافعي في القديم.
يقول الله سبحانه وتعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَءَاتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) الأنعام الآية 141.
وورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (فيما سقت السماء والعيون أو كان بعلاً العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر) ، رواه البخاري وأصحاب السنن.
فإذا قطف المزارع الزيتون وبلغ نصاباً وهو المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس فيما دون خمسةٍ أو سق صدقة) ، متفقٌ عليه، والخمسة أوسق تساوي في زماننا هذا (653) كيلو غرام على وجه التقريب فتجب الزكاة فيه ومقدار الواجب هو العشر أي (10%) إذا كان يسقى بماء السماء كما هو الواقع بالنسبة لمعظم أشجار الزيتون في بلادنا حيث يعتمد المزارعون في سقيها على الأمطار.
وأما إذا كانت تسقى بعض السنة بوسائل الري المعروفة الآن فيكون(1/106)
مقدار الواجب هو نصف العشر أي (5%) ، وأما إّذا كانت تسقى بعض السنة بماء المطر وبعضها الآخر بوسائل الري المعروفة ففيها ثلاثة أرباع العشر (7. 5%) .
ويجوز للمزارع أن يخرج المقدار الواجب من زكاة الزيتون حباً إن أراد أو زيتا ً.
وينبغي أن يكون ما يخرجه هو الأنفع للفقراء والمحتاجين والأيسر على المزارعين والمعروف اليوم أن كثيراً من المزارعين يعصرون الزيتون فيخرجون من الزيت المقدار الواجب بعد أن يكون الحب قد بلغ نصاباً كما ذكرت.
ويجوز للمزارع أن يدفع قيمة المقدار الواجب من الزكاة نقداً ولا بأس في ذلك كما هو مذهب الحنفية والقول المشهور عند المالكية وهو رواية في مذهب الحنابلة ومنقول ٌ عن الثوري وعمر بن عبد العزيز من فقهاء السلف.
وقد يكون إخراج القيمة أنفع للفقراء والمحتاجين من إخراج الأعيان.
ويجب على المزارع ألا يبخس المستحقين للزكاة حقهم فيقدر القيمة بما عليه السعر في السوق يوم إخراج الزكاة. وكما وأن على المزارع أن يبادر إلى إخراج الزكاة بمجرد انتهائه من قطف الزيتون حباً أو عصره زيتاً.
صرف الزكاة للزوج الفقير
تقول السائلة: هل يجوز للزوجة أن تصرف زكاة أموالها لزوجها الفقير؟
الجواب: نعم يجوز للزوجة أن تدفع زكاة مالها لزوجها الفقير وهذا قول جمهور أهل العلم ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن، قالت: فرجعت إلى عبد الله فقلت: إنك رجل خفيف ذات اليد وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالصدقة فأته فسأله، فإن كان ذلك يجزيء عني(1/107)
وإلا صرفتها إلى غيركم، قالت: فقال عبد الله: بل ائتيه أنت قالت: فانطلقت فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجتي حاجتها قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ألقيت عليه المهابة قالت: فخرج علينا بلال فقلنا له: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن امرأتين بالباب يسألانك: أتجزيء الصدقة عنهما على زوجيهما وعلى أيتام في حجورهما ولا تخبر من نحن. قالت: فدخل بلال فسأله قال له: من هما؟ فقال امرأة من الأنصار وزينب. فقال: أي الزيانب؟ فقال: زينب امرأة عبد الله. فقال: لهما أجران: أجر القرابة واجر الصدقة) متفق عليه.
يجوز إخراج النقود في زكاة الفطر
يقول السائل: ما حكم إخراج النقود في صدقة الفطر؟ وما هو وقتها؟ وهل يجوز تعجيلها؟ ولمن تعطى؟
الجواب: صدقة الفطر أو زكاة الفطر فريضة عند جمهور أهل العلم وقد ثبتت بأحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها:
حديث ابن عمر قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد الحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنا نعطيهما في زمان النبي صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام أو صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير أو صاعاً من زبيب فلما جاء معاوية وجاءت السمراء - أي القمح الشامي - قال: أرى مداً من هذه يعدل مدين) رواه البخاري.
وجمهور الفقهاء المالكية والشافعية والحنابلة يرون وجوب إخراج الأعيان في صدقة الفطر كالتمر والشعير والزبيب أو من غالب قوت الناس ولا يجيزون إخراج القيمة أي إخراج النقود.(1/108)
ومذهب الحنفية جواز إخراج القيمة ونقل هذا القول عن جماعة من أهل العلم منهم الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز والثوري ونقل عن جماعة من الصحابة أيضاً وهذا هو القول الراجح إن شاء الله لما يلي:
أولاً: إن الأصل في الصدقة المال لقوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) . والمال في الأصل ما يملك من الذهب والفضة وأطلق على ما يقتنى من الأعيان مجازاً وبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم المنصوص عليه إنما هو للتيسير ورفع الحرج لا لتقييد الواجب وحصر المقصود.
ثانياً: إن أخذ القيمة في الزكاة ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن جماعة من الصحابة فمن ذلك ما ورد عن طاووس قال معاذ باليمن: ائتوني بعرض ثياب آخذه منكم مكان الذرة والشعير فإنه أهون عليكم وخير للمهاجرين بالمدينة. رواه يحيى بن آدم في كتاب الخراج.
وقد عنون الإمام البخاري في صحيحه فقال: باب العرض في الزكاة وذكر الأثر عن معاذ ونصه (وقال طاووس: قال معاذ رضي الله عنه لأهل اليمن ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم وخير لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة) واحتجاج البخاري بهذا يدل على قوة الخبر عنده كما قال الحافظ بن حجر في فتح الباري 4/54.
ونقل الحافظ عن ابن رشيد قال: وافق البخاري في هذه المسألة الحنفية مع كثرة مخالفته لهم لكن قاده إلى ذلك الدليل.
وفعل معاذ مع إقرار النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك يدل على جوازه ومشروعيته.
ثالثاً: إن النبي صلى الله عليه وسلم غاير بين القدر الواجب من الأعيان المنصوص عليها مع تساويها في كفاية الحاجة فجعل من التمر والشعير صاعاً ومن البر نصف صاع وذلك لكونه أكثر ثمناً في عصره فدل على أنه عليه الصلاة والسلام اعتبر القيمة.
ورواية نصف الصاع من البر ثبتت عن الرسول صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة ولا يسلم ضعفها كما قال بعض المحدثين.
رابعاً: إن المقصود من صدقة الفطر إغناء الفقراء وسد حاجتهم وهذا المقصود يتحقق بالنقود أكثر من تحققه بالأعيان وخاصة في زماننا هذا لأن(1/109)
نفع النقود للفقراء أكثر بكثير من نفع القمح أو الأرز لهم ولأن الفقير يستطيع بالمال أن يقضي حاجاته وحاجات أولاده وأسرته ومن المشاهد في بعض بلاد المسلمين أن الفقراء يبيعون الأعيان (القمح والأرز) إلى التجار بأبخس الأثمان نظراً لحاجتهم إلى النقود.
خامساً: قال الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرض زكاة الفطر من الأطعمة السائدة في بيئته وعصره إنما اراد بذلك التيسير على الناس ورفع الحرج عنهم فقد كانت النقود الفضية أو الذهبية عزيزة عند العرب وأكثر الناس لا يكاد يوجد عنده منها إلا القليل أو لا يوجد عنده منها شيء وكان الفقراء والمساكين في حاجة إلى الطعام من البر أو التمر أو الزبيب أو الإقط، لهذا كان إخراج الطعام أيسر على المعطي وأنفع للآخذ ولقصد التيسير أجاز لأصحاب الإبل والغنم أن يخرجوا (الإقط) وهو اللبن المجفف المنزوع زبده فكل إنسان يخرج من الميسور لديه. ثم إن القدرة الشرائية للنقود تتغير من زمن لآخر ومن بلد لآخر ومن مال لآخر فلو قدر الواجب في زكاة الفطر بالنقود لكان قابلاً للارتفاع والانخفاض حسب قدرة النقود على حين يمثل الصاع من الطعام إشباع حاجة بشرية محددة لا تختلف فإذا جعل الصاع هو الأصل في التقدير فإن هذا أقرب إلى العدل وأبعد عن التقلب ".
وهناك أدلة أخرى كثيرة تدل على رجحان مذهب الحنفية القائلين بجواز إخراج القيمة في صدقة الفطر ومن اراد الاستزادة فليراجع كتاب الإمام المحدث أحمد بن محمد الغماري بعنوان (تحقيق الآمال في إخراج زكاة الفطر بالمال) .
وأما بقية الأسئلة فنقول في الجواب عنها:
إن وقت وجوب صدقة الفطر هو غروب شمس آخر يوم من رمضان عند الجمهور وطلوع فجر يوم العيد عند الحنفية. هذا وقوت الوجوب وقد اجازوا تقديمها عن وقت الوجوب وهو الأصلح والأنفع للفقراء فعند الحنفية يجوز تعجيلها من أول العام وعند الشافعية يجوز تعجيلها من أول(1/110)
شهر رمضان وعند المالكية والحنابلة يجوز تقديمها بيوم أو يومين لقول ابن عمر: (كانوا يعطونها قبل الفطر بيوم أو يومين) رواه البخاري. وهذا قول حسن وثبت من فعل جماعة من الصحابة تعجيلها بيوم أو يومين أو ثلاثة حتى يتمكن الفقير من شراء ما يلزمه قبل يوم العيد.
وتصرف صدقة الفطر للفقراء والمساكين والمحتاجين فقط ولا تصرف في مصارف الزكاة الثمانية على الراجح من أقوال أهل العلم.
لا يجب على الحاج ذبح شاة عند رجوعه من الحج
يقول السائل: يظن بعض الناس أن من الواجب على من يحج بيت الله الحرام أن يذبح شاة عند عودته من الحج إلى بلده فهل هذا صحيح أم لا؟
الجواب: لا يجب على الحاج أن يذبح ذبيحة عند رجوعه من الحج إلى بلده وليس لذلك علاقة بمناسك الحج.
والذبح الواجب على الحاج يكون في مكة إذا كان الحاج قارناً أو متمتعاً فيجب عليه ذبح شاة هناك، وأما بعد رجوعه إلى بلده وأدائه لمناسك الحج فلا يجب عليه ذبح.
وأما إذا ذبح الحاج شاة بعد عودته أو ذبحها أهله أو أقاربه على سبيل إكرام الحاج وزائريه فلا بأس بذلك وأما أنها واجبة فلا.
الرشوة للذهاب إلى الحج
يقول السائل: هل يجوز لي أن أدفع مالاً لشخص للحصول على موافقة للذهاب إلى الحج؟
الجواب: لا يجوز لك دفع هذا المال لأنه رشوة والرشوة محرمة شرعاً فقد ثبت في الحديث (أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن الراشي والمرتشي) رواه(1/111)
ابو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني.
وأنه لأمر مؤسف أن يدفع الناس رشاً لأداء طاعة وعبادة لله تعالى.
وإن مما يدفع الناس لأمثال هذه التصرفات المحرمة شرعاً القيود التي تفرض على أداء فريضة الحج حتى أصبح الحج في أيامنا هذه مقصوراً على كبار السن فقط. وتلاشت آمال كثير من الناس الذين لم يبلغوا الستين من أعمارهم في أداء فريضة الحج وينبغي إعادة النظر في هذا الأمر لأنه يتعلق بركن من أركان الإسلام وبفريضة من فرائض الله تعالى.
الحج عن الغير
تقول السائلة: إن لها اماً كبيرة في لاسن وظهرت عليها أمارات الخرف فكيف تعاملها؟ وتقول إن لأمها مبلغاً من المال عند شخص ويطالب بهذا المبلغ أخ لها مع أنه لا يقدم لوالدتها شيئاً ولا يهتم بها بينما تقوم هذه المرأة بالإنفاق على أمها والعناية بها وتسأل من أولى بأخذ هذا المبلغ هذه المرأة أم اخوها؟ وتقول أيضاً أنها تريد أن تحج عن أمها من ذلك المبلغ فهل يجوز لها ذلك؟
الجواب: إن الإسلام أمر ببر الوالدين والإحسان لهما في حياتهما وبعد وفاتهما ويقول سبحانه وتعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) سورة الإسراء الآيتان (23-24) .
وقال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) سورة العنكبوت الآية (8) .
وقال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) سورة لقمان الآية (14) .
ووردت أحاديث كثيرة منها:(1/112)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يجزي ولد والداً إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه) رواه مسلم وأبو داود والترمذي.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: الصلاة على وقتها. قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قلت: ثم أي؟ قال الجهاد في سبيل الله) رواه البخاري ومسلم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي أسيد الساعدي رضي الله عنه قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله هل بقي علي من بر والدي شيء أبرهما به بعد موتهما؟
فقال: نعم، الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما من بعدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما) رواه أبو داود وابن ماجة وابن حبان. والمراد بالصلاة عليهما: الدعاء لهما. وغير ذلك من الأحاديث.
إن المتمعن في هذه النصوص ليظهر له مدى رعاية الإسلام للوالدين وتأكيده على حسن معاملتهما وعدم إيذائهما حتى ولو كان بكلمة أف.
فيجب على هذه المرأة السائلة أن تحسن معاملة أمها مهما اتصفت أو فعلت وإن كانت خرفة لا تدري ماذا تفعل أو يصدر عنها.
وينبغي أن نذكر بأن بعض الناس إذا كبر والداه أو أحدهما يرسلهما إلى ملجأ العجزة أو بيت للمسنين ويتضجر من خدمتهما والقيام على شأنهما وهذا لا يليق بالمسلم أن يفعله فعلى المسلم أن يقوم على خدمة والديه كما ربياه صغيراً وأن يحسن لهما في الكبر كما أحسنا له في الصغر وعليه أن يتذكر أنه لا يقبل أن يعامله أولاده بهذه المعاملة عندما يتقدم به العمر فلا يرضى لنفسه أن يتخلص أولاده منه ويلقوا به إلى بيوت العجزة والمسنين. وأنا اعتبر أن ظاهرة انتشار بيوت المسنين ظاهرة غريبة عن المجتمع المسلم وهي تدل على انقطاع أواصر الترحام بين أفراد العائلة وتدل على أنانية مقيتة وأنفة بغيضة. حيث يأنف الأبناء عن رعاية الآباء وهذه الظاهرة تنافي قوله تعالى: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) .(1/113)
قال القرطبي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: (خص حالة الكبر لأنها الحالة التي يحتاجان فيها إلى بره لتغير الحال عليهما بالضعف والكبر فألزم في هذه الحالة من مراعاة أحوالهما أكثر مما ألزمه من قبل لأنهما في هذه الحالة قد صارا كلاً عليه فيحتاجان أن يلي منهما في الكبر ما كان يحتاج في صغره أن يليا منه فلذلك خص هذه الحالة بالذكر) تفسير القرطبي 10 /214.
وورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: (رغم أنفه، رغم أنفه، قيل من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة) رواه مسلم.
وأما بالنسبة للمبلغ الذي لهذه الأم فابنتها أولى به من ابنها الذي لا يتعرف على أمه ولا ينفق عليها فلهذه المرأة أن تأخذ هذا المبلغ وتنفقه على والدتها.
وعلى هذا الابن أن يتقي الله في نفسه ويبتعد عن هذه المعصية الكبيرة فإن فعله هذا عقوق لوالدته والعقوق من كبائر الذنوب فعليه أن يتوب إلى الله توبة صادقة وأن يقبل على خدمة والدته وبرها والإحسان إليها.
وأما بالنسبة لسؤالها عن الحج بذلك المال عن والدتها.
الجواب: أنه يجوز لها أن تحج عن أمها بشرط أن تكون هذه المرأة قد حجت عن نفسها أولاً كما هو مذهب جماعة من أهل العلم ويدل على ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة. قال: من شبرمة؟ قال: أخ لي أو قريب لي. قال: حججت عن نفسك؟ قال: لا. قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة) رواه ابو داود وابن ماجة وابن حبان والبيهقي وقال البيهقي: (هذا إسناد صحيح ليس في هذا الباب أصح منه) ومال إلى تصحيحه الحافظ ابن حجر وصححه الألباني.
والله الهادي إلى سواء السبيل(1/114)
المعاملات(1/115)
يحرم وضع المال في البنوك الربوية
يقول السائل: ما حكم وضع المال في بنوك الدول الغربية أو البنوك الإسرائيلية وأخذ الفائدة؟
الجواب: إن الربا من أكبر الكبائر وتحريمه قطعي في كتاب الله سبحانه وتعالى وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم وإن المسلم إذا دقق النظر في النصوص الشرعية الواردة في تحريم الربا وقف على خطورة هذه الكبيرة والنتائج المترتبة عليها.
يقول الله سبحانه وتعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) سورة البقرة الآيتان (275 -276) .
ويقول الله سبحانه وتعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) سورة البقر الآيتان (278-279) .
وإن المتمعن في حال الأمة الإسلامية اليوم ليرى أن سوء حالها من ذلة وهوان على الناس ما هو إلا إحدى نتائج البعد عن منهج الله جل وعلا(1/117)
ومن ذلك التعامل بالربا فالأمة المسلمة في معظم البلدان تتعامل بالربا ويراه كثير من الناس مباحاً وبعضهم غير اسم الربا إلى فائدة متحايلاً على شرع الله فحاربهم الله تعالى وسلط عليهم الأمم من كل جانب. وينبغي أن يعلم أن آيات تحريم الربا وردت عامة فلا تفرق في تحريمه بين التعامل به مع المسلمين أو غيرهم وهذا العموم من خواص المحرمات في الشريعة الإسلامية فالشيء المحرم يكون محرماً على كل مسلم سواء كان في ديار الإسلام أو في ديار غيرهم.
فالخمر حرام على المسلم في ديار الإسلام وحرام عليه أيضاً إذا خرج منها.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: [ومما يرافق التنزيل والسنة ويعقله المسلمون ويجتمعون عليه أن الحلال في دار الإسلام حلال في دارالكفر والحرام في دار الإسلام حرام في دار الكفر] الأم 4/160.
ولذلك كله فلا يجوز التعامل بالربا مع أي بنك وفي أي بلد مهما كان. وهذا مذهب جمهور أهل العلم وبه قال الأئمة مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من العلماء.
وقد نسب إلى بعض الفقهاء قولهم بجواز التعامل بالربا في غير دار الإسلام وهذا المذهب ضعيف لا تقوم الحجة به وليس عندهم دليل معتبر والصحيح في هذه المسألة حرمة التعامل بالربا مطلقاً ويدل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء) رواه البخاري ومسلم.
فيؤخذ من هذا الحديث أن كل من يأكل الربا ملعون. أي مطرود من رحمة الله من غير فرق بين أن يتعامل به مع المسلمين أو مع غيرهم.
فوائد البنوك (الربا)
يقول السائل: إذا كان لفرد أو مؤسسة أموال في البنوك سالفة الذكر متأتية عن طريق تحويلات مالية أو شيكات سياحية حيث تمكث الأموال لفترة في البنك باختياره ويترتب عليها فوائد ربوية فهل يجوز أخذ هذه الفوائد؟(1/118)
الجواب: لا يجوز للمسلم اصلاً أن يضع أمواله في بنك ربوي ابتداءً إلا لضرورة. فإذا حصل ووضع أمواله فيه أعطاه البنك ربا وهو ما يسميه الناس اليوم زوراً وبهتاناً فائدة فحينئذٍ يتصرف فيها كما يلي:
أولاً: لا يجوز ترك الأموال التي تسمى فائدة للبنوك الربوية كما يدعي بعض الناس حيث يقولون إن هذا من باب التقوى والورع فهذه تقوى زائفة وفي غير محلها. ومن المعروف أن البنوك الربوية إذا تركت لها تلك الأموال تنفقها في مصالحها الشخصية.
ثانياً: لا يجوز الانتفاع بتلك الأموال انتفاعاً شخصيا ً كأن ينفقها الشخص على نفسه أو على أهله فهذه الأموال لا تحل للشخص أبداً ولا يحل له إنفاقها في مصالحه الشخصية.
ثالثاً: على المودع المذكور في السؤال أخذ تلك الأموال وإنفاقها على الفقراء وبعض مصالح المسلمين العامة كبناء مدرسة أو مستشفى أو تجهيز شارع ونحو ذلك.
وقد أفتى بذلك طائفة من علماء العصر منهم فضيلة الشيخ العلامة مصطفى الزرقا حيث قال (إن التدبير الصحيح الشرعي في هذه الفوائد أن يأخذها المودع من المصرف دون أن ينتفع بها في أي وجه من وجوه الانتفاع فعليه أن يأخذ تلك الفوائد التي يحتسبها له المصرف الربوي عن ودائعه ويوزعها على الفقراء حصراً أو قصراً لأنهم مصرفها الوحيد) .
وهذا رأي سديد إن شاء الله ولكن لا أوافقه على قصر تلك الأموال على الفقراء فقط بل يجوز صرفها في بعض مصالح المسلمين العامة كما ذكرت قبل قليل وينبغي أن يعلم أنَّه يجوز أن تدفع الزكاة من تلك الأموال وكذلك لا يجوز دفعها في بناء المساجد.
حساب التوفير ربا
يقول السائل: ما الحكم في حساب التوفير وهل يدخل ذلك في حكم الربا؟(1/119)
الجواب: لا شك أن للبنوك الربوية أساليب كثيرة مغرية لجلب الزبائن للتعامل معها ولإيداع أموالهم حتى توسع أعمالها وتزيد من دخلها وتزين للناس طرق كسب كثيرة ولكنها لا تخرج في حقيقة الأمر عن دائرة الربا المحرم ومن ذلك دعوة الناس إلى فتح حسابات التوفير لدى هذه البنوك بطرق دعائية براقة تستهوي كثيراً من الناس ومن ذلك ما جاء في دعاية أحد البنوك من أن حسابات التوفير هي ضمان وأمان للمستقبل ونحو ذلك من الكلام الزائف.
ومن المعلوم أن البنوك تدفع ما تسميه فوائد مجزية على حسابات التوفير وهي في الحقيقة من الربا المحرم.
ومما يؤسف له أن كثيراً من الناس يقبلون على فتح حسابات التوفير هذه ويزعمون أنهم يؤمنون مستقبل أولادهم ويدخرون لهم وهذه المدخرات تنمو بالربا الحرام والمال الحرام لا يبارك الله فيه بل يسحقه ويمحقه.
يقول الله تعالى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) .
وعلى المسلم أن يوقن بأن الأرزاق بيد الله وأن تأمين المستقبل كما يقولون لا يكون عن طريق الحرام وإنما يكون بالإدخار من المال الحلال فهذا الذي يدخر لأولاده من المال الحرام وبطرق حرام إنما يربي أولاده على الحرام وينفق عليهم من الحرام ويدخر لهم نار جهنم والعياذ بالله.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: (يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) . وقال: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يارب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذيه بالحرام فأنى يستجاب له) رواه مسلم.
وعلى كل مسلم أن يسعى لتأمين مستقبل أولاده بالكسب المشروع الحلال ولا يكون ذلك أبدأً عن طريق الربا المحرم بنص كتاب الله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَوَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) .(1/120)
العمل في البنوك الربوية حرام
تقول السائلة: إن زوجها يعمل في البنك وتسأل هل المعاش - الراتب - حلال أم حرام؟ وهل وضع الأموال في البنوك بدون أخذ الفائدة يجوز أم لا؟
الجواب: يقول الله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ إِنَّ الَّذِينَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ) .
مما لا شك فيه أن الربا محرم شرعاً باتفاق أهل العلم، وأن النظام الإقتصادي الإسلامي يحارب الربا وكل المؤسسات الربوية، وقد شدد الإسلام في أمر الربا، فبالإضافة للآيات السابقة يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات - المهلكات - قلنا: وما هي يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه مسلم.
وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء) ، رواه مسلم.
وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الربا ثلاثة وسبعون شعبة أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه) رواه الحاكم وصصحه، وغير ذلك من الأحاديث.
وبناءً على ما سبق فقد قرر كثيرٌ من أهل العلم حرمة العمل في البنوك الربوية، حتى ولو كان العمل حارساً ليلياً للبنك، لأن ذلك من باب التعاون على الإثم والعدوان، وهو محرم بنص القرآن الكريم وكذلك فقد أفتى كثير من العلماء المعاصرين بحرمة تأجير المحلات أو العمارات للبنوك الربوية لذات السبب السابق.
وأما إيداع الأموال في البنوك الربوية، فالأصل في ذلك التحريم ولا يجوز إلا في حالة الضرورة، كأن يخشى الإنسان على ماله من الضياع ولا(1/121)
يجد مكاناً آمنا ً لوضعه إلا في البنك كحسابٍ جارٍ ولا يأخذ ربا عليه.
أقول هذا وأنا أعلم أن التعامل مع البنوك الربوية أصبح بلاء عاماً لا ينجو منه إلا القليل، وأعلم أن امتناع شخص أو أشخاص من العمل مع البنوك الربوية أو الإيداع فيها لا يحل المشكلة المستعصية، لأن المشكلة جزء من سيئات النظام العام الذي نعيشه وونحياه، ولكن سددوا وقاربوا واتقوا الله ما استطعتم.
التعامل بالشيكات
يقول السائل: يتعامل بعض الناس بالشيكات مع بعض الصرافين فيأخذ الصراف الشيك من الزبون ويكون موعد صرفه بعد ستة أشهر مثلاً فإذا كانت قيمة الشيك ألف دينار يدفع الصراف تسعمائة وخمسين دينار، وفي حالة أخرى يتم صرف الشيك الذي حل موعد استحقاقه مقابل عمولة تقدر ب 1% أو 1. 5% فما حكم التعامل بالصورتين المذكوريتن؟
الجواب: إن التعامل بالصورة الأولى المذكورة في السؤال حرام شرعاً لأن ما يقوم به الصراف من أخذ الشيك الذي تبلغ قيمته ألف دينار بتسعمائة وخمسين ديناراً يعتبر أحد أبواب الربا لأن المبلغ الذي يأخذه الصراف هو مقابل المدة الباقية على صرف الشيك وهي ستة أشهر مثلاً وهذه الصورة غير جائزة لا يجوز التعامل بها.
وأما الصورة الثانية فإن ما يتقاضاه الصراف وهو المسمى عمولة وتقدر بنسبة قليلة فيعتبر من باب الأجر ولا بأس بالتعامل بهذه الصورة ولا يعد من التعامل بالربا.
زيادة محرمة
يقول السائل: اشترى زوج أختي قطعة أرض مني ودفع لي بعض ثمنها(1/122)
ثم فسخ العقد لأسبابٍ معينة، ويطالبني الآن زوج أختي بالمبلغ الذي دفعه مع الزيادة الربوية، وأنا أرفض دفع الزيادة له، ولكن والديَّ يهدداني بالغضب عليَّ إذا لم أدفع له ما يريد، أفتوني مأجورين؟
الجواب: إذا تم فسخ العقد، يعيد البائع المبلغ الذي قبضه للمشتري ويعيد المشتري العين المباعة، وهي هنا في السؤال قطعة الأرض، ولا يحق للمشتري بأن يطالب بأي زيادة على المبلغ الذي دفعه لأن هذه الزيادة تعتبر من باب الربا وهو محرم بنص كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) .
وأما تهديد والديك بالغضب إن لم تدفع لزوج أختك الزيادة فغضبهما في غير محله وهاما غير محقين في هذا الغضب وعليك أن تبين لهما أن هذه الزيادة من الربا وتذكرهما بالله سبحانه وتعالى فلعلهما يتراجعان عن ذلك.
وإذا أصرا على موقفهما بعد البيان والتوضيح فلا عليك من غضبهما. وطاعة الله أولى ومقدمة على طاعة الوالدين وخاصة أنهما يأمران ولدهما بارتكاب معصية من المعاصي، بل كبيرة من الكبائر ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وعلى والديك أن يتقيا الله فيك وواجبهما العمل على إنقاذك من نار جهنم، لا أن يدفعاك إليها. وليذكرا قول الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) .
خلو الرجل
يقول السائل: إنه استأجر بيتاً منذ مدة طويلة وقد انتهت مدة العقد ويطلب مالك البيت منه إخلاء البيت ولكنه طلب من المالك أن يدفع له مبلغاً من المال كخلو رجل فما حكم هذا المال وهل يجوز له أخذ خلو الرجل؟
الجواب: لا يجوز لهذا المستأجر أن يأخذ أي مبلغ من المال(1/123)
مقابل إخلائه للبيت بعد انتهاء عقد الإجارة والمالك أحق بملكه ويجب على المستأجر إخلاء البيت وإذا أخذ مبلغاً من المال فإنه يأكله سحتاً وحراماً.
وخلو الرجل عند من يقول بجوازه يشترط فيه أن يكون قد بقي شيء من مدة عقد الإجارة، فمثلاً إذا استأجر شخض محلاً تجارياً لمدة خمس سنوات ورغب المالك في إنهاء العقد بعد مضي سنتين فأجازوا للمستأجر أن يأخذ خلو الرجل لأن ذلك يكون مقابل ما بقي له من حق المنفعة في المحل المستأجر وأما إذا انتهت مدة عقد الإجارة فلا يجوز للمستأجر أخذ الخلو ويجب عليه إعادة المحل لمالكه لأن المالك أحق بملكه.
وبهذه المناسبة أذكر المستأجرين أنه لا يجوز لهم شرعاً الامتناع عن إخلاء الدور المؤجرة أو المحلات المؤجرة إذا رغب أصحابها في عدم تجديد عقد الإجارة وما يقال أن القانون يحمي المستأجر فيمنع إخراجه ويمنع زيادة الأجرة فهذا كلام باطل شرعاً فيحق شرعاً للمالك أن لا يجدد عقد الإجارة بعد انتهاء مدة العقد المتفق عليها كما وأنه يجوز للمالك أن يزيد الأجرة بعد انتهاء مدة العقد.
ولا يعني هذا الكلام أن يقوم المالك باستغلال حاجات الناس وزيادة الأجرة بشكل غير معقول.
وإنما تزداد الأجرة على حسب ما هو متعارف عليه في البلد بدون ظلم لأحد وعلى الناس أن يتراحموا في هذا الأمر.
عقد الاستصناع جائز شرعاً
يقول السائل: اتفقت مع نجار على أن يقوم بتفصيل غرفة نوم مقابل مبلغ ألف وخمسمائة دينار واتفقنا على أوصافها وموعد تسليمها ولكن قال بعض الناس إن هذا العقد باطل، فما الحكم في ذلك؟
الجواب: إن العقد الذي اتفقت فيه مع النجار هو المسمى عند(1/124)
الفقهاء عقد الاستصناع وهو شراء ما يصنع وفقاً للطلب إذا كانت العين من الصانع كأن يذهب شخص إلى صانع أحذية ويطلب منه أن يصنع له زوجاً من الأحذية بأوصاف معلومة وثمن معلوم كالمثال المذكور في السؤال.
والاستصناع عقد مشروع عند أصحاب المذاهب الأربعة وإن كان على خلاف القياس لأنه بيع معدوم. وأجازه الفقهاء لما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم استصنع خاتماً ومنبراً، ونظراً لتعامل الناس به وتعارفهم عليه في مختلف العصور ويشترط بجوازه بعض الشروط منها:
1. بيان صفة المصنوع وصفاً تاماً يمنع النزاع.
2. أن يكون المصنوع مما تعارف الناس التعامل به.
وينبغي أن تحدد فيه مدة دفعاً للخصومة وعقد الاستصناع عقد لازم لمن طلب الاستصناع فيلزمه أخذ الشيء المستصنع إذا كان موافقاً الأوصاف التي اتفق عليها دفعاً للضرر عن الصانع. وبهذا يظهر أن الزعم بأن هذا العقد باطل قول باطل لا دليل له.
التعامل مع من كسبه حرام
يقول السائل: إنه رجل صاحب صنعة وعمل لدى شخص يغلب على ظنه أن ماله مكتسب من الحرام، فهل أجرة هذا الصانع حلال أم حرام؟
الجواب: إذا كنت تعمل في عمل جائز شرعاً وأخذت الأجرة عليه فما أخذته حلال إن شاء الله وليس لك أن تسأل الشخص الذي عملت عنده عن مصدر ماله، هل اكتسبه من حلال أم حرام؟ لأن السؤال عن ذلك نوع من التنطع والتشدد الذي لا تقره الشريعة الإسلامية والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (هلك المتنطعون) رواه مسلم.
ويضاف إلى ذلك أن الإنسان مسئول عما يفعل ولا يسأل عن فعل غيره، والله سبحانه وتعالى يقول: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) فما أخذته من(1/125)
أجر على العمل الذي قمت به حلال ولا شيء فيه ولست مأموراً بالتنقيب عن مصدر مال الشخص الذي عملت عنده فلو أن كل شخص عمل لغيره عملاً وسأله من أين اكتسب ماله؟ لأصبح الناس في حرج شديد ولما انتهى الأمر إلى حد.
التبرع بالدم
يقول السائل: قد يحتاج المريض إلى كميات من الدم وقد لا يوجد متبرع بها ويأبى إلا أن يبيعها فما الحكم الشرعي في ذلك؟
الجواب: إن التبرع بالدم من الأمور الضرورية للناس ولا أبالغ إن قلت إن حكمه فرض كفاية إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين وذلك لما يترتب عليه من إنقاذ المرضى والجرحى في الحوادث المختلفة وعلى الإنسان أن يبذل دمه تبرعاً وحسبةً لله تعالى ولا يطلب أي مقابل عند تبرعه بدمه لإنقاذ حياة إنسان محتاج لذلك الدم.
ولا يجوز أخذ العوض مقابل هذا الدم المبذول وذلك لأن الإنسان مكرم لا يجوز بيع أي جزء منه فلا يحل أن يبيع شعره مثلاً كما تباع أصواف الحيوانات وكذلك دمه لا يحل له بيعه.
يقول الله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِيءَادَمَ) وأخذاً من هذا التكريم لا يجوز للإنسان أن يبيع أي جزء منه كما تباع السلع.
وإذا لم يتيسر للإنسان المحتاج للدم الحصول على الدم تبرعاً وهبة إلا عن طريق الشراء فحينئذ يجوز شراء الدم والإثم على الآخذ دون المعطي.
وينبغي أن يذكر هنا أن نقل الدم لا علاقة له بانتشار الحرمة بين الآخذ والمعطي كما هو الحال في الرضاع.(1/126)
شراء المال المسروق لا يجوز
يقول السائل: ما حكم شراء المعدات التي تتم مصادرتها من أصحابها بغير حق؟ وما حكم شراء الأجهزة المسروقة؟
الجواب: يحرم على المشتري أن يشتري مالاً مغصوباً أو مسروقاً أو أخذ من صاحبه بغير حق وهو يعلم كالأجهزة التي تصادر من أصحابها لعدم دفعهم الضرائب ونحو ذلك فهذا امثاله ولا يجوز للمسلم أن يقدم على شرائه وهو يعلم لأنه قد أخذ من أصحابه بدون حق لأن هذه الأجهزة لم تنتقل ملكيتها من صاحبها بطريق شرعي وإنما هي مغصوبة أو مسروقة فإذا أقدم المسلم على شرائها فيكون قد اشتراها من غير مالكها الحقيقي.
ولا شك أن في شراء المال المسروق أو المغصوب تشجيع لهؤلاء الذين يأخذون أموال الناس بالباطل ويعتبر ذلك من باب التعاون على الإثم والعدوان وقد نهانا الله عن ذلك بقوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) .
وكذلك فإننا نعلم أنه لا يحل أخذ مال المسلم إلا إذا طابت نفسه بذلك وهذه الأموال المسروقة أو المغصوبة تؤخذ بالقوة أو بالخفية ولا تطيب نفس صاحبها بها والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه) رواه أحمد والبيهقي والدارقطني وهو حديث صحيح.
وقد روي في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: (من اشترى سرقة - شيئاً مسروقاً - وهو يعلم أنها سرقة فقد اشترك في إثمها وعارها) رواه الحاكم والبيهقي وسنده مختلف فيه.
المتاجرة بأفلام الفيديو
يقول السائل: إنه يملك محلاً للبيع وتأجير أشرطة الفيديو فما الحكم الشرعي في ريع هذا المحل؟(1/127)
الجواب: إن المتاجرة في أفلام الفيديو المعروضة في الأسواق والتي تعرض المحرمات كأفلام الجنس والخلاعة والمجون والرذائل والأفلام البوليسية التي تعلم الناس وسائل الإجرام وتسهم في نشر الجرائم والرذائل حرام شرعاً، فالتعامل في هذه الأشرطة بيعاً أو شراءاً أو إجارة أو إهداءً أو تبادلاً بدون مقابل كل ذلك محرم شرعاً لأنها تسهم بلا شك في نشر الفاحشة بين المسلمين يقول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) .
وكذلك فإنه يعد من باب التعاون على الإثم والعدوان والله سبحانه وتعالى يقول: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) .
وينبغي أن يعلم أنه لا يجوز لمالكي العقارات والمحلات التجارية أن يؤجروها لأمثال هؤلاء تجار أشرطة الفيديو.
وأما إذا كانت أشرطة الفيديو تعرض البرامج النافعة والمفيدة كالأشرطة العلمية والطبية والتاريخية ونحو ذلك مما لا يتعارض مع أحكام الشريعة فيجوز التعامل بها.
عقد المضاربة
يقول السائل: لدَّي مال يبلغ خمسة آلاف دينار وقال لي شخص أعطني هذا المال أشغله لك في تجارتي على أن أعطيك مائتين وخمسين ديناراً في الشهر فما الحكم الشرعي في ذلك الأمر؟
الجواب: إن العرض الذي عرضه عليك هذا الشخص يسمى عند الفقهاء عقد المضاربة، ولكن هذه المضاربة المعروضة عليك مضاربة فاسدة، وقبل بيان فسادها أبين لك معنى المضاربة عند الفقهاء:
فالمضاربة وتسمى أيضاً القراض: هي أن يدفع شخص مبلغاً من المال ل(1/128)
آخر ليتجر فيه، والربح مشترك بينهما على حسب ما يتفقان - أي يكون المال من شخص والعمل من شخص آخر.
والمضاربة جائزة عند عامة الفقهاء اتباعاً لما ورد عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم الذين أجازوها وعملوا بها ولم يثبت فيها بعينها دليل لا من الكتاب ولا من السنة كما قال جماعة من أهل العلم.
ويشترط أن يكون رأس المال نقداً ومعلوم المقدار ويشترط أن يكون نصيب كل من المتعاقدين من الربح معلوماً على أن يكون جزءاً مشاعاً كنسبة مئوية 10% أو 15% أو 40% على حسب ما يتفقان.
ولا يجوز أن يكون الربح مبلغاً محدداً فإن حصل ذلك أدى ذلك إلى فساد عقد المضاربة ومن الأمور المهمة في عقد المضاربة أن الخسارة إن حصلت يتحملها صاحب المال دون العامل لأن العامل يخسر جهده وعمله، إلا إذا كانت المضاربة مقيدة ومشروطة بشرطٍ محدد، فخالف العامل ذلك الشرط فإنه حينئذٍ يضمن، كأن يشترط صاحب المال على العامل ألا يتاجر بالسيارات مثلاً، فتاجر العامل بالسيارات فخسر فحينئذٍ فإن العامل ضامن لأنه خالف الشرط الذي اتفق عليه.
وأعود إلى بيان سبب فساد العقد الذي عرض على السائل فأقول: إن المضاربة تقتضي المشاركة في الربح بين صاحب المال والعامل، فإذا حدد مبلغ مقطوع سيكون لأحدهما كما في السؤال مبلغ (250) دينارا ً فلعل المضاربة لا تربح إلا ذلك المبلغ فيكون المبلغ لأحدهما دون الآخر، وهذا الحال يتنافى مع الاشتراك في الربح فلذلك قرر الفقهاء أنه لا بد من أن يكون الربح جزءا ًشائعاً. فلو ربح مائة دينار وكان بينهما نسبة معينة مثلاً 40% لصاحب المال والباقي للعامل أو حسب ما يتفقان فإن المشاركة تكون حاصلة في الربح.(1/129)
الشرط الجزائي
يقول السائل: ما الحكم الشرعي فيما يعرف هذه الأيام بالشرط الجزائي في المعاملات؟
الجواب: لا بد من توضيح الشرط الجزائي فنقول:
نظراً لتطور أساليب التجارة والتعامل بين الناس وجدت انواع من العقود والتعامل في العصور المتأخرة لم تكن معروفة في الماضي وصار لعامل الوقت أهمية قصوى في التعامل كما هو الحال في عقود التوريد إلى المصانع والمؤسسات المختلفة ونظراً لما يترتب على تأخير تسليم البضاعة إلى المصانع أو إلى المؤسسات أو تأخير تسليم المقاولين للأعمال المنوطة بهم ولما يترتب على ذلك التأخير من أضرار قد تلحق بالأطراف الأخرى في أمثال هذه العقود احتاج الناس إلى اشتراط شروط تصمن لهم حقوقهم وتلزم الطرف الذي يتأخر في تنفيذ العقد أو يخل بشيء من العقد بدفع تعويض مالي إلى الطرف الآخر وهذا ما يعرف بالشرط الجزائي.
والذي عليه كثير من الفقهاء المعاصرون أن الشرط الجزائي جائز وأنه من الشروط التي تعتبر في مصلحة العقد إذ هو حافز لإكمال العقد في وقته المحدد له، ويمكن أن يستدل على جوازه بما رواه البخاري في صحيحيه بسنده عن ابن سيرين أن رجلاً قال لكريه: (من يكري وسائل النقل) أدخل ركابك فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم فلم يخرج فقال شريح: من شرط على نفسه طائعاً ليس مكره فهو عليه.
ويضاف إلى ذلك أن الشرط الجزائي مقابل للإخلال بالإلتزام الذي قد يلحق الضرر ويفوت المنافع. والقول بجواز الشرط الجزائي سد لأبواب الفوضى والتلاعب بحقوق عباد الله وهو سبب من أسباب دفع الناس للوفاء بالعقود تحقيقاً لقوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) .
وينبغي ملاحظة أمرين في قضية الشرط الجزائي:
الأول: أنه لا ينبغي تنفيذ الشرط الجزائي إذا كان هنالك عذر شرعي(1/130)
في الإخلال بالالتزام فيكون العذر الشرعي مسقطاً لوجوبه حتى يزول العذر.
الثاني: إذا كان الشرط الجزائي كثيراً عرفاً بحيث يراد به التهديد المالي ويكون بعيداً عن مقتضى القواعد الشرعية فيجب الرجوع في ذلك إلى العدل والإنصاف ويرجع في تقدير الضرر إلى أهل الخبرة والشأن في ذلك.
ولا بد من مراعاة قواعد العدل ورفع الضرر عن الناس لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) .
الغرامة بالمال
يقول السائل: ما الحكم الشرعي في فرض غرامة مالية عن المتخلفين في دفع أقساط الاشتراك في جمعية أو نقابة أو نحو ذلك؟ وهل لذلك علاقة بالربا؟ .
الجواب: ينبغي أن يعلم أولاً: أنه لا ينبغي للمسلم ان يشترك في جمعية أو نقابة تتعارض أهدافها أو وسائلها مع مبادئ الإسلام.
ثانياً: إن ما تأخذه هذه الجهات من المنضمين إليها إن كان على سبيل التبرع فلا يجوز لها فرض غرامة على المتأخرين في سداد هذه الأقساط لأن المتطوع أمير نفسه فيجوز شرعاً للمسلم إذا أراد أن يتبرع أن يرجع عن تبرعه وإن كان ذلك خلاف الأولى. وأما إذا كانت هذه الأقساط على سبيل الإلزام، وقد رضي المشتركون في نظام هذه الجهة وقبلوا بهذا المبدأ وهو فرض الغرامة على المتأخرين في سداد هذه الأقساط فيجوز لتلك الجهة فرض الغرامة المالية على المتأخرين عن سداد القساط.
قال شريح القاضي: (من شرط على نفسه طائعاً غير مكره فهو عليه) وهذا الأمر ليس له علاقة بالربا لا من قريب ولا من بعيد لأن الربا هو الزيادة التي يؤديها المدين للدائن على رأس ماله نظير مدة معلومة من الزمن أجله إليها مع الشرط والتحديد، أو هو فضل مال بلا عوض في معاوضة مال بمال.(1/131)
فالموضوع محل السؤال ليس من الربا لأنه لا يوجد فيه معاوضة وإنما هو من باب التعزير بالعقوبات المالية وهي مشروعة عند جماعة من أهل العلم كما هو مشهور في مذهب مالك ومذهب أحمد في رواية ومذهب الشافعي في قول له ودلت على ذلك سنة الرسول صلى الله عليه وسلم كأمر الرسول صلى الله عليه وسلم تكسير أوعية الخمر ومثل أخذ شطر مال مانع الزكاة وغير ذلك.
النزاع على الأراضي
يقول السائل: كثرة في الآونة الأخيرة الخلافات بين الناس حول أدعاء ملكية الأراضي ويحاول بعض الناس إثبات ملكيتهم بحلف الأيمان أو إبراز الحجج والإثباتات ونحو ذلك وقد ترتب على تلك الخلافات حوادث مؤسفة من قتل وشجار وخصام بين الناس فما الحكم الشرعي في ذلك؟
الجواب: لعل من أهم أسباب حدوث النزاع والخصام حول الأراضي وانتشار ذلك في هذه الأيام حيث إننا نطالع في الصحف إعلانات يدعي أصحابها ملكية أرض وإعلانات أخرى ترد على اولئك المدّعين وتنقض دعواهم ونحو ذلك من الخلافات.
أقول: لعل من أهم أسباب ذلك التهالك على الدنيا وضعف الوازع الديني لدى كثير من الناس حيث أن بعض الناس يأكلون أموال غيرهم بالباطل ويتوصلون إلى ذلك بطرق ملتوية وغير مشروعة.
والإسلام والحمد الله قرر طرق إثبات الحقوق في مثل حالات الخلاف هذه فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودمائهم لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر) رواه البيهقي وأصله في الصحيحين وهو حديث حسن.
فإذا ادعى إنسان أن قطعة الأرض الفلانية له وأقام البينة الواضحة(1/132)
الصحيحة على ذلك فهي حق ثابت له ولا يملك القاضي إلا أن يحكم له بذلك، وإذا تعذر ذلك توجه اليمين على المنكر.
ويؤيد ذلك ما جاء في الحديث عن الأشعث قال: كان بيني وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله: (شاهداك أو يمينه، قلت: إذاً يحلف ولا يبالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين يستحق بها مالاً هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان فأنزل الله تصديق ذلك ثم قرأ هذه الآية: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا ... ) رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية لمسلم: (قلت: إذن يحلف ولا يبالي، قال عليه الصلاة والسلام: ليس لك إلا ذلك) وينبغي أن يعلم أن غصب الأرض وأخذها ظلماً وعدواناً يعد من الكبائر والعياذ بالله وقد وردت أحاديث كثيرة في الترهيب من ذلك منها:
1. قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوقه الله إياه يوم القيامة في سبع أرضين) رواه مسلم.
وللعلماء أقوال في تفسير التطويق المذكور في الحديث منها أنه يحمل مثله من سبع أرضين ويكلف إطاقة ذلك.
وقيل يجعل ذلك كالطوق في عنقه كما قال الله تعالى: (سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قاله الإمام النووي رحمه الله.
وقال الإمام الخطابي رحمه الله: معناه أنه يعاقب بالخسف إلى سبع أرضين ويؤيد هذا المعنى الحديث التالي:
2. قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من أخذ من الأرض شيئاً بغير حق خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين) رواه البخاري وغيره.
3. عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أن أروى بنت أويس خاصمته في بعض داره فقال: دعوها وإياها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ شبراً من الأرض بغير حق طوقه في سبع ارضين يوم القيامة(1/133)
اللهم إن كانت كاذبة فاعم بصرها واجعل قبرها في دارها.
قال: فرأيتها عمياء تلتمس الجدر تقول: أصابتني دعوة سعيد بن زيد. فبينما هي تمشي في الدار مرت على بئر في الدار فوقعت فيها فكانت قبرها) رواه البخاري ومسلم.
4. وعن محمد بن إبراهيم أن ابا سلمة حدثه وكان بينه وبين قومه خصومة في أرض وأنه دخل على عائشة رضي الله عنها فذكر ذلك لها، فقالت: يا أبا سلمة، اجتنب الأرض فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين) رواه البخاري ومسلم.
5. وعن أبي مالك الأشجعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعظم الغلول -الخيانة - عند الله عز وجل ذراع من الأرض أو في الدار فيقتطع من حظ صاحبه ذراعاً فإذا اقتطعه طوقه من سبع أرضين إلى يوم القيامة) رواه أحمد وهو حديثٌ حسن وغير ذلك من الأحاديث.
ولا بدَّ من التنبيه إلى أن قضاء القاضي بإثبات الحق لأحد الخصمين لا يجعل ذلك حلالاً إن لم يكن ذلك في الواقع وحقيقة الأمر لأن القاضي يقضي حسب الظاهر ولعل أحد الخصمين يكون ألحن بحجته من الآخر فيظهر أمام القاضي أنه محق وهو في الحقيقة مبطل فيحكم له القاضي بذلك فإن حكم القاضي لا يجعل الحرام حلالاً.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم (إنكم تختصمون إليَّ وإنما أنا بشرٌ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي له بما يقول فمن قضيت له بشيءٍ من حق أخيه بقوله فإنما أقطع له قطعةً من النار فلا يأخذها) متفقٌ عليه.
وإن بعض الناس يقدمون على حلف الأيمان الكاذبة ليستولوا بها على حقوق الآخرين ويظنون أن ذلك هيناً وهو عند الله عظيم ولقد شدد الله سبحانه وتعالى في عقوبة هذه الجريمة النكراء يقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) .
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يقتطع الرجل حق امرء مسلم بيمينه إلا(1/134)
حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار فقال رجل من القوم: يا رسول الله وإن كان شيئاً يسيراً، فقال، وإن كان سواكاً من أراك) رواه ابن ماجة والبيهقي وغيرهما وهو حديثٌ صحيح.
المزارعة جائزة
يقول السائل: عندي أرضٌ زراعية أعطيها لبعض المزارعين لرزراعتها بالقمح والشعير على أن لي ثلث الناتج منها فما حكم ذلك؟
الجواب: إن ما تقوم به يسمى عند الفقهاء مزارعة وهي عقد على الزرع ببعض الخارج والمزارعة محل خلافٍ بين علماء المسلمين والراجح من أقوال أهل العلم جوازها وهي مشروعة والأدلة على ذلك كثيرة منها:
1. ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطرٍ ما يخرج من ثمرٍ أو زرع) فتح الباري 5/ 409.
2. قال الإمام البخاري في صحيحه (باب المزراعة بشطر ونحوه. وقال قيس عن أبي جعفر قال: ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع وزارع علي وسعد بن مالك وعبد الله بن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبي بكر وآل عمر وآل علي وابن سيرين وقال عبد الرحمن ابن الأسود: كنت أشارك عبد الرحمن بن يزيد في الزرع. وعامل عمر الناس على إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر وإن جاءوا بالبذر فله كذا) فتح الباري 5/ 407-408.
وهذه المعلقات التي رواها الإمام البخاري بصيغة الجزم وصلها غيره من أهل الحديث كمنا بينه الحافظ ابن حجر في الفتح.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية معلقاً على كلام البخاري السابق (فإذا كان جميع المهاجرين كانوا يزارعون والخلفاء الراشدون وأكابر الصحابة(1/135)
والتابعين من غير أن ينكر ذلك منكر لم يكن إجماع أعظم من هذا، بل إن كان في الدنيا إجماع فهو هذا، لا سيما وأهل بيعة الرضوان جميعهم يزارعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده إلى أن أحلى عمر اليهود إلى تيماء) (مجموع الفتاوى 29/ 979) .
وقال ابن القيم: (وهذه - المزارعة - أمر صحيح مشهور قد عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، ثم خلفاؤه الراشدون من بعده حتى ماتوا، ثم أهلوهم من بعدهم ولم يبقَ في المدينة أهل بيت حتى عملوا به وعمل به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من بعده، ومثل هذا يستحيل أن يكون منسوخاً لاستمرار العمل به من النبي صلى الله عليه وسلم، إلى أن قبضه الله، وكذلك استمرار عمل خلفائه الراشدين به فنسخ هذا من أمحل المحال) شرح ابن القيم على سنن أبي داود 9/ 184.
والقول بجواز المزارعة ومشروعيتها هو قول أكثر أهل العلم واختاره المحققون من الفقهاء والمحدثين وبه قال الإمام مالك وأحمد وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة وعليه الفتوى عند الحنفية، وبه قال اسحق بن راهويه والأمام النووي وابن تيمية وابن القيم وابن قدامة والشوكاني وغيرهم كثير جداً.
وأما الأحاديث التي ورد فيها النهي عن المزارعة كحديث رافع بن خديج (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء المزارع) رواه البخاري.
وكحديث جابر (أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض) رواه ابن حبان وغيره وغيرها من الأحاديث التي ورد فيها النهي عن المزارعة فالجواب عنها من وجوه كثيرة أذكر أهمها:
1. إن النهي الوارد في حديث الرافع بن خديج وغيره إنما هو في المزارعة الفاسدة التي كانت معروفة عندهم وقتئذٍ والتي فيها اشتراط صاحب الأرض لنفسه نتاج بقعة معينة من الأرض أو التبن فهذه منهي عنها ويؤكد ذلك أن رافعاً قد روى تفسير ذلك النهي، فعن رافع بن خديج قال: كنا أكثر الأنصار حقلاً فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه فربما(1/136)
أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك أما الورق فلم ينهنا، رواه البخاري ومسلم.
وفي روايةٍ أخرى (إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات وإقبال الجداول وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا ولم يكن للناس كرىً إلا هذا فلذلك زجر عنه، فأما شيءٌ معلوم مضمون فلا بأس به) رواه مسلم.
والماذيانات: ما ينبت من الزرع على مسايل المياه.
وإقبال الجداول: أوائل السواقي.
وفي رواية أخرى عن رافع قال: (حدَّثني عمايَّ أنهما كانا يكريان الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بنا ينبت على الإربعاء وبشيءٍ يستثنيه صاحب الأرض قال فنهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك) رواه البخاري.
والأربعاء: جمع ربيع وهو النهر الصغير.
قال شيخ الإسلام بن تيمية: [فهذا رافع بن خديج -الذي عليه مدار الحديث - يذكر أنه لم يكن لهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كراء إلا بزرع مكانٍ معين من الحقل وهذا النوع حرام بلا ريب عند الفقهاء قاطبة] الفتاوى 29/ 107.
2. إن الصحابة رضي الله عنهم أنكروا على رافع روايته. قال زيد بن ثابت وقد حكي له حديث رافع (يغفر الله لرافع بن خديج أنا والله أعلم بالحديث منه إنما أتى رجلان قد اقتتلا فقال عليه الصلاة والسلام إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع فسمع رافع قوله لا تكروا المزارع) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وقال الزيعلي حديثٌ حسن. نصب الراية 4/ 181.
3. وكذلك ما رواه عمرو بن دينار قال: قلت لطاوس لو تركت المخابرة- أي المزرعة - فإنهم يزعمون أنالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها. فقال: إن أعملهم يعني ابن عباس أخبرني أن النبي صلى الله عليه وسلملم ينه عنها ولكن قال:(1/137)
أن يمنح أحدكم أخاه خيراً له من أن يأخذ عليها خراجاً معلوماً) رواه البخاري وغيره.
4. وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرم المزارعة ولكن امر ان يرفق بعضهم ببعض. رواه الترمذي وصححه.
5. قال ابن القيم: [إن من تأمل حديث رافع وجمع طرقه واعتبر بعضها ببعض وحمل مجملها على مفسرها ومطلقها على مقيدها علم أن الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك أمر بين الفساد وهو المزارعة الظالمة الجائرة فإنه قال: كنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه.. إلى أن قال: قال الليث بن سعد: الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر إذا نظر إليه ذو البصيرة بالحلال والحرام علم أنه لا يجوز.
وقال ابن المنذر: قد جاءت الأخبار عن رافع بعلل تدل على أن النهي كان لتلك العلل. (شرح بن القيم على سنن أبي داود 9/185 - 186) .
6. قال الإمام النووي: [.... ولأن المعنى المجوز للمساقاة موجود في المزارعة قياساً على القراض فإنه جائز بالإجماع وهو كالمزارعة في كل شيء ولأن المسلمين في جميع الأمصار والأعصار مستمرون على العمل بالمزارعة] شرح النووي على صحيح مسلم 10/210.
وبهذا العرض الموجز يظهر لنا أن المزارعة جائزة شرعاً والمسألة تحتاج إلى بحث أطول ولكن المقام لا يتسع.
جوائز التجار
يقول السائل: ما حكم الجوائز التي يعلن عنها التجار لترويج سلعهم مثل من يعلن أن من يشتري بمائة دينار يحصل على رقم يخوله الدخول في قرعة(1/138)
على مجموعة من الجوائز تكون الجائزة الأولى سيارة مثلاً أو جهاز تلفزيون ونحو ذلك؟
الجواب: إن ترويج التجارة اليوم أصبح فناً قائماً بذاته وصار التجار يتبعون أساليب كثيرة ومختلفة من أجل تسويق تجاراتهم وبعض هذه الأسايب غير مشروع كالمثال المذكور في السؤال فهذا نوع من القمار المسمى باليناصيب لما يلي:
1. لأن المشتري يقدم على الشراء وهو على خطر فربما يحصل على الجائزة وربما لا يحصل عليها.
2. إن التجار الذين يمارسون هذا النوع من الترويج لبضائعهم يقومون برفع أثمان السلع حتى يتمكنوا من تغطية قيمة الجوائز من مجموع المشترين فيربح ويربح واحد من المشترين أو اثنان مثلاً ويخسر الآخرون.
3. إن مثل هذه الأساليب تدفع كثيراً من الناس إلى الشراء دونما حاجة رغبة في الحصول على الجائزة الموعودة وهذا يؤدي إلى الإسراف وترسيخ النهج الرأسمالي في الاستهلاك.
4. إن مثل هذه الأساليب تؤدي إلى تنمية الضغينة والحقد والحسد في قلوب الخاسرين من المشترين وهم الأكثر لأن الرابحين القلة. راجع كتاب (الميسر والقمار) ص 168 - 169.
ولا شك أن هذا الأسلوب يدخل في الميسر المحرم (القمار) يقول الله سبحانه وتعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) .
والله الهادي إلى سواء السبيل(1/139)
المرأة والأسرة(1/141)
خاطب أعرج صاحب دين
تقول السائلة: إنها فتاة في سن الزواج وقد تقدم لخطبتها شاب متدين ولكنه أعرج فرفض أهلها زواجها منه وهي ترغب فيه فما الحكم الشرعي في ذلك؟
الجواب: إن الإسلام قد جعل للمرأة حق إختيار الزوج، فتبقل من يتقدم لخطبتها أو ترفض ولا ينبغي لأهلها أن يقوموا بتلك المهمة نيابةً عنها.
والإسلام قد جعل اعتباراً لإختيار كل من الزوجين. فمثلاً اختيار الرجل المناسب للزواج لا يكون على أساس المال والجاه أو المظهر فقط وإنما فلا بدّ من مقياس التقوى والعمل الصالح - أي صاحب دين - فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ عريض) رواه الترمذي وهو حديث حسن.
وفي حديث آخر عن أبي حاتم المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفساد قالوا: يا رسول الله وإن كان فيه؟ قال: إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه " ثلاث مرات ") رواه الترمذي وهو حديثٌ حسن كما قال الشيخ الألباني.
والمراد وإن كان فيه نقص في أمور أخرى كجمال الخلقة أو الحسب(1/143)
والنسب وغير ذلك وهذا الشاب الأعرج إن كان صاحب دينٍ كما تقول السائلة فلا ينبغي لأهلها أن يردوه وخاصةً أنها راغبة فيه.
وردهم لزواجه هو تعنت وتجبر ونظرتهم غير صحيحة للأمور فكم في المجتمع من أعرجٍ وأعور وصاحب عاهة فإذا كانوا هؤلاء وأمثالهم لا يزوجون فتلك طامةٌ تحل بالمجتمع.
ومن المعروف أن كثيراً من الناس ينظرون إلى الزواج على أساسٍ ماديٍ بحت فيشترطون فيمن يتقدم لخطبة ابنتهم شروطاً مادية معينة كأن يكون صاحب مال أو منصب أو من عائلةٍ عريقة ولا يلقون بالاً إلى الأمور الأساسية وهي الدين والخلق حتى ولو كان فقيراً فلعله يكون أن يكون خيراً من الغني، وقد ورد في الحديث عن سهلٍ بن سعد قال: مرَّ رجل برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حري إن خطب أن ينكح وإن شفع أن يشفع وإن قال أن يستمع. قال: ثم سكت. فمرَّ رجل من فقراء المسلمين فقال ما تقولون في هذا؟ قالوا: حري إن خطب أن لا ينكح وإن شفع أن لا يشفع وإن قال أن لا يسمع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا) رواه البخاري.
ولا يعني كلامنا أننا ندعو إلى إهمال الجوانب المادية ولكن الأساس هو الدين والخلق وبعد ذلك ينظر إلى الأمور الأخرى.
علاقة الخاطب بالمخطوبة
يقول السائل: ماذا يحل للخاطب من خطيبته وماذا يترتب على فسخ الخطبة إذا كان الفسخ من قبل الخاطب أو كان من قبل المخطوبة؟
الجواب: إن الخطبة مقدمة للزواج وهي مجرد وعد للزواج وليست زواجاً وقد نص الفقهاء على أن الخطبة ليست إلا وعداً بالزواج وهذا الوعد غير ملزم فيحق لكل واحدٍ منهما العدول عن الخطبة متى يشاء.(1/144)
كما أن الفقهاء قرروا أن عقد الزواج لا يتم بقبض أي شيءٍ على حساب المهر أو بقبول الهدية أو ما يسميه الناس اليوم (قراءة الفاتحة) فكل ذلك لا يعتبر عقداً للزواج ويجوز العدول عن ذلك.
وبناءً على ذلك فيعتبر كل من الخاطب والمخطوبة أجنبياً عن الآخر فلا يحل لهما الإختلاط دون وجود محرم وما يفعله كثير من الناس اليوم مخالف للشرع، بالسماح لهما بالخروج معاً إلى الأماكن العامة والجلوس على انفراد والذهاب والإياب معاً فكل ذلك حرام شرعاً لأن الخاطب ما زال يعتبر أجنبياً عن المخطوبة ولا يحل له من المخطوبة سوى ما أباحه الشارع الحكيم ألا وهو النظر.
فعن جابر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال (إذا خطب أحدكم المرأة فاستطاع أن ينظر منها ما يدعو إلى نكاحها فليفعل) رواه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه.
وعن المغيرة بن شعبة أنه خطب إمرأةً فقال النبي صلى الله عليه وسلم (انظر أليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما) رواه النسائي والترمذي وابن ماجة وغيرهم وهو حديثٌ صحيح. ومعنى يؤدم بينكما: أن تقع الألفة والملائمة بينكما.
وعن أبي هريرة قال: (كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج إمرأةً من الأنصار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنظرت إليها؟ فقال: لا، قال: فاذهب فانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً) رواه مسلم.
ففي هذه الأحاديث أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم الخاطب إلى النظر إلى المخطوبة لما يترتب على النظر من فوائد لمصلحة الإثنين.
فيجوز النظر إلى الوجه والكفين فقط على الراجح من أقوال أهل العلم والوجه والكفان يدلان على ما سواهما من أعضاء الجسم.
وإذا فسخ أحد الخاطبين الخطبة فلا شيء عليه في ذلك لأن الخطبة كما قلت هي مجرد وعد بالزواج وإن كان الأولى ألا يعدل أحدهما عن الخطبة إلا لسبب شرعي فإذا حصل العدول عن الخطبة فيجوز للخاطب أن يسترد ما قدمه للمخطوبة على أنه من المهر سواء أكان نقداً أم ذهباً أم أثاث بيت أو نحو ذلك وسواء كان العدول من الخاطب أو المخطوبة.(1/145)
وأما ما قدمه للمخطوبة على سبيل الهدية فهو محل خلافٍ بين الفقهاء والذي أميال إليه أن العدول إن كان من الخاطب فلا يسترد شيئاً من الهدايا التي قدمها للمخطوبة وإن كان العدول من المخطوبة فيسترد الخاطب تلك الهدايا إن أراد.
وبهذه المناسبة أود التذكير بأن على الآباء إن يتقوا الله في بناتهم وألا يقدموا على تزويجهنَّ إلا بعد ما يتأكدوا من صفات الخاطب الحسنة وأنه صاحب خلقٍ ودين ولو كان فقيراً لأن السعادة التي يرجونها لبناتهم قد لا تتحقق بالمال وحده فليست المناصب والمال والجاه والحسب والنسب هي مؤهلات الزوج الصالح فقط فكم من صاحب مالٍ أو جاهٍ أو منصب أشقى زوجته وأتعسها ولكن المعيار الحقيقي هو معيار الشرع يقول عليه الصلاة والسلام (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه فإن لم تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبير) رواه الترمذي والبيهقي وهو حديثٌ حسن.
وكما أذكر الشباب بأن السعادة الزوجية لا تحقق في جمال الزوجة فقط فكثيراً ما نسمع عن الصفات التي يرغب الشباب في توفرها في المرأة والتي يريدونها زوجة المستقبل بأن تكون غايةً في الجمال. نعم إن الجمال مطلوب ولكن ليس هو فقط يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك) رواه البخاري ومسلم..
وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تتزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن ولا تتزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن ولكن تزوجوهن على الدين فلأمة سوداء ذات دين أفضل) رواه البيهقي وابن ماجة.
الزواج المدني
يقول السائل: ما الحكم الشرعي في زواج مسلم من كتابية بعقد زواج مدني فقط؟ وما الحكم في الأولاد منه؟ وما الذي يجب عمله من قبل الرجل المسلم في هذه الحالة؟(1/146)
الجواب: الأولى في حق المسلم أن يتزوج مسلمة لأن في ذلك توافقاً والتقاءً على شيءٍ أساسي في الحياة ألا وهو الدين ولأن في ذلك استمراراً للعشرة وتوافقاً في كثيرٍ من العادات والتقاليد ونحو ذلك.
ومذهب جمهور فقهاء المسلمين على جواز نكاح الكتابية - النصرانية واليهودية - ويدل على ذلك قوله تعالى: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) .
وينبغي أن يتم الزواج على حسب المعمول به في قانون الأحوال الشخصية من إجراءات إدارية لتسجيل العقد كما نصت على ذلك المادة (17) من القانون المذكور.
فيجب على الخاطب مراجعة القاضي الشرعي أو نائبه لإجراء العقد. أي أن عقد الزواج في هذه البلاد ينبغي أن يكون عن طريق المحاكم الشرعية أو من يقوم مقامها في الخارج.
والسائل أجرى عقد الزواج المدني فيكون هذا العقد صحيحاً إذا كان مستكملاً لأركانه وشروطه من الإيجاب والقبول وحضور شاهدين حتى وإن كان الشاهدان غير مسلمين في هذه الحالة لأن الزوجة غير مسلمة وهذا العقد تترتب عليه آثاره شرعاً فيثبت نسب الأولاد لأبيهم ويجب المهر والنفقة على الزوج.
ويستطيع الزوج مراجعة المحاكم الشرعية لعمل حجة تصادق على الزواج.
الشروط في عقد الزواج
تقول السائلة: أنها اشترطت في عقد زواجها أن تعمل في وظيفتها وبعد مضي مدة على الزواج منعها زوجها من العمل فما الحكم في ذلك؟(1/147)
الجواب: إن مما اتفق عليه الفقهاء وجوب الوفاء بالشرط الذي يقتضيه العقد كالإنفاق على الزوجة مثلاً.
واختلفوا في الشروط التي لا تنافي مقتضى عقد الزواج ولا تخل بمقصوده الأصلي كالشرط المذكور في السؤال.
والذي عليه الحنابلة أنه يجب الوفاء بهذه الشروط وإذا لم يف الزوج بهذا الشرط - استمرار الزوجة في عملها - فلها أن تطلب فسخ عقد الزواج وقد أخذ قانون الأحوال الشخصية بقول الحنابلة ولكن مع تقييد ذلك بأن لا يلحق الشرط ضرراً بأحد الزوجين والذي أراه في هذه المسألة أن عمل المرأة خارج البيت إذا لم يكن متعارضاً مع مصلحة الزوج والأولاد وكان هذا العمل فيما أجازه الشرع فعلى الزوج أن يأذن لها بذلك وعليه الوفاء بالشرط.
وأما إذا كان عملها خارج البيت فيه مس بمصلحة الزوج والأولاد أو كان عملها في مجال لا يجيزه الشرع فعلى الزوج منعها من ذلك ولا شيء عليه إن لم يف بالشرط.
وقد استدل الحنابلة لقولهم بما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج) رواه البخاري ومسلم.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم (المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً) رواه أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح.
وبما رواه البيهقي وغيره (أن رجلاً تزوج إمرأةً وشرط لها دارها ثم أراد نقلها فخاصموه إلى عمر فقال: لها شرطها فقال الرجل: إذاً يطلقننا!.
فقال عمر (مقاطع الحقوق عند الشروط) وهذا أثر صحيح كما قال الشيخ الألباني.
العصمة بيد الزوجة
يقول السائل: هل تصح أن تكون العصمة بيد الزوجة في عقد الزواج فيكون لها الحق أن تطلق نفسها متى شاءت؟(1/148)
الجواب: إن الله سبحانه وتعالى جعل القوامة للرجل على المرأة فقال الله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) .
والطلاق فرع عن جعل القوامة للرجل وبالتالي فإن الطلاق في الأصل هو من حق الرجل وبيده وهذا هو الذي يتفق مع الفطرة فالرجل هو المسؤول الأول عن الأسرة وبيده مفاتيح الحل والعقد والرجل أقدر من المرأة في الغالب على ضبط عواطفه وانفعالاته وتحكيم عقله وخاصة عندما تقع المشكلات بين الزوجين ويثور الغضب بينهما.
كما وأن الرجل يدرك ما يترتب على إيقاع الطلاق من تبعات مختلفة كالأمور المالية وما يتعلق بالأولاد وتربهيتم والعناية بهم وغير ذلك.
لذلك كله فإن أكثر فقهاء الإسلام يمنعون جعل العصمة بيد الزوجة فيكون لها الحق في أن تطلق نفسها متى شاءت وهذا هو الراجح وهو الذي ينسجم مع الفطرة ومع مبدأ القوامة. وهذا الذي ذكرته لم يأخذ به قانون الأحوال الشخصية المعمول به في المحاكم الشرعية في وقتنا الحاضر بل اخذ بمذهب الحنابلة بجواز اشتراط الزوجة العصمة بيدها فقد جاء في المادة 19 من قانون الأحوال الشخصية (إذا اشترط في العقد شرط نافع لأحد الطرفين ولم يكن منافياً لمقاصد الزواج ولم يلتزم فيه بما هو محظور شرعاً وسجل في وثيقة العقد وجبت مراعاته وفقاً لما يلي:
1. إذا اشترطت الزوجة على زوجها شرطاً تتحق لها به مصلحة غير محظورة شرعاً ولا يمس حق الغير كأن تشترط عليه أن لا يخرجها من بلدها أو أن لا يتزوج عليها أو أن يجعل أمرها بيدها تطلق نفسها إذا شاءت أو أن يسكنها في بلد معين كان الشرط صحيحاً ملزماً فإن لم يف به الزوج فسخ العقد بطلب الزوجة ولها مطالبته بسائر حقوقها الزوجية) . هذا ما قرره قانون الأحوال الشخصية.
ولكني أميل إلى رأي جمهور الفقهاء القائلين بأنه لا يجوز أن تكون العصمة بيد الزوجة (وهم الحنفية والشافعية والمالكية والظاهرية) لأن هذا(1/149)
الشرط مناف لمفهوم الزواج ومناقض لمفهوم القوامة ومخالف للسنة النبوية لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط) رواه الطبراني والبزار وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني.
ولا يعني كلامي هذا أنه لا يجوز للمرأة أن تطلب الطلاق وأنها محرومة من هذا الحق فقد قرر الفقهاء أنه يجوز للمرأة أن تطلب الطلاق إذا كانت حياتها منغصة مع زوجها ويسيء لها ولا يعاشرها بالمعروف فيجوز لها حينئذ أن تطلب من زوجها أن يطلقها فإن رفض وامتنع فلها أن ترفع الأمر للقاضي الذي يجوز له أن يطلقها إذا ثبت لديه صحة دعواها.
لا يجوز منع الزوجة من زيارة والديها
تقول السائلة: هل يحق للزوج أن يمنع زوجته من الذهاب إلى بيت أهلها؟ وإذا حلف عليها بالطلاق على ألا تذهب إلى بيت أهلها ثم ذهبت فما الحكم في ذلك؟
الجواب: يقول الله عز وجل: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) .
إن الرجل له القوامة على المرأة بنص هذه الآية الكريمة ولا شك أن طاعة الزوجة لزوجها فرض ويجب على المرأة أن تسمع وتطيع زوجها إذا أمرها بالمعروف ولا ينبغي للزوج أن يسيء استعمال هذه القوامة فيجعلها سيفاً مصلتاً على الزوجة وينبغي للزوجين التفاهم في هذه القضية وغيرها لأن الحياة الزوجية تقوم على المودة والتفاهم.
ويجوز للزوج أن يمنعها من الذهاب إلى بيت أهلها ويجب عليها طاعته وتحرم مخالفته وخاصةً إذا رأى الزوج أن في منعها من الذهاب إلى بيت أهلها مصلحةً راجحةً ومحافظةً على الحياة الزوجية كأن يكون ذهابها مثلاً سبباً في تعكير صفو الحياة الزوجية وسبباً لإثارة المشاكل فإذا منعها فعليها أن تمتنع وإن ذهبت بدون إذنه فهي آثمة لأن طاعته واجبة.(1/150)
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد وقال الترمذي حسنٌ صحيح وصححه ابن حبان.
وكما قلت فعلى الزوج أن يحسن استعمال هذا الحق فإذا كانت العلاقة مع زوجته طيبة ولا يترتب على ذهابها أي مفسدة فله أن يأذن لها في الذهاب ويعود تقدير هذا الأمر؟ إلى الزوج لأنه أدرى بأحواله وأحوال أهل زوجته.
وأما الحلف بالطلاق حتى لا تخرج إلى بيت إهلها فينبغي أن يعلم أولاً أن الطلاق لم يشرع لهذا الأمر وإنما شرع الطلاق ليكون آخر دواء للمشاكل الزوجية إذا تعذرت الأدوية الأخرى.
فإذا حلف الزوج بالطلاق على زوجته ألا تذهب إلى بيت أهلها وكان يقصد منعها من الذهاب فالواجب على هذه الزوجة أن تبر بيمين زوجها.
وأما إذا حنثت بيمينه فذهبت إلى بيت اهلها فقد وقع الخلاف بين العلماء في هذه المسألة: فمنهم من يرى أن الطلاق يقع.
ومنهم من يرى أن هذا يعتبر يميناً وليس طلاقاً وعلى الزوج كفارة اليمين.
وهذا هو الذي أختاره وهو المفتى به الآن عند كثيرٍ من العلماء وأخذت بذلك قوانين الأحوال الشخصية في كثيرٍ من البلاد الإسلامية. وهذا القول فيه رحمة بالناس وخاصةً بالزوجات لأن كثيراً من الأزواج يحلفون بالطلاق على أتفه الأمور ويتكرر ذلك منهم كثيراً، وكثير منهم لا يقصدون تطليق زوجاتهم وإنما قصدهم منعهن من فعل شيءٍ أو نحو ذلك. فتلزم الزوج كفارة اليمين وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة فإن لم يجد فيصوم ثلاثة أيام متتابعة أو متفرقة.(1/151)
طلاق الغضبان
يقول السائل: وقع خلافٌ بيني وبين زوجتي وكنت في حالة غضبٍ شديد فطلقتها فما حكم ذلك الطلاق؟
الجواب: أكثر الناس يغضبون والغضب درجات فبعض الناس يغضب غضباً شديداً فيغلب عليه الإنفعال ويترتب على ذلك اختلال الفهم واختلال الإرادة فلا يدري ما يصدر منه وهذا ما يعرف عند العلماء بالإغلاق وهو المذكور في الحديث من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا طلاق ولا عتاق في إغلاق) رواه أحمد وأبو داود والحاكم وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني.
فإذا كانت حالة السائل كما وصفت فإن الطلاق لا يقع ولا يعتد به لفقدان الإرادة والقصد.
وبعض الناس إذا غضب فإنه ينفعل إنفعالاً كثيراً ويبقى مسيطراً على نفسه ومالكاً لها فهذا إذا طلق وهو على تلك الحالة فطلاقه يقع.
الحداد على الزوج
تقول السائلة: هل يجوز للمرأة أن تحد على زوجها المتوفى سنة أو سنتين، وما حكم اللباس الأسود للمرأة والمعتدة؟
الجواب: يجب أن نعلم ما يتعلق بالعدة فقد قال الله سبحانه وتعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) .
ومن المعروف أن المرأة إذا كانت في عدة الوفاة تحد على زوجها الميت وفترة الحداد هي مدة العدة فقط (أي أربعة اشهر وعشرة أيام) ولا يجوز للمرأة أن تزيد على ذلك وهذه المدة المذكورة خاصة بالحداد على الزوج فقط إذا كانت المرأة غير حامل وأماى إذا كانت حاملاً فعدتها أن تضع حملها. وأما الحداد على أبيها أو أخيها أو اي من أقربائها فلا يجوز أن يزيد على ثلاثة أيام فقط.(1/152)
ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لأمرأة مسلمة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاثة أيام إلا على زوجها أربعة أشهر وعشراً) رواه البخاري ومسلم.
ومن المعلوم أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم (لا يحل) أي يحرم.
ومن خلال ما تقدم نعلم أنه لا يجوز للمرأة تحد على زوجها المتوفى أكثر من أربعة شهور وعشرة أيام بحال من الأحوال.
وأما لبس السواد خلال فترة الحداد فلا أصل له في الشرع وهو غير مشروع ويجوز لها أن تلبس ما شاءت من الملابس إذا كانت غير مزينة.
وينبغي أن يعلم أن الحداد يكون بالأمور التالية:
1. أن تلتزم المرأة بيتها الذي مات زوجها وهي تسكنه ولا تخرج منه إلا لحاجة مشروعة.
2. أن تتجنب الملابس الجميلة المزينة ويجوز لها أن تلبس ما عداها ولا يعني أن تكون هذه الملابس سوداء كما جرت عادة النساء في بلادنا.
3. أن تتجنب جميع أنواع العطور والمكياج.
4. أن تتجنب التزين بالذهب أو الفضة.
5. لا يجوز لأحد أن يتقدم لخطبتها صراحة خلال مدة العدة ويجوز التعريض بذلك أي التلميح.
ويدل على ذلك قوله تعالى: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ... ) .
أخذ الزوج من مال زوجته
يقول السائل: هل يحق للزوج أن يأخذ من ذهب زوجته (المهر) إذا كان في حالة ضيق وشدة مع العلم أن الزوجة غير راضية عن ذلك؟(1/153)
الجواب: إن المهر حق خالص للمرأة فلا يجوز أخذ شيء منه إلا برضاها ولا بد ان يكون الرضا واضحاً وصريحاً وبدون إكراه أو حياء ونحو ذلك فلا يحل أخذ شيء من مهر الزوجة سواء أكان ذلك نقداً أو ذهباً إلا إذا رضيت رضاً تاماً والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس) رواه أحمد والبيهقي والدارقطني وغيرهم وهو حديث صحيح.
وبما أن المهر حق خالص للزوجة فلها أن تتصرف به كيفما شاءت فيجوز لها ان تبريء زوجها من مهرها كاملاً أو من بعضه ولها أن تهب له مهرها أو شيئاً منه وكل ذلك لا بد أن يكون برضاها واختيارها.
والزوجة الصالحة هي التي تشعر بشعور زوجها وتقف معه في الشدائد والملمات فإذا أعطته من مهرها على سبيل الهبة أو جعلت ذلك قرضاً فلها الأجر والثواب من الله سبحانه وتعالى ولها التقدير والاحترام من زوجها.
إذن الزوج لزوجته للصلاة في المسجد
يقول السائل: إن زوجته تطلب منه الذهاب إلى المسجد الأقصى لصلاة الجمعة ولكنه يمنعها فهل يجوز له ذلك؟
الجواب: إن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد ومع ذلك يجوز لها أن تخرج إلى الصلاة في المساجد بإذن زوجها ولا ينبغي لزوج منع زوجته من الذهاب إلى المسجد إلا إذا خشي الفتنة عليها أو إذا خرجت متعطرة فيجوز له حينئذ منعها.
يقول عليه الصلاة والسلام: (لا تمنعوا النساء أن يخرجن إلى المساجد وبيوتهن خير لهن) رواه احمد وأبو داود وإسناده صحيح.
وعلى المرأة إذا خرجت من بيتها قاصدة حضور الجماعة أو الجمعة أن تخرج وهي ملتزمة بأحكام الشرع من حيث اللباس والمشي وترك الزينة والطيب فقد ورد في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تمنعوا(1/154)
إماء الله مساجد الله وليخرجن تفلات) رواه أحمد وأبو داود وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني ومعنى تفلات: غير متطيبات.
وفي حديث آخر قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا شهدت إحداكن المساجد فلا تمس الطيب) رواه مسلم.
وينبغي أن يعلم أن النساء اليوم بحاجة ماسة للتردد على المساجد وحضور الدروس والخطب والمواعظ ليفقهن في دين الله فعليهن مسؤولية عظيمة في بناء المجتمع والنساء شقائق الرجال فلا ينبغي أن يحرمن من هذا الخير العظيم ويجب أن ترتب لهن دروس خاصة في المساجد ويفضل أن تكون في غير يوم الجمعة، لتحصن المرأة المسلمة ضد الغزو الفكري الشرس الذي يوجه إلى النساء المسلمات عبر وسائل الإعلام المختلفة وغيرها وأن تشرح لهن أحكام الإسلام عامة والأحكام المتعلقة بالنساء وتربية الولاد خاصة.
الفرق الموسيقية في حفلات الزواج
يقول السائل: ما قولكم بإقامة حفلات الزواج بمصاحبة الفرق الموسيقية واستخدام مكبرات الصوت فيها؟
الجواب: لا شك أن من المنكرات التي انتشرت في مجتمعاتنا ما يفعله كثير من الناس في حفلات الزواج حيث ترتكب المحرمات كالاختلاط الماجن بين الرجال والنساء ورقص النساء الكاسيات العاريات بحضور الرجال واستخدام الموسيقى عبر مكبرات الصوت التي تزعج الناس وهم في بيوتهم وتناول المسكرات بمختلف أنواعها.
كل هذه المحرمات لها من المفاسد والأخطار التي تؤدي إلى انهيار القيم الأخلاقية وتعد انتهاكاً لأحكام الشريعة الإسلامية.
فأما الاختلاط الماجن فهو من أعظم المفاسد التي ابتلي بها الناس في(1/155)
هذا الزمان ولعل أبشع صور الاختلاط ما يقع في حفلات الزواج فالنساء كاسيات عاريات متبرجات يتسابقن في إظهار محاسنهن وزينتهن أمام الرجال فالملابس ألوان وأشكال وتسريحات الشعر والأصباغ بمختلف ألوانها العجيبة الغريبة وكل ذلك مسخ لطبيعة المرأة ولإنسانيتها وقد فاقت نساء اليوم نساء الجاهلية الأولى وكل ذلك يتم باسم التقدم والحضارة وحرية المرأة.
وإذا أضيف إلى كل هذه المفاسد الرقص المختلط رجالاًونساء على أنغام الموسيقى الصاخبة والتي أبى أصحاب الحفل إلا أن يجبروا الناس الآخرين على الاستماع لها عبر مكبرات الصوت، صار الأمر منكراً عظيماً وفساداً كبيراً ولا شك أن هذا من المحرمات، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا ضرر ولا ضرار) رواه مالك والحاكم والبيهقي وهو حديث صحيح.
فلا يجوز لك أخي المسلم أن تلحق الضرر بغيرك بواسطة مكبرات الصوت أو غيرها، لأن الناس فيهم المريض والطالب والعامل وكل هؤلاء يحتاج إلى الهدوء والراحة فلا يحق لك أن تزعجهم إلى جانب أن هذا العمل محرم شرعاً.
وليعلم أصحاب الفنادق وصالات الأفراح أن كسبهم حرام من هذه الحفلات وأن الإثم يلحقهم لأنهم شركاء مع أصحاب الحفل في الإثم والعدوان يقول الله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) .
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف) رواه البخاري في صحيح تعليقاً ووصله غيره كالبيهقي والطبراني وهو حديث صحيح.
والمراد بالحر: الزنى، والمعازف: آلات اللهو والطرب.
فانظر أخي المسلم كيف قرن الرسول صلى الله عليه وسلم بين هذه المحرمات الزنا والحرير والخمور والمعازف وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن طائفة من أمته يستحلون ذلك وهذا ما يقع الآن.(1/156)
مسؤولية الزوج عن زوجته وأولاده
يقول السائل: إن زوجته لا تلبس اللباس الشرعي وأن أحد أولاده لا يصلي فما هي مسؤوليته عن ذلك؟
الجواب: إن المسلم عليه مسؤولية كبيرة تجاه زوجته وأولاده والحقيقية أن المسؤولية تبدأ قبل الزواج فعلى المسلم ان يختار زوجة ذات دين وخلق كريم لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لأربع: وجمالها ولحسبها وجمالها ودينها فاظفر بذات الدين تربت يداك) رواه البخاري ومسلم.
ولكننا وللأسف الشديد نجد كثيراً من الشباب إذا أراد الزواج لا يعطي للجانب الديني في المخطوبة أي اهتمام إلا من رحم ربي وإنما جل الاهتمام يوجه للجمال والنسب والحسب والوظيفة ونحو ذلك.
ولذلك نحن نقول يجب على المسلم أن يختار صاحبة الدين أولاً ولا يمنع ذلك من توفر الصفات الأخرى فيها فإذا اختار زوجته ذات دين فإن تربيتها لأولادهما ستكون بإذن الله بناء على ذلك الأساس.
ومسؤولية الزوج تجاه زوجته وابنائه مسؤولية عظيمة يقول الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) .
فهذه الاية الكريمة تأمر بوقاية النفس والأهل من النار وتعني إلزامهم بأحكام الشرع في حياتهم كلها قال ابن عباس: (اعملوا بطاعة الله واتقوا معاصي الله ومروا أولادكم بامتثال الأوامر واجتناب النواهي فذلك وقاية لهم من النار) .
وبناء على ذلك فيجب على الزوج أن يلزم زوجته باللباس الشرعي وإذا لم يفعل يكون آثماً وإذا لم تستجب الزوجة له فهي عاصية آثمة وتكون ناشزاً، لأن اللباس الشرعي فرض كما أن الصلاة فرض وكما أن الصوم فرض فقد قال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ... ) .
وكذلك بالنسبة لمسؤولية الأب تجاه أولاده فهي مسؤولية تبدأ من(1/157)
الصغر، فيجب على الأب أن ينشىء أولاده ويربيهم على الإسلام وأن يعودهم على الالتزام بأحكام الشرع وخاصة الصلاة والصوم والأخلاق الحميدة ونحوها.
يقول الله تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) .
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر) رواه ابو داود والترمذي وهو حديث حسن.
لذلك على الأب أن يعلم أبناءه ذكوراً وإناثاً أحكام الصلاة ويعودهم عليها من الصغر ولا بأس من اصطحاب الأولاد إلى المساجد إذا بلغوا السابعة ليعتادوا على صلاة الجماعة وكذلك بالنسبة للصيام، فيتعودون عليه منذ الصغر ليكون ذلك تمريناً لهم على العبادة حتى إذا بلغوا استمروا على العبادة والطاعة.
وأما أن يترك الأب أولاده فلا يأمرهم ولا ينهاهم حتى إذا كبروا وبلغوا وشبوا على الطوق حاول إصلاحهم وإرشادهم فأنى يستجيبون له وأنى يسمعون كلامه.
فعلى الآباء أن يدركوا عظم مسؤوليتهم تجاه أولادهم فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها) متفق عليه.
وإن الآباء إذا أخلوا بهذه الأمانة والمسؤولية كانوا كمن يلقي أولاده في النار لأنهم لم يعملوا على وقايتهم كما أمرهم الله تعالى.
شروط جلباب المرأة المسلمة
يقول السائل: ما هي مواصفات جلباب المرأة المسلمة وهل يشترط فيه لونٌ معين؟
وما حكم من يلبسن لباساً من قطعتين على شكل (تنورة وبلوزة) ؟(1/158)
الجواب: يقول الله سبحانه وتعالى: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) .
وقال أيضاً: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) .
إن ستر المرأة لجميع بدنها إلا ما استثني واجب أوجبه الله سبحانه وتعالى على المرأة المسلمة وبينت نصوص الكتاب والسنة شروط هذا اللباس وهي:
أولاً: أن يكون ساتراً لجميع بدن المرأة ما عدا الوجه والكفين على قول جمهور أهل العلم لما جاء في حديث عائشة عن أسماء بنت أبي بكرٍ رضي الله عنها (دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثيابٌ رقاق فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها: يا أسماء إن المرأة إن إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا، وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه) رواه أبو داود والبيهقي وهو حديث حسن كما قال الشيخ ناصر الدين الألباني. فينبغبي للمرأة المسلمة أن تغطي جميع بدنها ما عدا وجهها وكفيها ويدخل في ذلك القدمان ويلاحظ أن بعض النساء يتساهلن في ستر أقدامهن وهذا مخالف لشرع الله.
ثانياً: أن يكون فضفاضاً واسعاً غير ضيق لأن الضيق يصف جسم المرأة وهذا يتنافى مع المقصود من الحجاب ولا يتحقق ذلك إلا باللباس الفضفاض الواسع.
ثالثاً: أن يكون صفيقاً غير شفاف أي ثخيناً سميكاً فلا يشف عما تحته وقد ورد في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: (سيكون في آخر أمتي نساءٌ كاسياتٌ عاريات على رؤوسهن كأسمنة البخت العنوهن فإنهن ملعونات) رواه الطبراني بسندٍ صحيح كما قال الشيخ الألباني.
رابعاً: أن لايكون زينةٍ في نفسه فلا يجوز للمرأة أن تلبس ما يبهر العيون من الملابس التي عليها نقوشٌ وزخارف مذهبة ونحو ذلك لأن هذه الملابس زينة في نفسها وقد نهيت المرأة عن إظهار زينتها قال تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ..)(1/159)
ونهى الله سبحانه وتعالى عن التبرج في قوله تعالى: (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) .
خامساً: أن لا يكون معطراً مطيباً فلا يحل للمرأة أن تستعمل الطيب والعطور إذا خرجت من بيتها لقوله صلى الله عليه وسلم (أيما إمرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية) رواه النسائي وأبو داود والترمذي وقال حسنٌ صحيح.
سادساً: أن لا يشبه لباس الرجل، إن المرأة بطبيعتها وتكوينها الجسدي تختلف عن الرجل فلها لباسها وللرجل لباسه فلذلك لا يحل للمرأة أن تتشبه بالرجل وكذلك لا يحل للرجل أن يتشبه بالمرأة فقد جاء في الحديث (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل) رواه ابن داود وابن ماجة والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.
وجاء في الحديث عن ابن عباس قال (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال) رواه البخاري.
سابعاً: أن لا يشبه لباس غير المسلمات لأن الإسلام نهى عن التشبه بغيرهم في أمور كثيرة وللمسلمين شخصيتهم وهيئتهم الخاصة بهم فعليهم أن يخالفوا غيرهم في ذلك (فعن عبد الله بن عمرو قال رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ ثوبين معصفرين فقال إن هذه ثياب الكفار فلا تلبسها) رواه مسلم.
ثامناً: أن لا يكون لباس شهرة وهو كل ثوب قصد به الإشتهار يبن الناس كأن يكون نفيساً جداً ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (من لبس ثوب شهرةٍ في الدنيا ألسبه الله ثوب مذلةٍ يوم القيامة ثم ألهب فيه ناراً) رواه أبو داود وابن ماجة وهو حديثٌ حسن.
هذه شورط لباس المرأة المسلمة وينبغي للمرأة المسلمة أن تحقق هذه الشروط في لباسها حتى يكون شرعياً وقبل أن أختم حديثي أود التنبيه على بعض الأمور، منها:
- أن ما تلبسه النساء على شكل تنورة وبلوزة ليس شرعياً لأن مقتضى ذلك اللباس أن يصف المرأة ويكون ضيقاً في الغالب فلا يجوز لبسه.(1/160)
- ومنها وضع بعض النساء على رؤوسهن فوق غطاء الرأس ما يشبه العقال الذي يلبسه الرجال ويكون مزيناً ومزخرفاً فهذا مما لا يجوز لبسه لأن فيه تشبهاً واضحاً بالرجال.
- ومنها أنه لا يجوز للمرأة المسلمة أن تستعمل أدوات الزينة ومساحيق التجميل والعطور عند خروجها من بيتها.
- ومنها أن بعض النساء تلبس معطفاً وتحته بنطال وتزعم أن ذلك يغني عن الجلباب فهذا ليس بصحيح ولا يجوز لها الخروج على تلك الهيئة.
- ومنها أنه لا يشترط في لباس المرأة المسلمة لونٌ معين فيجوز أن يكون بأي لونٍ إلا أن عليها تجنب الألون اللافتة للأنظار.
وأخيراً فإنه يجب أن التنبيه على أن المرأة المسلمة ملزمة بلباسها الشرعي كلما خرجت من بيتها وليس فقط عندما تذهب إلى الصلاة كما تفعل بعض النساء عندما يذهبن إلى الصلاة في المساجد فيحملن ملابس الصلاة بأيديهن فإذا وصلنَّ إلى المسجد ارتديناها فإذا قضيت الصلاة خلعنها فهذا حرام شرعاً واستهزاء بدين الله هو كبيرة من الكبائر لأن الله سبحانه وتعالى فرض على المرأة اللباس الشرعي دائماً وباستمرار.
ملحوظة: أنصح كل امرأةٍ أن تقرأ كتاب حجاب المرأة المسلمة للشيخ ناصر الدين الألباني أو جلباب المرأة المسلمة كما في طبعته الجديدة. ففيه خيرٌ عظيم وقد استفدت منه كثيراً.
حكم الإجهاض
تقول السائلة: ما حكم الإجهاض سواء في بداية الحمل أو نهايته وهل فيه كفارة؟
الجواب: لقد اتفق العلماء على تحريم الإجهاض بعد الشهر الرابع(1/161)
من الحمل أي بعد مضي مائة وعشرين ليلة حيث تنفخ الروح في الجنين لحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفةً ثم يكون علقةً مثل ذلك ثم يكون مضغةً مثل ذلك ثم يرسل إليه ملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقيٌ أو سعيد) رواه البخاري ومسلم.
وأما الإجهاض قبل الأربعة أشهر من مدة الحمل فالصحيح من أقوال العلماء أنه حرامٌ فلا يجوز لامرأة مسلمة أن تجهض مولودها بمجرد ثبوت الحمل إلا في حالةٍ واحدة فقط وهي إذا أخبر الأطباء الثقات أن الحمل يشكل خطراً مؤكداً على حياة الأم فيجوز حينئذٍ الإجهاض حفاظاً على حياة الأم.
وأما في غير هذه الحالة فلا يجوز الإجهاض، وإذا حدث الإجهاض فإنه يعتبر جريمة موجبة للغرة - وهي دية الجنين - لأنه قتل نفس محرم وتلزم كفارة القتل الخطأ عند بعض أهل العلم.
ولا يجوز الإجهاض حتى لو أثبت الأطباء أن الجنين مشوه لأن ذلك الجنين نفسٌ محرمة ونحن لم نؤمر بقتل المنفس المشوهة أو المعاقة.
وبهذه المناسبة أذكر الأطباء بأن يتقوا الله في النساء وألا يسهلوا لهن عمليات الإجهاض لأن في ذلك فتحاً لباب فسادٍ عريضٍ يعود على المجتمع بالمصائب والويلات.
تنظيم النسل
يقول السائل: إنه وزوجته ينظمان النسل وأنهما رزقا ثلاثة أولاد ويريدان الإكتفاء بذلك وعدم الإنجاب مجدداً، ويسأل عن حكم الشرع في ذلك؟
الجواب: إن المقصود من تنظيم النسل وكما هو مذكورٌ في رسالة(1/162)
السائل هو جعل فترة زمنية بين مولودٍ وآخر ولكن السائل يذكر أنه لا يريد أن ينجب هو وزوجته أكثر من أولادهم الثلاثة أي أنهما يريدان تحديد النسل وقطعه بعد ذلك حيث قال: (النية هي الإكتفاء بما أنعم الله علينا نظراً لظروف الحياة الصعبة وتعقيداتها) .
ولا بد من التذكير أن من مقاصد الشارع الحكيم الحض على الزواج وإكثار النسل كما ثبت في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة) رواه أحمد والبهيقي وابن حبان وصححه.
وتحديد النسل أي قطعه نهائياً يتعارض مع ما ذكر، فلذلك يرى أهل العلم أن قطع النسل حرام شرعاً إلا لضرورة فلا يجوز للمسلم أن يختصي أو أن يستعمل علاجاً لقطع النسل نهائياً.
وأما جعل مدة بين حملٍ وآخر فلا بأس به إذا كان لذلك مسوغات مقبولة شرعاً كالخشية على حياة الأم لأن الحمل المتكرر المتلاحق قد يلحق الأذى والضرر بصحة الأم وهذا فيه حرجٌ ومشقة والشريعة جاءت برفع الحرج والمشقة فلا بأس إذا كان هنالك مدة سنتين أو ثلاث بين كل حمل وآخر.
ومن المسوغات أيضاً الخشية على الأولاد من الناحية الصحية والتربوية حتى يتمكن الزوجان من العناية بأولادهم صحياً وتربوياً فلا بأس بجعل فترةٍ بين كل حملٍ وآخر، فقد جاء في الحديث عن أسامة بن زيد رضي الله عنه: (أن رجلاً جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني أعزل عن امرأتي. فقال صلى الله عليه وسلم ولم تفعل ذلك؟ قال: شفقاً على ولدها أو على أولادها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كان ذلك ضاراً لضر فارس والروم) رواه مسلم.
وبناء على ما تقدم نرى أن السائل يريد قطع النسل نهائياً والإكتفاء بأولاده الثلاثة فهذا عملٌ غير جائز شرعاً لأنه قطع للنسل بدون ضرورة.
استئذان الزوجة عند الخروج من البيت
تقول السائلة: هل المرأة ملزمة كلما خرجت من بيتها أن تستأذن زوجها في الخروج؟(1/163)
الجواب: الأصل أن المرأة يجب عليها القرار في البيت لقوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) .
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: [قوله تعالى - وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ - أي الزمن بيوتكن فلا تخرجن لغير حاجة] تفسيرابن كثير3/482.
فالأصل أن تلازم المرأة بيتها وليس معنى هذا أن تبقى حبيسة البيت فلا تخرج أبداً، فقد أجاز لها الشرع الخروج لحوائجها؟
فالمرأة تخرج من بيتها للمسجد وإلى زيارة والديها ومحارمها وتخرج لشراء حوائجها الضرورية وتخرج لعملها ونحو ذلك.
ويشترط في خروج المرأة إذن زوجها ويكون الإذن قبل الخروج لا بعده يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها) رواه البخاري، فالإسئذان طلب الإذن ويكون ذلك قبل القيام بالعمل.
والمرأة ملزمةٌ كلما خرجت أن تستأذن زوجها في الخروج إلا ما يتعارف عليه من رضى الزوج بذلك الخروج كما لو كانت الزوجة موظفة وقد رضي الزوج بذلك فهي تخرج يومياً إلى وظيفتها ولا تحتاج كلما خرجت إلى الاستئذان لأن الإذن قد حصل لها ضمناً.
ويجوز للزوج أن يمنع زوجته من الخروج وإذا منعها فعليها طاعته لأن طاعة الزوج فرض ولا ينبغي أن يكون الزوج مستبداً في استخدام هذا الحق فيفرض الحبس على زوجته في بيتها.
وينبغي للمرأة عند خروجها من بيتها أن تلتزم بما يلي:
1. أن تخرج وهي متسترة وملتزمة باللباس الشرعي التزماً تاماً.
2. أن لا تتطيب عند خروجها من بيتها ولا تضع أي نوع من الزينة على وجهها.
3. أن تخرج للأمور المهمة وليس لأتفه الأسباب.(1/164)
4. أن تبتعد عن مواطن الفساد وأماكن الإزدحام.
5. يفضل أن يرافقها شخص عند خروجها رجلاً كان أو امرأة وخاصةً إذا كانت المرأة شابة.
يحرم على الزوج أن يمنع زوجته من الصلاة وارتداء الجلباب
تقول السائلة في رسالة طويلة تتضمن عدة أسئلة منها أنها امرأة متزوجة وأن زوجها يمنعها من القيام بفروض دينها من أداء الصلاة ويمنعها من ارتداء اللباس الشرعي وأنها حاولت اقناعه بحقها بالقيام بما فرض الله عليها بطرقٍ كثيرة ولكن بدون فائدة وأنها تقطع صلاتها عند دخول زوجها البيت لئلا تقع في مشكلةٍ معه فما الحكم في ذلك؟
الجواب: إن على هذا الزوج أن يتقي الله في نفسه وفي زوجته وأن يحمد الله أن زوجته ملتزمةً بما أوجب الله كما يظهر في رسالتها فلا يجوز له بحالٍ من الأحوال أن يمنعها من أداء حقوق الله سبحانه وتعالى وعليه أن يتوب ويرجع إلى الله وأن يصحو من غفلته وليعلم أن كون زوجته ملتزمة بشرع الله وترتدي اللباس الشرعي أن هذا لا ينقص من مركزه الاجتماعي كما يزعم بل إن ذلك مدعاةٌ للفخر والرفعة.
وعلى هذه الزوجة أن تصبر وأن تحتسب ولتعلم أنها لا يجوز لها أن تطيعه في خلع اللباس الشرعي وإذا ألزمها ذلك فعليها أن تلزم بيتها ولا تخرج منه إلا وهي مرتديةٌ لباسها الشرعي، وعلى هذه الزوجة أن تسعى لإقناع زوجها بأنه لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق وإن تكلم بعض الناس الذين لهم صلة به لينصحوه ويبينوا له حكم الشرع في هذه القضايا.
وليعلم هذا الزوج أنه على خطرٍ عظيمٍ لأنه محارب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم لأنه يحول بين زوجته وأدائها لما أوجب الله سبحانه وتعالى.
وأما بالنسبة لقطع صلاتها عند دخوله للبيت فهذا أمرٌ لا يجوز وعليها أن تتم الصلاة فلا يصح أن تقطع الصلاة عند دخوله البيت وعجباً لأمر هذا(1/165)
الزوج فمع كونه تاركاً للصلاة يريد أن يمنع زوجته من الصلاة وتخاف هي من سطوته فتقطع صلاتها إن دخل البيت وهي في الصلاة فعليه أن يتقي الله وأن يتذكر وقوفه بيدي الله في اليوم الآخر وعليه أن يعد الجواب للسؤال في ذلك الموقف العظيم يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.
وأخيراً أؤكد على هذه الزوجة أن تستمر على طاعة ربها وأن تصبر وأن تكثر من الدعاء إلى الله تعالى أن يهدي زوجها إلى طريق الحق والصواب وأن يخرجها من أزمتها ويفرج كربها (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًاوَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) .
هجر الزوج بسبب المعصية
تقول السائلة: إنها امرأة ملتزمة بدينها وأن زوجها لا يحافظ على الصلاة أحياناً ويشاهد أفلاماً جنسية فتهجره وتنام في غرفة أطفالها فما حكم ذلك؟
الجواب: إن من تمام التزام هذه المرأة بدينها ألا تهجر زوجها وعليها أن تذكره بالله عزّ وجل وتبين له أنه عليه أن يحافظ على صلاته ولا يحل له ترك الصلاة مطلقاً فقد ورد في الحديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم (من حافظ عليها - الصلاة - كانت له نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً ولا برهاناً ولا نجاةً وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف) رواه أحمد ورجاله ثقات.
وعلى هذا الزوج أن يتقي الله سبحانه وتعالى وليعلم أن مشاهدة الأفلام االجنسية الساقطة أمرٌ محرمٌ شرعاً ولا ينبغي لمثله أن يفعل ذلك وعلى زوجته أن تملأ وقته وأن تلبي رغبته فلعل انصرافه إلى مشاهدة الأفلام الجنسية ناتج عن عدم قيامها بحقه.
ولا يجوز أن تهجر زوجها بل ذلك من المعاصي وقد ورد في(1/166)
الحديث قوله صلى الله عليه وسلم (إذا باتت المرأة هاجرةً فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح) رواه البخاري ومسلم، فعليها أن تصبر وأن تحتسب ولا تهجره.
حكم قص الشعر للنساء
تقول السائلة: ما حكم قص الشعر للنساء وما دليل ذلك؟
الجواب: الأصل أنه يجوز للمرأة أن تقص شعر رأسها ما لم يكن فيه تشبه بالرجال أو تشبه بالكافرات أو تقليداً وعلى هذا لا يجوز للمرأة أن تقص شعر رأسها وتجعله كشعر الرجل لأن ذلك من التشبه المنهي عنه فقد ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله عليه الصلاة والسلام (لعن المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال) رواه البخاري.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال صلى الله عليه وسلم (ثلاثٌ لا يدخلون الجنة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لولديه والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال والديوث) رواه النسائي والحاكم وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وصححه الألباني.
ويجب أن يعلم أن رأس المرأة من العورة التي يجب سترها وما تفعله النساء اليوم من قصٍ لشعر رؤوسهن وخروجهن سافرات من أكبر المنكرات التي تدخل ضمن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (صنفان من أهل النار من أمتي لم أرهما بعد: نساءٌ كاسياتٌ عاريات مائلات مميلات على رؤوسهن مثل أسمنة البخت لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها ورجالٌ معهم سياط مثل أذناب البقر يضربون بها عباد الله) رواه مسلم.
يحرم على النساء المشاركة في فرق الرقص الشعبي
يقول السائل: ما حكم اشتراك الفتيات فيما يعرف بفرق الرقص الشعبي والدبكة؟(1/167)
الجواب: لا يجوز شرعاً للفتاة المسلمة أن تشترك في فرق الرقص الشعبي وفرق الدبكة وهذا الفعل حرام شرعاً لما يترتب عليه من المفاسد والمحرمات فمن ذلك:
1. إن هذه الفرق تكون مختلطة في الغالب فهي تتكون من شباب وشابات وهذا عمل منكر ومحرم شرعاً.
2. إن هذه الفرق حتى لو كانت خاصة بالفتيات لا يجوز الإشتراك فيها لأنها تعرض رقصاتها على الناس في الأماكن العامة وهذا حرام شرعاً.
3. إن مثل هذه الفرق رقصاتها مصحوبة بالموسيقى المحرمة شرعاً.
4. إن هذه الفرق وأمثالها مظهر من مظاهر الإنحلال والميوعة ومحاربة الفضيلة.
5. وكذلك فإنها مظهر من مظاهر الغزو الفكري الذي يركز على إحياء ما يعرف بالفلكلور الشعبي وإظهاره على أنه من تراث الأمة المسلمة مع أن تراث الأمة المسلمة أعظم وأجل من هذه الترهات وسفاسف الأمور.
إن تراث هذه الأمة يتمثل بعقيدتها ودينها وما خلفه عظماؤها وقادتها الأماجد.
وبناءً على ذلك كله يحرم على الفتاة المسلمة أن تشترك بمثل هذه الفرق ولا يحل للآباء ولأولياء الأمور أن يسمحوا لبناتهم أو أخواتهم أو زوجاتهم بالمشاركة بمثل هذه الفرق وأمثالها.
نظر الطبيب إلى المرأة
يقول السائل ما هي حدود نظر الطبيب إلى المرأة الأجنبية؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أن الإسلام حث على حفظ العورات(1/168)
وعلى عدم كشفها إلا في حالاتٍ خاصة تقتضي كشف العورة.
وكذلك فإن المرأة إن أصابها المرض واحتاجت للعلاج فالمشروع في حقها أن تراجع طبيبة ولا يحل لها مراجعة الطبيب إذا وجدت الطبيبة وكان بإمكانها مراجعتها فإن لم توجد المرأة الطبيبة أو تعذرت مراجعتها أو لم تكن من أهل الاختصاص بمرض تلك المرأة فيجوز أن تراجع الطبيب الرجل وهنا لا بد من معرفة الضوابط التالية في تعامل الطبيب مع المريضة الأجنبية:
أولاً: أن تتم المعاينة والكشف بحضور محرم للمرأة أو زوجها أو امرأة موثوقة خشية الخلوة المنهي عنها شرعاً.
ثانياً: ألا يطلع على شيء من بدنها (عدا الوجه والكفين) إلا بمقدار ما يقتضيه العلاج فيجب على الطبيب أن يستر جسم المريضة إلا موضع المعالجة.
يقول الإمام الغزالي رحمه الله: [وتقدر الحاجة التي يجوز إظهار العورة معها بحيث لا يعد التكشف بسببها هتكاً للمروءة] .
ثالثاً: إذا استطاع الطبيب معالجة المرأة بالنظر دون اللمس فهو الواجب وعلى الطبيب أن يغض بصره وأن يتقي الله ربه في ذلك.
رابعاً: ينبغي للمرأة إذا احتاجت للمعالجة عند طبيب رجل أن تختار الطبيب الثقة الأمين صاحب الدين.
ويذكر هنا أنه لا يجوز للرجل أن يكشف عند الطبيبة الأجنبية إلا إذا لم يوجد الطبيب الرجل وهو الصحيح الذي تؤيده الأدلة الشرعية ومما يؤسف له أن بعض ذوي النفوس المريضة يرغبون في المعالجة عند الطبيبة ويفضلونها على الطبيب الرجل وقد يكون العكس صحيحاً وهو أن بعض النساء يفضلن أن يتولى علاجهن الطبيب دون الطبيبة لأغراض قد تكون صحيحة أو خبيثة.(1/169)
مصافحة المرأة الأجنبية حرام شرعاً
يقول السائل: ما هو الحكم الشرعي في مصافحة الرجل لابنة عمه أو ابنة خالته؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أولاً أن المصافحة هي الأخذ باليد وكلامنا هنا في مصافحة المرأة الأجنبية وهي التي يحل للشخص نكاحها سواء كانت ابنة عمه أو ابنة خاله أو غير ذلك، فإذا علم هذا فقد اتفق علماء الأمة من السلف والخلف على تحريم مصافحة المرأة الأجنبية ولم يعرف لهم مخالف على مر العصور والأزمان فيما أعلم، والأدلة متضافرة على تحريم ذلك فمنها:
1. عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كانت المؤمنات إذا هاجرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يمتحنهن في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ... الخ الآية) ، قالت: فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات فقد أقر بالمحنة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقررن بذلك من قولهن قال لهن صلى الله عليه وسلم: أنطلقن فقد بايعتكن، لا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط غير أنه يبايعهن بالكلام) رواه البخاري ومسلم.
وفي روايةٍ أخرى للبخاري عن عائشة قال (فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها صلى الله عليه وسلم قد بايعتك كلاماً لا والله وما مست يده يد امرأة قط في المبايعة ما يبايعهن إلا بقوله بايعتك على ذلك) .
2. عن أميمة بنت رقيقة رضي الله عنها قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة نبايعه فقلن: نبايعك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نشرك بالله شيئاً ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيك في معروف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيما استطعتن وأطقتن، قالت: فقلت: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا هلم نبايعك يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لا أصافح النساء إنما قولي لمائة امرأة كقولي لمرأة واحدة) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم، وقال الترمذي حديث حسن صحيح.(1/170)
3. عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان لا يصافح النساء في البيعة) رواه أحمد وقال الهيثمي وإسناده صحيح.
4. عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له) رواه الطبراني والبيهقي، قال المنذري ورجال الطبراني ثقات رجال الصحيح.
5. إن الإسلام حرم النظر إلى المرأة الأجنبية من غير سبب مشروع بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حث المسلم على أن يصرف بصره إذا وقع على امرأة أجنبية فقد ثبت في الحديث عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة، فقال: إصرف بصرك) رواه مسلم.
وعن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة) رواه أحمد وأبو داوود والترمذي وهو حديث حسن، والأدلة على تحريم النظر إلى الأجنبية بدون سبب مشروع كثيرة وإذا كان النظر محرماً فمن باب أولى اللمس لأن اللمس أعظم أثراً في النفس من مجرد النظر حيث أن اللمس أكثر إثارة للشهوة وأقوى داعياً للفتنة من النظر بالعين وكل منصف يعلم ذلك.
وقد اشتبه على قوم حديث وارد في بيعة النساء للنبي صلى الله عليه وسلم فهموا منه جواز المصافحة وهو حديث أم عطية الأنصارية رضي الله عنها قالت: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ علينا (أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا) ونهانا عن النياحة فقبضت امرأة منا يدها فقالت أسعدتني فلانة أريد أن أجزيها فما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فانطلقت فرجعت فبايعها) رواه البخاري.
فقد زعموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم بايع النساء مصافحة بدليل قولها: (فقبضت امرأة منا يدها) وهذا الفهم خطأ بين لما يلي:
أ. إن المراد بقبض اليد في الحديث التأخر عن القبول كما قال الحافظ ابن حجر ومثل ذلك قوله تعالى في حق المنافقين (ويقبضون أيديهم) فهو كناية عن عدم الإنفاق في سبيل الله. ومما يرد هذا الزعم ما جاء في رواية أخرى لحديث أم عطية السابق، رواها الإمام مسلم في(1/171)
صحيحه عن عاصم عن حفصة عن أم عطية قالت: لما نزلت هذه الآية (يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً) قالت كان منه النياحة، قالت: فقلت: يا رسول الله إلا آل فلان كانوا أسعدوني في الجاهلية فلا بد لي من أن أسعدهم. فقال عليه السلام: إلا آل فلان) .
ومثل ذلك ما ورد في رواية أخرى لحديث أم عطية عند النسائي.
فهذه الروايات الثلاث لحديث أم عطية يظهر منها أن المراد بقولها فقبضت امرأة منا يدها التأخر عن قبول المبايعة فلم تبايع مباشرة ولكنها أخرت البيعة حتى تذهب لإسعاد المرأة التي أسعدتها في الجاهلية، بدليل قولها: (ثم أجيئك فأبايعك) كما في رواية النسائي وهي رواية صحيحة.
ب. إن الروايات الثابتة والصريحة الواردة في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء تؤكد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصافح النساء في البيعة، وحديث أم عطية ليس فيه ذكر للمصافحة أصلاً.
ج. وأما ما ورد في بعض الروايات من أن النبي صلى الله عليه وسلم صافح النساء بحائل وكان على يده ثوب وأن عمر صافحهن عنه فكل ذلك لا يصح ولا يثبت كما قال أهل الحديث.
وقد زعم بعض الناس أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم للمصافحة لا يدل على أن على المسلمين أن يتأسوا به صلى الله عليه وسلم في ذلك. لأن التأسي لا يكون إلا بأفعاله وهو لم يفعل شيئاً سوى أنه امتنع عن المصافحة.
وهذا خطأ واضح لأن التأسي يكون بالترك أيضاً فالتأسي في الحقيقة هو فعل، قال الآمدي: [أما التأسي بالغير فقد يكون بالفعل والترك] .
وقال الشوكاني: [تركه صلى الله عليه وسلم للشيء كفعله له في التأسي به] . ويكفي هذا القدر من الأدلة لأن المقام لا يحتمل مزيداً من التفصيل.
لا يجوز حرمان الولد العاق من الميراث
يقول السائل: هل يجوز للأب أن يوصي بحرمان أحد أولاده من الميراث لأن هذا الولد عاق لوالديه؟(1/172)
الجواب: لا يجوز للأب أن يوصي بحرمان ولده العاق فهذه وصية باطلة لأن الله سبحانه وتعالى وزع نصيب كل وارث من الورثة فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه) رواه البخاري ومسلم.
وعلى هذا الأب أن يحاول إصلاح ولده وأن يعين ولده على بره.
ولا بد من العدل بين الأولاد في المعاملة سواء كانت مادية أو معنوية. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وهو حديث صحيح.
وفي حديث آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (سووا بين أولادكم في العطية لو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء) رواه البيهقي وقال الحافظ ابن حجر إسناده حسن.
وينبغي أن يعلم أن عقوق الوالدين معصية عظيمة وفيه إثم كبير ولكن الشرع لم يجعله من أسباب الحرمان من الميراث.
العدل في عطايا الأولاد
يقول السائل: ما حكم التسوية بين الأولاد في الهبات والعطايا؟
الجواب: إن الأصل في هذه القضية أن يعدل الأب والأم بين أولادهما في المعاملات عامة وفي الهبات على وجه الخصوص لأن التفريق بين الأولاد في المعاملة يورث الحقد والحسد ويوقع العداوة والبغضاء بينهم.
والأحاديث الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة يفيد ظاهرها وجوب التسوية بين الأولاد في الهبات وبهذا قال جماعة من أهل العلم ولا بأس أن نستعرض بعض هذه الأحاديث:
1. عن النعمان بن بشير قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعدلوا بين ابنائكم،(1/173)
اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين ابنائكم) رواه احمد وأبو داود والنسائي وهو حديث صحيح.
2. وعن جابر رضي الله عنه قال: قالت امرأة بشير: انحل ابني غلاماً - عبداً - وأشهد لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابنة فلان - زوجته - سألتني أن أنحل ابنها غلامي. فقال عليه الصلاة والسلام: له أخوة؟ قال: نعم، قال عليه الصلاة والسلام: فكلهم أعطيت مثل ما أعطيته؟ قال: لا، قال عليه الصلاة والسلام: فليس يصلح هذا وإني لا أشهد إلا على حق) رواه مسلم وأبو داود وأحمد وغيرهم.
3. وعن عامر قال: سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما وهو على المنبر يقول: أعطاني أبي عطية فقالت عمرة بنت رواحة - أم نعمان - لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله. قال عليه الصلاة والسلام: أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟ قال: لا، فقال صلى الله عليه وسلم: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، قال فرجع فرد عطيته) رواه البخاري.
وفي روايةٍ أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبشير والد النعمان
(لا تشهدني على جورٍ أليس يسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: نعم، قال: أشهد على هذا غيري) رواه أبو داود بسندٍ صحيح.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سووا بين أولادكم في العطية لو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء) رواه سعيد بن منصور والبيهقي وقال الحافظ ابن حجر إسناده حسن.
فهذه الأحاديث يؤخذ منها وجوب التسوية بين الأولاد في الهبات والعطايا إلا أن الإمام أحمد بن حنبل يرى أنه يجوز للأب أن يفاضل بين الأبناء في الهبات والعطايا إن اختص أحدهم بأمر يقتضي المفاضلة، كأن يكون أحدهم يدرس في جامعة أو مدرسة أو يكون أحد الأولاد فيه عاهة أو أنه فقير وعنده عائلة كثيرة الأولاد.
وتجوز المفاضلة أيضاً عنده إذا كان الولد فاسقاً ينفق ما يحصل عليه(1/174)
من مالٍ في معصية الله تعالى فيجوز للأب أن يمنع عنه العطية أو يعطي بقية أولاده أكثر منه.
وما ذهب إليه الإمام أحمد نظر دقيق وفقه حسن وخاصةً أنه توجد حالات لا يكون من الإنصاف فيها التسوية بين الأبناء في الهبات والعطايا فلا يمكن للأب التسوية في دفع المصاريف اليومية لأولاده مثلاً مع اختلاف أعمارهم ودراستهم فهل يعقل أن يعطى الطالب الجامعي مثل ما يعطى الطالب في المرحلة الإبتدائية.
وأما إذا كان الأمر متعلقاً بإعطاء الأبناء أراضٍ أو عقارات ونحو ذلك فلا بد من التسوية والعدل بينهم في العطاء.
ومن الجدير بالذكر أن جمهور الفقهاء يرون أن الذكر والأنثى سواءٌ في الهبات والأعطيات لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبشير بن سعد (فسووا بينهم) وفي روايةٍ أخرى (أليس يسرك أن يكونوا في البر سواء) والبنت كالابن في وجوب برها لأبيها.
ويرى الحنابلة أن على الأب أن يسقم بين أولاده على حسب قسمة الله تعالى الميراث فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين لأن الله سبحانه وتعالى قسم بينهم ذلك.
وورد أن شريحاً القاضي قال لرجل قسَّم ماله بين أولاده (أرددهم إلى سهام الله تعالى وفرائضه) .
وينبغي أن يعلم أن التسوية بين الأولاد ليست في الأمور المالية فقط وإنما ينبغي العدل في جميع أوجه التعامل معهم حتى أن العلماء يقولون ينبغي للأب أن يعدل بين أولاده في القبل - جمع قبلة - قال إبراهيم النخعي (كانوا يستحبون أن يسووا بينهم حتى في القبل) .
وروي في حديث عن أنس (أن رجلاً كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء ابن له فقبله وأجلسه على فخذه ثم جاءت ابنة له فأجلسها بين يديه فقال صلى الله عليه وسلم ألا سويت بينهما) .(1/175)
إعطاء بعض الأولاد دون بعض غير جائز
يقول السائل: في رسالةٍ طويلة مختصرها: إن أباه أعطى ثلاثة من أولاده عمارة وخصهم بها دون بقية أولاده التسعة وبعد وفاة الأب قام الأشقاء التسعة بمطالبة إخوتهم الثلاثة بنصيبهم من العمارة المذكورة ويسألون هل يجوز لهم ذلك؟ وإذا أسقط بعض الورثة حقه من العمارة فهل يحق لهم أن يطالبوا بذلك؟
الجواب: إن الأصل أن على الوالد أن يعدل في العطية والهبة لأولاده ولا ينبغي له أن يفاضل بينهم إلا لموجب شرعي والذي يظهر من السؤال أن الوالد لم يعدل في عطاياه فأعطى ثلاثة من أولاده عمارة وخصهم بها دون بقية أولاده وهذا الأمر مخالف لما ورد عن رسول صلى الله عليه وسلم في التسوية بين الأولاد والعدل بينهم في الأعطيات والمعاملة أيضاً.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) رواه البخاري. وقد اعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم إعطاء بعض الأولاد شيئاً دون الآخرين من الجور فقد ورد في الحديث عن جابر قال: قالت امرأة بشير: إنحل - أي أعط - ابني غلام وأشهد لي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتى رسول الله فقال: إن ابنة فلان سألتني أن أنحل ابنها غلامي فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (له إخوة؟ قال: نعم. قال: فكلهم أعطيت مثل ما أعطيته. قال: لا. فقال له عليه الصلاة والسلام: فليس يصلح هذا وإني لا أشهد إلا على حق) رواه مسلم.
وفي روايةٍ أخرى قال عليه الصلاة والسلام (لا تشهدني على جور إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم) رواه أبو دواد.
وفي رواية أخرى أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره أن يرجع في هبته.
فالذي يظهر من خلال هذه الروايات وغيرها أنه لا بد من العدل عند إعطاء الأولاد ولا يجوز تفضيل بعض الأولاد على بعض لأن هذا التفضيل بينهم يؤدي إلى العداوة والبغضاء بين الأولاد.
والذي أنصح في هذه القضية أن تكون العمارة المعطاة لثلاثة فقط(1/176)
من الأولاد دون البقية من ضمن التركة وتوزع على جميع الورثة إبراءً لذمة الوالد ولنزع فتيل الشقاق والخصام والأحقاد من النفوس وهذا الأمر فيه احتياط في الدين.
وأما إذا أسقط بقية الورثة حقهم في هذه العمارة ثم رجعوا في ذلك فلا يجوز لهم الرجوع لأن القاعدة الفقهية تقول الساقط لا يعود يعني إذا أسقط شخص حقاً من الحقوق التي يجوز إسقاطها، يسقط ذلك الحق وبعد إسقاطه لا يعود.
ولكن يشترط في إسقاطه الحق أن يكون عن رضاً نفس وبدون ضغط أو إكراهٍ أو حياء.
الميل لأولاده من إحدى زوجتيه دون أولاد الأخرى
يقول السائل: ما قولكم في رجلٍ له عدد من الأولاد من زوجتين فقام بإعطاء جميع أمواله المنقولة وغير المنقولة؟ إلى ولدين من إحدى زوجتيه ويقوم هذان الولدان بإنفاق الأموال في اللهو المجنون، وحرم باقي الأولاد وهم عشرة علماً بأن بين الأولاد المحرومين أصحاب عاهات دائمة وبحاجة للمساعدة؟
الجواب: إن هذا الرجل قد أساء التصرف وخالف الهدي النبوي في التسوية بين الأولاد في الأعطيات والهبات. فإن العدل بين الأولاد مطلوبٌ سواء أكان في الأمور المادية أو المعنوية وتصرف هذا الرجل يزرع العداوة والبغضاء والحقد بين الأولاد. وقد رفض الرسول صلى الله عليه وسلم أن يشهد على إعطاء أحد الصحابة لأحد أولاده عطية دون الآخرين كما جاء في الحديث:
عن عامر قال: (سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنهما وهو على المنبر يقول: أعطاني أبي أعطيةً فقالت عمرة بنت رواحة - أم نعمان - لا أرضى حتى تشهد رسول صلى الله عليه وسلم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله. قال عليه الصلاة والسلام: أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟ قال: لا، فقال عليه الصلاة(1/177)
والسلام: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم. قال فرجع فرد عطيته) رواه البخاري في صحيحه.
وفي روايةٍ أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبشير والد النعمان (لا تشهدني على جورٍ أليس يسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: نعم. قال: أشهد على هذا غيري) رواه أبو داود بسندٍ صحيح.
ويدل على أنه يجب على الأب أن يسوي بين أولاده في الهبات والعطايا قوله عليه الصلاة والسلام: (اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وهو حديثٌ صحيح.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (سووا بين أولادكم في العطية لو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء) رواه سعيد بن منصور والبيهقي وقال الحافظ ابن حجر إسناده حسن. وقوله عليه الصلاة والسلام: (اعدلوا بين أولادكم في النحل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر) رواه مسلم.
وعلى هذا فيجب على هذا الأب لأن يسترجع ما أعطاه لولديه ويعيد تقسيم تلك الأموال بين أولاده بالتساوي فالرجوع في الهبة في حق الوالد جائز على مذهب جمهور الفقهاء ويدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده) رواه أصحاب السنن الأربعة وأحمد وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم.
ويدل على جواز الرجوع ما جاء في حديث النعمان المتقدم قال (فرد عطيته) وفي رواية أخرى صحيحة قال صلى الله عليه وسلم: (فأرجعه) .
وفي روايةٍ ثالثة (فرجع أبي في تلك الصدقة) . وخاصةً أن الولدين الذين خصهما بأعطيته ينفقان ذلك في المحرمات فهو بعمله هذا يعينهما على الفسق والفجور والعياذ بالله، بدل أن يردعهما ويزجرهما ويأمرهما بالمعروف وينهاهما عن المنكر وكذلك بعض أولاده الذين حرمهم ممن(1/178)
يستحقون زيادة في العطف والمساعدة والرفق بهم وهم أصحاب العاهات الدائمة.
فعلى هذا الرجل أن يتقي الله ويعود إلى رشده ويلزم طريق العدل والإنصاف وإلا فسوف يندم عندما يقف بين يدي الله يوم القيامة.
حرمان النساء من الميراث حرام
تقول السائلة: تنازلت امرأة عن ميراثها لأخيها تحت تأثير التهديد والوعد والوعيد منه مقابل أن يعطيها في كل عامٍ مالاً يكفيها لتنفق على نفسها ولكنه لم يف بالتزامه فهل يجوز أن تطالبه بإعادة نصيبها من الميراث؟
الجواب: إن حرمان النساء من الميراث بصوره المختلفة من المشكلات المنتشرة في مجتمعنا، وكثيراً ما يترتب على ذلك الحرمان مآس من ظلم وقهر وأكل أموال الناس بالباطل وإن حرمان النساء من الميراث من مخلفات الجاهلية التي هدمها الإسلام قال قتادة: [كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصبيان] وكان أكبر الأولاد هو الذي يأخذ جميع الميراث وكانوا يقولون: لا يعطى إلا من قاتل على ظهور الخيل وطاعن بالرمح وضارب بالسيف وحاز الغنيمة.
وهذه جاهلية جهلاء حاربها الإسلام وأعطى المرأة نصيبها من الميراث يقول الله تعالى: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا) .
فهذه الآية الكريمة أوجبت النصيب من الميراث للرجال والنساء قليلاً كان ذلك أو كثيراً فالمرأة سواء كانت أماً أو زوجة أو أختاً أو بنتاً فلها نصيبها من الميراث وهذا النصيب حق شرعي لها وليس منةً أو تفضلاً من أحد فلا يجوز لأي كان أن يحرمها من نصيبها الذي قرره الشرع الحنيف.
وكل من يحرم امرأة من نصيبها بأي وسيلة كانت كالتهديد والوعيد بإجبارها على التنازل عن ميراثيها أو بالتحايل عليها لإسقاط حقها بما يسميه(1/179)
عامة الناس (إرضاء الأخوات) زوراً وبهتاناً.
أقول كل من يفعل ذلك فهو آثم ومعطل لحكم الله في هذه القضية ومعتد على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ,وأكل لأموال الناس بالباطل.
وهذه المرأة التي هددها أخوها وأجبرها على التنازل عن ميراثها مقابل وعد زائف كاذب بالإنفاق عليها قد ظلمت ظلماً واضحاً من هذا الأخ الظالم الذي أكل مال أخته بالباطل ولها أن تطالب بحقها وتسعى في تحصيله.
وإنني لأذكر هذا الأخ وكل شخصٍ يحرم النساء من الميراث بتقوى الله تعالى فاتقوا الله في أخواتكم النساء وأعطوا الحقوق لأصحابها وأعيدوا نصيب النساء لهن قبل أن ترحلوا عن هذه الدنيا وقبل أن تقفوا بين يدي الله في ذلك اليوم العظيم الذي لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم. فتوبوا إلى رشدكم ولا تغرنكم الأموال ولا العقارات وأعطوا كل ذي حقٍ حقه على وفق ما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأذكر هؤلاء بأن الظلم مرتعه وخيم فقد قال صلى الله عليه وسلم:
1. عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة) رواه مسلم.
2. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء - التي لا قرن لها - من الشاة القرناء) رواه مسلم.
3. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أُخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه) رواه البخاري.
4. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذ إلى اليمن فقال: اتقي دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب) رواه البخاري.(1/180)
تشغيل أموال اليتامى
يقول السائل: أنه وصي على أيتام ولهم أموال فهل يجوز له أن يشغل أموال الأيتام في تجارة أو شركة أو نحو ذلك؟
الجواب: إن على من ولي أيتاماً ولهم أموال أن يتصرف في أموالهم بما تقتضيه مصلحة هؤلاء الأيتام وكأن هذا الولي يتصرف في ماله الخاص فعليه أن يحفظ أموالهم من التلف وأن يجنبهم المخاطر، والأصل في هذا قوله تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) .
قال القرطبي في تفسير هذه الآية: [أي بما فيه صلاحه وتثميره وذلك بحفظ أصوله وتثمير فروعه. وهذا أحسن الأقوال في هذا فإنه جامع] .
قال مجاهد: [لا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن] . [بالتجارة فيه ولا تشتري منه ولا تستقرض] . تفسير القرطبي7/ 134.
وبناءً على ذلك لا يجوز للولي أن يتبرع بشيءٍ من مال اليتيم أو يتصدق منه أو يهبه أو يقرضه ولا يجوز بيعه أو شراؤه مع الغبن الفاحش لأن في ذلك إضاعة لأموال اليتامى.
ويجوز للولي البيع والشراء والإجارة والشركة في أموال اليتامى فاستثمار أموال اليتامى جائز بل مطلوب حتى لا يفنى مال اليتيم في النفقات أو الزكاة عند القائلين بوجوبها في مال اليتيم ويدل على جواز ذلك ما ورد في بعض الأحاديث والآثار عن الصحابة رضي الله عنهم منها:
1. ما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: (ألا من ولي يتيماً وله مال فليتجر له بماله ولا يتركه حتى تأكله الصدقة) رواه الترمذي وضعفه.
2. ما رواه الشافعي بسنده عن يوسف بن ماهك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ابتغوا في مال اليتيم أو أموال اليتامى لا تذهبها ولا تستهلكها الصدقة) رواه الشافعي في الأم والبيهقي في السنن الكبرى وقال البيهقي وهذا مرسل إلا أن الشافعي رحمه الله أكده بالإستدلال بالخبر الأول وبما روي عن الصحابة رضي الله عنهم. سنن البيهقي 4/ 107.(1/181)
3. ما رواه البيهقي بسنده عن عمر بن الخطاب أنه قال: (اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة) . وقال البيهقي هذا إسناد صحيح وله شواهد عن عمر رضي الله عنه.
4. ما رواه مالك في الموطأ أنه بلغه عن عمر بن الخطاب أنه قال: (اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة) .
5. وما رواه البيهقي بسنده أن عمر بن الخطاب قال لرجل أن عندنا مال يتيم قد أسرعت فيه الزكاة فدفعه إليه ليتجر فيه له. وغير ذلك من الأحاديث.
الوصية الواجبة
يقول السائل: إذا توفي الرجل في حياة أبيه وترك أولاده فهل لهم نصيب من ميراث جدهم مع وجود أعمامهم؟
الجواب: إن الأصل في نظام الميراث الإسلامي أن هؤلاء الأولاد أي حفدة المتوفى لا يرثون شيئاً مع وجود أعمامهم أو عماتهم على قيد الحياة أي أنهم محجوبون بأعمامهم وعماتهم.
ولكن قانون الأحوال الشخصية المعمول به في المحاكم الشرعية أعطى لهؤلاء الحفدة نصيباً من الميراث وهو ما يعرف بالوصية الواجبة فقد جاء في المادة (182) من القانون المذكور لسنة 1967 ما نصه:
(إذا توفي أحد وله أولاد ابن وقد مات ذلك الابن قبله أو معه وجب لأحفاده هؤلاء في تركته وصية بالمقدار والشروط التالية) سيأتي فيما بعد.
وهذه الوصية الواجبة أول ما عمل بها كان ذلك ضمن قانون الأحوال الشخصية المصري الصادر 1946 وكذلك عمل بها ضمن قانون الأحوال الشخصية السوري الصادر سنة 1953 وما زال معمولاً بها في بعض الدول العربية والإسلامية.(1/182)
والمستند الشرعي الذي اعتمده المشرعون للوصية الواجبة هو ما ذهب إليه بعض الفقهاء من التابعين وغيرهم من الأئمة كسعيد بن المسيب والحسن البصري وطاووس وأحمد بن حنبل وداود الظاهري وابن حزم وابن جرير الطبري وغيرهم من أن الوصية واجبة للأقربين غير الوارثين أخذاً من قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) سورة البقرة آية 180.
وهذه الآية محكمة غير منسوخة كما رجحه كثير من المحققين من أهل التفسير وغيرهم فالأقارب من غير الورثة تجب لهم الوصية بمقتضى هذه الآية والحفدة من ضمن هؤلاء الأقارب غير الورثة أصلاً لوجود أعمامهم وعماتهم. يرى بعض العلماء المعاصرين أن الحكمة من تشريع نظام الوصية الواجبة هو الحفاظ على الأسرة موحدة ومتماسكة وأن فيها إقامة للعدل ومعالجة مظاهر الظلم وما ينتج عنها من بؤس وحرمان وفقر.
ذلك أنه في حالات كثيرة يتوفى الابن قبل والده ويكون لذلك الوالد أبناء يمنعون أبناء المتوفى من الميراث وعندها يحرمون نصيبهم من مال ربما كان لأبيهم اليد الطولى في جمعه وتثميره فيؤول هذا المال إلى ملك الأعمام بحقهم في الميراث وينالون بسببه حظهم الوافر من المتاع الدنيوي وأبناء المتوفى إلى جانبهم يعانون شظف العيش وفي هذا تقطيع لآصرة الرحم وبعث الأحقاد واستشعار لمرارة الظلم والحرمان فجاء قانون الوصية الواجبة المستمد من نظرات صائبة لنفر من صالحي السلف فقهاء ومحدثين ليسد هذه الثلمة وليعالج مصدر من مصادر الشكوى التي غدت تتعالى وتتكر في مجتمعنا من خلال ما أذنت به مرونة آراء الفقهاء من تشريع (الوصية الواجبة) نظام الأسرة 3/ 592.
وشروط استحقاق الوصية الواجبة كما ورد في قانون الأحوال الشخصية الأردني هي:
1. الوصية الواجبة لهؤلاء الأحفاد تكون بمقدار حصة أبيهم من الميراث فيما لو كان حياً على أن لا يتجاوز ذلك ثلث التركة(1/183)
2. لا يستحق هؤلاء الأحفاد وصية إذا كانوا وارثين لأصل أبيهم جداً كان أو جدة أو كان قد أوصى لهم أو أعطاهم في حياته بلا عوض مقدار ما يستحقون بهذه الوصية الواجبة فإن أوصى لهم بأقل من ذلك وجبت تكملته وإن أوصى لهم بأكثر فإن الزائد وصية اختيارية وإن أوصى لبعضهم فقد وجب للآخر بقدر نصيبه.
3. تكون الوصية لأولاد الابن ولأولاد ابن الإبن وإن نزل واحداً كان أو أكثر للذكر مثل حظ الأنثيين يحجب كل أصل فروعه دون فرع غيره ويأخذ كل فرع نصيب أصله فقط.
4. هذه الوصية الواجبة مقدمة على الوصايا الاختيارية في الاستيفاء من ثلث التركة.
وينبغي أن يعلم أن الجد إذا لم يوصي لأولاد ابنه المتوفى في حياته فإن القاضي يفرض لهم تلك الوصية.
لا يجوز إسقاط الجنين المعاق
تقول السائلة: إنها حامل في الشهر الخامس وقد قرر الطبيب أن الجنين سيولد معاقاً، فعل يجوز لها إسقاط الحمل؟
الجواب: لقد اتفق العلماء على عدم حواز الإجهاض بعد الشهر الرابع من الحمل أي بعد مضي مائة وعشرين ليلة حيث تنفخ الروح في الجنين، لحديث عبد الله بن مسعود: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويأمر بأربع كلمات، يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد) رواه البخاري ومسلم.
ومن العلماء من حرم الإجهاض قبل الأشهر الأربعة أيضاً، وهذا هو الحق إن شاء الله، فلا ينبغي لامرأة مسلمة أن تجهض مولودها إلا إذا ثبت(1/184)
أن هناك خطراً محققاً على حياة الأم، ويعتبر في تحديد هذا الخطر قول الطبيب الحاذق الثقة.
وأما إخبار الطبيب بأن المولود سيكون معاقاً فإن هذا الأمر لا يجيز الإجهاض، وعلى هذه المرأة أن تصبر وتحتسب.
وإذا وقع الإجهاض منها فإن ذلك يعتبر جريمة موجبة للغرة - وهي دية الجنين - لأنه قتل لنفس محرمة وتلزمها كفارة القتل الخطأ عند بعض أهل العلم.
وينبغي على الأطباء أن يتقوا الله في النساء المسلمات فلا يجوز لهم أن يسهلوا لهن عملية الإجهاض إلا في الحالات التي يتهدد الخطر فيها حياة الأم لأن من شأن عملية الإجهاض فتح باب الفساد على مصراعيه ويلحق أضراراً بالغة في المجتمع المسلم.
الأرحام الذين تجب صلتهم
يقول السائل: من هم الأرحام الذين تجب صلتهم وبما تكون صلة الرحم؟
الجواب: الأرحام هم الأقارب وهم على نوعين: رحم محرم ورحم غير محرم. والرحم المحرم هو كل من لو فرضناه رجلاً والآخر أنثى لم يحل لهما الزواج كالآباء والأمهات والأجداد والجدات والأعمام والعمات والأخوال والخالات والأخوة والأخوات ذكوراً وإناثاً.
وأما الرحم غير المحرم فهم: الأقارب الذين يجوز التناكح بينهم كبنات الأعمام وبنات العمات وبنات الأخوال وبنات الخالات وأولادهم.
وقد أمر الإسلام بصلة الرحم ومن ذلك قوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ) .(1/185)
وقال عليه الصلاة السلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منه قامت الرحم فقالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى. قال: فذلك لك. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إقرأوا إن شئتم فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا ارحامكم أولئك لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم) رواه البخاري ومسلم.
وعن أنس رضي الله عنه قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه) رواه البخاري ومسلم.
ومعنى أن ينسأ له في أثره: أي يؤخر له فيأجله وعمره بزيادة البركة فيه.
كما وأن الإسلام قد حرم قطيعة الرحم التي تجب صلتها قال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة قاطع) ، يعني قاطع رحم رواه البخاري ومسلم.
وقد فصل العلماء حكم صلة الرحم فقالوا: إن صلة الرحم الواجبة تكون في الرحم المحرم فقط فإذا قطعها الإنسان يكون آثماً وهذه تكون كما ذكرت في الآباء والأمهات والأجداد والجدات والأعمام والعمات والأخوال والخالات والأخوة والأخوات والأولاد ذكوراً وإناثاً فهؤلاء تجب صلتهم وتحرم قطيعتهم.
وأما الرحم غير المحرم فمن السنة صلتهم ولا تجوز قطيعتهم.
وكذلك فإن صلة الرحم المحرم ليست على درجة واحدة فصلة الوالدين أعظم من صلة غيرهم كما أن الأم مقدمة في الصلة على الأب لما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك.) رواه البخاري ومسلم.(1/186)
وفي رواية أخرى قال عليه الصلاة والسلام: (أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك ثم أدناك ثم أدناك) رواه مسلم.
وفي حديث آخر (قال رجل: يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك ثم الأقرب فالأقرب) رواه أبو داود وغيره وهو حديث صحيح.
وقال الإمام النووي مرتباً الأقارب في صلة الرحم: [قال أصحابنا يستحب أن تقدم في البر الأم ثم الأب ثم الأولاد ثم الأجداد والجدات ثم الإخوة والإخوات ثم سائر المحارم من ذوي الأرحام كالأعمام والعمات والأخوال والخالات ويقدم الأقرب فالأقرب] شرح صحيح مسلم 16 / 13.
وصلة الرحم تكون بزيارتهم والسلام عليهم ومساعدتهم وفي قضاء حوائجهم وتقديم المال لهم والإحسان إليهم ونحو ذلك.
وليس المقصود بصلة الرحم أن تصلهم إن وصلوك فقط ولكن أن تصلهم حتى وإن قطعوك فقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها) رواه البخاري ومسلم.
والله الهادي إلى سواء السبيل.(1/187)
متفرقات(1/189)
الأجر على قدر المشقة
يقول السائل: الأجر على قدر المشقة عبارة تتردد على الألسن كثيراً فما مدى صحة ذلك؟
الجواب: إن الإسلام دين اليسر والتخفيف والرحمة ومن مقاصده رفع الحرج عن المكلفين ودفع الأذى عنهم ويدل على ذلك نصوص كثيرة من الكتاب والسنة.
يقول الله تعالى: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) .
ويقول أيضاً: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) .
ويقول تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا) رواه البخاري.
وقال رسول صلى الله عليه وسلم أيضاً: (إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلماً ميسراً) رواه مسلم.
وقال عليه الصلاة والسلام لمعاذ بن جبل ولأبي موسى الأشعري عندما بعثهما إلى اليمن: (يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا) رواه البخاري..(1/191)
والآيات والأحاديث كثيرة جداً في هذا الباب والخلاصة أن الإسلام قرر قاعدة رفع الحرج عن المكلفين ودفع المشقات عنهم ولكن المشقة قد تكون مشقة لا تنفك عن التكاليف الشرعية أي ملازمة لها وهذه لا بد منها إذ لا يكاد ذلك يخلو من مشقة ولو كانت قليلة، والتاكليف الشرعية لا تخلو عادةً من مثل هذه المشقات فمثلاً الصوم فيه نوع من المشقة وخاصةً إذا وقع في أشهر الصيف الحارة والوضوء فيه مشقة وخاصةً إذا كان الماء البارد أيام الشتاء، والحج فيه مشقة وهكذا بقيت التكاليف الشرعية فيها نوع من المشقة ولكن هذه المشقة محتملة وغير مقصودة في ذاتها ولكن لما يترتب عليها من المصالح تماماً كالطبيب الذي يعطي المريض الدواء المر الذي فيه شفاؤه فإن الطبيب لا يقصد إيذاء المريض بذلك الدواء المر ولكن يقصد ما يترتب عليه من الشفاء.
وكذلك الشارع يقصد ما يترتب على تلك المشقة من مصالح تعود على المكلف بالنفع العظيم.
وهنالك نوع من المشقة الشديدة وغير المحتملة وهذه لم تقع في التكاليف الشرعية وبالتالي لا يجوز للمكلف أن يوقعها على نفسه مثل صوم الوصال والصيام قائماً في الشمس والحج ماشياً ونحو ذلك فهذه مشقات صعبة وشديدة على النفس ولم يرد التكليف الشرعي بها بل نهى الشارع الحكيم عن التشديد على النفس.
يقول صلى الله عليه وسلم (خذوا من الأعمال ما تطيقون) رواه البخاري ومسلم.
وقال عليه الصلاة والسلام: (هلك المتنطعون) رواه مسلم. والمتنطع: هو المشدد على نفسه في غير موطن الشدة.
وهذه المشقة الشديدة إذا أوقع المكلف نفسه فيها قيعتبر عمله غير مشروع ولا أجر له على ذلك لأن الأجر يكون على قدر الشمقة إذا كانت المشقة لازمة للتكاليف الشرعية.
وأما إذا كانت المشقة غير لازمة لها فلا يصح للمكلف أن يجلبها على نفسه ظاناً أن ذلك طريقة للأجر والثواب لأن هذا المسلك مخالف للسنة(1/192)
وفيه تعذيبٌ للنفس وعناءٌ لها وهذا غير مقصود للشارع بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن ذلك.
فقد ورد في الحديث أنه بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فإذا برجلٍ قائم في الشمس فسأل عنه فقالوا إنه أبو اسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل ويصوم ولا يتكلم فقال (مروه فليستظل وليقعد وليتكلم وليتم صومه) رواه البخاري.
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شيخاً يهادي بين ابنيه فقال: (ما بال هذا؟ قالوا: نذر أن يمشي، قال: إن الله عن تعذيب نفسه لغني وأمره أن يركب) رواه البخاري ومسلم.
وقد دخل الرسول صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا حبلٌ ممدود بين ساريتين فقال: ما هذا؟ فقالوا: حبل لزينب فإذا فترت تعلقت به. فقال عليه الصلاة والاسلام: حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد) رواه البخاري، وغير ذلك من الأحاديث.
ففي هذه الأحاديث جلب الصحابة على أنفسهم مشقات غير مقصودة للشارع، فالشرع لا يطلب من الصائم أن يقف في الشمس طول النهار ولا يطلب من الحاج أن يمشي على قدميه إلى بيت الله الحرام ولا يطلب منه أن يشدد على نفسه ويحملها فوق طاقتها فهذه مشقات لا أجر فيها ولا ثواب عليها. فلا يجوز للمكلف أن يوقع نفسه فيها ولا يكون الأجر على قدر المشقة إلا إذا كانت المشقة لا تنفك عن التكاليف الشرعية.
تعدد المذاهب الفقهية
يقول السائل: لماذا يوجد لدى المسلمين مذاهب فقهية متعددة ومختلفة مع أن القرآن الكريم واحد والسنة النبوية واحدة؟
الجواب: إن تعدد المذاهب الفقهية لدى المسلمين له أسبابه(1/193)
ودواعيه المعتبرة وقبل بيانها لا بد من الإشارة إلى قضيتن هامتين:
الأولى: إن الإختلافات الفقهية بين علماء الإسلام كأصحاب المذاهب الأربعة (أبو حينفة ومالك والشافعي وأحمد) هي اختلافات في الفروع أي في المسائل الفقهية والقواعد والأسس التي بنيت عليها تلك الفروع.
وأما أصول الإسلام وقواعد العقيدة فهي محل اتفاق بين عامة علماء الإسلام لا خلاف بينهم فيها.
الثانية: إن الإختلافات في فروع الإسلام موجودة منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم ومن الشواهد على ذلك:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب (لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحداً منهم) رواه البخاري.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماءً فتيمما صعيداً طيباً فصليا ثم وجد الماء في الوقت، فتوضأ أحدهما وأعاد اصلاة ولم يعد الآخر، ثم أتيا الرسول صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له، فقال: للذي لم يعد أصبت السنة وأجزأتك صلاتك، وقال للذي أعاد لك الأجر مرتين) رواه أبو داود والنسائي وهو حديثٌ صحيح.
ونلاحظ في هذين الحديثين أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينكر على الصحابة اختلافهم في قضايا فرعية بل أقر كل طرف على ما وصل إليه اجتهاده.
واختلاف فقهاء المسلمين في أبواب الفقه الإسلامي له أسبابه المعتبرة وكل إمام من أئمة الفقه بنى مذهبه الفقهي على قواعد وأسس وضوابط معروفة.
وهؤلاء الأئمة ما كانوا يصدرون في اجتهاداتهم وآرائهم الفقهية عن هوىً أو تشهٍ أو قولٍ في دين الله بغير دليل وإنما لدى كل منهم أصولٌ بنى(1/194)
مذهبه عليها، وأشير بإيجاز إلى بعض الأسباب التي نتج عنها الإختلاف الفقهي منها:
- أن لا يبلغ الحديث أحد الفقهاء فيقول قولاً بخلاف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاصةً أننا نعلم أنه يصعب على أحد من أهل العلم الإحاطة بجميع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خفيت بعض الأحاديث على عدد من كبار الصحابة كأبي بكر وعمر، فمن باب أولى أن تخفى على الفقهاء الذين جاؤوا بعد ذلك أحاديث نبوية فاجتهدوا بخلافها.
- ومنها: أن الحديث قد يصل إلى الإمام ولكنه لا يكون ثابتاً عنده لعلة من علل الحديث المعتبرة وقد يكون هذا الحديث قد وصل إلى إمام آخر بطريق صحيح فيأخذ به الثاني دون الأول فيقع اختلاف بينهما لذلك.
- ومنها: الاختلاف في فهم النصوص من كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام لكون لفظ وقع في النص وهو مشترك أو مجمل أو غريب له عدة معان كما في قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) . فالقرء في لغة العرب استعمل في الطهر واستعمل في الحيض فهو لفظ مشترك فمن الفقهاء من أخذ بالأول ومنهم من أخذ بالثاني.
- ومنها: إن الأدلة قد تتعارض في نظر المجتهد فيقدم دليلاً على آخر لأمور يعتقدها المجتهد من المرجحات.
- وغير ذلك من الأسباب التي أدت إلى وقوع الاختلافات الفقهية التي يصعب شرحها في هذا المقام ومحل بحثها كتب أسباب الاختلافات الفقهية ولكن ينبغي أن يعلم أن الاختلافات الفقهية التي وقعت بين علماء الإسلام لم تفسد المودة والمحبة بينهم وكان كل منهم يحترم الآخر ويقدره وكل منهم يلتمس العذر للصاحبه وإن خالفه ويقدر وجهة نظره، وما أوصلهم ذلك الاختلاف إلى الخصام أو تفسيه العقول أو الحط من مكانة المخالف أو الطعن فيه، بل كان كل منهم يثني على مخالفه ويمدحه بما فيه من خصال حميدة ومن علم واسع وفق دقيق.
قال الإمام الشافعي: (الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة) .
وقال الإمام الشافعي أيضاً: [مالك بن أنس معلمي وعنه أخذت العلم وإذا ذكر العلماء فمالك النجم] .(1/195)
وعن عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل قال: (قلت لأبي أي رجل كان الشافعي فإني أسمعك تكثر الدعاء له. فقال: كان الشافعي رحمه الله كالشمس للدنيا وكالعافية للناس فانظر هل لهذين من خلف أو عرض؟)
وقال الإمام الشافعي: [خرجت من بغداد فما خلفت بالعراق رجل أفضل ولا أعلم ولا أتقى من أحمد بن حنبل] . فانظر يا أخي المسلم إلى هذا الأدب الجم والخلق الرفيع الذي كان يتحلى به علماء الإسلام واقتبس منه قبساتهم واستضئ بنورهم (اولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) .
اتباع مذهب فقهي واحد
يقول السائل: هل المسلم ملزم باتباع مذهب فقهي من المذاهب العروفة اليوم كالمذاهب الأربعة؟
الجواب: إن المسلم غير ملزم باتباع مذهب فقهي كالمذهب الحنفي أو المالكي أو الشافعي أو الحنبلي لأننا نعلم أن هذه المذاهب حدثت بعد عهد الصحابة والتابعين وأتباعهم وما لا يكون ديناً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وتابعيهم لا يكون ديناً للناس بعد ذلك.
ولأننا نعلم أن أكثر الناس من العوام، والعوام لا مذهب لهم وإنما مذهبهم هو مذهب من يفتيهم، يقول الله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) .
ويقول العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه القيم أعلام الموقعين ما نصه (وهل يلزم العامي أن يتمذهب ببعض المذاهب المعروفة أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: لا يلزم وهو الصواب المقطوع به. إذا لا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله ولم يوجب الله ولا رسوله على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة فيقلده دينه دون غيره وقد انطوت القرون(1/196)
الفاضلة مبرأة مبرأٌ أهلها من هذه النسبة بل لا يصلح للعامي مذهب ولو تمذهب به فالعامي لا مذهب له لأن المذهب إنما يكون لمن له نوع نظرٍ واستدلال ويكون بصيرأً بالمذاهب على حسبه أو لمن قرأ كتاباً في فروع ذلك المذهب وعرف فتاوى إمامه وأقواله.
وأما من لم يتأهل لذلك البته بل قال أنا شافعي أو حنبلي أو غير ذلك لم يصر كذلك بمجرد القول كما لو قال: أنا فقيهٌ أو نحوي أو كاتب لم يصر كذلك بمجرد قوله.
يوضحه أن القائل أنه شافعي أو حنفي أو مالكي يزعم أنه متبع لذلك الإمام سالك طريقه وهذا إنما يصح له إذا سلك سبيله في العلم والمعرفة والاستدلال.
فأما مع جهله وبعده جداً عن سيرة الإمام وعلمه وطريقه فكيف يصح له الانتساب إليه إلا بالدعوى المجردة والقول الفارغ من كل معنى؟
والعامي لا يتصور أن يصح له مذهب ولو تصور ذلك لم يلزمه ولا لغيره ولا يلزم أحد قط أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة بحيث يأخذ أقواله كلها ويدع أقوال غيره.
وهذه بدعةٌ قبيحة حدثت في الأمة لم يقل بها أحد من أئمة الإسلام وهم أعلى رتبة وأجل قدراً وأعلم بالله ورسوله من أن يلزموا الناس بذلك.
وأبعد منه قول من قال يلزمه أن يتمذهب بمذهب عالم من العلماء وأبعد منه قول من قال يلزمه أن يتمذهب بأحد المذاهب الأربعة. أعلام الموقعين 4/ 262.
ويضاف إلى ما قاله ابن القيم أن الأئمة الأربعة وغيرهم قد حذروا الناس من اتباعهم في كل ما قالوا وفي كل ما ذهبوا إليه.
ونقول هذا الذي يزعم أن على المسلم اتباع مذهب فقهيٍ أنه ملزم بأخذ أقوال ذلك المذهب وعدم الخروج عنها بأن هذا زعم باطل ترده أقوال الأئمة أصحاب المذاهب المعروفة، وإليك بعضها:
1. قال الإمام أبو حنيفة مخاطباً صاحبه أبا يوسف: [ويحك يا(1/197)
يعقوب لا تكمتب كل ما تسمع مني فإني أرى الرأي اليوم وأتركه غداً، وأرى الرأي غداً وأتركه بعد غد] .
2. قال الإمام مالك: [ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم] .
3. وقال الإمام الشافعي: [أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسوله صلى الله عليه وسلم لم يحل له أن يدعها لقول أحد] .
وإن مما يدل على فساد القول بإلزام المسلم بإتباع مذهب فقهي معين أن اتباع المذهب ليس أمراً هيناً ولا يتيسر لكل أحد من الناس بل يحتاج إلى فقه وعلم في أصول ذلك المذهب حتى يعرف الأسس والقواعد التي بني عليها المذهب.
يقول أبو حنيفة رحمه الله (لا يحل لأحدٍ أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه) وفي روايةٍ أخرى عنه (حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي) .
وبعد هذا القول الفصل من أبي حنيفة هل يستطيع عوام الناس الذين يزعمون أنهم على مذهب أبي حنيفة مثلاً أن يعرفوا لِمَ قال أبو حنيفة أن لمس المرأة لا ينقض الوضوء أو لِمَ يرى أن المأموم لا يقرأ خلف الإمام وغير ذلك من المسائل الفقهية.
إن إلزام المسلمين باتباع مذهب فقهي دعوى باطلة ومن نسج الخيال ويردها ويكذبها واقع المسلمين الذين عاشوا في العصور الثلاثة التي شهد لها الرسول صلى الله عليه وسلم بالخيرية وهي دعوى منكرة لا يوجد دليل شرعي على صحتها وما هي إلا إلزام للناس بما لم يلزمهم به الإسلام.
مفهوم العبادة في الإسلام
يقول السائل: ما معنى قوله تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ؟(1/198)
الجواب: إن مفهوم هذه الآية الكريمة من سورة الذاريات يخطيء كثير من المسلمين في فهمه على حقيقته فيظن كثير من الناس أن عبادة الله مقتصرة على الصلاة والصيام والزكاة والحج وبعض الذكار ويعتقدون أنهم بعملهم ذلك أقاموا الإسلام في حياتهم وهذا فهم ناقص لحقيقة العبادة في الإسلام.
فأصل العبادة في اللغة: الطاعة والخضوع والتذلل كما قال الجوهري وغيره.
أما مفهوم العبادة في الشرع فمفهوم واسع شامل يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالته القيمة العبودية: [العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث والمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة.
وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضى بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف من عذابه وأمثال ذلك هي من العبادة لله] العبودية ص 38.
من خلال هذا الفهم النير لمفهوم العبادة في الإسلام نعلم خطأ من يقصرون العبادة على بعض الجوانب الروحية من الإسلام فالهدف الذي خلق الإنسان من أجله هو عبادة الله وعبادة الله تشمل الدين كله وتشمل الحياة كلها، فالإنسان المسلم عليه أن يكون عبداً لله طوال حياته طوال ليله ونهاره وطوال الشهور والسنوات وليست العبادة هي تلك التي تؤدى في أوقات محددة لا تستغرق إلا وقتاً يسيراً في حياة الإنسان فالمسلم يستمر في عبادة الله حتى يفارق هذه الدنيا. يقول الله تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) .(1/199)
إن المفهوم الحق للعبادة الذي أشرت إليه ينسجم مع النظرة الواعية في فهم الإسلام فهماً صحيحاً قائماً على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومبنياً على فهم السلف الصالح لهذا الدين بعمومه وشموله وأنه يغطي جميع جوانب الحياة وليس قاصراً على جانب واحد منها مع إهمال الجوانب الأخرى.
إن من يظن أن مجرد الصلاة والصيام والحج وبعض الذكار هي الدين كله وهي العبادة كلها لاشك أن مخطئ خطأً شنيعاً في تصوره لحقيقة الدين وفهمه لحقيقة العبادة.
لا شك أن الصلاة والصيام والحج من أعظم الشعائر ومن أركان الإسلام ولكنها تبقى جزءاً من هذا البناء العظيم ومن هذا النظام الشامل لجميع نواحي الحياة، حتى الأمور التي يظنها كثير من الناس أنها من الأمور البسيطة وقد يعتبرها بعضهم لا علاقة للدين بها كقضاء الشهوة كما في قوله صلى الله عليه وسلم لبعض الصحابة: (وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر. قالوا: نعم. قال: كذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) رواه مسلم. فانظر أخي المسلم إلى هذه الشهوة الغريزية كيف تكون عبادة لله تعالى إذا نوى المسلم أن يعف نفسه وأن يحصن زوجه فعمله يكون عبادة لله تعالى له الأجر والثواب وهذا الأمر قد يعتبره بعض الناس تافهاً فما بالك بالأمور الأخرى؟
وفي الحقيقة إن شرح مفهوم العبادة في الإسلام لا يسعه هذا المقام الضيق فيحتاج إلى رسائل ومؤلفات ولكن لا بد من التأكيد على أن مفهوم العبادة في الإسلام مفهوم واسع شامل لكل نواحي الحياة وأن كل عمل يصدر عن المسلم يمكن أن يكون عبادة إذا توفرت فيه بعض الشروط.
أولها: أن يكون العمل خالصاً لله تعالى فإذا قصد العامل أن يغني أسرته وينفع الناس فعمله عبادة.
ثانيها: أن يكون العمل ضمن حدود الشرع فلا يجوز للمسلم أن(1/200)
يعمل فيما حرم الله فينبغي ان يكون على حسب ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثالثها: أن يكون عمله غير شاغل له عن القيام بما أوجب الله عليه، فإذا تحققت هذه الشروط كان العمل عبادة لله تعالى.
الخلافة الراشدة
يقول السائل: يتحدث الناس عن الخلافة الراشدة في آخر الزمان ويدعون الله أن تأتي فهل هذا صحيح وإن كان كذلك فمن هو المهدي المنتظر؟
الجواب: إن الخلافة الراشدة ستكون إن شاء الله وقد أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكاً جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت) رواه أحمد والبزار والطبراني وصححه الحافظ العراقي والشيخ الأباني وغيرهما.
وهذا الحديث يبشر بقيام خلافة على منهاج النبوة ولكنه لم يحدد زماناً بعينه لذلك وهذه الخلافة الراشدة غير التي تكون في زمن المهدي المنتظر - والله أعلم - لأن ظهور المهدي المنتظر من علامات الساعة أو قربها ويكون حكمه قبيل نزول عيسى عليه الصلاة والسلام كما ثبت ذلك في أحاديث كثيرة.
وأما الخلافة الراشدة فأظن أن زمانها قد قرب لأن العالم الإسلامي يعيش في زمن الملك الجبري في هذه الأيام كما قاله بعض أهل العلم.(1/201)
وينبغي أن يعلم أن الاعتقاد بظهور المهدي المنتظر هو جزء من عقيدة المسلم وقد دلت على ذلك أحاديث كثيرة وردت عن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغت حد التواتر كما قال المحققون من أهل الحديث.
قال الإمام الشوكاني: [والأحاديث الواردة في المهدي التي أمكن الوقوف عليها منها خمسون حديثاً فيها الصحيح والحسن والضعيف والمنجبر وهي متواترة بلا شك ولا شبهة بل يصدق وصف التواتر على ما هو دونها على جميع الاصطلاحات المحررة في الأصول وأما الآثار عن الصحابة المصرحة بالمهدي فهي كثيرة أيضاً لها حكم الرفع إذ لا مجال للاجتهاد في مثل ذلك ... ] .
وقال السفاريني في عقيدته المسماة لوامع الأنوار البهية " الإيمان بالمهدي من جملة عقيدة أهل السنة والجماعة.. ".
وقال في موضع آخر: " وقد كثرت الأقوال في المهدي إلا عيسى عليه السلام وقد كثرت بخروجه الروايات حتى بلغت حد التواتر المعنوي ... ".
والأحاديث الواردة في المهدي نقلت عن أكثر من عشرين من الصحابة رضي الله عنهم وقد احتج بها أهل الحديث وقبلوها وذكر صاحب كتاب (عقد الدرر في أخبار المهدي المنتظر) أكثر من خمسين من علماء الحديث الذين رووا تلك الأحاديث واحتجوا بها فلا مجال لإنكارها.
وبعد هذا أقول لا بد من التنبيه على بعض الأمور المتعلقة بالمهدي:
1. أن المهدي رجل يعود نسبه إلى آل البيت رضي الله عنهم ويحكم بشرع الله كما وردت بذلك الأحاديث، قال الإمام أبو الحسن السجستاني: " وقد تواترت الأخبار واستفاضت عن رسول الله بذكر المهدي وأنه من أهل بيته وأنه يملك سبع سنين وأنه يملأ الأرض عدلاً ".
2. إن المهدي الذي يعتقد به أهل السنة والجماعة هو غير المهدي المنتظر عند الشيعة الإمامية فالشيعة يعتقون أن المهدي هو محمد بن(1/202)
الحسن العسكري الذي دخل السرداب وعمره تسع سنين وذلك سنة (265 هـ) وهم ينتظرون خروجه وهذه عقيدة باطلة فاسدة وخرافة لا حقيقة لها.
3. لا يصح الاعتقاد بأنه لن تقوم للإسلام قائمة ولا دولة إلا بظهور المهدي المنتظر ولا يجوز للمسلمين ترك العمل لقيام دولة الإسلام اعتماداً على ظهور المهدي فهذا أمر باطل.
قال الشيخ الألباني حفظه الله: واعلم أخي المسلم أن كثيراً من المسلمين قد انحرفوا عن الصواب في هذا الموضوع فمنهم من استقر في نفسه أن دولة الإسلام لن تقوم إلا بخروج المهدي وهذه خرافة وضلال ألقاها الشيطان في قلوب كثير من العامة وبخاصة الصوفية منهم وليس في شيء من أحاديث المهدي ما يشعر بذلك مطلقاً بل هي كلها لا تخرج عن أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر برجل من أهل بيته ووصفه بصفات بارزة من أهمها أنه يحكم بالإسلام وينشر العدل بين الأنام فهو في الحقيقة من المجددين الذين يبعثهم الله في رأس كل مائة سنة كما صح عنه صلى الله عليه وسلم.
حديث الصيحة المكذوب
يقول السائل: ما مدى صحة الحديث الذي يتناقله كثير من الناس في هذه الأيام حول حدوث صيحة في شهر رمضان وبالذات ليلة الجمعة الموافقة للنصف من رمضان هذا العام 1414 هـ؟
الجواب: إن الحديث الوارد في هذا وهو عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كانت صيحة في رمضان فإنه تكون معمعة في شوال وتميز القبائل في ذي القعدة وتسفك الدماء في ذي الحجة والمحرم.. قال: قلنا: وما الصيحة يا سول الله؟ قال: هذه في النصف من رمضان ليلة الجمعة من سنة كثيرة الزلازل فإذا صليتم الفجر من يوم الجمعة فادخلوا بيوتكم وأغلقوا أبوابكم وسدوا كواكم ودثروا أنفسكم وسدوا آذنكم إذا أحسستم بالصيحة فخروا لله سجداً وقولوا سبحان الله القدوس، سبحان الله القدوس،(1/203)
ربنا القدوس فمن يفعل ذلمك نجا، ومن لم يفعل ذلك هلك) رواه نعيم بن حماد في كتاب الفتن بسند ضعيف فيه محمد بن ثابت البناني قال فيه الحافظ بن حجر ضعيف وفيه ايضاً الحارث بن عبد الله الأعور الهمداني، قال فيه الحافظ ايضاً: كذبه الشعبي في رأيه ورمي بالرفض وفي حديثه ضعف.
وهذا الحديث ذكره صاحب كنز العمال وأشار إلى أن الحديث رواه نعيم وهذا الحديث على كل حال ضعيف ولا تقوم الحجة به.
وقد وردت روايات أخرى ضعيفة كرواية أبي أمامة عن الصيحة التي تكون في النصف من رمضان.. ذكره ابن الجوزي في الموضوعات وقال بعد أن ساقها بإسناده " هذا حديث لا يصح.. قال العقيلي وهو متروك الحديث - يعني أحد رواته - وقال ابن حبان كان يسرق الحديث ولايحل الاحتجاج به وقال الدارقطني منكر الحديث.. الخ ".
وأما رواية الحاكم التي أشرت إليها فقد قال الذهبي عنها (ذا موضوع - أي مكذوب- ومسلمة ساقط متروك) وذكره ابن الجوزي في الموضوعات أيضاً.
وبهذا يظهر لنا أن الأحاديث لا تثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى الناس أن يحذروا من نشر الأحاديث الساقطة وإنما عليهم الرجرع إلى ما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
حكم تعليق الصور في المسجد
يقول السائل: هل يجوز تعليق الصور في المساجد خاصة أنه يكثر في أيامنا هذه تعليق صور الشهداء في المساجد؟
الجواب: إن مكان الصلاة سواء كان البيت أو المسجد يجب أن يكون خالياً من كل ما يشغل المصلي عن صلاته ويشوش عليه ويخل(1/204)
بخشوعه في صلاته سواء كان ذلك صوراً أو زخرفة أو غير ذلك.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول (لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي) رواه أبو داود بسند صحيح كما قال الشيخ الألباني.
وورد في الحديث عن عائشة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة (نوع من الثياب) لها أعلام فنظر إلى أعلامها نظرة فلما انصرف قال:
اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم ... فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي) رواه البخاري ومسلم.
وفي روايةٍ أخرى قال عليه الصلاة والسلام: (كنت أنظر إلى علمها وأنا في الصلاة فأخاف أن تفتنني) رواه البخاري.
وعن أنس قال كان قرام (ستر رقيق من صوف ذو ألوان) لعائشة سترت به جانب بيتها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أميطي عني قرامك فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي) رواه البخاري.
وبناءً على ذلك فإني أرى أنه لا يجوز تعليق الصور مهما كانت في قبلة المسجد وكذلك تعليق اللوحات سواء كانت لوحات قرآنية أو مجلات حائط أو نحوها في قبلة المسجد وأمام المصلين لأنها بالتأكيد تشغلهم عن صلاتهم وينبغي بشكل عام تنزيه المسجد عن مثل هذه الأمور فالمساجد ليست معارض ولا متاحف لتعليق الصور أو اللوحات الفنية أو الزخرفات المختلفة.
وقد قام بعض الناس بكتابة آيات القرآن الكريم على شكل انسان وهو ساجد وهذا من التلاعب بكتاب الله الكريم فالقرآن لم ينزل لهذا.
وكذلك يجب تنزيه المساجد عن كل ما يشوش على المصلين والذاكرين مثل إقامة الاحتفالات التي تكون مصحوبة بفرق الإنشاد مع ضرب الدفوف أو فرق الكشافة المصحوبة بالطبول والأجراس لأن هذا يشكل إساءة بالغة ومخالفة واضحة لمنهج الإسلام.(1/205)
التوبة من السرقة
يقول السائل: سرقت مالاً من شخص آخر ثم تبت ورجعت إلى الله، وأريد أن أعيد المال المسروق إلى صاحبه ولكني أخشى الخزي ولعار، فهل يجوز أن أتصدق بذلك المال وتكون تلك الصدقة عن صاحب المال؟
الجواب: إن التوبة الصادقة لا بد لها من شروط أربعة وهي:
1. الإقلاع عن المعصية.
2. الندم على ما فات.
3. العزم على عدم العود إلى المعصية.
4. إعادة الحقوق لأصحابها إذا كانت المعصية تتعلق بحق آدمي كما في السؤال فيجب عليك أن تعيد الأموال المسروقة إلى أصحابها إن كنت تعرفهم ولا تبرأ ذمتك بغير ذلك ولا يجوز لك أن تتصدق بذك المال لأنك لا تملكه ولأنك لم توكل بالتصدق عنهم حيث أخذته بغير حق والرسول صلى الله عليه وسلم يقول (لا يحل مال امرئٍ مسلم إلا عن طيب نفسٍ) رواه أحمد والبيهقي وابن حبان وهو حديثٌ صحيح.
وأما إذا كان عن أصحاب المال غير معروفين لك فإن تصدقت بذلك المال عنهم فأرجو أن تبرأ ذمتك منه إن شاء الله.
حديث (صنفان من أمتي إذا صلحا)
يقول السائل: يدور على ألسنة كثيرٍ من الخطباء والوعاظ الحديث (صنفان من أمتي إذا صلحا صلح الناس، الأمراء والعلماء) فهل هذا الحديث ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب: قال الشيخ المحدث ناصر الدين الألباني حفظه الله تعالى عن هذا الحديث: [إنه موضوع، أي مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال(1/206)
أخرجه تمام في الفوائد (238/1) وأبو نعيم في الحلية (4/ 96) وابن عبد البر في (جامع بيان العلم) 1/ 184. من طريق محمد بن زياد اليشكري عن ميمون بن مهران عن ابن عباس مرفوعاً وهذا سند موضوع محمد بن زياد هذا قال أحمد: (كذاب أعور يضع الحديث) وقال ابن معين والدارقطني (كذاب) وكذبه أبو زرعه وغيره. الحديث مما أورده السيوطي في الجامع خلافاً لشرطه: وأورده الغزالي في الأحياء (1/ 6) جازماً بنسبته إليه صلى الله عليه وسلم وقال مخرجه الحافظ العراقي بعد أن عزاه لابن عبد البر وأبي نعيم (سنده ضعيف) ولا منافاة بين قول الحافظ هذا وبين حكمنا عليه بالوضع إذ أن الموضوع من أنواع الحديث الضعيف كما هو مقرر في علم الأصول] .
حديث (جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم)
يقول السائل: ما مدى صحة الحديث (جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم) ؟
الجواب: إن هذا الحديث ضعيف عند أهل الحديث، قل البزار: لا أصل له وكذلك قال عبد الحق الإشبيلي، وممن ضعفه الحافظ ابن حجر وابن الجوزي والمنذري والهيثمي وغيرهم.
وظن عامة الناس أن هذا الحديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلهم يطردون الأطفال من المساجد وينكرون على من يحضرهم إلى المساجد وهذا موقف غير صحيح. والحق أن الإسلام اعتنى بالأطفال، وأمر الآباء والأولياء بأن يأمروا أبنائهم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين. وإن المكان الصحيح لتعليمهم الصلاة وغيرها من أحكام الشرع هو المسجد. ولقد كان الأطفال يحضرون إلى المسجد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وكان عليه الصلاة والسلام يخفف الصلاة ويقصرها عندما يسمع بكاء طفل في المسجد بل إنه عليه الصلاة والسلام قطع خطبته وحمل الحسن والحسين، لما دخلا المسجد فرآهما يعثران في ملابسهما فحملهما.
فعلينا أن نقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم وأن نعود أطفالنا على ارتياد المساجد(1/207)
بدلاً من بقائهم في الأزقة والحارات عرضة لفساد الأخلاق وسوء الرفاق.
المزروعات المروية بماء نجس
يقول السائل: ما حكم الزروع والثمار التي تسقى بماء نجس أو التي تنبت في مكان نجس؟
الجواب: إن هذه الزروع والثمار ليست نجسة العين ولكن إذا أصابتها النجاسة فهي نجسة ويجب تطهيرها قبل استعمالها فإذا غسلت فقد طهرت.
وأما إذا لم تصبها النجاسة مباشرة فهي طاهر قطعاًُ ولا حاجة لغسلها وإن نبتت في مكان نجس أو سقيت بماء نجس. وإن المسلمين قد توارثوا استخدام الزبل الطبيعي في تسميد مزروعاتهم وهو نجس عند كثير من الفقهاء ولكنهم لم يقولوا بنجاسة الثمار والمزروعات التي تنبت عليه. قال الإمام النووي رحمه الله: [الزرع النابت على السرجين (الزبل الطبيعي) قال الأصحاب ليس هو نجس العين لكن ينجس بملاقات النجاسة نجاسة مجاورة وإذا غسل طهر. وإذا سنبل فحباته طاهرة قطعاً ولا حاجة لغسلها وهكذا القثاء والخيار وشبههما يكون طاهراً ولا حاجة لغسله.. وكذا الشجرة إذا سقيت ماء نجساً فأغصانها وأوراقها وثمارها طاهرة] المجموع 2 / 573.
الوقف في قراءة القرآن
يقول السائل: سمعت قارئاً من قراء القرآن الكريم يتلو قوله تعالى: (طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى) وقف على قوله تعالى (عَلَيْكَ) أي أنه قرأ الآية هكذا (طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ) وقرأ الآية الأخرى من نفس السورة هكذا (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) فوقف على لفظ الجلالة ومد بها صوته فما حكم قراءته وهل يجوز ذلك؟(1/208)
الجواب: إن قراءة القرآن الكريم لها أصولها المعروفة عند العلماء ولها آداب خاصة قررها أهل العلم وما فعله القارئ المذكور من وقوف على لفظ (عَلَيْكَ) في الآية الأولى إن لم يكن وقفه ضرورياً فهو تلاعب في كتاب الله وسوء أدب مع كلام الله سبحانه وتعالى، لأن وقوفه على لفظ عليك وقف قبيح يخل بالمعنى فإنه ينفي أن الله سبحانه وتعالى أنزل على عبده شيئاً وهذا كذب صراح.
وأما ما فعله في الآية الأخرى فهو وقف قبيح ايضاً لأنه يغير المعنى، ونحن نعلم أن كثيراً من القراء يقصدون الوقوف على لفظ الجلالة أينما ورد ويمدون به أصواتهم ليستثيروا مشاعر السامعين فتسمع جمهور الحاضرين يرددون وراء القارئ لفظ الجلالة (الله - الله - الله) أو يطلقون عبارات المدح والثناء على القارئ كقولهم (الله يفتح عليك) ونحو ذلك ولا يلقون بالاً للتفكر بالآيات القرآنية ولا يتدبرون معانيها.
ومن العجب أن يقرأ القارئ آيات تصف تعذيب الكافرين في جهنم والمستمعون يرددون (الله - الله - الله) عوضاً عن اتعاظهم واستعاذتهم بالله العظيم من نار جهنم. وينبغي أن يعلم أن لقراءة القرآن الكريم آداباً كثيرة لا يلتزم بها أكثر القراء وسأشير إلى بعضها باختصار:
أولاً: القراءة مع التدبر وتفهم المعاني يقول الله تعالى:
(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ) ويقول جل جلاله: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا) .
ثانياً: اجتناب الكلام واللغط والضحك خلال القراءة إلا كلاماً يضطر إليه، يقول سبحانه وتعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) .
وقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أنه كان إذا قرئ القرآن لا يتكلم حتى يفرغ منه) .
ومن الأمور المنكرة التي يفعلها بعض القراء أنهم أثناء قرائتهم لآية والانتهاء منها يتحدثون مع من حولهم ثم يتلون الآية التي بعدها وهكذا شأنهم.(1/209)
ثالثاً: قال الإمام النووي: (وينبغي أن يرتل قراءته وقد اتفق العماء رضي الله عنهم على استحباب الترتيل. قال تعالى: (وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلًا) .
وثبت عن أم سلمة رضي الله عنها أنها: (نعتت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة مفسرة حرفاً حرفاً) رواه ابو داود والنسائي والترمذي وقال الترمذي حديث صحيح، التبيان في آداب حملة القرآن ص 46 - 47.
فقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ترتيلاً يقف على رؤوس الآيات لا كما يفعله كثير من القراء الذين يقرأون الآيات الكثيرة بنفس واحد حتى يمدحوا ويسمعوا عبارات الثناء والتعظيم.
رابعاً: وهذا من الأمور التي يجب أن تكون معلومة، إن على القارئ الالتزام بأحكام التلاوة والتجويد وهو علم قائم بذاته ولكن لا بد من الإشارة إلى مسألة مهمة منه لارتباطها الوثيق بالسؤال ألا وهي مسألة الوقف والابتداء.
لا بد للقارئ أن يكون على علم بهذه المسألة لأهميتها، قال بعض علماء التلاوة والتجويد: (تعلم الوقف ومواضعه شطر علم التجويد) وقال الهذلي: [الوقف حلية التلاوة وزينة لاقارئ وبلاغ التالي وفهم المستمع ... ] .
فعلى القارئ أن يتدبر معاني القرآن الكريم حتى يعرف الأماكن التي يجوز فيها الوقف وينبغي أن يعلم أن المعنى والتدبر هو الأصل واللفظ تابع له.
فالوقف إذا كان على ما يؤدي معنى صحيحاً فهو وقف تام وحسن وإذا وقف على ما لا يؤدي معنى صحيحاً فهو وقف قبيح كما في المثالين المذكورين في السؤال.
ومثله الوقف على لفظ بينهما، قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ) ومثله الوقف على لفظ يستحيي، في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) ومثله(1/210)
الوقف على لفظ (فَأَكَلَهُ) في قوله تعالى: (وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) ومثله الوقف على لفظ (أَرْسَلْنَاكَ) في قوله تعالى: (فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) فهذه الوقوف وأمثالها واضحة الفساد وتؤدي إلى اختلال المعنى فكل من تعمد الوقوف على هذه المواضع وأمثالها مع علمه بالمنع فقد أثم واعتدى وجهل وافترى وإذا كان معانداً فقد يكفر والعياذ بالله.
الانحناء عند المصافحة
يقول السائل: نلاحظ أن بعض الناس عندما يصافحون غيرهم يحنون رؤوسهم فما حكم ذلك؟
الجواب: إن حني الظهر أو الرأس من مظاهر الإذلال والخنوع، والإسلام يرفض ذلك.
وقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما ورد في حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رجل يا رسول الله: الرجل منا يلقى أخاه او صديقه أينحني له؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لا) رواه الترمذي وابن ماجة وقال الترمذي حديث حسن.
وهذا الحديث واضح الدلالة على عدم جواز حني الظهر، ومنهج الإسلام في هذا الموضع هو طرح السلام والمصافحة دون حني الظهر أو الرأس مهما كانت منزلة الشخص المقابل.
الاحتفال بأعياد الميلاد حرام شرعاً
يقول السائل: ما ملخصه، ما قولكم في الظاهرة المنتشرة في مجتمعنا وهي احتفال كثير من الناس بأعياد ميلادهم أو أعياد ميلاد أولادهم؟(1/211)
الجواب: إن الأمة الإسلامية لها شخصيتها المتميزة ولها أفكارها ومبادؤها المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولكن للأسف فإن الأمة الإسلامية تخلت عن شخصيتها وأفكارها ومبادئها واستعارت أموراً كثيرة من غيرها من الأمم غير المسلمة وأولع كثير من المسلمين بتقليد غيرهم فوفدت على ديارنا كثير من العادات والتقاليد من غير المسلمين والتي لا تتفق مع الإسلام ومن ضمن هذه الأمور الوافدة الاحتفال بأعياد الميلاد على مختلف المستويات فهذا الأمر تقليد لغير المسلمين فإن الإسلام في أيامه الناصعة المضيئة ما عرف مثل هذه البدع المستوردة.
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قدوتنا وأسوتنا ما نقل عنه انه احتفل بعيد ميلاده وها هم الصحابة الأجلاء رضي الله عنهم ما عرف عنهم ذلك وهؤلاء هم الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم الخ) حديث صحيح.
وعلى هذا فإن الاحتفال بعيد الميلاد بدعة ولا يجوز القيام به لقوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) .
والاحتفال بأعياد الميلاد تشبه بغير المسلمين وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم) رواه أبو داود وهو حديث صحيح.
حكم الوقوف تحية للشهداء
يقول السائل: ما هو الحكم الشرعي في الوقوف دقيقة أو دقائق مع الصمت التام تحية للشهداء؟
الجواب: إن الأمة الإسلامية أمة متميزة عن غيرها من الأمم بثقافتها ومنهجها في حياتها كلها. فالإسلام له نهجه الخاص في تكريم الشهداء واحترامهم وتقديرهم يقول سبحانه وتعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) .
وقد حث الإسلام على الدعاء للأموات والتصدق عنهم وذكر محاسنهم(1/212)
والإمساك عن مساوئهم. ولم يرد في الشرع ما يجيز الوقوف حداداً على أرواحهم بل هذا أمر محدث نقله المقلدون عن غير المسلمين وإن مما يؤسف له أن كثيراً المسلمين في هذه الأزمان المتأخرة أصبحوا مولعين بتقليد غير المسلمين والتشبه بهم واعتبر هذا التقليد من التقدم والحضارة عند هؤلاء الذين خدعهم سراب الحضارة الغربية وأعمى أبصارهم وطمس على بصائرهم واعتقدوا أن التمسك بالآداب الإسلامية تخلف ورجعية وصاروا يجارون غير المسلمين بمثل هذه الأمور وصدق فيهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم) رواه البخاري ومسلم.
فليس من منهج الإسلام الوقوف حداداً لأرواح الشهداء أو لما يعرف بالسلام الوطني فكل ذلك من الأمور المبتدعة التي لا يقبلها الإسلام ولا يقرها وإن اعتادها كثير من الناس. وينبغي أن يعلم أن فعل كثير من الناس لها لا يجعلها جائزة شرعاً لأن المقياس في الشريعة الإسلامية هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما بني عليها.
ولله در الفضيل بن عياض وهو من كبار العباد الزهاد عندما قال: [اتبع طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين وإياك وطريق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين] .
الحلف بالشرف غير جائز
يقول السائل: إن كثيراً من الناس اعتادوا الحلف بشرفهم او بحياتهم فهل يجوز ذلك؟ وماذا يترتب عليه؟
الجواب: إن الحلف أو القسم المشروع لا يكون إلا بالله سبحانه وتعالى أو باسم من أسمائه أو صفة من صفاته وما عدا ذلك لا يجوز الحلف به.(1/213)
وقد علل أهل العلم عدم جواز الحلف إلا بالله لأن الحلف يقتضي تعظيم المحلوف به والعظمة إنما هي لله وحده فلا يحلف إلا بالله وأسمائه وصفاته.
فالحلف بغيرالله حرام سوء الحلف بالشرف أو الحياة أو الأب أو الحرم أو حياة الملك أو حياة الرئيس أو الكعبة أو بالصلاة أو الصيام أو المسجد وغيرهما والأدلة على ذلك كثيرة منها:
1. قوله عليه الصلاة والسلام: (من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله) رواه مسلم، فهذا الحديث يدل دلالة صريحة على قصر الحلف بالله فقط.
2. وعن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع عمر بن الخطاب وهو يحلف بأبيه فقال: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) رواه البخاري ومسلم.
3. وعن ابن عمر أيضاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف بغير الله فقد كفر) وفي روايةٍ أخرى (فقد أشرك) رواه أبو داود والترمذي وقال حسن، والحاكم وصححه، وأحمد وغيرهم.
وبهذا يظهر لنا أن الحلف بغير الله تعالى لا يجوز وقد قال ابن عبد البر رحمه الله: [لا يجوز الحلف بغير الله بالإجماع] فما حلف به هذا الشخص لا يعتبر يميناً ولا يجب عليه الوفاء بما حلف ولا تلزمه كفارة إذا حنث بذلك، وعليه أن يتوب لله تعالى ويستغفره وعليه ألا يعود للحلف بذلك.
مشاهدة الأفلام الإباحية حرام شرعاً
يقول السائل: ما حكم مشاهدة الأفلام الإباحية(1/214)
والصور العارية؟
الجواب: إن الإسلام يحارب الفساد والإنحلال بمختلف ألوانه وأشكاله ويقطع كل الطرق التي تؤدي إليه ولا شك أن الأفلام الإباحية والصور العارية مظهر من مظاهر الإنحلال والفساد وأنها من الوسائل المؤدية إليه لذلك لا شك لدي في حرمة مشاهدة الأفلام الإباحية والصور الخليعة لأن للوسائل أحكام المقاصد كما قرر فقهاء الإسلام.
قال العز بن عبد السلام: [للوسائل أحكام المقاصد فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل] .
ومن المعروف عند العقلاء أن مشاهدة الأفلام الجنسية والصور الخليعة وسيلة من وسائل انتشار الفساد الخلقي والإنحلال وانتشار الموبقات وقد تؤدي إلى الزنا واللواط واستعمال العادة السرية فما أدى إلى الحرام فهو حرام وقد سمعنا وقرأنا عن حوادث كثيرة كان سببها مشاهدة تلك الأفلام الساقطة والصور الخليعة كالزنا واللواط وغير ذلك من المفاسد الأخلاقية.
وانظر يا أخي إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها) رواه البخاري.
ومعنى الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم ينهى المرأة أن ترى إمرأة أخرى وهي عارية وبعد ذلك تقوم بوصفها لزوجها فتجعله يفتتن بالمرأة الموصوفة.
ومن المعلوم أن هذا الوصف يجعل الزوج يتخيل تلك المرأة بصفاتها التي نقلت إليه من زوجته ومع أن الأمر يتعلق بالخيال فقط فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنه فما بالك بمشاهدة الأفلام الجنسية حيث الصوت والصورة فهذا يؤدي إلى مفسدة أعظم من مجرد التفكير بامرأة وصفت له.
قال الشيخ علي بن الحسن الحموي الشافعي رحمه الله معلقاً على الحديث السابق [ ... فصلى الله وسلم على منقذ العباد من الردى نبي الرحمة والهدى، تالله لقد صدق لأن الرجل الأجنبي إذا سمع وصف امرأة أجنبية تشكلت في قلبه وانطبعت في مرآة نفسه ويوحي الشيطان لعنه الله له عند ذلك كلاماً من غروره وأمانيه ويحول بينه وبين تقوى الله ومراضيه وتخطر له هنالك خواطر قبيحة وهواجس ذميمة فتارة بالزنا والفحشاء ... ] أحكام النظر ص 58 - 59.(1/215)
وكل هذا يحدث نتيجة التفكير في امرأة وإن ما ينتج عن مشاهدة الأفلام الجنسية لهو أعظم وأخطر بكثير مما وصف الشيخ المذكور رحمه الله.
ولا أظن أن مسلماً تقياً يعرف مقاصد الشرع الشريف يقول بجواز ذلك هذا إذا أضفنا إلى ما تقدم أن إعداد الأفلام الجنسية والصور العارية حرام لأن فيها انتهاكاً للمحرمات والنظر إلى ما حرم الله كما أن نشر تلك الأفلام حرام أيضاً وطبع تلك الصور حرام أيضاً وترويج ذلك ونشره حرام أيضاً فالقضية كلها تدور ضمن دائرة التحريم.
استعمال الصحون اللاقطة
يقول السائل: ما حكم استعمال الصحون التي تلتقط بث برامج التليفزيون عبر الأقمار الصناعية؟
الجواب: إن الصحون المشار إليها في السؤال كغيرها من الأدوات مثل التلفزيون والفيديو والمسجل والراديو، لا حكم لها في ذاتها وإنما الحكم في استعمالها فهي أدوات قد تستعمل في الخير وفي الشر ولكن هذه الأدوات وأمثالها من وسائل الإعلام صار شرها أكثر من خيرها وضررها أكثر من نفعها، ولا يستطيع كثير من الناس ضبط استعمالها في بيوتهم فمثلاً إن ما يعرف بالصحون اللاقطة لبرامج التلفزيون تستعمل استعمالاً سيئاً فأكثر البرامج التي تبث عليها برامج فساد وأفلام جنسية ساقطة وأفلام بوليسية تنشر الفحشاء والمنكر وتشجع الإجرام وصارت من معاول هدم الأخلاق ومحاربة الفضيلة.
ولو سألت من عندهم مثل هذه الأجهزة لأخبروك عن البرامج الرهيبة التي تلتقط فبعض تلك المحطات مخصصة لبث الأفلام الجنسية باستمرار وبعضها لأفلام الإجرام والقتل وغير ذلك من المصائب.
وهذه وتلك تترك آثاراً سيئة على المشاهدين عامة والشباب خاصةً وقد(1/216)
سمعنا عن بعض المآسي التي تحدث نتيجة لمشاهدة الأفلام الساقطة.
وبناء على مفاسد هذه الأجهزة فإن المرء المسلم عليه أن يحتاط لدينه ويحافظ على أهله وأولاده أمام هذه الهجمة الشرسة ويمتنع عن إدخالها إلى بيته لأنه إن فعل ذلك يكون كمن وضع السم في الدسم وعرض نفسه وأهله وأولاده للفساد والإفساد ولا يزعم أحد أنه يستطيع أن يراقب استعمال هذه الصحون في بيته فإن ذلك يكاد يكون مستحيلاً.
وعلى الآباء أن يتقوا الله في أولادهم وأسرهم فإن المسؤولية الأولى تقع على عاتقهم، فقد قال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) .
الأضحية وشروطها
يقول السائل: ما حكم الأَضحية وماذا يجب أن يتوفر فيها وما وقت ذبحها وكيف توزع؟
الجواب: الأضحية: هي ما يذبح من الأنعام تقرباً إلى الله تعالى يوم النحر وأيام التشريق ...
وهي سنة مؤكدة عند جماهير أهل العلم وهي مشروعة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلاً وقولاً فقد ثبت في الحديث عن أنس رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم (ضحى بكبشين أقرنين أملحين وكان يسمّي ويكبر) رواه البخاري ومسلم والأملح: هو النقي البياض.
وعن عائشة رضي الله عنها: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بكبش أقرن يطأ في سواد ويبرك في سواد وينظر في سواد فأتي به ليضحي به فقال لها يا عائشة هلمي المدية ثم قال: اشحذيها بحجر ففعلت ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه ثم قال: باسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد) رواه مسلم.(1/217)
وعن البراء بن عازب قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم النحر فقال: (لا يضحين أحد حتى يصلي فقال رجل: عندي عناق لبن هي خير من شاتي لحم قال: فضحِ بها ولا تجزئ جذعة عن أحد بعدك) رواه مسلم.
والأضحية قربة يتقرب بها العبد إلى ربه إحياء لذكرى إبراهيم عليه الصلاة والسلام عندما رأى في المنام أنه يذبح ولده إسماعيل حيث فداه الله بذبح عظيم كما في أيات سورة الصافات (فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى ... ) إلى قوله تعالى: (وفديناه بذبح عظيم) .
وبما أنها قربة إلى الله تعالى فيجب أن تطيب بها نفس المضحي وأن تكون سمينة طيبة خالية من العيوب التي تنقص من قيمتها وقدرها ففي الحديث عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال: أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين ضلعها والكبيرة التي لا تنقي) رواه أصحاب السنن وهو حديثٌ صحيح.
ويقاس على هذه العيوب المذكورة في الحديث ما لم يذكر من العيوب الأشد فلا يضحى بالعمياء ولا الكبيرة ولا بالكسيرة ونحو ذلك.
ومن الشروط التي يجب توفرها في الأضحية أن تبلغ سناً معينة حددها الشارع الحكيم ففي الإبل إتمام خمس سنوات من عمرها وفي البقر إتمام سنتين من عمرها وفي الغنم إتمام سنة من عمرها.
وأجاز بعض أهل العلم في الضأن ما أتم أكثر السنة كثمانية أشهر إذا كان سميناً يخفى بين ما أتم السنة من الضأن.
ووقت ذبح الأضحية يبدأ بعد الإنتهاء من صلاة العيد ويستمر حتى مغيب شمس اليوم الثالث من أيام التشريق على الراجح من أقوال أهل العلم، أي أن مدة الذبح أربعة أيام، يوم العيد وأيام التشريق الثلاثة.
ولا يجوز ذبح الأضحية قبل صلاة العيد فإن ذبح قبل صلاة العيد فلا تعتبر أضحية وإنما شاة لحم، كما جاء في الحديث عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أول ما نبدأ(1/218)
به في يومنا هذا نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ومن ذبح قبل ذلك فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء) رواه مسلم.
وأما توزيع الأضحية فقد استحب بعض أهل العلم أن توزع أثلاثاً ثلث للأكل والإدخار وثلث للتصدق به على الفقراء وثلث هدية للأقارب والأصدقاء ومن المستحب أن يأكل المضحي من أضحيته اقتداءً بالرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن الأمور المستحبة أيضاً أن يتولى المضحي ذبح أضحيته بنفسه إن كان يحسن الذبح وإلا وكل بذبحها غيره، ويستحب له أن يشهد ذبحها.
ويستحب أيضاً فيمن أراد أن يضحي أن لا يأخذ من شعره أو من أظافره شيئاً من بداية شهر ذي الحجة إلى أن يضحي لما ورد في الحديث عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظافره شيئاً حتى يضحي) رواه مسلم.
والحكمة من ذلك أن يكون المضحي في أكمل هيئته فيغفر له غفراناً تاماً.
ولا يجوز بيع أي شيء من الأضحية وكذلك لا يجوز إعطاء الجزار شيئاً منها على سبيل الأجرة.
ولا بأس بالتضحية عن الميت على الراجح من أقوال العلماء وأن الميت ينتفع بذلك إن شاء الله.
حكم العقيقة
يقول السائل: ما هي العقيقة؟ وما حكمها؟(1/219)
الجواب: العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود في اليوم السابع من ولادته شكراً لله تعالى على نعمة الولد ذكراً كان أو أنثى.
وهي سنة مؤكدة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ورد فيها أحاديث كثيرة منها:
1. عن سلمان بن عامر الضبي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مع الغلام عقيقة فأريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى) رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم.
2. عن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويسمى) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وقال الترمذي حسنٌ صحيح.
3. عن أم كرز الكعبية رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة) رواه أبو داود وأحمد والبيهقي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
4. عن عمرو بن شعيب أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من ولد له ولد فأحب أن ينسك عن ولده فليفعل عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة) رواه أبو داود والنسائي وأحمد وغيرهم وقال الألباني حسنٌ صحيح.
5. عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم عقَّ عن الحسن والحسين كبشين كبشين) رواه النسائي وهو صحيح كما قال الألباني.
وشرعت العقيقة شكراً لله تعالى على نعمة الولد فإنها من أعظم النعم والأولاد من زينة الحياة الدنيا، قال الله تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ، وفطر الله جل جلاله الإنسان على السرور والفرح والبهجة عند قدوم المولود فكان حرياً بالإنسان أن يشكر الله الخالق الواهب.
وقد ورد في الأثر عن الحسين رضي الله عنه في تهنئته من رزق مولوداً أن يقال له: (بارك الله لك في الموهوب وشكرت الواهب وبلغ أشده ورزقت بره) .
وكذلك فإن العقيقة فكاك المولود وفديته من تسلط الشيطان عليه.(1/220)
وفيها أيضاً نوع من التكافل الإجتماعي في الإسلام حيث إن الذي يعق عن ولده فيذبح عنه ويطعم الفقراء والأصدقاء والجيران أو يدعوهم إليها، فيسهم كل ذلك في إشاعة المودة والمحبة بين الناس ويخفف من معناة الفقراء والمحتاجين.
والعقيقة تشارك الأضحية في أكثر أحكامها عند جمهور الفقهاء فيشترط فيها أن تكون من الأنعام وهي الضأن والمعز والإبل والبقر ويشترط أن تكون سليمة من العيوب فلا يجزيء فيها العرجاء البين عرجها ولا العوراء البين عورها ولا المريضة البين مرضها ولا العجفاء الهزيلة فينبغي أن تكون سمينة طيبة فإن الله طييبٌ لا يقبل إلا طيباً.
كما يشترط فيها توافر الأسنان المطلوبة شرعاً كما هو الحال في الأضحية فينبغي أن تبلغ الشاة السنة من عمرها والبقرة السنتين والناقة الخمس سنين.
ويذبح عن الغلام شاتان وعن الأنثى شاة فإن ذبح شاة عن الغلام أجزأ وحصل أصل السنة.
ويتصرف في العقيقة كما يتصرف في الأضحية فتوزع أثلاثاً ثلث لأهل البيت وثلث للصدقة وثلث للهدية.
واستحب بعض العلماء أن لا يتصدق بلحمها نيئاً بل يطبخ ويتصدق به على الفقراء بإرساله مطبوخاً.
وفضل بعض العلماء دعوة الناس إلى العقيقة بعد طبخها، وقد ورد عن الإمام مالك رحمه الله أنه عق عن ولد له فوصف لنا كيف صنع بالعقيقة فقال:
[عققت عن ولدي وذبحت ما أريد أن أدعو إليه إخواني وغيرهم وهيأت طعامهم ثم ذبحت شاة العقيقة فأهديت منها للجيران وأكل منها أهل البيت وكسروا ما بقي من عظمها وطبخت فدعونا إليها الجيران فأكلوا وأكلنا ... فمن وجد سعة فأحب له أن يفعل هذا ومن لم يجد فليذبح عقيقة ثم ليأكل وليطعم منها] .(1/221)
ويجوز أن يباع جلدها وسواقطها ويتصدق بثمنه على الفقراء والمحتاجين.
وأما وقت ذبح العقيقة فقد وردت الأحاديث بتحديده باليوم السابع من ولادته المولود كما في حديث سمرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: (كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويسمى) وجاء في حديث عائشة رضي الله عنها: (عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين يوم السابع) وهذا هو الوقت المستحب للعقيقة ولو أخرها عن ذلك يجوز ويفضل أن تكون في اليوم الرابع عشر من الولادة أو الحادي والعشرين وهكذا في الأسابيع.
النذر المعلق
تقول السائلة: إنها نذرت أن تذبح شاة لله تعالى إن شفي ولدها من مرض ألمََّ به وكيف تصنع بهذه الذبيحة؟ وهل يجوز لها ولأهل بيتها الأكل من هذه الذبيحة؟
الجواب: إن النذر عند أهل العلم هو أن يلزم المكلف نفسه بقربة لم يلزمه بها الشارع الحكيم، وهذا النذر محل السؤال نذر مكروه وهو ما يعرف عند العلماء بالنذر المعلق حيث إن المكلف علق فعل القربة على حصول غرض معين فلم تكن نيته خالصة لله تعالى وإنما كانت القربة على سبيل المعاوضة وهذا شأن البخيل الذي لا يدفع شيئاً من ماله إلا بمقابل، وقد ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم: (نهى عن النذر وقال إنه لا يرد شيئاً وإنما يستخرج به البخيل) رواه البخاري ومسلم وغيرهما. ويجب على هذه المرأة الوفاء بنذرها إن شفي ولدها من المرض فالوفاء بالنذر واجب لقوله تعالى: (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) ولقوله عليه الصلاة والسلام: (من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصه فلا يعصه) رواه البخاري وأصحاب السنن.
فعلى هذه المراة أن تذبح شاة كما في نذرها.
ولا يجزيء أن تخرج قيمة الشاة وعليها أن توزعها على الفقراء(1/222)
والمحتاجين ولا يجوز لها ولا لأهل بيتها الأكل من الشاة المنذورة بل يجب إخراجها وتوزيعها على الحتاجين.
الاحتفال بذكرى الهجرة النبوية بدعة
يقول السائل: اعتاد كثير من الناس على الاحتفال بذكرى هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم في الأول من شهر محرم من كل عام ويتخذ هذا اليوم على أنه عيد وعطلة للمسلمين فما مدى صحة ذلك؟
الجواب: من المعلوم لدى أهل الحديث والسيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم هاجر من مكة إلى المدينة في أوئل شهر ربيع الأول من السنة الثالثة عشرة لبعثته صلى الله عليه وسلم حيث وصل إلى قباء إحدى ضواحي المدينة النبوية لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول يوم الاثنين كما قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 3 / 188.
ولم تكن هجرته صلى الله عليه وسلم في الأول من محرم كما يظن كثير من الناس.
وفي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه اتخذ التاريخ واختار الصحابة رضي الله عنهم التأريخ بهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام البخاري في الصحيح [باب التاريخ من أين أرخوا؟ ثم روى بسنده عن سهل بن سعد قال: ما عدوا من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولا من وفاته ما عدوا إلا من مقدمه المدينة] .
وقال الحافظ ابن حجر: [وإنما أخروه - التاريخ - من ربيع الأول إلى المحرم لأن ابتداء العزم على الهجرة كان في المحرم إذ البيعة وقعت في أثناء ذي الحجة وهي مقدمة الهجرة فكان أول هلال استهل بعد البيعة والعزم على الهجرة هلال المحرم فناسب أن يجعل مبتدأ.
وهذا أقوى ما وقفت عليه من مناسبة الابتداء من محرم ... ] فتح الباري 8 /270.
وبالتالي فإن الأول من محرم هو بداية السنة الهجرية وليس هو موعد(1/223)
هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وعلى كلا الحالين لا يجوز اتخاذ الأول من محرم عيداً أو تخصيصه بنوع من العبادة لأن هذا الأمر بدعة لم يفعلها الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يفعلها أحد من خلفائه ولا من صحابته وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وقال الترمذي حسن صحيح.
حكم سب الدهر
يقول السائل: ما المقصود بالحديث (لا يسب أحدكم الدهر فإن الله هو الدهر) ؟
الجواب: وردت أحاديث صحيحة في النهي عن سب الدهر أذكر بعضها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: (يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يسب أحدكم الدهر فإن الله هو الدهر) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإن الله هو الدهر) رواه البخاري ومسلم وغير ذلك من الأحاديث.
وكان سب الدهر من عادات العرب فإذا أصابهم مكروه أو أمر سوء سبوا الدهر وذموه لأن العرب كانوا ينسبون ما كان يصيبهم من المصائب والكوارث إلى الدهر فنهينا عن ذلك لأن الله سبحانه وتعالى هو مصرف الأمور وكما جاء في الحديث (أقلب الليل والنهار) وما الدهر إلا ظرف لوقوع الحوادث فيه.
قال الإمام الخطابي في بيان المراد في قوله (أنا الدهر) معناه. أنا صاحب الدهر ومدبر الأمور التي تنسبوها إلى الدهر فمن سب الدهر من أجل أنه فاعل هذه الأمور عاد سبه إلى ربه الذي هو فاعلها وإنما الدهر(1/224)
زمان جعل ظرفاً لواقع الأمور وكانت عادتهم إذا أصابهم مكروه أضافوه إلى الدهر فقالوا بؤساً للدهر وتباً للدهر) فتح الباري 10 / 196.
وينبغي أن يعلم أن الدهر ليس من أسماء الله سبحانه وتعالى على الصحيح من أقوال أهل العلم.
وسب الدهر ينقسم إلى ثلاثة أقسام كما حققه بعض أهل العلم:
الأول: أن يقصد مجرد الخبر دون اللوم كأن يقول تعبنا من حر هذا اليوم ونحوه فهذا جائز ولا شيء فيه.
الثاني: أن يسب الدهر على أنه هو الفاعل لأن الدهر هو المتصرف في الأمور خيرها وشرها فهذا شرك أكبر لأنه اعتقد أن مع الله خالقاً حيث نسب الحواديث لغير الله سبحانه وتعالى.
الثالث: أن يسب الدهر معتقداً أن الفاعل هو الله سبحانه وتعالى ولكنه يسب الدهر لأنه محل لهذه الأمور المكروهة فهذا حرام.
حكم سب الذات الإلهية وسب الدين
يقول السائل: ما حكم سب الدين وسب الرب وشتم الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب: إن من أسوأ الظواهر المنتشرة في بلادنا ما ذكره السائل من شتم الذات الإلهية وسب الدين وشتم الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولا شك أن المسؤولية في انتشار هذه الظاهرة المنكرة تقع على عاتق الآباء والأمهات والمربين والمربيات وغيرهم الذين يجب عليهم أن يبينوا للناس مغبة هذا الأمر المنكر وعواقبه الوخيمة ولا شك أن سب الدين وسب الذات الإلهية وكذلك شتم الرسول صلى الله عليه وسلم كفر صريح وخروج عن ملة الإسلام حتى لو كان الإنسان مازحاً لقوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) .
وعلى من حصل منه ذلك أن يبادر إلى التوبة الصادقة والرجوع إلى(1/225)
جادة الحق والصواب وعلى من سمع هذا المنكر أن يبادر إلى إنكاره وأن ينصح من صدر منه ذلك لعله يتوب ويرجع عن ذلك.
حكم الاستهزاء بحكم شرعي
يقول السائل: ما حكم الاستهزاء بحكم من أحكام الإسلام كالاستهزاء باللحية وهل هناك فرق بين ان يكون المستهزيء جاداً أو مازحاً؟
الجواب: إن الاستهزاء بما ثبت في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتبر كفراً والعياذ بالله لقوله سبحانه وتعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) . فهذه الآية نزلت في بعض المنافقين كما قال ابن كثير رحمه الله:
قال أبو معشر المديني عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: قال رجل من المنافقين ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونا وأكذبنا ألسنة وأجبننا عند اللقاء فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته فقال يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب فقال: (أبالله وآياته كنتم تستهزؤون؟ إلى قوله - كانوا مجرمين.. الخ) .
وذكر ابن كثير رحمه الله بعض الروايات الأخرى في سبب نزول الآيات:
منها أن جماعة من المنافقين كانوا يسيرون مع الرسول صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى غزوة تبوك فقال بعضهم لبعض أتحسبون جلاد بني الأصفر- قتال الروم - كقتال العرب بعضهم بعضاً والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال إرجافاً وترهيباً للمؤمنين.. الخ. تفسير ابن كثير 2 /367.
لذلك فإن الاستهزاء بدين الله والاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم والاستهزاء بسنته عليه الصلاة والسلام يعد كفراً مخرجاً عن دين الاسلام.
وإن الاستهزاء بمن يلتزم بأحكام الشرع، هو استهزاء بالشرع ذاته، فمن(1/226)
يسخر ويستهزئ بمن يطلق لحيته اتباعاً لأحكام الشرع يكون مستهزئاً بالشرع. وهذا كفر والعياذ بالله.
ولا فرق بين أن يكون المستهزء جاداً أو مازحاً هزلاً. إن أحكام الشرع محترمة لا يجوز اللعب بها لا في حال الجد ولا في حال المزاح والله سبحانه وتعالى يقول: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) وهؤلاء الذين نزلت فيهم الآية قالوا للرسول عليه الصلاة والسلام إنهم كانوا يمزحون ويتكلمون كلاماً لا يقصدونه وإنما يتحدثون ليصرفرا عنهم عناء الطريق فلذلك هذه الأمور لا يدخلها المزاح ولا الهزل بحال من الأحوال.
علاج عدم الإنجاب
يقول السائل: إنه أحد أربعة أخوة ولهم اخت والجميع متزوج منذ فترة غير قصيرة ولم ينجب أي واحد منهم وأنهم عرضوا أنفسهم على الأطباء المختصين فأكدوا لهم عدم وجود أي مانع صحي من الإنجاب كذلك عدم وجود أي عامل وراثي يمنع منه وأن بعض الناس أخبرهم أن عدم الإنجاب مرده السحر أو أن ذلك يرجع إلى دعوة مظلوم حيث إن والدهم كان له مشكلة مع إحدى النساء وانها كانت مظلومة وهم يبحثون عن حل لمشكلتهم؟
الجواب: إن على السائل أن يراجع الأطباء أصحاب الاختصاص في هذه المشكلة لاحتمال أن يكون سبب عدم الإنجاب هو أمر طبي والأطباء هم الذين يقررون
ذلك.
وأما إذا ثبت أنه لا يوجد عائق من الناحية الصحية أو الوراثية يمنع الأنجاب فيكون احتمال أن ذلك ناتج عن السحر أمراً وارداً وفي هذه الحالة فعليه أن يسعى لفك السحر ويكون ذلك بقراءة القرآن الكريم والأدعية الشرعية على أيدي أناس مشود لهم بالورع والتقوى.
ولا يجوز اللجوء إلى السحرة لفك السحر فقد جاء في حديث جابر(1/227)
أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن النشرة - وهي فك السحر - فقال: (هي من عمل الشيطان) رواه أحمد وأبو داود وإسناده حسن..
وعلى السائل وإخوته أن ينيبوا لله سبحانه وتعالى وأن يكثروا من قراءة القرآن الكريم وأن يحافظوا على الأذكار وكذلك الأدعية المأثورة وأن يديموا اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى طالبين إزالة ما بهم من ضر.
يقول الله سبحانه وتعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) . ويقول الله سبحانه وتعالى: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) .
وكذلك ينبغي لهؤلاء الأخوة الأربعة أن يزيلوا أي مظلمة ظلمها أبوهم بحق جارتهم وأن يعيدوا لها حقوقها المسلوبة منها وأن يكثروا من الصدقة لعل الله يفرج كربهم ويزيل همهم وغمهم.
وأذكر السائل بتلاوة بعض آيات من القرآن الكريم التي تنفع بإذن الله في علاج السحر وإعادتها دائماً وهذه الآيات هي آية الكرسي و (قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ) و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) .
والآيات التي في سورة يونس وهي قوله تعالى: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ... ) سورة يونس 79 - 82 والآيات من سورة طه: (قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ... ) طه 65 - 69.
علاج عرق النسا بالشعوذة
يقول السائل: هناك طريقة شعبية لعلاج مرض يسمى (عرق النسا) حيث يقوم شخص اسمه محمد أو محمود ويقطع جذر نبتة تعرف بنفس الإسم ولا يتكلم مع أحد عند ذهابه أو إيابه ويقطعها عند سماع الأذان ويتلو بعض آيات القرآن الكريم ويسمي المريض بنسبته إلى أمه ويسأل هل تتعارض هذه الطريقة مع الإسلام وهل يجوز أخذ الأجرة على ذلك؟(1/228)
الجواب: إذا مرض إنسان فعليه أن يذهب إلى الأطباء للمعالجة وهذا من باب الأخذ بالأسباب ولا ينافي التوكل على الله ولا يجوز اللجوء إلى المشعوذين أو الدجالين ونحوهم للمعالجة وإن تحقق على أيديهم شفاء بعض الحالات المرضية فلا يجوز أن ينخدع بصدقهم فإنهم دجالون كذبة.
والقضية المطروحة في السؤال نوع من ذلك ولا علاقة لمثل هذه الأمور بالعلاج والشفاء من الأمراض بل هذه الطريقة غير مشروعة لمعالجة الأمراض.
والصحيح هو الذهاب إلى أهل الاختصاص من الأطباء وهنالك بعض الأمراض التي تعالج بقراءة القرآن الكريم وبعض الأدعية المأثورة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ويتم ذلك على أيدي الصادقين من الصالحين وليس على أيدي المشعوذين والدجالين.
ولا يجوز أخذ الأجر على ما هو مذكور في الؤال والله أعلم.
وأحيل السائل إلى كتاب الطب النبوي لابن القيم فقد ورد فيه وصفة طبية لعلاج (عرق النسا) ص 189.
نشرة كاذبة
يقول السائل: ما قولكم في هذه النشرة التي توزع بين الناس ويعتقد بها بعضهم، وهذا نصها:
أحبائي إخواني، المؤمنين والمؤمنات / السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد أنا فتاة في الثالثة عشرة من عمري، عجز الأطباء عن علاجي عند ذلك زرت مقام السيدة زينب رضي الله عنها أخت الإمام الحسين رضي الله عنه حامل راية كربلاء لما طلبت من الله شفائي وبقيت حتى غالبني النوم في مقام السيدة زينب رضي الله عنها وفي منامي فسكبت الماء في(1/229)
حلقي وقالت لي قومي قد شفيت بإذن الله وأوصتني كتابة الواقعة (12) مرة وتوزيعها على الناس ووضعت الورقة في يد رجل فقير فقام بتوزيعها على الناس وبعد (12) يوماً أصبح غنياً، ووضعت الورقة في يد رجل موظف فلم يهتم بها وبعد (12) يوم فقد وظيفته.
ووضعت الورقة في يد رجل عجوز فلم يهتم بها وبعد (12) يوم وضع في السجن ووضعت الورقة في يد رجل غني فلم يهتم بها وبعد (12) يوم فقد ثروته فعلى كل رجل وامرأة أن يصور الورقة (12) مرة يحصل بإذن الله وبركات السيدة زينب رضي الله عنها ما يتمناه بعد (12) يوم فإن لم يفعل فسوف تصيبه مصيبة بعد 12 يوما.
الجواب: إن هذه النشرة وأمثالها من عمل الدجالين والخرافيين والمجترئين على الله سبحانه وتعالى وما جاء فيها كذب ودجل وتقول على الله سبحانه وتعالى ورجم بالغيب.
ودين الإسلام لا يقر بهذه الخزعبلات والخرافات البالية والإسلام قد شرع الأخذ بالأسباب لعلاج الأمراض ولم يشرع الذهاب إلى أصحاب القبور الذين لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً.
وما جاء في هذه النشرة أن من وزعها يصير غنياً بعد اثني عشر يوماً لهو من الكذب الصراح والواقع يكذبه.
وكذلك ما جاء بتهديد من لم يكتبها بأن مصيبة تلحق به بعد اثني عشر يوماً فهذا تقول على الله سبحانه وتعالى فما يصيب الإنسان في غده لا يعلمه إلا الله وهو مما استأثر الله بعلمه، فقد قال سبحانه وتعالى: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا) . فهذه أمور غيبية لا يعلمها إلا الله جل جلاله.
يقول الله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) . ويقول أيضاً: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) .(1/230)
وعلى الناس أن يحذروا من هذه الخرافات وأمثالها ولا يجوز لهم نشرها وتوزيعها.
الذهاب إلى السحرة حرام
تقول السائلة: إنها ذهبت مع ابنتها إلى امرأة ساحرة تحل السحر والحجاب فما حكم ذلك؟
الجواب: يحرم شرعاً الذهاب إلى السحرة من أجل فك السحر لقوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من تطير أو تطير له أو تكهن أو تكهن له أو سحر أو سحر له) رواه الطبراني وإسناده جيد.
وقال عليه الصلاة والسلام لما سئل عن النشرة: (هي عمل الشيطان) رواه أبو داود وأحمد وإسناده جيد. والنشرة هي حل السحر عن المسحور بالسحر.
ويجوز أن يحل السحر بالرقية بقراءة القرآن الكريم والأذكار الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك بالدعاء وطلب الشفاء من الله سبحانه وتعالى.
وإليك أيها القاريء بعض الآيات والأذكار التي تفيد وتنفع بإذن الله سبحانه وتعالى في إتقاء السحر قبل وقوعه ودفع ضرره بعد وقوعه وهي:
قراءة آية الكرسي وهي أعظم آية في القرآن الكريم: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ... ) سورة البقرة 255.
وقراءة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ثلاثاً بعد صلاة الفجر وبعد صلاة المغرب.
قراءة آخر أيتين من سورة البقرة بعد صلاة المغرب وهي قوله تعالى: (ءَامَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ... ) فقد صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قرأ(1/231)
آية الكرسي ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح) وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قرأ الآيتيتن من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه) .
ومن الأذكار النافعة بإذن الله الإكثار من التعوذ (بكلمات الله التامات من شر ما خلق) في الليل والنهار وعند النزول في مكان ونحو ذلك.
ومنها أيضاً (بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في السموات ولا في الأرض وهو السميع العليم) ثلاث مرات في أول الليل والنهار.
ومنه (اللهم رب الناس أذهب البأس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً) ومن ذلك رقية جبريل عليه السلام التي رقى بها النبي صلى الله عليه وسلم (بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك بسم الله أرقيك) وغير ذلك من الأذكار.
والله الهادي إلى سواء السبيل(1/232)
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
(يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
وبعد.
هذا هو الجزء الثاني من كتاب " يسألونك " والذي يضم الأسئلة والأجوبة التي تنشر في جريدة القدس المقدسية تحت زاوية يسألونك في عدد كل يوم جمعة بعد أن كان قد صدر الجزء الأول منه قبل عام تقريباً والذي لقي استحساناً من كثير من الناس ونفذت نسخه بسرعة فجزى الله كل من أسهم في طباعته ونشره خير الجزاء.
وقد وجدت أن، الناس بحاجة لمن يبين لهم شؤون دينهم من أهل العلم والاختصاص وأن الناس في بلادنا لهم رغبة أكيدة في معرفة الحكم الشرعي والالتزام به، وإن واجب أهل العلم أن يرشدوا الناس ويبينوا لهم الأحكام الشرعية المبنية على الأدلة الشرعية الصحيحة وأن يعلموا خطورة هذا الباب الذي يلجونه فإنه تبليغ عن رب العالمين وقيام مقام سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم في بيان أحكام الدين.
وينبغي أن يعلم أنه قد تزاحم على الولوج في هذا الباب كل من هب ودب ممن زعم أنه من فرسان هذا الميدان من مبتدئة طلبة العلم الذين تجرؤوا على الإفتاء في(2/237)
دين الله وتكلموا في مسائل عويصة لو عُرضت على الأئمة الأربعة لتوقفوا فيها وهؤلاء لا يتوقفون ولا يتورعون عن الخوض فيها، وليعلم هؤلاء أنهم على خطر عظيم.
وينبغي أن يعلم أنني قبل أن أجيب على أي سؤال مهما كان جوابه واضحاً أنني أرجع إلى كثير من كتب العلماء المحققين وأنظر في أقوالهم وأدلتهم وأقتبس من بساتينهم وأقطف من أزهارها وأنسقها حتى تكون باقة ورد زاهية يانعة.
ومن هؤلاء العلماء المتقدمين الذين أستفيد من علمهم الإمام النووي الذي له في نفسي مكانة خاصة جعلتني أطمئن إلى علمه وفقهه ومنهجه.
والشيخ ابن قدامة صاحب المغني والحافظ ابن حجر العسقلاني وشيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم يرحمهم الله.
ومن العلماء المعاصرين الذين أستفيد منهم الأستاذ العلامة د. يوسف القرضاوي صاحب المؤلفات الرائعة والتحقيقات المتينة والشيخ محمد بن صالح العثيمين والشيخ عبد العزيز بن باز وغيرهم حفظهم الله أجمعين.
ولا يفوتني أن أذكر أنني أعتمد في تخريج الأحاديث التي ترد في هذا الكتاب غالباً على كلام الشيخ المحدث ناصر الدين الألباني محدث الديار الشامية في القرن الرابع عشر الهجري أمد الله في عمره.
وقد حاولت أن تكون الإجابات واضحة وسهلة وبلغة مفهومة لدى عامة الناس وفيها شيء من الاختصار وعدم التطويل لأن نفس الناس في القراءة قصير وصبرهم عليها قليل.
ولا بد أن أشير إلى أنه قد طرحت عليَّ أسئلة وقفت أمامها عاجزاً لا أدري ما وجه الصواب فيها وأن هذه الأسئلة تحتاج إلى هيئة علمية متخصصة تنظر فيها وتحتاج إلى علماء راسخين ليجدوا لها الجواب الصحيح وهذا ما تفتقده بلادنا للأسف الشديد.
وأخيراً أقول إن هذا جهد المقل فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان وإني لرجّاع عن الخطأ وأشكر سلفاً من بيَّن لي خطأي.
والله أسأل أن يتقبل هذا العمل المتواضع وأن يجعله خالصاً لوجه الكريم وأن يجعله في ميزان حسناتي يوم القيامة وأن ينفع به المسلمين اللهم آمين وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه د. حسام الدين موسى عفانه
أبوديس - بيت المقدس
صباح يوم الخميس الحادي والعشرين من جمادى الأولى 1417
وفق الثالث من تشرين أول 1996م(2/238)
الطهارة والصلاة(2/239)
صلاة فاقد الطهورين
يقول السائل: ماذا يفعل الشخص الذي لا يجد ماء للوضوء أو الغسل ولا يستطيع أن يتيمم كالمسجون المقيد ونحوه بالنسبة للصلاة وهل يصلي أم لا؟ نرجو التوضيح والبيان؟
الجواب: لا تخفى أهمية الصلاة ومكانتها في شريعتنا الإسلامية ولا تسقط الصلاة عن أحد إلا إذا خرج عن دائرة التكليف وهذا الشخص المسجون المقيد يصلي على حاله بقدر الاستطاعة وإن لم يستطع الوضوء والتيمم حتى لو كان عليه نجاسة لا يستطيع إزالتها لأن تأخير الصلاة حرام لا يجوز فإذا دخل الوقت يصلي هذا الشخص وأمثاله الصلاة المفروضة فقط كما هو مذهب طائفة من أهل العلم قال الإمام البخاري في صحيحه: [باب إذا لم يجد ماءً ولا تراباً] ثم روى بسنده عن عائشة رضي الله عنها: (أنها استعارت من أسماء رضي الله عنها قلادة فهلكت - أي ضاعت - فبعث رسول الله صلى الله عليه رجالاً فوجدوها فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء فصلوا وشكوا ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأنزل الله آية التيمم) ورواه مسلم وغيره.
قال الحافظ ابن حجر: [فيه دليل على وجوب الصلاة لفاقد الطهورين ووجهه أنهم صلوا معتقدين وجوب ذلك ولو كانت الصلاة حينئذ ممنوعة لأنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم] فتح الباري 1/456.(2/241)
فهؤلاء الصحابة صلّوا بدون وضوء وبدون تيمم فأقرهم الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك فهذا يدل على أن الصلاة لا تسقط عن فاقد الطهورين - الماء والتراب - ويدل على ذلك أيضاً قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) رواه البخاري ومسلم.
ويصلي هذا المسجون المربوط بالكيفية التي يستطيعها فإذا استطاع القيام والركوع والسجود فعل، وإلا فإنه يصلي على حسب حاله ويجوز له أن يصلي إيماء ويكون إيماؤه بالسجود أخفض من الركوع.
وهذا الشخص وأمثاله لا إعاده عليهم حسب ظاهر حديث عائشة فالرسول صلى الله عليه وسلم لما أخبروه أنهم صلوا بدون طهارة لم يأمرهم بالإعادة، ولأن في الإعادة نوع من الحرج والمشقة.
طهارة المريض العاجز
يقول السائل: كيف يتطهر الإنسان المريض العاجز؟
الجواب: إن دين الإسلام قائم على اليسر والسهولة ورفع الحرج، قال تعالى: (جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) وقال تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) وبناء على ذلك فإن المريض يتطهر بقدر الإمكان فإذا أمكنه أن يتطهر الطهور الكامل فبها ونعمت وإلا فبقدر الاستطاعة. فإذا لم يستطع أن يتوضأ بنفسه فيوضئه غيره. وعليه أن يطهر بدنه من النجاسة وأن يصلي بثياب طاهرة فإن كان لا يستطيع صلّى على حاله وصلاته صحيحة وكذلك الحال بالنسبة للمكان إن أمكن تطهيره فإنه يطهر وإلا صلى فيه. ولا يجوز للمريض أن يؤخر الصلاة عن وقتها من أجل العجز عن الطهارة بل يتطهر بقدر ما يمكنه ثم يصلي الصلاة في وقتها ولو كان على بدنه أو ثوبه أو مكانه نجاسة يعجز عن إزالتها.(2/242)
لمس عورة الطفل لا ينقض الوضوء
تقول السائلة: إنها غسلت ابنها الصغير وهي متوضأة فهل ينتقض وضوؤها إذا لمست عورة صغيرها؟
الجواب: إذا غسلت المرأة ابنها الصغير أو ابنتها وكانت على وضوء ولمست عورة ابنها أو ابنتها فلا ينتقض وضوؤها وعليها غسل يديها فقط.
قال الإمام الأوزاعي: [لا وضوء من مس ذكر الصغير لأنه يجوز مسه والنظر إليه] .
كما وأن المرأة عندما تغسل طفلها الصغير أو طفلتها تكون أبعد ما تكون عن مس عورتهما بشهوة فلا شيء عليها ووضؤوها على حاله لا ينتقض بذلك.
المسح على الخفين والأحذية
وردتني عدة تساؤلات تتعلق بالمسح على الخفين والجوربين أذكرها وأجيب عنها:
أولاً: ما حكم المسح على الأحذية " الكنادر "؟
الجواب: يجوز المسح على الأحذية " الكنادر " إذا كانت تغطي الجزء المفروض غسله من الرجلين وهو ما دون الكعبين - والكعب هو العظم الناتئ في أسفل الساق - ويجوز المسح على ما يسمى باللغة الدارجة " البوط " وما يشبهه من الأحذية التي تغطي الكعبين لأن المقصود بالمسح على الخفين الوارد في النصوص هو التخفيف عن الناس ورفع الحرج والمشقة فالصحيح الذي عليه المحققون من أهل العلم جواز المسح على كل ما يلبس على الرجلين بل إن بعض العلماء لا يشترط الشرط الذي(2/243)
ذكرته وهو أن يكون ساتراً لمحل الفرض في غسل الرجلين ورأيه وجيه.
ثانياً: ما صفة الجوارب التي يمسح عليها وهل يجب أن تكون سميكة كالجوارب الصوفية أم يجوز المسح على الجوارب الرقيقة؟
الجواب: إن المسح على الجوربين كما هو معلوم ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم ومنقول عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم ولم يرد عنهم فيما أعلم صفة الجورب الذي يجوز المسح عليه من حيث كونه ثخيناً أو رقيقاً والأصل أن ما جاء عن الشارع بدون تقييد أن يبقى على إطلاقه ويترتب على ذلك جواز المسح على مطلق جورب ويؤيد ذلك أنه نقل عن عمر وعلي رضي الله عنهما جواز المسح على الجورب الرقيق. ذكره الإمام النووي في المجموع 1/500.
ثم إن القول بجواز المسح على كل جورب يحقق معنى الرخصة المقصودة من ذلك وهو التخفيف والتيسير على الناس.
ثالثاً: ما الحكم إذا لبس جورباً فوق الجورب الذي مسح عليه، هل يجوز المسح على الجورب الثاني؟
الجواب: إذا لبس الجورب الثاني قبل أن يحدث فله أن يمسح على الجورب الثاني وتعتبر مدة المسح حسب الجورب الأول.
رابعاً: ما الحكم إذا نزع الجورب بعد أن مسح عليه وهو على ضوء فهل ينتقض وضوءه أم لا؟
الجواب: إن الوضوء لا ينتقض بمجرد نزع الخف على الراجح من أقوال أهل العلم ما لم يطرأ ناقض من نواقض الوضوء، قال الإمام النووي بعد أن ذكر ثلاثة أقوال في المسألة: [الرابع لا شيء عليه لا غسل القدمين ولا غيره بل طهارته صحيحة يصلي بها ما لم يحدث كما لو لم يخلع وهذا المذهب حكاه ابن المنذر عن الحسن البصري وقتادة وسليمان بن حرب واختاره ابن المنذر وهو المختار الأقوى. واحتج له بأن طهارته صحيحة فلا يبطل بلا حدث كالوضوء وأما نزع الخف فلا يؤثر في الطهارة بعد صحتها كما لو لم مسح رأسه ثم حلقه] المجموع 1/527.(2/244)
وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: [ولا ينتقض وضوء الماسح على الخف والعمامة بنزعهما ولا بانقضاء المدة ولا يجب عليه مسح رأسه ولا غسل قدميه وهو مذهب الحسن البصري كإزالة الشعر الممسوح على الصحيح من مذهب أحمد وقول الجمهور] الاختيارات العلمية ص 15.
وهذا أيضاً مذهب ابن حزم الظاهري فقد قال: [ومن مسح كما ذكرنا على ما في رجليه ثم خلعهما لم يضره ذلك شيئاً ولا يلزمه إعادة الوضوء ولا غسل رجليه بل هو طاهر كما كان ويصلي كذلك.] المحلى 1/337.
حاضت امرأة بعد دخول وقت الصلاة
تقول السائلة: إذا حاضت المرأة بعد دخول وقت صلاة من الصلوات الخمس فهل يجب عليها أن تقضي تلك الصلاة بعد أن تطهر؟
الجواب: إذا حاضت المرأة بعد دخول وقت الصلاة بما يسع الصلاة فيجب عليها قضاء تلك الصلاة بعد أن تطهر، فمثلاً إذا حاضت امرأة بعد دخول وقت صلاة المغرب بوقت يتسع لصلاة ثلاث ركعات فيجب عليها أن تقضي صلاة المغرب بعد أن تطهر لأن الصلاة تصير واجبة في حق المسلم بدخول الوقت وهذه أدركت من الوقت مقدار الصلاة فيجب عليها أن تقضي تلك الصلاة.
وكذلك إذا طهرت الحائض واغتسلت من الحيض وقد بقي من وقت الصلاة مقدار ركعة فيجب عليها أن تصلي تلك الصلاة، فمثلاً إذا طهرت امرأة من الحيض واغتسلت قبل غروب الشمس بمقدار ركعة فيجب عليها أن تصلي صلاة العصر ويدل على ذلك ما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) رواه البخاري ومسلم.(2/245)
وفي رواية في الصحيحين أيضاً: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) .
خطأ في قبلة المسجد
يقول السائل: يوجد في بلدتنا مسجد وقد تبين أن قبلة المسجد غير صحيحة فهي منحرفة كثيراً عن اتجاه القبلة الصحيح ولكن بعض المصلين يرفضون تصحيح قبلة المسجد خوف الفتنة فما قولكم في هذه القضية؟
الجواب: من المعلوم أن استقبال القبلة شرط من شروط صحة الصلاة ويدل على ذلك قوله تعالى: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) سورة البقرة الآية 150.
ويجب تحري القلبة عند بناء المساجد فإذا بني المسجد وتبين بعد ذلك أن هنالك خطأ في قبلة المسجد فيجب تصحيح ذلك الخطأ والتوجه إلى القبلة ولا يجوز لأحد أن يمنع ذلك لأن التوجه إلى القبلة شرط لصحة الصلاة كما قلت وينبغي تحقيق ذلك وتبيين الحكم الشرعي في هذه المسألة للناس ولا فتنة في الحكم الشرعي أبداً.
ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن البراء بن عازب رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم إلى المدينة صلَّى قبل بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت وأنه أول صلاة صلاها صلاة العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت) رواه البخاري ومسلم.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة) رواه البخاري ومسلم.(2/246)
وعن أنس رضي الله عنه: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلي نحو بيت المقدس فنزلت: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) فمر رجل من بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر وقد صلوا ركعة فنادى: ألا إن القبلة قد حولت فمالوا كما هم نحو القبلة) رواه مسلم.
وبناء على هذه الأدلة يجب تصحيح قبلة المسجد المذكور حتى تصح الصلاة ومن صلى إلى القبلة القديمة في ذلك المسجد بعد أن ثبت أنها خطأ فصلاته باطلة ولا تصح لأن استقبال القبلة فرض كما ذكرت.
الالتفات في الصلاة
يقول السائل: قرأت بعض كتب الحديث عن أنس رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إياك والالتفات في الصلاة فإن الالتفات في الصلاة هلكة، فإن كان ولا بد ففي التطوع لا في الفريضة) ويقول السائل إن الحديث رواه البخاري فهل الحديث صحيح أم لا؟
الجواب: إن هذا الحديث لم يروه البخاري في صحيحه وإنما رواه الترمذي وهو حديث ضعيف عند المحققين من أهل الحديث وإن كان قد ورد في بعض نسخ الترمذي أنه صحيح.
وقد تكلم على الحديث العلامة ابن القيم فقال: [. ولكن للحديث علتان أحدهما: أن رواية سعيد عن أنس لا تعرف. الثانية: إن في طريقه علي بن زيد بن جدعان] زاد المعاد 1/249.
وكذلك ضعف هذا الحديث الشيخ المحدث ناصر الدين الألباني فقال معلقاً على استدلال صاحب فقه السنة به: [فيه مؤاخذتان:(2/247)
الأولى: إن الترمذي لم يصححه وليس تصحيحه في أية نسخة من سنن الترمذي كما قال محققه الفاضل أحمد محمد شاكر بل في بعض نسخه، قال: هذا حديث حسن وفي بعضها حديث غريب وفي أخرى هذا حديث حسن غريب.
الثانية: أن الحديث ليس بصحيح ولا حسن لأنه من رواية علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب قال: قال أنس بن مالك: وهذا الإسناد ضعيف في علتان:
1. ضعف علي بن زيد. 2. الانقطاع بين ابن المسيب وأنس.] تمام المنة ص 308-309.
وبهذا يظهر لنا أن الحديث ضعيف لا يعول عليه وبالتالي فإن الالتفات في الصلاة لغير حاجة مكروه كما هو مذهب الجمهور من أهل الفقة والعلم وهذا الحكم عام في صلاة الفريضة وصلاة النافلة ويدل على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة؟ فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد) والالتفات في الصلاة يدل على عدم الخشوع لأن خشوع الجوارح من خشوع القلب وكما قال سعيد بن المسيب لما رأى رجلاً يتحرك في صلاته: [لو خشع قلبه لخشعت جوارحه] وينبغي على المسلم أن يخشع في صلاته فلا يلتفت ولا يتحرك لغير حاجة، قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) .
تحريك الإصبع في التشهد
ما حكم تحريك الإصبع باستمرار في التشهد في الصلاة وهل تبطل تلك الحركة الصلاة؟(2/248)
الجواب: إن تحريك الإصبع في الصلاة ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ورد في ذلك أحاديث منها:
عن وائل بن حجر أنه قال في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثم قعد فافترش رجله اليسرى ووضع كفه اليسرى على فخذه وركبته اليسرى وجعل حد مرفقه الايمن عل فخذه اليسرى ثم قبض ثنتين من أصابعه وحلق حلقة ثم رفع إصبعه فرأيته يحركها يدعو بها) رواه أحمد والنسائي وأبو داود وغيرهم وهو حديث صحيح.
وعن ابن عمر قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه ورفع إصبعه اليمين التي تلي الإبهام فدعا بها ويده اليسرى على ركبته باسطها عليها) رواه مسلم.
وغير ذلك من الأحاديث التي يؤخذ منها ثبوت تحريك الإصبع " السبابة " أثناء التشهد وحديث وائل المتقدم [رواية صريحة في تحريك الإصبع وجاء وصف فعله صلى الله عليه وسلم بـ " يحرك " وهو فعل مضارع يفيد الاستمرارية حتى تسليم المصلي وفراغه من صلاته] . القول المبين ص 162.
وتحريك الإصبع عند التشهد سنة قال بها جماعة من أهل العلم منهم الإمام مالك والإمام أحمد وهو قول في مذهب الشافعية وبه قال جماعة من أهل الحديث وأفاد الشيخ الألباني أنه لا يوجد دليل من السنة على أن تحريك الإصبع يكون فقط عند التلفظ بالشهادتين كما قال بعض الفقهاء. انظر صفة صلاة النبي ص 140.
وأما قول من زعم بأن تحريك الإصبع مبطل للصلاة فكلام باطل لا يصح وهو قول شاذ لا دليل عليه كما قال الإمام النووي في المجموع. 3/354.
وأما الحديث الوارد في عدم تحريك الإصبع وهو حديث عبد الله بن الزبير أنه ذكر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشير بإصبعه إذا دعا ولا يحركها) رواه(2/249)
أبو داود وغيره فهو حديث ضعيف ضعفه ابن القيم والألباني وغيرهما، راجع تمام المنة ص 217-218.
القراءة والأذكار في الصلاة لا تصح بدون تحريك اللسان
ما حكم تحريك اللسان أثناء القراءة في الصلاة غير الجهرية وما دليل ذلك؟
الجواب: إن القراءة في الصلاة وكذلك الأذكار المطلوبة في الصلاة كالتكبير والتسبيح ونحوهما لا بد فيها من التلفظ ولا يحسب منها شيء ولا تكون مجزئة حتى يحرك المصلي لسانه ويتلفظ بها وأقل ذلك أن يسمع المصلي نفسه قال الإمام النووي رحمه الله: [اعلم أن الأذكار المشروعة في الصلاة وغيرها واجبة كانت أو مستحبة لا يحسب شيء منها ولا يعتد به حتى يتلفظ به بحيث يسمع نفسه إذا كان صحيح السمع لا عارض له] الأذكار للنووي ص 10.
وقال الإمام النووي أيضاً موضحاً معنى الإسرار في الصلاة وأقله: [وأدنى الإسرار أن يسمع نفسه إذا كان صحيح السمع ولا عارض عنده من لغط وغيره وهذا عام في القراءة والتكبير والتسبيح في الركوع وغيره والتشهد والسلام والدعاء سواء واجبها ونفلها لا يحسب شيء منها حتى يسمع نفسه إذا كان صحيح السمع ولا عارض فإن لم يكن كذلك رفع بحيث يسمع لو كان كذلك لا يجزيه غير ذلك هكذا نص عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب] المجموع 3/295.
ويدل على ذلك أننا قد أُمرنا بقراءة القرآن في الصلاة كما قي قوله تعالى: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ) وكما في قوله عليه الصلاة والسلام في حديث(2/250)
المسيء صلاته: (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) والقراءة لا تسمى قراءة حتى يتلفظ بها ويحرك اللسان وأقل ذلك أن يسمع الإنسان نفسه فإن لم يفعل ذلك فلا تسمى حينئذ قراءة وقد أجاز أهل العلم للجنب وللحائض وللنفساء تمرير القرآن على القلب دون قراءته هذا يدل على أنهما أمران مختلفان لأن قراءة الجنب والحائض والنفساء لا تجوز.
طرد الأطفال من المساجد
يقول السائل: إن بعض المصلين يطردون الأطفال من المسجد بحجة أنهم يشوشون على المصلين فما حكم ذلك؟
الجواب: إن طريقة تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الأطفال في المسجد وأثناء الصلاة تختلف اختلافاً واضحاً عن واقع تعامل كثير من المسلمين مع الأطفال في المساجد وإليكم بعض المواقف التي حصلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مع بعض الأطفال حتى نتعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهتدي بهديه عليه الصلاة والسلام:
1. عن شداد رضي الله عنه قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشى الظهر أو العصر وهو حامل حسناً أو حسيناً فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فوضعه عند قدمه ثم كبر للصلاة فصلى فسجد سجدة أطالها، قال: فرفعت رأسي من بين الناس فإذا الصبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد فرجعت إلى سجودي فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال الناس: يا رسول الله: إنك سجدت سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر أو أنه يوحى إليك؟ قال: كل ذلك لم يكن ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته) رواه النسائي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
2. وفي حديث آخر: (كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره فإذا منعوهما أشار إليهم أن دعوهما فلما قضى الصلاة وضعهما في حجره) رواه ابن خزيمة في صحيحه.(2/251)
3. وقال أبو قتادة رضي الله عنه: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمامة بنت العاص - ابنة زينب بنت الرسول صلى الله عليه وسلم - على عاتقه فإذا ركع وضعها وإذا رفع من السجود أعادها) رواه البخاري ومسلم.
4. وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد أطالتها فاسمع بكاء الصبي فأتجوّز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه) رواه البخاري ومسلم.
وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم: (جوّز ذات يوم في الفجر - أي خفف - فقيل: يا رسول الله لم جوزت؟ قال: سمعت بكاء صبي فظننت أن أمه معنا تصلي فأردت أن أفرغ له أمه) رواه أحمد بإسناد صحيح.
هذا هو هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في تعامله مع الأطفال في المسجد فلا ينبغي لأحد أن يطرد الأطفال من المساجد لأنهم رجال المستقبل والمسجد خير مكان لتعليم الصلاة والأحكام الشرعية الأخرى.
ولكن لا بد من التنبيه أنه ينبغي عدم إحضار الأطفال الصغار جداً إلى المساجد لأنهم لا ينضبطون فمثل ابن سنة أو سنتين أو ثلاث لا يحضر إلى المسجد ولا بأس بإحضار الأطفال الذين هم في الخامسة أو السادسة أو السابعة إلى المساجد.
الترتيب في قضاء الصلوات الفوائت
يقول السائل: إنه صلى المغرب وكان عليه قضاء صلاتي الظهر والعصر ولكن نظراً لضيق الوقت صلى المغرب أولاً ثم قضى الظهر والعصر فما حكم ذلك؟
الجواب: إن قضاء الصلاة الفائتة واجب على الفور بمجرد زوال العذر كالنسيان أو النوم لقوله صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيا فليصلها إذا ذكرها) رواه البخاري ومسلم.(2/252)
والترتيب في قضاء الفوائت واجب عند أكثر الفقهاء لما ثبت من قضاء النبي صلى الله عليه وسلم للفوائت يوم الخندق حيث قضاهن بالترتيب أي الظهر فالعصر ثم المغرب وهكذا هو الأصل أن الترتيب واجب ولكن هذا الترتيب يسقط إذا ضاف وقت الصلاة الحاضرة كما في السؤال فما فعله السائل صحيح إن شاء الله حيث إنه صلى المغرب أولاً نظراً لضيق الوقت وبعد ذلك قضى الظهر والعصر فلا بأس بذلك.
إدراك الركعة بالركوع
إذا أدرك المصلي الركوع مع الإمام فعل يعتبر مدركاً للركعة؟
الجواب: إذا أدرك السبوق الإمام راكعاً فقد أدرك تلك الركعة وبهذا قال أكثر أهل العلم. قال الإمام النووي: [وهذا الذي ذكرناه من إدراك الركعة بإدراك الركوع وهو الصواب الذي نص عليه الشافعي وقال جماهير الأصحاب وجماهير العلماء وتظاهرت به الأحاديث وأطبق عليه الناس.] المجموع 4/215.
وفي المسألة قول آخر بأن الركعة لا تدرك إلا بإدراك القيام مع الإمام وهو قول ضعيف شاذ.
والقول الأول هو القول الصحيح في المسألة وقد ثبت عن جماعة من الصحابة أنهم كانوا يعتدون بالركعة إذا أدرك الركوع، من ذلك ما رواه ابن أبي شيبة عن نافع عن ابن عمر قال: [إذا جئت والإمام راكع فوضعت يديك على ركبتيك قبل أن يرفع رأسه فقد أدركت] ورواه البيهقي بلفظ: [من أدرك الإمام راكعاً فركع قبل أن يرفع الإمام رأسه فقد أدرك تلك الركعة] وإسناده صحيح.
ومن ذلك ما رواه ابن أبي شيبة عن زيد بن وهب قال: [خرجت مع عبد الله ابن مسعود من داره إلى المسجد فلما توسطنا المسجد ركع الإمام فكبر عبد الله ثم ركع وركعت معه ثم مشينا راكعين حتى انتهينا إلى الصف(2/253)
حتى رفع القوم رؤوسهم قال: فلما قضى الإمام الصلاة قمت أنا - وأنا أرى لم أدرك - فأخذ بيدي عبد الله فأجلسني وقال: إنك قد أدركت] ورواه البيهقي والطحاوي في شرح معاني الآثار وإسناده صحيح.
ومثل ذلك ورد عن زيد بن ثابت وأبي بكر الصديق وعبد الله بن الزبير، قال الإمام البيهقي: [باب من ركع دون الصف وفي ذلك دليل على إدراك الركعة ولولا ذلك لما تكلفوه] سنن البيهقي 2/90.
وقد ورد في المسألة حديث أبي هريرة ولفظه: [من أدرك ركعة مع الإمام قبل أن يقيم الإمام صلبه فقد أدرك الصلاة] وهذا الحديث فيه كلام كثير للمحدثين، وخلاصته أن الحديث بمجموع طرقه المتصلة والمرسلة يصلح للاحتجاج ويقويه ما ثبت عن الصحابة من العمل بمقتضاه.
الاقتداء بالمسبوق
يقول السائل: إنه جاء إلى المسجد فوجد صلاة الجماعة قد انتهت وأنه اقتدى برجل مسبوق فصلى خلفه فما حكم صلاته؟
الجواب: اقتداؤك بالمسبوق صحيح إن شاء الله على الراجح من أقوال أهل العلم وقد دلت على ذلك أحاديث منها حديث ابن عباس قال: (بت في بيت خالتي ميمونة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل فتوضأ ثم قام إلى الصلاة فقمت فتوضأت كما توضأ ثم جئت فقمت عن يساره فأخذ بيميني فأدارني من ورائه فأقامني عن يمينه فصليت معه) رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن واللفظ لأبي داود.
وحديث أنس أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلَّى في شهر رمضان قال: (فجئت فقمت إلى جنبه وجاء آخر فقام إلى جنبي حتى كنا رهطاً، فلما أحس النبي صلى الله عليه وسلم بنا تجوّز في صلاته) رواه مسلم.
وحديث عائشة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلّي في حجرته وجدار(2/254)
الحجرة قصير فرأى الناس شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام الناس يصلون بصلاته فأصبحوا فتحدثوا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الليلة الثانية فقام ناس يصلون بصلاته) رواه البخاري.
وحديث أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي وحده فقال: (ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني.
وهذه الأحاديث تدل على أنه لا يشترط في الإمام أن ينوي الإمامة فالرسول صلى الله عليه وسلم شرع في الصلاة منفرداً ثم جاء ابن عباس فصلى معه جماعة وكذلك فإن الرجل الذي رآه الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي وحده شرع في الصلاة منفرداً فحض النبي عليه الصلاة والسلام رجلاً يصلي معه: (فقام رجل من القوم فصلى معه) كما في رواية البيهقي، ولا فرق بين من كان منفرداً ومن كان مسبوقاً فلا مانع من اقتداء غيره به ليحصل أجر الجماعة.
سهى الإمام فقام إلى الخامسة
إمام في صلاة رباعية قام سهواً إلى الركعة الخامسة فما الحكم في ذلك؟
الجواب: إذا سها الإمام في الصلاة الرباعية وقام إلى الخامسة فعلى المصلين أن يسبحوا ليذكروه فإذا سبَّحوا فعليه أن يجلس ويأتي بالتشهد الأخير إن لم يكن قد أتى به وعليه أن يسجد سجدتي السهو.
وأما إذا كان المصلي منفرداً فقام إلى الخامسة وتذكّر بعد ذلك فعليه أن يجلس ويسجد سجدتي السهو وهذا مذهب جمهور أهل العلم ويدل على ما قلت حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمساً فقيل له: (أزيد في الصلاة؟ فقال: وما ذلك؟ قالوا: صليت خمساً فسجد سجدتين بعدما سلّم) رواه البخاري ومسلم ولا تبطل صلاة المصلي وإن زاد خامسة سجد فيها أو لم يسجد ولا يلزمه أن يضيف ركعة سادسة كما قال بعض الفقهاء(2/255)
فقولهم ضعيف ولا تؤيده الأدلة والصحيح ما قاله جمهور الفقهاء.
حكم قراءة القرآن قبل الأذان
يقول السائل: جرت العادة بقراءة القرآن لمدة عشرة دقائق تقريباً قبل الأذان للصلوات الخمس عبر مكبرات الصوت، فما حكم ذلك؟
الجواب: لا شك أن قراءة القرآن الكريم من العبادات العظيمة التي يتقرب بها العبد إلى ربه وهي جائزة في جميع الأوقات وأما تحديد القراءة وجعلها قبل الأذان والمحافظة على ذلك بصفة دائمة فأمر مخالف لما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يرد عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يأمر المؤذن بقراءة القرآن قبل الأذان ولم يقم دليل على أن ذلك مشروع فينبغي ترك هذا وعدم فعله لأن تخصيص العبادة بوقت معين بدون دليل شرعي يعتبر بدعة مخالفة لهدي المصطفى عليه الصلاة والسلام.
وقد صار بعض الناس يظن أن تلك القراءة لا بد منها فإذا غفل المؤذن مرة عن القراءة قبل الأذان لامه الناس على ذلك واعتبروه قد أخل بأمر لا بد منه.
اتصال الصفوف
يقول السائل: نرى بعض المصلين وخاصة في يوم الجمعة يصلون في ساحات المسجد وتكون صفوفهم غير متصلة مع الصفوف داخل المسجد فما حكم صلاتهم؟
الجواب: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر بتسوية الصفوف في الصلاة وسد الخلل الواقع فيها كما أمر بإتمام الصف الأول فالأول وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة منها:(2/256)
1. عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها فقلنا: يا رسول الله وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصفوف الأُول ويتراصون في الصف) رواه مسلم.
2. وعن أنس رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أتموا الصف الأول ثم الذي يليه فإن كان نقص فليكن في الصف المؤخر) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان وهو حديث حسن كما قال المنذري والحافظ ابن حجر.
3. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى في أصحابه تأخراً فقال لهم: (تقدموا فائتموا بي وليأتم بكم من ورائكم، لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله عز وجل) رواه مسلم.
4. وعن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رصوا صفوفكم قاربوا بينها وحاذوا الأعناق فوالذي نفسي بيده إني لأرى الشيطان يدخل في خلل الصفوف كأنها الحذف) رواه أبو داود وابن حبان وصححه وغير ذلك من الأحاديث والذي يؤخذ من هذه الأحاديث أن تسوية الصفوف واجبة ويشمل ذلك اتصال الصفوف الأول فالأول فإن الوعيد الشديد الوارد في عدم تسوية الصف يدل على حرمة ذلك، فتسوية الصفوف واجبة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتسوية الصفوف والأصل في الأمر أنه يفيد الوجوب ما لم يصرفه صارف.
ولا شك أن من تسوية الصفوف إتمام الصف الأول فالأول ولا يجوز أن يشرع في الصف الثاني إلا بعد إتمام الصف الأول وهذا باتفاق أكثر أهل العلم لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (أتموا الصف الأول ثم الذي يليه فإن كان نقص فليكن في الصف المؤخر) .
وبناء على ذلك فإن من يصف في ساحات المسجد الخارجية ولا يكون صفه متصلاً مع الصفوف داخل المسجد فلا تصح صلاتهم مع الجماعة كما هو الحال في كثير من المساجد الكبيرة فإنهم يصلون بقرب(2/257)
أبواب الساحات الخارجية ويكون بينهم وبين آخر صف متصل مسافات بعيدة فإن صلاة هؤلاء غير صحيحة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: [فإن امتلاً المسجد بالصفوف صفوا خارج المسجد فإذا اتصلت الصفوف حينئذ في الطرقات والأسواق صحت صلاتهم وأما إذا صفوا وبينهم وبين الصف الآخر طريق يمشي فيه الناس لم تصح صلاتهم في أظهر قولي العلماء.) مجموع الفتاوى 23/410.
وقال بعض أهل العلم: [على أن القول الراجح عندي أنه لا يصح للمأموم أن يقتدي بالإمام خارج المسجد وإن رأى الإمام أو المأمومين إذا كان في المسجد مكان يمكنه أن يصلي فيه وذلك لأن المقصود بالجماعة الاتفاق في المكان وفي الأفعال فإذا كان المسجد واسعاً ويمكن أن يصلي الإنسان في المسجد فإنه لا يصح أن يتابع الجماعة في غير المسجد أما لو امتلأ المسجد وصار من كان خارج المسجد يصلي مع الإمام ويمكنه المتابعة فإن الراجح جواز متابعته للإمام وائتمامه به سواء رأى الإمام أو لم يره إذا كانت الصفوف متصلة] .
وأخيراً فإن من واجب الإمام أن يأمر المصلين بتسوية الصفوف وإكمال الصف الأول فالأول لما ثبت في الحديث عن النعمان بن بشير رضي اله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوي صفوفنا حتى كأنما يسوي القداح - وهي أعواد السهام - حتى رأى أنا قد عقلنا عنه ثم خرج يوماً فقام حتى كاد يكبر فرأى رجلاً بادياً صدره في الصف فقال عباد الله لتسون صفوفكم أو ليخالفن وجوهكم) رواه مسلم.
نوم الإمام
يقول السائل: عندنا إمام مسجد مصاب - على ما أعلم - بمرض في قلبه وهذا المرض يسبب له نوماً أو سهواً وخاصة وهو يؤم الناس، أحياناً يستفيق لوحده وأحياناً يوقظه أحد المأمومين. فما حكم الصلاة خلف هذا الإمام؟(2/258)
الجواب: إذا كان حال الإمام كما وصفت في السؤال وتلك الحالة ملازمة له فلا ينبغي لهذا الشخص أن يؤم المصلين وعليه أن يقدم غيره للإمامة فإن من شروط الإمامة أن يكون الإمام قادراً على القيام بأداء الصلاة مستكملاً لأركانها وشروطها وهذا الإمام ينام في صلاته أو يسهو فيها كثيراً فلا يؤدي الصلاة كما يجب فعليه أن لا يصلي بالناس.
الاقتداء بالإمام القاعد
يقول السائل: إن إمامهم في الصلاة مريض ولا يستطيع الصلاة قائماً فيصلي قاعداً فكيف يصنع المصلون خلفه هل يصلون قياماً أم جلوساً؟
الجواب: إن الأفضل في حق هذا الإمام الذي لا يستطيع أن يصلي قائماً أن يستخلف غيره ليصلي بالناس قائماً لأن في ذلك خروجاً من خلاف من منع الاقتداء بالإمام القاعد، ولأن القائم أكمل وأقرب إلى إكمال هيئات الصلاة من القاعد فيستحب أن يكون الإمام كامل الصلاة، فإن صلى بهم وهو جالس فيصلي المأمومون وهم قيام وهذا مذهب الحنفية والشافعية ويدل على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر في مرضه الذي توفي فيه أبا بكر رضي الله عنه أن يصلي بالناس فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة فقام يهادي بين رجلين ورجلاه يخطان في الأرض فجاء فجلس عن يسار أبي بكر فكان رسول صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر) رواه البخاري ومسلم.
وجاء في رواية أخرى عند مسلم: (وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس وأبو بكر يسمعهم التكبير) وفي رواية أخرى: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس إلى جنب أبي بكر فجعل أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد) رواه البخاري ومسلم.
وقد نقل الإمام النووي عن الإمام الشافعي وغيره من العلماء أن هذه الروايات صريحة في نسخ الحديث الوارد بصلاة الناس خلف الإمام جلوساً لأن ذلك الحديث(2/259)
كان في مرض قبل مرض النبي صلى الله عليه وسلم الذي مات فيه والذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم جالساً وصلى الناس خلفه قياماً.
قراءة سورة فيها سجدة في فجر الجمعة
يقول السائل: هل يجب على الإمام أن يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة سورة من القرآن فيها سجدة؟ وإذا قرأ سورة لا سجود فيها فهل صلاته صحيحة؟
الجواب: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة بسورة السجدة فقد رود في الحديث عن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة: (الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ) السجدة، و (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ)) رواه مسلم.
وجاء في الحديث عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصبح يوم الجمعة: (ألم تنزيل) في الركعة الأولى وفي الثانية: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً) رواه مسلم.
من هذين الحديثين يؤخذ استحباب قراءة سورتي السجدة والإنسان في صلاة الفجر يوم الجمعة وقد قرر المحققون من الفقهاء أن المقصود من قراءة سورة السجدة وسورة الإنسان ليس السجدة الموجودة في السورة الأولى وإنما المقصود هو المعاني العظيمة التي تضمنتها السورتان المذكورتان.
لذلك لا يستحب المداومة على قراءة السورتين باستمرار إن خشي أن يظن الناس أن قراءتهما واجبة. وقد ظن بعض الناس أنه لا بد للإمام أن يقرأ أي سورة فيها سجدة في فجر يوم الجمعة وهذا الظن خطأ واضح لأن السجدة ليست مقصودة لذاتها وإنما المقصود السورة التي فيها وهي (الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ) لذلك لا ينبغي للإمام أن يقرأ أي سورة أخرى فيها سجدة.(2/260)
قال العلامة ابن القيم: [كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في فجره - يوم الجمعة - بسورتي (الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ) و (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ) ويظن كثير ممن لا علم عنده أن المراد تخصيص هذه الصلاة بسجدة زائدة ويسمونها سجدة الجمعة وإذا لم يقرأ أحدهم هذه السورة استحب قراءة سورة أخرى فيها سجدة ولهذا كره من كره من الأئمة المداومة على قراءة هذه السورة في فجر الجمعة دفعاً لتوهم الجاهلين وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هاتين السورتين في فجر - الجمعة - لأنهما تضمنتا ما كان ويكون في يومها فإنهما اشتملتا على خلق آدم وعلى ذكر المعاد وحشر العباد وذلك يكون يوم الجمعة وكان في قراءتها في هذا اليوم تذكير للأمة بما كان فيه ويكون، والسجدة جاءت تبعاً ليست مقصودة حتى يقصد المصلي قراءتها حيث اتفقت فهذه خاصة من خواص يوم الجمعة] زاد المعاد 1/375.
وخلاصة الأمر أن الإمام إذا قرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة بالسورتين المذكورتين فقد أصاب السنة وإذا لم يقرأ بالسورتين المذكورتين فصلاته صحيحة ولا شيء عليه ولا ينبغي لأحد من الناس أن ينكر عليه فالسجدة ليست لازمة لفجر الجمعة.
وهذا الأمر على خلاف ما يعتقد كثير من الناس حتى ظن بعض العوام أن صلاة الفجر يوم الجمعة تختلف عن صلاة الفجر في الأيام الأخرى، قال الإمام القرافي ما نصه: [ولذلك شاع عند عوام مصر أن الصبح ركعتان إلا في يوم الجمعة فإنه ثلاث ركعات لأنهم يرون الإمام يواظب على قراءة السجدة يوم الجمعة ويسجد ويعتقدون أن تلك ركعة أخرى واجبة وسد هذه الذرائع متعين في الدين] الفروق 12/191.
إدراك صلاة الجمعة بإدراك ركعة منها
يقول السائل: أدركت الإمام في صلاة الجمعة قبل أن يسلم ثم صليت(2/261)
ركعتي الجمعة وبعد التسليم قال لي بعض المصلين إن الواجب عليّ أن أصلي الظهر لأن الجمعة قد فاتتني فما الحكم في ذلك؟
الجواب: يجب أن يعلم أولاً أن التبكير إلى صلاة الجمعة مرغب فيه ويدل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة - أي ناقة - ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر) رواه البخاري ومسلم.
فالمستحب للمسلم أن يبادر يوم اجمعة بالذهاب إلى المسجد مبكراً فيصلي نافلة ويقرأ من القرآن الكريم ما تيسر ويدعو ويستغفر إلى غير ذلك من الأفعال الطيبة، فإن حصل وتأخر عن الصلاة لعذر أو غيره وجاء إلى المسجد وهم يصلون فلا بد أن يدرك ركعة مع الإمام حتى يعتبر مدركاً للجمعة، وإدراك الركعة يكون بإدراك الركوع مع الإمام، فإذا أدرك ركعة مع الإمام فهو مدرك للجمعة، وهذا قول أكثر أهل العلم من الصحابة وأئمة المذاهب الثلاثة المالكية والشافعية والحنابلة ويدل على ذلك أحاديث منها:
1. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) رواه البخاري ومسلم وفي رواية لمسلم: (من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة) ومفهوم التقييد بالركعة أن من أدرك دون الركعة لا يكون مدركاً للصلاة كما قال الحافظ ابن حجر.
2. وجاء في رواية أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من أدرك من الجمعة ركعة فقد أدرك الصلاة) رواه ابن ماجة والحاكم وغيرهما وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني.
3. وفي رواية أخرى: (من أدرك ركعة من الجمعة فليضف إليها أخرى) رواه ابن ماجة وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني.(2/262)
4. ورد عن ابن عمر أنه قال: (من أحرم بالجمعة في وقتها وأدرك مع الإمام ركعة أتم جمعته) رواه البيهقي وهو صحيح كما قال الشيخ الألباني.
5. ورد عن ابن مسعود قال: (إذا أدركت ركعة من الجمعة فأضف إليها أخرى فإذا فاتك الركوع فصل أربعاً) رواه ابن أبي شيبة والبيهقي وسنده صحيح.
وغير ذلك من الأحاديث والآثار. وبناء على ما تقدم فإن ما قاله بعض المصلين لك من فوات الجمعة صحيح وعليك أن تصليها ظهراً أربعاً.
الإمام في الجمعة غير الخطيب
ما حكم صلاة الجمعة إذا أمَّ المصلين شخص غير من خطب الجمعة؟
الجواب: الصلاة صحيحة إن شاء الله وإن كان المعروف أن من يخطب الجمعة هو الإمام الذي يصلي بالناس وهذا هو المعهود عن الرسول عليه الصلاة والسلام واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هو المطلوب فنحن مأمورون بالاتباع ولكن إن كان هناك عذر لمن خطب الجمعة فصلّى بالناس غيره لتعب أو مرض طارئ أو نحو ذلك فلا بأس به والصلاة صحيحة.
تحية المسجد أثناء خطبة الجمعة
يقول السائل: دخلت المسجد يوم الجمعة أثناء الخطبة فهل أصلي تحية المسجد أم أجلس وأصليها بعد أن تنتهي الخطبة الأولى؟
الجواب: إن المشروع في حق من دخل المسجد والخطيب يخطب يوم الجمعة أن يصلي ركعتين تحية المسجد ويشرع له أن يخففها أي لا يطيل فيها وهذا مذهب أكثر أهل العلم وهو الصحيح الذي تؤيده الأدلة. فقد ثبت في الحديث الصحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:(2/263)
(دخل رجل يوم الجمعة المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له: أصليت؟ قال: لا. قال: فصل ركعتين) رواه البخاري ومسلم.
وثبت في رواية أخرى عن جابر أيضاً قال: (جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فجلس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا جاء أحدكم الجمعة والإمام يخطب فليصل ركعتين خفيفتين ثم يجلس) رواه مسلم.
فهذان الحديثان يدلان على ما قلت فلا ينبغي لمن دخل والإمام يخطب أن يجلس فإذا انتهى الخطيب من الخطبة الأولى قام فصلى الركعتين فهذا مخالف لما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم والمطلوب التخفيف في هاتين الركعتين حتى يسمع لخطبة الجمعة وليس المقصود بالتخفيف نقرهما نقراً وإنما المقصود عدم التطويل وهو التخفيف الذي لا يخل بالصلاة.
وقد يمنع البعض الداخل من صلاة تحية المسجد بحجة ما روي عن الرسول عليه الصلاة والسلام: (إذا صعد الإمام فلا صلاة ولا كلام) فهذا الحديث باطل بل هو منكر لا يصح الاحتجاج به وإن كان بعض معناه صحيحاً وهو منع الكلام أثناء الخطبة ومنع الصلاة أثناء الخطبة نافلة أو قضاء أو غير ذلك وأما من جاء والإمام يخطب فإنه يصلي تحية المسجد ويخفف فيها كما سبق وأما الكلام أثناء الخطبة فممنوع لما ثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام النووي: [معناه قلت غير الصواب وقيل تكلمت بما لا ينبغي. ففي الحديث النهي عن جميع أنواع الكلام حال الخطبة] شرح صحيح مسلم 6/138.
وأكثر أهل العلم على وجوب الإنصات للخطبة يوم الجمعة حتى ولو كان المصلي لا يسمع الخطبة فيلزمه الإنصات.(2/264)
ومن الجدير بالذكر أن حديث أبي هريرة السابق: (إذا قلت لصاحبك أنصت.) يردده المؤذنون في كل يوم جمعة قبل بدء خطبة الجمعة، وهذا الذي يفعله المؤذنون بدعة مخالفة لهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم فلم يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقرأ هذا الحديث على مسامع المصلين قبل خطبة الجمعة وعلى أئمة المساجد منع المؤذنين من هذه البدعة وغيرها من البدع التي تقع في يوم الجمعة وغيره وقد ثبت عن الرسول عليه الصلاة والسلام قوله: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد) حديث صحيح رواه البخاري ومسلم. ومعنى رد أي مردود.
ويضاف إلى ما سبق أن المؤذن ينهي الناس عن الكلام والخطيب يخطب ثم يخالفهم فيتكلم بدعاء بين الخطبتين. وهذا الدعاء أيضاً مخالف لهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ولكن هذه الأمور أصبحت مشهورة ومعروفة حتى ظن عامة الناس أنها من الدين ويرجع ذلك إلى سكوت أهل العلم عنها بل وإقرارهم لها والواجب عليهم أن ينكروها لمخالفتها لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
صلاة الظهر بعد صلاة الجمعة
يقول السائل: إنه صلى الجمعة في أحد المساجد وتحدث الخطيب خلال خطبته عن صلاة الظهر بعد الجمعة مباشرة، وبعد انتهاء صلاة الجمعة صلى الناس أربع ركعات صلاة الظهر فما حكم ذلك.
الجواب: إن ما ذكره خطيب الجمعة حول صلاة أربع ركعات بعد الجمعة قال به بعض فقهاء المذاهب الأربعة المتأخرون وهذا الرأي مبني عندهم على عدم جواز تعدد صلاة الجمعة في البلد الواحد وأن الجمعة لمن سبق فلذلك فهم يصلون أربع ركعات بعد الانتهاء من الجمعة من باب الاحتياط.(2/265)
ولكن هذا القول ضعيف ومرجوح ولا دليل عليه لا من كتاب ولا من سنة والصحيح خلاف ذلك وهو: لا شك لدي بجواز تعدد صلاة الجمعة في البلد الواحد عند الحاجة وهذا الذي عليه جمهور الفقهاء وهو القول الحق الذي يتفق مع روح الشريعة الإسلامية من رفع الحرج عن الأمة لأن في القول بمنع تعدد صلاة الجمعة حرجاً وعنتاً يلحق بالمسلمين وخاصة أن المدن والبلدات قد اتسعت وأصبح عدد الناس كثيراً ولا يجمعهم مسجد واحد لذلك كله فإنه يجوز تعدد صلاة الجمعة في البلد الواحد.
وإلزام الناس بصلاة الظهر بعد الجمعة بدعة محدثة لا دليل عليها وقولهم: [الجمعة لمن سبق] ليس بحديث ولا أصل له في السنة كما قرره الشيخ الألباني.
وإنما هو كلام مشهور على ألسنة بعض فقهاء الشافعية المتأخرين وليكن معلوماً أن الأصل في باب العبادات التوقيف عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يرد عن الرسول عليه الصلاة والسلام في هذه المسألة شيء فلذلك لا تصلى الظهر بعد الجمعة.
حكم الكلام أثناء خطبة الجمعة
يقول السائل: جرت العادة عندنا في يوم الجمعة وقبل أن يبدأ الخطيب بخطبة الجمعة أن يقوم المؤذن ويذكر حديثاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو: (إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت) فما معنى لغوت وهل الكلام أثناء الخطبة مبطل للصلاة أم لا؟
الجواب: إن الحديث المذكور في السؤال حديث صحيح رواه البخاري ومسلم وغيرهما ولا شك أن كثيراً من المصلين لا يلتزمون بما يدل عليه الحديث الشريف فتراهم يتكلمون والإمام يخطب وينبغي أن يعلم أن جمهور الفقهاء قالوا بحرمة الكلام أثناء خطبتي الجمعة وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد والأوزاعي وغيرهم، واستدلوا بما يلي:(2/266)
أولاً: بالحديث المذكور في السؤال ومعنى (لغوت) الواردة في الحديث جئت بأمر باطل، وقال بعض العلماء: [لغوت: أي بطلت فضيلة جمعتك. وقيل: خبت من الأجر. وقيل: صارت جمعتك ظهراً وقيل: غير ذلك] .
ثانياً: عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: (دخلت المسجد يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فجلست قريباً من أبي بن كعب، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم سورة " براءة " فقلت لأبي: متى نزلت هذه السور؟ قال: فتجهمني ولم يكلمني فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم، قلت لأبيّ: سألتك فتجهمتني ولم تكلمني؟ قال أبيّ: مالك من صلاتك إلا ما لغوت! فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا نبي الله كنت بجنب أبي وأنت تقرأ براءة فسألته متى نزلت هذه السورة، فتجهمني ولم يكلمني ثم قال: مالك من صلاتك إلا ما لغوت. قال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق أبيّ) .
ومعنى تجهمني: قطب جبينه وعبس ونظر إلي مغضباً، والحديث رواه ابن خزيمة في صحيحه وقال الشيخ الألباني: صحيح.
ثالثاً: عن ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً والذي قول له أنصت ليست له جمعة) رواه أحمد وقال الحافظ ابن حجر: إسناده لا بأس به.
رابعاً: روي في الحديث عن علي رضي الله عنه قال: (من دنا من الإمام فلغا ولم يستمع ولم ينصت كان عليه كفل من الوزر ومن قال: صه، فقد لغا ومن لغا فلا جمعة له. ثم قال: هكذا سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم) رواه أحمد وأبو داود.
وغير ذلك من الأحاديث والآثار الواردة عن الصحابة رضي الله عنهم.
وخلاصة ما تدل عليه هذه الأحاديث هو تحريم الكلام اثناء خطبتي الجمعة ووجوب الإنصات كما هو مذهب جمهور الفقهاء ولكن صلاة من تكلم أثناء الخطبتين مجزئة ولكن أجر جمعته قد بطل ولم ينل فضيلة الجمعة.(2/267)
ومن العلماء من يرى أن من يتكلم أثناء الخطبتين تصير جمعته ظهراً ولا تُحسب له جمعة واحتجوا بما ورد في الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب امرأته إن كان لها ولبس من صالح ثيابه ثم لم يتخط رقاب الناس ولم يلغ عند الموعظة كان كفارة ما بينهما ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهراً) رواه أبو داود وابن خزيمة وقال الشيخ الألباني: حديث حسن.
ويجب أن يعلم أن قيام المؤذن بذكر الحديث الوارد في السؤال قبل أن يبدأ الخطيب بالخطبة بدعة لا أصل لها في الشرع، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال الحديث ولا ريب ولكنه عليه الصلاة والسلام لم يأمر بلالاً ولا غيره من المؤذنين أن ينادي بالحديث قبل بدء الخطبة، فهذا أمر غير مشروع لأن الأصل في العبادات هو التوقيف عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشرع في خطبتي الجمعة بعد انتهاء المؤذن من الأذان وما كان أحد ينادي بهذا الحديث فالواجب ترك ذكر هذا الحديث بين يدي خطيب الجمعة وذلك اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الخير كل الخير في الاتباع وإن الشر كل الشر في الابتداع.
صلاة الفريضة في السيارة
يقول السائل: إنه يخرج من بيته قبل صلاة الفجر متوجهاً إلى عمله ويركب سيارة باص ولا يصل إلى عمله إلا بعد طلوع الشمس والسيارة لا تتوقف في الطريق فهل يصلي صلاة الفجر في السيارة أم ماذا يصنع؟
الجواب: يجوز لهذا السائل أن يصلي صلاة الفجر في السيارة بالكيفية التي يستطيعها حتى لا تفوته الصلاة فيصلي في السيارة فإذا أمكنه الركوع والسجود واستقبال القلبة فيجب عليه ذلك وإن لم يستطع الركوع والسجود واستقبال القبلة فإنه يصلي بقدر طاقته فيومئ إيماء " يشير " ويجعل السجود أكثر انخفاضاً من الركوع، وهكذا فدين الإسلام دين يسر وسهولة(2/268)
فقد قال سبحانه وتعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) ويقول عليه الصلاة والسلام: (إذا أمرتكم بأمر فأئتوا منه ما استطعتم) رواه البخاري ومسلم.
وقد ورد في الحديث عن يعلى بن أمية: (أن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى مضيق هو وأصحابه وهو على راحلته والسماء من فوقهم المطر والبلة من أسفل منهم فحضرت الصلاة فأمر المؤذن فأذن وأقام ثم تقدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته فصلى بهم يومئ إيماء يجعل السجود أخفض من الركوع) رواه أحمد والترمذي.
وفي سنده ضعف ولكن الترمذي قال بعد أن ساق الحديث وبين ما فيه: (والعمل على هذا عند أهل العلم وبه يقول أحمد وإسحاق.
وقال أبو بكر ابن العربي: [حديث يعلى ضعيف السند صحيح المعنى. ثم قال: الصلاة على الدابة بالإيماء صحيحة إذا خاف من خروج وقت الصلاة ولم يقدر على النزول لضيق الموضع أو لأنه عليه الطين والماء] .
وبناء على ما تقدم فتصح صلاة الفريضة في السيارة أو الطائرة أو القطار أو نحو ذلك. هذا إذا كان المصلي يخشى خروج الوقت أما إذا كان يعلم أنه يصل إلى غايته قبل خروج وقت الصلاة بمدة كافية لأداء الصلاة فلا ينبغي له أن يصلي الفريضة في السيارة ونحوها وكذلك الحال إذا كانت الصلاة تجمع إلى غيرها فإما أن يصلي جمع تقديم أو تأخير ولا يصليها في السيارة ونحوها.
صلاة التراويح
يقول السائل: هل تصلى التراويح عشرون ركعة أم ثماني ركعات وهل تصح صلاة التراويح في البيت؟
الجواب: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد رغب في قيام رمضان وحث عليه في أحاديث منها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمر فيه بعزيمة فيقول: (من قام رمضان إيماناً(2/269)
واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه البخاري ومسلم.
وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالصحابة في رمضان في عدة ليال في أوله وفي آخره كما ثبت ذلك عنه، وكان هديه صلى الله عليه وسلم أن يصلي إحدى عشرة ركعة كما ثبت ذلك عنه في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة) رواه البخاري ومسلم.
ولم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم المداومة على صلاة التراويح لأنه خشي أن تفرض على الأمة كما ثبت ذلك في الصحيحين.
وقد اختلف أهل العلم في عدد ركعات صلاة التراويح فأكثر الفقهاء يرون أنها تصلى عشرين ركعة والوتر ثلاث ركعات وهذا القول مشهور عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث ورد أنه جمع الناس على إمام واحد يصلي بهم ثلاثاً وعشرين ركعة كما ورد في الحديث عن عبد الرحمن بن عبد القاري، قال: (خرجت مع عمر بن الخطاب في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ثم عزم فجمعهم على أبيّ بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال عمر: نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون. يعني آخر الليل وكان الناس يقومون أوله) رواه البخاري.
ورى البيهقي بإسناد صحيح كما قال النووي: عن السائب بن يزيد الصحابي رضي الله عنه قال: [كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في شهر رمضان بعشرين ركعة وكانوا يقومون بالمئتين.] المجموع 4/32.
ومن أهل العلم من يرى عدم زيادة صلاة التراويح عن إحدى عشرة ركعة لحديث عائشة السابق وغيره من الأحاديث الثابتة في هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وترى طائفة أخرى من أهل العلم عدم تحديد عدد معين من الركعات في صلاة قيام رمضان أي التراويح ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام(2/270)
الشوكاني وغيرهما وأنا أميل إلى هذا القول، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما نصه: [كما أن نفس قيام رمضان لم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم فيه عدداً معيناً بل كان هو صلى الله عليه وسلم لا يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاثة عشرة ركعة لكن كان يطيل الركعات فلما جمعهم عمر على أبي بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة لأن ذلك أخف على المأمومين من تطويل الركعة الواحدة ثم كان طائفة من السلف يقومون بأربعين ركعة ويوترون بثلاث وآخرون قاموا بست وثلاثين وأوتروا بثلاث وهذا كله سائغ فكيفما قام في رمضان من هذه الوجوه فقد أحسن.
والأفضل يختلف باختلاف أحوال المصلين فإن كان فيهم احتمال لطول القيام فالقيام بعشر ركعات وثلاث بعدها كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي لنفسه في رمضان وغيره هو الأفضل وإن كانوا لا يحتملونه فالقيام بعشرين هو الأفضل وهو الذي يعمل به أكثر المسلمين فإنه وسط بين العشر وبين الأربعين وإن قام بأربعين وغيرها جاز ذلك ولا يكره شيء من ذلك وقد نص على ذلك غير واحد من الأئمة كأحمد وغيره. ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد مؤقت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يزاد فيه ولا ينقص منه فقد أخطأ] مجموع الفتاوى 22/272.
القراءة من المصحف في التراويح
يقول السائل: رأينا بعض الأئمة يقرؤون من المصحف في صلاة التراويح فهل يجوز ذلك؟
الجواب: لا بأس بقراءة الإمام في التراويح من المصحف وخاصة أن كثيراً من الأئمة لا يحفظون كثيراً من القرآن الكريم، وقد يرغب الناس في تطويل القراءة في صلاة القيام في رمضان فإذا قرأ الإمام من المصحف فلا حرج في ذلك إن شاء الله.
وقد قال الإمام البخاري في صحيحه: [وكانت عائشة يؤمها غلامها ذكوان من المصحف] رواه معلقاً مجزوماً به.(2/271)
قال الحافظ ابن حجر: [وصله أبو داود في كتاب المصاحف من طريق أيوب عن ابن أبي مليكة (أن عائشة كان يؤمها غلامها ذكوان من المصحف) ووصله ابن أبي شيبة قال: حدثنا وكيع عن هشام بن عروة عن أبي بكر بن أبي مليكة عن عائشة: (أنها أعتقت غلاماً لها فكان يؤمها في رمضان في المصحف) . قوله في المصحف استدل به على جواز قراءة المصلي في المصحف] فتح الباري 2/326.
ولكن الأولى أن يقرأ الإمام من حفظه لما في ذلك من تقليل الحركة في الصلاة ومحافظة على الخشوع.
التكبير عند ختم المصحف
يقول السائل: ما حكم التكبير عند ختم المصحف من سورة الضحى إلى سورة الناس؟
الجواب: إن التكبير المشار إليه في السؤال لم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم بسند صحيح ولم يقل به أكثر القراء لذلك فلا ينبغي لأحد أن يفعله لأنه ليس من السنة. ونقل التكبير من سورة الضحى إلى آخر المصحف البزي عن ابن كثير عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن مفلح: [وهذا حديث غريب رواية أحمد بن محمد بن عبد الله البزي وهو ثبت في القراءة، ضعيف الحديث، وقال أبو حاتم الرازي: هذا حديث منكر.] الآداب الشرعية 2/310.
وفضل شيخ الإسلام ابن تيمية أن لا يكبر القارئ فقد أجاب على سؤال بأن جماعة قرأوا القرآن فإذا وصلوا إلى الضحى لم يهللوا ولم يكبروا إلى آخر الختمة ففعلهم ذلك هو الأفضل أم لا؟(2/272)
فأجاب: [الحمد لله، نعم إذا قرأوا بغير حرف ابن كثير كان تركهم لذلك هو الأفضل بل المشروع المسنون فإن هؤلاء الأئمة من القراء لم يكونوا يكبرون لا في أوائل السور ولا في أواخرها] مجموع الفتاوى 13/417.
هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم عند انحباس المطر
يقول السائل: كيف كان هدي الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه عند انحباس الأمطار؟
الجواب: إن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم فقد قال تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر) .
ولقد انحبس المطر في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كما تشير إلى ذلك الروايات الثابتة والتي سأذكر بعضها.
وقد كان هدي الرسول صلى الله عليه وسلم إذا انحبست الأمطار أن يستسقي للمسلمين والاستسقاء يكون بالصلاة المعروفة وهي صلاة الاستسقاء أو بالدعاء. وقد ثبت في صحيح البخاري أن المسلمين كانوا يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يستستقي لهم عند انحباس الأمطار فقد روى الإمام البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (إن رجلاً دخل يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فاستقبل رسول الله قائماً فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا. قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقال: اللهم اسقنا اللهم اسقنا، قال أنس: والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة ولا شيئاً وما بيننا وبين سلع - اسم جبل بالمدينة المنورة - من بيت ولا دار قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت. قال: والله ما رأينا الشمس سبتاً - أي اسبوعاً - ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فاستقبله قائماً. فقال: يا رسول الله هلكت(2/273)
الأموال وانقطعت السبل فادع الله يمسكها. قال: فرفع رسول الله يديه ثم قال: اللهم حوالينا لا علينا اللهم على الآكام والجبال والظراب والأودية ومنابت الشجر. قال: فانقطعت وخرجنا نمشي في الشمس) .
ويتضح من هذا الحديث أنهم كانوا يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستسقي لهم وكان يجيبهم إلى ذلك وهذا هدي الصحابة من بعده.
قال الإمام البخاري: (باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا) وقال الإمام البخاري: (باب إذا استشفعوا إلى الإمام ليستسقي لهم لم يردهم) وقد ذكر في هذا الباب حديث أنس السابق وأبلغ من ذلك أن المشركين اسشتفعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم عند انحباس المطر ودعا لهم فنزل المطر عليهم روى ذلك البخاري وغيره.
فينبغي على الائمة أن يقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك بل المفروض أن يبادروا إلى الدعوة إلى إقامة صلاة الاستسقاء وينبغي على الإمام أن يأمر المسلمين قبل الاستسقاء بجملة أمور منها:
1. أن يأمر الإمام الناس بترك المظالم والتوبة من المعاصي وأداء الحقوق حتى يكونوا أقرب إلى الإجابة فإن المعاصي سبب من أسباب القحط والجدب، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) سورة الأعراف الآية 96.
2. ينبغي الإكثار من الدعاء والذكر والاستغفار بخضوع وتذلل يقول الله سبحانه وتعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) سورة نوح الآيات 10-12.
وقال تعالى: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا) سورة هود الآية 52.
وخير الدعاء هو الدعاء المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ورد في الحديث عن عائشة رضي اله عنها قالت: (شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر فأمر بمنبر فوضع له في المصلى ووعد الناس يوماً يخرجون(2/274)
فيه فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدا حاجب الشمس فقعد على المنبر فكبر وحمد الله عز وجل ثم قال إنكم شكوتم جدب دياركم واستئخار المطر عن أبان زمانه عنكم وقد أمركم الله سبحانه وتعالى أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم. ثم قال: الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين لا إله إلا الله يفعل ما يريد اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغاً إلى حين) رواه أبو داود بإسناد صحيح كما قال الإمام النووي. وغير ذلك من الأدعية الواردة عن رسول اله صلى الله عليه وسلم.
وقد استحب بعض أهل العلم أن يكثر الناس من الصدقة والصوم قبل الاسستقاء ويستحب أن يخرج المسلم إلى المصلى متواضعاً متخشعاً متضرعاً لما ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم للاستسقاء متذللاً متواضعاً متخشعاً حتى أتى المصلى) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حسن صحيح، ولا يعتبر انتشار المعاصي بين الناس وقطيعتهم للرحم ومنعهم للزكاة سبباً موجباً لترك صلاة الاستسقاء.
من أحكام صلاة الاستخارة
يقول السائل: في رسالة طويلة تتعلق بالاستخارة إنه بحاجة إلى معرفة كيفية الاستخارة، وما علاقة الاستخارة بالاستشارة وما وقت الاستخارة؟ وهل من اللازم بعد الاستخارة أن يرى الإنسان رؤية؟
الجواب: اتفق أهل العلم على أن الاستخارة سنة ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ويدل على ذلك ما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني استخيرك بعلمك واستقدرك بقدرتك(2/275)
واسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب.
اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال: في عاجلة أمري وآجله فاقدره لي وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال: في عاجلة أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم ارضني به، ويسمي حاجته) .
والاستخارة فيها التسليم لأمر الله وخروج الإنسان من حوله وقوته والالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى للجمع بين خيري الدنيا والآخرة وأفضل شيء لذلك اللجوء إلى الصلاة والدعاء لما فيهما من الثناء على الله وتعظيمه والافتقار إليه.
وهذه بعض الأحكام المتعلقة بالاستخارة:
1. أن تكون في الأمور المباحة التي لا يعرف فيها الإنسان وجه الصواب كأن يستخير في مرافقة فلان أو السفر إلى البلد الفلاني ونحو ذلك.
2. أن لا تكون الاستخارة في الأمور الواجبة أو المحرمة أو المكروهة وكذلك لا تكون في أصل المندوبات.
3. تكون الاستخارة عندما يهم الإنسان بعمل شيء ولا يكون عازماً على ذلك كأن يكون متردداً ولا يدري أيهما الصواب فعل الشيء أم تركه.
4. ينبغي للمسلم أن يستشير من يثق به من إخوانه وأصحابه قبل الاستخارة. قال الإمام النووي: [يستحب أن يستشير قبل الاستخارة من يعلم من حاله النصيحة والشفقة والخبرة ويثق بدينه ومعرفته قال تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) وإذا استشار وظهر أنه مصلحة استخار الله تعالى في ذلك] .(2/276)
5. المشهور في كيفية الاستخارة أنها تكون بعد أن يصلي المسلم ركعتين نافلة بنية الاستخارة ثم يدعو بالدعاء المأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد السلام من الركعتين وبعد الدعاء يسمي الإنسان حاجته وأجاز بعض العلماء أن يكون الدعاء أثناء السجود.
6. ويمكن أن تكون الاستخارة بدعاء الاستخارة بعد أي صلاة أو بدعاء الاستخارة بدون صلاة والأولى هي الأولى.
7. تجوز صلاة الاستخارة في جميع الأوقات ما عدا الأوقات التي تكره فيها الصلاة عند طلوع الشمس وعند زوالها وعند غروبها وبعد الفجر حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغيب الشمس.
8. يستحب أن يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة (قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ) وفي الركعة الثانية بعد الفاتحة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) .
9. استحب بعض أهل العلم تكرار الاستخارة سبع مرات عندما لا ينشرح صدر المستخير لشيء ما.
10. ليس من اللازم لمن استخار أن يرى رؤيا في المنام وإنما الذي يعقب الاستخارة انشراح الصدر أو عدمه لفعل الشيء الذي استخار فيه لما روي في حديث أنس أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يا أنس إذا هممت بأمر فاستخر ربك فيه سبع مرات ثم انظر إلى الذي سبق إلى قلبك فإن الخير فيه) رواه ابن السني وهو ضعيف. والمقصود بانشراح الصدر هو ميل الإنسان وحبه للشيء من غير هوى للنفس.
صلاة الغائب
يقول السائل: حصل نقاش حول صلاة الغائب ونفى بعض الناس صلاة الغائب وزعم أنها صلاة مخترعة لا أصل لها في الدين فما قولكم في ذلك؟
الجواب: لقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلّى(2/277)
على النجاشي صلاة الغائب فمن ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى للناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه فخرج بهم إلى المصلى وكبر أربع تكبيرات) .
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي فكنت في الصف الثاني أو الثالث) رواه البخاري.
وعن جابر أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أخاً لكم قد مات فقوموا فصلوا عليه فقمنا صفين) رواه البخاري ومسلم.
وعن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخاكم النجاشي قد مات فقوموا فصلوا عليه. قال: فقمنا فصففنا عليه كما يصف على الميت وصلينا عليه كما يصلى على الميت) رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه وغير ذلك من الأحاديث.
وقد قال بمقتضى هذه الأحاديث الإمامان الشافعي وأحمد بن حنبل في الرواية المشهورة عنه فعندهما يصلى على كل ميت غائب احتجاجاً بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم حيث أنه صلى على النجاشي وهو غائب.
قال الإمام الشافعي: [الصلاة على الميت دعاء له فكيف لا يدعى له وهو غائب أو في القبر] .
وقال الحنفية والمالكية: صلاة الغائب غير مشروعة مطلقاً وما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته على النجاشي فخاص به.
وقد زعم بعضهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصل على النجاشي صلاة الغائب وإنما أحضر جثمان النجاشي أمام الرسول صلى الله عليه وسلم فصلى عليه صلاة الجنازة والنجاشي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الكلام مردود عند أهل العلم ووصف الإمام النووي هذا الكلام بأنه خيالات وأجاب عن ذلك بقوله: [قولهم أنه طويت الأرض فصار بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوابه أنه لو فتح هذا الباب لم يبق وثوق بشيء من ظواهر الشرع لاحتمال انحراف العادة في تلك القضية مع أنه لو كان شيء(2/278)
من ذلك لتوفرت الدواعي بنقله] المجموع 5/253.
وأجاب عن ذلك الإمام ابن العربي المالكي: [قالوا طويت له الأرض وأحضرت الجنازة بين يديه. قلنا: إن ربنا عليه لقادر وإن نبينا لأهل لذلك ولكن لا تقولوا إلا ما رويتم ولا تخترعوا حديثاً من أنفسكم ولا تحدثوا إلا بالثابتات ودعوا الضعاف.] فتح الباري 3/432.
وقد توسط جماعة من أهل العلم في هذه المسألة فقالوا: صلاة الغائب مشروعة في حق المسلم إذا مات ولم يصل عليه أحد من المسلمين وأما إذا صلي عليه فلا تشرع صلاة الغائب.
وقد اختار هذا القول أبو داود صاحب السنن والإمام الخطابي في معالم السنن وبعض الشافعية وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ومن المحدثين الشيخ المحدث الألباني وهذا رأي وجيه وفقه حسن.
قال الإمام الخطابي: [قلت: النجاشي رجل مسلم قد آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقه على نبوته إلا أنه كان يكتم إيمانه والمسلم إذا مات وجب على المسلمين أن يصلوا عليه إلا أنه كان بين ظهراني أهل الكفر ولم يكن بحضرته من يقوم بحقه في الصلاة عليه فلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك إذ هو نبيه ووليه وأحق الناس به فهذا والله أعلم هو السبب الذي دعاه إلى الصلاة عليه بظهر الغيب. فعلى هذا إذا مات المسلم ببلد من البلدان وقد قضي حقه في الصلاة عليه فإنه لا يصلي عليه من كان ببلد آخر غائباً عنه فإن علم أنه لم يصل عليه لعائق أو مانع عذر كانت السنة أن يصلي عليه ولا يترك ذلك لبعد المسافة فإذا صلوا عليه استقبلوا القبلة ولم يتوجهوا إلى بلد الميت إن كان في غير جهة القبلة] معالم السنن 1/270.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [الصواب: أن الغائب إن مات ببلد لم يصل عليه فيه صلي عليه صلاة الغائب كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي لأنه مات بين الكفار ولم يصل عليه وإن صلي عليه حيث مات لم يصل(2/279)
عليه صلاة الغائب لأن الفرض قد سقط بصلاة المسلمين عليه والنبي صلى الله عليه وسلم صلى على الغائب وتركه وفعله وتركه سنة وهذا له موضع وهذا له موضع] زاد المعاد 1/520.
ومما يؤيد هذا القول أنه مات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة خارج المدينة المنورة ولم ينقل أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى عليهم وما ورد من صلاته عليه الصلاة والسلام على رجل من الصحابة يقال له معاوية بن معاوية الليثي فهو غير صحيح وكذلك فإنه لما مات الخلفاء الراشدون وغيرهم من الصحابة لم يصل أحد من المسلمين عليهم صلاة الغائب ولو فعلوا لتواتر النقل بذلك عنهم كما قال الشيخ الألباني. أحكام الجنائز ص 93.
ومما يؤيد هذا القول ما ورد في إحدى روايات صلاة النبي عليه الصلاة والسلام على النجاشي أنه قال: (إن أخاكم قد مات بغير أرضكم فقوموا فصلوا عليه) رواه أحمد وابن ماجة وسندها على شرط البخاري ومسلم.
وخلاصة الأمر أن صلاة الغائب مشروعة في حق الميت المسلم الذي لا يصلى عليه.
أفضل الأذكار
يقول السائل: ما هي أفضل الأذكار الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وما حكم الذكر بلفظ الجلالة المفرد، الله الله؟!
الجواب: الذكر عبادة من أعظم العبادات وأجلها مع كونها أيسر العبادات لأن حركة اللسان أخف حركات الجوارح فيه يحصل الفضل للذاكر وهو قاعد على فراشه وفي سوقه وفي حال صحته ومرضه وفي حال قيامه وقعوده وإقامته وسفره فليس شيء من الأعمال الصالحة يعم الأوقات والأحوال مثل الذكر.
وقد أثنى الله في كتابه الكريم على الذاكرين والذاكرات فقال سبحانه(2/280)
وتعالى: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) .
وثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (سبق المفردون. قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات) رواه مسلم. وقد وردت أقوال عن الصحابة والتابعين في بيان المراد من الذاكرين والذاكرات فقد ورد عن ابن عباس رضي الله: [الذين يذكرون الله في أدبار الصلوات وغدواً وعشياً وفي المضاجع وكلما استيقظ من نومه وكلما غدا أو راح من منزله ذكر الله تعالى] ، وقال مجاهد: [لا يكون من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات حتى يذكر الله قائماً وقاعداَ ومضطجعاً] . وقال عطاء: [من صلى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله تعالى: (وَالذَّاكِرِينَ) راجع الأذكار للنووي ص 7.
وقد اتفق أهل العلم على أن أفضل الذكر هو القرآن الكريم.
قال الإمام النووي: [اعلم أن تلاوة القرآن هي أفضل الأذكار والمطلوب القراءة بالتدبر] الأذكار ص 85.
وبعد ذلك الأذكار المأثورة عن سيد الذاكرين عليه الصلاة والسلام وهي كثيرة وأفضلها: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلى الله والله أكبر) .
وقد وردت أحاديث كثيرة منها:
1. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس) رواه مسلم.
2. وعن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحب الكلام إلى الله أربع سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر لا يضرك بأيهن بدأت) رواه مسلم.
3. عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: (أفضل الذكر(2/281)
لا إله إلا الله) رواه الترمذي وقال: حديث حسن. وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي وغير ذلك من الأحاديث.
ولا شك أن الأذكار المأثورة عن الرسول صلى الله عليه وسلم هي أفضل الأذكار وخاصة الأذكار التي وردت في الشرع مرتبة على أوقات معلومة أو لأفعال مخصوصة وذلك لأن الرسول عليه الصلاة والسلام هو قدوتنا ولأنه أعلم بالله سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته ولكونه عليه الصلاة والسلام أفصح العرب وأعلمهم بمواقع الكلام لكونه أوتي جوامع الكلم وأمد بالتسديد الرباني وكمال النصح لأمته فاتباعه في أذكاره أفضل من الاشتغال بذكر يخترعه الإنسان من عند نفسه.
وبناء على ذلك فاعلم أخي السائل أن ذكر الله بلفظ الجلالة المفرد " الله، الله " لم يثبت عن الرسول عليه الصلاة والسلام ولا عن أصحابه رضي الله عنهم وهو ذكر مبتدع وليس من المأثورات في شي واعلم أن الذكر ثناء والثناء لا يكون إلا بجملة مفيدة يحسن السكوت عليها وليس كذلك الاسم المفرد. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: [وأما الاسم المفرد مظهراً أو مضمراً فليس بكلام تام ولا جملة مفيدة ولا يتعلق به إيمان ولا كفر ولا أمر ولا نهي ولم يذكر ذلك أحد من سلف الأمة ولا شرع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.] مجموع الفتاوى 10/226.
وقال في موضع آخر: [إن الشرع لم يتسحب من الذكر إلا ما كان كلاماً تاماً مفيداً مثل " لا إله إلا الله " ومثل " الله أكبر " ومثل " سبحان الله والحمد لله " ومثل " لا حول ولا قوة إلا بالله " ومثل " تبارك اسم ربك "، " تبارك الذي بيده الملك "، " سبح لله ما في السموات والأرض "، " تبارك الذي نزل الفرقان " فأما الاسم المفرد مظهراً مثل " الله، الله " أو مضمراً مثل " هو، هو " فهذا ليس بمشروع في كتاب ولا سنة ولا هو مأثور أيضاً عن أحد من سلف الأمة ولا عن أعيان الأمة المقتدى بهم وإنما لهج به قوم من ضلال المتأخرين.] مجموع الفتاوى 10/556.
وما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هو الحق الذي تؤيده الألدلة الشرعية فمن ذلك ما ورد في الحديث عن جابر رضي الله عنه أنه قال:(2/282)
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له) رواه مالك في الموطأ والطبراني وهو حديث حسن.(2/283)
الصيام والاعتكاف(2/285)
حكم من أصبح في أول يوم من رمضان مفطراً
ما حكم من أصبح في أول يوم من رمضان وهو لا يعلم بثبوت رؤية الهلال ولم يبيت النية للصوم؟
الجواب: يجب على من أصبح في اليوم الأول من رمضان وهو لا يعلم بثبوت رؤية الهلال ولم يبيت فيه الصوم يجب عليه أن يمسك بقية يومه ويجب عليه قضاء ذلك اليوم لأن تبييت النية من الليل أمر لا بد منه في صوم رمضان ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن ابن عمر عن حفصة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له) رواه أصحاب السنن وأحمد وهو حديث صحيح.
والمراد بقوله في الحديث: (يجمع) أي يعزم والمقصود أنه لا بد من النية قبل طلوع الفجر فعلى هذا الشخص أن يقضي يوماً عن اليوم الذي لم يصمه سواء أكل في ذلك اليوم أم لم يأكل.
وينبغي أن يعلم أن النية في الصوم لا يشترط فيها التلفظ باللسان بل إن التلفظ بها بدعة وإنما محلها القلب فإذا خطر على قلبه ليلاً أنه يصوم ويوم غد من رمضان فقد نوى وكذلك إذا قام للسحور وأما التلفظ بالنية فليس مشروعاً.(2/287)
العبادة في رمضان فقط
يقول السائل: نرى كثيراً من الناس يقبلون على عبادة الله في شهر رمضان فيصلون ويصومون ويرتادون المساجد فإذا انتهى شهر مضان انقطعوا عن عبادتهم فما تقولون في هؤلاء؟
الجواب: لا شك أن إقبال الناس على الصلاة والصيام وقراءة القرآن وارتياد المساجد في رمضان يشير إلى جوانب إيجابية في حياة الناس وإلى تعظيمهم لشهر مضان ولكنه يشير في الوقت ذاته إلى خلل في حقيقة تصور هؤلاء الناس لعبادة الله سبحانه وتعالى فالمفهوم الحقيقي لعبادة الله يتسم بطابع الاستمرارية وعدم الانقطاع فعبادة الله ينبغي أن تكون مستمرة ومتصلة طوال الوقت وعلى مدار الأيام وعبادة الله سبحانه وتعالى ليست موسمية في رمضان فقط وإنما في كل شهور العام فرب رمضام هو رب شوال وشعبان، والله سبحانه وتعالى يقول: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) أي استمر على عبادة الله حتى يأتيك الموت.
ونقول لهؤلاء الناس الذين يتقربون لله تعالى في رمضان أن عليهم أن يعتبروا قدوم شهر رمضان فرصة عظيمة لتجديد التوبة الصادقة والبدء بحياة جديدة في ظل الإيمان والالتزام بمنهج الرحمن وعليهم أن يجعلوا إقبالهم على الله في رمضان فاتحة خير للاستمرار على طريق الخير والرشاد ونوصيهم بأن يستمروا في هذا الطريق ونحذرهم من النكوص على أعقابهم بعد نهاية رمضان فإن فعلوا ذلك فقد ساروا في طريق الخذلان والعياذ بالله.
المفطرات المعتبرة
يقول السائل: يتناقل كثير من الناس في رمضان الحديث عن الأمور التي تفطر الصائم ونسمع من المشايخ كثيراً من ذلك كقولهم أن القطرة تفطر الصائم وأن الحقنة تفطر الصائم والتحميلة تفطر الصائم وإن أدخل إصبعه في(2/288)
دبره يفطر ونحو ذلك، فما هو الصحيح في هذه الأمور وأمثالها وهل تعتبر مفطرة للصائم أم لا؟
الجواب: إن الذي دل عليه القرآن الكريم وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم أن ما يفطر الصائم هو الطعام والشراب والجماع ومعلوم أن الطعام والشراب يتناوله الإنسان من منفذه الطبيعي وهو الفم فما كان طعاماً أو شراباً ودخل من المدخل الطبيعي فلا شك أنه يفطر الصائم.
وقد اجتهد فقهاء الإسلام في الأمور المفطرة للصائم وذكروا أشياء كثيرة من المفطرات حتى صارت كتب الفقه طافحة بها على اختلاف في المذاهب في كل منها، هل يعد مفطراً أم لا؟
والصحيح الذي أطمئن إليه وتؤيده الأدلة أن كثيراً مما ذكره الفقهاء من المفطرات ليس كذلك ولم تقم الأدلة الصحيحة على اعتباره مفطراً للصائم، وأنا أميل إلى التضييق في المفطرات وعدم التوسع فيها لعدم ثبوت الأدلة. على أن كثيراً مما عده الفقهاء من المفطرات أنه مفطر فعلاً فمثلاً قال بعض الفقهاء أن مجرد دخول أي شيء إلى داخل الجسم يعد مفطراً بغض النظر من أين دخل فمثلاً إذا احتقن الصائم بدواء فإنه يفطر بل قال بعضهم إذا استنجى الصائم فأدخل إصبعه في دبره أفطر وإذا اكتحل أفطر. الخ، وهذا الكلام غير مسلم وغير مقبول لماذا؟ لأن الصيام مما يبتلى به عامة الناس في دين الإسلام ولو كانت مثل هذه الأمور مفسدة للصوم لبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً مفصلاً، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: [وأما الكحل والحقنة وما يقطر في إحليله ومداواة المأمومة والجائفة فهذا مما تنازع فيه أهل العلم فنهم من لم يفطر بشيء من ذلك ومنهم من فطر بالجميع لا بالكحل ومنهم من فطر بالجميع لا بالتقطير ومن لم يفطر الكحل ولا بالتقطير ويفطر بما سوى ذلك والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك فإن الصيام في دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام ويفسد الصوم بها لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه(2/289)
الأمة كما بلغوا سائر شرعه فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لا حديثاً صحيحاً ولا ضعيفاً ولا مسنداً ولا مرسلاً علم أنه لم يذكر شيئاً من ذلك] مجموع الفتاوى 25/ 233-234.
وقال أيضاً: [إن الأحكام التي تحتاج الأمة معرفتها لا بد أن يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً ولا بد أن تنقلها الأمة فإذا انتفى هذا علم أن هذا ليس من دينه وإذا كانت الأحكام التي تعم بها البلوى لا بد أن يبينها صلى الله عليه وسلم بياناً عاماً ولا بد أن تنقل الأمة فمعلوم أن الكحل ونحوه مما تعم به البلوى كما تعم بالدهن والاغتسال والبخور والطيب فلو كان هذا مما يفطر لبين صلى الله عليه وسلم كما بين الإفطار بغيره] مجموع الفتاوى 25/236-242.
وقال ابن حزم: [إنما نهانا الله تعالى في الصوم عن الأكل والشرب والجماع وتعمد القيء والمعاصي وما علمنا أكلاً ولا شرباً يكون على دبر أو إحليل أو أذن أو عين أو أنف أو من جرح في البطن أو الرأس وما نهينا قط أن نوصل إلى الجوف بغير الأكل والشرب ما لم يحرم علينا إيصاله] المحلى 4/348.
إكراه الزوجة على الإفطار في نهار رمضان
تقول السائلة: إنها امرأة تصوم رمضان ولكن زوجها لا يصوم ويكرهها على الجماع في نهار رمضان فماذا تصنع؟
الجواب: إن زوجك رجل فاسق ومرتكب للمحرمات فهو لا يصوم ولا يكتفي بذلك بل يفسد عليك صيامك والواجب عليك ألا تطيعيه فيما يطلب وأن تحاولي الامتناع منه قدر الاستطاعة فإذا أكرهك إكراهاً شديداً وحصل الجماع فقد أفطرت ويجب عليك قضاء ذلك اليوم ولا إثم عليك إن شاء الله لقوله عليه الصلاة ولسلام: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) .(2/290)
وعلى زوجك أن يبادر إلى التوبة إلى الله عز وجل وأن يعود عن غيه وضلاله وعليه أن يحذر غضب الجبار سبحانه وتعالى ويجب عليك أن تذكريه بالله وتذكريه بحرمة ما يفعل لعله يذكر أو يخشى فيرجع إلى طريق الحق والصواب.
هل القطرة تفطر الصائم؟
هل القطرة في العين أو الأذن أو الأنف مما يفطر الصائم؟ وما حكم استعمال الحقن للصائم؟
الجواب: إن حقيقة الصيام هي الامتناع عن الطعام والشراب والجماع كما هو معروف فما كان من هذه الأنواع فهو مفطر للصائم وأما القطرة بأنواعها المختلفة سواء كانت في الأنف أو الأذن أو العين فإنها لا تفطر الصائم لأن هذه ليست طعاماً ولا شراباً ولا تدخل إلى الجوف من المدخل الطبيعي للطعام والشراب ولا يعد استعمال القطرة بأنواعها المختلفة أكلاً أو شراباً. لذلك فهي غير مفطرة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عند حديثه عن الكحل والقطرة ونحوها: [والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك فإن الصيام من دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام ويفسد الصوم بها لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه فلم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لا حديثاً صحيحاً ولا ضعيفاً ولا مسنداً ولا مرسلاً علم أنه لم يذكر شيئاً من ذلك] مجموع الفتاوى 25/234.
وقال ابن حزم رحمه الله: [ولا ينقض الصوم حجامة ولا احتلام. ولا حنة ولا سعوط ولا تقطير في أذن أو في إحليل أو في أنف.] المحلى 4/335.(2/291)
وأما الحقن التي تعطى تحت الجلد أو في الوريد فإذا كانت دواء فلا تفطر وإذا كانت على سبيل الغذاء فهي مفطرة وتتنافى مع حقيقة الصوم.
استعمال أدوية لتأخير الحيض للصائمة
هل يجوز للمرأة تناول أدوية تمنع الحيض حتى تتمكن من الصيام؟
الجواب: إن الحيض من الأمور التي كتبها الله سبحانه وتعالى على النساء والحيض من موانع الصوم كما هو معلوم والأفضل في حق المرأة أن تسير مع فطرتها التي فطرها الله عليها فتصوم ما شاء الله لها أن تصوم فإذا حاضت توقفت عن الصيام ومن ثم يلزمها القضاء بعد ذلك.
ومع ذلك فلا مانع من استعمال الأدوية التي تمنع الحيض حتى تتمكن المرأة من الصيام ولكن لا بد من تقييد ذلك بأن لا يلحق المرأة ضرر من استعمال هذه الأدوية وبناء عليه لا بد للمرأة من استشارة طبيب حاذق صاحب دين فإن أخبرها الطبيب بأن استعمال هذه الأدوية يضرها فلا يجوز لها استعمالها لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) رواه أحمد وابن ماجة والدارقطني وغيرهم وهو حديث صحيح.
ومما يشير إلى جواز استعمال المرأة لهذه الأدوية ما ورد عن بعض السلف أنهم كانوا يسقون نسائهم أدوية مأخوذة من الأعشاب لمنع نزول دم الحيض أثناء الحج ويقاس الصوم عليه.
قال الشيخ مرعي الكرمي الحنبلي: [وللأنثى شربه - أي دواء مباح - لحصول الحيض ولقطعه] .
لأن الأصل الحل حتى يرد التحريم ولم يرد كذا قال الشارح. منار السبيل 1/62.
وقد أفتى بالجواز في هذه المسألة كثير من أهل العلم المعاصرين منهم الشيخ القرضاوي حفظه الله.(2/292)
استعمال الصائم فرشاة الأسنان
ما حكم استعمال فرشاة الأسنان مع المعجون في نهار رمضان للصائم؟
الجواب: إن على الصائم أن يأخذ بالأسباب الكفيلة بالمحافظة على الصوم فيبتعد عن كل ما من شأنه أن يخل بالصوم، فيستيطع الشخص أن ينظف أسنانه بالفرشاة والمعجون قبل الفجر أو بعد الإفطار فهذا هو الأفضل ويجوز له أن يستعملها أثناء النهار إذا تيقن من عدم نزول شيء إلى جوفه. لأن نزول شيء من المعجون أو الماء إلى الجوف من المفطرات والاحتياط في هذا الأمر أولى.
أكل الصائم ناسياً
ما حكم من أكل أو شرب ناسياً وهو صائم وهل هناك فرق بين أن يكون ذلك في صوم فرض أو نافلة وهل يشرع لمن رآه يأكل أو يشرب أن يذكره؟
الجواب: لا شك أن النسيان من طبيعة الإنسان وهو من الأمور الخارجة عن إرادته وإن من يسر الشريعة الإسلامية أنها لا تكلف الإنسان حال نسيانه يقول الله تعالى: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) والنسيان ليس من كسب القلوب وقد ثبت في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه الطبراني والدارقطني والحاكم بألفاظ مختلفة وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي وغيرهم.
والمقصود بالرفع هنا هو حكم هذه الأمور الثلاثة المذكورة في الحديث والحكم المرفوع هو حكم الدنيا وحكم الآخرة وهذا الكلام ينطبق على من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فلا إثم عليه ولا قضاء عليه وليتم صومه وقد ثبت في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه) رواه البخاري ومسلم.(2/293)
ورود في حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أكل الصائم ناسياً أو شرب ناسياً فإنما هو رزق ساقه الله إليه ولا قضاء عليه) رواه الدارقطني وقال: إسناده صحيح كلهم ثقات كما نقله ابن الجوزي في التحقيق 2/87.
ويهذا يظهر أن من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فعليه أن يتم صومه ولا قضاء عليه ولا كفارة وهذا الحكم في مطلق الصوم فرضاً كان أو نفلاً ولا وجه لمن فرق بين صوم الفريضة وصوم النافلة في هذا الحكم وكذلك لا فرق بين أن يأكل الصائم أو يشرب قليلاً أو كثيراً فالحكم لا يختلف ما دام أن الأمر وقع نسياناً فلا حرج في ذلك.
فقد ورد في الحديث عن أم حكيم بنت دينار عن مولاتها أم إسحاق رضي الله عنها: (أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتي بقصعة من ثريد فأكلت معه ومعه ذو اليدين - صحابي - فناولها رسول الله صلى الله عليه وسلم عرقاً - عظم عليه لحم - فقال: يا أم إسحاق أصيبي من هذا. فذكرت أني كنت صائمة فرددت يدي لا أقدمها ولا أؤخرها فقال النبي صلى الله عليه وسلم مالك؟ قالت: كنت صائمة فنسيت. فقال ذو اليدين: الآن بعدما شبعت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتمي صومك فإنما هو رزق ساقه الله إليك] رواه أحمد والطبراني في الكبير كما قال الهيثمي.
ويشرع في حق من رأى إنساناً يعلم أنه صائم فرآه يأكل أو يشرب أن يذكره بصومه لأن ذلك من باب التعاون على البر والتقوى يقول الله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) .
ويتأكد هذا التذكير إذا كان الصائم يأكل أو يشرب في رمضان نسياناً فعليه أن يذكره لأن الأكل والشرب في نهار رمضان من المنكرات والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) رواه مسلم. إلا أن ذلك معفو عنه لأنه وقع نسياناً ووقوعه نسياناً من الصائم لا يعفي من رآه من تذكيره.(2/294)
صوم الأطفال
يقول السائل: في أي سن يصوم الأطفال؟
الجواب: إن الأطفال ليسوا من أهل التكليف شرعاً لقوله عليه الصلاة والسلام: (رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن الصغير حتى يكبر وعن المجنون حتى يفيق) رواه ابن ماجة وغيره وإسناده صحيح.
فهم غير مكلفين شرعاً ولكنهم يؤمرون بالصوم إذا أطاقوه وهذا الأمر على سبيل التمرين والتعويد وعلى هذا أكثر أهل العلم من أجل أن يتمرن الطفل على الصوم وكذلك يفعل معه بالنسبة لبقية الأحكام الشرعية فقد ورد في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: (مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع) رواه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه.
ولا شك أن الصوم أشق من الصلاة فلذلك فإن الصبي إذا أطاق الصوم يطلب منه ذلك ولا بد أن يكون صومه بالتدريج حتى لا يكون شاقاً عليه وقد يطيق الصبي الصوم وهو ابن ثمان أو تسع أو عشر ويعود تحديد السن إلى ولي أمره الذي يعرف مقدرة الصبي على الصوم من عدمها.
ومطالبة الصبي بالصوم أمر معهود منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم فقد ورد في الحديث عن الربيع بنت معوذ رضي الله عنها قالت: (أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار من أصبح مفطراً فليتم بقية يومه ومن أصبح صائماً فليصم قالت: فكنا نصومه بعد ونصوم صبياننا ونجعل لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذلك حتى يكون عند الإفطار) رواه البخاري ومسلم.
ففي هذا الحديث تخبر الصحابية الربيع أنهم كانوا يصومون الأطفال في صوم عاشوراء ويشغلونهم عن الطعام باللعب يصنعونها من الصوف فإذا كان الحال كذلك في صوم عاشوراء فمن باب أولى أن يكون في صوم رمضان حتى يتمرنوا على الصوم ويكون الأمر سهلاً إذا ما بلغوا وهكذا(2/295)
ينبغي أن يكون الأمر في بقية التكاليف الشرعية قال ابن عباس رضي الله عنهما: (اعملوا بطاعة الله واتقوا معاصي الله ومروا أولادكم بامتثال الأوامر واجتناب النواهي فذلك وقاية لهم ولكم من النار) .
صوم شهر رجب
ما حكم صيام شهر رجب وما مدى صحة الحديث الذي يقول: (رجب شهر الله وشعبان شهري ورمضان شهر أمتي) ؟
الجواب: أما الحديث المذكور فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الحافظ العراقي: [حديث ضعيف جداً وهو من مرسلات الحسن رويناه في كتاب الترغيب والترهيب للأصفهاني ومرسلات الحسن لا شيء عند أهل الحديث ولا يصح في فضل رجب حديث] .
وذكر المناوي أن الديلمي رواه في مسنده وقد عده ابن الجوزي في الموضوعات أي من الأخبار المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيض القدير 4/24، كشف الخفاء 1/433
وأما بالنسبة للصوم في شهر رجب فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيء على وجه التخصيص. قال الحافظ ابن رجب الحنبلي: [وأما الصيام فلم يصح في فضل صوم رجب بخصوصه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه] لطائف المعارف ص 228.
ولكن وردت أحاديث عامة في صوم الأشهر الحرم وشهر رجب أحدها فمن ذلك ما ورد في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (صم من الحرم واترك، صم من الحرم واترك، صم من الحرم واترك) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة ومن ذلك حديث أسامة قال: (قلت يا رسول الله لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان. قال: ذلك شهر يغفل الناس عنه(2/296)
بين رجب ورمضان وهو شهر تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يُرفع عملي وأنا صائم) رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة.
قال الشوكاني: ظاهر قوله في حديث أسامة: (أن شعبان شهر يغفل عنه الناس بين رجب ورمضان أنه يستحب صوم رجب لأن الظاهر أن المراد أنهم يغفلون عن تعظيم شعبان بالصوم كما يعظمون رمضان ورجباً به) نيل الأوطار 4/276.
هدي الرسول عليه الصلاة والسلام في الاعتكاف
يقول السائل: كيف كان هدي الرسول عليه الصلاة والسلام في الاعتكاف؟ وهل يصح للمسلم أن ينوي الاعتكاف كلما دخل المسجد؟ وما حكم الاعتكاف؟
الجواب: قال العلامة ابن القيم رحمه الله: [كان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل وتركه مرة فقضاه في شوال. واعتكف مرة في العشر الأول ثم الأوسط ثم العشر الأخير يلتمس ليلة القدر ثم تبين له أنها في العشر الأخير فداوم على اعتكافه حتى لحق بربه عز وجل. وكان يأمر بخباء فيضرب له في المسجد يخلو فيه بربه عز وجل وكان إذا أراد الاعتكاف صلّى الفجر ثم دخله. وكان يعتكف كل سنة عشرة أيام فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً. وكان إذا اعتكف دخل قبته وحده وكان لا يدخل بيته في حال اعتكافه إلا لحاجة الإنسان وكانت بعض أزواجه تزوره وهو معتكف ولم يباشر امرأة من نسائه وهو معتكف لا بقبلة ولا غيرها وكان إذا اعتكف طرح له فراشه ووضع له سريره في معتكفه. الخ] زاد المعاد 2/88-90.
هذا هو هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف وعلينا الاقتداء به صلى الله عليه وسلم وأما(2/297)
حكم الاعتكاف فهو مسنون عند أكثر أهل العلم في العام كله وأوكد الاعتكاف ما كان في العشر الأواخر من رمضان وإذا نذر المسلم الاعتكاف صار الوفاء به فرضاً.
وأما زمان الاعتكاف ومدته فجمهور العلماء يرون جواز الاعتكاف مدة يسيرة في المسجد كساعة أو ساعتين ونحو ذلك.
قال ابن حزم: [كل إقامة في مسجد لله تعالى بنية التقرب إليه اعتكاف فالاعتكاف يقع على ما ذكرنا مما قل من الأزمان أو كثر إذ لم يخص القرآن والسنة عدداً من عدد ولا وقتاً من وقت عن سويد بن غفلة قال: من جلس في المسجد وهو طاهر فهو عاكف فيه ما لم يحدث وعن عطاء بن أبي رباح عن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: إني لأمكث في المسجد ساعة وما أمكث إلا لأعتكف، قال عطاء: هو اعتكاف ما مكث فيه وإن جلس في المسجد احتساب الخير فهو معتكف وإلا فلا] المحلى 3/412.
وينبغي أن يعلم أن الاعتكاف لا بد أن يكون في المسجد الذي تقام فيه الجمعة والجماعة حتى لا يحتاج المعتكف للخروج لهما ولا بد في الاعتكاف أيضاً من النية لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) .
والمطلوب من المعتكف أن يلبث في المسجد وينشغل بالصلاة وقراءة القرآن والذكر والدعاء والاستغفار وعليه أن يبتعد عن الخوض في أمور الدنيا.
وعليه أن يجتنب ما لا يعنيه من الأقوال والأفعال ويجتنب أيضاً المراء والجدال والسباب ويقلل الكلام في أمور الدنيا ولا يتكلم إلا بخير ويكره للمعتكف أن يترك الكلام تركاً مطلقاً معتقداً أن ذلك قربة لله لأن ذلك بدعة وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من نذر ترك الكلام تركاً مطلقاً أن يتكلم ويجوز للمعتكف أن يأكل ويشرب وينام في المسجد مع وجوب محافظته على نظافة وطهارة المسجد ويجوز له أن يتطيب ويلبس ما شاء من الملابس الحسنة. وإذا نوى المسلم الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان فعليه أن يلبث في المسجد ولا يجوز له الخروج إلا لحاجة الإنسان ويجوز أن يخرج للوضوء والغسل وللأعمال الضرورية لأن الخروج من المسجد يفسد الاعتكاف إلا لما ذكرنا.(2/298)
الزكاة(2/299)
زكاة الزروع والثمار
كيف يزكي المزارعون مزروعاتهم وكيف تخرج زكاة البساتين من عنب وبرتقال وتفاح وبرقوق ونحو ذلك؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أولاً أن الزكاة واجبة في كل ما أخرجت الأرض مما يقصد بزراعته نماء الأرض وتستغل به الأرض عادة مثل القمح والشعير والعنب والتين والزيتون والورود والرياحين والزعتر والأعشاب الطبية التي يستنبتها الإنسان بقصد تنمية الأرض واستغلالها وهذا قول الإمام أبي حنيفة في زكاة المزروعات وهو أقوى المذاهب الفقهية في هذه المسألة ولم يحصر الزكاة في الأقوات الأربعة التي كانت معروفة قديماً وهي القمح والشعير والتمر والزبيب ولم يحصرها في ما يقتات ويدخر كما هو قول المالكية والشافعية ولم يحصرها في ما ييبس ويبقى ويكال كما هو قول الحنابلة.
وقول أبي حنيفة رحمه الله أهدى سبيلاً وأصح دليلاً واعتمد في ذلك على عموم قوله تعالى: (أنفقوا من طيبات) سورة البقرة الآية 267، وعلى قوله تعالى: (وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده) سورة الأنعام الآية 141.(2/301)
والمراد بالحق في الآية الزكاة المفروضة كما نقل القرطبي ذلك عن جماعة من الصحابة والتابعين.
واحتج أبو حنيفة بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر) رواه مسلم في صحيحه.
قال الإمام ابن العربي المالكي ناصراً قول أبي حنيفة في المسألة: [وأما أبو حنيفة فجعل الآية مرآته فأبصر الحق وقال: إن الله أوجب الزكاة في المأكول قوتاً كان أو غيره وبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في عموم: (فيما سقت السماء العشر) ] أحكام القرآن لابن العربي 2/759.
إذا ثبت هذا فإن الواجب إخراج زكاة الزروع والثمار عند الحصاد أو القطاف لقوله تعالى: (آتوا حقه يوم حصاده) ولا تجب الزكاة إلا إذا بلغ المحصول نصاباً والنصاب خمسة أوسق وتساوي في وقتنا الحضار 653 كيلو غرام تقريباً فإذا بلغ المحصول نصاباً فتجب فيه الزكاة ومقدار الواجب يكون 10% من الإنتاج إذا كانت المزروعات تسقى بما المطر أو مياه العيون بدون كلفة يتحملها المزارع أو 5% إذا كانت المزروعات تسقى بجهد من المزارع كمن يشتري المياه أو نحو ذلك أو 7. 5% إذا كانت المزروعات تسقى بكل من الطريقتين السابقتين. وعند تقدير الواجب على المزارع فإنه يحسب الناتج من المزروعات والثمار ويحسب ما أنفقه على الأرض من أجرة العمال أو أجرة معدات أو شراء أسمدة أو أدوية ونحوها ويخصمها ويزكي الباقي. ويجب أن يعلم أن المزارع إذا باع إنتاج أرضه قبل الجفاف كما هو الحال فيمن يبيع العنب قبل أن يصير زبيباً أو المزارع الذي يبيع إنتاجه من الخضار ونحوها فإن الزكاة واجبة في أثمانها إذا كانت تلك الخضار أو العنب قد بلغت نصاباً.
فالمزارع الذي باع إنتاج بساتينه من الفواكة مثلا وكانت قد بلغت نصاباً وكانت تسقى بماء المطر فالواجب عليه ان يخرج عشر الثمن زكاة لله تعالى.(2/302)
زكاة الأسهم
يقول السائل: إن له أسهماً في شركة تجارية فهل تجب الزكاة في الأسهم أم لا؟
الجواب: السهم هو الحصة التي يقدمها الشريك في شركات المساهمة وهو يمثل جزءاً معيناً من رأس مال الشركة فالسهم مال كما هو في الغالب لأن بعض الأسهم قد تكون عيناً وبما أن السهم مال مملوك فتجب الزكاة فيه إذا توافرت شروط وجوب الزكاة وهذا ما قرره الفقهاء المعاصرون.
ومن هؤلاء العلماء من يرى أنه تجب زكاة الأسهم على المساهم نفسه لأنه هو المالك لها فيقوم بإخراج زكاتها ومنهم من يرى أن الشركة هي المطالبة بإخراج زكاة الأسهم لأن الشركة لها شخصية اعتبارية مستقلة ولأن الزكاة حق متعلق بالمال نفسه فلا يشترط فيمن تجب عليه أن يكون مكلفاً شرعاً كما هو الحال في وجوب الزكاة في مال الصغير والمجنون.
ومن العلماء من جمع بين القولين بأن قال إن زكاة الأسهم تجب على المساهم لأنه هو المالك الحقيقي للأسهم وتقوم الشركة بإخراج الزكاة نيابة عنه فإذا نص نظام الشركة الأساسي على أن الشركة تخرج زكاة الأسهم فتقوم الشركة بإخراجها ولا يطالب بها المساهمون وأما إذا لم تقم الشركة بإخراج الزكاة فيجب على المساهم أن يزكي أسهمه وهذا رأي حسن قرره مجمع الفقه الإسلامي في جدة بالسعودية.
وعند قيام الشركة بإخراج زكاة الأسهم فإنها تخرجها كما يخرج الشخص العادي زكاة ماله بمعنى أن تعتبر جميع أموال المساهمين بمثابة أموال لشخص واحد وتفرض عليها الزكاة بهذا الاعتبار أخذاً بمبدأ الخلطة عند من عممه من الفقهاء في جميع الأموال وتعامل الأسهم في الشركة التجارية معاملة عروض التجارة فتقوم الأسهم وتزكى مع أرباحها في كل عام بنسبة 2. 5%.(2/303)
وأما إذا كان الشخص مساهماً في شركة تجارية ولا تقوم هذه الشركة بإخراج الزكاة فإن الواجب على المساهم أن يخرج زكاة أسهمه بعد أن يعرف قيمة أسهمه وأرباحها.
صرف الزكاة لموظفي لجان الزكاة
باعتبارهم من العاملين عليها
هل يجوز أن يعطى الموظفون العاملون في لجنة الزكاة من أموال الزكاة باعتبارهم من العاملين عليها؟
الجواب: من المعلوم أن مصارف الزكاة حددتها الآية الكريمة: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) .
ونظراً لغياب الدولة الإسلامية التي من واجبها القيام على شؤون الزكاة يجوز صرف سهم (َالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا) لموظفي لجان الزكاة بشرط أن يكون الموظف متفرغأ للعمل في مجال الزكاة وما يتعلق بها. فيجوز صرف رواتبهم منها، وكذلك يجوز أن يصرف للموظفين مكافآت عمل إضافية لمن كان يعمل بوظيفة أخرى إذا عمل لمصلحة الزكاة وقتاً خارج وقت وظيفته.
وينبغي مراعاة ألا يطغى الصرف على العاملين في مجال الزكاة على أي مصرف آخر من مصارف الزكاة ويجب عدم المغالاة في رواتب هؤلاء الموظفين وإنما يعطون راتباً يماثل رواتب أقرانهم.
صرف الزكاة للعمال العاطلين عن العمل
هل يصح إعطاء الزكاة للعمال الذين حرموا ومنعوا من العمل بسبب الظروف الراهنة التي نعيشها؟(2/304)
الجواب: إن الأصل في الزكاة أن تصرف في المصارف الثمانية المذكورة في قوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) .
فهؤلاء الذين تصرف لهم الزكاة فمن كان غنياً أو قادراً على الكسب فلا يجوز أن تصرف له الزكاة لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني.
والمقصود بذي مرة سوي أي الإنسان القوي السليم الأعضاء الذي يستطيع العمل والذي يفهم من النصوص الشرعية أن المقصود من يستطع العمل ويجد العمل والطريق إلى كسب العيش وأما من سدت طرق التكسب في وجهه ولا يجد عملاً فيجوز أن يعطى من الزكاة وإن كان قوياً قادراً على الكسب ولكنه لا يجد السبيل إلى ذلك كما هو حال كثير من العمال في وقتنا الحاضر الذي سدت سبل طلب الرزق أمامهم فإذا أعطوا من الزكاة فلا بأس بذلك، قال الإمام النووي: [قال أصحابنا - أي الشافعية - وإذا لم يجد الكسوب من يستعمله حلت له الزكاة لأنه عاجز] المجموع 6/191.
ويؤيد ما سبق ما رود في الحديث عن عبد الله بن عدي بن الخيار قال: (أخبرني رجلان أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة فسألاه منها فرفع فينا البصر وخفضه فرآنا جلدين - أي قويين - فقال: إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب) رواه أبو داود والنسائي وهو حديث صحيح كما قال الإمام النووي وصححه الشيخ الألباني.
مصرف (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) في آية الصدقات
ما المراد بقوله تعالى: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) في آية مصارف الزكاة؟(2/305)
الجواب: يقول الله سبحانه وتعالى في بيان مصارف الزكاة: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) سورة التوبة الآية 60.
وقد اختلف العلماء في المراد بعبارة (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) المذكورة في الآية فمنهم من رأى أن سبيل الله يراد بها سبيل الخير. [المصالح العامة التي تقوم عليها أمور الدين والدولة دون الأفراد بالإضافة إلى المجاهدين والمرابطين كبناء المستشفيات والملاجئ والمدارس الشرعية والمعاهد الإسلامية والمكتبات العامة ومساعدة الجمعيات الخيرية على أداء مهماتها الإنسانية ودعم المؤسسات التي تقدم خدمات عامة لأفراد المجتمع وكذا الإنفاق على الجهاد شريطة ألا يأكل ذلك أسهم الأصناف الأخرى التي ذكرت في آية الصدقات] إنفاق الزكاة في المصالح العامة ص 100-101.
ومن العلماء من يرى أن (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) الغزاة في سبيل الله فقط ولا يصح صرف الزكاة فيما سواه. ومن العلماء من يرى أن مصرف في سبيل الله يقصد به الجهاد والحج والعمرة.
وهنالك أقوال أخرى في المسألة ويجب أن نعلم أن لكل قول من الأقوال السابقة دليله.
وأرجح الأقوال هو القول الأول الذي يرى جواز صرف الزكاة في المصالح العامة وقد اختار هذا القول جماعة من العلماء المتقدمين واللاحقين ولهم أدلة قوية على ما ذهبوا إليه منها.
أولاً: لا يوجد نص صريح في كتاب الله أو سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام يمنع أن يصرف جزء من سهم (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) في المصالح العامة أو يحصر الصرف في الجهاد.
ثانياً: ثبت في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى دية رجل من الأنصار قتل بخيبر مئة من إبل الصدقة رواه البخاري ومسلم.
وهذا من الإصلاح بين الناس وهو من المصالح العامة.(2/306)
ثالثاً: إن المتأمل للآية التي حددت المصارف الثمانية للزكاة يجد أنها فرقت بين الفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم من جهة وبين بقية الأصناف الأخرى وهي الرقاب والغارمون وسبيل الله وابن السبيل من جهة أخرى في حرف الجر الذي سبق كلاً من المجموعتين فقد سبق ذكر الفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم حرف اللام وسبق الأصناف الأخرى حرف (في) واللام تفيد التمليك أما في فتفيد الوعاء وعلى هذا فالأصناف الأربعة الأوائل يملكون الزكاة والأصناف الأخرى يستحقون الزكاة فتصرف عليهم لتحقيق مصالحهم ومنافعهم وما جاءت المصالح العامة إلا لهذا. إنفاق الزكاة في المصالح العامة ص 103-104.
رابعاً: زعم بعض العلماء المعاصرين أن عبارة (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) إذا اقترنت بالإنفاق كان معناها الجهاد جزماً ولا تحتمل غيره مطلقاً. النظام الاقتصادي في الإسلام ص 208.
إن هذا الزعم غير صحيح وهذا الجزم غير مقبول وترده الآيات التي ذكر فيها (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) ويراد بها غير الجهاد فمن ذلك قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) سورة التوبة الآية 34.
فالمراد بسبيل الله في الآية المعنى الأعم وليس الجهاد فقط وإلا لكان من أنفق ماله على بسبيل الله في الآية المعنى الأعم وليس الجهاد فقط وإلا لكان من أنفق ماله على الفقراء والمساكين واليتامى ونحوهم داخلاً ضمن الذين يكنزون وليس الأمر كذلك.
ومن ذلك قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كلِّ سنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) سورة البقرة الآية 261.
ومن ذلك قوله تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) سورة البقرة الآية 262.
فهذه الأيات يفهم منها أن المراد بِ (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) المعنى العام وليس المعنى الخاص وخلاصة الأمر جواز الصرف في المصالح العامة للمسلمين ولكن يجب التدقيق والنظر العميق قبل الصرف حتى نتحقق أن ما نصرفه من هذا السهم هو فعلاً من المصالح العامة للمسلمين.(2/307)
لمن تعطى زكاة الفطر
لمن تعطى صدقة الفطر وهل يجوز نقلها من بلد إلى بلد آخر؟
الجواب: تُصرف صدقة الفطر للمساكين والفقراء والمحتاجين ولا تصرف في مصارف الزكاة الثمانية لورود الأحاديث في ذلك فمنها ما جاء في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) رواه أبو داود وابن ماجة والحاكم وصححه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (طعمة للمساكين) أي طعام للمساكين وهذا واضح في صرفها للمساكين دون غيرهم. ولما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: (أغنوهم عن الطواف هذا اليوم) رواه الحاكم والدارقطني وغيرهما.
والمراد إغناء الفقراء عن المسألة في ذلك اليوم أي يوم العيد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد أن ساق الحديثين السابقين: [ولهذا أوجبها الله طعاماً كما أوجب الكفارة وعلى هذا القول فلا يجزئ إطعامهما إلا لمن يستحق الكفارة وهم الآخذون لحاجة أنفسهم فلا يعطى منها المؤلفة قلوبهم ولا الرقاب ولا غير ذلك وهذا القول أقوى في الدليل] مجموع الفتاوى 25/73.
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: [وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تخصيص المساكين بهذه الصدقة ولم يكن يقسمها على الأصناف الثمانية قبضة قبضة ولا أمر بذلك ولا فعله أحد من أصحابه ولا من بعدهم بل أحد القولين عندنا - أي عند الحنابلة - إنه لا يجوز أخراجها إلا على المساكين خاصة وهذا القول أرجح من القول بوجوب قسمتها على الأصناف الثمانية] زاد لمعاد في هدي خير العباد 2/22.
وقد اختار بعض الفقهاء المعاصرين مثل االدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله قولاً قريباً من ذلك وهو: [تقديم الفقراء على غيرهم إلا لحاجة(2/308)
ومصلحة إسلامية معتبرة] فقه الزكاة 2/958.
وأما بالنسبة لنقل صدقة الفطر فالحال فيها كنقل زكاة المال من بلد إلى بلد فإن الأصل أن توزع الزكاة في البلد الذي جمعت منه ويجوز نقلها من بلد إلى آخر إذا كان هنالك مصلحة في نقلها كأن يكتفي أهل البلد الذي وجبت فيه الزكاة فيجوز نقلها إلى بلد آخر وأن ينقلها ليعطيها للأرحام والأقارب فهذا نقل جائز ولا بأس به. وكذلك إذا كان فقراء البلدان الأخرى أشد حاجة من فقراء بلده فيجوز نقل الزكاة إليهم لا بأس في ذلك إن شاء الله.
مضى العيد ولم يخرج زكاة الفطر
ما حكم شخص لم يخرج زكاة الفطر حتى مضى العيد؟
الجواب: إن صدقة الفطر واجبة مؤقتة بوقت محدد وهو قبل صلاة العيد فقد ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى صلاة العيد وقد أورد ابن عيينة في تفسيره عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال: [يقدم الرجل زكاته يوم الفطر بين يدي صلاته فإن الله تعالى يقول: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) سورة الأعلى الآيتان 14-15.
فإذا قامت صلاة العيد ولم يخرج صدقة الفطر فقد اتى مكروهاً كما قال جمهور الفقهاء وأما إن أخرها حتى انقضاء يوم العيد فأكثر الفقهاء على أن ذلك التأخير حرام ولكنها لا تسقط بل تبقى ديناً في ذمته حتى يخرجها.
قال بعض أهل العلم إن تأخيرها عن يوم العيد حرام بالاتفاق لأنها زكاة واجبة فوجب أن يكون في تأخيرها إثم كما في إخراج اصللاة عن وقتها. نيل الأوطار 4/207.
ويدل على ذلك حديث ابن عباس قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة(2/309)
الفطر طهرة لصلائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) رواه أبو داود وابن ماجة والحاكم وصححه
قال ابن حزم: [فمن لم يؤدها حتى خرج وقتها فقد وجبت في ذمته وماله لمن هي له فهي دين لهم وحق من حقوقهم وقد وجب إخراجها من ماله وحرم عليه إمساكها في ماله فوجب عليه أداؤها أبداً وبالله تعالى التوفيق ويسقط بذلك حقهم ويبقى حق الله تعالى في تضييعه الوقت لا يقدر على جبره إلا بالاستغفار والندامة] المحلى 4/266.(2/310)
الحج(2/311)
الدين والحج
يقول السائل: إنه يريد الحج وعليه ديون للناس فماذا يفعل؟
الجواب: إن من شروط وجوب الحج على المسلم أن يكون مستطيعاً لقوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) والاستطاعة المالية داخلة في ذلك ومن كان عليه ديون للناس فعليه أن يسدد هذه الديون فإن استطاع تسديدها وفضل معه من المال ما يكفي للحج فيجب عليه الحج وإن لم يبق معه ما يكفي للحج فلا يجب عليه الحج، فهذا الأصل في هذه المسألة.
ولكن نظراً لبعض الظروف المتعلقة بالحج في بلادنا فإن من كان عليه دين وعنده مال يكفي لذهابه إلى الحج فلو استئذن من أصحاب الديون وطلب منهم الإمهال وأذنوا له بالذهاب إلى الحج فلا بأس بذلك إن شاء الله هذا إذا كان ذهابه لأداء فريضة الحج وأما إن كان ذهابه لحج النافلة فالأولى في حقه أن يسدد ديونه لأن سداد الديون واجب وحجه نافلة والواجب يقدم على النافلة.(2/313)
الحج عن الميت
هل يجوز للولد أن يحج عن والده المتوفى في حجة نافلة وهل يصل ثوابها إلى أبيه الميت؟
الجواب: يجوز للولد أن يحج عن أبيه الميت حجة نافلة وينتفع الأب بذلك ويصل إليه الثواب إن شاء الله. وهذا مذهب جمهور الفقهاء ويدل على ذلك أحاديث كثيرة وردت في حج الإنسان عن غيره.
فمنها حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة قالت: (يا رسول الله إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: نعم حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ أقضوا الله فالله أحق بالوفاء) رواه البخاري.
ومنها حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة من خثعم قالت: (يا رسول الله إن أبي أدركته فريضة الله في الحج شيخاً كبيراً لايستطيع أن يستوي على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: حجي عنه) رواه البخاري ومسلم.
ومنها حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: (جاء رجل من خثعم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي أدركه الإسلام وهو شيخ كبير لا يستطيع ركوب الرحل والحج مكتوب عليه أفأحج عنه؟ قال: أنت أكبر ولده؟ قال: نعم. قال: أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يجزي ذلك عنه؟ قال: نعم. قال: فاحجج عنه) رواه أحمد والنسائي بمعناه، وقال الحافظ: إسناده صالح.
ومنها حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة. قال: (ومن شبرمة؟ قال: أخ لي أو قريب لي. قال: حججت عن نفسك؟ قال: لا. قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة) رواه أبو داود وابن ماجة وابن حبان وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني.
وغير ذلك من الأحاديث وإن كانت واردة في حج الفريضة، فإن النافلة(2/314)
داخلة فيها لأن العلماء قد نصوا على أن كل عبادة جازت النيابة في فرضها جازت النيابة في نفلها. وأما انتفاع الميت بثواب عمل الحي فثابت بأدلة كثيرة وهو مذهب جمهور أهل العلم. وبناء على ما سبق فيجوز للولد أن يحج نافلة عن والده وهذا من البر والإحسان ويدخل في عموم قوله تعالى: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) .(2/315)
الجنائز(2/317)
من يدخل المرأة الميتة في القبر؟
من هو الشخص الذي يجوز له أن يتولى وضع المرأة الميتة في قبرها وهل يشترط أن يكون من محارمها؟
الجواب: الأول والأفضل أن يتولى وضع المراة في قبرها محارمها أو زوجها وإذا تولى ذلك رجل أجنبي عنها يجوز ذلك ولا بأس به فلا يشترط فيمن يضع المرأة في قبرها أن يكون محرماً للمرأة فقد ثبت في الحديث: (أن أبا طلحة الأنصاري تولى دفن إحدى بنات الرسول صلى الله عليه وسلم عند موتها) رواه البخاري.
قراءة القرآن على الأموات
يقول السائل: أرجو بيان حكم قراءة القرآن على أرواح الأموات وهل يصل ثواب القراءة إليهم أم لا؟
الجواب: اتفق أهل العلم على أن الميت ينتفع بما عمله من خير في حياته ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) رواه مسلم.(2/319)
وكذلك اتفقوا على أن دعاء الحي للميت ينفعه ويدل على ذلك أدلة كثيرة منها قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) سورة الحشر الآية 10.
وما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم من دعائه للأموات في صلاة الجنازة وغيرها كحديث عوف بن مالك قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول: اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله وأوسع مدخله.) الحديث، رواه مسلم.
وكذلك اتفقوا على أن صدقة الحي عن الميت تنفع الميت ويدل على ذلك حديث عائشة أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله إن أمي افتلت نفسها ولم توص وأظنها لو تكلمت تصدقت أفلها أجر إن تصدقت عليها؟ قال: نعم) رواه مسلم. ومعنى افتلت نفسها أي ماتت فجأة.
كما اتفق جمهور العلماء على أن الحج عن الميت ينفعه لما ورد في الحديث عن بريدة أن امرأة قالت: (يا رسول الله، إن أمي ماتت ولم تحج أفيجزي أن أحج عنها؟ قال: نعم) رواه مسلم.
وكذلك قال طائفة من أهل العلم بأن الميت ينتفع بصوم الحي عنه لما ورد في حديث عائشة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه) رواه البخاري ومسلم.
هذه هي أهم الأعمال التي ينتفع بها الميت وتصل إليه والتي وردت فيها النصوص الشرعية.
وأما قراءة القرآن وجعل ثواب ذلك للميت فمسألة اختلف فيها أهل العلم قال الإمام النووي رحمه الله: [واختلف العلماء في وصول ثواب قراءة القرآن فالمشهور من مذهب الشافعي وجماعة أنه لا يصل وذهب أحمد بن حنبل وجماعة من العلماء وجماعة من أصحاب الشافعي إلى أنه يصل] الأذكار ص 40.
وقال الحنفية إن ثواب القرآن يصل إلى الميت وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم واختيار الإمام النووي وغيرهم من أهل العلم.
وهو الذي أختاره وأقول به لأن الأدلة الواردة في انتفاع الميت بعمل(2/320)
الحي في باب العبادات تدل على انتفاع الميت بقراءة القرآن إذ لا فرق بين انتفاعه بالصوم والحج وانتفاعه بقراءة القرآن، قال ابن قدامة رحمه الله: [وأي قربة فعلها وجعل ثوابها للميت المسلم نفعه ذلك إن شاء الله] المغني 2/423.
ثم ذكر بعض الأدلة الدالة على انتفاع الميت بعمل الحي وقد سقت بعضها ثم قال: (وهذه أحاديث صحاح وفيها دلالة على انتفاع الميت بسائر القرب لأن الصوم والحج والدعاء والاستغفار عبادات بدنية وقد أوصل الله نفعها إلى الميت فكذلك ما سواها] المغني 2/423.
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: [وأما قراءة القرآن وإهداؤها له تطوعاً بغير أجرة فهذا يصل إليه كما يصل ثواب الصوم والحج فإن قيل فهذا لم يكن معروفاً في السلف ولا يمكن نقله عن واحد منهم مع شدة حرصهم على الخير ولا أرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إليه وقد أرشدهم إلى الدعاء والاستغفار والصدقة والحج والصيام فلو كان ثواب القراءة يصل لأرشدهم إليه ولكانوا يفعلونه.
فالجواب إن مورد هذا السؤال إن كان معترفاً بوصول ثواب الحج والصيام والدعاء والاستغفار قيل له ما هذه الخاصية التي منعت وصول ثواب القرآن واقتضت وصول ثواب هذه الأعمال وهل هذا إلا تفريق بين المتماثلات وإن لم يعترف بوصول تلك الأشياء إلى الميت فهو محجوج بالكتاب والسنة والإجماع وقواعد الشرع.
وأما السبب الذي لأجله لم يظهر ذلك في السلف فهو أنهم لم يكن لهم أوقاف على من يقرأ ويهدي إلى الموتى ولا كانوا يعرفون ذلك البتة ولا كانوا يقصدون القبر للقراءة عنده كما يفعله الناس اليوم ولا كان أحدهم يشهد من حضره من الناس على أن ثواب هذه القراءة لفلان الميت بل ولا ثواب هذه الصدقة والصوم. ثم يقال لهذا القائل لو كلفت أن تنقل عن واحد من السلف أنه قال اللهم ثواب هذا الصوم لفلان لعجزت فإن القوم كانوا أحرص شيء على كتمان أعمال البر فلم يكونوا يشهدوا على الله بإيصال ثوابها إلى أمواتهم. فإن قيل إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرشدهم إلى الصوم(2/321)
والصدقة والحج دون القراءة قيل هو - صلى الله عليه وسلم - لم يبتدئهم بذلك بل خرج ذلك منه مخرج الجواب لهم فهذا سأله عن الحج عن ميته فأذن له وهذا سأله عن الصيام عنه فأذن له وهذا سأله عن الصدقة فأذن له ولم يمنعهم مما سوى ذلك وأي فرق بين وصول ثواب الصوم الذي هو مجرد نية وإمساك وبين وصول ثواب القراءة والذكر..) الروح ص 142-143.
.وأخيراً يجب التنبيه على أن القراءة التي تصل للميت وينتفع بها هي القراءة بدون أجر وأما إذا استأجر أهل الميت قارئاً يقرأ بأجره فلا يصل ثواب القراءة للميت ولا ينتفع بها ولا يصح الاستئجار على قراءة القرآن في هذه الحالة ولا ثواب في ذلك للقاريء ولا لذوي الميت ولا للميت قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (وأما الاستئجار لنفس القراءة - أي قراءة القرآن - والإهداء فلا يصح ذلك.. فلا يجوز إيقاعها إلا على وجه التقرب إلى الله تعالى وإذا فعلت بعروض لم يكن فيها أجر بالاتفاق لأن الله إنما يقبل من العمل ما أريد به وجهه لا ما فعل لأجل عروض الدنيا.. وأما إذا كان لا يقرأ لأجل العروض فلا ثواب لهم على ذلك وإذا لم يكن في ذلك ثواب فلا يصل إلى الميت شيء..) مجموع الفتاوى 24/ 315 - 316.
مأتم الأربعين
ما حكم إقامة مآتم بمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاة الميت ودعوة قاريء ليقرأ القرآن بأجر؟
والجواب: إن إقامة المآتم بمناسبة الأربعين من البدع المنكرة المنتشرة في مجتمعنا وهي مخالفة لهدي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ولما في ذلك من تجديد الأحزان على الميت ولما يصاحب ذلك من إضاعة الأموال فيما لا نفع فيه حيث إن بعض الناس قد يتكلفون في إعداد الطعام ويدفعون أموالاً طائلة قد يكون ورثة الميت بحاجة ماسة لها.(2/322)
وهذا الأمر لم يؤثر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو إحداث في الدين وتشريع لما لم يأذن به الله عز وجل يقول الله تعالى (أم لهم شركؤا شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) سورة الشورى الآية 21.
وقد ثبت في الحديث الصحيح قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) أي مردود عليه غير مقبول منه. وفي رواية أخرى (من عمل عملاً لس عليه أمرنا فهو رد) .
وأما بالنسبة لاستئجار القراء لقراءة القرآن في المآتم فهذا أيضاً من البدع وليس من الهدي النبوي في شيء.
ودفع المال في هذا العمل لا أجر فيه ولا ينتفع به الميت ولا القاريء وأخذ المال فيه غير جائز لأن هذا القاريء وأمثاله يقرؤون من أجل المال ولا يقصدون بقراءتهم وجه الله سبحانه وتعالى.
ولم يؤثر هذا الفعل عن الصحابة رضوان الله عليهم ولا عن السلف الصالح بل هو بدعة كما قلت والبدع من الضلالة فلا أجر في ذلك لا للقاريء ولا للميت ولا لمن دفع المال.
وبدلاً من إنفاق المال في هذه الأمور غير المشروعة يفضل إنفاق المال فيما ينفع الميت كالتصدق عنه كما جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) رواه مسلم.
ولما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن سعد بن عبادة - رضي الله عنه - توفيت أمه وهو غائب عنها فقال يا رسول الله: إن أمي توفيت وأنا غائب عنها فهل ينفعها إن تصدقت بشيء عنها؟ قال: (نعم..) رواه البخاري.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أبي مات وترك مالاً ولم يوص فهل يكفر عنه إن تصدقت عنه؟ قال: (نعم) رواه مسلم.(2/323)
وغير ذلك من الأحاديث.
فعلى المسلمين أن يقلعوا عن هذه البدع السيئة وعليهم الالتزام بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) . وقال أيضاً (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر) .(2/324)
المعاملات(2/325)
البيع بإسقاط إلى أجل
ما حكم البيع بالتقسيط مع العلم أن الثمن يزيد عن البيع الحال وهل تعتبر تلك الزيادة من الربا المحرم؟
الجواب: البيع بالتقسيط جائز شرعاً ولا مانع منه ويدل على ذلك قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) وكذلك ما ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث فقال رسول الله من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم وأجل معلوم) رواه البخاري ومسلم.
.وثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت: اشترى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يهودي طعاماً بنسيئة إلى أجل ورهنه درعاً من حديد رواه البخاري ومسلم.
.وليس في بيع التقسيط ربا وليس فيه غرر ما دام العاقدان قد بتا البيع فإذا قال البائع للمشتري: أبيعك هذه السلعة بألف دينار حاله وبألف ومئة مؤجلة فقال المشتري: اشتريها بألف ومئة مؤجلة فالعقد صحيح ولا مانع منه وزيادة المئة ليست من الربا المحرم فالصورة المذكورة جائزة.(2/327)
وأما إذا قال المشتري: قبلت ولم يحدد ما الذي قبله هل هو الثمن الحال أم الثمن المؤجل؟ فلا يجوز ذلك ويعتبر العقد باطلاً لأنه بيعتين في بيعة حيث أنه لم يجزم ببيع واحد.
.والبيع بالتقسيط فيه توسعة على الناس فالبائع يزيد مبيعاته والمشتري يستطيع الحصول على السلعة دون أن يكون لديه ثمناً حالاً بل يسدد ثمنها على أقساط.
.وقد بحث مجمع الفقه الإسلامي هذا الموضوع وقرر جوازه مع مراعاة ما يلي:
. 1. تجوز الزيادة في الثمن المؤجل عن الثمن الحال كما يجوز ذكر ثمن المبيع نقداً وثمنه بالاقساط لمدد معلومة ولا يصح البيع إلا إذا جزم العاقدان بالنقد أو التأجيل. فإن وقع البيع مع التردد بين النقد والتأجيل بأن لم يحصل الاتفاق الجازم على ثمن محدد فهو غير جائز شرعاً.
.2. لا يجوز شرعاً في بيع الأجل التنصيص في العقد على فوائد التقسيط مفصولة عن الثمن الحال بحيث ترتبط بالأجل سواء اتفق العاقدان على نسبة الفائدة أم ربطاها بالفائدة السائدة
. 3. إذا تأخر المشتري المدين في دفع القسط عن الموعد المحدد فلا يجوز إلزامه أي زيادة على الدين بشرط سابق أو بدون شرط لأن ذلك ربا محرم.
.4. يحرم على المدين المليء أن يماطل في أداء ما حل من الأقساط ومع ذلك لا يجوز شرعاً اشتراط التعويض في حالة التأخر عن الأداء.
.5. يجوز شرعاً أن يشترط البائع بالأجل حلول الأقساط قبل مواعيدها عند تأخر المدين عن أداء بعضها ما دام المدين قد رضي بهذا الشرط عند التعاقد.
.6. لا حق للبائع في الاحتفاظ بالمبيع بعد البيع ولكن يجوز للبائع أن يشترط على المشتري رهن المبيع عنده لضمان حقه في استيفاء الأقساط المؤجلة.(2/328)
بيع المرابحة للآمر بالشراء
يقول السائل: ما هو المقصود بعقد المرابحة الذي تتعامل به بعض المؤسسات والبنوك التي تسير وفق أحكام الشريعة الإسلامية وما الفرق بينه وبين الربا؟
الجواب: عقد المرابحة هو في الأصل بيع المرابحة المعروف عند الفقهاء المتقدمين وإن اختلفت بعض صوره الحديثة التي تتعامل وفقها المؤسسات والبنوك الإسلامية كبيع المرابحة للآمر بالشراء فبيع المرابحة عند الفقهاء هو بيع بمثل الثمن الأول مع زيادة ربح.
وصورة بيع المرابحة المستعملة الآن في البنوك والمؤسسات الإسلامية هي أن يتفق العميل والبنك على أن يقوم العميل بشراء البضاعة بربح معلوم بعد شراء البنك لها وهذه الصورة هي المسماة ببيع المرابحة للآمر بالشراء ومثال ذلك أن يطلب صاحب مصنع من البنك أو المؤسسة التي تتعامل وفق الشريعة الإسلامية أن يشتري له جهازاً من الأجهزة اللازمة له ويكون طلب الشراء مصحوباً باستعداد لشراء ذلك الجهاز من البنك أو المؤسسة إذا كانت مواصفاته كما طلب ويدفع المشتري ربحاً يتم الاتفاق عليه مقابل قيام البنك أو المؤسسة بشراء ذلك الجهاز وتأجيل الثمن وجعله على أقساط فيشتري البنك أو المؤسسة الجهاز ويحوزه في ملكه ثم يبيعه للآمر بالشراء حسب الشروط التي تم الاتفاق عليها، وإذا لحق بالجهاز ضرر يكون الضرر على البنك إلى أن يقوم بتسليمه للآمر بالشراء ويكون الآمر بالشراء ملزماً بشراء السلعة إذا كانت مواصفاتها كما طلب.
فهذه الصورة من بيع المرابحة للآمر بالشراء هي أكثر صورة منتشرة الآن وهذه الصورة جائزة شرعاً عند كثير من فقهاء العصر وصدرت بجوازها فتاوى كثيرة والأدلة على جوازها، قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) فالآية الكريمة تدل على حل جميع أنواع البيع إلا إذا ورد دليل بتحريم نوع معين والمرابحة من ضمن البيوع المباحة.(2/329)
وكذلك فإن المعاملات مبنية على مراعاة العلل والمصالح كما قرر ذلك فقهاء الإسلام يقول د. يوسف القرضاوي حفظه الله: [إن الشرع لم يمنع من البيوع والمعاملات إلا ما اشتمل على ظلم وهو أساس تحريم الربا والاحتكار والغش ونحوها أو ما خشي منه أن يؤدي إلى نزاع وعداوة بين الناس وهو أساس تحريم الميسر والغرر.] .
وكذلك فإن بيع المرابحة جائز قياساً على جواز عقد الاستصناع، وأما قول من قال إن هذه الصورة ما هي إلا نوع من الربا فكلام باطل ومردود وقد أجاب عن ذلك الشيخ القرضاوي فقال: [قالوا: إن القصد من العملية كلها هو الربا والحصول على النقود التي كان يحصل عليها العميل من البنك الربوي فالنتيجة واحدة وإن تغيرت الصورة والعنوان، فإنها ليست من البيع والشراء في شيء فإن المشتري الحقيقي ما لجأ إلى المصرف إلا من أجل المال والمصرف لم يشتر هذه السلعة إلا بقصد أن يبيعها بأجل إلى المشتري وليس له قصد في شرائها.
ونقول إن هذا الكلام ليس صحيحاً في تصوير الواقع فالمصرف يشتري حقيقة ولكنه يشتري ليبيع لغيره كما يفعل أي تاجر وليس من ضرورة الشراء الحلال أن يشتري المرء للانتفاع أو القنية أو الاستهلاك الشخصي، والعميل الذي طلب من المصرف الإسلامي أن يشتري له السلعة يريد شراءها حقيقة لا صورة ولا حيلة كالطبيب الذي ذكرنا أنه يريد شراء أجهزة ولجوء مثله إلى المصرف الإسلامي ليشتري له السلعة المقصودة له أمر منطقي لأن مهمة المصرف أن يقدم الخدمة والمساعدة للمتعاملين معه. من ذلك أن يشتري لهم السلعة بما يملك من ماله ويبيعها لهم بربح مقبول. نقداً أو لأجل وأخذ الربح المعتاد على السلعة لا يجعلها حراماً وبيعها إلى المشتري بأجل لا يجعلها حراماً أيضاً.
المهم أن هنا قصداً إلى بيع وشراء حقيقيين لا صوريين وليس المقصود الاحتيال لأخذ نقود بالربا والقول بأن هذه العملية هي نفس ما يجري في البنوك الربوية وإنما تغيرت الصورة فقط قول غير صحيح. فالواقع(2/330)
أن الصورة والحقيقة تغيرتا كلتاهما فقد تحولت من استقراض بالربا إلى بيع وشراء وما أبعد الفرق بين الإثنين وقد حاول اليهود قديماً أن يستغلوا المشابهة بين البيع والربا ليصلوا منها إلى إباحة الربا فرد الله تعالى عليهم رداً حاسماً بقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) سورة البقرة الآية 275.
على أن تغيير الصورة أحياناً يكون مهماً جداً وإن كانت نتيجة الأمرين واحدة في الظاهر فلو قال رجل لآخر أمام ملأ من الناس: خذ هذا المبلغ واسمح لي أن آخذ ابنتك لأزني بها فقبل وقبلت البنت لكان كل منهم مرتكباً منكراً من أشنع المنكرات ولو أنه قال له: زوجنيها وخذ هذا المبلغ مهراً لها. فقبل وقبلت لكان كل من الثلاثة محسناً والنتيجة في الظاهر واحدة ولكن يترتب على مجرد كلمة "زواج " من الحقوق والمسؤوليات شيء كثير. وكذلك كلمة " البيع " إذا دخلت بين المتعاملين فإنه يترتب عليها بأن يكون هلاك المبيع إذا هلك على ضمان البائع حتى يقبضه المشتري. وأن يتحمل تبعة الرد بالعيب إذا ظهر فيه عيب وكذلك إذا كان غائباً واشتراه على الصفة فجاء على غير المواصفات المطلوبة.
كما أنه إذا تأخر في توفية الثمن في الأجل المحدد لعذر مقبول لم تفرض عليه أية زيادة كما يفعل البنك الربوي بل يمهل حتى يوسر كما قال تعالى: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) البقرة 280.
وإن تأخر لغير عذر فهو حينئذ ظالم يستحق العقوبة كما في حديث: (مطل الغني ظلم) وحديث: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته) فمن حق المصرف الإسلامي أن يطالبه بالتعويض عن الضرر الفعلي قلّ أو كثر عملاً بالقاعدة الشرعية التي عبر عنها حديث: (لا ضرر ولا ضرار) وأخذ منها الفقهاء أن الضرر يزال.
وهذا يخالف ما تفعله البنوك الربوية لأنها تأخذ المبلغ المقترض والفائدة الربوية المقررة على كل حال من المعسر والموسر سواء حدث(2/331)
ضرر أم لم يحدث سواء كان الضرر قليلاً أم كثيراً بل تأخذه سواء سلمت السلعة المقترض لها المال أم لم يتسلمها أو هلكت فالبنك الربوي لا علاقة له بالسلعة بحال، انظر بيع المرابحة ص 27-31.
تحديد ربح التجار
يقول السائل: هل حدد الإسلام حداً معيناً لربح التجارة في تجارتهم؟
الجواب: إن المتتبع لآيات القرآن الكريم ولأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجد أنها حددت مقدار أرباحهم بل جعلت ذلك حسب ظروف التجارة والسماحة والتيسير وعدم الاستغلال.
وقد ورد في السنة النبوية ما يدل على جواز أن يربح التاجر ضعف ثمن البضاعة فقد ورد في الحديث الذي رواه الإمام البخاري بإسناده عن شبيب بن غرقدة، قال: (سمعت الحي يحدثون عن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً يشتري له به شاة فاشترى له به شاتين فباع إحداهما بدينار وجاءه بدينار وشاة فدعا له بالبركة في بيعه وكان لو اشترى التراب أربح فيه) وقول الراوي في الحديث: سمعت الحي أي قبيلته كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري 7/445.
وقد ورد هذا الحديث براوية أطول عند الإمام أحمد في مسنده عن عروة بن الجعد البارقي رضي الله عنه قال: (عرض للنبي صلى الله عليه وسلم جلب فأعطاني ديناراً، وقال: أي عروة أنت الجلب فاشتر لنا شاة فأتيت الجلب فساومت صاحبه فاشتريت منه شاتين بدينار فجئت أسوقهما فلقيني رجل فساومني فأبيعه شاة بدينار فجئت بالدينار وجئت بالشاة فقلت: يا رسول الله هذا ديناركم وهذه شاتكم. قال: وصنعت كيف؟ قال فحدثته الحديث. فقال: اللهم بارك له في صفقة يمينه، فلقد رأيتني أقف بكناسة الكوفة أي سوقها فأربح أربعين ألفاً قبل أن أصل إلى أهلي وكان يشتري الجواري ويبيع) الفتح الرباني 15/20.(2/332)
ففي هذا الحديث نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أقر عروة على بيعة الشاة بدينار مع أنه اشتراها بنصف دينار فقد ربح فيها ما نسبته 100% فهذا يدل على جواز أن يربح التجار هذه النسبة بشرط أن لا يكون في البيع غش أو خداع أو احتكار أو غبن فاحش.
فالتاجر المسلم الملتزم بدينه لا يتعامل بهذه الطرق غير المشروعة وقد ناقش مجمع الفقه الإسلامي مسألة تحديد أرباح التجار وقرر ما يلي:
أولاً: الأصل الذي تقرره النصوص والقواعد الشرعية ترك الناس أحراراً في بيعهم وشرائهم وتصرفهم في ممتلكاتهم وأموالهم في إطار أحكام الشريعة الإسلامية الغراء وضوابطها عملاً بمطلق قول الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) .
ثانياً: ليس هناك تحديد لنسبة معينة للربح يتقيد بها التجار في معاملاتهم بل ذلك متروك لظروف التجارة عامة وظروف التاجر والسلع مع مراعاة ما تقضي به الآداب الشرعية من الرفق والقناعة والسماحة والتيسير.
ثالثاً: تضافرت نصوص الشريعة الإسلامية على وجوب سلامة التعامل من أسباب الحرام وملابساته كالغش والخديعة والتدليس والاستغفال وتزييف حقيقة الربح والاحتكار الذي يعود بالضرر على العامة والخاصة.
رابعاً: لا يتدخل ولي الأمر بالتسعير إلا حيث يجد خللاً واضحاً في السوق والأسعار نائشاً من عوامل مصطنعة فإن لولي الأمر حينئذ التدخل بالوسائل العادلة الممكنة التي تقضي على تلك العوامل وأسباب الخلل والغلاء والغبن الفاحش.
بيع العنب لمن يعصره خمراً
ما حكم بيع العنب لمن يقوم بعصره وصنع الخمر منه؟(2/333)
الجواب: يحرم على المسلم أن يبيع العنب لشخص يصنع منه خمراً سواء كان ذلك الشخص مسلماً أو غير مسلم ويشترط لتحريم ذلك علم البائع بأن المشتري يصنع من العنب خمراً وهذا مذهب المالكية والحنابلة والمعتمد عند الشافعية ومذهب الظاهرية، ويدل على ذلك قوله تعالى: (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) قال ابن قدامة رحمه الله: [وهذا النهي يقتضي التحريم] المغني 4/167.
ويدل على ذلك أيضاً ما ورد في الحديث: (لعن الرسول عليه الصلاة والسلام في الخمر عشرة: عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمول إليه وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشتراة له) رواه الترمذي وابن ماجة وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني.
ويدل على ذلك ما روي في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من حبس العنب أيام القطاف حتى يبيعه من يهودي أو نصراني أو ممن يتخذه خمراً فقد تقحم النار على بصيرة) رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن كما قال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام ص 167.
وقد خالفه بعض المحدثين في تحسينه الحديث وقد روى محمد بن سيرين أن قيماً كان لسعد بن أبي وقاص في أرض له فأخبره عن عنب أنه لا يصلح زبيباً ولا يصلح إلا لمن يعصره - يجعله خمراً فأمر بقلعه وقال: بئس الشيخ أنا إن بعت الخمر) المغني 4/168.
وروى ابن حزم بسنده عن عطاء قال: [لا تبعه لمن يجعله خمراً] المحلى 7/522.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مثل هذا السؤال فقال: [لا يجوز بيع العنب لمن يعصره خمراً بل قد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من يعصر العنب لم يتخذه خمراً فكيف بالبائع له الذي هو أعظم معاونة ولا ضرورة لذلك فإنه إذا لم يمكن بيعه رطباً ولا تزبيبه فإنه يتخذه خلاً أو دبساً ونحو ذلك] مجموع الفتاوى 29/236.(2/334)
فسخ البيع للغبن الفاحش
يقول السائل: إنه اشترى بيتاً من شخص آخر ووقعا عقد البيع بينهما حسب الأصول الشرعية إلا أن البائع وبعد مضي أكثر من سنة طلب فسخ عقد البيع بحجة أنه قد غبن غبناً فاحشاً في الصفقة فما الحكم في ذلك؟
الجواب: إذا وقع عقد البيع حسب الأصول الشرعية بين المتبايعين كان العقد صحيحاً ولا يحق لأحدهما المطالبة بالفسخ لادعائه وقوع الغبن الفاحش في الصفقة لأن مجرد وقوع الغبن الفاحش في عقد البيع ليس مبرراً لفسخه كما ورد في المادة 356 من مجلة الأحكام العدلية ونصها: [إذا وجد غبن فاحش في البيع ولم يوجد تغرير فليس للمغبون أن يفسخ البيع.] .
وما قررته المجلة هو مذهب الحنفية والشافعية والمالكية في المشهور عندهم والمقصود بالغبن أن يزيد في سعر السلعة عن سعرها الحقيقي إذا كان الغبن صادراً من البائع كأن يبيع ما قيمته عشرة بمائة.
أو ينقص من قيمة السلعة ويشتريها بأقل من سعرها الحقيقي كأن يشتري ما يساوي مائة بعشرة هذا إذا كان الغبن من المشتري وقد يكون الغبن يسيراً أو فاحشاً وهناك خلاف في تقدير كل منهما وأما الغرر فهو وصف المبيع للمشتري بغير صفته الحقيقية.
حق الشفعة
يقول السائل: حدثت بعض المشكلات عند بيع الأراضي والعقارات بسبب اختلاف الناس في فهم موضع الشفعة أرجو بيان صاحب الحق في الشفعة؟
الجواب: الشفعة عند الفقهاء هي: حق تملك العقار المبيع جبراً عن المشتري بما قام عليه من ثمن وتكاليف.(2/335)
والشفعة مشروعة وثابتة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وردت فيها أحاديث كثيرة منها:
عن جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا أوقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) رواه البخاري.
وعن جابر رضي الله عنه أيضاً: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعة أو حائط لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن شاء أخذه وإن شاء ترك فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به) رواه مسلم.
وعن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جار الدار أحق بالدار من غيره) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه. وغير ذلك من الأحاديث.
والحمكة من مشروعية الشفعة كما بينها العلامة ابن القيم: [من محاسن الشريعة وعدلها وقيامها بمصالح العباد ورودها بالشفعة ولا يليق به غير ذلك فإن حكمة الشارع اقتضت رفع الضرر عن المكلفين ما أمكن فإن لم يمكن رفعه إلا بضرر أعظم منه أبقاه على حاله وإن أمكن رفعه بالتزام ضرر دونه رفعه به ولما كانت الشركة منشأ الضرر في الغالب فإن الخلطاء يكثر فيهم بغي بعضهم على بعض شرع الله سبحانه وتعالى رفع هذا بالقسمة تارة وانفراد كل من الشريكين بنصيبه وبالشفعة تارة وانفراد أحد الشريكين بالجملة إذا لم يكن على الآخر ضرر في ذلك فإذا أراد بيع نصيبه وأخذ عوضه كان شريكه أحق به من الأجنبي وهو يصل إلى غرضه من العوض من أيهما كان فكان الشريك أحق بدفع العوض من الأجنبي وهو يصل إلى غرضه من العوض من أيهما كان فكان الشريك أحق بدفع العوض من الأجنبي ويزول عنه ضرر الشركة ولا يتضرر البائع لأنه يصل إلى حقه من الثمن وكان هذا من أعظم العدل وأحسن الأحكام المطابقة للعقول والفطر ومصالح العباد.. إعلام الموقعين 2/139.
.وتثبت الشفعة للشريك فمثلاً إذا كان هنالك قطعة أرض أو عمارة يشترك في ملكها شخصان وملكهما مشاع فإذا أراد أحدهما بيع حصته فشريكه أحق بذلك من غيره وهذا مذهب جمهور الفقهاء عدا الحنفية.
.وأما السادة الحنفية فعندهم تثبت الشفعة للشريك وللجار الملاصق(2/336)
ولكل من الفريقين أدلته وحججه وردوده على الفريق الآخر، وقد اختار بعض أهل العلم قولاً وسطاً بين هذين القولين السابقين فقرروا أن الشفعة تثبت للشريك وللجار إذا كان شريكاً مع جاره في حقٍ من حقوق الإرتفاق الخاصة كأن يكون طريقهما واحداً، وهذا القول اختاره العلامة ابن القيم والإمام الشوكاني ونقل عن الإمام أحمد.
.وقد استدل لهذا القول بحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائباً إذا كان طريقهما واحداً) ، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وحسنه.
.قال ابن القيم: والصواب القول الوسط الجامع بين الأدلة الذي لا يحتمل سواه وهو قول البصريين وغيرهم من فقهاء الحديث أنه أن كان بين الجارين حقٌ مشترك من حقوق الأملاك من طريقٍ أو ماء أو نحو ذلك تثبت الشفعة وأن لم يكن بينهما حق مشترك البتة بل كان كل واحدٍ منهما متميزاً ملكه وحقوق ملكه فلا شفعة) ، إعلام الموقعين 2/149.
.وقال أيضاً: والقياس الصحيح يقتضي هذا القول فإن الإشتراك في حقوق الملك شقيق الإشتراك في الملك، والضرر الحاصل بالشركة فيها كالضرر الحاصل بالشركة في الملك أو أقرب إليه، ورفعه مصلحة للشريك من غير مضرة على البائع ولا على المشتري فالمعنى الذي وجبت لأجله شفعة الخلطة في الملك الموجود في الخلطة في حقوقه فهذا المذهب أوسط المذاهب وأجمعها للأدلة وأقربها إلى العدل..) ،
إعلام الموقعين 2/ 150 - 151.
وبناءً على ما تقدم فإن الشفعة تثبت للشريك وتثبت للجار إذا كان بينه وبين جاره حق مشترك لهما وفي ذلك تحقيق الحكمة من مشروعية الشفعة وهي إزالة الضرر.
رد القرض للمقرض مع هدية
يقول السائل: إنه استقرض مبلغاً من المال من شخص ولما قضاه القرض أهداه هدية فما حكم ذلك؟(2/337)
الجواب: الإقراض من الأمور الطيبة التي يعين بها المسلم أخاه ويفك عسره ويفرج كربته وهو داخل في عمومات الأدلة التي تحض على قضاء حاجة المسلم وإعانته كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من نفس على أخيه كربة من كرب الدنيا نفس الله بها عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) .
وورد في الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مسلم يقرض مسلماً قرضاً مرتين إلا كان كصدقتها مرة) رواه ابن ماجة وقال الشيخ الألباني: حديث حسن. الإرواء 5/226.
وقد ثبت في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استقرض جملاً من أعرابي) رواه البخاري.
وورد في الحديث عن عبد الله بن أبي ربيعة قال: (استقرض مني النبي صلى الله عليه وسلم أربعين ألفاً فجاءه مال فدفعه إلي وقال: إنما جزاء السلف الحمد والأداء) رواه النسائي وابن ماجة وأحمد وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني. الإرواء 5/224، وغير ذلك من الأحاديث.
والأصل في القرض أن يسدده المقترض كما اقترضه وأما إذا أقرض وشرط أن يزيد عند السداد فهذا من الربا المحرم.
وأما إذا اقترض وزاده عند الوفاء وكانت تلك الزيادة غير مشروطة عند العقد فمذهب جمهور الفقهاء جواز ذلك. ولا تعد تلك الزيادة من الربا ومثل ذلك الهدية بعد سداد القرض كما في السؤال.
ويدل على جواز ذلك أحاديث واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم وآثار عن الصحابة رضي الله عنهم منها:
1. عن أبي رافع رضي الله عنه قال: (استلف النبي صلى الله عليه وسلم بكراً - الفتي من الإبل - فجاءته إبل الصدقة فأمرني أن أقضي الرجل بكره، فقلت: إني لم أجد من الإبل إلا جملاً خياراً رباعياً - جملاً كبيراً له من العمر ست سنوات - فقال: أعطه إياه فإن من خير الناس أحسنهم قضاء) رواه مسلم.(2/338)
2. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (استقرض رسول الله صلى الله عليه وسلم سناً فأعطى سناً خيراً من سنه، وقال: خياركم أحاسنكم قضاء) رواه أحمد والترمذي وصححه.
3. وفي رواية أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان لرجل على النبي صلى الله عليه وسلم مسن من الإبل فجاء يتقاضاه، فقال: أعطوه فطلبوا سنه فلم يجدوا إلا سناً فوقها، فقال: أعطوه. فقال: أوفيتني أوفاك الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن خيركم أحسنكم قضاء) رواه البخاري ومسلم.
4. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد ضحى فقال: صل ركعتين وكان لي عليه دين فقضاني وزادني) رواه البخاري.
وفي رواية أخرى عند البخاري قال جابر: (فلما قدمنا المدينة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم يا بلال: اقضه وزده فأعطاه أربعة دنانير وزاده قيراطاً) .
5. وعن مجاهد قال: (استلف عبد الله بن عمر من رجل دراهم ثم قضاه دراهم خيراً منه فقال الرجل: يا أبا عبد الرحمن هذه خير من دراهمي التي أسلفتك، فقال عبد الله بن عمر: قد علمت ولكن نفسي بذلك طيبة) رواه مالك في الموطأ.
6. وقال الإمام مالك رحمه الله: (لا بأس بأن يقبض من أسلف شيئاً من الذهب أو الورق أو الطعام أو الحيوان ممن أسلفه ذلك أفضل مما أسلفه إذا لم يكن ذلك على شرط منهما) .
7. وقال القرطبي: [أجمع المسلمون نقلاً عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أن اشتراط الزيادة في السلف ربا ولو كان قبضة من علف كما قال ابن مسعود أو حبة واحدة ويجوز أن يرد أفضل مما استلف إذا لم يشترط ذلك عليه لأن ذلك من باب المعروف استدلالاً بحديث أبي هريرة في البكر: (إن خياركم أحسنكم قضاء) رواه الأئمة البخاري ومسلم. فأثنى صلى الله عليه وسلم على من أحسن القضاء وأطلق ذلك ولم يقيده بصفة.(2/339)
وبهذا يظهر لنا أن الهدية المذكورة في السؤال جائزة ولا باس بها ولا تعتبر من الربا المحرم] .
صرف دولارات بعضها ببعض
يقول السائل: الدولار الأمريكي من الفئة الكبيرة هي المتداولة بين جمهور الناس في منطقتنا أما الفئة الصغيرة فهي غير متداولة ولكن البنوك تأخذ ثلاثة بالألف عمولة على تبديلها وتقول: إنها أجرة نقل للبنوك أما عامة الصرافين فيأخذونها بسعر أقل من ذلك أيضاً فهل يجوز تبديل الفئة الصغيرة بفئة كبيرة من البنوك وذلك بدفع ثلاثة بالألف أم أن تبدل بعملة أخرى بسعر أقل من السعر الحقيقي علماً بأنها لا تساوي قيمتها أي الفئة الصغيرة إلا في الولايات المتحدة الأمريكية؟
الجواب: لا يجوز شرعاً بيع الفئة الصغيرة من الدولار الأمريكي بفئة كبيرة من العملات الورقية - النقود - تقوم مقام الذهب والفضة وبالتالي فإن الربا يجري فيها كما يجري في الذهب والفضة فتأخذ النقود الورقية أحكام الذهب والفضة وبناء عليه لا يجوز بيع الجنس الواحد منها بعضه ببعض متفاضلاً سواء كان ذلك نسيئة أو يداً بيد لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) رواه مسلم.
وأرى أن يقوم الصراف بتبديل الفئات الصغيرة من الدولار بعملة أخرى بسعر أقل من السعر الذي تبدل به الفئات الكبيرة من الدولار فهذه الصورة جائزة ولا بأس بها.(2/340)
صرف العملة مع تأجيل القبض
يقول السائل: طلب شخص من صراف أن يبيعه مبلغاً من الدولاات على أن يسدد قيمتها بالشيكل بعد شهر فما حكم ذلك؟
الجواب: إن بيع عملة بعملة أخرى يسمى عند الفقهاء عقد الصرف وقد اتفق أهل العلم على أن من شروط عقد الصرف تقابض البدلين من الجانبين في المجلس قبل اقترافهما.
قال ابن المنذر: [أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد] .
فلذلك يشترط في عملية بيع عملة بأخرى أن يتم تبادل العملتين في المجلس ولا يجوز تأجيل قبض إحداهما وإن حصل التأجيل فالعقد باطل ويدل على ذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب مثلاً بمثل يداً بيد والفضة بالفضة مثلاُ بمثل يداً بيد) رواه مسلم.
وبما أن العملات الورقية تقوم مقام الذهب والفضة كما قال كثير من علماء العصر فأنه يشترط في بيع هذه العملات بغيرها من العملات التقابض ولا يجوز التأجيل وبناء على ما تقدم لا يجوز للسائل أن يشتري دولارات بشيكلات مؤجلة الدفع.
شراء الذهب بأقساط إلى أجل مسمى
تقول السائلة: اشتريت أساور ذهبية من الصائغ واتفقت معه على تسديد الثمن على أقساط فما حكم ذلك؟
الجواب: إن بيع الأساور الذهبية وتسديد ثمنها فيما بعد على أقساط غير جائز شرعاً بل هو محرم لأنه من الربا المحرم بالنص ولا بد في هذا البيع أن يكون دفع الثمن فوراً وفي مجلس العقد أي لا بد من(2/341)
التقابض من العاقدين البائع والمشتري فلا يصح تأجيل أحد البدلين.
فمثلاً إذا قلت للصائغ: بعني أساور ذهبية. فقال: لا يوجد لدي الآن سآتيك بها في الاسبوع القادم وقبض منك ثمنها عند التعاقد فهذا أيضاً بيع باطل ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواءً بسواء يداً بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) رواه مسلم.
وقد قرر الفقهاء المعاصرون أن الأوراق النقدية المعمول بها الآن تقوم مقام الذهب والفضة في التعامل بيعاً وشراءً وبها تقدر الثروات وتدفع الرواتب، ولذا تأخذ أحكام الذهب والفضة ولا سيما وجوب التناجز في مبادلة بعضها ببعض وتحريم التأجيل فيها فلذلك لا يجوز بيع الذهب بالعملات الورقية ولا شراء الذهب بالعملات الورقية ولا شراء الذهب بها إلا إذا كان يداً بيد وإذا كان هنالك تأجيل لأحد البدلين فإن ذلك حرام شرعاً لأنه باب من أبواب الربا.
الكفالة في قرض بروي
يقول السائل: ما حكم أن يكفل شخصاً كفالة مالية من أجل سداد قرض ربوي؟
الجواب: إن الإسلام إذا حرم شيئاً سد كل الطرق الموصلة إليه والميسرة له، فالربا من أشد المحرمات وبالتالي حرم الإسلام كل ما يؤدي له أو يساعد فيه ومن هذا الباب يحرم على الشخص أن يكفل من اقترض قرضاً ربوياً ويحرم عليه أيضاً أن يشهد على ذلك ويحرم عليه أن يكتب معاملة ربوية، وقد ثبت في الحديث عن ابن مسعود: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه) رواه أصحاب السنن وهو حديث صحيح وأصله في الصحيحين. وآكل الربا هو من يأخذ المال بالربا ومؤكل الربا هو دافعه ومطعمه غيره وهذا الحديث يدل دلالة صريحة على تحريم الربا وما(2/342)
لحق به من حيث الشهود والكاتب والكفيل أشد من ذلك.
شركة الأبدان
يقول السائل: ما حكم اشتراك شخصين في القيام بالأعمال للناس ويكون ما يكسبانه من الدخل بينهما حسب ما يتفقان؟
الجواب: إن الشركة المشار إليها تسمى شركة الأبدان عند الفقهاء ويسميها بعضهم شركة الأعمال أو شركة الصنائع وهذه الشركة تعتمد على عمل وجهد الشركاء ولا تعتمد على رأس المال مثل الخياطة والبناء وما يتعلق به كالقصارة والبلاط وتركيب الأدوات الصحية ونحو ذلك وهذه الشركة جائزة كما هو مذهب جمهور الفقهاء واحتجوا بما ورد في الحديث عن عبد الله بن مسعود قال: (اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نصيب يوم بدر قال: فجاء سعد بأسيرين ولم أجيء أنا وعمار بشيء) رواه ابو داود والنسائي وابن ماجة ورجاله ثقات إلا أنه منقطع.
وهذا الحديث يدل على جواز شركة الأبدان، وقد تعامل الناس بهذا النوع من الشركة في سائر الأمصار من غير إنكار من أحد عليهم وشركة الأبدان تشتمل على الوكالة، والوكالة جائزة والمشتمل على الجائز جائز كما أن المضاربة تنعقد على العمل فجاز أن تنعقد عليه شركة الأبدان قياساً عليها كما قال الحنفية.
وشركة الأبدان ضرورة لا بد منها ولو قلنا بمنعها لأدى ذلك إلى تعطيل كثير من الأعمال التي تعارف الناس عليها ولفاتت كثير من المصالح. الشركات 2/37-41.
ولا بد لصحة هذه الشركة من معرفة نصيب كل من الشركاء كأن يكون لكل منهما النصف مثلاً ولا يجوز أن يكون نصيب الشركاء مبلغاً محدوداً كأن، يكون لأحدهما مئة دينار في الشهر مثلاً.(2/343)
الاقتطاع من أجر العامل
يقول السائل: إنه يقوم بإحضار عمال للعمل لدى أصحاب المصانع ويتفق مع أصحاب العمل على أن أجرة العامل عشرون ديناراً ويتفق مع العامل أن أجرة العمل خمسة عشر ديناراً ويأخذ خمسة دنانير عن كل عامل، فما الحكم في ذلك؟
الجواب: لا يجوز لهذا الشخص أن يأخذ الخمسة دنانير وهي الفرق بين ما اتفق عليه مع أصحاب العمل وما اتفق عليه مع العامل وإن هذا يعتبر أكلاً لأموال الناس بالباطل وخاصة انه لا يوجد أي جهد لهذا الشخص في عمل العامل والله سبحانه وتعالى يقول: (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) .
وهذا الرجل استغل العمال استغلالاً بشعاً فأخذ ثمرة جهدهم وتعبهم وهو لم يخسر شيئاً وقد جاء في الحديث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حراً فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره) رواه البخاري.
ديون الأب بعد وفاته
يقول السائل: إن والده قد توفي وكانت عليه ديون كثيرة ولم يترك مالاً لقضائها فهل يجب على أولاده قضاء ديونه؟
الجواب: يجب أن يعلم أنه إذا مات الميت وترك مالاً فالواجب على ورثته أولاً أن يقوموا بتجهيز الميت وتكفينه وما يتعلق بذلك من تركته، وبعد ذلك يجب قضاء ديونه باتفاق الفقهاء وبعد ذلك تنفذ وصاياه من ثلث المال الباقي بعد تجهيزه وبعد سداد الديون.
وينبغي أن يعلم أن قضاء الدين مقدم على تنفيذ وصايا الميت وإن(2/344)
كانت الوصية مقدمة على الدين في آية المواريث، يقول الله تعالى: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ) .
وبعد ذلك يوزع الباقي على الورثة حسب التقسيم الشرعي لذلك، وأما بالنسبة لديون الميت فمنها ديون الله عز وجل مثل الزكاة والكفارات والنذور وأرجح الأقوال فيها أن تقضى عن الميت إن ترك مالاً سواء أوصى بقضائها أم لم يوص ويدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (اقضوا الله فالله أحق بالوفاء) رواه البخاري.
وأما ديون العباد فيجب أن تقضى من مال الميت إن ترك مالاً كما ذكرت وأما إذا لم يترك مالاً وعليه ديون فيستحب للورثة أن يبادروا إلى سداد الديون على الميت إبراء لذمته ويدل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه) رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وقال: حديث حسن ولا يجب على الورثة أن يقضوا ديون الميت إن لم يترك وفاء لدينه وفي هذه الحالة يكون قضاء الدين على ولي أمر المسلمين ويدل على ذلك ما رواه الإمام البخاري في صحيحه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن مات وعليه دين ولم يترك وفاء فعلينا قضاءه ومن ترك مالاً فلورثته) .
وجاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفى، عليه الدين فيسأل: هل ترك لدينه فضلاً؟ فإن حدث أنه ترك لدينه وفاء صلّى وإلا قال للمسلمين: صلوا على صاحبكم فلما فتح الله عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي من المؤمنين فترك ديناً فعلي قضاءه ومن ترك مالاً فلورثته) رواه البخاري.
وبهذا يظهر لنا أنه لا يجب على الابن قضاء الدين عن أبيه ولكن يستحب له ذلك إبراء لذمة والده ووفاء لوالده وبراً به.
الميراث الانتقالي
يقول السائل: ما هو الحكم الشرعي في توزيع الميراث حسب النظام(2/345)
المسمى في المحاكم الشرعية بالانتقالي والذي يتضمن مساواة الأنثى للذكر في الأراضي الأميرية؟ وهل يتعارض ذلك مع الشريعة الإسلامية؟
الجواب: إن الأرض الأميرية هي التي تعود ملكيتها لبيت مال المسلمين وهذه الأراضي لم تقسم على الفاتحين المسلمين وبقيت رقبتها ملكاً للدولة الإسلامية وأعطيت منفعتها لمن يقيمون عليها وأصل ذلك يعود إلى عهد عمر بن الخطاب عندما فتح العراق ولم يقسم الأراضي المفتوحة على المقاتيلن وإنما أبقى رقبتها ملكاً لبيت مال المسلمين وملك القائمين عليها منفعتها على أن يؤدوا نصيباً مفروضاً لبيت مال المسلمين فالذي يملك التصرف في الأراضي الأميرية هو الحاكم المسلم والأراضي الأميرية لا يجري فيها الميراث الشرعي لأنه إذا مات من بيده الأرض فهو في الحقيقة غير مالك لها وإنما يملك حق المنفعة فقط فإذا مات انتقل حق المنفعة لورثته ولا يجري فيها الميراث فلا تعتبر من ضمن تركة المتوفى ولا تقضى ديونه ولا تقسم قسمة المواريث بل تنتقل بحسب ما يرى السلطان.
وقد قامت الحكومة العثمانية بسن قانون الانتقال بالأراضي الأميرية منذ عهد السلطان سليمان القانوني وقد جرى عليه تعديلات كثيرة وأصل أحكام هذا القانون مستندة لأحكام الشريعة الإسلامية ومن التعديلات التي أدخلت على هذا القانون في عهد السلطان عبد المجيد تساوي الذكور والإناث في أحكام قانون انتقال الأراضي.
وقضية تساوي الذكر والأنثى في هذا القانون لا تتعارض مع تفاوت نصيب الذكر والأنثى في الميراث الشرعي وذلك لأن مالك الأراضي الأميرية هو بيت مال المسلمين والذي يحق له التصرف فيها هو الحاكم المسلم ويجوز للحاكم أن يملك المنفعة في الأراضي الأميرية بالتساوي بين الذكر والأنثى ولا مانع يمنع ذلك في الشريعة الإسلامية لأن للإمام ولاية عامة على المسلمين وله أن يتصرف في مصالح المسلمين ويضاف إلى ما قلت أن الأراضي الأميرية كما لا يجري فيها الإرث الشرعي لا يجري فيها الوقف ولا الرهن ولا البيع ولا الهبة ولا الشفعة وقانون الانتقال بالأراضي الأميرية(2/346)
استمر العمل به في بلادنا حتى 16/4/1991 ثم أوقف العمل به نظراً للظروف الخاصة التي تمر بها البلاد ومن اراد التوسع في معرفة أحكام الانتقال بالأراضي الأميرية فليرجع إلى كتاب الفريدة في حساب الفريضة للشيخ محمد نسيب البيطار رحمه الله.
أنت ومالك لأبيك
يقول السائل: هل يجوز للأب أن يتملك مال ولده ويأخذه له اعتماداً على قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك) ؟
الجواب: لقد اتفق الفقهاء على أنه يجب على الولد الموسر أن ينفق على والده الفقير المحتاج وإن لم يفعل فهو آثم عند الله سبحانه وتعالى.
ويجوز للأب أن يأكل من مال ولده ويأخذ منه قدر حاجته ما لم يكن في ذلك سرف أو سفه فقد ورد في الحديث عن عائشة قالت: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم) رواه أصحاب السنن الأربعة وأحمد وابن حبان والحاكم وهو حديث حسن صحيح كما قال الترمذي وفي رواية لأحمد: (ولد الرجل من أطيب كسبه فكلوا من أموالهم هنيئاً) ورواه الحاكم وصححه.
وينبغي للابن أن يبذل ماله لأبيه ولا يمنعه منه وليس معنى ذلك أن الأب يملك مال الابن من غير طيب نفس من ابنه وأما الحديث المذكور وهو قوله: (أنت ومالك لأبيك) فهو جزء من حديث ورد بروايات مختلفة منها عن جابر بن عبد الله أن رجلاً قال: (يا رسول الله إن لي مالاً وولداً وإن أبي يجتاح مالي. فقال عليه الصلاة والسلام: أنت ومالك لبيك) رواه ابن ماجة والطحاوي والطبراني وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني وقد ورد هذا الحديث من طرق كيثرة تكلم عليها الألباني بالتفصيل في كتابه إرواء الغليل 3/323-330.(2/347)
ولم يأخذ أكثر الفقهاء بظاهر الحديث قال ابن حبان في صحيحه: تحت عنوان " ذكر خبر أوهم من لم يحكم صناعة العلم أن مال الابن يكون للأب. " ثم ذكر الحديث وعقب عليه بقوله: [ومعناه أنه صلى الله عليه وسلم زجر عن معاملته أباه بما يعامل به الأجنبي وأمره ببره والرفق به في القول والفعل معاً إلى أن يصل إليه ماله فقال له: (أنت ومالك لأبيك) لا أن مال الابن يملكه الأب في حياته عن غير طيب نفس من الابن له] صحيح ابن حبان 2/142-143.
ويرى بعض أهل العلم أن اللام في قوله صلى الله عليه وسلم: (لأبيك) تفيد الإباحة لا التمليك فيباح للوالد أن يأخذ من مال الابن حاجته ولا تفيد أن الأب يملك مال الابن فإن مال الابن له وزكاته عليه وهو موروث عنه.
وقال الشيخ علي الطنطاوي: [إن الحديث قوي الإسناد لكن لا يؤخذ عند جمهور الفقهاء على ظاهره بل يؤول ليوافق الأدلة الشرعية الأخرى الثابتة والقاعدة الشرعية المستنبطة منها وهي أن المالك العاقل البالغ يتصرف بماله وليس لأحد التصرف به بغير إذنه.] فتاوى الطنطاوي ص 137.
وأخيراً أذكر رواية للحديث السابق لما فيها من العظة والعبرة وإن كان في سندها كلام فقد روي: (أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أبي أخذ مالي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: اذهب فائتني بأبيك. فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله يقرئك السلام ويقول: إذا جاءك الشيخ فسله عن شيء قاله في نفسه ما سمعته أذناه، فلما جاء الشيخ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما بال ابنك يشكوك أتريد أن تأخذ ماله؟ فقال: سله يا رسول الله هل أنفقه إلا على عماته أو خالاته أو على نفسي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إيه دعنا من هذا وأخبرنا عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذاك. فقال الشيخ: والله يا رسول الله ما يزال الله يزيدنا بك يقيناً لقد قلت في نفسي شيئاً ما سمعته أذناي. فقال: قل وأنا أسمع. قال: قلت:
غذوتك مولوداً ومنتك يافعاً
إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت
كأني أنا المطروق دونك بالذي
ت
فلما بلغت السن والغاية التي
جعلت جزائي غلظة وفظاظة
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي
تراه معداً للخلاف كأنه ... تعل بما أجني عليك وتنهل
لسقمك إلا ساهراً أتململ
طرقت به دوني فعيناي تهمل(2/348)
خاف الردى نفسي عليك وأنها
لتعلم أن الموت وقت مؤجل
إليها مدى ما فيك كنت أؤمل
كأنك أنت المنعم المتفضل
فعلت كما الجار والمجرور يفعل
برد على أهل الصواب موكل
قال فحينئذ أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بتلابيب ابنه وقال: أنت ومالك لأبيك) .
كسب المال من الحرام
يقول السائل: إنه يكتسب مالاً من حرام مع العلم أنه قادر على اكتساب المال بطريق حلال ولكن ما يكسبه من الحرام كثير وما يكسبه من الحلال قليل؟ فماذا يفعل؟
الجواب: لا يجوز للمسلم أن يكتسب المال بطريق حرام قليلاً كان المال أو كثيراً يقول سبحانه وتعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) وكون المال الذي يكسبه بالحلال قليلاً وما يكسبه من الحرام أكثر ليس مبرراً لاكتساب المال بالحرام وليعلم السائل وغيره أن المسلم سيسأل يوم القيامة عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه فقد ورد في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه فيم فعل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه) رواه الترمذي وقال حسن صحيح، وصححه الألباني.
الرشوة
يقول السائل: هل تعتبر الهدايا التي تقدم لشخص مسوؤل عن صندوق(2/349)
المدرسة من قبل أولياء أمور الطلبة من باب الرشوة؟ ويسأل فيما إذا كان حديث ابن اللتبية ينطبق عليه أم لا؟
الجواب: أبدأ أولاً بذكر الحديث المشار إليه في السؤال فقد روى الإمام البخاري بسنده عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: (استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فلما قدم قال: هذا مالكم وهذا أهدي إلي. فقام النبي صلى الله عليه وسلم فصعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما بال العامل نبعثه فيأتي يقول: هذا لك وهذا لي؟ فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيراً له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر.) ورواه مسلم وغيره.
وهذا الحديث الصحيح يدل على عدم جواز الهدية للمسؤولين إذا كانت الهدية جاءتهم بحكم المسؤولية التي يحملونها وتعتبر هذه الهدية في حكم الرشوة فإذا أهدى شخص هدية إلى موظف في وظيفة ما ولم يكن بينهما تهاد قبل توليه لتلك الوظيفة فلا يجوز أن يقبل الهدية. جاء في المغني عند الكلام على الهدية للقاضي قال: [ولا يقبل هدية من لم يكن يهدي إليه قبل ولايته وذلك لأن الهدية يقصد بها في الغالب استمالة قلبه ليعتني به في الحكم فتشبه الرشوة.] المغني 10/68.
وبناء على ما تقدم نقول للسائل: إذا جاءت الهدية من قبل شخص كان يهديك قبل توليك لوظيفتك فلا بأس بها وكذلك إذا لم يكن للمهدي غرض عند الشخص المهدى إليه، وأما إذا كانت الهدية بسبب تولي المنصب أو الوظيفة فلا ينبغي قبولها لأنها في الظاهر هدية وفي الباطن رشوة.
السمسرة
يقول السائل: شخص يعمل سائق سيارة باص ويقوم بنقل الزوار إلى أماكن معينة للزيارة ويأخذهم إلى محلات تجارية مخصوصة ليشتروا منها(2/350)
والسائق متفق مع أصحاب المحلات على أن يدفعوا له نسبة معينة من الربح مثل 10% أو 20% فهل يجوز ذلك؟
الجواب: الذي يظهر أن ذلك جائز ولا بأس به فهذا نوع من السمسرة المعروفة لدى التجار لدى التجار فالتاجر يقول للسمسار بع لي هذه البضاعة ولك كذا وكذا على حسب ما يتفقان أو يقول شخص للسمسار اشتر لي قطعة أرض ولك كذا وكذا على حسب ما يتفقان فهذه معاملة جائزة ولا بأس بها إن شاء الله.
التصرف في المال المكتسب بالربا
يقول السائل: إن له أموالاً في أحد البنوك وأن البنك يعطيه على ذلك فوائد فما حكم ذلك؟
الجواب: لا شك أن الربا من أعظم المحرمات والربا المحرم هو الذي يسمى الآن الفائدة وهذه الفائدة مال حرام وكل مال حرام لا يجوز للمسلم أن ينتفع به انتفاعاَ شخصياً فلا يجوز أن يصرفه على نفسه ولا على زوجته وأولاده ومن يعولهم لأنه مال حرام بل هو من السحت ومصرف هذا المال الحرام وأمثاله هو إنفاقه على الفقراء والمحتاجين ومصارف الخير كدور الأيتام والمؤسسات الاجتماعية ونحوها. ولا يجوز ترك هذه الأموال للبنوك بل تؤخذ وتنفق في جهات الخير والبر.
تفصيل كيفية التصرف بالمال الربوي
كنت قد أجبت في حلقة يوم الجمعة الماضية عن سؤال يتعلق بالفوائد التي تدفعها البنوك وعن كيفية التصرف فيها وقلت في الجواب إن هذه(2/351)
الأموال تصرف للفقراء والمحتاجين ومصارف الخير كدور الأيتام والمؤسسات الاجتماعية ونحوها وكان جواب السؤال مقتضباً وفي هذه الحلقة أفصل الجواب لتوضيح الأمر بالتفصيل فأقول:
إن الربا من أكبر المحرمات وقد قامت الأدلة الصريحة من كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم على تحريمه والأصل أنه يحرم على المسلم أن يضع أمواله في البنوك الربوية ابتداء إلا عند الضرورة فإذا حصل ووضع أمواله في البنك الربوي وأعطاه البنك الربوي ما يسمونه بالفائدة وهو الربا حقيقة وفعلاً فإن أمامه عدة احتمالات ليتصرف بهذا المال كما قرر ذلك بعض الفقهاء المعاصرين:
أولاً: أن ينفق هذا المال على نفسه وعياله وفي شؤونه الخاصة.
ثانياً: أن يترك هذا المال للبنك.
ثالثاً: أن يأخذ هذا المال ويتلفه ليتخلص منه.
رابعاً: أن يأخذه ويصرفه في مصارف الخير المختلفة للفقراء والمساكين والمؤسسات الخيرية.
هذه هي الاحتمالات الأربعة القائمة في هذه المسألة ونريد أن نناقشها واحداً تلو الآخر.
أما الخيار الأول وهو أن يأخذ هذا المال الحرام - الفائدة - من البنك وينفقه على نفسه وعياله وشؤونه الخاصة فهذا أمر محرم شرعاً بنص كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لأنه إن أخذه وأنفقه على نفسه وعياله يكون قد استحل الربا المحرم، يقول الله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) ويقول أيضاً: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)
وأما الخيار الثاني الذي مفاده أن تترك الفائدة للبنوك فإنه مهما اعتبره بعض الناس اقتضاء التقوى وموافقة حكم الشرع ومهما ترجح هذا الرأي لديهم لا يشك في تحريم ذلك من له أدنى معرفة بنظام البنوك الربوية(2/352)
وخاصة بنوك أوروبا وأميركا حيث تقوم هذه البنوك بتوزيع تلك الأموال على جمعيات معادية للإسلام والمسلمين.
لذلك فإن إبقاء الفوائد للبنوك الربوية حرام ولا يجوز شرعاً، قال الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله: [والخلاصة أن ترك الفوائد للبنوك وبخاصة الأجنبي حرام بيقين وقد صدر ذلك عن أكثر من مجمع وخصوصاً مؤتمر المصارف الإسلامية الثاني في الكويت) فتاوى معاصرة 2/410.
وذكر أحد علماء الهند المعاصرين أن تلك الفوائد التي كان المسلمون يتركونها للبنوك الربوية في الهند كانت تصرف على بناء الكنائس وعلى إرساليات التبشير وغير ذلك. راجع قضايا فقهية معاصرة ص 24.
وأما الخيار الثالث وهو إتلاف تلك الأموال فلا يقول به عاقل لأن المال نعمة من الله سبحانه وتعالى وليس بنجس بنفسه وإنما يخبث المال إذا كسبه بطريق حرام فإتلافه إهدار لنعمة الله، قال الشيخ مصطفى الزرقا: [فالمال لا ذنب له حتى نحكم عليه بالإعدام فإتلافه إهدار لنعمة الله وهو عمل أخرق والشريعة الإسلامية حكمة كلها لأن شارعها حكيم] .
فإذا بطلت الخيارات الثلاثة وبقي الخيار الرابع وهو أخذ المال من البنك وتوزيعه على الفقراء والمساكين وجهات الخير الأخرى وهذا شأن كل مال حرام يحوزه المسلم فيجب عليه أن يتصدق به، قال حجة الإسلام الغزالي موضحاً مسألة التصدق بالمال الحرام ما نصه: [فإن قيل: ما دليل جواز التصدق بما هو حرام وكيف يتصدق بما لا يملك؟ وقد ذهب جماعة إلى أن ذلك غير جائز لأنه حرام وحكى عن الفضيل أنه وقع في يده درهمان فلما علم أنهما من غير وجههما رماهما بين الحجارة وقال: لا أتصدق إلا بالطيب ولا أرضي لغيري مالاً لا أرضاه لنفسي؟ فنقول: نعم ذلك له وجه واحتمال وإنما اخترنا خلافه للخبر والأثر والقياس.
أما الخبر: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتصدق بالشاة المصلية التي قدمت فكلمته بأنها حرام إذ قال صلى الله عليه وسلم (أطعموها الأسارى) قال الحافظ العراقي(2/353)
في تخريج هذا الحديث رواه أحمد وإسناده جيد.
ولما نزل قوله تعالى: (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) كذبه المشركون وقالوا للصحابة: ألا ترون ما يقول صاحبكم يزعم أن الروم ستغلب فخاطرهم أبو بكر بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما حقق الله صدقه وجاء أبو بكر رضي الله عنه بما قامرهم به قال عليه الصلاة والسلام: (هذا سحت فتصدق به وفرح المؤمنون بنصر الله وكان قد نزل تحريم القمار بعد إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم له في المخاطرة مع الكفار.
قال الحافظ العراقي: حديث مخاطرة ابي المشركين بإذنه صلى الله عليه وسلم لما نزل قوله تعالى:: (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) وفيه فقال صلى الله عليه وسام: (هذا سحت فتصدق به) أخرجه البيهقي في دلائل النبوة من حديث ابن عباس وليس فيه إن ذلك كان بإذنه صلى الله عليه وسلم والحديث عند الترمذي وحسنه والحاكم وصححه دون قوله أيضاً: (هذا سحت فتصدق به) .
وأما الاثر فإن ابن مسعود رضي الله عنه اشترى جارية فلم يظفر بمالكها لينقده الثمن فطلبه كثيراً فلم يجده فتصدق بالثمن وقال: اللهم هذا عنه إن رضي وإلا فالأجر لي.
وسئل الحسن رضي الله عنه عن توبة الغال-من يأخذ من مال الغنيمة قبل أن يقسم-وما يؤخذ منه بعد تفرق الجيش فقال: يتصدق به.
وروي أن رجلاً سوّلت له نفسه فغلّ مائة دينار من الغنيمة ثم أتى أميره ليردها عليه فأبى أن يقبضها وقال له: تفرق الناس. فأتى معاوية فأبى أن يقبضها. فأتى بعض النّساك فقال: ادفع خمسها إلى معاوية وتصدّق بما يبقى فبلغ معاوية قوله فتلهف إذ لم يخطر له ذلك. وقد ذهب أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي وجماعة من الورعين إلى ذلك.
وأما القياس: فهو أن يقال أن هذا المال مردد بين أن يضيع وبين أن يصرف إلى خير إذ قد وقع اليأس من مالكه وبالضرورة يعلم أن صرفه إلى خير أولى من إلقائه في البحر فإنا إن رميناه في البحر فقد فوتناه على أنفسنا وعلى المالك ولم تحصل منه فائدة وإذا رميناه في يد فقير يدعو لمالكه حصل للمالك بركة دعائه وحصل للفقير سد حاجته وحصول الأجر للمالك(2/354)
بغير اختياره في التصدق لا ينبغي أن ينكر فإن في الخبر الصحيح: (إن للزارع والغارس أجراً في كل ما يصيبه الناس من ثماره وزروعه) رواه البخاري.
وأما قول القائل: لا نتصدق إلا بالطيب فذلك إذا طلبنا الأجر لأنفسنا ونحن الآن نطلب الخلاص من المظلمة لا الأجر وترددنا بين التضييع وبين التصدق ورجحنا جانب التصدق على جانب التضييع.
وقول القائل: لا نرضى لغيرنا ما لا نرضاه لأنفسنا فهو كذلك ولكنه علينا حرام لاستغنائنا عنه وللفقير حلال إذا حلّه دليل الشرع وإذا اقتضت المصلحة التحليل وجب التحليل وإذا حل فقد رضينا له الحلال.
ونقول: إنه له أن يتصدق على نفسه وعياله إذا كان فقيراً أما عياله وأهله فلا يخفى لأن الفقر لا ينتفي عنهم بكونهم من عياله وأهله بل هم أولى ولو تصدق به على فقير لجاز وكذا إذا كان هو الفقير] فتاوى معاصرة 2/412 - 413.
وبهذا يظهر لنا أن المصرف الوحيد لهذه الأموال-الفوائد- هو التصدق بها وقد قال بهذا القول عدد من الفقهاء المعاصرين في مؤتمر عقد سنة 1979 وشارك فيه عدد من العلماء المسلمين المعاصرين وهو قول سديد وفقه حسن وبه أقول.
أتعاب العامل
يقول السائل: إنه يملك محلاً لبيع الخضار وأنه شغل عاملاً لديه بأجرة شهرية وأن العامل ترك العمل بعد مدة وطالب بأتعاب عن المدة التي اشتغلها مع العلم أنه لا يوجد أي عقد بينهما فهل يحق للعامل أن يطالب بأتعاب؟
الجواب: إذا لم يكن هناك عقد بين صاحب العمل والعامل فإن المعاملة بين الاثنين تكون حسب العرف السائد بين أصحاب العمل والعمال(2/355)
فإذا جرت العادة بأن يعطى العمال ما يسمى بالأتعاب بعد انتهاء عملهم فيستحق ذلك العامل الأتعاب التي أخذها أمثاله ويقدر ذلك أهل الخبرة. وأما إذا كان العرف لا يعطي العامل إلا أجرته فقط ولا يعطيه أتعاباً فلا يستحق العامل ذلك والأصل المعتمد في هذه المسألة القواعد الفقهية المقررة عند أهل العمل منها:
1. العادة محكمة.
2. المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً.
3. المعروف بين التجار كالمشروط بينهم.
ويجب أن يعلم أن العادة المعتبرة هنا هي العادة أو العرف الغالب المطرد فقد جاء في القاعدة الفقهية " إنما تعتبر العادة إذا اطردت أو غلبت ".
القرعة
يقول السائل: نحن ثلاثة شركاء في قطعة أرض قمنا بتقسيمها واختلفنا في تحديد حصة كل منا فعملنا قرعة لتحديد الحصص فما حكم الشرع في القرعة؟
الجواب: إن القرعة مشروعة في كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وبيان ذلك كما يلي:
1. يقول الله سبحانه وتعالى في قصة مريم عليها السلام: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) سورة آل عمران الآية 44.
قال الإمام العربي المالكي في تفسيره للآية السابقة: [روي أن زكريا قال: أنا أحق بها خالتها عندي. وقال بنو إسرائيل: نحن أحق بها بنت عالمنا فاقترعوا عليها بالأقلام وجاء كل واحد منهم بقلمه واتفقوا أن(2/356)
يجعلوا الأقلام في الماء الجاري فمن وقف قلمه ولم يجر في الماء فهو صاحبها ... ] أحكام القرآن 1/273.
2. ويقول الله عز وجل في قصة يونس عليه السلام: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) سوة الصافات الآيتان 139-141.
ذكر الطبري: [أن يونس عليه السلام لما ركب في السفينة أصاب أهلها عاصفة من الريح فقالوا هذه بخطيئة احدكم فقال يونس وعرف أنه هو صاحب الذنب: هذه خطيئتي فألقوني في البحر وأنهم أبوا عليه حتى أفاضوا بسهامهم (فساهم فكان من المدحضين) فقال لهم قد أخبرتكم أن هذا الأمر بذنبي وأنهم أبوا عليه حتى أفاضوا بسهامهم الثانية فكان من المدحضين وأنهم أبوا أن يلقوه في البحر حتى أعادوا بسهامهم الثالثة فكان من المدحضين] تفسير القرطبي 15/124.
وقد استدل العلماء بهاتين الآيتين على مشروعية القرعة بالإضافة إلى الأحاديث التي سأذكرها فيما بعد. قال الإمام البخاري في صحيحه: [باب القرعة في المشكلات وقوله عز وجل إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم] وقال ابن عباس: [اقترعوا فجرت الأقلام مع الجرية وعال قلم زكريا الجرية فكفلها زكريا] .
وقوله تعالى: (فَسَاهَمَ) أقرع-فكان من المدحضين-من المسهومين) صحيح البخاري مع الفتح 6/221.
وقد ثبتت القرعة في شريعتنا الإسلامية بأحاديث كثيرة منها:
أ. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا) رواه البخاري ومسلم.
ب. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه فأيهن خرج سهمها خرج بها معه) رواه البخاري ومسلم.(2/357)
ج. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض على قوم اليمين فأسرعوا فأمر أن يسهم بينهم في اليمين أيهم يحلف) رواه البخاري.
د. وعن عمران بن حصين رضي الله عنه: (أن رجلاً أعتق ستة مملوكين له عند موته لم يكن له مال غيرهم فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزأهم ثلاثاً ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة وقال له قولاً شديداً) رواه مسلم.
وقد أخذ جمهور أهل العلم بالقرعة واعتبروها من الطرق المشروعة لإظهار الحقوق واعتبروها طريقاً من طرق الحكم في القضاء الشرعي وقد ثبت أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد استعملها كما سبق.
وقد بيّن الإمام القرافي ضابط استعمال القرعة فقال: [اعلم أنه متى تعنيت المصلحة أو الحق في جهة لا يجوز الإقراع بينه وبين غيره. لأن في القرعة ضياع ذلك الحق المتعين أو المصلحة المتعينة.
ومتى تساوت الحقوق والمصالح فهذا هو موضع القرعة عند التنازع دفعاً للضغائن والأحقاد بما جرت به الأقدار وقضى بها الملك الجبار ... ] الفروق 4/111.
وما قام به الشركاء في السؤال عمل صحيح لا شيء فيه لأنهم لجأوا إلى تحديد حصة كل منهم بالقرعة وهذا من المواضع التي تستعمل فيها القرعة، وقد أجاز الفقهاء ذلك، وفي استعمال القرعة تطييب للقلوب ورضا كل شريك بحصته.(2/358)
الأيمان والنذور(2/359)
حلف بالحرام على زوجته
يقول السائل: إنه تشاجر مع زوجته وحلف عليها بالحرام أن لا تنام معه في غرفة النوم لمدة شهر كامل فما حكم ذلك:
الجواب: لا يجوز للمسلم أن يحرم ما أحل الله سبحانه وتعالى ويعتبر هذا من التلاعب في الدين لقوله سبحانه وتعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا) فالذي يحرم ما أحل الله يكون قد اعتدى وتجاوز الحد هذا من ناحية. وأما من الناحية الأخرى فما قام به السائل من الحلف بالحرام على زوجته أن لا تنام معه في غرفة النوم لمدة شهر كامل فيعتبر يميناً وعليه ألا يقرب زوجته ذلك الأشهر وإن حنث بيمينه فعليه كفارة اليمين، وهي المذكورة في قوله تعالى: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ) .
الحلف على ترك زيارة الوالد
حلفت امرأة على عدم زيارة والدها ولما مرض ذهبت لزيارته فماذا تصنع؟(2/361)
الجواب: هذه المرأة حلفت على أمر مطلوب فعله وهو زيارة والدها ولا يجوز لها أن تمتنع على زيارة والدها لأن ذلك حرام شرعاً فيمينها يمين محرمة ولا يجوز لها أن تبر بيمينها فتمتنع عن زيارة والدها لقوله عليه الصلاة ولاسلام: (لا يمين في قطيعة رحم) رواه أبو داود والبيهقي وسنده حسن. وما دام أنها زارته فقد فعلت ما هو مطلوب منها شرعاً وتلزمها كفارة يمين لقوله عليه الصلاة والسلام: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه) رواه مسلم. وكفارة اليمين هي إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فإن لم تجد فصيام ثلاثة أيام متتابعة أو متفرقة.
حلف على ابنه يميناً أن لا يذهب إلى صلاة الجماعة
يقول السائل: إن أباه حلف عليه يميناً أن لا يذهب إلى صلاة الجماعة في المسجد فما حكم هذه اليمين وما موقف الابن من يمين أبيه؟
الجواب: إن أباك أخطأ في حلفه هذا ولا يجب عليك أن تبر بيمين أبيك ولا يصح للأب أن يجعل يمينه حائلاً دون فعل الطاعات لقوله تعالى: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) .
وعلى أبيك كفارة يمين وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة فإن لم يجد يصوم ثلاثة أيام لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفّر عن يمينه) حديث صحيح.
وكما قلت لا يجب عليك أن تبر بقسم أبيك لأن إبرار المقسم يكون مندوباً إذا لم يكن في اليمن مفسدة أو خوف ضرر أو أمر مكروه فإذا لم يكن في اليمين مثل ذلك يندب في حق المحلوف عليه أن يبر بقسم الحالف لما ثبت في الحديث عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع أمرنا بعيادة المريض واتباع الجنائز(2/362)
وتشميت العاطس وإبرار المقسم ونصر المظلوم وإجابة الداعي وإفشاء السلام ... إلخ الحديث) . والأمر في الحديث على أمور مندوبة باتفاق أهل العلم كما قرره الإمام الشوكاني، وقد أقسم أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم ليخبره بتأويل الرؤيا فقال عليه الصلاة والسلام (لا تقسم) ولم يخبره كما ثبت ذلك في الصحيح.
حلف يميناً ألا يزور بيت خاله ثم زاره
يقول السائل: حلفت يميناً على ألا أزور بيت خالي ثم زرته في يوم العيد وصمت ثلاثة أيام كفارة يميني فما الحكم في ذلك؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أن اليمين التي حلفتها يمين مكروهة لأنها تضمنت الإمتناع عن بر خالك وزيارته ولا يجوز للمسلم أن يجعل اليمين حائلاً ومانعاً من القيام بالخيرات، قال الله تعالى: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ) . فكل يمين تحول بين الإنسان وبين فعل الخيرات مكروهة.
وقال الله سبحانه وتعالى: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) . سورة النور الاية 22.
قال ابن كثير رحمه الله: [يقول الله تعالى: (وَلَا يَأْتَلِ) من الآلية وهي الحلف أي لا يحلف ... وهذه الآية نزلت في الصديق رضي الله عنه حين حلف أن لاينفع مسطح بن أثاثة بنافعة أبداً بعد ما قاله في عائشة ما قال............ فلما أنزل الله براءة أم المؤمنين عائشة وطابت النفوس المؤمنة واستقرت وتاب الله على من تكلم من المؤمنين في ذلك وأقيم الحد على من أقيم عليه شرع تبارك وتعالى وله الفضل والمنّة يعطف الصديق على قريبه ونسيبه وهو مسطح بن أثاثة فإنه كان ابن خالة الصديق وكان مسكيناً لا مال له إلا ما ينفق عليه أبو بكر رضي الله عنه وكان من المهاجرين في(2/363)
سبيل الله وقد زلق زلقة تاب الله عليه منها وضرب الحد عليها، وكان الصديق رضي الله عنه معروفاً بالمعروف، له الفضل والأيادي على الأقارب والأجانب فلما نزلت هذه الاية إلى قوله تعالى: (أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ... ) الخ الآية، فأن الجزاء من جنس العمل فكما تغفر ذنب من أذنب إليك يغفر الله لك وكما تصفح يصفح عنك فعند ذلك قال الصديق: بلى والله نحب ان تغفر لنا يا ربنا ثم رجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة وقال: والله لا أنزعها منه ابداً-في مقابلة ما كان قال: والله لا أنفعه بنافعة أبداً-فلهذا كان الصديق هو الصديق رضي الله عنه وعن بنته] تفسير ابن كثير 3/276.
هذا ما يتعلق بيمينك أما صيام الأيام الثلاثة فأنت مشيت على رأي عامة الناس الذين يظنون أن كفارة اليمين هي صيام ثلاثة أيام وهذا من الأخطاء الشائعة والمنتشرة بين الناس والصحيح أن كفارة اليمين هي المذكورة في قوله تعالى: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) سورة المائدة الآية 89.
فكفارة اليمين هي إما إطعام عشرة مساكين أو كسوة عشرة مساكين أو عتق رقبة على التخير أي أن الحالف يختار واحدة من هذه الخصال الثلاث فإذا كان فقيراً عاجزاً عن التكفير بإحدى هذه الخصال فإنه يصوم ثلاثة أيام وبناء على ذلك لا يجوز التكفير بصيام ثلاثة أيام إذا كان الشخص قادراً على ما سبق فإذا صام ثلاثة أيام وهو مستطيع للإطعام أو الكسوة فلا يعد مكفر عن يمينه وتبقى الكفارة ديناً في ذمته ولا تبرأ ذمته إلا إذا كفّر بالإطعام أو الكسوة واستثناء العتق لأنه لا يوجد في زمننا هذا تحرير رقاب.
وأخيراً أنبه على جواز إخراج قيمة الإطعام أو الكسوة نقداً كما هو مذهب الحنفية.
لا كفارة في اليمين الغموس
يقول السائل: حلف رجل يميناً على قطعة أرض أنها له ولم تكن(2/364)
الأرض له وقد راجع نفسه ويريد الآن أن يتوب فماذا يصنع؟
الجواب: إن هذه اليمين التي حلفها الرجل يمين محرمة بل كبيرة من الكبائر والعياذ بالله فقد ورد في الحديث عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الكبائر: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس) . رواه الإمام البخاري في صحيحه. قال الحافظ ابن حجر: [اليمين الغموس.. قيل سميت بذلك لأنها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار] فتح الباري 14/363.
وفي رواية أخرى للحديث السابق قال: (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما الكبائر؟ قال: الإشراك بالله. قال: ثم ماذا؟ قال: عقوق الوالدين؟ قال: ثم ماذا؟ قال: اليمين الغموس) قلت-أي أحد رواة الحديث لعامر الشعبي-: [ما اليمين الغموس؟ قال: الذي يقتطع مال امرئ مسلم بيمين صبر هو فيها كاذب] حديث صحيح رواه ابن حبان في صحيحه 12/373.
وروى الإمام البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو غضبان) فأنزل الله تصديق ذلك: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا..) إلى آخر الآية. فدخل الأشعث بن قيس فقال: ما حدثكم أبو عبد الرحمن؟ فقالوا: كذا وكذا. قال: فيّ أنزلت، كان لي بئر في أرض ابن عم لي فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (بينتك أو يمينه فقلت: إذا يحلف عليها يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين صبر هو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو غضبان) صحيح البخاري مع الفتح 14 / 367.
ومما يؤسف له أن كثيراً من الناس يتساهلون في أمر الأيمان فيقدمون على الحلف متعمدين للكذب وهم لا يعرفون عواقب تلك الأيمان الكاذبة أو يعرفونها ومع ذلك يتلاعبون في الأيمان ويظنون الأمر هيناً وهو عند الله عظيم. يقول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا(2/365)
قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) سورة آل عمران الآية 77 ففي هذه الآية عقوبات لمن يحلف كاذباً متعمداً ليأكل حقوق الناس وهي:
1. لا حظ له في الآخرة ولا نصيب له من رحمة الله.
2. لا يكلمه الله سبحانه وتعالى كلام أنس ولا لطف.
3. يعرض الله عنه يوم القيامة فلا ينظر إليه بعين الرحمة.
4. لا يطهره من الأوزار والذنوب.
5. يعذبه عذاباً أليماً على ما ارتكب من المعاصي.
وقد ورد في أحاديث أخرى عقوبات غير ذلك منها ما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف على يمين وهو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان) رواه أبو داود وابن ماجة وهو حديث صحيح.
وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام: (لا يقتطع رجل حق امرئ مسلم بيمينه إلا حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار فقال رجل من القوم: يا رسول الله وإن كان شيئاً يسيراً قال عليه الصلاة والسلام: وإن كان سواكاً من أراك) رواه ابن ماجة وهو حديث صحيح.
وعلى هذا الرجل الذي حلف كاذباً وأراد أن يتوب الآن أن يعيد الأرض لأصحابها وأن يندم على ما فعل وأن يكثر من فعل الخيرات ولا يوجد كفارة ليمينه الغموس وليس له سوى التوبة الصادقة على الراجح من أقوال أهل العلم ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: (خمس ليس لهن كفارة: الشرك بالله وقتل النفس بغير حق وبهت مؤمن والفرار يوم الزحف ويمين صابرة يقتطع بها مالاً بغير الحق) رواه أحمد وإسناده جيد كما قال الشيخ الألباني. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: كنا نعد الذنب الذي لا كفارة له اليمين الغموس أن يحلف الرجل على مال أخيه كاذباً ليقتطعه.(2/366)
وقال الإمام القرطبي معلقاً على قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ..) وإلى آخر الآية: [فلم يذكر كفارة فلو أوجبنا عليه كفارة لسقط جرمه ولقي الله وهو عنه راضٍ ولم يستحق الوعيد المتوعد عليه وكيف لا يكون ذلك وقد جمع هذا الحالف الكذب واستحلال مال الغير والاستخفاف باليمين بالله تعالى والتهاون بها وتعظيم الدنيا. فأهان ما عظمه الله وعظم ما حقره الله سبحانه وتعالى وحسبك] تفسير القرطبي 6/268.
الأكل من الشاة المنذورة
يقول السائل: نذر إنسان أن يذبح شاة فهل يجوز أن يأكل منها هو وأهل بيته؟
الجواب: إن الوفاء بالنذر واجب لقوله صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصيه) رواه البخاري ومسلم.
ويجب أن يعلم أن النذر حتى يعتبر نذراً لا بد أن يكون لفظاً يجري على اللسان وأما مجرد النية بالنذر فلا يعتبر ذلك نذراً ويدل على ذلك قوله تعالى: (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) سورة مريم الآية 26.
إذا ثبت هذا فنقول: إن من نذر شاة لله تعالى فيجب عليه أن يفي بنذره ويجب أن يصرفها مصرف الصدقات فلا يجوز له أن يأكل منها ولا يجوز لأهل بيته أن يأكلوا منها لأن الشخص وأهل بيته لا يصح صرف الزكاة إليهم وكذلك في النذر لله تعالى لا يصح ولا يجوز أن يأكلوا منه.
وإذا أكلها هو وأهل بيته فعليه أن يذبح شاة أخرى بدلاً منها ويوزعها على الفقراء والمحتاجين.
وهذا هو الحكم في كل نذر لله تعالى إلا إذا كان الناذر قد نوى أن يذبح الشاة ويأكل منها هو وأهله وأقاربه وجيرانه مثلاً فإن كانت نيته كذلك(2/367)
فله أن يأكل منها هو واهله ومن ذكر، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وللكل امرئ ما نوى) رواه البخاري ومسلم.(2/368)
الأضحية(2/369)
في حق من تشرع الأضحية
يقول السائل: في حق من تشرع الأضحية؟
الجواب: إن الأضحية سنة مؤكدة ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وقد واظب على فعلها الصحابة الكرام وإن تركها بعضهم خشية أن يظن الناس وجوبها كما ثبت ذلك عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. رواه البيهقي بإسناد حسن كما قال النووي. والأضحية تطلب ممن كان موسراً مالكاً لنصاب الزكاة على قول بعض أهل العلم ومنهم من يرى أنها تشرع في حق من ملك ثمنها زائداً عن حوائجه الأصلية وأجاز بعض العلماء أن يستدين الشخص ليضحي إحياء لهذه السنة العظيمة.
ذبح الأضحية أفضل من التصدق بثمنها
يقول السائل: أيهما أفضل أن يضحي المسلم أو أن يتصدق بثمنها؟
الجواب: لا شك أن ذبح الأضحية أفضل من التصدق بثمنها لفعل الرسول عليه الصلاة والسلام لها ومواظبته على ذلك ولما ورد في الأحاديث في فضل الأضحية ومن ذلك:(2/371)
عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إهراق الدم وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها وإن الدم ليقع من الله عز وجل قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها نفساً. رواه ابن ماجة والترمذي وقال حسن غريب ورواه الحاكم وقال صحيح الإسناد.
وعن زيد بن أرقم قال: قلت يا رسول الله ما هذه الأضاحي؟ قال: سنة أبيكم إبراهيم. قالوا: ما لنا منها؟ قال: بكل شعرة حسنة. قالوا: فالصوف؟ قال: بكل شعرة من الصوف حسنة. رواه أحمد وابن ماجة والحاكم وقال صحيح الإسناد.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا) رواه أحمد وابن ماجة والحاكم وصححه وأقره الذهبي ورجح الحافظ ابن حجر أنه موقوف على الصحابي. وغير ذلك من الأحاديث وهي بمجموعها تدل على فضل الأضحية وأنها أحب الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى يوم النحر إذا كانت الأضحية خالصة لوجه الله وإقتداء بسنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.
التضحية بالخصي
هل يجوز التضحية بالحيوان الخصي؟
الجواب: نعم يجزئ الحيوان الخصي في الأضحية على قول اكثر أهل العلم وقد ورد في الحديث عن أبي رافع قال: (ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين موجؤين خصيين) رواه أحمد وقال الهيثمي إسناده حسن.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ضحى رسول الله بكبشين سمينين عظيمين أملحين أقرنين موجؤين) رواه أحمد.
والأملح ما كان بياضه خالصاً، والأقرن: ما له قرون، والموجوء: الخصي.(2/372)
وكون الكبش خصياً لا يعد عيباً مانعاً من صحة الأضحية بل إن الخصي قد يكون أسمن من غير الخصي فلا بأس بالتضحية بالخصي.
حديث (استسمنوا ضحاياكم) وبيان درجته
سمعت حديثاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال استسمنوا ضحاياكم فاتها على الصراط مطاياكم، فهل ثبت الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب: إن هذا الحديث ورد بألفاظ غير ما ذكر في السؤال منها: (استفرهوا ضحاياكم ... الخ) ومنها (عظموا ضحاياكم) .
وهذا الحديث بألفاظه المختلفة غير ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم بل هو حديث ضعيف جداً، قال الحافظ ابن حجر فيه: [ألم أره ... ] وقال ابن الصلاح: [هذا الحديث غير معروف ولا ثابت فيما علمناه] ثم ذكر أن صاحب مسند الفردوس قد رواه وفيه راو ضعيف جداً. التلخيص الحبير 4/138.
وقال العجلوني: [إنه ضعيف جداً] . كشف الخفاء 1/138.
وقال الألباني: [لا اصل له بهذا اللفظ (عظموا ضحايام.. الخ) ] الضعيفة 1: 102 وقال في موضع آخر: [ضعيف جداً] . الضعفية 3 /411.
وينبغي أن يعلم أن تضعيف هذا الحديث وردّه لا يعني أن لا تكون الأضحية سمينة بل لا بد من ذلك وقد ورد في اختيار الأضحية السمينة أحاديث صحيحة تغني عن هذا الحديث الضعيف.
الأضحية عن الميت
يقول السائل: هل يجوز لي أن أذبح أضحية وأجعلها عن والدي المتوفى؟(2/373)
الجواب: نعم يجوز للابن أن يضحي عن أبيه الميت على الراجح من أقوال أهل العلم ويصل ثوابها إلى أبيه الميت بإذن الله وهذا مذهب الحنابلة واختاره شيخ الإسلام ابن تيتمة ومن قبله وأبو داود صاحب السنن حيث قال: [باب الأضحية عن الميت ثم ذكر بإسناده عن حنش قال: رأيت علياً رضي الله عنه يضحي بكشبين فقلت له: ما هذا؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني أن أضحي عنه فأنا أضحي عنه، وكان ذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم] .
وورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الكبش فأضجعه وقال: بسم الله اللهم تقبل من محمد ومن آل محمد ومن أمة محمد ثم ضحّى به صلى الله عليه وسلم) . رواه أبو داود وقال الشخ الألباني حديث حسن.
وقول بعض أهل العلم الذي رخص في الأضحية عن الأموات مطابق للأدلة ومن منعها ليس فيه حجة فلا يقبل كلامه إلا بدليل أقوى منه ولا دليل عليه.
والثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يضحي عن أمته ممن شهد له بالتوحيد وشهد له بالبلاغ وعن نفسه وآل بيته ولا يخفى أن أمته صلى الله عليه وسلم ممن شهد له بالتوحيد وشهد له بالبلاغ كان كثير منهم موجوداً زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكثير منهم توفوا في عهده صلى الله عليه وسلم فالأموات والأحياء كلهم من أمته صلى الله عليه وسلم دخلوا في أضحية النبي صلى الله عليه وسلم والكبش الواحد كما كان للأحياء من أمته كذلك للأموات من أمته صلى الله عليه وسلم ولا تفرقة. عون المعبود 7/344.
ويؤيد ذلك أن أكثر أهل العلم على أن الميت ينتفع بسعي الحي وقد احتجوا على ذلك بأدلة كثيرة منها قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ) سورة الحشر الآية 10. فأثنى الله سبحانه وتعالى عليهم باستغفارهم للمؤمنين قبلهم فدل على انتفاعهم باستغفار الأحياء.
ومثل ذلك ما ثبت من أحاديث صحيحة في الدعاء والاستغفار للميت في صلاة الجنازة وبعد الدفن منها حديث عوف بن مالك قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظت منه دعائه وهو يقول: (اللهم اغفر له وارحمه(2/374)
وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسّع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وأبدله داراً خيراً من داره وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه وأدخله الجنة وأعاذه من عذاب القبر ومن عذاب النار) رواه مسلم.
وثبت في الصحيح أن الميت ينتفع بالصدقة عنه كما ورد في حديث ابن عباس أن سعد بن عبادة توفيت أمه وهو غائب عنها فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله إن أمي توفيت وأنا غائب عنها فهل ينفعها غن تصدقت عنها؟ قال: نعم. قال: فإني أشهدك أن حائط المخراف صدقة عنها) رواه البخاري.
وثبت في أحاديث أخرى انتفاع الميت بالحج عنه وبالصوم عنه وبقضاء النذر عنه والأضحية عن الميت مثل ذلك.
قال بعض أهل العلم: [إن النصوص تتظاهر على وصول ثواب الأعمال إلى الميت إذا فعلها الحي عنه وهذا محض القياس فإن الثواب حق للعامل فإذا هبه لأخيه المسلم لم يمنع من ذلك كما لم يمنع من هبته ماله في حياته وقد نبه الشارع بوصول ثواب الصدقة على وصول سائر العبادات المالية ونبّه بوصول ثواب الصوم على وصول سائر العبادات البدنية وأخبر بوصول الحج المركب من المالية والبدنية] أحكام الذبائح ص 153.
وخلاصة الأمر أن الأضحية عن الميت جائزة وينتفع بثوابها الميت لأن الأضحية عن الميت تعتبر من باب الصدقة وهي جائزة عنه بالنص كما في حديث ابن عباس المتقدم.
حكم العقيقة عن الإنسان في حال الكبر
يقول السائل: سألت والدي هل عقّ عني في صغري فأجابني بأنه لم يعق فهل يصح أن أعق عن نفسي بعد أن كبرت؟(2/375)
الجواب: العقيقة سنة مؤكدة ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً وقد وردت فيها أحاديث كثيرة منها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويحلق رأسه ويسمى) رواه ابو داود والترمذي والنسائي وغيرهم وهو حديث صحيح.
وثبت في الحديث عن سلمان بن عامر الضبي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى) رواه البخاري وغير ذلك من الأحايث.
والسنة أن تكون العقيقة بعد ولادة الطفل بأسبوع كما ثبت في الحديث وقد أجاز جماعة من أهل العلم للشخص الذي لم يعق عنه صغيراً أن يعق عن نفسه كبيراً وقد استدلوا بما روي: (أن النبي عليه الصلاة والسلام عق عن نفسه بعد النبوة) رواه البيهقي والبزار والطبراني. ولكن هذا الحديث باطل ولا يصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال الإمام أحمد والنووي والبيهقي وغيرهم ومع عدم ثبوت الحديث المذكور قرر الفقهاء أنه لم يرد ما يمنع من العقيقة في حال الكبر وقد وردت آثار عن بعض السلف تجيز أن يعق الإنسان عن نفسه بعد الكبر منها:
1. عن الحسن البصري قال: [إذا لم يعق عنك فعق عن نفسك وإن كنت رجلاً] ذكره ابن حزم في المحلى والبغوي في شرح السنة.
2. وقال محمد بن سيرين: [عققت عن نفسي ببختية بعد أن كنت رجلاً] ذكره البغوي في شرح السنة، والبخت: نوع من الجمال.
3. ونقل عن الإمام أحمد أنه استحسن إن لم يعق عن الإنسان صغيراً أن يعق نفسه كبيراً وقال إن فعله إنسان لم أكرهه.
نقل ذلك عنه ابن القيم في تحفة المودود.
وبناء على ذلك لا مانع أن يعق الإنسان عن نفسه حال الكبر إن لم يعق عنه حال الصغر.(2/376)
المرأة والأسرة(2/377)
نظر الخاطب إلى مخطوبته
يقول السائل: ما هو المباح في نظر الخاطب إلى مخطوبته؟
الجواب: نظر الخاطب إلى مخطوبته جائز ومشروع وثبت ذلك في أحاديث كثيرة منها:
1. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امراة من الأنصار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنظرت إليها؟ قال: لا، قال: فاذهب فانظر إليها فإن في اعين الأنصار شيئاً. رواه مسلم.
2. وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه خطب امرأة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما) .
3. وعن جابر قال: سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا خطب أحدكم المرأة فقدر أن يرى منها بعض ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل) رواه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم ووافقه الذهبي ووافقهما الألباني.
4. وعن محمد بن مسلمة رضي الله عنه قال سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا ألقى الله عز وجل في قلب امرئ خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها) رواه أحمد وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححاه. وغير ذلك من الأحاديث التي تبيح نظر الخاطب للمخطوبة.(2/379)
وقد اختلف أهل العلم في المقدار الذي يجوز رؤيته من المخطوبة فأكثر الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية وإحدى الروايات عن أحمد أنه يجوز النظر إلى الوجه والكفين فقط.
ونقل عن الإمام أحمد رواية أخرى أنه يجوز النظر إلى ما يظهر غالباً كالرقبة واليدين والقدمين.
والقول الأول هو الصحيح الذي تؤيده الأدلة لأن النظر في الأصل محرم عدا نظر الفجأة وإنما أبيح النظر للحاجة والحاجة تندفع بالنظر إلى الوجه والكفين فيبقى ما عدا ذلك على التحريم كما ذكره ابن قدامة في المغني 7/97 ويدل على ذلك قوله تعالى: (ولا يبدين زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) سورة النور الآية 31. وقد ورد عن ابن عباس أن المراد بما ظهر منها الوجه والكفان.
وقد رجح جماعة من العلماء المعاصرين قول الحنابلة الثاني وهو جواز النظر لما يظهر غالباً من المرأة عند الخدمة وأجاز بعضهم أن يراها حاسرة وقد احتجوا بأدلة منها: ما ورد في حديث جابر السابق: (فقدر أن ينظر منها ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل) .
ومما ورد عن جابر أنه قال: (فخطبت جارية فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها وتزوجتها) . رواه أبو داود وقال الحاكم حديث صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي. والذي يظهر لي أن هذه الرواية ليس فيها إثبات أنه كان ينظر منها إلى أكثر من الوجه والكفين لأن المرأة المسلمة إذا خرجت من بيتها لا يظهر منها سوى الوجه والكفان وجابر كان يختبئ لها تحت النخل أي خارج بيتها.
وكذلك احتجوا بما ورد عن سهل بن أبي حثمة قال: رأيت محمد بن مسلمة يطارد امرأة ببصره فقلت تنظر إليها وأنت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا ألقى الله في فلب امرئ) الحديث وقد سبق ذكره.
قلت وما فعله محمد بن مسلمة لا يعدو أنه نظر إلى وجهها وكفيها(2/380)
وإنما دقق فيها النظر وطارد المرأة ببصره حتى أنكر عليه ذلك سهل بن أبي حثمة.
ولا دلالة فيه على أنه نظر إلى أزيد من من الوجه والكفين. واحتجوا أيضاً بما ورد عن عمر رضي الله عنه (أنه خطب ابنة علي رضي الله عنه فذكر منها صغرا ... فقال: نرسل بها إليك تنظر إليها فكشف عن ساقيها فقالت: أرسل لولا أنك أمير المؤمنين للطمت عينيك) رواه سعيد بن منصور في سننه وعبد الرزاق في المصنف. وهذه الرواية عن عمر مرسلة والمرسل من قسم الضعيف عند أهل الحديث ففي ثبوتها نظر ولا يصح الاحتجاج بها.
وليمة العرس
يقول السائل: ما حكم وليمة العرس وما وقتها وهل تكون قبل الدخول أم بعده؟
الجواب: إن وليمة العرس سنة مؤكدة على قول جماهير الفقهاء وقد ورد فيها عدد من الأحاديث منها:
1. عن أنس رضي الله عنه قال: لما قدموا المدينة نزل المهاجرون على الأنصار فنزل عبد الرحمن بن عوف على سعد بن الربيع فقال: أقاسمك مالي وأنزل لك عن إحدى امرأتي، قال: بارك الله لك في أهلك ومالك فخرج إلى السوق فباع واشترى فأصاب شيئاً من إقط وسمن فتزوج فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أولم ولو بشاة) رواه البخاري ومسلم.
2. وعن بريدة بن الحصيب قال: لما خطب علي فاطمة رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه لا بد للعروس من وليمة) رواه أحمد وهو حديث حسن.
3. وعن أنس رضي الله عنه قال: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أولم(2/381)
على امرأة من نسائه ما أولم على زينب فإنه أولم بشاة قال أنس: أطعمهم خبزاً ولحماً حتى تركوه) رواه البخاري ومسلم.
4. وعن أنس أيضاً في قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم من صفية رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل وليمتها التمر والسمن والأقط) رواه مسلم.
وفي رواية أخرى: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بين خيبر والمدينة ثلاث ليالٍ يبني بصفية فدعوت المسلمين إلى وليمته ما كان فيها من خبز ولا لحم وما كان فيها إلا أن أمر بالأنطاع فبسطت فألقى عليها التمر والأقط والسمن) رواه البخاري ومسلم. والأنطاع بسط من الجلد وغير ذلك من الأحاديث التي تدل على مشروعية وليمة العرس والأحاديث التي ورد فيها الأمر بالوليمة محمولة على الاستحباب ومصروفة عن الوجوب وهو قول أكثر الفقهاء.
ولا يشترط في الوليمة أن تكون على لحم فقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أولم بغير اللحم كما سبق قبل قليل.
وإذا أولم بلحم فيجوز بشاة وبأكثر من شاة إذا كان موسراً. وأما وقت الوليمة الزفاف والعرس فقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم أولم بعد الدخول والأمر فيه سعة فلو كانت الوليمة قبل الدخول فلا بأس به.
قال الحافظ ابن حجر: [وقد اختلف السلف في وقتها هل هو عند العقد أو عقبه أو عند الدخول أو عقبه أو موسع مع ابتداء العقد وانتهاء الدخول؟ على أقوال] ثم ذكر أقوال العلماء في ذلك والذي يظهر لي أن الأمر فيه سعة كما قلت فإن أولم يوم الزفاف قبل الدخول كما هي العادة عند كثير من الناس فحسن وإن أولم بعد الدخول فهو أحسن اقتداءً بالرسول صلى الله عليه وسلم.
وينبغي أن يُعلم أن أكثر الفقهاء يرون وجوب إجابة الدعوة لوليمة العرس ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها) رواه البخاري.(2/382)
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا دعي أحدكم إلى وليمة عرس فليجب) رواه مسلم.
وقوله عليه الصلاة والسلام أيضاً: (شر الطعام طعام الوليمة يدعى له الأغنياء ويترك الفقراء ومن ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله) رواه البخاري.
وإجابة الدعوة مقيدة فيما إذا لم يكن هناك عذر للمدعو لتركها فإذا ترك إجابة الدعوة لعذر فلا بأس في ذلك.
وكذلك يشترط لإجابة الدعوة ألا يكون هناك منكر من المنكرات فإن كان هنالك منكر واستطاع إزالته وتغييره فحضر فهو أمر حسن وإن لم يستطع تغيير المنكر فعليه ألا يحضر.
فمثلاً إذا دعي إلى وليمة عرس مختلطة والنساء متبرجات وفيها خمر وهنالك فرقة موسيقية وغير ذلك من المنكرات فيحرم في حقه الحضور لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعدن على مائدة يدار عليها بالخمر) رواه أحمد والترمذي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
قال الإمام الأوزاعي رحمه الله: [لا ندخل وليمة فيها طبل ولا معزاف] وسنده صحيح كما قال الشيخ الألباني.
وقال ابن قدامة رحمه الله: [إذا دعي إلى وليمة فيها معصية كالخمر والزمر والعود ونحوه وأمكنه الانكار وإزالة المنكر لزمه الحضور والإنكار وإن لم يقدر على الإنكار لم يحضر. وإن لم يعلم بالمنكر حتى حضر أزاله فإن لم يقد انصرف ... ] المغني 7/279.
وأخيراً يستحب لمن حضر وليمة العرس أن يدعو بخير لصاحبها فقد ورد في ذلك أحاديث منها: عن عبد الله بن بسر أن أباه صنع للنبي عليه الصلاة والسلام طعاماً فدعاه فأجابه فلما فرغ من طعامه قال: [اللهم اغفر لهم وارحمهم وبارك لهم فيه رزقتهم) رواه مسلم وغيره.(2/383)
ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بعد الفراغ من الدعوة بهذا الدعاء: (أكل طعامكم الأبرار وصلّت عليكم الملائكة وأفطر عندكم الصائمون) رواه أحمد والبيهقي بسند صحيح.
وورد أنه عليه الصلاة والسلام كان يدعو للزوجين بقوله: (اللهم بارك فيهما وبارك لهما في أبنائهما) رواه الطبراني بسند صحيح. وفي رواية أخرى كان يدعو بهذا الدعاء: (بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير) رواه ابو داود والترمذي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
رفض الوالدة لزواج الابن
يقول السائل: أنه يريد أن يتزوج فتاة أعجبته وفيها الصفات الحميدة ولكن والدته ترفض ذلك الزواج فهل يجب عليه أن يطيع والدته؟
الجواب: إن طاعة الوالدين فرض وقد دلت الآيات والأحاديث على ذلك ومنها قوله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) . ويقول الله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ... ) الآية.
وثبت في الحديث عن أبي هريرة قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من احق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك) رواه البخاري ومسلم.
ولا شك أن حق الأم على الإبن عظيم كما يشير ذلك الحديث السابق، ولكن الطاعة لا تكون إلا في المعروف، ويدل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف) رواه البخاري ومسلم.
وبناء على ذلك لا يجب على الإبن أن يطيع والدته في عدم الزواج من الفتاة التي يريدها خاصة إذا كانت الفتاة صاحبة خلق ودين وكذلك الحال فيما لو طلب أحد الوالدين من الإبن تطليق زوجته فلا يجب طاعتهما(2/384)
ولا يجب أن يطلق زوجته، وقد جاء رجل إلى الإمام أحمد بن حنبل فقال: إن أبي يأمرني أن أطلق زوجتي؟ قال له الإمام أحمد: لا تطلقها، فقال الرجل: أليس الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر عبد الله بن عمر أن يطلق زوجته حين أمره عمر بذلك؟ فقال الإمام أحمد: وهل أبوك مثل عمر؟ وخلاصة الأمر أنه لا يجب على الإبن أن يطيع والدته فيما طلبت من ترك الزواج من الفتاة التي يريدها الإبن، لأن ذلك يعود بالضرر على الإبن ثم في زواج الإبن من تلك الفتاة الصالحة سعادة للإبن ولا يعود أي ضرر من ذلك على والدته.
راتب الزوجة
تقول السائلة: إنها موظفة ومتزوجة وتعطي والدتها من راتبها دون علم زوجها فهل يجوز ذلك؟ وهل يجوز له أن يطالبها ببعض راتبها؟
الجواب: إن المرأة لها ذمة مالية مستقلة عن زوجها وراتبها حق لها فيجوز لها أن تتصرف به إذا كانت عاقلة رشيدة. فلها الحق أن تعطي والدتها ولا يشترط علم الزوج أو إذنه.
كما أنه لا يجوز لزوجها أن يتصرف في مال زوجته دون رضاها وموافقتها ولكن ما دامت هذه الزوجة موظفة فإن خروجها من بيت الزوجية يكون على حساب بعض حق الزوج فله أن يشترط عليها أن تعطيه بعض راتبها إذا أبت ذلك ورفضت فله الحق في منعها من العمل والأولى من كل ذلك أن يتفاهم الزوجان على هذه القضية حتى لا يؤثر عملها في وظيفتها على زواجهما.
الحلف بالطلاق
يقول السائل: حلف رجل على زوجته بالطلاق ثلاثاً إذا خرجت من بيته إلى بيت أهلها بدون إذنه ثم خرجت بدون إذنه وكانت الزوجة حاملاً(2/385)
وبقيت في بيت أهلها حتى ولدت فما الحكم في ذلك؟
الجواب: إن الحلف بالطلاق من البدع المنكرة المنتشرة في مجتمعنا مع الأسف الشديد فقد اعتاد كثير من الناس على الحلف بالطلاق معرضين رباط الحياة الزوجية للخطر ولقد اختلف أهل العلم في الحلف بالطلاق فهل يقع الطلاق أم لا؟
فقد ذهب جمهور الفقهاء بما فيهم الأئمة الأربعة في المعتمد عندهم إلى أن الحلف بالطلاق يعتبر طلاقاً وخالف في ذلك جماعة من الفقهاء فقالوا لا يقع الطلاق بالحلف بالطلاق ويعتبر ذلك من لغو الكلام ومن الفقهاء من يرى أن الحلف بالطلاق يعتبر يميناً وإذا وقع الحنث فيه فتلزم كفارة اليمين وقد اعتبر قانون الأحوال الشخصية المعمول به في المحاكم الشرعية أن الحلف بالطلاق لا يقع به طلاق إذا كان يقصد به الحمل على فعل شيء أو تركه وبناء على ما تقدم أقول: إذا كان الزوج عندما حلف بالطلاق كان يقصد منع الزوجة من الخروج إلى بيت أهلها فلا يقع الطلاق وإنما هو يمين فتلزمه كفارة اليمين لأنها حنثت بيمينه فعليه ان يكفر عن يمينه بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة فإن لم يجد يصوم ثلاثة أيام، أما إذا كان قاصداً الطلاق فعلاً قيقع الطلاق طلقة واحدة وإن حلف عليها بالطلاق ثلاثاً لأن طلاق الثلاث بلفظ واحد يقع طلقة واحدة وبالتالي تكون هذه الزوجة قد وقع عليها طلقة.
وبما أنها انقضت عدتها بوضع حملها حيث أنه لم يراجعها قبل وضع الحمل فتكون طلقة بائنة بينونة صغرى وبذلك لا تحل له إلا بعقد جديد ومهر جديد.
طلب الزوجة الطلاق لعقم الزوج
تقول السائلة: ثبت لدى الأطباء أن زوجها عقيم لا ينجب وقد مضى على زواجهما سنوات ولها رغبة شديدة في الأولاد فهل يحق لها أن تطلب الطلاق من زوجها؟(2/386)
الجواب: يجوز للمرأة أن تطلب من زوجها أن يطلقها إن ثبت أنه عقيم لا ينجب وتم التأكد من ذلك وإذا رفض الزوج أن يطلقها فللمرأة أن ترفع الأمر إلى القاضي الذي يحكم بالتفريق بينهما وهذا أرجح أقوال الفقهاء في المسألة لأن العقم من العيوب التي لا تتم معه مقاصد الزواج على أوجه الكمال لأن المرأة لها الحق في الأولاد ولها رغبة أكيدة أن تكون أماً، فلذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرجل تزوج وهو خصي: أأعلمتها أنك عقيم، قال: لا، قال: فانطلق فأعلمها ثم خيرها، رواه عبد الرزاق في المصنف ورجاله ثقات.
فعمر رضي الله عنه جعل الخيار للمرأة فإن قبلت بعقم زوجها فبها ونعمت وإن لم تقبل فلها الحق في طلب الطلاق منه.
ومع كل ما تقدم للمرأة أن لا تتعجل في طلب الطلاق من زوجها الذي لا ينجب وعلى الزوج أن يسعى في العلاج وخاصة في هذا الزمان الذي تقدم فيه علم الطب كثيراً وخاصة فيما يتعلق بعلاج العقم.
وحبذا لو رضيت هذه الزوجة بما قسم الله لها ورضيت بزوجها العقيم لأن لله حكمه في ذلك يقول الله تعالى: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) سورة الشورى 49-50، وإن لم تتقبل نفسها ذلك فلها الحق في طلب الطلاق كما أسلفت.
فسق الزوجة المطلقة هل يسقط الحضانة
يقول السائل: هل تسقط حضانة الزوجة المطلقة للأولاد إذا كانت فاسقة؟
الجواب: لقد اشترط أكثر الفقهاء في الحاضنة أن تتصف بالعدالة(2/387)
الظاهرة والأمانة في الدين كما عبر فقهاء المالكية، وبناء على ذلك فإن فسق الحاضنة يسقط حقها في الحضانة فإذا كانت الزوجة المطلقة الحاضنة فاسقة بشرب الخمر ونحو ذلك فلا حضانة لها وينتزع المحضون منها وهذا القول قال به جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وبه أخذ قانون الأحوال الشخصية المعمول به في المحاكم الشرعية في بلادنا فقد جاء في المادة 155 منه " يشترط في الحاضنة أن تكون بالغة عاقلة أمينة ... قادرة على تربيته وصيانته ".
ومع قوة هذا القول ووجاهته إلا أنه لم يرد عليه دليل شرعي صريح وكذلك فإن اعتبار هذا الشرط يوقع الناس في الحرج لأن الفسق مما يغلب وجوده بين كثير من الناس وفي اعتبار هذا الشرط أيضاً إلحاق الضرر بالأولاد ولأن الفسق لا يحول بين الحاضنة وبين العناية بأمر الأولاد في الأعم الأغلب وهذا ما قرره العلامة ابن القيم والإمام الشوكاني.
قال ابن القيم مفنداً قول من يشترط العدالة في الحاضنة: [ومن العجب أنهم يقولون لا حضانة للفاسق فأي فسق أكبر من الكفر وأين الضرر المتوقع من الفاسق بنشوء الطفل على طريقته إلى الضرر المتوقع من الكافر مع أن الصواب أنه لا تشترط العدالة في الحاضنة قطعاً وإن شرطها أصحاب أحمد والشافعي وغيرهم واشتراطها في غاية البعد ولو اشترط في الحاضنة العدالة لضاع أطفال العالم ولعظمت المشقة على الأمة واشتد العنت ولم يزل من حين ما قام الإسلام إلى أن تقوم الساعة أطفال الفساق بينهم لا يتعرض لهم أحد في الدنيا مع كونهم الأكثرين، ومتى وقع في الإسلام انتزاع الطفل من أبويه أحدهما بفسقه؟ وهذا في الحرج والعسر - واستمرار العمل المتصل في سائر الأمصار والأعصار على خلافه - بمنزلة اشتراط العدالة في ولاية النكاح فإنه دائم الوقوع في الأمصار والأعصار والقرى والبوادي مع أن أكثر الأولياء الذين يلون ذلك فساق ولم يزل الفسق في الناس ولم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة فاسقاً من تربية ابنه وحضانته له ولا من تزويجه موليته والعادة شاهدة بأن الرجل ولو كان من الفساق فإنه يحتاط لابنته ولا يضيعها ويحرص على الخير لها وإن قدر خلاف ذلك فهو قليل بالنسبة إلى المعتاد والشارع يكتفي(2/388)
في ذلك بالباعث الطبيعي ولو كان الفاسق مسلوب الحضانة وولاية النكاح لكان بيان هذا للأمة من أهم الأمور واعتناء الأمة بنقله وتوارث العمل به مقدماً على كثير مما نقلوه وتوارثوا العمل به فكيف يجوز عليهم تضييعه واتصال العلم بخلافه ولو كان الفسق ينافي الحضانة لكان من زنى أو شرب الخمر أو أتى كبيرة فرق بينه وبين أولاده الصغار والتمس لهم غيره والله أعلم] . زاد المعاد 5/461.
وقال الشوكاني: [ليس على هذا دليل - اعتبار العدالة - فإن العدالة معتبرة فيما اعتبره الشرع لا في كل أمر من الأمور واعتبارها في هذا الموضوع حرج عظيم وتعسير شديد فإن غالب النساء التساهل في كثير من الأمور الدينية ولو كانت العدالة معتبرة فيهن ومسوغة لنزع أولادهن من أيديهن لم يبق صبي بيد أمه إلا في أندر الأحوال وأقلها فيكون في ذلك أعظم جناية على الصبيان بنزعهم ممن يرعى مصالحهم ويدفع مفاسدهم، وجناية على الأم بتوليها بولدها والتفريق بينها وبينه ومخالفة لما عليه أهل الإسلام سابقهم ولاحقهم] السيل الجرار 2/439. ويرى بعض فقهاء الحنفية أن مطلق الفسق لا يسقط الحضانة وإنما الفسق الذي يؤدي إلى إلحاق الضرر بالأولاد هو المسقط لها فقد ورد في حاشية ابن عابدين ما يلي:
[قال في البحر - من كتب الحنفية - وينبغي أن يكون المراد بالفسق في كلامهم هنا الزنى المقتضي لإشغال الأم عن الولد بالخروج من المنزل ونحوه لا مطلقة الصادق بترك الصلاة لما سيأتي أن الذمية أحق بولدها المسلم ما لم يعقل الأديان فالفاسقة المسلمة أولى ... والحاصل أن الحاضنة إذا كانت فاسقة فسقاً يلزم منه ضياع الولد عندها يسقط حقها وإلا فهي أحق به إلى أن يعقل فينزع منها كالكتابية] حاشية ابن عابدين 5/556.
كراهية الزوج مسوغ لطلب الطلاق
هل يجوز للزوجة التي تكره زوجها أن تطالبه بالطلاق وإذا رفض زوجها(2/389)
تطليقها إلا إذا دفعت له مبلغاً من المال هل ما يأخذه من المال حلال له؟
الجواب: الأصل في الزواج أن يكون عن توافق وتراض وإذا وقعت كراهية بين الزوجين أو كرهت الزوجة زوجها فإنه يجوز لها أن تطالب زوجها بطلاقها بدون سبب مشروع لما ورد في الحديث عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم وقال الترمذي حديث حسن وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
وأما إن كان هنالك سبب مشروع لطلبها الطلاق فلا بأس بذلك ومن الأسباب التي تجيز ذلك إذا وقع الشقاق والتنازع بين الزوجين وتعذرت سبل الإصلاح أو كرهت الزوجة زوجها وتعذر عيشهما سوية لأسباب خلقية أو دينية أو صحية ونحو ذلك.
ويدل على جواز مطالبة المرأة لزوجها أن يطلقها مقابل مال تدفعه إليه هو ما يسمى عند الفقهاء بالخلع، قوله تعالى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّاءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) سورة البقرة آية 229.
ويدل على ذلك أيضاً ما ورد في الحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة ثابت بن قيس جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني ما أعيب عليه في خلق ولا دين ولكني أكره الكفر في الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 0 أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إقبل الحديقة وطلقها تطليقة) رواه البخاري.
وينبغي على الرجل إذا طالبته امرأته أن يطلقها مقابل مال أن يقبل ذلك ويطلقها ولا ينبغي له إمساكها على خلاف رغبتها فليس من المروءة أن يعيش رجل مع امرأة وهي له كارهة.
وما يأخذه الرجل من مال أو منافع مقابل تطليقه لزوجته حلال له ولا(2/390)
بأس به ويدل على ذلك قوله تعالى: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا) سورة النساء آية 4.
ويدل على ذلك أيضاً ما ورد في الحديث المتقدم من قول النبي صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس (اقبل الحديثة وطلقها تطليقة) . وأما مقدار المال الذي يأخذه الزوج في المخالعة فاختلف فيه الفقهاء فمنهم من يرى أنه لا يجوز للزوج أن يأخذ من زوجته أكثر مما أعطاها مهراً ومنهم من يرى جوز الزيادة على ذلك. ولكني أرى الرأي الأول هو الأصح فلا يأخذ الزوج أكثر مما دفع لها في المهر.
ويؤيد ذلك ما ورد في إحدى الروايات لحديث ابن عباس المتقدم في قصة مخالعة ثابت بن قيس وزوجته: (فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد) رواه ابن ماجة وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني وفي رواية أخرى (ففرق بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: خذ ما أعطيتها ولا تزدد) رواه البيهقي وله شواهد تقويه.
وفي رواية أخرى: (أتردين عليه حديقته؟ ثم قالت: نعم وزيادة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما الزيادة فلا) رواه الدارقطني وقال إسناده صحيح.
وورد عن علي رضي الله عنه أنه قال: (لا يأخذ منها فوق ما أعطاها) رواه عبد الرزاق في المصنف ,
وقال الزهري: [لا يحل له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها] .
وقال ميمون بن مهران: [إن أخذ منها أكثر مما أعطاها لم يسرح بإحسان] .
الزواج الصوري
يقول السائل: ما الحكم فيمن يعقد عقد زواج صوري من أجل تحقيق غرض معين ريثما يحقق غرضه ثم يطلقها أو العقد على فتاة لمدة محدودة؟(2/391)
الجواب: إن موضوع الزواج من الأمور المهمة في حياة الناس ولا يجوز أن تكون عقود الزواج عرضة للتلاعب فيها لما يتريب على ذلك من أضرار بغض النظر عن الغاية من وراء ذلك، فمثلاً إذا عقد رجل على امرأة عقداً صورياً من أجل الحصول على هوية أو جمع شمل أو الحصول على مال أو نحو ذلك، فهذا لا يجوز وهو من الأمور المحرمة شرعاً ويجب أن يعلم أن الإسلام قد قرر أن الغاية لا تبرر الوسيلة بل الواجب أن تكون الغاية شريفة نبيلة مشروعة والوسيلة المؤدية إليها كذلك هذا بالنسبة للشطر الأول من السؤال.
وأما الشطر الثاني المتعلق بالزواج لمدة محدودة ثم يطلقها بعد أن يحقق غرضه؟
الجواب: إن فقهاء الإسلام قرروا أن الأصل في عقد الزواج التأبيد لذلك قالوا إن العقد الذي ينص فيه على مدة معينة كسنة او سنتين يكون باطلاً، وذلك لأن المقصود بعقود الزواج تحقيق العشرة الدائمة وإنجاب الأولاد وتربيتهم وغير ذلك ولم يشرع الزواج لتحقيق متعة عابرة أو تحقيق غرض معين كمن يذهبون إلى أمريكا مثلاً فيتزوج امراة من أجل الحصول على الجنسية أو نحوها فهذا أمر غير مشروع.
الطلاق الصوري
يقول السائل: ذهب أحد الأشخاص المتزوجين إلى القاضي وأعلن أنه طلق زوجته وحصل على ورقة تثبت ذلك الطلاق ويقول هذا الشخص أنه لم ينو طلاق زوجته ولكن طلاقه طلاق صوري من أجل أن يحصل على ورقة تثبت الطلاق لتقوم زوجته بتقديم تلك الورقة إلى مؤسسة التأمين أو الشؤون الإجتماعية للحصول على راتب شهري لها ولأولادها بحجة أنها مطلقة وهذان الزوجان يستمران في الحياة بشكل طبيعي فما الحكم في ذلك؟
الجواب: إن رابطة الزوجية رابطة وثيقة مقدسة ومحترمة ولا يجوز(2/392)
شرعاً التلاعب بها مهما كانت الغاية من ذلك وإن مما يؤسف له أن كثيراً من الأزواج لا يقدرون هذه الرابطة حق تقديرها وصاروا يتلاعبون بألفاظ الطلاق لغايات وأهداف دنيوية فاسدة فهذا يتزوج زواجاً صورياً كما يدعي ليحصل على هوية وذاك يطلق طلاقاً صورياً كما يدّعي للحصول على أموال أو لأجل أن يتزوج ثانية لأن القانون لا يجيز التعدد. وهكذا صرنا نسمع عن حالات فيها تلاعب واضح بالنكاح والطلاق ويجب أن يعلم أولاً أنه لا يجوز ذلك مهما كانت المسوغات التي يظن كثير من الناس أنها تجيز لهم ذلك التلاعب بحجة أن نيتهم عدم الطلاق وإنما يريدون التحايل على القانون فقط.
ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد الطلاق والنكاح والرجعة) . رواه ابو داود والترمذي وابن ماجة وهو حديث حسن وقد ورد عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: [كان الرجل في الجاهلية يطلق فيقول كنت لاعباً ويعتق ثم يراجع ويقول كنت لاعباً فأنزل الله: (وَلَا تَتَّخِذُواءَايَاتِ اللَّهِ هُزُوًا) . فقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاث جدهن جد ... الخ الحديث) ابطالاً لأمر الجاهلية] . رواه ابن أبي شيبة في المصنف وهو مرسل صحيح الإسناد إلى الحسن وروى مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب قال: [ثلاث ليس فيهن لعب النكاح والطلاق والعتق] .
وروى الحسن عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: [ثلاث لا يلعب بهن النكاح والطلاق والعتاق] رواه ابن أبي شيبة في المصنف وإسناده صحيح إلى الحسن كما قال الشيخ الألباني.
وبناء على ما تقدم لا يجوز التلاعب بالطلاق مهما كانت المغريات تدفع لذلك.
فإذا ذهب الزوج إلى القاضي وأعلن أمام القاضي أنه طلق زوجته فإن الطلاق يقع وتحسب عليه طلقة وإن كان لا يقصد ذلك وإنما قصده الحصول على ورقة تثبت أنه طلق زوجته لتقدمها الزوجة إلى مؤسسات(2/393)
التأمين أو الشؤون الإجتماعية للحصول على راتب لها ولأولادها بحجة انها مطلقة مع استمرار الزوجين في حياتهما الزوجية فإنه إذا حصل ذلك وكان الطلاق بائناً فإن الزوجين يتعاشران بالحرام. وعلى من فعل ذلك أن يجدد عقد الزواج وأن يتوب إلى الله توبة صادقة ويندم على ما فات.
ميراث الزوجة من زوجها المتوفى قبل الدخول
يقول السائل: عقد شخص على امرأة ثم توفي الزوج قبل الدخول فما هو حقها في المهر وهل ترث منه؟
الجواب: اتفق العلماء أنه إذا مات أحد الزوجين فيجب المهر كاملاً ولو كان ذلك قبل الدخول ما دام أن المهر قد سمي في العقد. قال ابن رشد رحمه الله: [واتفق العلماء على أن الصداق يجب كله بالدخول أو الموت] بداية المجتهد 6/409. وقال بعض أهل العلم: [إن المهر صار واجباً بالعقد والعقد لم ينفسخ بالموت بل انتهى نهايته لأنه عقد للعمر فتنتهي نهايته عند انتهاء العمر وإذا انتهى يتأكد فيما مضى ويتقرر بجميع ما يستوجبه ولأن كل المهر لما وجب بنفس العقد صار ديناً في ذمة الزوج، والموت لا يكون مسقطاً للدين فلا يسقط شيء من المهر بالموت] المفصل في أحكام المرأة 7/90.
وقد أخذ قانون الأحوال الشخصية المعمول به في المحاكم الشرعية بما اتفق عليه الفقهاء ونص على أن الموت سبب لوجوب كامل المهر كم أشارت إلى ذلك المادة 48 من القانون المذكور ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن علقمة قال: (أتي عبد الله يعني ابن مسعود - في امرأة تزوجها رجل ثم مات عنها ولم يفرض لها صداقاً ولم يكن دخل بها قال: فاختلفوا إليه فقال: أرى لها مثل مهر نسائها ولها الميراث وعليها العدة فشهد معقل بن سنان الأشجعي أن الرسول قضى في بروع بنت واشق بمثل ما قضى) وهو حديث صحيح.(2/394)
وأما بالنسبة لميراث الزوجة من زوجها المتوفى قبل الدخول بها فلا شك أن الزوجة ترث من زوجها سواء توفي قبل الدخول أو بعده وقد قررت الشريعة الإسلامية أن من أسباب الإرث الزوجية فقد قال الله سبحانه وتعالى: (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ... ) سورة النساء آية 12.
ولا شك أن كلمة أزواجكم تشمل ما كان بعد الدخول وقبل الدخول والزوجة تكون زوجة بمجرد العقد الصحيح فإذا كان العقد صحيحاً صارت زوجة ولها حق الإرث والآية واضحة الدلالة على مشروعية الإرث بالنكاح سواء حصل فيه دخول أو لم يحصل وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم لبروع بنت واشق بالميراث وكان زوجها قد مات عنها قبل أن يدخل بها كما سبق في الحديث.
المهر المؤجل بعد وفاة الزوجة
يقول السائل: ما حكم المهر المؤجل إذا ماتت الزوجة؟
الجواب: إن المهر حق من حقوق الزوجة الواجبة على زوجها يقول الله تعالى: (وَءَاتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) .
وقد اتفق العلماء على أنه يجوز التعجيل والتأجيل في المهر المسمى في عقد الزواج فيصح أن يكون بعض المهر معجلاً وبعضه مؤجلاً على حسب ما يتم عليه الاتفاق عند عقد الزواج وسواء كان المهر معجلاً أو مؤجلاً فهو حق ثابت للزوجة ودين واجب لها في ذمة الزوج.
ومن المعلوم أن العرف في بلادنا جرى على أن يكون جزء من المهر مؤجلاً تأجيلاً مطلقاً وفي هذه الحالة يجب المهر المؤجل للمرأة في حالتين وهما:
الطلاق والوفاة فإذا طلق الزوج امرأته وجب لها المؤجل من مهرها(2/395)
وكذا إذا مات زوجها وجب لها المهر المؤجل ويخرج من التركة قبل توزيعها على الورثة.
وكذلك إذا ماتت الزوجة ولها مهر مؤجل في ذمة زوجها فيكون مهرها المؤجل من ضمن تركتها ويوزع على الورثة بقدر نصيب كل منهم.
وقد نصت المادة " 46 " من قانون الأحوال الشخصية المعمول به في المحاكم الشرعية عندنا على ذلك ( ... وإذا لم يكن الأجل معيناً اعتبر المهر مؤجلاً إلى وقوع الطلاق أو وفاة أحد الزوجين) .
اشتراط الزوجة الثانية طلاق الأولى
يقول السائل: رجل متزوج ورغب أن يتزوج بثانية فاشترطت عليه أن يطلق الأولى فما حكم ذلك؟
الجواب: لا يجوز شرعاً للمرأة أن تقرن موافقتها على الزواج بشرط أن يطلق الرجل زوجته الأولى وإن حصل ذلك فالشرط باطل ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لمرأة تسأل طلاق أختها لتستفرغ صحفتها فإنما لها ما قدر لها) رواه البخاري مسلم.
وفي رواية أخرى صحيحة: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تشترط المرأة طلاق أختها) .
وفي رواية ثالثة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه أو يبيع على بيعه ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفي ما في صحفتها أو إنائها فإنما رزقها على الله تعالى) رواه البخاري ومسلم.
وظاهر هذه الأحاديث تحريم اشتراط المرأة زواجها بطلاق زوجها للزوجة الأولى والمراد بأختها في الحديث الضرة فلا يجوز للمرأة أن تسأل زوجها أن يطلق ضرتها لتنفرد به وحدها.(2/396)
الزواج أولى من الدراسة
تقول السائلة: إنها طالبة جامعية وتقدم لخطبتها شاب ترضاه لنفسها فأيهما أولى مواصلة الدراسة أم الزواج؟
الجواب: أن الأولى في حق هذه الفتاة أن تتزوج فإن الزواج مقدم على التعليم والزواج قد يفوت والتعليم يمكن استدراكه وقد حث الإسلام على تزويج الفتاة إذا تقدم لها خطاب كفؤ.
فقد ورد في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) رواه الترمذي وهو حديث حسن.
وقد روي في حديث آخر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يا علي ثلاث لا تؤخرها: الصلاة إذا أتت والجنازة إذا حضرت والأيم إذا وجدت كفؤاً) رواه الترمذي وقال حسن غريب. والأيم: هي المرأة التي لا زوج لها.
وبهذا يظهر أن الزواج مقدم على الدراسة والتعلم وهو الأصلح للمراة خاصة في هذا الزمان الذي كثر فيه الفساد في مجال التعليم وغيره من مجالات الحياة.
والزواج فيه محافظة على المرأة وانسجام مع طبيعتها ووظيفتها الأساسية وقد يكون الاستمرار في التعلم سبباً من أسباب عدم الزواج وخاصة إذا واصلت المرأة تعليمها إلى مراحل عليا لأنها حينئذ تتقدم بها السن وتقل الرغبة في الزواج منها فالأفضل لهذه الفتاة أن تتزوج.
زواج البنت الصغرى قبل البنت الكبرى
تقول السائلة: إن لها أخوات أكبر منها سناً وتقدّم شاب لخطبتها فرفض والدها أن يزوجها حتى تتزوج أخواتها الأكبر منها سناً فما الحكم في ذلك؟(2/397)
الجواب: إن من العادات السيئة المنتشرة في مجتمعنا امتناع الأب عن تزويج البنت الصغرى قبل البنت الكبرى وقد يؤدي هذا التصرف الخاطئ إلى عدم زواج الإثنتين وهذا فيه مفاسد كبيرة، والأصل في هذه المسألة ما جاء في الحديث عن أبي حاتم المزني أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: - (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، وإن لا تفعلوا تكن فتنة وفساد كبير، قالوا: يا رسول الله وإن كان فيه؟ قال: إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ... ثلاث مرات) رواه الترمذي وقال حديث غريب وحسنه الشيخ الألباني لشواهده.
فلا ينبغي لهذا الأب وأمثاله منع زواج الصغيرة قبل الكبيرة لأن البنت الصغيرة قد ساق الله إليها زوجاً والكبيرة يرزقها الله زوجاً إن شاء والأمور كلها بيد الله، ولعل زواج الصغيرة يكون فاتحة خير وسبباً لزواج الكبيرة والبنتان أمانة بيد الأب فعليه أن يحسن القيام على هذه الأمانة فطالما تقدم لبنته الصغيرة الإنسان الكفؤ صاحب الخلق والدين فلا ينبغي له أن يمتنع عن تزويجها.
الرحلات المختلطة
تقول السائلة: هل يجوز للطالبة الجامعية الاشتراك في رحلة مختلطة مع الطلاب؟
الجواب: لا يجوز للطالبة أو للطالب المشاركة في رحلة مختلطة بل ذلك من المحرمات ويدل على ذلك أمور منها:
قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تسافر المراة إلا مع ذي محرم ولا يدخل عليها رجل إلا ومعه محرم) رواه البخاري.
ومنها أن الرحلات المختلطة فيها من المفاسد الشيء الكثير ونظراً(2/398)
لما تنطوي عليه مثل هذه الرحلات من الفتنة فلا يجوز للآباء أن يسمحوا لبناتهم أو لأبنائهم بالمشاركة فيها لأن الرحلات المختلطة بؤرة من بؤر الفساد التي تؤدي إلى أمور لا تُحمد عقباها فيحرم الاشتراك فيها.
تقبيل النساء لقريبهن الغائب
تقول السائلة: جرت العادة عندنا أن يستقبل الرجل الغائب بالتقبيل فما حكم تقبيل النساء القريبات لقريبهن؟
الجواب: يحرم على الرجل أن يقبل غير زوجته ومحارمه وكذلك المرأة يحرم عليها تقبيل غير زوجها ومحارمها فتبادل القبلات عند قدوم المسافر أو غير ذلك من المناسبات بين الرجل وقريباته من النساء أو العكس كله محرم ما عدا المحارم منهن فيجوز للرجل أن يقبل ابنته وأخته وعمته وخالته وغيرهن من المحارم وكذلك يجوز للمرأة أن تقبل اباها وأخاها وخالها وعمها وغيرهم من المحارم ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما رأيت أحداً كان أشبه كلاماً وحديثاً من فاطمة برسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت إذا دخلت عليه رحّب بها وقام إليها فقبلها وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها رحّبت به وقامت فأخذت بيده وقبلته) رواه أبو داود والترمذي والبيهقي وهو حديث صحيح كما قال الشيبخ الألباني وورد: (أن أبا بكر قبل ابنته عائشة على خدها) رواه البخاري. ويشترط لجواز التقبيل بين المحارم أن يكون ذلك بغير شهوة بحيث يأمن الشهوة على نفسه وعليها وأن تكون القبلة على الخد أو على الرأس ولا ينبغي التقبيل على الفم لأنه يؤدي إلى تحريك الشهوة فينبغي تركه احتياطاً. وأما إذا قبل إحدى محارم مع الشهوة فهو حرام.(2/399)
جلوس الطالبة مع مدرسها لوحدهما
تقول السائلة: ما هو الحكم في جلوس الطالبة مع مدرسها في مكتب لوحدهما بحجة السؤال عن المادة التي يدرسها؟
الجواب: إن جلوس الطالبة مع الأستاذ كما يحصل في كثير من الجامعات في مكتبه على انفراد ومع إغلاق الباب عليهما هو خلوة محرمة ولقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم) رواه البخاري ولا يجوز لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يخلون رجل بامرأة إلا ثالثهما الشيطان) رواه الترمذي وقال حسن صحيح ورواه أحمد والحاكم وصححه. فعلى الطالبة إذا أرادت الاستفسار من أستاذها في مكتبه أن تصحب زميلة لها حتى تنتفي الشبهة وقطعاً لدابر الشيطان ودفعاً للشبهات.
تدريب رجل للفتيات على لعبة الكراتيه
يقول السائل: هل يجوز لرجل مدرب للكراتيه أن يدرب فتيات على هذه الرياضة في صالة مغلقة؟
الجواب: إن الإسلام حافظ على المرأة محافظة تامة ومن محافظته عليها أن جعل لها مجالات خاصة في عملها وشؤونها تتناسب مع طبيعة المرأة وأمر المرأة في الإسلام قائم على الستر والمحافظة ولا شك أن تدريب الرجل للنساء في لعبة الكراتيه يتنافى مع وضع المرأة في الشرع وهو أمر محرم لا يجوز لما يترتب على ذلك من انتهاك للحرمات، فهذا يقتضي أن تظهر المرأة أمام الرجل الأجنبي عنها بملابس غير شرعية وكذلك فإنه يقتضي أن تقوم المرأة بحركات رياضية وغير ذلك من المفاسد الكثيرة.
وهذا من جانب ومن جانب آخر فما هي حاجة الفتيات لرياضة الكراتيه والكراتيه(2/400)
رياضة فيها شدة وخشونة وكل ذلك لا يتناسب مع طبيعة المرأة وفطرتها التي فطرها الله عليها.
وخلاصة الأمر أنه يحرم على الرجل أن يقوم بتدريب الفتيات على الكراتيه أو غيرها من الألعاب ولو كان ذلك في صالة مغلقة.
ذهاب المرأة إلى نوادي اللياقة البدنية
يقول السائل: هل يجوز للمرأة أن تذهب إلى المسابح ونوادي اللياقة البدنية لتسبح ولتخفف من وزنها حتى تكون رشيقة الجسم؟
الجواب: يحرم على المرأة المسلمة أن ترتاد المسابح ونوادي اللياقة البدنية لتسبح أو لتقوم بتمارين رياضية لتخفيف وزنها أو ما شابه ذلك لما يترتب على ذلك من تهتك وتبذل سواء كانت هذه الأماكن عامة يدخلها الرجال والنساء على حد سواء أو كانت خاصة بالنساء ودليل ذلك ما ورد من الأحاديث التي تمنع المرأة المسلمة أن تخلع ثيابها في غير بيت زوجها ومنها:
عن أبي المليح الهذلي أن نساء من أهل حمص أو من أهل الشام دخلن على عائشة رضي الله عنها فقالت: أنتن اللاتي يدخلن نسائكن الحمامات؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت زوجها إلا هتكت الستر بينها وبين ربها) رواه الترمذي وقال حديث حسن ورواه أبو داود وابن ماجة والحاكم وقال صحيح على شرطهما وقال الشيخ الألباني صحيح انظر صحيح الترغيب والترهيب ص 71.
وفي حديث آخر عن أم سلمة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أيما امراة نزعت ثيابها في غير بيتها خرق الله عنها ستره) رواه أحمد وأبو يعلي والطبراني وقال الشيخ الألباني: حديث حسن. صحيح الترغيب والترهيب ص72.(2/401)
وعن أم الدرداء قالت: (خرجت من الحمام فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من أين يا أم الدرداء؟ قالت: من الحمام. قال: والذي نفسي بيده ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت من بيوت أمهاتها وإلا وهي هاتكة كل ستر بينها وبين الرحمن) رواه أحمد بإسناد صحيح.
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمام ... ) رواه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.
والمراد بالحمام في هذه الأحاديث هو الحمام الذي يكون خارج المنزل كالحمامات العامة التي كانت معروفة في المدن في فترات سابقة.
وقال صاحب عون المعبود: [إلا هتكت الستر وحجاب الحياء وجلباب الأدب ومعنى التهتك خرق الستر عما وراءه ما بينها وبين الله تعالى لأنها مأمورة بالتستر والتحفظ من أن يراها أجنبي حتى لا ينبغي لهن أن يكشفن عورتهن في الخلوة إلا عند أزواجهن فإذا كشفت أعضاءها في الحمام في غير ضرورة فقد هتكت الستر الذي أمرها الله تعالى به] عون المعبود 11/32.
ولا يقولن قائل إن هذه الأحاديث قد وردت في الحمام فقط ولا دليل فيها على المسابح أو نوادي اللياقة لأننا نقول إن المسابح ونوادي اللياقة البدنية في معنى الحمامات العامة بل قد تكون أولى بالحكم من الحمام.
ومن جانب آخر فإن التحريم في هذه المسألة له جانب آخر وهو سد الذرائع فإن الشريعة الإسلامية تسعى دائماً إلى سد الطرق المفضية إلى الفساد والإفساد والحرام كما قال الله تعالى: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) فالله سبحانه وتعالى حرم سب آلهة المشركين لكونه ذريعة إلى سب الله تعالى وكذلك نقول هنا: إن ذهاب النساء إلى المسابح ونوادي اللياقة البدنية لو سلمنا أنه جائز لمنعنا منه لأنه يفضي إلى الفساد.(2/402)
من هو المحرم
تقول السائلة: من هو المحرم وهل تكون البنت الصغيرة محرماً؟
الجواب: اختلف العلماء في تحديد من هو المحرم بناء على اختلاف فهمهم للأحاديث التي ورد فيها المحرم ومنها:
1. عن ابن عمر أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لا تسافر المرأة ثلاثاً إلا ومعها ذو محرم) رواه مسلم وبمعناه وردت أحاديث كثيرة.
2. عن أبي سعيد أنه سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تسافر المرأة يومين من الدهر إلا ومعها ذو محرم منها أو زوجها) رواه مسلم.
3. وعنه أيضاً أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لا يحل لإمرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً يكون ثلاثة أيام فصاعداً إلا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو ذو محرم منها) رواه مسلم. فمن العلماء من يرى أن ضابط المحرم هم من يحرم عليه نكاح المرأة على التأبيد لذلك لا يعد زوج الأخت محرماً قاله الحافظ ابن حجر في فتح الباري 4/448. ومنهم من يرى أن ضابط المحرم أعم من ذلك فالمحرم هو الرجل الذي تحرم عليه المرأة بنسب كأبيها وأخيها أو سبب مباح كالزوج وأبي الزوج وابن الزوج وكالإبن من الرضاع والأخ من الرضاع ونحوهما. ورى الإمام الشوكاني أن الزوج يدخل في مسمى المحرم أو أنه يقوم مقامه أخذاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم فقام رجل فقال: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجّة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا قال: - انطلق فحج مع امرأتك) رواه البخاري ومسلم. ويرى الحنابلة أن المحرم الذي يشترط للسفر مع المرأة للحج يشمل زوجها وأبو زوجها ودخول الزوج في مفهوم المحرم مع كونه يحل لها وتحل له لحصول المقصود بسفره معها وهو حفظها وصيانتها ويؤيد ذلك ظاهر النصوص التي ذكرت بعضها سابقاً. وعلى كل حال فإن(2/403)
المرأة لا تكون محرماً للمرأة وإنما المحرم هو الرجل فقط.
زوج الأخت ليس محرماً
هل يعتبر زوج الأخت محرماً للمراة في سفرها للحج؟
الجواب: إن زوج الأخت لا يعتبر محرماً للمرأة في سفرها للحج أو لغيره وزوج الأخت يعتبر أجنبياً عن المرأة لا يجوز لها أن تتكشف أمامه. ولا يجوز أن يخلو بها ولا يثبت له من الأحكام التي تثبت للمحارم وكونها محرمة عليه من حيث الزواج لا يعني سوى ذلك. وتلك الحرمة حرمة مؤقتة فإذا ماتت زوجته أو طلقها فيجوز له أن يتزوج أختها. والمرأة لا تجد محرماً للحج فلا يجب عليها الحج لأن من ضمن الاستطاعة في حق المرأة أن يكون للمرأة محرم فإن لم يوجد فلا يجب عليها الحج. ولا بأس من التذكير بمحارم المرأة وهم:
1. الآباء والأجداد سواء من جهة الأب أو من جهة الأم.
2. الأبناء وأبناء الأبناء وأبناء البنات.
3. الأخوة مطلقاً.
4. الأعمام ويدخل في ذلك عم الأب وعم الأم.
5. الأخوال ويدخل في ذلك خال الأب وخال الأم.
6. أبناء الإخوة وأبناء أبنائهم وأبناء بناتهم.
7. أبناء الأخوات وأبناء أبنائهم وأبناء بناتهن.
المحارم من المصاهرة:
1. أبناء زوج المرأة وأبناء أبنائه وأبناء بناته.
2. أبناء زوج المرأة وأجداده من جهة الأب ومن جهة الأم.(2/404)
3. أزواج بنات المرأة وأزواج بنات أبنائها وأزواج بنات بناتها.
ما يجوز للمحرم رؤيته
يقول السائل: ماذا يجوز للمحارم أن يروا من المرأة؟
الجواب: يقول الله تعالى: (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْءَابَائِهِنَّ أَوْءَابَاءِ بُعُولَتِهِنَّ ... ) سورة النور آية 31.
وقد اختلف أهل العلم في تفسير قوله تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْءَابَائِهِنَّ أَوْءَابَاءِ بُعُولَتِهِنَّ ... ) على أقوال كثيرة أرجحها: أنه يجوز للمحارم أن ينظروا من المرأة إلى مواضع الزينة وإلى ما يظهر غالباً عند الخدمة كالرأس والشعر والعنق والخد والساعد والكف والساق والركبة وهذه الأعضاء يجوز النظر إليها إذا كان النظر بدون شهوة وأما مع النظر بشهوة فيحرم النظر من المحارم.
حكم تناول الأدوية التي تقلل الوزن
يقول السائل: ما حكم استعمال الأدوية التي تقلل الوزن؟
الجواب: لا مانع من استعمال الأدوية التي تقلل الوزن وتخفف السمنة بشرط ألا يلحق الإنسان بنفسه ضرر نتيجة استعمال هذه الأدوية وكذلك يشترط أن يكون الدواء مما يجوز استعماله شرعاً.
وقد حثّ الإسلام على تقليل الطعام وعلى عدم الإفراط في تناول(2/405)
الأطعمة وغالباً ما تكون السمنة ناتجة عن الإكثار من الأطعمة فقد جاء في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ما ملأ آدمي وعاءً شراً من بطنه بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه) رواه أحمد والترمذي والنسائي والحاكم وقال الألباني: صحيح.
وورد في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً عظيم البطن فقال بإصبعه لو كان هذا في غير هذا لكان خيراً لك) رواه أحمد والطبراني بإسناد جيد وقال الهيثمي رجاله رجل الصحيح.
وقال الشيخ الساعاتي: [لو كان العظم في غير البطن من أعضائه ... كان خيراً لأن عظم البطن يثقل الرجل ويضره ولا يفيده لأنه ينشأ عن كثرة الأكل وكثرة الأكل مذمومة فكأنه صلى الله عليه وسلم يحثه على التقليل من الأكل والشرب لأنه أصح للبدن) الفتح الرباني 17/218.
موقف الإسلام من تنظيم النسل
يقول السائل: ما هو موقف الإسلام من تنظيم النسل وتحديده؟
الجواب: إن الإسلام قد اعتنى بالنسل والمحافظة عليه بل إن المحافظة عليه من مقاصد الشريعة الإسلامية وقد ورد في ذلك كثير من النصوص الشرعية منها:
1. يقول الله سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ) سورة الرعد آية 38.
2. ويقول سبحانه وتعالى: (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) سورة البقرة آية 187.
3. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فليصم فإنه له وجاء) رواه مسلم.(2/406)
4. وقال أيضاً: (تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة) رواه ابن ماجة وغير ذلك من الأحاديث.
ولا شك أن بقاء النوع الإنساني من أهم أغراض الزواج وبقاء النوع الإنساني إنما يكون بدوام التناسل فلذلك حث الإسلام على الزواج وعلى التناسل وبارك الأولاد ذكوراً وإناثاً.
وقد ظهرت دعوات كثيرة لتنظيم النسل أو تحديده أو قطعه كلياً في كثير من البلدان وأعدت لذلك برامج كثيرة وأنفقت أموال طائلة واستغلت وسائل الإعلام لذلك وقامت بعض الدول بتنظيم الحملات المتعلقة بذلك من أجل تحديد النسل وتقليله وما يجري في مصر خير مثال على ذلك.
ولقد قرر الفقهاء المعاصرون أن تنظيم النسل بالنسبة للأمة محرم ولا يجوز إذا تبنته الدولة وفرضته على الناس بشكل إجباري وأما إذا كان تنظيم النسل باختيار الزوجين فيجوز ذلك متى كان لهما ما يبرره ويسوغه.
ويجب أن يعلم أن هنالك فرقاً واضحاً بين تنظيم النسل وبين وتحديد النسل فتنظيم النسل عبارة عن تنظيم عملية الإنجاب باتباع وسائل معينة بحيث تكون هنالك مدة بين كل مولود وآخر.
وأما تحديد النسل فهو الوقوف بالنسل عند حد معين باستعمال وسائل وقائية أو علاجية لقطع النسل كأن تنجب الزوجة ولداً واحداً فقط أو اثنين.
وتنظيم النسل جائز إذا توفرت الدواعي لذلك كما سأبينها بعد قليل وأما تحديد النسل فهو محرم ولا يجوز شرعاً لما يلي:
أولاً: لأن الوقوف بالنسل عند حد معين يؤدي إلى كف أجهزة النسل في الإنسان عن أدائها لوظائفها وإن تعاطي الوسائل التي تؤدي إلى قطع النسل كالإختصاء أو استئصال الرحم ونحوه من الوسائل يعد تغييراً لخلق الله.
ثانياً: إن تحديد النسل فيه معارضة صريحة لقوانين الفطرة ووظائفها كما أن تحديد النسل خشية الفقر فيه مساس بالعقيدة الإسلامية ومعارضة صريحة لآيات الله البينات.(2/407)
فالإسلام جعل للولد حق الحياة ولا يجوز لأبيه وأمه أن يتعديا على حياته بالقتل أو الوأد كما كان يصنع الجاهليون الذين قال الله فيهم: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ) سورة الأنعام آية 140.
وقال تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا) سورة الإسراء آية 31.
ثالثاً: إن تحديد النسل فيه معارضة للنصوص الشرعية الداعية إلى الإكثار من النسل وقد سبق ذكر بعضها.
رابعاً: إن تحديد النسل يعارض أمراً ضرورياً من الضروريات الشرعية وهو حفظ النسل لذلك لا يجوز تحديد النسل فهو من المحرمات.
وأما تنظيم النسل من قبل الزوجين إذا وجدت المسوغات له فجائز وأهم هذه المسوغات ما يلي:
1. الخشية على حياة الأم أو صحتها من الحمل وتبعاته فإن الولادات المتكررة مرهقة للمرأة فتحتاج المرأة إلى راحة بين الولادة والأخرى وهذه الراحة قد تطول وقد تقصر حسب حالتها الصحية وقد قال تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) .
2. الخشية على الأولاد أن تسوء تربيتهم أو أن تضطرب تربيتهم فقد روى أسامة بن زيد أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أني أعزل عن امرأتي، فقال له صلى الله عليه وسلم: لم تفعل ذلك؟ فقال الرجل: أشفق على أولادها فقال صلى الله عليه وسلم: (لو كان ضاراً لضر فارس والروم) رواه مسلم.
فكأن الرسول عليه الصلاة والسلام رأى أن هذه الحالات الفردية لا تضر الأمة في مجموعها بدليل أنها لم تضر فارس والروم وهما أقوى دول الأرض حينذاك.
3. الخشية من الوقوع في حرج دنيوي قد يؤدي إلى الوقوع في حرج ديني فيقع في الحرام ويرتكب المحظورات من أجل الأولاد يقول الله سبحانه وتعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) .(2/408)
وخلاصة القول أن هذه الحالات الفردية هي التي يجوز فيها تنظيم النسل بشكل اختياري من الزوجين أما أن يكون ذلك سياسة عامة تفرضها الدولة على شعبها فلا يجوز ذلك. *****
تحنيط الجنين
تقول السائلة: إنها أسقطت جنيناً عمره سبعة أشهر فأخذه الطبيب لوضعه في المختبر فما حكم ذلك؟
الجواب: إن ما فعله الطبيب من أخذ الجنين ووضعه في المختبر عمل محرم شرعاً لا يجوز لأن مثل هذا الجنين ينبغي أن يغسل ويصلى عليه ويدفن وهذا هو حكم الجنين إذا كان قد مضى عليه في بطن أمه أربعة أشهر فأكثر فقد ورد في الحديث: ( ... والسقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة) رواه أبو داود وابن حبان والحاكم والبيهقي وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني.
فالسقط إذا نفخت فيه الروح يصلّى عليه وتُطبّق عليه الأحكام الشرعية التي تُطبّق على الميت البالغ وبالتالي لا يجوز تحنيطه ووضعه في المختبر.
وينبغي أن يعلم أن الإسلام قد احترم الإنسان حياً وميتاً وتحنيط هذا الجنين امتهان لكرامته واعتداء على حرمته وقد ورد في الحديث: عن عائشة رضي الله عنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (كسر عظم الميت ككسر عظم الحي) .
وفي رواية أخرى (في الإثم) رواه أبو داود وابن ماجة وأحمد والبيهقي وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني.
لذلك يجب على والد الطفل أن يأخذ الجنين من الطبيب وأن يقوم بغسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين.(2/409)
تسمية الأولاد بالأسماء الأجنبية
يقول السائل: ما حكم تسمية الأولاد بالأسماء الأجنبية؟
الجواب: إن من حقوق الأولاد على الآباء أن يختاروا لهم أسماء حسنة فقد ورد في الحديث عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسمائكم) رواه أبو داود بإسناد حسن. وهنالك أسماء مستحبة استحبها الرسول صلى الله عليه وسلم فينبغي أن يسمى الأولاد بها وهنالك أسماء غيرها الرسول صلى الله عليه وسلم لكراهيته لها. فمن الأسماء المستحبة المرغب فيها ما ثبت في الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أحب أسمائكم إلى الله عبد الله وعبد الرحمن) رواه مسلم.
فهذا الحديث يفيد أن هذين الإسمين: (عبد الله وعبد الرحمن) أفضل الأسماء ومن الأسماء المستحبة أيضاً أسماء الأنبياء كإبراهيم وموسى وعيسى ونوح ويونس وغيرها ويدل على ذلك ما ثبت في الحديث عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: [ولد لي غلام فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فسماه إبراهيم وحنكه بتمرة) رواه مسلم. ولما ورد في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (تسموا بأسماء الأنبياء وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن وأصدقها الحارث وهمام وأقبحها حرب ومرة) ] رواه أبو داود والنسائي وأحمد وفي سنده بعض الكلام وله شواهد تقويه، قال الإمام البغوي معلقاً على هذا الحديث: [إنما صار الحارث وهمام من أصدق الأسماء من أجل مطابقة الإسم معناه لأن الحارث الكاسب يقال حرث الرجل: إذا كسب قال الله سبحانه وتعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) .
وهمام من هممت بالشيء: إذا أردته وما من أحد إلا وهو في كسب أو يهم بشيء وإنما صار حرب ومره من أقبح الأسماء لما في الحرب من(2/410)
المكاره وفي مره من المرارة والبشاعة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن والإسم الحسن] شرح السنة 12/334 ومن الأسماء التي لا يجوز تسمية الأولاد بها كل اسم معبد لغير الله سبحانه وتعالى مثل: عبد علي وعبد الحسين وعبد النبي ونحوها. ومنها أسماء الفراعنة والجبابرة كفرعون وقارون ونحوهما، وأما الأسماء الأجنبية فإني أكره أن يسمى بها أبناء المسلمين لأن ذلك يدخل في التشبه بغير المسلمين وقد نهينا عن ذلك، كما أن في الأسماء العربية الإسلامية ما يغني عن التسمية بالأسماء الأجنبية. كما أن الأسماء المعروفة بين المسلمين لها معان ودلالات معينة وليس كذلك الأسماء الأجنبية.
يحرم لعن المرأة لأولادها
يقول السائل: ما حكم لعن المراة لأولادها؟
الجواب: اللعن هو الإبعاد من رحمة الله سبحانه وتعالى واللعن من المحرمات بل من الكبائر فيحرم على المسلم أن يلعن شخصاً بعينه ويحرم على هذه المرأة أن تلعن أولادها ويدل على ذلك أحاديث كثيرة منها:
ما رواه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ... ومن لعن مؤمناً فهو كقتله) .
وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا الفاحش ولا البذيء) رواه الترمذي وابن حبان والحاكم وصححاه.
وروى الإمام مسلم في صحيحه عن زيد بن أسلم أن عبد الملك بن مروان بعث إلى أم الدرداء بأنجاد من عنده فلما أن كان ذات ليلة قام عبد الملك بن مروان فدعا خادمه فكأنه أبطأ عليه فلعنه فلما أصبح قالت له أم الدرداء، سمعت الليلة لعنت حين دعوته فقالت: سمعت أبا الدرداء(2/411)
يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة) والأنجاد المذكورة في الحديث جمع نجد وهو متاع البيت الذي يزينه من فرش وستور ونحو ذلك.
قال الإمام النووي: [وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (أنهم لا يكونون شفعاء ولا شهداء) فمعناه: لا يشفعون يوم القيمة حين يشفع المؤمنون في إخوانهم الذين استوجبوا يوم القيامة على الأمم بتبليغ رسلهم إليهم الرسالات] شرح النووي على صحيح مسلم 16/115. وقال عليه الصلاة والسلام: (إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة) رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تتلاعنوا بلعنة الله ولا بغضب الله ولا بجهنم) . رواه الترنمذي وقال حديث حسن صحيح ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء فتُغلق أبواب السماء دونها ثم تهبط إلى الأرض فتُغلق أبوابها دونها ثم تأخذ يميمناً وشمالاً فإذا لم تجد مساغاً رجعت إلى الذي لعن فإن كان لذلك أهلاً وإلا رجعت إلى قائلها) رواه أبو داود وأحمد وقال الشيخ الألباني حديث حسن.
وعن ابن عباس أن رجلاً لعن الريح فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنها فإنها مأمورة إنه من لعن شيئاً ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه) رواه أبو داود والترمذي وقال الشيخ الألباني أنه حديث صحيح.
والذي يؤخذ من هذه الأحاديث حرمة لعن الإنسان المعين وكذلك لعن غير الإنسان مثل لعن الريح كما في الحديث الأخير وورد في بعض الأحاديث النهي عن لعن الحيوان فكل ذلك من اللعن المحرم.
قال الإمام البغوي: [اللعن المنهي عنه أن يلعن رجلاً بعينه مواجهة براً كان أو فاجراً لأن عليه أن يوقر البر ويرحم الفاجر فيستغفر له فإذا لعنه في وجهه زاده ذلك شراً فأما لعن الكفار على العموم والفجار كما جاء(2/412)
في الحديث من لعن شارب الخمر ولعن الواصلة والمستوصلة وآكل الربا ونحوها فغير منهي عنه] شرح السنة 13/138.
أي أن لعن الكفار والفجار دون تعيين الأشخاص جائز كأن تلعن شارب الخمر أو تلعن آكل الربا لورود ذلك في الحديث.
وأخيراً فعلى هذه المرأة التي لعنت أولادها أن تتوب إلى الله عز وجل توبة صادقة وتكثر من الدعاء ولأولادها ويجب عليها أن لا تعود إلى لعن أولادها.
الكذب على الزوجة
تقول السائلة: أن زوجها يكذب عليها في حالات كثيرة ويدعي أن الكذب على الزوجة جائز شرعاً فما قولكم في ذلك؟
الجواب: لا شك أن الكذب خصلة ذميمة وذنب من أقبح الذنوب وقد تظاهرت الآيات والأحاديث على تحريم الكذب بشكل عام فقد ثبت في الحديث الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وإن والرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) رواه البخاري ومسلم.
وثبت في الحديث الصحيح أيضاً عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر) رواه البخاري مسلم.
والكذب ليس من صفات المؤمنين الصادقين يقول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ) .(2/413)
هذا هو الأصل في الكذب أنه محرم وأنه فاحشة من فواحش الذنوب ولكن هذا الأصل له استثناء فقد أجاز الشرع الكذب في بعض المواطن وجعله مباحاً قال الإمام النووي رحمه الله: [اعلم أن الكذب وإن كان أصله محرماً فيجوز في بعض الأحوال إلى أن قال " إن الكلام وسيلة إلى المقاصد فكل مقصود محمود يمكن تحصيله بغير الكذب يحرم الكذب فيه وإن لم يمكن تحصيله إلا بالكذب جاز الكذب، ثم إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحاً كان الكذب مباحاً وإن كان واجباً كان الكذب واجباً فإذا اختفى مسلم من ظالم يريد قتله أو أخذ ماله وسئل إنسان عنه وجب الكذب بإخفائه وكذا لو كان عنده وديعة وأراد ظالم أخذها وجب الكذب بإخفائه والأحوط في ذلك كله أن يوري ومعنى التورية أن يقصد في كلامه مقصوداً صحيحاً ليس هو كاذباً بالنسبة إليه وإن كان كاذباً في ظاهر اللفظ بالنسبة إلى ما يفهمه المخاطب ولو ترك التورية وأطلق عبارة الكذب فليس بحرام في هذا الحال] رياض الصالحين ص592.
وخلاصة الأمر أن هنالك أحوالاً يجوز فيها الكذب وقد وردت في أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها:
1. ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً) .
2. ما رواه مسلم في صحيحه أن أم كلثوم بنت عقبة قالت: ولم أسمعه أي الرسول صلى الله عليه وسلم يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها.
وهذا الحديث يدل على جواز أن يكذب الرجل على زوجته وكذلك المرأة على زوجها ولكن أهل العلم قيدوا كذب الرجل على امرأته وعكسه بأن يكون الكذب فيما يتعلق بأمر المعاشرة وحصول الألفة بينهما.
قال الخطابي: [كذب الرجل على زوجته أن يعدها ويمنيها ويظهر لها(2/414)
من المحبة أكثر مما في نفسه يستديم بذلك صحبتها ويصلح من خلقها] عون المعبود 13/179.
وقال الحافظ ابن حجر [واتفقوا على أن المراد بالكذب في حق المرأة والرجل إنما هو فيما لا يسقط حقاً عليه أو عليها أو أخذ ما ليس له أو لها] فتح الباري 6/228.
وقال الإمام النووي: [وأما كذبه لزوجته وكذبها له فالمراد به إظهار الود والوعد بما لا يلزم ونحو ذلك، فأما المخادعة في صنع ما عليه أو عليها أو أخذ ما ليس له أو لها فهو حرام بإجماع المسلمين) شرح النووي على مسلم 16/158.
وبهذا يظهر جواز الكذب بين الزوجين إذا كان في ذلك محافظة على الحياة الزوجية ومنع لهدمه فإذا سأل الزوج زوجته هل تحبه فعليها أن تجيبه بنعم وإن كانت تكرهه محافظة على بقاء الأسرة واستمرارية الحياة الزوجية وكما قال عمر رضي الله عنه لتلك المرأة: [فإن كانت أحداكن لا تحب أحدنا فلا تحدثه بذلك فإن أقل البيوت الذي يبنى على الحب] .
الإنفاق على الزوجة من مال حرام
تقول السائلة: إن زوجها يتعامل في تجارته بالمحرمات بالإضافة إلى المباحات وهو ينفق عليها وعلى أولاده من هذه الأموال فما حكم ذلك؟
الجواب: إن الواجب على المسلم أن يكسب ماله من حلال وبطريق مشروع ويدل على ذلك قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) سورة البقرة آية 172.
وقوله تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا) سورة البقرة آية 168.
وما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً وإن الله تعالى أمر المؤمنين(2/415)
بما أمر به المرسلين، قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك) رواه مسلم.
وبناءً على ما سبق لا يجوز للمسلم أن يكتسب المال بطريق محرم وفي السؤال أن زوج المرأة يكتسب المال من طريقين أحدهما حرام والآخر حلال ويقوم بالإنفاق على الأسرة من مجموع المالين. والواجب على زوجته وأولاده المكلفين أن ينصحوا أباهم أن يقلع عن المعصية وهي المتاجرة في المحرمات وأن يكتفي بالتجارة في الحلال فإن استجاب فبها ونعمت وإن لم يفعل واستطاعت الزوجة والأولاد أن يستغنوا عن أموال الزوج فهو الأفضل وإن لم يستطيعوا فلا بأس في أن يأكلوا من ماله وهذا المال المختلط من الحلال والحرام يجوز الأخذ منه والإنفاق منه والإثم يقع على الزوج، ولا شيء على زوجته وأولاده.
لبس الأساور الذهبية التي على شكل حيات
ما حكم لبس المرأة الأساور الذهبية التي تكون على شكل حيات؟
الجواب: لا يجوز لبس الأساور الذهبية أو غيرها التي تكون على شكل ما فيه روح سواء على شكل حيات أو طيور أو غير ذلك، فإن هذه التماثيل محرمة شرعاً فلا يجوز صنعها ولا بيعها ولا اقتناؤها ولا لبسها وكل ذلك حرام والإسلام حرم التماثيل محافظة على التوحيد فقد ورد في الحديث: (أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال لأحد أصحابه ألا أبعثك على ما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تدع صورة إلا طمستها ولا قبر مشرف إلا سويته) رواه مسلم.(2/416)
انتساب الزوجة إلى زوجها
يقول السائل: لقد شاع بين كثير من الناس انتساب المراة إلى زوجها لا إلى أبيها وصار يستعمل في الكثير من المعاملات الرسمية فما حكم ذلك؟
الجواب: إن من أمراض الأمة الإسلامية الشائعة اليوم تشبهها بغيرها من الأمم وتقليدها في كثير من الأمور وهذا الأمر وهو أن تسمى الزوجة باسم زوجها من التقاليد الغربية الوافدة وهي تقاليد غريبة عن المجتمع المسلم وهذا الأمر صار شائعاً ومنتشراً بين الناس ومستعملاً في كثير من المعاملات، وهو تقليد سخيف لغير المسلمين وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن هذه الأمة وللأسف تتبع الأمم الأخرى في كثير من أمورها وهذا دليل على الضعف وعلى الهوان، إذ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذعاً بذراع حتى لو دخل جحر ضب لدخلتموه) . وجاء في حديث آخر قوله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم سنة سنة) رواه الترمذي وأحمد وقال الترمذي حسن صحيح.
وانتساب المرأة لغير أبيها لا يجوز شرعاً وهو حرام. وإذا كانت الزوجة منكرة لنسبها قد يكون كفراً والعياذ بالله فقد ورد في جملة أحاديث صحيحة وثابتة عن الرسول عليه الصلاة والسلام منها:
1. عن أبي ذر رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ليس من رجل ادعى لغير أبيه إلا كفر بالله ... ) رواه البخاري ومسلم وذكر الرجل في الحديث خرج مخرج الغالب والمرأة كذلك.
2. وعن وائلة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من أعظم الفرى أن يدعي الرجل إلى غير أبيه ... ) رواه البخاري والفرى جمع فرية وهي الكذب.
3. وعن أبي بكر وسعد رضي الله عنهما كلاهما يقول: سمعته أذناي ووعاه قلبي محمداً صلى الله عليه وسلم يقول: (من ادعى لغير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام) رواه مسلم.(2/417)
وهذه الأحاديث تحمل على من انتسب لغير أبيه واستحل ذلك.
وأما الشائع اليوم من انتساب المرأة لزوجها وإن كان لا إنكار فيه للأبوة وللعائلة إلا أنه محرم أيضاً لأن فيه تشبهاً بغير المسلمين وفيه تلبيس على الناس فعلى المرأة أن تتسمى باسم أبيها فتقول فلانة بنت فلان وزوجة فلان.
خدمة الزوجة لوالد زوجها
يقول السائل: إن زوجته ترفض خدمة والده فهل يحق له أن يجبرها على ذلك؟
الجواب: لا يجب على الزوجة أن تخدم والد زوجها والشرع لا يلزمها بذلك ولا يجوز للزوج أن يجبر زوجته على خدمة والده أو أي أحد من أقاربه والأمر متروك للزوجة فإن خدمت والد زوجها فبها ونعمت وإن لم تفعل فلا حرج عليها.
وإن كان الأفضل والأولى في حق هذه الزوجة أن تخدم والد زوجها من باب بر الزوج وطاعته إن أمرها بذلك وتكون تلك الخدمة تبرعاً منها وتفضلاً وإحساناً ولكن الأمر ليس واجباً عليها.(2/418)
متفرقات(2/419)
القول المبين في حكم التدخين
يقول السائل: هل لكم أن تبينوا لنا حكم التدخين بياناً شافياً؟
الجواب: إن نبتة الدخان لم تكن معروفة في ديار الإسلام لذلك لم يتعرض لها الفقهاء المتقدمون في مؤلفاتهم وأول ما عرف الدخان في بلاد المسلمين في حوالي الألف للهجرة كما ذكر بعض العلماء ولما شاع التدخين اختلف الفقهاء في حكمه فمنهم من رأى أنه مباح ومنهم من رأى أنه حرام وخلافهم هذا كان قبل وقوفهم على أضرار التدخين أما الآن فقد أصبحت أضرار التدخين معلومة علماً تاماً ومقطوعاً بها.
فقد اتفقت على أضراره الهيئات العلمية والمجامع الطبية وقرروا أنه سبب رئيس للسرطان وتليف الكبد وأمراض الشريان التاجي والذبحة الصدرية وسرطان الفم وغيرها من الأمراض الخبيثة لذلك رأى كثير من العلماء المعاصرين أن التدخين حرام وهذا هو القول الصحيح إن شاء الله وهذا التحريم مستند لما يلي:
أولاً: ضرر التدخين المؤكد لصحة الإنسان المدخن وغيره:
وهذا ما أكده أهل الخبرة والاختصاص من الأطباء والكيميائين وغيرهم فالدخان يتكون من مجموعة كثيرة من المواد منها أكثر من خمسة عشر نوعاً من السموم الفتاكة كالنيكوتين الذي يعد من السموم القوية والفعالة وله أثر سيء(2/421)
على الكلية والجهاز العصبي والدم، ومنها أول أكسيد الكربون وهو معروف بتأثيره السام وله تأثير سيء على الدم.
ومنها القطران وهو المادة اللزجة الصفراء التي تؤدي إلى اصفرار الأسنان ونخرها وإلى التهابات اللثة وهو أخطر محتويات الدخان على الصحة ويسبب السرطان والتهابات الشعب الهوائية وغير ذلك من المواد الضارة التي تلحق الضرر والأذى بصحة المدخن فالتدخين يضر بالفم وبالشفاه واللثة والأسنان واللسان واللوزتين والجهاز الهضمي والجهاز التنفسي والأعصاب والدورة الدموية والجهاز البولي كما أن للتدخين ضرراً على النسل لذلك تُنصح الحوامل بعدم التدخين وما كان ضرره كذلك فلا شك في حرمته لأن الإسلام يحرم كل ضار يقول عليه الصلاة والسلام: (لاضرر ولا ضرار) رواه البيهقي وغيرهما وهو حديثٌ صحيح.
وقال الإمام النووي: كل ما أضر أكله كالزجاج والحجر والسم يحرم أكله] .
ثانياً: ضرر التدخين المالي:
لا شك أن الملايين تنفق على التدخين وما يتعلق به وكذلك فإن الملايين تنفق في علاج الأمراض التي تنتج عن التدخين وأن الأرقام التي تذكر في هذا المجال أرقام كبيرة جداً مما يؤكد الضرر البالغ للتدخين على الناحية الإقتصادية على مستوى الأفراد والشعوب والإسلام لا يقر أبداً إنفاق الأموال في هذه الجوانب فإن إنفاق المال في التدخين إنفاق له فيما لا ينفع لا في الدنيا ولا في الآخرة.
ثالثاً: يقول الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله: [وهناك ضرر آخر يغفل عنه عادة الكاتبون في هذا الموضوع وهو الضرر النفسي وأقصد به أن الإعتياد على التدخين وأمثاله يستعبد إرادة الإنسان، ويجعلها أسيرة لهذه العادة السخيفة بحيث لا يستطيع أن يتخلص منها بسهولة إذا رغب في ذلك يوماً لسببٍ ما. كظهور ضررها على بدنه أو سوء أثرها في تربية ولده أو حاجته إلى ما ينفق فيها لصرفه في وجوه أخرى أنفع وألزم أو نحو ذلك من الأسباب لهذا الإستعباد النفسي لدى بعض المدخنين يجور على قوت أولاده(2/422)
والضروري من نفقة أسرته ومن أجل إرضاء مزاجه هذا لأنه لم يعد قادراً على التحرر منه وإذا عجز مثل هذا يوماً عن التدخين لمانع داخلي أو خارجي فإن حياته تضطرب وميزانه يختل وحاله تسوء وفكره يتشوش وأعصابه تثور لسبب أو لغير سبب] ولا ريب في أن مثل هذا الضرر جدير بالإعتبار في إصدار حكم على التدخين.
رابعاً: إن التدخين خبيث عند ذوي الطباع السليمة ولا ينكر ذلك إلا مكابر ولا يقول أحد من العقلاء إنه من الطيبات والله سبحانه وتعالى يقول: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) والدخان خبيث فهو من المحرمات.
خامساً: إن الدخان مفتر من المفترات وهذا معروف عند المدخنين وكونه لا يفتر المدمنين عليه فهذا لا يعتبر في إثبات التحريم لأن بعض المدمنين على الخمر لا يسكر من كأس أو كأسين ويحتاج إلى كمية أكبر حتى يسكر فلا يقال إن الخمر في حقه غير محرم وكذلك الحال في الدخان وقد ثبت في الحديث عن أم سلمة رضي الله عنها: (أن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن كل مسكر ومفتر) حديثٌ صحيح رواه أحمد وأبو داود وغيرهما، والأصل في النهي أنه يفيد التحريم ما لم ترد قرينه تصرفه عن ذلك.
وبعد هذا العرض الموجز لأهم الأدلة الدالة على تحريم التدخين أقرر ما قاله بعض العلماء المعاصرين من حرمة التدخين بلا شك ولكن حرمته ليست كحرمة الخمر أو الزنا فالمحرمات تتفاوت فهي على درجات فبعضها يعد من الكبائر وبعضها صغائر وأظن أن التدخين من الأخيرة ومع ذلك فينبغي الإقلاع عن هذه العادة السيئة ولا يجوز التعامل مع كل ما يتعلق بالتدخين كصناعته وبيعه وتوزيعه والدعاية له وتقديمه للناس وغير ذلك.
وأخيراً ينبغي أن تعلم أن قول من يرى أن التدخين مباح قول ضعيف لا وجه له بعد أن ثبت الضرر المؤكد للتدخين عند العامة والخاصة يقول(2/423)
الدكتور القرضاوي: [ويتبين من هذا التمحيص الذي ذكرناه أن إطلاق القول بإباحة التدخين لا وجه له بل هو غلط صريح وغفلة عن جوانب الموضوع كله ويكفي ما فيه من إضاعة لجزء من المال فيما لا نفع فيه وما يصحبه من نتن الرائحة المؤذية وما فيه من ضرر بعضه محقق وبعضه مظنون أو محتمل] .
وإن كان لهذا القول وجه فيما مضى عند ظهور استعمال هذا النبات في سنة ألف من الهجرة حيث لم يتأكد علماء ذلك العصر من ثبوت ضرره فليس له أي وجه في عصرنا بعد أن أفاضت الهيئات العلمية الطبية في بيان أضراره وسيء آثاره وعلم بها الخاص والعام وأيدتها لغة الأرقام.
أهل البيت
يقول السائل: إنه قرأ في إحدى الصحف تعليقاً حول حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا كتاب الله وأهل بيتي) وقال المعلق على الحديث: بأن النص الصحيح عند أهل السنة وهم أهل هذه البلاد وبالمنطق السليم هو: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي) فهل صحيح ما قاله المعلق؟
الجواب: إن الحكم على الحديث لا يخضع لشيء اسمه المنطق السليم أو المنطق غير السليم وإنما الحكم على الحديث يكون خاضعاً للقواعد والضوابط التي وضعها أهل الحديث المتخصصون في الحكم على الحديث من حيث الثبوت أو الرد.
والحديث الذي أنكره المعلق هو حديثٌ صحيح ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم ورد برواياتٍ كثيرةٍ أذكر بعضها:
1. عن زيد بن أرقم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا خطيباً بماء يدعى خماً بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكّر ثم قال: (أما بعد ... ألا(2/424)
أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به. فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال: وأذكركم الله في أهل البيت ... ) رواه الإمام مسلم في صحيحه حديث رقم 1408.
وعن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني تارك فيكم خليفتين كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض وعترتي أهل بيتي وأنهما لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض) رواه الإمام أحمد في المسند ورواه الطبراني وقال الشيخ الألباني: حديث صحيح.
وغير ذلك من الروايات وهي كثيرة وقد صححها جماعة من المحدثين كالحاكم والذهبي والطبراني وغيرهم، والمراد بالحديث إن عملتم بالقرآن واهتديتم بهدي عترتي العلماء العاملين لم تضلوا ومثلهم العلماء العاملون من غير العترة فالتمسك بهديهم يوصل إلى المقصود وإنما خص أهل بيته صلى الله عليه وسلم لأن التمسك بالعلماء منهم أقوى من علماء غيرهم في التأثير بالقلوب. انظر الفتح الرباني 1/186.
ولعل الكاتب أنكر صحة الحديث لورود عبارة (أهل بيتي) أو (عترتي) فيه، وقد استكشل الكاتب ذلك مع أن المشهور من الحديث (وسنتي) كما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي) رواه الحاكم وغيره وهو حديث صحيح.
وقد أجاب الشيخ الألباني عن هذا الإشكال من وجهين فقال: [الأول: إن المراد من الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: (عترتي) أكثر مما يريده الشيعة ولا يرده أهل السنة بل هم مستمسكون به وألا وهو أن العترة فيه هم أهل بيته صلى الله عليه وسلم وقد جاء ذلك موضحاً في بعض طرقه كحديث: (وعترتي أهل بيتي) وأهل بيته في الأصل هم نساؤه صلى الله عليه وسلم وفيهن الصديقة عائشة رضي الله عنهن جميعاً كما هو صريح قوله تعالى في الأحزاب: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) بدليل الآية التي قبلها والتي بعدها: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ(2/425)
وَءَاتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْءَايَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا) وتخصيص الشيعة: (أَهْلَ الْبَيْتِ) في الآية بعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم دون نسائه صلى الله عليه وسلم من تحريفهم لآيات الله تعالى انتصاراً لأهوائهم كما هو مشروح في موضعه وحديث الكساء وما في معناه غاية ما فيه توسيع دلالة الآية ودخول علي وأهله فيها كما بينه الحافظ ابن كثير وغيره وكذلك حديث العترة قد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن المقصود أهل بيته صلى الله عليه وسلم بالمعنى الشامل لزوجاته وعلي وأهله، ولذلك قال التوربشتي، كما قال في المرقاة 5/600: عترة الرجل: أهل بيته رهطه الأدنون ولاستعمالهم (العترة) على أنحاء كثيرة بيّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (أهل بيتي) ليعلم أنه أراد بذلك نسله وعصابته الأدنين وأزواجه.
الوجه الآخر: إن المقصود من أهل البيت إنما هم العلماء الصالحون منهم والمتمسكون بالكتاب والسنة، قال الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله تعالى: (العترة) هم أهل بيته صلى الله عليه وسلم الذين هم على دينه وعلى التمسك بأمره) وذكر نحوه الشيخ علي القاري في الموضع المشار إليه آنفاً ثم استظهر أن الوجه في تخصيص أهل البيت بالذكر ما أفاده بقوله: إن أهل البيت غالباً ما يكونون أعرف بصاحب البيت وأحواله فالمراد بهم أهل العلم منهم المطلعون على سيرته والواقفون على طريقته العارفون بحكمه وحكمته وبهذا يصلح أن يكون مقابلاً لكتاب الله سبحانه كما قال: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) .
الضرب وسيلة مشروعة للتربية
يقول السائل: هل يجوز استعمال الضرب كوسيلة من وسائل التربية في المدرسة من قبل المدرسين؟
الجواب: إن طرق وأساليب تربية الصغار كثيرة ومنها الضرب(2/426)
والمقصود به الضرب غير المبرح، والضرب بشكل عام عقوبة يجوز استعمالها شرعاً فقد شرع الضرب في الحدود وفي التعزير وشرع ضرب الزوج لزوجته في حال النشوز وشرع ضرب الأولاد تأديباً لهم على ترك الصلاة وغير ذلك من الحالات ولكن ضرب الأولاد يحتاج إلى تفصيل وتوضيح.
ولا يجوز للمدرس أن يضرب الولد لمجرد وقوع المخالفة منه وإنما يلجأ إلى الضرب بعد أن يستنفذ أساليب التربية الأخرى فالأصل في معاملة الأولاد والطلاب اللين والرحمة بهم والرفق بهم ثم يتدرج المربي من الأخف إلى الأشد إن لم ينفع الأخف كوسيلة للتربية فعلى المربي أن يرشد الطالب إلى الخطأ بالتوجيه كما ثبت في الحديث عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه قال: (كنت غلاماً في حجر الرسول صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة - تتحرك في وعاء الطعام فيأكل من عدة أماكن-فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا غلام سم الله وبكل بيمينك وكل مما يليك) رواه البخاري ومسلم.
كما أن على المربي أن يرشد الطالب إلى الخطأ بالملاطفة أو بالإشارة ويجوز للمربي أن يوبخ الطالب المخطئ بالكلام الهادئ أولاً ويجوز أن يعنفه بشدة فإذا لم تفلح هذه الأساليب ولم تأت بالثمرة المرجوة منها فحينئذ يجوز استعمال الضرب كوسيلة من وسائل التربية وتقويم السلوك فقد ورد في الحديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم (مروا أبنائكم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر) رواه أبو داود والترمذي وهو حديثٌ حسن.
والضرب المقصود هو الضرب غير المبرح وغير المؤلم وخاصة إذا كان الطالب قد وقع في الخطأ للمرة الأولى ولا يجوز الضرب على الوجه أو الرأس والمواضع الحساسة من الجسم حتى لا يلحق الضرر بالمضروب.
وينبغي للمربي ألا يضرب وهو في حالة الغضب لئلا يفقد السيطرة على نفسه فيضرب الطالب ضرباً مبرحاً يلحق به الأذى. انظر تربية الأولاد في الإسلام 2/678.(2/427)
كما أن بعض الفقهاء منعوا الضرب أكثر من ثلاث مرات كأن يضربه ثلاثة أسواط وأجاز بعض الفقهاء الضرب عشرة أسواط.
وينبغي أن يعلم أن الدعوة إلى إلغاء عقوبة الضرب في المدارس وإلغاء ذلك فعلياً قد أثر على العملية التعليمية تأثيراً سلبياً لأن كثيراً من الطلاب لا يستقيم حالهم ولا يصلح أمرهم إلا بالعقوبة أو الخوف منها وهذا أمرٌ طبيعي في الإنسان رغم كل ما يدعيه دعاة إلغاء الضرب من مبررات لإلغائه وإن حصول بعض التجاوزات من بعض المعلمين بضرب الطالب ضرباً مبرحاً قد ينتج عنه ضرر به لا يعني إلغاء الضرب نهائياً، ومن المتفق عليه بين الفقهاء أنه لا يجوز التأديب بقصد الإتلاف ومن وقع منه ذلك فإنه يتحمل المسؤولية. وأخيراً فإني أؤكد على أهمية عقوبة الضرب في المدارس وفي التأديب بشكلٍ عام لأهميتها في إصلاح النفوس. وقد روي في الحديث: (رحم الله إمرءاً علق في بيته سوطاً يؤدب أهله) .
عطور فيها بعض الكحول
يقول السائل: ما حكم استعمال العطور والأدوية التي تحتوي على نسبة من الكحول؟
الجواب: لا بأس باستعمال العطور والأدوية التي تشمل على نسبة من الكحول لأن ذلك لا يتخذ للأسكار ثم إن اختلاط قليل من الخمر بشيء مع عدم ظهور أثر له لا يوجب تحريم ذلك المخلوط به لأنه لما لم يظهر له أثر لم يكن له حكم إذ أن علة الحكم هي الموجبة له فإذا فقدت العلة فقد الحكم عليه فإن النسبة التي تخلط بالعطور والأودية من الكحول لا تؤدي إلى الإسكار فلا يثبت لهذه الأشياء حكم الخمر، ومن المعلوم أن الأدوية التي تحتوي على الكحول لا تسكر بمقاديرها الطبية فلا مانع من استعمالها.(2/428)
تعويض المضروب بالمال
يقول السائل: تشاجر شخصان فضرب أحدهما الآخر بآلة حادة فأصابه بجرح عميق ثم أخذت عطوة بين الطرفين ودفع الطرف المعتدى مبلغاً من المال للمعتدى عليه فما حكم المال المأخوذ وهل يجوز للمعتدى عليه أخذه؟
الجواب: يجوز للشخص المعتدى عليه أخذ المال الذي دفع له مقابل إصابته في الشجار ويعتبر هذا المال عند الفقهاء دية فيما دون النفس وهو أمر مشروع عند جماهير فقهاء المسلمين فقد أجازوا أخذ الدية في الجناية على ما دون النفس، والمراد بذلك الجناية على أعضاء جسم الإنسان كقطع يده أو رجله أو إصابة عينه أو أذنه أو أنفه أو جرحه ... الخ.
ويدل على ذلك أدلة كثيرة منها:
ما ورد في حديث عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن الرسول صلى الله عليه وسلم كتب له في كتابه: [وفي الأنف إذا أوعب جدعه الدية وفي اللسان الدية وفي الشفتين الدية وفي البيضتين الدية وفي الرجل الواحدة الدية] رواه النسائي ومالك في الموطأ وصححه أحمد والحاكم وابن حبان وغيرهم.
وعن أبي شريح الخزاعي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أصيب بدم أو خبل -والخبل الجراح- فهو بالخيار بين إحدى ثلاث: إما أن يقتص أو يأخذ العقل-الدية-أو يعفو فإذا أراد رابعة فخذوا على يديه) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة.
وما ورد في الحديث أيضاً: ( ... وفي كل إصبع من أصابع اليد أو الرجل عشر من الإبل وفي السن خمس من الإبل وفي الموضحة خمس من الإبل ... ) وهو جزء من الحديث الأول.
وبناء على ما سبق يجوز أخذ المال المشار إليه في السؤال إذا كان تقدير ذلك المال مستنداً لما ورد في الشرع من الدية فيما دون النفس.(2/429)
شجرة تضر الجيران
يقول السائل: يوجد في أرض جيراني سجرة سرو قديمة وكبيرة وجذور هذه الشجرة تلحق الضرر بمنزلي وطلبت من جيراني قطعها فرفضوا قعطها فزرعت شجراً ليلحق الضرر بجيراني فما الحكم في ذلك؟
الجواب: ورد في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) رواه ابن ماجة والدارقطني والحاكم وغيرهم وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني.
ويدل هذا الحديث على أنه لا يجوز إلحاق الضرر بالآخرين وكذلك لا يجوز مقابلة الضرر بالضرر وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث: (لا ضرر ولا ضرار) فيكون معنى الحديث لا يجوز إلحاق مفسدة بغيره مطلقاً ولا يجوز إلحاق مفسدة بغيره على وجه المقابلة.
وقد جعل أهل العلم هذا الحديث قاعدة من القواعد المعروفة في الفقه الإسلامي:
(لا ضرر ولا ضرار) .
وبناء على ما تقدم نقول: يجب على أصحاب الشجرة أن يقطعوها لأنها ألحقت ضرراً بمنزل جارهم لأن الواجب عليهم إزالة الضرر عن جارهم، وقد قرر الفقهاء وجوب إزالة الضرر بعد وقوعه فقالوا في القاعدة الفقهية: " الضرر يُزال ".
وقد يقول قائل أن الشجرة تقع في أرض أصحابها والإنسان حرّ التصرف في ملكه فنقول نعم صحيح إن الإنسان حرّ التصرف في ملكه ولكن بشرط أن لا يتأذى غيره من هذا التصرف قال الحافظ ابن رجب: [ومنها-أي الأمور الممنوعة-أن يحدث في ملكه ما يضر ملك جاره من هز أو دق ونحوهما فإنه يمنع منه. وكذا إذا كان يضر بالسكان كما إذا كان له رائحة خبيثة ونحو ذلك] جامع العلوم والحكم ص 386.
وقرر الفقهاء أنه إذا طالت أغصان شجرة لشخص وتدلت على جدار جاره فأضرته يكلف رفعها أو قطعها.(2/430)
ولا يجوز للإنسان المتضرر من أفعال الآخرين أن يقابل الضرر بالضرر وهذا هو المعنى المشار إليه في قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا ضرار) وعليه فلا يجوز للسائل أن يزرع شجراً في أرضه يحلق الأذى بجيرانه.
حكم الأكل من ثمار البساتين بدون إذن أصحابها
يقول السائل: هل يجوز الأكل من ثمار البساتين بدون إذن أصحابها؟
الجواب: إن من القواعد المقررة شرعاً أنه لا يجوز أخذ مال المسلم إلا بإذنه ويدل على ذلك قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) سورة النساء الآية 29.
ويدل على ذلك أيضاً قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) وقوله عليه الصلاة والسلام: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا) رواه البخاري ومسلم.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس) رواه الحاكم وابن حبان وصححاه وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس رواه البيهقي بإسناد صحيح، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فينتقل طعامه وإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه) رواه البخاري ومسلم والمشربة بضم الراء الغرفة.
قال الإمام النووي: [ومعنى الحديث أنه صلى الله عليه وسلم شبه اللبن في الضرع بالطعام المخزن المحفوظ في الخزانة في أنه لا يحل أخذه بغير إذنه، وفي الحديث فوائد منها تحريم أخذ مال الإنسان بغير إذنه والأكل منه والتصرف فيه، وأنه لا فرق بين اللبن وغيره وسواء المحتاج وغيره إلا المضطر ... فيأكل الطعام للضرورة ويلزمه بدل عندنا وعند الجمهور ... ] شرح صحيح مسلم 4/391.(2/431)
وقال ابن عبد البر: [في الحديث النهي عن أن يأخذ المسلم للمسلم شيئاً إلا بإذنه وإنما خص اللبن بالذكر لتساهل الناس فيه فنبه به على ما هو أولى منه] فتح الباري 6/14.
وبناء على ما تقدم لا يجوز الأكل من ثمار الأشجار في البساتين أو على جوانب الطرقات إلا بإذن أصحابها وكذلك الأكل من الزروع لا يجوز إلا بإذن أصحابها وهذا القول الذي ذكرته هو الأقوى دليلاً والأحوط ديناً وأبعد عن الشبهات.
قال ابن قدامة بعد أن ذكر الخلاف في المسألة: [والأولى في الثمار وغيرها ألا يأكل إلا بإذن لما فيه من الخلاف والأخبار الدالة على التحريم) المغني 9/418.
حكم سب الفقهاء والعلماء
يقول السائل: ما حكم من سب وشتم فقهاء المسلمين وما حكم الصلاة خلف ذلك الشخص؟
الجواب: لا شك أن سب وشتم فقهاء الإسلام من المعاصي الكبيرة وأن الطعن في علماء الإسلام طعن في دين الله وإن شتم الفقهاء والعلماء يدل على جهل وضاح وينبئ عن قلة تقوى ودين ويشير إلى جهل هذا الطاعن بمكانة العلماء في الإسلام، يقول الله سبحانه وتعالى: (ِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) سورة الزمر الآية 9، ويقول الله سبحانه وتعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَءَامَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) سورة المجادلة الآية 11.
وروى ابو الدرداء عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ليلة البدر والعلماء هم ورثة الأنبياء إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهم إنما ورثوا العلم فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر) رواه أبو داود والترمذي وهو حديث حسن.(2/432)
ويجب أن يعلم أن احترام العلماء وتقديرهم واجب على المسلم، قال الإمام الطحاوي صاحب العقيدة الطحاوية المشهورة: [وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخبر والأثر وأهل الفقه والنظر لا يذكرون إلا بالجميل ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل] شرح العقدية الطحاوية ص 554.
وقال الشاعر:
الناس من جهة التمثال أكفاء
فإن يكن لهم في أصلهم نسب
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه ... أبوهم آدم والأم حواء
يفاخرون به فالطين والماء
على الهدى لمن استهدى أدلاء
والجاهلون لأهل العلم أعداء
وقال الحافظ ابن عساكر رحمه الله: [اعلم يا أخي-وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلني وإياك ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته-أن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب] .
وأخيراً فإن على هذا الطاعن في الفقهاء والعلماء أن يتوب إلى الله توبة صادقة بأن يكف لسانه عن الوقيعة في أعراض العلماء ويستغفر ربه ويتوب إليه ويكثر من الدعاء والاستغفار للعلماء، وأما بالنسبة للصلاة خلف من يسب العلماء ويقع فيهم فالصلاة خلفه تصح وإن كان هذا وأمثاله لا ينبغي أن يكونوا من أئمة المساجد بل يجب أن يزجروا وينهروا حتى يرتدعوا عن ضلالتهم.
صرف المال الموقوف في غير ما وقف له
يقول السائل: إن شخصاً دفع مبلغاً من المال لفرش مسجد ولكن المسجد مفروش ولا يحتاج لفرش آخر فهل يجوز صرف المبلغ في شراء كتب للمسجد وهل تجب استشارة صاحب المال؟(2/433)
الجواب: إن الأولى والأحوط في هذه المسألة أن يصرف المال فيما خصصه له من دفعه وأما إذا كان الواقع كما ذكر في السؤال من أن المسجد لا يحتاج إلى فرش فلا بأس بشراء كتب شرعية نافعة للمسجد وإذا أمكن استشارة ذلك الشخص فهو الأفضل وإن لم يمكن فلا بأس بفعل ذلك دون استشارته.
قدم شخص بيته للصلاة فيه مؤقتاً ثم استرده
يقول السائل: إن شخصاً قدم بيتاً له ليصلي فيه أهل الحي حتى يتمكنوا من بناء مسجد وشرط عليهم إعادة البيت في الوقت الذي يطلبه، وبعد مضي سنوات طلب ذلك الشخص بيته فما حكم ذلك؟
الجواب: ما دام أن الاتفاق تم كذلك بين صاحب البيت وأهل الحي فيجب إعادة البيت لصاحبه حيث أنه لم يوقفه مسجداً وإنما قدمه لهم ليصلوا فيه مدة من الزمان حتى يطلبه فلما طلبه وجبت إعادته إليه والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: [المسلمون على شروطهم] رواه أصحاب السنن وغيرهم وهو حديث صحيح.
وجاء في رواية أخرى: (المسلمون على شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
وأما لو وقفه مسجداً فلا يحق له الرجوع في وقف المسجد كما اتفق على ذلك أكثر الفقهاء.
لا يجوز استرداد الأرض الموقوفة على المسجد
يقول السائل: أوقف رجل قطعة أرض لبناء مسجد وبعد أن تم البناء اقتطع الواقف جزءاً من الأرض الموقوفة وضمها إلى أرضه فما حكم ذلك؟(2/434)
الجواب: إن الوقف من الأعمال الخيرية التي يتقرب بها العبد إلى الله وهو داخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) رواه مسلم.
ولا شك أن الوقف على المساجد فيه أجر عظيم وأجر مستمر لا ينقطع وهذا الرجل الذي أوقف الأرض لبناء المسجد فعل خيراً ولكنه أخطأ عندما تراجع عن بعض ما وقف وضم جزءاً من الأرض الموقوفة لأرضه الخاصة وما فعله هذا الشخص لا يجوز لأن الوقف على المساجد باتفاق الفقهاء لا يجوز نقضه فهو وقف لازم فلا يجوز الرجوع في وقف المسجد سواء كان الرجوع من الواقف أو من ورثته لأن الوقف حين يتم يصير حقاً خالصاً لله تعالى لأن المساجد لله وخلوصه لله تعالى يقتضي عدم الرجوع فيه.
ويدل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: (صدقة جارية) فهذا يشعر بأن الوقف يلزم ولا يجوز الرجوع فيه ولو جاز فيه الرجوع لكان صدقة منقطعة وقد وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث بعدم الانقطاع وبالتالي على هذا الشخص أن يعيد ذلك الجزء من الأرض ويلحقه بأرض المسجد حتى لا يبطل عمله.
حكم الرحلات الترفيهية إلى منطقة البحر الميت
يقول السائل: ما حكم الذهاب إلى منطقة البحر الميت في رحلات ترفيهية؟
الجواب: إن منطقة البحر الميت هي المنطقة التي كان يسكنها قوم لوط عليه الصلاة والسلام ومعلوم أن قوم لوط كذبوا نبيهم لوط وأن الله عاقبهم بتدمير قراهم ومدنهم كما قال الله تعالى: (قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ(2/435)
أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ) سورة هود الآيتان 81-82.
والمطلوب من المسلم أن يتعظ ويعتبر مما أصاب الذين ظلموا أنفسهم ومنهم قوم لوط كما قال تعالى: (وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) سورة الصافات الآيات 133-138.
وقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الدخول على الأقوام المعذبين إلا إذا كان المسلم باكياً ومتعظاً فإن لم يكن حاله كذلك فلا يدخل فقد روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم) .
قال الحافظ ابن حجر: [ ... ووجه هذه الخشية أن البكاء يبعثه على التفكير والاعتبار فكأنه أمره بالتفكير في أحوال توجب البكاء من تقدير الله تعالى على أولئك بالكفر مع تمكينه لهم في الأرض وإمهالهم مدة طويلة ثم إيقاع نقمته بهم وشدة عذابه وهو سبحانه مقلب القلوب فلا يأمن المؤمن أن تكون عاقبته إلى مثل ذلك والمتفكر أيضاً في مقابلة أولئك نعمة الله بالكفر وإهمالهم إعمال عقولهم فيما يوجب الإيمان به والطاعة له فمن مر عليهم ولم يتفكر فيما يوجب البكاء اعتباراً بأحوالهم فقد شابههم في الإهمال ودلّ على قساوة قلبه وعدم خشوعه فلا يأمن أن يجره ذلك إلى العمل بمثل أعمالهم فيصيبه ما أصابهم] شرح السنة 2/77.
وقال الإمام الخطابي: [معناه أن الداخل في دار قوم هلكوا بخسف أو عذاب إذا لم يكن باكيا إما شفقة عليهم وإما خوفاً من حلول مثلها به كان قاسي القلب قليل الخشوع فلا يأمن إذا كان هكذا أن يصيبه ما أصابهم] شرح السنة 14/362.
وقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لما مر بديار ثمود مرّ مسرعاً لم ينزل(2/436)
فيها فقد جاء في رواية لحديث ابن عمر قال: (مررنا مع النبي صلى الله عليه وسلم على الحجر-ديار ثمود-فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين حذراً أن يصيبكم مثل ما أصابهم ثم زجر فأسرع حتى خلفها) رواه مسلم وقوله زجر أي زجر ناقته وحثها على المسير.
وبناء على ما سبق أرى أنه لا ينبغي الذهاب إلى منطقة البحر الميت في رحلات ترفيهية لأن من يذهبون في هذه الرحلات أبعد ما يكونون عن البكاء والاتعاظ والاعتبار.
ويضاف إلى ذلك ما في تلك المناطق من المنكرات والمحظورات التي توجد عند شواطئ البحار من عري وتهتك واختلاط وفساد وإفساد.
كتابة البسملة على الأوراق الرسمية
يقول السائل: كثيراً ما نرى أوراقاً كتبت عليها البسملة وقد رميت في الطرقات والشوارع وغيرها فهل يجوز كتابة البسملة على مثل هذه الأوراق التي تُرمى؟
الجواب: لا بأس بكتابة البسملة والحمدلة في الكتب والنشرات والأوراق الرسمية وغير ذلك لما روي في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع) وفي رواية أخرى: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر) والحديث ورد بروايات أخرى غير ما ذكر وقد رواه أحمد ,وأبو داود وابن ماجة وابن حبان في صحيحه وفي سنده كلام كثير وضعفه الألباني وجماعة من المحدثين. وحسنه ابن الصلاح والنووي حيث قال بعد أن ذكر الحديث السابق بألفاظه المختلفة: [روينا هذه الألفاظ كلها في كتاب الأربعين للحافظ عبد القادر الرهاوي وهو حديث حسن ... ] الأذكار ص 94.(2/437)
وبعد هذا أقول يستحب كتابة البسملة والحمدلة في أول الكتب والنشرات وغيرها وكل من وقعت في يده ورقة أو نشرة كتب فيها شيء من ذكر الله كالبسملة والحمدلة وغيرها يجب عليه أن يحافظ عليها محافظة تامة ولا يجوز له رميها في الطرقات والشوارع وأماكن القاذورات وإذا لم يكن له حاجة بها فليلقها في مكان لائق وإن استغنى عنها فلا بأس بدفنها في مكان طاهر أو حرقها.
دخول المطاعم التي تقدم الخمور
يقول السائل: ما حكم دخول المطاعم التي تقدم الخمور؟
الجواب: لا يجوز شرعاً دخول المطاعم التي تقدم الخمور والجلوس فيها بل إن على المسلم أن يقاطع كل مجلس للخمر فقد ورد في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة تدار عليها الخمر) رواه الترمذي وقال حديث حسن.
وإن المسلم يُطلب منه إزالة المنكر فإن لم يستطع فلا أقل من أن يبتعد عن مواطن المنكر فلا يجلس في تلك المطاعم التي تقدم الخمور.
يحرم استعمال جلد الخنزير في الملابس والأحذية
يقول السائل: ما حكم استعمال جلد الخنزير في الملبوسة الجلدية والأحذية؟
الجواب: لا يجوز استعمال جلد الخنزير في صناعة الملابس والأحذية بل ذلك محرم على ما قرره أكثر الفقهاء حيث قالوا إن جلد الخنزير نجس لا يطهر بالدباغة ويدل على ذلك قوله تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ) سورة الأنعام الآية 145.(2/438)
والضمير في قوله تعالى: (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) يعود على الخنزير والرجس تعني النجس فالخنزير كله نجس كما قرره فقهاء الحنفية وغيرهم، قال العلامة ابن عابدين رحمه الله: [لأنه نجس العين بمعنى أن ذاته بجميع أجزائه نجسة حياً وميتاً فليست نجاسته لما فيه من الدم كنجاسة غيره من الحيوانات فلذا لم يقبل التطهير ... ] حاشية ابن عابدين 1/204.
وقال أكثر العلماء إن جلد الخنزير لا يدخل في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما إهاب دبغ فقط طهر) رواه مسلم وأحمد والترمذي.
وقالوا إن العموم في الحديث مخصوص، قال القرطبي: [المشهور عندنا أن جلد الخنزير لا يدخل في الحديث ولا يتناوله العموم ... قال أبو عمر: يحتمل أن يكون أراد بهذا القول عموم الجلد المعهود الانتفاع بها فأما الخنزير فلم يدخل في المعنى لأنه غير معهود الانتفاع بجلده إذ لا تعمل فيه الذكاة ودليل آخر وهو ما قاله النضر بن شميل: إن الإهاب جلد البقر والغنم والإبل وما عداه فإنما يقال له جلد لا إهاب] تفسير القرطبي 10/15. وكلام النضر بن شميل فيه نظر.
وعلى كل حال فهناك من العلماء من يرى أن جلد الخنزير يدخل في عموم الحديث السابق ولكن قول الجمهور أحوط وأبعد عن الشبهات فإن الشريعة قد حرمت أكل الخنزير ووصفت الخنزير بأنه رجس فالمفروض في المسلم أن يبتعد عن الخنزير وعن كل ما يتعلق به.
استعمال العدسات الملونة
يقول السائل: ما حكم استعمال الإنسان للعدسات الملونة في العيون؟
الجواب: إن لم تكن العدسات الملونة لازمة من الناحية الطبية فلا يجوز استعمالها لأنها تتضمن تغييراً لخلق الله سبحانه وتعالى وخاصة إذا كان الأمر يتعلق بالمرأة فإن ذلك يعتبر من الزينة الممنوعة وقد ينطوي على(2/439)
الغش والخداع إذا كانت المرأة تستعملها لتخدع الخطاب.
حكم زراعة الشعر
يقول السائل: ما حكم زراعة الشعر؟
الجواب: إن زراعة الشعر فيما يظهر لي جائزة إذا دعت لذلك الحاجة كأن يتساقط شعر شخص فيعالج ذلك بزراعة الشعر وأرى أن هذا من باب العلاج ولا بأس به إن شاء الله.
استعمال الآيات القرآنية في التعليقات الساخرة
يقول السائل: ما حكم استعمال الآيات القرآنية في التعليقات الساخرة والمزاح؟
الجواب: إن القرآن الكريم كلام الله ولا يجوز للمسلم أن يتلاعب بكلام الله بأي حال من الأحوال لأن ذلك من الاستهانة بالقرآن، وكلام الله يجب احترامه وصيانته عن كل ما لا يليق به وبالتالي لا يجوز استعماله في المزاح أو التعليقات والرسوم الساخرة لأن ذلك يتضمن إستخفافاً واستهانة بل على المسلم عندما يقرأ كلام الله سبحانه وتعالى أن يقرأه بتدبر وتفكر وأن يكون على طهارة لأن قراءة كلام الله سبحانه وتعالى عبادة من العبادات والقرآن أنزل ليكون دستوراً ومنهج حياة، يقول سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) سورة القمر الآية 17.
وقال تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) سورة الحشر الآية 21.(2/440)
وقال تعالى: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْءَايَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) سورة مريم الآية 58.
التوبة الصادقة
يقول السائل: أنا شاب عصيت الله أربعة أعوام فأهملت الصيام وشتمت هذا وضربت ذاك، ووقعت في النميمة والغيبة والرياء والآن تبت إلى الله دون أن أعتذر لأصحاب الحقوق وما زلت أقع في الغيبة ولكن بشكل أقل من السابق فماذا أصنع؟
الجواب: لا شك أن التوبة من المعاصي والآثام واجبة على المسلم استجابة لأمر الله سبحانه وتعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ولقوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا) .
وهذا الأخ السائل عليه أن يحمد الله على توبته ولكن هذه التوبة ليست توبة نصوحاً لأن التوبة النصوح لا بد أن تتحقق فيها شروط أربعة وهي:
الأول: أن يقلع الإنسان عن المعاصي والآثام فإذا كان يغتاب الناس فعليه أن يترك ذلك.
الثاني: أن يندم ندماً حقيقاً وصادقاً على ما مضى.
الثالث: أن يعزم عزماً أكيداً على أن لا يعود للمعاصي.
الرابع: إذا كانت المعصية تتعلق بحق من حقوق الناس فلا بد من إعادتها لأصحابها.
فعلى هذا السائل أن يحقق هذه الشروط في نفسه حتى تكون توبته صادقة وأما أن يتوب الإنسان من الذنب اليوم ويعود إليه غداً فما هذه بتوبة.
وأما بالنسبة لتركك الصوم لأربعة أعوام فيلزمك القضاء فعيلك الصيام ولا تبرئ ذمتك إلا بالقضاء.(2/441)
كما أن عليك أن تكثر من فعل الخيرات والأعمال الصالحات فهذه تمحو السيئات بإذن الله سبحانه وتعالى حيث يقول: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) وقال صلى الله عليه وسلم: (أتبع السيئة الحسنة تمحها) رواه أحمد والترمذي وهو حديث حسن.
حكم الغش في الإمتحان
يقول السائل: يغش بعض الطلبة في الامتحان ويزعمون أن في الغش تحقيق مصلحة لهم فما حكم ذلك؟
الجواب: لا شك أن الغش حرام مطلقاً سواء كان في المعاملات أو في الامتحانات أو غيرها ويدل على ذلك ما جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم مر على صبرة طعام-كومة قمح أو شعير-فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بلللاً فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله- أي المطر-قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غشنا فليس منا) رواه مسلم وغيره.
ومن المعلوم عند أهل العلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فألفاظ الحديث تعم كل غش سواء كان في الامتحانات أو غيرها.
وأما زعمهم بأن الغش يحقق مصلحة لهم فهذا زعم باطل وكلام مردود لا يصح أبداً فإن المصلحة المعتبرة عند أهل العلم يجب أن لا تعارض نصاً-من الكتاب أو السنة-أو إجماعاً أو قياساً صحيحاً.
وما يسمونه مصلحة هنا هو في الحقيقة مصلحة موهومة وملغاة بنص الشارع، فأين هي المصلحة في غش؟ إنها كمصلحة المرابي في زيادة أمواله عن طريق الربا وينبغي أن يعلم أن كثيراً من الناس يحملون المصلحة أكثر مما تحتمل ويقومون بتصرفات كثيرة معارضة لكتاب الله وسنة رسوله ويزعمون(2/442)
أن دليلهم هو المصلحة، وهم في الحقيقة والواقع لا يعرفون المصلحة على حقيقتها فالمصلحة هي المنفعة التي يقصدها الشرع من أجل حفظ مقاصد الشريعة ولا ينطبق هذا الكلام على الغش في الامتحانات لأن الغش محرم بالنص ولأن الغش يتعارض مع مقاصد الشريعة المطهرة.
حكم ما يسمى (فراش العطوة)
يقول السائل: ما الحكم الشرعي فيما يسمية القضاء العشائري فراش العطوة والجلاء؟
الجواب: فراش العطوة هو عبارة عن المبلغ الذي يدفعه أهل الجاني وعشيرته في جرائم القتل العمد وحوادث السيارات ونحوها لذوي المجني عليه قبل الموافقة على إعطاء العطوة العشائرية ويكون دفع هذا المبلغ عن طريق رجال الجاهة الذين يتدخلون لاحتواء المشكلة التي قد تكون قد وقعت وحكم فراش العطوة في الشرع أنه أكل لأموال الناس بالباطل لأنه في حالات كثيرة لا يحسب مبلغ فراش العطوة من شروط الصلح أو الدية وبالتالي يكون من غير عوض، وهذا غير جائز شرعاً يقول الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) وأما إذا اعتبر مبلغ فراش العطوة جزءاً من الدية أو من المبلغ الذي يدفع عند إجراء المصالحة بين الطرفين فيجوز ذلك.
وأما الجلاء أو الجلوة كما يسيمها القضاء العشائري وتعني ترحيل ذوي الجاني من أماكن سكنهم القريبة من أهل المجني عليه إلى أماكن سكن بعيدة وغالباً ما تكون الجلوة في قضايا القتل العمد والجلوة في القضاء العشائري لا تقتصر على الجاني وإنما قد تشمل الآباء والأجداد والأخوة والأعمام وكل من له صلة بالجاني إلى الجد الثالث وأحياناً قد تصل إلى الجد الخامس وهذا يشمل النساء والأطفال. العرف العشائري ص 363.
والجلاء أو الجلوة في نظر الشريعة أمر باطل لا يجوز وهي ظلم(2/443)
واضح لأن الشريعة الإسلامية تقرر أن كل إنسان مسؤول عما يفعل ولا يحاسب شخص سواه على ما فعل، قال تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) .
وفي الجلاء ظلم يتضمن إخراج الناس من بيوتهم وترحيلهم عنها وإلحاق الضرر بهم من غير جريرة ذنب ارتكبوه وليس لهم علاقة بالجريمة فلماذا يعاقبون على شيء لم يفعلوه؟
وإن كان الأمر يقتضي المحافظة على أهل الجاني من فورة غضب أهل المجني عليه فلا بأس من إبعاد أهل الجاني عن أهل المجني عليه لمدة قصيرة لا تعدو أياماً قليلة حتى تهدأً ثورة غضبهم أما تهجيرهم من بيوتهم وأطفالهم ونساؤهم شهوراً وأحياناً سنوات فهذا أمر لا تقره الشريعة بحال من الأحوال وهذا من الظلم والعدوان يقول الرسول عليه الصلاة والسلام (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دمائهم واستحلوا محارمهم) رواه مسلم.
وعلى رجال الخير والإصلاح أن يتقوا الله سبحانه وتعالى وليعلموا أنه لا يجوز لهم أن يحكموا بغير ما أنزل الله فعليهم الحكم بما أنزل الله سبحانه وتعالى لأن الشريعة الإسلامية هي الكفيلة بتحقيق العدل بين الناس.
التهنئة بحلول العيد
يقول السائل: كيف تكون التهنئة بحلول العيد؟
الجواب: إن أصل التهنئة مشروع في الجملة فقد ثبت في الحديث الصحيح في قصة توبة كعب بن مالك رضي الله عنه حين تاب الله عليه بعد تخلفه عن غزوة تبوك حيث ورد في قصة توبته: (قال سمعت صوت صارخ يقول بأعلى صوته يا كعب بن مالك، أبشر فذهب الناس يبشروننا وأنطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم - أقصده - يتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنؤني بالتوبة ويقولون: ليهنك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد فإذا(2/444)
رسول الله صلى الله عليه وسلم حوله الناس فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني وكان كعب لا ينساها لطلحة قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك) رواه البخاري ومسلم.
وهذا الحديث في التهنئة بشكل عام وأما التهنئة بالعيد والدعاء فيه فقد ورد في الحديث عن محمد بن زياد قال: [كنت مع أبي أمامة الباهلي وغيره من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فكانوا إذا رجعوا من العيد يقول بعضهم لبعض يتقبل الله منا ومنك] قال الإمام أحمد بن حنبل إسناده إسناد جيد وجوَّده أيضاً العلامة ابن التركماني، الجوهر النقي 3/319.
ونقل ابن قدامة عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله قال: [ولا بأس أن يقول الرجل للرجل يوم العيد تقبل الله منا ومنك] .
وقال حرب: [سئل أحمد عن قول الناس في العيدين: تقبل الله منا ومنكم قال: لا بأس به يرويه أهل الشام عن أبي أمامة قيل وواثلة بن الأسقع؟ قال: نعم، قيل فلا تكره أن يقال هذا يوم العيد: قال: لا] المغني 2/295-296.
وسئل الإمام مالك عن قول الرجل لأخيه يوم العيد تقبل الله منا ومنك يريد الصوم فقال: ما أعرفه ولا أنكره، قال ابن حبيب المالكي معناه لا يعرفه سنة ولا ينكره على من يقوله لأنه قول حسن ولأنه دعاء.
وقد عقد الإمام البيهقي باباً في سننه الكبرى بعنوان: [باب ما روي في قول الناس يوم العيد بعضهم لبعض تقبل الله منا ومنك] .
ثم ساق فيه بعض الأحاديث الواردة في ذلك وضعّفها وساق فيه أيضاً أثراً عن عمر بن عبد العزيز فقال: [عن أدهم مولى عمر بن عبد العزيز قال: كنا نقول لعمر بن عبد العزيز في العيد تقبل الله منا ومنك يا أمير المؤمنين فيرد علينا ولا ينكر ذلك علينا] سنن البيهقي 3/319.
وهذه الأحاديث وإن كانت ضعيفة فلا بأس أن يعمل بها في مثل هذا(2/445)
الأمر الذي يعد من فضائل الأعمال وخاصة إذا أضفنا إليها الحديث الذي لم يذكره البيهقي وهو حديث أبي أمامة المذكور سابقاً، وخلاصة الأمر أنه لا بأس أن يقال في التهنئة بالعيد تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال أو نحوها من العبارات.
ما يجب على المسلم أن يعلمه من أمر دينه
يقول السائل: ما هي الأمور التي يجب على المسلم أن يعلمها من أمر دينه؟
الجواب: إن العلماء قسموا العلم الشرعي إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما هو فرض عين والمقصود بفرض العين ما يجب على كل مسلم مكلف أن يحصله ولا يعذر بجهله، وحد هذا القسم هو ما تتوقف عليه صحة العبادة أو المعاملة فيجب على المسلم أن يتعلم كيفية الوضوء والصلاة والأحكام الأساسية في الصوم والزكاة وإن كان عنده نصاب والأحكام الأساسية في الحج إن كان من أهل الاستطاعة وكذلك يجب عليه أن يتعلم أحكام المعاملات التي يحتاج إليها فمثلاً لو كان شخص يعمل في الصرافة مثلاً فيجب عليه أن يتعلم أحكام الصرف في الشرعية الإسلامية وهكذا بالنسبة للأمور التي يحتاج لها في عباداته ومعاملاته.
قال ابن عابدين في حاشيته نقلاً عن العلامي في فصوله: [من فرائض الإسلام تعلم ما يحتاج إليه العبد في إقامة دينه وإخلاص عمله لله تعالى ومعاشرة عباده وفرض على كل مكلف ومكلفة بعد تعلمه علم الدين والهداية تعلم علم الوضوء والغسل والصلاة والصوم وعلم الزكاة لمن له نصاب والحج لمن وجب عليه والبيوع على التجار ليحترزوا عن الشبهات والمكروهات في سائر المعاملات وكذا أهل الحرف وكل من اشتغل بشيء يفترض عليه علمه وحكمه ليمتنع عن الحرام فيه] حاشية ابن عابدين 1/42.(2/446)
وقال الإمام النووي: [ ... فرض العين وهو تعلم المكلف ما لا يتأدى الواجب الذي تعين عليه فعله إلا به، ككيفة الوضوء والصلاة ونحوها وعليه حمل جماعات الحديث المروي في مسند أبي يعلى الموصلي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) وهذا الحديث وإن لم يكن ثابتاً فمعناه صحيح ... ] المجموع 1/24.
والحديث الذي ذكره الإمام النووي وهو: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) حديث مختلف فيه فمن العلماء من يرى أنه حديث ضعيف، قال الإمام البيهقي: [وهذا حديث متنه مشهور وإسناده ضعيف وقد روي من أوجه كلها ضعيف] وضعفه الإمام أحمد أيضاً كما قال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين.
ويرى بعض أهل الحديث أن الحديث يصلح للاحتجاج لتعدد طرقه كالسيوطي والألباني وعلى كل حال فالمقصود بالعلم في الحديث هو العلم الذي يكون فرض عين فقط وليس مطلق العلم.
الثاني: فرض الكفاية وهو ما إذا قام به البعض كفى، وعرّفه الإمام النووي بقوله: [وهو تحصيل ما لا بد للناس منه في إقامة دينهم من العلوم الشرعية كحفظ القرآن والأحايث وعلومهما والأصول والفقه والنحو واللغة والتصريف ومعرفة رواة الحديث والإجماع والخلاف.
وأما ما ليس علماً شرعياً ويحتاج إليه في قوام أمر الدنيا كالطب والحساب ففرض كفاية أيضاً ... ] المجموع 1/26.
الثالث: النفل: وهو كالتوسع في العلوم الشرعية.
ويجب أن يعلم أن طلب العلم الشرعي أفضل من نوافل العبادات، قال الإمام النووي: [فصل في ترجيح الاشتغال بالعلم على الصلاة والصيام وغيرهما من العبادات القاصرة على فاعلها] ثم ذكر عدداً من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأقوال الصحابة والتابعين والعلماء التي تدل على ذلك فمنها قوله تعالى: (ِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) ومنها ما رواه ابن ماجة عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا(2/447)
في المسجد مجلسان مجلس يتفقهون ومجلس يدعون الله ويسألونه فقال: كلا المجلس إلى خير وأما هؤلاء فيدععون الله تعالى وأما هؤلاء فيتعلمون ويفقهون الجاهل هؤلاء أفضل بالتعليم أرسلت ثم قعد معهم) .
وقال عطاء: [مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام كيف تشتري وتبيع وتصلي وتصوم وتنكح وتطلق وتحج وأشباه هذا] .
وقال أبو هريرة: [باب من العلم نتعلمه أحب إلينا من ألف ركعة تطوع] .
وسأل رجل بان المبارك: [يا أبا عبد الرحمن في أي شيء أجعل فضل يويم في تعلم القرآن أو في تعلم العلم؟ فقال: هل تحسن من القرآن ما تقوم به صلاتك؟ قال: نعم. قال: عليك بالعلم] الآداب الشرعية 2/34.
وينبغي أن يعلم أيضاً أنه لا يصح قول من يقول بوجوب ترك الصلاة النافلة أو ترك قراءة القرآن ووجوب الإنصات عندما يبدأ مدرس بإعطاء درس في المسجد احتجاجاً بالحديث السابق: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) ولأن طلب العلم فرض والصلاة النافلة وقراءة القرآن مندوبة، فهذا الكلام لا يصح لأن العلم المقصود بالحديث هو ما كان فرض عين فقط كما بينت سابقاً وأما مطلق العلم فليس كذلك.
وما قررته هنا لا يتنافى مع ما سبق من أن طلب العلم الشرعي بشكل عام أفضل من نافلة الصلاة وقراءة القرآن.
وأما أنه يجب على كل مصلي قطع صلاته أو أنه يجب على كل قارئ للقرآن قطع قراءته والاستماع للدرس فهذا مما لا دليل عليه وليس بصحيح.(2/448)
الاحتفال بالإسراء والمعراج لا أصل له في الشرع
يقول السائل: متى أسري بالنبي عليه الصلاة والسلام وما حكم الاحتفال بمناسبة الإسراء والمعراج في السابع والعشرين من رجب؟
الجواب: إن حادثة الإسراء والمعراج حق وصدق ولا شك في ذلك ولا ريب وقد ثبت ذلك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأشارت إلى ذلك أول آية من سورة الإسراء حيث يقول تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْءَايَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) .
وأما أنه صلى الله عليه وسلم أسري به في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب فلم يثبت ذلك بسند صحيح وقد اختلف العلماء في وقت الإسراء والمعراج وعلى أقوال كثيرة، قال الحافظ ابن حجر: [وذهب الأكثر إلى أنه كان بعد المبعث ثم اختلفوا فقيل قبل الهجرة بسنة قاله ابن سعد وغيره وبه جزم النووي وبالغ ابن حزم فنقل الإجماع فيه وهو مردود فإن في ذلك اختلافاً كثير يزيد على عشرة أقوال] فتح الباري 8/201.
ثم ذكر الحافظ هذه الأقوال وهي:
- قبل الهجرة بثمانية أشهر.
- قبل الهجرة بستة أشهر.
- قبل الهجرة بسنة.
- قبل الهجرة بأحد عشر شهراً.
- قبل الهجرة بسنة وشهرين.
- قبل الهجرة بسنة وثلاثة أشهر.
- قبل الهجرة بسنة وخمسة أشهر.
- قبل الهجرة بثمانية عشر شهراً.(2/449)
- قبل الهجرة بثلاث سنوات.
- قبل الهجرة بخمس سنوات.
وكما أنهم اختلفوا في تحديد السنة التي وقعت فيها حادثة الإسراء والمعراج فكذلك اختلفوا في الشهر الذي وقعت فيه فقيل كان ذلك في السابع والشعرين من رجب، وقيل في شهر رمضان، وقيل في شهر شوال، وقيل في شهر ربيع الأول، وقيل في شهر ربيع الثاني وقد ذكر هذه الأقوال كلها الحافظ ابن حجر في فتح الباري 8/208.
وقد بحث المسألة أيضاً الإمام القرطبي في تفسيره وذكر الاختلاف الكبير في تحديد وقت الإسراء والمعراج وزاد أنه قد روي أن الإسراء كان بعد مبعثه بخمس سنين. تفسير القرطبي 10/210.
وأضاف الحافظ ابن كثير أن من العلماء من يرى أن الإسراء والمعراج وقع قبل الهجرة بستة عشر شهراً وكان ذلك في شعر ذي القعدة وذكر أن بعض الناس ادعى أن ذلك كان أول ليلة جعة من شهر رجب وعقب على ذلك بأنه لا أصل له. البداية والنهاية 3/107. وقال العلامة أبو شامة المقدسي: [وذكر بعض القصاص أن الإسراء كان في رجب وذلك عند أهل التعديل والتجريح عين الكذب] الباعث ص 116.
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي: [وقد روي أنه كان في شهر رجب حوادث عظيمة ولم يصح شيء من ذلك فروي أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد في أول ليلة منه وأنه بعص في السابع والعشرين منه وقيل في الخامس والعشرين ولا يصح شيء من ذلك وروي بإسناد لا يصح عن القاسم بن محمد أن الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم كان في سابع وعشرين من رجب وأنكر ذلك إبراهيم(2/450)
الحربي وغيره وروي عن قيس بن عباد قال: في اليوم العاشر من رجب ... ] لطائف المعارف ص 233.
وبعد هذا العرض للأقوال الواردة في وقت حادثة الإسراء والمعراج أقول إن لم يثبت بحديث صحيح توقيت هذه الحادثة لا في السابع والعشرين من رجب ولا غيره وبناء على ذلك فإن تحديد السابع والعشرين من رجب على أنه وقتها غير صحيح وينقصه الدليل الثابت وقد رأينا أن أهل العلم لم يثبتوا تلك الروايات الواردة في تعيين وقت هذه الحادثة وحتى لو سلمنا جدلاً أن وقت حادثة الإسراء والمعراج معلوم لا يجوز للمسلمين الاحتفال بهذه المناسبة لأن ذلك لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجوز لهم أن يعتبروها عيداً من أعياد المسلمين تعطل فيه الأعمال وتقام فيه الاحتفالات لأن ذلك زيادة في الدين وشرع لم يأذن به الله قال بعض أهل العلم: [وهذه الليلة التي حصل فيها الإسراء والمعراج لم يأت في الأحاديث الصحيحة تعيينها وكل ما ورد في تعيينها فهو غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بالحديث ولله الحكمة البالغة في إنساء الناس لها ولو ثبت تعيينها لم يجز للمسلمين أن يخصّوها بشيء من العبادات فلم يجز لهم أن يحتفلوا بها لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم لم يحتفلوا بها ولم يخصوها بشيء ولو كان الاحتفال بها أمراً مشروعاً لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة إما بالقول أو بفعل ولو وقع شيء من ذلك لعرف واشتهر ولنقله الصحابة رضي الله عنهم فقد نقلوا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم كل شيء تحتاجه الأمة ولم يفرطوا في شيء من الدين بل هم السابقون إلى كل خير فلو كان الاحتفال بهذه الليلة مشروعاً لكانوا أسبق الناس إليه والنبي صلى الله عليه وسلم هو أنصح الناس للناس وقد بلغ الرسالة غاية البلاغ وأدى الأمانة فلو كان تعظيم هذه الليلة والاحتفال بها من دين الإسلام لم يغفله النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكتمه فلما لم يقع شيء من ذلك علم أن الاحتفال بها وتعظيمها ليس من الإسلام في شيء وقد أكمل الله لهذه الأمة دينها وأتم
عليها النعمة وأنكر على من شرع في الدين ما لم يأذن به الله قال سبحانه وتعالى في كتابه المبين من سورة المائدة: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ(2/451)
دِينًا) وقال عز وجل في سورة الشورى: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) وثبت عن رسول صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة التحذير من البدع والتصريح بأنها ضلالة تنبيهاً للأمة على عظم خطرها وتنفيراً لهم من اقترافها ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وفي رواية لمسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنها قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته يوم الجمعة: (أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة) فتاوى الهيئة الدائمة للبحوث العلمية 3/45. *****
حوار مكذوب بين الرسول صلى الله عليه وسلم وإبليس
تقول السائلة: هناك ورقة مطبوعة يقوم بعض الناس بتوزيعها بعنوان: " حوار بين الرسول صلى الله عليه وسلم وإبليس لعنه الله " وذكر تحت هذا العنوان حديث عن معاذ بن جبل عن ابن عباس قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت رجل من الأنصار في جماعة فنادى مناد يا أهل المنزل أتأذنون لي بالدخول ولكم إلي حاجة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتعلمون من المنادي؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا إبليس لعنه الله تعالى ... الخ.
ثم ساق حديثاً طويلاً جداً على شكل حوار بين الرسول صلى الله عليه وسلم وإبليس وذكر في آخره أنه مأخوذ من كتاب شجرة الكون لمحي الدين بن عربي، وتسأل السائلة عن صحة هذا الحديث وهل ثبت ذلك عن الرسول عليه الصلاة والسلام؟
الجواب: لا شك أن هذا الحديث المشار إليه مكذوب مختلق ورسول الله صلى الله عليه وسلم منه بريء وهو محض اختلاق وعلامات الوضع عليه ظاهرة جداً فإن للحديث النبوي نوراً يدل عليه، قال بعض أهل العلم: [إن(2/452)
للحديث ضوءاً كضوء النهار يعرفه وظلمة كظلمة الليل تنكره] وقال ابن الجوزي: [الحديث المنكر يقشعر له جلد طالب العلم وينفر منه قلبه في الغالب] .
وهذا الكلام وما قبله ينطبق على الحديث المشار إليه ويضاف إلى ذلك طوله المستغرب وركاكة ألفاظه كما أن المصدر الذي نقل منه لا يعتبر ولا يعتد به ولا بمؤلفه فهو دجال من الدجاجلة ومخرف من المخرفين وشيطان من شياطين الإنس والعياذ بالله.
قال عنه العز بن عبد السلام سلطان العلماء: [شيخ سوء كذّاب] .
وقال الحافظ الذهبي عنه: [ ... ومن أردأ مؤلفاته كتاب " الفصوص " فإن كان لا كفر فيه فما في الدنيا كفر ... ] سير أعلام النبلاء 23/48.
حديث مكذوب على الرسول صلى الله عليه وسلم
يقول السائل: ينتشر بين الناس حديث منسوب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ونصه: سيأتي على الناس زمان لا يبقى من القرآن إلا رسمه ومن الإسلام إلا اسمه همهم بطونهم ودينهم دراهمهم وقبلتهم نسائهم. فهل هذا حديث ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب: لقد روي هذا الحديث بألفاظ مختلفة ويتناقله كثير من الناس مع تفاوت في ألفاظه وعباراته وقد طبعه بعض الناس في نشرات وزعت على الناس وعلقت في بعض المساجد وهذا حديث باطل غير ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم وقد روى بعض ألفاظه الديلمي في مسند الفردوس وهو موطن الروايات الواهية والموضوعة المكذوبة وذكر بعض ألفاظه صاحب كنز العمال وغيرهما وخلاصة الأمر أن الحديث غير ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم.(2/453)
خاتم النبوة
يقول السائل: ما قولكم في هذه الورقة المطبوعة والتي توزع في المساجد ومكتوب عليها ما يلي:
هذا مثال خاتم النبوة الذي كان بين كتفيه صلى الله عليه وسلم ومكتوب من الشعر بقلم القدرة: توجه حيث شئت فإنك منصور الله وحده لا شريك له محمد رسول الله فإنك منصور.
ثم كتب في أسفل الورقة ما يلي:
ومن خواصه ما نقله الترمذي أن من توضأ ونظر إليه وقت الصبح حفظه الله تعالى إلى وقت المغرب ومن نظر إليه وقت المغرب حفظه الله تعالى إلى وقت الصبح ومن نظر إليه أول الشهر يحفظه الله إلى آخره ومن نظر إليه أول السنة يحفظه الله إلى آخرها من البلاء والآفات ومن نظر إليه أول الشهر يصير ذلك مباركاً عليه وإن مات في تلك السنة يختم له بالإيمان.
الجواب: إن خاتم النبوة حق وصدق وكان بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو من علامات النبوة التي كان أهل الكتاب يعرفونه بها وقد ورد ذكر خاتم النبوة في أحاديث كثيرة منها:
عن السائب بن يزيد قال: ذهبت بي خالتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن ابن أختي وجع، فنمسح رأسي ودعا لي بالبركة ثم توضأ فشربت من وضوئه ثم قمت خلف ظهره فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم: (فنظرت إلى خاتمه بين كتفيه مثل زر الحجلة) .
وعن جابر بن سمرة قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شمط مقدم رأسه ولحيته ... ورأيت الخاتم عند كتفه مثل بيضة الحمامة يشبه جسده) رواه مسلم.
وعن عاصم بن عبد الله بن سرجس قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وأكلت معه خبزاً ولحماً أو قال ثريداً قال: فقلت له: أستغفر لك النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم ولك ثم تلا هذه الآية: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) قال:(2/454)
ثم درت خلفه فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه عند ناغض كتفه اليسرى جمعا عليه خيلان كأمثال الثآليل) رواه مسلم.
وعن أبي نضرة العوقي قال: سألت أبي سعيد الخدري عن خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ يعني خاتم النبوة فقال: كان في ظهره بضعة ناشزة) رواه الترمذي في مختصر الشمائل وقال الشيخ الألباني: وسنده جيد.
ثم قال الألباني: [أي كان الخاتم في ظهره الشريف قطعة لحم ظاهرة] .
هذه بعض الأحاديث التي وردت في إثبات خاتم النبوة وصفته ومحله من جسده الشريف عليه الصلاة والسلام، وقد ورد في الخاتم أحاديث أخرى لا يعول عليها ولا يعتمد عليها وهي إما ضعيفة أو مكذوبة باطلة.
ومن الأحاديث الباطلة الحديث المذكور في آخر الصفحة المشار إليها فإنه حديث باطل لم يروه الترمذي صاحب السنن ولعل الترمذي المذكور هو الحكيم الترمذي صاحب النوادر وكتابه موطن للأحاديث الضعيفة والواهية. وأما ما ذكر من أن خاتم النبوة مكتوب من الشعر بقلم القدرة وذكروا الكلمات التي كتبت على ظهر الرسول صلى الله عليه وسلم بالشعر فهذا كلام باطل من الخرافات التي لا تصح.
قال الحافظ ابن حجر: [وأما ما ورد من أنها-أي خاتم النبوة-كانت كأثر محجم أو كالشامة السوداء أو الخضراء أو مكتب عليها محمد رسول الله أو سر فأنت منصور أو نحو ذلك فلم يثبت منها شيء وقد أطنب الحافظ قطب الدين في استيعابها في شرح السيرة وتبعه مغلطاي في الزهر الباسم ولم يبين شيئاً من حالها.
والحق ما ذكرته ولا تغتر بما وقع في صحيح ابن حبان فإنه غفل حيث صحح ذلك والله أعلم] فتح الباري 7/374.
وقال الحافظ الهيثمي: [اختلط على بعض الرواة خاتم النبوة بالخاتم الذي كان يختم به الكتب] يعني أن الخاتم الذي اتخذه الرسول عليه الصلاة والسلام وكان يختم به الكتب نقش عليه محمد رسول الله كما ورد في بعض الأحاديث، فظنوا أن(2/455)
تلك الكلمات كانت على خاتم النبوة الذي كان في ظهره الشريف عليه الصلاة والسلام وليس الأمر كذلك.
وصية الشيخ أحمد المكذوبة
يسأل كثير من الناس في هذه الأيام عن صحة الوصية المذكورة لاحقاً والمنسوبة إلى الشيخ أحمد حامل مفاتيح الحرم النبوي والتي توزع بكثرة وتداولها الناس وهذا هو نص الوصية وبعض نسخها يختلف عن البعض الآخر بزيادة أو نقصان.
تقول الوصية: [هذه التوصية من المدينة المنورة من الشيخ أحمد حامل مفاتيح حرم الرسول صلى الله عليه وسلم في مشارق الأرض ومغاربها إليكم هذه التوصية:
يقول الشيخ أحمد: إنه كان في ليلة يقرأ القرآن في حرم الرسول وفي تلك اللحظة غلبني النوم ورأيت في نومي رسول الله أتى إلي وقال: إنه قد مات هذا الأسبوع أربعون ألفاً من الناس على غير إيمانهم وإنهم ماتوا ميتة الجاهلية وإن النساء لا يطيعون أزواجهن ويظهرن أمام الرجال بزينتهن من غير ستر ولا حجاب عاريات الجسد ويخرجن من بيوتهن من غير علم أزواجهن وأن الأغنياء من الناس لا يؤدون الزكاة ولا يحجون إلى بيت الله الحرام ولا يساعدون الفقراء ولا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر. وقال لي رسول الله أن تبلغ الناس أن يوم القيامة قريب قريباً يظهر لكم نجمة في السماء ترونها جلياً وتقترب الأرض إلى السماء.
ويقول الشيخ أحمد أن رسول الله قال إنه إذا قام أحد الناس بنشر هذه الوصية بين المسلمين فإنه سيحظى بشافعة رسول الله يوم القيامة ويحصل على الخير الكثير ويقضي حوائجه في الدنيا ويصونه من جميع البليات وشرور نفسه ويقضي الله دينه ويحصل على الخير الكثير والرزق الوفير ... أما إذا اطلع أحد على هذه الوصية ورماها بعيداً فإنه آثم إثماً كبيراً أو إذا اطلع عليها وما(2/456)
قام بنشرها فإنه يحرم من رحمة الله يوم القيامة ... ولهذا أطلب من الذين يقرأون هذه الوصية أن يقوموا بقراءة الفاتحة للنبي هذا وقد طلب مني رسول الله أن أبلغ أحد خدم الحرم الشرف أن القيامة قريبة فاستغفروا الله ... وحلمت يوم الإثنين بأنه من قام بنشر ثلاثون ورقة من هذه الوصية بين المسلمين فإن الله يزيل عنه الهم والغم ويوسع الله عليه في رزقه ويحل كل مشاكله ويرزقه خلال أربعين يوماً تقريباً وقد علمت أن أحدهم قام بنشره فرزقه الله بستة آلاف روبية ... وأن شخصاً كذب الوصية فقد ابنه في نفس اليوم وأشهد أن هذه المعلومات لا شك فيها ولا عفو فآمنوا بالله واعملوا صالحاً حتى يوفقنا الله في أعمالنا ويصلح شأننا في الدنيا والآخرة ويرحمنا برحمته.
ويقول الله تعالى: (فَالَّذِينَءَامَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) سورة الأعراف الىية 157.
(الَّذِينَءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) سورة يونس الآية 63-64.
(يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) سورة إبراهيم الآية 27.
لقد وزعت هذه التوصية حول العالم سبع مرات علماً أن هذه الوصية ستجلب لك بعد توزيعها الفلاح والخير بع أربعة أيام بإذن الله من وصولها إليك وليس الدين لهواً أو لعباً ... لذلك عليك أن تنشر نسخاً من هذه الوصية بعد ستة وتسعون ساعة من قرائتك لها ... وسبق أن وصلت هذه الوصية إلى أحد رجال الأعمال فوزعها فوراً ومن ثم جاءته أخبار بنجاح صفقة تجارية بتسعين ألف دينار بحيرني زيادة عما كان يتوقعه وأن أحد الأطباء وصلته هذه الوصية فأهملها فجاء مصرعه في حادث سيارة وغدا جثة هامدة تحدث عنها الجميع ... كما اغفلها أحد المقاولين توفي ابنه الأكبر في بلد عربي شقيق ... لذا يرجى إرسال خمسة وعشرين نسخة من هذه الوصية وينشر المرسل بما يحصل له في اليوم الرابع ... وحيث إن مهمة هذه الوصية الطواف حول العالم كله ... فيجب إرسال خمسة وعشرين نسخة متطابقة إلى أحد(2/457)
أصدقائك إلى معارفك ... وبعد أيام إن شاء الله ستفاجئ بالأخبار الطيبة وكما أسلفنا فإن من سبق ذكره ليس هواجس أو وساوس ... فآمنوا بالله واعملوا صالحاً والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته] .
الجواب: إن هذه الوصية معروفة لدى أهل العلم منذ زمن طويل وليست جديدة وقد بين كثير من أهل العلم كذب هذه الوصية المزعومة ونشروا في ذلك فتاوى خاصة ولا بأس من توضيح بعض الأمور المتعلقة بهذه الوصية المكذوبة:
أولاً: ذكر في الوصية المكذوبة أن عدد من مات من الناس خلال أسبوع بلغ أربعين الفاً ماتوا على غير الإيمان وهذا الكذب الصراح والتقول على الله سبحانه وتعالى لأن معرفة عدد الأموات سواء كانوا مؤمنين أو غيرهم لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى وهو من الغيب وطريق معرفة الغيب من الوحي ولا وحي بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: ما ورد في الوصية المكذوبة من أخبار عن قرب يوم القيامة وعن تحلل الناس من الأحكام الشرعية ونحو ذلك عن الأمور المعروفة والثابتة في الكتاب والسنة ولا يحتاج الأمر إلى هذه الوصية المكذوبة.
ثالثاً: ما ورد في الوصية المكذوبة من الأجر العظيم على كتابتها وأنه يحظى بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فهو من أعظم الكذب والدجل لأن الأجر والثواب لا يعلمه إلا الله وشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تنال بمجرد كتابة القرآن كله فضلاً عن كتابة هذه الوصية المكذوبة وكذلك ما ورد من الوعيد الشديد لمن لم يكتبها أو ينشرها وأنه يحرم من رحمة الله فهو كذب على الله وافتراء عظيم.
رابعاً: إن الله سبحانه وتعالى أتم الإسلام وأكمله قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) ففي كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يغني عن هذه الخزعبلات والترهات الفارغة.(2/458)
خامساً: يحرم على المسلم نشر هذه الوصية المكذوبة وتداولها ويجب تنبيه الناس إلى أنها كذب وافتراء على دين الله.
الآيات التي تبطل السحر بإذن الله
يقول السائل: ما هي الآيات التي تنفع في إبطال السحر؟
الجواب: لا شك أن القرآن الكريم فيه شفاء للناس وقد ذكر العلماء عدداً من الآيات القرآنية على وجه الخصوص تنفع وتفيد في إبطال السحر بإذن الله سبحانه وتعالى وهذه الآيات هي:
(اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) ،
(لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)
(وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ) ،
(وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) ،(2/459)
(قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) ،
بسم الله الرحمن الرحيم (يس وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَءَابَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) ،
بسم الله الرحمن الرحيم (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ،
بسم الله الرحمن الرحيم (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) ،
بسم الله الرحمن الرحيم (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) ، بسم الله الرحمن الرحيم (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) ،
بسم الله الرحمن الرحيم (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) ،(2/460)
بسم الله الرحمن الرحيم (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) ،
بسم الله الرحمن الرحيم (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) ،
بسم الله الرحمن الرحيم (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ) ،
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيم الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) آمين، اللهم إني أعيذ ... باسمائك وصفاتك العليا أن تحفظ من كل سوء وإني أعيذ ... بكلمات الله التامات من شر ما خلق.
الاستعانة بالجن
يقول السائل في رسالة طويلة ما ملخصه: أنه يوجد عندهم امرأة تستعين بالجن في علاج المرضى فما حكم ذلك؟
الجواب: استعانة الإنس بالجن على أحوال كما فصلها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال: [فمن كان من الإنس يأمر الجن بما أمر الله به ورسوله من عبادة الله وحده وطاعة نبيه ويأمر الإنس بذلك فهذا من أفضل أولياء الله تعالى وهو في ذلك من خلفاء الرسول ونوابه.(2/461)
ومن كان يستعمل الجن في أمور مباحة له فهو كمن استعمل الإنس في أمور مباحة له كأن يأمرهم بما يجب عليهم وينهاهم عما حرم عليهم ويستعملهم في مباحات له فيكون بمنزلة الملوك الذين يفعلون مثل ذلك وهذا إذا قدر أنه من أولياء الله تعالى فغايته أن يكون في عموم أولياء الله مثل النبي الملك مع العبد الرسول كسليمان ويوسف مع إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ومن كان يستعمل الجن فيما ينهى الله عنه ورسوله إما في الشرك وإما في قتل معصوم الدم أو في العدوان عليهم بغير القتل كتمريضه وإنسائه العلم وغير ذلك من الظلم وإما في فاحشة كجلب من يطلب منه الفاحشة فهذا قد استعان بهم على الإثم والعدوان ثم إن استعان بهم على الكفر فهو كافر وإن استعان بهم على المعاصي فهو عاص إما فاسق وإما مذنب غير فاسق وإن لم يكن تام العلم بالشريعة فاستعان بهم فيما يظن أنه من الكرامات، مثل أن يستعين بهم على الحج أو أن يطيروا به عند السماع البدعي أو أن يحملوه إلى عرفات ولا يحج الحج الشرعي الذي أمره الله به ورسوله وأن يحملوه من مدينة إلى مدينة ونحو ذلك فهذا مغرور قد مكرا به] مجموع فتاوى ابن تيمية 11/307 -308.
فك السحر بالسحر
تقول السائلة: هل يجوز الذهاب إلى العراف لسؤاله هل فلان من الناس مسحور أم لا؟ وهل يجوز أن نطلب منه فك السحر أم لا؟
الجواب: يحرم شرعاً الذهاب إلى العرافين والسحرة والكهنة وأمثالهم ولا يجوز للمسلم أن يصدقهم فيما يقولون ويخبرون به فقد ثبت في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة) رواه مسلم.
وورد في حديث آخر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى كاهناً فصدقه فقد(2/462)
كفر بما أنزل على محمد) رواه أصحاب السنن وغيرهم وهو حديث صحيح.
ولا يجوز فك السحر بالسحر وهو المعروف بالنشرة أي حل السحر وإبطاله بسحر آخر ويدل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من تطير أو تطير له أو تكهن أو تكهن له أو سحر أو سحر له) رواه الطبراني وهو حديث حسن كما قال الألباني.
وقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن النشرة-فك السحر بالسحر-فقال: (هي من الشيطان) رواه أحمد وأبو داود بإسناد جيد.
والطريق المشروع لفك السحر وإبطاله يكون بالقرآن الكريم والأدعية الشرعية الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن ذلك قراءة آية الكرسي من سورة البقرة و (قل يا أيها الكافرون) و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) و (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ) سورة الأعراف الآيات 117-119.
وقوله تعالى: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) سورة يونس الآيات 79-82.
والآيات من سورة طه:، (قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) سورة طه 65-69.
ومن الأدعية الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في علاج السحر وغيره: (اللهم رب الناس أذهب البأس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً) .
ومنه رقية جبريل التي رقى بها النبي صلى الله عليه وسلم وهي: (باسم الله أرقيك من(2/463)
كل شيء يؤذيك ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك باسم الله أرقيك) ويكرر ذلك ثلاث مرات وغير ذلك من الأدعية والأذكار.
الأشهر الحرم
يقول السائل: ما هي الأشهر الحرم وما هي الأمور التي لا يجوز فعلها فيها؟
الجواب: يقول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) سورة التوبة الآية 36.
الأشهر الحرم المقصودة في الآية هي: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب الذي هو بين جمادى الآخرة وشعبان وقد حدد الرسول صلى الله عليه وسلم رجباً بهذا لأن بعض العرب كانوا يحرمون شهر رمضان ويسمونه رجباً فقد ورد في الحديث الصحيح عن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان) رواه البخاري ومسلم.
والأشهر الحرم لها فضل عظيم فضلها الله سبحانه وتعالى على سائر الأشهر ولله سبحانه وتعالى حكمة عظيمة في ذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما خص الله من شهور العام أربعة أشهر فجعلهن حرماً وعظم حرماتهن وجعل الذنب فيهن والعمل الصالح والأجر أعظم.
وعن قتادة قال: [الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزراً من الظلم فيما سواها وإن كان الظلم في كل حال عظيماً ولكن الله يعظم من أمره إن شاء فإن الله تعالى اصطفى صفايا من خلقه اصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس رسلاً واصطفى من الكلام ذكره-جل وعلا-واصطفى من الأرض(2/464)
المساجد واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم واصطفى من الأيام يوم الجمعة واصطفى من الليالي ليلة القدر] .
قال قتادة: [فعظموا ما عظم الله إنما تعظم الأمور بما عظمها الله عند أهل الفهم والعقل] .
وقد كان العرب في الجاهلية يحرمون القتال في الأشهر الحرم وأقر الإسلام هذا الحكم يقول الله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) سورة البقرة الآية 217، ثم نسخ هذا الحكم كما قال جماعة من المفسرين بقوله تعالى: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) سورة التوبة الآية 36.
وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على صيام الأشهر الحرم كما ورد في الحديث عن رجل من باهلة قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، أنا الرجل الذي أتيتك عام الأول. فقال: مالي أرى جسمك ناحلاً؟ قال: يا رسول الله، ما أكلت طعاماً بالنهار ما أكلت إلا بالليل. قال: من أمرك أن تعذب نفسك؟ قلت: يا رسول الله إني أقوى. قال: صم شهر الصبر ويوماً بعده. قلت: إني أقوى. قال: صم شهر الصبر ويومين بعده. قلت: إني أقوى. قال صم شهر الصبر وثلاثة ايام بعده وثم أشهر الحرم) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وسنده جيد.
وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: (أي الصيام بعد رمضان أفضل؟ قال: شهر الله المحرم) رواه البخاري ومسلم.
ونظراً لتعظيم هذه الأشهر وفضلها قال جماعة من الفقهاء بتغليظ الدية على من قتل في الأشهر الحرم خطأ. قال الإمام الشافعي: [تغلظ الدية في النفس وفي الجراح في الشهر الحرام وفي البلد الحرام وذوي الرحم] والصحيح عدم التغليظ.
وأخيراً فإني أنبه على أن بعض الناس يظنون أن الصيد في الأشهر الحرم(2/465)
ممنوع والصحيح أن الصيد لا يحرم في الأشهر الحرم ما عدا من يصيد في مكة والمدينة لأن كلا منها حرم فلا يحل الصيد فيهما وكذلك من كان محرماً بحج أو عمرة فلا يحل له صيد البر وأما ما عدا ذلك فيجوز الصيد سواء كان في الأشهر الحرم أو في غيرها.
فتوى حول الهجرة من فلسطين
يقول السائل: ما رأيكم فيما نقل عن الشيخ ناصر الدين الألباني في فتواه حول دعوته لأهل فلسطين للهجرة، وما رأيكم فيما نشر من ردود على تلك الفتوى؟
الجواب: لا شك لدي بأن ما نقل عن الشيخ الألباني-إن صح ذلك عنه-أنه خطأ واضح وأن الشيخ الألباني قد جانب الصواب في هذه الفتوى.
ولا أريد أن أناقش هذه الفتوى لأن الحق فيها واضح ولكني أريد أن أتحدث عن بعض الردود وخاصة أن بعضها قد صدر عمن ينتسبون للعلم الشرعي ولا أعتب على بعض الصحافيين الذين وصفوا الشيخ الألباني بأوصاف لا تليق واستخدموا عبارات مجانبة للحوار والاختلاف البناء ولكني أسفت لما صدر عن بعض المشايخ من تفوهات وألفاظ مؤسفة وصف الشيخ الألباني بها بل أن بعضهم قد جرده من كل مؤهل وأنه يهرف بما لا يعرف وأنه دعي من الأدعياء ونقول لهؤلاء وأولئك: أنى لأي عالم مهما بلغ في العلم أن ينجو من الوقوع في الخطأ؟ فكل العلماء معرضون للوقوع في الأخطاء وكما يقال لكل جواد كبوة ولكل عالم هفوة ولا عصمة لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولله در الإمام مالك إمام جار الهجرة رحمه الله عندما قال: [كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر] وأشار بيده إلى قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم،(2/466)
ولو ذهبنا نحصي أخطاء علماء المسلمين لما سلم من ذلك إلا من رحم الله منهم.
إن وقوع أي عالم في خطأ ما مهما كان هذا الخطأ لا يعني أن نجرده من كل علم وأن نصفه بأقبح الأوصاف وأن نلصق به شتى التهم ومختلف النقائص فإن هذا ليس من منهج علماء المسلمين في نقد آراء العلماء لأن النقد العلمي يجب أن يبنى على الحجج والبراهين والأدلة بأسلوب يتضمن الأدب والخلق الرفيع وينطوي على احترام الآخرين فالتهجم والتجريح ليس من شيم علماء المسلمين وكذلك الطعن في المخالفين وتجريدهم من الدين والعلم والفضل والخلق ليس من منهج النقد العلمي البناء.
إن علماء المسلمين لهم احترامهم ولهم مكانتهم في قلوب المسلمين وينبغي التعامل معهم بكل أدب واحترام يليق بهم وإن صدرت عنهم آراء مجانبة للحق والصواب ولا يحق لأحد مهما كان أن يتناول العلماء بلسانه فإن لحوم العلماء مسمومة كما قال الحافظ ابن عساكر في كلمته النيرة التي تستحق أن تكتب بحروف من ذهب: [اعلم يا أخي - وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلني وإياك ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته - أن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب] .
وأود ان أذّكر من لا يعرف الشيخ الألباني وفضله وخدمته الجليلة لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ببعض ذلك فأقول:
لا شك أن الشيخ الألباني هو محدث الديار الشامية في القرن الرابع عشر الهجري بلا منازع وأن جهوده الضخمة في خدمة السنة النبوية لا ينكرها إلا مكابر ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو الفضل فالشيخ الألباني قام ومنذ سنين طويلة بالعمل على خدمة السنة النبوية وأصدر عشرات المؤلفات التي استفاد منها طلبة العلم الشرعي في الجامعات والمعاهد وفي حلقات العلم في المساجد وأذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر:(2/467)
1. إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، وهو كتاب ضخم يقع في ثمانية مجلدات خرج فيه أحاديث كتاب منار السبيل من كتب فقه الحنابلة وبلغ عدد أحاديثه أكثر من 2700 حديث.
2. سلسلة الأحاديث الصحيحة وصدر منها إلى الآن خمس مجلدات بلغت أحاديثها 2500 حديث.
3. سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة صدر منها إلى الآن أربع مجلدات بلغت أحاديثها 2000 حديث.
4. صحيح الجامع الصغير وزيادته في ثلاثة مجلدات كبيرة مع ضعيف الجامع وبلغت أحاديثه أكثر من أربعة عشر ألف حديث.
5. صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم.
6. أحكام الجنائز.
7. جلباب المرأة المسلمة.
8. تخريج أحاديث الحلال والحرام.
9. الأجوبة النافعة.
هذه بعض مؤلفات الشيخ الألباني وله غيرها كثير.
وفي الختام أدعو المنتسبين للعلم الشرعي أني يراعوا أدب الأسلام في الاختلاف وأن يتبعوا المنهج العلمي في النقد وأن يرتفعوا عن المهاترات وأن يلتزموا بقول الله تعالى:
(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) .
والله الهادي إلى سواء السبيل(2/468)
بِسمِ الله الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
المُقَدِمَة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) سورة آل عمران /102
(يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) سورة النساء /1
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) سورة الأحزاب /71,70
وبعد..
فهذا هو الجزء الثالث من كتابي [يسألونك] ، وأصله حلقات تنشر أسبوعياً، في جريدة القدس المقدسية، صباح كل يوم جمعة، وتتضمن(3/5)
إجابات على الأسئلة التي تصلني من القراء وأرغب في هذا المقام أن أبين بعض الأمور التي ترسم المنهج الذي أسير عليه:
- لما كان اختلاف المذاهب الفقهية في كثير من المسائل، له أسباب علمية إقتضته، ولله سبحانه وتعالى في ذلك حكمة بالغة منها: الرحمة بعباده، وتوسيع مجال استنباط الأحكام من النصوص، ثم هي بعد ذلك نعمة وثروة فقهية تشريعية، تجعل الأمة الإسلامية في سعة من أمر دينها وشريعتها، فلا تنحصر في تطبيق شرعي واحد، حصراً لا مناص منه إلى غيره، بل إذا ضاق بالأمة مذهب أحد الأئمة الفقهاء، في وقت ما، في أمر ما، وجدت في المذهب الآخر سعة ورفقاً ويسراً، مقتبس من قرار المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي رقم 9 لسنة 1408 هـ.
- وبناءً على ما سبق، فإني أبحث كل مسألة، وأعرف أقوال أهل العلم فيها، وأعرف اختلافهم، فمن لم يعرف اختلاف الفقهاء لم يشم رائحة الفقه، ثم أختار من أقوال العلماء من أصحاب المذاهب الفقهية ومن غيرهم، كالصحابة - فهم سادات المفتين والعلماء - والتابعين وأتباعهم وغيرهم من العلماء.
ولمعرفة أقوال أهل العلم في المسألة، فإني أرجع إلى أمهات المصادر، من كتب الفقه وكتب الحديث والآثار والتفسير.
قال الحافظ الذهبي: " قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام - وكان أحد المجتهدين -: " ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثل (المحلى) لابن حزم، وكتاب (المغني) للشيخ موفق الدين - يعني ابن قدامة المقدسي - "، قلت: - أي الذهبي -: لقد صدق الشيخ عز الدين، وثالثهما (السنن الكبير) للبيهقي، ورابعها (التمهيد) لابن عبد البر، فمن حصَّل هذه الدواوين وكان من أذكياء المفتين وأدمن المطالعة فيها فهو العالم حقاً "، سير أعلام النبلاء 18/193.
وعلق الشيخ الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد على كلام الذهبي: " قلت: وخامسها وسادسها: مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية، ومؤلفات ابن قيم(3/6)
الجوزية، وهما عندي في الكتب بمنزلة السمع والبصر، وصدق الشيخ الشوكاني رحمه الله تعالى في قوله: " لو أن رجلاً في الإسلام ليس عنده من الكتب إلا كتب هذين الشيخين لكفتاه "، وسابعها: (فتح الباري) لابن حجر وعند كلٍ خير، رحم الله علماء ملة الإسلام " المدخل المفصل 2/696.
وأضيف إليها ثامناً، وهو المجموع شرح المهذب للإمام النووي، مع أنه لم يكمل، ولو قدر للإمام النووي أن يكمله، لكان من أعظم كتب الفقه مطلقاً، وهو في غاية الحسن والجودة كما قال الحافظ الذهبي، الإمام النووي لعبد الغني الدقر ص98.
وأحاول أن أصل إلى القول الراجح في المسألة بناءً على الدليل، فإن جمال الفتوى وروحها الدليل، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية.
وأرجح في المسألة وأختار ما يؤيده الدليل، حتى لا أدع القارئ حائراً بين أقوال الفقهاء، فإنه لا ينبغي للمفتي عندما يسأله العامة عن مسألة ما، أن يقول فيها مثلاً: قال الحنفية كذا، وقال الشافعية في أحد القولين كذا، وفيها رواية في مذهب أحمد، والمشهور من مذهب مالك كذا.... فإنه إن فعل ذلك، لم ينتفع العامة بقوله، بل يتركهم تائهين بين تلك الأقوال.
وليس كل ما قاله فقيه من فقهائنا مسلَّمٌ به وصحيح، إلا قولاً له حظٌ من الأثر أو النظر، وقديماً قال الإمام مالك يرحمه الله: " كلٌ يؤخذ من كلامه ويترك، إلا صاحب هذا القبر، وأشار إلى قبر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ".
ولما كانت الأحكام الفقهية، مبنيةً على الأدلة الشرعية، من كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقد عُنيتُ بتخريج الأحاديث التي أستدل بها، فما كان في صحيحي البخاري ومسلم، أو في أحدهما، اكتفيت بذلك، وما كان فيما عداهما من كتب السنة الأخرى، ذكرت أقوال المحدثين في الحكم عليه، كالإمام النووي والحافظ ابن حجر والحافظ الزيلعي من المتقدمين، ومن المتأخرين محدث العصر الشيخ العلاّمة ناصر الدين الألباني، فإني أعتمد غالباً على حكمه على الأحاديث، جزى الله علماءَنا خير الجزاء.(3/7)
وأخيراً فإني لا أزعم أني أصبت الحق فيما ذكرت وكتبت، ولكن حسبي أني بذلت الجهد والوسع، فما أصبت فمن الله وحده، وما أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان.
والله الهادي إلى سواء السبيل
أبوديس - القدس، في صباح يوم الأربعاء الحادي عشر من ذي الحجة 1418 هـ
وفق الثامن من نيسان 1998 م
كَتبَه الدُكتُور حُسَامُ الدين عَفانِه
الأستَاذُ المشَاركُ في الفِقهِ والأصُولِ
كُليةُ الدَعوة وَأصُولُ الدين - جَامِعَةُ القُدسِ(3/8)
الصلاة(3/9)
الأذان الموحد
يقول السائل: ما قولكم في توحيد الأذان في المدينة الواحدة، أي ربط جميع مساجد المدينة الواحدة بشبكة للأذان الموحد، ويؤذن مؤذن واحد ويبث الأذان من جميع المساجد؟
الجواب: إن الأذان شعيرة من شعائر الإسلام، وينبغي المحافظة على شعائر الإسلام، وعدم إدخال أي تغيير أو تبديل فيها، لأن فتح هذا الباب يؤدي إلى الابتداع في الدين.
ومسألة توحيد الأذان، وجعل جميع مساجد المدينة الواحدة، مربوطة بشبكة موحدة للأذان، ويؤذن مؤذن واحد فيها، ويبث أذانه في جميع المساجد مسألة حديثة بحاجة إلى بحث ونظر، وأقول فيها:
أولاً: إن تعدد المؤذنين نظراً لتعدد المساجد أمر معروف ومشروع، وجرى عليه العمل عند المسلمين منذ عهد بعيد جداً، حتى ولو كانت المساجد متقاربة، إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أمر بالأذان كل جماعة عند حضور الصلاة، فقد روى الإمام البخاري بسنده عن مالك بن الحويرث قال: (أتيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - في نفر من قومي، فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رحيماً رفيقاً، فلما رأى شوقنا إلى أهلينا، قال: ارجعوا فكونوا فيهم، وعلموهم، وصلوا فإذا حضرت الصلاة، فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكبركم) ، والأذان الموحد(3/11)
فيه مخالفة لنص هذا الحديث، حيث إن مسجداً واحداً فقط يؤذن فيه، وبقية المساجد لا يؤذن فيها.
ثانياً: إن الأذان الموحد فيه تفويت الأجر والثواب على المؤذنين، وقصر الأجر على مؤذن واحد، ومن المعلوم أن ثواب الأذان عظيم، فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح، لأتوهما ولو حبواً) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام النووي في شرح الحديث: " النداء هو الأذان، والإستهام الإقتراع، ومعناه أنهم لو علموا فضيلة الأذان وقدرها وعظيم جزائه، ثم لم يجدوا طريقاً يحصلونه به لضيق الوقت عن أذان بعد أذان، أو لكونه لا يؤذن إلا واحد، لاقترعوا في تحصيله ولو يعلمون ما في الصف الأول من فضيلة نحو ما سبق، وجاءوا دفعة واحدة وضاق عنهم ثم لم يسمح بعضهم لبعض لاقترعوا عليه.... " شرح النووي على صحيح مسلم 4/118.
وورد في الحديث أيضاً عن البراء بن عازب - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الملائكة يصلون على الصف المقدم، والمؤذن يغفر له مدى صوته، وصدقه من سمعه من رطب ويابس، وله أجر من صلى معه) رواه أحمد والنّسائي بإسناد حسن جيد كما قال الحافظ المنذري وقال الشيخ الألباني: صحيح.
وفي رواية أخرى عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (المؤذن يغفر له مد صوته وأجره أجر من صلى معه) رواه الطبراني وقال الشيخ الألباني صحيح.
وعن ابن عمر - رضي الله عنه -، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أذن اثنتي عشرة سنة وجبت له الجنة، وكتب له بتأذينه في كل يوم ستون حسنة وبكل إقامة ثلاثون حسنة) رواه ابن ماجة والدارقطني والحاكم وقال: صحيح على(3/12)
شرط البخاري، ووافقه المنذري، وقال الشيخ الألباني: صحيح، انظر صحيح الترغيب والترهيب 97 - 103.
ثالثاً: جاء في قرار مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي ما يلي:
" إن الإكتفاء بإذاعة الأذان في المساجد عند دخول وقت الصلاة بواسطة آلة التسجيل ونحوها، لا يجزئ ولا يجوز في أداء العبادة، ولا يحصل به الأذان المشروع، وإنه يجب على المسلمين مباشرة الأذان لكل وقت من أوقات الصلاة في كل مسجد على ما توارثه المسلمون من عهد نبينا ورسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى الآن والله الموفق" انظر القول المبين ص176.
رابعاً: " أفتت هيئة كبار العلماء في السعودية، بأن إذاعة الأذان عند دخول وقت الصلاة في المساجد بواسطة آلة التسجيل ونحوها، لا تجزئ في هذه العبادة " القول المبين ص176.
خامساً: " أفتت الهيئة الدائمة للإفتاء في السعودية بمثل الفتوى السابقة، بعدم جواز إذاعة الأذان من المساجد، ولا بد من الأذان في كل مسجد وإن تعددت المساجد " القول المبين ص177.
سادساً: ويضاف لما سبق احتمال انقطاع التيار الكهربائي أو حصول عطل في أجهزة البث، أو تغيب المؤذن ونحو ذلك، مما يؤدي إلى تعطل الأذان.
سابعاً: إن ادعاء بعض الناس بحصول التشويش بسبب كثرة المساجد والمؤذنين غير صحيح، لأن هذا أمر شرعي ولا بد من الإلتزام به.
قول الإمام للمصلين: " استحضروا النية " بدعة
يقول السائل: نسمع بعض الأئمة بعد إقامة الصلاة وقبل تكبيرة الإحرام(3/13)
يأمرون المصلين بقولهم: " استحضروا النية "، فما حكم ذلك؟
الجواب: إن الأصل في العبادات التلقي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقول بعض الأئمة للمصلين استحضروا النية لا أصل له في الشرع، وهو أمر مبتدع لم يرد ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن المعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يؤم المصلين في الصلوات الخمس يومياً، ولم ينقل عنه ذلك ولا علمه لأحد من الصحابة رضي الله عنهم.
ولو كان هذا الأمر مشروعاً لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن المعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بتسوية الصفوف قبل أن يكبر بالصلاة، فقد ثبت في الحديث الشريف عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل علينا بوجهه قبل أن يكبر فيقول: (تراصوا واعتدلوا) متفق عليه.
وفي حديث آخر عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أيضاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة) رواه البخاري.
وينبغي على الأئمة أن يلتزموا بهدي المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، فهو قدوتنا وأسوتنا وقد أمرنا بالإتباع ونهينا عن الإبتداع.
موقف المأموم الواحد بمحاذاة الإمام
يقول السائل: إذا صلى إثنان جماعة، فإن المأموم يقف بجانب الإمام كما هو معلوم، ولكن هل يكون المأموم محاذياً للإمام تماماً غير متأخر عنه، أم أنه يتأخر عنه قليلاً؟
الجواب: الأصل أن المأموم يقف إلى يمين الإمام لما ثبت في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بت عند خالتي ميمونة، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي، فقمت عن يساره فجعلني عن يمينه) رواه البخاري ومسلم.(3/14)
وجمهور الفقهاء يرون أن المأموم لا يساوي الإمام في الوقوف ولكنه يتأخر عنه قليلاً.
وقال الحنابلة يقف المأموم محاذياً للإمام تماماً غير متأخر عنه، قال الشيخ مرعي الكرمي: " ويقف الرجل الواحد عن يمينه محاذياً له " منار السبيل شرح الدليل 1/128.
وهو قول الحنفية المعتمد، قال صاحب الفتاوى الهندية: " ولا يتأخر المأموم عن الإمام في ظاهر الرواية " الفتاوى الهندية 1/88.
وقال صاحب الهداية: " ومن صلى مع واحد أقامه عن يمينه لحديث ابن عباس فإنه عليه الصلاة والسلام صلى به وأقامه عن يمينه ولا يتأخر عن الإمام " الهداية 1/307 - 308، وانظر حاشية ابن عابدين 1/566 - 567.
وهذا قول الإمام البخاري حيث قال في صحيحه " باب يقوم الرجل عن يمين الإمام بحذائه سواء إذا كانا اثنين " ثم ساق حديث ابن عباس المتقدم.
قال الحافظ ابن حجر: " قوله: باب يقوم - أي المأموم -.... بحذائه، أي بجنبه وقوله سواء أي لا يتقدم ولا يتأخر " فتح الباري 2/332.
وروى الإمام أحمد بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من آخر الليل فصليت خلفه فأخذ بيدي فجعلني حذائه فلما أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خنست، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما انصرف قال لي: ما شأنك أجعلك حذائي فتخنس؟ فقلت يا رسول الله: أوَ ينبغي لأحد أن يصلي حذائك وأنت رسول الله الذي أعطاك الله، قال: فأعجبته فدعا الله أن يزيدني علماً وفهماً.. إلخ) والحديث صحيح أصله في الصحيحين، الفتح الرباني 5/291، ومعنى قوله (فخنس) أي تأخر قليلاً عن محاذاته، والمحاذاة الموازنة، وهذا يدل على أن المأموم يقف مساوياً للإمام.
وروى عبد الرزاق ابن جريج قال: " قلت لعطاء: أرأيت الرجل يصلي مع الرجل فأين يكون معه؟ قال: إلى شقه الأيمن، قلت: أيحاذي به حتى(3/15)
يصف معه لا يفوت أحدهما الآخر؟ قال: نعم، قلت: أتحب أن يساويه حتى لا تكون بينهما فرجة؟ قال: نعم " مصنف عبد الرزاق 2/406.
واختار هذا القول الشيخ الألباني حيث قال: ".... فهو مع الأحاديث المذكورة حجة قوية على المساواة المذكورة فالقول باستحباب أن يقف المأموم دون الإمام قليلاً، كما جاء في بعض المذاهب على تفصيل في ذلك لبعضها، مع أنه ما لا دليل عليه في السنة، فهو مخالف لظواهر هذه الأحاديث وأثر عمر هذا، وقول عطاء وهو الإمام التابعي الجليل ابن أبي رباح، وما كان من الأقوال كذلك، فالأحرى بالمؤمن أن يدعها لأصحابها معتقداً أنهم مأجورون عليها لأنهم اجتهدوا قاصدين الحق، وعليه هو أن يتبع ما ثبت في السنة فإن خير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - " السلسلة الصحيحة 1/2/62.
وأثر عمر الذي يشير إليه الشيخ الألباني هو ما رواه مالك في الموطأ عن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: " دخلت على عمر بن الخطاب بالهاجرة فوجدته يسبح - يصلي النافلة - فقمت وراءه، فقربني حتى جعلني حذاءه عن يمينه " وإسناده صحيح كما قال الشيخ الألباني في المصدر السابق.
لا تبطل صلاة المأموم ببطلان صلاة الإمام
يقول السائل: إذا صلى الإمام بالمصلين، ثم ظهر أن الإمام لم يكن متوضأً، فهل يعيد المأمومون الصلاة أم لا؟
الجواب: هذه المسألة مبنية على أصل مختلف فيه عند الفقهاء، وهو علاقة صلاة المأمومين بالإمام، وهل صلاة المأموم مرتبطة بصلاة الإمام صحة وفساداً؟
وقد اختلف الفقهاء في هذا الأصل على ثلاثة أقوال:(3/16)
الأول: لا ارتباط بين صلاة الإمام والمأموم، وإن كل امرئٍ يصلي لنفسه، وفائدة الإئتمام في تكثير الثواب بالجماعة، والمأموم يتابع الإمام في الأفعال الظاهرة، أي الإقتداء بالإمام في الركوع والسجود والتكبير والتسليم ونحوها.
الثاني: إن صلاة المأموم تابعة لصلاة الإمام ومرتبطة بها، فكل خلل حصل في صلاة الإمام يسري إلى صلاة المأموم، وإذا بطلت صلاة الإمام بطلت صلاة المأموم.
الثالث: إن صلاة المأموم مرتبطة بصلاة الإمام ومنعقدة بها، لكن إنما يسري النقص إلى صلاة المأموم إذا لم يكن هنالك عذر، فأما إذا وجد عذر فلا يسري النقص كما فصل ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، مجموع الفتاوى 23/370 - 371.
وبناءً على الأصل الذي ذكرت، نرجع إلى السؤال فنقول:
إذا صلى الإمام بالمأمومين، ثم ظهر أنه لم يكن متوضأً، فصلاة المأمومين صحيحة، ويطالب الإمام بإعادة الصلاة إن تذكر في الوقت، أو القضاء إن كان التذكر بعد الوقت وهذا على الراجح من أقوال أهل العلم، ويدل على ذلك ما يلي:
- روى الإمام البخاري بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم) صحيح البخاري مع فتح الباري 2/329.
قال الإمام البغوي: " فيه دليل على أنه إذا صلى بقوم وكان جنباً أو محدثاً، فإن صلاة القوم صحيحة، وعلى الإمام الإعادة، سواء كان عالماً بحدثه متعمداً الإمامة، أو كان جاهلاً " شرح السنة 3/405.
وقال ابن المنذر: " هذا الحديث يرد على من زعم أن صلاة الإمام إذا فسدت، فسدت صلاة من خلفه " فتح الباري 2/329.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية معلقاً على الحديث السابق: " فهذا نص(3/17)
بأن الإمام إذا أخطأ كان درك خطئِهِ عليه لا على المأمومين، فمن صلى معتقداً لطهارته وكان محدثاً أو جنباً أو كانت عليه نجاسة، وقلنا عليه الإعادة للنجاسة كما يعيد من الحدث، فهذا الإمام مخطئ في هذا الإعتقاد فيكون خطؤه عليه فيعيد صلاته، وأما المأمومون فلهم هذه الصلاة وليس عليهم من خطئه شيء كما صرح به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا نص في إجزاء صلاتهم، وكذلك لو ترك الإمام بعض فرائض الصلاة بتأويل أخطأ فيه مثلاً.... أو يحتجم ويصلي، أو يترك قراءة البسملة، أو يصلي وعليه نجاسة لا يعفى عنها عند المأموم ونحو ذلك، فهذا الإمام أسوأ أحواله أن يكون مخطئاً إن لم يكن مصيباً، فتكون هذه الصلاة للمأموم وليس عليه من خطأ إمامه شيء " مجموع الفتاوى 23/372.
- عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أمَّ الناس فأصاب الوقت وأتم الصلاة فله ولهم ومن نقص من ذلك شيئاً فعليه ولا عليهم) رواه أبو داود وابن ماجة وابن خزيمة وأحمد وابن حبان وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وقال الشيخ الألباني حسن صحيح.
- روى ابن ماجة بسنده عن أبي حازم قال: كان سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - يقدم فتيان قومه يصلون بهم، فقيل له تفعل ذلك ولك من القدم ما لك؟ قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (الإمام ضامن فإن أحسن فله ولهم، وإن أساء يعني فعليه ولهم) قال الشيخ الألباني: حديث صحيح، السلسلة الصحيحة 4/366.
- روى البيهقي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صلى بالناس الصبح ثم ظهر أنه كان جنباً فأعاد صلاة الصبح ولم يأمر أحداً بإعادة الصلاة، سنن البيهقي 2/399.
وهذا القول منقول عن جماعة من الصحابة والتابعين وكثير من الفقهاء، حتى أن أبا يوسف صاحب أبي حنيفة عمل بهذا القول وهو على خلاف مذهبه، فقد ذُكر أن الخليفة استخلفه في صلاة الجمعة فصلى بالناس ثم ذكر أنه كان محدثاً، فأعاد ولم يأمر الناس بالإعادة فقيل له في ذلك(3/18)
فقال: " ربما ضاق علينا الشيء فأخذنا بقول إخواننا المدنيين " مجموع الفتاوى 20/364
وأما ما روي (أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بالناس وهو جنب، وأعاد وأعادوا) ، فهو حديث ضعيف جداً حيث أنه من رواية أبي جابر البياضي عن سعيد بن المسيب وأبو جابر البياضي، اتفق أهل الحديث على تضعيفه، وقالوا: هو متروك وهذه اللفظة أبلغ ألفاظ الجرح، وقال يحيى بن معين: هو كذاب، هكذا ذكره الإمام النووي في المجموع، المجموع شرح المهذب 4/261.
وروى البيهقي بإسناده عن عبد الله بن المبارك قال: " ليس في الحديث قوة لمن يقول إذا صلى الإمام بغير وضوء أن أصحابه يعيدون، والحديث الآخر أثبت أن لا يعيد القوم هذا لمن أراد الإنصاف بالحديث " سنن البيهقي 2/401.
وخلاصة الأمر، أن صلاة المأمومين صحيحة إن كان الإمام على غير وضوء أو ترك الإمام واجباً من واجبات الصلاة، والمأموم لا يعلم بذلك.
تكرار صلاة الجماعة في المسجد
يقول السائل: هل يجوز لجماعة حضروا إلى المسجد بعد انتهاء صلاة الجماعة مع الإمام الراتب أن يصلوا جماعة فقد وقع خلاف في المسألة في مسجدنا وقرأنا في كتب الفقه أن كثيراً من الفقهاء منعوا إقامة الجماعة الثانية في المسجد بعد انتهاء الجماعة الأولى، فما قولكم في هذه المسألة؟
الجواب: لقد حث الرسول - صلى الله عليه وسلم - على صلاة الجماعة في المساجد، وورد في فضلها أحاديث كثيرة منها، ما ثبت في الحديث الصحيح عن ابن عمر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) رواه البخاري ومسلم.(3/19)
وفي رواية أخرى للبخاري، عن أبي سعيد الخدري (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة) .
وصلاة الجماعة من شعائر الإسلام التي ينبغي المحافظة عليها، والمقصود بصلاة الجماعة أي صلاة الجماعة في المساجد مع الأئمة الراتبين، وليس صلاة الجماعة في البيوت وأماكن العمل، مع ترك جماعة المساجد.
فقد ثبت عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه - أنه قال: " من سرَّه أن يلقى الله تعالى غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم- صلى الله عليه وسلم - سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف" رواه مسلم.
ولقد اختلف أهل العلم في حكم من جاءوا المسجد وقد صُلّيَ فيه هل يصلون فرادى أم يصلون جماعة؟
فالمسألة خلافية، فكثير من العلماء قالوا يكره لمن حضر إلى المسجد وقد صُلّيَ فيه أن يصلي في جماعة أخرى، وهذا قول الشافعي وقد نص عليه في الأم 1/181، ونقل ذلك عن الإمامين مالك وأبي حنيفة وجماعة من الفقهاء، ولهم أدلتهم في هذه المسألة.
وقالت طائفة أخرى من أهل العلم يجوز لمن حضروا المسجد وقد صُلّيَ فيه أن يصلوا جماعة أخرى ولا كراهة في ذلك، وبهذا قال الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ونقل هذا القول عن جماعة من الصحابة والتابعين.
وهذا القول هو أرجح القولين في المسألة وأقول به خاصة إذا كان أهل الجماعة الثانية لم يقصدوا ترك الصلاة مع الجماعة الأولى في المسجد لتفريق جماعة المصلين، على هذا دلت الأدلة الكثيرة وأبينها فيما يلي:(3/20)
أولاً: عموم الأدلة التي تحض على صلاة الجماعة وأن صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد بسبعٍ وعشرين درجة، أو بخمس وعشرين درجة كما سبق.
ثانياً: قال الإمام الترمذي في جامعه: " باب ما جاء في مسجد قد صُلّيَ فيه مرة " ثم روى بسنده عن أبي سعيد الخدري قال: (جاء رجل، وقد صلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: أيكم يتجر على هذا؟ فقام رجل فصلى معه..) ، ثم قال الترمذي: " وحديث أبي سعيد حديث حسن وهو قول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم من التابعين، قالوا لا بأس أن يصلي القوم جماعة في مسجد قد صُلّيَ فيه وبه يقول أحمد وإسحاق" جامع الترمذي مع تحفة الأحوذي 2/6 - 8.
وهذا الحديث ورد بروايات أخرى وقد صححه الشيخ الألباني في إرواء الغليل 2/316.
وقد رواه أبو داود أيضاً حيث قال: " باب في الجمع في المسجد مرتين " ثم ذكر بسنده عن أبي سعيد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أبصر رجلاً يصلي وحده فقال: (ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه؟) ورواه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي.
قال الإمام البغوي بعد أن ذكر الحديث: " ففيه دليل على أنه يجوز لمن صلى في جماعة أن يصليها ثانياً مع جماعة آخرين، وأنه يجوز إقامة الجماعة في المسجد مرتين، وهو قول غير واحد من الصحابة والتابعين " شرح السنة 3/437.
ثالثاً: روى الإمام البخاري في صحيحه تعليقاً " جاء أنس إلى مسجد قد صُلّيَ فيه، فأذّن وأقام وصلى جماعة "، قال الحافظ ابن حجر: " قوله (جاء أنس) ، وصله أبو يعلى في مسنده من طريق الجعد أبي عثمان قال: مرَّ بنا أنس بن مالك في مسجد.... فذكره.... وفيه " فأمر رجلاً فأذّن وأقام ثم صلى بأصحابه.... " وأخرجه ابن أبي شيبة من طرق عن الجعد، وعند البيهقي من طريق أبي عبد الصمد العمَّي عن الجعد نحوه.... وقال:(3/21)
" فجاء أنس في نحو عشرين من فتيانه " فتح الباري 2/271.
وما أشار إليه الحافظ هو عند ابن أبي شيبة في المصنف 2/321، حيث قال: " في القوم يجيئون إلى المسجد وقد صُلّيَ فيه، من قال لا بأس أن يجمعوا " ثم ذكر الأثر عن أنس بن مالك، وذكر آثاراً أخرى عن إبراهيم النخعي وعن الحسن البصري وعدي بن ثابت وعطاء، وروى أيضاً أن عبد الله بن مسعود دخل المسجد وقد صلوا، فجمع بعلقمة ومسروق والأسود " المصنف 2/322.
والأثر الذي ذكره عن ابن مسعود إسناده صحيح، انظر الفتح الرباني 5/344.
رابعاً: قال ابن حزم: " ومن أتى مسجداً قد صُليتْ فيه صلاة فرض جماعة بإمام راتب، وهو لم يكن صلاها فليصلها في جماعة ويجزئه الأذان الذي أذن فيه قبل وكذلك الإقامة لكل من صلى تلك الصلاة في المسجد، ممن شهدهما أو ممن جاء بعدهما "، ثم ذكر ابن حزم الروايات السابقة عن أنس، ثم روى عن ابن جريج قال: " قلت لعطاء: نفر دخلوا مسجد مكة خلاف الصلاة ليلاً أو نهاراً أيؤمهم أحدهم؟ قال: نعم وما بأس ذلك؟ "، ثم روى عن حماد بن سلمة عن عثمان البتّي قال: دخلت مع الحسن البصري وثابت البناني مسجداً قد صلى فيه أهله، فأذّن ثابت وأقام، وتقدم الحسن فصلى بنا فقلت: يا أبا سعيد أما يكره هذا؟ قال: وما بأسه، ثم قال ابن حزم: " هذا مما لا يعرف فيه لأنس مخالف من الصحابة رضي الله عنهم ثم ذكر حديث أبي سعيد المتقدم" المحلى 3/155 - 156.
ونقل الشيخ ابن قدامة جواز إقامة الجماعة الثانية عن ابن مسعود وعطاء والحسن والنخعي وقتادة وإسحاق، المغني 2/133.
خامساً: الذي يظهر لي أن العلماء الذين كرهوا إقامة صلاة جماعة أخرى في المسجد الذي صُلّيَ فيه، أنهم إنما قالوا بذلك سداً للذريعة، خشية تفريق كلمة المصلين في المسجد الواحد، وحتى لا يتخذ أهل الأهواء من ذلك ذريعة إلى التأخر عن الجماعة، ليصلوا جماعة أخرى(3/22)
خلف إمام يوافق أهواءَهم، فسداً لباب الفرقة وقضاءً على مقاصد أهل الأهواء السيئة، نقتصر على صلاة جماعة واحدة في المسجد، وإلى هذا المعنى الذي ذكرته أشار البيهقي فقال: "باب الجماعة في مسجد قد صلي فيه، إذا لم يكن فيها تفرق الكلمة "، ثم ذكر حديث أبي سعيد المتقدم وأثر أنس أيضاً، وذكر رواية عن الحسن البصري أنه كره إقامة جماعة أخرى بعد الجماعة الراتبة، ثم قال البيهقي: " كراهية الحسن البصري محمولة على موضع تكون الجماعة فيه بعد أن صُلّيَ، تفرق الكلمة والله أعلم " سنن البيهقي 3/69 - 70.
ويشير إلى هذا المعنى أيضاً ما ذكره أبو اسحاق الشيرازي في المهذب حيث قال: " وإن حضروا وقد فرغ الأمام من الصلاة فإن كان المسجد له إمام راتب كُرِه أن يستأنف فيه جماعة لأنه ربما اعتقد أنه قصد الكياد والإفساد، وإن كان المسجد في سوق أو في ممر الناس لم يكره أن يستأنف الجماعة لأنه لا يحتمل الأمر فيه على الكياد " المهذب مع المجموع 4/221.
سنة الظهر القبلية
يقول السائل: هل أصلي سنة الظهر القبلية ركعتين أم أربعاً؟
الجواب: لقد ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في سنة الظهر القبلية أحاديث كثيرة: منها ما فيه أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي ركعتين، ومنها ما فيه أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي أربعاً، ومن هذه الأحاديث:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (حفظت من النبي- صلى الله عليه وسلم - عشر ركعات ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب في بيته وركعتين بعد العشاء في بيته وركعتين قبل صلاة الصبح وكانت ساعة لا يُدخل على النبي- صلى الله عليه وسلم - فيها) رواه البخاري ومسلم.
وعن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي- صلى الله عليه وسلم - كان لا يدع أربعاً قبل(3/23)
الظهر وركعتين قبل الغداة - أي الفجر -) رواه البخاري.
وعن عبد الله بن شقيق قال: سألت عائشة عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تطوعه فقالت: (كان يصلي في بيتي قبل الظهر أربعاً ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يدخل فيصلي ركعتين، وكان يصلي بالناس المغرب ثم يدخل فيصلي ركعتين، ويصلي بالناس العشاء ويدخل بيتي فيصلي ركعتين، وكان يصلي من الليل تسع ركعات فيهن الوتر) رواه مسلم.
وعن أم حبيبة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من صلى في يوم وليلة اثنتي عشرة ركعة بُني له بيت في الجنة، أربعاً قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل صلاة الغداة) رواه الترمذي والنسائي.
وعن عائشة رضي الله عنها (أن النبي- صلى الله عليه وسلم - كان إذا لم يصل أربعاً قبل الظهر صلاهن بعدها) رواه الترمذي وهو حديث حسن.
وعن أم حبيبة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من صلى قبل الظهر أربعاً حرَّمه الله على النار) رواه الترمذي.
وفي رواية أخرى قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرَّمه الله على النار) رواه أصحاب السنن، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب، وقال الشيخ الألباني: صحيح.
وغير ذلك من الأحاديث.
وهذه الأحاديث تدل على مشروعية صلاة ركعتين أو أربع ركعات، سنة الظهر القبلية، وأكثر أهل العلم على الأربع، قال الترمذي بعد أن ساق حديث علي: (كان النبي- صلى الله عليه وسلم - يصلي قبل الظهر أربعاً وبعدها ركعتين) وهو حديث حسن.
قال الترمذي: " والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم -، ومن بعدهم يختارون أن يصلي الرجل قبل الظهر أربع ركعات.... " تحفة الأحوذي 2/410.(3/24)
وذكر الحافظ ابن حجر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان تارة يصلي ركعتين، وتارة يصلي أربعاً، وعلى هذا حمل اختلاف الروايات، انظر فتح الباري 3/301.
ويستحب أن تكون الركعات الأربع بتسليمة واحدة، لما ورد في الحديث عن أبي أيوب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أربع ركعات قبل الظهر ليس فيهن تسليم تفتح لهن أبواب السماء) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة، وقال الشيخ الألباني: حسن.
التسبيح باليدين بعد الصلاة المفروضة
يقول السائل: هل يسبح المصلي بعد كل صلاة بيمينه أم بكلتا يديه؟
الجواب: التسبيح بعد الصلاة من السنن الثابتة عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وردت فيه أحاديث كثيرة منها:
عن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (معقبات لا يخيب قائلهن أو فاعلهن دبر كل صلاة مكتوبة، ثلاثاً وثلاثين تسبيحة وثلاثاً وثلاثين تحميدة وأربعاً وثلاثين تكبيرة) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من سبح لله في دبر كل صلاة، ثلاثاً وثلاثين وحمد الله ثلاثاً وثلاثين وكبر ثلاثاً وثلاثين تكبيرة، وقال تمام المئة، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) رواه مسلم، وغير ذلك من الأحاديث.
والسنة في التسبيح أن يكون باليدين، لما ورد في ذلك عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنه - قال: (رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعقد التسبيح بيده) رواه الترمذي والحاكم والبيهقي، وهو حديث صحيح.
وجاء في رواية أخرى عند أبي داود (رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يعقد التسبيح بيمينه) وقال الشيخ الألباني: صحيح، انظر صحيح سنن أبي داود 1/580.(3/25)
وجاء في الحديث عن يسيرة بنت ياسر - وكانت إحدى المهاجرات - قالت: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (عليكن بالتسبيح والتهليل والتقديس واعقدن بالأنامل فإنهن مسؤولات ومستنطقات) رواه أبوداود والترمذي والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، وحسنه النووي والحافظ ابن حجر والألباني.
وهذا الحديث يدل على عقد التسبيح باليدين اليمنى واليسرى، ورواية أبي داود السابقة تدل على عقد التسبيح باليمنى فقط.
وقد قال بعض أهل العلم: إن رواية أبي داود والتي فيها (بيمينه) مدرجة من الراوي إذ ليست في الأصول، إلا أن ابن علان في شرحه على الأذكار لم يرتض ذلك، ووفق بين الحديثين بقوله: " هذا وحديث يسيرة السابق، عقد الأنامل فيه شامل لكلا اليدين وحينئذ فإما أن يحمل على اليمين ليوافق حديث ابن عمرو أو يبقى على عمومه بالنسبة لحصول أصل السنة ويحمل خبر ابن عمرو على بيان الأفضل، أو يحمل حديثهما على ما احتيج إلى اليدين، وحديثه على ما إذا كفى أحدهما "، الفتوحات الربانية 1/255.
وخلاصة الأمر أن من يسبح باليدين فقد أصاب أصل السنة لثبوت ذلك في الحديث، ولكن التسبيح باليد اليمنى أفضل لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحب التيامن دائماً.
وما أشار إليه حديث يسيرة (فإنهن مسؤولات مستنطقات) فيه إشارة إلى قوله تعالى: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) سورة النور /24.
فالله سبحانه وتعالى ينطق الجوارح بقدرته فتخبر كل جارحة منها بما صدر عنها من أفاعيل صاحبها، كما قال الألوسي في تفسيره 9/324.
وبناءً على ما سبق، يظهر لي أن التسبيح باليدين أولى وأفضل من التسبيح بالسبحة، قال المباركفوري: " وفي الحديث مشروعية عقد التسبيح بالأنامل وعلل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث يسيرة الذي أشار إليه الترمذي، بأن الأنامل مسؤولات مستنطقات يعني أنهن يشهدن بذلك، فكان(3/26)
عقدهن التسبيح من هذه الحيثية أولى من السبحة والحصى " تحفة الأحوذي 9/322.
ولم يثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم - حديث صحيح في التسبيح بالسبحة وما ورد فضعيف لا يعول عليه.
بدعة ختم الصلاة جماعة
يقول السائل: صلينا الفجر في أحد المساجد، وبعد الصلاة استقبل الإمام المصلين وأخذ بالإستغفار والمصلون يرددون، ثم ختم الصلاة على الهيئة المعروفة في كثير من المساجد، فاعترض على ذلك أحد المصلين وقال: إن هذا الختم لم يرد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحدث جدال وصراخ في المسجد، فما قولكم في ذلك؟
الجواب: لا شك أن ترك سنة المصطفى- صلى الله عليه وسلم - شؤم ما بعده شؤم، ويؤدي إلى وقوع مثل هذا الصياح في المساجد والتي صارت كالأسواق التي تعلو فيها الأصوات والصيحات، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وهنا لا بد أن نقرر أصلاً طالما ذكرته ألا وهو أن الأصل في العبادة التلقي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلا زيادة ولا نقصان.
وهذا الإستغفار الجماعي وختم الصلاة على الهيئة المعروفة في كثير من مساجدنا لم يرد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه رضي الله عنهم.
قال الشيخ علي محفوظ: " ومن البدع المكروهة، ختم الصلاة على الهيئة المعروفة من رفع الصوت به وفي المسجد والإجتماع له والمواظبة عليه، حتى اعتقد العامة أنه من تمام الصلاة، وأنه سنة لا بد منها، مع أنه مستحب انفراداً سراً، فهذه الهيئة محدثة لم تعهد عن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ولا عن الصحابة، وقد اتخذها الناس شعاراً للصلوات المفروضة عقب الجماعة، وقد صرح كثير من الفقهاء بأن الشعار في الدين(3/27)
مكروه، ولذا قال الإمام ابن الصلاح بكراهة ما يفعله الناس بعد فراغهم من السعي بين الصفا والمروة، من صلاة ركعتين على متسع المروة، وكيف يجوز رفع الصوت به والله تعالى يقول في كتابه الحكيم (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) سورة الأعراف /55، والتضرع من الضراعة وهي الذلة والخشوع والإستكانة والخفية بضم الخاء وكسرها، الإسرار به فإنه أقرب إلى الإخلاص وأبعد عن الرياء، وانتصابهما على الحال أي ادعوه متضرعين بالدعاء مخفين له مسرين به، ثم علل ذلك بقوله (إنه لا يحب المعتدين) في الدعاء بترك ما أمروا به من التضرع والإخفاء، كما لا يحب الإعتداء في سائر الأشياء، والإعتداء تجاوز الحدود فيها، فمن جاوز ما أمره الله به في شيء من الأشياء فقد اعتدى، والله لا يحب المعتدين ولا يشملهم برحمته وإحسانه، وتدخل المجاوزة في الدعاء في هذا المفهوم دخولاً أوليا، وحسبك في تعيين الإسرار بالدعاء إقترانه بالتضرع في هذه الآية الكريمة، فالإخلال به كالإخلال بالتضرع في الدعاء، وإن دعاء لا تضرع فيه ولا خشوع لقليل الجدوى، فكذلك دعاء لا خفية فيه ولا إسرار ولا وقار " الإبداع 283 - 284.
وقال العلامة ابن القيم: " وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة، أو المأمومين فلم يكن ذلك من هديه - صلى الله عليه وسلم - أصلاً ولا روي عنه بإسناد صحيح ولا حسن" زاد المعاد 1/257.
ويكون الإستغفار ثلاثاً والتسبيح والتحميد والتكبير كل منها ثلاث وثلاثون مرة وختمها بالتهليل عقب الصلاة سراً، في أي حالة يكون عليها المصلون بعد الصلاة، من قيام وقعود ومشي وإن الإجتماع لذلك والإشتراك فيه ورفع الصوت بدع، هوّنها على الناس التعود " الفتح المبين ص306.
وخلاصة الأمر أن الختم الجماعي للصلاة لم يرد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فالتزام فعل ذلك بعد كل صلاة بدعة، وأخيراً ينبغي التذكير بأن النهي عن البدع والدعوة إلى إتباع السنة النبوية، يجب أن يكون بأسلوب هين لين فيه رفق بالناس، وليس بالشدة والصراخ في المساجد لأن المساجد لها حرمتها(3/28)
فلا ينبغي الصراخ فيها ورفع الأصوات لما في ذلك من التشويش على المصلين وعلى الذاكرين.
صلاة المسافر خلف المقيم
يقول السائل: هل يصح للمسافر أن يصلي صلاة الظهر خلف إمام مقيم، فيقصر المسافر الصلاة ثم يقوم ويجمع العصر ركعتين؟
الجواب: إتفق أهل العلم على أن المسافر إذا اقتدى بالمقيم، فيجب الإتمام بحق المسافر ولا يصح القصر، لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنما جعل الإمام ليؤتمّ به، فلا تختلفوا عليه) متفق عليه.
وعن موسى بن سلمة الهذلي قال: سألت ابن عباس كيف أصلي إذا كنت بمكة إذا لم أصل مع الإمام، فقال: (ركعتين سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -) رواه مسلم.
وهذا يفيد أنه إذا صلى مع الإمام أتم الرباعية.
ورواه أحمد بأصرح من ذلك، عن موسى بن سلمة قال: كنا مع ابن عباس بمكة فقلت: إذا كنا معكم صلينا أربعاً - أي بالمسجد مقتدين بإمام مقيم - وإذا رجعنا إلى رحالنا صلينا ركعتين، قال: (سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -) الفتح الرباني 5/102.
وبناءً على ذلك لا يصح للمسافر أن يقصر الصلاة الرباعية إذا اقتدى بإمام مقيم بل يجب عليه أن يصلي الظهر تامة، فإذا سلم الإمام قام المسافر فجمع إليها العصر، ويصح له أن يقصر العصر فيصليها ركعتين.
وبمناسبة الحديث عن صلاة المسافر أود التنبيه على بعض الأمور المتعلقة بصلاة المسافر:
1 - إن المسافر لا يصير مسافراً شرعاً إلا إذا شرع فعلاً بالسفر ولا تكفي النية في جعله مسافراً، وبناءً على ذلك لا يصح للمسافر أن يتلبس(3/29)
بأي حكم من الأحكام المرخصة في السفر إلا إذا شرع في السفر فعلاً، ويدل على ذلك ما ثبت في الحديث عن أنس بن مالك قال: (صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر بالمدينة أربعاً، وصليت معه العصر بذي الحليفة ركعتين) رواه مسلم.
وبداية السفر تكون بمفارقة البلد أو المحل الذي يسكن فيه من أراد السفر، فإذا كان ساكناً في مدينة أو قرية فيكون مسافراً إذا فارق البنيان، وإذا كان ساكناً في صحراء فيكون مسافراً إذا فارق بيوت الشعر.
قال الإمام النووي: " وأما ابتداء القصر فيجوز من حين يفارق بنيان بلده أو خيام قومه، إن كان من أهل الخيام " شرح النووي على صحيح مسلم 5/322.
2 - إن المسافر يصير مقيماً إذا نوى الإقامة، فإذا سافر شخص إلى عمان مثلاً فبمجرد وصوله إلى عمان نوى أن يقيم فيها شهراً، فهو مقيم ولا يصح له أن يترخص برخص السفر.
3 - إذا كان المسافر سائراً فيجوز له أن يقصر وأن يجمع، كمن يسافر إلى الحج براً فطوال مسيره حتى يصل إلى مكة فيجوز له أن يجمع ويقصر، فإذا وصل مكة فإن صلى مع الإمام المقيم فإنه يتم ولا يجمع، وإن صلى وحده فيقصر ولا يجمع، وعلى ذلك دلت السنة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جد به المسير قصر وجمع، وإذا كان نازلاً قصر دون جمع.
4 - إذا نوى المسافر جمع التأخير، فإذا وصل إلى محل إقامته قبل خروج وقت الصلاة الأولى، فلا يجوز له الجمع بل يجب أن يصلي الصلاة التي أدرك وقتها تامة، فإذا فرضنا أن مسافراً نوى جمع التأخير بين الظهر والعصر فدخل إلى بلده قبل دخول وقت العصر فيجب عليه أن يصلي الظهر تامة في وقتها ولا يصح له أن يؤخرها حتى يجمعها مع العصر.
5 - ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان لا يصلي السنن الرواتب في السفر، كسنة الظهر والمغرب، فقد روى مسلم في صحيحه بسنده عن عيسى بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب عن أبيه قال:(3/30)
صحبت ابن عمر في طريق مكة قال: " فصلى الظهر ركعتين ثم أقبل وأقبلنا معه حتى جاء رحله وجلس وجلسنا معه، فحانت منه إلتفاتة نحو حيث صلى فرأى ناساً قياماً فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبحون - أي يصلون نافلة - قال لو كنت مسبحاً أتممت صلاتي، يا ابن أخي إني صحبت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله تعالى، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله تعالى، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله تعالى، ثم صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله تعالى، وقد قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) سورة الأحزاب /21.
وأما مطلق النافلة، فقد ثبت أن الرسول- صلى الله عليه وسلم - كان يتنفل في السفر، فقد روى مسلم في صحيحه عن ابن شهاب أن عبد الله بن عامر بن ربيعة أخبره، أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي السبحة - أي النافلة - بالليل في السفر على ظهر راحلته حيث توجهت.
صلاة الحاجة
يقول السائل: قرأت عن صلاة الحاجة في بعض كتب الأدعية، أرجو بيان حكمها وكيفيتها؟
الجواب: اتفق كثير من الفقهاء على أن صلاة الحاجة مستحبة وأنها تكون عندما تعرض للإنسان حاجة من حوائج الدنيا المشروعة فيستحب له أن يتوضأ ويصلي ركعتين لله تعالى، ويسأل الله جل وعلا حاجته، فإن فعل ذلك مؤمناً بقدرة الله عز وجل، فأرجو أن يحقق الله له ما أراد فقد ورد في الحديث عن عثمان بن حنيف - رضي الله عنه - (أن أعمى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يكشف لي عن بصري، قال: أوَ أدعك قال: يا رسول الله إنه قد شق علي ذهاب بصري، قال فاذهب فتوضأ، ثم صل ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك(3/31)
وأتوجه إليك بنبيي محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه إلى ربي بك أن يكشف لي عن بصري، اللهم شفّعه في وشفّعني في نفسي، فرجع وقد كشف الله عن بصره) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة والحاكم وقال صحيح على شرط البخاري ومسلم، وقال الشيخ الألباني: صحيح، انظر صحيح الترغيب والترهيب 280.
وذكر الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب، أن الحديث رواه الطبراني، وذكر في أوله قصة، (وهو أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان- رضي الله عنه - في حاجة له، وكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي عثمان بن حنيف فشكا ذلك إليه، فقال له عثمان بن حنيف: إئت الميضأة فتوضأ، ثم إئت المسجد فصل فيه ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد- صلى الله عليه وسلم - نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فيقضي حاجتي، وتذكر حاجتك ورح إلي حتى أروح معك، فانطلق الرجل فصنع ما قال له، ثم أتى باب عثمان، فجاء البواب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان فأجلسه معه على الطنفسة وقال: ما حاجتك؟ فذكر حاجته فقضاها له ثم قال: ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة، وقال: ما كانت لك من حاجة فائتنا، ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيراً ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليّ حتى كلمته فيّ فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلمته ولكن شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأتاه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره فقال النبي- صلى الله عليه وسلم - أوَ تصبر، فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد وقد شق علي، فقال له النبي- صلى الله عليه وسلم -: إئت الميضأة فتوضأ، ثم صل ركعتين ثم ادع بهذه الدعوات، فقال عثمان بن حنيف: فوَ الله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط) قال الطبراني بعد ذكر طرقه: والحديث صحيح الترغيب والترهيب 1/474 - 476.
وعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقول: (من توضأ فأسبغ الوضوء، ثم صلى ركعتين بتمامهما، أعطاه الله عز وجل ما سأل معجلاً أو مؤخراً) رواه أحمد بإسناد صحيح كما قاله الشوكاني في تحفة الذاكرين ص196.(3/32)
وروي في الحديث عن عبد الله بن أبي أوفى قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: (من كانت له إلى الله حاجة أو إلى أحد من بني آدم، فليتوضأ وليحسن الوضوء، ثم ليصل ركعتين ثم ليثن على الله وليصل على النبي ثم يقل: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم لا تدع لي ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته ولا حاجة هي لك رضاً إلا قضيتها يا أرحم الراحمين) رواه الترمذي والنّسائي والحاكم، وفي سنده كلام لأهل الحديث، ورواه بن ماجة وفيه زيادة (ثم يسأل الله من أمر الدنيا والآخرة ما شاء، فإنه يقدر) .
وأما كيفية صلاة الحاجة، فأكثر الفقهاء على أنها تصلى ركعتين، وهذا أصح ما ورد في صلاة الحاجة.
والله الهادي إلى سواء السبيل(3/33)
صلاة الجمعة(3/35)
إذا صلت المرأة الجمعة فلا تصلي الظهر
تقول السائلة: إن أحدهم أفتى النساء اللواتي يصلين صلاة الجمعة بأنه يجب عليهن أن يصلين الظهر، لأن صلاة الجمعة ليست واجبة على النساء فلا تسقط فريضة الظهر عنهن، فما قولكم في ذلك؟
الجواب: إن هذا القائل أخطأ فيما قال، وخرق إجماع الفقهاء على أن من لا تجب عليه صلاة الجمعة إن صلاها، فهي مسقطة لفريضة الظهر.
قال الإمام النووي: " ذكرنا أن المعذورين كالعبد والمرأة والمسافر وغيرهم، فرضهم الظهر فإن صلوها صحت وإن تركوها وصلوا الجمعة أجزأهم بالإجماع، نقل الإجماع فيه ابن المنذر وإمام الحرمين وغيرهما " المجموع 4/495.
وقال الشيخ الخرقي الحنبلي: " وإن حضروها - أي المرأة والمسافر والعبد والمريض حضروا الجمعة - أجزأتهم، يعني تجزيهم عن الظهر ولا نعلم في هذا خلافاً ".
ونقل الشيخ ابن قدامة المقدسي عن ابن المنذر قوله: " أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم، أنه لا جمعة على النساء، وأجمعوا على أنهن إذا حضرن فصلين الجمعة أن ذلك يجزي عنهن " المغني 2/253.(3/37)
وقال السمرقندي الحنفي: " ثم هؤلاء الذين لا يجب عليهم الجمعة إذا حضروا الجمعة وصلوا، فإنه يجزئهم ويسقط عنهم فرض الوقت " تحفة الفقهاء 1/162.
وبهذا يظهر لنا أن الفقهاء قد اتفقوا على أن من لا جمعة عليه، كالمسافر والمريض والمرأة، إن صلوا الجمعة فإن ذلك يجزئهم عن صلاة الظهر.
وأخيراً أقول: إن على من يتصدى للفتوى في دين الله أن يكون على بينة مما يقول، فإنه يوقع عن رب العالمين، فلينظر إلى عظم هذه الأمانة وهذه المسؤولية التي أخذها على نفسه.
تسليم الخطيب على المصلين
يقول السائل: ما حكم تسليم الخطيب على المصلين عند صعوده المنبر للخطبة؟
الجواب: تسليم الخطيب على المصلين عندما يصعد المنبر سنة، وردت عن النبي- صلى الله عليه وسلم - وعن جماعة من الصحابة والتابعين وغيرهم، ومما ورد في ذلك:
عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (كان إذا صعد المنبر سلّم) رواه ابن ماجة والبغوي، وقال الشيخ الألباني: حديث حسن صحيح، صحيح ابن ماجة 1/282 وذكره في سلسلة الأحاديث الصحيحة 5/206.
وعن عطاء قال: (كان النبي- صلى الله عليه وسلم - إذا صعد المنبر أقبل بوجهه على الناس فقال: السلام عليكم) رواه عبد الرزاق في المصنف 3/192، وقال الشيخ الألباني: ورجاله ثقات رجال الشيخين السلسلة الصحيحة 5/207.
وروى عبد الرزاق أيضاً عن أبي أسامة أنه سمع مجالداً يحدث عن الشعبي قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صعد المنبر أقبل بوجهه وقال: السلام(3/38)
عليكم، قال: فكان أبو بكر وعمر يفعلان ذلك بعد النبي- صلى الله عليه وسلم -) ، ورواه أيضاً ابن أبي شيبة في المصنف 2/114، وقال الشيخ الألباني: وهو مرسل لا بأس به في الشواهد، السلسلة الصحيحة 5/206.
وقال الشيخ الألباني: " ومما يشهد للحديث ويقويه أيضاً - أي حديث جابر المتقدم - جريان عمل الخلفاء عليه، فأخرج ابن أبي شيبة عن نضرة قال: " كان عثمان قد كبر فإذا صعد المنبر سلّم.... الخ"، وإسناده صحيح.
ثم روى عن عمرو بن مهاجر " أن عمر بن عبد العزيز كان إذا استوى على المنبر سلّم على الناس وردوا عليه " السلسلة الصحيحة 5/207.
وهذا الذي ذكرته من استحباب تسليم الخطيب على المصلين هو مذهب الشافعية والحنابلة وجماعة من السلف، قال الإمام النووي: " إذا وصل - الخطيب - أعلى المنبر وأقبل على الناس بوجهه يسلّم عليهم.... وإذا سلّم لزم السامعين الرد عليه وهو فرض كفاية كالسلام في باقي المواضع وهذا الذي ذكرناه من استحباب السلام الثاني مذهبنا ومذهب الأكثرين وبه قال ابن عباس وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي وأحمد " المجموع 4/527.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: " يستحب للأمام إذا خرج أن يسلّم على الناس، ثم إذا صعد المنبر فاستقبل الحاضرين سلّم عليهم وجلس، إلى أن يفرغ المؤذنون من أذانهم، كان ابن الزبير إذا علا المنبر سلّم، وفعله عمر بن عبد العزيز وبه قال الأوزاعي والشافعي" المغني 2/219.
يكره السجع في الخطبة
يقول السائل: بعض الخطباء يستعملون السجع كثيراً في أدعيتهم وخطبهم، فما قولكم في ذلك؟(3/39)
الجواب: ينبغي أن يعلم أن أفضل الأدعية هي المأثورة عن الرسول- صلى الله عليه وسلم -، وما ورد فيها من سجع فليس مقصوداً، كما في قوله- صلى الله عليه وسلم -: (اللهم منزل الكتاب سريع الحساب هازم الأحزاب) وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: (صدق وعده وأعز جنده) .
وأما ما يفعله الخطباء من استخدام السجع فهو مكروه، لأنه في الغالب متكلف والسجع المتكلف لا يلائم الضراعة والذلة كما قال الإمام الغزالي، وقد كره النبي- صلى الله عليه وسلم - السجع، كما ورد في الحديث عن أبي هريرة قال: (اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول- صلى الله عليه وسلم - فقضى أن دية جنينها غرة أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم، فقال حمل بن النابغة الهذلي: يا رسول الله كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل؟ فمثل ذلك يُطلُ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما هذا من إخوان الكهان من أجل سجعه الذي سجع) رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم وفي رواية عند مسلم (أسجع كسجع الأعراب) .
قال الإمام النووي: " واما قوله- صلى الله عليه وسلم - (إنما هذا من إخوان الكهان من أجل سجعه) وفي الرواية الأخرى (سجع كسجع الأعراب) فقال العلماء: إنما ذم سجعه لوجهين: أحدهما أنه عارض به حكم الشرع ورام إبطاله، والثاني انه تكلفه في مخاطبته، وهذان الوجهان من السجع مذمومان.
أما السجع الذي كان النبي- صلى الله عليه وسلم - يقوله في بعض الأوقات، وهو مشهور في الحديث، فليس من هذا لأنه لا يعارض به حكم الشرع ولا يتكلفه فلا نهي فيه بل هو حسن.... " شرح النووي على صحيح مسلم 12/327.
وقال الإمام البخاري: باب ما يكره من السجع في الدعاء، ثم ذكر أثر ابن عباس - رضي الله عنه - وفيه ".... وانظر السجع من الدعاء فاجتنبه فإني عهدت الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك الإجتناب " انظر فتح الباري 13/388 - 389.
وقال العز بن عبد السلام سلطان العلماء، جواباً على سؤال يتعلق(3/40)
بمن يقصد السجع في كلام الناس وفي الخطب ونحوها ما نصه: " إذا كان القصد بالسجع الرياء والسمعة والتصنع بالفصاحة فهو حرام، وإن كان القصد به وزن الكلام لتميل النفوس إلى قبوله والعمل بموجبه فلا بأس به في الخطب وغيرها، وقد روي عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يتصفح كتبه إذا فرغ منها، فإن وجد فيها كلاماً بليغاً فصيحاً نحّاه منها خوفاً من الرياء والسمعة والإفتخار بالفصاحة، ولا ينبغي للخطيب أن يذكر في الخطبة إلا ما كان يوافق مقاصدها، من الثناء والدعاء والترغيب والترهيب، بذكر الوعد والوعيد وكل ما يحث على طاعة أو يزجر عن معصية، وكذلك تلاوة القرآن، وكان النبي- صلى الله عليه وسلم - يخطب بسورة (ق) في كثير من الأوقات لإشتمالها على ذكر الله والثناء عليه، ثم على علمه بما به توسوس النفوس وبما تكتبه الملائكة على الإنسان من طاعة وعصيان ثم يذكر الموت وسكرته ثم يذكر القيامة وأهوالها والشهادة على الخلائق بأعمالها، ثم يذكر الجنة والنار ثم يذكر الصيحة والنشور والخروج من القبور، ثم بالوصية في الصلوات، فما خرج عن هذه المقاصد فهو مبتدع "فتاوى شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام ص481 - 484.
ويؤيد ذلك ما ورد في الحديث، عن عبد الله بن عمرو أن الرسول- صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة) رواه أبو داود والترمذي وأحمد، وقال الشيخ الألباني: صحيح، والمقصود بالحديث الرجل الذي يتشدق في الكلام بلسانه ويلفه، كما تلف البقرة الكلأ بلسانها لفاً كما قال ابن الأثير في النهاية.
لا يجوز ذكر الأحاديث المكذوبة في الخطبة
يقول السائل: نلاحظ كثيراً من الخطباء والوعاظ والمدرسين، يذكرون في خطبهم ومواعظهم ودروسهم، أحاديث ضعيفة بل مكذوبة أحياناً، فما حكم ذكر هذه الأحاديث في الخطب والمواعظ والدروس؟(3/41)
الجواب: إن الأحاديث الضعيفة الواهية والموضوعة (المكذوبة) آفة قديمة، انتشرت بين المسلمين بشكل كبير، فتجد كثيراً من الكتب والمؤلفات تحوي الأحاديث الساقطة والمكذوبة، وكثير من الخطباء يرددونها دون علم بحالها، وهذا أمر جد خطير، لأن هؤلاء قد يدخلون في دائرة الكذب على الرسول- صلى الله عليه وسلم -، والكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - من الكبائر وعاقبته وخيمة، فقد ثبت في الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال: (من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) .
قال الحافظ ابن حبان: " فصل ذكر إيجاب دخول النار لمن نسب الشيء إلى المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وهو غير عالم بصحته "، ثم روى بسنده عن أبي هريرة- رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من قال عليَّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار) ، وقال محققه شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن، الإحسان 1/210، وقال الشيخ الألباني: وسنده حسن وأصله في الصحيحين بنحوه السلسلة الضعيفة 1/12.
ثم ذكر ابن حبان بسنده عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: (من حدث حديثاً وهو يُرى - بضم الياء ومعناه يظن - أنه كذب فهو أحد الكاذبين) وأخرجه مسلم في مقدمة صحيحه.
وفي رواية عند ابن ماجة وغيره (من حدث عني حديثاً.... الخ) .
فهذه الأحاديث وغيرها تدل على وجوب التثبت من الأحاديث قبل روايتها وذكرها للناس، لأن معظم الناس من العوام الذين لا يعرفون التمييز بين الصحيح والضعيف من الأحاديث، بل إن عامة الناس يتلقون هذه الأحاديث وينشرونها فيما بينهم، فيسهم هؤلاء الخطباء والوعاظ وأمثالهم في نشر هذه الأحاديث المكذوبة بين الناس، ويتحملون وزر ذلك.
كما ينبغي أن يعلم أن في الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يغني ويكفي عن الأحاديث المكذوبة.
وقد يقول قائل: أن رواية الأحاديث الضعيفة جائزة في فضائل الأعمال فمن هذا الباب يذكرها الخطباء والوعاظ وأمثالهم.(3/42)
ونقول: إن قاعدة العمل بالحديث الضعيف ليست على إطلاقها، كما هو مقرر عند أهل الحديث، بل إن هناك شروطاً للعمل بالحديث الضعيف في باب فضائل الأعمال، نقلها الحافظ السخاوي عن شيخه الحافظ ابن حجر وهي:
1 - أن يكون ضعف الحديث غير شديد، فيخرج من ذلك من انفرد من الكذابين والمتهمين بالكذب.
2 - أن يكون الحديث الضعيف مندرجاً تحت أصل عام، فيخرج ما يخترع بحيث لا يكون له أصل أصلاً.
3 - أن لا يعتقد عند العمل ثبوته، لئلا ينسب إلى النبي- صلى الله عليه وسلم - ما لم يقله، مقدمة صحيح الترغيب والترهيب ص18.
وبناءً على ما تقدم، فإني أنصح كل من يذكر حديثاً عن الرسول- صلى الله عليه وسلم - أن يتثبت من ذلك الحديث، وأن يرجع إلى كتب أهل الحديث ليعرف حال ذلك الحديث قبل أن يذكره للناس.
ومن فضل الله وكرمه أن المكتبة الحديثية غنية، وقد خدم العلماء سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام خدمات عظيمة وجليلة، وبينوا أحوال الأحاديث من حيث الصحة أو الحسن أو الضعف، ولا يقبل أن نأخذ الأحاديث من كل من هب ودب وننسبها إلى المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، فإن الكذب على الرسول- صلى الله عليه وسلم - ليس كالكذب على غيره، كما جاء في الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إن كذباً عليَّ ليس ككذب على أحد، فمن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) .
والله الهادي إلى سواء السبيل(3/43)
صلاة الجنازة والقبور(3/45)
صلاة الجنازة على قاتل نفسه
يقول السائل: هل تصح صلاة الجنازة على من قتل نفسه؟
الجواب: لا شك أن قتل النفس حرام شرعاً بل هو من الكبائر، فقاتل نفسه أشد وزراً من قاتل غيره، يقول سبحانه وتعالى: (وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ) سورة الأنعام /151.
وجاء في الحديث، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا) رواه البخاري ومسلم.
وظاهر هذا الحديث يدل على كفر المنتحر، لأن الخلود في النار والحرمان من الجنة جزاء الكفار عند أهل السنة والجماعة، ولكن لم يقل بكفر المنتحر أحد من علماء المذاهب الأربعة، لأن الكفر هو الإنكار والخروج عن دين الإسلام، وصاحب الكبيرة غير الشرك لا يخرج عن الإسلام عند أهل السنة والجماعة، وقد صحت الروايات أن العصاة من أهل التوحيد يعذبون ثم يخرجون من النار، الموسوعة الفقهية 6/291-292.
وليس من مذهب أهل السنة والجماعة تكفير أحد من المسلمين بذنب أصابه، قال صاحب العقيدة الطحاوية " ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب(3/47)
ما لم يستحله " شرح العقيدة الطحاوية /355.
وكلام الإمام الطحاوي ينطبق على مرتكب الكبيرة ما عدا الشرك، فإن مذهب أهل السنة والجماعة عدم تكفير مرتكب الكبيرة كما أسلفت إذا مات على عقيدة التوحيد، وإن لم يتب من معصيته ويدل على ذلك قول الرسول- صلى الله عليه وسلم -: (يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ من كان في قَلْبِهِ ذَرَّة مِنْ إيمان) رواه البخاري، فلو كان مرتكب الكبيرة يكفر بكبيرته لما سماه الله ورسوله مؤمناً.
وبعد هذه المقدمة أعود إلى جواب السؤال فأقول: إن جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية يرون أنه يصلى على قاتل نفسه، لأنه لم يخرج عن الإسلام بل هو فاسق والفسقة يصلى عليهم.
ورأى الحنابلة أن إمام المسلمين لا يصلي على من قتل نفسه، ويصلي عليه بقية الناس، قال الخرقي: " ولا يصلي الأمام على الغال ولا على من قتل نفسه " وقال ابن قدامة شارحاً ذلك: الغال هو الذي يكتم الغنيمة أو بعضها ليأخذه لنفسه ويختص به، فهذا لا يصلي عليه الإمام ولا على من قتل نفسه متعمداً، ويصلي عليه سائر الناس، نص عليهما أحمد " المغني 2/415.
ويدل على ذلك ما رواه مسلم، عن جابر بن سمرة قال: (أُتِيَ النَّبِي- صلى الله عليه وسلم - بِرَجُلٍ قَتَلَ نَفْسَهُ بِمَشَاقِصَ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ) ، والمشاقص سهام عراض مفردها مشقص.
وجاء الحديث في رواية أبي داود مفصلاً فعن جابر بن سمرة قال: (مَرِضَ رَجُلٌ فَصِيحَ عَلَيْهِ فَجَاءَ جَارُهُ إِلَى النبي- صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ مَاتَ، قَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ، قَالَ: أَنَا رَأَيْتُهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ، قَالَ: فَرَجَعَ فَصِيحَ عَلَيْهِ فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ مَاتَ، فَقَالَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ، قال: فَرَجَعَ فَصِيحَ عَلَيْهِ فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: انْطَلِقْ إِلَى رَسُولِ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبِرْهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ قَال: َ ثُمَّ انْطَلَقَ الرَّجُلُ فَرَآهُ قَدْ نَحَرَ نَفْسَهُ بِمِشْقَصٍ مَعَهُ، فَانْطَلَقَ إِلَى رسول الله- صلى الله عليه وسلم -(3/48)
فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ قَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ، قَالَ: رَأَيْتُهُ يَنْحَرُ نَفْسَهُ بِمَشَقِصَ مَعَهُ، قَالَ: أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إِذًا لاَ أُصَلِّيَ عَلَيْهِ) .
قال الشيخ الألباني إسناده صحيح على شرط مسلم، أحكام الجنائز 85.
فهذا الحديث يدل على أن النبي- صلى الله عليه وسلم - لم يصل على ذلك الرجل زجراً لغيره من الناس، ولكن الصحابة صلوا عليه.
وبناء على ما سبق فإن قاتل نفسه يصلى عليه صلاة الجنازة.
كيف يكون حال مشيع الجنازة
يقول السائل: كيف ينبغي أن يكون حال من يشيع الجنازة فإننا نرى كثيراً من الناس يحضرون الجنازات ويجلسون في المقبرة ويتحدثون ويتضاحكون منتظرين دفن الميت ثم يعزون أهل الميت ثم ينصرفون؟
الجواب: إتباع الجنازة والصلاة عليها وحضور دفنها من الأمور الثابتة عن الرسول- صلى الله عليه وسلم -، فقد ثبت في الحديث الصحيح، عن أبي هريرة- رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (حق المسلم على المسلم خمس، ردُّ السلام وعيادة المريض واتباع الجنائز وإجابة الدعوة وتشميت العاطس) رواه البخاري ومسلم.
وجاء في الحديث أيضاً عن أبي هريرة- رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من شهد الجنازة حتى يصلي عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان قيل: وما القيراطان، قال: مثل الجبلين العظيمين) رواه البخاري ومسلم.
وينبغي للمسلم الذي يحضر الجنازة عند تشييعها ودفنها، أن يستذكر مصيبة الموت وأن يتعظ ويتفكر في هذا الميت، وأن حال هذا المشيع سيصير إلى مثل ما صار إليه الميت، وهذا التذكر يدفع الإنسان إلى محاسبة النفس والنظر والتفكر في أحواله، فإن كان محسناً إزداد إحساناً وإن كان مسيئاً رجع(3/49)
وثاب إلى الرشد، وهذا التفكر والإتعاظ مقصود من حضور الجنائز فقد ورد في الحديث عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (عودوا المرضى واتبعوا الجنائز تذكّركم الآخرة) رواه أحمد وابن حبان وصححه وقال الشيخ الألباني: إسناده صحيح أحكام الجنائز 67.
وقد روي في الحديث (أنه عليه الصلاة والسلام، كان إذا اتبع جنازة أكثر الصمات، ورؤي عليه الكآبة وأكثر حديث النفس) رواه وكيع في الزهد، وله شاهد صحيح، فعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: (خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة فانتهينا إلى القبر فجلس كأن على رؤوسنا الطير) رواه ابن ماجة، وقال الشيخ الألباني: صحيح، انظر صحيح سنن ابن ماجة 1/259، وانظر المشكاة 15/537.
وقال الفضيل بن عياض: " كانوا إذا اجتمعوا في جنازة يعرف فيهم ثلاثة أيام "، ورأى عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - رجلاً يضحك في جنازة فقال: " أتضحك مع الجنازة! لا أكلمك أبداً ".
وكره العلماء أن يتكلم أحد في الجنازة ولا بقول القائل: " إستغفروا لأخيكم "، فقد سمع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رجلاً في جنازة يصيح ويقول: إستغفروا لأخيكم، فقال ابن عمر: لا غفر الله لك.
وسُئل سفيان بن عيينه عن السكوت في الجنازة وماذا يجيء به؟ قال: تذكر به حال يوم القيامة، ثم تلا قوله تعالى (وَخَشَعَتْ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا) سورة طه/108.
وقال قتادة: " بلغنا أن أبا الدرداء- رضي الله عنه -، نظر إلى رجل يضحك في جنازة فقال له: أما كان فيما رأيت من هول الموت ما يُشغلك عن الضحك ".
وكان مطرف يلقى الرجل من خاصة أهله في الجنازة فعسى أن يكون غائبا فما يزيده على السلام ثم يعرض عنه اشتغالاً بما هو فيه.
ذكر هذه الآثار السيوطي ثم قال: " فهذا خوف هؤلاء السادات من(3/50)
الموت فأما اليوم فغالب من تراه يشهد الجنازة يلهون ويضحكون، وما يتكلمون إلا في ميراثه وما خلفه لورثته " الأمر بالإتباع ص255.
وأخيراً نختم بما قاله الإمام النووي رحمه الله، قال: " يستحب له - أي الماشي مع الجنازة - أن يكون مشتغلاً بذكر الله تعالى والفكر فيما يلقاه وما يكون مصيره وحاصل ما كان فيه، وأن هذا آخر الدنيا ومصير أهلها، وليحذر كل الحذر من الحديث بما لا فائدة فيه، فإن هذا وقت فكر وذكر يقبح فيه الغفلة واللهو والإشتغال بالحديث الفارغ، فإن الكلام بما لا فائدة فيه منهيٌ عنه في جميع الأحوال فكيف هذا الحال.
واعلم أن الصواب المختار ما كان عليه السلف رضوان الله عليهم السكوت في حال السير مع الجنازة، فلا يرفع صوتاً بقراءة ولا ذكر ولا غير ذلك، والحكمة فيه ظاهرة وهي أنه أسكن لخاطره وأجمع لفكره فيما يتعلق بالجنازة وهو المطلوب في هذا الحال، فهذا هو الحق ولا تغترن بكثرة من يخالفه، فقد قال أبو علي الفضيل بن عياض- رضي الله عنه - ما معناه: إلزم طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين، الأذكار ص136.
إعداد الكفن قبل الموت
يقول السائل: هل يجوز للإنسان أن يُعد كفنه قبل موته، وإذا أوصى بأن يكفن في ثوب خاص فهل تنفذ وصيته، وهل يشترط في الكفن أن يكون غير مخيط، وورد أن أبا بكر - رضي الله عنه - أوصى بثوبه القديم أن يغسل ويكفن فيه، فهل يغني ذلك عن الكفن، أفيدونا؟
الجواب: إن تكفين الميت فرض على الكفاية، لأن النبي- صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك في أحاديث منها حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تحنطوه - أي لا تطيبوه لأنه كان محرماً - ولا تخمروا(3/51)
رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) رواه البخاري ومسلم.
ويجوز للمسلم أن يعد كفنه ويحضره مسبقاً، قال الإمام البخاري: " باب من استعد الكفن في زمن النبي- صلى الله عليه وسلم - فلم ينكر عليه "، ثم روى بسنده عن سهل - رضي الله عنه - (أن امرأة جاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - ببردة منسوجة فيها حاشيتها، أتدرون ما البردة؟ قالوا: الشملة، قال: نعم، قالت: نسجتها بيدي فجئت لأكسوكها، فأخذها النبي- صلى الله عليه وسلم - محتاجاً إليها، فخرج إلينا وإنها إزاره، فحسَّنها فلان فقال: أكسُنيها ما أحسنها، فقال القوم: ما أحسنت، لبسها النبي - صلى الله عليه وسلم - محتاجاً إليها وعلمت أنه لا يرد، قال: إني والله ما سألته لألبسها إنما سألته لتكون كفني، قال سهل: فكانت كفنه) .
قال الحافظ ابن حجر: ".... فيستفاد منه جواز تحصيل ما لا بد منه للميت من كفن ونحوه في حال حياته " فتح الباري 3/385.
وإذا أوصى الميت أن يكفن في كفن خاص، فلا بأس بتنفيذ وصيته إن لم يكن في ذلك حرمة، كمن يوصي بأن يكفن في ثوب من الحرير، فلا تنفذ وصيته إن كان رجلاً، وكذلك ما لم يكن هناك مغالاة بالكفن، فلا تنفذ وصيته لقوله- صلى الله عليه وسلم -: (لا تغالوا في الكفن فإنه يسلب سلباً سريعاً) رواه أبوداود وإسناده حسن، قاله النووي في المجموع 5/196.
وينبغي أن يكون الكفن حسناً، لما ثبت في الحديث عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (خطب يوماً فذكر رجلاً من أصحابه قبض فكفن في كفن غير طائل - أي غير كامل - وقبر ليلاً، فزجر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلى عليه، إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه) رواه مسلم وغيره، والمراد بإحسان الكفن نظافته وستره وتوسطه وليس المراد به السرف فيه والمغالاة ونفاسته " شرح النووي على صحيح مسلم 3/13.
ولا يشترط في الكفن أن لا يكون مخيطاً لأن النبي- صلى الله عليه وسلم - (ألبس عبد الله بن أبي قميصه لما مات) رواه البخاري، قال الحافظ ابن حجر: " والمعنى أن التكفين في القميص ليس ممتنعاً.... وإلى أن التكفين(3/52)
في غير قميص مستحب ولا يكره التكفين في القميص " فتح الباري 3/381.
والأفضل أن لا تخاط الأكفان، وهو المأثور من لدن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - إلى وقتنا الحاضر.
قال الحافظ ابن عبد البر: " وقد أجمعوا أن لا تخاط اللفائف، فدلَّ على أن القميص ليس مما يختار لأنه مخيط " الإستذكار 8/212.
ويدرج الميت في الكفن إدراجاً كما أدرج النبي- صلى الله عليه وسلم -، ولا ينبغي أن يزاد في الكفن عن ثلاثة أثواب، كما كُفّن الرسول- صلى الله عليه وسلم -، فقد ثبت في الحديث عن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة) رواه البخاري، وسحولية نسبة إلى (سحول) بلد في اليمن.
وأما ما ورد عن أبي بكر- رضي الله عنه - فقد روى البخاري عن عائشة في قصة وفاة أبيها قالت: " فنظر - أي أبو بكر- إلى ثوب عليه كان يمرّض فيه، به ردع من زعفران فقال: اغسلوا ثوبي هذا فزيدوا عليه ثوبين فكفنوني فيهما، قلت: إن هذا خلق، فقال: إن الحي أحق بالجديد من الميت، إنما هو للمهلة - أي للصديد- ".
وفي رواية أخرى قال أبو بكر لعائشة: " انظروا ثوبيَّ هذين فاغسلوهما ثم كفنوني فيهما فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت " رواه أحمد في كتاب الزهد.
وروى عبد الرزاق نحوه وقال الحافظ إسناده صحيح نصب الراية 2/262.
وقول أبي بكر ووصيته في أن يكفن في الثوب القديم، يحتمل أن يكون اختار ذلك الثوب بعينه لمعنى فيه من التبرك به، لكونه صار إليه من النبي- صلى الله عليه وسلم - أو لكونه جاهد فيه أو تعبد فيه ويؤيده ما ورد في إحدى الروايات أنه قال: " كفنوني في ثوبيَّ اللذين كنت أصلي فيهما " ذكره الحافظ في الفتح 3/497، وقول أبي بكر ووصيته لا يغني عن الكفن لما ثبت في الرواية التي ذكرتها وهي عند البخاري أنه قال: " وزيدوا عليه ثوبين فكفنوني فيهما ".(3/53)
حكم الدفن في الفساقي
يقول السائل: ما حكم الدفن في الفساقي؟
الجواب: إن الأصل أن يدفن كل ميت في قبر لوحده، وينبغي أن يكون القبر عميقاً، يمنع خروج الرائحة ويمنع الحيوانات المفترسة من الوصول إلى جثة الميت، ويجوز دفن أكثر من ميت في قبر واحد عند الضرورة لما ثبت في الحديث عن جابر بن عبد الله قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الرجلين والثلاثة من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟ فإذا أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد....) رواه البخاري وغيره.
وأما الدفن في الفسقية وهي كبيتٍ معقودٍ بالبناء يوضع فيه الأموات الواحد بجانب الآخر، فقد كره كثير من أهل العلم الدفن فيها، لمخالفتها للسنة، قال الإمام السبكي: " في الإكتفاء بالفساقي نظر، لأنها ليست على هيئة الدفن المعهود شرعاً قال: وقد أطلقوا تحريم إدخال ميت على ميت لما فيه من هتك حرمة الأول وظهور رائحته، فيجب إنكار ذلك، ونقل الخطيب الشربيني عن بعض شرَّاح المنهاج أنه قال: " إنه لا يكفي الدفن فيما يصنع الآن ببلاد مصر والشام وغيرهما من عقد أزج واسع أو مقتصد شبه بيت لمخالفته الخبر وإجماع السلف وحقيقته بيت تحت الأرض فهو كوضعه في غار ونحوه ويسد بابه، ثم قال الشربيني: وهذا ظاهر لأنه ليس بدفن كما أشار إلى ذلك ابن الصلاح والأذرُعي وغيرهما " مغني المحتاج 2/36 - 37.
وقال الشيخ ابن عابدين: " ويكره الدفن في الفساقي.... لمخالفتها السنة، والكراهة من وجوه كثيرة: عدم اللحد ودفن جماعة في قبر واحد بلا ضرورة، واختلاط الرجال بالنساء بلا حاجز، وتجصيصها والبناء عليها.... وخصوصاً إن كان فيها ميت لم يبل " حاشية ابن عابدين 2/233.
فإن وجدت ضرورة للدفن في الفساقي كما هو الحال في بعض المدن(3/54)
بسبب ضيق المقابر، فيجب أن يراعى أن لا يفتح على ميت قبل أن تبلى عظامه، ولا بد من وضع حاجز بين كل ميت وآخر، وينبغي أن لا يكون الميت مكشوفاً، فقد أخبرني بعض الناس أنهم يضعون الميت في الفسقية دون أن يغطوه بشيء وهذا مخالف للسنة.
وينبغي التذكير بالمحافظة على حرمة الأموات لأن المسلم محترم حياً وميتاً وقد جاء في الحديث أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: (إن كسر عظم المؤمن ميتاً مثل كسره حياً) رواه أبو داود وابن ماجة وابن حبان وغيرهم وهو صحيح كما قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 3/314.
زيارة النساء للقبور محظورة
يقول السائل: ما حكم زيارة النساء للقبور؟
الجواب: إن زيارة النساء للقبور ممنوعة شرعاً، على القول الراجح من أقوال أهل العلم، لأنه ثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة- رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لعن الله زائرات القبور) رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد وابن حبان.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان، وهو حديث صحيح.
وعن علي- رضي الله عنه - قال: (خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، فإذا نسوة جلوس فقال: ما يجلسكن؟ قلن: ننتظر الجنازة قال: هل تغسلن؟ قلن: لا، قال هل تدلين فيمن يدلي؟ قلن: لا، قال: فارجعن مأزورات غير مأجورات) رواه البيهقي وابن ماجة وفي سنده اختلاف.
وغير ذلك من الأحاديث التي دلت على تحريم زيارة النساء للقبور، فهذه أحاديث صريحة في معناها، فإن رسول الله عليه الصلاة والسلام لعن(3/55)
النساء على زيارة القبور، واللعن على الفعل من أول الدلائل على تحريمه، ولا سيما وقد قرنه في اللعن بالمتخذين عليها المساجد والسرج.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " فإن قيل فالنهي عن ذلك منسوخ، كما قال أهل القول الآخر، قيل هذا ليس بجيد، لأن قوله (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها) هذا خطاب للرجال دون النساء فإن اللفظ لفظ مذكر وهو مختص بالذكور، أو متناول لغيرهم بطريق التبع فإن كان مختصاً بهم فلا ذكر للنساء وإن كان متناولاً لغيرهم كان هذا اللفظ عاماً وقوله: (لعن الله زوارات القبور) خاص بالنساء دون الرجال، ألا تراه يقول (لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج) ، فالذين يتخذون عليها المساجد والسرج لعنهم الله، سواء أكانوا ذكوراً أو إناثاً وأما الذين يزورون فإنما لعن النساء الزوارات دون الرجال، وإذا كان هذا خاصاً ولم يعلم أنه متقدم على الرخصة كان متقدماً على العام عند عامة أهل العلم كذلك لو علم أنه كان بعدها " مجموع فتاوى شيخ الإسلام 24/361,360
ملحوظة..
ظهر لي رجحان القول بمنع النساء من زيارة القبور، خلافاً لما قررته في الجزء الأول ص 76 الطبعة الثانية، من جواز زيارة النساء للقبور.
وقد رجعت عن القول بالجواز وصرت إلى المنع نظراً لقوة الأدلة الواردة في ذلك فاقتضى التنويه.
لا يشترط طهارة المرأة عند حضورها المحتضر
يقول السائل: إنه سمع أحد أئمة المساجد يقول: إنه لا يجوز للمرأة الحائض أن تحضر عند المريض المحتضر الذي يكون على فراش الموت، فما قولكم في ذلك؟(3/56)
الجواب: إن الحيض لا يمنع حضور المرأة عند المحتضر ولا أعلم دليلاً شرعياً على هذا المنع والحيض عند أهل العلم يمنع الصلاة والصيام ومس المصحف وقراءة القرآن، ولا أعلم أن أحداً من أهل العلم اشترط الطهارة من الحيض للحضور عند المحتضر، وكيف تُمنع المرأة من ذلك وقد يكون المحتضر أحد والديها أو زوجها أو أحد أبنائها أو أحد إخوتها أو أخواتها.
وهذا الكلام لا يصح، إنما هو من أوهام العوام.
والله الهادي إلى سواء السبيل(3/57)
الزكاة(3/59)
دفع الزكاة للأقارب
يقول السائل: هل يجوز دفع الزكاة للأقارب؟
الجواب: من المعلوم أن الله سبحانه وتعالى قد بين مصارف الزكاة في كتابه الكريم يقول تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) سورة التوبة /60.
وصرف الزكاة لأِقارب المزكي فيه تفصيل عند أهل العلم أبينه فيما يلي:
أولاً: لا يجوز صرف الزكاة للوالدين بإتفاق أهل العلم، نقل الشيخ ابن قدامة المقدسي عن ابن المنذر قوله: " أجمع أهل العلم على أن الزكاة لا يجوز دفعها إلى الوالدين في الحال التي يجبر الدافع إليهم على النفقة، ولأن دفع زكاته إليهم تغنيهم عن نفقته وتسقطها عنه ويعود نفعها إليه، فكأنه دفعها إلى نفسه فلم تجز كما لو قضى بها دينه " المغني 2/282.
ثانياً: لا يجوز صرف الزكاة للأولاد ذكوراً وإناثاً، لأن أولاد الرجل جزء منه وهو ملزم بالإنفاق عليهم، ومن يدفع الزكاة لأولاده يكون كمن دفع المال إلى نفسه، انظر فقه الزكاة 2/781.(3/61)
ثالثاً: لا يجوز للزوج أن يصرف الزكاة إلى زوجته، لأن نفقة الزوجة واجبة على زوجها بإتفاق أهل العلم، قال ابن رشد القرطبي المالكي: " واتفقوا على أن من حقوق الزوجة على زوجها النفقة والكسوة، لقوله تعالى: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) سورة البقرة /233، ولما ثبت من قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف) ، ولقوله عليه الصلاة والسلام لهند زوجة أبي سفيان: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) بداية المجتهد 2/45.
فإذا أعطى الزوج زكاة ماله لزوجته فقد دفع المال إلى نفسه.
رابعاً: يجوز للزوجة الغنية أن تدفع زكاة مالها الخاص بها لزوجها الفقير لأنه لا يجب على المرأة الإنفاق على زوجها الفقير.
ويدل على الجواز ما ورد في الحديث عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن قالت: فرجعت إلى عبد الله فقلت: إنك رجل خفيف ذات اليد - أي فقير - وإن الرسول- صلى الله عليه وسلم - قد أمرنا بالصدقة فاته فاسأله، فإن كان ذلك يجزي عني، وإلا صرفتها لغيركم، قالت: فقال عبد الله: بل ائتيه أنت، قالت: فانطلقت فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله- صلى الله عليه وسلم - حاجتي حاجتها، قالت: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ألقيت عليه المهابة، قالت: فخرج علينا بلال فقلنا له: إئت رسول الله فأخبره أن امرأتين بالباب يسألانك: أتجزي الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما ولا تخبر من نحن قالت: فدخل بلال فسأله فقال له: من هما؟ فقال: امرأة من الأنصار وزينب فقال الرسول: أي الزيانب؟ فقال امرأة عبد الله فقال - صلى الله عليه وسلم - لهما أجران، أجر القرابة وأجر الصدقة) متفق عليه.
وذهب إلى العمل بمقتضى هذا الحديث جمهور أهل العلم فقالوا: يجوز للزوجة أن تعطي زكاة مالها لزوجها.
قال الشيخ الشوكاني: " والظاهر أنه يجوز للزوجة صرف زكاتها إلى زوجها، أما أولاً: فلعدم المانع من ذلك ومن قال إنه لا يجوز فعليه(3/62)
الدليل، وأما ثانياً: فلأن ترك استفصاله - صلى الله عليه وسلم - لها ينزل منزلة العموم، فلما لم يستفصلها عن الصدقة هل هي تطوع أو واجب، فكأنه قال: يجزي عنك فرضاً كان أو تطوعاً " نيل الأوطار 4/199.
وقال القرطبي: " واختلفوا في إعطاء المرأة زكاتها لزوجها.... وقال أبو حنيفة: لا يجوز، وخالفه صاحباه فقالا: يجوز، وهو الأصح لما ثبت أن زينب امرأة عبد الله أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ذكر الحديث السابق - ثم قال: والصدقة المطلقة هي الزكاة ولأنه لا نفقة للزوج عليها.... " القرطبي 8/190.
وقال الشيخ ابن قدامة: " وليس في المنع نص ولا إجماع " المغني 2/485.
خامساً: لا يجوز إعطاء الزكاة لبقية الأقارب الذين تجب نفقتهم على المزكي، وهناك خلاف بين أهل العلم في النفقة على الأقارب غير الأصول والفروع والزوجة، مثل الأخ أو الأخت والعم والعمة والخال والخالة وغيرهم.
والقول الراجح في ذلك هو: إن النفقة تجب على ذي الرحم الوارث، سواء ورث بفرض أو تعصيب أو برحم وهذا ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
وبناء على ذلك لا يجوز أن يعطي الرجل زكاة ماله لمن وجبت عليه نفقته، فمثلاً أخرج المزكي زكاة ماله وله عمة وليس لها من ينفق عليها إلا المزكي المذكور، فلا يجوز أن يعطيها من زكاة ماله.
وهذا الأساس الذي بني عليه الحكم في المنع من إعطاء الزكاة للأقارب إذا كانت النفقة واجبة على المزكي، قال به جماعة من أهل العلم من السلف والخلف فمن ذلك ما رواه ابن أبي شيبة بإسناده عن أبي حفصة قال: " سألت سعيد بن جبير عن الخالة تعطى من الزكاة فقال: ما لم يغلق عليكم باباً " المصنف 3/192، - أي ما لم يضمها إلى عياله -.(3/63)
وما رواه أيضاً بإسناده عن عبد الملك قال: قلت لعطاء: " أيجزي الرجل أن يضع زكاته في أقاربه، قال: نعم إذا لم يكونوا في عياله " المصنف 3/192.
وما رواه أيضاً عن سفيان الثوري أنه قال: " لا يعطيها من تجب عليه نفقته" المصنف 3/192
وروى أبو عبيد القاسم بن سلام بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " إذا لم تعط منها أحداً تعوله فلا بأس ".
وقال أبو عبيد: قال لي عبد الرحمن: " إنما كرهوا ذلك لأن الرجل إذا ألزم نفسه نفقتهم وضمهم إليه ثم جعل ذلك بعده إلى الزكاة كان كأنه قد وقى ماله بزكاته" الأموال ص695
ورواه الأثرم في سننه بلفظ آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " إذا كان ذووا قرابة فأعطهم من زكاة مالك وإن كنت تعولهم فلا تعطهم ولا تجعلها لمن تعول " نيل الأوطار 4/200.
سادساً: إن لم تكن نفقة القريب واجبة على المزكي، فيجوز إعطاؤه من الزكاة، فيجوز إعطاء عمك وخالك وعمتك وخالتك وأختك المتزوجة وأخيك وابن أخيك وابن أختك وزوج أختك ونحوهم إن كانوا فقراء، ولم تكن ملزماً بالإنفاق عليهم، بل هؤلاء الأقارب في هذه الحالة أولى بالزكاة من غيرهم، وللمزكي إن أعطى الزكاة لأقاربه أجران أجر الصدقة وأجر الصلة، لما ثبت في الحديث عن سلمان بن عامر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الصدقة على المسكين صدقة وهي على ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة) رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن، ورواه الحاكم وقال: إسناده صحيح ووافقه الذهبي وحسنه الشيخ الألباني في إرواء الغليل 3/387.
وجاء في الفتاوى الهندية: " والأفضل في الزكاة والفطر والنذور والصرف أولاً إلى الأخوة والأخوات، ثم إلى أولادهم، ثم إلى الأعمام والعمات، ثم إلى أولادهم ثم إلى الأخوال والخالات، ثم إلى أولادهم، ثم(3/64)
إلى ذوي الأرحام ثم إلى الجيران ثم إلى أهل حرفته ثم إلى أهل مصره أو قريته " الفتاوى الهندية 1/190.
سابعاً: يجوز إعطاء الزكاة للبنت المتزوجة من فقير، لأن نفقة البنت بعد زواجها واجبة على الزوج لا على أبيها.
ثامناً: يجوز قضاء ديون الأقارب من الزكاة، حتى وإن وجبت نفقتهم على المزكي فيجوز قضاء دين الأب ودين والأم ودين الإبن ودين البنت وغيرهم من الأقارب، بشرط أن لا يكون سبب هذا الدين تحصيل نفقة واجبة على المزكي، لأن ديون الأقارب بما فيها ديون الوالدين والأولاد لا يجب شرعاً على المرء أن يؤديها عنهم، فيجوز قضاء الدين عنهم من الزكاة لأنهم يعتبرون هنا في هذه الحالة من الغارمين فهم يستحقون الزكاة هنا بوصف لا تأثير للقرابة فيه.
قال الإمام النووي: " قال أصحابنا ويجوز أن يدفع إلى ولده ووالده من سهم العاملين والمكاتبين والغارمين والغزاة، إذا كان بهذه الصفة...." المجموع 6/229، وراجع فقه الزكاة للقَرَضَاوي 2/716، وفتاوى الصيام للشيخ ابن عثيمين ص48-49.
لا يجوز احتساب الدين من الزكاة
يقول السائل: هل يجوز لمن وجبت عليه الزكاة وله ديون على شخص فقير، أن يسقط الدين عن الفقير ويحتسبه من الزكاة؟
الجواب: لا يجوز احتساب الدين الذي على الفقير من مال الزكاة، على الراجح من أقوال أهل العلم لما ورد في الحديث الشريف من قول الرسول- صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذاً إلى اليمن فقال له: (.. أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم) رواه البخاري ومسلم.
فلا بد في الزكاة من أخذها من الأغنياء، ثم ردها إلى الفقراء،(3/65)
وإسقاط الدين عن الفقير لا يعتبر، لا أخذاً من الأغنياء ولا رداً على الفقراء، وهذا قول جماهير أهل العلم الحنفية والمالكية والحنابلة وهو أصح القولين في مذهب الشافعية، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو قول أبي عبيد القاسم بن سلام وسفيان الثوري وغيرهم.
قال الإمام النووي: " إذا كان لرجل على معسر دين، فأراد أن يجعله من زكاته وقال له جعلته عن زكاتي فوجهان حكاهما صاحب البيان أصحهما لا يجزئه، وبه قطع الصيمري، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد، لأن الزكاة في ذمته فلا يبرأ إلا بإقباضها.... الخ " المجموع 6/210.
وقال الإمام القرافي "لا يخرج في زكاته إسقاط دينه عن الفقير لأنه مستهلك عند الفقير" الذخيرة 3/153.
وقال ابن قدامه: " قال مهنا: سألت أبا عبد الله - يعني الإمام أحمد - عن رجل له دين برهن وليس عنده قضاؤه، ولهذا الرجل زكاة مال يريد أن يفرقها على المساكين فيدفع إليه رهنه ويقول له: الدين الذي لي عليك هو لك ويحسبه من زكاة ماله، قال -أحمد- لا يجزيه ذلك، ثم قال ابن قدامة معللاً ذلك: لأن الزكاة لحق الله تعالى، فلا يجوز صرفها إلى نفعه، ولا يجوز أن يحتسب الدين الذي له من الزكاة قبل قبضه، لأنه مأمور بأدائها وإيتائها وهذا إسقاط، والله أعلم " المغني 2/487.
وسُئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن إسقاط الدين عن المعسر، هل يجوز أن يحسبه من الزكاة؟ فأجاب: " وأما إسقاط الدين عن المعسر فلا يجزئ عن زكاة العين بلا نزاع" الفتاوى 25/84.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: " وكان سفيان بن سعيد الثوري فيما حكوا عنه يكرهه ولا يراه مجزئاً - أي إسقاط الدين واحتسابه من الزكاة - فسألت عنه عبد الرحمن، فإذا هو على مثل رأي سفيان، ولا أدري لعله قد ذكره عن مالك أيضاً، وكذلك هو عندي غير مجزئ عن صاحبه، لخلال اجتمعت فيه:
أما إحداها: فإن سنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم - في الصدقة كانت على خلاف(3/66)
هذا الفعل، لأنه إنما كان يأخذها من أعيان المال عن ظهر الأغنياء ثم يردها في الفقراء، وكذلك كانت الخلفاء بعده ولم يأتنا عن أحد منهم أنه أذن لأحد في احتساب دين من زكاة، وقد علمنا أن الناس قد كانوا يدانون به في دهرهم - أي يتداينون -.
الثانية: أن هذا المال ثاوٍ - أي هالك أو ضائع - غير موجود قد خرج من يد صاحبه على معنى القرض والدين، ثم هو يريد تحويله بعد التواء إلى غيره بالنية، فهذا ليس بجائز في معاملات الناس بينهم حتى يقبض ذلك الدين ثم يستأنف الوجه الأخر فكيف يجوز فيما بين العباد وبين الله عز وجل.
الثالثة: أني لا آمن أن يكون إنما أراد أن يقي ماله بهذا الدين قد يئس منه فيجعله ردءاً لماله يقيه به إذا كان منه يائساً.... وليس يقبل الله تبارك وتعالى إلا ما كان له خالصاً " الأموال ص533 - 534.
وبهذا يظهر لنا أنه لا يجوز إسقاط الدين واحتسابه من الزكاة.
حكم استثمار أموال الزكاة
يقول السائل: هل يجوز للجان الزكاة أن تقوم بإستثمار أموال الزكاة في مشاريع إقتصادية تعود بالنفع على الفقراء والمساكين وبقية المستحقين للزكاة؟
الجواب: من المعلوم أن الزكاة واجبة على الفور، على الراجح من أقوال أهل العلم ويدل على ذلك قوله تعالى: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) سورة الأنعام/141.
ويدل على ذلك أيضاً، ما ثبت في الحديث الصحيح عن عقبة بن الحارث - رضي الله عنه - قال: (صلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - العصر فأسرع ثم دخل بيته فلم يلبث أن خرج، فقلت له، أو قيل له، فقال: كنت خلَّفت في البيت تبراً من الصدقة فكرهت أن أبيَّته فقسمته) رواه البخاري.(3/67)
وقال الإمام النووي: " قد ذكرنا أن مذهبنا أنها إذا وجبت الزكاة وتمكن من إخراجها، وجب الإخراج على الفور، فإن أخرها أثم، وبه قال مالك وأحمد وجمهور العلماء " المجموع 5/335
واستثمار أموال الزكاة فيما أرى أنه يتعارض مع الفورية في إيصال الزكاة إلى مستحقيها، ممن ذكرهم الله سبحانه وتعالى في آية مصارف الزكاة، لأن استثمار أموال الزكاة في المشاريع المختلفة يؤدي إلى انتظار أرباحها، وبالتالي يؤدي إلى تأخير توزيعها.
كما أن استثمار أموال الزكاة قد يعرضها للخسارة، لأن التجارة والإستثمار تحتمل الربح والخسارة.
كما وأنه يخشى على أموال الزكاة إذا استثمرت من الضياع إذا تولتها أيد غير أمينة، وخاصة أننا نعيش في مجتمع قد خربت فيه ذمم كثير من الناس وكثر فيه الطمع وقَّل فيه الورع.
هذا هو الأصل في المسألة.
وبالرغم مما قلت وبينت، إلا أنه يجوز في ظروف خاصة استثمار أموال الزكاة إذا توفرت بعض الشروط وهي:
أولاً: أن يتم تغطية الحاجات المستعجلة للفقراء والمساكين وبقية المستحقين للزكاة، فإن فاضت أموال الزكاة وزادت عن سد الحاجات الأساسية للمستحقين لها - وما أظنها في مجتمعنا تفيض أو تزيد - فحينئذ يجوز استثمار أموال الزكاة، وأما إن لم تكف أموال الزكاة الحاجات الأساسية للمستحقين لها فلا يصح تأخير صرف الزكاة بحجة استثمارها.
ثانياً: أن يتم استثمار أموال الزكاة في مجالات مشروعة، فلا يجوز استثمارها في البنوك الربوية مقابل الربا (الفائدة) .
ثالثاً: أن لا توضع أموال الزكاة في مشاريع استثمارية إلا بعد دراسة الجدوى الإقتصادية من تلك المشاريع، وأنه يغلب على الظن أن تكون رابحة بإذن الله.(3/68)
رابعاً: أن يتولى الإشراف على استثمار أموال الزكاة أيد أمينة تقية زاهدة في تلك الأموال ومتبرعة بالعمل لله تعالى، انظر أبحاث فقهية في قضايا الزكاة المعاصرة 2/516 فما بعدها.
خامساً: أن ينتفع من الأموال المستثمرة وأرباحها المستحقون للزكاة فقط.
وقد قرر مجمع الفقه الإسلامي جواز استثمار أموال الزكاة من حيث المبدأ، فقد جاء في القرار ما يلي:
يجوز من حيث المبدأ توظيف أموال الزكاة في مشاريع استثمارية تنتهي بتمليك أصحاب الاستحقاق للزكاة أو تكون تابعة للجهة الشرعية المسؤولة عن جمع مال الزكاة وتوزيعها على أن تكون بعد تلبية الحاجة الماسة الفورية للمستحقين وتوافر الضمانات الكافية للبعد عن الخسائر، مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 3 ج1/421.
ومما يستأنس به لجواز استثمار أموال الزكاة، ما ورد عن النبي- صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين أنهم كانوا يستثمرون أموال الصدقة من إبل وغنم، كما في قصة العرنيين الذين وفدوا على المدينة ثم مرضوا، فأمرهم الرسول- صلى الله عليه وسلم - أن يأتوا إبل صدقة فيشربوا ألبانها.... الخ) الحديث الشريف الذي رواه البخاري في صحيحه.
وكذلك ورد في الحديث عن أنس بن مالك- رضي الله عنه - قال: (أن رجلاً من الأنصار أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله فقال: أما في بيتك شيء؟ فقال: بلى، حلسٌ نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب نشرب فيه الماء، فقال: إئتني بهما، فأتاه بهما فأخذهما رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بيده وقال: من يشتري هذين؟ فقال رجلٌ: أنا آخذهما بدرهم قال: من يزيد على درهم؟ مرتين أو ثلاثاً، فقال رجل: أنا آخذهما بدرهمين فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري وقال: إشتر بأحدهما طعاماً فانبذه إلى أهلك واشتر بالآخر قدوماً فأتني به، فشد رسول الله- صلى الله عليه وسلم - عوداً بيده ثم قال: إذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوماً، فذهب الرجل يحتطب ويبيع،(3/69)
فجاء وقد أصاب خمسة عشر درهماً فاشترى ببعضها ثوباً وببعضها طعاماً، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: هذا خير لك أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، وإن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو لذي دم موجع) رواه أبو داود والبيهقي، وقال الشيخ الألباني: صحيح لشواهده، انظر صحيح الترغيب والترهيب 1/350.
وقاسوا استثمار أموال الزكاة على استثمار أموال الأيتام كما ورد في الحديث (ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة) رواه الترمذي والدارقطني والبيهقي وهو مرسل رجاله ثقات ويتقوى بما ورد عن الصحابة، وقال العراقي إسناده صحيح، انظر إرواء الغليل 3/260.
وقالوا أيضاً: إن معنى سداد العيش الوارد في الحديث الشريف، يدل على أن سداد العيش المستثمر بعمل الفقير القادر على العمل في أموال الزكاة المستمرة أولى وأفضل من أن يعطى لفترة قصيرة ويعود مستحقاً " مجلة مجمع الفقه الإسلامي عدد 3 ج1/372.
وقالوا أيضاً: إن أموال الزكاة التي تصرف مباشرة على المستحقين، فإن هؤلاء المستحقين ينتفعون منها انتفاعاً آنياً، أما الأموال التي تستثمر في مشاريع فإن نفعها سيستمر ويعود النفع على المستحقين باستمرار، وإن عملية استثمار أموال الزكاة ما هي إلا من باب تنظيم صرف الزكاة.
وخلاصة الأمر، فإن الأصل العام في هذه المسألة هو عدم جواز استثمار أموال الزكاة إلا في حالات خاصة وبالشروط التي ذكرتها، لأن الفورية في إيصال الزكاة لمستحقيها أمر واضح من الأدلة الشرعية، ولأن الزكاة شعيرة من شعائر الإسلام التي يجب المحافظة عليها محافظة تامة، ولا ينبغي فتح هذا الباب خشية أن يؤدي إلى ضياع حقوق المستحقين للزكاة وحتى لا يدخل من هذا الباب الطامعون في أموال الزكاة، فتضيع هذه الأموال بحجة الاستثمار.
وأخيراً أؤكد على أنه بالنظر إلى حالة الفقر المنتشرة في بلادنا، بسبب الظروف التي نعيشها، فإني أعتقد أن أموال الزكاة التي تجمع، لا تفي(3/70)
بحاجات الفقراء والمساكين الأصلية حتى تقوم لجان الزكاة باستثمارها.
يصح إعطاء المتضررين من السيول والعواصف من الزكاة
يقول السائل: هل يجوز أن أعطي الناس الذين تضرروا بسبب العواصف والسيول من أموال الزكاة؟
الجواب: نعم يجوز أن يُعطى من مال الزكاة الذين تضرروا من السيول والعواصف، فخربت بيوتهم وتلفت مزارعهم ولم يعد لهم شيء، لأن هؤلاء يعتبرون من الغارمين وهم أحد مصارف الزكاة الثمانية المذكورة في قوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) سورة التوبة/60.
والغارمون هم الذين ركبهم الدين ولا مال عندهم، كما قال الشيخ القرطبي في تفسيره 5/183.
ويُعتبر من أصابتهم الكوارث الطبيعية من هذا الصنف، قال د. يوسف القرضاوي: " وأخَصُ من ينطبق عليه هذا الوصف - الغارمون - أولئك الذين فاجأتهم كوارث الحياة ونزلت بهم جوائح اجتاحت مالهم واضطرتهم إلى الإستدانة لأنفسهم وأهليهم.
فعن مجاهد قال: ثلاثة من الغارمين، رجل ذهب السيل بماله، ورجل أصابه حريق فذهب بماله، ورجل له عيال وليس له مال فهو يدان وينفق على عياله " رواه ابن أبي شيبة في المصنف 3/207، وانظر فقه الزكاة 2/623.
ويدل على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: تحملت حمالة فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها، قال: ثم قال: (يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة، رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم(3/71)
يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو قال سداداً من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه لقد أصابت فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو قال سداداً من عيش فما سواهن في المسألة يا قبيصة سحتاً يأكلها صاحبها سحتاً) صحيح مسلم 3/109 - 110.
والحمالة هي ما يتحمله عن غيره من دية أو غرامة، والجائحة هي الآفة المهلكة للثمار والأموال.
قال صاحب عون المعبود: " من أصاب ماله آفة سماوية أو أرضية كالبرد والغرق ونحوه بحيث لم يبق له ما يقوم بعيشه حلت له المسألة حتى يحصل له ما يقوم بحاله ويسد خلته " عون المعبود 3/36.
ويدل على دخول هؤلاء في الغارمين فتجوز لهم المسألة ويعطون من الزكاة ما ورد في الحديث"عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده معاوية بن حيدة - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله إنا قوم نتساءَل أموالنا، قال: (يتساءَل الرجل في الجائحة والفتق ليصلح به بين قومه فإذا بلغ أو كرب استعف) رواه أحمد وذكره الهيثمي وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات، مجمع الزوائد 3/100.
وقوله نتساءَل، أي يسأل بعضنا بعضاً في الأموال، وقوله والفتق أي الحرب تكون بين القوم تقع فيها الجراحات والدماء، وقوله فإذا بلغ أو كرب، أي فإذا بلغ مقصده بالسؤال أو قارب ذلك استعف " الفتح الرباني 9/67.
تعجيل الزكاة
يقول السائل: إن له قريباً فقيراً وبحاجة ماسة إلى المال، وقد أخرجت زكاة مالي لهذه السنة، فهل يجوز لي أن أعطي قريبي من زكاة مالي عن السنة القادمة؟(3/72)
الجواب: يجوز تعجيل زكاة الأموال التي يشترط لها الحول قبل حلول الحول، على الراجح من أقوال أهل العلم، وهو قول الحسن البصري وسعيد بن جبير والزهري والأوزاعي والحنفية والشافعية والحنابلة، وهو قول إسحاق بن راهويه وأبو عبيد القاسم ابن سلام وغيرهم، انظر المغني 2/470، ويدل على ذلك أحاديث منها:
- عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - (أن العباس بن عبد المطلب عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سأل الرسول عليه الصلاة والسلام في تعجيل صدقته قبل أن تحلَّ، فرخص له في ذلك) رواه الترمذي وأبو داود وغيرهما.
وقال الإمام النووي: " وإسناده حسن " المجموع 6/145، وقال الشيخ الألباني: حديث حسن، صحيح سنن الترمذي 1/207.
- وعن علي أيضاً، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر بن الخطاب: (إنا أخذنا زكاة العباس عام الأول للعام) رواه أبو داود والترمذي، وقال الشيخ الألباني: حسن أيضاً صحيح سنن الترمذي 1/207،
- وفي رواية أخرى عن علي أيضاً، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنا كنا احتجنا فاستسلفنا من العباس صدقة عامين) قال البيهقي: وهذا مرسل.
قال الإمام النووي بعد أن ذكر الأدلة على جواز تعجيل الزكاة: " إذا عرفت هذا، حصل الاستدلال على جواز التعجيل من مجموع ما ذكرنا، وقد قدمنا في أول هذا الشرح أن الشافعي يحتج بالحديث المرسل إذا اعتضد بأحد أربعة أمور، وهي أن يسند من جهة أخرى أو يرسل، أو يقول بعض الصحابة أو أكثر العلماء به فمتى وجد واحد من هذه الأربعة جاز الاحتجاج به، وقد وجد في هذا الحديث المذكور عن علي - رضي الله عنه -، بأنه روي في الصحيحين معناه من حديث أبي هريرة السابق وروى هو أيضاً مرسلاً ومتصلاً كما سبق، وقال به من الصحابة ابن عمر، وقال به أكثر العلماء كما نقله الترمذي، فحصلت الدلائل المتظاهرة على صحة الاحتجاج به، والله أعلم " المجموع 6/146.
وحديث أبي هريرة الذي أشار إليه الإمام النووي، هو ما رواه(3/73)
البخاري ومسلم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصدقة، فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد وعباس بن عبد المطلب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله رسوله، وأما خالد، فإنكم تظلمون خالداً فقد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله، وأما العباس بن عبد المطلب، فعم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهي عليه صدقة ومثلها معها) .
وفي رواية أخرى: (وأما العباس فهي عَلَيَّ ومثلها معها) رواه مسلم.
وقد اختلف أهل العلم في المراد بكلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حق صدقة العباس على أقوال منها ما قاله الحافظ ابن حجر: " وقيل معنى قوله (عَلَيَّ) أي هي عندي قرض، لأنني استلفت منه صدقة عامين، وقد ورد ذلك صريحاً بما أخرجه الترمذي وغيره من حديث علي "، - ثم ذكر الروايات الواردة في تعجيل العباس صدقته وبين حال إسنادها - ثم قال: ".... وليس ثبوت هذه القصة في تعجيل صدقة العباس ببعيد في النظر بمجموع هذه الطرق، والله أعلم " فتح الباري 4/76.
قال الشيخ الألباني: " قلت: وهو الذي نجزم به لصحة سندها مرسلاً وهذه شواهد لم يشتد ضعفها فهو يتقوى بها ويرتقي إلى درجة الحسن على أقل الأحوال" إرواء الغليل 3/49.
وقال الإمام النووي في شرح قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فهي عليَّ ومثلها معها) " والصواب أن معناه تعجلتها منه وقد جاء في حديث آخر في غير مسلم (إنا تعجلنا منه صدقة عامين) شرح النووي على صحيح مسلم 3/49.
ومما يدل على جواز تعجيل الزكاة، ما ورد في جواز تعجيل صدقة الفطر قبل وقت الوجوب، كما هو مذهب جمهور أهل العلم، وقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما، (أنه كان يبعث بزكاة الفطر إلى الذي تجمع عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة) رواه مالك في الموطأ والبيهقي في السنن وغيرهما.
ومما احتج به العلماء على جواز تعجيل الزكاة قبل حلول الحول،(3/74)
قياس ذلك على جواز الكفارة قبل الحنث، لما ثبت في أحاديث كثيرة منها، قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من حلف على يمين، فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه، وليأت الذي هو خير) رواه مسلم.
وقد أجاز الحنفية تعجيل زكاة سنوات كثيرة، وأجاز الحسن البصري أن يعجلها لثلاث سنوات فقد روى أبو عبيد بإسناده عن حفص بن سليمان قال: " قلت للحسن: أأخرج زكاة ثلاثة أعوام ضربة - أي دفعة واحدة - فلم ير بذلك بأساً " الأموال ص703.
والأولى هو ألا يزيد التعجيل عن حولين، لأنه هو الذي وردت به النصوص.
لا يصح تأخير صرف الزكاة لمستحقيها
يقول السائل: هل يجوز تأخير صرف الزكاة لمستحقيها، كأن تبقى أموال الزكاة لدى الموكَل بتوزيعها لمدة سنة أو سنتين ويقوم بتوزيعها على الفقراء بالتقسيط؟
الجواب: يرى جمهور الفقهاء أن الزكاة واجبة على الفور، فلا ينبغي تأخيرها إذا وجبت هذا في حق من وجبت عليه الزكاة، ومن باب أولى في حق من هو موكل بتوزيعها على المستحقين ويدل على ذلك قوله تعالى: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) سورة الأنعام/141، وهذه الآية في زكاة الزروع ويلحق بها غيرها.
فالله سبحانه وتعالى أمر بإيتاء الزكاة، فمتى وجبت الزكاة في مال فيجب المبادرة إلى إخراجها وتوزيعها على مستحقيها، ولأنه لو جاز التأخير لجاز إلى غير غاية فتنتفي العقوبة على الترك، ولأن حاجة الفقراء والمساكين ناجزة وحقهم في الزكاة ثابت، فيكون تأخيرها منعاً لحقهم في وقته.
وسُئل الإمام أحمد عن الرجل إذا ابتدأ في إخراج الزكاة فجعل(3/75)
يخرجها أولاً فأولاً؟ فقال: " لا بل يخرجها كلها إن حال الحول ".
وقال الإمام أحمد: " لا يجري على أقاربه من الزكاة في كل شهر يعني لا يؤخر إخراجها حتى يدفعها إليهم متفرقة في كل شهر شيئاً " المغني 2/510، الموسوعة الفقهية 23/295.
ومما يدل على وجوب إخراج الزكاة على الفور والمبادرة إلى توزيعها على المستحقين عموم النصوص المرغبة في المبادرة إلى الطاعات كما في قوله تعالى: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) سورة البقرة/148.
وقوله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) سورة آل عمران/133.
ومما يدل على المبادرة في إخراج الزكاة وإيصالها إلى مستحقيها، ما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن عقبة بن الحارث - رضي الله عنه - قال: (صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العصر فأسرع ثم دخل البيت فلم يلبث أن خرج فقلت أو قيل له، فقال: كنت خلَّفت في البيت تبراً من الصدقة فكرهت أن أبيِّته فقسمته) ، فانظر أخي المسلم يارعاك الله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكره أن يبيّت عنده شيء من مال الصدقة فسارع إلى قسمته وإعطائه لمستحقيه.
وقال ابن بطال معلقاً على الحديث السابق: " فيه أن الخير ينبغي أن يُبادَر به، فإن الآفات تعرض والموانع تمنع والموت لا يؤمن والتسويف غير محمود " فتح الباري 4/41.
وقال الحافظ ابن حجر: " وزاد غيره - أي غير ابن بطال - وهو أخلص للذمة وأنقى للحاجة وأبعد من المطل المذموم وأرضى للرب وأمحى للذنب " فتح الباري 4/41.
وبناءً على ما تقدم، فلا يجوز شرعاً تأخير إخراج الزكاة أو تأخير توزيعها من الشخص أو الجهة الموكلة بتوزيعها، ومن يؤخرها بدون عذر شرعي فهو آثم.
قال الإمام النووي: " قد ذكرنا أن مذهبنا أنها إذا وجبت الزكاة وتمكن(3/76)
من إخراجها، وجب الإخراج على الفور فإن أخرها أثم، وبه قال مالك وأحمد وجمهور العلماء " المجموع 5/335.
فلذلك ننصح لجان الزكاة والقائمين على توزيع الزكاة، أنهم إذا جمعوا الزكاة فالواجب عليهم أن يبادروا إلى توزيعها على مستحقيها، ولا يؤخروها إلا لمدة يسيرة ولعذر مقبول، كأن تؤخر لتدفع إلى فقير غائب أشد حاجة وفقراً من الحاضرين.
وعلى كل حال فالتأخير المسموح به هو التأخير اليسير، قال العلامة الدكتور القرضاوي: " وعندي أنه لا ينبغي العدول عن ظاهر ما جاء عن فقهاء المذاهب، وإن كان التسامح في يوم أو يومين بل أياماً أمراً ممكناً جرياً على قاعدة اليسر ورفع الحرج، أما التسامح في شهر أو شهرين بل أكثر إلى ما دون العام.... فلا يصح اعتباره حتى لا يتهاون الناس في الفورية الواجبة " فقه الزكاة 2/830.
تقدير نصاب زكاة النقود بالذهب
يقول السائل: لماذا يقدر نصاب النقود في الزكاة بالذهب دون الفضة، مع أن تقديره بالفضة يكون لمصلحة للفقير؟
الجواب: إن الزكاة فريضة على الأغنياء، وترد على الفقراء كما ثبت في الحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذاً إلى اليمن فقال: (ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني وسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم....) رواه البخاري.
وجاء في حديث آخر أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إنما الصدقة عن ظهر غنى) رواه أحمد وإسناده صحيح.(3/77)
والغنى الذي يوجب الزكاة عند الفقهاء، هو ملك النصاب، والمقصود بالنصاب هنا، عشرون ديناراً ذهباً، وتعادل خمسة وثمانين غراماً من الذهب، أو مئتا درهم من الفضة وتعادل خمسمئة وخمسة وتسعون غراماً من الفضة.
ومن المعلوم أن مقدار النصاب من الذهب - عشرون ديناراً - كانت تساوي مقدار نصاب الفضة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن سعر الفضة أخذ في الهبوط بعد ذلك العهد إلى أن صار الفرق بين النصابين كبير جداً بينما بقي الذهب محافظاً على سعره إلى وقتنا الحاضر مع اختلاف يسير حيث إن القوة الشرائية للذهب في زمن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - كانت تساوي (100% - 120%) مما هي عليه الآن لا أكثر، انظر مجلة المجمع الفقهي 5/3/1679.
ونظراً للهبوط الكبير في سعر الفضة، رأى كثير من العلماء، أن تقدير النصاب في الزكاة بالذهب هو الصحيح، نظراً لثبات سعر الذهب دون الفضة.
قال د. يوسف القرضاوي مرجحاً هذا القول: " ويبدو لي أن هذا القول سليم الوجهة قوي الحجة، فبالمقارنة بين الأنصبة المذكورة في أموال الزكاة، كخمس من الإبل أو أربعين من الغنم أو خمسة أوسق من الزبيب أو التمر، تجد أن الذي يقاربها في عصرنا الحاضر، هو نصاب الذهب لا نصاب الفضة " فقه الزكاة 1/264.
ويقول د. وهبة الزحيلي: " ويجب اعتبار النصاب الحالي كما هو كان في أصل الشرع دون النظر إلى تفاوت السعر القائم بين الذهب والفضة، وتقدر الأوراق النقدية بسعر الذهب، ولأنه هو الأصل في التعامل، ولأن غطاء النقود هو بالذهب، ولأن المثقال كان في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعند أهل مكة هو أساس العملة.... " الفقه الإسلامي وأدلته 2/760.
وقال د. محمد الأشقر: " وقد مال في هذا العصر بعض الفقهاء في هذا العصر إلى الرجوع إلى التقويم في عروض التجارة والنقود الورقية إلى(3/78)
نصاب الذهب خاصة، ولذلك وجه بيّن، وهو ثبات القدرة الشرائية للذهب فإن نصاب الذهب - العشرين ديناراً - كان يشترى بها في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرون شاة من شياه الحجاز تقريباً وكذلك نصاب الفضة - المئتا درهم - كان يُشتَرى بها عشرون شاةً تقريباً أيضاً، أما في عصرنا الحاضر فلا تكفي قيمة مئتي درهم من الفضة إلا لشراء شاة واحدة، بينما العشرون مثقالاً من الذهب تكفي الآن لشراء عشرين شاة من شياه الحجاز أو أقل قليلاً فهذا الثبات في قوة الذهب الشرائية تتحقق به حكمة تقدير النصاب على الوجه الأكمل، بخلاف نصاب الفضة " أبحاث فقهية في قضايا الزكاة المعاصرة 1/30.
والله الهادي إلى سواء السبيل(3/79)
الصيام(3/81)
النية في الصيام
يقول السائل: كيف تكون النية في الصيام، وما الحكم لو نوى الصائم أثناء النهار قطع الصوم ولكنه لم يفعل ما يفطره فعلاً؟
الجواب: النية فرض من فرائض العبادة، سواء أكانت العبادة صلاةً أو صياماً أو حجاً أو غيرها، وقد ثبت في الحديث الصحيح قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى) رواه البخاري وغيره.
والصوم لا بد فيه من نية، فلا يصح الصوم بدون نية، سواء أكان الصوم فرضاً أو نفلاً أو قضاءً، وإن اختلف أهل العلم في وقت النية في أنواع الصيام المذكورة، وبالنسبة لصوم رمضان، فالراجح من أقوال أهل العلم أنه لا بد من تبييت النية، أي لابد أن ينوي المسلم الصيام قبل طلوع الفجر، ويدل على ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن أخته حفصة زوج النبي- صلى الله عليه وسلم - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صوم له) رواه أبو داود وابن خزيمة والدارقطني والبيهقي وغيرهم، وهو حديث صحيح كما قال الشيخ المحدث الألباني، انظر إرواء الغليل 4/25.
ومعنى (يجمع) في الحديث أي يعزم، أي لا بد لمن أراد الصوم أن يعزم على الصيام خلال الليل، ويكون ذلك من وقت المغرب إلى طلوع الفجر، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذا القول المرجح: " إنه أوسط(3/83)
أقوال أهل العلم في المسألة "، انظر مجموع الفتاوى 25/120.
وكما قلت فإن المقصود من النية العزم على الصوم، وليس المراد أن يتلفظ بالنية، كأن يقول بلسانه " نويت أن أصوم يوم غدٍ من شهر رمضان " أو نحو ذلك من العبارات فإن التلفظ بالنية بدعة لا أصل له في الشرع، لأن النية من عمل القلب وليست من عمل اللسان، وقد اتفق معظم العلماء على أن محل النية القلب والتلفظ بها بدعة لأن ذلك لم ينقل عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه علّم أصحابه التلفظ بالنية، ولا أمر به أحداً منهم فلو كان ذلك مشروعاً لبينه عليه الصلاة والسلام إما بالقول أو بالفعل أو بهما وكل ذلك لم يكن.
وينبغي أن يعلم أن كل يوم من أيام رمضان يحتاج إلى نية مستقلة، على الراجح من أقوال أهل العلم لأن كل يوم من أيام رمضان عبادة مستقلة، وهذا بخلاف قول الإمام مالك أنه تجزئ نية واحدة لجميع شهر رمضان.
قال الشيخ ابن قدامة مستدلاً للقول الراجح: " ولنا أنه صومٌ واجبٌ، فوجب أن ينوي كل يومٍ من ليلته كالقضاء، ولأن هذه الأيام عباداتٌ لا يفسد بعضها بفساد بعض ويتخللها ما ينافيها...." المغني 4/111.
وأما مسألة لو نوى الصائم في نهار رمضان قطع الصيام ولم يأكل ولم يشرب ولم يأت شهوته، فإن المسألة خلافية بين أهل العلم، فمنهم من يرى أن من نوى الإفطار فقد أفطر وإن لم يأكل ولم يشرب، لأن الصوم عبادةٌ من شرطها النية، فيفسد الصوم بنية الخروج منه.
ومن أهل العلم من يرى أن من نوى الفطر لا يفطر، لأنه لم يفعل ما يوجب الفطر، وهذا القول هو الذي أختاره وأرجحه، وهو قول الحنفية والأصح عند الشافعية، كما قال الإمام النووي في المجموع 3/285.
وقاسوا ذلك على من نوى الكلام في صلاته ولم يتكلم فصلاته صحيحة ولأن الصوم ملحق بالتروك، انظر الموسوعة الفقهية 28/27.(3/84)
المسائل الطبية في الصيام
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد.
فهذه مجموعة من الأسئلة التي تتعلق بأمور طبية وعلاقتها بالصيام، أجبت عليها على وجه الإختصار، وقبل الشروع فيها أود أن أبين قضية هامة تتعلق بالمفطرات في رمضان فأقول:
من المعلوم أن المفطرات المتفق عليها بين أهل العلم، هي الطعام والشراب والشهوة ويدل على ذلك قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) سورة البقرة/187.
ويضاف للمفطرات الثلاثة ما اتفق عليه أهل العلم على أنه مفطر، مما هو في حكم الطعام والشراب، كالتدخين وتعاطي الأدوية عن طريق الفم وهو المنفذ الطبيعي للطعام والشراب، فما كان طعاماً أو شراباً ودخل من المدخل الطبيعي، فلا شك أنه يفطّر الصائم، وقد اجتهد فقهاء الإسلام في الأمور المفطرة للصائم، وذكروا أشياء كثيرة من المفطرات حتى صارت كتب الفقه طافحة بها على اختلاف في المذاهب في كل منها هل يعد مفطراً أم لا؟
والصحيح الذي أطمئن إليه وتؤيده الأدلة، أن كثيراً مما عدّه الفقهاء من المفطرات ليس كذلك، ولم تقم الأدلة الصحيحة على اعتباره مفطراً للصائم، وأنا أميل إلى التضييق في المفطرات وعدم التوسع فيها، لعدم ثبوت الأدلة على صحة ما عده كثير من الفقهاء من المفطرات أنه مفطر فعلاً، فمثلاً قال بعض الفقهاء إن مجرد دخول أي شيء إلى الجسم يعد مفطراً بغض النظر من أين دخل، فمثلاً إذا احتقن الصائم بدواء فإنه يفطر(3/85)
بل قال بعضهم إذا استنجى الصائم فأدخل إصبعه في دبره أفطر، وإذا اكتحل أفطر.. الخ، وهذا الكلام غير مسلّم به وغير مقبول لماذا؟
لأن الصيام مما يبتلى به عامة الناس في دين الإسلام ولو كانت مثل هذه الأمور مفسدة للصوم لبينها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بياناً عاماً مفصلاً، قال شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله: " وأما الكحل والحقنة وما يقطر في إحليله ومداواة المأمومة والجائفة، فهذا مما تنازع فيه أهل العلم فمنهم من لم يفطر بشيء من ذلك، ومنهم من فطر بالجميع لا بالكحل، ومنهم من فطر بالجميع لا بالتقطير، ومنهم من لم يفطر بالكحل ولا بالتقطير ويفطر بما سوى ذلك، والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك، فإن الصيام من دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام ويفسد الصوم بها، لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه، ولو ذكر ذلك، لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة، كما بلغوا سائر شرعه فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك لا حديثاً صحيحاً ولا ضعيفاً ولا مسنداً ولا مرسلاً، عُلم أنه لم يذكر شيئاً من ذلك " مجموع الفتاوى 25/233 - 234.
وقال أيضاً: " إن الأحكام التي تحتاج الأمة معرفتها لا بد أن يبينها الرسول بياناً عاماً ولا بد أن تنقلها الأمة، فإذا انتفى هذا عُلم أن هذا ليس من دينه.... وإذا كانت الأحكام التي تعم بها البلوى لا بد أن يبينها - صلى الله عليه وسلم - بياناً عاماً، ولا بد أن تنقل الأمة، فمعلوم أن الكحل ونحوه مما تعم به البلوى كما تعم بالدهن والإغتسال والبخور والطيب فلو كان هذا مما يفطر لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما بين الإفطار بغيره.... " مجموع الفتاوى 25/236 - 242.
وقال ابن حزم: " إنما نهانا الله تعالى في الصوم عن الأكل والشرب والجماع وتعمد القيء والمعاصي، وما علمنا أكلاً ولا شرباً يكون على دبر أو إحليل أو أذن أو عين أو أنف أو من جرح في البطن أو الرأس، وما نهينا قط أن نوصل إلى الجوف بغير الأكل والشرب ما لم يحرم علينا إيصاله " المحلى 4/348.(3/86)
إذا تقرر ما قلت: فهذه هي الأسئلة وإجاباتها:
1 - ما هو تأثير الحقن على الصيام؟
الجواب: إن الحقن التي تعطى للمريض على نوعين:
الحقن التي يقصد بها الدواء، وليست للتغذية فهذه لا تفطر الصائم، سواءً كانت في العضل أو في الوريد أو كانت في الشرج.
الحقن التي يقصد بها الغذاء فهذه مفطرة لأنها في معنى الطعام والشراب.
2 - هل التحاميل تبطل الصوم؟
الجواب: التحاميل إن كانت علاجية ولا يقصد بها الغذاء، فلا تبطل الصيام، وإن كانت للتغذية فهي مبطلة للصوم.
3 - هل الحبوب التي توضع تحت اللسان تبطل الصوم؟
الجواب: هذه الحبوب التي توضع تحت اللسان تفطر الصائم.
4 - هل المراهم تبطل الصوم؟
الجواب: المراهم التي تدهن بها الأعضاء المريضة لا تبطل الصوم.
5 - هل القطرة تفطر الصائم؟
الجواب: القطرات سواء أكانت عن طريق الأذن أو العين أو الأنف لا تفطر الصائم لأنها ليست طعاماً ولا شراباً ولا تدخل إلى الجوف من المدخل الطبيعي للطعام والشراب، وهو الفم.
6 - هل البخاخ الذي يستعمله بعض المرضى لتوسيع الشرايين يفسد الصيام؟
الجواب: إن البخاخ المذكور سائل يستعمل لتوسيع شرايين الرئتين عند ضيق التنفس ولا يصل إلى المعدة عند استعماله كما قال بعض الأطباء وبناءً عليه لا يفسد الصيام.(3/87)
7 - هل الدواء الذي يؤخذ للغرغرة في الفم يبطل الصيام؟
الجواب: لا يبطل الصوم بدواء الغرغرة طالما لم يبتلعه المريض، فإذا ابتلعه المريض بطل صيامه.
8 - هل الدواء الذي يعطى للمريض عن طريق التبخير، ويقوم المريض باستنشاقه يفسد الصوم؟
الجواب: الذي يظهر لي أنه غير مبطل للصوم.
9 - هل استخدام الأكسجين يبطل الصيام؟
الجواب: الأكسجين المذكور لا يبطل الصيام، لأنه ليس بطعام ولا شراب بل هو من مكونات الهواء الذي نتنفسه.
10 - هل سحب الدم يفطر الصائم؟
الجواب: سحب الدم لا يفطر الصائم.
11 - إذا أصيب الإنسان بنزيف وهو صائم هل يبطل صومه؟
الجواب: إن خروج الدم من الإنسان سواء كان من الفم أو الأنف أو الوجه أو الرأس لا يؤثر على الصيام، إلا إذا دخل الدم في الجوف، كمن خلع ضرسه فنزل الدم إلى جوفه فهذا يبطل الصوم وما عداه فلا.
12 - هل الفحص المهبلي للمرأة يبطل الصيام؟
الجواب: لا يبطل الصوم بالفحص المهبلي للمرأة.
13 - هل الفحص الشرجي للمريض يبطل الصوم؟
الجواب: لا يبطل الصيام بالفحص الشرجي.
14 - هل التدخين يبطل الصيام؟
الجواب: نعم اتفق أهل العلم المعاصرون وغيرهم، على أن التدخين يبطل الصيام.
15 - إذا استنشق الصائم الدخان دون أن يدخن، كأن يجلس في(3/88)
مكان فيه مدخنون فهل يبطل صومه؟
الجواب: لا يبطل صومه إن شاء الله، ولا ينبغي للصائم أن يجالس المفطرين في رمضان باختياره.
16 - هل يجوز للمرأة استعمال أدوية لتأخير الحيض من أجل أن تصوم رمضان كله؟
الجواب: يجوز ذلك وإن كان الأولى أن تترك المرأة الأمور على طبيعتها، لأن الحيض شيء كتبه الله على النساء، فلا تتناول هذه الحبوب، وإن تناولتها فينبغي أخذ رأي الأطباء في أنه لا يلحق المرأة أذى من تناول هذه الحبوب.
17 - هل يجوز للصائم استعمال فرشاة الأسنان والمعجون أثناء الصيام؟
الجواب: ينبغي للصائم إن أراد استعمال فرشاة الأسنان والمعجون أن يستعملها قبل طلوع الفجر، أو بعد الإفطار، فهذا هو الأفضل والأحوط، وإن استعملهما أثناء النهار فلا بأس، بشرط أن لا يبتلع شيئاً من ذلك، فإن ابتلع شيئاً من ذلك فقد بطل صومه.
18 - هل القيء يبطل الصوم؟
الجواب: إذا خرج القيء من الصائم رغماً عنه فصومه صحيح، وأما إن استقاء بأن سعى في الإستفراغ فقد بطل صومه وعليه القضاء.
19 - هل يجوز للمرضع والحامل أن تفطرا في رمضان؟
الجواب: إذا استطاعت الحامل والمرضع الصوم دون أن يلحقهما ضرر فهو المطلوب، وإلا يجوز لهما الإفطار وتقضيا ما عليهما من صيام.
والله الهادي إلى سواء السبيل(3/89)
الأيمان(3/91)
إبرار المقسم
يقول السائل: حلف شخصٌ يميناً عليَّ أن أفعل فعلاً معيناً، ووقعت في الحرج لأنه حلف عليَّ ولم يكن لي رغبة أن أفعل ما حلف، فماذا يترتب عليَّ؟
الجواب: تسمى هذه المسألة عند أهل العلم مسألة إبرار المقسم، وهي أن تفعل ما أراده الحالف لتصير بذلك باراً بيمينه، وهذه المسألة فيها تفصيل عند العلماء:
1 - فإذا حلف شخصٌ على آخر أن يفعل أمراً واجباً كأن يصلي الظهر مثلاً، فعلى المحلوف عليه أن يبر بيمين الحالف، وكذلك إذا حلف عليه أن يترك معصية فيجب عليه أن يبر بيمينه.
2 - وأما إذا حلف شخصٌ على آخر أن يترك واجباً أو أن يفعل معصية، فيجب على المحلوف عليه أن يحنث بيمين الحالف لأنه لا طاعة إلا في المعروف، لما ثبت في الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال: (لا طاعة في معصية الله) رواه البخاري ومسلم.
3 - أما إذا حلف شخصٌ على آخر أن يفعل أمراً مباحاً أو مندوباً إليه، فيندب إبرار المقسم في هذه الحالة، كمن حلف على آخر أن يتغدى عنده في بيته، فيندب إبرار المقسم، وقد ثبت في الحديث عن البراء بن(3/93)
عازب - رضي الله عنه - قال: (أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع ونهانا عن سبع، أمرنا بعيادة المريض واتباع الجنائز وتشميت العاطس وإبرار القسم أو المقسم ونصر المظلوم وإجابة الداعي وإفشاء السلام، ونهانا عن خواتيم الذهب أو أن نتختم بالذهب وعن شربٍ بالفضة وعن المياثر وعن القسي وعن لبس الحرير والإستبرق والديباج) رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم.
قال الإمام النووي: " وأما إبرار المقسم فهو سنة أيضاً مستحبة متأكدة، وإنما يندب إليه إذا لم يكن فيه مفسدة أو ضرر أو نحو ذلك، فإن كان شيءٌ من هذا لم يبر قسمه كما ثبت أن أبا بكر - رضي الله عنه - لما عبر الرؤيا بحضرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً) فقال أقسمت عليك يا رسول الله لتخبرني، فقال: (لا تقسم ولم يخبره) " شرح النووي على صحيح مسلم 14/32.
وقال الشوكاني مبيناً الأمر بإبرار المقسم ليس على سبيل الوجوب: " قوله (وإبرار المقسم) ظاهر الأمر الوجوب واقترانه ببعض ما هو متفق على عدم وجوبه كإفشاء السلام، قرينة صارفة عن الوجوب، وعدم إبراره - صلى الله عليه وسلم - لقسم أبي بكر وإن كان خلاف الأحسن لكونه - صلى الله عليه وسلم - فعله لبيان عدم الوجوب.... " نيل الأوطار 8/262.
وقد ثبت في أحاديث أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أبر المقسم كما في الحديث الشريف (أن ابنة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسلت إليه، ومع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسامة وسعد وأبيّ، أن ابني قد احتضر فاشهدنا، فأرسل يقرأ السلام ويقول: إن لله ما أخذ وما أعطى وكل شيء عنده مسمى، فلتصبر وتحتسب، فأرسلت إليه وتقسم عليه، فقام وقمنا معه، فلما قعد رفع إليه فأقعده في حجره ونفس الصبي تقعقع، ففاضت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: هذه رحمة يضعها الله في قلوب من يشاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء) رواه البخاري.
وفي رواية أخرى عند البخاري: (تقسم عليه ليأتينها) فبرَّ النبي- صلى الله عليه وسلم - بقسم ابنته فذهب إليها.(3/94)
وجاء في الحديث عن مجاهد قال: (كان رجل من المهاجرين يقال له عبد الرحمن بن صفوان وكان له بلاء في الإسلام حسن وكان صديقاً للعباس، فلما كان فتح مكة، جاء بأبيه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله بايعه على الهجرة فأبى وقال: إنها لا هجرة فانطلق إلى العباس وهو في السقاية فقال: يا أبا الفضل، أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي يبايعه على الهجرة فأبى، قال: فقام العباس معه وما عليه رداء، قال: فقال يا رسول الله، قد عرفت ما بيني وبين فلان وأتاك بأبيه لتبايعه على الهجرة فأبيت، فقال - صلى الله عليه وسلم -: إنها لا هجرة، فقال العباس: أقسمت عليك لتبايعنه، قال: فبسط رسول الله يده، قال: فقال له: هات أبررت قسم عمي ولا هجرة) رواه أحمد وابن ماجة وابن خزيمة، وفي سنده ضعف.
وذكر الشيخ ابن قدامة " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبرَّ قسم عمه العباس وأجابه إلى صورة ما أقسم عليه دون معناه حقيقةً لتعذر المعنى الحقيقي " انظر المغني 9/535.
وجاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أهدت إليها امرأة تمراً في طبق فأكلت بعضاً وبقي بعض فقالت: أقسمت عليك إلا أكلت بقيته، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبريها، فإن الإثم على المحنث) رواه أحمد وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، مجمع الزوائد 4/183.
والمحنث هو المتسبب في الحنث فيكون الإثم عليه.
وجاء في الحديث عن أبي أمامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيراً له من زوجة صالحة إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرَّته، وإن أقسم عليها أبرَّته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله) رواه ابن ماجة.
وعن أبي حازم أن (ابن عمر مرَّ على رجل ومعه غنيمات له فقال: بكم تبع غنمك هذه بكذا وكذا، فحلف ألا يبيعها، فانطلق ابن عمر فقضى حاجته فمر عليه فقال: يا أبا عبد الرحمن خذها بالذي أعطيتني، قال: حلفت على يمين فلم أكن لأعين الشيطان عليك وأن أحنثك) رواه الطبراني(3/95)
في الكبير ورجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي، مجمع الزوائد 4/183.
فبرَّ ابن عمر بيمين الرجل.
وأخيراً أقول: إن هذا الذي أقسم عليك أن تفعل أمراً معيناً إن كان هذا الأمر مباحاً وجائزاً فينبغي عليك أن تبرَّ بيمينه لما ذكرت من الأدلة وإذا لم تبر بيمينه فعلى الحالف كفارة يمين.
حكم وضع الحالف يده على المصحف الشريف
يقول السائل: هل يشترط لصحة حلف اليمين بالله سبحانه وتعالى أن يضع الحالف يده على المصحف؟
الجواب: لا يشترط لصحة حلف اليمين بالله تعالى أن يضع الحالف يده على المصحف، فإن اليمين المشروع يكون بمجرد التلفظ باليمين فقط.
ومن العلماء من يرى أن وضع اليد على المصحف أو وضع المصحف أمام الحالف أو في حجره، من باب تغليظ اليمين على الحالف، وتغليظ اليمين قال به جمهور الفقهاء ويكون ذلك في القضايا المهمة كقضايا الدماء والأموال الكثيرة ونحوها.
وتغليظ الأيمان له أصل مشروع في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
أما من كتاب الله فقوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنْ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنْ الآثِمِينَ) سورة المائدة /106.
قال القرطبي: " هذه الآية أصل في التغليظ في الأيمان " تفسير القرطبي 6/353.(3/96)
وتغليظ اليمين يكون بأمور: منها التغليظ في الزمان ومنه الحلف بعد صلاة العصر، وهو المذكور في الآية كما قال المفسرون، قال القرطبي: " قوله تعالى (من بعد الصلاة) يريد صلاة العصر، قاله الأكثر من العلماء، لأن أهل الأديان يعظمون ذلك الوقت ويتجنبون فيه الكذب واليمين الكاذبة " تفسير القرطبي 6/353.
وثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل على فضل ماء بطريق يمنع منه ابن السبيل، ورجل بايع رجلاً بسلعةٍ، لا يبايعه إلا للدنيا، فإن أعطاه ما يريد وفّى وإلا، لم يف له، ورجل ساوم رجلاً بسلعةٍ بعد العصر، فحلف بالله لقد أعطى كذا وكذا فأخذها) رواه البخاري ومسلم.
قال الحافظ ابن حجر: " قال المهلب: إنما خص النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الوقت بتعظيم الإثم على من حلف فيه كاذباً لشهود ملائكة الليل والنهار ذلك الوقت، انتهى. وفيه نظر لأن بعد صلاة الصبح يشاركه في شهود الملائكة ولم يأت فيه ما أتى في وقت العصر ويمكن أن يكون اختص بذلك لكونه وقت ارتفاع الأعمال " فتح الباري 6/212.
ونقل الحافظ ابن حجر عن الخطابي قوله: " خُص وقت العصر بتعظيم الإثم فيه وإن كانت اليمين الفاجرة محرمة في كل وقت، لأن الله عظم شأن هذا الوقت بأن جعل الملائكة تجتمع فيه، وهو وقت ختام الأعمال، والأمور بخواتيمها، فغلظت العقوبة فيه لئلا يقدم عليها تجرؤاً، فإن من تجرأ عليها فيه، إعتادها في غيره، وكان السلف يحلفون بعد العصر، وجاء ذلك في الحديث أيضاً " فتح الباري 16/329.
ومنها التغليظ في المكان، كالمسجد والمنبر، فقد ورد في الحديث، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يحلف أحد عند منبري هذا على يمين آثمة، ولو على سواك أخضر، إلا تبوأ مقعده من النار) رواه مالك وأبو داود والنسائي وابن ماجة وصححه ابن خزيمة وابن حبان(3/97)
والحاكم وغيرهم كما ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح 6/213.
وورد في الحديث عن أبي أمامة بن ثعلبة أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: (من حلف عند منبري هذا بيمين كاذبة يستحل بها مال امرئٍ مسلم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً) رواه النسائي، ورجاله ثقات، كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح 6/213.
ويرى الشافعية والمالكية، أن اليمين المغلظة، تكون في مكة المكرمة بين الركن والمقام وفي المدينة المنورة عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي بقية البلاد تكون في المسجد عند المنبر، قياساً على العمل من الخلف والسلف بالمدينة عند قبر النبي- صلى الله عليه وسلم -، كما قال ابن عبد البر في الإستذكار 22/90.
ومنها التغليظ في حال الحالف، كأن يكون قائماً مستقبل القبلة.
ومنها التغليظ في اللفظ، كأن يقول الحالف: أقسم بالله الذي لا إله إلا هو، ما له عندي حق، أو يقول: أحلف بالله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ونحو ذلك.
ومن هذا الباب ذكر بعض فقهاء الشافعية الحلف بالمصحف، ونُقل عن بعض السلف التحليف على المصحف.
ولكن الصحيح أن الحلف على المصحف لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بل هو بدعة كما قال ابن العربي المالكي: " وهو بدعة ما ذكرها أحد قط من الصحابة " أحكام القرآن 2/725.
وقال ابن المنذر: "وأجمعوا على أنه لا ينبغي للحاكم أن يستحلف بالطلاق والعتاق والمصحف الشريف " تفسير القرطبي 6/354.
وقال ابن قدامة: " قال ابن المنذر: ولم نجد أحداً يوجب اليمين بالمصحف.
وقال الشافعي: رأيتهم يؤكدون بالمصحف، ورأيت ابن مازن وهو قاضي بصنعاء يغلظ اليمين بمصحف.(3/98)
قال أصحابه: - أي أصحاب الشافعي - فيغلظ عليه بإحضار المصحف، لأنه يشتمل على كلام الله تعالى وأسمائه.
قال ابن قدامة: " وهذا زيادة على ما أمر به رسول الله- صلى الله عليه وسلم - في اليمين، وفعله الخلفاء الراشدون وقضاتهم من غير دليل ولا حجة يستند إليها، ولا يترك فعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لفعل ابن مازن ولا لغيره " المغني 10/207.
تعجيل العقوبة في الدنيا للحالف كاذباً
يقول السائل: سمعت أنه من حلف يميناً يتعمد الكذب فيها، أن الله يعجل له العقوبة في الدنيا، فما قولكم في ذلك؟
الجواب: إن اليمين الكاذبة المتعمدة، والتي تؤكل بها أموال الناس وحقوقهم، من الكبائر ومن الأسباب الموجبة لدخول النار والعياذ بالله وعلى ذلك تدل الأدلة من كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن ذلك قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) سورة آل عمران /77.
ففي هذه الآية عقوبات لمن يحلف كاذباً متعمداً، ليأكل حقوق الناس وهي:
1. لا حظ له في الآخرة ولا نصيب له من رحمة الله.
2. لا يكلمه الله سبحانه وتعالى كلام أنس ولطف.
3. يعرض الله عنه يوم القيامة، فلا ينظر إليه بعين الرحمة.
4. لا يطهر من الأوزار والذنوب.
5. يعذبه الله عذاباً أليماً على ما ارتكب من المعاصي.(3/99)
ومنها ما ثبت في الحديث، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من حلف على يمين وهو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئٍ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان) رواه أبو داود وابن ماجة وهو حديث صحيح.
ومنها ما ثبت في الحديث، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يقتطع رجل حق امرئٍ مسلمٍ بيمينه، إلا حرّم الله عليه الجنة، وأوجب عليه النار، فقال رجل من القوم: يا رسول الله وإن كان شيئاً يسيراً، قال عليه الصلاة والسلام: وإن كان سواكاً من أراك) رواه ابن ماجة، وقال الشيخ الألباني: صحيح، انظر صحيح سنن ابن ماجة 2/36.
وغير ذلك من النصوص، وكل ذلك في العقوبة الأخروية.
وأما تعجيل العقوبة في الدنيا فإن الله سبحانه وتعالى قد يعجل العقوبة في الدنيا على بعض الذنوب، ومن ذلك تعجيل عقوبة قاطع الرحم والظالم وحالف الأيمان الكاذبة، فقد ورد في ذلك أحاديث منها:
1 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ليس شيء أُطيعَ الله فيه، أعجل ثواباً من صلة الرحم، وليس شيء أعجل عقاباً من البغي وقطيعة الرحم واليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع) رواه البيهقي 10/350، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة 2/706، وبلاقع، جمع بلقع وبلقعة، وهي الأرض القفر التي لا شجر فيها، ذكره الزبيدي ونقل عن بعض العلماء، أن معنى الحديث " أي يفتقر الحالف ويذهب ما في بيته من المال، أو يفرق الله شمله ويغيّر ما أولاه من نعمة " تاج العروس 11/30.
2 - وفي رواية أخرى: (إن أعجل الطاعة ثواباً صلة الرحم، وإن أهل البيت ليكونون فجاراً، فتنمو أموالهم، ويكثر عددهم، إذا وصلوا أرحامهم، وإن أعجل المعصية، عقوبة البغي والخيانة، واليمين الغموس يذهب المال ويثقل في الرحم، ويذر الديار بلاقع) رواه الطبراني في الأوسط وقال الشيخ الألباني: إنه صحيح بمجموع طرقه وشواهده.
3 - وعن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(3/100)
(اليمين الفاجرة تذهب المال) رواه البزار بسند صحيح، كما قاله ابن حجر الهيتمي، الزواجر 2/404.
وقد وقع تعجيل العقوبة الدنيوية لمن حلف كاذباً ليستحل دماء الناس وأموالهم، كما ثبت في صحيح البخاري في الحادثتين التاليتين:
الأولى: روى الإمام البخاري بسنده، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " إن أول قسامة كانت في الجاهلية، لفينا بني هاشم، كان رجل من بني هاشم استأجره رجل من قريش، من فخِذٍ أخرى، فانطلق معه في إبله فمر به رجل من بني هاشم قد انقطعت عروة جوالقه، فقال: أغثني بعقال أشد به عروة جوالقي لا تنفر الإبل فأعطاه عقالاً، فشد به عروة جوالقه، فلما نزلوا، عقلت الإبل إلا بعيراً واحداً، فقال الذي استأجره: ما شأن هذا البعير لم يعقل من بين الإبل؟ قال: ليس له عقال، قال: فأين عقاله؟ قال: فحذفه بعصاً كان فيها أجله، فمر رجل به من أهل اليمن فقال: أتشهد الموسم؟ قال: ما أشهد، وربما شهدته، قال: هل أنت مبلغ عني رسالة مرة من الدهر؟ قال: نعم، قال: فكتب، إذا أنت شهدت الموسم فناد يا آل قريش، فإذا أجابوك فناد يا آل بني هاشم، فإن أجابوك، فسل عن أبي طالب، فأخبره أن فلاناً قتلني في عقال، ومات المستأجَر، فلما قدم الذي استأجره، أتاه أبو طالب فقال: ما فعل صاحبنا؟ قال مرض فأحسنت القيام عليه، فوليت دفنه، قال: قد كان أهل ذاك منك فمكث حيناً، ثم إن الرجل الذي أوصى إليه أن يبلغ عنه، وافى الموسم فقال: يا آل قريش، قالوا هذه قريش، قال يا بني هاشم، قالوا: هذه بنو هاشم، قال: من أبو طالب؟ قالوا: هذا أبو طالب، قال: أمرني فلان أن أبلغك رسالة، أن فلاناً قتله في عقال، فأتاه أبو طالب فقال له: إختر منا إحدى ثلاث، إن شئت أن تؤدي مائة من الإبل، فإنك قتلت صاحبنا وإن شئت، حلف خمسون من قومك، أنك لم
تقتله، فإن أبيت، قتلناك به، فأتى قومه، فقالوا نحلف، فأتته امرأة من بني هاشم كانت تحت رجل منهم قد ولدت له، فقالت: يا أبا طالب، أحب أن تجيز أبني هذا برجل من الخمسين ولا تصبر(3/101)
يمينه حيث تصبر الأيمان، ففعل، فأتاه رجل منهم فقال: يا أبا طالب، أردت خمسين رجلاً أن يحلفوا مكان مئة من الإبل، يصيب كل رجل بعيران، هذان بعيران فاقبلهما مني ولا تصبر يميني حيث تصبر الأيمان فقبلهما، وجاء ثمانية وأربعون، فحلفوا، قال ابن عباس: فالذي نفسي بيده ما حال الحول ومن الثمانية وأربعين عين تطرف ".
الثانية: روى الإمام البخاري بسنده عن أبي قلابة حديثاً طويلاً وفيه: " وقد كانت هذيل خلعوا خليعاً لهم في الجاهلية، فطرق أهل بيت من اليمن بالبطحاء، فانتبه له رجل منهم، فحذفه بالسيف فقتله، فجاءت هذيل فأخذوا اليماني، فرفعوه إلى عمر بالموسم وقالوا: قتل صاحبنا، فقال: إنهم قد خلعوه، فقال: يقسم خمسون من هذيل ما خلعوه، قال: فأقسم منهم تسعة وأربعون رجلاً، وقدم رجل منهم من الشام، فسألوه أن يقسم، فافتدى يمينه منهم بألف درهم، فأدخلوا مكانه رجلاً آخر، فدفعه إلى أخي المقتول، فقرنت يده بيده، قالوا فانطلقنا والخمسون الذين أقسموا حتى إذا كانوا بنخلة أخذتهم السماء - أي المطر - فدخلوا في غار في الجبل، فانهجم الغار على الخمسين الذين أقسموا، فماتوا جميعاً وأفلت القرينان وأتبعهما حجر فكسر رجل أخي المقتول فعاش حولاً ثم مات ".
وهكذا ينتقم الله عز وجل في الدنيا من حالفي أيمان الزور والكذب، وفي ذلك عبرة للمعتبرين.
يصح تقديم الكفارة على الحنث باليمين
يقول السائل: إنه حلف على زوجته يميناً، أن لا تذهب إلى بيت أبيها، ثم ندم على ذلك وسمح لها بالذهاب إلى هناك، فهل يكفِّر كفارة اليمين قبل ذهاب زوجته إلى بيت أبيها، أم بعد ذلك؟
الجواب: ما كان لك أيها السائل أن تحلف هذا اليمين، الذي يؤدي إلى قطيعة الرحم، لأن للزوجة حقاً مؤكداً في زيارة أبيها وقد ورد في(3/102)
الحديث أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يمين في قطيعة رحم) رواه أبو داود والبيهقي، وإسناده حسن.
وما دام أنك قد تراجعت عن يمينك وأذنت لها بالذهاب إلى بيت أبيها، فقد أديت ما هو المطلوب شرعاً ويجب عليك أن تكفر عن يمينك وكفارة اليمين هي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة فإن لم تجد فتصوم ثلاثة أيام لقوله تعالى: (لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) سورة المائدة /89.
هذا بالنسبة لكفارة اليمين، وأما متى تكفر عن يمينك، فيجوز لك أن تكفِّر قبل ذهاب زوجتك إلى بيت أبيها، أو بعد ذهابها إليه، على الراجح من أقوال أهل العلم، فإن في الأمر سعة إن شاء الله تعالى، ويدل على ذلك أن الأحاديث الواردة في كفارة اليمين جاء في بعضها تقديم الكفارة على الحنث وجاء في بعضها تأخير الكفارة على الحنث.
ومن هذا أخذ أكثر العلماء جواز الأمرين، فمن ذلك ما ورد في الحديث، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خير منها، إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها) متفق عليه.
وفي رواية: (إلا كفَّرت عن يميني وفعلت الذي هو خير) متفق عليه.
وفي رواية أخرى: (إلا أتيت الذي هو خير وكفَّرت عن يميني) متفق عليه.
وجاء في حديث آخر، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا حلفت على يمين، فكفِّر عن يمينك، ثم ائت الخير) رواه أبو داود والنسائي.
وفي حديث أخر: (إذا حلف أحدكم على يمين، ثم رأى غيرها خير اً منها فليكفِّرها وليأت الذي هو الخير) رواه مسلم.(3/103)
وفي رواية: (من حلف على يمين، فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير، وليكفِّر عن يمينه) رواه مسلم.
وبهذا يظهر لنا جواز الأمرين، فإن شئت كفَّرت عن يمينك بعد الحنث أو قبله.
يحرم على المسلم أن يحرم الحلال وكفارة ذلك
يقول السائل: قال شخص لزوجته: هذا الطعام حرام عليَّ، فما حكم ذلك؟
الجواب: لا يجوز للمسلم أن يحرم ما أحل الله له، لأن ذلك من الإعتداء على شرع الله، ويدل على ذلك قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) سورة المائدة /87.
ومن حرَّم شيئاً مما أحله الله، سواءً كان طعاماً أو شراباً أو لباساً، فهو كالحلف يميناً على تركه، فإذا أكل الطعام أو شرب الشراب أو لبس الثوب، فقد حنث بيمينه، وتلزمه كفارة يمين، وهذا قول الحنفية والحنابلة، قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: " ويروى نحو هذا عن ابن مسعود والحسن وجابر بن زيد وقتادة وإسحاق وأهل العراق، وقال سعيد بن جبير، فيمن قال الحلال حرام عليَّ، يمين من الأيمان يكفرها.... وعن الضحاك، أن أبا بكر وعمر وابن مسعود قالوا الحرام يمين.... " المغني 9/508.
ويدل على ذلك قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) سورة التحريم /1-2.(3/104)
فالله سبحانه وتعالى سمَّى تحريم ما أحل الله يميناً، وفرض تحلة اليمين، وهي كفارة اليمين، وقد ثبت في الحديث، عن عبيد بن عمير قال: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان يمكث عند زينب ابنة جحش، ويشرب عندها عسلاً، فتواصيت أنا وحفصة، أنَّ أيَتنا دخل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلتقل: " إني لأجد ريح مغافير، أكلت مغافير؟ " - وهو نوع من النبات له رائحة كريهة - فدخل على إحداهما فقالت له ذلك، فقال: لا بأس شربت عسلاً عند زينب ابنة جحش، ولن أعود، فنزلت الآية
(يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ.... إلى (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا (لعائشة وحفصة) ، (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا) -لقوله بل شربت عسلاً) رواه البخاري ومسلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وسبب نزول هذه الآية إما تحريمه العسل وإما تحريمه مارية القبطية، وعلى التقديرين فتحريم الحلال يمين على ظاهر الآية وليس يميناً بالله، ولهذا أفتى جمهور الصحابة، كعمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وغيرهم، أن تحريم الحلال يمين مكفرة " مجموع الفتاوى 35/271 - 272.
ومما يدل على أن تحريم الإنسان الحلال من الطعام والشراب على نفسه يعتبر يميناً، ما جاء في الأثر عن ابن مسعود " أنه جيء عنده بطعام فتنحى رجل فقال: إني حرمته أن لا آكله، فقال: ادن فكل وكفِّر عن يمينك، ثم تلا هذه الآية (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) سورة المائدة /87، قال الحافظ ابن حجر وسنده صحيح فتح الباري 14/385.
وروى عبد الرزاق في المصنف بسنده عن الحسن البصري قال: " إن قال: كل حلالٍ عليَّ حرام، فهو يمين، وكان قتادة يفتي به " المصنف 6/402.
وروى ابن أبي شيبة بأسانيده عن عمر وعائشة وابن عباس أنهم قالوا: " الحرام يمين " المصنف 5/37.(3/105)
وروى ابن أبي شيبة عن عمر بن ذر قال: " سألت الشعبي عن رجلٍ قال " كل حلالٍ عليَّ حرام "، قال: لا يوجب طلاقاً ولا يحرم حلالاً، يكفر عن يمينه " المصنف 5/75.
والله الهادي إلى سواء السبيل(3/106)
الأضحية(3/107)
بعض أحكام الأضحية
بمناسبة قرب حلول عيد الأضحى المبارك، كثرت الأسئلة والإستفسارات المتعلقة بالأضحية، وهذه مجموعة من الأحكام المتعلقة بالأضحية فيها إجابات واضحة على بعض تلك الأسئلة والإستفسارات:
أولاً: ينبغي أن يعلم أن الأضحية سنة مؤكدة، على الراجح من أقوال أهل العلم، وهو قول جمهور الفقهاء، ونقل عن أبي بكر وعمر وابن عباس، وجماعة من الصحابة والتابعين، ومن أصرح الأدلة على عدم وجوب الأضحية، ما ثبت في الحديث الشريف، عن أم سلمة رضي الله عنها أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يمس من شعره وبشره شيئاً) رواه مسلم.
فجعل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أمر الأضحية مفوضاً إلى إرادة المسلم، وما كان كذلك لا يكون واجباً.
وروى البيهقي عن أبي بكر وعمر، أنهما كانا لا يضحيان كراهة أن يظن من رآهما أنها واجبة، سنن البيهقي 9/264 - 265.
والأسانيد إليهما صحيحة كما قال: الشيخ الألباني، انظر إصلاح المساجد ص21.
وقال ابن حزم: " لا يصح عن أحد من الصحابة أن الأضحية واجبة، وصح أن الأضحية ليست واجبة عن سعيد بن المسيب والشعبي " المحلى 6/10.(3/109)
وأما ما ورد في الحديث الشريف، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من وجد سعة فلم يضح، فلا يقربنَّ مصلانا) رواه ابن ماجة وأحمد والحاكم وغيرهم فقد صحح الأئمة وقفه على أبي هريرة، قال الحافظ ابن حجر: ".... لكن اختلف في رفعه ووقفه، والموقوف أشبه بالصواب، قاله الطحاوي وغيره، ومع ذلك فليس صريحاً في الإيجاب " فتح الباري 12/98.
وقال الحافظ ابن عبد البر نحوه في التمهيد، وممن قال بأنه موقوف الإمام المنذري في الترغيب والترهيب والحافظ البيهقي، والإمام الترمذي " انظر معرفة السنن والآثار 14/38.
ثانياً: يستحب لمن أراد أن يضحي، ألا يقص شعره وأظافره، ابتداءً من أول ليلة من شهر ذي الحجة إلى أن يذبح أضحيته لما ثبت في الحديث السابق عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا دخلت العشر - أي العشر الأول من ذي الحجة - وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئاً) رواه مسلم.
وفي رواية أخرى: (إذا دخل العشر، وعنده أضحية يريد أن يضحي، فلا يأخذنَّ شعراً ولا يقلمنَّ ظفراً) رواه مسلم.
وفي رواية أخرى: (إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره) رواه مسلم.
وفي رواية أخرى: (.... فلا يأخذنَّ من شعره ولا من أظفاره شيئاً حتى يضحي) رواه مسلم.
وقال جمهور أهل العلم: " إن هذا النهي محمول على الكراهة وليس على التحريم، فيكره في حق من نوى الأضحية أن يقص شيئاً من شعره أو من أظفاره شيئاً ويدل على أنه مكروه وليس حراماً، ما ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم يقلده ويبعث به ولا يحرم عليه شيء أحله الله حتى ينحر هديه) رواه البخاري مسلم.(3/110)
قال الإمام النووي: " والحكمة في النهي أن يبقى - أي المضحي - كامل الأجزاء ليعتق من النار " شرح النووي على صحيح مسلم 5/120.
ثالثاً: يستحب في الأضحية أن تكون كبشاً أبيضاً أقرناً سميناً، فقد ثبت في الحديث، عن أنس - رضي الله عنه - قال: (ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده، وسمَّى وكبر ووضع رجله على صفاحهما) رواه مسلم.
وعن أبي رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين موجوءين خصيين) رواه أحمد وهو صحيح كما قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 4/360.
وروى الإمام البخاري تعليقاً، عن أبي أمامة بن سهل قال: (كنا نسمن الأضحية بالمدينة، وكان المسلمون يسمنون) ، قال الحافظ ابن حجر: " وصله أبو نعيم في المستخرج...." فتح الباري 12/105.
رابعاً: تصح النيابة في ذبح الأضحية باتفاق أهل العلم، فإذا أناب شخص شخصاً آخر في ذبح الأضحية وتوزيعها، فلا بأس في ذلك والمستحسن أن يتولى كل مضحٍ أضحيته بنفسه فيذبحها إن كان يحسن الذبح، فقد ثبت أن الرسول- صلى الله عليه وسلم - ذبح أضحيته بيديه الشريفتين، كما في الأحاديث التي سبقت، فإن كان المضحي لا يحسن الذبح، وكَّل غيره بذبحها لما روي في الحديث الشريف أنه- صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة: (قومي إلى أضحيتك فاشهديها، فإنه بأول قطرة من دمها يغفر لك ما سلف من ذنوبك) رواه الحاكم وصححه ولكن فيه ضعف، كما قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 4/143.
خامساً: لا بد من الإلتزام في الأضحية بالسن المقررة شرعاً، فلا يصح أن ينقص منه، ويصح أن يزيد عليه، ففي الإبل لا تصح التضحية بها إلا إذا بلغت خمس سنوات ودخلت في السادسة، وفي البقر يجب أن تتم سنتين وتدخل في الثالثة وفي الغنم تفصيل ففي الماعز، لا تجوز الأضحية بما له أقل من سنة، وفي البياض تجوز التضحية بما يمضي عليه أكثر العام(3/111)
كسبعة أشهر أو ثمانية أشهر، إذا كان سميناً يخفى مع ما له سنة.
ولا يجوز شرعاً التضحية بالعجول المسمنة التي لم تبلغ سنتين من عمرها، قال الإمام الشافعي: " ومن ضحى فأقل ما يجزيه الثني من المعز والإبل والبقر، ولا يجزي جذع إلا من الضأن وحدها " الأم 2/221.
وقال الإمام الشافعي أيضاً: " الضحايا الجذع من الضأن والثني من المعز والإبل والبقر ولا يكون شيء دون هذا ضحية " الأم 2/223.
قال الإمام النووي: " أجمعت الأمة على أنه لا تجزئ من الإبل والبقر والمعز إلا الثني.... " المجموع 8/394.
ونقل ابن قدامة عن أئمة اللغة: " إذا مضت الخامسة على البعير، ودخل في السادسة وألقى ثنيته، فهو حينئذ ثني.... وأما البقرة، فهي التي لها سنتان لأن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تذبحوا إلا مسنة) رواه مسلم، والمسنة من البقر هي التي لها سنتان " المغني 9/440.
وقال الإمام النووي: " قال العلماء: المسنة هي الثنية من كل شيء، من الإبل والغنم والبقر، فما فوقها وهذا تصريح بأنه لا يجوز الجذع من غير الضأن في حال من الأحوال وهذا مجمع عليه.... " شرح النووي على صحيح مسلم 13/101 - 102.
وقد اتفق العلماء على أنه لا يجزئ الجذع من البقر، والجذع من البقر هو من وقت ولادته إلى أن يبلغ السنتين من عمره، والعجل المسمن الذي يبلغ من العمر تسعة أشهر من عمره فهو جذع فلا يجزئ في الأضحية، وكونه سميناً وأكثر لحماً من الذي بلغ السنتين من عمره، ليس سبباً في ترك السن المعتمد، وهي سنتان فأكثر.
وإن المدقق في الأحاديث الشريفة التي أشارت إلى السن، يرى أنه لا يجوز تجاوز تلك السن، ويدل على ذلك الأحاديث التالية:
1 - عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن أول ما نبدأ به يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، من فعله فقد أصاب سنتنا،(3/112)
ومن ذبح قبل ذلك فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء، فقام أبو بردة بن نيار وقد ذبح فقال: " إن عندي جذعة " فقال: إذبحها، ولن تجزئ عن أحد بعدك) رواه البخاري.
2 - قال الإمام البخاري: " باب قول النبي- صلى الله عليه وسلم - لأبي بردة: ضح بالجذع من المعز ولن تجزئ عن أحد بعدك، ثم ساق حديث البراء المتقدم براوية أخرى: (ضحى خال لي يقال له أبو بردة، قبل الصلاة، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: شاتك شاة لحم؟ فقال يا رسول الله: إن عندي داجناً جذعة من المعز فقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: إذبحها ولا تصلح لغيرك) .
وقد ورد في عدة روايات اختصاص أبي بردة بالتضحية بالجذع من المعز وشاركه في الإختصاص عقبة بن عامر، كما في حديث آخر.
والألفاظ التي تدل على الإختصاص كما بينها الحافظ ابن حجر في فتح الباري هي (ولا رخصة فيها لأحد بعدك) ، (ولا تجزئ عن أحد بعدك) ، (وليست فيها رخصة لأحد بعدك) .
وهذا التخصيص من النبي- صلى الله عليه وسلم - يدل على أنه لا تصح التضحية بالجذع من الإبل والبقر والماعز، وهو الذي اعتمد عليه الفقهاء في القول بأنه لا يجوز التضحية بما دون السنتين من البقر.
ويجب أن يعلم أنه ليس المقصود بالأضحية اللحم فقط وتوزيعه صدقة أو هدية وإنما المقصود بها أيضاً تعظيم شعائر الله سبحانه وتعالى، كما قال جل جلاله: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) سورة الحج /32.
وكذلك الإمتثال لأمر الله عز وجل بإراقة الدم إقتداءً بإبراهيم عليه السلام قال تعالى: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ) سورة الحج /37.
وعن عائشة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إهراق الدم وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها(3/113)
وأظلافها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله عز وجل بمكان قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها نفساً) رواه ابن ماجة والترمذي، وقال: حسن غريب، ورواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد.
لا تصح الأضحية بالعجل السمين وعمره تسعة أشهر
يقول السائل: هل تجوز الأضحية بعجل سمين بلغ من العمر تسعة أشهر؟
الجواب: لقد وردت الأحاديث التي أشارت إلى السن المعتبر في الأضاحي والتي اعتمد عليها الفقهاء في تحديد السن المعتبر في الأضاحي، واعتبروا ذلك شرطاً من شروط صحة الأضحية فقد اتفق العلماء على أنه تجوز التضحية بالثني فما فوقه من الإبل والبقر والغنم والمراد بالثني من الإبل، ما أكمل خمس سنين ودخل في السادسة، ومن البقر ما أكمل سنتين ودخل في الثالثة، ومن الغنم ما أكمل سنتين ودخل في الثالثة.
قال في المصباح المنير: " الثني الجمل يدخل في السادسة.... والثني أيضاً الذي يلقي ثنيته، يكون من ذوات الظلف والحافر في السنة الثالثة، ومن ذوات الخف في السنة السادسة ".
واتفق العلماء على أنه لا تجوز التضحية بما دون الثني من الإبل والبقر والمعز واختلفوا في الجذع من الضأن.
قال الإمام النووي: "وأجمعت الأمة على أنه لا تجزئ من الإبل والبقر والمعز إلا الثني" المجموع 8/394.
ونقل ابن قدامة عن أئمة اللغة " إذا مضت الخامسة على البعير ودخل في السادسة وألقى ثنيته فهو حينئذ ثني.... وأما البقرة فهي التي لها سنتان، لأن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تذبحوا إلا مسنة) ومسنة البقر التي لها سنتان " المغني 9/440.(3/114)
وقال الإمام النووي: " قال العلماء: المسنة هي الثنية من كل شيء، من الإبل البقر والغنم فما فوقها، وهذا تصريح بأنه لا يجوز الجذع من غير الضأن في حال من الأحوال وهذا مجمع عليه " شرح النووي على صحيح مسلم 13/101 - 102.
وقد اتفق العلماء على أنه لا يجزئ الجذع من البقر والجذع من البقر هو من وقت ولادته إلى أن يبلغ سنتين من عمره والعجل المسمن الذي يبلغ تسعة أشهر من عمره هو جذع، فلا يجزئ في الأضحية، وكونه سميناً وأكثر لحماً من الذي بلغ سنتين من عمره ليس سبباً في ترك السن المعتمدة، وهي سنتان فأكثر.
وإن المدقق في الأحاديث التي أشارت إلى السن، يرى أنه لا يجوز تجاوز تلك السن ويدل على ذلك الأحاديث التالية:
- عن البراء بن عازب - رضي الله عنه -، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا، أن نصلي، ثم نرجع فننحر، من فعله فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل ذلك فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء، فقام أبو بردة بن نيار وقد ذبح فقال: إن عندي جذعة، فقال اذبحها ولن تجزئ عن أحد بعدك) رواه البخاري.
- قال الإمام البخاري: " باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بردة: (ضح بالجذع من المعز ولن تجزئ عن أحد بعدك) ثم ساق حديث البراء المتقدم، برواية أخرى: (ضحى خال لي يقال له أبو بردة قبل الصلاة، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: شاتك شاة لحم، فقال يا رسول الله: إن عندي داجناً جذعة من المعز، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: اذبحها ولا تصلح لغيرك) .
وقد ورد في عدة روايات اختصاص أبي بردة بالتضحية بالجذع من المعز وشاركه في الاختصاص، عقبة بن عامر، والألفاظ التي تدل على الاختصاص كما بينها الحافظ ابن حجر في فتح الباري هي: (ولا رخصة فيها لأحد بعدك) (ولن تجزئ عن أحدٍ بعدك) (وليست فيها رخصة لأحد بعدك) .(3/115)
وهذا التخصيص من النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على أنه لا تصح التضحية بالجذع من الإبل والبقر والماعز، وهو الذي اعتمد عليه الفقهاء في القول بأنه لا يجوز التضحية بما دون السنتين من البقر.
وبناءً على ما تقدم أقول: لا تصح الأضحية بالعجول المسمنة مهما بلغ وزنها ولا بد من الالتزام بالسن وهو سنتان، قال في الفتاوى الهندية: " وتقدير هذه الأسنان بما قلنا يمنع النقصان ولا يمنع الزيادة، حتى ولو ضحى بأقل من ذلك شيئاً لا يجوز، ولو ضحى بأكثر من ذلك شيئاً يجوز ويكون أفضل ولا يجوز في الأضحية حمل ولا جدي ولا عجول ولا فصيل " الفتاوى الهندية 5/297.
وينبغي أن يعلم أنه ليس المقصود من الأضحية اللحم فقط، وتوزيعه صدقة أو هدية وإنما يقصد بالأضحية أيضاً، تعظيم شعائر الله، وإراقة الدم كوسيلة من وسائل الشكر لله تعالى وإحياءً لذكرى إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
حكم الذبح على مقدمة السيارة
يقول السائل: إنه قد اشترى سيارة جديدة، ويريد أن يذبح على مقدمتها ذبيحة، فهل يجوز ذلك؟
الجواب: لقد جرت عادة كثير من الناس أن يذبحوا شاةً على مقدمة السيارة الجديدة، ويجعلون دم الشاة يسيل عليها، وذلك طلباً لسلامة السيارة وصاحبها، أو دفعاً لعيون الحساد، كما يعتقدون، أو لغير ذلك من المقاصد، وهذا العمل بالشكل الذي وصفت لا يجوز شرعاً، بل هو من الأمور المبتدعة لأن الأصل في الذبح أن يكون لله تعالى.
يقول سبحانه وتعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) سورة الأنعام/ 163,162.(3/116)
فالمسلم عندما يذبح، يذبح بإسم الله تعالى، وحده لا شريك وهو تفسير قوله تعالى (ونسكي) ، أي ذبحي، كما قال بعض السلف.
وجاء في الحديث، عن علي - رضي الله عنه - قال حدثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأربع كلمات: (لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من آوى محدثاً ولعن الله من غير منار الأرض) رواه مسلم.
قال الإمام النووي: " وأما الذبح لغير الله فالمراد به أن يذبح بإسمٍ غير إسم الله كمن ذبح للصنم أو الصليب، أو لموسى أو لعيسى صلى الله عليهما، وللكعبة، فكل ذلك حرام، ونحو ذلك فكل ذلك حرام، ولا تحل هذه الذبيحة.... " شرح النووي على صحيح مسلم 13/122.
وهذا التفصيل الذي ذكرته فيما لو كان الذابح قد ذبح لغير الله تعالى، وأما إن ذبح الذبيحة بإسم الله تعالى، ومن باب شكر نعمة الله على هذا الإنسان لكونه قد اشترى سيارة جديدة، فلا بأس بذلك، ولا أرى له أن يذبح الذبيحة على مقدمة السيارة، لأن ذلك مشعرٌ بأن الذبح للسيارة، وتعليق سلامة السيارة وصاحبها على الذبح على مقدمتها.
ولا بأس أن نذكر بهذه المناسبة، أن بعض الناس يذبح ذبيحة أو أكثر عندما يبني بيتاً جديداً، فمنهم من يذبح عند عقد البيت، أو عند السكن فيه، فهذا أيضاً فيه التفصيل الذي ذكرت، فإن كان الذبح من باب شكر نعمة الله، حيث أنعم الله على هذا الإنسان بأن سكن بيتاً جديداً، فيذبح ويطبخ ويدعو أصدقاءَه وأقرباءَه، ويسمى هذا الطعام، طعام الوكيرة، فهذا عمل لا بأس به، ويؤجر المرء عليه إن شاء الله.
والأصل في ذلك هو النية الصالحة، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المشهور: (إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئٍ ما نوى) .
والله الهادي إلى سواء السبيل(3/117)
المعاملات(3/119)
العربون في البيع جائز
يقول السائل: إنه صاحب محجر، واتفق مع شخص أن يبيعه حجارة للبناء، وأخذ منه مبلغاً من المال كعربون، ثم إن الشخص الآخر اتفق مع صاحب محجر آخر لتوريد الحجر، وجاء يطالبه بالعربون، فهل يحل له أن يأخذ العربون؟
الجواب: إن بيع العربون هو أن يبيع الإنسان الشيء ويأخذ من المشتري مبلغاً من المال يسمى عربوناً لتوثيق الارتباط بينهما على أساس أن المشتري إذا قام بتنفيذ عقده احتسب العربون من الثمن، وإن نكل كان العربون للبائع، المدخل الفقهي 1/495.
وقد اختلف فيه الفقهاء، فجمهور الفقهاء على أنه غير صحيح، لما روي في الحديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع العربان) رواه أحمد والنسائي وأبو داود ومالك، وهذا الحديث ضعيف.
قال الحافظ ابن حجر: " وفيه راوٍ لم يسمَّ، وسمي في رواية لابن ماجة ضعيفه عبد الله بن عامر الأسلمي وقيل هو ابن لهيعة وهما ضعيفان " التلخيص الحبير3/17، وضعف الحديث الشيخ الألباني في تخريجه للمشكاة 2/866.(3/121)
وأجاز الحنابلة بيع العربون وروي القول بصحة بيع العربون عن عمر وابنه عبد الله، وقال به محمد بن سيرين وسعيد بن المسيب، وقد ضعف الإمام أحمد الحديث الوارد في النهي عن بيع العربون، واحتج لصحته بما ورد عن نافع بن عبد الحارث " أنه اشترى لعمر دارالسجن من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم فإن رضي عمر كان البيع نافذاً وإن لم يرض فلصفوان أربعمئة درهم "، قال الأثرم: قلت لأحمد: " تذهب إليه؟ قال: أي شيء أقول؟ هذا عمر - رضي الله عنه -، وضعّف الحديث المروي " المغني 4/176.
واحتجوا على صحته بما رواه عبد الرزاق في المصنف، عن زيد ابن أسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (سئل عن بيع العربان فأحله) ، ولكنه مرسل وفيه ضعيف كما قال الشوكاني في نيل الأوطار 5/173.
والقول بصحة بيع العربون هو أرجح القولين في المسألة لما في ذلك من تحقيق مصالح العباد وخاصة أنه لم يثبت النهي عن بيع العربون عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
ومن المعلوم أن طريقة العربون، هي وثيقة الارتباط العامة في التعامل التجاري في العصور الحديثة، وتعتمدها قوانين التجارة وعرفها، وهي أساس لطريقة التعهد بتعويض ضرر الغير عن التعطل والإنتظار.
وقد أيد ذلك ابن القيم رحمه الله بما رواه البخاري في صحيحه في باب ما يجوز من الاشتراط، عن ابن عون عن ابن سيرين أنه قال: " قال رجل لكرّيه: أرحل ركابك فان لم أرحل معك في يوم كذا، فلك مئة درهم، فلم يخرج فقال شريح: من شرط على نفسه طائعاً غير مكره فهو عليه " المدخل الفقهي 1/495 -496، والكرّي هو المكاري الذي يؤجر الدواب للسفر، وأرحل ركابك، أي شدّ على دوابك رحالها استعداداً للسفر.
وبناءً على ما تقدم، يجوز أخذ العربون إن تراجع المشتري عن الصفقة.
وإن كنت أفضل أن يعاد العربون لصاحبه خروجاً من الخلاف ورحمة بالناس.(3/122)
يحرم التعامل بالربا مطلقاً سواءً أكان مع مسلم أو مع غيره
يقول السائل: هل صحيح ما يقال، أنه يجوز التعامل بالربا بين المسلم وغير المسلم فيجوز للمسلم أن يضع أمواله في بنوك غير المسلمين، ويأخذ الربا ولا يكون ذلك حراماً؟
الجواب: إنّ الربا محرم بنصوص صريحة في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فمن ذلك قوله تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) سورة البقرة / 275 - 279.
وإنَّ أكثر العلماء على تحريم الربا في جميع الظروف والأحوال فالربا في ديار الإسلام حرام، وكذلك هو حرام في ديار الكفر، والربا بين المسلم والمسلم حرام، وكذلك هو حرام بين المسلم وغير المسلم، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وأبو يوسف من الحنفية، والزيدية وأهل الظاهر وغيرهم.
ونقل عن أبي حنيفة أنه يجيز الربا بين المسلم والكافر في دار الحرب فقد ورد عن أبي حنيفة قوله: " لو أنَّ مسلماً دخل أرض حربٍ بأمان، فباعهم الدرهم بالدرهمين لم يكن بذلك بأس ".
واستدل من أجاز الربا، بما ورد عن مكحول بن زيد الدمشقي عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب) ، وهذا(3/123)
الحديث ليس بثابت عن الرسول- صلى الله عليه وسلم -، كما قال الإمام الشافعي " وما احتج به لأبي حنيفة ليس بثابت فلا حجة فيه " معرفة السنن والآثار 13/276.
وقال الإمام الزيلعي عن هذا الحديث: بأنه غريب، أي لا أصل له.
وقال الإمام النووي عن حديث مكحول، أنه مرسل ضعيف، فلا حجة فيه.
ومذهب الجمهور هو الحق إن شاء الله، فالربا حرام في حق المسلم في كل بلدٍ سواء أكان بلد إسلام أم بلد حرب.
قال الإمام الشافعي: " ومما يوافق التنزيل والسنة ويعقله المسلمون، أنَّ الحلال في دار الإسلام حلالٌ في دار الكفر، والحرام في دار الإسلام حرامٌ في دار الكفر فمن أصاب حراماً فقد حدَّه الله على ما شاء منه، ولا تضع بلاد الكفر عنه شيئاً " الأم 4/165.
وقال الإمام النووي: " يستوي في تحريم الربا الرجل والمرأة والعبد والمكاتب بالإجماع، ولا فرق بين دار الإسلام ودار الحرب، فما كان حراماً في دار الإسلام كان حراماً في دار الحرب، سواءً جرى بين مسلمين أو مسلم وحربي، سواءً دخلها المسلم بأمان أم بغيره، هذا مذهبنا وبه قال الإمام مالك وأحمد وأبو يوسف والجمهور " المجموع 9/391 - 392.
ومما يرد على القائلين بالجواز، أنَّ حديث مكحول ضعيفٌ لا يصلح للاستدلال به، ولو كان مقبولاً، فإنه معارضٌ لإطلاق النصوص من كتاب الله وسنة رسوله الواردة في تحريم الربا.
قال ابن قدامة: " ولا يجوز ترك ما ورد تحريمه بالقرآن وتظاهرت به السنة، وانعقد الإجماع على تحريمه بخبر مجهول لم يرد في صحيحٍ ولا مسند ولا كتاب موثوق، وهو مع ذلك مرسلٌ محتمل، ويحتمل أنَّ المراد بقوله (لا ربا) النهي عن الربا كقوله تعالى: (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) سورة البقرة /197 " المغني 4/32.
ومما يؤيد القول بالتحريم، قياس الربا على القمار وشرب الخمر(3/124)
بجامع أنّ كل ذلك معصية، فالقمار وشرب الخمر لا يحلان في دار الحرب وكذلك الربا، فما كان حراماً في دار الإسلام فهو حرامٌ في دار الكفر، ولا فرق.
*****
تعقيب على مقال " البنوك وفتوى شيخ الأزهر "
كتب د. تيسير التميمي في جريدة القدس بتاريخ 9/2/1998 تعليقاً على فتوى شيخ الأزهر المتعلقة بالبنوك، وأشار إلى المكانة التي يتبوؤها شيخ الأزهر، وطرح موضوع الفتوى للمناقشة لمن يهمه الأمر.
وقد كان يجول في خاطري منذ زمن أن أعلق على فتوى شيخ الأزهر، حول فوائد البنوك، إذ أنه قد طرح رأيه هذا منذ سنين مضت، ولكن كنت أحجم عن ذلك لأن عدداً من كبار العلماء قد ردوا على فتوى شيخ الأزهر ووضعوا في ذلك مؤلفات، مثل د. يوسف القَرَضَاوي، ود. علي السالوس وغيرهما.
ولكن لما أعيد طرح هذه الفتوى مرة أخرى في الصحافة المحلية، أحببت أن أدلي بدلوي في هذا الموضوع، فأقول وبالله التوفيق:
ينبغي أن يعلم أن الحق لا يعرف بالرجال، وإنما الرجال هم الذين يعرفون بالحق، فصدور الفتوى من أي مرجع مهما كانت مكانة هذا المرجع، لا يعطيها صفة الحق والصواب، وإنما هذه الصفة تُستَمَد من الأدلة والمستندات التي تعتمد عليها تلك الفتوى، وقد قال الإمام مالك يرحمه الله: " كلٌ يؤخذ منه ويترك إلا الرسول - صلى الله عليه وسلم - ".
وإن كان صدور الفتوى من مرجع مرموق يتولى منصباً رفيعاً، له أثر كبير على عامة الناس، ولكن ذلك لا يعني شيئاً كثيراً عند أهل العلم، هذا من جهة، وأما من الجهة الأخرى، فإن الرد العلمي على فتوى شيخ الأزهر، لا يتسع له هذا المقام، حيث إنه يحتاج إلى صفحات وصفحات،(3/125)
وقد كفانا المؤونة العلماء الذين أشرت لهم، ولكن لا بأس بذكر بعض الأمور التي تلقي الضوء على إبطال الفتوى، فأبدأ أولاً بذكر ما صدر عن شيخ الأزهر الحالي صاحب هذه الفتوى عندما كان مفتياً للديار المصرية، حيث إنه أصدر فتوى في تحريم فوائد البنوك، وأذكر هنا نص السؤال المقدم إليه، وجوابه عليه:
((سؤال ورد إلى دار الإفتاء من المواطن، يوسف فهمي حسين، وقيد برقم 515/ لسنة 1989، يقول فيه: إنه قد أحيل على المعاش، وصرفت له الشركة التي كان يعمل فيها مبلغاً - أربعين ألف جنيه -، والمعاش الذي يتقاضاه لا يفي بحاجته الأسرية، ولأجل أن يغطي حاجيات الأسرة، وضع المبلغ في بنك مصر، في صورة شهادات استثمار بعائد شهري، حيث لم يعد هناك أمان لوضع الأموال في شركات توظيف الأموال، وعندما فكر في وضعها في أي مشروع، لم يجد وخاصة أن حالته الصحية لا تسمح بالقيام بأي جهد، وقد قرأ تحقيقاً بجريدة أخبار اليوم، شارك فيه بعض المشايخ والعلماء الأفاضل، بأن الودائع التي تودع في البنوك تخدم في مشاريع صناعية وتجارية، وأن هذه الشهادات الإستثمارية تدر عائداً حلالاً لا رباً.... إلى أن قال السائل: وحيث إنه حريص على أن لا يدخل بيته حراماً، بعث إلى دار الإفتاء يستفسر عن رأي الدين في هذا الأمر، حيث إن بعض العلماء يقولون بأن العائد حلالٌ والبعض الآخر يقولون إنه رباً)) .
هذا هو نص السؤال الوارد إلى دار الإفتاء فماذا كان جواب المفتي؟
((الجواب: بعد المقدمة......
يقول الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) سورة البقرة / 278 - 279.
ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي أبو سعيد قال: قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى،(3/126)
الآخذ والمعطي فيه سواء) رواه أحمد والبخاري ومسلم.
أجمع المسلمون على تحريم الربا، الربا في اصطلاح فقهاء المسلمين هو زيادة مال في معاوضة مال بمال دون مقابل، وتحريم الربا بهذا المعنى أمر مجمع عليه في كل الشرائع السماوية.
لما كان ذلك وكان إيداع الأموال في البنوك، أو إقراضها، أو الإقتراض منها بأي صورة من الصور مقابل فائدة محدودة مقدماً زمناً ومقداراً، يعتبر قرضاً بفائدة، وكل قرض بفائدة محددةً مقدماً حرام، كانت تلك الفوائد التي تعود على السائل داخلة في نطاق ربا الزيادة المحرم شرعاً، بمقتضى النصوص الشرعية، وننصح كل مسلم بأن يتحرى الطريق الحلال لاستثمار أمواله، والبعد عن كل ما فيه شبهة حرام لأنه مسؤول يوم القيامة عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه)) .
أخي القارئ ما تقدم، هو نص الفتوى التي صدرت عن مفتي جمهورية مصر العربية الدكتور. محمد طنطاوي، بتاريخ 20/2/1989، وسجلت برقم 41/124، وهو نفسه الذي صار شيخ الأزهر فيما بعد وما زال، وأصدر الفتوى التي تنص على أن فوائد البنوك ليست من الربا المحرم، وأن لا فرق بين بنك إسلامي وغير إسلامي.
والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا غيَّر الشيخ طنطاوي فتواه تغييراً جذرياً، ففي الفتوى الأولى الربا حرام، وفوائد البنوك حرام، وفي الثانية فوائد البنوك ليست من الربا المحرم.
ومن المعلوم عند أهل العلم أن تغيير الفتوى في المسألة الواحدة من العالم الواحد لا بدَّ له من سبب صحيح، فإذا بنى المجتهد فتواه على اجتهاد، ثم بلغه حديث شريف لم يكن قد سمع به من قبل، والفتوى تعارضه يلزمه العدول فوراً عن قوله إلى قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وإذا أفتى في واقعة ثم تغيرت الواقعة وجب أن تتغير الفتوى تبعاً لتغير الواقعة انظر فوائد البنوك هي الربا المحرم للدكتور. يوسف القرضاوي ص 140 - 142.(3/127)
ومن المسلّم به والمؤكد أن البنوك الربوية لم تتغير طبيعة عملها وأنظمتها، ولم تختلف صورة تعاملها في الفترة ما بين الفتوى الأولى للشيخ طنطاوي، عندما كان مفتياً لمصر، والفتوى الثانية عندما صار شيخاً للأزهر.
إن الأدلة التي ساقها الشيخ طنطاوي في الفتوى الأولى في تحريم فوائد البنوك لم تتغير، فالأدلة من كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تحريم الربا ما زالت قائمة وستبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.
بعد هذا أقول:
إن فتوى شيخ الأزهر بإباحة فوائد البنوك الربوية، مناقضة تماماً للنصوص الصريحة من كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تحريم الربا، ومخالفة لأقوال العلماء والفقهاء قديما ً وحديثاً في تحريم الربا بمختلف صوره وأشكاله، ولا شك لدى العلماء والفقهاء في هذا العصر، أن فوائد البنوك هي من الربا المحرم، وقد انعقدت مجامع علمية كثيرة في هذا العصر، وأقرت وأكدت على أن فوائد البنوك هي من الربا المحرم، فمن ذلك:
1 - قرار المؤتمر الإسلامي الثاني لمجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة سنة 1965 م والذي حضره عدد كبير من العلماء من مختلف العالم الإسلامي، ومن ضمن قراراته " الفائدة على أنواع القروض كلها رباً محرم ".
2 - قرار مجمع الفقه الإسلامي، التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية سنة 1985 م والذي يضم ثلة من فقهاء العالم الإسلامي.
3 - قرار المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي سنة 1406 هـ.
4 - قرار المؤتمر الثاني للمصارف الإسلامية لسنة 1983 م.
5 - لجنة الفتوى بالأزهر الشريف لسنة 1988 م.
6 - البيان الصادر عن علماء الأزهر بمكة المكرمة، عن حرمة معاملات البنوك الربوية، رداً على مفتي مصر، ووقع عليه ثلاثة وثلاثون عالماً أزهرياً.(3/128)
وغير ذلك من الفتاوى....
وقد ردَّ فتوى شيخ الأزهر عددٌ كبير من أهل العلم المعتبرين، وأبطلوا فتواه من وجوه كثيرة يضيق المقام عن ذكرها، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى:
1. كتاب الدكتور يوسف القَرَضَاوي [فوائد البنوك هي الربا المحرم] .
2. كتاب الدكتور علي السالوس [الإقتصاد الإسلامي] .
3. كتاب الدكتور وهبة الزُحَيّلي [الفقه الإسلامي وأدلته / ج 9] ، وغيرها.
" وإننا لنعجب كثيراً ونشفق على فضيلة المفتي، وعلى المسلمين إذ هو يشككهم في أمور مجمع عليها، بل تعتبر مما عُلمَ من الدين بالضرورة، وإذا تطرَّق الشك إلى هذه الأمور وصل الأمر إلى هدم الشريعة من الأساس، فهل يسمح لنا المفتي أن نسأله: إذا كانت فوائد البنوك ليست ربا، فما هو الربا المحرم شرعاً؟ " الإقتصاد الإسلامي 1/369.
*****
لا يجوز الإشتراط في القرض دفع غرامة مالية إذا تأخر المقترض في السداد
يقول السائل: إنه اقترض مبلغاً من المال لبناء مسكن له، على أن يسدد القرض على أقساط، واشترط عليه أنه إذا تأخر في سداد قسط من الأقساط أن يدفع غرامة مالية بسبب التأخير، واشترط عليه أنه لا يجوز له بيع المسكن إلا بموافقة المقرض وإذا باع مسكنه فإنه يدفع غرامة مالية للمقرض زيادة على القرض، فما الحكم في ذلك؟
الجواب: القرض الحسن مشروع بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد قال تعالى: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) سورة البقرة /245.(3/129)
ووجه الدلالة فيه، أن الله سبحانه وتعالى شبه الأعمال الصالحة والإنفاق في سبيل الله بالمال المقرَض، وشبه الجزاء المضاعف على ذلك ببدل القرض شيئاً ليأخذ عوضه، ومشروعية المشبه تدل على مشروعية المشبه به، عقد القرض ص13.
وثبت في الحديث الصحيح، عن أبي رافع - رضي الله عنه -، (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استلف من رجل بكراً - أي جملاً فتياً - فقدمت على الرسول - صلى الله عليه وسلم - إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره فقال: يا رسول الله، لم أجد فيها إلا خياراً رباعياً - أي جملاً كبيراً -، فقال: أعطه، فإن خير الناس أحسنهم قضاءً) رواه مسلم.
وإقراض المعسر وتفريج كربه أمر مرغَّب فيه شرعاً ويدخل ذلك في عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر، يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلماً، ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) رواه مسلم.
وللمقرِض أجر عظيم عند الله سبحانه وتعالى فقد جاء في الحديث عن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما من مسلم يقرض مسلماً قرضاً مرتين، إلا كان كصدقة مرة) رواه ابن حبان في صحيحه وابن ماجة والطبراني وهو حديث حسن.
وينبغي أن يعلم أنَّ القروض تقضى بأمثالها، ولا يجوز شرعاً الزيادة المشروطة في رد بدل القرض، وكل زيادة تعتبر من باب الربا.
قال الحافظ ابن عبد البر: " وكل زيادة في سلف أو منفعة ينتفع بها المسلِف فهو ربا، ولو كانت قبضة من علف، وذلك حرام إن كان بشرط ".
وقال ابن المنذر: " أجمعوا على أن المسلِف إذا شرط على المستلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك، إن أخذ الزيادة ربا " الموسوعة الفقهية 33/130.(3/130)
وهنا لا بد من التنبيه على بعض القضايا المهمة والمتعلقة بالقروض:
أولاً: يحرم على المدين الموسر أن يماطل في أداء ما حلَّ عليه من الأقساط، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (مطل الغني ظلم) رواه البخاري ومسلم.
ثانياً: وإن ماطل المدين الموسر، يحرم شرعاً فرض أية غرامة مالية عليه، في حال التأخر عن السداد لأن ذلك يعتبر من الربا، وهذا ما قرره أكثر الفقهاء قديماً وحديثاً، وأخذت به المجامع الفقهية المعتمدة، فقد جاء في قرار مجلس المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي، بمكة المكرمة ما يلي:
((نظر المجمع الفقهي في موضوع السؤال التالي، إذا تأخر المدين عن سداد الدين في المدة المحددة، فهل للبنك الحق أن يفرض على المدين غرامة مالية، جزائية بنسبة معينة بسبب التأخر عن السداد في الموعد المحدد بينهما؟
الجواب: وبعد البحث والدراسة، قرر المجمع الفقهي بالإجماع ما يلي: إن الدائن إذا شرط على المدين أو فرض عليه أن يدفع له مبلغاً من المال غرامة مالية جزائية محددة أو بنسبة معينة، إذا تأخر عن السداد في الموعد المحدد بينهما، فهو شرط أو فرض باطل، ولا يجب الوفاء به، ولا يحل سواءً أكان الشارط هو المصرف أو غيره، لأن هذا بعينه هو ربا الجاهلية الذي نزل القرآن بتحريمه)) .
وفد يقول قائل: إن هذا الكلام يشجع المدينين على المماطلة وعدم الوفاء بالدين، ونقول يمكن للمقرض أن يشترط على المدين أنه في حالة تأخره عن سداد قسط من أقساط الدين تحلّ بقية الأقساط ويمكن اتخاذ أمور أخرى ضد المدين المماطل كمطالبة الكفلاء وغير ذلك.
ثالثاً: لا يجوز شرعاً منع المقترض من بيع منزله الذي بناه بالقرض، لأن ذلك مخالف للقواعد المقررة شرعاً من حرية تصرف المالك في ملكه وغير ذلك.(3/131)
ولا يصح إلزام المقترض بأية غرامة مالية في حال بيعه مسكنه لأن ذلك نوع من الربا المحرم شرعاً.
رابعاً: لا يجوز شرعاً ربط الديون بمستوى الأسعار أو جدول غلاء المعيشة، فقد قرر مجمع الفقه الإسلامي في دورته الخامسة ما يلي: ((العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما هي بالمثل وليس بالقيمة لأن الديون تقضى بأمثالها فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة أياً كان مصدرها بمستوى الأسعار)) مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الخامس، الجزء الثالث / ص 2261.
لا يجوز فرض غرامة مالية على المدين المماطل
يقول السائل: اشترى شخص مني عقاراً بالتقسيط، ودفع بعض الأقساط، ولم يكمل دفع بقية الأقساط، وقد استلم العقار، وهذا الشخص قادر على تسديد بقية الأقساط، إلا أنه يماطل وقد مضى على موعد تسديد آخر قسط ثلاث سنوات وما يزال يماطل فهل يحق لي أن أطالبه بتعويضٍ مالي مقابل العطل والضرر الذي ألحقه بي؟
الجواب: يجب أن يعلم أولاً أنه يحرم على الغني أن يماطل فيما وجب عليه من حقوق، كالدين مثلاً، وكذلك من وجد أداءً لحق عليه وإن كان فقيراً تحرم عليه المماطلة، وقد ثبت في الحديث الصحيح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مطل الغني ظلم) رواه البخاري ومسلم.
قال الحافظ ابن حجر: " والمراد هنا تأخير ما استحق أداؤه بغير عذر، والغني مختلف في تعريفه ولكن المراد به هنا من قدر على الأداء فأخره ولو كان فقيراً " فتح الباري 5/371.
وقال الحافظ أيضاً: " وفي الحديث الزجر عن المطل، واختلف هل(3/132)
يعد فعله عمداً كبيرة أم لا؟ فالجمهور على أن فاعله يفسَّق " فتح الباري 5/372.
وكما جاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ليُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته) رواه أبو داود والنسائي وأحمد بإسناد حسن كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري 5/459.
وذكره الإمام البخاري تعليقاً فقال: " باب لصاحب الحق مقالاً، ويذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته) .
قال سفيان: عرضه تقول: مطلتني، وعقوبته الحبس، والمراد بقوله (ليّ الواجد) أي مماطلة من يجد أداء الحقوق التي عليه، وقوله (يحل عرضه وعقوبته) المراد به كما فسره سفيان أن يقول صاحب الحق، أو صاحب الدين: مطلني فلان، وعقوبته أن يسجن.
إذا تبين لنا حرمة مماطلة المقتدر على سداد ديونه، فنقول: اتفق أهل العلم على أنه لا يجوز معاقبة المماطل بفرض غرامة مالية عليه، لأن ذلك يعتبر من باب الربا المحرم، وإنما يعاقب بالحبس فقط.
((وقد بحث مجمع الفقه الإسلامي هذه القضية بحثاً موسعاً، وخلص إلى ما يلي:
1 - إذا تأخر المشتري في دفع الأقساط عن الموعد المحدد فلا يجوز إلزامه أي زيادة على الدين بشرط أو بدون شرط، لأن ذلك رباً محرَّم.
2 - يحرم على المدين المليء أن يماطل في أداء ما حل من الأقساط، ومع ذلك لا يجوز شرعاً اشتراط التعويض في حالة التأخر عن الأداء.
3 - يجوز شرعاً أن يشترط البائع بالأجل حلول الأقساط قبل مواعيدها عند تأخر المدين عن أداء بعضها ما دام المدين قد رضي بهذا الشرط عند التعاقد)) مجلة المجمع الفقهي عدد 6 جزء 1، ص447 - 448.
وأخيراً ينبغي أن ننبه إلى أن هذا الحكم إنما هو في حق الغني المماطل(3/133)
وأما إذا كان المدين معسراً فإن الله سبحانه وتعالى طلب إنظاره إلى ميسرة، كما قال تعالى: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) سورة البقرة /280.
لا يصح اشتراط عقدٍ آخر مع القرض
يقول السائل: توفي شخص وترك ثلاث بنات وولد، وقد وزعت التركة حسب الشرع، فرغبت البنات في بيع حصتهن في قطعة أرض لشخص ما بسعر أقل من السعر المتعارف عليه والولد - أخو البنات - لا يملك ثمن الأرض ليتقدم بالشراء فعرض عليه أحد الأشخاص أن يقرضه ثمن الأرض، وشرط عليه أن يبيعه جزءاً من الأرض، فهل يجوز ذلك؟
الجواب: لا يجوز شرعاً للمقرض أن يشترط أي عقد آخر مع القرض، كالبيع أو الإجارة، أو يشترط أن يقرضه المقترض، وهذا مذهب جمهور أهل العلم لما ثبت في الحديث، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يحل سلف وبيع) رواه أبو دلود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد وغيرهم، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وقال الشيخ الألباني: حسن، إرواء الغليل 5/146.
قال الشيخ ملا علي القاري: " لا يحل سلف وبيع، أي معه يعني مع السلف، بأن يكون أحدهما مشروطاً في الآخر.
قال القاضي رحمه الله: " السلف يطلق على السلم والقرض والمراد هنا شرط القرض.... أي لا يحل بيع مع شرط سلف بأن يقول مثلاً: بعتك هذا الثوب بعشرة على أن تقرضني عشرة نفي الحل اللازم للصحة ليدل على الفساد من طريق الملازمة " مرقاة المفاتيح 6/89.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " معنى الحديث أن لا يجمع بين معاوضته وتبرع لأن ذلك التبرع إنما كان لأجل المعاوضة لا تبرعاً مطلقاً(3/134)
فيصير جزءاً من العوض" مجموع الفتاوى 29/62 - 63.
وقال الشيخ ابن القيم: " وأما السلف والبيع فلأنه إذا أقرضه مئة إلى سنة، ثم باعه ما يساوي خمسين بمئة، فقد جعل هذا البيع ذريعة إلى الزيادة في القرض الذي موجبه ردّ المثل ولولا هذا البيع لما أقرضه، ولولا عقد القرض لما اشترى ذلك " تهذيب سنن أبي داود 9/295 - 296
وبناءً على ما تقدم، فإن اشتراط البيع المذكور في السؤال باطل شرعاً.
سداد الدين بعملة أخرى
يقول السائل: هل يجوز لمن أقرض شخصاً، مبلغ عشرة آلاف شيكل مثلاً أن يتفق مع المقرض على أن يسددها بما يعادلها من الدولارات عندما يحين موعد السداد؟
الجواب: لا يجوز لمن اقترض مبلغاً بعملة معينة أن يتفق مع المقترض على سداد القرض بعملة أخرى، فإذا استدان شخص ألف دينار أردني فإن الواجب عليه سداد ألف دينار أردني فقط، لأنها هي الثابتة في ذمته.
وكذلك لا يجوز ربط قيمة الدين بالذهب عند الإستدانة ليتم السداد بالذهب يوم السداد لأن اختلاف العملة يفسح مجالاً للتفاضل مع التأجيل، فيصير قرضاً ربوياً كما تدل على ذلك الأحاديث النبوية على أن هذه المبادلة تصير بيعاً ممنوعاً، فالذهب بالفضة لا يجوز بالأجل لأنه يصير حينئذٍ صرفاً مؤجلاً، انظر الجامع في أصول الربا ص 283.
إلا أنه يجوز اتفاق الدائن والمدين في يوم سداد الدين على قضاء الدين بعملة أخرى بسعر صرفها في يوم السداد، فمثلاً استدان شخص من آخر مبلغ ألف دولار، على أن يسددها بعد سنة، ولما حان يوم السداد، اتفق الدائن والمدين على أن يسدد المدين الألف دولار بقيمتها بالدينار(3/135)
الأردني، فيجوز ذلك بشرط أن لا يبقى شيء لأحدهما في ذمة الآخر.
وهذا مذهب جماعة من أهل العلم، ويدل عليه ما ورد في الحديث عن ابن عمر- رضي الله عنه - قال: (كنت أبيع الإبل في البقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ بالدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ بالدنانير، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ بالدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ بالدنانير، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا بأس، إذا أخذتهما بسعر يومهما فافترقتما وليس بينكما شيء) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد وغيرهم، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وقال الشيخ الأرناؤوط: اسناده حسن على شرط مسلم.
وعن يسار بن نمير قال: " كان لي على رجل دراهم، فعرض عليّ دنانير، فقلت: لا آخذها حتى أسأل عمر، فسألته فقال: إئت بها الصيارفة فاعرضها فإذا قامت على سعر فإن شئت فخذها، وإن شئت فخذ دراهمك " ذكره ابن حزم في المحلى.
((وقد قرر مجمع الفقه الإسلامي ما يلي بالنسبة إلى هذه المسألة:
أولاً: الدين الحاصل بعملة معينة لا يجوز الاتفاق على تسجيله في ذمة المدين بما يعادل قيمة تلك العملة من الذهب أو من عملة أخرى على معنى أن يلتزم المدين بأداء الدين بالذهب أو العملة الأخرى المتفق على الأداء بها.
ثانياً: يجوز أن يتفق الدائن والمدين يوم السداد لا قبله على أداء الدين بعملة مغايرة لعملة الدين إذا كان ذلك بسعر صرفها يوم السداد، وكذلك يجوز الدين على أقساط بعملة معينة الاتفاق يوم سداد أي قسط على أدائِه كاملاً بعملة مغايرة بسعر صرفها في ذلك اليوم ويشترط في جميع الأحوال أن لا يبقى في ذمة المدين شيء مما تمت عليه المصارفة في الذمة)) .(3/136)
يحرم أخذ الأجرة على عسب الفحل
يقول السائل: ما حكم أخذ صاحب الثور أو التيس أجرة مقابل تلقيح الإناث من البقر أو المعز؟
الجواب: ثبت في الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عسب الفحل) رواه البخاري.
قال الزبيدي: " العسب ضراب الفحل أو العسب ماؤه أي الفحل فرساً كان أو بعيراً.... والعسب إعطاء الكراء على الضراب " تاج العروس 2/231.
وثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال: (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع ضراب الجمل) ، قال الإمام النووي: " معناه عن أجرة ضرابه وهو عسب الفحل المذكور في حديث آخر " شرح النووي على صحيح مسلم 4/177.
وقد أخذ جمهور الفقهاء من هذين الحديثين أنه لا يجوز شرعاً أخذ الأجرة على الفحل للتلقيح، وكذلك اتفق أهل العلم على حرمة بيع عسب الفحل.
قال الحافظ ابن حجر: ".... وعلى كل تقدير، فبيعه وإجارته حرام لأنه غير متقوم ولا معلوم ولا مقدور على تسليمه " فتح الباري 5/368.
وأما إذا لم يكن هناك شرط مسبق على بيع ماء الفحل أو أخذ الأجرة عليه، فأهدى صاحب الإناث لصاحب الفحل شيئاً يكرمه به فلا بأس في ذلك، كما هو مذهب جماعة من أهل العلم، ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن أنس بن مالك (أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عسب الفحل فنهاه فقال: يا رسول الله، إنا نطرق الفحل فنكرم، فرخص له في الكرامة) رواه الترمذي وقال: حسن غريب، تحفة الأحوذي 4/412، وقال الشيخ الألباني: صحيح، انظر صحيح سنن الترمذي 2/22.(3/137)
وقال الإمام البغوي: " أما إعارة الفحل للإنزاء وإطراقه فلا بأس به، ثم لو أكرمه المستعير بشيء يجوز له قبول كرامته " شرح السنة 8/139.
سماح صاحب الأرض لجاره بالمرور من الأرض لا يعطي الجار الحق في الطريق
يقول السائل: إنه اشترى أرضاً من آخر بموجب عقد صحيح، وكان البائع يسمح لجار له بالمرور من أرضه التي باعها للمشتري، ولم يذكر في عقد البيع أي شيء عن الطريق، واستمر المشتري بالسماح للجار بالمرور من الأرض مدة من الزمن، ثم ادعى الجار أن له حقاً شرعياً في الطريق بالتقادم، وصاحب الأرض ينفي ذلك، فما قولكم في المسألة؟
الجواب: لا يحق لجار الأرض المذكور أن يطالب بالمرور من أرض جاره، وإن مضى على مروره فيها سنوات طويلة، لأن مالك الأرض أذن له بالمرور تفضلاً وإحساناً أو سكت عن ذلك، ثم إنه لما باع الأرض كاملة بحدودها المعروفة، ولم يبين للمشتري وجود حق للجار في الطريق، وبناءً على ذلك لا يثبت له حق المرور بالتقادم، فلا يعتبر التقادم في الشريعة الإسلامية سبباً صحيحاً من أسباب كسب الحقوق أو إسقاطها ديانة لأنه لا يجوز شرعاً أن يأخذ أحد مال آخر إلا بسبب شرعي، لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس) رواه أحمد والبيهقي والطبراني وقال الشيخ الألباني: صحيح، إرواء الغليل 5/279.
ولأن الحق في الإسلام أبدي لا يزول إلا بمسوغ شرعي ولا مسوغ شرعي في هذه المسألة.
وعليه لا يصح ادعاء جار الأرض بحقه في المرور عبر أرض جاره إلابإذن الجار ورضاه.(3/138)
مضاربة فاسدة
يقول السائل: إنه يملك سيارة أجرة، واتفق مع سائق ليشتغل عليها، على أن يدفع السائق خمسين ديناراً في اليوم لصاحبها، فما الحكم في ذلك؟
الجواب: إن هذه المسألة من صور شركة المضاربة على قول بعض الفقهاء الذين يجيزون أن يكون رأس مال المضاربة، أدوات يمتلكها صاحب المال، وبهذا قال الشيخ ابن قدامة في المغني 5/8: " وإن دفع الرجل دابته إلى آخر ليعمل عليها وما يرزق الله بينهما نصفين أو أثلاثاً أو كيفما شرطا صح نص عليه في رواية الأثرم ومحمد بن أبي حرب وأحمد بن سعيد، ونقل الأوزاعي ما يدل على صحة هذا.... ".
وقاس ابن قدامة جواز هذه المسألة على المزارعة لما ثبت في حديث جابر: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى خيبر على الشطر -أي النصف-) رواه البخاري.
هذا ما يتعلق بأصل السؤال، وأما الشرط المذكور، وهو أن يدفع السائق خمسين ديناراً لصاحب السيارة فهو شرط باطل يؤدي إلى بطلان العقد، إذ لا يصح في عقد المضاربة أن يكون نصيب أحد الشريكين مبلغاً معيناً من المال ولا بد أن يكون جزءاً مشاعاً كأن يتفقا على أن لكل واحد منهما النصف أو لأحدهما الثلث وللآخر الثلثان ونحو ذلك، كما يصح إذا اتفقا على أن يكون نصيب أحدهما نسبة مئوية مثل 15% أو 30% وهكذا.
وبناءً على ما سبق فإن صورة التعاقد المذكورة في السؤال باطلة لا تصح.
حقوق الناس لا تسقط بالشهادة
يقول السائل: إذا كان من قُتل في سبيل الله يُكفَّر عنه كل شيء إلا الدين، فما الحال إذا كان هذا الشخص سارقاً أو آخذاً لحقوق الناس بغير الحق فهل تكفر هذه عنه، أفيدونا؟(3/139)
الجواب: ثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين) رواه مسلم.
قال الإمام النووي: " وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إلا الدين) ففيه تنبيه على جميع حقوق الآدميين، وأن الجهاد والشهادة وغيرهما من أعمال البر لا يكفر حقوق الآدميين، وإنما يكفر حقوق الله تعالى " شرح صحيح مسلم للنووي 5/28.
وقال التوربشتي: " أراد بالدين هنا ما يتعلق بذمته من حقوق المسلمين إذ ليس الدائن أحق بالوعيد والمطالبة منه من الجاني والغاصب والخائن والسارق " تحفة الأحوذي 5/302.
ويؤخذ من هذا الحديث أن من كان في ذمته حقوق للعباد فلا تسقط عنه ولا تكفر، وأن التكفير خاص بما بين العبد وبين ربه من كبيرة أو صغيرة، وحقوق العباد لا تدخل ضمن ذلك، وذكر الدين لينبه على غيره من حقوق العباد، ويؤيد ذلك ما جاء في الحديث، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من كانت عنده مظلمة لأحد فليتحلله، فإنه ليس ثم دينار ولا درهم، من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئاته وطرح عليه) رواه البخاري.
حكم الرجوع في الهبة
يقول السائل: هل يجوز لمن وهب آخر هبة، أن يعود ويرجع عن تلك الهبة؟
الجواب: الهبة مشروعة ومستحبة، ومن الأمور التي تقوي المودة بين الناس، وينبغي أن تكون الهبة بطيب نفس ورضاً تام، وتتم الهبة بالإيجاب والقبول والقبض، فإذا قبض الموهوب الهبة فلا يحل للواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد فيما يهبه لولده لورود الأدلة المخصصة للوالد من(3/140)
هذا الحكم، وهو حرمة الرجوع في الهبة ويدل على ذلك أحاديث منها: - عن قتادة قال: سمعت سعيد بن المسيب يحدث عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (العائد في هبته كالعائد في قيئه) رواه البخاري ومسلم.
- عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليس لنا مثل السوء، الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه) رواه البخاري.
- وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (مثل الذي يرجع في صدقته كمثل الكلب، يقيء ثم يعود في قيئه فيأكله) رواه مسلم.
فهذه الأحاديث وغيرها تدل على تحريم الرجوع في الهبة، وهذا مذهب جمهور الفقهاء وأهل الحديث.
قال الإمام البخاري: " باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته ثم ذكر حديثي ابن عباس، الأول والثاني "، أنظر فتح الباري 6/162 - 163.
وقال الإمام النووي: " باب تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض إلا ما وهبه لولده، وإن سفل " شرح صحيح مسلم 4/236.
ويبغي للواهب أن يعلم أن العائد في هبته قد شبهه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالكلب الذي يقيء، ثم يعود فيأكل منه، وهذا مثل سوء فلا ينبغي للمسلم أن يتمثل بالكلب، وقد جاء في الحديث أنه ينبغي تعريف الواهب الذي يريد الرجوع في هبته بهذا المثل حتى يرتدع فلا يعود في هبته، فقد روى أبو داود بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (مثل الذي يسترد ما وهب كمثل الكلب، يقيء فيأكل قيئه، فإذا استرد الواهب فليتوقف فليعرف بما استرد ثم ليدفع إليه ما وهب) رواه ابن ماجة، وقال الشيخ الألباني: حسن صحيح، انظر صحيح سنن ابي داود 2/676.(3/141)
ويستثنى من حكم الرجوع في الهبة، الوالد فيما وهبه لولده، فيصح للوالد أن يرجع فيما وهبه لولده، وقد دلت السنة الثابتة على ذلك، فقد ورد في الحديث عن طاووس، عن ابن عمر وابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يحل للرجل أن يعطي عطية أو يهب هبةً فيرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطي ولده، ومثل الذي يعطي العطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب، يأكل فإذا شبع قاء، ثم عاد في قيئه) رواه أصحاب السنن، وأحمد، وقال الترمذي حسن صحيح، ورواه ابن حبان والحاكم وصححاه، وصححه الشيخ الألباني أيضاً.
ويؤيد ذلك ما ورد في الحديث، عن النعمان بن بشير أنه قال: إن أباه أتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (إني نحلت ابني هذا غلاماً كان لي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أكلَّ ولدك نحلته مثل هذا، فقال: لا، فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فأرجعه) رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية عند مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبشير: (فاردده) .
قال الحافظ ابن حجر: " وحجة الجمهور في استثناء الأب أن الولد وماله لأبيه فليس في الحقيقة رجوعاً وعلى تقدير كونه رجوعاً فربما اقتضته مصلحة التأديب ونحو ذلك " فتح الباري 6/143.
وقد ألحق أكثر الفقهاء الأم بالأب في جواز الرجوع في الهبة.
حق التقادم
يقول السائل: يدّعي بعض الناس ملكيتهم بعض الأراضي عن طريق ما يسمّى حق التقادم، مع أن تلك الأراضي ليست من أملاكهم فعلاً، وإنما استعملوها لسنوات طويلة ثم اَدعوا ملكيتها، فما هو قولكم في هذه القضية؟
الجواب: حق التقادم، هو انقضاء زمان معين كخمسة عشر عاماً أو أكثر أو أقل على حق في ذمّة إنسان أو مرور تلك المدة على عين لغيره في(3/142)
يده، دون أن يطالب صاحبها، وهو قادر على المطالبة، المدخل الفقهي العام 1/243.
ويسمّى حق التقادم أيضاً مرور الزمان أو مضي المدة أو وضع اليد.
ومن المقرر عند أهل العلم، أن أسباب الملكية في الشريعة الإسلامية أربعة وهي:
1 - إحراز المباحات.
2 - العقود، كالبيع والشراء.
3 - الخلفية، كالميراث.
4 - التولد من المملوك.
وحق التقادم ليس سبباً من أسباب التملك الصحيحة في الشريعة الإسلامية، فلا يعتبر حق التقادم سبباً صحيحاً من أسباب كسب الحقوق أو إسقاطها ديانة، فلا يجوز شرعاً لأي إنسان أن يأخذ مال غيره بلا سبب شرعي، ويدل على ذلك قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس) رواه أحمد والبيهقي والطبراني، وقال الشيخ الألباني: صحيح، إرواء الغليل 5/279.
ولأن الحق في الإسلام أبدي لا يزول إلا بمسوغ شرعي، ولكن المجتهدين من فقهاء الإسلام بيّنوا أن حق التقادم يكون سبباً في منع الاستماع للدعوى بعد مضيّ مدة معينة كست وثلاثين سنة أو ثلاثين سنة أو خمسة عشرة سنة أو غير ذلك، لأن إهمال صاحب الحق لحقه هذه السنوات الطويلة بلا عذر، مع تمكنه من التقاضي يدل على عدم الحق غالباً فلو كان الحق لشخص ومضى عليه زمن طويل، ولم يطالب به فلا يعني هذا زوال حقه وضياعه، ولكن العلماء اجتهدوا، فمنعوا ذلك الشخص أن يترافع أمام القضاء بعد مضي تلك السنوات الطويلة وذلك تجنباً لإثارة المشكلات في الإثبات وما يتعلق بالقضاء من أمور أخرى، فمرور الزمان أو التقادم لا يسقط الحقوق مطلقاً بل الحق يبقى لصاحبه فمن وضع يده على(3/143)
قطعة أرض ليست له واستعملها سنوات طويلة لا يعني ذلك أن ملكيتها انتقلت إليه، فلا تبرأ ذمته إلا إذا أعادها إلى صاحبها، لأن الحقوق الثابتة لا يؤثر فيها مرور الزمن أو تقادم العهد.
وحق التقادم المانع من سماع الدعوى أمام القضاء يكون مقبولاً إذا لم يكن هنالك عذر شرعي في عدم رفع الدعوى، وأما إذا وجد عذر شرعي في عدم رفع الدعوى فإن الدعوى تسمع ولا يعتبر حق التقادم حينئذ مانعاً من سماع الدعوى.
جاء في المادة 1663 من مجلة الأحكام العدلية: " والمعتبر في هذا الباب، أي في مرور الزمن المانع لاستماع الدعوى هو مرور الزمن الواقع بلا عذر فقط، وأما في الزمن الحاصل بأحد الأعذار الشرعية ككون المدعي صغيراً أو مجنوناُ أو معتوهاً، سواء كان له وصيٌ، أو لم يكن له، أو كونه في ديار أخرى مدة السفر، أو كان خصمه من المتغلبة فلا اعتبار له، فلذلك يعتبر مبدأ مرور الزمن، من تاريخ زوال واندفاع العذر، مثلاً لا يعتبر الزمن الذي مرّ حال جنون أو عته أو صغر المدّعي، بل يعتبر مرور الزمن من تاريخ وصوله حد البلوغ، كذلك إذا كان لأحد مع أحد المتغلبة دعوى، ولم يمكنه الإدعاء لامتداد الزمن زمن تغلب خصمه وحصل مرور زمن لا يكون مانعاُ لاستماع الدعوى وإنما يعتبر مرور الزمن من تاريخ زوال التغلب ".
وأخيراً يجب أن يعلم، أن القضاء في الإسلام مظهر للحق لا مثبت له، وأن حكم القاضي لا يغير حقيقة الأشياء، لأن القاضي يحكم حسب الظاهر وبحسب اجتهاده.
ضمان صاحب الدابة لما تسببه من أضرار
يقول السائل: دهس سائق سيارة دابة لرجل، فانحرفت السيارة فأصيب السائق بجروح، وتضررت السيارة، ونفقت الدابة، فعلى من الضمان؟(3/144)
الجواب: إن الضمان في هذه المسألة على صاحب الدابة لأنه قصّر في حفظ دابته فإن لم يربطها ولم يتخذ الوسائل الكفيلة بعدم وصولها إلى الطريق الذي تسير فيه السيارات فهو ضامن، وعليه أن يعوض السائق عن جروحه التي أصيب بها، وكذلك عليه أن يعوضه بدل الأضرار التي لحقت بسيارته، ولا يضمن السائق الدابة.
والأصل في هذه المسألة ما رواه مالك في الموطأ، عن ابن شهاب، عن حرام بن سعد بن محيصة، أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائط -أي بستان- رجل فأفسدت فيه، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وأن ما أفسدته المواشي بالليل ضامن على أهلها) رواه أبو داود والنسائي، وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني.
وقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي المتعلق بحوادث السيارات ما يلي:
((ما تسببه البهائم من حوادث السير في الطرقات يضمن أربابها الأضرار التي تنجم عن فعلها إن كانوا مقصرين في ضبطها والفصل في ذلك للقضاء)) .
لا ضمان على صاحب البيت إن مات العامل بدون تقصير من صاحب البيت
يقول السائل: سقط عامل عن سقالة أثناء عمله في بيت أحد الأشخاص، فأصيب العامل بكسور، والعامل يطالب صاحب البيت بالتعويض عن الضرر الذي لحق به، فما قولكم في ذلك؟
الجواب: إذا كان صاحب البيت ليس له علاقة بسقوط العامل لا من قريب ولا من بعيد كأن يكون العامل هو الذي نصب السقالة، فلا ضمان على صاحب البيت حتى لو أن العامل توفي، فلا شيء على صاحب(3/145)
البيت ما دام العامل يعرف طبيعة العمل وهو الذي تولى إعداد السقالة فجروحه هدر وكذا دمه هدر إذا مات.
وقد ثبت في الحديث الصحيح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (العجماء جرحها جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار....) رواه البخاري ومسلم.
والعجماء هي الدابة، وجبار أي هدر.
والمراد بقوله: (العجماء جبار) أي أن الدابة إذا أتلفت شيئاً، أو قتلت إنساناً من غير تقصير من صاحبها، فلا ضمان فيما فعلت.
وقوله (البئر جبار) أي أنه إذا سقط أحد في بئر حفرها شخص في ملكه، فدخل أحد إلى ملك صاحب البئر فوقع فيها فمات، فدم الميت هدر، ولا شيء على صاحب البئر.
(والمعدن جبار) إي إذا حفر رجل منجماً أو محجراً، فانهار على شخص فمات فدمه هدر ولا شيء على صاحب المنجم أو المحجر.
وهذا ينطبق على العامل الذي يُستأجر للقيام بعمل ما فيسقط عليه جدار أو تنهار به السقالة أو يحدث حادث مفاجئ للآلة التي يعمل بها فلا ضمان على صاحب البيت ولا يجوز شرعاً تحميله شيئاً من دية الميت أو مطالبته بتعويض العامل عن الضرر الذي لحق به.
حكم المحكم لازم للمتخاصمين
يقول السائل: هل حكم المحكِّم أو المحكِّمين، ملزم للمتخاصمين اللذين رضيا بمبدأ التحكيم، ووافقا على المحكِّم أو المحكِّمين؟
الجواب: إن التحكيم بين الناس في الخصومات مشروع بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وثابت عن الصحابة والتابعين.(3/146)
فمن كتاب الله قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) سورة النساء /35.
وهذه الآية نص صريح في إثبات التحكيم كما قال القرطبي في تفسيرها، تفسير القرطبي 5/179.
ومن السنة النبوية ما رواه البخاري في صحيحه في قصة تحكيم سعد بن معاذ - رضي الله عنه - في يهود بني قريظة، وقد رضي الرسول - صلى الله عليه وسلم - بسعدٍ - رضي الله عنه - حكماً.
وكذلك ما رواه أبو داود بسنده عن يزيد بن المقدام عن شريح عن أبيه عن جده شريح عن أبيه هانئ: (أنه لما وفد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع قومه، سمعهم يكّنونه بأبي الحكم، فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن الله هو الحكم وإليه الحكم، فلم تكنّى أبا الحكم؟ فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الطرفين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أحسن هذا فما لك من الولد؟ قال: لي شريح ومسلم وعبد الله قال فمن أكبرهم؟ قال: قلت شريح فقال: أنت أبو شريح) ورواه النسائي أيضاً، وقال الشيخ الألباني: صحيح، إرواء الغليل 8/237.
وقد وقعت حوادث كثيرة في زمن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحكّمون فيها بين المتخاصمين، فمن ذلك ما وقع لعمر - رضي الله عنه - حين ساوم على فرس لرجل فركبه فعطب الفرس، فقال عمر للرجل: خذ فرسك، فقال الرجل: لا، فقال: إجعل بيني بينك حكماً، فقال الرجل: شريح فتحاكما إليه.... الخ " رواه ابن سعد في الطبقات، وقال الشيخ الألباني: رجاله ثقات، رجال الشيخين إلا أن الشعبي لم يدرك عمر، وغير ذلك من الآثار.
وإذا ثبت هذا فأقول: إن حكم المحكّم أو المحكّمين لازم للمتخاصمين، ولا يصح شرعاً رفض حكم المحكّم أو المحكّمين من قبل أحد المتخاصمين، وهذا مذهب جمهور أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية في القول المعتمد عندهم، والحنابلة، وهو قول الظاهرية، ونقل عن جماعة من السلف.(3/147)
ويدل على هذا، أن المتخاصمين ما داما قد قبلا بالتحكيم ورضيا بالمحكّم أو المحكّمين فلا بد لهما من قبول الحكم الذي يصدر عن المحكّم أو المحكمين.
ولولا أن حكم المحكّم لازم للمتخاصمين لما كان للترافع إليه أي معنىً، قياساً على الحاكم المولّى من ولي الأمر.
وقد جاء في المادة 1448 من مجلة الأحكام العدلية ما يلي:
"كما أن حكم القضاة لازم الإجراء في حق جميع الأهالي الذين في داخل قضائهم كذلك حكم المحكّمين لازم الإجراء، على الوجه المذكور في حق من حكّمهم وفي الخصوص الذي حكموا به، فلذلك ليس لأي واحد من الطرفين الإمتناع عن قبول حكم المحكّمين بعد حكم المحكّمين حكماً موافقاً لأصوله المشروعة ".
ومما ينبغي التنبيه عليه، أن حكم المحكّم أو المحكّمين يكون مقبولاً إذا كان موافقاً للأصول الشرعية، وينبغي أن يكون المحكّم أو المحكّمين من أهل العلم والخبرة في الشرع وفي القضية التي هي محل التحكيم.
ومن العلماء من يشترط في المحكّم أن يكون أهلاً للقضاء.
وينبغي أن لا يكون المحكّم قريباً لأحد المتخاصمين، قرابة تمنع الشهادة، حتى يكون أقرب إلى العدل، وأبعد عن التهمة.
يجوز الصلح بإسقاط الحق
يقول السائل: هل يجوز لمن أصلح بين اثنين في خلاف مالي أن يطلب من أحدهما إسقاط بعض حقه عن الآخر؟
الجواب: نعم، يجوز شرعاً للمصلح بين المتخاصمين أن يطلب من أحدهما إسقاط بعض حقه عن الآخر لإتمام الصلح بينهما، وإنهاء(3/148)
النزاع والخصومة فمن المعلوم عند أهل العلم أن الصلح جائز ومشروع بنص كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد قال تعالى: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) سورة النساء /114.
وقال تعالى: (وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) سورة النساء /128.
وورد في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الصلح جائز بين المسلمين، إلا ما حرّم حلالاً أو أحل حراماً، والمسلمون على شروطهم، إلا شرطاً حرّم حلالاً أو أحل حراماً) رواه الترمذي وأبو داود وغيرهما، وهو حديث حسن.
وقد ثبت في الحديث الصحيح، عن كعب بن مالك - رضي الله عنه -، أنه كان له على عبد الله ابن بي حدرد الأسلمي مال، فلقيه فلزمه حتى ارتفعت أصواتهما، فمرّ بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (يا كعب، فأشار بيده كأنه يقول النصف، فأخذ نصف ماله عليه وترك نصفاً) رواه الإمام البخاري.
وفي رواية للبخاري أيضاً، عن كعب أنه تقاضى ابن أبي حدرد ديناً كان له عليه في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته - أي ستر البيت -، فنادى: (يا كعب قال: لبيك يا رسول الله، فقال: ضع من دينك هذا، وأومأ إليه، أي الشطر، قال: لقد فعلت، قال: قم فاقضه) .
وفي هذا الحديث دلالة على جواز الشفاعة لصاحب الحق أن يسقط شيئاً من حقه حيث أشار الرسول - صلى الله عليه وسلم - لكعب لكي يسقط نصف دينه عن عبد الله بن أبي حدرد ثم أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن أبي حدرد أن يسدد الشطر الثاني من الدين لكعب بن مالك.
والله الهادي إلى سواء السبيل(3/149)
المرأة والأسرة(3/151)
تغريب النكاح
يقول السائل: ما المقصود بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (غربوا النكاح، لا تضووا) ؟
الجواب: إن الحديث المذكور، لم يثبت عن الرسول- صلى الله عليه وسلم -، وإنما ورد من كلام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فقد روى إبراهيم الحربي في غريب الحديث، عن عبد الله بن المؤمل، عن أبي مليكة قال: قال عمر لآل السائب: قد أضوأتم، فانكحوا في النوابغ، قال الحربي: يعني تزوجوا الغرائب، ذكره الحافظ ابن حجر العسقلاني في التلخيص الحبير 3/146.
وورد في رواية أخرى، أن عمر بن الخطاب قال لبني السائب - وقد اعتادوا الزواج بقريباتهم -: " مالي أراكم يا بني السائب قد ضويتم، غربوا النكاح لا تضووا ".
قال العلامة ابن منظور في لسان العرب: " وغلام ضاوي، وكذلك غير الإنسان من أنواع الحيوان، وما أدري ما أضواه، وأضوى الرجل، ولد له ولد ضاويٍ، وكذلك المرأة وفي الحديث اغتربوا لا تضووا، أي تزوجوا في البعاد الأنساب لا في الأقارب لئلا تضووا أولادكم، وقيل معناه، انكحوا في الغرائب دون القرائب فإن ولد الغريبة أنجب وأقوى وولد القريبة أضعف(3/153)
وأضوى،.... ومعنى لا تضووا، أي لا تأتوا بأولاد ضاوين أي ضعفاء.... الخ " لسان العرب / مادة ضوى.
وتغريب النكاح مطلوب لأن زواج الأقارب وخاصة إذا كان متكرراً في نطاق الأسرة الواحدة فإنه قد ينتج عنه نسل ضعيف، والزواج من الأقارب هو واسطة لإظهار الصفات المَرَضيِّة الكامنة وتكثيفها في النسل.
وقال الإمام الشافعي: " ليس من قوم لا يخرجون نسائهم إلى رجال غيرهم ولا يخرجون رجالهم إلى نساء غيرهم إلا جاء أولادهم حمقى " الإنتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء ص98.
قراءة الفاتحة عند عقد الزواج بدعة
يقول السائل: جرت عادة كثير من الناس أنه عندما يتم عقد قران رجل على امرأة وبعد أن يتم الإتفاق على المهر وتوابعه، فإنهم يقرأون الفاتحة، فما حكم ذلك؟
الجواب: إن الناس قد ابتدعوا أموراً كثيرة مخالفة لهدي النبي- صلى الله عليه وسلم - فيما يتعلق بقراءة القرآن الكريم بشكل عام، وقراءة سورة الفاتحة بشكل خاص.
فترى وتسمع قارئ القرآن بعد أن ينهي قراءته، يقول الفاتحة، ونرى المدرس بعد أن ينهي درسه يقول الفاتحة، وكذلك فإنهم يقرأون الفاتحة عند اتفاق الناس على أمر ما، مثل إقامة شركة بين اثنين مثلاً، فبعد الإتفاق يقولون الفاتحة، وكذلك بعد إجراء مراسم الصلح يقولون الفاتحة، وكذلك ما جاء في السؤال، فإنهم يقرأون الفاتحة بعد الإتفاق على التفاصيل المتعلقة بعقد النكاح، وغير ذلك من الحالات التي تقرأ فيها سورة الفاتحة.
وكل ذلك من الأمور المبتدعة في الدين التي ليس عليها دليل من الشرع، ولم يثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء في ذلك، ولا يجوز شرعاً لأحد أن يخص سورة الفاتحة أو آية من القرآن الكريم بالتلاوة قي وقت معين أو(3/154)
لغرض معين، إلا ما خصه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كما ثبت في السنة من تخصيص قراءة سورة الفاتحة للرقية، وقراءة آية الكرسي عندما يريد الإنسان النوم حفظاً من الشيطان، وقراءة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ، و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) ، و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) للرقية فهذا وأمثاله جائز لثبوته عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأدلة صحيحة.
وأما تخصيص قراءة الفاتحة في الحالات الذي ذكرتها سابقاً فلا يجوز، لأنه أمر محدث، والرسول- صلى الله عليه وسلم - يقول: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) رواه البخاري ومسلم.
وقال- صلى الله عليه وسلم - (إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة) رواه أبو داود والترمذي وهو حديث صحيح.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور) رواه أبو داود والترمذي، وقال حسن صحيح.
وقد شرع لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - عند النكاح، خطبة النكاح، قال الإمام الترمذي: " باب ما جاء في خطبة النكاح، ثم ذكر حديث ابن مسعود، الذي ذكره ابن القيم مضمونه في كلامه الآتي.
وقال العلامة ابن القيم: " فصل في هديه - صلى الله عليه وسلم - في أذكار النكاح، ثم قال: ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه علمهم خطبة الحاجة، وهي (الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل، فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ثم يقرأ الآيات الثلاث:
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) سورة آل عمران /102
(يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ(3/155)
مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) سورة النساء /1
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) سورة الأحزاب /72,71.
قال شعبة: " قلت لأبي اسحاق هذه في خطبة النكاح أو في غيرها؟ قال: في كل حاجة " زاد المعاد 2/454 - 455.
هذه هي السنة الثابتة عن الرسول- صلى الله عليه وسلم -، فعلينا إتباعها، فإن الخير كل الخير في الإتباع، وإن الشر كل الشر في الإبتداع.
ماذا يترتب على العدول عن الخطبة
يقول السائل: خطب رجل امرأة، ثم تراجع أهل الزوجة عن الخطبة، فماذا يترتب على رجوعهم عن الخطبة، حيث أنه أعطى المرأة جزءاً من المهر وأهداها حلياً وملابس وتكلّف مبلغاً من المال في حفل الخطبة، وهو يطالب بذلك؟
الجواب: إن الخطبة عند الفقهاء، هي وعد بالزواج، وليست عقد زواج، ويجوز شرعاً العدول عن الخطبة إذا كان العدول لسبب شرعي، كأن يظهر في أحد الخاطبين عيب يخل بالزواج أو يعرف أحد الخاطبين عن الآخر أمراً مخلاً بدينه.
ويرى جماعة من أهل العلم أنه يحرم الرجوع عن الخطبة لغير سبب شرعي، لأن الخطبة وعد بالزواج، والوفاء بالوعد واجب شرعاً، فإذا أخل أحد الخاطبين بذلك فهو آثم شرعاً، وهو مذهب قوي تؤيده عمومات الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، الآمرة بالوفاء بالوعود والعهود.
وبالنسبة لما دفعه الخاطب، فما دفعه على سبيل المهر، فله استرداده،(3/156)
فإذا دفع لها ألف دينار مثلاً، فله الحق في استرداد المبلغ كاملاً، فإذا كانت المخطوبة قد اشترت بالمبلغ ذهباً، وجب رد المبلغ إليه، وهو غير ملزم بأخذ الذهب الذي اشتري بما دفع.
وأما إذا أعطاها ذهباً، فإنه يسترد الذهب الذي دفعه إليها، فإن كانت المخطوبة قد باعت الذهب مثلاً، فله أن يسترد مثل الذهب الذي أعطاها، إن كان له مثل أو قيمته.
وأما بالنسبة للهدايا التي أهداها الخاطب للمخطوبة، فللخاطب أن يسترد الهدايا التي ما زالت موجودة أو قائمة، وأما الهدايا المستهلكة، فليس له استرداد قيمتها وهذا ما أخذ به قانون الأحوال الشخصية المعمول به في المحاكم الشرعية في بلادنا وأما بالنسبة للنفقات التي بذلها الخاطب في حفل الخطوبة، فليس له المطالبة بها.
إخبار الطبيب الخاطب عن مرض المخطوبة
يقول السائل: إنه يريد أن يتقدم لخطبة فتاة، وقد علم أنها مريضة بمرض في القلب فذهب إلى الطبيب الذي يعالجها وسأله عن مرض الفتاة فرفض الطبيب أن يخبره بأي شيء يتعلق بمرض الفتاة، وأخبره أن ذلك من الأسرار المتعلقة بالمريض، ولا يجوز للطبيب أن يبوح بها، فما قولكم في هذه القضية؟
الجواب: لا شك أن من واجبات الطبيب أن يكتم أسرار المريض فلا يبوح بها إلا في حالات خاصة، سأذكرها فيما بعد.
وكتمان الأسرار أمر مطلوب شرعاً في كثير من شؤون الحياة، فقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة، الرجل يفضي إلى امرأته، أو تفضي إليه، ثم ينشر سرها) رواه مسلم.(3/157)
وعن أنس بن مالك قال: (أتى عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا ألعب مع الغلمان قال: فسلم علينا فبعثني إلى حاجة فأبطأت على أمي، فلما جئت قالت: ما حبسك، قلت بعثني رسول الله في حاجة، قالت ما حاجته، قال: إنها سر، قالت: لا تحدثن بسر رسول الله أحداً) رواه مسلم.
فانظر رعاك الله، إلى هذا الموقف العظيم من هذا الغلام وأمه في المحافظة على سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وكشف الأسرار يلحق الأذى والضرر بالناس، وهو من خيانة الأمانة والمطلوب من الطبيب أن يكتم أسرار المريض، لأن المريض غالباً ما يبوح للطبيب المعالج بأسراره، فالأصل هو الكتمان.
((جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي المتعلق بقضية السر في مهنة الطب ما يلي:
1) أ. السر هو ما يفضي به الإنسان إلى آخر مستكتماً إياه من قبل أو من بعد ويشمل ما حفت به قرائن دالة على طلب الكتمان، إذا كان العرف يقضي بكتمانه كما يشمل خصوصيات الإنسان وعيوبه التي يكره أن يطلع عليها الناس.
ب. السر أمانة لدى من استودع حفظه، إلتزاماً بما جاءت به الشريعة الإسلامية وهو ما تقضي به المروءة وآداب التعامل.
ج. الأصل حظر إفشاء السر، وإفشاؤه بدون مقتضٍ معتبر موجب للمؤاخذة شرعاً.
د. يتأكد واجب حفظ السر على من يعمل في المهن التي يعود الإفشاء فيها على أصل المهنة بالخلل، كالمهن الطبية، إذ يركن إلى هؤلاء ذوو الحاجة إلى محض النصح وتقديم العون، فيفضون إليهم بكل ما يساعد على حسن أداء هذه المهام الحيوية، ومنها أسرار لا يكشفها المرء لغيرهم حتى الأقربين إليه.
2) تستثنى من وجوب كتمان السر، حالات يؤدي فيها كتمانه إلى(3/158)
ضرر يفوق ضرر إفشائه بالنسبة إلى صاحبه، أو يكون في إفشائه مصلحة ترجح على مضرة الكتمان، وهذه الحالات على ضربين:
أ. حالات يجب فيها إفشاء السر بناءً على قاعدة ارتكاب أهون الضررين، لتفويت أشدهما وقاعدة تحقيق المصلحة العامة التي تقضي بتحمل الضرر الخاص لدرء الضرر العام، إذا تعين ذلك لدرئه، وهذه الحالات نوعان:
. ما فيه درء مفسدة عن المجتمع. وما فيه درء مفسدة عن الفرد
ب. حالات يجوز فيها إفشاء السر لما فيه:
. جلب مصلحة للمجتمع. أو درء مفسدة عامة
وهذه الحالات يجب الإلتزام فيها بمقاصد الشريعة وأولياتها من حيث حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل.
ج. الإستثناءات بشأن مواطن وجوب الإفشاء أو جوازه، ينبغي أن ينص عليها في نظام مزاولة المهن الطبية وغيرها من الأنظمة موضحة ومنصوصاً عليها، على سبيل الحصر مع تفصيل كيفية الإفشاء، ولمن يكون، وتقوم الجهات المسؤولة بتوعية الكافة بهذه المواطن.
3) يوصي المجمع نقابات المهن الطبية ووزارات الصحة وكليات العلوم الصحية، بإدراج هذا الموضوع ضمن برامج الكليات والإهتمام به وتوعية العاملين في هذا المجال بهذا الموضوع ووضع المقررات المتعلقة به والإستفادة من الأبحاث المقدمة في هذا الموضوع)) مجلة المجمع الفقهي 8/3/409 - 410.
وبناءً على ما سبق، أنصح السائل أن يتوجه لأهل تلك الفتاة التي يريد خطبتها ويعلمهم أنه يريد خطبة ابنتهم وأنه علم أنها مريضة بالقلب ويريد أن يعرف عن مرضها من الطبيب المعالج، ويكون ذلك برفقة واحد من أهلها فيخبره الطبيب حينئذ بحقيقة مرضها وهو مطمئن أنه لا يكشف سراً.
وأما ذهابه إلى الطبيب مباشرة ليسأله عن المريضة فهو غير مقبول،(3/159)
لأن بعض الناس قد يستغل مثل هذه الحالات في أمور لا تحمد عقباها.
بطلان الدعوة إلى تأخير سن الزواج
يقول السائل: يطالب بعض الناس بتأخير سن الزواج، ويرفضون الزواج المبكر، فما قولكم في ذلك؟
الجواب: حض الإسلام على الزواج ورغّب فيه والزواج من سنة النبي- صلى الله عليه وسلم - ومن طريقته وهديه عليه الصلاة والسلام، والزواج المبكر أفضل وأولى من تأخير سن الزواج في حق الذكر والأنثى على السواء، يقول الله تعالى: (وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) سورة النور /32.
قال الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية: "هذه المخاطبة تدخل في باب الستر والصلاح أي زوجوا من لا زوج له منكم، فإنه طريق التعفف، والخطاب للأولياء.... وقوله (الأيامى منكم) ، أي الذين لا أزواج لهم من النساء والرجال " تفسير القرطبي 12/236.
وقد حض الرسول - صلى الله عليه وسلم - على التبكير في الزواج وعدم تأخيره فمن ذلك - ما جاء في حديث طويل، عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث حيث قال: (اجتمع ربيعة بن الحارث والعباس بن عبد الطلب فقالا: والله لو بعثنا هذين الغلامين قالا لي وللفضل بن عباس، إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.... إلى أن قال: وقد بلغنا النكاح.... فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمحمية - رجل كان مسؤولاً عن الصدقات -: (أنكح هذا الغلام ابنتك -للفضل بن عباس- فأنكحه وقال لنوفل بن الحارث: أنكح هذا الغلام ابنتك -لي- عبد المطلب بن ربيعة، فأنكحني....الخ الحديث) رواه مسلم.
والشاهد في هذا، قول عبد المطلب " وقد بلغنا النكاح " أي الحلم كقوله تعالى: (حتى إذا بلغوا النكاح) أي أن النبي- صلى الله عليه وسلم - أمر بتزويجهما وهما غلامان.(3/160)
- ما رواه مسلم بإسناده عن فاطمة بنت قيس، وفيه أن الرسول- صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تتزوج أسامة بن زيد، حيث قال لها: (أنكحي أسامة بن زيد، فكرهته، ثم قال أنكحي أسامة بن زيد، فنكحته فجعل الله فيه خيراً كثيراً، واغتبطت به) ، وقد كان أسامة بن زيد يوم زوجه النبي- صلى الله عليه وسلم - فاطمة بنت قيس، دون السادسة عشرة من عمره.
- وعن عائشة رضي الله عنها، أن الرسول- صلى الله عليه وسلم - قال: (لو كان أسامة جارية لكسوته وحليته حتى أُنفِقَهُ) رواه ابن ماجة وأحمد، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة 3/16.
والمراد أنه لو كان أسامة بن زيد بنتاً لزينه وألبسه الحلي حتى يتزوج.
- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه وأمانته فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض) رواه الترمذي وابن ماجة والحاكم، وهو حديث حسن، كما قال الشيخ الألباني، صحيح سنن الترمذي 1/315.
- وعن علي - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: (يا علي، ثلاثٌ لا تؤخرها، الصلاة إذا آنت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت لها كفؤاً) رواه الترمذي وقال: غريب حسن، كما نقله الألباني في المشكاة 1/192.
والأيم هي المرأة التي لا زوج لها.
وبناءً على ما تقدم، نرى أن الأصل في الفتاة أن تتزوج إذا تقدم لها الخاطب الكفؤ ما دامت بالغة عاقلة، ولا يجوز لوليها أن يتأخر في تزويجها إذا وجد الكفؤ وقد ورد عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: " زوجوا أولادكم إذا بلغوا لا تحملوا آثامهم " ذكره ابن الجوزي في أحكام النساء ص304.
وهذا يشمل الذكور والإناث فينبغي للولي أن لا يتأخر في تزويج أولاده وبناته حتى لا يقعوا في المعاصي والآثام.
وورد عن الحسن البصري أنه قال: " بادروا نساءَكم التزويج ".(3/161)
وذكر ابن الجوزي عن بعض السلف أنه قال: " كان يقال العجلة من الشيطان إلا في خمس، إطعام الطعام إذا حضر الضيف، وتجهيز الميت إذا مات، وتزويج البكر إذا أدركت، وقضاء الدين إذا وجب، والتوبة من الذنب إذا أذنب " أحكام النساء ص304.
وقد أورد بعض أهل العلم أضرار تأخير زواج الفتاة فقال: "والواقع أن في تأخير زواج الأنثى إذا بلغت، أضراراً كثيرة.
منها: احتمال انزلاقها إلى الفاحشة.
ومنها: أن يفوتها الزوج الكفؤ.
ومنها: قد يفوتها قطار الزواج بالكلية.
ومنها: كدورة نفسها، وكراهية وليها الذي أخر زواجها بعدم قبوله من تقدم إليها من الخطّاب الأكفاء وقد يصدر منها ما لا تحمد عقباه.
ومنها: قد يصيب نفسها شيء من التعقيد والسخط على كل من حولها، ولا شك أن الولي يتحمل قسطه من هذه النتائج والآثام بسبب تأخيره تزويجها " المفصل في أحكام المرأة 6/309
وينبغي التذكير بأن قانون الأحوال الشخصية المعمول به في بلادنا، قد حدد أقل سن للزواج كما جاء في المادة الخامسة منه ما يلي:
((يشترط في أهلية الزواج أن يكون الخاطب والمخطوبة عاقلين، وأن يتم الخاطب السنة السادسة عشرة وأن تتم المخطوبة الخامسة عشرة من العمر)) .
وهذا تحديد مقبول ينبغي العمل به.
*****
أخذ الزوجة من مال زوجها البخيل دون إذنه
تقول السائلة: إن زوجها بخيل جداً في الإنفاق عليها وعلى أولاده فتأخذ نقوداً منه خفية، فهل يجوز لها ذلك؟(3/162)
الجواب: إن إنفاق الزوج على زوجته وأولاده واجب باتفاق أهل العلم، ويدل على ذلك:
قوله تعالى: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) سورة البقرة/233.
وقوله تعالى: (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ) سورة الطلاق/7.
قال الإمام البخاري في صحيحه: " باب وجوب النفقة على الأهل والعيال ".
وقال الحافظ ابن حجر: " الظاهر أن المراد بالأهل في الترجمة الزوجة، وعطف العيال عليها من العام بعد الخاص....، ثم ساق الإمام البخاري بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أفضل الصدقة ما ترك غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وإبدأ بمن تعول، تقول المرأة: إما أن تطعمني وإما أن تطلقني، ويقول العبد: أطعمني واستعملني، ويقول الابن: أطعمني إلى من تدعني) .
وقد حث الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الإنفاق على الأهل والعيال والمنفق مأجور إن شاء الله حيث قال: (إذا أنفق المسلم نفقة على أهله، وهو يحتسبها كانت له صدقة) رواه البخاري.
ونقل الحافظ ابن حجر في الفتح عن المهلب قوله: " النفقة على الأهل واجبة بالإجماع وإنما سماها الشارع صدقة خشية أن يظنوا أن قيامهم بالواجب لا أجر لهم فيه وقد عرفوا ما في الصدقة من الأجر فعرفهم أنها لهم صدقة حتى لا يخرجوها إلى غير الأهل إلا بعد أن يكفوهم ترغيباً لهم في تقديم الصدقة الواجبة قبل صدقة التطوع " فتح الباري 11/425.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة - عتق رقبة -، ودينار أنفقته على أهلك) رواه مسلم.(3/163)
وعن ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله، ودينار ينفقه على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله) رواه مسلم.
وإذا تقرر هذا، فنعود إلى جواب السؤال فنقول: يجوز لزوجة البخيل أن تأخذ من مال زوجها البخيل ما يكفي للإنفاق عليها وعلى أولادها بالمعروف أي ما تحصل به الكفاية من غير تقتير ولا إسراف.
ويدل على ذلك ما ورد في قصة هند زوج أبي سفيان كما رواها الإمام البخاري في صحيحه حيث قال البخاري: " باب إذا لم ينفق الرجل، فللمرأة أن تأخذ ما يكفيها وولدها بالمعروف، ثم روى بسنده عن عائشة رضي الله عنها، أن هنداً بنت عتبة قالت: " يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال رسول الله: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) .
والمراد بالمعروف، أي أنها تأخذ القدر الذي عرف بالعادة أن فيه الكفاية لها ولولدها.
يحرم استئصال القدرة على الحمل إلا لضرورة ملحة
تقول السائلة: إنها أصيبت بمرض الأزمة وضيق التنفس، ونصحها بعض الأطباء بإغلاق مواسير الحمل، وفعلت ذلك، والآن ضميرها يؤنبها، وتسأل إن كان عليها كفارة لذلك؟
الجواب: إن نعمة التناسل من أعظم النعم على الإنسان وقد منَّ الله سبحانه وتعالى على عباده بهذه النعمة في آيات كثيرة منها، قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) سورة الحجرات /13.
وقوله تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ(3/164)
أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ) سورة النحل /72.
وحث النبي- صلى الله عليه وسلم - على الزواج وعلى تكثير الأولاد فقال: (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم) رواه ابن حبان وأحمد والطبراني وغيرهم، وقال الشيخ الألباني: صحيح، إرواء الغليل 6/195.
وغير ذلك من النصوص الشرعية.
وبناءً على ما تقدم، يحرم اتخاذ وسيلة تؤدي إلى قطع النسل نهائياً إلا في حالات الضرورة بضوابطها الشرعية.
وقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي الخاص بتنظيم النسل ما يلي:
((وبناءً على أن من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية، الإنجاب والحفاظ على النوع الإنساني، وإنه لا يجوز إهدار هذا المقصد، لأن إهداره يتنافى مع النصوص الشرعية وتوجيهاتها الداعية إلى تكثير النسل والحفاظ عليه والعناية به باعتبار حفظ النسل أحد الكليات الخمس التي جاءت الشرائع برعايتها قرر ما يلي:
1 - لا يجوز إصدار قانون عام يحد من حرية الزوجين في الإنجاب.
2 - يحرم استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل والمرأة، وهو ما يعرف (بالإعقام) أو (التعقيم) ، ما لم تدع إلى ذلك ضرورة بمعاييرها الشرعية.
3 - يجوز التحكم المؤقت في الإنجاب، بقصد المباعدة بين فترات الحمل، أو إيقافه لمدة معينة من الزمان إذا دعت إليه حاجة معتبرة بحسب تقدير الزوجين، عن تشاور بينهما وتراضٍ بشرط أن لا يترتب على ذلك ضرر، وأن تكون الوسيلة مشروعة، وأن لا يكون فيها عدوان على حمل قائم)) .
وعليه فإن هذه المرأة قد ارتكبت إثماً عندما أقدمت على إغلاق مواسير الحمل، لأن مرضها ليس داعياً لمنع الحمل نهائيا، وكذلك فقد أثم الطبيب الذي أشار عليها بذلك.(3/165)
وعلى هذه المرأة والطبيب أن يتوبا إلى الله توبة صادقة، ويكثرا من فعل الخيرات ولا أعلم كفارة معينة تلزمهما، إلا ما ذكرت من التوبة.
يحرم تمزيق الملابس عند الحزن والغضب
يقول السائل: ما حكم المرأة التي تمزق ملابسها عند الغضب من زوجها وأولادها؟
الجواب: لقد ثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية) رواه البخاري ومسلم
قال الحافظ ابن حجر: " قوله (ليس منا) أي ليس من أهل سنتنا وطريقتنا، وليس المراد به إخراجه عن الدين، ولكن فائدة إيراده بهذا اللفظ، المبالغة في الردع عن الوقوع في مثل ذلك " فتح الباري 3/406.
وشق الجيوب يقصد به شق الملابس وتمزيقها، والأصل أن الجيب هو ما يفتح من الثوب ليدخل فيه الرأس، وشق الجيوب من أفعال الجاهلية وهو من علامات السخط وعدم الرضا، وكثير من النساء يقمن بشق الجيوب عند وفاة الزوج أو أحد الأقارب أو عند الغضب الشديد، وهذا أمر لا يجوز شرعاً، فقد ثبت في الحديث عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: "وجع أبو موسى وجعاً فغشي عليه ورأسه في حجر امرأة من أهله، فصاحت امرأة من أهله، فلم يستطع أن يرد عليها شيئاً فلما أفاق قال: أنا بريء مما برئ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (برئ من الصالقة والحالقة والشاقة) رواه البخاري ومسلم.
والصالقة هي التي ترفع صوتها بالبكاء وتصيح، والحالقة التي تحلق شعر رأسها عند المصيبة، كما كانت نساء الجاهلية يفعلن، والشاقة التي تشق ثوبها.(3/166)
وفي رواية أخرى عن أبي بردة قال: أغمي على أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه -، فأقبلت امرأته أم عبد الله تصيح برنة، ثم أفاق فقال: ألم تعلمي؟ ، وكان يحدثها أن الرسول- صلى الله عليه وسلم - قال: (أنا بريء ممن حلق وصلق وخرق) رواه البخاري ومسلم.
قال صاحب مرقاة المفاتيح: " وكان الجميع من صنع الجاهلية، وكان ذلك في أغلب الأحوال من صنيع النساء " مرقاة المفاتيح 4/209.
وجاء في حديث آخر، عن أسيد بن أبي أسيد عن امرأة من المبايعات قالت: (كان فيما أخذ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المعروف الذي أخذ علينا، أن لا نعصيه فيه، أن لا نخمش وجهاً، ولا ندعو ويلاً، ولا نشق جيباً، ولا ننشر شعراً) رواه أبو داود، وقال الشيخ الألباني: صحيح.
وجاء في حديث آخر عن أبي أمامة: (أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعن الخامشة وجهها والشاقة جيبها والداعية بالويل والثبور) رواه ابن ماجة، وقال الشيخ الألباني: صحيح.
وخلاصة الأمر أن هذه الأحاديث تدل على حرمة الأمور المذكورة من لطم الخدود، وشق الجيوب ونشر الشعر، لأن ذلك يعني عدم الرضا بالقضاء.
المعتدة عدة وفاة لا تسافر لحج أو عمرة
يقول السائل: امرأة توفي عنها زوجها، وتريد أن تسافر إلى مكة المكرمة لتؤدي العمرة، وهي ما زالت في عدتها، فما حكم ذلك؟
الجواب: لا يجوز للمعتدة عدة الوفاة، السفر إلى الحج أو العمرة على الراجح من أقوال أهل العلم، والأصل أن المرأة التي يموت زوجها، ينبغي عليها أن تمكث في بيتها ولا تخرج منه إلا لحاجاتها الأساسية، ويدل على ذلك ما جاء في الحديث، أن أخت أبي سعيد الخدري، وهي(3/167)
الفريعة بنت مالك مات زوجها، فسألت الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن ترجع إلى أهلها، فقال لها النبي- صلى الله عليه وسلم -: (.... أمكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله) قالت: " فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً " رواه أبو داود والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح.
والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم - وغيرهم لم يروا للمعتدة أن تنتقل من بيت زوجها حتى تنقضي عدتها، تحفة الأحوذي 4/329.
وقد ورد عن عمر - رضي الله عنه -، " انه كان يرد المتوفى عنهن أزواجهن من البيداء يمنعهن الحج " رواه مالك في الموطأ والبيهقي وعبد الرزاق.
وروى عبد الرزاق عن مجاهد قال: " كان عمر وعثمان يرجعانهن حواج ومعتمرات من الجحفة وذي الحليفة " المصنف 7/33.
قال الشيخ ابن قدامة: " إن المعتدة من الوفاة، ليس لها أن تخرج إلى الحج ولا إلى غيره رُويَ ذلك عن عمر وعثمان رضي الله عنهما وبه قال سعيد بن المسيب والقاسم ومالك والشافعي وأبو عبيد وأصحاب الرأي والثوري " المغني 8/166.
وقال الشيخ ابن قدامة أيضاً: " ولو كانت عليها حجة الإسلام فمات زوجها، لزمتها العدة في منزلها، وإن فاتها الحج، لأن العدة في المنزل تفوت ولا بدل لها والحج يمكن الإتيان به في غير هذا العام " المغني 8/168.
حكم خروج المعتدة عدة وفاة من بيتها
يقول السائل: ما حكم خروج المرأة المتوفى عنها زوجها من بيتها أثناء عدتها؟ وهل يجوز لها أن تسافر للحج أو للعمرة خلال العدة؟
الجواب: إن الأصل في عدة المعتدة عدة وفاة أن تبقى في البيت(3/168)
الذي توفي فيه زوجها، وأن لا تخرج منه نهاراً إلا لحاجة، وأن لا تخرج منه ليلاً إلا لضرورة ويدل على ذلك، ما ورد في الحديث، عن فُرَيعة بنت مالك قالت: " خرج زوجي في طلب عبيد له قد هربوا فأدركهم فقتلوه فأتى نعيه وأنا في دارٍ شاسعة من دور أهلي، فأتيت النبي- صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له فقلت: إن نعي زوجي أتاني في دار شاسعة من دور أهلي ولم يدع نفقة ولا مالاً ورثته وليس المسكن له، فتحولت إلى أهلي وإخواني، فكان أرفق لي في بعض شأني، فقال: (تحولي) ، فلما خرجت إلى المسجد أو إلى الحجرة دعاني فقال: (امكثي في بيتك الذي أتاك فيه نعي زوجك، حتى يبلغ الكتاب أجله) ، قالت: فاعتددت أربعة أشهر وعشراً " رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد، وقال الترمذي: حسن صحيح.
قال الشيخ الشوكاني: " وقد استدل بحديثها - أي الفريعة - هذا على أن المتوفى زوجها عنها تعتد في المنزل الذي بلغها نعي زوجها وهي فيه ولا تخرج منه إلى غيره، وقد ذهب إلى ذلك جماعة من الصحابة والتابعين من بعدهم " نيل الأوطار 6/336.
ثم إن هذا القول نقل عن عمر وعثمان وابن عمر وسعيد بن المسيب وعطاء، وهو قول المالكية والحنفية والشافعية، قال ابن عبد البر: " وقد قال بحديث الفريعة جماعة من فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق ومصر ولم يَطعَن فيه أحد منهم " نيل الأوطار 6/336.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " المعتدة عدة الوفاة تتربص أربعة أشهر وعشرا، وتتجنب الزينة والطيب في بدنها وثيابها، ولا تتزين ولا تتطيب ولا تلبس ثياب الزينة، وتلزم منزلها ولها أن تأكل كل ما أباحه الله.... ولا يحرم عليها عمل شغل من الأشغال المباحة، مثل التطريز والخياطة والغزل وغير ذلك مما تفعله النساء، ويجوز لها ما يباح لها في غير العدة، مثل كلام من تحتاج إلى كلامه من الرجال إذا كانت مستترة وغير ذلك، وهذا الذي ذكرته هو سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يفعله نساء الصحابة إذا مات أزواجهن، مجموع الفتاوى 34/27-28.(3/169)
وبناءً على ما سبق، يجوز للمعتدة عدة الوفاة أن تخرج في حوائجها الأصلية، كخروجها للتداوي أو لزيارة والديها المريضين أو للاكتساب إن لم يوجد من ينفق عليها كأن تكون موظفة فيجوز لها الخروج إلى وظيفتها، ويجوز لها الخروج ليلاً إن اضطرت إلى ذلك، كأن تضطر للذهب إلى المستشفى ليلاً ونحو ذلك.
وأما خروجها إلى غير حوائجها فلا يجوز، وقد نص الفقهاء على أنها لا تخرج لزيارة قريب ولا لتجارة ولا لتهنئة ولا لتعزية.
وأما سفر المعتدة عدة الوفاة إلى الحج أو العمرة فلا يجوز حتى لو كان حج الفرض، قال الشيخ ابن قدامة: " إن المعتدة من وفاة ليس لها أن تخرج إلى الحج أو لغيره وروي ذلك عن عمر وعثمان رضي الله عنهما، وبه قال سعيد بن المسيب والقاسم ومالك والشافعي وأبو عبيد وأصحاب الرأي والثوري " المغني 8/167.
وهو قول الحنابلة أيضاً.
وقال الشيخ ابن قدامة أيضاً: " ولو كانت حجة الإسلام، فمات زوجها، لزمتها العدة في منزلها وإن فاتها الحج، لأن العدة في المنزل تفوت ولا بدل لها، والحج يمكن الإتيان به في غير هذا العام " المغني 8/168.
ومما يدل على ذلك ما رواه سعيد بن منصور بسنده عن مجاهد عن سعيد بن المسيب قال: " ردّ عمر بن الخطاب نساءً حاجات أو معتمرات توفي أزواجهن من ذي الحليفة ".
وروى عبد الرزاق بسنده عن مجاهد قال: " كان عمر وعثمان يرجعانهن حواج ومعتمرات من الجحفة وذي الحليفة " المصنف 7/33.
وأما ما ورد عن عائشة رضي الله عنها أنها حجت بأختها في عدتها، فقد ورد أن القاسم بن محمد قال: " أبى الناس ذلك عليها " المصنف لعبد الرزاق 7/30.(3/170)
وكذلك لا يجوز للمعتدة عدة وفاة أن تسافر لأي غرض آخر، ويجب أن يعلم أن العدة فرض في حق المرأة المتوفى عنها زوجها، سواء دخل بها أو لم يدخل بها لأنها في الحالتين زوجته شرعاً.
ضرب الزوج زوجته مشروع بشروط
تقول السائلة: إن زوجها يضربها باستمرار، فهو يضربها عند حصول أي نقاش بينهما ويضربها إن قصرت في شيء، وتقول إنه يضربها ضرباً مبرحاً يترك آثاراً على وجهها وجسمها، فما حكم الشرع في ذلك؟
الجواب: يقول الله تعالى: (وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) سورة النساء /34.
قال الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية: " قوله تعالى (واضربوهن) أمر الله أن يبدأ النساء بالموعظة أولاً، ثم بالهجران، فإن لم ينجعا فالضرب، فإنه هو الذي يصلحها ويحملها على توفية حقه، والضرب في هذه الآية هو ضرب الأدب غير المبرح.... " تفسير القرطبي 5/172.
لا شك أن ضرب الزوج لزوجته مشروع، والضرب إحدى وسائل التأديب، ولكن لا يجوز للزوج أن يبادر إلى ضرب زوجته ابتداءً، ولا بد أن يعظها أولاً، فإن نفع الوعظ فبها ونعمت، وإن لم ينفعها الوعظ هجرها في المضجع، فإن أخفق الهجر في ردها إلى جادة الصواب، فإنه حينئذ يلجأ إلى الضرب، وليس المقصود بالضرب إلحاق الأذى بالزوجة كأن يكسر أسنانها أو يشوه وجهها، وإنما المقصود بالضرب هو إصلاح حال المرأة، ويكون الضرب غير مبرح، وكذلك لا يجوز الضرب على الوجه والمواضع الحساسة في الجسد، وقد ورد في ذلك أحاديث منها:
- قوله - صلى الله عليه وسلم -: (اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبرح) رواه مسلم.(3/171)
- قوله - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الوداع: (ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فأنهن عوان عندكم، ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشةٍ مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبتغوا عليهن سبيلاً، ألا إن لكم على نسائكم حقاً، ولنسائكم عليكم حقاً فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن) رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح.
- وقال الإمام البخاري: باب ما يكره من ضرب النساء، وقول الله تعالى (واضربوهن) أي ضرباً غير مبرح "، ثم ساق البخاري بإسناده إلى النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد، ثم يجامعها في آخر اليوم) وقال الحافظ ابن حجر معلقاً على عنوان الباب: وفيه إشارة إلى أن ضربهن لا يباح مطلقاً، بل فيه ما يكره كراهة تنزيه أو تحريم " فتح الباري 11/214.
- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً قط، ولا امرأة ولا خادماً، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله، فينتقم لله عز وجل) رواه مسلم.
- وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا ضرب أحدكم، فليتق الوجه) رواه مسلم.
- وعن معاوية بن حيدة قال: قلت يا رسول الله: ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: (أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت) رواه أبو داود، وقال الألباني: صحيح.
وخلاصة الأمر، أنه لا يجوز للزوج أن يضرب زوجته ابتداءً، وإنما يكون ذلك بعد الوعظ، وبعد الهجران.
ويجب أن يكون الضرب غير مبرح، فإن الضرب المبرح حرام لما سبق في الأحاديث، قال عطاء: " الضرب غير المبرح بالسواك ونحوه،(3/172)
وقال الحافظ ابن حجر: " إن كان لا بد فليكن التأديب بالضرب اليسير " فتح الباري 11/215.
وعلى الزوج أن يتجنب ضرب الوجه والمواضع الحساسة في الجسد.
نظام الأحوال الشخصية بين الثبات والتطور
يقول السائل: ما قولكم في الاعتراضات التي أثيرت حول قانون الأحوال الشخصية؟
الجواب: اطلعت على دراسة لقانوني الأحوال الشخصية في الضفة الغربية وقطاع غزة أعدها المحامي كارم نشوان، وناقشها البرلمان الصوري الفلسطيني وأود أن أبين وأناقش بإيجاز بعض القضايا التي وردت في الدراسة المذكورة.
1 - عرضت الدراسة لبعض التوجهات، وأكدت عليها واعتبرتها مرتكزات للتعديلات المقترحة، وقد تبين لي ضعف هذه الأسس والمرتكزات، وأنها تشتمل على مغالطات تصادم الأحكام الشرعية المستمدة من كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأول تلك التوجهات كما جاء في الدراسة: " الشريعة الإسلامية هي مصدر أساسي من مصادر القاعدة القانونية لقانون الأحوال الشخصية ".
وأقول: إن الشريعة الإسلامية، هي المصدر الأساسي والوحيد لنظام الأحوال الشخصية، فأحكام الأحوال الشخصية تؤخذ وتستمد من القرآن الكريم ومن السنة النبوية وما اعتمد عليهما من اجتهادات فقهاء الإسلام، ولا تؤخذ من أي مصدر آخر.
وإذا قلنا إن الشريعة الإسلامية مصدر أساسي، فمعنى ذلك أنه يوجد مصادر أخرى وإن كانت غير أساسية، وهذا منطق مرفوض رفضاً باتّاً مخالف لشرع الله تعالى.(3/173)
2 - قال كاتب الدراسة: إنه يريد أن يفرق في الشريعة الإسلامية بين حدود دين الله سبحانه وتعالى والتي لا يجوز شرعاً تغييرها وبين حدود البشر واجتهاداتهم.
وأقول: إن هذا الفهم خاطئ لمبدأ الاجتهاد في دين الإسلام فإن الفقهاء المسلمين لما اختلفوا في الأحكام الشرعية الفرعية، بنوا اجتهاداتهم على قواعد وأسس شرعية صحيحة فكل اجتهاد لفقيه من فقهاء الإسلام يقع ضمن دائرة الإسلام ولا يخرج عنها إلا من شذ ولا عبرة بالشاذ، والأئمة المجتهدون لا يقولون في دين الله بأهوائهم ولا برغباتهم، وإنما يعتمدون على مصادر الشريعة الإسلامية من كتاب وسنة وإجماع وقياس وغيرها من المصادر.
3 - إن القول بأن الأحكام الشرعية تقبل التطوير والتغيير والاستدلال على ذلك بأن الإمام الشافعي غيّر مذهبه القديم إلى مذهبه الجديد.
إن هذا الكلام غير صحيح ولا يستند على أسس علمية معتبرة، وينم عن عدم معرفة بما غيره الإمام الشافعي في مصر من مذهبه القديم فإن علماء الإسلام متفقون إتفاقاً تاماً على أن الأحكام الشرعية الثابتة بكتاب الله وسنة نبيه- صلى الله عليه وسلم - لا تقبل التغيير ولا التبديل إلى يوم القيامة، وأما الأحكام التي يمكن أن يدخلها التغيير، فإنها بعض الأحكام المبنية على الاجتهاد، كالأحكام التي تبنى على المصلحة والعرف، والإمام الشافعي لما تراجع عن مذهبه القديم في العراق، وأنشأ المذهب الجديد في مصر لم يغير أي حكم من الأحكام المبنية على النصوص الصريحة من الكتاب أو السنة.
وبناءً على ذلك، فكل حكم ثبت بالنصوص الصريحة من الكتاب أو السنة لا يقول مسلم بأنه قابل للتغيير والتبديل.
فقضية تعدد الزوجات لا تقبل تغيراً ولا تبديلاً.
وقضية الولاية في الزواج لا تقبل تغييراً ولا تبديلاً.
وحق الرجل في الطلاق لا يقبل تغييراً ولا تبديلاً.(3/174)
وأحكام الميراث لا تقبل تغييراً ولا تبديلاً.
وهكذا بقية الأحكام الشرعية الثابتة بالكتاب والسنة لا يدخلها التغيير ولا التبديل.
4 - ينبغي أن يعلم علماً تاماً أنه لا يجوز في دين الله سبحانه أن يلتزم المسلمون بأي قانون وضعي، وضعه الإنسان مع مخالفته لشرع الله، بغض النظر عن واضع القانون البشري.
5 - زعم كاتب الدراسة أن " القانون الحالي، يحمل مضامين قاسية ومجحفة بحق المرأة الفلسطينية تصل إلى التمييز الواضح والسافر، ليس لشيء، إنما لكونها امرأة.... ".
وأقول: إن هذا الكلام جد خطير وفيه تهجم وجرأة على شرع الله عز وجل.
إن شريعة الله عدل كلها، ورحمة كلها بالإنسان ذكراً كان أو أنثى.
إن الإسلام أعطى للمرأة حقوقاً لم تنلها في ظل أي نظام آخر، وإن الإسلام قد عامل المرأة معاملة كريمة حسنة، لم تنلها في ظل أي نظام، لا في القديم ولا في الحديث.
6 - إن كاتب الدراسة يتجاهل الفوارق الطبيعية بين المرأة والرجل ويريد أن يساوي بينهما مساواة تامة، ولا يدري أنه بعمله هذا يقف ضد المرأة من حيث لا يشعر.
فلا ينكر عاقل وجود فوارق بين المرأة والرجل، وأن المساواة التي ينادي بها دعاة تحرير المرأة، ستعود على المرأة بالوبال والخسران.
ويا معشر النساء اتعظن بحال المرأة في الغرب، حيث إنها صارت سلعة تباع وتشترى، والسعيد من اتعظ بغيره، والشقي من اتعظ بنفسه.
فكاتب الدراسة يريد أن يساوي في الحقوق والواجبات بين الرجل والمرأة، وهذا إجحاف في حق المرأة، فكيف يساوي بينهما والرجل هو(3/175)
الملزم شرعاً بالإنفاق على زوجته وأولاده، والزوجة غير ملزمة بالإنفاق على الزوج والأولاد فكيف يساوي بينهما والزوج ملزم بتأمين المسكن ومتطلباته للزوجة والأولاد، والزوجة ليست ملزمة بذلك، فكيف يساوي بينهما، وهل المساواة بين الزوجة والزوج إنصاف للمرأة؟
7 - طالب كاتب الدراسة بتعديل قانوني الأحوال الشخصية في مسائل كثيرة، أشير إلى بعضها إشارات سريعة:
زعم أن تعريف الزواج في القانون لم ينص على ديمومة العقد، ودعا إلى النص على ذلك ولم يعلم أن الأصل في عقد الزواج في الشريعة الإسلامية هو التأبيد.
دعا إلى تغيير سن الزواج وجعلها 18 سنة للذكر والأنثى، وهذا ضد مصلحة المجتمع عامة، وضد المرأة بشكل خاص.
دعا إلى إلغاء الولاية في الزواج وهذا يعارض النصوص الشرعية في إثبات الولاية في الزواج، والتي هي لمصلحة المرأة ولحمايتها من الذئاب البشرية.
زعم أن الزوجة تستحق المهر كاملاً إذا وقع الطلاق قبل الخلوة الصحيحة، وهذا مصادم للنص الصريح من كتاب الله تعالى: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) سورة البقرة/237.
دعا إلى مشاركة المرأة لزوجها في أمواله الخاصة وإن لم يكن لها دور في جني المال، وهذا أكل لأموال الناس بالباطل.
دعا إلى غلّ يد الرجل في الطلاق وهذا مصادم للنصوص الشرعية في إعطاء الزوج حق الطلاق، وأن الطلاق لا يتوقف على حكم الحاكم مع القيود والضوابط التي فرضتها الشريعة الإسلامية في هذا المجال.
دعا إلى الحد من تعدد الزوجات تحت ذرائع واهية، واعتمد على أقوال ضعيفة لبعض الكتاب، وهذا مخالف للنصوص الشرعية.(3/176)
ألمح إلى إعادة النظر في الميراث وأنه لا بد من مساواة الرجل بالمرأة في الميراث، وهذا هدم للأحكام الشرعية الصريحة من كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغير ذلك من القضايا التي يضيق المقام عن تفصيل الرد عليها.
وخلاصة الأمر: أن هذه التعديلات المطروحة لنظام الأحوال الشخصية المطبق عندنا ما هي إلا دعوة خطيرة لهدم الأسس الشرعية التي قامت عليها أحكام الأحوال الشخصية.
وإن الكاتب قد استمد أكثر اقتراحاته من الفكر الغربي المنحرف، ويدعو بطريقة أو بأخرى، إلى تنحية الشرعية الإسلامية جانباً.
وختاماً: أدعو الغيورين من هذه الأمة من القضاة الشرعيين والمفتين وأهل العلم وغيرهم للوقوف أمام الهجمة الشرسة الموجهة إلى آخر ما بقي من شريعة الإسلام في الأنظمة والقوانين.
والله الهادي إلى سواء السبيل(3/177)
المتفرقات(3/179)
الاستماع لقراءة القرآن الكريم
يقول السائل: هل الاستماع والإنصات لقارئ القرآن الكريم، إذا كان يقرأ من الإذاعة أو في المسجد واجب لقوله تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ؟
الجواب: يرى كثير من أهل العلم أن هذه الآية الكريمة (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) سورة الأعراف /204، قد نزلت في الصلاة، وهذا يدل على أن الإستماع لقراءة القرآن يكون واجباً حال قراءة الإمام للقرآن في الصلاة سواء كانت فرضاً أو نفلاً، ونقل ابن جرير الطبري شيخ المفسرين، أن هذه الآية نزلت في الصلاة عن جماعة من السلف، فقد روى ابن جرير بسنده عن أبي هريرة قال: (كانوا يتكلمون في الصلاة، فلما نزلت هذه الآية (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ) ، أمروا بالإنصات.
ورويَ مثل ذلك عن ابن عباس وابن مسعود والزهري وعطاء وعبيد بن عمير وعن سعيد بن المسيب ومجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وإبراهيم النخعي وقتادة وغيرهم.
وهذا أرجح أقوال أهل العلم في سبب نزول هذه الآية وبناءً عليه يكون الإستماع واجباً لقراءة الإمام في الصلاة.(3/181)
وأما الإستماع والإنصات لقراءة القارئ خارج الصلاة، سواء كان يقرأ من الإذاعة أو في المسجد أو كان يقرأ من المسجل فمندوبة، قال ابن عبد البر: " في قول الله عز وجل: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ، مع إجماع أهل العلم أن مراد الله من ذلك في الصلوات المكتوبة أوضح الدلائل على أن المأموم إذا جهر إمامه في الصلاة أنه لا يقرأ معه بشيء، وأن يستمع له وينصت " فتح المالك بترتيب التمهيد لابن عبد البر على موطأ مالك 2/126.
وذكر ابن عبد البر في الإستذكار وفي التمهيد خبر أبي عياض عن أبي هريرة قال: (كانوا يتكلمون في الصلاة حتى نزلت هذه الآية (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا)) .
وقال إبراهيم بن مسلم: " فقلت لأبي عياض: لقد كنت أظن أن لا ينبغي لأحد يسمع القرآن ألا يسمع، قال: إنما ذلك في الصلاة المكتوبة، فأما في الصلاة غير المكتوبة فإن شئت سمعت وإن شئت مضيت ولم تسمع " الإستذكار 4/230.
وقال ابن جرير الطبري بعد أن ساق أقوال العلماء في تأويل الآية السابقة: " وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: أمروا باستماع القرآن في الصلاة إذا قرأ الإمام وكان من خلفه ممن يأتم به يسمعه في الخطبة، وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب لصحة الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إذا قرأ الإمام فأنصتوا) وإجماع الجميع على أن من سمع خطبة الإمام ممن عليه الجمعة الإستماع والإنصات لها مع تتابع الأخبار بالأمر بذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه لا وقت يجب على أحد استماع القرآن والإنصات لسماعه من قارئه إلا في هاتين الحالتين على اختلاف في إحداهما وهي حالة أن يكون خلف إمام مؤتم به، وقد صح الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما ذكر من قوله: (إذا قرأ الإمام فأنصتوا) ، فالإنصات خلفه لقراءته واجب على من كان مؤتماً سامعاً قراءته بعموم ظاهر القرآن والخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " تفسير الطبري 6/166.(3/182)
وروى الطبري بإسناده عن سعيد بن جبير أن الآية (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا) قال: "الإنصات يوم الأضحى ويوم الفطر ويوم الجمعة وفيما يجهر به الإمام في الصلاة" تفسير الطبري 6/165.
وعلق القرطبي على قول سعيد بن جبير بعد أن نقله بقوله: " وهو الصحيح لأنه يجمع ما أوجبته هذه الآية وغيرها من السنة في الإنصات " تفسير القرطبي 7/353 - 354.
ثم نقل القرطبي عن النقاش قوله: " أجمع أهل التفسير أن هذا الإستماع في الصلاة المكتوبة وغير المكتوبة ".
وحكى ابن المنذر الإجماع على عدم وجوب الاستماع والإنصات في غير الصلاة والخطبة وذلك أن إيجابهما على كل من يسمع أحداً يقرأ فيه حرج عظيم لأنه يقتضي أن يترك له المشتغل بالعلم علمه والمشتغل بالحكم حكمه، والمتبايعان مساومتهما وتعاقدهما وكل ذي شغلٍ شغله " تفسير المنار 9/552 - 553.
وقال العز بن عبد السلام: " الاستماع للقرآن والتفهم لمعانيه من الآداب المشروعة المحثوث عليها، والاشتغال عن ذلك بالتحدث بما لا يكون أفضل من الاستماع سوء أدب على الشرع " فتاوى العز بن عبد السلام ص485 - 486.
وقال جلال الدين السيوطي: " يسن الاستماع لقراءة القرآن، وترك اللغط والحديث بحضور القراءة، قال تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) " الإتقان 1/145.
ومما يدل على أن الاستماع لقراءة القرآن خارج الصلاة والخطبة مندوب ما ورد من الأدلة في جواز الكلام خارج الصلاة والخطبة.
ومما ينبغي التنبيه عليه، أن ترك الاستماع والإنصات للقرآن والاشتغال بالأحاديث المختلفة مكروه كراهة شديدة، وتكون الكراهة أشد إذا كان المتحدثون بأمور الدنيا قرب قارئ القرآن، وأما إذا كان المجلس فيه كثير(3/183)
من الناس يستمعون وينصتون فتنحى بعضهم وتحدثوا بصوت منخفض من غير تشويش على الآخرين فالخطب هين ويسير.
ولا يعني قولنا إن الاستماع لقارئ القرآن في المسجد أو في الإذاعة أو من المسجل مندوب أن يتساهل الناس في الاستماع لكلام الله، فينبغي لكل مسلم أن يحرص على الاستماع والإنصات لقراءة القرآن وأن يتأدب في مجلس قراءة القرآن.
كما وينبغي التنبيه أن بعض القراء يسيئون في قرائتهم للقرآن الكريم، ويشوشون على عباد الله، كالقراء الذين يقرأون في المآتم عبر مكبرات الصوت، فإن ذلك حرام شرعاً، وكذلك القراء الذين يقرأون عبر مكبرات الصوت قبل صلاة الجمعة وقبل الأذان للصلوات الخمس، فكل ذلك من البدع المخالفة للشرع لأن هؤلاء وأولئك يشوشون على عباد الله، وخاصة يوم الجمعة، فإن الوقت قبل صلاة الجمعة هو وقت للتنفل وللدعاء وللذكر والاستغفار، ولا ينبغي لأحد أن يشوش على عباد الله في قراءة القرآن ولا بالدروس ولا بالمواعظ، وإنما كل مسلم يقرأ إن رغب أو يصلي أو يدعو أو يستغفر لوحده.
وقد ورد في الحديث أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: (إن المصلي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن) رواه الإمام مالك، وقال الشيخ الألباني: سنده صحيح.
أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار
يقول السائل: ما قولكم فيمن يفتون في دين الله بغير علم ولا هدى؟
الجواب: كثر المجترئون من طلبة العلم الشرعي وغيرهم على الإفتاء في دين الله سبحانه وتعالى، ويظنون أن الأمر هين، وهو عند الله عظيم، وكثر الخائضون في دين الله بغير علم، حتى إنك إذا جلست في(3/184)
مجلس وطرحت مسألة شرعية، ترى كثيراً من الجالسين يدلون برأيهم من غير أن يُطلب منهم، ويعضهم قد لا يحسن الوضوء.
وصار دين الله وشرعه مع الأسف الشديد حمىً مستباحاً لأشباه المتعلمين، وظن كثيرٌ من طلبة العلم الشرعي، أنهم بمجرد حصولهم على الشهادة الجامعية الأولى يحق لهم الإفتاء في دين الله، وما دروا أن شهادة (البكالوريوس) في الشريعة الإسلامية في زماننا هذا، تعني محو أمية في العلوم الشرعية فقط، هذا إذا وزناها بالميزان الصحيح ولا يشذ عن هذا إلا القليل جداً.
وإلى المجترئين على الفتوى في أيامنا هذه، أسُوق بعض كلام أهل العلم في الفتيا لعل أحدهم يعرف قدره وحده فيقف عنده فلا يتجاوزه.
قال العلاّمة ابن القيم في بيان الشروط التي تجب فيمن يبلغ عن الله ورسوله: " ولما كان التبليغ عن الله سبحانه وتعالى يعتمد العلم بما يبلغ والصدق فيه، لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق، فيكون عالماً بما يبلغ صادقاً فيه ويكون مع ذلك حسن الطريقة، مرضي السيرة، عدلاً في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله، وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله، ولا يجهل قدره وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات؟ ، فحقيق بمن أقيم في هذا المنصب أن يعد له عدته، ويتأهب له أهبته، وأن يعلم قدر المقام الذي أقيم فيه، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصدع به، فإن الله ناصره وهاديه، وكيف وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب، فقال تعالى: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ) سورة النساء /127، وكفى بما تولاه الله تعالى بنفسه شرفاً وجلالة إذ يقول في كتابه: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) سورة النساء /176، وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه، وليوقن أنه مسؤول غداً وموقوف بين يدي الله " إعلام الموقعين عن رب العالمين 1/11.(3/185)
ولكن كثيراً من المجترئين على الفتوى لا يفهم هذا الكلام لا من قريب ولا من بعيد، والمهم عندهم أن يظهروا أمام العامة بمختلف الوسائل ليشار إليهم بالبنان، فيجيبوا عن كل مسألة توجه لهم ولا يعرفون قول (لا أدري) ، لأنهم يعتبرون ذلك عاراً وشناراً
أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا يا سعد تورد الإبل
لأن الناس يصفونهم بالجهل إن فعلوا ذلك، وما دروا أن سلفنا الصالح كانوا يحرصون على قول لا أدري، كحرص هؤلاء المتعالمين على الإجابة، وقديماً قال العلماء: " لا أدري نصف العلم "، قال ابن أبي ليلى: " أدركت مئة وعشرين من الأنصار من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل أحدهم عن المسألة، فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول، وما منهم أحد يحدث بحديث أو يسأل عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه.
وقال عمر بن الخطاب: " أجرؤكم على الفتيا، أجرؤكم على النار.
وقال ابن عباس: " إذا أخطأ العالم (لا أدري) أصيبت مقاتله ".
فلا ينبغي لأحد أن يقتحم حمى الفتوى ولما يتأهل لذلك، وقد قرر أهل العلم أن من أفتى وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية شديد الإنكار على أدعياء العلم الذين يتصدرون للفتيا فقال له بعضهم يوماً: أجعلت محتسباً على الفتوى؟ فقال له: " يكون على الخبازين والطباخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب " انظر الفتوى - د. يوسف القرضاوي ص24.
وأدعياء العلم هؤلاء اقتحموا هذه العقبة الكؤود، ولم يستعدوا لها، فلو سألت أحدهم عن مبادئ وقواعد أصول الفقه، لما عرفها، فلو سألته ما العام؟ وما الخاص؟ وما المطلق وما المقيد؟ وما القياس؟ وما الحديث المرسل؟ لما أحرى جواباً.
ولو سألته عن أمهات كتب الفقه المعتبرة لما عرفها، ولو سألته عن(3/186)
آيات الأحكام من كتاب الله وعن أحاديث الأحكام من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لما عرف شيئاً.
ويزداد الأمر سوءاً عندما نرى هؤلاء الناس المتعالمين يجعلون واقع الناس حاكماً على النصوص الصريحة من كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فترى وتسمع من الفتاوى الغريبة والعجيبة، فترى من يحلل الربا المحرم في كتاب الله وسنة رسوله، لأنه ضرورة اقتصادية كما يدعي، أو لأن ربا الجاهلية لا ينطبق على ربا البنوك الربوية كما يزعم.
وهكذا ترى من هؤلاء العجب العجاب في اتباع الأهواء وإرضاء الأسياد، ونسوا أو تناسوا قول الله تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) سورة الجاثية /18.
وقوله تعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) سورة المائدة /49.
وختاماً، فعلى كل من يتصدى للفتوى أن يتق الله سبحانه وتعالى، وأن يأخذ للأمر عدته، وليعلم أنه يوقع عن رب العالمين، ويبلغ عن الرسول الأمين - صلى الله عليه وسلم -.
كتاب (مولد العروس) مكذوب على الإمام ابن الجوزي
أحضر لي أحد طلابي كتاباً صغير الحجم، بعنوان (مولد العروس) للعلاّمة والحبر الفهامة، الإمام ابن الجوزي، هكذا جاء في على غلافه، ويحتوي على نثر وشعر يتعلق بالمولد النبوي، وسألني عن هذا الكتاب؟
الجواب: إن هذا الكتاب المسمى (مولد العروس) والمنسوب لابن الجوزي مكذوب عليه وفيه كثير من المخالفات الشرعية، ولم تثبت نسبته بطريق صحيح إلى الإمام ابن الجوزي ولم ينسبه أحد إليه إلا كارل بروكلمان، وفي نسبة هذه المخطوطة لإبن الجوزي - أي مخطوط مولد(3/187)
العروس - نظر، فهو يخلو من الإسناد الذي اعتاد عليه ابن الجوزي في كتبه، كما يخلو من تعليق أو نقد ابن الجوزي لما يرد فيه من أخبار، وكل ما ورد فيه يتعلق بولادة الرسول- صلى الله عليه وسلم -، وأشعار مدحه، مما يدل على أن أحد العوام قد وضعه ثم إن الذين ترجموا لابن الجوزي، لم يذكروه ضمن كتبه.
وورد فيه أيضاً أمور كثيرة مخالفة للعقيدة الإسلامية وللنصوص الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - كما ورد في ص15 منه (وفي الحديث الصحيح أن البيت الذي فيه اسم محمد وأحمد فإن الملائكة تزوره في كل يوم وليلة سبعين مرة) ، ومن المعلوم أن هذا الحديث مكذوب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل إن ابن الجوزي نفسه ذكره في كتابه الموضوعات وحكم عليه بالوضع والكذب، انظر كتب حذر منها العلماء 2/303 - 304 وانظر أيضاً نفس المصدر 2/388 - 389.
احذروا هذين الكتابين
السؤال: أحضرت لي سائلة كتاباً بعنوان (عرائس المجالس في قصص الأنبياء) وذكرت لي أن فيه أموراً غريبة وطلبت بيان القول فيما اشتمل عليه من الأخبار؟
وسائلة أخرى، أحضرت لي كتيباً بعنوان (المجموعة المباركة في الصلوات المأثورة والأعمال المبرورة) ، وسألتني عن صحة الأحاديث المذكورة فيه؟
الجواب: أما الكتاب الأول وهو (عرائس المجالس في قصص الأنبياء) تأليف أبي إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي المتوفى 427 هـ.
وهو كتاب يشتمل على قصص الأنبياء المذكورة في القرآن الكريم، وفيه كثير من الإسرائيليات والأخبار الواهيات والغرائب وفيه أيضاً بلايا ورزايا، انظر كتب حذر منها العلماء 2/20.(3/188)
والثعلبي معروف عند أهل العلم أنه ينقل في كتبه كثيراً من الأحاديث المكذوبة ولهذا قالوا عنه إنه كحاطب ليل، كما قال العلامة اللكنوي في الأجوبة الفاضلة ص101 -102.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " علماء الجمهور متفقون على أن ما يرويه الثعلبي وأمثاله لا يحتجون به، لا في فضيلة أبي بكر وعمر، ولا في إثبات حكم من الأحكام، إلا أن يعلم ثبوته بطريقه " منهاج السنة 4/25، نقلاً عن المصدر السابق.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: " والثعلبي هو نفسه كان فيه خير ودين، ولكنه كان حاطب ليل، ينقل ما وجد في كتب التفسير من صحيح وضعيف وموضوع ".
وقال الشيخ ابن كثير عن الثعلبي: " وكان كثير الحديث واسع السماع، ولهذا يوجد في كتبه الغرائب شيء كثير " انظر التعليق على سير أعلام النبلاء 17/436.
وخلاصة القول في كتاب (عرائس المجالس) للثعلبي، أنه لا يجوز شرعاً الإعتماد عليه في الأحاديث التي ينقلها، إلا بعد البحث والتنقيب عن حال تلك الأحاديث، ولذا لا أنصح أحداً باقتناء هذا الكتاب إلا أن يكون من أهل العلم بالحديث.
وأما الكتاب الثاني وهو (المجموعة المباركة في الصلوات المأثورة والأعمال المبرورة) فإنه كتاب دجل وخرافات وكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في معظم ما احتواه، كما في الخبر الذي ساقه "عن صحابي يقال له عبد الله السلطان، هكذا زعم، وأن عبد الله السلطان هذا كان مشهوراً بشرب الخمر والزنا والفسق والفجور وترك الصلاة وترك الصوم....، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - سأل زوجة عبد الله السلطان عن حاله وما كان يفعل، فقالت: ما رأيت منه إلا الأفعال القبيحة وشرب الخمر والفسوق والفجور، ولا رأيته يصلي في جميع عمره ركعة واحدة ولا يصوم أبداً، ولكني رأيته إذا جاء شهر رجب(3/189)
يقوم ويدعو بهذا الدعاء، ثم ذكرته.... فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ هذا الإستغفار وجعله في بيته أو في متاعه جعل الله له ثواب ألف صديق وثواب ثمانين ألف حجة وثمانين ألف مسجد.... " إلى آخر ما قاله من الدجل بلا خجل، والكذب على الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وهذه أخبار مكذوبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وضعها وكذبها أدعياء الزهد والمنحرفون عن منهج الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الذكر والعبادة.
وقد قال الشيخ علي الطنطاوي في فتاويه ص287 تحت عنوان كتاب يجب أن يمنع، ما نصه: " سألني كثيرون عن كتيب صغير ما أدري من أين يشترونه اسمه (المجموعة المباركة) ، وليس مباركاً ولا صحيحاً، لأن فيه أحاديث موضوعة مكذوبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يجوز للمسلم أن يصدقة، ولا يقرأه ولا يبيعه وينبغي لمن قدر على إنكار هذا المنكر أن ينكره ويمنع تداول هذا الكتاب وأن يبيد النسخ الموجودة منه في الأسواق ".
وينبغي تذكير أصحاب المكتبات وأصحاب دور النشر، أن يتقوا الله عندما يبيعوا كتاباً أو ينشرونه، فليس كل كتاب ينشر أو يباع.
فإن كتب أهل البدعة والضلالة يحرم بيعها ونشرها، وكذا كتب السحر والشعوذة والتمائم الشركية وتحضير الأرواح، والكتب الساقطة الهابطة، كالقصص والروايات الجنسية، والمجلات الخليعة التي تنشر الصور العارية الفاضحة والمقالات الجنسية وأمثالها.
قال الشيخ ابن القيم: " وكذلك الكتب المشتملة على الشرك وعبادة غير الله، فهذه كلها يجب إزالتها وإعدامها، وبيعها ذريعة إلى اقتنائها واتخاذها، فهو أولى بتحريم البيع من كل ما عداها، فإن مفسدة بيعها بحسب مفسدتها في نفسها ".
وقد نص كثير من العلماء على حرمة المتاجرة بكتب أهل البدع والضلالة، راجع الكتاب النافع المفيد بعنوان كتب حذر منها العلماء للشيخ مشهور سلمان 1/52 - 53.(3/190)
إحذروا هذه الخرافة
السؤال: أحضر لي أحد طلابي في الكلية، قطعة من اللحم -- هكذا تبدو --، وقال إن هذه القطعة تنمو وتكبر إذا وضعت في سائل كالشاي مثلاً، وزعم بعض الناس أن السائل الذي ينتج عنها مفيد في علاج الأمراض المستعصية، وأن هذه القطعة أحضرت من الخارج، وتداولها الناس، فتباع وتشترى، وهنالك إشاعات كثيرة حول فوائدها، فما قولكم في القضية؟
الجواب: إن الإسلام شرع التداوي، والتداوي من باب الأخذ بالأسباب، فقد روي في الحديث قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا ولا تتداووا بالحرام) رواه أبو داود.
وجاء في حديث أسامة بن شريك - رضي الله عنه - قال: قالت الأعراب يا رسول الله ألا نتداوى؟ قال: (نعم عباد الله، تداووا، فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له شفاءً إلا داءً واحداً، قالوا يا رسول الله، وما هو؟ قال: الهرم) رواه الترمذي وابن ماجة، وقال الشيخ الألباني: حديث صحيح.
وقد قرر العلماء أن الذي يتولى المداواة لا بد أن يكون من أهل الطب والخبرة وقد ورد في الحديث، أنه عليه الصلاة والسلام قال: (من طبب ولم يُعلم منه طب فهو ضامن) رواه أبو داود وابن ماجة، وقال الشيخ الألباني: حديث حسن.
وجاء في رواية أخرى (أيما طبيب تطبب على قوم لا يُعرف له تطبب قبل ذلك فأعنت فهو ضامن) رواه أبو داود، وقال الشيخ الألباني: حديث حسن، انظر صحيح سنن أبي داود 3/866 - 867.
فهذا الحديث أصل من أصول الطب الإسلامي وتصريح بأن العلاج يكون بالدواء لا بالتعزيمات السحرية أو الدجل الذي يدعيه بعض الجهلة لأكل أموال الناس بالباطل.
وقد جرد الإسلام علم الطب من الخرافات والتعاويذ السحرية في دفع(3/191)
الأمراض ووضع الأسس الأولية التي تصلح لدفع جميع الأمراض البدنية، راجع الطب النبوي ص261.
فالمشروع في حق المسلم إذا مرض وأراد التداوي أن يسأل الأطباء، فهم أدرى الناس بالداء والدواء، ولا يجوز له الذهاب إلى الدجالين والمشعوذين والسحرة والكهان وأضرابهم.
وقد أردت أن أمهد بهذا الكلام قبل الحديث عن قطعة اللحم المزعومة حتى نكون على بينة من أمر التداوي الصحيح.
فإذا ثبت هذا أقول بالنسبة لقطعة اللحم المزعومة، إن بعض الصحف نشرت صورة لها وأجرت مقابلات مع بعض الناس الذين ادّعوا أنهم استعملوها، وزعم بعضهم أنه شرب من الشاي الذي تحول إلى خل بعد وضع قطعة اللحم المشار إليها فيه، وأنه كان يعاني من التهاب شديد في المفاصل، فاستخدم ذلك السائل لمرة واحدة، فمسح على مفاصله فتلاشى المرض، وزعم آخر أنه كان يعاني من آلام في الظهر، فمسح ظهره بذلك السائل فشفي، وغير ذلك من الادعاءات.
وحتى نكون على بينة من أمر قطعة اللحم المزعومة، فقد طلبت من رئيس قسم التصنيع الغذائي، في كلية العلوم والتكنلوجيا - جامعة القدس، إجراء الفحوص المخبرية على قطعة اللحم المزعومة، فقام مشكوراً بإجراء الفحوصات عليها بالتعاون بين مختبري التصنيع الغذائي والعلوم البحرية في الكلية وكانت النتيجة في الخطاب التالي:
((الدكتور حسام الدين عفانة المحترم..
تحية طيبة وبعد.
رداً على تساؤلات بعض الأخوة حول كتلة اللحم المزعومة ومضار استعمالها أو منافعها، فإنه وبناءً على نتائج الفحوصات المخبرية التي أجريناها على هذه المادة نؤكد ما يلي:
- إن هذه الكتلة ليست قطعة من اللحم ولا حيواناً بحرياً كما يعتقد(3/192)
البعض، حيث إن فحصها مجهرياً دل على أنها لا تتكون من أنسجة أو خلايا سواء كانت حيوانية أو نباتية.
- إن هذه المادة ما هي إلا إفرازات لكائنات حية دقيقة لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة، ولكن يمكن رؤيتها فقط عند فحص هذه الكتلة مجهرياً.
- إن اللون اللحمي الذي تأخذه هذه الإفرازات هو ناتج عن مادة الشاي، فعند نقل جزء من هذه الكتلة إلى محلول السكر في الماء، ينتج عنها كتلة من الإفرازات الشفافة.
- إن رائحة الخل التي تنبعث عن هذه الكتلة هي دليل على عملية تخمر مادة السكر المضافة إلى محاول الشاي، والتي تقوم بها بعض الكائنات الدقيقة الموجودة داخل هذه الإفرازات كما أن درجة الحامضية العالية للسائل تدل على تكوين أحماض منها حامض الخل، نتيجة عملية التخمر.
- من المعروف أن أنواعاً مختلفة من الكائنات الحية الدقيقة تسبب الأمراض المعدية للإنسان كما أن هناك أنواعاً أخرى تفيد الإنسان، غير أننا في هذه الحالة وبما أننا لا زلنا نجهل كنه هذه المادة، لا يمكننا الإشارة إلى أي فائدة من استعمالها أو اقتنائها، بل نخشى من أن تسبب هذه الكائنات الدقيقة أو السائل الحامضي مضاراً للذين يستعملونها)) أ. هـ.
وأخيراً وبناءً على هذا التحليل العلمي، أنصح الأخوة القراء ألا يستعملوا قطعة اللحم المزعومة وألا يصدقوا الشائعات التي تقال حولها، وألا يدفعوا أموالهم لشرائها، وأن يتعالجوا حسب الطرق المعروفة للعلاج من خلال الأطباء وليس من خلال الدجالين والمشعوذين وآكلي أموال الناس بالباطل.(3/193)
مداراة الناس
يقول السائل: ما المقصود بحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (إنا لنبش في وجوه أقوام، وإن قلوبنا لتلعنهم) ؟
الجواب: إن النص المذكور، ذكره الإمام البخاري معلقاً غير مجزوم به عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -، حيث قال الإمام البخاري: " باب مداراة الناس، ويذكر عن أبي الدرداء، وإنا لنكشر في وجوه أقوام إن قلوبنا لتلعنهم ".
فهذا الكلام ليس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو من كلا م أبي الدرداء - رضي الله عنه -.
والكشر هو ظهور الأسنان وأكثر ما يطلق عند الضحك قاله الحافظ في فتح الباري 13/144.
ومن المعروف عند أهل العلم أن التعليقات في صحيح البخاري كثيرة، والتعليق هو حذف راوٍ أو أكثر من أول السند ولو إلى آخر الإسناد.
وحكم التعليقات في صحيح البخاري أن ما كان منها بصيغة الجزم، كقال وروى وجاء ونحو ذلك مما بني الفعل فيه للمعلوم فهو صحيح إلى من علقه عنه.
وما كان بصيغة منها التمريض، كقيل وروي ويروى ويذكر ونحو ذلك مما بني الفعل فيه للمجهول، فلا يستفاد منها صحة ولا ينافيها، هذا ما قرره أئمة المحدثين.
قال الحافظ ابن حجر: " إن الأثر المذكور الموقوف على أبي الدرداء، قد وصله جماعة من المحدثين ولكنه ضعيف "، وقد بين وصله في الفتح 13/144.
وقال الشيخ الألباني: " لا أصل له مرفوعاً " أي إلى النبي- صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: " وبالجملة فالحديث لا أصل له مرفوعاً، والغالب أنه ثابت موقوفاً " أي على أبي الدرداء، انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/252.(3/194)
وإذا تقرر هذا فأقول: إن المراد بالنص السابق المنسوب إلى أبي الدرداء، هو مداراة الناس، وهي أمر مطلوب شرعاً، نقل الحافظ ابن حجر عن ابن بطال قوله: " المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس ولين الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول وذلك من أقوى أسباب الألفة.
وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فأخطأ لأن المداراة مندوب إليها والمداهنة محرمة بالاتفاق والفرق أن المداهنة من الدهان، الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه.
والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه حتى لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك " فتح الباري 13/ 144 - 145.
وقد ذكر الحافظ أيضاً حديث جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (مداراة الناس صدقة) ثم بين الحافظ ابن حجر من رواه وذكره أنه ضعيف.
وروى حديث جابر المذكور الحافظ ابن حبان، ثم قال: " المداراة التي تكون صدقة للمداري هي تخلق الإنسان الأشياء المستحسنة مع من يدفع إلى عشرته ما لم يشبها بمعصية الله.
والمداهنة هي استعمال المرء الخصال التي تستحسن منه في العشرة، وقد يشوبها ما يكره الله جل وعلا " صحيح ابن حبان 2/218.
يكره تسمية العنب كرماً
يقول السائل: لماذا نه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تسمية العنب بالكرم؟
الجواب: ثبت في الحديث الصحيح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -(3/195)
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تسموا العنب الكرم، ولا تقولوا خيبة الدهر، فإن الدهر هو الله) رواه البخاري.
وفي رواية لمسلم: (ولا يقولن أحدكم للعنب الكرم فإن الكرم الرجل المسلم) رواه مسلم.
وفي رواية أخرى: (لا تقولوا كرم فإن الكرم قلب المؤمن) رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية ثالثة: (لا تقولوا الكرم، ولكن قولوا الحبلة، يعني العنب) رواه مسلم.
وغير ذلك من الروايات الصحيحة الثابتة عن الرسول- صلى الله عليه وسلم - التي تدل على كراهة تسمية العنب كرماً.
قال الإمام النووي: " قال العلماء: سبب كراهة ذلك أن لفظة الكرم كانت العرب تطلقهاعلى شجر العنب، وعلى العنب، وعلى الخمرالمتخذة من العنب، سموها كرماً لكونها متخذة منه ولأنها تحمل على الكرم والسخاء، فكره الشرع إطلاق هذه اللفظة على العنب وشجره، لأنهم إذا سمعوا اللفظة ربما تذكروا بها الخمر وهيجت نفوسهم إليها فوقعوا فيها أو قاربوا ذلك، وقال: إنما يستحق هذا الاسم الرجل المسلم أو قلب المؤمن، لأن الكرم مشتق من الكَرَم بفتح الراء، وقد قال تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) سورة الحجرات /13.
فسمى قلب المؤمن كرماً لما فيه من الإيمان والهدى والنور والتقوى والصفات المستحقة لهذا الاسم " شرح النووي على صحيح مسلم 15/407.
بدعة إقامة المولد عند ختان المولود
يقول السائل: ما حكم عمل وليمة عند ختان المولود، وعمل مولد بهذه(3/196)
المناسبة، ودعوة الأقارب والأصدقاء والجيران؟
الجواب: من المعلوم أن الختان من سنن الفطرة، وهو واجب في حق الذكور دون الإناث والوليمة عند الختان تسمّى الإعذاريقال أعذر إعذاراً كما ذكره في المصباح المنير.
ووليمة الختان ليست واجبة بل مستحبة، قال الإمام البغوي: " ويستحب للمرء إذا أحدث الله له نعمة أن يحدث له شكراً، ومثله العقيقة، والدعوة على الختان، وعند القدوم من الغيبة، كلها سنن مستحبة شكراً لله تعالى على ما أحدث له من النعمة وآكدها استحباباً، وليمة العرس والإعذار والخُرس، الإعذار دعوة الختان، والخرس دعوة السلامة من الطلق " شرح السنة 9/137 - 138.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: ".... فحكم الدعوة للختان وسائر الدعوات غير الوليمة - أي وليمة الزواج - أنها مستحبة لما فيها من إطعام الطعام، والإجابة إليها مستحبة غير واجبة وهذا قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابه....، وإجابة كل داعٍ مستحبة لهذا الخبر، ولأن فيه جبر قلب الداعي، وتطييب قلبه، وقد دعي الإمام أحمد إلى ختان فأجاب وأكل.... " المغني 7/286.
وقد وردت أحاديث كثيرة في إجابة الدعوة للوليمة سواءً أكانت وليمة عرس أو غير عرس، ويدخل في ذلك وليمة الختان، فمن ذلك:
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليأتها) رواه البخاري ومسلم.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من دعي إلى طعام فليجب، فإن شاء أكل وإن شاء ترك) رواه مسلم.
وعن ابن عمر - رضي الله عنه - كان يقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا دعا أحدكم أخاه فليجب عرساً كان أو نحوه) رواه مسلم.
وهذه الأحاديث وغيرها تدل على استحباب دعوة الختان وعلى(3/197)
استحباب إجابتها، وهذا مذهب جمهور أهل العلم.
وأما ما ورد في الحديث عن الحسن البصري قال: " دعي عثمان بن أبي العاص فأبى أن يجيب، فقيل له، فقال: إنا كنا لا نأتي الختان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا ندعى له " رواه أحمد في المسند فهذا الحديث لا يقتضي منع دعوة الختان.
وقد أجاب الإمام أحمد الدعوة إلى ختان كما سبق في كلام ابن قدامة والأئمة الثلاثة على استحباب الدعوة لها والإجابة.
هذا ما يتعلق بالدعوة إلى وليمة الختان، وأما ما يتعلق بعمل المولد عند الختان فأقول:
إن عمل المولد ليس مشروعاً في الدين، بل هو من الأمور المبتدعة التي لا أصل لها، فعمل المولد بدعة منكرة، سواء كان ذلك بمناسبة المولد النبوي أو بمناسبة ختان أو غير ذلك من المناسبات التي اعتاد عوام الناس عمل المولد فيها فلا يجوز شرعاً إقامة الموالد، لأن الرسول- صلى الله عليه وسلم - لم يفعلها ولا خلفاؤه الراشدون ولا غيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ولا التابعون لهم بإحسان في القرون الثلاثة المفضلة، التي شهد لها الرسول- صلى الله عليه وسلم - بالخيرية، وهم أعلم الناس بالسنة النبوية، وقد صحّ الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو ردّ) متفق عليه، أي مردود.
وفي رواية أخرى: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ) .
وثبت في الحديث الصحيح أيضاً، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وصححه ابن حبان والحاكم والذهبي وغيرهم، وغير ذلك من الأحاديث.
وهذه الموالد أحدثت في الإسلام بعد أكثر من أربعمئة عام من تاريخ(3/198)
الإسلام، فأين كان المسلمون الأوائل عنها، أين كان الصحابة والتابعون والعلماء والأعلام الذين عاشوا في تلك القرون المفضلة؟
ومن المعلوم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بين لنا أحكام الشرع الحنيف وبلغ عن ربه البلاغ المبين، وما ترك طريقاً يقربنا من الجنة، ويباعدنا من النار إلا وبينه للأمة، كما ورد في الحديث الصحيح، عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: (ما بعث الله من نبيٍ إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه، وينذرهم شر ما يعلمه لهم) رواه مسلم.
فالموالد غير مشروعة من حيث أصلها، ومن حيث ما يصاحبها من الأمور المنكرة كالغلو في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووصفه بأوصاف مخالفة للشرع، واختلاط الرجال بالنساء، واستعمال آلات الملاهي، وغير ذلك من الأمور المنكرة.
وأخيراً أقول للسائل، إن شئت أن تدعو الأقارب والجيران والأصدقاء بمناسبة ختان ولدك فافعل، واصنع لهم طعاماً وأطهمهم، ولا تصنع لهم مولداً، لأنه بدعة، ولا تَنسَ أن تدعو الفقراء والمحتاجين إلى وليمتك، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (شر الطعام طعام الوليمة، يدعى لها الأغنياء ويترك المساكين) رواه البخاري ومسلم.
العدوى في المرض
تقول السائلة: هل هناك عدوى في المرض وكيف نوفق بين قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - (لا عدوى) ، وبين قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) ؟
الجواب: روى الإمام البخاري في صحيحه بسنده عن أبي هريرة- رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، وفر من الجذام كما تفر من الأسد) ورواه مسلم أيضاً.
وقد اختلف أهل العلم في التوفيق بين الأحاديث التي تنفي العدوى(3/199)
وهذا منها، وبين الأحاديث التي تأمر باجتناب المرضى المصابين بأمراض خطيرة، كالجذام والطاعون وغيرهما.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح عدة مسالك في ذلك، أحسنها ما قاله الإمام البيهقي: " وأما ما ثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا عدوى) فهو على الوجه الذي كانوا يعتقدونه في الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى، وقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح من به شيء من هذه العيوب، سبباً لحدوث ذلك، ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) ، وقال: (لا يورد ممرض على مصح) وقال في الطاعون: (من سمع به بأرض فلا يقدم عليه) وكل ذلك بتقدير الله تعالى" فتح الباري 12/367.
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - لا ينكر العدوى ولا ينفيها، وعلى الناس ألا يعتقدوا أن العدوى تضر بنفسها، وإنما تضر بأمر الله تعالى، فهي سبب من الأسباب.
يحرم الطعن في العلماء
يقول السائل: إنه سمع بعض المدرسين يطعن في الفقهاء، ويصفهم بأنهم علماء الحيض والنفاس، لأنهم يتكلمون في مسائل الحيض والنفاس ومسائل الطهارة والصلاة والزكاة ونحوها، ويهملون على زعمه مسائل مهمة تتعلق بالحكم والسياسة، فما قولكم في ذلك؟
الجواب: لا شك لدي بأن قائل هذا الكلام جاهلٌ متغطرس، لا يعرف منزلة العلم ولا العلماء، ولا يعرف شيئاً عن جهود العلماء والفقهاء في نشر العلم وتبيانه للناس وأكبر دليلٍ على ذلك كتب العلماء التي خلفوها، وهي ناطقة بصدق حالهم، وأنهم أخذوا الإسلام جملةً واحدة، فما قصروه على جانب واحد من جوانبه، فإذا استعرضت أي كتاب من كتب فقهائنا وعلمائنا لوجدتها تتحدث عن الأحكام الشرعية في جميع أبواب الفقه، وليست مقصورة على أحكام الحيض والنفاس، كما زعم القائل.(3/200)
إن هذا التطاول على العلماء والفقهاء حرامٌ شرعاً، وإن من عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يدينون الله سبحانه وتعالى باحترام العلماء الهداة ولا بد أن نعرف لعلمائنا فضلهم.
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء
فالتطاول على العلماء والفقهاء وإيذاؤهم حرامٌ شرعاً، ويودي بالمتطاول المؤذي للعلماء، وقد قال بعض أهل العلم: " أعراض العلماء على حفرةٍ من حفر جهنم "
وورد عن ابن عباس رضي الله عنهما: " من آذى فقيهاً، فقد آذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن آذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد آذى الله عز وجل ".
ويضاف لما سبق، أن المتطاول ما عرف مكانة أحكام الحيض والنفاس في الفقه الإسلامي، وأهميتها وكثرة الأحكام المترتبة على معرفة أحكام الحيض والنفاس.
فقد قال الإمام النووي يرحمه الله: ((إعلم أن باب الحيض من عويص الأبواب ومما غلط فيه كثيرون من الكبار لدقة مسائله واعتنى به المحققون وأفردوه بالتصنيف في كتب مستقلة.
وأفرد أبو الفرج الدارمي من أئمة العراقيين مسألة المتحيرة في مجلد ضخم ليس فيه إلا مسألة المتحيرة وما يتعلق بها، وأتى فيه بنفائس لم يُسبق إليها، وحقق أشياء مهمة من أحكامها، وقد اختصرت أنا مقاصده في كراريس، وسأذكر في هذا الشرح ما يليق به منها إن شاء الله.
وجمع إمام الحرمين في النهاية في باب الحيض نحو نصف مجلد وقال بعد مسائل الصفرة والكدرة: لا ينبغي للناظر في أحكام الإستحاضة أن يضجر من تكرير الصور وإعادتها في الأبواب.
وبسط أصحابنا رحمهم الله مسائل الحيض أبلغ بسط وأوضحوه كامل إيضاح واعتنوا بتفاريعه أشد اعتناء وبالغوا في تقريب مسائله بتكثير الأمثلة(3/201)
وتكرير الأحكام، وكنت جمعت في الحيض في شرح المهذب مجلداً كبيراً مشتملاً على نفائس، ثم رأيت الآن اختصاره والإتيان بمقاصده، ومقصودي بما نبهت عليه، ألا يضجر مطالعه بإطالته فإني أحرص إن شاء الله على ألا أطيله إلا بمهمات وقواعد مطلوبات وما ينشرح به قلب من به طلب مليح وقصد صحيح، ولا ألتفت إلى كراهة ذوي المهانة والبطالة، فإن مسائل الحيض يكثر الإحتياج إليها لعموم وقوعها وقد رأيت ما لا يحصى من المرات من يسأل من الرجال والنساء عن مسائل دقيقة وقعت فيه، لا يهتدي إلى الجواب الصحيح فيها، إلا أفراد من الحذاق المعتنين بباب الحيض، ومعلوم أن الحيض من الأمور العامة المتكررة ويترتب عليه ما لا يحصى من الأحكام، كالطهارة والصلاة والقراءة، والصوم والإعتكاف والحج، والبلوغ والوطء، والطلاق والخلع والإيلاء، وكفارة القتل وغيرها والعدة والإستبراء، وغير ذلك من الأحكام، فيجب الإعتناء بما هذه حاله، وقد قال الدارمي في كتاب المتحيرة: الحيض كتاب ضائع لم يصنف فيه تصنيف يقوم بحقه ويشفي القلب، وأنا أرجو من فضل الله تعالى أن ما أجمعه في هذا الشرح يقوم بحقه أكمل قيام وإنه لا تقع مسألة إلا وتوجد فيه نصاً أو استنباطاً، لكن قد يخفى موضعها على من لا تكمل مطالعته وبالله التوفيق)) المجموع 2/344 - 345.
وقال العلاّمة البركوي: " فقد اتفق الفقهاء على فرضية علم الحال على كل من آمن بالله واليوم الآخر من نسوة ورجال.
فمعرفة أحكام الدماء المختصة بالنساء واجبة عليهن، وعلى الأزواج والأولياء ولكن هذا العلم كان في زماننا مهجوراً، بل صار كأن لم يكن شيئاً مذكوراً، لا يفرقون بين الحيض والنفاس والإستحاضة....".
ونقل ابن عابدين عن ابن نجيم قال: " واعلم أن باب الحيض من غوامض الأبواب خصوصاً المتحيرة وتفاريعها، ولهذا اعتنى به المحققون.
وأفرده محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة رحمه الله في كتاب مستقل ومعرفة مسائله من أعظم المهمات، لما يترتب عليها مما لا(3/202)
يحصى من الأحكام، كالطهارة والصلاة وقراءة القرآن والصوم والاعتكاف والحج والبلوغ والوطء والطلاق والعدة والإستبراء، وغير ذلك من الأحكام، وكان من أعظم الواجبات لأن عظم منزلة العلم بالشيء بحسب منزلة ضرر الجهل به، وضرر الجهل بمسائل الحيض أشد من ضرر الجهل بغيرها، فيجب الاعتناء بمعرفتها وإن كان الكلام فيها طويلاً، فإن المحصل يتشوف إلى ذلك ولا التفات إلى كراهة أهل البطالة " انظر الرسالة الرابعة من مجموعة رسائل ابن عابدين المسماة منهل الواردين من بحار الفيض، على ذخر المتأهلين في مسائل الحيض ص69 - 70.
وأخيراً، فإن على طلبة العلم أن يتأدبوا مع العلماء، ويعرفوا للعلماء مكانتهم وفضلهم: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعلَمُونَ) سورة الزمر /9.
وقال تعالى: (يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) سورة المجادلة 11
قال الحافظ ابن عساكر يرحمه الله: " اعلم يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلني وإياك ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب (فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) سورة النور /63.
الفرق بين كبائر الذنوب وصغائرها
يقول السائل: ما المقصود بكبائر الذنوب، وما الفرق بينها وبين صغائر الذنوب وما هي كبائر الذنوب؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أولاً أن كل مخالفة لأوامر الله أو نواهيه قبيحة، سواءً كان الذنب كبيراً أو صغيراً، وعلى المسلم أن يعلم أنه عندما(3/203)
يرتكب ذنباً أنه يعصي الله عز وجل، وقد قال بعض السلف: " لا تنظر إلى صغر الذنب، ولكن انظر من عصيت ".
فالمسلم ملتزم بشرع الله التزاماً كاملاً ولا يدفعه أن هذا الذنب صغير إلى التساهل في الوقوع في المعاصي، فإن الله عز وجل قال: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا) سورة النساء /123.
فالأصل في المسلم أن يجتنب كل ما نهى الشارع الحكيم عنه، ويدل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح أن عليه الصلاة والسلام قال: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) رواه البخاري ومسلم.
إذا تقرر ذلك فأقول إن جماهير العلماء قالوا: إن المعاصي تنقسم إلى صغائر وكبائر، وقد اختلفوا في حقيقة الكبيرة، وهذه بعض أقوالهم:
فمنهم من يرى أن الكبيرة هي ما لحق صاحبها بخصوصها وعيد شديد بنص من القرآن الكريم أو السنة النبوية، قال ابن عباس رضي الله عنهما: " الكبيرة كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب " تفسير القرطبي 5/159.
ومن العلماء من يرى أن الكبيرة هي كل معصية أوجبت الحد.
ومنهم من يرى أن الكبيرة هي كل محرم لعينه منهيٌ عنه لمعنى في نفسه فأن فعل على وجه يجمع وجهين أو وجوهاً من التحريم كان فاحشة، فالزنا كبيرة، وأن يزني الرجل بزوجة جاره فاحشة.
وقال المفسر الواحدي: " الصحيح أن الكبيرة ليس لها حد يعرفها العباد به، وإلا لاقتحم الناس الصغائر واستباحوها، ولكن الله عز وجل أخفى ذلك عن العباد ليجتهدوا في اجتناب المنهي عنه رجاءً أن تجتنب الكبائر، ونظائره إخفاء الصلاة الوسطى وليلة القدر وساعة الإجابة ونحو ذلك، وغير ذلك من الأقوال " الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/14 - 16.
وكل ما ذكره أهل العلم في تعريف الكبيرة إنما هو على وجه التقريب، وليس على وجه التحديد.(3/204)
وكبائر الذنوب كثيرة، وليس محصورة في عدد معين عند أهل العلم، وإن ذكر في بعض الأحاديث عددها، فليس المراد الحصر، فمن ذلك ما ورد في الحديث، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثاً، الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور أو قول الزور، وكان رسول الله متكئاً فجلس، فما زال يكررها حتى قلنا يا ليته سكت) رواه البخاري ومسلم.
وعن أنس ابن مالك - رضي الله عنه - قال: ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال: (الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قال قول الزور، أو قال شهادة الزور) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، قيل يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) رواه البخاري ومسلم.
قال الإمام النووي: " وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - (الكبائر سبع) فالمراد به من الكبائر سبع، فإن هذه الصيغة وإن كانت للعموم، فهي مخصوصة بلا شك، وإنما وقع الاقتصار على هذه السبع وفي الأخرى ثلاث، وفي الرواية الأخرى أربع، لكونها من أفحش الكبائر مع كثرة وقوعها لا سيما فيما كانت عليه الجاهلية ولم يذكر في بعضها ما ذكر في الأخرى، وهذا مصرح بما ذكرته من أن المراد البعض" شرح النووي على صحيح مسلم 1/264.
ويؤيد عدم انحصار الكبائر في سبع أو ثلاث أو أربع ما ورد عن ابن عباس - رضي الله عنه -، أنه لما سئل عن الكبائر أسبع هي؟ فقال: هي إلى سبعين أقرب.
وقال سعيد بن جبير: قال رجل لابن عباس الكبائر سبع؟ قال: هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى السبع، غير أنه لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار " تفسير القرطبي 5/159.(3/205)
وهذا هو الراجح إن شاء الله، وهو أن الكبائر ليست محصورة في عدد معين، وقد ذكر الإمام ابن حجر المكي يرحمه الله عدداً كبيراً من الذنوب التي تعد من الكبائر وساق الأدلة على ذلك فمن أراد الاستزادة فليرجع إلى كتابه القيم الزواجر عن اقتراف الكبائر.
حكم الإكرام بالقيام
يقول السائل: ما حكم قيام الناس لشخص يدخل إلى مجلسهم؟
الجواب: يجوز القيام للقادم إذا كان القيام بقصد إكرام أهل الفضل كالعلماء والوالدين لأن احترام هؤلاء وأمثالهم مطلوب شرعاً.
وقد ثبت في الحديث الصحيح، عن أبي سعيد الخدري، أن أهل قريظة نزلوا على حكم سعد، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه فجاء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (قوموا إلى سيدكم، أو قال خيركم.... الحديث) رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري.
قال الإمام النووي: " قوله - صلى الله عليه وسلم -: قوموا إلى سيدكم أو خيركم فيه إكرام أهل الفضل وتلقيهم بالقيام لهم إذا أقبلوا، هكذا احتج به جماهير العلماء لاستحباب القيام....، قلت القيام للقادم من أهل الفضل مستحب، وقد جاء فيه أحاديث ولم يصح في النهي عنه شيء صريح " شرح النووي على صحيح مسلم 12/440.
ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما رأيت أحداً من الناس كان أشبه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كلاماً ولا حديثاً ولا جلسة من فاطمة، قالت كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رأها قد أقبلت، رحب بها ثم قام إليها فقبلها، ثم أخذ بيدها فجاء بها حتى يجلسها في مكانه، وكانت إذا أتاها النبي - صلى الله عليه وسلم - رحبت به، ثم قامت إليه فأخذت بيده فقبلته....) رواه أبو داود والترمذي، وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني، انظر صحيح الأدب المفرد ص356.(3/206)
ويؤيد ذلك ما جاء في الحديث الطويل في قصة توبة كعب بن مالك، حين تخلف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، فتاب الله عليه، وفيه: (وآذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئوني بالتوبة يقولون: لتهنك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد، فإذا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحوله الناس، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني....) رواه البخاري ومسلم وغير ذلك من الأحاديث.
وينبغي التنبيه، أنه ورد النهي عن القيام للقادم إذا كان بقصد المباهاة والتفاخر والسمعة والكبرياء، فقد ورد في الحديث عن معاوية بن أبي سفيان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من سرّه أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار) رواه أبو داود والترمذي وحسنه.
وقد جعل ابن رشد المالكي، القيام للقادم على أربعة أوجه:
1 - محظور، وهو أن يقع لمن يريد أن يقام له تكبراً وتعاظماً على القائمين إليه.
2 - مكروه، وهو أن يقع لمن لا يتكبر ولا يتعاظم على القائمين، ولكن يخشى أن يدخل إلى نفسه بسبب ذلك ما يحذر، ولما فيه من التشبه بالجبابرة.
3 - جائز، وهو أن يقع على سبيل البر والإكرام لمن لا يريد ذلك، ويؤمن معه التشبه بالجبابرة.
4 - مندوب، وهو أن يقوم لمن قدم من سفر فرحاً بقدومه، أو إلى من تجددت له نعمة، فهنئه بحصولها، أو مصيبة فيعزيه بسببها. " فتح الباري 13/290.
قال الشيخ أحمد بن قدامة المقدسي: " وقد قال العلماء: يستحب القيام للوالدين والإمام العادل، وفضلاء الناس، وقد صار هذا كالشعار بين الأفاضل، فإذا تركه الإنسان في حق من يصلح أن يفعله في حقه، لم يأمن أن ينسبه إلى إهانته والتقصير في حقه، فيوجب ذلك حقداً، واستحباب هذا(3/207)
في حق القادم لا يمنع الذي يقام له أن يكره ذلك ويرى أنه ليس بأهل لذلك " مختصر منهاج القاصدين ص 251.
فساد ذات البين
يقول السائل: ما المراد بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: (فإن فساد البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين) ؟
الجواب: إن المذكور في السؤال جزء من حديث رواه أبو داود والترمذي وغيرهما عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة) قال الترمذي هذا حديث صحيح.
وقال: يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين) .
وهذا الحديث فيه حث وترغيب على إصلاح ذات البين وقوله عليه الصلاة والسلام: (فإن فساد ذات البين هي الحالقة) ، أي هي الخصلة التي من شأنها أن تحلق الدين وتستأصله كما يستأصل الموسى الشعر، كما قال صاحب، عون المعبود 13/178.
وقال ابن منظور: " الحالقة أي التي من شأنها أن تحلق أي تهلك وتستأصل الدين كما تستأصل الموسى الشعر.... " لسان العرب 3/293.
استخدام الجن في العلاج
يقول السائل: يدّعي بعض الناس معالجة المرضى، عن طريق استخدام(3/208)
الجن وقراءة القرآن على الماء أو على بعض الأشربة، وكذلك القراءة على بعض الأدوات كالموسى، فما قولكم في ذلك؟
الجواب: لقد كثر في زماننا هذا الذين يدَّعون العلاج بالقرآن الكريم، والذين يدَّعون أنهم يتعاملون مع الجن في معالجة المرضى، وأكثر هؤلاء من الدجالين والمشعوذين الذين يستغلون جهل الناس وضعف المرضى، فيبتزونهم ويأخذون منهم الأموال الكثيرة بغير حق ويرتكبون مخالفات شرعية كثيرة، ولا بد من توضيح الأمور التالية:
1 - إذا مرض الإنسان فعليه مراجعة الأطباء أهل الاختصاص، لأن الله تعالى خلق الداء والدواء، فقد جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ما أنزل الله من داء، إلا أنزل له شفاء) رواه البخاري ومسلم.
وجاء في حديث آخر أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: (لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء، برأ بإذن الله) رواه مسلم.
2 - إن العلاج بالقرآن والرقية بآياته من الأمور المشروعة، يقول الله سبحانه وتعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا) سورة الإسراء /82.
وروى الإمام البخاري في صحيحه، عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه -، أن رهطاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انطلقوا في سفرة سافروها حتى نزلوا بحي من أحياء العرب، فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين قد نزلوا بكم لعله أن عند بعضهم شيء فأتوهم فقالوا: يا أيها الرهط، إن سيدنا لدغ فسعينا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فهل عند أحدكم شيء، فقال بعضهم: نعم والله إني لراق، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلاً، فصالحهم على قطيع من الغنم فانطلق فجعل يتفل ويقرأ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمينَ) حتى لكأنما نشط من عقال، فانطلق يمشي ما به قلبة، قال فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: أقسموا، فقال الذي رقى لا تفعلوا حتى نأتي(3/209)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنذكر له الذي كان، فننظر ما يأمرنا، فقدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا له فقال: (وما يدريك أنها رقية، أصبتم، اقسموا واضربوا لي معكم بسهم) .
وثبت في الحديث الصحيح، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذتين) رواه مسلم.
3 - لا ينبغي لأحد من الناس أن يتفرغ لعلاج الناس بالرقى القرآنية أو بالأذكار الواردة، والإعلان عن نفسه بأنه المعالج بالقرآن والبديل الشرعي لفك السحر ومس الجان والعين والعقم والأمراض المستعصية، أو يعلن عن نفسه العيادة القرآنية، ويوزع الكروت، ويحدد المواعيد كالأطباء المختصين، لأن ذلك ليس من منهج الصحابة والتابعين والصالحين، ولم يكن معروفاً مثل هذا التفرغ عندهم مع أن الناس لا زالوا يمرضون على مر العصور والأزمان، ولأن فتح هذا الباب قد يؤدي إلى مفاسد كثيرة، ويلج منه الدجالون والمشعوذون وأمثالهم.
4 - لا بأس بقراءة آيات من القرآن الكريم على إناء فيه ماء، ثم يشربه المريض ويغتسل به قال ابن القيم: " ورأى جماعة من السلف أن يكتب له الآيات من القرآن ثم يشربها قال مجاهد: لا بأس أن يكتب القرآن ويغسله ويسقيه المريض ومثله عن أبي قلابة ".
5 - إن مس الجن للإنسان ثابت، وقد قامت الأدلة على ذلك من كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والواقع يؤيد ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجن في بدن المصروع وغيره، ومن أنكر ذلك وادعى أن الشرع يكذب ذلك، فقد كذب على الشرع، وليس في الأدلة الشرعية ما ينفي ذلك " مجموع الفتاوى 24/276.
ويكون العلاج من صرع الجن للإنسان بقراءة الآيات القرآنية والأوراد النبوية الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(3/210)
6 - لا يجوز اللجوء لأي إنسان يدعي المعالجة بالقرآن أو أنه يستطيع إخراج الجن من المصروع إلا بعد التأكد أن هذا الشخص من الصالحين الملتزمين بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه يتبع الطرق المشروعة في الرقية والعلاج ولا يستخدم شياطين الجن الذين لا يخدمونه إلا إذا وقع في المحرمات.
وكذلك فإن بعض هؤلاء المعالجين يستخدمون الطلاسم في المعالجة، أو يذكرون كلاماً غير مفهوم المعنى، فهذا لا يجوز استعماله.
حديث مكذوب على الرسول - صلى الله عليه وسلم -
يقول السائل: يتداول بعض الخطباء والمدرسين حديثاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو (الناس كلهم هلكى إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم) فهل هذا الحديث ثابت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟
الجواب: هذا الحديث حديث مكذوب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال الصغاني: "وهذا الحديث مفترى ملحون والصواب في الإعراب العالمين والعاملين والمخلصين ".
وقال الشيخ الألباني: موضوع أي مكذوب، انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة1/102 وكشف الخفاء2/312.
صيغة مكذوبة في الصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يقول السائل: وزع بعض الناس الورقة المطبوعة التالية، وفيها صيغة للصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهل هذه الصيغة واردة عن الرسول عليه الصلاة والسلام؟ ونصها كما يلي:(3/211)
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد المرسلين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد المرسلين
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد الشاهدين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد الخائفين
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد الخاشعين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد الطائعين
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد التائبين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد العابدين
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد الحامدين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد الصالحين
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد الراكعين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد الساجدين
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد القائمين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد القاعدين
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد المتقين. اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد المستغفرين
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد النادمين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد الشاكرين
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد الحافظين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد الذاكرين
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد العاقلين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد المحسنين
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد الأكرمين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد المنذرين(3/212)
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد المبشرين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد الطيبين
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد النبيين. اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيد العالمين
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد سيدنا النبي الزكي النقي اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد القرشي الهاشمي اللهم صل وسلم على سيدنا محمد المدني العربي المكرم يوم القيامة اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد سيد أهل الجنة اللهم صل وسلم على سيدنا محمد صاحب المقام المحمود اللهم صل وسلم على سيدنا صاحب الصراط المستقيم اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد أفضل الأولين والآخرين اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وعلى جميع الملائكة المقربين، وعلى عباد الله الصالحين من أهل السماوات وأهل الأرضين وعلينا معهم أجمعين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين- صلى الله عليه وسلم -.
روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (والذي بعثني بالحق بشيراً ونذيراً من دعا بهذه الصلاة في عمره مرةً أو ساعةً أو جمعةً أو شهراً إلا أدخله الله الجنة بغير حساب وقال - صلى الله عليه وسلم - من كتبها وعلقها على نفسه كفاه الله شر من يخاف، ومن مات وجعلها في كفنه كانت له شهيداً يوم القيامة ويوكل الله به ملائكة يحفظونه من كل هول وشدة.
وقال - صلى الله عليه وسلم - بينما أنا أصلي خلف المقام فلما فرغت دعوت الله عز وجل، وسألته المغفرة لأمتي إنه غفور رحيم، فنزل عليَّ جبريل عليه السلام فقلت يا أخي يا جبريل أنت حبيبي وحبيب أمتي، علمني شيئاً يكون لي ولأمتي من بعدي، لينالوا إحساناً لهم ورحمة بهم، فقال جبريل عليه السلام، ما من مسلم يدعو بهذه الصلاة في عمره مرة واحدةً إلا جاء يوم القيامة ووجهه يتلألأ نوراً كالقمر ليلة البدر، فيتعجب الناس منه ويقولون هذا نبي مرسل أو ملك مقرب، إنه عبد دعا بهذه الصلاة في عمره مرةً.(3/213)
وقال جبريل عليه السلام يا محمد ما دعا بهذه الصلاة أحد خمسة عشر مرة في عمره إلا قمت أنا وأنت يوم القيامة على قبره ويهدي الله فرساً من الجنة سرجها من الياقوت الأحمر فيأتونه ويقولون يا عبد الله ما جزاؤك اليوم إلى الجنة إنزل في جوار النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال جبريل يا محمد هذه الصلاة فيها اسم الله الأعظم فمن قرأها كان آمناً يوم القيامة من الفزع الأكبر ومن عذاب القبر.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا أخي يا جبريل ما ثواب من يدعو بهذ الصلاة، فقال يا محمد سألتني عن شيء لا يعلمه إلا الله تعالى، يا محمد لو كانت الأشجار أقلاماً والبحار مداداً والجن والإنس كتاباً ما قدروا على كتابة ثواب هذه الصلاة يا محمد ما من أحد من أمتك يدعو بهذه الصلاة إلا كتب الله له ثواب أربعة من الملائكة واربعة من الأنبياء فأما الأنبياء فثوابك يا محمد صلوات الله عليك وسلامه وموسى وعيسى وإبراهيم صلوات الله عليهم أجمعين وأما الملائكة فثوابي أنا وميكائيل واسرافيل وعزرائيل عليهم السلام فعجبت من هذه الصلاة وأن الملائكة يستغفرون لمن يدعو بها ثم قال الرسول- صلى الله عليه وسلم - من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ولم يؤمن بهذه الصلاة فأنا بريء منه وهو بريء مني ومن كانت هذه الصلاة عنده ولم يعلمها للمسلمين فأنا بريء منه وهو بريء مني وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك هذه الصلاة يوماً قط وقال عثمان بن عفان - رضي الله عنه - كنت لم أحفظ القرآن فعلمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الصلاة فرزقني الله حفظ القرأن......الخ)) .
الجواب: هذه الصيغة في الصلاة والسلام على النبي- صلى الله عليه وسلم - صيغة باطلة لم ترد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهي افتراء وكذب على الرسول- صلى الله عليه وسلم - وتعتبر من الغلو في الدين، حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: (إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين) رواه أحمد والنسائي وابن ماجة والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين وصححه الإمام النووي.
وقد وردت صيغ معتمدة عند المحدثين في الصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم -(3/214)
تغني عن هذه الصورة الباطلة، فعلى المسلم أن يلتزم بالصيغ الصحيحة، ويتجنب الصيغ المكذوبة، فإن الخير كل الخير في الإتباع، والشر كل الشر في الإبتداع.
أحاديث الأبدال
يقول السائل: إنه قرأ في إحدى المجلات مقالة حول الأبدال وأنهم يكونون بالشام كما ورد في الحديث المذكور في المقال، وهو عن الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن الأبدال يكونون بالشام، وهم أربعون رجلاً، كلما مات منهم رجل، أبدل الله مكانه رجلاً، يسقى بهم الغيث، وينصر بهم على الأعداء ويصرف بهم عن أهل الأرض البلاء) رواه الترمذي، فما قولكم في ذلك؟
الجواب: لم يثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم - حديث صحيح في الأبدال وكل ما ورد من الأحاديث في الأبدال والأقطاب والأغواث والنقباء والنجباء والأوتاد، كلها أحاديث باطلة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما قرر ذلك المحققون من أهل العلم حديثاً وقديماً.
ومن هذه الأحاديث الباطلة، الحديث المذكور أعلاه، فإنه حديث منقطع وهو ضعيف قال الشيخ أحمد محمد شاكر يرحمه الله في تعليقه على مسند الإمام أحمد 2/171، قال: " وإسناده ضعيف لانقطاعه....".
وقال ابن القيم: " ذكره الإمام أحمد ولا يصح أيضاً فإنه منقطع " المنار المنيف ص136.
وقال الشيخ الألباني: ضعيف، انظر ضعيف الجامع الصغير ص334.
ويضاف إلى ذلك كله أن الحديث لم يروه الترمذي كما ورد في السؤال.
وأحاديث الأبدال لم يروها أحد من أصحاب الكتب الستة إلا حديثاً(3/215)
واحداً رواه أبو داود في سننه، وورد فيه ذكر الأبدال، وهو حديث أم سلمة وهو حديث ضعيف لا يصح وفيه " فإذا رأى الناس ذلك، أتاه أبدال الشام وعصائب أهل العراق فيبايعونه...." وهذا الحديث ضعيف، فهو من رواية قتادة عن صالح أبي الخليل عن صاحب له لم يسمَّ عن أم سلمة، فالحديث ضعيف، كما أن قتادة لم بصرح بالسماع، وقد ضعفه الشيخ الألباني وغيره.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " والحديث المروي في الأبدال، أربعون رجلاً، حديث ضعيف، فإن أولياء الله المتقين، يزيدون وينقصون بحسب كثرة الإيمان والتقوى، وبحسب قلة ذلك، كانوا في أول الإسلام أقل من أربعين، فلما انتشر الإسلام كانوا أكثر من ذلك " مجموع الفتاوى 27/498.
وخلاصة الأمر كما قال العلاّمة ابن القيم: " إن أحاديث الأبدال والأقطاب والأغواث والنقباء والنجباء والأوتاد، كلها باطلة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " المنار المنيف ص136.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ".... كل حديث يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في عدة الأولياء والأبدال والنقباء والنجباء والأوتاد والأقطاب مثل أربعة أو سبعة أو اثني عشر أو أربعين أو سبعين أو ثلاثمئة وثلاثة عشر، أو القطب الواحد، فليس في ذلك شيء صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم ينطق السلف بشيء من هذه الألفاظ إلا بلفظ الأبدال، وروي فيهم حديث أنهم أربعون رجلاً وأنهم بالشام وهو في المسند من حديث علي - رضي الله عنه -، وهو حديث منقطع ليس بثابت " مجموع الفتاوى 11/167.
وقال الحافظ السخاوي: " حديث الأبدال له طرق عن أنس- رضي الله عنه - مرفوعاً بألفاظ كثيرة كلها ضعيفة " المقاصد الحسنة ص8.
وقد ضعف الشيخ الألباني حفظه الله الأحاديث الواردة في الأبدال كما في السلسلة الضعيفة 2/340 - 341.
ورد الشيخ الألباني على السيوطي تصحيحه لها، وذكر حديث عبادة:(3/216)
" الأبدال في هذه الأمة ثلاثون، مثل إبراهيم خليل الرحمن عز وجل، كلما مات رجل، أبدل الله تبارك وتعالى مكانه رجلاً "، ثم قال: " منكر رواه الأمام أحمد.... وقال أحمد عقبه: وهو حديث منكر.... الخ ".
كما ضعف الشيخ الألباني أحاديث الأبدال الواردة عن أنس رواه الخلال في كرامات الأولياء، وقال الشيخ الألباني: ضعيف.
وحديث عون بن مالك رواه الطبراني، وقال الشيخ الألباني: ضعيف.
وحديث عطاء مرسلاً رواه الحاكم في الكنى، وقال الشيخ الألباني: ضعيف، انظر ضعيف الجامع الصغير، الأحاديث من رقم 2265 إلى 2270 وانظر أيضاً السلسلة الضعيفة 3/677 حيث ذكر الشيخ الألباني حديث عطاء السابق وقال: منكر.
ونقل عن الذهبي أنه قال: " والخبر منكر ".
ولا ينخدعن أحد بما ذكره السيوطي في رسالته: " الخبر الدال على وجود القطب والأوتاد والنجباء والأبدال " فإنها أحاديث ضعيفة مثخنة بالجراح.
وذكر الحافظ ابن الجوزي أحاديث الأبدال وطعن فيها واحداً واحداً وحكم بوضعها.
وقال الشيخ ملا علي القاري: " حديث الأبدال من الأولياء، له طرق عن أنس مرفوعاً بألفاظ مختلفة كلها ضعيفة " ذكره ابن الديبع.
وعن ابن الصلاح: أقوى ما روينا في الأبدال قول علي أنه بالشام يكون الأبدال وأما الأدباء والنجباء والنقباء، فقد ذكرها بعض مشايخ الطريقة، ولا يثبت ذلك " الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة ص101 - 102.
وجاء في تذكرة الموضوعات للفتني الهندي: " وعن أبي هريرة: " لن تخلو الأرض من ثلاثين، مثل إبراهيم خليل الرحمن، بهم يعانون وبهم يرزقون وبهم يمطرون " وفيه واضع ضعيف،.... وعن أنس: البدلاء(3/217)
أربعون.... فيه العلاء روى عن أنس نسخة موضوعة....، وعن أنس بطريق آخر: الأبدال أربعون رجلاً وأربعون امرأة كلما مات.... الخ فيه مجاهيل.... الخ " تذكرة الموضوعات 194.
وقال ابن عرَّاق الكناني بعد أن ساق عدداً من أحاديث الأبدال: ".... ولا يصح منها شيء ".
هل كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يكرر الحديث في أكثر من مجلس
يقول السائل: هل كان الرسول عيه الصلاة والسلام يكرر الحديث الواحد في أكثر من مجلس؟
الجواب: إن تعدد روايات الصحابة للحديث الواحد مع اختلاف هذه الروايات، إما بزيادة أو نقص، يشير إلى تكرار الحديث في عدة مواطن، ولا نزعم أن هذا كان ديدناً له عليه الصلاة والسلام، ولعل في المثال التالي ما يشير إلى ذلك، وهو روايات حديث (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا.... الخ) من مسند أحمد، فهذا الحديث، رواه جماعة من الصحابة منهم أبو هريرة وأبو بكر وأنس وجابر وأوس وغيرهم، وكلهم يروي الحديث نفسه مع زيادة أو نقص، وبعضهم يذكر مناسبة للحديث وهذه الروايات هي:
1 - عن أبي هريرة: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإن قالوها، عصموا مني دماءَهم وأموالهم، إلا بحقها، وحسابهم على الله) .
2 - قال عمر: يا أبا بكر، كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله، فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه , وحسابه على الله تعالى) .
3 - عن أبي هريرة (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله(3/218)
إلا الله، فإذا قالوها، عصموا مني دماءَهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله) .
4 - عن أبي هريرة (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، ثم قد حُرِّم عليَّ دماؤُهم وأموالهم، وحسابهم على الله عز وجل) .
5 - حديث أنس (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا وصلوا صلاتنا، فقد حُرِّمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم) .
6 - حديث جابر (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها، عَصَموا مني دماءَهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل) .
7 - حديث جابر (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها، عَصَموا مني بها دماءَهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ثم قرأ: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) سورة الغاشية /22,21) .
8 - حديث أوس (أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وفد ثقيف، فكنا في قبة فقام من كان فيها غيري وغير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء رجل فقال: اذهب فاقتله، ثم قال: أليس يشهد أن لا إله إلا الله، قال بلى، ولكن يقولها تعوذاً، فقال ردَّه قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها حُرِّمت عليَّ دماؤُهم وأموالهم إلا بحقها....) .
والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب(3/219)
بِسمِ الله الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) سورة آل عمران الآية 102.
(يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) النساء الآية 1.
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) سورة الأحزاب الآيتان 70-71.
وبعد.
فهذا هو الجزء الرابع من كتابي [يسألونك] وأصله حلقات تنشر أسبوعياً، في جريدة القدس المقدسية، صباح كل يوم جمعة، أجيب فيها على أسئلة القراء.
وقد احتوى هذا الجزء على أجوبة لكثير من المسائل والمشكلات،(4/223)
التي تقع للناس، وخاصة بعض القضايا المعاصرة، حيث إن الفقه الإسلامي لا يقف جامداً، أمام المشكلات التي تتجدد للناس، وإنما يدرس الموضوعات، والقضايا الجديدة التي تمخضت عنها الحياة المعاصرة، بما جدَّ فيها من أنظمة وقوانين، ومخترعات واكتشافات، وتقدم علمي واقتصادي، وفكري وطبي، واجتماعي وإعلامي، وغير ذلك مما يلح العصر على دراستها (1) ، وبيان حكم الشرع فيها، اعتماداً على الأدلة الشرعية، والضوابط والقواعد، التي أرسى قواعدها، فقهاؤنا الأجلاء، لنسير على هديها، ولا نخرج عنها؛ فإن في ذلك تحقيقاً لمصالح العباد، في المعاش والمعاد؛ فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدلٌ كلها، ورحمةٌ كلها، ومصالح كلها، وحكمةٌ كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - أتم دلالة وأصدَقَها، وهي نوره الذي أبصر به المبصرون، وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل، فهي قُرة العيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح؛ فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة، وكل خير من الوجود فإنما هو مستفاد منها، وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها، ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا وطُويَ العالم، وهي العصمة للناس وقوام العالم، وبها يمسك الله السماوات والأرض أن تزولا، فإذا أراد الله سبحانه وتعال خرابَ الدنيا وطَي العالم
رفَع إليه ما بقي من رسومها، فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم، وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة (2) .
_________
(1) منهج البحث في الفقه الإسلامي ص 82.
(2) إعلام الموقعين عن رب العالمين للعلامة ابن القيم ج 3 ص 3.(4/224)
وأخيرأً فإني لا أزعم أني أصبت الحق فيما كتبت، ولكن حسبي أني بذلت الجهد والوسع، فما كنت أجيب على سؤال، إلا بعد مراجعة كتب أهل العلم، الذين نعيش على فتات موائدهم، من المفسرين والمحدثين والفقهاء.
وأذكر الأخوة القراء، أنني أعتمد في تخريج الأحاديث الواردة في هذا الكتاب، وغيره من كتبي، على ما حققه محدث العصر، العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله ورعاه، ومنحه الصحة والعافية، وجزاه الله خير الجزاء على خدمته للسنة النبوية الشريفة.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والله الهادي إلى سواء السبيل
أبوديس / القدس في صباح يوم الجمعة 20 ربيع الأول 1420 وفق 2 تموز 1999.
كتبه الدكتور حسام الدين بن موسى عفانه
الأستاذ المشارك في الفقه والأصول
كلية الدعوة وأصول الدين
جامعة القدس(4/225)
الطهارة والصلاة(4/227)
المسح على الجبيرة
يقول السائل: إنه قد كسرت يده ووضعها في الجبس فكيف يصنع في الطهارة في حالتي الوضوء والغسل؟
الجواب: إذا تعذر على المسلم غسل عضو من أعضاء بدنه لعذر كأن يكون العضو مكسوراً وموضوعاً في الجبس أو مجروحاً وعليه دواء ومنعه الأطباء من استعمال الماء أو محروقاً أو نحو ذلك فإنه يشرع له المسح عليه دون الغسل بالماء وهذا يسمى عند العلماء المسح على العصائب والجبائر.
والعصائب والجبائر قد تحتاج إلى مدة لإزالتها حسب حالة الجرح أو الكسر والمسلم في هذه المدة يحتاج إلى الطهارة سواء كانت الوضوء أو الغسل ودين الإسلام جاء باليسر والتسهيل على العباد فشرع المسح على العصائب والجبائر لرفع الحرج وإزالة المشقة عن الناس لأن في إزالة العصائب والجبائر حرجاً وضرراً يلحق بالمرضى.
ومما يدل على مشروعية المسح على العصائب والجبائر ما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول: [من كان له جرح معصوب عليه توضأ ومسح على العصائب ويغسل ما حول العصائب] .(4/229)
وفي رواية أخرى عن ابن عمر: [أنه توضأ وكفه معصوبة فمسح على العصائب وغسل سوى ذلك] رواه البيهقي وقال: وهو عن ابن عمر صحيح. سنن البيهقي 1/228.
وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض الأحاديث الضعيفة في المسح على الجبائر ولكنها غير ثابتة.
قال البيهقي: [ولا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب شيء - أي باب المسح على العصائب والجبائر - وأصح ما روي فيه حديث عطاء بن أبي رباح وليس بالقوي وإنما فيه قول الفقهاء من التابعين ممن بعدهم مع ما روينا عن ابن عمر في المسح على العصابة] سنن البيهقي 1/228.
وقد قال بمشروعية المسح على العصائب والجبائر جمهور أهل العلم بما فيهم أصحاب المذاهب الأربعة وقد روى البيهقي عن جماعة من كبار التابعين جواز المسح على الجبائر منهم عبيد بن عمير وطاووس والحسن البصري وإبراهيم النخعي.
والمسح على العصائب والجبائر واجب لا يصح الوضوء والغسل بدونه بالشروط التالية:
1. أن يكون غسل العضو المريض الذي عليه عصابة أو جبيرة ضاراً بالإنسان بحيث يخشى من غسله زيادة الألم أو تأخر الشفاء.
2. أن لا تغطي الجبيرة أو العصابة من العضو الصحيح إلا ما لا بد منه وهذا معروف وخاصة في الجبيرة فإنه يحتاج فيها إلى تغطية جزء من العضو الصحيح بالإضافة إلى محل الكسر حتى تتماسك الجبيرة.
وأما إذا تجاوزت الجبيرة المحل المصاب بدون حاجة فلا بد من نزعها عن المحل السليم لغسله ولا يصح مسحه هذا إذا كان نزعها لا يضر بالمريض.
وصفة طهارة من كان على بدنه عصابة أو جبيرة أن يغسل الأعضاء(4/230)
السليمة ويمسح على العضو الموضوع في الجبيرة ويجب أن يستوعب جميع الجبيرة بالمسح على مذهب جمهور الفقهاء.
وهذه بعض أحكام المسح على العصائب والجبائر:
1. إن المسح على العصائب والجبائر غير مؤقت بمدة معينة بل يجوز المسح بدون توقيت ما دام هنالك حاجة للعصائب والجبائر فمثلاً قد يحتاج وضع الرجل المكسورة في الجبس إلى شهر أو شهرين فيمسح طوال تلك المدة بخلاف المسح على الخفين والجوربين فإنه محدد بيوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليها للمسافر. أي أن المسح على العصائب والجبائر مؤقت بالشفاء وليس بالأيام.
2. لا يشترط أن توضع العصائب والجبائر على طهارة سابقة على الراجح من أقوال أهل العلم لما في ذلك من الحرج والمشقة فإن الإنسان قد يصاب في حادث مفاجئ ويحمل إلى المستشفى وتوضع يده أو رجله في الجبس ولا يمكنه التطهر قبل ذلك.
3. يمسح على الجبيرة والعصابة في الوضوء والغسل بخلاف المسح على الخفين فلا يصح إلا في الوضوء فقط.
4. لا يجوز المسح على العصائب والجبائر إن برء العضو وشفي من الجرح أو الكسر لأن المسح عليها رخصة مرهونة بالعذر فإذا زال العذر بطل المسح.
5. إن مسح على العصابة أو الجبيرة ثم نزعها للبرء أو الشفاء فإن طهارته لا تنتقض لأنها تمت على وجه شرعي.
كيف يتيمم المريض في المستشفى؟
يقول السائل: إنه مريض ويرقد في المستشفى ولا يستطيع استعمال الماء للوضوء لأن الأطباء قد منعوه من استعماله فكيف يتيمم للصلاة؟(4/231)
الجواب: يقول الله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) سورة المائدة آلآية 6.
إذا تعذر على المسلم استعمال الماء لأي سبب من الأسباب المبيحة للتيمم فإنه يتيمم والأصل في التيمم استعمال الصعيد الطيب كما في الآية السابقة.
وهذا المريض عليه أن يتيمم بالتراب إن استطاع ذلك سواء وصل إلى التراب بنفسه أو أحضر له التراب فإن تعذر ذلك تيمم بالأرض الطاهرة وإن تعذر ذلك تيمم على الفراش والله سبحانه وتعالى يقول: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) .
والراجح في صفة التيمم أنه ضربة واحدة يضرب الأرض بيديه فيمسح بهما وجهه وكفيه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمار: (إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ضربة واحدة ثم تمسح بهما وجهك وكفيك) رواه البخاري ومسلم.
النظافة لدخول المسجد
يقول السائل: إن بعض المصلين يحضرون إلى المسجد بملابس ليست نظيفة وتخرج منهم روائح كريهة وخاصة في أيام الصيف الحارة فما قولكم في ذلك؟
الجواب: إن الإسلام دين النظافة ويظهر ذلك واضحاً جلياً في كثير من النصوص الشرعية التي تحث على النظافة والطهارة والتطيب وإزالة ما يجب إزالته من الروائح الكريهة أو ما يؤدي إليها فالمسلم يتوضأ في اليوم(4/232)
عدة مرات ليصلي ومطلوب منه أن يستعمل السواك عدة مرات أو ما يقوم مقام السواك من فرشاة أسنان ومعجون
ومطلوب من المسلم الاغتسال مرة في الأسبوع على أقل تقدير.
وقد حثَّ الإسلام المسلمين على الطهارة والنظافة في البدن والثياب عند حضور مجامع المسلمين كصلاة الجماعة والجمعة والعيدين وغيرها وهذه بعض النصوص الشرعية التي تؤكد على هذه الحقيقة:
1. يقول الله تعالى:: (يا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا) سورة المائدة الآية 6.
2. ويقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) سورة المدثر الآيات 1-4.
3. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل) رواه البخاري ومسلم.
4. وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (غسلُ يوم الجمعة واجب على كل محتلم - أي بالغ - والسواك وأن يمس من الطيب ما يقدر عليه) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوماً يغسل فيه رأسه وجسده) رواه البخاري ومسلم.
6. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) رواه البخاري ومسلم.
وغير ذلك من النصوص التي تحث المسلم وتوجب عليه الطهارة والنظافة بشكل عام وفي يوم الجمعة بشكل خاص نظراً لاجتماع المصلين في المسجد وحتى لا يؤذي بعضهم بعضاً بروائحهم الكريهة.(4/233)
وقد جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها: (كان الناس ينتابون الجمعة من منازلهم ومن العوالي فيأتون في العباء فيصيبهم الغبار والعرق فتخرج منهم الريح فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - إنسان منهم وهو عندي فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا؟) رواه البخاري ومسلم.
وقد حث الرسول - صلى الله عليه وسلم - المسلم أن يلبس ملابس نظيفة وخاصة يوم الجمعة غير ملابسه التي يلبسها لعمله خلال أيام الأسبوع فقد جاء في الحديث عن عبد الله بن سلام - رضي الله عنه -: (أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول على المنبر يوم الجمعة: ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته) رواه أحمد وأبو داود وإسناده صحيح على شرط مسلم كما قال الشيخ الألباني في غاية المرام ص 64.
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (على كل مسلم الغسل يوم الجمعة ويلبس من صالح ثيابه وإن كان له طيب مس منه) رواه أحمد وأبو داود وهو حديث صحيح، الفتح الرباني 6/48.
وكذلك فإن من السنة أن يتطيب المسلم عند ذهابه إلى المسجد لصلاة الجمعة ولغيرها فقد جاء في الحديث عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
(لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر بما استطاع من طهر ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته ثم يروح إلى المسجد ولا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت للإمام إذا تكلم إلا غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة الأخرى) رواه البخاري.
وعن أبي أيوب - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب إن كان عنده ولبس من أحسن ثيابه ثم خرج وعليه السكينة حتى يأتي المسجد فيركع إن بدا له ولم يؤذ أحداً ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى) رواه أحمد ورجاله ثقات كما قال الهيثمي.
كما وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى من أكل بصلاً أو ثوماً عن الحضور إلى(4/234)
المسجد لما في ذلك من إيذاء للمصلين بالروائح الكريهة فقد ثبت في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أكل الثوم والبصل والكراث فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم) رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية عند مسلم: (من أكل هذه الشجرة يعني الثوم فلا يقربن مساجدنا) .
وفي رواية أخرى عند البخاري ومسلم: (من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا ولا يصلين معنا) .
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: (لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا وجد ريحهما
- البصل والثوم - من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع) رواه البخاري ومسلم.
وينبغي أن يعلم أن كل رائحة كريهة تلحق برائحة البصل والثوم فمن كانت رائحة جواربه ورجليه نتنة فينبغي له أن لا يدخل المسجد حتى يغسلهما وكذلك رائحة المدخنين الكريهة تلحق برائحة آكلي البصل والثوم وهكذا كل رائحة كريهة لأن المساجد تصان عن جميع الروائح الكريهة.
قال القرطبي: [قال العلماء: إذا كانت العلة في إخراجه من المسجد أنه يتأذى به ففي القياس أن كل من تأذى به جيرانه في المسجد بأن يكون ذرب اللسان سفيهاً عليهم أو كان ذا رائحة قبيحة لا تريمه - أي لا تفارقه - لسوء صناعته أو عاهة مؤذية كالجذام وشبهه وكل ما يتأذى به الناس كان لهم إخراجه ما كانت العلة موجودة حتى تزول.
وكذلك يجتنب مجتمع الناس حيث كانت لصلاة أو غيرها كمجالس العلم والولائم وما أشبهها من أكل الثوم وما في معناه مما له رائحة كريهة تؤذي الناس) تفسير القرطبي 2/267- 268
وأخيراً أذكر ما قاله الإمام الشافعي في حق من يحضر الجمعة وغيرها: (فنحب للرجل أن يتنظف يوم الجمعة بغسل وأخذ شعر وظفر وعلاج لما يقطع تغير الريح من جميع جسده وسواك وكل ما نظفه وطيبه(4/235)
وأن يمس طيباً مع هذا إن قدر عليه ويستحسن من ثيابه ما قدر عليه ويلبسها عليه ويطيبها اتباعاً للسنه ولا يؤذي أحداً قاربه بحال.
وكذلك أحب له في كل عيد وآمره به وأحبه في كل صلاة جماعة وآمره به وأحبه في كل أمر جامع للناس وإن كنت له في الأعياد من الجمع وغيرها أشد استحباباً للسنة وكثرة حاضرها) الأم 1/117.
الأذان الجماعي
يقول السائل: إنه سمع من الإذاعة الأذان يؤدى من مجموعة من المؤذنين في وقت واحد فما قولكم في ذلك؟
الجواب: إن الأذان الجماعي بدعة ليست مشروعة ومخالفة لما كان عليه الهدي النبوي لأن الأصل في الأذان المأثور منذ عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يؤذن شخص واحد فقط.
قال الشيخ علي محفوظ: [ومن البدع أذان الجماعة المعروف بالأذان السلطاني أو أذان الجوقة فإنه لا خلاف في أنه مذموم مكروه لما فيه من التلحين والتغني وإخراج كلمات الأذان عن أوضاعها العربية وكيفياتها الشرعية بصورة قبيحة. وأول من أحدثه هشام بن عبد الملك.] الإبداع ص 176.
وقد أجاب الشيخ محمد مصطفى المراغي لما سئل عن الأذان الجماعي بقوله: [إن الأذان السلطاني لم يكن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] الإبداع ص 176.
وقال الشيخ محمد عبد السلام: [والأذان جماعة على وتيرة واحدة بدعة] السنن ص 49.
وقد أجاز بعض أهل العلم أن يؤذن أكثر من واحد في آن واحد إذا كان صوت المؤذن الواحد لا يصل مختلف أرجاء البلد فقالوا: يجوز حينئذ(4/236)
أن يقوم أربعة مؤذنين مثلاً على عدة مآذن فيؤذنوا ليصل صوتهم إلى أرجاء البلد.
وهذه العلة التي ذكروها زالت اليوم نظراً لاستخدام مكبرات الصوت التي توصل صوت المؤذن الواحد إلى أرجاء البلد فكيف إذا كان الأذان بواسطة الإذاعة فإن عدد الذين يستمعون له أكبر وأكثر ويصل إلى مختلف أنحاء الدولة وأبعد من ذلك.
قال الإمام الشافعي: [. ولا يؤذن جماعة معاً وإن كان مسجداً كبيراً له مؤذنون عدد فلا بأس أن يؤذن في كل منارة له مؤذن فيسمع من يليه في وقت واحد] الأم 1/84.
وقال الماوردي: [. لأن الصوت يختلط باجتماعهم فلا يفهم إلا أن يكون البلد كبيراً والمسجد واسعاً فلا بأس أن يجتمعوا في الأذان دفعة واحدة كالبصرة.] الحاوي الكبير 2/58-59.
يستحب الأذان في أذن المولود
يقول السائل: سمعت أنه من السنة أن يؤذن في أذن المولود بعد ولادته فهل لهذا مستند من الشرع؟
الجواب: جاء في الحديث عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه - رضي الله عنه - قال: (رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذّن في أذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة بالصلاة رضي الله عنهما) رواه الترمذي وقال: هذا حديث صحيح والعمل عليه - أي عند العلماء -
ورواه أحمد وأبو داود والحاكم والبيهقي وغيرهم وقال الشيخ الألباني: حديث حسن. صحيح سنن الترمذي 2/93.
وذكر الشيخ الألباني حديثاً آخر يقوي الحديث المتقدم ويشهد له وهو ما رواه البيهقي في " شُعب الإيمان " عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن(4/237)
النبي - صلى الله عليه وسلم - أذنّ في أذن الحسن بن علي يوم ولد وأقام في أذنه اليسرى) سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/331.
وبناء على هذين الحديثين استحب جمهور أهل العلم أن يؤذن في أذن المولود اليمنى وان تقام الصلاة في أذنه اليسرى.
وهذا في مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة. الموسوعة الفقهية 2/373، الأذكار ص 244
وذكر عن الحسن البصري أنه كان يفعل ذلك.
وروى ابن المنذر عن عمر بن عبد العزيز أنه كان إذا وُلِدَ له ولد أذن في أذنه اليمنى وأقام في أذنه اليسرى. الفتح الرباني 13/135، شرح السنة 11/273.
ورواه أيضاً عبد الرزاق في المصنّف عن عمر بن عبد العزيز. المصنف 4/336.
والمقصود بالأذان المذكور هو الأذان للصلاة وكذا الإقامة الإقامة للصلاة.
قال العلامة ابن القيم مبيناً الحكمة من هذه السنة: [وسر التأذين والله أعلم:
أن يكون أول ما يقرع سمع الإنسان كلماته - أي كلمات الأذان - المتضمنة لكبرياء الرب وعظمته والشهادة التي أول ما يدخل بها في الإسلام فكان ذلك كالتلقين له شعار الإسلام عند دخوله إلى الدنيا كما يلقن كلمة التوحيد عند خروجه منها وغير مستنكر وصول أثر التأذين إلى قلبه وتأثره به وإن لم يشعر مع ما في ذلك من فائدة أخرى وهي هروب الشيطان من كلمات الأذان وهو كان يرصده حتى يولد فيقارنه للمحنة التي قدّرها الله وشاءها فيسمع شيطانه ما يضعفه ويغيظه أول أوقات تعلقه به.
وفيه معنى آخر وهو أن تكون دعوته إلى الله وإلى دينه الإسلام وإلى عبادته سابقة على دعوة الشيطان. كما كانت فطرة الله التي فطر الناس عليها(4/238)
سابقة على تغيير الشيطان ونقله عنها ولغير ذلك من الحكم] تحفة المودود بأحكام المولود لابن القيم
ص25-26.
وقال العلامة ابن علان: [قوله (أذن في أذن الحسن) أي أتى بكلمات الأذان المعروفة في أذن الحسن عقب ولادته ليكون الذِكْرُ أول شيء يقرع سمعه وشرع في قلبه وقياً لأن الشيطان ينخس فيه عند الولادة فاستحب الأذان حينئذ لأن الشيطان يدبر عند سماعه] الفتوحات الربانية على الأذكار النووية 6/94-95.
ومن جهة أخرى فإن من السنة أيضاً في حق المولود أن يحنَّك بالتمر فقد ثبت في الحديث عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: (ولد لي غلام فأتيت به النبي - صلى الله عليه وسلم - فسمّاه إبراهيم وحنَّكه بتمرة ودعا له بالبركة ودفعه إليَّ وكان أكبر ولد أبي موسى) رواه البخاري.
وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أنها حملت بعبد الله بن الزبير بمكة قالت:
(فخرجت وأنا متم - أي أتمت مدة الحمل - فأتيت المدينة فنزلت بقباء فولدت بقباء ثم أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضعته ثم دعا بتمرة فمضغها ثم تفل في فيه فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم حنَّكه بالتمرة ثم دعا له فبرَّك عليه وكان أول مولود في الإسلام) أي في المدينة بعد الهجرة. رواه البخاري ومسلم.
وكذلك فقد ثبت من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - في قصة ابن أبي طلحة: (لمّا ولد غلام لأبي طلحة من زوجته أم سليم حيث حمل أنس الطفل إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - تمراً فمضغه ثم أخذه من فيه فجعله في فم الصبي ثم حنَّكه وسماه
عبد الله) والحديث في الصحيحين.
والتحنيك هو مضغ تمر أو غيره حتى يصير مائعاً ثم يوضع في فم الطفل ويدلك به فم الطفل.
والتحنيك سنة بالإجماع كما قال الإمام النووي ويستحب أن يحنَّكه إنسان صالح من رجل أو امرأة.(4/239)
والتحنيك يكون بالتمر كما هو مذكور في الأحاديث السابقة فإن لم يتيسر فبالرطب وإلا فشيء حلو وعسل النحل أولى من غيره.
والتحنيك بالتمر له فوائد عديدة فالتمر من الفواكه الجافة وهو غني بالسكر والسليلوز ويحتوي نسبة كبيرة من المواد السكرية ويستطيع الجهاز الهضمي هضمه وامتصاصه خلال ساعة تقريباً وفي التمر نسبة من المواد البروتينية والمواد الدسمة ويحتوي على نسبة من المواد المعدنية وهو غني بالفيتامينات.
وأفادت بعض الدراسات العلمية أن جعل شيء من التمر بعد مضغه في فم الطفل يخفف المغص والآلام عند الأطفال ويهدئ الأطفال.
قال صاحب كتاب " الغذاء لا الدواء ": [لذلك فإننا ننصح الأطباء بإعطاء كل طفل ثائر عصبي المزاج بضع تمرات في صباح كل يوم لتضفي السكينة والهدوء على نفسه فتحد من تصرفاته واضطراباته.] الغذاء لا الدواء ص 122 للدكتور صبري القباني.
وللتمر فوائد أخرى كثيرة ذكرها العلماء قديماً وحديثاً. الطب النبوي ص 216-217.
وقال الله سبحانه وتعالى: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) سورة مريم الآية 25.
حكم صلاة المرأة في البنطال
تقول السائلة: هل يجوز للمرأة أن تصلي في بيتها وهي تلبس البنطلون ولا يراها أحد من الرجال الأجانب؟
الجواب: نص أهل العلم على أنه يجب على المرأة إذا صلت أن تستر جميع بدنها ما عدا الوجه والكفين ومن ضمن شروط لباس المرأة أن(4/240)
يكون لباسها فضفاضاً غير ضيق فيصف شيئاً من جسمها.
ويدل على ذلك ما جاء في حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: (كساني رسول الله قبطية كثيفة مما أهداها له دحية الكلبي فكسوتها امرأتي.
فقال: مالك لم تلبس القبطية؟ قلت: كسوتها امرأتي.
فقال: مرها فلتجعل تحتها غلالة فإني أخاف أن تصف حجم عظامها) رواه أحمد والبيهقي والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة وهو حديث حسن كما قال الشيخ الألباني. جلباب المرأة المسلمة ص 131-132.
ففي هذا الحديث أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن تجعل المرأة تحت القبطية غلالة - وهي شعار يلبس تحت الثوب - ليمنع وصف بدنها والأمر يفيد الوجوب كما هو معلوم عند الأصوليين.
وقد نص أهل العلم أيضاً على أن أقل اللباس المجزئ للمرأة في صلاتها هو درع وخمار فالخمار تغطي به رأسها وعنقها والدرع تغطي به البدن والرجلين.
فقد جاء في الحديث عن أم سلمة رضي الله عنها أنها سألت الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
(أتصلي المرأة في درع وخمار ليس عليها إزار؟ فقال: إذا كان الدرع سابغاً يغطي ظهور قدميها) رواه أبو داود بإسناد جيد كما قال الإمام النووي ورواه الحاكم وقال: حديث صحيح على شرط البخاري. انظر المجموع 3/172.
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: [تصلي المرأة في ثلاثة أثواب درع وخمار وإزار] رواه البيهقي في السنن الكبرى 2/235.
وقالت عائشة رضي الله عنها: [لا بد للمرأة من ثلاثة أثواب تصلي(4/241)
فيها: درع وجلباب وخمار وكانت عائشة تحل إزارها فتتجلبب به] رواه ابن سعد بإسناد صحيح على شرط مسلم.
وإنما كانت عائشة تفعل ذلك لئلا يصفها شيء من ثيابها وقولها: (لا بد) دليل على وجوب ذلك.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: [إذا صلت المرأة فلتصل في ثيابها كلها الدرع والخمار والملحفة] رواه ابن أبي شيبة في المصنف بسند صحيح كما قال الشيخ الألباني. انظر جلباب المرأة المسلمة ص 134-135.
والملحفة هي الجلباب.
وسئلت أم سلمة رضي الله عنها: [ماذا تصلي فيه المرأة من الثياب؟ فقالت: في الخمار والدرع السابغ الذي يغيب ظهور قدميها] رواه مالك في الموطأ.
وقال مكحول سألت عائشة: [فبكم تصلي المرأة؟ فقالت: ائت علياً فاسأله ثم ارجع إلي. فقال: في درع سابغ وخمار فرجع إليها فأخبرها فقالت: صدق]
رواه عبد الرزاق في المصنف وابن أبي شيبة أيضاً انظر الاستذكار 5/441.
وهذه النصوص المذكورة عن الصحابة قال بها الأئمة من أصحاب المذاهب الأربعة وغيرهم.
قال الحافظ ابن عبد البر: [والذي عليه فقهاء الأمصار بالحجاز والعراق أن على المرأة الحرة أن تغطي جسمها كله بدرع صفيقٍ سابغٍ وتخمر رأسها فإنها كلها عورة إلا وجهها وكفيها وأن عليها ستر ما عدا وجهها وكفيها] الاستذكار 5/443.
وقد سئل الإمام أحمد: [المرأة في كم ثوب تصلي؟
قال: أقله درع وخمار وتغطي رجليها ويكون درعاً سابغاً يغطي رجلها] مسائل إبراهيم بن هانيء للإمام أحمد رقم 286 عن القول المبين ص 28.(4/242)
وقال الإمام أحمد أيضاً: [قد اتفق عامتهم - أي العلماء - على الدرع والخمار وما زاد فهو خير وأستر ولأنه إذا كان عليها جلباب فإنها تجافيه راكعة وساجدة لئلا تصفها ثيابها فتبين عجيزتها ومواضع عورتها] المغني 1/432.
وبهذا يظهر لنا أن صلاة المرأة في البنطلون ولو كانت في بيتها لا يراها أحد غير صحيحة لأنها أخلت بشرط من شروط ستر العورة وهو أن يكون لباسها فضفاضاً سابغاً والبنطلون ليس كذلك بل هو ضيق ملتصق بلحمها وعظمها يصف حجم أعضائها.
وما ينسب لمذهب الشافعية من جواز صلاة المرأة في الملابس الضيقة غير مسلّم به بل إن الإمام الشافعي على خلاف ذلك فقد قال الإمام الشافعي في كتابه الأم: [وإن صلى - أي الرجل - في قميص يشف عنه لم تجزه الصلاة. فإن صلى في قميص واحد يصفه ولم يشف كرهت له ولا يتبين أن عليه إعادة الصلاة والمرأة أشد حالاً من الرجل إذا صلت في درع وخمار يصفها وأحب إليّ أن لا تصلي إلا في جلباب فوق ذلك وتجافيه عنها لئلا يصفها الدرع] الأم 1/90-91.
فانظر إلى حرص الإمام الشافعي على أن يكون الجلباب فضفاضاً واسعاً حتى لا يصف أعضاء المرأة.
حكم قراءة الفاتحة في الركعتين الأخيرتين
يقول السائل: هل يقرأ المصلي في الركعتين الأخيرتين من الصلاة الرباعية سورة بالإضافة إلى سورة الفاتحة؟
الجواب: إن الأصل في الصلاة هو اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأن نفعل مثلما فعل بغير زيادة ولا نقصان فقد ثبت في الحديث الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) رواه البخاري.
وقد اتفق أهل العلم على أن المصلي إذا كان إماماً أو منفرداً فإنه يقرأ(4/243)
في الركعتين الأوليين الفاتحة وسورة بعدها فقد ثبت في الحديث عن أبي قتادة - رضي الله عنه -: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الظهر في الأوليين بأم الكتاب وسورتين وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب ويسمعنا ويطول في الركعة الأولى مالا يطيل في الركعة الثانية وهكذا في العصر وهكذا في الصبح) رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية أخرى عند مسلم: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الركعتين الأوليين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة ويسمعنا الآية أحياناً ويقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب) .
وقد بوب الإمام البخاري لحديث أبي قتادة - رضي الله عنه - بقوله باب (يقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب) .
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: [يعني بغير زيادة وسكت عن ثالثة المغرب رعاية للفظ الحديث مع أن حكمهما حكم الأخريين من الرباعية.] فتح الباري 2/403.
وبناءاً على هذه الأحاديث فإن المصلي يقتصر على قراءة الفاتحة فقط في الركعتين الأخيرتين من الصلاة الرباعية وكذا الثالثة من الصلاة الثلاثية وهذا في معظم صلاته وهو مذهب جماعة كثيرة من أهل العلم.
وإن قرأ المصلي في الثالثة والرابعة وكذا في ثالثة المغرب سورة مع الفاتحة فلا بأس ولكن دون أن يداوم على ذلك.
فقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أحياناً يقرأ السورة في الثالثة والرابعة بعد الفاتحة كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية وفي الأخريين قدر خمس عشرة آية أو قال نصف ذلك وفي العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر خمس عشرة آية وفي الأخريين قدر نصف ذلك) رواه مسلم.
فقول أبي سعيد - رضي الله عنه -: (وفي الأخريين قدر خمس عشرة آية)(4/244)
يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الأخريين من الظهر بزيادة على الفاتحة لأنها ليست إلا سبع آيات. انظر نيل الأوطار 2/254 والفتح الرباني 3/209.
وقال الشيخ الألباني معلقاً على هذا الحديث: [وفي الحديث دليل على أن الزيادة على الفاتحة في الركعتين الأخريين سنة وعليه جمع من الصحابة منهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو قول الإمام الشافعي سواء ذلك في الظهر أو غيرها.] صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ص 94.
قال الإمام الماوردي بعد أن ذكر أن في المسألة قولين للإمام الشافعي: [والقول الثاني إنها سنة في الأخريين كما كانت سنة في الأوليين وهو في الصحابة قول أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهما لرواية رفاعة بن رافع - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال للرجل حين علمه الصلاة: (ثم اقرأ بأم القرآن وما شاء الله عز وجل أن تقرأ به ثم اصنع ذلك في كل ركعة) الحاوي الكبير 2/135.
وذكر الإمام النووي أن القول الثاني للشافعي في سنية قراءة سورة مع الفاتحة في الأخريين هو نص الشافعي في الأم وقد صححه جماعة من فقهاء الشافعية.
المجموع 4/386.
الدعاء قبل السلام من الصلاة
يقول السائل: ما هو المشروع من الدعاء قبل أن يسلّم المصلي؟
الجواب: ورد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحاديث في الدعاء قبل السلام في الصلاة منها:
1. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم(4/245)
ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال) رواه مسلم.
2. ومنها ما رواه مسلم بسنده عن طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن يقول: (قولوا اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم وأعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات) .
قال الإمام مسلم صاحب الصحيح: [بلغني أن طاووساً قال لابنه: أدعوت بها في صلاتك؟ فقال: لا. قال: أعد صلاتك] لأن طاووساً رواه عن ثلاثة أو أربعة أو كما قال. صحيح مسلم مع شرح النووي 2/240.
وظاهر هذه الأحاديث يدل على وجوب الاستعاذة من هذه الأربع المذكورة في الحديث وقال بالوجوب جماعة من أهل العلم كطاووس وابن حزم الظاهري والشوكاني والصنعاني والشيخ الألباني.
ولكن جمهور أهل العلم على أن الاستعاذة من الأربعة المذكورة مستحبة وليست واجبة وهذا أرجح القولين في المسألة.
قال الإمام النووي: [باب استحباب التعوذ من عذاب القبر وعذاب جهنم وفتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال ومن المأثم والمغرم بين التشهد والتسليم] .
ثم قال: [قوله: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن وإن طاووساً رحمه الله تعالى أمر ابنه حين لم يدع بهذا الدعاء فيها بإعادة الصلاة. هذا كله يدل على تأكيد هذا الدعاء والتعوذ والحث الشديد عليه. وظاهر كلام طاووس رحمه الله تعالى أنه حمل الأمر به على الوجوب فأوجب إعادة الصلاة لفواته.
وجمهور العلماء على أنه مستحب ليس بواجب. ولعل طاووساً أراد تأديب ابنه وتأكيد هذا الدعاء عنده لا أنه يعتقد وجوبه] شرح النووي على صحيح مسلم 2/240.(4/246)
وطاووس المذكور هو طاووس بن كسيان الفقيه القدوة عالم اليمن من التابعين.
وقال ابن المنذر: [لولا حديث ابن مسعود (ثم ليتخير من الدعاء) لقلت
بوجوبها] فتح الباري 2/465.
صيغة التسليم من الصلاة
يقول السائل: نسمع بعض المصلين عندما يسلم عن يمينه من الصلاة يقول: [السلام عليكم ورحمة الله وبركاته] ثم يسلم عن يساره بقوله:
[السلام عليكم ورحمة الله] بدون لفظ وبركاته فما قولكم في ذلك؟
الجواب: ثبت التسليم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولفظه المتفق عليه عند أكثر أهل العلم هو السلام عليكم ورحمة الله [على اليمين] ثم السلام عليكم ورحمة الله [على الشمال]
والسلام بهذا اللفظ وبدون زيادة لفظ [وبركاته] قد ورد عن جماعة من الصحابة ذكرهم العلامة ابن القيم في زاد المعاد 1/258.
ومنها حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - الوارد في التسليم بدون زيادة [وبركاته] ونصه: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (كان يسلم عن يمينه وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله) رواه الترمذي وقال حسن صحيح والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق. سنن الترمذي 2/90.
وغيره من الأحاديث وجمهور أهل العلم على الاقتصار في التسليم على [السلام عليكم ورحمة الله] بدون زيادة [وبركاته] .
وأما زيادة لفظة [وبركاته] فقد وردت في بعض الروايات فمن ذلك ما جاء في إحدى روايات حديث ابن مسعود السابق عند ابن حبان: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم عن يمينه وعن يساره حتى يرى بياض خده: السلام(4/247)
عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) فقد ورد في هذه الرواية زيادة [وبركاته] في التسليمة الثانية.
وروى أبو داود بإسناده عن علقمة بن وائل عن أبيه قال: (صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان يسلم عن يمينه السلام عليكم ورحمة وبركاته وعن شماله السلام عليكم ورحمة الله) ففي هذه الرواية وردت لفظة [وبركاته] في التسليمة الأولى.
وقد ذكر الإمام النووي في المجموع وفي الخلاصة هذا الحديث بزيادة وبركاته في التسليمتين ثم قال: رواه أبو داود بإسناد صحيح. المجموع 3/379 والخلاصة 1/444-445.
كما ذكر الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام رواية حديث وائل السابق بزيادة وبركاته في التسليمتين: (صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان يسلم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وعن شماله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) .
ثم قال الحافظ ابن حجر: رواه أبو داود بإسناد صحيح. بلوغ المرام ص 342.
وقد علق الشيخ الألباني على ذلك بقوله: [ولكنهما - النووي وابن حجر - أورداه مع الزيادة في التسليمتين فلا أدري أذلك وَهمٌ منهما أو هو من اختلاف النسخ فإن الذي في نسختنا وغيرها من المطبوعات ليس فيه هذه الزيادة في التسليمة الثانية وهو الموافق لحديث ابن مسعود في مسند الطيالسي.] ارواء الغليل 2/32 وانظر تمام المنة ص 171.
وما قاله الشيخ الألباني صحيح فلا يوجد في نسخة سنن أبي داود المطبوعة مع شرحه عون المعبود لفظة وبركاته في التسليمة الثانية. انظر عون المعبود 3/207.
ولا توجد هذه اللفظة كذلك في نسخة سنن أبي داود المطبوعة مع شرحه المنهل العذب المورود 6/116.(4/248)
وخلاصة الأمر أن الثابت المشهور في التسليم من الصلاة أن يقول المصلي: [السلام عليكم ورحمة الله] في التسليمتين عن يمينه وعن يساره.
وإن زاد [وبركاته] في التسليمة الأولى أحياناً فلا بأس به. انظر صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ص 168.
وقد اختار هذه الزيادة جماعة من الفقهاء والمحدثين كما في المجموع للنووي 3/478.
وقال الصنعاني: [وحديث التسليمتين رواه خمسة عشر من الصحابة بأحاديث مختلفة ففيها صحيح وحسن وضعيف ومتروك وكلها بدون زيادة [وبركاته] إلا في رواية وائل هذه ورواية عن ابن مسعود عند ابن ماجة وعند ابن حبان ومع صحة إسناد حديث وائل كما قال المصنف - الحافظ ابن حجر - هنا يتعين قبول زيادته إذ هي زيادة عدل وعدم ذكرها في رواية غيره ليست رواية لعدمها. وقد عرفت أن الوارد زيادة [وبركاته] وقد صحت ولا عذر عن القول بها وقال به السرخسي والإمام والروياني في الحلية. وقول ابن الصلاح: إنها لم تثبت قد تعجب منه المصنف وقال هي ثابتة عند ابن حبان في صحيحه وعند أبي داود وعند ابن ماجة قال المصنف: إلا أنه قال ابن رسلان في شرح السنن: لم نجدها في ابن ماجة.
قلت - أي الصنعاني -: راجعنا سنن ابن ماجة من نسخة صحيحة مقروءة فوجدنا فيه ما لفظه: باب التسليم حدثنا. (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم عن يمينه وعن شماله حتى يرى بياض خده السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) انتهى بلفظه.
وفي تلقيح الأفكار تخريج الأذكار للحافظ ابن حجر لما ذكر النووي أن زيادة وبركاته زيادة فردة ساق الحافظ طرقاً لزيادة وبركاته ثم قال هذه عدة طرق ثبتت بها وبركاته بخلاف ما يوهمه كلام الشيخ أنها رواية فردة] انتهى كلامه. سبل السلام 1/376-377.(4/249)
يجوز إيقاف الهاتف النقال [البلفون] أثناء الصلاة
يقول السائل: إنه نسي جهاز الهاتف النقال (البلفون) مفتوحاً ودخل في الصلاة مع الجماعة وأثناء الصلاة رنَّ الهاتف عدة مرات فهل يجوز له أن يوقفه خلال الصلاة أم يتركه. مع العلم أن الشخص الذي اتصل عليه قد يعيد الاتصال أكثر من مرة وفي ذلك إزعاج للمصلين فما قولكم؟
الجواب: ينبغي أولاً على من يحمل الهاتف النقال (البلفون) أن يوقفه عن العمل عند دخوله المسجد سواء أكان ذلك في صلاة الجمعة أو غيرها من الصلوات.
لأن احتمال أن يتصل به أحد قائم وفي الرنين الصادر من الهاتف إزعاج وتشويش على المصلين والمساجد لها حرمتها ولا ينبغي لأحد أن يشوش على من في المسجد سواء كانوا في صلاة أو ذكر أو قراءة قرآن أو سماع درس علم بأي نوع من أنواع التشويش والإزعاج.
فقد ورد في الحديث عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: (اعتكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر وقال: ألا إن كلكم مناجٍ ربه فلا يؤذي بعضكم بعضاً ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة أو قال في الصلاة) رواه أبو داود بإسناد صحيح كما قال الإمام النووي وصححه الشيخ الألباني.
إذا تقرر هذا فأقول إنه يجوز لحامل الهاتف النقال (البلفون) أن يوقفه عن العمل أثناء الصلاة وإن اقتضى ذلك أن يتحرك المصلي في صلاته فإن هذه الحركة مباحة على أقل تقدير إن لم تكن مستحبة نظراً للحاجة حيث إنه يترتب عليها منع ما يشوش على المصلين وقد ثبت في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أمَّ الناس في المسجد فكان إذا قام حمل أمامة بنت زينب وإذا سجد وضعها) رواه البخاري ومسلم.
كما وأنه يجوز قتل الحية والعقرب في الصلاة وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك. رواه أصحاب السنن وقال الإمام الترمذي حديث حسن.(4/250)
فيؤخذ من هذين الحديثين أن الحركة في الصلاة إن كانت لحاجة جائزةٌ ولا تبطل الصلاة أقول هذا مع التأكيد على إغلاق الهاتف عند الدخول إلى المسجد فإن نسيه مفتوحاً ورنَّ أثناء الصلاة فيغلقه ولا شيء عليه.
جذب مصل من الصف إذا كانت الصفوف مكتملة
يقول السائل: دخلت المسجد فوجدت الصفوف تامة فهل أقف وحدي خلف الصف أم أسحب أحد المصلين لأقف معه فما قولكم؟
الجواب: من دخل المسجد ووجد الصفوف تامة مكتملة فليحاول أن يقرّب بين اثنين من المصلين ليجد له فرجة حتى يقف فيها فإن تعذّر عليه ذلك صلى خلف الصف وحده وصلاته صحيحة إن شاء الله ولا شيء عليه لأنه معذور في ترك هذا الواجب وهو الوقوف في الصف.
وأما جذب رجل من الصف فلا ينبغي لأن الحديث الوارد في ذلك ضعيف لا يثبت.
وهو ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل صلى خلف الصف: (أيها المصلي هلا دخلت في الصف أو جررت رجلاً من الصف أعد صلاتك) قال الحافظ ابن حجر رواه الطبراني في الأوسط والبيهقي من حديث وابصة وفيه السري بن إسماعيل وهو متروك. ثم ذكر الحافظ حديثاً آخر وهو ضعيف أيضاً رواه أبو داود في المراسيل: (إن جاء رجل فلم يجد أحداً فليختلج إليه رجلاً من الصف فليقم معه فما أعظم أجر المختلج) ثم ذكر حديثاً واهي الإسناد أيضاً. التلخيص الحبير 2/37.
وضعف الحديث الأول البيهقي والهيثمي والألباني. انظر إرواء الغليل 3/326.
وضعف الألباني الحديث الثاني أيضاً. انظر إرواء الغليل 3/328.(4/251)
ثم قال الشيخ الألباني: (إذ لم يستطع الرجل أن ينضم إلى الصف فصلى وحده فهل تصح صلاته؟ الأرجح الصحة والأمر بالإعادة محمول على من لم يستطع القيام بواجب الانضمام وبهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية.] إرواء الغليل 2/329.
وخلاصة الأمر أنه لا ينبغي لمن لم يستطع الانضمام إلى الصف أن يجذب رجلاً لما في ذلك من المفاسد منها سحب رجل من المكان الفاضل إلى المكان المفضول ومنها التشويش على الشخص المسحوب ومنها ترك فرجة في الصف.
انظر فتاوى منار الإسلام 1/235.
لا يجوز ترك صلاة الجماعة إذا رفض الإمام الجمع بين الصلاتين
يقول السائل: ما حكم المصلي الذي طلب من إمام المسجد أن يجمع بين المغرب والعشاء مع العلم أنه لم يكن هنالك مطر فلم يجبه الإمام إلى طلبه فخرج من المسجد دون أن يصلي لأن إمام المسجد لم ينو الجمع بين المغرب والعشاء؟
الجواب: لا ينبغي لهذا المصلي أن يخرج من المسجد ويترك صلاة الجماعة لأن إمام المسجد رفض طلبه في الجمع بين المغرب والعشاء.
ويجب أن يعلم أن المصلين يتبعون الإمام في هذه المسألة فإذا جمع الإمام جمعوا وإذا لم يجمع الإمام لا ينبغي لأحد أن يجمع لأن في ذلك افتياتاً على إمام المسجد والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إنما جعل الإمام ليؤتم به.) رواه البخاري ومسلم.
وإمام المسجد هو السلطان في المسجد فلا يجوز لأحد أن يتعدى على سلطانه.(4/252)
كما أنه قد ورد النهي عن الخروج من المسجد بعد الأذان إلا لعذر شرعي فقد روى مسلم بإسناده عن أبي الشعثاء قال: (كنا قعوداً في المسجد مع أبي هريرة فأذن المؤذن فقام رجل من المسجد يمشي فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد فقال أبو هريرة: أما هذا فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم -) .
قال الإمام النووي: [فيه كراهة الخروج من المسجد بعد الأذان حتى يصليَ المكتوبة] شرح النووي على صحيح مسلم 5/157.
وروى مالك أن بلغه أن سعيد بن المسيب قال: [يقال: لا يخرج من المسجد أحد بعد النداء إلا أحد يريد الرجوع إليه إلا منافق] .
قال الحافظ ابن عبد البر: [وهذا لا يقال مثله من جهة الرأي ولا يكون إلا توقيفاً وقد روي معناه مسنداً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -] فتح المالك 3/216.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يسمع النداء في مسجدي هذا ثم يخرج منه إلا لحاجة ثم لا يرجع إليه إلا منافق) رواه الطبراني في الأوسط ورواته محتج بهم في الصحيح قاله الإمام المنذري وقال الشيخ الألباني: صحيح.
وعن عثمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من أدركه الأذان في المسجد ثم خرج لم يخرج لحاجة وهو لا يريد الرجعة فهو منافق) رواه ابن ماجة وقال الشيخ الألباني صحيح. انظر صحيح الترغيب والترهيب ص107.
وقال الحافظ ابن عبد البر معلقاً على حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الذي ذكرته أولاً:
[أجمعوا على القول بهذا الحديث لمن لم يصل وكان على طهارة] .
فتح المالك 3/217.
وهذا المصلي الذي خرج من المسجد لكون الإمام لم ينو الجمع بين المغرب والعشاء قد أخطأ لأن عدم الجمع بين المغرب والعشاء من الإمام ليس عذراً في الخروج من المسجد وترك صلاة الجماعة والجمع رخصة إن وجد سببها.(4/253)
وأخيراً على هذا المصلي أن يتوب ويستغفر الله سبحانه وتعالى وألا يعود لمثل ذلك.
الاقتداء بالإمام المخالف في المذهب
يقول السائل: إنه صلى الفجر في أحد المساجد فقنت الإمام في صلاة الفجر والسائل لا يقنت في صلاة الفجر لأنه يقلد إماماً لا يرى القنوت في صلاة الفجر فما قولكم؟
الجواب: اتفق أكثر أهل العلم على صحة الإقتداء بالإمام المخالف في الفروع فإذا صلى أحد أتباع المذاهب خلف غيره من المذاهب الأخرى فالصلاة صحيحة وهذا هو الراجح في هذه المسألة.
والاختلاف في الفروع معروف منذ عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد اختلف الصحابة
رضي الله عنهم في الفروع وكانوا يصلون خلف بعضهم بعضاً وهذا هو منهج الأئمة المعتبرين من علماء المسلمين.
قال الشيخ ولي الله الدهلوي: [وقد كان في الصحابة والتابعين ومن بعدهم من يقرأ البسملة ومنهم من لا يقرؤها ومنهم من يجهر بها ومنهم من لا يجهر بها وكان منهم من يقنت في الفجر ومنهم من لا يقنت في الفجر ومنهم من يتوضأ من الحجامة والرعاف والقيء ومنهم من لا يتوضأ من ذلك. ومنهم من يتوضأ من مس الذكر ومس النساء بشهوة ومنهم من لا يتوضأ من ذلك ومنهم من يتوضأ من أكل لحم الإبل ومنهم من لا يتوضأ من ذلك ومع هذا فكان بعضهم يصلي خلف بعض مثل ما كان أبو حنيفة
وأصحابه والشافعي وغيرهم رضي الله عنهم يصلون خلف أئمة المدينة من المالكية وغيرهم وإن كانوا لا يقرؤون البسملة لا سراً ولا جهراً.
وصلى الرشيد إماماً وقد احتجم فصلى الإمام أبو يوسف خلفه ولم يعد.(4/254)
وكان الإمام أحمد بن حنبل يرى الوضوء من الرعاف والحجامة فقيل له: [فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ هل تصلي خلفه؟ فقال: كيف لا أصلي خلف الإمام مالك وسعيد بن المسيب] .
وروي أن أبا يوسف ومحمداً كانا يكبّران في العيدين تكبير ابن عباس لأن هارون الرشيد كان يحب تكبير جده.
وصلى الشافعي رحمه الله الصبح قريباً من مقبرة أبي حنيفة رحمه الله فلم يقنت تأدباً معه وقال أيضاً: [ربما انحدرنا إلى مذهب أهل العراق] .
وفي البزازية عن الإمام الثاني - وهو أبو يوسف - رحمه الله أنه صلى يوم الجمعة مغتسلاً من الحمام وصلى بالناس وتفرقوا ثم أخبر بوجود فأرة ميتة في بئر الحمام فقال: إذاً نأخذ بقول إخواننا من أهل المدينة إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً.
وسئل الإمام الخجندي رحمه الله عن رجل شافعي المذهب ترك صلاة سنة أو سنتين ثم انتقل إلى مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله كيف يجب عليه القضاء أيقضيها على مذهب الشافعي أم على مذهب أبي حنيفة؟ فقال: [على أي المذهبين قضى بعد أن يعتقد جوازها جاز] .
وفي جامع الفتاوى أنه إن قال حنفي إن تزوجت فلانة فهي طالق ثلاثاً ثم استفتى شافعياً فأجاب أنها لا تطلق ويمينه باطل فلا بأس باقتدائه بالشافعي في هذه المسألة لأن كثيراً من الصحابة في جانبه.
قال محمد رحمه الله في أماليه: [لو أن فقيهاً قال لامرأته: أنت طالق البتة وهو ممن يراها ثلاثاً ثم قضى عليه قاض بأنها رجعية وسعه المقام معها.] حجة الله البالغة 1/295-296.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية قصة جرت لأبي يوسف صاحب أبي حنيفة عندما استخلفه الخليفة في صلاة الجمعة فصلى بالناس ثم ذكر أنه كان محدثاً فأعاد ولم يأمر الناس بالإعادة فقيل له في ذلك فقال: [ربما ضاق علينا الشيء فأخذنا بقول إخواننا المدنيين.] .(4/255)
ثم قال شيخ الإسلام: [ثم من المعلوم بالتواتر عن سلف الأمة أن بعضهم ما زال يصلي خلف بعض. فما زال الشافعي وأمثاله يصلون خلف أهل المدينة وهم لا يقرؤون البسملة سراً ولا جهراً] .
ومن المأثور أن الرشيد احتجم فاستفتى مالكاً فأفتاه بأنه لا وضوء عليه فصلى خلفه أبو يوسف ومذهب أبي حنيفة وأحمد أن خروج النجاسة من غير السبيلين ينقض الوضوء ومذهب مالك والشافعي أنه لا ينقض الوضوء فقيل لأبي يوسف: [أتصلي خلفه؟ فقال: سبحان الله! أمير المؤمنين!] .
فإنَّ ترك الصلاة خلف الأئمة لمثل ذلك من شعائر أهل البدع كالرافضة والمعتزلة. ولهذا لما سئل الإمام أحمد عن هذا فأفتى بوجوب الوضوء فقال له السائل: [فإن كان الإمام لا يتوضأ أصلي خلفه؟ فقال: سبحان الله! ألا تصلي خلف سعيد بن المسيب ومالك بن أنس؟!] .
إذا تقرر هذا فإن على المأموم أن يتابع إمامه في القنوت لعموم قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا. الحديث) رواه البخاري ومسلم.
وقال أبو يوسف صاحب أبي حنيفة: [لو صلى الفجر خلف إمام يقنت يتابعه لئلا يخالف إمامه] الاختيار لتعليل المختار 1/55.
الدعاء المشروع في القنوت
يقول السائل: ما هو الدعاء المشروع في القنوت وماذا يقول المأمومون عند الدعاء؟
الجواب: ثبت القنوت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الوتر وفي الصلوات الخمس إذا نزلت بالمسلمين نازلة وقنت النبي - صلى الله عليه وسلم - في الفجر ثم تركه لذا فإنه ليس من السنة المداومة على القنوت في الفجر.
وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعاء التالي في القنوت وهو عن الحسن بن(4/256)
علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قال: (علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلمات أقولهن في الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت فإنك تقضي ولا يقضى عليك وإنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت تباركت ربنا وتعاليت لا منجا منك إلا إليك) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم وقال الترمذي: (حديث حسن. ولا نعرف في القنوت شيئاً أحسن من هذا الدعاء) وصححه جماعة من المحدثين. انظر صفة الصلاة ص 161 والخلاصة 1/455.
وجاء في رواية عند النسائي قال: (تباركت وتعاليت وصلى الله على النبي) قال النووي: وإسناده حسن أو صحيح. الخلاصة 1/458 والأذكار ص 49.
وقد ذكر الإمام النووي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه كان يقنت بهذا الدعاء:
(اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ولا نكفرك، ونؤمن بك ونخلع من يفجرك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجدّ بالكفار ملحق، اللهم عذّب الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك، ويقاتلون أولياءك. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، وللمسلمين والمسلمات، وأصلح ذات بينهم، وألف بين قلوبهم، واجعل في قلوبهم الإيمان والحكمة، وثبتهم على ملة رسولك - صلى الله عليه وسلم -، وأوزعهم أن يوفوا بعهدك الذي عاهدتهم عليه، وانصرهم على عدوك وعدوهم، إله الحق واجعلنا منهم) الأذكار ص 49.
وجاء في رواية أخرى عن عمر أنه قنت بعد الركوع فقال: (اللهم اغفر لنا، وللمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك، وعدوهم. اللهم العن كفرة أهل الكتاب، الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، ويقاتلون أولياءك، اللهم خالف بين كلمتهم وزلزل أقدامهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا تردّه عن القوم المجرمين، بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إنا نستعينك،(4/257)
ونستغفرك، ونثني عليك، ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد، نخشى عذابك الجد، ونرجو رحمتك، إن عذابك بالكفار ملحق) الخلاصة 1/458-459. قال البيهقي: وهو صحيح عن عمر.
قال الإمام النووي: [هذه إحدى روايات البيهقي التي اختارها ورجحها على غيرها]
الخلاصة 1/459.
قال الشيخ الألباني: [ولا بأس من جعل القنوت بعد الركوع ومن الزيادة عليه لعن الكفرة والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - والدعاء للمسلمين في النصف الثاني من رمضان لثبوت ذلك عن الأئمة في عهد عمر - رضي الله عنه - فقد جاء في آخر حديث عبد الرحمن بن عبدٍ القاري: وكانوا يلعنون الكفرة في النصف. اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك ولا يوفون بوعدك وخالف بين كلمتهم وألق في قلوبهم الرعب وألق عليهم رجزك وعذابك إله الحق. ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدعو للمسلمين بما استطاع من خير ثم يستغفر للمؤمنين.] قيام رمضان ص31-32
ويجهر الإمام بهذه الأدعية فقد صح الحديث في ذلك فقد روى أبو هريرة - رضي الله عنه -: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جهر بالقنوت في قنوت النازلة) رواه البخاري.
ويؤَمّن المصلون بعد دعاء الإمام فقد ورد في الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهراً متتابعاً في الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح في دبر كل صلاة إذا قال: سمع الله لمن حمده في الركعة الأخيرة يدعو على أحياء بني سليم ويؤَمّن من خلفه) رواه أبو داود بإسناد حسن أو صحيح كما قال الإمام النووي. الخلاصة 1/461.
قال بعض أهل العلم: [ولم يرد عن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حال القنوت في الصلاة إلا التأمين ومن أخطاء المأمومين زيادة عبارات لم يرد(4/258)
بها الأثر وإنما هي مجرد نظر من مثل قولهم "حق" و "أشهد" وكذلك قلب أياديهم عند الدعاء على الكفرة أو عند الدعاء برفع الشر والبلاء] القول المبين ص 132.
وقال بعض أهل العلم أيضا: [وتقليب أيديهم في دعاء القنوت عند قولهم إنه: " لا يذل من واليت " بدعة وحركة في الصلاة سيئة وقولهم "حق، حق" أثناء قراءة الإمام للقنوت بدعة إن لم تكن مفسدة للصلاة فأقل أحوالها الكراهة.] السنن والمبتدعات ص 62.
وتقليب الكفين عند الدعاء ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الاستسقاء خاصة ولعل الحكمة في الإشارة بظهر الكفين في الاستسقاء دون غيره التفاؤل بتقليب الحال كما قيل في تحويل الرداء. قاله الشوكاني في نيل الأوطار 4/10.
صلوات الأيام والليالي المكذوبة
يقول السائل: أطلعني أحد الأصدقاء على نشرة يوزعها الناس بعنوان " أدعية مختارة "تتضمن عدداً من أدعية الاستغفار وصلوات على النبي - صلى الله عليه وسلم - ومجموعة من الأحاديث في فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ومجموعة أخرى من الأحاديث في صلوات الأيام والليالي.
وسألني هل هذه الأدعية والأذكار والأحاديث ثابتة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟
الجواب: من المعلوم عند أهل العلم أن الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد انتشر انتشاراً كبيراً وقد كانت الدوافع وراء ذلك الكذب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - عديدة كالزندقة والتعصب المذهبي أو لغرض دنيوي أو نحو ذلك.
وكان من أخطر دوافع الكذب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما قام به جماعة من الزهاد والعباد الذين أرادوا أن يحثوا الناس على فعل الخيرات كما زعموا فكذبوا الأحاديث في الترغيب والترهيب.(4/259)
قال العلامة اللكنوي مبيناً أصناف الكذابين على الرسول - صلى الله عليه وسلم -: [. الثالث قوم كانوا يضعون الأحاديث في الترغيب والترهيب ليحثوا الناس على الخير ويزجروهم عن الشر وأكثر أحاديث صلوات الأيام والليالي من وضع هؤلاء ومن هؤلاء من كان يظن أن هذا جائز في الشرع لأنه كذب للنبي - صلى الله عليه وسلم - لا عليه.] الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة ص 15.
ثم نقل اللكنوي عن أحد الكذابين على الرسول - صلى الله عليه وسلم - والذي اخترع مجموعة من الأحاديث في فضائل القرآن سورة سورة فقال: [إني رأيت الناس أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي ابن إسحاق فوضعت هذا الحديث حسبة.]
المصدر السابق ص 15.
أقول: وكاتب هذه النشرة محل السؤال من هذا الصنف فإنه كما يزعم يرغب الناس في الذكر والاستغفار والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويرغبهم في صلوات محددة لكل ليلة من ليالي الأسبوع وكل ذلك بواسطة ذكر أحاديث مكذوبة على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما درى هذا المغفل أن الكذب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - من كبائر الذنوب وأنه لا فرق بين الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والكذب له كما زعم جهلة العباد والزهاد.
وأسوق لك أخي القارئ بعض الأحاديث المكذوبة في صلوات الأيام والليالي كما ذكرها كاتب النشرة ثم أبين كلام العلماء فيها:
1. عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من صلى ليلة الجمعة ركعتين يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وسورة الزلزلة خمس عشرة مرة فإذا فرغ من صلاته يقول: " يا حيّ يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام " مائة مرة آمنه الله من عذاب القبر وظلمته وضيقه ومن أهوال يوم القيام ولا يقوم من مقامه لا جائعاً ولا ظمآناً ويكسى حلة من النور ولا يخرج من الدنيا حتى يرى مقعده في الجنة) .
2. عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من صلى ليلة السبت ست ركعات يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وسورة(4/260)
الإخلاص إحدى وثلاثين مرة أخرج الغل والمكر والوسواس والعجب والرياء من قلبه ويجمع الله في قلبه النور والرحمة والرأفة ويلبسه يوم القيامة المغفرة ويبقى وجهه كالقمر ليلة البدر ويبنى له بكل ركعة قصراً في الجنة) .
3. عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من صلى ليلة الأحد ست ركعات يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وسورة الإخلاص سبع مرات أعطاه الله ثواب الشاكرين والصابرين وأعمال المطيعين وكتب الله له عبادة سنتين ولا يقوم من مقامه إلا مغفوراً له ولا يخرج من الدنيا حتى يرى مقعده من الجنة) .
4. عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من صلى ليلة الاثنين عشر ركعات يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وآية الكرسي مرة فينادي منادي يوم القيامة أين فلان بن فلانة يقوم يأخذ ثوابه من الله تعالى فأول ما يعطيه من الثواب ألف حلة من النور ويتوج بتاج من نور ويدخل الجنة مع الصديقين والشهداء والصالحين ويستقبله ألف مَلَكْ يسير كل مَلَكٍ بهدية وترون له ألف قصر من النور يتلألأ) .
5. عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من صلى ليلة الثلاثاء ست ركعات يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وسورة الإخلاص والمعوذتين فإذا فرغ من صلاته يقول: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت أبداً بيده الخير وهو على كل شيء قدير " سبعين مرة أعطاه الله بكل حرف عشر حوريات من الحور العين على كل واحدة منهن سبعون حلة من النور ويبني له عشر مدينات في كل مدينة ألف قصر وله من الثواب ما لا يصفه الواصفون) .
6. عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من صلى ليلة الأربعاء أربع ركعات يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وسورة الإخلاص مائة مرة فإذا فرغ من صلاته ينام ووجهه إلى القبلة فإنه يراني وكأنما اشترى نفسه من الله تعالى) .
7. عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من(4/261)
صلى ليلة الخميس ثماني ركعات يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وسورة الإخلاص عشر مرات فإذا فرغ من صلاته يقول: " لا إله إلا الله الملك الحق المبين محمد رسول الله الصادق الوعد الأمين " مائة مرة بنى الله له في الجنة ثمانمائة قصر من ياقوتة حمراء ويصرف عنه كل شيطان مريد) .
هكذا وردت هذه الأحاديث المكذوبة في النشرة المشار إليها.
وقد وردت عدة روايات أخرى كثيرة لهذه الأحاديث المكذوبة في بعض الكتب وقد بين المحققون من علماء الحديث حال هذه الأحاديث وبينوا أنها مكذوبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال العلامة ابن القيم مبيناً الأمور الكلية التي يعرف بها كون الحديث موضوعاً أي مكذوباً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: [ومنها أحاديث صلوات الأيام والليالي كصلاة يوم الأحد وليلة الأحد ويوم الاثنين وليلة الاثنين إلى آخر الأسبوع كل أحاديثها كذب.] المنار المنيف ص 95.
وقال العلامة ابن القيم في موضع آخر مبيناً كذب أحاديث صلوات الأيام والليالي:
[ومن ذلك حديث: من صلى يوم الأحد أربع ركعات بتسليمة واحدة يقرأ في كل ركعة (الحمد لله.) و (آمن الرسول.) كتب الله له ألف حجة وألف عمرة
وألف غزوة وبكل ركعة ألف صلاة وجعل بينه وبين النار ألف خندق.] فقبح الله واضعه ما أجرأه على الله ورسوله.
[ومن ذلك حديث: من صلى ليلة الأحد أربع ركعات يقرأ في كلى ركعة فاتحة الكتاب مرة و (قٌلْ هُوَ الله أَحَدْ) خمس عشرة مرة أعطاه الله يوم القيامة ثواب من قرأ القرآن عشر مرات وعمل بما في القرآن ويخرج يوم القيامة من قبره ووجه مثل القمر ليلة البدر ويعطيه الله بكل ركعة ألف مدينة من لؤلؤ في كل مدينة ألف قصر من زبرجد في كل قصر ألف دار من ياقوت في كل دار ألف بيت من المسك في كل بيت ألف سرير.] واستمر هذا الكذاب الأشر على الألف.(4/262)
[ومن ذلك حديث: من صلى ليلة الاثنين ست ركعات يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة، وعشرين مرة (قٌلْ هُوَ الله أَحَدْ) ويستغفر الله بعد ذلك عشرة مرات أعطاه الله يوم القيامة ثواب ألف صدّيق وألف عابد وألف زاهد.] فقبح الله واضعه ومختلقه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو من عمل الجويباري الخبيث.
[ومن ذلك حديث: من صلى يوم الاثنين أربع ركعات يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وآية الكرسي مرة و (قٌلْ هُوَ الله أَحَدْ) مرة و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِ الفَلَقْ) مرة كفرت ذنوبه كلها وأعطاه الله قصراً إلى الجنة من درة بيضاء في جوف القصر سبعة أبيات طول كل بيت ثلاثة آلاف ذراع.] .
واستمر هذا الكذاب الخبيث على حديث طويل فيه من هذه المجازفات!! وهو من عمل الحسين بن إبراهيم كذاب يروي عن محمد بن طاهر وضع من هذا الضرب أحاديث صلاة يوم الأحد وليلة الأحد وصلاة يوم الاثنين وليلة الاثنين ويوم الثلاثاء وليلة الثلاثاء وهكذا في سائر أيام الأسبوع ولياليه. المنار المنيف ص 48-50.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن ذكر طائفة من الأحاديث المكذوبة:
[. وأشد من ذلك ما يذكره بعض المصنفين في الرقائق والفضائل في الصلوات الأسبوعية والحولية كصلاة يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة والسبت المذكورة في كتاب أبي طالب وأبي حامد وعبد القادر غيرهم.
وكصلاة الألفية التي في أول رجب ونصف شعبان والصلاة الإثني عشرية التي في أول ليلة جمعة من رجب والصلاة التي في ليلة سبع وعشرين من رجب وصلوات أخرى تذكر في الأشهر الثلاثة وصلاة ليلتي العيدين وصلاة يوم عاشوراء وأمثال ذلك من الصلوات المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع اتفاق أهل المعرفة بحديثه - صلى الله عليه وسلم -- أن ذلك كذب عليه.] مجموع فتاوى ابن تيمية 24/201-202.(4/263)
وقال شارح إحياء علوم الدين: [وليس يصح في صلوات أيام الأسبوع ولياليه
شيء] . وقد ضعف الحافظ العراقي أحاديث صلوات الليالي والأيام التي ذكرها الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين. انظر تخريج العراقي لأحاديث إحياء علوم الدين 1/198-201.
وأخيراً ينبغي التنبيه على أن الأحاديث الصحيحة في الترغيب والترهيب تغنينا عن هذه الموضوعات والمكذوبات على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
التنكيس حقيقته وحكمه
يقول السائل: ما هو التنكيس في قراءة القرآن الكريم وما حكمه؟
الجواب: التنكيس مأخوذ من النكس وهو قلب الشيء ورده وجعل أعلاه أسفله ومقدمه مؤخره.
والتنكيس في قراءة القرآن له معنيان هما:
1. أن يبدأ من آخره أي من المعوذتين ثم يرتفع إلى البقرة ويختم بالفاتحة.
2. أن يبدأ من آخر السورة فيقرأها إلى أولها مقلوباً. تاج العروس 9/22.
إذا تقرر هذا فينبغي أن يعلم أن السنة لقارئ القرآن سواء أكان في الصلاة أم خارجها أن يقرأ حسب ترتيب السور في المصحف.
قال الإمام النووي: [قال العلماء: الاختيار أن يقرأ على ترتيب المصحف فيقرأ الفاتحة ثم البقرة ثم آل عمران ثم ما بعدها على الترتيب سواء قرأ في الصلاة أو في غيرها حتى قال بعض أصحابنا: إذا قرأ في الركعة الأولى سورة (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِ النَاسِ) يقرأ في الثانية بعد الفاتحة من البقرة.
قال بعض أصحابنا: يستحب إذا قرأ سورة أن يقرأ التي تليها ودليل هذا(4/264)
أن ترتيب المصحف إنما جعل هكذا لحكمة فينبغي أن يحافظ عليها.] التبيان في آداب حملة القرآن ص51-52.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [والمستحب أن يقرأ في الركعة الثانية سورة بعد السورة التي قرأها في الركعة الأولى في النظم لأن ذلك هو المنقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم -] المغني 1/356.
فإذا لم يلتزم القارئ في قراءته بترتيب السور في القرآن الكريم فقرأ في الركعة الثانية سورة تقع في المصحف قبل السورة التي قرأها في الركعة الأولى جازت قراءته ولا شيء في ذلك وصلاته جائزة باتفاق العلماء.
فقد ثبت في الحديث عن حذيفة رضي الله عنه قال: [صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت يركع عند المائة ثم مضى فقلت يصلي بها في ركعة فمضى فقلت يركع بها ثم افتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها يقرأ مترسلاً إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبّح وإذا مرّ بسؤال سأل وإذا مرّ بتعوذ تعوذ ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحواً من قيامه ثم قال: سمع الله لمن حمده، ثم قام طويلاً قريباً مما ركع ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى، فكان سجوده قريباً من قيامه] رواه مسلم.
ففي هذا الحديث نرى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ النساء ثم آل عمران وهذا على خلاف ترتيب المصحف وهو يدل على جواز ترك الترتيب ومما يؤيد ذلك ما رواه الإمام البخاري: [أن الأحنف قرأ بالكهف في الأولى وفي الثانية بيوسف أو يونس وذكر أنه صلى مع عمر رضي الله عنه الصبح بهما] رواه البخاري تعليقاً مجزوماً به. صحيح البخاري مع الفتح 2/399.
قال القاضي عياض: [لا خلا ف أنه يجوز للمصلي أن يقرأ في الركعة الثانية سورة قبل التي قرأها في الأولى] شرح النووي على صحيح مسلم 2/395.
وبهذا يظهر لنا أن التنكيس بالمعنى الأول وهو أن يقرأ في الركعة الثانية بسورة قبل التي قرأ في الركعة الأولى جائز إن شاء الله ولا كراهة فيه والأولى أن تكون قراءته حسب ترتيب المصحف.(4/265)
وأما التنكيس بالمعنى الثاني وهو أن يبدأ من آخر السورة فيقرؤها إلى أولها مقلوباً فقد ذكر كثير من أهل العلم أن ذلك محرم.
قال الإمام النووي: [وأما قراءة السورة من آخرها إلى أولها فممنوع منعاً متأكداً فإنه يذهب بعض ضروب الإعجاز ويزيل حكمة ترتيب الآيات] التبيان في آداب حملة القرآن ص 52.
وهذا التنكيس الممنوع هو الذي حمل عليه قول ابن مسعود: [عندما سئل عن رجل يقرأ القرآن منكوساً. قال: ذلك منكوس القلب] رواه الطبراني بإسناد جيد ورواه ابن أبي داود بإسناد صحيح كما قال الإمام النووي في التبيان ص 52.
قال القاضي عياض: [وتأول نهي بعض السلف عن قراءة القرآن منكوساً على من يقرأ من آخر السورة إلى أولها] شرح النووي على صحيح مسلم 2/395.
وقال ابن مفلح: [وتنكيس الكلمات محرم مُبْطِل] أي مُبْطِل للصلاة. الفروع 1/422.
وقال الدسوقي: [وحَرُمَ تنكيس الآيات المتلاصقة في ركعة واحدة وأبطل الصلاة لأنه ككلام أجنبي] حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1/242.
وقال القرطبي: [وأما ما روي عن ابن مسعود وابن عمر أنهما كرها أن يقرأ القرآن منكوساً وقالا: ذلك منكوس القلب. فإنما عنيا بذلك من يقرأ السورة منكوسة ويبتدئ من آخرها إلى أولها لأن ذلك حرام محظور ومن الناس من يتعاطى هذا في القرآن والشعر ليذلل لسانه بذلك ويقدر على الحفظ وهذا حظره الله تعالى ومنعه في القرآن لأنه إفساد لسوره ومخالفة لما قصد بها] تفسير القرطبي 1/61.(4/266)
حكم قراءة سورة الفاتحة في ختام الدروس وتلاوة القرآن
يقول السائل: ما حكم ما يفعله كثير من القراء عند انتهائهم من تلاوة القرآن أن يقول الفاتحة وكذلك ما يفعله بعض الوعاظ عند انتهائهم من دروسهم يقولون الفاتحة وكذلك بعد الصلاة على الجنازة حيث يقولون الفاتحة والناس يقرؤون الفاتحة في هذه المواضع، أفيدونا؟
الجواب: سورة الفاتحة هي أعظم سورة في القرآن الكريم وهي السبع المثاني كما قال تعالى: (َوَلَقَدْءَاتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيمَ) سورة الحجر الآية 87.
قال القرطبي: [سميت بذلك لأنها تثنى في كلى ركعة] تفسير القرطبي 1/112.
وقد ثبت فضل سورة الفاتحة في عدة أحاديث منها:
عن أبي سعيد بن يعلى - رضي الله عنه - قال: (كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم أجبه ثم أتيته فقلت يا رسول الله: إني كنت أصلي. فقال: ألم يقل الله:
(واستجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم) . ثم قال لي: ألا علمك سورة هي أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد؟ ثم أخذ بيدي فلما أراد أن يخرج قلت له: ألم تقل لأعلمنك أعظم سورة في القرآن. قال الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته) رواه البخاري.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بينما جبريل قاعد عند النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع نقيضاً من فوقه فرفع رأسه فقال: هذا باب السماء فتح لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك، فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل إلا اليوم، فسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ منها حرفاً إلا أعطيته) رواه مسلم.(4/267)
وغير ذلك من الأحاديث.
وقراءة الفاتحة وغيرها من سور القرآن الكريم عبادة من العبادات والأصل في العبادات التلقي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم ينقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقرأ الفاتحة بعد وعظه وإرشاده ولا بعد صلاة الجنازة ولا عند الزواج ولا في المناسبات التي شاع فيها قراءة الفاتحة في زماننا هذا.
وكل ذلك من الأمور المبتدعة المخالفة لهدي المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، قال الشيخ محمد رشيد رضا: [فاعلم أن ما اشتهر وعمَّ البدو والحضر من قراءة الفاتحة للموتى لم يرد في حديث صحيح ولا ضعيف فهو من البدع المخالفة لما تقدم من النصوص القطعية ولكنه صار بِسُكُوتِ اللابسين لباس العلماء وبإقرارهم له ثم بمجاراة العامة عليه من قبيل السنن المؤكدة أو الفرائض المحتمة] تفسير المنار 8/268.
وقال الشيخ الألباني: [. ومما سبق تعلم أن قول الناس اليوم في بعض البلاد:
" الفاتحة على روح فلان " مخالف للسنة المذكورة فهو بدعة بلا شك] أحكام الجنائز ص 33.
وقراءة الفاتحة بنية قضاء الحاجات وتفريج الكربات وهلاك الأعداء بدعة لم يأذن بها الدين. وقراءة الفاتحة عند خطبة الزواج واعتقاد الناس أن قراءتها عهد لا ينقض بدعة اعتقاد فاسد جاهل. السنن والمبتدعات ص217.
وكذلك قراءة الفاتحة بعد ما يسميه العامة ختم الصلاة بدعة لا أصل لها في الشرع الحنيف وكذلك قراءة الفاتحة بعد الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الأذان بدعة.
العمل المشروع عند دخول المسجد
يقول السائل: ما هو المسنون والمشروع في حق من يدخل المسجد هل يصلي تحية المسجد أولاً ثم يسلم على من فيه أم أنه يبدأ بالسلام على الموجودين فيه ثم يصلي تحية المسجد؟(4/268)
الجواب: المشروع والمسنون في حق الداخل إلى المسجد أن يدخل برجله اليمنى لأنها السنة فقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يحب التيامن في كل أموره.
ويقول الداخل للمسجد أحد الأذكار الواردة في الأحاديث التالية:
1. قال - صلى الله عليه وسلم -: (إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك) رواه مسلم.
2. كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل المسجد يقول: (أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وبسلطانه القديم من الشيطان الرجيم) رواه أبو داود وإسناده صحيح وحسنه النووي. الأذكار ص 26.
3. وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل المسجد صلَّى على محمد وعلى آله وسلم ثم يقول: (اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك) رواه أبو داود وابن ماجة وهو حديث صحيح قاله الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود 1/93.
وبعد ذلك يسن على التأكيد في حق الداخل إلى المسجد أن يصلي ركعتين تحية المسجد فقد ثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس) رواه البخاري.
وفي حديث آخر عن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال: (دخلت المسجد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس بين ظهراني الناس. قال: فجلست فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما منعك أن تركع ركعتين قبل أن تجلس؟
قال: فقلت: يا رسول الله رأيتك جالساً والناس جلوس. قال: فإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين) رواه مسلم.
فإذا صلى الداخل تحية المسجد طرح السلام على من كان فيه بصوت خفيض حتى لا يشوش على المصلين والذاكرين لأنه لا ينبغي رفع الصوت في المسجد.(4/269)
قال العلامة ابن القيم: [ومن هديه - صلى الله عليه وسلم -أن الداخل إلى المسجد يبتدئ بركعتين تحية المسجد ثم يجيء فيسلم على القوم فتكون تحية المسجد قبل تحية أهله فإن تلك حق الله تعالى والسلام على الخلق هو حق لهم وحق الله في مثل هذا أحق بالتقديم بخلاف الحقوق المالية فإن فيها نزاعاً معروفاً والفرق بينهما حاجة الآدمي وعدم اتساع الحق المالي لأداء الحقين بخلاف السلام.
وكانت عادة القوم معه هكذا يدخل أحدهم المسجد فيصلي ركعتين ثم يجيء فيسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولهذا جاء في حديث رفاعة بن رافع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بينما هو جالس في المسجد يوماً قال رفاعة: ونحن معه إذا جاء رجل كالبدوي فصلى فأخف صلاته ثم انصرف فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
(وعليك فارجع فصل فإنك لم تصل.) وذكر الحديث فأنكر عليه صلاته ولم ينكر عليه تأخير السلام عليه - صلى الله عليه وسلم - إلى ما بعد الصلاة.
وعلى هذا: فيسن لداخل المسجد إذا كان فيه جماعة ثلاث تحيات مترتبة: أن يقول عند دخوله: بسم الله والصلاة على رسول الله ثم يصلي ركعتين تحية المسجد ثم يسلم على القوم] زاد المعاد 2/413-414.
وضع جهاز لقتل الحشرات في المسجد
يقول السائل: وضع في المسجد الذي أصلي فيه جهاز كهربائي لقتل الذباب والناموس فاعترض بعض المصلين على ذلك مستندين إلى ما ورد في الحديث الشريف من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (لا يعذب بالنار إلا رب النار) ، فما قولكم؟
الجواب: لا شك أن الذباب والناموس من الحشرات الضارة التي يسعى الإنسان إلى التخلص منها بشتى الوسائل والسبل وهذا أمر مشروع وجائز بل مطلوب شرعاً لما في القضاء على هذه الحشرات من النفع(4/270)
للإنسان ودفع الضرر عنه وخاصة إذا كانت أعدادها كبيرة.
وقد قرر العلماء جواز قتل كل حيوان مؤذ.
والقضاء على هذه الحشرات جائز فيما أرى بأي وسيلة تتخذ لذلك سواء كان عن طريق رشها بالمبيدات الحشرية أو باستخدام الأجهزة الكهربائية أو غير ذلك وأعتقد أن قتلها بواسطة الجهاز الكهربائي المشار إليه في السؤال لا بأس فيه ولا حرج في ذلك ولا يدخل استعماله تحت الحديث المشار إليه.
وأصل هذا الحديث هو ما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعث، فقال: إذا وجدتم فلاناً وفلاناً - وهما من كفار قريش - فأحرقوهما بالنار. ثم قال - صلى الله عليه وسلم - حين أردنا الخروج: إني أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً وإن النار لا يُعَذِبُ بها إلا الله فإن وجدتموهما فاقتلوهما) .
فقتل الذباب والناموس بالجهاز الكهربائي لا يدخل في هذا النهي الوارد في الحديث لأنه يطلب شرعاً قتل الحيوانات والحشرات الضارة.
وبناءاً على ما سبق لا حرج في وضع الجهاز المذكور في المسجد وينبغي وضعه في مؤخرة المسجد مثلاً حتى لا يشغل المصلين عن صلاتهم لأنه لا يجوز وضع شيء في المسجد فيه تشويش على المصلين.
حكم بناء مسجد وجعل أعلاه مسكناً
يقول السائل: يريد شخص أن يتبرع بقطعة أرض لبناء مسجد عليها ولكنه يشترط أن يكون سطح المسجد ملكاً له ليبني عليه مسكناً له فما قولكم في ذلك؟
الجواب: لا شك أن التبرع بقطعة أرض ليقام عليها مسجد عمل(4/271)
مبرور ومن أعمال الخير ويعد مشاركة في بناء المسجد وجزى الله هذا المتبرع خير الجزاء.
وقد ورد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة في فضل بناء المساجد والمشاركة في بنائها فمن ذلك:
عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من بنى لله مسجداً قدر مفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة) رواه ابن حبان والبزار والطبراني في الصغير وقال الشيخ الألباني: حديث صحيح.
وهذا الحديث يدل على المشاركة في بناء المسجد لأن مفحص القطاة لا يكفي ليكون مسجداً.
ومفحص القطاة هو المكان الذي تفحصه القطاة لتضع فيه بيضها وترقد عليه.
وعن أنس - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (من بنى لله مسجداً صغيراً كان أو كبيراً بنى الله له بيتاً في الجنة) رواه الترمذي وقال الشيخ الألباني: حديث حسن.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علماً علَّمه ونشره أو ولداً صالحاً تركه أو مصحفاً ورثه أو مسجداً بناه أو بيتاً لابن السبيل بناه أو نهراً أجراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته) رواه ابن ماجة وابن خزيمة والبيهقي وقال الشيخ الألباني: وإسناد ابن ماجة حسن.
انظر صحيح الترغيب والترهيب ص 109-111.
إذا تقرر هذا فأقول إن المسجد في الإسلام له مكانته الخاصة وله أحكامه الخاصة فلا ينبغي أن يكون سطح المسجد مسكناً وإنما ينبغي أن يكون المسجد مستقلاً فإذا بني على ظهر المسجد مسكن فإن ذلك قد(4/272)
يحدث تشويشاً على المصلين كما أن بعض الفقهاء يرون أن هواء المسجد يعتبر مسجداً وإلى عنان السماء وبالتالي يمنعون السكن فوقه لأن الساكن فوق المسجد تقع منه أمور طبيعية لا تفعل في المسجد مطلقاً.
قال صاحب الدر المختار من علماء الحنفية: [وكره تحريماً الوطء فوقه والبول والتغوط لأنه مسجد إلى عنان السماء] الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 1/656.
وقال الإمام بدر الدين الزركشي: [كره مالك أن يبني مسجداً ويتخذ فوقه مسكناً يسكن فيه بأهله.
قلت - أي الزركشي -: وفي فتاوى البغوي ما يقتضي منع مكوث الجنب فيه لأنه جعل ذلك هواء المسجد وهواء المسجد حكمه حكم المسجد] إعلام الساجد بأحكام المساجد ص 283.
وبمناسبة الحديث عن بناء المساجد لا بد من التنبيه إلى أن كثيراً من المساجد التي تبنى في أيامنا هذه يلاحظ فيها المبالغة في البناء وإنفاق الأموال الطائلة في زخرفة المسجد وتزيينه حتى سمعنا عن بعض المساجد التي كلف الواحد منها مئات الملايين مع أن الناس يعانون من الفقر في تلك البلاد فكان أولى أن تنفق تلك الأموال لسد حاجات الناس الضرورية.
ويجب أن يعلم أنه ليس من منهج الإسلام الصحيح المبالغة في بناء المسجد ولا إنفاق الملايين عليه مباهاةً وتفاخراً.
وقد أخبر الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - في الحديث عن ذلك فقد جاء في الحديث عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وأحمد وصححه ابن خزيمة وقال الشيخ الألباني: حديث صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 2/1237.
وقال الشيخ الشوكاني: [أي يتفاخرون في بناء المساجد والمباهاة بها] نيل الأوطار 2/169.
وقال الإمام البخاري في صحيحه: [باب بنيان المسجد وقال أبو(4/273)
سعيد: كان سقف المسجد من جريد النخل. وأمر عمر ببناء المسجد وقال: أكن الناس من المطر وإياك أن تحمِّر أو تصَفّر فتفتن الناس. وقال أنس: يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلا قليلاً] .
وقال الحافظ ابن حجر قوله: [ثم لايعمرونها: المراد به عمارتها بالصلاة وذكر الله وليس المراد به بنيانها.] صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 2/85-86.
وخلاصة الأمر أنه يجب الاقتصاد عند بناء المسجد فليس هنالك داع للزخارف الفخمة والثريات الباهظة الثمن والقباب المذهبة والمآذن الطويلة بل يجب أن يكون المسجد في غاية البساطة مع الاتساع وتوفر المرافق المريحة للمصلين كالحمامات النظيفة ووسائل التبريد والتدفئة والإضاءة الجيدة وغير ذلك فإذا اقتصدنا في بناء المسجد فإن الأموال الفائضة يمكن أن نبني بها مسجداً آخر فعوضاً عن صرف الملايين على مسجد واحد يمكن بناء مساجد عديدة في مناطق بحاجة للمسجد.
وأخيراً أذكر حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (ما أمرت بتشييد المساجد) رواه أبو داود وابن حبان وصححه.
قال الإمام البغوي: (والمراد من التشييد: رفع البناء وتطويله ومنه قوله سبحانه وتعالى: (فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) وهي التي طول بناؤها. وقال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: إذا حليتم مصاحفكم وزوقتم مساجدكم فالدمار عليكم) شرح السنة 2/349-350.
وقال ابن رسلان معلقاً على حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - السابق: [وهذا الحديث فيه معجزة ظاهرة إخباره - صلى الله عليه وسلم - عما يقع بعده فإن تزويق المساجد والمباهاة بزخرفتها كثر من الملوك والأمراء في هذا الزمان بالقاهرة والشام وبيت المقدس بأخذهم أموال الناس ظلماً وعمارتهم بها المدارس على شكل بديع نسأل الله السلامة والعافية] نيل الأوطار 2/168.(4/274)
حكم دخول الحائض للمسجد
تقول السائلة: هل يجوز للمرأة الحائض دخول المسجد لحضور دروس العلم؟
الجواب: إن دخول الحائض للمسجد ممنوع عند أكثر الفقهاء وعمدتهم في المنع ما روي في الحديث عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب) رواه أبو داود وابن ماجة. وفي سنده كلام كثير لأهل الحديث وسيأتي بعضه.
وبعض أهل العلم احتج على منع الحائض من دخول المسجد بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ) سورة النساء الآية 43.
ومع أن هذه الآية لم تذكر الحائض إلا أنهم ألحقوها بالجنب.
وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى جواز دخول الحائض للمسجد وبهذا قال الإمام أحمد في رواية عنه وهو قول المزني صاحب الإمام الشافعي وبه قال الإمام داود وابن حزم الظاهريان.
وقال الإمام أحمد في رواية أخرى إن للحائض دخول المسجد إن توضأت وأمنت تلويث المسجد. انظر الإنصاف 1/347.
واختار هذا القول العلامة المحدّث الشيخ ناصر الدين الألباني كما في تمام المنة
ص 119.
وهذا القول هو الذي أطمئن إليه فيجوز للمرأة الحائض دخول المسجد لحضور دروس العلم.
ويدل لهذا القول ما يلي:
1. البراءة الأصلية لأن الأصل عدم التحريم ولم يقم دليل صحيح صريح على تحريم دخول الحائض للمسجد.
قال الإمام النووي: [وأحسن ما يوجه به هذا المذهب أن الأصل عدم(4/275)
التحريم وليس لمن حرم دليل صحيح صريح] المجموع 2/160.
وقال الشيخ الألباني: [والقول عندنا في هذه المسألة من الناحية الفقهية كالقول في مس القرآن من الجنب للبراءة الأصلية وعدم وجود ما ينهض على التحريم وبه قال الإمام أحمد وغيره.] تمام المنة ص 119.
2. إن الحديث الذي استدل به جمهور العلماء وهو: (لا أحل المسجد لجنب ولا لحائض) اختلف فيه أهل الحديث اختلافاً كبيراً لأنه من رواية أفلت بن خليفة عن جسرة بنت دجاجة وقد ضعفهما جماعة من أهل الحديث كالخطابي والبيهقي وعبد الحق الاشبيلي وابن حزم ونقل التضعيف عن الإمام أحمد أيضاً.
وقال الإمام البغوي: [وجَوَّزَ أحمد والمزني المكث فيه وضعّف أحمد الحديث لأن راويه وهو أفلت بن خليفة مجهول وتأوّل الآية على أن - عابري السبيل - هم المسافرون تصيبهم الجنابة فيتيممون ويصلون وقد روي ذلك عن ابن عباس] شرح السنة 2/46.
ومن المعاصرين الشيخ الألباني حيث قال: [قال البيهقي: ليس بالقوي] .
وقال عبد الحق الإشبيلي: [لا يثبت] ، وبالغ ابن حزم فقال: [إنه باطل] .
وللحديث شاهدان لا ينهضان لتقويته ودعمه لأن في أحدهما متروكاً وفي الآخر كذاباً.] تمام المنة 119، وضعّفه الشيخ الألباني أيضاً في إرواء الغليل 1/162.
وقد ضعف الإمام النووي هذا الحديث في كتابه خلاصة الأحكام حيث قال: [باب ذكر المحدث والجنب والحائض وقراءتهم ومسهم المصحف ودخولهم المسجد] ثم ساق بعض الأحاديث الصحيحة في الباب ثم قال: فصل في ضعيفه وذكر عدة أحاديث ضعفها ومنها حديث: (لا أحل المسجد لحائض ولا جنب) انظر خلاصة الأحكام 1/206-210.
وقال الحافظ ابن حجر عن أفلت بن خليفة بأنه مجهول الحال. التخليص الحبير 1/140.(4/276)
وقال الخطابي: [وضعفوا هذا الحديث وقالوا أفلت راويه مجهول ولا يصح الاحتجاج بحديثه.] معالم السنن 1/67.
وضعف الحديث برواية ابن ماجة أيضاً صاحب الزوائد حيث قال: [إسناده ضعيف مخدوج لم يوثق وأبو الخطاب مجهول] سنن ابن ماجة 1/212.
وقال الإمام البخاري عند جسرة عجائب. المجموع 2/160.
وقد اعتبر كثير من العلماء كلام البخاري هذا تضعيفاً للحديث.
كما أن ابن حزم قد ضعف الحديث برواياته كلها فقال: [وهذا كله باطل أما أفلت فغير مشهور ولا معروف بالثقة وأما مخدوج فساقط يروي المعضلات عن جسرة وأبو الخطاب الهجري مجهول وأما عطاء الخفاف فهو عطاء بن مسلم منكر الحديث وإسماعيل مجهول ومحمد بن الحسن مذكور بالكذب وكثير بن زيد مثله فسقط كل ما في هذا الخبر جملة] المحلى 1/401.
ولا يخفى أن كثيراً من العلماء قد حسنوا هذا الحديث. انظر نصب الراية 1/194.
3. ومما يقوي القول بجواز دخول الحائض للمسجد عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:
(المسلم لا ينجس) رواه البخاري ومسلم.
4. ومما يدل على الجواز أيضاً أن العلماء أجازوا للكافر دخول المسجد رجلاً كان أو امرأة فالمسلم أولى وإن كان جنباً والمسلمة كذلك وإن كانت حائضاً.
5. ومما يدل على الجواز أيضاً ما رواه البخاري ومسلم في قصة المرأة السوداء التي كان لها خباء في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد قال الإمام البخاري في صحيحه:
[باب نوم المرأة في المسجد] ثم ساق حديث عائشة رضي الله عنها: (أن وليدة كانت سوداء لحي من العرب فأعتقوها فكانت معهم. قالت عائشة فكان لها خباء في المسجد أو حفش قالت: فكانت تأتيني فتحدث عني. الخ) .(4/277)
قال الحافظ ابن حجر: [والخباء الخيمة من وبر وغيره والحفش البيت الصغير] فتح الباري 2/80.
وقال ابن حزم مبيناُ وجه الاستدلال بهذا الحديث: [فهذه امرأة ساكنة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمعهود من النساء الحيض فما منعها عليه الصلاة السلام من ذلك ولا نهى عنه وكل ما لم ينه عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمباح وقد ذكرنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله: (جعلت لي الأرض مسجداً) ولا خلاف في أن الحائض والجنب مباح لهما جميع الأرض وهي مسجد فلا يجوز أن يخص بالمنع من بعض المساجد دون بعض ولو كان دخول المسجد لا يجوز للحائض لأخبر بذلك عليه الصلاة والسلام عائشة إذا حاضت فلم ينهها إلا عن الطواف بالبيت فقط ومن الباطل المتيقن أن يكون لا يحل لها دخول المسجد فلا ينهاها عليه الصلاة والسلام عن ذلك ويقتصر على منعها من الطواف وهذا قول المزني وداود وغيرهما وبالله تعالى التوفيق] المحلى 1/401-402.
وخلاصة الأمر أنه يجوز للمرأة الحائض دخول المسجد لطلب العلم إن أمنت تلويثه وذلك لحاجة النساء الماسة إلى العلم والتفقه في الدين وإن كنت أفضل أن تكون دروس العلم للنساء في مرافق ملحقة بالمسجد كما هو الحال في المسجد الأقصى المبارك حيث تعقد بعض دروس النساء في قاعة باب الرحمة.
حكم الصلاة في مسجد بني من مال حرام
يقول السائل: ما حكم الصلاة في مسجد بناه شخص من أموال الربا؟
الجواب: إن الإسلام قد حض على بناء المساجد والعناية بها قال الله تعالى: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَءَاتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) سورة التوبة الآية 18.(4/278)
وعمارة المساجد تكون ببنائها كما تكون بالصلاة فيها.
وجاء في الحديث عن عثمان بن عفان رضي - رضي الله عنه - قال: (سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة) رواه البخاري ومسلم.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (من بنى لله) أي كان مخلصاً في عمله لله سبحانه وتعالى لا يريد مباهاة ولا رياءً ولا سمعة فمن بنى مسجداً لهذه الخصال الذميمة لم يكن بانياً لله سبحانه وتعالى. نيل الأوطار 2/166.
والمسجد الذي يبنى لله سبحانه وتعالى يجب أن يكون مبيناً من مال طيب حلال
ولا يجوز شرعاً بناء المساجد من المال الحرام كمال الربا " الفائدة " ومال الميسر
" اليانصيب والقمار " والمال المسروق وغيرها من الأموال التي تكتسب بطرق محرمة.
ومال الربا الذي بني منه المسجد مال خبيث لأن الربا من أشد المحرمات فقد جاء في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ست وثلاثين زنية] رواه أحمد وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد 4/117. وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة 3/29.
والله سبحانه وتعالى طيب لا يقبل إلا طيباً ومال الربا خبيث والمرابي ليس من المتقين.
يقول الله تعالى: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) سورة المائدة الآية 27.
ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله تبارك وتعالى يقبل الصدقات ولا يقبل منها إلا الطيب) رواه الترمذي وأحمد بنحوه وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وقال الإمام البغوي: هذا حديث صحيح. شرح السنة 6/130 وعارضة الأحوذي 3/132 والفتح الرباني 8/180(4/279)
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما تصدق أحد من صدقة من طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه. الحديث) رواه البخاري ومسلم.
وفي حديث آخر قال - صلى الله عليه وسلم -: (والذي نفسي بيده ما من عبد يتصدق بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيباً ولا يصعد إلى السماء إلا الطيب كأنما يضعها في يد الرحمن. الحديث] رواه الشافعي وإسناده حسن.
وعن أبي هريرة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (من جمع مالاً حراماً ثم تصدق به لم يكن له فيه أجر وكان إصره عليه) رواه ابن حبان والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
إذا تقرر هذا فإنه لا يجوز بناء المساجد من المال الحرام لأن المال الحرام خبيث كما سبق ولا يصلح أن يدخل في بناء بيوت الله تعالى وصيانة لبيوت الله عن كل خبث وعن كل مال حرام وإذا كانت بيوت الله تصان عن النجاسات الصغيرة والقاذورات كالبصاق والمخاط فمن باب أولى أن تصان عن هذه المحرمات الكبيرة.
وقد كانت العرب في جاهليتها تحرص أشد الحرص على أن تبقى الكعبة المشرفة وهي بيت الله الحرام بعيدة عن أي درهم حرام حيث ذكر ابن هشام في سيرته أن قريشاً لما أجمعوا أمرهم على هدم الكعبة وإعادة بنائها من جديد قام أبو وهب عائذ بن عمران بن مخزوم خال أب الرسول - صلى الله عليه وسلم - فتناول من الكعبة حجراً فوثب في يده حتى رجع إلى موضعه فقال: [يا معشر قريش لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلا طيباً لا يدخل فيها مهر بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد الناس] .
فإذا كان الجاهليون حريصين على ألا يبنى بيت الله من مال حرام فنحن المسلمين أولى بهذا منهم. أحكام المال الحرام ص 310.
وأما الصلاة في المسجد الذي بني من مال حرام فهي صلاة صحيحة(4/280)
إن شاء الله ولا شيء على المصلي وإنما الإثم على باني المسجد بالمال الحرام.
وينبغي أن يمنع بناء المساجد من الأموال المحرمة إن كان ذلك معلوماً.
حكم بناء مسجد جديد بالقرب من مسجد قديم
يقول السائل: ما حكم بناء مسجد جديد بجوار مسجد قديم مع العلم أن المسافة التي تفصل بين المسجدين لا تزيد عن مئتي متر تقريباً ومع أن المسجد القديم يتسع لأهل الحيّ؟
الجواب: لا يجوز بناء المسجد الجديد بقرب المسجد القديم ما دام أن المسجد القديم يتسع لأهل الحي وكذلك لا يجوز بناء المسجد الجديد بجوار المسجد القديم حتى لو ضاق المسجد القديم بأهل الحيّ وإنما المطلوب في هذه الحالة العمل على توسعة المسجد القديم وزيادة البناء فيه ليتسع لأهل الحي.
لأن من المقاصد التي بنيت لها المساجد جمع أكبر عدد من المصلين في المسجد الواحد ليتعاونوا ويتعارفوا.
كما أن الله سبحانه وتعالى جعل الثواب العظيم لمن يمشي إلى المسجد للصلاة ولو كان بعيداً كما صح في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى) رواه البخاري ومسلم.
وإنّ بناء المسجد الجديد بجوار المسجد القديم يعتبر من باب الضرار عند العلماء لأنه سيؤدي إلى تفريق جماعة المسلمين.
وقد اعتبر السيوطي أن كثرة المساجد في المحلة الواحدة من(4/281)
المحدثات المخالفة لهدي الرسول - صلى الله عليه وسلم -. انظر كتاب الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع ص 300.
وذلك لما فيه من تفريق الجمع وتشتيت الشمل وحل عروة الانضمام في العبادة وذهاب رونق وفرة المتعبدين وتعديد الكلمة واختلاف المشارب ومضادة حكمة مشروعية الجماعات.
كما أن في ذلك مضارة للمسجد القديم أو شبه مضارة أو محبة الشهرة أو السمعة
وفيه أيضاً صرف الأموال فيما لا ضرورة له. انظر كتاب إصلاح المساجد ص 96.
قال ابن مفلح: [ولا يُبنىَ مسجدٌ ضراراً وقال محمد بن موسى: يَبني مسجداً إلى جنب مسجد. وقال: لا تبني المساجد ليعدى بعضها بعضاً] الفروع 2/38.
وجاء في المنتهى من كتب الحنابلة: [ويحرم بناء مسجد يراد به الضرر لمسجد قربه] .
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية أنه يحرم بناء مسجد بقرب مسجد وأنه ينبغي هدم المسجد الجديد لأنه مسجد ضرار، وصححه المرداوي في تصحيح الفروع 2/39
وقال القرطبي: (قال علماؤنا: لا يجوز أن يُبنى مسجدٌ إلى جنب مسجد ويجب هدمه والمنع من بنائه لئلا ينصرف أهل المسجد الأول فيبقى شاغراً إلا أن تكون المحلة كبيرة فلا يكفي أهلها مسجدٌ واحدٌ فَيُبنَى حينئذ.) .
تفسير القرطبي 8/254
ثم إن المسجد كلما كان قديماً كلما كان أفضل والأجر فيه أعظم وعتق المسجد من الأمور المحمودة قال الله تعالى: (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) .
وقال تعالى: (إن أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى(4/282)
لِلْعَالَمِينَ) فإن قِدَمَهُ يقتضي كثرة العبادة فيه وذلك يقتضي زيادة فضله. مجموع الفتاوى 17/469.
وخلاصة الأمر أنه لا يجوز بناء المسجد الجديد المذكور في السؤال قرب المسجد القديم لما بينت.
زيادة التبرعات للمسجد عن حاجته
يقول السائل: إن لجنة المسجد عندهم جمعت تبرعات لإصلاح المسجد وقد زادت تلك التبرعات عن حاجة المسجد فكيف يتصرفون بها؟
الجواب: إن الأصل في هذه التبرعات أن تصرف لذات المسجد الذي تم التبرع له لأن هذه الأموال صارت موقوفة على ذلك المسجد.
ولا يصح صرفها لغير ذلك المسجد ما دامت الحاجة قائمة لذلك المسجد.
وأما إذا فاضت تلك التبرعات عن حاجات المسجد فيجوز صرفها لمسجد آخر في الحي أو أقرب مسجد إلى المسجد الأول وإن لم يتيسر ذلك صرفت للفقراء والمساكين.
قال الشيخ ابن قدامة: [وما فضل من حصر المسجد وزيته ولم يحتج إليه جاز أن يجعل في مسجد آخر أو يتصدق من ذلك على فقراء جيرانه أو غيرهم وكذلك إن فضل من قصبه أو شيء من نقضه.
قال أحمد في مسجد بني فبقي من خشبه أو قصبه أو شيء من نقضه فقال: يعان به في مسجد آخر.
وقال المروزي: سألت أبا عبد الله - يعني الإمام أحمد- عن بواري المسجد أي حصر المسجد إذا فضل منه الشيء أو الخشبة قال: يتصدق به. قال: وأرى أنه قد احتج بكسوة البيت - الكعبة المشرفة - إذا تخرقت تصدق بها.(4/283)
وقال في موضع آخر: قد كان شيبة يتصدق بخلقان الكعبة - أي كسوة الكعبة التي بليت ونزعت عنها -.
وروى الخلال بإسناده عن علقمة عن أمه أن شيبة بن عثمان الحجبي جاء إلى عائشة رضي الله عنها فقال يا أم المؤمنين إن ثياب الكعبة تكثر عليها فننزعها فنحفر لها آباراً فندفنها فيها حتى لا تلبسها الحائض والجنب.
قالت عائشة: بئس ما صنعت ولم تصب. إن ثياب الكعبة إذا نزعت لم يضرها من لبسها من حائض أو جنب ولكن لو بعتها وجعلت ثمنها في سبيل الله والمساكين.
فكان شيبة يبعث بها إلى اليمن فتباع فيضع ثمنها حيث أمرته عائشة.
وهذه قصة مثلها ينتشر ولم ينكر فيكون إجماعاً ولأنه مال الله تعالى لم يبق له مصرف فصرف إلى المساكين كالوقف المنقطع] المغني 6/31.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [وما فضل من ريع وقف عن مصلحته صرف في نظيره أو مصلحة المسلمين من أهل ناحيته ولم يحبس المال دائماً بلا فائدة فقد كان عمر بن الخطاب كل عام يقسم كسوة الكعبة بين الحجيج ونظير كسوة الكعبة المسجد المستغنى عنه من الحصر ونحوها وأمر بتحويل مسجد الكوفة من مكان إلى مكان حتى صار موضع الأول سوقاً] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 31/93.
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن الوقف إذا فضل من ريعه واستغني عنه؟
فأجاب: [يصرف في نظير تلك الجهة كالمسجد إذا فضل عن مصالحه صرف في مسجد آخر لأن الواقف غرضه في الجنس والجنس واحد فلو قدر أن المسجد الأول خرّب ولم ينتفع به أحد صرف ريعه في مسجد آخر فكذلك إذا فضل عن مصلحته شيء فإن هذا الفاضل لا سبيل إلى صرفه إليه ولا إلى تعطيله فصرفه في جنس المقصود أولى وهو أقرب الطرق إلى مقصود الواقف وقد روى أحمد عن علي
رضي الله عنه أنه حض الناس على إعطاء مكاتب ففضل شيء عن حاجته فصرفه في المكاتبين] المصدر السابق 31/ 206-207.(4/284)
صلاة الجمعة(4/285)
حكم البيع والشراء وقت النداء لصلاة الجمعة
يقول السائل: إنه يملك محلاً تجارياً وفي يوم الجمعة يذهب إلى الصلاة ويترك زوجته في المحل تبيع الناس فما الحكم في ذلك؟
الجواب: يقول الله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) سورة الجمعة الآية 9.
وصلاة الجمعة فرض على كل مسلم بإجماع الأمة والأئمة إلا من استثني وقد أمر الله بالسعي إلى ذكر الله وأمر بترك البيع لما فيه من إشغال عن الصلاة.
قال الإمام القرطبي: [قوله تعالى: (وَذَرُوا الْبَيْعَ) منع الله عز وجل منه عند صلاة الجمعة وحرَّمه في وقتها على من كان مخاطباً بفرضها.
والبيع لا يخلو من شراء فاكتفى بذكر أحدهما. وخص البيع لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق] تفسير القرطبي 18/107.
والأمر بالسعي في الآية يفيد الوجوب والأمر بترك البيع بمعنى النهي يفيد التحريم وقد قال جمهور أهل العلم إن المقصود بقوله تعالى: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ)(4/287)
الأذان الذي يكون بين يدي الإمام والذي يبدأ الإمام عقبه بالخطبة لأنه الأذان الذي كان موجوداً على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما ثبت في الحديث عن السائب بن يزيد قال: [كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فلمّا كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء.
قال الإمام البخاري: والزوراء موضع بالسوق من المدينة] رواه البخاري.
وفي هذا الحديث أنه كان على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلى عهد أبي بكر وعمر
رضي الله عنهما أذان واحد للجمعة وهو الذي يكون بين يدي الإمام وبعده تكون الخطبة، ثم لمّا كان عثمان أحدث الأذان الثاني لإعلام الناس بدخول وقت الصلاة قياساً على بقية الصلوات فألحق الجمعة بها وأبقى خصوصيتها بالأذان بين يدي الخطيب. فتح الباري 3/44.
وسماه الحديث ثانياً باعتباره وجد بعد الأذان الأول الذي كان في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وسماه في الحديث ثالثاً: باعتباره مزيداً على الأذان الأول والإقامة ولأن الإقامة تسمى أذاناً كما في الحديث: (بين كل أذانين صلاة) رواه البخاري ومسلم.
وقد اتفق جمهور أهل العلم على تحريم البيع والشراء وقت النداء وأن هذا التحريم خاص بالمخاطبين بفرض الجمعة وأما من لا جمعة عليهم فلا حرج عليهم إذا باعوا وشروا مع أمثالهم ممن لا يخاطب بالجمعة وهؤلاء غير المخاطبين بالجمعة هم:
1. الصبي وهو من كان دون البلوغ.
2. المرأة فليس على النساء جمعة.
3. المسافر فلا جمعة على المسافر.
4. المريض فلا جمعة على المريض العاجز عن إجابة النداء.(4/288)
وهناك أعذار خاصة تسقط الجمعة ليس هذا محل بحثها.
فهؤلاء المذكورون ومن في حكمهم ممن لا جمعة عليهم يجوز لهم البيع والشراء وقت النداء لأن الله سبحانه وتعالى إنما نهى عن البيع من أمره بالسعي للجمعة وهؤلاء غير مخاطبين بالسعي إلى الجمعة.
قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وتحريم البيع ووجوب السعي يختص بالمخاطبين بالجمعة فأما غيرهم من النساء والصبيان والمسافرين فلا يثبت في حقه ذلك. فإن الله تعالى إنما نهى عن البيع من أمره بالسعي فغير المخاطب بالسعي لا يتناوله النهي ولأن تحريم البيع معلل بما يحصل به من الاشتغال عن الجمعة وهذا معدوم في حقهم] المغني 2/220.
فزوجتك أيها السائل إن باعت لصبي أو لامرأة مثلها أو لمسافر أو لمريض ومن في حكمهم فلا حرج في ذلك إن شاء الله.
وأما إن باعت لمن وجبت عليه الجمعة وهو تارك لها فإن زوجتك قد أعانت على المعصية والإثم فذاك تارك الجمعة لا شك أنه آثم لتركه الجمعة وزوجتك قد باعته فأعانته على المعصية والله سبحانه وتعالى يقول: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) ومن المعلوم أن ترك الجمعة لغير عذر ذنب عظيم فقد ثبت في الحديث الشريف أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين) رواه مسلم.
وقال - صلى الله عليه وسلم - في حديث آخر: (من ترك ثلاث جمع تهاوناً بها طبع الله على قلبه) رواه أحمد وأصحاب السنن وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني.
وعن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (من ترك ثلاث جمعات من غير عذر كتب من المنافقين) رواه الطبراني وقال الشيخ الألباني حديث حسن.
وقال عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: (من ترك الجمعة ثلاث(4/289)
مرات من غير ضرورة طبع الله على قلبه) رواه أحمد بإسناد حسن كما قال الشيخ الألباني ورواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد. صحيح الترغيب ص 306-307.
ويجب أن يعلم أن الأمر بترك البيع وقت النداء لصلاة الجمعة ليس خاصاً بالبيع وإنما النهي يشمل البيع والشراء والإجارة والنكاح وباقي العقود لأن الحكمة في ذلك أن البيع يشغل عن تلبية النداء فكذا بقية العقود ويلحق بذلك الألعاب المختلفة فتحرم إقامة المباريات الرياضية أو الثقافية وقت النداء لصلاة الجمعة.
روى الإمام البخاري عن عطاء أحد أئمة التابعين أنه قال: [تحرم الصناعات كلها
- أي وقت النداء للجمعة -] .
وذكر الحافظ ابن حجر رواية أخرى عن عطاء بلفظ آخر: [إذا نودي بالأذان حرم اللهو والبيع والصناعات كلها والرقاد وأن يأتي الرجل أهله وأن يكتب كتاباً] .
وقال الحافظ: [وبهذا قال الجمهور أيضاً] فتح الباري 3/41.
ويستمر تحريم هذه العقود حتى انقضاء صلاة الجمعة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: [لا يصلح البيع يوم الجمعة حين ينادي للصلاة فإذا قضيت الصلاة فبع واشتر] ذكره الحافظ في فتح الباري 3/41.
حكم تعدد صلاة الجمعة في البلدة الواحدة
يقول السائل: تقام الجمعة في بلدتهم في مسجدين كبيرين وقد بني حديثاً مسجد ثالث لا يبعد كثيراً عن أحد المسجدين والذي يتسع لأعداد كبيرة من المصلين ويرغب المصلون في إقامة صلاة الجمعة في المسجد الجديد فما الحكم في ذلك؟(4/290)
الجواب: إن صلاة الجمعة بمثابة مؤتمر أسبوعي يحضره المسلمون في البلد عامة ولها أحكامها الخاصة بها ولا يصح إلحاقها بالصلوات الخمس فيقال بجواز تعدد الجمعة كما تتعدد الجماعة في الصلوات الخمس.
بل الصحيح من أقوال أهل العلم أن صلاة الجمعة يجوز التعدد فيها إذا دعت الحاجة إلى ذلك فقط كأن يضيق المسجد بأهل البلدة فيبنى مسجد آخر فتقام فيه الجمعة أو يكون هناك حرج في وصول المصلين إلى المسجد الذي تقام فيه صلاة الجمعة فتقام جمعة أخرى أو يكون البلد واسعاً مترامي الأطراف وسكانه كثيرون فتتعدد الجمعة لذلك وهذا مذهب جمهور أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم من الفقهاء.
قال الإمام النووي: [والصحيح هو الجواز في موضعين أو أكثر بحسب الحاجة وعسر الاجتماع به] المجموع 4/586.
ومما يدل على ذلك أنه كان في المدينة في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - عدة مساجد تقام فيها الصلوات الخمس كالمسجد الذي كان معاذ بن جبل يصلي فيه بقومه صلاة العشاء بعد أن يصليها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن ما كانت تقام الجمعة إلا في مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهذا يدل على أن تعدد الجمعة بدون الحاجة خلاف السنة.
وقد ذكر الشيخ تقي الدين السبكي في رسالته المسماة " الاعتصام بالواحد الأحد من إقامة جمعتين في بلد " أقوال أهل العلم في المسألة وأدلتهم ورجح القول بعدم جواز تعدد الجمعة إلا للحاجة ثم قال: [وأما تخيل أن ذلك - أي تعدد الجمعة - يجوز في كل المساجد عند عدم الحاجة فهذا من المنكر بالضرورة في دين الإسلام] فتاوى السبكي 1/180.
وقد جاء عن عمر بن الخطاب ما يؤيد منع تعدد الجمعة فقد روى ابن عساكر عن عطاء قال: [لما افتتح عمر بن الخطاب البلدان كتب إلى أبي موسى الأشعري وهو على البصرة يأمره أن يتخذ للجماعة مسجداً ويتخذ للقبائل مسجداً فإذا كان يوم الجمعة انضموا إلى مسجد الجماعة فشهدوا الجمعة] .(4/291)
وكتب عمر إلى سعد بن أبي وقاص وهو على الكوفة بمثل ذلك.
وكتب عمر أيضاً إلى عمرو بن العاص وهو على مصر بمثل ذلك.
وكان الصحابة رضي الله عنهم يأتون إلى الجمعة من مسافة بعيدة فقد كان عبد الله بن رواحة يأتي الجمعة من مسافة ميلين وكان أبو هريرة يأتي الجمعة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذي الحليفة " آبار علي ".
وذكر الحافظ ابن حجر: [قال الأثرم للإمام أحمد بن حنبل: أجُمِعَ جمعتان في مصر؟ قال لا أعلم أحداً فعله] انظر إصلاح المساجد ص 52-54.
وقد بين الإمام السبكي أن قول من قال من العلماء بجواز تعدد الجمعة لا يحمل على تعددها مطلقاً وإنما يكون ذلك للحاجة إلى التعدد فقال: [وينبغي أن يفهم أن مذهبه هذا عند الحاجة لأنه إنما تكلم في ذلك فيتقيد بحسب الحاجة ولا يحمل على إجازة تعددها مطلقاً في كل المساجد فتصير كالصلوات الخمس حتى لا يبقى للجمعة خصوصية فإن هذا معلوم بطلانه بالضرورة لاستمرار عمل الناس عليه من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليوم] فتاوى السبكي 1/179.
وقال الشيخ القاسمي: [فالذي أراه في الخروج من عهدة هذه الحالة أن يترك التجميع في كل مسجد صغير - سواء أكان بين البيوت أو في الشوارع - وفي كل مسجد كبير أيضاً يستغنى عنه بغيره وأن ينضم كل أهل محلة كبرى إلى جامعها الأكبر ولتفرض كل محلة كبرى كقرية على حدة فيستغنى بذلك عن كثير من زوائد المساجد ويظهر الشعار في تلك الجوامع الجامعة فيخرج من عهدة التعدد] إصلاح المساجد من البدع والعوائد ص 62.
وخلاصة الأمر أنه يجوز تعدد الجمعة لحاجة وهذا يوافق مقاصد الشرع الحنيف قال تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) سورة الحج الآية 78.
والحاجة كالضرورة تقدر بقدرها فلا ينبغي تعدد الجمعة بدون حاجة لما في ذلك من تفويت مقاصد الجمعة وحكمة مشروعيتها.(4/292)
الجنائز(4/293)
حكم رفع اليدين في صلاة الجنازة
يقول السائل: هل يرفع المصلي في صلاة الجنازة يديه مع كل تكبيرة أم لا؟ وما قولكم فيما يفعله إمام المسجد عندهم حيث إنه ينكر على من يرفع يديه؟
الجواب: لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث صحيح في رفع اليدين مع كل تكبيرة من تكبيرات صلاة الجنازة سوى التكبيرة الأولى فلذلك قالت طائفة من أهل العلم ترفع الأيدي مع التكبيرة الأولى فقط وهذا مذهب أبي حنيفة في ظاهر الرواية عنه وهو اختيار ابن حزم الظاهري وهوقول الشوكاني ونقل عن جماعة من السلف كابن عباس وابن مسعود وسفيان الثوري وغيرهم.
وقد روى الترمذي بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر على جنازة فرفع يديه في أول تكبيرة ووضع اليمنى على اليسرى) ورواه أيضاً الدارقطني والبيهقي وهو حديث ضعيف.
وقال الشيخ الألباني: [يشهد له الحديث الآتي وهو: (عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه على الجنازة في أول تكبيرة ثم لا يعود) ] أحكام الجنائز
ص 116.(4/295)
وقال ابن حزم: [وأما رفع الأيدي فإنه لم يأت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في رفع شيء من تكبير الجنازة إلا في أول تكبيرة فقط فلا يجوز فعل ذلك لأنه عمل في الصلاة لم يأت به نص] المحلى 3/351.
وقال الشوكاني: [والحاصل أنه لم يثبت في غير التكبيرة الأولى شيء يصلح للاحتجاج به عن النبي - صلى الله عليه وسلم -] نيل الأوطار 4/71.
وقال الشيخ الألباني: [ولم نجد في السنة ما يدل على مشروعية الرفع في غير التكبيرة الأولى فلا نرى مشروعية ذلك وهو مذهب الحنفية وغيرهم واختاره الشوكاني وغيره من المحققين وإليه ذهب ابن حزم] أحكام الجنائز ص 116.
وقد عارض ما تقدم آثار وردت عن بعض الصحابة كابن عمر تنص على رفع الأيدي مع كل تكبيرة وهي مستند العلماء القائلين بذلك إلا أنه قد ورد عنه خلافه فتعارضت.
ولا ينبغي لإمام المسجد أن ينكر على المصلين الذين يرفعون أيديهم مع كل تكبيرة من تكبيرات الجنازة لأن هؤلاء المصلين يقلدون العلماء القائلين بذلك كالشافعي وأحمد وغيرهما.
والمسألة خلافية ولا ينبغي الإنكار في مسائل الخلاف ما دام أن المخالف من العلماء أهل الاجتهاد وله أدلته وليس في المسألة نص عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى إمام المسجد إن كان لا يأخذ برفع اليدين أن يبين قوله للناس وأدلته فقط ولا ينكر عليهم مخالفته فإن الأمر فيه سعة.
قال الإمام سفيان الثوري: [إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه] .
وقال الإمام أحمد: [لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس عل مذهب.] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [. وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ فلا ينكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً] الآداب الشرعية 1/169، دراسات في الاختلافات الفقهية 103/104.(4/296)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً: [مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه، وإذا كان في المسألة قولان فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين] مجموع فتاوى شيخ الإسلام 20/207.
اتباع النساء للجنائز غير مشروع
يقول السائل: ما حكم اتباع النساء للجنائز؟
الجواب: لا ينبغي للنساء اتباع الجنازة خاصة في زماننا هذا نظراً لفساد أحوال كثير من النساء والرجال على حد سواء.
وقد قال كثير من أهل العلم بكراهة خروج النساء في الجنازة ونقله الإمام النووي عن جماهير أهل العلم ومنهم جماعة من الصحابة كابن مسعود وابن عمر وأبي أمامة وعائشة وغيرهم. المجموع 5/278.
وقد نص فقهاء الحنفية على أن خروجهن مكروه تحريماً.
قال صاحب الدر المختار: [ويكره خروجهن تحريماً] .
وقال الشيخ ابن عابدين معلقاً على ذلك: [. ولكن يعضده المعنى الحادث باختلاف الزمان الذي أشارت إليه عائشة بقولها: لو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رأى ما أحدثت النساء بعده لمنعهن كما منعت نساء بني إسرائيل وهذا في نساء زمانها فما ظنك بنساء زماننا] حاشية ابن عابدين 2/232.
وقد نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - النساء عن اتباع الجنائز فقد ورد في الحديث عن أم عطية رضي الله عنها قالت: [نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا] رواه البخاري ومسلم
وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى أن النهي في الحديث نهي تنزيه قال القرطبي:(4/297)
[ظاهر سياق حديث أم عطية أن النهي نهي تنزيه وبه قال جمهور أهل العلم] فتح الباري 3/378.
والذي تطمئن إليه نفسي هو منع النساء من اتباع الجنائز في هذا الزمان نظراً للمفاسد المرافقة لخروجهن من التبرج واختلاط الرجال بالنساء ولِما تقوم به بعض النسوة من مخالفات شرعية أخرى كالزغاريد المنكرة خلف الجنازة أو الصياح والنواح وغير ذلك من المنكرات فلذلك ينبغي منعهن.
قال الشيخ ابن عابدين: [وأما ما في الصحيحين عن أم عطية: (نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا) . أي أنه نهي تنزيه فينبغي أن يختص بذلك الزمن حيث كان يباح لهن الخروج للمساجد والأعياد] حاشية ابن عابدين 2/232.
وإنه مما يؤسف له أن كثيراً مما يفعله المشيعون للجنازة في بلادنا مخالف للسنة تماماً فترى المشيعين في الجنازة يهتفون ويصيحون ويرفعون أصواتهم بالتكبير والهتافات المخالفة للشرع بل إن بعض الجنائز تتحول إلى ما يشبه المظاهرات وهذا كله ليس مشروعاً بحال من الأحوال مهما كان حال الميت فإن من السنة أن يسير المشيعون للجنازة بصمت وسكوت ويتفكرون في الموت لعلهم يتعظون ويعتبرون.
فقد جاء في الحديث عن البراء - رضي الله عنه - قال: (خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة فانتهينا إلى القبر فجلس كأنّ على رؤوسنا الطير) رواه ابن ماجة وصححه الشيخ الألباني. صحيح سنن ابن ماجة 1/259.
وقد كره العلماء أن يتكلم أحد في الجنازة ولا بقول القائل: [استغفروا لأخيكم] فقد سمع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رجلاً في جنازة يصيح ويقول:
[استغفروا لأخيكم. فقال: ابن عمر: لا غفر الله لك] .
قال الإمام النووي: [يستحب له - أي الماشي مع الجنازة - أن يكون(4/298)
مشتغلاً بذكر الله تعالى والفكر فيما يلقاه وما يكون مصيره وحاصل ما كان فيه وأن هذا آخر الدنيا ومصير أهلها وليحذر كل الحذر من الحديث بما لا فائدة فيه فإن هذا وقت فكر وذكر يقبح فيه الغفلة واللهو والاشتغال بالحديث الفارغ فإن الكلام بما لا فائدة فيه منهي عنه في جميع الأحوال فكيف في هذا الحال.
واعلم أن الصواب المختار ما كان عليه السلف رضوان الله عليهم السكوت في حال السير مع الجنازة فلا يرفع صوتاً بقراءة ولا ذكر ولا غير ذلك والحكمة فيه ظاهرة وهي أنه أسكن لخاطره وأجمع لفكره فيما يتعلق بالجنازة وهو المطلوب في هذا الحال.
فهذا هو الحق ولا تغترنّ بكثرة من يخالفه فقد قال أبو علي الفضيل بن عياض ما معناه: [الزم طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين] الأذكار ص 136.
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار) رواه أبو داود وقال الشيخ الألباني: له شواهد تقويه.
وقد كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يكرهون رفع الصوت عند الجنائز. رواه البيهقي بسند رجاله ثقات قاله الشيخ الألباني. أحكام الجنائز 70-71.
تلقين الميت بعد دفنه بدعة
يقول السائل: ما حكم ما يفعله كثير من الناس عند الانتهاء من دفن الميت حيث يقوم أحدهم عند رأسه فيلقنه بقوله: (يا عبد الله وابن أَمَتِهِ إذا جاءك المَلَكَان الموكلان بك وبأمثالك من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فلا يزعجاك ولا يرعباك واعلم أنهما خلق من خلق الله كما أنت خلق من خلق الله فإذا سألاك ما ربك وما ملتك وما دينك وما منهاجك وما الذي عشت ومت عليه؟ فقل لهما بلسان طلق لبق من غير تلجلج ولا وجل ولا خوف منهما(4/299)
ولا جزع فقل لهما الله ربي حقاً ومحمدٌ نبيي صدقاً وإبراهيم الخليل أبي وملته ملتي والكعبة قبلتي وعشت ومت على قول لا إله إلا الله محمد رسول الله. فإذا عادا وسألاك ثانية ماذا تقول في الرجل المبعوث فيكم؟ فقل لهما نبينا وشفيعنا ورسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم -. الخ) ؟
الجواب: هذا التلقين مبتدع وليس له سند من السنة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد نصّ على أنه بدعة طائفة من أهل العلم.
قال الإمام العز بن عبد السلام: [لم يصح في التلقين شيء وهو بدعة وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) محمول على من دنا موته ويئس من حياته] فتاوى العز بن عبد السلام ص427.
ونقل عن الإمام مالك القول بكراهة التلقين بعد الموت. انظر كفاية الطالب الرباني نقلاً عن الآيات البينات للألوسي ص63-64.
وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [فأما التلقين بعد الدفن فلم أجد فيه عن أحمد شيئاً ولا أعلم فيه للأئمة قولاً سوى ما رواه الأثرم قال قلت لأبي عبد الله: فهذا الذي يصنعون إذا دفن الميت، يقف الرجل ويقول: يا فلان ابن فلان اذكر ما فارقت عليه شهادة أن لا إله إلا الله؟
فقال: ما رأيت أحداً فعل هذا إلا أهل الشام حين مات أبو المغيرة جاء إنسان فقال ذلك. قال: وكان أبو المغيرة يروي فيه عن أبي بكر بن أبي مريم عن أشياخهم أنهم كانوا يفعلونه.] المغني 2/377.
وقال الشيخ المرداوي بعد أن ذكر أن مذهب الحنابلة إثبات التلقين بعد الدفن:
[. والنفس تميل إلى عدمه.] الإنصاف 2/549.
وقال شمس الحق العظيم آبادي: [والتلقين بعد الموت قد جزم كثير أنه حادث] عون المعبود 8/268.
وقال الشيخ ابن القيم: [ولم يكن يجلس - أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ عند القبر ولا يلقن الميت كما يفعله الناس اليوم] زاد المعاد 1/522.(4/300)
وأما ما يروى في الحديث عن جابر بن سعيد الأزدي قال: (دخلت على أبي أمامة وهو في النزع فقال لي: يا أبا سعيد إذا أنا مت فاصنعوا بي كما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصنع بموتانا فإنه قال: إذا مات الرجل منكم فدفنتموه فليقم أحدكم عند رأسه فليقل: يا فلان ابن فلانة! فإنه يستوي قاعداً فليقل: يا فلان ابن فلانة فإنه سيقول أرشدني رحمك الله فليقل: اذكر ما خرجت عليه من دار الدنيا شهادة أن لا إله الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور فإن منكراً ونكيراً يأخذ كل واحد منهما بيد صاحبه ويقول له: ما نصنع عند رجل لقن حجته؟ فيكون الله حجيجهما دونه)
قال الشيخ الألباني: منكر. أخرجه القاضي الخلعي في الفوائد 2/55.
قلت - أي الألباني -: [وهذا إسناد ضعيف جداً لم أعرف أحداً منهم غير عتبة بن السكن. قال الدارقطني: متروك الحديث. وقال البيهقي: واهٍ منسوب إلى الوضع.
والحديث أورده الهيثمي. وقال: رواه الطبراني في الكبير وفي إسناده جماعة لم أعرفهم] ثم ذكر الشيخ الألباني أن الأئمة النووي وابن الصلاح والحافظ العراقي قد ضعفوا الحديث. السلسلة الضعيفة 2/64-65.
وقال الشيخ ابن القيم بعد أن ساق الحديث: [فهذا حديث لا يصح رفعه] زاد المعاد 1/523.
ونقل ابن علان قول الحافظ ابن حجر بعد تخريج حديث أبي أمامة: [هذا حديث غريب وسند الحديثين من الطريقين ضعيف جداً] الفتوحات الربانية على الأذكار النووية 4/196.
وقال الصنعاني: [ويتحصل من كلام أئمة التحقيق أنه حديث ضعيف والعمل به بدعة ولا يغتر بكثرة من يفعله] سبل السلام 2/234.
وقد احتج المثبتون للتلقين بما جاء في الحديث عن أبي سعيد(4/301)
الخدري - رضي الله عنه -
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) رواه مسلم. انظر صحيح مسلم بشرح النووي 2/519.
وهذا الحديث ليس فيه التلقين بعد الموت وبعد الدفن وإنما هو في التلقين عند الاحتضار.
قال الإمام النووي: [قوله: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) معناه من حضره الموت والمراد ذكروه لا إله إلا الله لتكون آخر كلامه كما جاء في الحديث: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) والأمر بهذا التلقين أمر ندب وأجمع العلماء على هذا التلقين] شرح صحيح مسلم 2/512.
وسبق كلام العز بن عبد السلام أن هذا الحديث محمول على من دنا موته ويئس من حياته.
وقال صاحب الهداية الحنفي: [ولقن الشهادتين لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله) والمراد الذي قرب من موته] الهداية 2/68.
ومما يؤيد تفسير الميت بالمحتضر كما ذهب إليه كثير من أهل العلم ما ورد في الحديث عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) رواه أبو داود والحاكم وقال: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي وحسنه الشيخ الألباني.
ومما يؤيد ذلك أيضاً ما جاء في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله فإنه من كان آخر كلمته لا إله إلا الله عند الموت دخل الجنة يوماً من الدهر وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه) رواه ابن حبان والبزار وقال محقق صحيح ابن حبان: حديث صحيح. صحيح ابن حبان 7/272
والمشروع عند الانتهاء من دفن الميت هو الاستغفار للميت والدعاء له قال الشيخ ابن القيم: [وكان - أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من دفن ميت قام على قبره هو وأصحابه وسأل له التثبيت وأمرهم أن يسألوا له التثبيت] زاد المعاد 1/522.(4/302)
ويدل على ذلك ما ورد في الحديث عن عثمان - رضي الله عنه - قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل) رواه أبو داود والبيهقي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي وقال الإمام النووي: إسناده جيد. وصححه الشيخ الألباني أيضاً.
حكم الدفن ليلاً
يقول السائل: هل يجوز دفن الميت في الليل أم ينتظر به النهار؟
الجواب: قال أكثر أهل العلم يجوز دفن الميت ليلاً ولا كراهة في ذلك ولكن الدفن في النهار أفضل.
قال الحافظ ابن عبد البر: [وفي هذا الحديث إباحة الدفن بالليل وعلى إجازته أكثر العلماء وجماعة الفقهاء لأن الليل ليس فيه وقت تكره فيه الصلاة] الاستذكار 8/290
وقال الإمام البخاري في صحيحه: [باب الدفن بالليل ودفن أبي بكر - رضي الله عنه - ليلاً] .
ثم روى البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على رجل بعدما دفن بليلة. قام هو وأصحابه وكان سأل عنه فقال: من هذا؟ فقالوا: فلان دفن البارحة فصلوا عليه) صحيح البخاري مع الفتح 3/451.
ومما يدل على جواز الدفن بالليل ما جاء في الحديث عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بقبر دفن ليلاً فقال: (متى دفن هذا؟ فقالوا: البارحة. قال: أفلا آذنتموني. قالوا: دفناه في ظلمة الليل فكرهنا أن نوقظك. فصلى عليه) رواه البخاري.
وعن جابر قال: (رأى ناسٌ ناراً في المقبرة فأتوها فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(4/303)
في القبر وإذا هو يقول: ناولوني صاحبكم. وإذا هو الرجل الذي كان يرفع صوته بالذكر) .
رواه أبو داود بإسناد على شرط البخاري ومسلم كما قال الإمام النووي. المجموع 5/302.
وروى الإمام البخاري عن عائشة رضي الله عنها: (أن أبا بكر الصديق لم يتوف حتى أمسى من ليلة الثلاثاء ودفن قبل أن يصبح) صحيح البخاري 3/297.
وهذا هو الحديث الذي ذكره الإمام البخاري معلقاً في ترجمة الباب السابق.
وأما ما جاء عن جابر - رضي الله عنه -: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب يوماً فذكر رجلاً من أصحابه قبض وكفن في غير طائل وقبر ليلاً فزجر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقبر الرجل بالليل حتى يصلي عليه إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه) رواه مسلم.
فقد أجاب عنه العلماء بأجوبة قوية منها ما قاله الإمام النووي: [وأما النهي عن القبر ليلاً حتى يصلي عليه فقيل سببه أن الدفن نهاراً يحضره كثيرون من الناس ويصلون عليه ولا يحضره في الليل إلا أفراد.
وقيل لأنهم كانوا يفعلون ذلك بالليل لرداءة الكفن فلا يبين في الليل ويؤيده أول الحديث وآخره.] شرح النووي على صحيح مسلم 3/12.
وقال العلامة ابن القيم: [قال الإمام أحمد: لا بأس بذلك - أي الدفن ليلاً -
وقال: أبو بكر دفن ليلاً وعليٌ دفن فاطمة ليلاً وحديث عائشة: (سمعنا صوت المساحي من آخر الليل في دفن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وممن دفن ليلاً عثمان وعائشة وابن مسعود ورخص فيه عقبة بن عامر وابن المسيب وعطاء والثوري والشافعي واسحاق وكرهه الحسن وأحمد في إحدى الروايتين.(4/304)
وقد روى مسلم في صحيحه:. فذكر حديث جابر السابق] .
ثم قال ابن القيم: [والآثار في جواز الدفن بالليل أكثر.
وفي الترمذي من حديث الحجاج بن أرطأة عن عطاء عن ابن عباس: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل قبراً ليلاً فأسرج له بسراج فأخذه من قبل القبلة وقال: رحمك الله إن كنت لأواهاً تلاءً القرآن وكبر عليه أربعاً) .
قال: وفي الباب عن جابر ويزيد بن ثابت وهو أخو زيد بن ثابت أكبر منه.
قال: وحديث ابن عباس حديث حسن.
قال: ورخص أكثر أهل العلم في الدفن بالليل وقد نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - في قبر ذي البجادين ليلاً.
وفي صحيح البخاري: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل عن قبر رجل، فقال: من هذا؟
قالوا: فلان، دفن البارحة فصلى عليه) . وهذه الآثار أكثر واشهر من حديث مسلم.
وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: (مات إنسان كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوده فمات بالليل فدفنوه ليلاً فلما أصبح أخبروه. فقال: ما منعكم أن تعلموني؟
فقالوا: كان الليل وكرهنا - كانت ظلمة - أن نشق عليك فأتى قبره فصلى عليه) .
قيل: وحديث النهي محمول على النزاهة والتأديب.
والذي ينبغي أن يقال في ذلك - والله أعلم -: أنه متى كان الدفن ليلاً لا يفوت به شيء من حقوق الميت والصلاة عليه فلا بأس به وعليه تدل أحاديث الجواز وإن كان يفوت بذلك حقوقه والصلاة عليه وتمام القيام عليه نهي عن ذلك وعليه يدل الزجر وبالله التوفيق] شرح ابن القيم على سنن أبي داود 8/309.
وقال الحافظ ابن حجر في الجواب عن حديث جابر: [بأن النهي عن(4/305)
الدفن ليلاً كان بسبب تحسين الكفن وقوله: (حتى يصلي عليه) مضبوط بكسر اللام أي النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا سبب آخر يقتضي أنه إن رجي بتأخير الميت إلى الصباح صلاة من ترجى بركته عليه استحب تأخيره وإلا فلا وبه جزم الطحاوي واستدل المُصَنْف - أي الإمام البخاري - للجواز بما ذكره من حديث ابن عباس ولم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - دفنهم إياه بالليل بل أنكر عليهم عدم إعلامهم بأمره وأيد ذلك بما صنع الصحابة بأبي بكر وكان ذلك كالإجماع منهم على الجواز] فتح الباري 3/451.
الاحتفال بذكرى مرور عام على الميت بدعة
يقول السائل: ما قولكم فيما يفعله بعض الناس من إحياء ذكرى مرور عام على وفاة شخص ما بدعوة الأقارب والأصدقاء لإحياء تلك المناسبة بتلاوة آيات من القرآن؟
الجواب: ينبغي أن يعلم أنه ليس من منهج الإسلام تجديد الأحزان وإثارة الأشجان فليس من هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - إحياء ذكرى الميت سواء كان ذلك في ذكرى الأربعين أو مرور سنة أو مرور سنتين أو مرور سنين على وفاته وليس من منهج الإسلام إقامة حفلات التأبين وإلقاء الخطب والكلمات في مدح الأموات وكل ذلك من البدع والمنكرات.
يقول الله سبحانه وتعالى: (أم لَهُمْ شرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) سورة الشورى الآية 21.
وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة) رواه مسلم.
وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (. إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.(4/306)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ) رواه البخاري ومسلم.
وجاء في رواية أخرى أنه عليه الصلاة والسلام قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ) رواه مسلم.
وإحياء ذكرى الأموات بدعوة الأصدقاء والأقارب وتلاوة القرآن واستئجار القراء وتكرار التعازي كل ذلك ليس له سند من الشرع وما فعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا علمه للصحابة وما فعلوه ولا نقل عن التابعين وقد نص الفقهاء على أنه لا يجوز تكرار التعزية لما في ذلك من تجديد الأحزان بل إن الإمام الشافعي قال: [وأكره المآتم وهي الجماعة وإن لم يكن لهم بكاء فإن ذلك يجدد الحزن ويكلف المؤونة مع ما مضى فيه من الأثر] الأم 1/279.
ونقل الشيخ ابن عابدين عن الفتاوى التتارخانية: [لا ينبغي لمن عزى مرة أن يعزي مرة أخرى رواه الحسن عن أبي حنيفة] .
وقد ذكر هذا الكلام عند قول صاحب الدر المختار: [وتكره التعزية ثانياً] حاشية ابن عابدين 2/241.
وقال الإمام النووي: [قال أصحابنا وتكره التعزية بعد الثلاثة لأن المقصود فيها تسكين قلب المصاب والغالب سكونه بعد الثلاثة فلا يجدد له الحزن] المجموع 5/306.
وأخيراً فينبغي على المسلم أن يلتزم بهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقتدي بالصحابة والتابعين وسلف الأمة قال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) سورة الأنعام الآية 90.
ولا ينخدعن أحد بما اعتاده كثير من الناس من فعل هذه البدع وشيوعها ومشاركة بعض المشايخ فيها فلا حجة لهم في ذلك والحجة في الاقتداء بصاحب الشرع الشريف - صلى الله عليه وسلم - فإن الخير كل الخير في الاتباع وإن الشر كل الشر في الابتداع.(4/307)
حكم نبش القبور
يقول السائل: في أي الأحوال يجوز نبش القبور ونقلها من مكانها؟
الجواب: إن حرمة المسلم ميتاً كحرمته حياً فلا يجوز الاعتداء عليه وهو ميت في قبره كما لا يجوز الاعتداء عليه حال حياته لما ورد في الحديث أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن كسر عظم المؤمن ميتاً مثل كسره حياً) رواه أبو داود وابن ماجة واحمد وغيرهم. وهو حديث صحيح كما قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 3/214.
وجاء في رواية أخرى عند ابن ماجة: (كسر عظم الميت ككسر عظم الحيّ في
الإثم) سنن ابن ماجة 1/516.
وقد قرر الفقهاء أنه لا يجوز نبش قبر الميت إلا لعذر شرعي وغرض صحيح فالأصل هو عدم جواز نبش القبور إلا في حالاتٍ خاصة وقد ذكر كثير من الفقهاء تفصيلاً للحالات التي يجوز فيها نبش القبور فمنها:
إذا دفن الميت في أرض مغصوبة كمن دفن في أرضٍ بغير إذن مالكها وكذلك إذا كان الكفن مغصوباً أو وقع في القبر مال لغير الميت قال الشيخ ابن قدامة المقدسي:
[وإن وقع في القبر ما له قيمة نبش وأخرج] .
قال أحمد: [إذا نسي الحفّار مسحاته في القبر جاز أن ينبش عنها.
وقال - أي أحمد - في الشيء يسقط في القبر مثل الفأس والدراهم ينبش قال: إذا كان له قيمة يعني ينبش.] المغني 2/412.
وقال الشوكاني رداً على صاحب حدائق الأزهار في قوله: [ولا ينبش لغصب قبر ولا كفن] .
أقول: [قد علم بالضرورة الدينية عصمة مال المسلم وأنه لا يخرج عن ملكه إلا بوجه مسوغ فمن زعم أن الدفن من مسوغات ذلك فعليه الدليل ولا دليل.(4/308)
وقد تقدم أنه يشق بطنه لاستخرج ماله في نفسه لكون ذلك إضاعة مال فكيف لا ينبش للمال الذي اغتصبه وهو الكفن أو الأرض التي دفن فيها مع كونه إتلاف لمال محترم ومعصوم بعصمة الإسلام.
وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من اغتصب شبراً من الأرض طوقه الله من سبع أرضين) فكيف بمن اغتصب قبراً هو عدة أشبار.
وهكذا ينبش إذا ترك بغير غسل لأن الغسل واجب شرعي لا يسقطه الدفن إلا بدليل ولا دليل هذا إذا كان يظن أن جسمه لم يتفسخ وأن غسله ممكن وهكذا التكفين لا يسقطه الدفن إلا بدليل ولا دليل لأنه واجب شرعي لا يسقط إلا بمسقط شرعي]
السيل الجرار على حدائق الأزهار 1/369.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: [لا ينبش الميت من قبره إلا لحاجة مثل أن يكون المدفن الأول فيه ما يؤذي الميت فينقل إلى غيره كما نقل بعض الصحابة في مثل ذلك] مجموع الفتاوى 24/303.
وقد ذكر الفقهاء حالات كثيرة يجوز فيها نبش القبور فصلها الخطيب الشربيني في مغني المحتاج 2/58-60، وإن كنا لا نسلم بجميع ما ذكره من الأعذار التي تبيح نبش القبور.
وقد أجاز بعض الفقهاء نبش القبر من أجل توسيع المسجد الجامع أو دفن ميت آخر معه عند الضيق فيجوز نبشه ودفنه في قبر لوحده.
قال الإمام البخاري في صحيحه: [باب هل يخرج من القبر واللحد] ثم ذكر بسنده حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (لما حضر أحدٌ دعاني أبي من الليل فقال: ما أراني إلا مقتولاً في أول من يقتل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وإني لا أترك بعدي أعزَّ عليَّ منك غير نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن عليَّ ديناً فاقض واستوص بأخوتك خيراً فأصبحنا فكان أول قتيل ودفن معه آخر في القبر ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع الآخر فاستخرجته بعد ستة أشهر فإذا هو كيوم وضعته غير هينة في أذنه] .(4/309)
وقد أشار الحافظ ابن حجر إلى أن الإمام البخاري يرى جواز إخراج الميت من قبره لغرض صحيح كما إذا كان في نبشه مصلحة تتعلق بالميت من زيادة البركة له أو إخراجه لمصلحة تتعلق بالحيِّ لأنه لا ضرر على الميت في دفن ميت آخر معه وقد بين جابر ذلك بقوله: (فلم تطب نفسي) . انظر فتح الباري 3/457-458.
ومما يستأنس به لجواز نبش القبور لغرض صحيح ما رواه سعيد بن منصور في سننه عن شريح بن عبيد الحضرمي أن رجالاً قبروا صاحباً لهم لم يغسلوه ولم يجدوا له كفناً ثم لقوا معاذ بن جبل فأخبروه فأمرهم أن يخرجوه فأخرجوه من قبره ثم غسل وكفن وحنط ثم صلى عليه. نيل الأوطار 4/128.
ومما يدل على جواز نبش القبور الدارسة لبناء المسجد وتوسيعه ما رواه الإمام البخاري في صحيحه في قصة بناء النبي - صلى الله عليه وسلم - مسجده لما هاجر إلى المدينة وفيه:
(وأنه أمر ببناء المسجد فأرسل إلى ملأ بني النجار فقال: يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا. قالوا: والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله تعالى.
فقال انس: فكان فيه ما أقول لكم: قبور المشركين وفيه خرب وفيه نخل فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبور المشركين فنبشت ثم بالخرب فسويت وبالنخل فقطع.) صحيح البخاري مع الفتح 2/72.
وبعد كل هذا أقول إنه ينبغي التحرز والاحتياط في مسألة نبش القبور لأن الأصل عدم النبش فينبغي دراسة الحالات التي يسأل فيها عن نبش القبر دراسة متأنية ودقيقة لأن كثيراً من الجهات تتساهل في هذا الأمر تساهلاً كبيراً فلا تراعي حرمة الأموات فتتعدى على المقابر من أجل توسيع الطرقات أو من أجل التنظيم العمراني مع عدم الحاجة الحقيقية إلى ذلك.
وقد ذكر الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله ضوابط لا بد من مراعاتها إذا أجزنا نبش القبور وهي:(4/310)
1. مرور زمن طويل على القبر بحيث يعرف أن الميت قد بلي وصار تراباً ويعرف ذلك بالخبرة فإن البلاد والأرض تختلف طبيعتها.
2. إذا كان الميت يتأذى بوجوده في هذا القبر كما إذا صار موضع القبر رديئاً لوجود مياه أو قذارة تنز عليه أو نحو ذلك.
3. إذا تعلق حق لآدمي بالقبر أو بالميت نفسه.
4. أن تتعلق بالمقبرة مصلحة عامة ضرورية للمسلمين لا يتم تحقيقها إلا بأخذ أرض المقبرة أو جزء منها ونقل ما فيها من رفات.
وذلك أن من القواعد الشرعية العامة أن المصلحة الكلية مقدمة على المصلحة الجزئية وأن الضرر الخاص يتحمل لدفع الضرر العام فإذا كان هذا يطبق على الحي حتى إن الشرع ليجيز نزع ملكية أرضه وداره وإخراجه من مسكنه من أجل حفر نهر أو إنشاء طريق أو إقامة مسجد أو توسيعه أو نحو ذلك فأولى أن يطبق على الميت الذي لو كان حياً ما رضي أن نؤذي إخوانه لأجله.
وأخيراً لا بد من التذكير أنه إذا أردنا نبش مقبرة أو بعض مقبرة أن يحرص العاملون في الحفر على عدم كسر عظام الأموات وأن يقوموا بجمع تلك العظام ونقلها بكل احترام إلى مكان آخر تدفن فيه بمعرفة أهل الرأي والدين. انظر فتاوى معاصرة 1/730-733.(4/311)
الصيام(4/313)
الحامل والمرضع تقضيان ما أفطرتا من رمضان فقط
يقول السائل: ما المطلوب من المرأة الحامل والمرضع إذا أفطرتا في رمضان؟
الجواب: اختلف أهل العلم في هذه المسألة اختلافاً كبيراً حتى قال الإمام ابن العربي المالكي: [وأما الحامل والمرضع فالاختلاف فيهما كثير ومتباين] عارضة الأحوذي 3/189.
ثم ذكر أربعة أقوال لأهل العلم في المسألة وهي:
1. إن على الحامل والمرضع الفدية فقط ولا قضاء عليهما وهذا منقول عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما.
2. عليهما القضاء فقط ولا فدية وهو قول جماعة من أهل العلم سأذكرهم فيما بعد.
3. عليهما القضاء والفدية وهو قول مجاهد والشافعي في أحد قوليه وأحمد.
4. على المرضع القضاء والفدية وعلى الحامل القضاء فقط وهو قول مالك وقول الشافعي الآخر.
والذي أختاره من هذه الأقوال وأرجحه هو القول الثاني بأن على(4/315)
الحامل والمرضع القضاء فقط ولا فدية عليهما وبهذا قال: الحسن البصري وإبراهيم النخعي وعطاء والزهري والضحاك والأوزاعي وربيعة والثوري وأبو حنيفة وأصحابه والليث بن سعد والطبري وأبو ثور وأبو عبيد وغيرهم. انظر الاستذكار لابن عبد البر 10/222.
وقال ابن المنذر بعد أن ذكر أقوال العلماء في المسألة: [وبقول عطاء أقول] .
قال الإمام البخاري في صحيحه: [وقال الحسن وإبراهيم في المرضع والحامل إذا خافتا على أنفسهما أو ولدهما تفطران ثم تقضيان] .
وعقب الحافظ ابن حجر على ذلك بقوله: [فأما أثر الحسن فوصله عبد بن حميد عن طريق يونس بن حميد عن الحسن هو البصري: قال المرضع إذا خافت على ولدها أفطرت وأطعمت والحامل إذا خافت على نفسها أفطرت وقضت وهي بمنزلة المريض. ومن طريق قتادة عن الحسن: تفطران وتقضيان.
وأما قول إبراهيم وهو النخعي فوصله عبد بن حميد أيضاً من طريق أبي معشر عن النخعي قال: الحامل والمرضع إذا خافتا أفطرتا وقضتا صوماً] صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 9/245-246.
وروى عبد الرزاق بإسناده عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: [تفطر الحامل والمرضع في رمضان وتقضيان صياماً ولا تطعمان] .
وروى أيضاً بإسناده عن عكرمة قال: [تفطر الحامل والمرضع في رمضان وتقضيان صياماً ولا طعام عليهما] .
وروى أيضاً بإسناده عن الحسن قال: [تقضيان صياماً بمنزلة المريض يفطر ويقضي والمرضع كذلك] المصنف 4/218.
وهذا القول هو أقوى المذاهب في رأيي من حيث الدليل:
ويدل على ذلك أن الحامل والمرضع حالهما كحال المريض الذي يرجى شفاؤه فتفطران وتقضيان فالحامل لا تبقى حاملاً والمرضع لا تبقى(4/316)
مرضعاً فإذا ولدت الحامل وأرضعت وفطمت ولدها فإنها تقضي ما أفطرت من رمضان تماماً مثل المريض الذي مرض مدة من الزمان ثم كتب الله له الشفاء فإنه يقضي ما أفطره من رمضان.
قال الإمام الأوزاعي: [الحمل والإرضاع عندنا مرض من الأمراض تقضيان ولا إطعام عليهما] الاستذكار 10/222.
ومما يدل على هذا ما ورد في الحديث عن أنس بن مالك - رجل من بني عبد الله بن كعب - رضي الله عنه -: [قال أغارت علينا خيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجدته يتغدى فقال: ادن فكل. فقلت: إني صائم. فقال: ادن أحدثك عن الصوم أو الصيام إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة وعن الحامل والمرضع الصوم أو الصيام. واللهِ لقد قالهما النبي - صلى الله عليه وسلم - كليهما أو أحدهما فيا لهف نفسي أن أكون طعمت من طعام النبي - صلى الله عليه وسلم -] رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال: حديث أنس بن مالك الكعبي حديث حسن. والعمل على هذا عند أهل العلم. عارضة الأحوذي 3/188.
وقال الشيخ الألباني: [حسن صحيح] انظر صحيح سنن الترمذي 1/218.
وظاهر حديث أنس الكعبي أن الحامل والمرضع في حكم المسافر فالمسافر إذا أفطر يقضي فقط.
قال الإمام ابن العربي المالكي: [وظاهر حديث أنس الكعبي يقتضي أن يفطرا ويقضيا خاصة لأن الصوم موضوع عنهما كوضعه عن المسافر إلى عدة أخرى.] عارضة الأحوذي 3/189.
قال أبو بكر الجصاص الحنفي: [ووجه دلالته - أي حديث أنس الكعبي - على ما ذكرنا إخباره عليه الصلاة والسلام بأن وضع الصوم عن الحامل والمرضع هو كوضعه عن المسافر ألا ترى أن وضع الصوم الذي جعله من حكم المسافر هو بعينه جعله من حكم المرضع والحامل لأن عطفهما عليه من غير استئناف ذكر شيء غيره ثبت بذلك أن حكم وضع الصوم عن الحامل والمرضع هو في حكم وضعه عن المسافر لا فرق بينهما ومعلوم أن وضع الصوم إنما هو على جهة إيجاب قضائه بالإفطار(4/317)