فتاوى موقع الإسلام اليوم
خزانة الفتاوى ... خزانة مفتوحة لكل باحث عن فائدة وطالب لعلم، أودع فيها كل ما أجيب عنه من استفتاءاتكم، ما نُشر منها وما لم يُنشر، مصنّفة تصنيفاً فقهياً، ويمكنك الاطلاع على فتاوى ما شئت من الأبواب الفقهية من خلال النقر على عنوان الباب.(1/1)
القرآن الكريم وعلومه(1/2)
هل تنطبق هذه الآية على غزو الفضاء؟
المجيب د. رياض بن محمد المسيميري
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/تفسير آيات أشكلت
التاريخ 1/6/1422
السؤال
أرجو من المفتي أن يفسر هذه الآية الكريمة، وهل هي تنطبق على المركبة الفضائية التي أطلقت إلى كوكب المريخ؟ قال تعالى: ((ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فهي يعرجون؛ لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون)) سور الحجر الآية رقم 14، 15.
الجواب
في هذه الآية الكريمة يصف الله -تبارك وتعالى - شدة معاندة مشركي مكة وأضرابهم، ومنابذتهم للحقّ الذي جاء به الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- من عند ربه - عز وجل- ويبيّن سبحانه إصرارهم على الكفر والطغيان مهما جاءتهم من الآيات الواضحات، والدلائل البينات، والمعجزات الباهرات المؤكدة لصحة الرسالة وصدق الرسول، بحيث لو فُتح لهؤلاء المشركين المعاندين باب من السماء يرونه بأمّ أعينهم، ثم ظلوا يعرجون، أي يصعدون إلى السماء عبر هذا الباب، ولمسوا هذا الأمر العظيم واقعاً محسوساً، لما أنفكوا عن عنادهم ومكابرتهم، زاعمين أنّ هذا ناتج عن سُكرٍ وغشاوة على أبصارهم فأصبحت عاجزة عن التمييز والإبصار، أو هو سحر أصابهم فظهر لهم ما ليس بحق ولا واقع، وهذا -كما ترى- إمعان في الضلال، وإصرار عجيب على البغي والفساد.
وأما قول السائل: هل تنطبق الآية الكريمة على الركبة الفضائية التي أطلقت إلى كوكب المريخ؟ فأقول:(1/3)
سواء وصل الكفار إلى المريخ أو غيره، أو لم يصلوا، فلا ريب أنّ من سبقت عليه الشقاوة الأبدية لا ينتفع بما يتلى على مسامعه من الآيات الشرعية، وما يراه من الآيات الكونية الباهرة. ولقد تيسّر لأهل زماننا عبر هذه المركبات الفضائية وغيرها ما يدفعهم إلى الإيمان بالإله الحق سبحانه، ولكن ما أشبه الليلة البارحة، فلا يزال المكذبون سادرين في غيّهم، ممعنين في ضلالهم وهو مصداق قوله تعالى: ((إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون)) إذ أن أصح الأوجه في تفسير الآية: أنها في الذين قضى الله عليهم بالشقاء الأبدي السرمدي، فما عادت تنفع فيهم موعظة، أو تنجع فيهم تذكرة، نسأل الله العافية والسلامة.(1/4)
الجن والشياطين سلالة من؟
المجيب د. عبد الله السبتي
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/تفسير آيات أشكلت
التاريخ 22/7/1422
السؤال
يقول الله تعالى (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ... الآية
الإنس من بني آدم والجن من نسل من؟ والشياطين من نسل من؟ وماذا قال أهل العلم بقوله تعالى (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)
ظاهر قول الملائكة بأن الأرض كان يقطنها مخلوق مفسد فمن هم؟
الجواب
الذي يظهر والله أعلم أن إبليس هو أبو الجن وذلك هو ظاهر القرآن ولا معارض له مقبول فإن الله سبحانه قد أخبر في كتابه عن إبليس أنه اعترض على السجود بقوله: (خلقتني من نار وخلقته من طين) فهو يتحدث عن خلقه هو لا عن غيره من أب أو جد فأول الجن خلقا هو إبليس وهو أبوهم (أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو) كما أن أول الإنس خلقا هو آدم وهو أبوهم وإبليس قد خلق قبل آدم (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون*والجان خلقناه من قبل من نار السموم)
قال الحسن البصري رحمه الله:"ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط وإنه لأصل الجن كما أن آدم أصل الإنس "قال ابن كثير:" وهذا إسناد صحيح عن الحسن " (1/74) في تفسير قوله (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) .
قال ابن القيم_رحمه الله_:
واسأل أبا الجن اللعين أتعرف الخلاق أم أصبحت ذا نكران
وقال ابن حجر في الفتح (6/369) :" إبليس أبو الجن كلهم "(1/5)
وكل قول غير هذا غير فإنه معارض لظاهر القرآن كما أن مستنده النقل عن بني إسرائيل فمرة ينسب إلى حي من الملائكة وأخرى إلى الجن ولكن اصطفى فكان بين الملائكة ... إلى غير ذلك من الأقوال، والمسألة سمعية لا مجال للرأي فيها، ومثلها لا يستند فيه على الإسرائيليات، وتجدر الإشارة إلى أنها قد وردت مجموعة من الروايات عن المتقدمين في إبليس وكيفية نسبته إلى الجن، وتحديد مهمته، وذكر عبادته، وكيفية انتقاله، إلى السماء وتسميته، وغير ذلك، ومصدر ذلك والله أعلم الإسرائيليات، قال ابن كثير في تفسيره (3/87) :" وقد روي في هذا آثاراً كثيرة عن السلف وغالبها من الإسرائيليات، التي تنقل لينظر فيها، والله أعلم بحال كثير، منها ومنها ما قد يقطع بكذبه لمخالفته الحق الذي بأيدينا، وفي القرآن غنية عن كل ما عداه من الأخبار المتقدمة، لأنها، لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان وقد وضع في هذا أشياء كثيرة ".
وحينئذ فلا داعي للعدول عن ظاهر القرآن.
وبهذا القول يزول الإشكال عن كيفية وجود إبليس بين الملائكة وهو ليس منهم، فالله قد خلقه وجعله بينهم، كما أنه خلق آدم وجعله في الجنة ثم أنزل الجميع إلى الأرض جزاءا وابتلاء، هذا بالنسبة لأبي الجن.
وأما بالنسبة لأبي الشياطين فلا بد من مقدمة لبيان ذلك، فإن لفظ (شيطان) يطلق على إبليس ويطلق على جنس من الجن وهم المرة من ذرية إبليس، ويطلق على المتمرد من الإنس على أوامر ربه.
فأما إطلاقه على إبليس ففي مثل قوله تعالى (فأزلهما الشيطان عنها) وقوله تعالى (فوسوس لهما الشيطان) وقوله تعالى (لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة) وهذا غالب إطلاقه، فالشيطان علم في الغالب على إبليس.
وأما إطلاقه على جنس من الجن ففي مثل قوله تعالى (وما تنزلت به الشياطين) وقوله تعالى (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين) (والشياطين كل بناء وغواص) (وجعلناها رجوما للشياطين) وهو ههنا وصف لهم.(1/6)
وأما إطلاقه على متمردي الإنس ففي مثل قوله تعالى (وكذلك جعلنا لكل نبي عدو شياطين الجن والإنس يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا) وهو هنا وصف لهم أيضا.
وحينئذ فلا يمكن أن يقال: أبو الشياطين هو فلان إذ منهم جن ومنهم بشر، إلا أن يكون الحكم أغلبي، فيقال إبليس أبو الشياطين لأن غالب الشياطين منهم ولأنه مصدر شيطنتهم والله أعلم.
س/ هل يدل قول الملائكة (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) ؟
ج/ ليس في الآية دليل صريح على ذلك؛ إذ ربما عرفت الملائكة أن هذا الخليفة سيفسد في الأرض ويسفك الدماء بوحي من الله إليها كما نقل معناه ابن كثير عن الحسن البصري في تفسير الآية.
وقد ورد في كتب التواريخ وبعض التفاسير: أنهم علموا ذلك بسبب أعمال من تقدم آدم من الجن الذين سكنوا الأرض، وسبق بيان شئ من ذلك السؤال، السابق والله أعلم.(1/7)
كيف نجمع بين هاتين الآيتين
المجيب د. عبد الله بن عمر الدميجي
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
القرآن الكريم وعلومه/تفسير آيات أشكلت
التاريخ 7/6/1424هـ
السؤال
سؤالي هو: في سورة النساء آيتان متتاليتان لم أفهمهما فهما صحيحاً، وسبب ذلك لي خلطاً عجيباً يقول المولى - عز وجل-: "وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً"، "مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً" [النساء:78-79] ، فما الفرق بين الأولى والثانية؟ وهل هذا يعني أن الإنسان مسير؟؟ وكيف نخالف الجبرية إذا؟
وجزاكم الله كل خير.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله - وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد:
فنقول أولاً أحبك الله الذي من أجله أحببتنا، ونسأل المولى -عز وجل- أن يجمعنا وإياكم في الدنيا على محبته وطاعته، وفي الآخرة في دار كرامته، ثم لتعلم أيها الحبيب أن كلام الله تعالى لا اختلاف فيه ولا تناقض، "لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد" [فصلت: 42] ، وما يتوهمه بعض الناس من اختلاف بين الآيات فإنما هو من جهة نظر الناظر وقصور علمه، لا من جهة حقيقة كلام الله تعالى، فهو (مبين) ؛ كما وصفه الله - عز وجل-، وما ذكرت من سؤال بين آيتي النساء المذكورتين فالجواب عليه من وجهين:(1/8)
الوجه الأول: أن الحسنة والسيئة كلتاهما بتقدير الله تعالى وهذا معنى "قل كل من عند الله" [النساء: 78] أي بتقديره عز وجل، لكن الحسنة سببها التفضل من الله تعالى على عباده، وهذا معنى: "ما أصابك من حسنة فمن الله"، أما السيئة فسببها فعل العبد كما قال تعالى: "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير" [الشورى: 30] وهذا معنى قوله: "وما أصابك من سيئة فمن نفسك" [النساء: 79] أي بسبب فعلك، فإضافة السيئة إلى العبد من إضافة الشيء إلى سببه لا إلى مقدره، أما إضافة الحسنة والسيئة إلى الله فهي من باب إضافة الشيء إلى مقدره وموجده.
الوجه الثاني: ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في [مجموع الفتاوى
(8/110) ] من أن المراد بالحسنة والسيئة في الآية الأولى يعني النعم والمصائب، كما في قوله تعالى: "إن تمسسكم حسنة تسؤهم" - يعني نعمة- "وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها" - يعني المصائب- "وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً" [آل عمران: 120] والمراد بالحسنة والسيئة في الآية الثانية الطاعة والمعصية، نحو قوله تعالى: "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها" [الأنعام: 160] قال: وفي كل موضع ما يبين المراد باللفظ فليس في القرآن العزيز بحمد الله إشكال بل هو مبين، ا. هـ.
يعني أن الحسنة والسيئة تطلق في القرآن الكريم ويراد بها النعمة والمصيبة، كما تطلق ويراد بها الطاعة والمعصية، وفي سياق الآيات ما يدل على أي المعنيين هما المرادان.
ففي الآية الأولى المراد بالحسنة والسيئة فيها: النعم والمصائب، وكلها من عند الله، وفي الآية الثانية المراد بالحسنة والسيئة: الطاعة والمعصية، فالطاعة من الله تعالى تفضلاً وتوفيقاً، والمعصية من العبد فعلاً وإرادة، وإن كانت كل من الطاعات والمعاصي من عند الله تقديراً وإيجاداً، والله أعلم.(1/9)
عدم ذكر الأعمام والأخوال في آية النور
المجيب د. ناصر بن محمد الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/تفسير آيات أشكلت
التاريخ 18/4/1424هـ
السؤال
ما الحكمة من عدم ذكر الأعمام والأخوال في قوله تعالى في سورة النور: "وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ" [النور: من الآية31] مع أنهم من المحارم.
الجواب
الحمد لله، - والصلاة والسلام- على رسول الله، وبعد:(1/10)
ورد في الآية الكريمة ذكر المحارم الذين يحل للمرأة أن تبدي زينتها لهم، فذكرت عدداً من الرجال على اختلاف قوة ودرجة قربهم منها، ولم يرد في الآية ذكر العم والخال، لكن قد ذهب جماهير أهل العلم من السلف والخلف، إلى دخول العم والخال ضمن محارم المرأة، الذين يحل لها أن تبدي زينتها لهم، وعدم ذكرهما في عداد من يحل للمرأة أن تبدي زينتها لهم لا يلزم منه عدم اعتبارهما من جملة من يحل لهم ذلك، ولهذا نظائر كتحريم الجمع - في النكاح- بين المرأة وعمتها أو بين المرأة وخالتها، فهذا وإن كان محل إجماع كما قد نص عليه عدد من أهل العلم، ومع هذا فلم يرد ذكرهما في المحرمات من النساء، في قوله تعالى: "حرمت عليكم أمهاتكم ... " [النساء: 23] ، مع أنه ورد ذكر تحريم الجمع بين المرأة وأختها في هذه الآية حيث قال تعالى: "وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف" [النساء: 23] ، نعم يبقى السؤال عن العلة في عدم ذكرهما - أعني العم والخال- وارداً، وقد نظرت في كلام أهل العلم فلم أجد - بحسب ما وقفت عليه- ما يشفي في هذا، بل بعض ما ذكر لا يسلم به، ومن أحسن ما وجدت - وإن كان لا يخلو من نظر- ما حكاه الألوسي - رحمه الله- في تفسيره روح المعاني، حيث قال: "لم يذكروا يعني العم والخال، اكتفاء بذكر الآباء، فإنهم عند الناس بمنزلتهم، ولا سيما وكثيراً ما يطلق الأب على العم" أ. هـ. كلامه. ومن أمثلة إطلاق لفظ الأب على العم قوله تعالى ذاكراً قول يوسف - عليه السلام- "واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب" [يوسف: 38] ، فهذا التعليل أحسن ما وجدت، والله أعلم بمراده، وسبحان من لا تنقضي عجائب كتابه، هذا - وصلى الله وسلم- على نبينا محمد.(1/11)
تفسير قوله تعالى: " إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا "
المجيب أ. د. سعود بن عبد الله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
القرآن الكريم وعلومه/تفسير آيات أشكلت
التاريخ 01/10/1425هـ
السؤال
يقول الله تعالى- في آخر سورة فاطر: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) .
أورد ابن كثير- رحمه الله- في تفسيره، عن أبي وائل، قال: جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، فقال: من أين جئت؟ قال: من الشام. قال: من لقيت؟ قال: لقيت كعبًا. قال: ما حدَّثك؟ قال: حدثني أن السماوات تدور على منكب ملك. قال: أصدّقتَه أو كذبتَه؟ قال: ما صدقتُه ولا كذبتُه. قال: لوددت أنك افتديت من رحلتك إليه براحلتك ورحلها، كذب كعب، إن الله تعالى يقول: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ) . وهذا إسناد صحيح إلى كعب وابن مسعود، رضي الله عنهما.
نأمل تفسير الآية، وشرح المفردات التالية: أن تزولا، الزوال، الحركة، الدوران، التسخير في قوله تعالى: (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ) [الأعراف:54] . مع التمثيل لكل منهما، وهل هناك فرق في الدلالة بين المعطوف والمعطوف عليه، أي: (السماوات والأرض) ؟ وهل ينطبق مدلول الآية أو مفهومها على الشمس والقمر والنجوم والأرض؟ وما هي أسماء الثوابت من النجوم؟ وهل تدخل في معنى التسخير؟ وخلاصة القول: ألا يعتبر القول بدوران الأرض مخالفًا للآية أم لا؟
الجواب
الجواب عن تفسير آية فاطر: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ(1/12)
وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ
إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) [فاطر:41] . التفسير الموجز لمعنى الآية هو أن الله سبحانه خالقَ السماوات والأرض هو الممسكُ لها أن تتغير عن موضعها الذي قدرها الله فيه، ولو فرض عقلاً زوالها عن مكانها، فلا يمكن لأحد غيره أن يمسكها ويعيدها في مكانها كما كانت، ولن يكون هذا التغيير إلا له- سبحانه- يوم القيامة، حين يختل نظام هذا الكون المترابط، فتتحطم الكواكب، وتتناثر النجوم، وتُسعَّر البحار بالنار، وتبعثر القبور ... إلخ.
معاني المفردات:
الزوال: هو التغيُّر والتصرُّف والتفرُّق والميل عن المكان، وفي أصل وضع هذه الكلمة (الزوال) لا تقع أو تستعمل إلا في شيء من حقه الثبات. نقول: زال الجبل أو أزيل بعد أن كان ثابتًا. ومنه قوله تعالى: (وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) [إبراهيم:46] . وتقول: زالت الغشاوة عن البصر بعد أن كانت
موجودة. ويستعمل الزوال حقيقة في الواقع الفعلي وفي الاعتقاد، مثال الثاني: قولنا: زالت الشمس. ومعلوم أن الشمس متحركة دائمًا ولا ثبات لها، وإنما جاز استعمال هذا اللفظ؛ لأن المعتقد أن الشمس وقت الظهيرة ثابتة في كبد السماء كما يبدو للعين المجردة، قال العرب ذلك؛ لأنهم كانوا يقيسون حركة الشمس بحركة ظل أي شاخص، وفي لحظة من قائم الظهيرة لا يوجد للشاخص ظل فاعتقدوا أن الشمس زالت.
الحركة: الحركة ضد السكون، ولا تكون إلا للجسم المحسوس، ومنه قوله تعالى: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) [القيامة:16] .(1/13)
الدوران: مصدر للفعل الثلاثي دار يدور دورانًا، ومنه الدائرة، وهي الخط المحيط بالشيء، وقيل للدار: دارٌ. باعتبار الحائط الذي يحيط بها، وعليه فالسماوات تقع داخل الدائرة (الفلك) الخاص بها، لا تخرج عنه بحال إلا حين اختلال هذا الكون بانقضاض أفلاكه وكواكبه ونجومه، ولا يكون ذلك إلا بتقدير الله يوم القيامة.
التسخير: مصدر للفعل سخَّر الرباعي، والتسخير سوق الشيء ودفعه إلى هدف معين عن طريق القهر والغلبة، ومنه تسخير السماوات والأرض وما فيها للعباد. قال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ) [الجاثية:13] . وقوله: (وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ) [الأعراف: 54] . أي: سير النجوم (دورانها) في أفلاكها زمانًا ومكانًا هو بتسخير الله وتقديره.(1/14)
أما الأثر عن كعب الأحبار الذي ذكره ابن كثير عند تفسير الآية، فهو من الأحاديث الإسرائيلية المردودة والتي لا تقبل؛ لمخالفتها لشرعنا، فإن وضع السماوات والأرض- كما في قول كعب، رضي الله عنه- على كتف ملك من الملائكة، مخالف للواقع والحس، فضلاً عن أن الشرع لا يدل عليه. يدل على هذا تكذيب عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، لقول كعب، رضي الله عنه. هذا، ولو كان مثل هذا صحيحًا لجاءنا بحديث صحيح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، ولما لم يأتنا تبيَّن كذبه وبطلانه، وقد ذكر ابن جرير الطبري بعد رد عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، زيادة بعد تلاوته الآية، وهي: (كفى بها زوالاً أن تدور) . أي: أنها إذا زالت كيف تدور؟ فكأن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، يشير بقوله هذا إلى مخالفة هذا الأثر للواقع العقلي، وليس هناك فرق بين المعطوف والمعطوف عليه (السماوات والأرض) من حيث الدوران، غير أن المراد بالسماوات: الأفلاك والنجوم، الثابت منها والمتحرك. وليس المراد بالسماء ذات الأبواب والحرس التي فيها الأنبياء والملائكة والجنة وفوقها عرش الرحمن جل وعلا، فإن هذه السماوات عالم غيبي تعرف بالخبر عن الصادق المصدوق، بخلاف السماوات ذات النجوم والشهب والكواكب، فطريق معرفتها الحس والمشاهدة، وهي المقصودة المرادة في آية فاطر هذه.
ومن المعلوم، كما يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- أن الأفلاك كلها مستديرة (مكوَّرة) وكلها في السماء، والسماء على الأرض مثل القبة، وإذا كان ما في هذه السماء من كواكب ونجوم ومجرات تدور في أفلاكها (سمائها) ، فإن الأرض تدور كذلك؛ لأن السماء محيطة بها.(1/15)
وعلى هذا فإن دلالة الآية على الدوران، كلٌّ بحسبه (الشمس والقمر والنجوم) ، وهي كلها في السماء يدور كل منها على نفسه وفي مداره، فينتج عن ذلك الليل والنهار، وكذلك للأرض دورة حول الشمس ينتج منها فصول السنة الأربعة، وصدق الله العظيم: (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون) [يس:40] .(1/16)
الحكمة من خلق السماوات والأرض في ستة أيام
المجيب د. عبد الله بن المحفوظ بن بيه
وزير العدل في موريتانيا سابقاً
القرآن الكريم وعلومه/تفسير آيات أشكلت
التاريخ 6/6/1424هـ
السؤال
فضيلة الشيخ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نرجو من فضيلتكم التفضل ببيان المعنى والحكمة الإلهية من بيان أن الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام، حيث إن هذا السؤال قد تكرر أثناء الحوار مع بعض الهندوس العاملين بالمملكة، وقولهم ألم يكن ربكم يستطيع أن يخلق السماوات والأرض بقوله كن فيكون؟ فلماذا لم يفعل ذلك؟ وتعالى الله عما يشركون، ولذا نرجو من فضيلتكم أن تزودونا بالجواب الشافي ببيان الحكمة من ذلك، وجزاكم الله خيراً، ونفع المسلمين بعلمكم.
الجواب(1/17)
أولاً: إن الله - سبحانه وتعالى - لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، هؤلاء الذين لا يعرفون الخالق فالخالق لا يوجه إليه السؤال، وإنما يوجه إلى المخلوقين، أما الخالق سبحانه وتعالى فحكمته بالغة وحجته دامغة، وكل شيء يفعله وكل شيء يعمله إنما هو لحكمة، ثم إن الله -سبحانه وتعالى- علم المخلوقات عن طريق أفعاله، فهو علمنا التدرج في الأمور وعلمنا أن المخلوقات تنشأ نشأة متطورة ومتدرجة فكما ينشأ الصبي صغيراً ثم يكبر ثم يهرم إلى آخره، فكذلك نشأ الكون نشأة متدرجة، هذا من حكمته - سبحانه وتعالى-، ومن حكمته أيضاً أن الزمان صاحب المكان ورافقه في رحلة الوجود، فهذه الأيام الستة واليوم السابع هي التي كتب الله أن الزمان سيدور عليها والزمان إنما يدور في المكان، فعلاقة الزمان بالمكان علاقة حميمة، وبالتالي كانت هذه النشأة حتى اكتمل المكان الذي نعيش فيه، وهي البيئة التي تحوطنا وتحيط بنا في هذا الكون من سماوات وأرض، فالزمان شيء اعتباري لا نراه، والبيئة المكانية نراها فربطها الله -سبحانه وتعالى- بالزمن، وهذه الأمور قد لا يدركها الإنسان خاصة إذا لم يكن بصيراً مستبصراً ومسلماً لأمر الله -سبحانه وتعالى-، وكما قال ابن القيم - رحمه الله تعالى-:
وقل للعيون الرمد للشمس أعين *** سواك تراها في مغيب ومطلع
وسامح نفوساً بالقشور قد اكتفت *** وليس لها في اللب من متطلع
فسوأل هؤلاء لم خلقت الأيام؟ لم خلق الزمان؟ هذا كله أمره عند الخالق، والإنسان أصغر من هذا وأضعف من أن يسأل الخالق، وأن يوجه إلى الرب سبحانه وتعالى السؤال، فالأسئلة لا توجه إلى الله، "لا يسأل عما يفعل وهم يسألون" [الأنبياء:23] ، كل أمره حكمة، وإذا لم يرها الإنسان فإن العيب في الإنسان وليس في تلك الحكمة البالغة التي قد لا يراها الأعمى، هذا ما حضرني الآن والله - سبحانه وتعالى - أعلم.(1/18)
هل يُعذب على ذنوبه ولو رجحت عليها حسناتُه؟
المجيب عبد الحكيم محمد أرزقي بلمهدي
كلية الشريعة/ جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/تفسير آيات أشكلت
التاريخ 26/11/1424هـ
السؤال
هل يكفي أن تكون حسنات المؤمن أكثر من سيئاته حتى ينجو من النار؟ وكيف نوفق بين هذا وقوله - تعالى -: "ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره"، وقوله تعالى "من يعمل سوءا يجزى به" وشكراً.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فإن الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وهو الذي يقتضيه ظاهرها أن من رجحت حسناته بسيئاته فهو من الناجين - إن شاء الله تعالى - واقرأ - إن شئت - قول الله - تعالى - في سورة الأعراف: "والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون" [الآيتين:8-9] ، وقوله - تعالى - في سورة المؤمنون: "فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون" [الآيتين:102-103] .
أما قول الله - تعالى -: "ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره" [الزلزلة:8] فمعناه يجده أمامه يوم القيامة ويطلعه عليه ربه - سبحانه -.
وأما قوله - تعالى -: "من يعمل سوءاً يجز به" [النساء:123] فإنها نزلت لسببٍ على ما ذكر أهل التفسير، وهو أن المسلمين وأهل الكتاب تفاخروا في أي الأديان خير، فأنزل الله - تعالى - قوله: "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به" الآية [النساء:123] ، ثم أعقبه بقوله - تعالى -: "ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا" [النساء:124] ، وقيل بل نزلت في كفار قريش لما قالوا للمسلمين: لن نبعث ولن نعذب، فأنزل الله: "من يعمل سوءاً يجز به" [النساء:123] .(1/19)
وروي من طرق كثيرة موقوفة ومرفوعة في تأويل الآية أن المؤمنين يجزون في الحياة الدنيا لقاء أعمالهم من الأمراض والمصائب حتى النكبة ينكبها المؤمن والشوكة يشاكها تكفر عنه سيئاته حتى يلقى ربه.
والقاعدة العامة - يا أخي - في التعامل مع نصوص الوعد والوعيد جمعها وليس أن يفرد المرء نصوص الوعيد ويجعلها نصب عينيه فيقع فيما وقعت فيه المعتزلة، ولا يعكس ذلك بحيث يفرد نصوص الوعد، ويغفل عن نصوص الوعيد، فيقع فيما وقعت فيه المرجئة، ومنهج أهل السنة وسط بين هذين، وهو الجمع بين نصوص الوعد والوعيد، مع الرجوع إلى كتب التفسير والحديث لمعرفة المراد من الآيات. والله الموفق.(1/20)
"حتى يغنيهم الله من فضله"
المجيب د. ناصر بن محمد الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/تفسير آيات أشكلت
التاريخ 7/5/1424هـ
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم.
والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء -محمد صلى الله عليه وسلم-.
ما حكم كلمة "حتى" في الآية الكريمة "وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ"؟ هل هي تأكيد ووعد من الله -سبحانه وتعالى-؟ وبث الأمل في قلب الصابر؟ وهل هذا الفضل سيجزى به في الدنيا؟ وما هو هذا الفضل هل هو زوج لمن لا زوج لها أو زوجة لمن لا زوجة له؟ وأخيراً يا شيخ أسألك أن تدعو لي بأن يفرج الله همي، وجزاكم الله خيراً.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعد، وبعد:(1/21)
فهذه الآية الكريمة جاءت في سياق عدد من الآيات التي تحذر من الزنا وتنهى عنه وتسد جميع السبل المفضية إليه، كما تضمنت العلاج الناجع العاصم -بإذن الله- من هذه الفاحشة، وهو النكاح والسعي في تحصيله، ولذا قال تعالى: "وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم" [النور: 32] ، وهذا خطاب للمجتمع المسلم كله باعتباره كياناً واحداً بأن يسعى في تزويج الرجال والنساء، وأن ييسر أسبابه ويذلل عقباته، ونهى تعالى عن جعل الفقر وقلة ذات اليد ذريعة تحول دون تزويج الرجل أو المرأة، بل وعد تعالى ـ ووعده الحق ـ أن يغنيهم من فضله، يقول تعالى: "إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله" [النور: 32] ، وفي الحديث الذي أخرجه الترمذي (1655) وغيره ـ بسند حسن ـ عن أبي هريرة - رضي الله عنه -; قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -; "ثلاثةٌُ حقٌُّ على الله عونهم المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف"، ومع هذا الأمر والوعد منه تعالى، فقد يوجد من الرجال والنساء من لا تتيسر له أسباب النكاح، ولهذا أرشدهم تعالى إلى الاستعفاف إلى أن يهيئ لهم تعالى من يعينهم على أمر النكاح، والاستعفاف هو بذل الوسع في تحصيل الأسباب التي تعين على تجنب الوقوع في فاحشة الزنا، والاجتهاد في البعد عن السبل المفضية إليه والوسائل الداعية إليه، يقول تعالى "وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله" [النور: 32] فقوله: "لا يجدون نكاحا" المراد به على الصحيح من كلام أهل العلم كل مريد للنكاح تعذرت عليه أسبابه، قال ابن عطية رحمه الله في المحرر الوجيز: (فأمر الله تعالى في هذه الآية كل من يتعذر عليه النكاح ولا يجده بأي تعذر أن يستعف..) ، وعلى هذا فالفضل الذي وعد به تعالى في هذه الآية لفظ مطلق يشمل كل ما يعين على تيسير النكاح وتحققه، والرجل والمرأة في هذا سواء. بقي أن أوصيك أختي الكريمة بوصية الله تعالى لك(1/22)
حيث قال: "وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله" [النور: 32] ، ولتعلمي أن الاستعفاف يكون بأمرين أشارت إليهما الآيات في سورة النور، أولهما: البعد عن المواطن التي تدعو إلى الفاحشة، والحذر من الأسباب التي تفضي إليها، فكل ما يثير الشهوة ويدعو إليها يجب الابتعاد منه والإعراض التام عنه. والأمر الآخر: يكون بالسعي في تحصيل النكاح وإعفاف النفس به، كما قال -عليه الصلاة والسلام- في الحديث المتفق عليه عند البخاري (1905) ، ومسلم (1400) من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-:"يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء"، ومن هذا الباب فلا حرج عليك أن تجتهدي في طلب النكاح ولكن بالوسائل المشروعة التي لا تبعث على الريبة والتهمة، كأن يكون ذلك بواسطة بعض محارمك الرجال أو قريباتك وأخواتك من النساء اللائي تثقين في دينهن وسداد رأيهن، وأخيراً فأبشرك بوعد الله تعالى لك ولكل من اتقى ربه يقول تعالى: "ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه" [الطلاق: 2-3] وقوله تعالى: "ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا" [الطلاق: 4] ، فأبشري وأملي وثقي بوعد ربك، أسأل الله تعالى أن يهيئ لك من أمرك رشداً، وأن يبلغك أملك ومرادك. هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(1/23)
هل خلقت الأرض جملة واحدة أم مرت بمراحل؟
المجيب د. محمد بن إبراهيم دودح
باحث علمي في هيئة الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة
القرآن الكريم وعلومه/تفسير آيات أشكلت
التاريخ 25/06/1426هـ
السؤال
كيف نرد بأن الأرض مرت بمراحل حتى تكونت الجبال والهضاب خلال ما يسمى بالعصور الجيولوجية، والله سبحانه يقول في الآية الكريمة: "ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام"، أرجو التفصيل في ذلك، وقد أثبت العلم أن الأرض مرت بمراحل.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
فأقول مستعيناً بالقادر وحده على كل شيء، سائله تعالى العون والتوفيق:(1/24)
في سبعة مواضع يقرر القرآن أن خلق العالم قد تم في عملية واحدة ذات أطوار كما لو كان بناءً واحداً تتابع تشييد خطة تصميمه المقدرة منذ البدء "فِي سِتّةِ أَيّامٍ" [الأعراف: 54، يونس: 3، هود:7، الفرقان:59، السجدة:4، ق:38، الحديد:4] ، والأيام ذوات العدد في مقام بناء الكون هي أقرب الأمثلة لبيان سبق التقدير والقصد منذ البدء لا الصدفة العمياء، خاصة أن التمثيل هو الأسلوب الأمثل في تعبير القرآن لكشف الحقائق الخفية بضرب المثل بالنظير المألوف, فيستقيم إذن أن تكون الستة أيام تمثيلاً، خاصة أن الزمن ناتج عن حركة أجرام، وعند التكوين لم توجد أجرام بعد, والكون بهذا ليس أبدي الوجود، وإنما تشكل في فترات مقدرة بلا توقف أو تردد كما لو كانت ستة أيام متلاحقة, وكالإنسان قدرت أيام حمله كذلك قدرت أحوال الأرض في يومين من الستة قبل الولادة, ومن بدء الحمل إلى البلوغ أربعة أيام, وهو نفس التمثيل في قوله تعالى: "قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ" [فصلت: 9 -10] , وبهذا خُلق العالم في ثلاث مراحل رئيسة متساوية:(1/25)
في الأولى تكونت اللبنات العظام، وفي الثانية النشأة الحقيقية للأرض وبقية الأجرام أقرانها خلال نشأة المجرة ذاتها، وفي الثالثة نشأت القشرة والجو، وعمرت الأرض بالحياة, فإذا كانت النشأة الحقيقية حركياً للأرض ترجع إلى حوالي 8.4 بليون سنة قبل أن تعمر بالنبات الذي بدأ يطلق أكسجين الجو منذ حوالي 0.25 بليون سنة علامة على تكامل البناء؛ وإذا كان تشكيل الأرض في أربعة أيام تمثيلاً يكون الكون في ستة أيام، فيكون عمره الفعلي بنفس القيمة المعروفة الآن؛ حوالي 12.5 (10-15) بليون سنة. [الكون لستيفن هاوكنج (ص55) ، والانفجار الكبير لسيلك (ص75) ] .(1/26)
هل الإصلاح ينجي الكافرين
المجيب د. محمد بن سليمان المنيعي
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
القرآن الكريم وعلومه/تفسير آيات أشكلت
التاريخ 12/9/1426هـ
السؤال
قال تعالى: (وما كان ربك مهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون) هل يشمل هذا الخطاب في الآية المسلمين والكافرين، وهل يأمن الكفار الهلاك إذا سعى بعضهم لنبذ ما يخالف الفطرة من محرمات، أمثال أولئك الكفار الذين يتظاهرون في البلدان الغربية، لمنع إقرار الشذوذ في بلدانهم، وهل السعي بالإصلاح في شيء واحد يكفي للنجاة من العقوبة، أم لابد من إنكار كل محرم والنهي عنه حتى يندفع الهلاك العام؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
قيل: معنى هذه الآية كما قال القرطبي: (وما كان ربك ليهلك أهل القرى بشركهم وكفرهم وهم مصلحون فيما بينهم في تعاطي الحقوق) ، أي لم يكن ليهلكم بالكفر وحده حتى يضاف إليه الفساد كما أهلك قوم شعيب لبخس الميزان والمكيال، وقوم لوط باللواط، وغيرهم ببغيهم وطغيانهم على أنبيائهم ورسلهم وفي الترمذي (2168) من حديث أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- مرفوعاً: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه".
ولكن الأقرب في معناها: ما كان ربك يا محمد ليهلك القرى التي قص عليك نبأها ظلماً وأهلها مصلحون، ولكن أهلكها لكفر أهلها بالله، وتماديهم في غيهم، وتكذيبهم رسلهم، وركوبهم السيئات.
والأمر في ذلك واسع، وكلا المعنيين وارد، فإن من سنة الله الكونية إهلاك الظالم ولو بعد حين، والمتأمل في التاريخ يجد مصداق ذلك في الدول والمجتمعات، فكم من دولة بادت واندثرت حين بغت واعتدت، وكم من أخرى مكنها الله في الأرض حين أقامت العدل.(1/27)
ولا شك أن السعي في الإصلاح سبيل الصلاح، وفي المقابل فإن بقاء أي أمة على ظلمها -من طغيان وفساد بسائر أنواعه- سبيل إلى هلاكها ودمارها، كما قال تعالى: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) [الإسراء:16]
وأما السعي بالإصلاح فلابد أن يشمل كل ما يعلمه الإنسان من منكر، فلا يجوز أن يقتصر إنكاره على أمر، دون أمر ولابد لدفع البلاء من استقامة القوم على الحق، وإلا كان العقاب واقعاً بهم لا محالة، وحين يقع العقاب ينجي الله المصلحين منهم فحسب، كما قال تعالى: (فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون) [الأعراف:165] .(1/28)
المقصود: بملك اليمين
المجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز-رحمه الله-
القرآن الكريم وعلومه/تفسير آيات أشكلت
التاريخ 15/12/1423هـ
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من المعروف أن الإسلام قد أحل للمسلم زوجته وما ملكت يمينه.
وسؤالي: ما هو المقصود بلفظ وما ملكت أيمانهم الوارد ذكرها بالقرآن الكريم؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً.
الجواب
سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن سؤال مشابه لسؤالك فأجابت عنه بما فيه كفاية، فإليك السؤال والإجابة.
السؤال: المراد بكلمة "ماملكت أيمانكم" وهل يحق للمالك هذا أن يتصرف فيما يملكه كيف يشاء بجميع ألوان التصرف دون أي حساب مع الافتراض بأنني أملك أمه وأملك زوجها مثلاً أيحق لي كل ألوان التصرف فيهما وما حدود هذا التصرف؟
الجواب: المراد بكلمة "ما ملكت أيمانكم" [النور:33] ، في الشرع: ما ملكه الإنسان من العبيد أو الإماء أو غيرهما ملكاً شرعياً، وليس لمالك العبد أو الأمة أن يتصرف فيها بهواه أو رأيه المحض، بل بما شرعه الله من العدل، فيستخدمهما فيما يطيقانه من العمل المباح، وله أن يطأ أمته غير المتزوجة، فإذا حملت منه فهي أم ولده، لا يجوز له بيعها بل تصير حرة بموته، ولا يجوز له أن يفرق بين الأمة وطفلها، إلى غير ذلك مما شرعه الله من أحكام التصرفات العادلة للسيد في عبده وأمته من إباحة وتحريم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو: عبد الله بن غديان
نائب الرئيس: عبد الرزاق عفيفي
الرئيس: عبد العزيز بن عبد الله بن باز(1/29)
هل ما نراه هو السماء الدنيا فحسب؟!
المجيب د. محمد بن إبراهيم دودح
باحث علمي في هيئة الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة
القرآن الكريم وعلومه/تفسير آيات أشكلت
التاريخ 13/08/1426هـ
السؤال
هل الكون - فلكياً- هو السماء الدنيا، بحيث يكون ما نراه هو السماء الدنيا فقط، كما يقول معظم علماء الإعجاز العلمي؟ وما الدليل على هذا من القرآن؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فكيف يقولون: كان الكون متصلاً ثم انفصل، بدليل الآية: "أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما", والآية تتكلم عن كل السماوات وليس السماء الدنيا فقط, فكيف نحل هذا الإشكال؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله, وبعد:
جوابا على السؤال عن دلالة تعبير (السماء الدنيا) في القرآن الكريم وموافقتها للواقع؛ أقول مستعينا بالله العليم القادر:(1/30)
تنصرف دلالة لفظ (السماء) في القرآن الكريم إلى موجودات تميزها قرائن السياق؛ لأن أصل دلالته وجود في العلو, ولذا قالوا: "السماء هي كل ما علاك فأظلك", فقد يعني سقف البيت أو السحاب أو الجو أو ما يصطلح عليه باسم الفضاء, ووروده بالجمع بلفظ (السماوات) يدل لغة على طبقية التكوين، فيعني تميز الموصوف سواء الفضاء أو الجو إلى طبقات, وقد وصف الكون بدقة في قوله تعالى: "تَنزِيلاً مّمّنْ خَلَق الأرْضَ وَالسّمَاوَاتِ الْعُلَى. الرّحْمََنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىَ. لَهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثّرَىَ" [طه 4-6] ، فلفظ (الْعُلَى) جمع العليا تأنيث (الأعلى) ، فأفاد وجود غيرها تماثلها في طبقية التكوين، وهو ما يتفق مع تشكل الفضاء لطبقات تميزها بروج الأجرام وتشكل الجو كالأرض بالمثل طبقات, وفي قوله تعالى: "إِنّا زَيّنّا السّمَاءَ الدّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظاً مّن كُلّ شَيْطَانٍ مّارِدٍ لاّ يَسّمّعُونَ إِلَىَ الْمَلإِ الأعْلَىَ وَيُقْذَفُونَ مِن كُلّ جَانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ إِلاّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ" [الصافات: 6-10] ؛ فلفظ (الدنيا) تأنيث (الأدنى) وهو من الدنو أو الدناءة، ولذا يدل تعبير (السماء الدنيا) هنا على الطبقة الأقرب أو الأسفل من آفاق الأجرام, والمعنى أنه خلال الهروب بسرعة متزايدة نحو الفضاء الأقرب المميز بالكواكب يمر العابر بمنطقة الرجم بالشهب.(1/31)
وتمييز الفضاء الأقرب للأرض بالكواكب (Planets) يتفق تماما مع المعرفة العلمية الحديثة بأنها بالفعل دون بروج النجوم (Stars) التي تتراكب في آفاق عظيمة الأبعاد تميزها عناقيد أو تجمعات (Constellation) أقربها مجموعات نجومية صغيرة ضمن حشود أكبر تشكل المجرة (Galaxy) ثم المجموعة المجرية المحلية تعلوها مجرات أعظم (Super-cluster) دون أشباه النجوم (Quasars) حيث يعجز البصر عن إدراك أي شيء يعدوها لانحساره بنفس سرعة الضوء الذي يصدره, ويفصلنا الجو عن تلك الآفاق السبعة كمنطقة بينية طبقية مثلها، وتتميز عن بقية السماء بتيارات الرياح ومسارات السحب, والشهب ظاهرة ضوئية تحدث في جو الأرض نتيجة الاحتكاك بالهواء فناسبها وصف الشهاب بالثاقب أي شديد الضوء, وبهذا يحمل تعبير (السماء الدنيا) على الجو عند الإطلاق، وعلى الأفق الأدنى من آفاق الأجرام عند التخصيص بالكواكب.
وفي قوله تعالى: (وَزَيّنّا السّمَاءَ الدّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ... ) [فصلت: 9-12] ، وقوله تعالى: (وَلَقَدْ زَيّنّا السّمَاءَ الدّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لّلشّيَاطِينِ) [الملك: 5] ؛ ورد التشبيه بلفظ (مصابيح) في موضع (الشهب) مؤكدا على أنها ظاهرة ضوئية, ودل تعبير (السماء الدنيا) هنا بإطلاق دون تقييد بالأجرام على حدوث الشهب في الجو الأدنى تكوينا من آفاق الأجرام, وفسرت (المصابيح) في الآيتين الكريمتين بالنجوم, ولكن في العرف تسمى الشهب بالنجوم المارقة (Shooting Stars) .(1/32)
وتأكيد القرآن على أن ما ترجم به الشياطين هو الشهب، وهي ظاهرة ضوئية تحدث في الجو يقطع بنفي وصف الكون الممكن الإدراك أجمعه بأنه (السماء الدنيا) ، وذلك في قوله تعالى: "وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيّنّاهَا لِلنّاظِرِينَ. وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلّ شَيْطَانٍ رّجِيمٍ إِلاّ مَنِ اسْتَرَقَ السّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مّبِينٌ [الحجر 16-18] ، وقوله تعالى: "وَأَنّا لَمَسْنَا السّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنّا كُنّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الاَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رّصَداً [الجن 8-9] .(1/33)
والقول إذن بأن (السماء الدنيا) تعبير عن الكون كله، وأنها الوحيدة التي يمكن للإنسان أن ينظر إليها قول يعوزه الدليل, وما بني عليه من أن السماوات الست الباقية غيبية لا ترى يخالف صريح القرآن الكريم في إمكان النظر إلى كل السماوات بأدلة لا تدفع، منها قول الله جل وعلا: "قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ" [يونس 101] وقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) [الأعراف: 185] وقوله تعالى: "أَفَلَمْ يَنظُرُوَاْ إِلَى السّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيّنّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ" [ق: 6] قال النحاس: "السماوات مرئية" , وقال الألوسي: "ظواهر الآيات والأخبار ناطقة بأن السماء مرئية" , وفي قوله تعالى: "أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً. وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنّ نُوراً وَجَعَلَ الشّمْسَ سِرَاجا" [نوح: 15-16] ؛ ظاهر التعبير أن أدنى سماوات الكون على حسب الترتيب في النظم هي التي تقع فيها الشمس ويقع القمر, وهو ما يتفق فلكياً مع تسمية أفق الكواكب الأدنى في آفاق الأجرام المرئية بالنظام الشمسي، حيث يتبع القمر الأرض ويتبع الكل الشمس, قال ابن جزي: "القمر.. في السماء الدنيا، وساغ أن يقول فيهن لما كان في إحداهن فهو في الجميع، كقولك: فلان في الأندلس إذا كان في بعضها" , وقال أبو حيان: "الضمير في فيهن عائد على السماوات والقمر في السماء الدنيا (منها) ، وصح كون السموات ظرفاً للقمر لأنه لا يلزم من الظرف أن يملأه المظروف؛ تقول زيد في المدينة وهو في جزء منها".(1/34)
ومرد الإشكال إلى الفهم بأن الشهب المعبر عنها في الآيتين الكريمتين تشبيها بالمصابيح لتوهجها هي النجوم الثوابت، ولكن المحققون قد دفعوا هذا الوهم، وقالوا بأن النجوم ثوابت في مواقعها لا ينقص عددها، وإنما المراد هو الشهب دونها كما هو ظاهر القرآن, وبذلك يسقط الاستدلال على أن سماوات الكون التي تميزها بروج الأجرام هي جميعا السماء الدنيا, قال الألوسي: "وإطلاق الرجوم على النجوم وقولهم رمى بالنجم يحتمل أن يكون مبنياً على الظاهر للرائي، كما في قوله تعالى في الشمس: "تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ", وهذه الشهب ليست هي الثوابت، وإلا لظهر نقصان كثير في أعدادها، بل هي جنس آخر غيرها يحدثها الله تعالى ويجعلها رجوما للشياطين, ولا يأباه قوله تعالى: "وَلَقَدْ زَيّنّا السّمَاءَ الدّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لّلشّيَاطِينِ"؛ حيث أفاد أن تلك (المصابيح) هي (الرجوم) بأعيانها؛ لأنا نقول كل نير يحصل في الجو العالي فهو مصباح لأهل الأرض.. والشهب من هذا القسم، وحينئذ يزول الإشكال" , وبمثله قال كثيرون, فتأمل الدقة المذهلة في تعبير القرآن الكريم، بينما في العرف تُسمي الشهب نجوماً، ولا تميز لغة التخاطب بين النجوم والكواكب, والله تعالى أعلم.(1/35)
ألا تحتمل آية التعدد الزواج بأكثر من أربع؟!
المجيب محمد سالم بن عبد الودود (عدود)
رئيس المحكمة العيا بموريتانيا سابقاً، وعضو المجمع الفقهي بالرابطة والمؤتمر
القرآن الكريم وعلومه/تفسير آيات أشكلت
التاريخ 01/04/1427هـ
السؤال
عندما قرأت الآية الكريمة: "مثنى وثلاث ورباع". فجمعتها وهو عدد أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- فراودتني بعض الشكوك في تفسيرها، أرجو أن تقنعوني بما هو صحيح؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فالآية المشار إليها هي قول الله تعالى: "فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا" [النساء:3] . والأعداد المذكورات في الآية معدولات عن الأعداد الأصليات للتكرير، والمعنى أن الفئة التي بإمكانها القيام بواجب امرأتين تنكح اثنتين، والتي تقدر أن تقوم بواجب ثلاث نسوة تنكح ثلاثا، والتي تقدر أن تقوم بواجب أربع تنكح أربعا.
وأهم الواجب للنساء: العدلُ بينهن، فإن خاف الرجل ألا يعدل فواحدة أو ما ملكت يمينه.
وقد فهم بعض الفقهاء نحو ما فهمتَ، فأجاز الجمع بين تسع، وقد نسب هذا الفهم إلى القاسم بن إبراهيم (من أئمة الشيعة) ، وإلى بعض الظاهرية.
وهذا الفهم مخالف للوضع العربي، وقد زيفت هذه المقالة، وأنكر علماء الشيعة نسبة هذا الفهم إلى الإمام المذكور؛ فقد جاء في البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار لأحمد بن قاسم العنسي الصنعاني (6/ 237) : وتحرم الزيادة على الأربع لقوله تعالى "مثنى وثلاث ورباع" ... فأما الرواية عن القاسم فغير صحيحة".
كما صرح الإمام ابن حزم الظاهري -في المحلى (9/441) - بتزييف هذا الفهم أيضا.
والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(1/36)
دلالة اختلاف التعبير عن الإرادة في قصة الخضر وموسى بـ (أردتُ، أردنا، أراد ربك)
المجيب د. أحمد بن سعد بن حمدان الغامدي
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
القرآن الكريم وعلومه/تفسير آيات أشكلت
التاريخ 21/11/1424هـ
السؤال
أريد أن أسأل عن آخر سورة الكهف عندما فسر الخضر لسيدنا موسى - عليه السلام - ما كان منه فقال في الأولى "أردت" وفي الثانية "أردنا" والثالثة "أراد ربك". فلماذا هذا التغير رغم أنه كله بإرادة الله؟ وشكراً.
الجواب
قول الخضر في الأولى: "فأردت" دلالة على أن ذلك ليس بإذن مباشر من الله -عز وجل، وإنما هو باجتهاده.
والثانية: "فأردنا" إما أن يكون الكلام من الله -عز وجل- وهو الأقرب، وإما من الخضر وانكشف له عن حال هذا الغلام بواسطة بعض الملائكة، فعبر عن نفسه وعن الملك، وإما أن ذلك منه على سبيل التواضع، قال الأخير ابن عاشور أحد المفسرين المعاصرين.
وأما الثالث: فهي إسناد الإرادة إلى الله -عز وجل- مباشرة فلا إشكال فيه؛ لأن ذلك بأمره ووحيه -عز وجل-. والله أعلم.(1/37)
الفرق بين العام والسَّنة
المجيب د. عبد العزيز بن علي الحربي
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
القرآن الكريم وعلومه/تفسير آيات أشكلت
التاريخ 19/12/1424هـ
السؤال
سؤالي هو: قال تعالى "فلبث فيهم ألف سنةٍ إلا خمسين عاماً" لماذا فرق بين السنة والعام مع أنهما مسمى واحد؟ ولكم الشكر سلفاً وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الحمد لله، في ذلك جواب معروف، وهو أن العام والسنة يطلقان على زمن واحد من حيث عدد الشهور، غير أن العرب تستعمل كلمة: (العام) إذا كان عام رخاء في العين والحياة، وتطلقه كذلك في الزمن المستقبل المجهول على سبيل التفاؤل ليكون أيضاً عام رخاء وبلهنية في العين.
وأما السنة فإنهم يستعملونها في زمن القحط والمجاعة، بل توسعوا في ذلك حتى سمو القحط سنة، من باب إطلاق المحل وإرادة الحال، وعلى هذا إذا تأملت الحالين اللذين عاشهما نوح - عليه السلام - وهي زمن اللبث في قومه والزمن الآخر وجدت التمييز بلفظ سنة في حال الإنذار مناسباً لذلك المعنى، لأن نوحاً -عليه السلام - لقي من قومه الإيذاء والعناد والصلابة والسخرية، وصادف قلوباً ميتة قاسية لم يؤثر بها وابل الوحي ولم تحي بالإيمان، فكان كالأرض الهامدة الميتة التي أصابتها سنة بسبب انقطاع الغيث، والمدة التي لبثها في قومه تسعمائة وخمسون سنة، وأما الخمسون عاماً فلم تكن كذلك فقد عاشها نوح - عليه السلام - مع قومه المؤمنين بعد هلاك الكافرين، ويمكن أن تكون هذه الخمسون قبل الإنذار أو بعضها قبله وبعضها بعده. والله أعلم.(1/38)
ما معنى: "ولم يكن له كفواً أحد"
المجيب د. محمد بن عبد الله الخضيري
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
القرآن الكريم وعلومه/تفسير آيات أشكلت
التاريخ 07/04/1425هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سؤالي هو: ما معنى (الكفؤ) في قوله تعالى: "لم يكن له كفوا أحد؟ "، هل معناه المساوي فقط؟ أم معناه أنه لا يوجد أحد يناظر الله أو يشابهه؟ لأن المساواة هي غير المماثلة، فعندما نقول: لا أحد يساوي الله في صفة (مثلا قدرته على الخلق) ، غير قولنا لا أحد منذ الأزل يشابه الله في صفة قدرته على الخلق، فبذلك ننفي كلياً صفة قدرة الآخر على الخلق، بينما عندما نقول لا يوجد أحد يساوي الله في صفة قدرته على الخلق مثلا فإننا لا ننفي صفة (قدرة الآخر على الخلق) ، بل نقول: إن الآخر لا يساوي الله فقط في هذه الصفة، ولا ننفيها عنه.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.(1/39)
فإن "الكفؤ" هو الندّ والمثيل والنظير، والله –تعالى- منزه ومقدس أن يكون له مثيل أو نظير في ذاته، أو أسمائه، أو صفاته، أو أفعاله، ومن العقائد المقررة عند أهل الإسلام أن الله –تعالى- غني بذاته، بائن عن مخلوقاته، ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، وليس في مخلوقاته شيء من ذاته، وقد دل على ذلك أدلة كثيرة من القرآن منها قوله تعالى: "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" [الشورى: 11] ، وقوله: "هل تعلم له سميا" [مريم: 65] ، وقوله تعالى: "قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد" [الإخلاص: 1-4] ، وقوله تعالى: "وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً" [الإسراء: 111] ، وإذا انتفت المماثلة بين الخالق والمخلوق من أي وجه فانتفاء التساوي المطلق أو من وجوه متعددة من باب أولى، ولم يثبت عن أحد من الفرق أو من أهل الديانات المحرمة، بل وحتى ملل الكفر كلها أن أحداً زعم وجود تشريك مطلق بين الله –تعالى- وبين شيء من الآلهة أو الأنداد، أو إمكانية ذلك، فلا يوجد ذلك أصلاً عندهم حتى نحتاج أن ننفيه لأنه متقرر في الفطر، وثابت في العقول، وهنا يتبين خطأ من يحصر الشرك بالله –تعالى- بأنه اعتقاد المساواة بين الله –تعالى- وبين غيره، فلا يكون شركاً، ولا يسمى العمل شركاً إلا إذا كان كذلك، وهذا المعنى الخاطئ فضلاً عن مخالفته للمدلول اللغوي للفظة (الشريك) ، فلم يقل به أحد من الخلق حتى يحتاج إلى نفي، هذا أولاً.
وثانياً: أن هذا التعريف يخرج جميع الصورة المعتبرة في الشرك في الربوبية والألوهية عن كونها شركاً، وهذا خروج عن المدلول الشرعي واللغوي لهذه الكلمة، وتصحيح للأعمال والأقوال الشركية التي لا يكون فيها اعتقاد المساواة المطلقة، وأولية الله –تعالى- وأزليته ثابتة لله –تعالى-، وكذا اتصافه بصفات الكمال ثابتة له أزلاً وأبداً.(1/40)
وكون الله -تعالى- واحد بلا عدد؛ المراد به تفرده تعالى بالوحدانية، فليس له شريك ولا صاحبة، ولا ولد، وربما أطلق لفظة (واحد بلا عدد) ، أو (واحد في ذاته لا قسيم له) بعض أهل الكلام النفاة للصفات، ومرادهم من ذلك تمرير نفي الصفات الخبرية كالوجه واليد، وغيرها تحت هذا المصطلح، فليعلم المراد من هذه المصطلحات الحادثة فلا تقبل مطلقاً ولا ترد مطلقاً؛ وإنما الاستفصال حتى يزول الاشتباه، أو الإجمال فيقبل ما كان حقاً ويرد ما كان باطلاً. والله أعلم.(1/41)
اختلاف المفسرين هل هو اختلاف في القرآن؟
المجيب د. عبد الله بن المحفوظ بن بيه
وزير العدل في موريتانيا سابقاً
القرآن الكريم وعلومه/تفسير آيات أشكلت
التاريخ 19/07/1425هـ
السؤال
السلام عليكم.
سؤالي عن شبهة حول القرآن، وهو من مكائد النصارى للإسلام وقد انتشر بين الناس عندنا، أرجو أن تجيبوا عليه قبل أن تحدث فتنة لا تبقي ولا تذر، وهو كما يلي: يقول الله -تعالى-: " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا" والمعروف لدى المسلمين أن القرآن قد اختلف في تفسير كثير من آياته. وهذا معناه (حسب المشكّك) دليل من القرآن على أنه من عند غير الله. فما هو الجواب لمثل ذلك؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
أولاً هذه الآية يجب أن تفهم فهماً آخر غير الفهم الذي فهمها هذا المشكك، فالمسألة لا تتعلق باختلاف عموم الناس في آيات القرآن ودلالاته، بل إنها تفسر على ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: الاختلاف هو التناقض، فالقرآن لا تناقض فيه، فهو يأمر بالعدل أبداً وبالإحسان أبداً، فلا يوجد فيه حيف ولا ظلم، إذاً المبادئ الأساسية والكبرى التي يدعو إليها القرآن لا تختلف أبداً، بينما لو كان من عند غير الله لغلب الهوى على الإنسان، فمرة يأمر بالمعروف ومرة يأمر بالمنكر، فهذا هو التفسير الأول.(1/42)
الوجه الثاني: أن القرآن لو كان من عند غير الله لاختلف عما يخبر به، بمعنى أن الخبر لا يكون موافقاً للمخبر عنه، والقرآن لا يخبر عن شيء إلا كان كذلك، فهو يحدثهم عما في أنفسهم من الكفر والنفاق، وهم يعلمون ذلك بديهة، وأن ما يحذرهم به القرآن هو حق فأخبار القرآن هي أخبار صحيحة، سواء كانت تتعلق بالأحوال الكونية، أو الناس وبما يقومون به، فالواقع دائماً والتجارب والمستقبل والحاضر دائماً يصدق القرآن الكريم، وهذا ما ظهر جلياً في الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
الوجه الثالث: لو كان من عند غير الله لوجدتموه مختلفاً عما هو عليه، فلما لم يكن مختلفاً عما هو عليه علمنا أنه من عند الله، وهذا يحتاج إلى شيء من الروية والفهم، بمعنى: أنه لو كان كتاباً من عند غير الله لاختلف هذا الكتاب، ولكان مختلفاً عن الحالة التي عليها القرآن الكريم.
فهذه الأوجه الثلاثة هي الأوجه التي فسر بها المفسرون هذه الآية:"ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً" [النساء: 82] ، ولكنه من عند الله فلا اختلاف فيه، وليس الأمر متعلقاً باختلاف الناس في القرآن، أو اختلاف دلالات الألفاظ، أو اختلاف السور في طولها وقصرها، هذا ليس مراداً في الآية الكريمة، فهذا هو الجواب عن هذه الآية، والله أعلم.(1/43)
لماذا قدم الفجور في قوله: "فألهمها فجورها وتقواها"
المجيب د. محمد بن صالح الفوزان
عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين
القرآن الكريم وعلومه/تفسير آيات أشكلت
التاريخ 24/5/1425هـ
السؤال
أود أن أسأل عن سورة الشمس، عند قوله تعالى: "ونفس وما سواها* فألهمها فجورها وتقواها *" صدق الله العظيم، وأريد أن أسأل لماذا كان ذكر الفجور قبل التقوى، رغم أن الله قد خلق آدم وهو تقي، وكان الشيطان دخيلاً على هذه التقوى؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
ذكر المفسرون عدة أوجه لتقديم الفجور على التقوى، مع أن التقوى أفضل، وهي الأصل كما ورد في الحديث: "كل مولود يولد على الفطرة" رواه البخاري (1358) ، ومسلم (2658) ، ومن تلك الأوجه:
1- قدمها مراعاة لفواصل الآيات؛ لأن نظم القرآن أحد أوجه إعجازه.
2- وقيل: لأن إلهامه بهذا المعنى من مبادئ تجنّبه تخلية، والتخلية مقدمة على التحلية.
3- وقيل: قدمها مراعاة لأحوال المخاطبين بهذه السورة، وهم المشركون، وأكثر أعمالهم فجور لا تقوى. والله أعلم.(1/44)
شبهة تعارض بين آيتين
المجيب د. محمد بن سريّع السريّع
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/تفسير آيات أشكلت
التاريخ 3/2/1425هـ
السؤال
هناك من يقول بوجود تناقض في القرآن الكريم، فيذكر أن الآية: 9 في سورة فصلت: "قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين"، وفي آيات أخرى تنص على ستة أيام ثم استوى على العرش. أرجو توضيح المسألة لأحاجج بها من يدعي التناقض.
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
قوله -تعالى-: "قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا" [فصلت: 9 - 12] .
لا يعارض الآيات الدالة على خلق السماوات والأرض في ستة أيام، بل هو تفصيل لتلك الأيام الستة، فقد أخبر الله -تعالى- في الآية أنه خلق الأرض في يومين، وأخبر أنه خلق ما فيها من الجبال والأنهار، والمياه، وقدر فيها الأقوات في يومين آخرين، فالمجموع أربعة أيام، وهي المذكورة في قوله -تعالى-: "في أربعة أيام".
وأخبر الله -تعالى- أنه خلق السماوات السبع في يومين فمجموع هذه الأيام ستة أيام، كما في قوله -تعالى-: "خلق السماوات والأرض في ستة أيام" الآية [الأعراف:54] ، وليس بين هذه الآيات تعارض، وإنما هذه الآية تفصل ما ورد مجملاً في الآيات الأخرى. والله أعلم.(1/45)
الحكمة من ترتيب: "يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه ... " الآيات
المجيب د. عبد العزيز بن علي الحربي
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
القرآن الكريم وعلومه/تفسير آيات أشكلت
التاريخ 24/10/1425هـ
السؤال
السلام عليكم.
السؤال هو: هل للترتيب في ذكر الأقارب في الآية الكريمة: (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه) . فهل لترتيب الأخ ثم الأم والأب والزوجة والأبناء حكمة معينة أرادها الله عز وجل؟ جزاكم الله خيرًا.
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد:
جواب السؤال عن سر الترتيب في قوله تعالى: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس:34-37] .
نعم لهذا الترتيب معنى معقول، وبيانه- والله أعلم- أن ذكر الأقارب في هذا السياق فيه تدرج من الأدنى للأعلى، أو من القريب للأقرب، فإنه ذكر الأخ أولاً فالأم، فالأب، فالصاحبة (وهي الزوجة) ، فالبنين، وهم أقرب المذكورين.. ولابد أن يلحظ أن ترتيب الترقي في الآيات يراعى فيه الفرار، فإن الفرار من الأبناء في الخطوب وعظائم الأمور من أكبر العار، يليه الفرار من الزوجة، فالفرار من الأم وهي أحق من الأبوين، ولكن جرت العادة أن الإنسان يستميت في الدفاع عن أهله وبنيه أكثر من الأب، وأولى بالعناية والإنقاذ، ثم الأب، ثم الأخ، وليس معنى ما ذكر أن الزوجة والأولاد أحق من غيرهم، ويلحقه من العار لو فر منهم ما لا يلحقه لو فرّ ممن عداهم، ولو كان فراره من الأبوين.
وأيضًا فإن الأبناء ليس لهم قريب كالوالد، ولا من هو أولى منه، بخلاف الأبوين، فإن لهم أبوين وأبناء، هذا ما ظهر لي في معنى هذه الآية، والترتيب هنا مخالف لما جاء في سورة المعارج، فهذا في الفرار، وذلك في الافتداء.. والله أعلم.(1/46)
إشكال حول قول: "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ... "
المجيب محمد بن إبراهيم شقرة
أحد علماء الأردن
القرآن الكريم وعلومه/تفسير آيات أشكلت
التاريخ 20/12/1425هـ
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الله -سبحانه وتعالى- في سورة النور، الآية: 33:"ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا....". السؤال: ماذا تعني كلمة البغاء في هذه الآية الكريمة؟ هل تعني الزنا؟ وإذا كانت تعني الزنا، فلماذا لم يقل الله -تبارك وتعالى- الزنا بدل البغاء؟ لأن الله -تعالى- أشار إلى الزنا بكل وضوح في الآية -الثانية- من نفس السورة في قوله تعالى: "الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رافة في دين الله ... " هل أن الرجل عندما يكره بنته أو بناته على أن يصبحن راقصات أو عارضات أزياء، أو يعلمهن السباحة بالملابس العارية مع الرجال، أو يعلمهن الغناء بأن يصبحن مغنيات في الفرق الغنائية يعتبر هذا العمل هو الإكراه على البغاء أي يختلف عن الزنا؟ لأن الزنا يعني الجماع أو الوطء في القبل، أو في فرج المرأة، ولكن الرقص بصورة عارية أمام أنظار الرجال، أو الغناء بصورة شبه عارية من الملابس أو السباحة، هذه الأعمال هل تعتبر إكراهاً على البغاء؟ أي البغاء الذي جاء ذكره في الآية الثالثة والثلاثين من سورة النور في القرآن الكريم، يرجى الإجابة عن السؤال، وتبيان الفرق بين الزنا والبغاء لأن كل واحد منهما جاءتا في آيتين مختلفتين من سورة النور. وجزاكم الله -تعالى- خيراً.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.(1/47)
البَغِيُّ في لغة العرب المرأة الفاجرة حرة كانت أم أمة (جارية) ، والبغاء إتيان فاحشة الزنا -عياذاً بالله تعالى- بفجور ومن غير توق ولا استحياء، ومن هذا المعنى للبغاء نعلم أن الزنا قد يقع في خفاء وهو الأغلب والأعم، ويكون من الحرة والأمة، فإن كان يقع على نحو ما كان عليه البغايا جمع بغي في الجاهلية وهي التي تزني في معالنة من غير استحياء، وكان يقع من الإماء، أما حرائر النساء فلم يكن منهن البغاء على نحو ما كان من الإماء اللواتي كان منهن ما يشبه المهنة يتخذنها، وقد عجبت هند بنت عتبة رضي الله عنها لما أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يأخذ عليها العهد ألا تزني فقالت: أو تزني الحرة؟ فإن كان من الحرة الزنا على نحو ما كان من الأمة فهو نادر شاذ لا يقاس عليه، فالبغاء إذاً أشبه ما يكون أنه من خصوصيات قبائح الإماء، وأين الحرة من الأمة؟
ومن هنا خص القرآن الإماء بالبغاء فقال: "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً ... " إلى آخر الآية.
أما كلمة الزنا، التي وردت في سائر الآيات فهو مخصوص بالحرائر اللواتي يقعن في هذه الفاحشة على نحو يستوجب إيقاع العقوبة بها كفاً وزجراً ودرءاً لآثارها وعواقبها البشعة السيئة، ومثل ذلك في إيجاب العقوبة، رمي المحصنات المؤمنات، أي عقوبة الجلد ثمانين جلدة.
وهنالك عموم وخصوص بين البغاء وبين الزنا، فالزنا أعم من البغاء، إذن الزنا هو الفاحشة المعروفة ومثل ذلك يقال في البغاء، غير أن البغاء يزيد عن الزنا في قبحه، بزيادة في الفجور. ومن أجل هذا الفجور، الذي يذهب معه الحياء، وتكون به المجاهرة والمعالنة، سمي هذا النوع من الزنا بغاء، وهو الذي عناه الرسول-صلى الله عليه وسلم- في الحديث: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ثمن الكلب، ومهر البغيّ، وحلوان الكاهن"، ومعنى مهر البغيّ الأجر الذي يعطيه الزاني- عياذاً بالله- للزانية البغيّ.(1/48)
ومما تقدم ذكره، نعلم أن ذكر البغي في سورة النور يراد به شيء غير الذي يراد من ذكر الزانية، وهذا من جلال القرآن وجمال معانيه، والحكمة البالغة التي تميز آياته.
وأما قوله تعالى: "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً" فليس يقال هنا إن كانت الأمة مملوكة، أو كانت الحرة تحت ولاية وليّ لها، وترغب في تعاطي البغاء بمحض رغبتها وإرادتها، فلا يكون المعنى أنه لا حرج، على مالك هذه الأمة أو ولي هذه الحرة أن يقبل منها أو لها أن تكون بغياً، أو أن تتعاطى هذه المهنة القبيحة والقبيحة جداً.
إذاً؛ فماذا يراد من قوله تعالى: "ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً".
أقول: إن هذا النهي إنما هو استمرار للتذكير بقبيح هذا الأمر الشنيع السيئ، الذي كان أهل الجاهلية عليه، وهو تحذير للمؤمنين من هذا الأمر القبيح السيئ، ومن هنا قال العلماء: هو نهي لا معنى له، وهو يشبه قوله تعالى: "لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة"، فالربا كله حرام سواء أكان قليلاً أم كثيراً. ومثله يقال أيضاً في البغاء، فيستوي التحريم على أي حال كان الزنا، بإكراه أم برضا.(1/49)
أما ما يكون من امتهان بعض المهن التي تمتهنها بعض النساء، مثل عرض الأزياء وما يعرف بانتخاب ملكة الجمال والرقص والغناء، والسباحة وألعاب السيرك، وغير ذلك مما شاع أو يشيع في دنيا الناس من أنماط الفساد، وصنوف الشر، وأوبئة الأخلاق، فإن هذا كله لا يعدو أن يكون فساداً وإفساداً، أضحى من أسباب الكسب التي يستكثر بها المال والنساء اللواتي يمتهن هذه المهن الخبيثة أنزل مرتبة من الإماء اللواتي كن يعرضن في أسواق الرق، ويكرهن على البغاء الذي كان شائعاً في المجتمع الجاهلي، وورد ذكره في الآية رقم (33) من سورة النور. وهذه المهن إن لم تكن في نفسها أنواعاً من البغاء، فهي ذرائع وطرائق تنتهي بأولئك النساء إلى السقوط في تلك الفاحشة. بل إنهن لا يرضين بهذه المهن إلا إن كن بغايا، وبين الفينة والأخرى يعرضن في وسائل الإعلام وبخاصة التلفزيون ما يندى منه جبين الإنسانية. إنها حضارة الدمار والتدمير.(1/50)
معنى قوله: (كانتا رتقًا ففتقناهما)
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
القرآن الكريم وعلومه/تفسير آيات أشكلت
التاريخ 12/02/1426هـ
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم:
أريد من فضيلتكم معرفة التوفيق بين هذه الرواية: عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: (لما كان العرش على الماء قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بعث ريحاً فصفقت الماء، فأبرزت عن خشفة واحدة في موضع البيت كأنها قبة فدحا الله الأرض من تحتها فأوتدها بالجبال) . وآية: (أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما) ، هذا فيما معنى الآية حيث أنني قرأت هذه الرواية في إحدى مواضيع الإعجاز العلمي ولسيادتكم جزيل الشكر.
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
ذكر الله سبحانه وتعالى في مواضع من القرآن ما يدل على أن الأرض خلقت قبل خلق السماء، ومن ذلك قوله عز وجل: (قُلْ أَئنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ) إلى قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [فصلت: 9-11] ، وقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة: 29] ، و (ثم) كما هو معلوم للترتيب والتراخي.
ودلت الآية في سورة النازعات أن دحوا الأرض بعد خلق السماء، قال تعالى: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) [النازعات:27-30] .(1/51)
وقد قال رجل لابن عباس - رضي الله عنهما - إني لأجد في القرآن أشياء تختلف علي ... فذكر منها: قوله تعالى: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) ، فذكر خلق السماء قبل الأرض، ثم قال تعالى (قُلْ أَئنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ) إلى قوله (طَائِعِينَ) فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء، فقال ابن عباس: " خلق الأرض في يومين ثم خلق السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين ثم دحى الأرض ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعى وخلق الجبال والرمال والجماد والآكام وما بينهما في يومين آخرين فذلك قوله تعالى دحاها وقوله (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) فخلق الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام وخلق السماوات في يومين " [ينظر: تفسير ابن كثير (4/94) ] .
وذهب بعض العلماء إلى أن خلق الأرض جميعاً حصل قبل خلق السماء، ووجهوا قوله تعالى: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) ، بأن المراد بـ (بعد) أي: مع.
وأثر ابن عباس المذكور في السؤال - إن صح وسيأتي الكلام عليه - لا ينافي ما تقدم وهو يدل على أن دحو الأرض حصل ابتداء من هذه البقعة المباركة وهي الكعبة، والله أعلم.
وأخرج الطبري في تفسيره (3/60) عن مجاهد قال: كان موضع البيت على الماء قبل أن يخلق الله السماوات مثل الزبدة البيضاء، ومن تحته دحيت الأرض.(1/52)
أما أثر ابن عباس الوارد في السؤال فقد أخرجه الأزرقي في أخبار مكة (1/ 32) من طريق سعيد بن سلام عن طلحة بن عمرو عن عطاء عن ابن عباس أنه قال: " لما كان العرش على الماء قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بعث الله تعالى ريحا هفافة فصفقت الماء فأبرزت عن خشفة في موضع هذا البيت كأنها قبة فدحا الله الأرضين من تحتها فمادت ثم مادت فأوتدها الله تعالى بالجبال فكان أول جبل وضع فيها أبو قبيس فلذلك سميت مكة أم القرى".
وسعيد بن سلام أبو الحسن البصري العطار، ضعيف، قال البخاري: سعيد بن سلام أبو الحسن العطار البصري يذكر بوضع الحديث، وقال أحمد بن حنبل: كذاب، وضعفه النسائي [ينظر: الكامل لابن عدي (3/404) ، الضعفاء للعقيلي (2/108) ، الميزان (2/ 141) ] .
وطلحة بن عمرو الحضرمي المكي، ضعفه ابن معين وغيره، وقال أحمد والنسائي: متروك الحديث، وقال البخاري وابن المديني: ليس بشيء. [ينظر: الكامل لابن عدي (4/107) ، الضعفاء للعقيلي (2/224) ، (الميزان (2/340) ] .
وقد أخرجه الطبري في تفسيره (3/60) من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قال عطاء وعمرو بن دينار: بعث الله رياحاً فصففت الماء، فأبرزت في موضع البيت عن حشفة كأنها القبة، فهذا البيت فمنها، فلذلك هي " أم القرى ". قال ابن جريج: قال عطاء: ثم وتدها بالجبال كي لا تكفأ بميد فكأن أول جبل " أبو قبيس ".
أما قوله سبحانه وتعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا) ، فرتقاً: مصدر رتقه رتقاً إذا سده، يقال: رتق فلان الفتق رتقاً إذا ضمه وسده، وهو ضد الفتق الذي هو بمعنى الشق والفصل. وللعلماء في هذا الآية خمسة أقوال:(1/53)
القول الأول: أن معنى (كَانَتَا رَتْقاً) يعني أن السماوات والأرض كانت متلاصقة بعضها مع بعض، ففتقها الله وفصل بين السماوات والأرض، فرفع السماء إلى مكانها. قال قتادة: قوله: (كَانَتَا رَتْقاً) يعني أنهما كانا شيئاً واحداً ففصل الله بينهما بالهواء.
القول الثاني: أن السماوات السبع كانت رتقاً؛ أي متلاصقة بعضها ببعض، ففتقها الله وجعلها سبع سماوات، كل اثنتين منها بينهما فصل، وكذلك الأرضين كانت رتقاً ففتقها، وجعلها سبعاً بعضها منفصل عن بعض. قال مجاهد: كانت السماوات طبقة واحدة مؤتلفة، ففتقها فجعلها سبع سماوات، وكذلك الأرضين كانت طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبعاً "
القول الثالث: أن معنى (كَانَتَا رَتْقاً) أن السماء كانت لا ينزل منها مطر، والأرض كانت لا ينبت فيها نبات، ففتق الله السماء بالمطر، والأرض بالنبات. قال ابن عباس: كانت السموات رتقاً لا تمطر، وكانت الأرض رتقاً لا تنبت، فلما خلق سبحانه للأرض أهلاً، فتق هذه بالمطر، وفتق هذه بالنبات.
القول الرابع: أنهما (كَانَتَا رَتْقاً) أي في ظلمة لا يرى من شدتها شيء ففتقها الله بالنور، وهذا القول يرجع إلى القول الأول والثاني.
القول الخامس: - وهو أبعدها – أن الرتق يراد به العدم، والفتق يراد به الإيجاد؛ أي كانتا عدما فأوجدناهما.
وقد رجح بعض المحققين من المفسرين والعلماء القول الثالث – وهو أن كونهما رتقاً بمعنى أن السماء كان لا ينزل منها مطر، والأرض كانت لا تنبت شيئاً ففتق الله السماء بالمطر والأرض بالنبات – وذلك لأن هناك قرائن تدل على هذا المعنى من كتاب الله عز وجل منها:(1/54)
1- أن قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا) يدل على أنهم رأوا ذلك لأن الأظهر في " رأى " أنها بصرية، والذي يرونه بأبصارهم هو أن السماء تكون لا ينزل منها مطر، والأرض لا نبات فيها، فيشاهدون بأبصارهم نزول المطر من السماء، وخروج النبات من الأرض.
2- أنه سبحانه أتبع ذلك بقوله: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) ، والظاهر اتصال هذا الكلام بما قبله أي: وجعلنا من الماء الذي أنزلناه بفتقنا السماء، وأنبتنا به أنواع النبات بفتقنا الأرض، كل شيء حي.
قال الفخر الرازي في تفسيره: " ورجحوا هذا الوجه على سائر الوجه - يعني كونهما رتقاً بمعنى أن السماء كان لا ينزل منها مطر، والأرض كانت لا تنبت شيئاً ففتق الله السماء بالمطر والأرض بالنبات - بقوله بعد ذلك: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) ، وذلك لا يليق إلا وللماء تعلق بما تقدم، ولا يكون كذلك إلا إذا كان المراد ما ذكرنا.
3- أن هذا المعنى جاء موضحاً في آيات أخرى، كقوله - تعالى -: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ) ، والمراد بالرجع: نزول المطر من السماء تارة بعد أخرى، والمراد بالصدع: انشقاق الأرض عن النبات.
والآية الكريمة مسوقة لتجهيل المشركين وتوبيخهم على كفرهم، مع أنهم يشاهدون بأعينهم ما يدل دلالة واضحة على وحدانية الله تعالى وقدرته، ويعلمون أن من كان كذلك لا يصح أن تترك عبادته إلى عبادة حجر أو نحوه، مما لا يضر ولا ينفع. هذا ولله أعلم.
ينظر: تفسير الطبري (3/60) ، أضواء البيان للشنقطي (4/ 563 - 566) .(1/55)
المقصود "في سبيل الله" في القرآن
المجيب د. محمد بن سريّع السريّع
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/تفسير آيات أشكلت
التاريخ 08/05/1425هـ
السؤال
السلام عليكم.
سمعت أنه إذا ذكرت عبارة "في سبيل الله" في القرآن الكريم يقصد بها القتال في سبيل الله، ولم تذكر هذه العبارة لغير هذا القصد إلا في موضع واحد، هل هذا صحيح؟ وما هو هذا الموضع؟.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
لا يظهر صحة هذا القول، بل في القرآن الكريم أكثر من آية، يراد "في سبيل الله"، مطلق النفقة في مرضاته ... ومنها قوله -تعالى-: "مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت...." [البقرة من الآية: 261] ، وقوله -تعالى-: "الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله...." [البقرة من الآية: 262] ، وسبيل الله نوعان:
1- عام: وهو الإنفاق في مرضاته وطاعته عامة.
2- خاص وهو الإنفاق في الجهاد في سبيل الله. والله أعلم.(1/56)
الحكمة في ترتيب"تعقلون- تذكرون- تتقون"
المجيب د. رياض بن محمد المسيميري
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/تفسير آيات أشكلت
التاريخ 18/06/1425هـ
السؤال
فضيلة الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الآيات الثلاث من سورة الأنعام: (151-152-153) لماذا ختمت أو لماذا ذكر الله في نهايتها هذه الكلمات: (تعقلون- تذكرون- تتقون؟) .
الجواب
الحمد لله.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فبعد حمد الله والصلاة على رسول الله.
قال بعض المفسرين في بيان سر ختم الآيات الثلاث من سورة الأنعام: [151-152-153] بقوله: تعقلون، تذكرون، تتقون، إن السامع إذا تلقى الأمر القرآني فإنه أول أمره التعقل، أي تعقل ما سمعه من أمر الشارع وتدبره، ثم يدفعه ذلك إلى تذكر وجوب الإذعان والامتثال، ثم يدفعه أخيراً إلى تحقيق التقوى بالامتثال الفعلي والعمل الصالح. والله أعلم.(1/57)
الجمع بين قوله: إن الله لا يغفر أن يشرك به، وقوله: إن الله يغفر الذنوب جميعًا
المجيب د. عبد الرحمن بن أحمد بن فايع الجرعي
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك خالد
القرآن الكريم وعلومه/تفسير آيات أشكلت
التاريخ 21/11/1425هـ
السؤال
يقول الله جل وعلا، في كتابة الكريم: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء) . ويقول الله جل وعلا، في كتابه الكريم: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا) . ما الفرق بين الآيتين؟ ولماذا الله جل وعلا، استثنى في الآية الأولى الشرك ولم يستثنها في الآية الثانية؟
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
الآية الأولى فيمن لقي الله عز وجل مشركًا، أو مذنبًا بدون شرك، فمن لقيه، عز وجل، مشركًا لا يغفر له، ومن لقيه مذنبًا فهو في المشيئة.
وأما الآية الثانية فهي فيمن كان مشركًا أو مذنبًا ثم تاب، فإن الله عز وجل، يفتح له باب الرجاء بأنه عز وجل يغفر للتائب جميع ذنوبه، وبهذا يتضح الفرق. والله أعلم.(1/58)
تفسير "وجعلناكم شعوبًا وقبائل"
المجيب د. نايف بن أحمد الحمد
القاضي بمحكمة رماح
القرآن الكريم وعلومه/تفسير آيات أشكلت
التاريخ 08/11/1425هـ
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الحجرات: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) . صدق الله العظيم.
فماذا يقصد بكلمة (شعوبًا) في هذه الآية الكريمة، هل تعني العرب أو الأتراك أو الفرس أو الإنجليز أو الألمان؟ أم تعني معنى آخر؟ وماذا تعني كلمة قبائل في هذه الآية الكريمة؟ هل تعني القبائل العربية، وجزاكم الله تعالى ألف خير.
الجواب
الحمد لله وحده، وبعد:(1/59)
قال ابن كثير- رحمه الله تعالى- مفسرًا الآية المذكورة (4/18) : (يقول تعالى مخبرًا الناس أنه خلقهم من نفس واحدة، وجعل منها زوجها، وهما آدم وحواء، وجعلهم شعوبًا، وهي أعم من القبائل، وبعد القبائل مراتب أخر كالفصائل والعشائر، والعمائر، والأفخاذ، وغير ذلك.. وقيل: المراد بالشعوب بطون العجم، والقبائل بطون العرب، كما أن الأسباط بطون إسرائيل.. فجميع الناس في الشرف بالنسبة الطينية إلى آدم وحواء- عليهما السلام- سواء، وإنما يتفاضلون بالأمور الدينية وهي طاعة الله تعالى، ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال تعالى بعد النهي عن الغيبة واحتقار بعض الناس بعضًا منبهًا على تساويهم في البشرية: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) [الحجرات: من الآية13] . أي ليحصل التعارف بينهم كل يرجع إلى قبيلته ... قال البخاري (4689) : حدثنا محمد بن سلام: حدثنا عبدة، عن عبيد الله، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الناسِ أَكْرَمُ؟ قال: "أَكْرَمُكُمْ عندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ". قالوا: ليسَ عن هذا نَسْأَلُكَ. قال: "فَأَكْرَمُ الناسِ يُوسُفُ نبيُّ اللهِ ابنُ نبيِّ اللهِ ابنِ نبيِّ اللهِ ابنِ خَلِيلِ اللهِ". قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: "فَعَنْ مَعَادِنِ العَرَبِ تَسْأَلُونِي؟ ". قالوا: نعم. قال: "فَخِيارُكُمْ في الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ في الإِسْلامِ إذَا فَقُهُوا") . ا. هـ. وانظر: تفسير ابن جرير (26/139) ، وتفسير القرطبي (16/343) . والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(1/60)
هل أيام خلق السماوات والأرض مثل أيام الدنيا؟
المجيب د. محمد بن إبراهيم دودح
باحث علمي في هيئة الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة
القرآن الكريم وعلومه/تفسير آيات أشكلت
التاريخ 13/02/1426هـ
السؤال
خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام، هل هي من أيام الدنيا أم من الأيام المقصودة في قوله تعالى: "وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون".
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله, وبعد:
جوابا على السؤال (خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام هل هي من أيام الدنيا أم من الأيام المقصودة في قوله تعالى: "وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون"؛ أقول مستعينا بالله العلي العظيم:(1/61)
تشير الأبحاث العلمية إلى أن تاريخ الكون ضارب في القدم, وأقرب الحسابات هي أن عمره حوالي 12.5 (10-15) بليون سنة, وأن آخر معالم التكوين هي تشكل القشرة الصخرية للأرض واستقرار الجو المحيط بها منذ حوالي 250 مليون سنة, وهكذا تشكل العالم بخلاف ما اعتقد سابقا في بلايين من السنين تكونت فيها لبنات البناء المتسع الأرجاء بالتسلسل إلى أن تشكل أصل كوكبنا مع بقية أفراد المجرة وهو ما يعرف بسديم النظام الشمسي Solar System Nebula منذ ما يزيد عن ثمانية بليون سنة, وبعد ذلك انفصلت كتلة الأرض وتميزت وتقلصت تحت تأثير جاذبية مادتها وتشكلت طبقاتها الداخلية جميعا بنزول أثقل المواد نحو الباطن خاصة الحديد وخروج أخفها ليشكل السطح الصخري والجو منذ ما يزيد عن أربعة بليون سنة تمثل عمرها الجيولوجي, وبذلك يمكن تقسيم مراحل نشأة العالم المحيط بنا إلى ثلاثة أزمنة رئيسية متعاقبة تكونت فيها الأجرام السماوية ثم تكون أصل الأرض ثم تكونت طبقات الجو من دخان تبدد معظمه وتكونت معها أصول الألواح القارية كجزر تمتد وتميد فوق دوامات الصهير إلى أن ثبتتها الجبال, ونصيب الأرض على هذا باعتبار الأصل مرحلتين من الثلاث, فإذا كان خلق العالم كله في ستة أيام - إن شئت أن تعبر بأيام الأسبوع المعهودة عن تلك الأزمنة الهائلة فوق كل التصورات القديمة - فإن خلق الأرض بدون السطح الصخري والجو في يومين ومجموع فترات خلقها أربعة أيام, وتعجب أن تجد تلك الحصيلة العلمية التي اكتشفت وحققت في حوالي ثلاثة قرون تكاد تلمس فحسب بعض جوانب من التفصيل المعجز في قوله تعالى:] قُلْ أَإِنّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبّ الْعَالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِيَ أَرْبَعَةِ أَيّامٍ سَوَآءً لّلسّآئِلِينَ. ثُمّ اسْتَوَىَ إِلَى السّمَآءِ(1/62)
وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ. فَقَضَاهُنّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىَ فِي كُلّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيّنّا السّمَآءَ الدّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [[فصلت 9-12] .
فأما السماء التي تلي الأرض في الخلق والنظم فيرشدك إلى تعيينها علميا في هذا المقام قول الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور (يرحمهم الله أجمعين) : "والسماء إن أريد بها الجو المحيط بالكرة الأرضية فهو تابع لها متأخر عن خلقها, وإن أريد بها (آفاق الأجرام السماوية فهي) .. أعظم من الأرض فتكون أسبق خلقا" [تفسير التحرير والتنوير ج1ص384] .
والجو بالنسبة للأرض يصح لغةً أن يسمى سماء, وبالنسبة إلى كل ما يعلوه من وجود مادي يصح وصفه بأنه الأدنى, ونتيجة لتميزه عما نسميه فضاء Space بوجود الهواء يمكن وصفه أيضا بأنه منطقة بينية بين الأرض وكل ما يعلوه, وأما التشبيه بالمصابيح بجامع التوهج فنظيره قوله تعالى:] وَلَقَدْ زَيّنّا السّمَآءَ الدّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لّلشّيَاطِينِ [[الملك: 5] .
وقد توصل المحققون أن تلك الأجسام الملتهبة التي شبهت في القرآن بالمصابيح ويمكن أن تسبب ضررا للعابرين ليست إلا الشهب وهي بالقطع ظاهرة ضوئية لا تتجاوز جو الأرض, قال الشوكاني: "المصابيح جمع مصباح وهو السراج.. (و) الضمير في قوله وجعلناها راجع إلى المصابيح.. أي شبها (بدليل قاطع وهو قوله تعالى:) ..) إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب ( [الصافات: 10] " [تفسير الشوكاني ج5ص260] .
وقال الألوسي: و"الشهب شعل نارية" [تفسير الألوسي ج23ص73] .(1/63)
و"هذه الشهب ليست هي الثوابت.. وإلا لظهر نقصان كثير في أعدادها.. (خاصة أن التعبير قد) أفاد أن تلك المصابيح هي الرجوم بأعيانها.. (و) كل نير يحصل في الجو العالي فهو مصباح لأهل الأرض" [تفسير الألوسي ج14ص26] .
وقال الثعالبي: "ومعنى السماء الدنيا أي القريبة من الناس" [تفسير الثعالبي ج4ص320] .
وهكذا يمكن حمل تعبير (السماء الدنيا) على الجو المحيط بالأرض, وعند التخصيص بالكواكب دون عوالم النجوم العظيمة الأبعاد يمكن حمله على العالم الأقرب من عوالم الأجرام في قوله تعالى:) رّبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبّ الْمَشَارِقِ. إِنّا زَيّنّا السّمَآءَ الدّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ( [الصافات: 5-6] .
وأما التسبيع فهو دلالة على الطبقية؛ وتلك حقيقة علمية توافق ما ذهب إليه بعض المفسرين من أن التسبيع ها هنا على العرف في الدلالة على التعدد والتكامل لا على التعيين, ولكن العدد لا يأباه العلم باعتبار ثلاث طبقات بينية بين الأربعة الرئيسة وهو الموافق إلى ما ذهب إليه جل المفسرين, وأما الستة أيام في بيان خلق الكون المشاهد أو بالأحرى الممكن المشاهدة فقد ورد ذكرها في سبعة مواضع أولها على حسب ترتيب النزول قول جامع يكشف العلم بخفايا التكوين ويعالج توهم في الدين ما عاد بالإمكان حذفه من المدونات الأسبق؛ وهو قول العلي القدير:] وَلَقَدْ خَلَقْنَا السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتّةِ أَيّامٍ وَمَا مَسّنَا مِن لّغُوبٍ [[ق: 38] .
وهو بالمثل قائم على التقريب والتمثيل بالمعهود لأنه لا وجود للأيام قبل خلق الأرض والشمس, قال القرطبي: "إن لم يكن شمس فلا يوم" [تفسير القرطبي ج7ص219] .
وقال ابن عطية: "قال أكثر أهل التفسير الأيام هي من أيام الدنيا" [تفسير المحرر الوجيز ج3ص152.] .(1/64)
وقال الشوكاني: "ولا يستقيم أن يكون المراد بالأيام هنا الأيام المعروفة.. لأنه لم يكن حينئذ لا أرض ولا سماء" [تفسير الشوكاني ج2ص482.] .
وقال الألوسي: "المفسرون قالوا المراد بالأيام الأوقات" [ما دل عليه القرآن ج1ص46] .
فالتعبير إذن تمثيل والمراد أزمنة متتابعة كالأيام تميزها ثلاث مراحل, وأما إتيان الأرض وما يحيط بها فهو مشهد يكشف تلازم حركة الجو مع الكوكب وفق تقدير بعد مرحلة معدومة التلازم مما يعني تبدد الكثير من الجو, وتلك حقيقة علمية مبهرة جسدها التعبير بالتصوير, وترتيب الأحداث مطابق تماما لما كشفه العلم؛ كما في قوله تعالى:] ءأَنتُمْ أَشَدّ خَلْقاً أَمِ السّمَآءُ بَنَاهَا. رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوّاهَا. وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا. وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا. أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا. وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا. مَتَاعاً لّكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ [[النازعات:27-33] .
وهكذا يتجلى كل حين العلم في القرآن الكريم بخفايا التكوين بضرب الأمثال للمجهول زمن التنزيل بالمعلوم لتشع دلائل التنزيل بنور اليقين في صدور النابهين, يقول العلي القدير:] لَوْ أَنزَلْنَا هََذَا الْقُرْآنَ عَلَىَ جَبَلٍ لّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ [[الحشر: 21] . هذا والله جل جلاله أعلم.(1/65)
( ... إن تنصروا الله ينصركم ... )
المجيب د. ناصر بن محمد الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/تفسير آيات أشكلت
التاريخ 17/10/1425هـ
السؤال
السلام عليكم.
لم أحصل على تفسير واضح بخصوص الآية من سورة محمد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ) [محمد:7] . بعد أن راجعت تفسير ابن كثير.
والذي أفهمه من الآية هو أن نساعد عباد الله، مثلما ورد في الحديث أن الله سبحانه وتعالى يقول لعبده يوم القيامة: يا عبدي، استطعمتك فلم تطعمن. ي فيقول العبد: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول الرب سبحانه وتعالى: إن عبدي فلانًا استطعمك فلم تطعمه، أمَا لو أنك أطعمته لوجدت ذلك عندي.
فهل فهمي لهذه الآية صحيح؟.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
فالذي ظهر لي أن السائل الكريم أشكل عليه معنى: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ) . والله تعالى هو القوي العزيز، وجواب هذا ببيان معنى: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ) . وللشيخ السعدي- رحمه الله- في تفسيره، كلام مختصر واضح يبين معنى الآية حيث يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ..) . هذا أمر منه تعالى للمؤمنين أن ينصروا الله بالقيام بدينه والدعوة إليه وجهاد أعدائه والقصد بذلك وجه الله، فإنهم إذا فعلوا ذلك نصرهم الله وثبَّت أقدامهم ... فهذا وعد منه كريم صادق الوعد أن الذي ينصره بالأقوال والأفعال سينصره مولاه وييسر له أسباب النصر. انتهى كلامه- رحمه الله.(1/66)
فالمقصود بنصر الله تعالى: نصر دينه والدفاع عنه وجهاد أعدائه. وإلا فإن الله تعالى هو القوي القاهر لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض، وهو الذي ينصر عباده حقيقة على أعدائهم ويثبت أقدامهم، ولذا جاء في الآية الكريمة: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) . فالنصر حقيقة من الله تعالى، لكن الله تعالى وعد به من ينصر دينه ويجاهد أعداءه. هذا والله أعلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(1/67)
شبهة حول نزول عيسى -عليه السلام-
المجيب خالد بن عبد العزيز السيف
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
القرآن الكريم وعلومه/تفسير آيات أشكلت
التاريخ 16/11/1425هـ
السؤال
أحد المنكرين لرجوع عيسى عليه السلام، في آخر الزمان أرسل إليّ رسالة طويلة فيها شبهات تقلقني ولا أستطيع الرد عليها. أرجو من فضيلتكم أن تجيبوا عن هذه الشبهات. ومنها: يقول الله: (والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئًا وهم يخلقون. أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون) [سورة النحل: 21، 22] . وهذا يعني أن كل من اتخذهم الناس آلهة من دون الله- ومن ضمنهم كريشنا وبوذا وعيسى (عليه السلام) فإنهم قد ماتوا كما مات سائر الأكوان. وهذا من الأدلة التي تثبت أنهم ليسوا آلهة. ولو كان عيسى (عليه السلام) حيًّا لكان ذلك يعارض الآية. ومن يزعم أن الآية خاصة بالأصنام فيقال له: إن الأصنام لا تموت ولا تُبْعَث بعد الموت.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:(1/68)
قال الله تعالى: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص: 88] . (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن:26، 27] . فهذه الآيات عامة بموت جميع الخلق حتى الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين بما فيهم المسيح عليه السلام، ومعنى أموات في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ* أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) [سورة النحل: 21، 22] . ليس معناها ماتوا في الماضي، كما في قوله تعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) [الزمر: 30، 31] . فهذه الآية نزلت في السنة الثالثة من الهجرة فهل معناها أنها نزلت والرسول صلى الله عليه وسلم ميت!!.. وإنما المعنى أن قانون الموت سارٍ عليهم وهذا أسلوب العرب الذي نزل به القرآن، يعبرون عن الشيء المتحقق الوقوع في المستقبل بصيغة الماضي، وعلى هذا عند فهم القرآن لا بد من فهم أسلوبه العربي وحمل بعضه على بعض.
ولو كان هذا الفهم الذي فهمه السائل أن كل من اتخذهم الناس آلهة من دون الله- ومن ضمنهم كريشنا وبوذا وعيسى (عليه السلام) - أنهم قد ماتوا كما مات سائر الأكوان. فهذا يعنى لو ادّعى أحد في الوقت الحاضر الألوهية ودعا الناس إلى عبادة نفسه لصح ذلك لأنه حيٌّ والمنهي في الإسلام عنه هو عبادة الأموات!! وهذا فهم بعيد جدًّا.(1/69)
ونظير ذلك كما في لغة الكتاب المقدس أنهم يعبرون عن الجزء من اليوم بيوم كامل، كما في مسألة صلب المسيح وكم جلس في القبر، ولو كان المقصود يومًا كاملًا لكان جلس أقل من ثلاثة أيام، وهذا يخالف الشريعة المسيحية، ولكن لغة اليهود في ذلك الوقت تعتبر أن غالب اليوم أو جزءًا منه يوم كامل وعلى هذا بقي المسيح ثلاثة أيام بين الأموات وهذه معروفة في معتقد المسيحيين، لكن القصد التنبيه على فهم اللغة التي نزل بها القرآن وكيف فهمه المخاطبون به، وأيضًا كيف فهم اليهود تعاليم المسيح المخاطبين بها فهذا الفهم من الجميع مع الإقرار به من جهة المشرع حجة. ومثال ذلك:
قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144] .(1/70)
وهذه الآية تلاها أبو بكر لما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم- انظر صحيح البخاري (3670) - فقد تبين فعلًا وفاة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأنه واحد من الأنبياء، وتدل الحادثة التاريخية أيضًا أن الشك ارتفع عن الصحابة بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه كباقي الرسل بما فيهم المسيح، ولم تحفظ كتب الحديث أو التاريخ أنه حصل اعتراض من الناس الذين سمعوا أبا بكر يتلو هذه الآية بإيراد كون المسيح لم يمت، وهذا يدل أنهم فهموا من الآية كما هو ظاهرها، وكون المسيح حيًّا لا يعني عدم موته في آخر الزمان. فقد قال الله تعالى: (إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) [آل عمران: 55] . أي: متوفيك بعد الرفع وبعد نزولك إلى الأرض في آخر الزمان. لأن الواو في لغة العرب، كما هو معروف، لا تقتضي الترتيب، أو: متوفيك وفاة عند تمام أجلك. إعلامًا له بأن اليهود لا تتولى قتله، كما يدل عليه قوله تعالى في نفس الآية: (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [آل عمران: 55] .
وأما إيراد السائل بمن يزعم أن الآية خاصة بالأصنام فيقال له: إن الأصنام لا تموت ولا تُبْعَث بعد الموت.
فيقال لما تقرر بيانه في أول الجواب أن الآية عامة سواء في الأصنام وغيرها، ومن قال إن الأصنام لا تموت ولا تبعث فيقال إن الأصنام تبعث يوم القيامة وتنطق وتتبرأ من عابديها إيغالًا في إقامة الحجة على المشركين. وإذا كان المسيح له القدرة على إرجاع الروح في الأجساد التي فارقتها روحها فإن الله له القدرة على إيجاد الروح في الأجسام التي ليس فيها روح أصلًا، كما هو ظاهر القرآن. وأيضًا ظاهر الكتاب المقدس أن الأب أعظم وأقدر من الابن.(1/71)
دفع الإشكال في قوله تعالى "وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ"
المجيب د. أحمد بن سعد بن حمدان الغامدي
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
القرآن الكريم وعلومه/تفسير آيات أشكلت
التاريخ 19/10/1426هـ
السؤال
أود طرح نقطة حرجة أرقتني ولم أجد لها حلاً، وكلما سألت ذا علم قوبلت بأجوبة، مثل (ملحد، كافر، منافق) فالدين الإسلامي يرتكز على القرآن الكريم، والذي نزل على رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- وفي القرآن عينه وجدت آية "ومبشرًا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد"، ولكن أين أحمد؟! لقد جاءنا محمد وليس أحمد، فماذا لو بعد عدة سنين جاءنا رجل اسمه أحمد، وقال: إنه هو الرسول، ويقول: إن كتابكم قال ذلك
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
أولاً: القرآن الكريم قد ثبتت صحته بعشرات الأدلة، وذلك من خلال محتواه اللفظي والمعنوي.
أما اللفظي فقد تحدى العرب وهم الفصحاء البلغاء الذين كانوا أمراء العبارة وفرسان الكلام فعجزوا، فدل على أنه ليس في مقدور بشر أن يأتي بمثله ولا بسورة من مثله.
ثانياً: هذا الاسم مثبت في القرآن الكريم منذ نزوله، وسمعته العرب وهي تعرف أن الذي أنزل عليه القرآن هو "محمد"، فلم ينكر شخص واحد على هذه التسمية - وسيأتي التعليل بمشيئة الله-.
ثالثاً: هذا الاسم مثبت في القرآن، وقد سمعه أهل الكتاب من اليهود والنصارى ولم ينكروا، مما يدل على أنه ليس فيه شبهة عندهم.
رابعاً: هذه البشارة بهذا الاسم نزلت في لغة غير عربية، واللغات لا تتطابق فيها الأسماء تمام المطابقة، فقد يقرأ الاسم الواحد بأكثر من لفظ لضرورة الترجمة.
ألا ترى "إبراهيم" يقرأ كذلك، ويقرأ "إبراهام" ويقرأ "إبراهوم" في قراءات القرآن الكريم، ولم يقل أحد أن الاسم الأول غير الاسم الثاني، ولكن جرى التسامح في رسمها ونطقها لاختلاف اللغة.(1/72)
خامساً: اللفظ الذي ورد في كتب اليهود والنصارى يؤدي المعنيين فكلاهما حق.
فـ "محمد" اسم بمعنى "محمود" على وزن مفعول أي محمود من الناس.
و"أحمد" كذلك اسم على وزن "أفعل" أي أحمد من غيره.
فكلاهما يرجعان إلى اشتقاق متقارب.
سادساً: الاسم الذي ورد في كتبهم وتحتمله كتبهم مشتقة من الحمد وهو: "الفار قليط"، ومن معناها عندهم: "الحماد" أو "الحامد" أو "الحمد"، فكلها كما ترى مشتقة من "الحمد".
ونحن نعلم ما تعرضت له كتب النصارى من تحريف.
سابعاً: القرآن الكريم نزل على النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وعمره أربعون سنة، وقد عرف في قومه باسم "محمد" والقرآن نزل واسمه معروف، فلو كان دلالة أحمد غير دلالة محمد بالنسبة لما ورد في الكتب السابقة لقال الله عز وجل: "اسمه محمد"، ولما كان كلا اللفظين تدل عليه الكتب السابقة التي ذكر فيها -عز وجل- الاسم سماه الله -عز وجل- "أحمد" وفي مكان آخر: "محمداً".
ثامناً: يبدو أن اللغة التي دونت بها التوراة والإنجيل إنما ذكر فيها المادة التي يشتق منها الاسم، فكلا الاسمين يشتقان من تلك المادة، فقارئ التوراة والإنجيل يفهم من تلك المادة كلا الاشتقاقين.
هذا موجز عن هذه المسألة أرجو أن تحقق المطلوب.(1/73)
تفسير قوله: "وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ"
المجيب د. محمد بن إبراهيم دودح
باحث علمي في هيئة الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة
القرآن الكريم وعلومه/تفسير آيات أشكلت
التاريخ 13/04/1426هـ
السؤال
السلام عليكم.
أنا إنسان طبيعي، لست متخصصاً في علوم الدين، ولكن وجهة نظري -باعتباري مسلماً ومرت علي آيات قرآنية- لماذا لا تكون الأنعام أنزلت من عند الله ولم تخلق على الأرض مثل نزول الحديد؟ والدليل على ذلك أن الله أنزل الناقة على سيدنا صالح، وأنزل الكبش على سيدنا إبراهيم، وإننا ننتظر حتى يكتشف هذه الحقيقة غيرنا، وللأسف كل اكتشاف جديد نقول بأنه موجود في القرآن، ونسارع بقولنا هذا دون النظر إلى أمور غيبية لا نعلمها، وكأننا نطلب شهادة الكفرة بأن ديننا هو من عند الله، الموضوع طويل وأكتفي بهذا. والسلام عليكم.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
جواباً على السؤال: لماذا لا يكون "إنزال الأنعام" في قوله تعالى: "وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ" [الزمر 6] ؛ دلالة على تكونها خارج الأرض دون بقية الأحياء؟ , وأجيب مستعيناً بالله العلي القدير سائلاً العون والتوفيق:(1/74)
الأصل هو حمل التعبير في القرآن الكريم على ظاهره، إلا بقرائن صارفة تبيح حمله على ضرب المثل, وقد أكثر القرآن الكريم من التمثيل كأبلغ سبيل لبيان المراد بحالة مماثلة، نحو ما يصرح به قوله تعالى: "وَيَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ لِلنّاسِ وَاللهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ" [النور: 35] ، وقوله تعالى: "وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ" [الحشر: 21] ، وقوله تعالى: "وَيَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ" [إبراهيم: 25] ، وأما قوله تعالى: "وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاّ الْعَالِمُونَ" [العنكبوت: 43] ؛ فيقصر الانتفاع بتلك الأمثال على العالم بالله عن تفكر وإدراك.
وفي قوله تعالى: "يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مّن رّبّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مّبِيناً" [النساء: 174] , ظاهر التعبير (وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مّبِيناً) انتقال ضوء الشمس نحو الأرض, ولكن السياق يتعلق بإقامة البرهان في مجال الدين بقرينة التعبير (يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مّن رّبّكُمْ) .
ولذا لم يختلف المفسرون في تأويل لفظ (النور) ، وصرفه عن ظاهر دلالته وبيان أن المراد به هو القرآن الكريم.
قال البيضاوي: "عنى بالبرهان المعجزات وبالنور القرآن أي قد جاءكم دلائل العقل وشواهد النقل ولم يبق لكم عذر ولا علة" [تفسير البيضاوي (ج2ص285) ] .
وقال الثعالبي: "البرهان الحجة النيرة الواضحة التي تعطي اليقين التام, والنور المبين يعني القرآن" [تفسير الثعالبي (ج1ص435) ] .(1/75)
وقال السعدي: "يمتن تعالى على سائر الناس بما أوصل إليهم من البراهين القاطعة والأنوار الساطعة، ويقيم عليهم الحجة ويوضح لهم المحجة؛ فقال (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم) أي حجج قاطعة على الحق تبينه وتوضحه وتبين ضده، وهذا يشمل الأدلة العقلية والنقلية والآيات الأفقية والنفسية، لقوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وَفِيَ أَنفُسِهِمْ حَتّىَ يَتَبَيّنَ لَهُمْ أَنّهُ الْحَقّ) ,.. (وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً) ، وهو هذا القرآن العظيم الذي قد اشتمل على علوم الأولين والآخرين والأخبار الصادقة النافعة، والأمر بكل عدل وإحسان وخير، والنهي عن كل ظلم وشر، فالناس في ظلمة إن لم يستضيئوا بأنواره" [تفسير السعدي (ج1ص217) ] .
فإنزال القرآن -إذن- بلفظ النور تصوير للتشريف بجامع جلاء الطريق والاهتداء, وهكذا ترى أن التصوير يجسد الدلالة ويطلق العنان لتوارد فيض من المضامين، فيبلغ بالتعبير أعلى المراتب في البيان.
وقد ورد فعل (الإنزال) ليفيد الانتقال من الأعلى نحو الأسفل، كما في قوله تعالى: "وَأَنزَلَ مِنَ السّمَاءِ مَاءً" [البقرة: 22] , وأما قوله تعالى: "وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ" [الحديد: 25] ؛ فيمكن حمله على النزول إلى لب الأرض لانتفاء ما يصرف عن الظاهر, ولا يجادل اليوم أحد بالفعل أن معظم لب الأرض حديد, فطابقت شهادة الواقع صريح التعبير, ولكن القرائن الصارفة قد تمنع حمل (الإنزال) على الظاهر، كأن يكون الموصوف من المعنويات، كما في قوله تعالى: "هُوَ الّذِيَ أَنزَلَ السّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ" [الفتح: 4] , والقرينة أن السكينة حالة شعورية وليست تكويناً مادياً, ولذا عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه صرف النزول إلى (الجعل) بقوله: " (أَنزَلَ السّكِينَةَ) أي جعل الطمأنينة" [تفسير ابن كثير (ج4ص185) ] .(1/76)
ومثلها (النعاس) في قوله تعالى: "ثُمّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الْغَمّ أَمَنَةً نّعَاساً يَغْشَىَ طَائِفَةً مّنْكُمْ" [آل عمران:154] . فليس النعاس بالمثل جسماً مادياً ليصح وصفه بالنزول الحسي، وإنما يصح التمثيل بالمطر ينقذ الأرض العطشى خاصة مع العدول عن التعبير بفعل الإنزال إلى التصوير بالتغشية في قوله تعالى: "إِذْ يُغَشّيكُمُ النّعَاسَ أَمَنَةً مّنْهُ وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السّمَاءِ مَاءًَ" [الأنفال:11] , فتأمل الجناس بين النزول المعنوي للنعاس، والحسي للمطر بجامع النصرة والتثبيت, وكأن وقوع النعاس بما صاحبه من زوال الخوف غيثًا أحاط بهم فأزال خوفهم من الهلاك, ومثله قوله تعالى: "وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَم وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماًُ" [النساء: 113] . فليست الحكمة جسما لتنزل حسياً، ولم ينزل الكتاب صفحات ورقية؛ وإنما الإنزال بياناً للفضل ويفسره التعليم.
وفي وصف بعثة النبيين -عليهم السلام أجمعين- في قوله تعالى: "كَانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النّبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقّ" [البقرة: 213] ، لا تدل المعية بنزول الكتاب معهم على هبوطهم من السماء، وإنما فعل البعث يصرف (الإنزال) إلى التصوير تشريفاً لهم وبياناً لوحدة الرسالة لتوحيد الكتاب, ومثله قوله تعالى: "فَالّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتّبَعُواْ النّورَ الّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [الأعراف: 157] .(1/77)
وأما قوله تعالى: "يَابَنِيَ آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ" [الأعراف: 26] ؛ فلا يفيد بالمثل أن ما نلبسه هبط من السماء، لأن مصدره معلوم كالصوف من الحيوان والقطن من نبات الأرض, ولذا اجتهد المفسرون في صرف (أنزلنا) عن معنى الهبوط, قال الشوكاني: "عبر سبحانه بالإنزال عن الخلق أي خلقنا لكم لباساً" [تفسير فتح القدير للشوكاني (ج2ص197) ] .
وقال الجصاص: "وإنما قال أنزلنا لأن اللباس يكون من نبات الأرض أو من جلود الحيوان وأصوافها، وقوام جميعها بالمطر النازل من السماء" [أحكام القرآن للجصاص (ج4ص203) ] .
وقال السمعاني: "وفي معنى (أنزلنا عليكم) ثلاثة أقوال، أحدها: خلقنا لكم, والثاني: ألهمناكم كيفية صنعه, والثالث: أنزلنا المطر الذي هو سبب نبات ما يتخذ لباس" [تفسير زاد المسير لابن الجوزي (ج3ص181) ] .
وقد يصح أن معنى (الإنزال) في الملابس باعتبار الأصل وهي ترجع للمطر, وقد يصح نزول القرآن باعتبار العلاء المعنوي تشريفا, ويصح الجمع بين الحالتين بالتمثيل بالغيث ينزل ليغشي الأرض العطشى وينقذها من الهلاك.(1/78)
ومن نعم الله -تعالى- على العرب الأولين أن هيأ لهم حيوانات الرعي التي كانت عماد حياتهم في البادية خاصة الأغنام والمعز والإبل والبقر, ولكنهم ضيقوا على أنفسهم بتقاليد تمنع الانتفاع ببعضها, ومن بالغ الرحمة إذن أن يشدد القرآن على تحريرهم من تلك التقاليد وإباحة تلك الأنعام لهم في بيان مستفيض حاسم؛ يقول تعالى: "وَمِنَ الأنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُواْ مِمّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلاَ تَتّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ إِنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مّبِينٌ. ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مّنَ الضّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْءَآلذّكَرَيْنِ حَرّمَ أَمِ الاُنثَيَيْنِ أَمّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الاُنثَيَيْنِ نَبّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ. وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ" [الأنعام: 142-144] .
ولفظ (الأنعام) اسم صفة لا اسم ذات ومنه (النعمة) , لذا سميت أيضا بلفظ (النّعَمِ) في قوله تعالى: "يََأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مّتَعَمّداً فَجَزَآءٌ مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النّعَمِ" [المائدة: 95] , ووصفها بالأنعام والنّعَمِ والرزق المباح للأكل يجسد بالتسمية نعمة الله تعالى عليهم, ويؤكد الإنعام وصف إيجاد الأنعام بلفظ (الإنزال) في قوله تعالى: "وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ" [الزمر: 6] .
وقد يصح أن يكون فعل الإنزال في حالة النعمة أو النقمة باعتبار العلاء المعنوي بيانا لمشيئة الله تعالى وتقديره.(1/79)
ويصح التمثيل بالمطر بلفظ (الإنزال) تجسيداً للنعمة؛ لأن نزوله هو أول مشهد متبادر لفعل الإنزال يبش له العربي الأول، ويشعره بالامتنان، ويجسد له رحمة الله تعالى, وهم محتاجون للأنعام تماما كاحتياج الأرض العطشى للمطر, واستبدال فعل (الإنزال) بأفعال (الخلق) و (الجعل) و (الإمداد) في بيان سبق التهيئة بالأنعام قرينة جلية تصرفه عن الظاهر الحسي إلى معنى الإيجاد؛ كما في قوله تعالى: "أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّا خَلَقْنَا لَهُم مِمّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ" [يس: 71] , وقوله تعالى: "اللهُ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأنْعَامَ لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ" [غافر: 79] , وقوله تعالى: "أَمَدّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ" [الشعراء: 133] , وتسمى الكوارث نوازل، وتوصف الأحداث تصويرًا بالوقوع والمجيء والإتيان، ولا يعني شيء من ذلك بالضرورة هبوطها من السماء.
قال البغوي: " (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) معنى الإنزال هاهنا الإحداث والإنشاء، كقوله تعالى (أنزلنا عليكم لباسا) " [تفسير البغوي (ج4ص72) ] .
وقال السمعاني: "أي وخلق لكم من الأنعام.., وهو مثل قوله تعالى (أنزلنا عليكم لباسا) أي خلقنا" [تفسير السمعاني (ج4ص458) ] .
وقال الكلبي: "وأما (أنزل) ففيه ثلاثة أوجه الأول:.. خلق, الثاني:.. قضى,.. الثالث أنه أنزل المطر الذي ينبت به النبات، فتعيش منه هذه الأنعام، فعبر بإنزالها عن إنزال أرزاقها وهذا بعيد" [التسهيل لعلوم التنزيل للكلبي (ج3ص191) ] .(1/80)
ولا يعني تعبير (الإنزال) إذن هبوط الأنعام من السماء دون كافة الأحياء, والتمثيل بالغيث يجمع كل ما قيل من معان، فيجسد عناية الله -تعالى- ويتضمن معنى التنزيه وسبق التهيئة والإنعام على العباد المحتاجين, ولكن قد تتحول النعمة نقمة بيانا لمشيئته تعالى ويصبح النزول غضب والمطر عقوبة, والواجب التوجيه اللائق لكل لفظ بما لا يخالف الواقع والنظرة الشاملة لكل الآيات وتقصي القرائن في كل سياق, وهو منهج الأعلام على مر الأيام, والله تعالى أعلم.(1/81)
هل يصح هذا التفسير للمقام المحمود؟
المجيب..........
القرآن الكريم وعلومه/تفسير آيات أشكلت
التاريخ 17/06/1426هـ
السؤال
هل القول بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- سيجلس على العرش يعتبر من عقيدة أهل السنة والجماعة؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
كلاّ، ليس القول بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- سيجلس على العرش من عقيدة أهل السنة والجماعة، ولم يثبت في ذلك نص، وإنما الوارد في هذا الباب حديث واهٍ لا يثبت، وكذلك ما رُوِي عن مجاهد -رحمه الله- في تفسير قول الله تعالى: " عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمودا" [الإسراء:79] ، حيث رُوِِيَ عنه تفسير" المقام المحمود" بأنه جلوس نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وقعوده على العرش.
وهذا الأثر عن مجاهد غير صحيح وليس له طريق معتبر، بل الثابت عن مجاهد وعن غيره من جمهور المفسرين تفسير" المقام المحمود" بأنه الشفاعة العامة لنبينا محمد _صلى الله عليه وسلم- وهذا هو الحق الذي لاريب فيه، وقد تضافرت الأدلة على ذلك، وليس هذا موضع بسطها.
وبهذا نعلم أن هذا القول ليس من عقيدة أهل السنة والجماعة، وليس له شاهد من كتاب الله -تعالى- ولا من صحيح سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- والله أعلم.(1/82)
تفسير قوله تعالى: (يخرج من بين الصلب والترائب)
المجيب د. محمد بن إبراهيم دودح
باحث علمي في هيئة الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة
القرآن الكريم وعلومه/تفسير آيات أشكلت
التاريخ 25/10/1426هـ
السؤال
يقول الله تعالى في كتابه العزيز في سورة الطارق: "فلينظر الإنسان مم خلق، خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب". والصلب هو ظهر كل من الجنسين، والترائب هي صفائح الصدر لكل من الجنسين، ونحن نعلم أن الحيوانات المنوية تتكون على مستوى الخصيتين، وأن البويضات تتكون على مستوى المبيض، فكيف ذلك؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله, أما بعد:
فأقول مستعينا بالله القادر، سائله تعالى التوفيق والسداد:
من مآثر علماء السلف -رحمهم الله جميعاً- في تناولهم للكتاب العزيز اعتبار دلالة السياق والقرائن وبلوغ قاعدة في التفسير تعالج دلالة النص، مع ما يشترك معه في نفس الموضوع وفق القول المشهور: "القرآن يفسر بعضه بعضا", وفي قوله تعالى: "فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ. خُلِقَ مِن مّآءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ. إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ. يَوْمَ تُبْلَىَ السّرَآئِرُ. فَمَا لَهُ مِن قُوّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ" [الطارق 5-10] .(1/83)
(مّآءٍ دَافِقٍ) وصف للمني العديد المكونات بالماء العديد النطف أو القطرات مبينة تحركها ذاتيا بنشاط باسم الفاعل (دافق) قبل أن يعاين كثرتها وحركتها تحت المجهر إنسان, ويناسب تنكير لفظ (ماء) تعدد خصائص المني بتعدد الأفراد, وضمير الفعل (يخرج) يحتمل رجوعه لأحد المذكورين: إما (الماء الدافق) أو (الإنسان) بنوعيه من الذكر والأنثى, ولا عبرة بأقرب المذكورين إذا دلت قرائن السياق على رجوعه للأبعد وهو (الإنسان) ، خاصة أنه موضوع الحديث وفق التعبير (فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ) , وكافة الضمائر سواه تصلح أن تعود على (الإنسان) ، ولا تصلح أن تعود على (الماء) بقرينة التعبير (يَوْمَ تُبْلَىَ السّرَآئِرُ) , وهو باتفاق يوم القيامة؛ لأن المني لا يصح وصفه بإمكان إعادته حيا ليحاسب في التعبير (إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) وإنما يصلح الوصف للإنسان, ولا يصح أن يوصف بأنه فاقد القوة الذاتية ونصرة الأهل والعشيرة أو الصحبة والأنصار في التعبير (فَمَا لَهُ مِن قُوّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ) وإنما يصلح للإنسان, ولا خلاف في عودة ضمير (مِمّ خُلِقَ) وضمير (خُلِقَ) على (الإنسان) , والأصل عند المحققين عدم تشتيت مرجع الضمائر.(1/84)
والتعبير (فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ) يدعو لتأمل أصل الإنسان، فيرجع به نحو الماضي الأقرب ومنه إلى الأصل الأبعد, وأصله الأقرب من الجين الأسبق يبينه التعبير (خُلِقَ مِن مّآءٍ دَافِقٍ) , والأصل الأبعد عند تكون أعضاء أجنة الجين الأسبق بناء على المعرفة الطبية تكوين بدايات الخصية والمبيض كعضوي إنجاب الذرية في الظهر، وخروجها في الجنسين من بين عظام الظهر أو الصلب وعظام الصدر أو الترائب لينزل المبيض للحوض والخصية لكيس الصفن قبل الولادة, فيصلح أن يكون التعبير (يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ) وصفا لموضع خروج الإنسان من ظهور الآباء باعتبار أصله، خاصة أن فعل الخروج ورد كثيراً في القرآن للإنسان بيانا لخروجه من بطون الأمهات ويوم البعث للحساب، بينما لم يرد قط للمني, وحينئذ يستقيم المعنى، ويزول الإشكال، وتتطابق دلالة النص الشريف مع أدق وأثبت معطيات العلم الحديث, والله تعالى أعلم.(1/85)
تفسير قوله تعالى: "يمحو الله ما يشاء ويثبت"
المجيب د. محمد بن سريّع السريّع
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/تفسير آيات أشكلت
التاريخ 28/09/1426هـ
السؤال
أرجو توضيح قوله تعالى: "يمحو الله ما يشاء ويثبت".
الجواب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وبعد:
فقد اختلف المفسرون في معنى هذه الآية، فقال بعضهم: المراد ينسخ ما يشاء من الشرائع ويثبت ما اقتضت حكمته إثباته.
وقيل: يمحو من ديوان الحفظة ما ليس من الحسنات والسيئات، لأنهم مأمورون بكتابة كل شيء: "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد" [ق:18] .
وذهب ابن عباس -رضي الله عنهما- وجمع من السلف إلى أن المعنى: أن الله تعالى يمحو ما يشاء من الأقدار ويثبت ما يشاء، ويجعل لثبوتها أسباباً ولمحوها أسباباً، كما جعل البر والصلة والإحسان من أسباب طول العمر وزيادة الرزق، وكما جعل المعاصي سبباً لمحق بركة العمر والرزق.
قال ابن كثير -رحمه الله-: وقد يستأنس لهذا القول بما رواه الإمام أحمد عن ثوبان، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، ولا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر، وثبت في الصحيح أن صلة الرحم تزيد في العمر، وفي حديث آخر: "إن الدعاء والقضاء ليعتلجان بين السماء والأرض" انتهى مختصرا. والله أعلم.(1/86)
تأويل السلف لقوله: " والسماء بينناها بأيد"
المجيب عبد الرحمن بن ناصر البراك
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/تفسير آيات أشكلت
التاريخ 03/11/1426هـ
السؤال
يقال: إن بعض السلف أوّل صفة اليد لله في قوله تعالى: "والسماء بنيناها بأيد" بأن ذلك يعني بقوة. فهل هذا صحيح؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فقوله تعالى: "والسماء بنيناها بأيدٍ" [الذاريات: 47] . قال المفسرون: أي بقوة، وهذا لا خلاف فيه. والأيد في الآية مصدر آد يئيد، يعني القوة، كما قال تعالى: "واذكر عبدنا داود ذا الأيد" [ص:17] أي ذا القوة، وليس هو بمعنى اليد، فاليد جمعها (أيدي) ، كما قال تعالى: "أَولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا" [يس: 71] ، وعلى هذا فتفسير الأيد بالقوة ليس تأويلاً أصلاً، فإن التأويل هو صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى غيره، فلا يرد على هذا التفسير، فلا يجوز أن يقال: إن السلف أولوا هذه الآية، بل فسروها بمعناها الظاهر، وليس في هذا التفسير صرف للفظ عن ظاهره فلا يكون تأويلاً، ومن قال: إن السلف أولوا. فهو إما جاهل، وإما ملبس يريد أن يحتج بذلك على ما يذهب إليه من التأويل الباطل. والله أعلم.(1/87)
تفسير "والسماء ذات البروج"
المجيب د. رياض بن محمد المسيميري
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/تفسير آيات أشكلت
التاريخ 07/03/1427هـ
السؤال
ما هي بروج الشمس والقمر المذكورة في قوله تعالى: "والسماء ذات البروج"؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فقد ذكر كثير من المفسرين أن "البروج" المذكورة في قوله تعالى: "والسماء ذات البروج" [البروج:1] هي منازل الشمس والقمر، وهو ما استصوبه الطبري ومال إليه، وهي اثنا عشر برجاً، تعرفها العرب منذ القدم، وتقطعها الشمس في سنة، والقمر في ثمانية وعشرين يوماً.
وذكر بعضهم أسماءها، كالحمل والثور والدلو وغيرها، والله أعلم بحقيقة الأمر.(1/88)
معنى "السياحة في القرآن"
المجيب د. محمد بن سريّع السريّع
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/تفسير آيات أشكلت
التاريخ 02/06/1427هـ
السؤال
ما تفسير كلمة (السائحون) الواردة في القرآن، وهل تعتبر السياحة في أيامنا هذه عبادة؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فيقول تعالى: "التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ ... " [التوبة:112] .
واختلف المفسرون في معنى (السائحون) في الآية على أقوال، ولعل أقوى هذه الأقوال وأرجحها أنهم الصائمون، وهو المروي عن أبي هريرة، وابن مسعود، وابن عباس، وعائشة وسعيد بن جبير، ومجاهد، والحسن، والضحاك، وعطاء، وقتادة. وبه قال أكثر العلماء، كالطبري وابن قتيبة، والزجاج، والزمخشري، والبيضاوي، وابن كثير، وابن باز، ومن أدلة هذا القول:
ما جاء عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " (السائحون) : هم الصائمون". رواه ابن جرير (12/11) .
عن عبيد بن عمير قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن السائحين فقال: "هم الصائمون". رواه ابن جرير (12/10) وغيره، وقال ابن كثير: "وهذا مرسل جيد".
وأخرجه ابن جرير (12/11) ، وابن مردويه من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-.
وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كل ما ذكر الله في القرآن ذكر السياحة هم الصائمون" رواه ابن جرير (12/13) .
وما يقوي هذا القول أنه هو المروي الثابت عن الصحابة -رضي الله عنهم-.
وقيل: هم المجاهدون، وبه قال عطاء لما أخرجه أبو داود (2486) أن رجلاً قال: يا رسول الله، ائذن لي في السياحة. قال: "إن سياحة أُمتي الجهاد في سبيل الله تعالى". والحديث صححه الألباني في صحيح الجامع.(1/89)
وقد يقال: إن هذا أيضاً داخل في معنى الآية، فيكون معنى السياحة: الصيام، والجهاد لمن يجب عليه؛ لأن الله قال: "عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ ... سَائِحَاتٍ" [التحريم:5] ومن المعلوم أن النساء لا جهاد عليهن.
ومن الأقوال في الآية: أنهم طلبة العلم، أو المهاجرون، والله أعلم.
أما السياحة الآن فهي بمجردها لا تعتبر عبادة، إلا إذا اقترن بها ما هو عبادة، أو تعين على العبادة؛ كأن يسافر ليتفكر في عجائب صنع الله وبديع مخلوقاته، فيقوى إيمانه، وتنشط نفسه للعبادة، مع البعد عن إضاعة الأوقات، أو الانزلاق فيما لا يحل للمرء أن يأتيه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(1/90)
سبب نزول قوله تعالى: (ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ... )
المجيب د. عبد الله بن مقبل القرني
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
القرآن الكريم وعلومه/أسباب النزول
التاريخ 29/2/1425هـ
السؤال
ما سبب نزول قول الله -تبارك وتعالى-: "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" أفيدونا أفادكم الله وشكراً.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه، وبعد:(1/91)
رداً على سؤال الأخ السائل عن سبب نزول قوله تعالى:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" [المائدة:105] ، أقول وبالله التوفيق إن هذه الآية الكريمة العظيمة من نداءات القرآن لأهل الإيمان فيها الأمر بإصلاح النفس، والعمل على طاعة الله، والبعد عن معصيته، وقد تحدث عنها وما يتعلق بها جمع من الصحابة - رضي الله عنهم - منهم أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، فقد روى أبو داود (4338) ، والترمذي (2168) وغيرهما بسند حسن عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه - أنه قال: أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ"، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه".فدل على أنه لا بد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال البغوي في تفسيره روينا عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه- أنه قال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" وتضعونها في غير موضعها ولا تدرون ما هي، وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الناس إذا رأوا منكراً فلم يغيروه يوشك أن يعمهم الله تعالى بعقابه"، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم" رواه الترمذي (2169) من حديث حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-، وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "قولوها ما قبلت منكم فإذا ردت عليكم فعليكم أنفسكم"، (أي مر بالمعروف وانه عن المنكر فإذا لم يقبل منك فعليك أن تعمل(1/92)
بالمعروف وتنتهي عن المنكر" أما سبب نزول هذه الآية، فقد ذكر الواحدي في كتابه أسباب نزول:" قوله تعالى " يا أَيُّها الَّذينَ آَمَنوا عَلَيكُم أَنفُسَكُم لا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذا اِهتَدَيتُم " الآية. قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل هجر وعليهم منذر بن ساوى يدعوهم إلى الإسلام فإن أبوا فليؤدوا الجزية، فلما أتاه الكتاب عرضه على من عنده من العرب واليهود والنصارى والصابئين والمجوس، فأقروا بالجزية وكرهوا الإسلام وكتب إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أما العرب، فلا تقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، وأما أهل الكتاب والمجوس فاقبل منهم الجزية فلما قرأ عليهم كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسلمت العرب، وأما أهل الكتاب والمجوس فأعطوا الجزية، فقال منافقو العرب: عجباً من محمد يزعم أن الله بعثه ليقاتل الناس كافة حتى يسلموا ولا يقبل الجزية إلا من أهل الكتاب، فلا نراه إلا قبل من مشركي أهل هجر ما رد على مشركي العرب، فأنزل الله تعالى " عَلَيكُم أَنفُسَكُم لا يَضُرُّكُم مَن ضَلَّ إِذا اِهتَدَيتُم "، يعني من ضل من أهل الكتاب. وهذه الرواية ضعيفة لأنها من طريق الكلبي عن أبي صالح وهي أضعف الطرق التي يذكر فيها قول ابن عباس -رضي الله عنهما-.وقد نقل ابن الجوزي في كتابه زاد المسير في علم التفسير في سبب نزولها قولين فذكر ما تقدم ثم قال: (وقال مقاتل: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يقبل الجزية إلا من أهل الكتاب، فلما أسلمت العرب طوعاً وكرهاً قبلها من مجوس هجر، فطعن المنافقون في ذلك، فنزلت هذه الآية. والثاني: أن الرجل كان إذا أسلم، قالوا له سفهت آباءك وضللتهم، وكان ينبغي لك أن تنصرهم. فنزلت هذه الآية. والمعتبر مما تقدم هو ما قاله أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(1/93)
الآيات التي نزلت في عرض قريش على النبي صلى الله عليه وسلم أن يترك دينه
المجيب عبد الحكيم بن عبد الله القاسم
عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين
القرآن الكريم وعلومه/أسباب النزول
التاريخ 29/10/1425هـ
السؤال
السلام عليكم.
سمعت في إحدى المحاضرات أن الآيات التالية نزلت عندما جاء كفار قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعرضون عليه التخلي عن دينه، وقت مقاطعة قريش حين اضطر المسلمون لأكل ورق الشجر، فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لن يقبل منهم حتى لو وضعوا الشمس في يد والقمر في اليد الأخرى، وهذه الآيات هي الآيات [74- 75 من سورة الإسراء] . فهل صحيح أنها نزلت في هذا الشأن؟ وقد قرأت في مكان آخر أن سورة الكافرون هي التي نزلت في هذا الخصوص. أرجو التوضيح. قال تعالى: (وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً (74) إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا) .
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الذي ظهر لي من قراءة أسباب النزول في كتب التفسير: أن آية الإسراء: (وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّتَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً (74)) . ليس فيها سبب نزول
محدد، بل تعددت الروايات وبعضها ليس له إسناد فليس له اعتبار، ولم يكن في الآية ما يدل على أحدها، فبقيت على الاحتمال.(1/94)
قال ابن جرير- رحمه الله- بعد ذكر الروايات: (والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره- أخبر عن نبيه صلى الله عليه وسلم أن المشركين كادوا أن يفتنوه عما أوحاه الله إليه ليعمل بغيره، وذلك هو الافتراء على الله، وجائز أن يكون ذلك ما ذكر عنهم من ذكر أنهم دعوه إلى أن يمس آلهتهم ويلم بها، وجائز أن يكون ذلك ما ذكر عن ابن عباس، رضي الله عنهما، من أمر ثقيف ومسألتهم إياه ما ذكرنا، وجائز أن يكون غير ذلك، ولا بيان في الكتاب ولا في خبر يقطع العذر أي ذلك كان، والاختلاف فيه موجود على ما ذكرنا، فلا شيء فيه أصوب من الإيمان بظاهره حتى يأتي خبر يجب التسليم له ببيان ما عني بذلك منه) . ابن جرير 15/20.
وأما السيوطي فقد ذكر أن ابن مردويه وابن أبي حاتم أخرجا من طريق ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة عن ابن عباس، رضي الله عنهم، قال: خرج أمية بن خلف وأبو جهل بن هشام ورجال من قريش فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، تعال فاستلم آلهتنا وندخل معك في دينك. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه فراق قومه ويحب إسلامهم فرقّ لهم، فأنزل الله: (وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا(1/95)
إِلَيْكَ. . .) إلى قوله: (نَصِيرًا) [73- 75] . قال السيوطي: هذا أصح ما ورد في سبب نزولها وهو إسناد جيد وله شاهد. وذكر أن أبا الشيخ أخرج عن سعيد بن جبير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر فقالوا: لا ندعك تستلم حتى تستلم آلهتنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومَا عَلَيَّ لَو فَعَلْتُ، واللهُ يَعْلَمُ مِنِّي خِلَافَهُ". فنزلت. أخرجه ابن جرير 15/13. وأخرج نحوه عن ابن شهاب وأخرج عن جبير بن نفير: أن قريشًا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن كنت أرسلت إلينا فاطرد الذين اتبعوك من سقاط الناس ومواليهم فنكون نحن أصحابك. فركن إليهم، فنزلت. لباب النقول 139. ومحمد بن أبي محمد مجهول، وقال ابن الجوزي في زاد المسير 5/68،67: هذا باطل، وأما ما أخرجه أبو الشيخ فلا نعرف إسناده وفي متنه غرابة. فالله أعلم. وأما سورة الكافرون: فالسورة تدل على أنهم طلبوا عبادة آلهتهم وهم سيعبدون آلهة محمد صلى الله عليه وسلم وليس ذلك في سورة الإسراء، ومن نزلت فيهم الآيات قد سبق في علم الله تعالى- أنهم سيبقون على الكفر حتى يموتوا، أو أن من أسلم منهم يخرج من وصف الكفر المذكور في السورة، وهو الأقرب.
وأورد ابن جرير في سبب نزول سورة الكافرون روايتين:(1/96)
الأولى: قال في تفسيره (30 / 331) : حدثني محمد بن موسى الحرشي قال: حدثنا أبو خلف قال: حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس، رضي الله عنهم: إن قريشًا وعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطوه مالا فيكون أغنى رجل بمكة، ويزوجوه ما أراد من النساء، ويطئوا عقبه، فقالوا له: هذا لك عندنا يا محمد، وكف عن شتم آلهتنا فلا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل، فإنا نعرض عليك خصلة واحدة فهي لك ولنا فيها صلاح. قال صلى الله عليه وسلم: "مَا هِيَ؟ ". قالوا: تعبد آلهتنا سنة- اللات والعزى- ونعبد إلهك سنة. قال: "حَتَّى أَنْظُرَ مَا يَأتي مِن عندِ رَبِّي". فجاء الوحي من اللوح المحفوظ: (قل يا أيها الكافرون) السورة. وأنزل الله: (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ... ) إلى قوله: (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ) [الزمر64-66] .
وضعف الطبراني في معجمه الصغير (ج:2 ص:44 ح751) ما رواه بإسناد الطبري نفسه فقال: لم يروه عن داود بن هند إلا عبد الله بن عيسى، تفرد به محمد بن موسى، وخالف ما عليه الثقات، وأحاديثه أفراد كلها، وضعفه الحافظ في الفتح 8/733.
والثانية: قال الطبري: حدثني يعقوب قال: حدثنا ابن علية عن محمد بن إسحاق قال: حدثني سعيد بن ميناء مولى البختري قال: لقي الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد ونشركك في أمرنا كله، فإن كان الذي جئت به خيرًا مما بأيدينا كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيرًا مما في يديك كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت منه بحظك. فأنزل الله: (قل يا أيها الكافرون) حتى انقضت السورة.
قلت: سعيد بن مينا تابعي ولم ينسب سبب النزول عن الصحابي، رضي الله عنه، ولم يعتضد برواية أخرى عن تابعي مثله فيكون سبب النزول مرسلًا ضعيفًا.(1/97)
ولم أقف على سبب نزول صحيح في سورة الكافرون. فالله أعلم.
وأما أن حصار النبي صلى الله عليه وسلم في الشعب كان بعده نزول سورة الكافرون فلم أقف عليه مطلقًا.
والذي ينبغي على طالب العلم في التعامل مع أسباب النزول أن يكون بتوثق وتحرّ كبيرين؛ لأن سبب النزول له حكم الرفع، ولا يعتبر سبب النزول عن الصحابي إلا إذا كان بإسناد صحيح، وبصيغة صريحة، ولا يعتبر سبب النزول عن التابعي إلا بأربعة شروط: صحة الإسناد، والصراحة في السببية، وأن يعرف التابعي بالأخذ عن الصحابي، وأن يعتضد برواية تابعي آخر. وينظر في تقرير ذلك كتب علوم القرآن. والله أعلم.(1/98)
معنى: أنزل القرآن على سبعة أحرف
المجيب د. رياض بن محمد المسيميري
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/علوم القرآن
التاريخ 6/5/1422
السؤال
قال صلى الله عليه وسلم: ((أنزل القرآن على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منه)) . فما هو القول الراجح في قوله: (سبعة أحرف) ؟
الجواب
حديث الأحرف السبعة من الأحاديث المتواترة تواتراً معنوياً، وأخرجه الأئمة في مصنفاتهم، ولا يكاد يخلو منه مصنف في الحديث، وممن أخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي، وأبو داود، ومالك في الموطأ وغيرهم.
وقد اختلف العلماء في تبيين المراد من الأحرف السبعة حتى أوصلها السيوطي في الإتقان إلى أربعين قولاً!!
والراجح من هذه الأقوال _ والله أعلم _ ما ذهب إليه جمهور العلماء أن الأحرف السبعة سبع لغات من لغات العرب في المعنى الواحد..
وتوضيحه: من المعلوم أنَّ للعرب لغات متنوِّعة، ولهجات متعدّدة للتعبير عن معنى من المعاني، فمثلاً: كلمة ((تعال)) يُعبَّر عنها بلغة قبيلة أخرى بـ ((هلم)) ، وقبيلة ثالثة بـ ((أقبل)) وهكذا.. فحيث تختلف لغات العرب في التعبير عن معنى من المعاني يأتي القرآن مُنزّلاً بألفاظ على قدر هذه اللغات لهذا المعنى الواحد، وحيث لا يكون هناك اختلاف فإنه يأتي بلفظ واحد أو أكثر، ولا يزيد على سبعة.
ويحسن التنبيه على أمرين قد يلتبسان على بعض الناس:
الأول: أن هذه الأحرف السبعة التي كان القرآن يُقرأ بها كانت من باب التيسير على الأمة حين نزول القرآن، فلما ذلّت به ألسنتهم، وائتلفوا على قراءته، جمعهم عثمان -رضي الله عنه- على حرف واحد هو لسان قريش الذي يقرأ به القرآن اليوم.
الثاني: أن الأحرف السبعة ليست القراءات السبع المشهورة اليوم. فهذه القراءات هي قراءات للحرف الذي اجتمعت الأمة على قراءة القرآن به. والله أعلم.(1/99)
حكم إتقان التلاوة
المجيب د. مساعد بن سليمان الطيار
عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين
القرآن الكريم وعلومه/علوم القرآن
التاريخ 08/10/1425هـ
السؤال
هل إجادة تلاوة القرآن الكريم فرض على من يستطيع التعلم وإن لم يتعلم فهل عليه إثم؟ جزاكم الله عنا خيرًا.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
لقد أنزل الله القرآن على نبيه محمد عليه الصلاة والسلام؛ وأحب من المسلم أن يتلوه آناء الليل وأطراف النهار، وإذا كانت تلاوة القرآن عبادة، فإن معرفة كيفية قراءة النبي صلى الله عليه وسلم؛ في هذه العبادة مطلب لكل مسلم حريص على قراءة القرآن كما أُنزل، يستوي في ذلك الأمر الصحابةُ، رضي الله عنهم، فضلاً عمن جاء بعدهم. والقرآن له كيفية مخصوصة في الأداء لا يشاركه فيها غيره من وجوه الكلام، لذا نوَّه الرسول صلى الله عليه وسلم- بهذا في قوله: "مَن أحَبَّ أنْ يقرَأ القُرآنَ غَضًّا كما أُنزل فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قراءةِ ابنِ أُمِّ عَبْدٍ". أخرجه أحمد (4255) ، وابن ماجة (138) ، من حديث ابن مسعود، رضي الله عنه. كما لم يدع للصحابة- وهم عرب خلص- مجالاً في الأداء، بل قال لهم: "اقْرَؤوا كَمَا عُلِّمْتُمْ". انظر مسند أحمد (832) ، وصحيح ابن حبان (746) ، وانظر كذلك صحيح البخاري (2410) .(1/100)
وقال لهم: "خُذُوا القُرآنَ عَلَى أَرْبَعَةٍ". أخرجه البخاري (3760) ، ومسلم (2464) ، من حديث ابن مسعود، رضي الله عنه. وحثَّهم على تحسين الصوت بالقرآن بقوله: "ليس مِنَّا مَن لَمْ يَتَغَنَّ بالقرآنِ". أخرجه البخاري (7527) ، من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه. وفي رواية: "ما أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ كأَذَنِهِ لنبيٍّ يَتَغَنَّى بالقرآنِ". انظر صحيح البخاري (5024) ، وصحيح مسلم (792) إلى غير ذلك من الآثار الدالة على قدر زائد على أداء حروفه بالعربية، وإذا تأملت هذه النصوص وغيرها مما جاء في أداء القرآن، وعلمت أن قراءته عبادة، وكيفية أداء العبادة سنة، وأن هذه السنة قد نقلها القراء كما نقلوا حروفه، فإن كنت تقبل نقلهم في الحروف فإن قبول نقلهم للأداء كقبول نقلهم للحروف سواء بسواء.
أقول إذا تأملت هذا، فإن إجادة تلاوة القرآن مطلب لكل مسلم، فمن مهر به كان مع السفرة الكرام البررة، ومن شق عليه كان له أجران، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، في قوله: "الماهِرُ بالقرآنِ معَ السَّفَرَةِ الكِرامِ البَرَرَةِ، والَّذي يَقْرَأُ القُرآنَ ويَتَتعْتَعُ فِيه، وهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَه أَجْرَان". أخرجه البخاري (4937) ومسلم (798) ، من حديث عائشة، رضي الله عنها. ويعني بالأجرين: أجر تلاوته وأجر مشقته.
أما مسألة فرضية إجادة التلاوة فتحتاج إلى تحرير فقهي، إذ فرض الشيء، على المسلمين ليس بالأمر الهين، لكن يكفيك قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس مِنَّا مَن لَمْ يَتَغَنَّ بالقرآنِ". والله الموفق.(1/101)
شبهة حول خلو السور المكية من التشريع والأحكام
المجيب د. رياض بن محمد المسيميري
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/علوم القرآن
التاريخ 12/11/1424هـ
السؤال
هناك من يزعم أن المكي قد خلا من التشريع والأحكام؛ لأنه كان في مكة بين أميين، على حين أن المدني مشحون بتفاصيل التشريع والأحكام، وذلك يدل على أن القرآن من وضع محمد - صلى الله عليه وسلم- وتأليفه تبعاً لتأثره بالوسط الذي يعيش فيه؛ لأنه لما حل بالمدينة بين أهل الكتاب المثقفين جاء مليئاً بتلك العلوم والمعارف.
كيف أستطيع نقض هذه الشبهة بأسلوب علمي مع تزويدي بالمصدر، وفقكم الله وزادكم علماً. وجزاكم خير الجزاء.
الجواب
ليس صحيحاً زعم خلو القرآن المكي من التشريع لأمية أهل مكة، ولكن حقيقة الأمر أن القرآن المكي ركز على تقرير عقيدة الألوهية في النفوس لتدنس فطر الناس بالشرك الأكبر، وتعلقهم بالأوثان والأصنام، فلم يكن من الحكمة في شيء أن يدعى الناس إلى الزكاة والصوم، والحج، وهم مشركون وثنيون، حتى إذا دخل الإسلام من شاء الله هدايته من أهل مكة من المهاجرين الأولين، ورحب الأنصار في المدينة بشريعة الله ودينه العظيم، ودخل الإسلام بيوتهم، وخالط الإيمان شغاف قلوب هاتين الفئتين العظيمتين المهاجرين والأنصار، بدأت التشريعات والأحكام تنزل تباعاً في المدينة، بعد أن تهيأ المسلمون لتحملها والقيام بأعبائها.(1/102)
هذا كل ما في الأمر، وأما زعم البعض بأن التشريعات المدنية كانت مجاراة لأهل الكتاب المثقفين فدعوى عارية من الصحة؛ لأن أهل الكتاب من يهود المدينة كانوا ذوي ثقافة توراتية محرفة، وأقلية عددية واضحة في المجتمع المدني، فلم يعطهم القرآن الكريم أكثر من حجمهم الطبقي، وليس الخطاب القرآني لأهل الكتاب إلا لإقامة الحجة عليهم، وتذكيرهم بوجوب الاستجابة لدعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم- عطفاً على ما عندهم من بعض علم الكتب السابقة، ودعوى اختلاق نبينا - صلى الله عليه وسلم- للقرآن دعوى قديمة تولى كبرها صناديد قريش ومشركو مكة، وهي تتجدد بتجدد الملاحدة المكذبين لله ولرسوله -عليه الصلاة والسلام-.
ويمكن كشف هذه الشبهة ونقضها حين تذكر أن نبينا -عليه السلام- كان أمياً لا يحسن كتابة أو قراءة اسمه الشريف، ولم يسجل له التاريخ مجالس علم أو مذاكرة مع أهل الكتاب، أو غيرهم ليتسنى لذي كذب أن يقول عن القرآن بأنه إفك افتراه محمد -عليه السلام- وأعانه عليه قوم آخرون.
كما يمكن دحض هذه الشبهة - بل هذه الفرية - حين نتذكر إعجاز القرآن بألفاظه ومعانيه، بحيث لا يتأتى لبشر مهما أوتي من فصاحة، أو بلاغة أن يأتي بسورة واحدة من مثل القرآن، بل لا يتأتى ذلك للإنس والجن أن يفعلوا "ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا" [الإسراء:88] .
وأنصحك بقراءة ما كتبه الزرقاني في كتابه: (مناهل العرفان في علوم القرآن) ففيه فصول نافعة كما فيه جزء حول ما سألت عنه، كما فند جملة من الشبهات المثارة حول القرآن بما فيها شبهة اختلاق نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم- للقرآن. وفقك الله وأعانك.(1/103)
القراءة بمثل تلاوات المرتلين
المجيب د. عبد العزيز بن علي الحربي
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
القرآن الكريم وعلومه/علوم القرآن
التاريخ 2/1/1424هـ
السؤال
استمعت إلى بعض تلاوات القرآن لعدد من القراء من أمثال القارئ عبد الباسط والمنشاوي، وغيرهم، فما حكم التلاوة بتلك الطريقة؟ علماً أنه يصاحبها تكبير وتعليق من الحاضرين لتلك التلاوة، أفيدوني جزاكم الله خيراً.
الجواب
أمر الله عز وجل بترتيل القرآن وتلاوته على مكث وترسل، ويتحقق ذلك ببيان الحروف وإخراجها من مخارجها بصفاتها بوضوح من غير تكلف، فما كان كذلك من القراءة سواء كان بحدر -أي إسراع- أو تحقيق -أي تطويل- فهو سائغ.
وشرط ذلك كله:
(1) ألا يتجاوز في أحكام التجويد حتى يخرج عن حد القراءة.
(2) وألا يعجل به القارئ عجلة تمنعه من التدبر والفهم.
(3) أن يراعي النطق الصحيح بالحروف.
وتلاوة كثير من قراء المحافل ومنهم من ذكر في السؤال يحصل لديهم تجاوز وإفراط في المدود والغنن، والمنشاوي من أقلهم تكلفاً وأحسنهم أداء، وتلك القراءات التي يحصل فيها التكبير والتعليق والصياح كلها من البدع المنكرة التي ابتدعت في العصور المتأخرة، ولا يزال علماء الشريعة والقراءة ينكرون على من فعل ذلك، والفطر السليمة تدرك مخالفته لما يستوجبه المقام من سكينة ووقار، والله أعلم.(1/104)
النسخ في القرآن الكريم
المجيب أ. د. سعود بن عبد الله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
أصول الفقه / الأحكام وأدلتها/أدلة الأحكام
التاريخ 7/9/1422
السؤال
أرجو التكرم بالإجابة بالتفصيل عن موضوع الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم؛ لأنه يوجد من يدعي أنه لا نسخ في القرآن، وأن من يقول ذلك يعد كافراً، مع العلم أن هذا الأمر مذكور في الصحيحين، فضلاً عن كتاب الله العزيز وفي أكثر من موضع، ولكنه الجدل الذي لا دليل معه.
الجواب
أجيب عن السؤال بخمس نقاط على الإيجاز والاختصار، فأقول:
الأولى: المعنى اللغوي للنسخ: النسخ في اللغة مصدر للفعل الثلاثي نسخ ينسخ نسخاً، ويطلق في اللغة على معانٍ أربع، هي:
(1) الإزالة تقول: نسخت الشمس الظل إذا أزالته، ومنه قوله - تعالى -:".. فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته ". [الحج: 52] .
(2) التبديل والتغيير كقولك: نسخت الريح آثار الديار أي: بدلتها وغيرت هيئتها، ومنه قوله - تعالى -: " وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر " [النحل:101] .
(3) التحويل كالمناسخات في المواريث، وهو: أن يموت الميت، ثم يموت وارثه قبل أن تقسم تركة الميت الأول، وهكذا.
(4) بمعنى: النقل من موضع إلى آخر، تقول: نسخت الكتاب إذا نقلت ما فيه إلى موضع آخر من كتاب ونحوه حاكياً للفظه، ومنه قوله - تعالى -:" إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ". [الجاثية: 29] .(1/105)
الثانية: أجمعت الأمة من السلف والخلف على جواز النسخ ووقوعه في القرآن الكريم بدليل قوله – تعالى -:" ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير " [البقرة: 106] ، وقوله:" يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب " [الرعد: 39] ، وقوله: " وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعقلون " [النحل: 101] . فهذه الآيات نصت على أن الله إذا أراد نسخ حكم أو تأجيله أتى بحكم مثله أو أفضل منه؛ لأن علمه محيط بكل شيء في هذا الكون، ومسطور عنده في اللوح المحفوظ، ويمحو الله منه ما يشاء ويثبت ما يشاء ممّا فيه مصلحتهم، وهو العليم في إبداله آية مكان أخرى، وحكماً مكان آخر، وبهذا يتبين أن كل المعاني اللغوية في النسخ متحققة في معناه الشرعي، على أن السلف من الصحابة والتابعين أكثر ما يطلقون لفظ النسخ في القرآن يريدون به التخصيص وهو غير ما يريده أو عرفه به علماء الأصول، حيث هو عندهم: (رفع الحكم السابق بحكم لاحق بدليل شرعي متراخياً عنه) ، فالمعنى عند السلف حين فسروا النسخ بالتخصيص أوسع من تعريف المتأخرين، وقد بالغ بعض المفسرين في تعيين المنسوخ من آيات القرآن حتى عدوا جميع آيات الجهاد في القرآن وقالوا: نسختها آية واحدة هي آية السيف " وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة " [التوبة: 36] ، وقالوا: إن هذه الآية نسخت ما يقرب من (500) آية من القرآن، وهذه المبالغة في هذا التوجه إنما هو مسايرة للمفهوم الأول للنسخ، المعروف عند السلف من الصحابة والتابعين كعبد الله بن عباس، وابن عمر، ومجاهد، والحسن البصري، ولو طبق على كل هذا العدد من الآيات التي يقال إنها منسوخة. - الاصطلاح الثاني – اصطلاح المتأخرين من علماء أصول التفسير والفقه لا نحصر هذا إلى عدد رؤوس الأصابع، فمثلاً الإمام محمد بن جرير الطبري شيخ المفسرين يرى أن آيات الجهاد(1/106)
والقتال ليس فيها ناسخ ومنسوخ، بل تحمل آيات القتال والغزو على حال ما إذا كانت الأمة المسلمة قوية، وتحمل آيات الصبر والموادعة والمهادنة على ما إذا كانت الأمة ضعيفة مغلوبة على أمرها، وهذا رأي راشد وسديد، وعليه لا تكون آية السيف ناسخة لذلك العدد الكبير من آيات القتال.
وقد تتبع الحافظ بن جرير الطبري الآيات التي يمكن أن يقال إنها منسوخة فوجهها توجيهاً سديداً، وبقي عنده قرابة إحدى عشرة آية فقط هي منسوخة الحكم قطعاً لتغير الحكم اللاحق عن السابق بنص قطعي من القرآن الكريم، أو السنة الصحيحة، وهي معروفة عند أهل الاختصاص في علوم القرآن.
وعلم الناسخ والمنسوخ من أهم علوم القرآن، روي عن علي بن أبي طالب أنه سمع واعظاً يعظ الناس، فقال له: أتعرف الناسخ من المنسوخ في القرآن؟ قال: لا، فقال له: لقد هلكت وأهلكت.
الثالثة: قال بمنع وقوع النسخ في القرآن قديماً اليهود - عليهم لعائن الله - وتبعهم أبو مسلم الأصبهاني المعتزلي (ت 459هـ) ، وبعض الكتاب المعاصرين كعبد الكريم الخطيب، وعبد المتعال الجبري، ووجه منع وقوعه في القرآن الكريم عند اليهود أن القول بالنسخ يعني القول بالبداء، وهو: الظهور بعد الخفاء، أما من جاء بعدهم فوجه منعه عندهم لئلا يأتي أحد فيغير حكم الله، ثم يقول: إن هذا كان منسوخاً، ودليل هؤلاء وأولئك في المنع ظاهر قوله - تعالى - في وصف القرآن:" لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد " [فصلت: 42] ، والباطل ضد الحق.
ولكن أولئك نسوا أن الله هو منزل القرآن وهو المتكفل بحفظه " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " [الحجر: 9] . كما نسوا أو تناسوا أن الحافظ لهذا الكتاب من أن يقع فيه باطل أو تحريف، هو الذي أوجد فيه الناسخ والمنسوخ لحكمة يعلمها- سبحانه -.(1/107)
واليهود قد تذرعوا ظاهراً لما منعوا وقوع النسخ في كلام الله – بالبداء، وهو: الظهور بعد الخفاء، وتبعهم الرافضة الغلاة، ويروون عن جعفر الصادق أنه قال:" البداء ديني ودين أبائي "، ومتى كان اليهود يقصدون التنزيه للباري - سبحانه -، وهم الذين وصفوه بأحط الصفات – تعالى - الله عن ذلك علواً كبيراً، وقالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء، وقالوا: عزير ابن الله، وقالوا: الملائكة بنات الله.. إلخ. وإنما كان قصد اليهود في مقالتهم تلك لما منعوا وقوع النسخ في كلام الله كتمان الحق، وكراهية أهله، وبغضاً لمحمد – صلى الله عليه وسلم – الذي يعرفونه حق المعرفة " الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ... " [الأعراف:157] .
أما إنكار أبي مسلم الأصبهاني المعتزلي (ومخالفته لجمهور المعتزلة أيضاً) ، وبعض الكتاب المعاصرين إنما كانت مخالفتهم لجهلهم باللغة العربية، وأقوال سلف الأمة، ومحبتهم للتجديد والمخالفة طلباً للشهرة واتباعاً لكل قول مطمور مهجور.
الرابعة: سبق أن ذكرت بأن التخصيص (النسخ عند السلف) أعم من النسخ عند المتأخرين؛ لأن التخصيص قد يكون بالتقييد بعد الإطلاق، أو بالتفصيل بعد الإجمال، أو بالوصف، أو الاستثناء.. إلخ، وهذا معلوم في مظانِّه وعند أهله المتخصصين به.
ويجب أن يعلم أن النسخ في القرآن لا يقع إلا في خطاب الأمر والنهي، ولا يقع في الأخبار، فلم يقع في قصص الماضين، ولا في أمور الاعتقاد؛ كالإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، ولا في أسماء الله وصفاته، كما لا يقع النسخ في الأمور الكونية كقوله:" الذي خلق سبع سموات طباقاً ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت " [الملك: 3] . ونحو قوله:" وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون " [يس: 37] .
الخامسة: بعض الآيات المنسوخة حكماً عند جمهور الأمة من السلف والخلف:
1) نسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة في المسجد الحرام.(1/108)
2) عدة المرأة المتوفى عنها زوجها كانت عدتها من أول الأمر سنة كاملة، ثم نسخ ذلك فصارت أربعة أشهر وعشراً.
3) المصابرة في مقابلة العدو كان في أول الأمر يجب أن يثبت المسلم أمام عشرة من الكفار، ثم نسخ ذلك بأخف منه لما علم الله ضعف المسلمين، فلزم أن يثبت المسلم أمام اثنين من الكفار فقط.
4) كانت الخمر حلالاً في مثل آية البقرة، ثم نسخ ذلك بآية الخمر في سورة المائدة.
5) نسخ الصدقة عند إرادة مناجاة الرسول كما في سورة المجادلة.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.(1/109)
تنكيس الآيات والسور
المجيب د. مساعد بن سليمان الطيار
عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين
القرآن الكريم وعلومه/علوم القرآن
التاريخ 16/2/1423
السؤال
سمعت أن من يقرأ القرآن على غير ترتيبه أي ينكس في ترتيب السور ينكس الله قلبه، فهل هذا صحيح؟
الجواب
التنكيس نوعان:
النوع الأول: تنكيس الآيات، وهو أن يقرأ الآيات بقلب ترتيبها، فتكون الآية رقم (2) قبل الآية رقم (1) وهكذا، كأن يقرأ: مالك يوم الدين الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين.
وهذا التنكيس لا يجوز إطلاقاً، ومن قرأ به فهو منكوس القلب؛ لأنه يخلُّ بالقرآن وبمعانيه.
وعلى هذا يحمل الأثر الوارد عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه سئل عن رجل يقرأ القرآن منكوساً، فقال: "ذلك منكوس القلب"، أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (7947) ، وابن أبي شيبة في مصنفه (30298) ، وأبو عبيد في فضائل القرآن، والطبراني في المعجم الكبير (9/170) ، والبيهقي في شعب الإيمان (2111) ، وإسناده جيد.
النوع الثاني: تنكيس السور، وهو أن يقرأ السور خلاف ترتيبها في المصحف، فيقرأ سورة الناس، ثم الفلق، ثم الصمد، وهكذا.
وقد حمل بعض العلماء أثر ابن مسعود -رضي الله عنه- السابق على تنكيس السور، ولكن الذي يظهر أن كلام ابن مسعود -رضي الله عنه- عن الذي ينكس الآيات لا الذي ينكس السور، خصوصاً إذا علم أن ترتيب مصحف ابن مسعود -رضي الله عنه- لم يكن كالترتيب الذي استقر عليه المصحف العثماني، وهذه مسألة تحتاج إلى نظر وبحث.(1/110)
ثم إنه قد صح عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قرأ بالبقرة ثم النساء ثم آل عمران، فقد روى مسلم في صحيحه (772) عن حذيفة بن اليمان –رضي الله عنه- قال: "صليت مع النبي –صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلاً، إذا مر بآية فيها تسبيح سبّح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوّذ".
وعمل النبي –صلى الله عليه وسلم- يدل على جواز التنكيس، وقد حمله بعض العلماء على أنه قبل أن يستقر الترتيب في العرضة الأخيرة، وهذا يعني أن هذا مما نسخ، وهذا غير سديد؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لجاء من النص الصريح ما يدل على ذلك، فلما لم يرد عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أمر باتباع ترتيب السور، ولا ورد عنه –صلى الله عليه وسلم- نهي عن أن يخالف الترتيب، فإن الأمر يبقى على الجواز، خصوصاً مع وجود عمله –صلى الله عليه وسلم- كما في هذا الحديث، وكذا تقريره لهذا في الحديث الذي ورد عن أنس بن مالك قال: "كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء، فكان كلما افتتح سورة يقرأ لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح بـ"قل هو الله أحد" حتى يفرغ منها، ثم يقرأ بسورة أخرى معها، فكان يصنع ذلك في كل ركعة، فلما أتاهم النبي –صلى الله عليه وسلم- أخبروه الخبر، فقال: "مايحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة؟ قال: إني أحبها، قال النبي –صلى الله عليه وسلم- حبُّك إياها أدخلك الجنة"، ذكره البخاري تعليقاً في كتاب الأذان باب: الجمع بين السورتين في الركعة والقراءة بالخواتيم، ورواه الترمذي (2901) والحاكم (913) وغيرهما.
ولا شك أن التزام الرجل بقراءة سورة الإخلاص في كل ركعة يلزمه أن يقرأ بعدها سورة متقدمة عليها، وفي هذا الحديث تقرير النبي –صلى الله عليه وسلم- لهذا العمل، فهو دليل على جواز تنكيس السور أيضاً.(1/111)
ثم إن عمل المسلمين منذ القديم في تعليمهم للصبيان جاء على تنكيس السور، حيث يبدؤون بهم من آخر القرآن، ولو كان لا يجوز لما أطبق عليه المسلمون كما ترى.
ومن حَمَلَ أثر ابن مسعود -رضي الله عنه- على عدم جواز تنكيس السور فإن ذلك يلزم منه لوازم، منها:
1-أنه يجب وجوباً عينياً معرفة ترتيب السور.
2-أن المسلمين لم يكونوا يعملون بهذا الترتيب حتى كتب عثمان -رضي الله عنه- المصاحف؛ لأن قراء الصحابة لم يكن كلهم على علم بهذا الترتيب، كما لم يكونوا على علم بما نسخ وما لم ينسخ، فكانوا يقرؤون بما قرؤوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يَدَعُوه إلا في عهد عثمان -رضي الله عنه- حيث أجمعوا على التزام مصاحف عثمان -رضي الله عنه-، وتركوا ترتيب السور الذي كان في مصاحفهم، كما تركوا المنسوخ من الآيات، وهذه المسألة تحتاج إلى بسط ليس هذا محله والله الموفق.
والمقصود أن تنكيس السور جائز بالدلائل السابقة، والله أعلم.(1/112)
ما هي القراءات السبع؟
المجيب
القرآن الكريم وعلومه/علوم القرآن
التاريخ 5/11/1423هـ
السؤال
السلام عليكم.
لقد أشكل علي أمر القراءات، بالأخص بعدما علمت أنها ليست هي الأحرف السبعة، فهل هي واردة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أم من أين هي؟ وكيف أفسر لشخص جديد بالإسلام هذا الأمر بعدما وجد اختلافاً بين حفص وورش؟ ومن هو حفص وورش؟ وإن لم تكن هذه القراءات إلا بعد سنين من الرسول -عليه الصلاة والسلام- فكيف يكون حفظ الله عز وجل للقرآن؟ أريد أجوبة فاصلة وجزاكم الله خيراً.
الجواب
جُمع القرآن الكريم ثلاث مرات، المرة الأولى في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان مفرقاً على اللخاف والرقاع والعُسب وغيرها، بالأحرف السبعة أي: اللهجات العربية التي كانت منتشرة في جزيرة العرب، ثم جُمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- في مصحف واحد على الأحرف السبعة أيضاً، ثم جُمع في عهد عثمان -رضي الله عنه- على حرف قريش أي على لغة قريش، وذلك لأن أكثر القرآن الكريم نزل بلغة قريش، ولأنه أول ما نزل كان بلغة قريش، والقراءات السبع جزء من حرف قريش، أي: من لغة قريش، واختلاف القراءات اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، وقد جمعت القراءات السبع في القرن الثالث الهجري جمعها أبو بكر بن مجاهد -رحمه الله- في كتابه (السبعة) ، إذن فالقراءات السبع ليست هي الأحرف السبعة بل هي جزء منها.
حفص هو: حفص بن سليمان الكوفي تلميذ عاصم بن أبي النجود الكوفي توفي سنة (180) هـ.
وقراءته أكثر القراءات القرآنية انتشاراً في العالم.
ورش: هو عثمان بن سعيد المصري الملقب بـ ورش، تلميذ نافع المدني توفي سنة (197) هـ.
وقراءته منتشرة في بلاد المغرب العربي خاصة، والله أعلم.
يراجع الإتقان في علوم القرآن للإمام السيوطي.
البرهان في علوم القرآن للإمام الزركشي.(1/113)
لا يعطى إجازة في القرآن حتى يقسم على أن يجيز غيره!
المجيب د. ناصر بن محمد الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/علوم القرآن
التاريخ 3/9/1424هـ
السؤال
المراكز الموجودة في بلدي (جمعية المحافظة على القرآن الكريم) لا تعطي إجازة في القرآن إلا إذا أقسم أمام شيوخ الإجازة على أن يجيز ثلاثة على الأقل (وهو إجباري عندهم) ، وإذا لم يقسم رفضوا أن يعطوه الإجازة بأي حال من الأحوال، وحجتهم في ذلك أن الشروط المعتبرة عند العلماء:
(1) إخلاص النية.
(2) أن يقرأ القرآن من أوله إلى آخره بسند صحيح.
(3) أن يقرئ كما قرأ.
(4) أن يورث هذا العلم.
أنا طالبة أدرس في هذا المركز وأقرأ القرآن حالياً أمام معلمة تحمل إجازة في القرآن، وهي ترفض أن تعطيني الإجازة إلا بالقسم فهل يجوز لي أن أقسم؟ وما معنى كتمان العلم؟ وهل إذا حصل الشخص على إجازة ولم يجز في المستقبل، هل يعتبر كاتماً للعلم وما هو الدليل؟ وما هو المقصود بتوريث العلم لطالب الإجازة، هل يعني ذلك أن يجيز أم يكفي له أن يدرّس علم التجويد؟ وهل كل من يحصل على الإجازة عن طريق شيخ واحد يعتبر مُؤهَّلاً لأن يجيز في المستقبل أم لا بد له أن يتردد على شيوخ آخرين؟.
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:(1/114)
فما ذكرته السائلة الكريمة عن هذا المركز وطريقته في إعطاء الإجازة، هو من جملة الوسائل والطرق في تعليم القرآن الكريم، ولا مشاحة فيها، لأنها من المصالح التي لا تخالف نصا من كتاب أو سنة، بل هي مما يعين على تحقيق ما أمر الله به في كتابه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - حيث أمر تعالى ببلاغ دينه، وحذر من كتمانه، في عدد من الآيات كقوله تعالى: "وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم" [آل عمران: 187] ، وقال تعالى: "إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار" [البقرة: 174] ، وفي الحديث الذي أخرجه أحمد (10420) ، وأبو داود (3658) ، والترمذي (2649) ، وابن حبان (95-96) ، والحاكم (351-352) ، وصححه الحاكم وغيره عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كتم علما ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار"، فلا يظهر لي ما يمنعك من القسم على نحو ما شرطوا عليك إذا علمت من نفسك الوفاء بمقتضى هذه الشروط، وضابط الوفاء بهذه الشروط أن تبذلي وسعك وطاقتك في الوفاء بها، فإن حصل منك بعد هذا تقصير أو نقص فأرجو أن لا حرج عليك، لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، ولا يظهر لي أن عدم إعطاء إجازة يعد من كتم العلم، وما ذكرته في سؤالك لا يدل على أن هذا المركز اشترط أن تعطي الإجازة لمن تعلمينه القرآن، وبكل حال فالمقصود تبليغ العلم وتعليم الناس، والإجازة من الوسائل وليست غاية في ذاتها، فإذا حصل تعليم القرآن الكريم للناس ونشره فيهم حتى من غير إعطاء الإجازة فقد حصل المقصود، وبرأ العالم من إثم كتم العلم، على أن أكثر المدارس والمشايخ لا يشترطون غالب هذه الشروط، ولا يلزم أن تكون الإجازة من ثلاثة من المشائخ، بل العالم المتقن الذي يحمل إجازة يحق له أن يعطي غيره من المتعلمين إجازة إذا أتقن(1/115)
التلاوة والأداء.
وأما المراد بتوريث العلم فلعك تسألين المركز ذاته عن مراده، لأنه يحتمل أكثر من معنى، وإن كان الظاهر أنهم قصدوا تعليم العلم ونشره بين الناس، والله أعلم.(1/116)
التنقل بين القراءات في السورة الواحدة
المجيب د. رياض بن محمد المسيميري
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/علوم القرآن
التاريخ 28/4/1424هـ
السؤال
إذا بدأ الإنسان بقراءة سورة طويلة من القرآن بقراءة معينة من القراءات السبع أو العشر، فهل يجب عليه أن يكمل ويتم السورة كلها بهذه القراءة؟ أم يجوز أن يغير فيها من قراءة لأخرى؟
الجواب
اختلف أهل العلم في حكم جمع القارئ القراءتين أو أكثر في تلاوة واحدة على النحو التالي:
(1) من أهل العلم من منع ذلك مطلقاً كأبي الحسن السخاوي في كتابه "جمال القراء" حيث عدَ خلط القراءات بعضها ببعض خطأ.
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن جمع القراءات السبع هل هو سنة أو بدعة فأجاب (....وأما جمعها في الصلاة أو في التلاوة فهو بدعة مكروهة)
[الفتاوى 13/404] .
(2) قال ابن الجزري: (وأجازها أكثر الأئمة مطلقاً) [النشر:1/18] .
(3) ومن أهل العلم من فصل في المسألة:
فقد قال النووي - رحمه الله - في كتابه "التبيان" (وإذا ابتدأ القارئ بقراءة شخص من السبعة فينبغي أن لا يزال على تلك القراءة ما دام الكلام له ارتباط، فإذا انقضى ارتباطه فله أن يقرأ بقراءة آخر من السبعة، والأولى دوامه على تلك القراءة في ذلك المجلس) أ. هـ.
قال ابن الجزري (النشر 1/18) : (وهذا معنى ما ذكره أبو عمرو بن الصلاح في فتاويه) ثم نسب إلى أبي اسحاق الجعبري قوله: (والتركيب ممتنع في كلمة وفي كلمتين إن نطق أحدهما بالآخر وإلا كره) .(1/117)
قال ابن الجزري - رحمه الله: (والصواب عندنا في ذلك التفصيل والعدول بالتوسط إلى سواء السبيل فنقول: إن كانت إحدى القراءتين مترتبة على الأخرى فالمنع من ذلك منع تحريم كمن يقرأ "فتلقى آدم من ربه كلمات" [البقرة: 37] بالرفع فيها أو بالنصب آخذاً رفع "آدم" من قراءة غير ابن كثير، ورفع "كلمات" من قراءة ابن كثير، ونحو "وكفلها زكريا " [آل عمران: 37] بالتشديد مع الرفع أو عكس ذلك ونحو "أخذ ميثاقكم" [الحديد: 8] وشبهه مما يركب بما لا تجيزه العربية ولا يصح في اللغة، وأما ما لم يكن كذلك فإنا نفرق فيه بين مقام الرواية وغيرها.
فإن قرأ بذلك على سبيل الرواية فإنه لا يجوز أيضاً، حيث إنه كذب في الرواية وتخليط على أهل الدراية.
وإن لم يكن على سبيل النقل والرواية بل على سبيل القراءة والتلاوة فإنه جائز صحيح مقبول لا منع منه ولا حظر، وإن كنا نعيبه على أئمة القراءات العارفين باختلاف الروايات من وجه تساوي العلماء بالعوام، لا من وجه أن ذلك مكروه أو حرام، إذ كل من عند الله ... " ا. هـ المقصود من كلامه (النشر 1/18- 19) ، قلت هذا ملخص أقوال أهل العلم، والذي أرجحه هو المنع مطلقاً- ما لم يكن من أجل التعليم أو المدارسة - لأنه لم يكن من هدي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام، إذ لم يحفظ أو ينقل عنهم الخلط بين قراءات شتى في تلاوة واحدة والله أعلم وأحكم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه.(1/118)
هل البسملة آية من الفاتحة؟
المجيب د. خالد بن علي المشيقح
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
القرآن الكريم وعلومه/علوم القرآن
التاريخ 23/5/1424هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هل تعتبر البسملة التي في سورة الفاتحة آية؟ وإذا كانت تعتبر آية لماذا لا يجهر بها في الصلاة؟ وإذا كانت لا تعتبر آية فما المقصود من السبع المثاني؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
البسملة ليست آية في سورة الفاتحة، ويدل لهذا ما ثبت في صحيح مسلم (395) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله - عز وجل - "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: مالك يوم الدين، قال الله: مجدني عبدي ... فلم يذكر البسملة، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم، خلافاً لما ذهب إليه الشافعي، فإنه يرى أن البسملة آية من سورة الفاتحة، وأما هل يجهر بها أو لا يجهر بها؟ فأكثر الأحاديث الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يجهر بها، انظر مثلاً ما رواه البخاري (743) ، ومسلم (399) من حديث أنس -رضي الله عنه- وهذا ما عليه جمهور أهل العلم، خلافاً لما ذهب إليه الشافعي، والصواب أنه يجهر بها في بعض الأحيان، كما اختار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، أنه يجهر بها للتأليف والمصلحة، وقد دل على هذا حديث أبي هريرة وأم سلمة - رضي الله تعالى عنهما - انظر ما رواه النسائي (905) ، والدارقطني في سننه (2/312) .(1/119)
عدد آيات القرآن
المجيب د. محمد بن سريّع السريّع
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/علوم القرآن
التاريخ 15/05/1425هـ
السؤال
هل عدد آيات القرآن يختلف من مصحف إلى آخر؟.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
اختلف القراء في عدد آيات القرآن؛ والسبب في ذلك وقوف كل واحد منهم على ما نقله ممن سبقه من أئمة القراءة والصحابة - رضي الله عنهم-، ومن بعدهم، فهناك العد المدني والكوفي والبصري، وهكذا.. وعلى هذا الاختلاف يعرف هل بين المصاحف اختلاف أم لا؟ فإذا كانت المصاحف قد كتبت على عد واحد فلا اختلاف بينها، أما إذا كتبت بعضها على عد وبعضها على عد آخر فسيكون بينها اختلاف، ومما ينبغي التذكير به مسألتان:
1- العلماء -رحمهم الله- قد اختلفوا هل معرفة الآيات توقيفية، أم منها ما هو توقيف ومنها ما هو اجتهاد؟ والأقرب والله أعلم القول الثاني.
2- أن العلماء قد اتفقوا على أن عدد آيات القرآن ستة آلاف ومائتين وكسر، ولكنهم اختلفوا في هذا الكسر، فقيل خمس وقيل أربع عشرة، وقيل ست عشرة، وقيل عشرون، وقيل ست وثلاثون، وقيل غير ذلك. والله أعلم.(1/120)
هل نُسِخَ جزء من سورة الأحزاب؟
المجيب د. ناصر بن محمد الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/علوم القرآن
التاريخ 25/1/1425هـ
السؤال
ورد في مسند الإمام أحمد -رحمه الله- هذا الحديث الصحيح، والذي صححه الألباني -رحمه الله-، والحديث هو: عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب - رضي الله عنه- قال: كم تقرؤون سورة الأحزاب قال: بضعًا وسبعين آية، قال: لقد قرأتها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- مثل البقرة أو أكثر منها آية الرجم"، فالسؤال هو: كيف كانت سورة الأحزاب في زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم- مثل سورة البقرة، ونحن الآن نقرؤها 73 آية، فإذا كان قد حصل نسخ في السورة؛ فهل من الممكن أن ينسخ أكثر من 200 آية؛ لأن سورة البقرة 286 آية؟ فأرجو الإجابة منكم مشكورين..
الجواب
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فالحديث الذي أشار إليه السائل الكريم روي عن أبي بن كعب -رضي الله عنه-، من طريقين:
أحدهما: من طريق يزيد بن أبي الزناد عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب - رضي الله عنه-، وقد أخرجه أحمد في مسنده (20701) ، ويزيد بن أبي زياد ضعيف، قال عنه ابن معين: لا يحتج به.
والثاني: من طريق عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب- رضي الله عنه-، وقد أخرجه ابن حبان في صحيحه (4428) والحاكم في المستدرك (2/415) وصححه والنسائي في الكبرى (7150) والبيهقي (8/211) وأحمد (21206) وعبد الرزاق (13363) ، وعاصم بن بهدلة صدوق له أوهام، والحديث بهذا حسن، ومن أهل العلم من قال: تفرد عاصم بن بهدلة في مثل هذا مما لا يحتمل.(1/121)
وبكل حال فالحديث -على القول بثبوته - دال على أن جزءاً كبيراً من سورة الأحزاب قد نسخ، وأن مما كان فيه آية رجم الزاني المحصن، ولا يخفى عليك -أخي الكريم- أن أمر النسخ مرده إلى الله -تعالى- فإذا شاء تعالى نسخ، وإذا شاء أحكم، وهذا معنى قوله -تعالى-"ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير" [البقرة:106] ، ولذا قرر أهل العلم أن نسخ النص الشرعي لا يكون إلا بنص شرعي مثله، ولما كان الأمر كذلك؛ فلا ريب أنه إنما يقع لحكمة بالغة، فهو تعالى الحكيم العليم، ولهذا فلا إشكال -حقيقة - فيما دل الحديث عليه؛ لأننا نعلم يقينًا أن النسخ لا يكون إلا لحكمة بالغة، ربما يدركها الخلق، وقد تغيب عنهم، وغير بعيد أن يقع نسخ هذا الجزء الكبير من السورة، فإن الأمر لله -تعالى- يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، بل وقع النسخ فيما هو أكبر من ذلك؛ إذ مما لا شك فيه أن هذه الشريعة جاءت ناسخة لكل الشرائع قبلها ومهيمنة عليها، ونحن نعلم أن الشرائع قبلنا قد نزلت معها كتب إلهية، هي كلام الله الذي أنزله على الرسل قبل نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم-، كما في صحف إبراهيم -عليه السلام- والتوراة، والإنجيل، وغيرها مما لا يعلمه إلا الله، ولم يكن في هذا النسخ غضاضة ولا حرج؛ لأن ذلك كله إنما يقع لحكمة بالغة ومشيئة نافذة، وربما كان من تلك الحكم أن الآيات المنسوخة من سورة الأحزاب أو غيرها تضمنت شرائع، وأحكاماً وقتية يحتاجها الناس فقط في الوقت الذي نزلت فيه، أما مَنْ بعدهم من الناس فلا يحتاجونها، كأن تكون الآيات تقص خبراً وقع في تلك الفترة، أو تبين حكماً في حادثة وقتية، أما أصول الدين كالعقائد، وأمهات الأخلاق، وأصول العبادات، فهذه لا يتناولها النسخ قطعاً؛ لأن حاجة الخلق متعلقة بها مهما اختلف زمانهم وتغير مكانهم؛ ولأنها - أيضاً - مما لا يعتريه اختلاف، ولا يطرأ عليه تغير؛ لأن ما تضمنه من قيم يتصف(1/122)
بالدوام والثبات.
بقي -أيها السائل الكريم- أن ألفت نظرك إلى أن الحديث دل على أن سورة الأحزاب كانت سورة طويلة تعدل سورة البقرة، ولا تلازم بين أن تعدل سورة البقرة في الطول، وأن تكون مماثلة لها في عدد الآيات، فسورة الشعراء - مثلاً - هي أكثر من سورة آل عمران في عدد الآيات، مع أن آل عمران ضعفها في الطول.
وأخيراً فيجب أن تعلم يقيناً، أن ما بين أيدينا الآن هو كلام الله الذي أنزله على رسوله - صلى الله عليه وسلم-، بقي منه ما أبقاه الله، ونُسخ منه ما أراد -تعالى- نسخه، ونقله إلينا في كل عصر عدوله، حتى بلغنا غضًّا طريًّا كما نزل، بلا نقص ولا زيادة، فهذه حقيقة لا يعتريها شك، وإجماع أهل الإسلام لا يختلفون فيه، وهو مصداق قوله -تعالى-: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" [الحجر:9] هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(1/123)
الوقوف في التلاوة عند غير علامة الوقف
المجيب عبد الحكيم بن عبد الله القاسم
عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين
القرآن الكريم وعلومه/علوم القرآن
التاريخ 13/3/1425هـ
السؤال
ما هو حكم الوقوف عند تلاوة القرآن عند غير علامات الوقف؟ فإذا وقفت عند معنى مكتمل فهل يلزم أن آتي بكلمة أو كلمتين قبل ما وقفت عنده؟.
الجواب
لا يلزم الإتيان بكلمة أو كلمتين مطلقا إذا كان معنى الجملة التي تلوتها مكتملاً، وإنما المستحسن إذا كان الوقف على جملة لم يتم معناها، وهذا ليس على سبيل الوجوب بل هو على الأفضل والأحسن؛ لأن معرفة الوقوف داخلة تحت الترتيل قال علي - رضي الله عنه- (الترتيل تجويد الحروف ومعرفة الوقوف) ، وفي أبجد العلوم (2/571) قال ابن الأنباري: (من تمام معرفة القرآن معرفة الوقف والابتداء فيه، قال النكزاوي لا يتأتى لأحد معرفة معنى القرآن ولا استنباط الأدلة الشرعية منه إلا بمعرفة الفواصل، وللوقف أقسام مذكورة في كتب الوقوف) ، ويمكن التغليظ في الوقف على من علم المعنى الناقص المترتب على وقفه ووقف عليه، فهذا يشابه تحريف معناه، ويجافي حسن التلاوة والترتيل،
والله أعلم.(1/124)
ما المراد بالقراءات السبع؟
المجيب د. محمد بن سريّع السريّع
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/علوم القرآن
التاريخ 24/1/1425هـ
السؤال
ما معنى القراءات السبع للقرآن؟ وفي بعض القراءات هناك فارق في الإعراب والتشكيل، وحتى حذف أو زيادة لفظ فما توجيهه؟ وهل أنزل القرآن في القراءات السبع أو في القراءة التي متداولة الآن؟. وشكراً.
الجواب
القراءات: علم يعرف به كيفية النطق بالكلمات القرآنية، وطرق أدائها وما يتعلق بذلك، والقراءات القرآنية متعددة منها هذه السبع المعروفة، وكلها قرآن نزل من عند الله - تعالى-، ونزول القرآن الكريم بهذه القراءات لحكم أبرزها:
(1) التيسير على العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، حيث كانوا قبائل مختلفة كقريش، وتميم، وثقيف، وهوازن، وكان بين لغاتهم ولهجاتهم شيء من الاختلاف سواءٌ في طريقة النطق كالفتح والإمالة، أو التحقيق والتسهيل أو حتى في إعراب الكلمات، وغير ذلك من أنواع الاختلاف.
(2) إعجاز القرآن حيث نزل على هذه الأوجه جميعاً، إذ تأتي الآية أحياناً على وجهين مختلفين دون أن يكونا متناقضين، وقد تأتي قراءة بزيادة لفظ فيكون فيها فائدة، وتأتي قراءة أخرى تحذف هذا اللفظ لتشير إلى معنى آخر من جهة أخرى.
(3) أن يكون في بعض القراءات زيادة حكم، إذ إن القراءتين كالآتيتين كما في قوله - تعالى-: "يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ... " [المائدة:6] قرئ بنصب "وأرجلكم" وجرها، قال بعض المفسرين: النصب يفيد الغسل؛ لأنه معطوف على الأيدي، والجر يفيد المسح حين يكون على الأرجل جوارب؛ لأنه معطوف على الرؤوس، وغير ذلك من الحكم. والله أعلم.(1/125)
ترتيل القرآن على إحدى المقامات الصوتية
المجيب د. عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
عضو الإفتاء سابقاً
القرآن الكريم وعلومه/علوم القرآن
التاريخ 05/04/1425هـ
السؤال
سؤالي هو: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أمرنا بالتغني عند تلاوة القرآن الكريم، وأن نحسن أصواتنا به، فأنا أريد أن أتعلم أحد المقامات الصوتية؛ كي أحسن صوتي في تلاوة القرآن الكريم، ولكن هل يمكن أن يستخدم معلمي للمقام آلة العود أو الأورغن كي يعلمني الطبقات الصوتية عن طريق السمع والترديد مع النغمة الصوتية؟ هل يجوز لي ذلك أم لا؟ وهل هنالك وسائل أخرى لتعلم المقامات في حال كان حراما؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
جاء في الحديث قول النبي - صلى الله عليه وسلم-: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن" رواه البخاري (7527) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، وأمر بتحسين الصوت بالقرآن، وكان أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه- صوته حسن استمع إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: "لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود"، فقال أبو موسى - رضي الله عنه-: "لو علمت أنك تستمع إلي لحبرته لك تحبيراً" رواه البخاري (5048) ، ومسلم (793) ، ولعل ذلك أن الصوت الحسن يكون سبباً في التأثر بسماع القرآن، وقد علم أن الأصوات ليست اكتسابية ولكنها فطرية، فالله -تعالى- هو الذي يعطي من يشاء ويحرم من يشاء وله في ذلك الحكمة البالغة، وليس للإنسان أن يتكلف ما لا يقدر عليه، وإنما عليه أن يحرص على تحسين صوته بقدر الاستطاعة، وإذا لم يتمكن من تغيير صوته فإنه معذور، فيقرأ قدر ما أعطاه الله.(1/126)
قراءة حفص بقصر المنفصل
المجيب د. مساعد بن سليمان الطيار
عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين
القرآن الكريم وعلومه/علوم القرآن
التاريخ 19/1/1425هـ
السؤال
فيما يخص قراءة حفص عن عاصم، هل القراءة برواية حفص عن عاصم بوجه قصر المد المنفصل يترتب عليها إلغاء بعض الأوجه الخاصة بمصحف الملك فهد مثل: السكتات (س) ؟ وحكم مد هاء الغائب بكلمة (فيه ى) في قوله -تعالى-: "ويخلد فيه مهانا" (سورة الفرقان) وغيرها. أرجو منكم التوضيح بارك الله فيكم وفي علمكم.
الجواب
أخي الكريم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد:
فالقراءة بالقصر من طريق الطيبة وليس من طريق الشاطبية، ومصحف المدينة النبوية الذي طبع في مجمع الملك فهد مضبوط على طريق الشاطبية، وطريق الشاطبية بتوسط المنفصل، وبناءً على هذا فلو قرأت بطريق قصر المنفصل فإن الضبط سيختلف عما في مصحف المدينة النبوية، لأن بعض الوجوه مثل السكت على بل ران لا توجد، وبناءً عليه لا يكتب في الضبط علامة السكت، لكن أغلب الضبط سيبقى على حاله. والله أعلم.(1/127)
هل في القرآن ترادف؟!
المجيب د. عبد العزيز بن علي الحربي
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
القرآن الكريم وعلومه/علوم القرآن
التاريخ 1/2/1425هـ
السؤال
السلام عليكم.
لقد وردت هذه الألفاظ في القرآن الكريم، نرجو منكم أن تبينوا لنا الفرق بين هذه
الألفاظ المتشابهة في الظاهر والمختلفة في المعنى والمضمون:
(1) الفؤاد، والقلب.
(2) البصر، والرؤيا، ونظر.
(3) الهم، والغم، والحزن.
(4) الإفراط، والتفريط.
(5) الكذب، والإفك.
(6) السنة، والعام.
(7) الضر، والضرار.
ولكم الشكر.
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله، وبعد:
لا يوجد في اللغة العربية ترادف حقيقي، ولكن يكون الشيء من الأشياء له إطلاقات باعتبار المراد، وما ورد في القرآن من ذلك مما يشبه المترادف، ليست كإطلاقاتنا التي تفتقد الدقة؛ بل بين كلماته فرق بحيث لو وضع مكان الكلمة غيرها؛ فقد المدلول التام لتلك الكلمة، ومن ذلك ما ورد في السؤال، فالفؤاد هو القلب، لكنه (أي: الفؤاد) إذا ورد روعي فيه المعنى الاشتقاقي، وهو التفؤد أي: التوقّد، كقوله -تعالى-: "وأفئدتهم هواء"
[إبراهيم: 43] ، وقوله: "وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً" [القصص: 10] ، فإذا كان المقام مقام حزن، وهم، وخوف، أو ملابسة اشتعال، كقوله -تعالى-: "التي تطَّلع على الأفئدة" [الهمزة: 7] ، كان الفؤاد هو المناسب للحال والسياق.
والنظر: تقليب العين لإدراك المرئي، والبصر رؤية مع تأمل، والرؤية أوسع من هذا، وهذا يطلق عليهما وعلى غيرهما.
وأما الهمّ: فإنه يكون على شيء مستقبل البداية أو النهاية، والحزن على شيء مضى وانقضى.
والغمُّ: كربة تَغْشى القلب، وتكسب الحيرة والدهش.
والإفراط: مجاوزة الحد، والتفريط: التقصير فيه، وهذان اللفظان لم يردا في القرآن بهذه الصيغة، ووردت لهما صيغ أخرى.(1/128)
والإفك: يراعى فيه صرف الشيء عن وجهه، كالصرف عن الحق إلى الباطل، ولا يدخل فيه مخالفة الواقع إن كان غير مقصود، والكذب أوسع من ذلك.
وأما السَّنَة؛ فإنها تطلق على الزمن المعروف المؤلف من اثني عشر شهراً، لكن إذا أطلقت يراعى فيها معنى القحط، والشدة، والضيق، والعام يطلق على تلك المدة، إذا كان الزمن زمن رخاء وسعة، ومنه قوله -تعالى-: "فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً" [العنكبوت: 14] ، فإن مكثه فيهم كان زمن نصب، وتعب، وإيذاء، ولهذا ميزت بالسنة. والخمسون عاماً كانت مع من بقي معه من المؤمنين، وكان خيراً من هذه الجهة، ولهذا ميَّز بالعام، وقد يستعمل أحدهما في موضع الآخر بالنظر إلى المدلول العام وهو الزمن المعروف المعيَّن.
وأما الضر: فمعلوم معناه، وهو ضد النفع، وهو الاسم، وأما الضرار: فهو فعل الضر، هو المضارّة؛ لأنه مصدر، كالقتال والقتل. والله أعلم.(1/129)
تجزيء القرآن وتحزيبه
المجيب د. عبد الرحمن بن معاضة الشهري
المشرف العام على شبكة التفسير والدراسات القرآنية
القرآن الكريم وعلومه/علوم القرآن
التاريخ 03/07/1425هـ
السؤال
أريد نبذة موجزة عن تقسيم القرآن الكريم إلى أجزاء وأنصاف الأجزاء متى تم ذلك؟ وهل هو توقيفي لا تجوز مخالفته؟ وما هي الكتب التي تتحدث عن هذا الموضوع؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
أولاً: متى تم تقسيم القرآن الكريم إلى أجزاء وأنصاف؟
ورد التعبير بالجزء كما في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-:"قرأت جزءاً من القرآن" رواه أبو داود (1392) ، وصححه الألباني. وقول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (هذا جزئي الذي أقرأ به الليلة) . وقول عائشة رضي الله عنها: (إني لأقرأ جزئي) . ومثل ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وورد استعمال لفظ الوِرْد، كما في قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (كنت في قضاء وِردي) .(1/130)
وهذه المسألة تعرف عند العلماء بتحزيب القرآن، وقد ورد فيها حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما-، الذي رواه جمعٌ من الأئمة بينهم الأئمة الستة. البخاري (1976) ، ومسلم (1159) ، والترمذي (2946) ، والنسائي (2399) ، وأبو داود (1388) ، وابن ماجة (1346) ، ولفظ الإمام مسلم: (كنت أصوم الدهر، وأقرأ القرآن كل ليلة، قال: فإما ذكرت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإما أرسل لي، فأتيته، فقال: "ألم أُخبر أنك تصوم الدهر وتقرأ القرآن كل ليلة؟ " فقلت: بلى يا نبي الله؛ ولم أرد إلا الخير، قال:" فإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام ... ، ثم قال: "واقرأ القرآن في كل شهر"، قال: قلت: يا نبي الله: إني أطيق أفضل من ذلك، قال:"فاقرأه في سبع، ولا تزد على ذلك، فإن لزوجك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً، ولجسدك عليك حقاً"، قال: فشددت؛ فشدد علي، قال: وقال لي النبي-صلى الله عليه وسلم-:"لعلك يطول بك العمر"، فصرتُ إلى الذي قال لي النبي-صلى الله عليه وسلم-، فلما كبرت وددت أني قبلت رخصة النبي-صلى الله عليه وسلم.
وقد أشار الإمام السخاوي إلى أن معنى التجزئة والتحزيب ورد على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه قال:"طرأ عليَّ حزبي من القرآن" رواه ابن ماجة (1345) و"إنه قد فاتني الليلة جزئي من القرآن.." أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (3/363) . وذكر قصة جمع الحجاج بن يوسف للقراء والحفاظ في عهده، وسؤالهم عن عدد آيات القرآن، وعن منتصف القرآن وربعه وثلثه وغيرها. وقد استند على هذه الحادثة كثير من العلماء الذين كتبوا في تاريخ القرآن، وقالوا بأن أول من أحدث الأجزاء والأحزاب هو الحجاج بن يوسف الثقفي المتوفى 110هـ.(1/131)
وقال الزركشي في البرهان ذكر عند الحديث عن تحزيب القرآن 1/349: (وأما التحزيب والتجزئة فقد اشتهرت الأجزاء من ثلاثين كما في الربعات بالمدارس وغيرها. وقد أخرج أحمد في مسنده وأبو داود وابن ماجة عن أوس بن حذيفة أنه سأل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حياته: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل من (ق) حتى يختم.
وتحدث ابن تيمية في مجموع الفتاوى 13/405 حديثاً طويلاً عن تحزيب القرآن، تحسن مراجعته إن أمكن، ذهب فيه إلى أن التحزيب بالسور أفضل من التحزيب الحاصل، والذي يقف فيه القارئ أحياناً على مواضع مرتبطة بما بعدها، والبدء بمواضع لها تعلق بما قبلها، وأشار إلى سبق الحجاج إلى تجزئة القرآن بالحروف.
وقد ذكر السخاوي -رحمه الله- في (جمال القراء) في الكتاب الرابع منه (تجزئة القرآن) كلاماً طويلاً نافعاً عن تفاصيل أجزاء القرآن وأرباعه وأسباعه وأثمانه وغيرها بدقة ينتفع بها الحافظ لكتاب الله، ومن يرغب في حفظه بسهولة ويسر.
ثانياً: هل هذا التحزيب والتقسيم توقيفي؟
الذي عليه العلماء -وهو الصحيح إن شاء الله - أن تجزئة القرآن وتحزيبه وقسمة الأرباع على الصورة التي توجد في مصاحف المسلمين اجتهادية، ولها أصل من فعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لكن على غير هذه القسمة، وكان السلف يختلفون في ذلك، وليس المعنى فيه تعبدياً، وإنما هو لتيسير أخذ القرآن.
ثالثاً: من الكتب التي تحدثت عن ذلك.
- جمال القراء وكمال الإقراء، للسخاوي 1: 124 ـ 187
- البرهان في علوم القرآن للزركشي.
- فتاوى ابن تيمية 13/405 وما بعدها.
- هناك بحث للشيخ محمد الدويش نشر في مجلة البيان فصل فيه جوانب هذه المسألة.(1/132)
المراد بـ"آيات متشابهات"
المجيب د. رياض بن محمد المسيميري
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/علوم القرآن
التاريخ 21/2/1425هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله.
أرجو منكم إفادتي بمعنى "آيات متشابهات" وأمثلة منها من القرآن كما في الآية السابعة من سورة آل عمران، والله يجزيكم عني خيراً.
الجواب
الحمد لله، وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
التشابه في القرآن نوعان:
الأول: تشابه في الإتقان والبلاغة، والجمال، وتصديق بعض القرآن بعضاً، وهو المذكور في قوله تعالى: "الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابها مثاني ... " [الزمر: 23] .
والثاني: تشابه يقابل المحكم من القرآن، وهو خاص ببعض القرآن لا كله، ويُعنى به اشتماله على أكثر من معنى، وهو المذكور في قوله تعالى: "مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ" [آل عمران: من الآية7] .
والمتأمل في الآية الشريفة يدرك أن المتشابه له أكثر من معنى، وأن أهل الزيغ يتبعون من المعاني التي تحتملها الآية ما يوافق أهواءهم ابتغاء الفتنة.(1/133)
كما يدرك أن بالإمكان تحديد مفهوم التشابه في الآية بأنه الحقيقة التي يؤول إليها الكلام بدلالة قوله: " وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ"، وهو واضح بأن ثمة أشياء لها مآل تؤول إليه، لا يعلم حقيقة ذلك إلا الله دون غيره، وهذا إذا رجحنا الوقت على لفظ الجلالة، وأما إذا كان لفظ الجلالة غير موقوف عليه، فذلك دال على أن أولي العلم يعلمون تأويله كذلك، وذلك بردهم المتشابه إلى المحكم فيصير القرآن كله محكماً، ولعل من أمثلة المتشابه في القرآن الحروف المقطعة في أوائل السور. والله أعلم.(1/134)
مصاحف المشارقة والمغاربة
المجيب د. عبد العزيز بن علي الحربي
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
القرآن الكريم وعلومه/علوم القرآن
التاريخ 7/2/1425هـ
السؤال
كنت أقرأ القرآن في أحد المساجد، ثم وقع في يديَّ قرآن فيه كتابة حرف الفاء بدون نقطة، والقاف بنقطة واحدة، وهنالك اختلاف في أحرف أخرى، ولكن ما لفت انتباهي أكثر وجود آيات برقم تسلسلي غير الذي عهدناه، ومكتوب على القرآن رواية ورش بن نافع. أفيدوني، هل هناك مصاحف بهذا الشكل؟ وهل هناك مصاحف أخرى مختلفة؟.
الجواب
الحمد لله:
هنالك اختلاف في رسم الحروف والنقط بين مصاحف المشارقة والمغاربة، وهذا المصحف الذي قرأت فيه من مصاحف المغاربة، وطريقتهم في رسم الفاء هكذا "ف" بنقطة واحدة من أسفل، والقاف بنقطة واحدة من فوق، وهنالك اختلاف في أحرف أخرى، وأما اختلاف أرقام الآيات فهو راجع إلى اختلاف علماء القراءة في العدد، فعدد الآيات عند المكيين يختلف عن البصريين، والعدد المدني يختلف عن العدد الشامي، وهكذا، فمثلاً: الكوفيون والمكيون يعدون البسملة آية من سورة الفاتحة، ولا يجعلها غيرهم آية؛ بل يجعلون الآية الأولى من الفاتحة هي: "الحمد لله رب العالمين" ويعدون قوله تعالى: "صراط الذين أنعمت عليهم" [الفاتحة:7] ، بعض الآية السابعة من الفاتحة، وهذا الاختلاف كالاختلاف في القراءات كله يؤخذ به ويقبل، وليس من نوعي اختلاف التضاد والتضارب. والله أعلم.(1/135)
ترجمة معاني القرآن وإشكال الترادف
المجيب د. محمد بن صالح الفوزان
عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين
القرآن الكريم وعلومه/علوم القرآن
التاريخ 28/3/1425هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أريد أن أعرف الفرق بين المترادفات التالية بحكم دراستي للترجمة وتخصصي في ترجمة معاني القرآن الكريم: التدبر والتفكر، العام والسَّنة، الصَّب والسكب، الختم والطبع حيث وجدت أن أغلب ترجمات معاني القرآن إلى الإنجليزية لا تفرق بين معاني هذه المترادفات، ولتوضيح الفكرة سأتطرق إلى المترادفات التالية: المطر والغيث فمن المعروف أن المطر لم يذكر في القرآن إلا بوصفه عقوبة لا رحمة، بينما كان ذكر الغيث يوحي بأنه مطر رحمة لا عذاب، أرجو أن أجد لديكم الإجابة الشافية. وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
ذكر الفرق بين الألفاظ المذكورة قد لا يتسع المجال لذكره، وإنما نشير للقواعد الآتية:
1- اختلف العلماء في وقوع الترادف في اللغة، يقول ابن الأعرابي: (كل حرفين أوقعتهما العرب على معنى واحد في كل واحد منهما معنى ليس في صاحبه) .
2- واختلفوا في وقوعه في القرآن، والصحيح أنه نادر أو معدوم، إذ لا يوجد في القرآن لفظان معناهما واحد من جميع الوجوه، وهذا من وجوه إعجاز القرآن.
3- الترجمة الحرفية للقرآن غير ممكنة، والترجمة المعنوية يرى بعضهم أنها غير ممكنة، كذلك وإنما نترجم مفاهيم القرآن ومفاهيم الإسلام؛ لعدم إمكانية وجود ألفاظ في اللغة المترجمة لها توازي ألفاظ القرآن التي قد يظن أنها مترادفة - كما أشار السائل- أنهم لم يفرقوا بين الألفاظ المذكورة مع وجود الفرق الحقيقي بينها. والله أعلم.(1/136)
ترتيب آيات سور القرآن
المجيب د. رياض بن محمد المسيميري
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/علوم القرآن
التاريخ 7/3/1425هـ
السؤال
كيف تم ترتيب الآيات في السور كما نعرفها؟، فلو نزلت آيات من سورة معينة، ثم بعد فترة نزلت آيات أخرى، فكيف يتم تحديد آيات كل سورة؟ أعلمُ معنى آية ومعنى تنزيل، ولكن ما معنى كلمة سورة؟ هل معناها الارتفاع كما يتبادر لي؟ -وجزاكم الله خيراً-.
الجواب
الحمد لله، وبعد:
شكر الله للسائل اهتمامه بكتاب الله -تعالى- وسؤاله عما يتعلق به، وأما بخصوص السؤال المذكور؛ فهذا أو أن الإجابة عليه، فأقول وبالله التوفيق:
1- قول السائل: (معلوم أن القرآن نزل في آيات وليس كسور كاملة) ليس على إطلاقه فهناك سور عديدة نزلت كاملة نزلت دفعة واحدة، كالفاتحة، وكثير من قصار السور وسورة الأنعام، وغير ذلك، فعلى سبيل المثال جاء في الصحيح من حديث أنس - رضي الله عنه- أغفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إغفاءة ثم استيقظ متبسماً فقلنا ما أضحكك يا رسول الله؟ فقال: أنزلت علي آنفاً سورة، ثم قرأ: "بسم الله الرحمن الرحيم، إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر.." الحديث رواه مسلم (400) عن أنس - رضي الله عنه-.
2- وأما كيفية ترتيب الآيات في السور فهو أمر توقيفي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا اجتهاد للناس فيه، فكان - صلى الله عليه وسلم- يأمر كتبة الوحي بكتابة كل ما ينزل من القرآن في سورته المحددة فيقول: "ضعوا هذه الآية أو الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا، أو ضعوها في سورة كذا انظر ما رواه الترمذي (3086) ، وأبو داود (786) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، وهذا أمر متفق عليه عند أهل العلم.(1/137)
بخلاف ترتيب السور، فالجمهور على أنه توقيفي أيضاً، وبعض العلماء يرى بأنه اجتهادي بناءً على ما تبين لهم من ترتيب مصاحف بعض الصحابة - رضي الله عنهم- كابن مسعود -رضي الله عنه- وغيره، حيث كان على خلاف الترتيب المعروف الآن.
3- أما معنى سورة فإنها في اللغة: الْمَنْزِلَة، وما طال من البناء وحسن، انظر القاموس المحيط، ولذا يمكن أن يقال ما قاله الزرقاني في مناهل العرفان (1/343) : السورة: طائفة مستقلة من آيات القرآن ذات مطلع ومقطع، قالوا: وهي مأخوذة من سور المدينة، وذلك إما لما فيها من وضع كلمة بجانب كلمة وآية بجانب آية، كالسور توضع كل لبنة فيه بجانب لبنة ويقام كل صف منه على صف، وإما لما في السورة من معنى العلو والرفعة المعنوية الشبيهة بعلو السور ورفعته الحسية) ا. هـ، مختصراً قلت: وربما كان ذلك لما في السور من الإحاطة بالدار أو البلد فكذلك السورة تحيط بجمع من الآيات، وتستقل بهن عن غيرهن. والله أعلم.(1/138)
عدم كتابة (البسملة) في سورة التوبة
المجيب عبد الحكيم بن عبد الله القاسم
عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين
القرآن الكريم وعلومه/علوم القرآن
التاريخ 09/08/1425هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة وبركاته.
لماذا لم تكتب بسم الله الرحمن الرحيم في أول سورة التوبة؟ وما السبب في ذلك؟. ودعائي لكم بدوام التوفيق والسداد, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وبعد:
للعلماء رحمهم الله في توجيه عدم كتابة البسملة أول سورة التوبة وجوه، منها:
الأول: أن البسملة رحمة وأمان، و"براءة" نزلت بالسيف، فليس فيها أمان، وهذا القول مروي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وسفيان بن عيينة، والمبرد -رحمهما الله-، ورجحه أبو القاسم الشاطبي -رحمه الله - حيث قال: ومهما اتصلت أو بدأت براءة تنزيلها بالسيف لست مبسملا.
الثاني: أن ذلك على عادة العرب إذا كتبوا كتابا فيه نقض عهد أسقطوا منه البسملة، فلما أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - علياً -رضي الله عنه - ليقرأها عليهم في الموسم قرأها ولم يبسمل، على عادة العرب في شأن نقض العهد.
ولا يخفى ضعف هذا؛ لأن القرآن يؤخذ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا عن الصحابة رضوان الله عليهم، فلو أقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم- علياً بالبسملة فإنه سيقرؤها ولا شك.
الثالث: أن الصحابة - رضي الله عنهم- لما اختلفوا: هل براءة والأنفال سورة واحدة؟ أو سورتان؟ تركوا بينهما فرجة؛ لقول من قال: إنهما سورتان، وتركوا البسملة من المصحف؛ لقول من قال: هما سورة واحدة، فرضي الفريقان، وثبتت حجاجهما في المصحف، قاله خارجة وأبو عصمة وغيرهما.
وهذا القول يضعفه ما نقل عن السلف من أسماء السورة: فهي تسمى براءة والتوبة، والمقشقشة، والمنقرة، والفاضحة، وسميت بغير ذلك.(1/139)
الرابع: أنه لما لم يتبين لهم أنها سورة مستقلة، واشتبهت مع الأنفال في قصتها وموضوعها ضمت إليها، ويصلح دليلاً على هذا ما رواه ابن عباس – رضي الله عنهما- فقال: قلت لعثمان بن عفان- رضي الله عنه: (ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا –قال ابن جعفر: بينهما - سطراً: بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال؟ ما حملكم على ذلك؟ قال عثمان: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-مما يأتي عليه الزمان ينزل عليه من السور ذوات العدد، وكان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده يقول: "ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا " وينزل عليه الآيات فيقول: "ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا " وينزل عليه الآية فيقول: "ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا " وكانت الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة، وبراءة من آخر القرآن، فكانت قصتها شبيهة بقصتها، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها وظننت أنها منها، فمن ثم قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطراً: بسم الله الرحمن الرحيم، قال ابن جعفر: ووضعتها في السبع الطول) .
وهذا القول رجحه ابن العربي في أحكام القرآن، والشنقيطي في أضواء البيان.
والأثر الذي استدلا به رحمهما الله: رواه أحمد (1/57 و69) ، وأبو داود (786و787) ، والترمذي (3086) ، والنسائي في الكبرى (8007) ، والبزار (344) ، وابن أبي داود في المصاحف (ص 39) ، وابن حبان (43) ، والحاكم (2/221و330) ، والبيهقي (2/42) .
وهو نص في الموضوع، وقد صححه ابن حبان والحاكم، ولكن الصواب أنه ضعيف كما قال الشيخ أحمد شاكر والألباني وشعيب الأرناؤط وغيرهم.(1/140)
والسبب في التضعيف: انفراد عوف بن أبي جميلة بروايته عن يزيد الفارسي، ويزيد هذا مختلف في تحديده هل هو ابن هرمز أم غيره، واشتبه تحديده على مثل: عبد الرحمن بن مهدي وأحمد والبخاري، فهو في عداد المجهولين، وذكره البخاري في الضعفاء، ونقل البخاري في التاريخ الكبير (8/367) والضعفاء (ص122) عن يحيى القطان: أنه لم يعرفه وأنه كان يكون مع الأمراء، وعده ابن حجر في (تقريب التهذيب) مقبولاً. ينظر تحقيق المسند (1/460-462) .
وتفرد الراوي عن شيخه وهو خفيف الضبط يعتبر علة توجب رد الرواية عند أئمة علماء علل الحديث المتقدمين، فالحديث معلول، وأين أصحاب ابن عباس عنه؟.
الخامس: أن سورة براءة نسخ أولها فسقطت معه البسملة، وهذا القول مروي عن مالك وابن عجلان كما ذكر ابن العربي، وروي عن عثمان ذكره القرطبي بدون إسناد.
السادس: قال القرطبي -نقلا عن عبد الملك القشيري النيسابوري صاحب التفسير الكبير المتوفى 465هـ -: والصحيح أن البسملة لم تكن فيها؛ لأن جبريل ما نزل بها فيها، وروي معناه عن أبي بن كعب بدون إسناد ذكره ابن العربي.
وهذا هو الأظهر -والله أعلم- أن السورة هكذا أنزلت، والصحابة رضوان الله عليهم كتبوا القرآن على التجريد أي تجريد كلام الله عن غيره، ولما سمعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قرأها بدون بسملة لم يكتبوها.
والمسألة سهلة يسيرة؛ إذ إنها لا ترتبط بآيات السورة، بل بالبسملة في أولها، والبسملة على الصحيح آية مستقلة في كل سورة، إلا في براءة فقد أجمع القراء على عدم القراءة بها فيها. والله أعلم.(1/141)
المحكم والمتشابه
المجيب د. سعيد بن ناصر الغامدي
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك عبد العزيز
القرآن الكريم وعلومه/علوم القرآن
التاريخ 22/11/1425هـ
السؤال
الآية رقم 7 في سورة آل عمران: (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ) . تبين الآية وجود بعض العلم غير الواضح لنا تمامًا ويسبب حيرة لنا فيدخل كل ذلك في المتشابهات، هل كلامي الذي فهمته من الآية صحيح؟ وفي سورة الإسراء الآية 85: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) . فبناءً على هذه الآية فإن مناقشة ماهية الروح، وكيف خلقت، وما العلم الذي وصل إلينا عنها، وخلاف ذلك يدخل في المتشابهات، لأنها لا تدخل في أسس الإيمان وليس عندنا علم تام عنها. فهل ما فهمته من الآية صحيح؟ هل تقولون بأن الحديث عن علم الروح يدخل ضمن المتشابهات للأسباب التي ذكرتها أعلاه؟
الجواب(1/142)
المحكم هو البين الواضح كما في قوله تعالى: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [البقرة:83] . فكل أحد من السامعين يعرف المراد بالوالدين ويعرف معنى الإحسان إليهما، أما المتشابه فهو الذي قد يظهر معناه للعالم وقد يخفى بحسب العلم والعمل، وقد يظهر بعض معناه ولا يظهر بعضه الآخر، وقد يخفى المراد منه فلا يعلمه سوى الله تعالى، فمثلاً استواء الله تعالى، على عرشه واضح المعنى، ولكن حقيقته وكنهه وكيفيته من المتشابه الذي لا يعلمه أحد سوى الله تعالى، وكذلك بقية الصفات الحسنى، ومن ذلك المراد بالحروف المقطعة في أوائل بعض السور. وليس كل ما سبب حيرة للإنسان فهو من المتشابه، خاصة إذا كان الذي أصابته الحيرة ليس من أهل العلم الشرعي، فقد تصيب الإنسان الحيرة من أمر يراه خفيًّا عليه وهو جلي واضح بالنسبة لغيره، ومثال ذلك تحير بعض أبناء البلاد الإسلامية أمام الآيات الناصة على وجوب التحاكم إلى شرع الله واضطرابهم في ذلك اضطرابًا هائلًا، مما يدل على حيرتهم، وهي قضية محكمة واضحة جلية عند جميع أهل العلم والإيمان، فقد علم جميع المسلمين وآمنوا بأن الدين الإسلامي له جانبان؛ أحدهما عبادة الله وحده دون سواه، والثاني تحكيم شريعته وحده دون سواه0
وقل مثل ذلك في حيرة بعض الطوائف المبتلاة بحب القبور ودعوة أهلها مع الله أو دون الله في أمور لا يقدر عليها إلا الله، مع أن هذه القضية من قضايا الدين الأصلية الكلية الثابتة المحكمة، فلا تدل حيرتهم على انتقالها من حيز المحكم الواضح إلى حيز المجمل أو المتشابه.(1/143)
وأما ما ذكر من أمر الروح فلأهل العلم في المراد بالروح في آية الإسراء أقوال منها: أن المراد جبريل عليه السلام. ومنها: أن المراد الروح التي بها يحيا الإنسان. وعلى هذا المعنى ورد سؤال السائل. والحديث عن الروح بهذا المعنى له وجهان أحدهما محكم جلي والآخر متشابه، فمن المحكم أن الروح مخلوقة مستحدثة من العدم، وأنها جسم لطيف، تسري في الأعضاء، وأن هذا الجسم يقبض، ويمسك ويرسل، وينعم ويعذب. ومن المتشابه حقيقة الروح وكنهها وكيفية نفخها في الجسد وكيفية انبثاثها فيه، وكيفية قبضها وإرسالها، وكيفية تنعمها وعذابها، وكيفية علاقتها بالجسد في دار البرزخ، وفي الآخرة، وغير ذلك من الأمور التي قد تظهر للبعض وتخفى عن البعض، وقد تخفى عن الجميع فلا يعلمها إلا الله وحده، أما الحديث عن عالم الروح فبحسب نوع الحديث وصوابه وصحته، فقد يكون من المحكمات كما لو تحدث عن أنها مخلوقة مربوبة تقع تحت تدبير الله تعالى وإرادته. وقد يكون الكلام عن الروح من المتشابه كما لو تحدث عن كيفية قبضها حال النوم وإرسالها، وقد يكون الكلام عن الروح من الباطل والخرافة كما يحصل عند أصحاب تحضير الأرواح، وكما يحدث عند الهنادكة والقائلين بالتناسخ وأصحاب السحر والكهانة والتنجيم. والله أعلم.(1/144)
آية الرجم المنسوخة
المجيب د. محمد بن سريّع السريّع
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/علوم القرآن
التاريخ 10/04/1427هـ
السؤال
ما سبب نسخ آية الرجم من القرآن الكريم مع أن حكمها باقٍ إلى يومنا هذا؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وبعد:
فإن ما يجريه الله تعالى من أحكام في شرعه أو قدره فإنما هو لحكمة عظيمة، ذلك أن الله هو العليم الحكيم، فليس شيء يجري عبثاً ولا يحصل لغواً، كما قال تعالى عن خلق السماوات والأرض: (ما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً) [ص:27] . وقال: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ" [الأنبياء:16] .
ثم إن بعض هذه الحكم قد تظهر للمكلفين وقد تخفى عنهم أشياء كثيرة، منها ما يكون فيه ابتلاء للعباد ليظهر مقدار إيمانهم بالغيب، وتصديقهم بالرسل، وتعبدهم لله جل وعلا.
ومن الحكم التي ذكرها أهل العلم في نسخ آية الرجم خاصة، أن ذلك يظهر به مقدار طاعة العباد بالمسارعة إلى القيام بهذا الحد الذي فيه إزهاق للنفوس، حتى ولو لم يجدوه مكتوباً في القرآن، فهذا امتحان لإيمانهم واختبار لصحة تصديقهم بما جاءهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.(1/145)
هل المعنى مجازي في قوله "ولتصنع على عيني"
المجيب عبد الحكيم بن عبد الله القاسم
عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين
القرآن الكريم وعلومه/التفسير الموضوعي
التاريخ 07/05/1427هـ
السؤال
ما هو موقف أهل السنة والجماعة من هذا الكلام: المعنى الحرفي لقوله تعالى "ولتصنع على عيني" وقوله تعالى: "فإنك بأعيننا" وقوله تعالى: "واصنع الفلك بأعيننا" فالمعنى الحرفي لهذه النصوص أن الآلة التي بُنِيَ لها الفعل هي: العين، وهذا مجاز، أي: "تحت عنايتنا" فلا بد من التفسير المجازي للآيات! وأنها تعني العناية الفائقة. أرجو التعليق؟
الجواب
الحمد لله، وصلى الله على نبيه ومصطفاه، وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان ووالاه، أما بعد:
فإن أسماء الله وصفاته التي وصف بها نفسه تعالى في كتابه الكريم الذي أنزله، أو وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله مما صح عنه، يجب التعامل معها كغيرها من كلام الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حملها على الظاهر المتبادر في العربية، ولكن:
دون تمثيل لله بخلقه، ودون تكييف للصفة، وأيضا دون تحريف لمعاني الألفاظ، ودون تأويل لمفهومها بالمجاز ونحو ذلك، إلا إذا دل عليه الدليل.
وليعلم كل مسلم أنه لا يمكنه الإحاطة بمولاه، كما قال تعالى: "ولا يحيطون به علما" [طه:110] وقال تعالى: "هل تعلم له سميا" [مريم:65] فليقطع التفكير في الكيف، بعد إثباته معنى الاسم، والصفة، وما يدلان عليه.
وهذا المنهج هو ما سار عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وهو منهج أهل السنة والجماعة، وهو ما يجب على كل مسلم ومسلمة، وهو الأسلم، والأحكم، والأعلم.
ومن الأدلة الظاهرة على صحة هذا المنهج قول الله تعالى: "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" [الشورى: 11] ، فنفى الله عن نفسه مماثلة خلقه، وأثبت في الوقت نفسه اسمين كريمين وهما: السميع، والبصير.(1/146)
وكل اسم متضمن لوصف، وقد وصف سبحانه بعض خلقه بالوصفين المشتقين من هذين الاسمين في آيات أخرى، قال تعالى في سورة الإنسان: "إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا" [الإنسان:2] وليس الله السميع، كالمخلوق السميع، ولا الله البصير، كالمخلوق البصير، وليس سمع الخالق كسمع المخلوق.
وهذا ما يسمى بالقدر المشترك موجود في كل ما يقال إنه موجود مثلا، فليس فيه تشبيه على الإطلاق.
وما سألت عنه أخي أيضا داخل تحت هذه القاعدة:
ففي الآيات السابقة: في قوله تعالى: "ولتصنع على عيني" [طه:39] ، وقوله تعالى: "فاصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا" [الطور:48] ، وقوله تعالى: "وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا" [القمر:14] ، وقوله أيضا: "واصنع الفلك بأعيننا ووحينا" [هود:37] ، وقوله: "فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا" [المؤمنون:27] .
ففيهن: إثبات صفة العين لله تعالى، كما يليق بجلاله وعظمته، وورودها على صيغة الجمع للتعظيم، ودل على ذلك صنيع البخاري كما سيأتي.
وقد جاءت السنة النبوية بإثبات صفة العين لله تعالى أيضاً.
ففي صحيح البخاري، كتاب التوحيد، بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: "وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِي".. وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ:"تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا" ثم ساق (7407) بإسناده إلى.. عبد اللَّهِ بن عمر -رضي الله عنهما- قال: ذُكِرَ الدَّجَّالُ عِنْدَ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ، إِنَّ اللَّهَ ليس بِأَعْوَرَ، وَأَشَارَ بيده إلى عَيْنِهِ، وَإِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ ".
وبإثبات صفة العين لله تعالى، تثبت الرؤية، والحفظ، والرعاية، والعناية، وإذا أثبتنا الرؤية فقط، لا يلزم منها إثبات صفة العين المنصوص عليها في الآيات.(1/147)
ومما يدل على أن هذا النهج هو الأسلم، والأحكم، والأعلم: أنه هو مدلول المفهوم من الكلام، أي كلام، وهو الحمل على الظاهر، والله أنزل كتابه بلسان عربي مبين، ثم إنه لو سألك ربك يوم القيامة فقال: لم يا عبدي أثبت لي صفة العين، واليد، والاستواء، والكلام، والمحبة، والغضب، وغير ذلك، لكان الجواب: هذا يا رب ما فهمنا من كلامك في كتابك، وكلام رسولك صلى الله عليه وسلم.
ولكن لو وقع الشخص -لا قدر الله- في التحريف والتأويل وسأله مولاه، يا عبدي: لم نفيت عني ما أثبته لنفسي من صفة أو اسم؟ أأنت أعلم بي مني؟؟ كيف يكون جوابه!؟. ولذلك فما ذكرتَ من التفسير في سؤالك غير سليم، بل هو تأويل للنص بغير دليل ظاهر، والصواب ما تقدم. والله أعلم.
فائدة من نقولات ابن القيم في الصواعق المرسلة (1/260-262) :
قول عثمان الدارمي: الأعور ضد البصير بالعينين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الدجال: "إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور" وقد احتج السلف على إثبات العينين له سبحانه بقوله: "تجري بأعيننا" [القمر:14] .
وممن صرح بذلك إثباتا واستدلالا؛ أبو الحسن الأشعري في كتبه كلها فقال في المقالات، والموجز، والإبانة، وهذا لفظه فيها: "وجملة قولنا: أن نقر بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله ... إلى أن قال: وإن الله مستو على عرشه، كما قال: "الرحمن على العرش استوى" [طه:5] .
وأن له وجها، كما قال: "ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام" [الرحمن:27] .
وأن له يدين، كما قال: "بل يداه مبسوطتان" [المائدة:64] ، وقال: "لما خلقت بيدي" [ص:75] ، وأن له عينين بلا كيف، كما قال: "تجري بأعيننا" [القمر:14] ، أسأل الله أن يوفقنا جميعاً لاتباع الوحيين، ولزوم دلالتهما على طريقة الصحابة، والتابعين، والذين اتبعوهم بإحسان. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(1/148)
كيف علمت الملائكة بأن الإنسان سيفسد في الأرض؟
المجيب د. ناصر بن محمد الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/التفسير الموضوعي
التاريخ 04/03/1426هـ
السؤال
عندما أراد الله -سبحانه وتعالى- أن يجعل في الأرض خليفة رفض كل من الملائكة والجبال حمل الرسالة فقبل الإنسان حملها، فحينما علمت الملائكة أن خليفة الأرض هو الإنسان قالوا بما معناه: أتجعل من يسفك الدماء فيها وينشر فيها الفساد؟
السؤال: هو كيف علمت الملائكة أن الإنسان سوف يفسد في الأرض، وهي لا تعلم ما الإنسان وما هي خليقته؟ ولكم جزيل الشكر.
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: السائل الكريم يشير إلى قوله تعالى: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك" [البقرة:30] ، ومعنى هذه الآية الكريمة وقع فيه خلاف بين السلف، وتشعَّبت بأهل العلم المسالك في فهم الآية، ومن نظر فيها من المفسرين بحسب ظاهر الآية وسياقها -ولم يتأثر ببعض تلك الأقوال المتكلفة والآثار الواهية- كان قوله أقرب للصواب، وأبعد عن الشطط.
وظاهر الآية الكريمة يدل على أن الله -تعالى- أخبر ملائكته أنه جاعل في الأرض خليفة يخلف بعضهم بعضًا على هذه الأرض، وعندئذ قالت الملائكة -على سيبل الاستفهام والاسترشاد، طلبا لبيان الحكمة من خلق بشر وجعله خليفة، مع أنه سيقع منه الفساد وسفك الدماء-: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء".
والآية الكريمة لم توضح كيف علم الملائكة بأن هذا المخلوق سيقع منه الفساد وسفك الدماء، ولم يرد في كتاب الله -تعالى- أو فيما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يوضِّح الوسيلة التي عرفوا بها ذلك، ولهذا اختلف السلف -رحمهم الله- في تعيين الكيفية التي عرفت الملائكة بها هذا.(1/149)
وأقرب الأقوال وأقلها تكلفا أن يكون الله -تعالى- قد أطلعهم على هذا، فكما أخبرهم أنه سيجعل في الأرض خليفة، أخبرهم أنه سيقع من ذلك الخليفة فساد وسفك دماء، وهذا احتمال غير بعيد، ومما يقويه ما جاء في الأثر عن قتادة فيما أخرج الطبري وابن أبي حاتم ـ بسند حسن ـ في قوله تعالى: "أتجعل فيها من يفسد فيها" قال: كان الله أعلمهم أنه إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء، فذلك حين قالوا: "أتجعل فيها من يفسد فيها".
وهذا القول مال إليه شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله.
وبكل حال فالملائكة ينزهون عن أن يظن أنهم تكلموا في أمر بمجرد التخمين والظن، ولهذا لما طلب منهم تعالى أن يخبروه بأسماء المخلوقات سبحوا الله وعظموه أن يقولوا قولاً لا علم لهم به، فقالوا: "سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا" [البقرة:31-32] .
بقي أن أشير إلى ما ورد في السؤال، فمقدمته تشعر أن الله -تعالى- عرض على الجبال والملائكة أن يكونوا خلفاء في الأرض فأبوا ذلك، فإن كان هذا ما أراده السائل الكريم فهو خطأ ووهم، فلم يرد ما يدل على أن الله تعالى عرض خلافة الأرض على الملائكة والجبال، بل هو خطأ بيِّن، ينزه كلام الله عنه.
ولعل السائل اختلطت عليه مسألة الخلافة بعرض الأمانة التي ورد ذكرها في موضع آخر من سورة الأحزاب، حيث قال تعالى: "إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا" [الأحزاب: 72] ، والمراد بالأمانة هنا ـ كما ذكر ابن كثير وغيره ـ التكاليف، وقبول الأوامر والنواهي بشرطها، وهو إن قام بذلك أثيب، وإن تركها عوقب. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(1/150)
ربط النصوص الدينية بالظواهر الطبيعية
المجيب د. محمد بن إبراهيم دودح
باحث علمي في هيئة الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة
القرآن الكريم وعلومه/التفسير الموضوعي
التاريخ 27/12/1424هـ
السؤال
قرأت مقالاً في أحد المنتديات:
ذكر علماء الفلك أن كوكب المريخ قد تباطأت سرعته في الاتجاه الشرقي في الأسابيع القليلة الماضية، حتى وصل إلى مرحلة التذبذب ما بين الشرق والغرب، وفي يوم الأربعاء 30 يوليو توقفت حركة المريخ عن السير في الاتجاه الشرقي، وبعد ذلك في شهري أغسطس وسبتمبر تحول المريخ بالانطلاق بشكل عكسي نحو الغرب، وذلك إلى نهاية شهر سبتمبر، وذلك يعني أن الشمس تشرق الآن من مغربها على المريخ، وهذه الظاهرة العجيبة تسمى retrograde motion أو الحركة العكسية، ويقول العلماء إن كل الكواكب سوف تحدث لها هذه الظاهرة مرة على الأقل، ومن بينها كوكبنا
(كوكب الأرض) ، سوف تحدث له هذه الحركة العكسية يوماً ما، وسوف تشرق الشمس من مغربها، وقد يكون هذا الأمر قريباً ونحن غافلون.(1/151)
قد قال رسولنا -صلى الله عليه وسلم- إن من علامات الساعة الكبرى أن تشرق الشمس من مغربها، وعندما يحدث ذلك لا تقبل التوبة، والعجيب أن علماء الشريعة قد ذكروا أن طلوع الشمس من المغرب يحدث فقط مرة واحدة يوم الطلوع، ثم تعود إلى الطلوع من المشرق وتستمر هكذا إلى أن يشاء الله، وهذا مشابه لما يحدث في المريخ، فإنه يتوقف ويعكس الاتجاه لفترة بسيطة ثم يعود كما كان، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله –تعالى- يبسط يده بالليل؛ ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار؛ ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها " رواه مسلم. إن هذا الخبر على خطورته فإنه يفتح أبوابا للدعوة سواء للمسلمين الغافلين أو الكفار، فعندما نعرض هذه الأحاديث التي ذكرت تلك الظاهرة قبل 1400 سنة، فسوف يدخل في الإسلام خلقٌ كثيرٌ، وأما المسلمون فقد رأوا أن هذا الأمر حدث للمريخ، وما يدرينا لعله مقدمة لما سيحدث على كوكبنا في القريب العاجل.
وسؤالي: هل هذا الكلام صحيح؟ فنحن من كثرة ما نسمع من أحاديث آخر الزمان أصبحنا لا نعرف الحق من الكذب. أفيدونا جزاكم الله خيراً مع أملي بأن تلحقون الإجابة بعلامات الساعة الكبرى بالترتيب.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد:(1/152)
تبدو النجوم للراصد الأرضي ثابتة على مر الأعوام نتيجة لبعدها الشديد، ولذا اتخذت منذ القدم علامات ثابتة يهتدي بها المسافرون، بينما تتغير مواقع الكواكب ويمكن رصد حركتها أمام النجوم، ولذا سميت بالسيارات، ومن المعلوم فلكياً أن الأرض هي الكوكب الثالث بالنسبة للشمس، ويسبقها عطارد والزهرة وتليها مجموعة الكواكب الخارجية التي منها المريخ والمشترى وزحل، وقد لوحظ منذ القدم أن السيارات الخارجية تنكص حركتها دورياً، فيقف تقدمها حول الشمس ظاهرياً وتبدو متراجعة، وقد فسرت تلك الظاهرة حديثاً على أساس أنها ذات مدارات أكبر من الأرض وسرعات أقل، ولذا تبدو دورياً متراجعة، بينما تنعدم تلك الحركة التناقصية الظاهرية في حالتي عطارد والزهرة؛ لأن مداريهما أصغر وسرعتهما أكبر، وفي الحقيقة أن حركة جميع الكواكب لا تتوقف سواء حول الشمس أو حول نفسها، وهذه الحركة التراجعية الظاهرية للكواكب معلومة لدى المفسرين - رحمهم الله- حتى إن بعضهم فسر بها قول الله - جل وعلا-: "فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس" [التكوير: 15-16] باعتبار أنها جوار أي سيارات والخنس النكوص والتراجع، وتراجع المريخ حالياً ليس إذاً ظاهرة غير معلومة سابقاً لننزل عليها أحاديث آخر الزمان، بل إحدى سنن الله المعتادة في خلقه، وينبغي الحذر والحيطة عند ربط النصوص الدينية بالظواهر الطبيعية أو الاجتماعية؛ لأن التعجل بإنزالها على الواقع بلا بينة مجازفة وشهادة بغير علم، وقد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه خاصة مع ترصد من ينتظر زلة ليطعن في نصوص الوحي. والله -تعالى- أعلم.(1/153)
هل أمر إبليس بالسجود لآدم؟!
المجيب د. مساعد بن سليمان الطيار
عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين
القرآن الكريم وعلومه/التفسير الموضوعي
التاريخ 23/9/1424هـ
السؤال
يقول الله -جل وعلا- "وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ" [الكهف: من الآية50] ، السؤال: عندما وجه الله -جل وعلا- الأمر بالسجود وجهه إلى الملائكة، ولم يوجهه إلى الجن، فإبليس لم يسجد وهو غير مقصود في ظاهر الآية، إذاً كيف يؤاخذ الله إبليس وهو لم يؤمر بالسجود، حيث قال تعالى: "وإذ قال ربك للملائكة ... " ثم قال سبحانه:"إلا إبليس كان من الجن، ففسق عن أمر ربه"، آمل من فضيلتكم التكرم ببيان الإجابة عن هذه الشبهة، وفقكم الله وسدد خطاكم.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد(1/154)
أيها الأخ الفاضل، حسنٌ أن سميت هذه المسألة بأنها شبهة، والتحقيق في هذا الأمر واضح لو أنك نظرت إلى قوله تعالى:" وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِين [ٍ الأعراف: 12] ، فهذه الآية نصٌّ صريح على دخوله في الأمر بالسجود مع الملائكة، ولو كان الأمر كما قلت لكان إبليس أولى من يحتجُّ بهذا، وهو لم يفعل، بل قال: أنا خير منه ... إلخ، ففهم أنه مأمور بهذا الخطاب، وإن لم يكن من الملائكة. والسؤال الذي يرد: إذا كان إبليس مأمورًا بالسجود كما نصَّت الآيات، فكيف يُدركُ دخوله في الخطاب، ولم يرد توجيه الأمر إليه مباشرة؟ فالجواب أن يقال: إن ذلك جاء على صيغة تغليب الأكثر وتوجيه الخطاب إليه، فإبليس فردٌ والملائكة جمعٌ كثيرٌ، فذُكروا بالأمر بالسجود دونه من باب التغليب وهو أسلوب عربي عريق، قد جاء كثيرًا في نصوص القرآن والسنة ولغة العرب، والله الموفق.
ومن باب الفائدة فيما يتعلق بأصل إبليس وما وقع له في السماء يحسن أن تراجع ما كتبه الشيخ الفاضل عبد الله بن عبد العزيز السبتي تحت عنوان (الجن والشياطين سلالة من؟) ، في خزانة الفتاوى من الموقع نفسه تحت باب تفسير آيات وسور من القرآن، وأسأل الله لي ولك التوفيق.(1/155)
كيف كان المخذّلون إخواناً للغزاة؟
المجيب عبد الحكيم محمد أرزقي بلمهدي
كلية الشريعة/ جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/التفسير الموضوعي
التاريخ 5/1/1425هـ
السؤال
أصحاب الفضيلة: يقول الباري - علا وجل - "يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض ... " الآية، كما يقول الله -تعالى-: "فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين" "،والإشكال الجامع بين هاتين الآتين: كيف كان المثبطون والمخذلون في الآية الأولى إخوانًا للضاربين والغزاة، مع أن الله -تعالى- حكم بكفرهم، بدليل أن الآية الثانية الأخوة فيها بإقامة الصلاة والزكاة، والأخوة لا تكون إلا بين المسلمين.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:(1/156)
ليس المراد من الآية ما ذكرت، والذي ذكره أهل التفسير في تأويل قوله -تعالى-: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزّىً لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا" [آل عمران: من الآية156] ، أن الآية فيها نهي للمؤمنين أن يقولوا لإخوانهم المؤمنين أو عن إخوانهم المؤمنين ما قاله الكفار، أو يقولونه عن إخوانهم في الكفر أو النفاق، أو النسب، واقرأ إن شئت كلام إمام المفسرين أبي جعفر الطبري - رحمه الله- في تفسير هذه الآية (4/146) ، إذ قال: (يعني بذلك -جل ثناؤه- يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله وأقروا بما جاء به محمد من عند الله لا تكونوا كمن كفر بالله وبرسوله- صلى الله عليه وسلم- فجحد نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم- وقال لإخوانه من أهل الكفر إذا ضربوا في الأرض فخرجوا من بلادهم سفراً في تجارة أو كانوا غزى، يقول أو كان خروجهم من بلادهم غزاة فهلكوا فماتوا في سفرهم، أو قتلوا في غزوهم، لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، يخبر بذلك عن قول هؤلاء الكفار أنهم يقولون لمن غزا منهم فقتل أو مات في سفر خرج فيه طاعة لله، أو تجارة لو لم يكونوا خرجوا من عندنا، وكانوا أقاموا في بلادهم ما ماتوا وما قتلوا) ا. هـ، كلامه، وقال ابن الجوزي - رحمه الله- (1/484) ، قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا"، أي كالمنافقين الذين قالوا لإخوانهم في النفاق وقيل إخوانهم في النسب. والله أعلم.(1/157)
شبهة التعارض بين آيات خلق السموات والأرض
المجيب د. محمد بن سريّع السريّع
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/التفسير الموضوعي
التاريخ 28/3/1425هـ
السؤال
هذا سؤال من شخص غير مسلم: يقول هناك تناقض في القرآن بخصوص الخلق.
أول تعارض موجود في القرآن يتعلق بما بدأ خلقه أولا السماء أم الأرض؟ ففي سورة فصلت:"خلق الأرض في يومين" ثم قال: "فقضاهن سبع سموات في يومين". ثم قال تعالى: "هو الذي خلق لكم مافي الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات" وقال:" ثم استوى إلى السماء وهي دخان ... فقضاهن" وهذا يعارض:"الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش....وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا".
فالآيات الأولى تبين أن الأرض خلقت أولا لكن في الآيات التالية ذكر تعالى أن السماء خلقت أولا. ومن ناحية أخرى هناك تساؤل عن عدد الأيام التي تم فيها الخلق. "الذي خلق الأرض في يومين ... وجعل فيها رواسي من فوقها ... وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام....إلى أن قال: فقضاهن سبع سموات في يومين" (سورة فصلت) فيكون عدد الأيام 2+4+2= 8 أيام وهذا ما يعارض ما ورد في سورة هود:
"وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام" والآية رقم 3 من سورة يونس: "إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام" وكذلك الآية رقم 54 من سورة الأعراف:"إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام" ففي الآيات الأولى نص على مرور ثمانية أيام على اكتمال الخلق وفي المجموعة الثانية ستة أيام فقط.
أرجو التكرم بتوضيح هذه المسألة.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم(1/158)
الآيات التي ذكرها السائل لا تعارض بينها لمن عرف دلالات اللغة العربية، أما الآيات الأول فهي دالة على أن خلق الأرض قبل السماء، وهذا واضح، أما قوله تعالى: "اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً" [الرعد: 2-3] ، فهذه الآية ليس فيها ما يدل على أن السماء خلقت أولاً قبل الأرض لمجرد أنها عطفت عليها بالواو، فإنه مما هو معلوم في لغة العرب أن العطف بالواو – بمجرده- لا يقتضي الترتيب بين المعطوفات، فإننا قد نقول: جاء علي وأحمد، وليس معنى ذلك أن أحمد جاء بعد علي، وسياق الآيات السابقة في بيان قدرة الله –تعالى- وعظيم خلقه، وليست في بيان ما خلق أولاً.(1/159)
ثم اعلم أن ظاهر القرآن الكريم قد دل على أن الله -جل في علاه- قد خلق الأرض أولاً ثم خلق السماء ثم دحا الأرض - أي أخرج منها ماءها ومرعاها- ويدل لذلك قوله -تعالى-: "قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ" [فصلت: من الآية9-12] ،وقوله تعالى: "أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا" [النازعات:27] .
وأما عدد الأيام التي تم فيها الخلق فهي ستة؛ كما نص على ذلك القرآن الكريم في كثير من الآيات، ونصت على ذلك الكتب السماوية السابقة، وأما قوله: "قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ ... " [فصلت: من الآية9-12] ، فهو تفصيل لثلث الأيام الستة، حيث أخبر تعالى أنه خلق الأرض في يومين، وأخبر أنه خلق ما فيها من الجبال وقدر الأقوات في يومين آخرين، فالمجموع أربعة أيام، وهي المذكورة بقوله: "في أربعة أيام سواء للسائلين"، وليس المقصود أن جعل الرواسي وتقدير الأقوات فقط في أربعة أيام، بل المقصود أن هذا مع خلق الأرض كله في أربعة أيام، وأن خلق السماوات في يومين، فيكون المجموع ستة أيام، والله الهادي إلى سواء السبيل. والله أعلم.(1/160)
الجواب عن هذه الشبهة في خلق القرآن
المجيب أ. د. سليمان بن فهد العيسى
أستاذ الدراسات العليا بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/التفسير الموضوعي
التاريخ 01/06/1427هـ
السؤال
عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله "يا أبا المنذر: أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ ". قال قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "يا أبا المنذر: أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ ". قال قلت: الله لا إله إلا هو الحي القيوم. قال: فضرب في صدري، وقال: "والله ليهنك العلم أبا المنذر".
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده إن لها لساناً وشفتين، وتسبح الله وتحمده عند قدمي العرش".
فأنا أؤمن أن القرآن هو كلام الله غير مخلوق، لكن ألا يحتج من يقولون بخلق القرآن بمثل هذا الحديث على صحة مذهبهم؟ إذ كيف لكلام الله أن يكون له لسان وشفتان تسبح الله وتحمده عند قدمي العرش؟
الجواب
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن مما لا شك فيه ولا ريب أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، ونؤمن ونعتقد ذلك، كما أن السائل كذلك، وهذا محل إجماع بين أهل السنة والجماعة، فقد جاء في شرح العقيدة الطحاوية ما نصه: (وبالجملة فأهل السنة كلهم من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم من السلف والخلف متفقون على أن القرآن كلام الله غير مخلوق) . انتهى.
قال تعالى: "وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ" الآية [التوبة:6] . هذا وما ذكره السائل من أنه قد يحتج من يقول: بخلق القرآن بمثل قوله صلى الله عليه وسلم عن آية الكرسي: "والذي نفسي بيده إن لها لساناً وشفتين، وتسبح الله وتحمده عند قدمي العرش".(1/161)
نقول: إن المقصود بهذا الحديث وأمثاله مما ورد عن فضل القرآن، أو بعض سوره، أو آياته، المراد بذلك ثواب العمل، كما قرره أهل العلم، كالترمذي، فقد جاء في جامع الترمذي، في باب ما جاء في آل عمران، في الحديث (2884،2883) عن نواس بن سمعان –رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يأتي القرآن وأهله الذين يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران". قال نواس: وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بَعْدُ، قال: "تأتيان كأنهما غيابتان وبينهما شرق، أو كأنهما غمامتان سوداوان، أو كأنهما ظلة من طير صواف تجادلان عن صاحبهما" قال الترمذي: ومعنى هذا الحديث عند أهل العلم: أنه يجئ ثواب قراءته. كذا فَسَّر بعض أهل العلم هذا الحديث وما يشبه هذا من الأحاديث أنه يجئ ثواب قراءة القرآن، وفي حديث نواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على ما فسروا. إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم "وأهله الذين يعملون به في الدنيا" ففي هذا دلالة أنه يجئ ثواب العمل. وأخبرني محمد بن إسماعيل: أخبرنا الحميدي قال: قال: سفيان بن عيينة في تفسير حديث عبد الله بن مسعود: ما خلق الله من سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي.
قال سفيان: لأن آية الكرسي هو كلام الله وكلام الله أعظم من خلق الله من السماء والأرض". انتهى بنصه.
هذا وجاء في تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي) 8/194) ما نصه: (تجادلان عن صاحبهما) أي: تحاجان عنه، كما في رواية، والمحاجة: المخاصمة وإظهار الحجة. وصاحبهما هو المستكثر من قراءتهما وظاهر الحديث أنهما يتجسمان حتى يكونا كأحد هذه الثلاثة التي شبهها بها النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يقدرهما الله -سبحانه وتعالى- على النطق بالحجة. وذلك غير مستبعد من قدرة القادر القوي الذي يقول للشيء كن فيكون. ا. هـ(1/162)
قلت ومما تقدم يتضح المراد، فالله سبحانه وتعالى يجعل من كلامه الذي أنزله على عباده أجساماً قادرة على النطق بقدرة القادر جل جلاله، تُحاجُّ عن صاحبها المستكثر من القراءة لتلك السور أو الآيات، وكما أن الأعمال والتي منها الأقوال؛ كالذكر، وقراءة القرآن، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وغير ذلك توزن يوم القيامة، وتوضع في كفتي الميزان فتكون كالأعراض. فالله على كل شيء قدير. هذا ما أردت إيضاحه وقد أطلت الجواب عن هذا السؤال لأهميته. والله أعلم.(1/163)
حول قوله تعالى: "وحملناهم في البر والبحر"
المجيب محمد محمد سالم عبد الودود
عضو اللجنة العلمية بالموقع
القرآن الكريم وعلومه/التفسير الموضوعي
التاريخ 08/11/1426هـ
السؤال
ذكر الله -سبحانه وتعالى- في كتابه الكريم في سورة الإسراء، الآية70 "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ... الخ".
سؤالي: لماذا لم يذكر الله (الجو) ، أليست الطائرات تحملنا مثل السفن؟
أفيدونا مأجورين.
الجواب
الحمد لله والصلاة السلام على رسول الله، وبعد:
فإن هذه الآية الواردة في السؤال جاءت في سياق الامتنان على بني آدم، ولفظ (حملناهم) يشتمل على الفعل الماضي، وإلى حين نزول هذه الآية لم يكن هناك طائرات تحمل الناس في الجو، فليس من المناسب الامتنان عليهم بشيء لم يقع.
بل لو أخبروا بذلك في ذلك الوقت لكذبوا به، كما كذبوا بالإسراء والمعراج؛ لبعدهما عن الواقع الذي يعيشونه في ذلك التاريخ.
لكن تعال وانظر إلى قول الله -سبحانه وتعالى- في سياق الامتنان أيضاً، ولكن مع الإشارة إلى المستقبل: "والأنعام خلقها" إلى قوله: "والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون" [سورة النحل: 5-8] . فقد اشتمل قوله تعالى: "ويخلق ما لا تعلمون". على الطائرات وغيرها مما يصل إليه تطور العلم الحديث في الحاضر والمستقبل.
ولا يغبْ عن ذهنك أن لفظ (يخلق) فعل مضارع، ودلالته الأصلية على الزمان المستقبل، بينما لفظ (حمل) فعل ماض - كما سبق- ودلالته الأصلية على ما مضى من الزمان.
وفي هذا أروع نماذج الدقة والمصداقية في التعبير، وهو أمر لا يمكن تذوقه إلا لمن أخذ بجانب من معرفة دلالات الألفاظ وأساليب العربية؛ لأن القرآن (بلسان عربي مبين) .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(1/164)
حول قوله تعالى: "وحملناهم في البر والبحر"
المجيب محمد محمد سالم عبد الودود
عضو اللجنة العلمية بالموقع
القرآن الكريم وعلومه/التفسير الموضوعي
التاريخ 08/11/1426هـ
السؤال
ذكر الله -سبحانه وتعالى- في كتابه الكريم في سورة الإسراء، الآية70 "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ... الخ".
سؤالي: لماذا لم يذكر الله (الجو) ، أليست الطائرات تحملنا مثل السفن؟
أفيدونا مأجورين.
الجواب
الحمد لله والصلاة السلام على رسول الله، وبعد:
فإن هذه الآية الواردة في السؤال جاءت في سياق الامتنان على بني آدم، ولفظ (حملناهم) يشتمل على الفعل الماضي، وإلى حين نزول هذه الآية لم يكن هناك طائرات تحمل الناس في الجو، فليس من المناسب الامتنان عليهم بشيء لم يقع.
بل لو أخبروا بذلك في ذلك الوقت لكذبوا به، كما كذبوا بالإسراء والمعراج؛ لبعدهما عن الواقع الذي يعيشونه في ذلك التاريخ.
لكن تعال وانظر إلى قول الله -سبحانه وتعالى- في سياق الامتنان أيضاً، ولكن مع الإشارة إلى المستقبل: "والأنعام خلقها" إلى قوله: "والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون" [سورة النحل: 5-8] . فقد اشتمل قوله تعالى: "ويخلق ما لا تعلمون". على الطائرات وغيرها مما يصل إليه تطور العلم الحديث في الحاضر والمستقبل.
ولا يغبْ عن ذهنك أن لفظ (يخلق) فعل مضارع، ودلالته الأصلية على الزمان المستقبل، بينما لفظ (حمل) فعل ماض - كما سبق- ودلالته الأصلية على ما مضى من الزمان.
وفي هذا أروع نماذج الدقة والمصداقية في التعبير، وهو أمر لا يمكن تذوقه إلا لمن أخذ بجانب من معرفة دلالات الألفاظ وأساليب العربية؛ لأن القرآن (بلسان عربي مبين) .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(1/165)
استراق الجن للسمع
المجيب عبد الرحمن بن ناصر البراك
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/التفسير الموضوعي
التاريخ 17/04/1427هـ
السؤال
سؤالي بخصوص قوله تعالى في سورة الجن "وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابًا رصدًا" بحسب ما فهمته منها فإن الجن كانوا يسترقون السمع من السماء، وبهذا تمكنهم مساعدة العرافين وإخبارهم بالغيب.
وبعد بعثة رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- لم يقدر الجن على سرقة أي معلومات من السماء، لكل من قراءتي لتفسير ابن كثير فهمتُ أن الجن قد حجبوا وقت تنزيل القرآن حماية له، ثم أخلي عنهم بعد ذلك، ويمكنهم الآن سماع ما يدور في السماء كما كان الوضع قبل نزول القرآن. فهل فهمي صحيح؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
قال الله تعالى: "وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ" [الحجر:16-18] .
وقال تعالى: "إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإٍ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ" [الصافات:6-10] .(1/166)
ففي هذه الآيات دلالة على أن السماء محفوظة محروسة من الشياطين، فلا ينفذون منها ولا ينالون منها شيئاً، إلا ما يخطفه مسترق السمع من كلام الملائكة مما أوحى الله به، وتكلم به، فيصيب الملائكة من ذلك الغشي، فإذا أفاقوا تساءلوا عما قال الله، فيخبرون بذلك كما قال تعالى: "حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ" [سبأ:23] .
ومسترق السمع إذا سمع شيئاً من كلام الملائكة ألقاه إلى من تحته، ثم يلقيه الآخر إلى من تحته، إلى أن تبلغ الكاهن، ولابد أن يرمى مسترق السمع بالشهاب المحرق، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقي الكلمة، وربما ألقاها قبل أن يدركه، كما ثبت في صحيح البخاري (4800) عن أبي هريرة –رضي الله عنه-: قال: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق وهو العلي الكبير. فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض -ووصف سفيان (أحد رواة الحديث) بكفه فحرفها، وبدد بين أصابعه- فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدرك الشهابُ قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذبُ معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا: يوم كذا وكذا، كذا وكذا، فَيُصَدَّقُ بتلك الكلمة التي سمع من السماء".
وأما قوله تعالى: "وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا " [الجن:8-9] .(1/167)
فهذا خبر من الله عن الجن أنهم قالوا ذلك، وكلامهم هذا يدل على أنهم كانوا أولاً يتمكنون من الاستماع، ثم حيل بينهم وبين ذلك بسبب تشديد الحراسة على السماء، ومضاعفة الرمي بالشهب، وذلك عندما يوحى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- حفظاً للوحي من أن تدرك الشياطين شيئاً منه، أو تخطف منه كلمة، وهذا الأمر مختص بوقت نزول القرآن مدة حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد اختلف العلماء في ذلك، فقال بعضهم: إن حجب الشياطين عن استراق السمع مستمر، فهم الآن لا يستطيعون أن يقتربوا من السماء، وأن يسترقوا شيئا من كلام الملائكة.
وقال بعض العلماء: إن عزل الشياطين عن قربان السماء واستراق السمع مختص بوقت نزول الوحي على النبي -صلى الله عليه وسلم- صيانة وحفظا لما كان ينزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- من الكتاب والحكمة، ولما انقطع الوحي بوفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- عاد الأمر إلى ما كان عليه. وهذا والله أعلم- أظهر، وهو الذي ذكرته عن الإمام ابن كثير رحمه الله. والله أعلم.(1/168)
ما الفرق بين التفسير الظاهري والباطني للقرآن؟!
المجيب عبد الحكيم بن عبد الله القاسم
عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين
القرآن الكريم وعلومه/التفسير الموضوعي
التاريخ 24/05/1427هـ
السؤال
ما الفرق بين تفسير القرآن الظاهري والباطني؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فالتفسير الظاهري للنص هو المعتبر في كل لغة، وكل كلام إنما يفسر حسب الظاهر المتبادر لقارئ الألفاظ ومستمع الكلام.
والقرآن كذلك نزل باللسان العربي، قال تعالى: "إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون" [يوسف:2] , وقد بيّن الله تعالى أيضا أن هذا القرآن: بيان وهدى ورحمة وفرقان، وهذه الصفات تعني أن يحمل على ظاهر لفظه، ولا يمكن أن يكون الكلام المحمول على غير الظاهر هاديا وبيانا، ولو حمل كل إنسان القرآن على معنى غير ظاهر من اللفظ لزالت عن القرآن صفة الهداية والبيان والرحمة والفرقان، وإذا زالت عنه هذه الصفات فلا يرجى أن يعقل ما فيه ولا أن يفهم ما يحويه وذلك معنى قوله: "لعلكم تعقلون" بعد قوله: "عربيا".
ونقل السيوطي في الإتقان في علوم القرآن (2/485) قول النسفي: النصوص على ظاهرها، والعدول عنها إلى معان يدعيها أهل الباطن إلحاد.
وقول التفتازاني: سميت الملاحدة باطنية؛ لادعائهم أن النصوص ليست على ظاهرها، بل لها معان باطنية لا يعرفها إلا المعلم، وقصدهم بذلك نفي الشريعة بالكلية. ا. هـ
والتفسير الباطني: داخل تحت تحريف الكلام عن مواضعه، ووضع للأدلة في غير مواضعها، وهو تَقَوُّلٌ على الله تعالى ما لم يقل، وبهتان مبين، وانحراف عن جادة السبيل.
ومن ذلك تفسير قوله تعالى: "وكلم الله موسى تكليما" [النساء:164] . قال بعض المعتزلة المنكرين لكلام الله: كلمه بأظفار المحن، أي جرح قلبه بالحكم والمعارف تجريحا.
وقام بعضهم بتحريف إعراب لفظ الجلالة من الرفع على أنه فاعل، إلى النصب على أنه مفعول به هكذا: وكلم اللهَ موسى تكليما.(1/169)
فالتحريف الأول تحريف معنوي للفظ، والتحريف الثاني لفظي.
قال النحاس: أجمع النحويون على أن الفعل إذا أكد بالمصدر لم يكن مجازا، فإذا قال: تكليما. وجب أن يكون كلاما على الحقيقة التي تعقل.
ومما يردّ عليهم هذا التحريف قوله تعالى في موضع آخر: "ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه" [الأعراف:143] .
قال الزرقاني في مناهل العرفان في علوم القرآن (2/55) : ومذهب الباطنية على عمومه وباء انتقل إليهم بطريق العدوى من المجوس.
ومن تأويلاتهم الفاسدة في القرآن أنهم يقولون في تفسير قوله تعالى: "وورث سليمان داود" [النمل:16] . إن الإمام عليا ورث النبي في علمه.
ويقولون: معنى الجنابة: إنها مبادرة المستجيب بإفشاء السر قبل أن ينال رتبة الاستحقاق،
ومعنى الغسل: تجديد العهد على من فعل ذلك.
ومعنى الطهارة: التبري من اعتقاد كل مذهب سوى متابعة الإمام، ومعنى التيمم: الأخذ من المأذون إلى أن يشاهد الداعي الإمام، ومعنى الصيام: الإمساك عن كشف السر، ويقولون: إن الكعبة هي النبي صلى الله عليه وسلم، والباب: علي، والصفا: هو النبي، والمروة: علي، ونار إبراهيم: هي غضب النمرود عليه، وعصا موسى: هي حجته ... إلى غير ذلك من الخرافات التي لا يقبلها عقل ولا يؤيدها نقل.
وهذه التأويلات الفاسدة من أشد وأنكى ما يصاب به الإسلام والمسلمون؛ لأنها تؤدي إلى نقض بناء الشريعة حجرا حجرا، وإلى الخروج من ربقة الإسلام، وحل عراه عروة عروة، ولأنها تجعل القرآن والسنة فوضى فاحشة يقال فيهما ما شاء الهوى أن يقال، كأنهما لغو من الكلام أو كلأ مباحاً للبهائم والأنعام، وأخيرا ينفرط عقد المسلمين ويكون بأسهم بينهم من جراء هذا العبث بتلك الضوابط الدينية الكبرى والحوافظ الأدبية العظمى وما دام لكل واحد أن يفهم من القرآن ما شاء له الهوى والشهوة دون اعتصام بالشريعة ولا التزام لقواعد اللغة لم يعد القرآن قرآنا وإنما الهوى والشهوة فحسب ...(1/170)
وأما التفسير الإشاري، فهو تأويل القرآن بغير ظاهره، لإشارة خفية تظهر لأرباب السلوك والتصوف، ويمكن الجمع بينها وبين الظاهر المراد أيضا ... كقول بعضهم في قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار" [التوبة:123] : إن المراد النفس، يريدون أن علة الأمر بقتال من يلينا هي القرب وأقرب، شيء إلى الإنسان نفسه.
قال الزرقاني في مناهل العرفان في علوم القرآن (2/57) : ومن هنا يعلم الفرق بين تفسير الصوفية المسمى بالتفسير الإشاري وبين تفسير الباطنية الملاحدة، فالصوفية لا يمنعون إرادة الظاهر، بل يحضون عليه، ويقولون: لا بد منه أولا، إذ من ادعى فهم أسرار القرآن ولم يحكم الظاهر، كمن ادعى بلوغ سطح البيت قبل أن يجاوز الباب، وأما الباطنية فإنهم يقولون: إن الظاهر غير مراد أصلا، وإنما المراد الباطن، وقصدهم نفي الشريعة. ا. هـ
وقد اختلف العلماء في هذا التفسير الإشاري، فمن منعه قال خشية الوقوع في التقول على الله بغير علم ولا هدى.
ومن أجازه شرط في ذلك سبعة شروط:
الأول: ألا يكون التفسير الإشاري يتنافى وما يظهر من معنى النظم القرآني.
الثاني: ألا يدعى أنه هو المراد وحده دون الظاهر، أو باقي وجوه التفسير.
الثالث: ألا يكون له معارض شرعي أو عقلي.
الرابع: ألا يكون مبنيا على نصرة البدعة ونشر الهوى.
الخامس: ألا يكون له شاهد شرعي يؤيده. فلا يكون بهذا إشاريا.
السادس: ألا تؤخذ الأحكام عن طريق التفسير الإشاري لعدم الدليل الواضح عليها.. وما يستفاد منها فهو في مجال الأخلاق وسمو النفس وتقوية الإيمان وتثبيت اليقين.(1/171)
السابع: ألا يتحتم على أحد الأخذ بالتفسير الإشاري..وإنما هي معاني الأسرار القرآنية تنقدح في قلب المؤمن التقي الصالح العالم، فهو إما أن يبقيها بينه وبين ربه تبارك وتعالى، وإما أن يعلم بها من غير أن يلزم بها أحدا، وهذه الشروط عند توافرها تخالف واقع التفاسير الصوفية. انظر أسباب الخطأ في التفسير (2/742-743) .
وقال ابن تيمية في الفتاوى (13/241) : وجماع القول في ذلك أن هذا الباب نوعان:
أحدهما: أن يكون المعنى المذكور باطلا، لكونه مخالفا لما علم، فهذا في نفسه باطل، فلا يكون الدليل عليه إلا باطلا؛ لأن الباطل لا يكون عليه دليل يقتضي أنه حق.
والثاني: ما كان في نفسه حقا، لكن يستدلون عليه من القرآن والحديث بألفاظ لم يُرَدْ بها ذلك، فهذا الذي يسمونه إشارات..ثم قال: وأما النوع الثاني فهو الذي يشتبه كثيرا على بعض الناس فإن المعنى يكون صحيحا لدلالة الكتاب والسنة عليه، ولكن الشأن في كون اللفظ الذي يذكرونه دل عليه وهذان قسمان:
أحدهما: أن يقال: إن ذلك المعنى مراد باللفظ فهذا افتراء على الله، فمن قال: المراد بقوله: (تذبحوا بقرة) : هي النفس، وبقوله: (اذهب إلى فرعون) : هو القلب، (والذين معه) : أبو بكر، (أشداء على الكفار) : عمر، (رحماء بينهم) : عثمان، (تراهم ركعا سجدا) : علي. فقد كذب على الله إما متعمدا وإما مخطئا.
والقسم الثاني: أن يجعل ذلك من باب الاعتبار والقياس، لا من باب دلالة اللفظ، فهذا من نوع القياس، فالذي يسميه الفقهاء قياسا هو الذي يسميه الصوفية إشارة، وهذا ينقسم إلى صحيح وباطل كانقسام القياس إلى ذلك:(1/172)
فمن سمع قول الله تعالى: "لا يمسه إلا المطهرون" [الواقعة:79] ، وقال: إنه اللوح المحفوظ، أو المصحف، فقال: كما أن اللوح المحفوظ الذي كتب فيه حروف القرآن لا يمسه إلا بدن طاهر، فمعاني القرآن لا يذوقها إلا القلوب الطاهرة، وهي قلوب المتقين، كان هذا معنى صحيحا واعتبارا صحيحا؛ ولهذا يروى هذا عن طائفة من السلف.
قال تعالى: "ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين" [البقرة:1-2] . وقال: "هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين" [آل عمران:138] . وقال: "يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام" [المائدة:16] وأمثال ذلك.
وكذلك من قال:"لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا جنب " فاعتبر بذلك أن القلب لا تدخله حقائق الإيمان إذا كان فيه ما ينجسه من الكبر والحسد فقد أصاب، قال تعالى: "أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم" [المائدة:41] . وقال تعالى: "سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا" [الأعراف:146] وأمثال ذلك ا. هـ. والله أعلم.(1/173)
هل هذه الآية حرز من العين؟
المجيب د. محمد بن سريّع السريّع
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/التفسير الموضوعي
التاريخ 05/04/1427هـ
السؤال
هل يصح الاستدلال بقوله تعالى: "ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله" كدليل بأن قول "ما شاء الله لا قوة إلا بالله" يزيل العين، أم أن هذه الآية دليل على وجوب شكر النعمة فقط؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فالآية لا شك أنها دالة على وجوب شكر النعمة، إذ فيها اعتراف بأن ما عند العبد فهو من الله، وفيها تبرؤ من الحول والقوة إلا به تعالى.
كما أنه ينبغي لمن رأى شيئاً يعجبه أن يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، لقوله صلى الله عليه وسلم: "هلا إذا رأيت ما يعجبك برّكت". مسند أحمد (15413) ، وسنن ابن ماجه (3509) . فينبغي لمن رأى ما يعجبه -له أو لغيره- أن يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله.
وقد جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء في المملكة العربية السعودية: "وأما العلاج للعائن فإذا رأى ما يعجبه فليذكر الله وليبرك كما جاء في الحديث: "هلا إذا رأيت ما يعجبك برّكت" فيقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله. ويدعو للشخص بالبركة". ا. هـ.(1/174)
وقال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: "ولهذا قال بعض السلف: من أعجبه شيء من حاله أو ماله أو ولده فليقل: ما شاء الله لا قوة إلا بالله. وهذا مأخوذ من هذه الآية الكريمة، وقد روي فيه حديث مرفوع أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي في "مسنده". حدثنا جراح بن مخلد: حدثنا عمر بن يونس: حدثنا عيسى بن عون: حدثنا عبد الملك بن زرارة، عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنعم الله على عبد نعمة من أهل أو مال أو ولد فيقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، فيرى فيه آفة دون الموت". وكان يتأول هذه الآية: "وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ" [الكهف:39] . قال الحافظ أبو الفتح الأزدي: عيسى بن عون عن عبد الملك بن زرارة عن أنس لا يصح حديثه. ا. هـ كلام ابن كثير. والله أعلم.(1/175)
المجاز في القرآن
المجيب د. ناصر بن محمد الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 24/7/1422
السؤال
ما حكم تأول المجاز عند تفسير القرآن فنقول مثلا عند تفسير قوله تعالى: ((إن الأبرار لفي نعيم)) إن استعمال النعيم في الآية مجاز؛ لأن النعيم لايحلَّ فيه الإنسان لأنه معنى من المعاني، وإنما أطلق فيه الحال وأريد المحل، وهل يعتبر المجاز في القرآن من باب القول على الله بغير علم؟
الجواب
مسألة تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز من المسائل التي نقل الخلاف فيها قديماً، وجماهير أهل العلم من المفسرين، والأصوليين، وأهل اللغة على إثباته، ولايفرقون بين مورده في اللغة، ومورده في القرآن الكريم، وفيهم أئمة لهم قدم صدق في تقرير عقيدة السلف والذود عنها.
والذين ذهبوا إلى نفي المجاز -خصوصاً من أهل السنة- حملهم على ذلك مارأوه من تسلط المبتدعة بدعوى المجاز على نصوص الوحيين، فعطلوها عن دلالاتها في مسائل الغيبيات، وصفات الخالق -عز وجل- خصوصاً.
وفي الحق، فإن القول بالمجاز لاخطر وراءه، ذلك أن الأصل في الكلام أن يحمل على حقيقته إلا بقرينة بإجماع أهل العلم، ولا قرينة تصحّح قول المعطل، وإنما أُتوا من توهّم كيفيات معينة لتلك النصوص، ثم سلّطوا التأويل عليها لدفع توهمهم الفاسد. على أن تلك الأخبار المتعلقة بالله -تعالى- لاتقبل دعوى المجاز من جهة اللغة وتراكيب الكلم، وهذا مبسوط تقريره في كلام أهل السنة -والحمد لله-.
والمقصود أنه لاضير من القول بالمجاز، ولايعدّ من القول على الله بغير علم، إذ القرآن الكريم نزل بلغة العرب، فجرى على طرائقهم في التعبير، وأساليبهم في تركيب الكلم، وإنما يكون قولاً على الله بغير علم إذا تعلق بأمور غيبية لاتدرك، ولم تشاهد تُعطل عن ظواهرها، ويُلحد فيها.
بقي أن يقال: إن الأسلوب المجازي ضرورة لبقاء أي لغة وحياتها، إذ الألفاظ وإن كثرت فهي محدودة لا تستوعب كل ما يطرأ من المعاني في حياة الناس، ومن تأمل هذا الأمر زال عنه - بإذن الله - كل تردد في هذه المسألة، والله ولي التوفيق.(1/176)
هل البسملة آية من الفاتحة
المجيب أ. د. صالح بن عبد الله اللاحم
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 10/8/1422
السؤال
هل البسملة آية من آيات سورة الفاتحة، وهل تجب قراءتها في كل ركعة من الصلاة؟
الجواب
ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية هذه المسألة في الفتاوى (22/276 - 279، 406 - 408) .
وخلاصة ما ذكره - رحمه الله - أن العلماء اختلفوا في ذلك على أقوال:
الأول: أنها ليست آية من القرآن إلا في سورة النمل، وأن ذكرها في أول السور على سبيل التبرك.
الثاني: قال طائفة منهم الشافعي: إنها آية من كل سورة، ولهم على ذلك أدلة منها أن الصحابة لم يكتبوها في المصحف مع تجريدهم للمصحف عما ليس من القرآن إلا وهي من السورة.
الثالث: قال أكثر فقهاء الحديث كأحمد ومحققي أصحاب أبي حنيفة: إنها من القرآن للعلم بأنهم لم يكتبوا فيه ما ليس بقرآن، لكن لا يقتضي ذلك أنها من السورة، فقد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:" نزلت عليّ آنفاً سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر ... ".
وثبت في الصحيح أن أول ما جاء الملك بالوحي قال:" اقرأ باسم ربك الذي خلق ... الآيات " فهذا أول ما نزل، ولم ينزل قبل ذلك بسم الله الرحمن الرحيم، وثبت في السنن أنه - صلى الله عليه وسلم - قال:" سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي تبارك الذي بيده الملك "وهي ثلاثون آية بدون البسملة.
فمجموع هذه الأدلة يدل لهذا القول وهو أن البسملة آية في أول كل سورة وليست من السورة، وهو أوسط الأقوال وأعدلها.
وأما تلاوتها في الصلاة فإن طائفة لا تقرأها سراً ولا جهراً كمالك والأوزاعي، وطائفة تقرأها جهراً كأصحاب ابن جريج والشافعي، والطائفة الثالثة المتوسطة: جماهير فقهاء الحديث يقرؤونها سراً.
ولكن ينبغي مراعاة تأليف القلوب بفعل الأمر الذي لا تنكره قلوب الناس ولا تنفر منه؛ لأن مصلحة تأليف القلوب في الدين أعظم من مصلحة فعل بعض المستحبات. انتهى ملخصاً، وارجع إلى كلامه في موضعه فإنك واجد ثمة مزيد فائدة.(1/177)
بأي التفاسير تنصحون؟
المجيب د. عبد الوهاب بن ناصر الطريري
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 1/6/1422
السؤال
بأي التفاسير تنصحون من ابتغى علم التفسير؟
الجواب
أجابت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز- رحمه الله- على سؤال مشابه لسؤالك بالفتوى رقم 2677 فكانت الإجابة كالتالي:
أجود كتب التفسير يختلف باختلاف طاقة القارئ ووسعه، وعلى كل حال فإن أجودَها في نفسها كتاب تفسير ابن جرير الطبري، وكتاب تفسير ابن كثير ونحوهما من كتب التفسير بالأثر، فإنها أسهل تعبيراً وأعدل في فهم المراد، وألمس لمعاني القرآن، وأقرب إلى إصابة الحق وبيان مقاصد الشريعة، مع ذكر ما يشهد لذلك من الأحاديث والآثار الثابتة، ورد المتشابه من الآيات إلى المحكم منها. ا. هـ
ومما يُذكّر به أيضاً أن كتب التفسير تختلف بحسب حاجة القارىء إليها؛ فمن كان يبحث عن المسائل الفقهية، أو استنباطات ودلالات الأحكام فإن تفسير القرطبي وكتب تفسير آيات الأحكام تفيده.
ومن كان يبحث عن الأمور اللغوية فإن التفاسير التي يغلب عليها هذا الجانب؛ تفسير أبي حيّان ونحوه تفيده.
وهكذا بحسب الفنون التي يقصدها القارئ. ومعاني كتاب الله - عز وجل- من السعة والشمول بحيث لا يحيط بها كتاب من كتب التفسير مهما عظُم قدْر مؤلِّفه.
وإن من جوانب الإعجاز التي ينبغي ألا يغفل عنها أن كل مفسر يرى أنه سيضيف جديداً في تفسيره، ويرى أن كتب التفسير التي سبقته لم توفّ ما وفّاه ويظل هذا الكتاب المعجز متجدداً بفيوض معانيه على تعاقب الأجيال، لا يخلق من كثرة الردّ.
بقي أن نذكّر أن من كتب التفسير المتأخرة الميسرة المفيدة، تفسير الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي - رحمه الله -. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(1/178)
رفع الصوت بقراءة القرآن
المجيب محمد بن عبد العزيز العامر
القاضي بمحكمة جدة
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 7/4/1422
السؤال
ما حكم رفع الصوت بقراءة القرآن؟
الجواب
إن كان الإنسان خالياً فلا بأس (إن شاء الله تعالى) ، وإن كان هذا في المسجد، والناس يصلون فلا ينبغي مثل هذا لما فيه من التشويش على غيره، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه أحمد وأبو داوود من حديث أبي سعيد الخدري، قال: "اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة وهو في قبة له، فكشف الستر، وقال: ألا كلكم مناج ربه، فلا يؤذين بعضكم بعضاً، ولا يرفعن بعضكم على بعض في القراءة، أو قال في الصلاة".
وروى مالك في الموطأ عن البياضي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على الناس، وهم يصلون، وقد علت أصواتهم بالقراءة، فقال: "إن المصلي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه به، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن".(1/179)
إهداء قراءة القرآن للميت
المجيب أ. د. سليمان بن فهد العيسى
أستاذ الدراسات العليا بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 03/09/1425هـ
السؤال
ما حكم قراءة القرآن الكريم وإهداء ثوابه للميت؟ هل يجوز استدعاء حفظة القرآن الكريم لنفس الغرض، مقابل إعطائهم مبلغاً غير مشروط من المال؟، جزاكم الله خيراً.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فالجواب عن السؤال الأول إن قراءة القرآن وإهداءها للميت محل خلاف بين أهل العلم، فمن العلماء من رأى أنه مشروع قال ابن أبي العز الدمشقي في شرح الطحاوية (2/673) ما نصه: (وأما قراءة القرآن وإهداؤها له أي للميت تطوعاً بغير أجرة فهذا يصل إليه كما يصل إليه ثواب الصوم والحج) ، وجاء في الروض المربع للبهوتي الحنبلي (ص192) في آخر كتاب الجنائز ما نصه: (وأي قربة من دعاء واستغفار وصلاة، وصوم، وحج، وقراءة قرآن، وغير ذلك فعلها مسلم وجعل ثوابها لميت مسلم أو حي نفعه ذلك، قال أحمد: (الميت يصل إليه كل شيء من الخير للنصوص الواردة فيه) ، وذهب كثير من أهل العلم إلى أن إهداء قراءة القرآن للميت غير مشروعٍ؛ لأنه لم يكن معروفاً في السلف ولا أرشدهم إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أرشدهم إلى الصوم، والحج، والصدقة عن الميت دون قراءة القرآن، وفي نظري أن هذا القول أرجح وأن على المهدي لميته أن يدعو له للحديث الصحيح:"إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" رواه مسلم (1631) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، والله أعلم.
وأما الجواب عن السؤال الثاني فنقول: إن استئجار قوم يقرؤون القرآن وإهداءه للميت ولو لم يتفق على الأجرة من البدع المستحدثة، قال ابن أبي العز الدمشقي في شرح الطحاوية (2/672) ما نصه: (وأما استئجار قوم يقرؤون القرآن ويهدونه للميت فهذا لم يفعله أحد من السلف، ولا أمر به أحد من أئمة الدين ولا رخص فيه) ، انتهى والله أعلم.(1/180)
أحاديث فضل سورة الحشر
المجيب د. الشريف حاتم بن عارف العوني
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 23/5/1424هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، سؤالي بالنسبة للثلاث آيات التي في آخر سورة الحشر.
سمعت أن من حافظ عليها في الصباح والمساء مات شهيداً، وقد جاء هذا الكلام عن الشيخ أبي بكر الجزائري في الراديو، وقد وجد هذا في كتاب ابن كثير، علماً أن الألباني قد ضعف الأحاديث التي وردت في ذلك، نرجو التوضيح منكم، وهل المحافظة عليها إذا كانت الأحاديث ضعيفة فيها إثم؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد: أقول وبالله التوفيق:
إنه قد ورد غير ما حديث في فضل سورة الحشر على الخصوص، أو في فضل خواتمها، ولم يصح من هذه الأحاديث شيء، بل كلها ضعيفة أو واهية. وهناك أقوال لأهل العلم في العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، والقول الوسط الصحيح أنه لا يعمل بالحديث الضعيف إلا بشرطين:
الأول: أن لا يكون شديد الضعف.
الثاني: أن لا يكون الحديث الضعيف مؤسساً لحكم تكليفي (كالاستحباب أو الكراهة) غير وارد في النصوص الثابتة من الكتاب وثابت السنة.
وبهذين الشرطين يتبين أن العمل بالحديث الضعيف بتحققهما ليس عملاً بالحديث الضعيف اعتماداً عليه، بل لا يتجاوز العمل به أن يكون بمعنى الاعتبار به والاستئناس، واستحضاراً للثواب الوارد فيه أو للعقاب المتوعَّد به.
وبناءًَ على ذلك: فإن المحافظة على قراءة خواتيم سورة الحشر ستكون من باب اعتقاد سنيتها، ولم يأت دليل على هذه السنية؛ لأن الأحاديث في ذلك كلها ضعيفة كما سبق. ولهذا فلا يجوز أن يحافظ على قراءتها، ولا العمل بها باستحضار هذا الثواب المخصوص لهذه الآيات الخاصة. هذا والله أعلم.(1/181)
أفضل طريقة لحفظ القرآن الكريم
المجيب عبد الحكيم بن عبد الله القاسم
عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 13/3/1424هـ
السؤال
ما هي أحسن طريقة لحفظ القرآن؟
الجواب
طريقة حفظ القرآن:
(1) الإخلاص لله، والحذر من المراءاة، فأول من تسعر بهم النار من قرأ القرآن ليقال: قارئ!، وإنما يكون قصدك الأجر من الله، وأن يقال له في الآخرة: "اقرأ وارْتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها " رواه الترمذي (2914) ، وأبو داود (1464) من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما- ويحصل على الخيرية الواردة في قوله - صلى الله عليه وسلم-: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" رواه البخاري (5027) من حديث عثمان - رضي الله عنه- وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "إن لله أهلين من الناس قالوا يا رسول الله: من هم؟ قال: هم أهل القرآن أهل الله وخاصته". رواه ابن ماجة (215) بسند صحيح
(2) تصحيح القراءة ما أمكن حسب الاستطاعة، مع استعمال وسائل الاتصال والأجهزة الحديثة، ولا يغني ذلك عن متقن للقراءة من جنسك.
(3) تقييد المحفوظات الحالية في سجل، ومتابعة المراجعة لها خلال أسبوع أو عشرة أيام أو أسبوعين على الأكثر؛ ليبقى هذا الحفظ راسخاً.
(4) ابتداء الحفظ الجديد بعد المراجعة اليومية السابقة رقم (3) فإن لم تتمكني من المراجعة فلا تحفظي! وهذا لمصلحتك طبعاً ولتسرعي في حفظ القرآن!.
(5) تكرار الحفظ الجديد في نفس اليوم ما استطعت حتى يستقر.
(6) تكرار الحفظ الجديد أربعة أيام متوالية، ثم إدخاله مع المراجعة العامة رقم (3) .
(7) احفظي على قدر لا يحصل منه الضجر أو الملل، حتى ولو كان قليلاً والعبرة بالمواصلة، ومن سار على الدرب وصل، والمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.
(8) التزمي بمصحف رسمه واحد ولا تغيريه، وكلما كان الخط كبيراً كان الحفظ أظهر.
(9) اربطي الحفظ الجديد بالقديم، فاربطي الآية الأخيرة في القديم بالحفظ الجديد.
(10) استعيني بتفسير مختصر جداً، كالتفسير الميسر لمجمع الملك فهد، وزبدة تفسير فتح القدير للأشقر؛ ليكون الحفظ سريعاً مع الفهم.
(11) تدربي على قراءة المحفوظ في صلواتك وخلواتك، خاصة إذا ضاق عليك الوقت.
(12) ليكن يوم في الأسبوع موعداً لتصفية حسابات المراجعة، فما كان ديناً عليك في المراجعة فأوفيه في هذا اليوم.
(13) اختاري الأوقات المناسبة لك، وكلما كان الذهن أجمع كان الحفظ أجمع.
(14) أكثري من الاعتصام بالله، والدعاء أن يسهل عليك ويوفقك.
(15) اجتنبي المعاصي، وخاصة النظر والسماع.
(16) وهناك طرق أخرى يطول ذكرها، وتصلي إليها بالممارسة والسؤال لأمثالك.
وفقك الله وسدد خطاك، وجعلنا وإياك من أهل القرآن.(1/182)
حمل الكافر للمصحف
المجيب د. خالد بن علي المشيقح
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 9/1/1424هـ
السؤال
فضيلة الشيخ.. ما حكم حمل الخادمة غير المسلمة للمصحف الشريف لترتيب وتنظيف المكان؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
مس المصحف لا يجوز إلا بطهارة؛ لحديث عمرو بن حزم - رضي الله تعالى عنه-:"أن النبي - صلى الله عليه وسلم- كتب إليه: "وألا يمس القرآن إلا طاهر" الموطأ (1/191) الحديث رقم (478) ، والدارمي (3/1455) ، الحديث رقم
(2312) وهذا الحديث ثابت إن شاء الله، وعلى هذا فلا يجوز للخادمة الكافرة أن تمسه، وقال العلماء - رحمهم الله-: حتى جلده وحواشيه، فلا يجوز أن تمسه إلا من وراء حائل.(1/183)
قراءة القرآن من غير تجويد
المجيب د. مساعد بن سليمان الطيار
عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 16/1/1424هـ
السؤال
أنا لا أستطيع أن أقرأ القرآن بأحكام التجويد بشكل جيد، هل أستطيع أن أقرأ القرآن بدون أحكام التجويد؟ فإذا قرأت بصوت منخفض أخشى أن أقرأ القرآن بشكل خاطئ ماذا أفعل؟
الجواب
إذا كنت تستطيعين أن تتعلمي قراءة القرآن وإقامة عربيته فإن الأولى أن تتعلميه على هذا النحو.
وإذا كنت لا تستطيعين فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ويكون لك أجران كما أخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- في قوله:"الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأه وهو عليه شاق فله أجران أجر تلاوته وأجر مشقته" انظر: البخاري (4937) ومسلم (798) .(1/184)
إستماع القرآن عند النوم
المجيب عبد الله بن سليمان بن منيع
عضو هيئة كبار العلماء
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 29/11/1423هـ
السؤال
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
فضيلة الشيخ: يسأل البعض عن الحكم الشرعي في عمله التالي: وهو أنه عادة ما يشغل المسجل ويضع شريطاًَ للقرآن الكريم ويستمع له قبل النوم ثم يغفو وينام ... فما حكم الشرع في هذا الفعل؟ وجزاكم الله خير الجزاء.
الجواب
سئل الشيخ عبد الله المنيع عن سؤال مشابه لسؤال نذكر لك فيما يلي نص السؤال والإجابة:
أحب أن أنام على صوت القرآن في المذياع، وأستغرق في النوم، وعندما أستيقظ أجده ما زال يتلو وأنا غير منتبه، فما حكم الشرع في ذلك؟
الجواب: الحمد لله، لا يظهر لي بأس في ذلك، وكونك أخذك النوم وأنت تستمع القرآن لا تثريب عليك، فالأمر باستماع القرآن حين يتلى موجه إلى السامع العاقل، قال - تعالى -: " وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" [الأعراف:204] ، والله أعلم.
[مجموع فتاوى وبحوث الشيخ عبد الله المنيع - الجزء الأول، ص: 266](1/185)
المساجلة بآيات القرآن
المجيب د. ناصر بن محمد الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 29/11/1423هـ
السؤال
طرح عضو بأحد المنتديات فكرة على الأعضاء، وهي المساجلة بالآيات القرآنية كما هي المساجلة بالأبيات الشعرية!!، فيبدأ الأول على سبيل المثال بقوله - تعالى - (قل أعوذ برب الناس) فيرد الآخر بقوله - تعالى - (سأصليه سقر) وأثناء المساجلة لا يقول قال - تعالى - بل يأتي بنص الآية، وسؤالي ما حكم هذا العمل سواء عبر المنتديات، أو عبر المجالس؟ وهل هناك فرق بين كون النية تذاكر الآيات، أو مجرد التسلية؟ أفتونا مأجورين، فقد توقفت عن المشاركة، وقلت لهم الأمر خطير جداً، ولابد من الرجوع إلى أهل العلم، أرجو إفادتي، رعاكم الله وحفظكم من بين يديكم ومن خلفكم ومن أمامكم، وعن إيمانكم، وعن شمائلكم ومن فقوكم ومن تحت أرجلكم.
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذا الفعل الذي وصفه السائل الكريم مما لا يليق بمقام القرآن الكريم أذ هو كلام الله - تعالى - وحقه أن يعظم ويجل، وقد أخبر - تعالى - عن أثره على القلوب والأبدان فقال تعالى: " اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ" [الزمر:23] وقال تعالى: "لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ" [الحشر: من الآية21] ، فإذا كان هذا حال الجبال الصم، فالمؤمن أولى أن يتأثر به ويعظمه حق تعظيمه، ومن تدبر كلام الأئمة - رحمهم الله - عند الكلام عما يجب للقرآن من تعظيم وإجلال، أدرك مبلغ تشددهم فيما يجب للقرآن العظيم والصورة التي ذكرها السائل الكريم يظهر لي أنها تعارض إجلال القرآن الواجب، ومجرد حسن النية في العمل - وإن عذر به المرء عند الخطأ ونحوه - فإنها لا تجعله مقبولاً جائزاً، بل لابد مع النية الحسنة أن يكون الفعل مأذوناً به شرعاً، ثم إن مدارسة القرآن ومراجعته على الحقيقة لا تكون بهذه الطريقة، وإنما بالمذاكرة والمراجعة مرة بعد أخرى، والله أعلم.(1/186)
الحكمة في جعل السماوات والأراضين سبعًا
المجيب د. محمد بن إبراهيم دودح
باحث علمي في هيئة الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 10/01/1426هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله. وبعد:
ما حكمة الله -تعالى- أو الإعجاز العلمي في العدد سبعة سماوات. سبعة أراضين. إلخ.. وجزاكم الله عنا خير الجزاء؟.
الجواب
حكمة بالغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
إجابةً على السؤال: ما حكمة الله تعالى أو الإعجاز العلمي في العدد سبعة مثل سبع سماوات؟ أقول مستعينًا بالله العلي القدير العزيز الحكيم, سائله تعالى التوفيق والرشاد:
إن ثمرة الوجود هي الإنسان المُهَيَّأ للتطلع حوله ليُعاين في كل شيء دلالة تدله على مضمون مستور, وإذا نزع الإنسان حُجُب الإلف والغفلة فسيرى كل شيء مُظهرًا لوحدانية الله وتجسيدًا لصفات الكمال والجلال والتنزيه فيقشعر بدنه ويحنو وجدانه ويستقر جنانه ويخبت في ابتهال ساجدًا لله في يقين, فالجمادات لن تبدو بعين البصيرة كذلك وإنما حشود تُسَبِّح كُلٌّ يميزه إيقاع, وتلك الرؤية الوجدانية ليست وهمية؛ لأن كل شيء تتحرك لبناته بجِدٍّ وعَجَلٍ وفق تقدير يدفع الصدفة ويَئِن حقيقةً مترنمًا بجلال الله كأنما خُلِقَ من عَجَل, هكذا يرى البصير في كل شيء آية تشهد لله بالوحدانية والاقتدار والعظمة, والعجيب أن وحدة الإنشاد تلك هي آخر صيحة في الفيزياء تصف الكون كوتر واحد يُصدر كافة النغمات في إيقاعات منتظمة بلا نشاز.
وإن شئت فأنصت لإنشاد تردده جنبات الكون ومناجاة تشدو لتستحث الغافلين في روائع يفيض بها القرآن تأخذ بالوجدان وتهز الكيان؛ يقول تعالى: (سَبّحَ للهِ مَا فِي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الحديد:1] .(1/187)
ويقول تعالى: (يُسَبّحُ لِلّهِ مَا فِي السّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ الْمَلِكِ الْقُدّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [الجمعة:1] .
ويقول تعالى: (يُسَبّحُ لِلّهِ مَا فِي السّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التغابن:1] .
ولا يسعك عند تبصر حقيقة كل شيء إلا أن تشارك الحشود في التسبيح على بصيرة في هيبةٍ وإجلال.
والمدهش أن يُنزِل القرآن كل شيء في الوجود منزلة العقلاء المسبحين مما حيَّر أعلام المفسرين, قال الطبري: (يعني تعالى ذكره.. أن كلّ ما دونه من خلقه يسبحه تعظيمًا له، وإقرارًا بربوبيته، وإذعانًا لطاعته، كما قال جلّ ثناؤه: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ والأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإنْ مِنْ شَيْءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقُهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) [الإسراء:44] (تفسير الطبري ج27/ص215) .
وقال ابن الجوزي: (فأما تسبيح الحيوان الناطق فمعلوم, وتسبيح الحيوان غير الناطق فجائز أن يكون بصوته وجائز أن يكون بدلالته على صانعه, وفي تسبيح الجمادات ثلاثة أقوال؛ أحدها أنه تسبيح لا يعلمه إلا الله, والثاني أنه خضوعه وخشوعه لله, والثالث أنه دلالته على صانعه فيوجب ذلك تسبيح مُبصره, فإن قلنا إنه تسبيح حقيقةً كان قوله: (وَلَكِنْ لا تَفْقُهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) . لجميع الخلق, وإن قلنا إنه دلالته على صانعه كان الخطاب للكفار لأنهم لا يستدلون) (تفسير زاد المسير - ابن الجوزي ج5/ص40) .
وكما ينطق الوجود بجلال الله كذلك يفيض القرآن بدلائل قدرته ووحدانيته, يقول تعالى:
(لَوْ أَنزَلْنَا هََذَا الْقُرْآنَ عَلَىَ جَبَلٍ لّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مّتَصَدّعًا مّنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ) [الحشر:21] .(1/188)
وهنا أنزل الجماد كذلك منزلة العقلاء الخاشعين هيبةً أمام عظمة الله وجعله مثلًا ليتفطن مغزاه المتأملون, وبهذا بلغ التمثيل في القرآن غاية الإحكام والبيان لينبه الغافلين ويستحث النابهين, قال ابن كثير: (فإذا كان الجبل في غلظته وقساوته لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه لخشع وتصدع من خوف الله - عز وجل - فكيف يليق بكم يا أيها البشر أن لا تلين قلوبكم وتخشع وتتصدع من خشية الله وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه) (تفسير ابن كثير ج4/ص344) .
قال النسفي: (جائز أن يكون هذا تمثيلاً كما في قوله تعالى: (إِنّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ... ) [الأحزاب: 72] .
ويدل عليه قوله: (وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ) .
وهي إشارة إلى هذا المثل وإلى أمثاله في مواضع من التنزيل) (تفسير النسفي ج4/ص234) .
وقال البيضاوي: (تمثيل وتخييل.. ولذلك عقبه بقوله: (وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ) . (تفسير البيضاوي ج5/ص323) .
وقال السمرقندي: (هذا على وجه المثل، يعني: لو كان الجبل له تمييز لتصدع من خشية الله) (تفسير السمرقندي ج3/ص409) .
وقال الثعالبي: (ضرب الله سبحانه هذا المثل ليتفكر فيه العاقل) (تفسير الثعالبي ج4/ص288) .
وعن القرطبي: (أي إنه لو أنزل هذا القرآن على جبل لخشع لوعده وتصدع لوعيده، وأنتم أيها المقهورون بإعجازه لا ترغبون في وعده ولا ترهبون من وعيده) (تفسير القرطبي ج18/ص44) .
قال القفال: (فإذا تقرر أنه تعالى يضرب الأمثال وورد علينا من الخبر ما لا يخرج إلا على ضرب المثل وجب حمله عليه) (تفسير القرطبي ج14/ص256) .(1/189)
وهكذا حاكت ألفاظ القرآن دلالات تفوق بكثير أقصى ما يمكن أن يبلغه فرسان البلاغة وأساطين البيان, فاستولى على وجدانهم وأخذ بألبابهم منذ زمن التنزيل, وأذعن له غلاظ المكابرين وصاروا أتباعًا مناصرين قبل أن يكشف أحد أدلة ما فيه من تشريع يسمو بالإنسان إلى سواء الفطرة أو علم بالتكوين يشهد بالتنزيل؛ عن الزركشي: (قال الخطابي: وقلت في إعجاز القرآن وجهًا آخر ذهب عنه الناس فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ في آحادهم، وهو صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس, فإنك لا تسمع كلامًا غير القرآن منظومًا ولا منثورًا إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال, ومن الروعة والمهابة في حال أخرى.., قال الله تعالى: (لَوْ أَنزَلْنَا هََذَا الْقُرْآنَ عَلَىَ جَبَلٍ لّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مّتَصَدّعًا مّنْ خَشْيَةِ اللهِ) . وقال تعالى: (اللهُ نَزّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مّتَشَابِهًا مّثَانِيَ تَقْشَعِرّ مِنْهُ جُلُودُ الّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبّهُمْ) الآية.
قلت: ولهذا أسلم جبير بن مطعم لما سمع قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- للطور حتى انتهى إلى قوله: (إِنّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِع) . قال: "فكأنما صدع قلبي" أخرجه أحمد (16762) . وفى لفظ: كاد قلبي يطير أخرجه البخاري (4854) ، فأسلم.
وفى أثر آخر أن عمر لما سمع سورة طه أسلم أخرجه الدارقطني 1/123، والحاكم4/65 والبيهقي 1/88 وغير ذلك) (البرهان في علوم القرآن - الزركشي ج2/ص106) .(1/190)
وبالمِثْلِ تتساوق الأرقام في القرآن مع الواقع كما الألفاظ وترسم ظلالاً وصورًا فتتجاوز مألوف دلالاتها, فالكون بناء ممتد إلى حيث يكل النظر، لبناته شديدة الترابط لا تتجاوز سبعة آفاق تمامًا كنُطُق بنية الذرة, والشمس والقمر من معالم فضاء الكواكب التي يسبح معها بيتنا المعمور المأهول وحده بينها بذوي الإدراك, وكان حد معرفة الشعوب قبل عصر المناظير هو خمسة كواكب معهما تحت سقف تناثرت عليه النجوم تطوف حول الأرض الساكنة كما يعدها بمجرد النظر القاطنون، فظنوا مداراتها هي "السماوات السبع", لكن الكواكب ليست إلا معالم في الفضاء الأدنى تُطبق عليها بروج النجوم في مستويات متزايدة العلو؛ التجمع المحلي للنجوم فالأعظم ثم المجرة فالتجمع المحلي للمجرات فالأعظم ثم ما يدعى بالكوازارات, وطبيعة التكوين الطبقي للكون تنعكس في الذرة كأصغر لبنة فلا تزيد مستويات مداراتها كذلك عن سبع, والكل في حركة دائبة لا يمل من التسبيح, وبذا اكتسب العدد سبعة معنى إضافيًّا يتجاوز دلالة الإحصاء, فأفاد بلوغ الغاية حتى أفاد في مواضع معنى الاكتمال أو التكثير واقترن بوحدة طابع التكوين والانتظام.
لا تزيد مستويات الطاقة حول نواة الذرة عن سبعة مستويات في غاية الانتظام
وفي قوله تعالى: (هُوَ الّذِي خَلَقَ لَكُمْ مّا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمّ اسْتَوَىَ إِلَى السّمَآءِ فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة:29] .(1/191)
قال أبو حيان: (إنما خلق السماوات سبعًا لأن السبعة والسبعين فيه دلالة على تضاعيف القوة والشدة كأنه ضوعف سبع مرات.. لما في ذكرها من دليل المضاعفة؛ قال تعالى: (خُذُوهُ فَغُلّوهُ* ثُمّ الْجَحِيمَ صَلّوهُ* ثُمّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ* إِنّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ) [الحاقة:30- 33] . وقال تعالى: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة:80] .
والسبعة تذكر في جلائل الأمور؛ الأيام سبعة, والسماوات سبع, و (نُطُق) الأرض سبع, و (السَّيَّارات) .. سبعة: زحل والمشتري وعطارد والمريخ والزهرة والشمس والقمر. والبحار سبعة, وأبواب جهنم سبعة) (تفسير البحر المحيط لأبي حيان ج1 ص282) .
وورد عن الأعلام أن السماء التي وردت في النظم بعد تشكيل الأرض ليست كل ما يعلوها من الكون وإنما دخان خرج منها عند بدء تكوينها فشكل طبقات الجو, وهو ما يوافق الرؤية العلمية الحديثة أنها كانت في غاية الالتهاب وما زال باطنها كذلك يمور في دوامات هائلة تحمينا منها طبقة رقيقة مثل قشرة البيضة, نقل الماوردي عنهم أنها: (الدخان الذي جعله الله للأرض سماء) (تفسير النكت والعيون للماوردي ج1ص92) .
وكأنهم فسروا قوله تعالى: (ثُمّ اسْتَوَىَ إِلَى السّمَآءِ فَسَوّاهُنّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ) . بعد خلق الأرض بقوله: (ثُمّ اسْتَوَىَ إِلَى السّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ* فَقَضَاهُنّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ..) [فصلت:11،12] .(1/192)
وأجاز ابن عاشور رأيًا يحفظ للأداة "ثم" أصل دلالتها على ترتيب الأحداث ويدفع الخلاف حول أسبقية التكوين؛ الأرض أم السماء؟ بالتمييز بين السماء التي تسبق الأرض في النَّظم والتكوين والسماء التي تلحق بها, قال ابن عاشور (رحمهم الله جميعًا) : (والسماء إن أريد بها الجو المحيط بالكرة الأرضية فهو تابع لها متأخر عن خلقها, وإن أريد بها (محل الأجرام السماوية فهي) .. أعظم من الأرض فتكون أسبق خلقًا, وقد يكون كل من الاحتمالين ملاحظًا في مواضع من القرآن غير الملاحظ فيها الاحتمال الآخر) (تفسير التحرير والتنوير ج1ص384) . وهذا يؤكد تباين دلالة لفظ "السماء" حسب السياق منها ما نراه وما هو غيب من ذلك البناء المحيط بنا.
وفي قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ..) [المؤمنون:17] . ورد عن الأعلام تفسيرها بمسارات الأجرام السماوية التي تعلونا تارةً وبالسماوات السبع تارةً أخرى, كما في قوله تعالى: (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا* وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهّاجًا) [النبأ:12،13] .
وقوله تعالى: (أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا* وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنّ نُورًا وَجَعَلَ الشّمْسَ سِرَاجًا) [نوح:15، 16] . قال ابن عاشور: (قد عدَّ الله تعالى- السماوات (العُلَى كذلك) سبعًا، وهو أعلم بها وبالمراد منها, إلا أن الظاهر الذي دلت عليه القواعد العلمية أن المراد من السماوات (محل) الأجرام العلوية العظيمة.. ويدل على ذلك أمور:
أحدها أن السماوات ذكرت في غالب مواضع القرآن مع ذكر الأرض.. فدل على أنها عوالم كالعالم الأرضي.. ثانيها أنها ذكرت مع الأرض من حيث أنها أدلة على بديع صنع الله تعالى فناسب أن يكون تفسيرها تلك الأجرام المشاهدة) (تفسير التحرير والتنوير ج1ص385) .(1/193)
والقرآن يدعو في مواضع عديدة إلى النظر في السماوات كما النظر في الأرض ومشاهدة دلائل الوحدانية والاقتدار, وقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَنّ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا..) [الأنبياء:30] . فيه دلالة على وحدة الأصل في النشأة والتكوين بينة على وحدانية الله وقدرته، كما قال غير واحد من المحققين, والمعلوم اليوم أن كل الأجرام تتكون من نفس المواد، وأما وحدة النشأة فهي محصلة جهود المختصين, وفي الحقيقة يذهل اليوم كل عارف بخفايا التكوين أمام تلك الأوصاف المبهرة في القرآن والمؤيدة لرسالته.
إن الرقم "واحد" في كل اللغات يعني وحدة الكينونة كاللفظ "أحد" بلا تجزئة أو اشتراك بعكس الرقم "اثنين", وأما "الثلاثة" أو كل ما تجاوز المفرد والمثنى فهو بداهةً في قواعد لغات التخاطب "جمع", ولذا تثليث الرقم "واحد" تناقض صارخ يجعل المفرد والجمع سواء فيناطح المسلمات الراسخة كالجبال الشوامخ, وأما الرقم "سبعة" فبينة على العلم بخفايا التكوين تشهد بالوحي للقرآن الكريم, وهو بصمة في كيان كل شيء تعلن عن الوحدة والانتظام في طبيعة التكوين من أصغر لبنة لأكبر تكوين، فتشهد لكل يقظ فطين بوحدانية الله وقدرته, وهكذا تسطع حكمة بالغة في حديث القرآن كما في الكون المنظور لم تتخلف عن بيانها الأرقام مشاركةً الحشود في التسبيح, يقول العلي القدير: (أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىَ أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف: 185] .(1/194)
ذكر الله نفسه بصيغة الجمع
المجيب عبد الرحمن بن ناصر البراك
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 28/10/1423هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لماذا يتكلم الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم بصيغة الجمع، مثال: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" لماذا "نحن" أفتونا جزاكم الله خيراً.
الجواب
إن القرآن نزل بلسان عربي مبين، ومن أساليب اللغة العربية أن صيغة الجمع يتكلم بها الواحد الذي له شركاء فتدل على الجمع والتعدد، ويتكلم بها الواحد العظيم الذي له صفات عديدة، فلا تفيد تعدد المتكلم، بل هو واحد لكنه عظيم، فالله تعالى في كتابه يخبر عن نفسه تارة بصيغة الواحد كقوله لموسى "وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى" [طه:13] وقوله: "إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني" [طه:14] ، وقوله: "قل هو الله أحد" [الإخلاص: 1] وقوله: "وإلهكم إله واحد" [البقرة:163] .
ويذكر نفسه تارة بصيغة الجمع الدالة على عظمته سبحانه وتعدد أسمائه وصفاته كما في الآية المذكورة، ونظائرها كثير؛ كقوله تعالى: "إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً" [الفتح:1] ، "إنا أعطيناك الكوثر" [الكوثر:1] ، وقوله سبحانه: "والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون، والأرض فرشناها فنعم الماهدون" [الذاريات:47-48] فلا تدل هذه الصيغة على تعدد الإله بل الإله واحد، ولكنه سبحانه له أسماء كثيرة وكلها حسنى، وله صفات كثيرة وكلها صفات كمال فهو الإله الحق وهو واحد لا شريك له وهو العلي العظيم سبحانه وتعالى.(1/195)
حكم أخذ الأجرة على تعليم القرآن الكريم
المجيب د. رياض بن محمد المسيميري
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 25/10/1422
السؤال
ما حكم أخذ الأجرة على تدريس وتعليم كتاب الله، مع العلم أنني طالب علم لا دخل لي، ولا أستطيع ممارسة أي عمل آخر، يضاف لهذا كله أنني أحتاج المال في المواصلات وغيرها من الأمور؟
الجواب
يجوز أخذ الأجرة على تدريس وتعليم كتاب الله سيما مع الحاجة إليها، ويستدل لهذا بما أخرجه البخاري في صحيحه (5737) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:" إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله " وهو قول جمهور أهل العلم، ومنهم: مالك، والشافعي، ورواية عن أحمد، وظاهر صنيع البخاري حيث أردف حديث ابن عباس السابق ذكره بحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - في أخذ الأجرة على رقية اللديغ، انظر البخاري (2276) .
وقد ذهب أبو حنيفة - رحمه الله - وأحمد في رواية عنه إلى تحريم أخذ الأجرة على تعليم القرآن؛ لما رواه أبو داود (3416) من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: " علَّمت ناساً من أهل الصُّفة الكتاب والقرآن، فأهدى إليّ رجل منهم قوساً، فقلت: ليست بمال، وأرمي عنها في سبيل الله عز وجل لأتين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلأ سألنه، فأتيته فقلت: يا رسول الله، رجل أهدى إليّ قوساً ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن وليست بمال وأرمي عنها في سبيل الله، قال: إن كنت تحب أن تُطَوَّق طَوْقاً من نار فاقبلها ".
قلت: وهو حديث ضعيف، فيه مغيرة بن زيادة مختلف فيه، قال أحمد: مضطرب الحديث، أحاديثه مناكير، وقال أبو زرعة: في حديثه اضطراب، ووثقه وكيع وابن معين.
وفيه الأسود بن ثعلبة قال عنه ابن حجر في (التقريب) مجهول، وهناك قول ثالث: وهو جواز أخذ الأجرة للحاجة، وهو رواية أخرى عن أحمد واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية.
وخلاصة القول: جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن وما دونه كالحديث والفقه وسائر العلوم الشرعية لصراحة الدليل الذي أشرنا إليه آنفاً وصحته، والله أعلم.(1/196)
حكم دعاء ختم القرآن الكريم
المجيب عبد العزيز بن باز - رحمه الله -
المفتي العام للمملكة العربية السعودية سابقاً
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 03/09/1425هـ
السؤال
أود أن أسأل عن دعاء ختم القرآن، فإني كتبته في أحد المنتديات، وقد قيل لي: إنه بدعة، فلا أدري أهو بدعة أم لا؟ أريد جواباً وافياً منك.
الجواب
سئل الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - عن حكم دعاء ختم القرآن، نذكر لك فيما يلي نص السؤال والإجابة:
السؤال: ما حكم دعاء ختم القرآن؟
الجواب: لم يزل السلف يختمون القرآن، ويقرؤون دعاء الختمة في صلاة رمضان، ولا نعلم في هذا نزاعاً بينهم فالأقرب في مثل هذا أنه يقرأ، لكن لا يطول على الناس، ويتحرى الدعوات المفيدة والجامعة، مثل ما قالت عائشة - رضي الله عنها -:" كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستحب الجوامع من الدعاء ويدع ما سوى ذلك" أخرجه أحمد (25151) ، وأبو داود (1482) .
فالأفضل للإمام في دعاء ختم القرآن والقنوت تحري الكلمات الجامعة وعدم التطويل على الناس يقرأ: (اللهم اهدنا فيمن هديت) الذي ورد في حديث الحسن بن علي - رضي الله عنهما - في القنوت انظر سنن أبي داود (1425) ، وجامع الترمذي (464) . ويزيد معه ما يتيسر من الدعوات الطيبة كما زاد عمر، ولا يتكلف، ولا يطول على الناس، ولا يشق عليهم.
وهكذا في دعاء ختم القرآن يدعو بما يتيسر من الدعوات الجامعة، يبدأ ذلك بحمد الله والصلاة على نبيه - عليه الصلاة والسلام -، ويختم فيما يتيسر من صلاة الليل أو في الوتر ولا يطول على الناس تطويلاً يضرهم ويشق عليهم، وهذا معروف عن السلف تلقاه الخلف عن السلف، وهكذا كان مشايخنا مع تحريهم للسنة وعنايتهم بها يفعلون ذلك، تلقاه آخرهم عن أولهم، ولا يخفى على أئمة الدعوة ممن يتحرى السنة ويحرص عليها، فالحاصل أن هذا لا بأس به - إن شاء الله - ولا حرج فيه، بل هو مستحب لما فيه من تحري إجابة الدعاء بعد تلاوة كتاب الله - عز وجل -، وكان أنس - رضي الله عنه- إذا أكمل القرآن جمع أهله ودعا في خارج الصلاة انظر مصنف ابن أبي شيبة (30029) فهكذا في الصلاة، فالباب واحد؛ لأن الدعاء مشروع في الصلاة وخارجها وجنس الدعاء مما يشرع في الصلاة فليس بمستنكر.
ومعلوم أن الدعاء في الصلاة مطلوب عند قراءة آية العذاب وعند آية الرحمة يدعو الإنسان عندها كما فعل النبي - عليه الصلاة والسلام - في صلاة الليل، فهذا مثل ذلك مشروع بعد ختم القرآن، وإنما الكلام إذا كان في داخل الصلاة، أما في خارج الصلاة فلا أعلم نزاعاً في أنه مستحب الدعاء بعد ختم القرآن، لكن في الصلاة هو الذي حصل فيه الإثارة الآن والبحث، فلا أعلم عن السلف أن أحداً أنكر هذا في داخل الصلاة كما أني لا أعلم أحداً أنكره خارج الصلاة هذا هو الذي يعتمد عليه في أنه أمر معلوم عند السلف قد درج عليه أولهم وآخرهم، فمن قال: إنه منكر فعليه الدليل، وليس على من فعل ما فعله السلف، وإنما إقامة الدليل على من أنكره، وقال: إنه منكر، أو إنه بدعة، هذا ما درج عليه سلف الأمة وساروا عليه وتلقاه خلفهم عن سلفهم، وفيهم العلماء والأخيار والمحدثون، وجنس الدعاء في الصلاة معروف من النبي - عليه الصلاة والسلام- في صلاة الليل، فينبغي أن يكون هذا من جنس ذاك.
[مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، تأليف الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -، الجزء 11، ص 354] .(1/197)
هل استماع القرآن يعدل قراءته؟
المجيب د. ناصر بن محمد الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 29/3/1423
السؤال
هل سماع القرآن على شرائط كاسيت يومياً والتمعن فيه وعدم الانشغال عنه يعادل قراءة المصحف؟
الجواب
سماع القرآن الكريم من خلال شرائط التسجيل أمر طيب، وفاعله مأجور على ذلك، لكنه مع هذا لا يعادل قراءة المرء بنفسه للقرآن، سواء كان من المصحف أو عن ظهر قلب، فهذه القراءة التي ورد فيها الفضل المخصوص كالحديث الذي رواه الترمذي (2910) وصححه عن عبد الله بن مسعود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها ... " الحديث. أما استماع التلاوة وإن كان المرء يثاب عليه، فليس كقراءة القرآن ولا يعادل فضلها، وإنما حكي الخلاف بين أهل العلم في التفضيل بين القراءة من المصحف أو القراءة عن ظهر غيب، فذهب جمهور السلف -كما حكاه النووي- إلى أن القراءة من المصحف أفضل؛ لأن القارئ يجتمع له فضل القراءة وفضل النظر في المصحف، وقد كان كثير من السلف لا يخلون يومهم من النظر في المصحف، وبالله التوفيق.(1/198)
ختم القرآن في رمضان
المجيب عبد العزيز بن باز - رحمه الله -
المفتي العام للمملكة العربية السعودية سابقاً
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 2/9/1422هـ
السؤال
هل يمكن أن يستفاد من مدارسة جبرائيل -عليه السلام- للنبي -صلى الله عليه وسلم- القرآن في رمضان أفضلية ختم القرآن؟
الجواب
نعم يستفاد منها المدارسة، وأنه يستحب للمؤمن أن يدارس القرآن من يفيده وينفعه؛ لأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- دارس جبرائيل للاستفادة؛ لأن جبرائيل هو الذي يأتي من عند الله -جل وعلا- وهو السفير بين الله والرسل، فجبرائيل لا بد أن يفيد النبي -صلى الله عليه وسلم- أشياء من جهة الله -عز وجل-، من جهة إقامة حروف القرآن، ومن جهة معانيه التي أرادها الله، فإذا دارس الإنسان من يعينه على فهم القرآن، ومن يعينه على إقامة ألفاظه، فهذا مطلوب كما دارس النبي -صلى الله عليه وسلم- جبرائيل، وليس المقصود أن جبرائيل أفضل من النبي -عليه الصلاة والسلام-، ولكن جبرائيل هو الرسول الذي أتى من عند الله فيبلغ الرسول -عليه الصلاة والسلام- ما أمره الله به من جهة القرآن، ومن جهة ألفاظه، ومن جهة معانيه، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- يستفيد من جبرائيل من هذه الحيثية، لا أن جبرائيل أفضل منه -عليه الصلاة والسلام-، بل هو أفضل البشر وأفضل من الملائكة -عليه الصلاة والسلام-، لكن المدارسة فيها خير كثير للنبي -صلى الله عليه وسلم- وللأمة؛ لأنها مدارسة لما يأتي به من عند الله، وليستفيد مما يأتي به من عند الله -عز وجل-.
وفيه فائدة أخرى، وهي: أن المدارسة في الليل أفضل من النهار؛ لأن هذه المدارسة كانت في الليل، ومعلوم أن الليل أقرب إلى اجتماع القلب وحضوره والاستفادة أكثر من المدارسة نهاراً.
وفيه أيضاً من الفوائد: شرعية المدارسة، وأنها عمل صالح حتى ولو في غير رمضان؛ لأن فيه فائدة لكل منهما، ولو كانوا أكثر من اثنين فلا بأس أن يستفيد كل منهم من أخيه، ويشجعه على القراءة، وينشطه فقد يكون لا ينشط إذا جلس وحده، لكن إذا كان معه زميل له يدارسه أو زملاء كان ذلك أشجع له وأنشط له، مع عظم الفائدة فيما يحصل بينهم من المذاكرة والمطالعة فيما قد يشكل عليهم، كل ذلك فيه خير كثير.
ويمكن أن يفهم من ذلك أن قراءة القرآن كاملة من الإمام على الجماعة في رمضان نوع من هذه المدارسة؛ لأن في هذا إفادة لهم عن جميع القرآن، ولهذا كان الإمام أحمد -رحمه الله -يحب ممن يؤمهم أن يختم بهم القرآن، وهذا من جنس عمل السلف في محبة سماع القرآن كله، ولكن ليس هذا موجباً لأن يعجل ولا يتأنى في قراءته، ولا يتحرى الخشوع والطمأنينة، بل تحري هذه الأمور أولى من مراعاة الختمة.
مجموع فتاوى الشيخ/ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-، الجزء الخامس عشر، ص (324) فتوى رقم (114) .(1/199)
التسمي "بأسيرة القرآن"
المجيب عبد الرحمن بن ناصر البراك
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 14/7/1423هـ
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لدي سؤال عن امرأة أطلقت على نفسها اسماً في أحد المنتديات العامة، هذا الاسم أثار في نفسي نوعاً من الشك من ناحية جوازه من عدمه، والاسم هو (أسيرة القرآن) ، فما الحكم في ذلك؟ جزاكم الله خير الجزاء، ونفع بكم وبعلمكم الإسلام والمسلمين.
الجواب
لا ينبغي أن تتسمى بهذا الاسم؛ لأنه لفظ محتمل لما يُحمد وما يُذم، فأسيرة القرآن تعني أن القرآن أسرها، وما معنى أن القرآن أسرها، هل ذلك على وجه التبرم بما في القرآن من أوامر ونواهي تقيد الإنسان عن الانطلاق في شهواته أم أن ذلك مقول على وجه التمدّح بالعمل بالقرآن، فيكون ذلك من الإعجاب بالعمل والاغترار، وكل هذا وذاك مذموم، فالواجب ترك التكلف وترك الدعاوى الباطلة التي تحتمل الغلو والمبالغة، نسأل الله أن يهدينا سواء السبيل، والله أعلم.(1/200)
الاقتباس من القرآن في الكلام
المجيب د. رشيد بن حسن الألمعي
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك خالد
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 14/5/1423
السؤال
السلام عليكم.
أنا من الذين لهم ميول أدبية، وأحب عند حديثي مع الناس أن يتخلله كثير من المفردات العربية الفصحى، وأعلم أن القران الكريم هو أفصح اللغة العربية، فلذلك أتحدث أحياناً بمقاطع من القرآن في سياق كلامي بشكل عفوي، وفي أحيان أخرى أتعمد ذلك، على سبيل المثال: عندما رأيت من صديقي أمراً أغضبني عبرت عن استيائي، فقلت له: يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً، فهل في ذلك محظور شرعي؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
أقول وبالله التوفيق:
أما عنايتك -يا أخي الكريم- باللغة العربية واهتمامك بها فهذا أمر يُحمد لك، فهي لغة ليست كغيرها من اللغات، إذ هي لغة القرآن الكريم ولغة الرسول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- والعناية بها وحفظها أمر وثيق الصلة بالدين وحفظه، وإذا صاحب اهتمامك بها نية التقرب بذلك إلى الله كنت مأجوراً على صنيعك، لكن ينبغي أن يكون هذا من غير تكلُّف وتشدُّق، ففي الحديث:"إن الله -عز وجل- يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها"، خرجه أبو داود في سننه (5/274) (5005) .
أما ما ذكرت من أنك تُورد أحياناً مقاطع من القرآن في سياق كلامك بشكل عفوي، وفي أحيان أخرى تتعمد ذلك، كقولك على سبيل المثال: وقد رأيت من صديقك أمراً أغضبك معبراً عن استيائك "يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً" [مريم:24] فأقول لك: إن هذا الأمر يندرج تحت ما يُعرف بالاقتباس، والذي منه تضمين الشعر أو النثر بعض القرآن لا على أنه منه بألاّ يقال فيه قال الله -تعالى- ونحوه، فإنك إن صدرته بقولك: قال الله -تعالى- لم يكن اقتباساً، وإنما يجري هذا مجرى الاستدلال.
ومسألة الاقتباس هذه مما اختلف فيه، فقد نقل السيوطي -رحمه الله- أنه اشتهر عن المالكية تحريمه وتشديد النكير على فاعله، أما الشافعية فلم يتعرض له المتقدمون ولا أكثر المتأخرين منهم، مع شيوع الاقتباس في أعصارهم، واستعمال الشعراء له قديماً وحديثاً وتعرض له جماعة من المتأخرين، فسئل عنه الشيخ: عز الدين بن عبد السلام فأجازه، واستدل بما ورد عنه -صلى الله عليه وسلم- من قوله في الصلاة وغيرها:"وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين ... "الخ، رواه مسلم (771) والترمذي (3421) وأبو داود (760) والنسائي (897) ، وقوله:"اللهم فالق الإصباح وجاعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً اقض عني الدين وأغنني من الفقر ... الخ" خرجه الإمام مالك في الموطأ بلاغاً (1/201) ، وورد في سياق وصية أبي بكر -رضي الله عنه- قوله:"أني أستخلف عليكم عمر بن الخطاب فإن يعدل فذاك ظني به ورجائي فيه وإن يجر ويبدِّل فلا أعلم الغيب، "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون" نقلها ابن كثير في تفسيره عند تفسير هذه الآية (3/355) .
وبالجملة فهذه النصوص وغيرها تدل على جوازه في النثر في مقام الوعظ والثناء والدعاء وكره بعض العلماء تضمينه في الشعر، وقد ورد في تراجم بعض العلماء استعماله في الشعر كما ورد في ترجمة أبي منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي أنه قال شعراً:
يا من عدا ثم اعتدى ثم اقترف ثم انتهى ثم ارعوى ثم اعترف
أبشر بقول الله في آياته "إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف"
والذي يظهر -والله أعلم- أنه إذا كان المقام يحتمله وفيه موعظة وتذكير فلا حرج، أما إذا كان السياق لا يحتمله فإن هذا مما لا يجوز نظماً أو نثراً، كما قيل عن أحد ولاة بني مروان أنه رُفعت إليه شكاية من بعض عماله فوقَّع عليها "إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم" [الغاشية:25-26] وكذا لو تكلف وأسرف في ليّ أعناق النصوص القرآنية ليعبر بها عن معنى من المعاني كالذي ينقل عن المرأة التي كانت لا تتحدث -في زعمهم- إلا بالقرآن فإن هذا من التكلف، وهو أشبه بالعبث بألفاظ القرآن الكريم -نسأل الله العافية-.
وهذه المسألة تبحث في آداب تلاوة القرآن فليعتنِ اللبيب ببحثها في مظانها من كتب علوم القرآن وممن بحثها الإمام السيوطي -رحمه الله- في كتابه (الإتقان في علوم القرآن) ، وفق الله الجميع، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(1/201)
يخرج من بين الصلب والترائب
المجيب د. محمد بن إبراهيم دودح
باحث علمي في هيئة الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 15/2/1425هـ
السؤال
من المعروف أن تلقيح الحيوان المنوي للبويضة ينتج عنه الزيجوت الذي ينمو ليكون الجنين، وتنتج الحيوانات المنوية في الخصيتين خارج الجسم، والبويضة من مبايض الأنثى الواقعين على جانبي الرحم قال تعالى: "فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ" [الطارق: 5-7] ، إذاً الماء الدافق هو المني، الترائب: عظام صدر المرأة كما يلي الترقوتين، والصلب: فقار الظهر ألم يعلم أنه لا علاقة للحيوانات المنوية بالظهر؟ ولا البويضة بصدر المرأة؟ هذا السؤال طرح للتشكيك في معجزة القرآن الكريم، ونسبته إلى رب الجلالة - تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا -؛ فأرجو من العلماء الأجلاء الرد في أسرع وقت ممكن لدحض هذه الشبهة التي ينشرها ويتشدق بها النصارى على موقع في الإنترنت، ولي رجاء من قارئ هذا السؤال أن يطلب من العلماء أصحاب الفتوى في هذا المنتدى والذين نثق بعلمهم أن يقوموا بجمع الشبهات المثارة على الإنترنت والإجابة عليها في كتاب أو في هذا المنتدى ليكون المسلم بعيداً عن أي تشكيك.
الجواب
في قوله تعالى: "فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ. خُلِقَ مِن مّآءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ. إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ. يَوْمَ تُبْلَىَ السّرَآئِرُ. فَمَا لَهُ مِن قُوّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ" [الطارق 5-10] ؛ الماء الدافق: تعبير وصفي للمني لأنه سائل تركيبه يماثل قطيرات الماء إلا أنه حي تتدفق تكويناته وتتحرك بنشاط ويصدق عليها الوصف بصيغة اسم الفاعل (دافق) لدلالته على الحركة الذاتية, وجميع الأوصاف عدا وصف الماء بالدافق تتعلق بالإنسان؛ لأن بدء خلقه هو محور الحديث والموضوع الرئيس وهو المستدل به على إمكان الإرجاع حيًّا, وضمير (له) في قوله تعالى "فَمَا لَهُ مِن قُوّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ" لا يستقيم عوده إلى الماء وإنما إلى الإنسان, وضمير (رجعه) في قوله تعالى: "إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ" الأظهر عوده إلى الإنسان والإرجاع هو إعادة الخلق للحساب بقرينة وقت الإرجاع "يَوْمَ تُبْلَىَ السّرَآئِرُ", ولا توجد ضرورة لتشتيت مرجع الضمائر في "فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ" و"خُلِقَ مِن مّآءٍ" و (رجعه) في "إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِر" و"فَمَا لَهُ مِن قُوّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ" ولذا الأولى عود ضمير (يخرج) في "يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ" إلى الإنسان كذلك مثلها, خاصة أن المني لا يخرج بذاته كذلك وإنما من الخصية, والوصف بالإخراج آية مستقلة كبيان متصل بأصل الحديث عن الإنسان, وبيان القدرة المبدعة وسبق التقدير وإمكان الإعادة أظهر في إخراج الذرية من ظهور الأسلاف, والتلازم قائم بين (إخراج) الإنسان للدنيا وليداً و (إرجاعه) حيًّا بينما لا تلازم بين (إخراج) المني و (إرجاع) الإنسان, وخروج ذرية الإنسان من الظهر مُبَيَّن في قوله: "وَإِذْ أَخَذَ رَبّكَ مِن بَنِيَ آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ" [الأعراف: 172] , وقوله: "أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ" [النساء: 23] , ولم يرد في القرآن فعل (الإخراج) متعلقاً بالمني بينما ورد كثيرا متعلقا بالإنسان لبيان خروجه للدنيا وليداً وخروجه حيًّا للحساب, وللوجدان أن يقشعر من تلك الدقة المتناهية التي ميزت بين موضع تكون أعضاء إنتاج الذرية في الظهر وموضع خروجها على طريق هجرتها!.
وهجرة أصولها الخلوية بين بدايات العمود الفقري والضلوع قبل انفصالها وتميزها.
والحقيقة العلمية هي أن الأصول الخلوية للخصية في الذكر أو المبيض في الأنثى تجتمع في ظهر الأبوين خلال نشأتهما الجنينية ثم تخرج من الظهر من منطقة بين بدايات العمود الفقري وبدايات الضلوع ليهاجر المبيض إلى الحوض بجانب الرحم وتهاجر الخصية إلى كيس الصفن حيث الحرارة أقل وإلا فشلت في إنتاج الحيوانات المنوية وتصبح معرضة للتحول إلى ورم سرطاني إذا لم تُكمل رحلتها, والتعبير "يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ" يفي بوصف تاريخ نشأة الذرية ويستوعب كافة الأحداث الدالة على سبق التقدير والاقتدار والإتقان والإحكام في الخلق منذ تكوين البدايات في الأصلاب وهجرتها خلف أحشاء البطن ابتداءً من المنطقة بين الصلب والترائب إلى المستقر, وحتى يولد الأبوان ويبلغان ويتزاوجان وتخلق الذرية مما يماثل نطفة ماء في التركيب عديمة البشرية من المني لكنها حية تتدفق ذاتياً لتندمج مع نطفة نظير فتتكون النطفة الأمشاج من الجنسين, ويستمر فعل الإخراج ساري المفعول ليحكي قصة جيل آخر لجنين يتخلق ليخرج للدنيا وليداً وينمو فيغفل عن قدرة مبدعه, وكل هذا الإتقان المتجدد في الخلق ليشمل تاريخ كل إنسان قد عبر عنه العليم الحكيم بلفظة واحدة تستوعب دلالاتها كل الأحداث: "يَخْرُجُ", فأي اقتدار وتمكن في الخلق والتعبير! , ومع كل تلك المشاهد المتجددة والتقديرات المبدعة والقدرة المفزعة هل يرد مجرد هاجس على الخاطر: أنبعثُ حقاً ونُحَاسَب!.
وهكذا يتصل العرض وينقلك في ومضة من مشاهد بدايات مقدرة تسبق وجود الإنسان إلى حيث يقف عاجزاً معرّى السريرة ليواجه مصيره وحده بلا أعوان فيتجلى بتلك النقلة الكبيرة الفارق في أحواله, وسرعة النقلة تؤكد التقدير وسبق التهيئة وتجلي قدرة الله تعالى وحكيم تدبيره مؤيدةً "إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ", قال الكلبي: "الضمير في إنه لله تعالى وفي رجعه للإنسان", وقال المراغي: "فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ " أي فلينظر بعقله وليتدبر في مبدأ خلقه ليتضح له قدرة واهبه وأنه.. على إعادته أقدر.. "خُلِقَ مِن مّآءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصّلْبِ وَالتّرَآئِبِ".. حقائق علمية تأخر العلم بها والكشف عن معرفتها وإثباتها ثلاثة عشر قرنًا, بيان هذا أن صلب الإنسان هو عموده الفقري (سلسلة ظهره) وترائبه هي عظام صدره.. وإذا رجعنا إلى علم الأجنة وجدنا في منشأ خصية الرجل ومبيض المرأة ما يفسر لنا هذه الآيات التي حيرت الألباب.. فكل من الخصية والمبيض في بدء تكوينهما يجاور الكلى ويقع بين الصلب والترائب أي ما بين منتصف العمود الفقري تقريباً ومقابل أسفل الضلوع.. فإذا كانت الخصية والمبيض في نشأتهما وفي إمدادهما بالدم الشرياني وفي ضبط شئونهما بالأعصاب قد اعتمدتا في ذلك كله على مكان في الجسم يقع بين الصلب والترائب فقد استبان صدق ما نطق به القرآن الكريم وجاء به رب العالمين ولم يكشفه العلم إلا حديثاً بعد ثلاثة عشر قرناً من نزول ذلك الكتاب, هذا وكل من الخصية والمبيض بعد كمال نموه يأخذ في الهبوط إلى مكانه المعروف؛ فتهبط الخصية حتى تأخذ مكانها في الصفن ويهبط المبيض حتى يأخذ مكانه في الحوض بجوار بوق الرحم, وقد يحدث في بعض الأحيان ألا تتم عملية الهبوط هذه فتقف الخصية في طريقها ولا تنزل إلى الصفن فتحتاج إلى عملية جراحية.. وإذا هُدي الفكرُ إلى كل هذا في مبدأ خلق الإنسان سهل أن نصدق بما جاء به الشرع وهو البعث في اليوم الآخر.. "إِنّهُ عَلَىَ رَجْعِهِ لَقَادِر" أي أن الذي قدر على خلق الإنسان ابتداء.. قادر أن يرده حيًّا بعد أن يموت".
واقتدار الخالق شاخص في كل العرض بينما يتملى الخيال مشاهد أعرضت عن الإنسان فعبرت عنه بالغائب في ومضات تُعَرِّيه من الخيلاء وتفاجئه بأصله ومصيره طاويةً حياته ومماته وكأنه لم يكن, في مقابل مشهد استكباره في تبجح صارخ يعلنه الاحتجاج المستهل بحرف (الفاء) ليفصح بأصل دلالته على التعقيب عن محذوف يكشف ما يجول في طوية نفسه: "فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ", كأنه صيحة مدوية مؤنبة تقول: ألم تحدثك نفسك؟ , وليس للإنسان في تلك المحاكمة إلا حضوراً باهتاً داخل قفص الاتهام في زاوية من المخيلة بينما تشخص عياناً أدلة التجريم؛ وكأنه تعالى يقول: "أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىَ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىَ" [القيامة 40] , وهذا المشهد الأصغر لتعري السرائر مثال لمشهد يوم عظيم "يَوْمَ تُبْلَىَ السّرَآئِرُ", فتأمل الاتساق في عرض المشاهد, تصوير عجيب يكشف ما قبل فتح الستار وحتى بعد ضمه تبقى في الخاطر شتى صور العقاب وتؤز في المسامع نيران تتشوق لمن يشك لحظة في قدرة الخالق سبحانه! , أسلوب مذهل جامع فريد لا يبلغه اليوم أي كتاب ينسب للوحي قد بلغ الذروة في التصوير وثراء المعنى مع الغاية في إيجاز اللفظ, وأما التفاصيل العلمية التي يستحيل أن يدركها بشر زمن التنزيل فهي بعض دلائل النبوة الخاتمة التي تسطع اليوم أمام النابهين.(1/202)
ربط الأحداث بالتعدد الرقمي في القرآن
المجيب د. فهد بن عبد الرحمن الرومي
عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 16/11/1422
السؤال
كثر في هذا الوقت الحديث على موضوع الرقم (11) ، وعلاقته أو ذكره في القرآن الكريم في سورة التوبة. أرجو بيان الرأي بذلك، مع العلم أنه خرج منذ أكثر من عشرين سنة رجل اسمه رشاد خليفة بنى على التعداد الرقمي في القرآن الكريم لمعرفة يوم القيامة، فتبين أنه من القاديانيين.
الجواب
من أنواع التفسير ما يسمى بالتفسير الإشاري وله أصوله وضوابطه وقواعده، كما أن من أنواع الإعجاز القرآن ما يسمى بالإعجاز العددي، وهي ظاهرة برزت في العصر الحديث، وانتشرت فكتب عن العدد (19) ، وعن العدد (سبعة) ، وعن الأعداد عموماً، ثم أدخل الحاسب الآلي، وظهرت عجائب أخرى.
وشطح قوم في التفسير الإشاري حتى خرجوا عن الصواب بل إلى الانحراف في العقيدة، كما غلا آخرون في الأعداد حتى التمحل والتكلف.
وكأن السائل يشير إلى الآية (110) في سورة التوبة، وهي التاسعة إلى حادثة 11/9 سبتمبر، ورقم (110) يجمع الحادي عشر بحذف الصفر، وعدد أدوار البنايتين، وإشارة الآية: " لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم " [التوبة:110] إلا أن في هذا صرفاً للفظ عن مدلوله والمراد به، وهو مسجد الضرار الذي نزلت الآيات فيه، وهذا بلا شك تكلف مذموم وصرف لألفاظ القرآن عن مدلولها الحقيقي، ولو سلكنا هذا المسلك لانصرفت أكثر آيات القرآن عن مدلولها إلى معان باطلة وخلت من مضامينها الشرعية، ولذا قال الشيخ الزرقاني - رحمه الله تعالى - في الرد على أمثال هؤلاء: " ولعلك تلاحظ معي أن بعض الناس قد فتنوا بالإقبال على دراسة تلك الإشارات والخواطر فدخل في روعهم أن الكتاب والسنة، بل الإسلام كله ما هي إلا سوانح وواردات على هذا النحو من التأويلات والتوجيهات، وزعموا أن الأمر ما هو إلا تخيلات، وأن المطلوب منهم هو الشطح مع الخيال أينما شطح، فلم يتقيدوا بتكاليف الشريعة، ولم يحترموا قوانين اللغة العربية في فهم أبلغ النصوص العربية كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ا. هـ.
قلت: وإن كان الشيخ يقصد طائفة من الصوفية إلا أنه يدخل في ذلك كل من صرف اللفظ عن مدلوله بلا دليل صحيح من الكتاب والسنة.(1/203)
قراءة القرآن للمحدث والحائض
المجيب عبد العزيز بن باز - رحمه الله -
المفتي العام للمملكة العربية السعودية سابقاً
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 27/2/1425هـ
السؤال
1- هل يجوز قراءة القرآن ولمسه من غير وضوء؟.
2-هل يجوز قراءة القرآن للحائض غيباً؟.
الجواب
1-2 سئل الشيخ/ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- عن سؤال مشابه لسؤالك، نذكر لك فيما يلي نصّ السؤال والإجابة:
س: ما حكم مس المصحف بدون وضوء أو نقله من مكان لآخر؟ وما الحكم في القراءة على الصورة التي ذكرت؟
ج: لا يجوز للمسلم مس المصحف وهو على غير وضوء عند جمهور أهل العلم، وهو الذي عليه الأئمة الأربعة -رضي الله عنهم-، وهو الذي كان يفتي به أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد ورد في ذلك حديث صحيح لا بأس به، ومن حديث عمرو بن حزم -رضي الله عنه-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب إلى أهل اليمن: "أن لا يمس القرآن إلا طاهر" رواه مالك في الموطأ (468) والدارمي في سننه (2266) وهو حديث جيد له طرق يشد بعضها بعضاً.
وبذلك يعلم أنه لا يجوز مس المصحف للمسلم إلا على طهارة من الحدث الأكبر والأصغر، وهكذا نقله من مكان إلى مكان، إذا كان الناقل على غير طهارة.
لكن إذا كان مسه أو نقله بواسطة، كأن يأخذه في لفافة أو في جرابه، أو بعلاقته فلا بأس، أما أن يمسه مباشرة وهو على غير طهارة فلا يجوز على الصحيح الذي عليه جمهور أهل العلم؛ لما تقدم، وأما القراءة فلا بأس أن يقرأ وهو محدث عن ظهر قلب، أو يقرأ ويمسك له القرآن من يرد عليه ويفتح عليه فلا بأس بذلك.
لكن الجنب صاحب الحدث الأكبر لا يقرأ؛ لأنه ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان لا يحجبه شيء عن القراءة إلا الجنابة انظر ما رواه الترمذي (146) والنسائي (265) أبو داود (229) وابن ماجة (594) من حديث علي - رضي الله عنه - وروى أحمد (874) بإسناد جيد عن علي -رضي الله عنه-، قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثم قرأ شيئاً من القرآن، ثم قال: "هذا لمن ليس بجنب، أما الجنب فلا، ولا آية"
والمقصود: أن ذا الجنابة لا يقرأ لا من المصحف ولا عن ظهر قلب حتى يغتسل، وأما المحدث حدثاً أصغر وليس بجنب فله أن يقرأ عن ظهر قلب ولا يمس المصحف.
وهنا مسألة تتعلق بهذا الأمر، وهي مسألة الحائض والنفساء، هل تقران أم لا تقران؟
في ذلك خلاف بين أهل العلم:
منهم من قال: لا تقران، وألحقهما بالجنب.
والقول الثاني: أنهما تقران عن ظهر قلب دون مس المصحف؛ لأن مدة الحيض والنفاس تطول، وليستا كالجنب؛ لأن الجنب يستطيع أن يغتسل في الحال يقرأ، أما الحائض والنفساء فلا تستطيعان ذلك إلا بعد طهرهما، فلا يصح قياسهما على الجنب لما تقدم.
فالصواب: أنه لا مانع من قراءتهما عن ظهر قلب، هذا هو الأرجح؛ لأنه ليس في الأدلة ما يمنع ذلك، بل فيها ما يدل على ذلك، فقد ثبت في الصحيحين البخاري (1650) ، ومسلم (1211) ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لعائشة - رضي الله عنها - لما حاضت في الحج: "افعلي كما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري"، والحاج يقرأ القرآن، ولم يستثنه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فدل ذلك على جواز القراءة لها، وهكذا قال لأسماء بنت عميس - رضي الله عنها - لما ولدت محمد بن أبي بكر - رضي الله عنهما - في الميقات في حجة الوداع انظر ما رواه مسلم (1209) من حديث عائشة - رضي الله عنها - فهذا يدل على أن الحائض والنفساء لهما قراءة القرآن، لكن من غير مس المصحف.
وأما حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن" رواه الترمذي (131) وابن ماجة (596) ، فهو حديث ضعيف، في إسناده إسماعيل بن عياش، عن موسى بن عقبة، وأهل العلم بالحديث يضعفون رواية إسماعيل عن الحجازيين ويقولون: إنه جيد في روايته عن أهل الشام أهل بلاده، لكنه ضعيف في روايته عن أهل الحجاز، وهذا الحديث من روايته عن أهل الحجاز فهو ضعيف. [مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، تأليف الشيخ/عبد العزيز بن باز -رحمه الله-، ج10 صـ149](1/204)
تعليق الآيات القرآنية
المجيب أ. د. سعود بن عبد الله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 4/1/1423
السؤال
ما حكم تعليق الآيات القرآنية على شكل لوح أو سجاد في البيت؟
الجواب
القرآن الكريم أنزله الله للعمل به والتعبد به كما أمر الله وأمر رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- ولم ينزله لمجرد التلاوة والتبرك به، مع أنه كنز البركة، وفي تلاوته الأجر والثواب، وإنما أنزله الله للعمل به وتحكيمه في كل أمر وشأن من شؤون الحياة، لقوله -تعالى-: "وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عما أنزل الله إليك" [المائدة:49] ، وقوله: "ما فرطنا في الكتاب من شيء" [الأنعام:38] ولا شك أن تعظيم آيات الله حقاً هو بتطبيق أحكامها والتحاكم إليها. أما مجرد كتابتها وتعليقها للتبرك دون العمل والاعتبار، أو كتابتها لغرض طرد الشياطين من المنزل أو وضع المصحف في السيارة لدفع العين عن صاحبها، أو ليقال إن صاحب هذا المنزل أو السيارة متدين إلخ ... فكل ذلك من الابتداع المنهي في الشرع ومدخل للرياء والسمعة. وكل ذلك مما لم يأذن به الله ولا رسوله، ولم ينقل عن أحد من الصحابة أو التابعين ومن بعدهم من سلف الأمة، وهو نوع من أنواع الابتذال والامتهان لآيات الله.
أما إذا كان الغرض من كتابة آيات القرآن على لوح أو زجاج أو سجاد وعلقت في مكان محترم كأن توضع في صدر المجلس في البيت ليتذكر الداخل والخارج والجالس معاني تلك الآيات، أو تكون مجال بحث في تفسيرها، حينئذ فلا أرى مانعاً شرعياً، إذ رفعُها وكتابتها على هذه الهيئة وبهذا الغرض من تعظيمها. وقد نص العلماء على جواز زخرفة المصحف وتزويقه وتجليده تجليداً فاخراً، حتى لو طلي بشيء من الذهب أو الفضة لجاز.
وخلاصة القول: إن كتابة آيات القرآن وتعليقها في البيت بقصد التعظيم لها والتذكر والتدبر في معانيها فإن هذا جائز. وما عدا هذا الغرض فحرام. والله أعلم(1/205)
خلق القرآن
المجيب د. أحمد بن سعد بن حمدان الغامدي
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 27/12/1422
السؤال
أرجو من فضيلتكم إخباري عن كيفية الرد على من قال إن القرآن مخلوق غير منزل، مع الأدلة الصحيحة من القرآن والسنة، وما حكم من قال إن القرآن مخلوق وليس منزلاً؟ علماً أنهم يقولون في تفسير كلمة نزلنا إنه منزل من الفوقية إلى الأسفل أو التحتية، أرجو أن تكون محاضرة أو مقال كامل عن هذا الموضوع، وما هي الكتب والمراجع التي تعينني على ذلك؟
الجواب
القرآن الكريم كلام الله - عز وجل - المنزل بلفظه ومعناه كما دل عليه القرآن نفسه وليس هناك أي دليل يعارض ذلك.
ومن الأدلة قوله - تعالى -: " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله" [التوبة:6] وقوله - تعالى -:" وكلم الله موسى تكليماً" [النساء:164] . وقال - عز وجل - لموسى:" وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري" [طه:14] وهذا القول سمعه موسى - عليه السلام- فممن سمعه؟ سمعه من الله - عز وجل -. وعلى هذه العقيدة علماء الأمة المحققون.
وأورد اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة أقوال أكثر من خمسمائة وخمسين عالماً قالوا بهذا القول. ويراجع كتاب (مجموع فتاوى ابن تيمية المجلد 12 وعنوانه: القرآن كلام الله" والفتاوى الكبرى له المجلد 6 آخره) ففيها تفصيل للمسألة، والله أعلم.(1/206)
المسابقات القرآنية
المجيب د. أحمد بن محمد الخليل
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 12/1/1424هـ
السؤال
نقيم في مدرستنا مسابقات للقرآن والسنة ويشترك في هذه المسابقة جميع منسوبات المدرسة تقريباً ومنهن المديرة والوكيلة، فهل إذا حصلت المديرة على المركز الأول مثلاً وأعطيت هدية من قبل المسؤولة عن المسابقة - علماً بأن التي تقدم الهدية معلمة - هل هذا يدخل في الرشوة أو هدايا العمل؟ والله يشهد أن هذه الهدايا لم تقدم لهذا الغرض، وإنما لبث روح المنافسة وشغل الوقت بما هو مفيد، وهل يصح مشاركة بعض المتسابقات في دفع مبلغ للمساهمة في شراء الهدايا؟
الجواب
إذا كانت المسابقات في القرآن الكريم والسنة والعلم الشرعي النافع فإنه لا حرج إن شاء الله من وضع هدايا عليها ولا بأس من أن تعطى مديرة المدرسة أو الوكيلة إذا كانت هي الفائزة، ولا يظهر لي أن هذا يدخل في هدايا العمل لأن سببه معلوم ظاهر وهو المسابقة فإن أرادت المديرة أو الوكيلة أن تترك الهدية ورعاً فهذا شيء حسن جداً.
ويجوز أيضاً أن يشارك بعض المتسابقات في دفع المبلغ لشراء الهدية، والله أعلم.(1/207)
حفظ القرآن ثم نسيانه
المجيب د. ناصر بن محمد الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 13/3/1423
السؤال
كنت أحاول حفظ سور من القرآن الكريم مع مجموعة من الأخوات، ومع مرور الزمن نسيت أغلب ما حفظته ولكني لازلت مستمرة بمحاولة حفظ الجديد من السور، وقد قرأت قبل فترة حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-: عن أن أعظم عذاب رآه هو عذاب من يحفظ القرآن وينساه، فخفت كثيراً وقررت التوقف عن حفظ المزيد من السور، والتركيز فقط على مراجعة ما قد حفظته والحرص على عدم نسيانه، فهل هناك إثم على قراري هذا؟ وإذا لم يكن فيه إثم فهل أخبر من معي في المجموعة بالحديث الذي قرأته، وربما أدى ذلك إلى خوفهن هن أيضاً من عقوبة النسيان، وتوقفهن عن الحفظ؟ أنا لازلت مستمرة بحضور الدروس ولكني حولتها من حفظ إلى تلاوة، ومحاولة لتطبيق التجويد أثناء القراءة، أفيدونا جزيتم خيراً.
الجواب
تشير السائلة إلى حديث: "عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد وعرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنباً أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها"، وهذا الحديث قد أخرجه أبو داود (461) ، والترمذي (2916) ، وابن خزيمة (576) ، والبيهقي في السنن (2/440) ، وأبو يعلى (4265) ، وعبد الرزاق (3/361) ، كلهم من طريق المطلب بن حنطب بن عبد الله، عن أنس بن مالك مرفوعاً، غير أن هذا الحديث لا يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد ضعفه جمع من أهل العلم منهم علي بن المديني، والبخاري، والترمذي، وابن حجر، فلا يصح الاحتجاج به.
وإني أنصح السائلة بالجمع بين المراجعة والحفظ مع العناية بالمراجعة وكثرة التكرار، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أخبر عن شدة تفلت القرآن من صاحبه إذا لم يتعاهده بالمذاكرة والمراجعة، ففي الحديث الذي أخرجه البخاري (5033) ، ومسلم (791) ، عن أبي موسى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تعاهدوا القرآن فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتاً من الإبل في عقلها"، وقد رويت آثار عن السلف تدل على كراهتهم لنسيان شيء من القرآن الكريم لأن هذا دليل على التساهل والتهاون.
كما أنصح السائلة أيضاً بالعناية بجانب التفسير، والفهم، لمعاني ما تقرأ وتحفظ مما يعينها على العمل بما تتلو من القرآن، وهذا هو المقصود الأول من نزول القرآن الكريم، يقول الله تعالى: "كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب" [ص:29] ، فإذا اتضح للسائلة هذا الأمر فلا مانع من إطلاع أخواتها عليه، والله أرجو أن يوفقنا جميعاً للبر والتقوى، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(1/208)
تعليق لوحات الآيات القرآنية
المجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز-رحمه الله-
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 29/6/1423هـ
السؤال
السلام عليكم.
تستخدم الآيات القرآنية لتزيين المساجد، والبعض يعلقها في بيته، فما حكم ذلك؟ أفادكم الله.
الجواب
سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن حكم كتابة الآيات وتعليقها على الحائط، وجاء في الإجابة ما يلي:
أنزل الله -تعالى- القرآن موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين، وليكون حجة على الناس، ونوراً وبصيرة لمن فتح قلبه له، يتلوه ويتعبد به، ويتدبره، ويتعلم منه أحكام العقائد والعبادات والمعاملات الإسلامية، ويعتصم به في كل أحواله، ولم ينزل ليعلق على الجدران زينة لها، ولا ليجعل حروزاً وتمائم تعلق في البيوت أو المحلات التجارية ونحوها؛ صيانة وحفظاً لها من الحريق واللصوص، وما شابه ذلك مما يعتقده بعض العامة، وخاصة المبتدعة -وما أكثرهم- فمن انتفع بالقرآن فيما أنزل من أجله فهو على بينة من ربه وهدى وبصيرة، ومن كتبه على الجدران أو على خرق تعلق عليها ونحو ذلك؛ زينة أو حرزاً وصيانة للسكان والأثاث وسائر المتاع فقد انحرف بكتاب الله أو بآية أو بسورة منه عن جادة الهدى، وحاد عن الطريق السوي والصراط المستقيم، وابتدع في الدين ما لم يأذن به الله ولا رسوله -صلى الله عليه وسلم- قولاً أو عملاً، ولا عمل به الخلفاء الراشدون وسائر الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين- ولا أئمة الهدى في القرون الثلاثة التي شهد لها النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنها خير القرون، ومع ذلك فقد عرّض آيات القرآن أو سوره للإهانة عند الانتقال من بيته إلى آخر بطرح هذه الخرق في الأثاث المتراكم، وكذا الحال عند بلاها وطرحها هنا وهنا مما لا ينبغي، وجدير بالمسلم أن يرعى القرآن وآياته، والمحافظة على حرمته، ولا يعرضه لما قد يكون فيه امتهان له.
[فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (4/46) ] .(1/209)
تفسير كلمات القرآن بلغة أجنبية
المجيب د. محمد بن سريّع السريّع
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 1/6/1423
السؤال
هل يجوز أن تفسر بعض كلمات القرآن على أساس أن الكلمة تشبه كلمة _إنجليزية مثلاً- من اللغات غير العربية؟
الجواب
لم يوضح السائل سؤاله بشكل كاف, ولكن نقول: إن ترجمة ألفاظ القرآن الكريم إلى لغة أخرى غير جائزة؛ لأن الله -تعالى- أودع في القرآن من الأسرار والإعجاز مالا يمكن نقله بلغة أو عبارة أخرى, ولكن الجائز هو ترجمة تفسير القرآن الكريم, إذ تفسير القرآن جهد بشري يعتمد على أصول شرعية, وهو بهذه المثابة يمكن نقله إلى لغة أخرى, والله أعلم.(1/210)
هل التقى موسى وشعيب؟
المجيب د. ناصر بن محمد الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 8/3/1423
السؤال
عندما توجه موسى -عليه السلام- إلى مدين في القصة المعروفة لديكم، هل الذي عمل عنده موسى -عليه السلام- وأنكحه إحدى ابنتيه هو شعيب -عليه السلام-؟
الجواب
ذكر كثير من المفسرين أن صاحب مدين النبي شعيب -عليه السلام-، ويستدلون على ذلك ببعض الآثار، لكنها لا تسلم من مقال، وفي الحق فإن هذا القول محل نظر لأمور:
1-لم يثبت فيما ذكروا شيء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا عن أحد الصحابة -رضي الله عنهم-، وفي هذا يقول ابن جرير -رحمه الله-: "وهذا مما لا يدرك علمه إلا بخبر، ولا خبر بذلك تجب حجته ... ".
2-بُعْد الزمن الذي بين موسى وشعيب -عليهما السلام-، فقد بعث شعيب -عليه السلام- في زمن غير بعيد من زمن إبراهيم -عليه السلام-، ذلك أن إبراهيم ولوطاً -عليهما السلام- بعثا في نفس الفترة، وقد قال الله -تعالى- عن شعيب وهو يعظ قومه: "وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُم بِبَعِيد" [هود:89] ، ومن المعروف أن بين إبراهيم -عليه السلام- وموسى -عليه السلام- عدة قرون.
3-ويستأنس في هذا بما ورد في أسفار أهل الكتاب، فقد ذكر عدد من المفسرين أن صاحب مدين كان يسمى عندهم (يثرون) ، ولم يذكر فيها أنه النبي شعيب -عليه السلام-.
وقد أشار ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره إلى بعض ما ذكرت، وبكل حال فإن اسم صاحب مدين قد أبهم في القرآن الكريم، ذلك أن الجهل به لا يضر، وبالله التوفيق.(1/211)
هل في القرآن أخطاء إملائية
المجيب د. ناصر بن محمد الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 4/3/1424هـ
السؤال
السلام عليكم.
يتهم بعض الملاحدة القرآن الكريم بأنه جاء فيه بعض الكلمات التي فيها أخطاء -بزعمهم- إملائية مثل كلمة (القرءان) وكلمة (يس) وغير ذلك، فما هو الرد المناسب لهم؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
رسم المصحف من الأمور الاصطلاحية التي لم تتلق بوحي من الله تعالى، وإنما كتبت على نحو ما اصطلح الناس عليه في ذلك الوقت واتفقوا -والأمور التي يتفق عليها الناس لا مشاحة فيها ولا منازعة ولا ينكر فيها على أحد إذا حصل بها المقصود-، ومن ذلك الرسم الإملائي، إذ هو أمر اصطلاحي جرى عليه الناس بقصد أن يكون وسيلة تساعدهم في تناقل العلم وغيره من أوجه النشاط الحضاري، والرسم الإملائي لما كان أمراً اصطلاحياً يجوز أن يقع فيه اختلاف وتغير، على مر العصور، ومن تتبع المراحل التي مر بها الرسم الإملائي العربي أدرك ذلك، بل حتى في عصرنا هذا يوجد اختلاف بين المدارس المعاصرة في رسم عدد غير قليل من الكلمات، ومثل هذا الاختلاف غير مؤثر ولا إشكال فيه، وكذلك الحال فيما يتعلق بالقرآن الكريم، فكونه قد كتب بالرسم الموجود في ذلك الوقت مما اصطلح على تسميته بعد ذلك بالرسم العثماني مما يخالف الرسم الإملائي المعاصر لا يعد ذلك نقصاً في القرآن الكريم، لخروجه عن حقيقته، لأنه لم ينزل مكتوباً، وإنما نزل متلواً، فلا يضره أن يكتب خطأ على فرض أن ذلك قد وقع، كما لو أنه كتب -مثلاً- على ألواح وقراطيس رديئة ونحو ذلك، لم يكن ذلك مما يعاب به القرآن الكريم، على أن أهل العلم كالإمام أبي عمر المدني قد كتبوا قديماً في بيان سبب رسم بعض الكلمات في القرآن على نحو يخالف الرسم القياسي مما يطول ذكره هنا، والله أعلم.(1/212)
بث القرآن أثناء الطابور المدرسي
المجيب د. محمد العروسي عبد القادر
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 26/2/1424هـ
السؤال
فضيلة الشيخ: سؤالي هو: هل يجوز أن نشغل المسجل بالقرآن الكريم في المدرسة قبيل الطابور بعشر دقائق؟ علماً أن أغلب الطلاب أو المارة يتكلمون ولا يستمعون، مع أن هناك أناساً قد يهديهم الله على يديك، وهناك أصوات جميلة جداً للقراء ربما تشغف القلوب، ما رأي فضيلتكم؟ حفظكم الله.
الجواب
الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِ على عبدك ونبيك محمد وعلى آله ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.. فتشغيل الإذاعة قبيل الطابور جزء من النشاط المدرسي، والإذاعة إن لم تشغل بما يفيد فستملأ بكلام ساقط أو غير مفيد.
فشغل إذاعة المدرسة باختيار قصار السور، بأداء قراء جيدين هو من خير ما يقدم لصباح اليوم المدرسي، ولا يضر إن انصرف بعضهم عن الاستماع أو الإصغاء. والله أعلم.(1/213)
الفرق بين "ذلك" و"ذلكم" في القرآن
المجيب عبد الحكيم بن عبد الله القاسم
عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 19/5/1424هـ
السؤال
ما هو الفرق بين (ذلك) وبين (ذلكم) في القرآن الكريم؟
الجواب
وردت (ذلكم) في أربعين موضعاً من القرآن، و (ذلك) في عدد أكثر من ذلك بكثير.
ومعنى: ذلكم، إشارة للبعيد، وإذا كانت في سياق ذكر الخير فالبعد للتعظيم والتفخيم، كقوله تعالى:"ذلكم أزكى لكم وأطهر" [البقرة:232] ، وإذا كانت في سياق ذكر الشر فالبعد للتفظيع والتحذير، كقوله تعالى:"وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق" [المائدة:3] .
والكلمة على التجزئة (ذا) اسم إشارة، واللام للبعيد، والكاف للخطاب، والميم للجمع المخاطب بالكلام.
وقد تجيء آيات الإفراد والجمع معاً، قال تعالى:"ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر" [البقرة: 232] وغيرها، والله أعلم.(1/214)
كيف أشعر بعظمة القرآن
المجيب د. رياض بن محمد المسيميري
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 03/09/1425هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لا أعرف كيف أبدأ بالسؤال، حيث إن عندي مشكلة كبيرة جداً -من وجهة نظري على الأقل- مع القرآن وهو أني -أستغفر الله- لا أستشعر بعظمته، بل وأحياناً أقرأ القرآن وأبكي ليس تأثراً به بل حسرة على نفسي لأني لا أشعر بعظمته، وخاصة عندما أقرأ السور التي فيها تبيين لتأثير القرآن، كسورة الجن: فأقول في نفسي سبحان الله، الجن تقول قرآناً عجباً وأنا التي أدعي الإسلام لا أعرف أين هذا العجب، بل أحياناً أشعر بأن كفار قريش أفضل مني لأنهم فهموا القرآن -بغض النظر عن استكبارهم وكفرهم- لا أدري إن كانت المشكلة واضحة لكن هل هناك حل؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الحمد لله، وبعد:
أختي السائلة، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، لا ريب أن التأثر بقراءة القرآن والعمل به هو المقصد الرئيس من إنزال القرآن العظيم، ولذا يقول الله تعالى في شأن الجبال الصم:"لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون" [الحشر: 21] ، فإذا كانت الجبال القاسيات الراسيات تخشع وتتصدع من عظمة القرآن وجلاله كان من باب أولى أن يرق قلب الآدمي ويلين خشية لربه، ومعرفة بقدره تعالى.
وأنت أختي الكريمة عليك أن تجاهدي نفسك على تدبر الآيات التي تقرئينها، وعليك بمحاولة التعرف على تفسيرها وبيان أهل العلم لها -قدر الإمكان- مع مداومة الدعاء والإلحاح على الله تعالى أن يهبك الخشوع ولين القلب، وتذكري -بارك الله فيك- أن من أعظم الأسباب التي تعين على حصول المقصود، التخلص من الذنوب والخطايا وسرعة المبادرة إلى التوبة النصوح علّ الله تعالى أن يفتح عليك من بركاته، ويمن بلين القلب وخشوع القراءة، وثقي بأن الله عز وجل متى رأى منك الصدق والإخلاص بلغك ما تأملين وتنشدين، والله المسؤول أن يوفقنا جميعاً لما يحب ويرضى، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.(1/215)
تسمية سور القرآن بألفاظ فيها
المجيب د. مساعد بن سليمان الطيار
عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 5/4/1424هـ
السؤال
هل يجوز تسمية سور القرآن الكريم بشيء مما ذكر فيها؟ مثلا تسمية سورة (الإخلاص) بسورة (الصمد) أو تسمية سورة (البقرة) بسورة الكرسي، أسوة بآية الكرسي المذكورة فيها؟ وجزاكم الله عنا خير الجزاء. وشكرا.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد
فاعلم أنه لم يرد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهيٌ عن أن تُسمى سورة باسمٍ ما، كما أنه لم يأمر بذلك، ويمكن تقسيم تسمية السور إلى أقسام:
القسم الأول: سورة ثبتت تسميتها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كالبقرة وآل عمران، في مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-:"اقرؤوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران " الحديث رواه مسلم (804) من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه-، وكقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف، عصم من الدجال" رواه مسلم (809) وغيره من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه-. والأحاديث الواردة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في تسمية السور كثيرةٌ.
القسم الثاني: ما ثبتت تسميته عن بعض الصحابة -رضي الله عنهم-، ومن ذلك ما رواه البخاري (4029) ، ومسلم (3031) ، واللفظ له، عن سعيد بن جبير قال: "قلت لابن عباس -رضي الله عنهما-: سورة الأنفال. قال: تلك سورة بدر" ويمكنك أن تنظر إلى أسماء السور في مبحث المكي والمدني من كتاب الإتقان في علوم القرآن، حيث ذكر السور المكية والسور المدنية بأسمائها عن بعض الصحابة والتابعين وأتباعهم، وستلاحظ وجود أكثر من اسم لبعض السور، كما أن السيوطي قد عقد لهذه الأسماء المختلفة مبحثًا خاصًّا.
القسم الثالث: ما تعارف عليه من جاء بعد الصحابة -رضي الله عنهم- إلى عصرنا الحاضر، وهذا مما يقع فيه التسامح، لذا ترى كثيرًا من التسميات التي تعارف عليها الناس، وهي في الغالب حكاية أول السورة، كقولهم: سورة لم يكن، سورة إذا زلزلت، سورة تبت يدا أبي لهب، سورة قل هو الله أحد، وهكذا غيرها من التسميات، والظاهر من عمل المسلمين خلال العصور أنه لا تناكر بينهم في تسمية السور، والتعارف عليها باسم لم يوجد في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- أو عصر الصحابة -رضي الله عنهم-، غير أن الأولى أنَّ ما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- خاصَّة أن لا يُعدل عنه، لأنه قد يكون في التسمية حكمة لا تُعلم إلا بالبحث، وهذه الأسماء النبوية للسور مبحث لطيف فلم أر من بحث فيه علاقة التسمية، ومن المفسرين الذين اعتنوا بهذا المبحث (الطاهر بن عاشور) ومن ذلك ما ذكره في سبب تسمية سورة البقرة قوله: "ووجهُ تسميتِها: أنَّها ذُكرت فيها قصَّةُ البقرةِ التي أمرَ اللهُ بني إسرائيلَ بذبحِها؛ لتكونَ آية ووصف سوء فهمِهم لذلك، وهي مما انفردت به هذه السورة بذكرِه، وعندي أنها أضيفت إلى قصةِ البقرةِ تمييزًا لها عن سورِ آل" آلم "من الحروف المقطَّعةِ …". التحرير والتنوير (1/201) ، وقد ظهر لي في مناسبة هذا الاسم سِرٌّ لطيفٌ، إذ قد يقول قائلٌ: إنَّ في قصَّةِ البقرةِ إحياءَ ميِّتٍ فسُمِّيتْ السورةُ بما يُشيرُ إلى ذلك الحدث الغريبِ، والجوابُ: أنها لم تكن هي الأميزَ في موضوعِ إحياءِ الموتى، فقد وردَ في هذه السُّورةِ أكثرُ من قصةٍ فيها إحياءُ الموتى، وهي إحياءُ بني إسرائيلَ بعد الصَّعقةِ، وذلك قوله -تعالى-: "وَإذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" [البقرة: 55 ـ 56] .
وقصَّةُ الَّذين خرجوا من ديارهم، وهم ألوف، خرجوا حذر الموتِ، فأماتهم الله ثُمَّ أحياهم، وقصَّة الذي مرَّ على قرية وهي خاوية على عروشها، فأماته الله مائة عامٍ ثُمَّ بعثه، وقصَّة إحياء الطيور الميِّتةِ لإبراهيم -عليه الصلاة والسلام-. إذًا فليست هي القصةَ الوحيدةَ في هذا الشأنِ العجيبِ، وهو إحياءُ الموتى والذي يُمكنُ أن يُقال في مناسبةِ تسميتها بهذا الاسم: أنَّ هذه السُّورةَ من أوائلِ السُّورِ المدنيَّةِ، والعهد المدنيُّ كان فيه إقرار كثيرٍ من الأحكامِ الشرعيَّة، وكان الأمرُ في أحكامِ اللهِ أن تُنفَّذَ، ولا يُتأخَّرَ فيها أو يُعترضَ عليها؛ فأخبرَ اللهُ بقصَّةِ البقرةِ التي فيها التَّنبيه والإعلامُ بشأنِ من تلكَّأ في الاستجابةِ لأحكامِ الله، فإنَّ بني إسرائيلَ لَمَّا شدَّدُوا وتعنَّتوا في تنفيذِ أمرِ اللهِ؛ شدَّدَ اللهُ عليهم، إذ لو ذبحوا في أولِ أمرِ اللهِ لهم أيَّ بقرةٍ، لأجزأهم ذلك، ولكانوا بذلك مستجيبين لأمرِ اللهِ، وفي هذه القصَّةِ عِظةٌ أيَّما عِظَةٍ للصَّحابةِ -رضي الله عنهم-، كي لا يتردَّدُوا في تنفيذِ أحكامِ اللهِ، فيشدِّدَ اللهُ عليهم كما شدَّد على بني إسرائيلَ في شأنِ البقرةِ. وحياتُهم -رضي الله عنهم- مع نبيِّهم -صلى الله عليه وسلم- تدلُّ على أنهم وَعَوا هذا الدَّرسَ وتلقَّنوه جيِّدًا، فلم يكونوا يتأخَّرون عن تنفيذِ أوامرِ الَشَّرعِ، واللهُ أعلمُ.
وهذا الاستطراد ذكرته لك للفائدة، أسأل الله أن يمن عليَّ وعليك بحسن الفهم، وبالإخلاص في القول والعمل.(1/216)
ما يستحب قراءته من القرآن كل ليلة
المجيب د. عبد الله بن فهد الحيد
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 25/3/1424هـ
السؤال
أود أن تخبروني جزاكم الله خيراً عن سور القرآن المستحب قراءتها كل ليلة، وما هو جزاء كل سورة؟ وما الحكمة من ذلك؟ وشكراً.
الجواب
ثبت في الصحيحين من حديث أبي مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه" البخاري (5009) ، ومسلم (807) .
وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما يقرأ فيهما "قل هو الله أحد" و "قل أعوذ برب الفلق" و "قل أعوذ برب الناس" ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات) . أخرجه البخاري (5017) ، من حديث عائشة - رضي الله عنها-.
وجاء في قصة أبي هريرة - رضي الله عنه - حينما جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصدقة، قال له الشيطان "إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي "الله لا إله إلا هو الحي القيوم...." فإنه لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "صدقك وهو كذوب" أخرجه البخاري (3275) تعليقاً، ووصله غيره كما في فتح الباري (4/487-488) .
وفي حديث أبي سعيد - رضي الله عنه- عند البخاري (5015) ، وأبي الدرداء - رضي الله عنه- عند مسلم (811) ، مرفوعاً "أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن" قالوا: وكيف يقرأ ثلث القرآن؟ قال: "قل هو الله أحد، تعدل ثلث القرآن".(1/217)
رفع الصوت بالقرآن قبل الجمعة
المجيب د. خالد بن علي المشيقح
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 6/3/1424هـ
السؤال
ما حكم قراءة القرآن في يوم الجمعة؟ هل له أصل في الشرع؟ وهل ورد أي حديث أو حتى آثار دلت على ذلك؟ فأنا أقصد تلك القراءة التي تقرأ بالسماعة في كل المساجد قبل الخطبة بفترة، (حيث يسمع كل الناس ولا ينصتون له) ، فإذا أمكنكم أن تعطوا حديثا أو أقوالاً لعلماء تدل على ذلك فهو مناسب. وجزاكم الله خيرا.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
هذا العمل الذي أشار إليه السائل من رفع الصوت في السماعات قبل الخطبة لكي يستمع الناس إلخ.. بدعة، ولم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم-، والسنة الواردة عن النبي - عليه الصلاة والسلام- هي تعظيم هذا اليوم بكثرة العبادة كالذكر، أو الصلاة أو القراءة، بأن يتقدم الإنسان إلى المسجد من بعد طلوع الشمس، لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا حضر الإمام دخلت الملائكة تستمع الذكر" البخاري (881) ، ومسلم (850) .
ويستحب للإنسان التقدم من بعد طلوع الشمس، وقال بعض أهل العلم: من بعد صلاة الفجر، لكي يتفرغ للذكر والقراءة والصلاة.. إلخ، فيفعل ما هو الأخشع لقلبه هذه هي السنة، وهذا هو الأفضل، وهذا هو هدي الصحابة - رضي الله عنهم-.
وأما رفع الصوت بالقراءة التي قد يستمع بعض الناس لها وقد لا يستمعون إلخ، وقد تشوش عليهم، فهذا كله محدث ليس على هَدْي النبي - صلى الله عليه وسلم- ولا أصحابه -رضي الله عنهم-.(1/218)
الاقتباس القرآني
المجيب د. ناصر بن محمد الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 18/3/1424هـ
السؤال
وردت هذه الجملة في أحد مواضيع المزاح على أحد المنتديات، وعندما اعترضت عليها أخبرني صاحب المنتدى أنني لست بعالمة دين أو مفتية لكي أعترض، وأنني يجب أن أدعم اعتراضي بفتوى موثقة، فهلا أجبتموني أفادكم الله وجزاكم خيراً؟ وهذه هي الجملة سبب الخلاف (إعلان العرب للحرب: يا مبارك اذهب أنت وشعبك فقاتلا، إنا هاهنا قاعدون) أفيدونا أفادكم الله وجزاكم خيراً كثيراً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد..
المقولة التي أوردها السائل الكريم قد تضمنت جزءاً من قوله -تعالى- في سورة المائدة: "فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون" [المائدة: من الآية 24] وهذا التضمين يندرج تحت ما يسميه أهل العلم بالاقتباس، وحقيقته تضمين الكلام سواء كان شعراً أو نثراً بعض ألفاظ القرآن لا بلفظ قال الله، بل على وجه يتوهم معه أنه غير قرآن، ونحو ذلك، وهذا الاقتباس قد اختلف فيه أهل العلم قديماً، حتى إن بعض المالكية قد تشدد في النهي عنه كثيراً، والصحيح من كلامهم- رحمهم الله - أن الاقتباس جائز بشرط أن يكون ذلك في الكلام الطيب الحسن الذي يراد به هداية الناس ووعظهم وتوجيههم ونحو ذلك، كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلفاؤه، ولم يزل أهل الفضل من العلماء والخطباء والوعاظ يضمنون رسائلهم وخطبهم شيئاً من كلام الله - عز وجل-، أما ما كان خارجاً عن هذا بأن يكون على سبيل الهزل والمزاح، فهذا مما يصان عن مثله القرآن، قال صاحب مختصر الروضة:"الاقتباس ثلاثة أقسام: مقبول ومباح ومردود، ثم ذكر من جملة القسم المردود تضمين آية في معنى هزل" والذي أشار إليه السائل، -إن صح أنه ورد في معرض المزاح ونحوه على حد قوله-، فهو مما يندرج ضمن الممنوع والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(1/219)
قطع القراءة قبل تمام المعنى
المجيب د. مساعد بن سليمان الطيار
عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 9/4/1424هـ
السؤال
ما حكم الوقف في الصلاة في مثل هذه الآية (15) من سورة يس، والآية (18) من نفس السورة؟ علماً أن إمام المسجد عندنا في الحي كثيراً ما يقف في مثل هذه الآيات بقصد أو بغير قصد؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه إلى يوم
الدين، أما بعد:
فسؤالك أيها الأخ الفاضل غير واضح، وسأجيب على ما ظهر لي منه، فأقول:
إن كنت تقصد أنه يقطع قراءته على الآية الخامسة عشرة من سورة (يس) ، وهي قوله تعالى: "قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ" [يّس:15] ، ثم يركع، ثم يقوم فيقرأ الآية السادسة عشرة، وهي قوله تعالى: "قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ" [يّس:16] . ويقرأ قوله تعالى: "قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ" [يّس:18] ، ثم يركع، ثم يقوم فيقرأ: "قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ" [يّس:19] ، فأقول: إن في الأمر سَعَةً، والذي يدلُّ على ذلك ما رواه البخاري (4582) ، ومسلم (800) ، من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه- أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يقرأ عليه سورة النساء، حتى إذا وصل إلى قوله تعالى: "فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً" [النساء:41] قال له: حسبك الآن، قال فرأيته، فإذا عيناه تذرفان.
وقطع القراءة على هذه الآية قبل تمام المعنى؛ لأن قوله تعالى: "يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً" [النساء:42] مرتبط من جهة المعنى بما قبله، والتمام على رأس الآية هو الوقف التام؛ لأن ما بعدها كلام مستأنف جديد، وهو قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً" [النساء:43] ، وهذا العمل منه صلى الله عليه وسلم حجة في من قطع قراءته قبل تمام المعنى، والله أعلم.
ولكن إن تتبع المعاني، وقطع عند انقضاء الأخبار والقصص، كما ورد ذلك عن السلف الصالح من التابعين والقراء وغيرهم، فذلك حسن، بل هو مما يعتني به علماء الوقف والابتداء.(1/220)
التباكي أثناء التلاوة
المجيب عبد الرحمن بن ناصر البراك
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 11/4/1424هـ
السؤال
كثر في الآونة الأخيرة عدد من المقرئين، والذين يتلون القرآن بطريقة بكائية (تشبه البكاء) ، مما يفقد التلاوة حلاوتها، وتتحول إلى ما يشبه العويل، فما رأيكم في ذلك؟ وجزاكم الله كل خيراً.
الجواب
الحمد لله، تلاوة القرآن من أفضل القربات؛ بل هي أفضل القربات المطلقة، ولتلاوة القرآن آداب منها الترتيل كما قال تعالى: "ورتل القرآن ترتيلا" [المزمل: 4] . لكن بغير إفراط، فليس من الترتيل المشروع التقعر في تلاوة القرآن، وهو ما يسمى بالتجويد الذي فيه تشديد وتكلف، فإنه ينبغي أن تكون القراءة قراءةً سهلة ليس فيها تكلف، ومما يتأكد على تالي القرآن أن يتدبر ما يقرأ، ويكون اهتمامه بفهم معاني القرآن، ومما يستحب له أن يحسن صوته؛ بل ينبغي له ويتأكد عليه أن يحسِّن صوته بالقرآن دون تكلف، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن" رواه البخاري (7527) ، ومسلم (792) ، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه-، وأما من يخترع طريقة تخرج التلاوة عن حد الاعتدال كتصنع البكاء، وتكييف القراءة على هذا الوجه- كما جاء في السؤال أن هذه الطريقة تصيِّر التلاوة إلى نوع من العويل والصياح- وأنا لا أعرف هذه الصفة، لكن متى كانت قائمة على المبالغة والتكلف فهي مذمومة، فخير الأمور أوسطها، والله أعلم.(1/221)
الجمع بين آيات في مولى الكفار
المجيب د. محمد بن سريّع السريّع
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 20/6/1424هـ
السؤال
كيف الجمع بين قوله تعالى: "وأن الكافرين لا مولى لهم"، وقوله: "بعضهم أولياء بعض"، وقوله: "النار هي مولاكم".
الجواب
تبين وجه الجمع بين هذه الآيات من خلال النظر في سياقاتها والمراد منها:
فالآية الأولى: من سورة محمد جاءت بعد قوله تعالى: " الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ" [محمد:1-8] .
ثم قال تعالى: "ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ" [محمد:11] ، فمما سبق يتبين أن الله تعالى هو ناصر المؤمنين وحافظهم ومعينهم، وأما الكافرون فليس لهم ناصر ينصرهم من الله، وليس لهم حافظ يحفظهم من أمر الله، وليس لهم من يمنعهم من قضاء الله، لأن الله هو القوي العزيز.
وأما الآية الأخرى وهي قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" [المائدة:51] ، ففيها نهي عن موالاة اليهود والنصارى، وبيان أن بعضهم يوالي بعضاً، فمن تولاهم فهو منهم، فالكفار يوالي بعضهم بعضاً الموالاة البشرية، ولكن ليس لهم من الله عاصم، بخلاف المؤمنين الذين يستمدون ولا يتهم من ولاية الله العلي الكبير، الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، الذي لا يعز من عاداه ولا يذل من والاه.
وأما قوله تعالى: "فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ" [الحديد:15] فالمراد أنها أولى بكم وأحرى، ويجوز أن يراد أنها ناصركم، فتكون على سبيل التهكم، فإنهم لا ناصر لهم، فإن كان لهم ناصر فإنما هو النار، وإذا كانت النار لا تنصرهم وإنما هي عذاب الله لهم، فإذن لا ناصر لهم.
وبهذا تبين أن المنفي عن الكفار هو أن يكون لهم ولي ينصرهم من دون الله أو يرد عنهم المكروه لأن ذلك إنما هو لله تعالى، والله تعالى ليس ولياً لهؤلاء الكفار، وأما المثبت من ولاية الكفار بعضهم البعض فإنما هو تعاونهم فيما يقدرون عليهم مما مكنهم الله فيه كسائر الأسباب مع أنها ولاية تابعة لمصالحهم الدنيوية كثيراً ما يتخلون عنها، إذا تعارضت مع أهوائهم، وأما في الآخرة فليس لهم أولياء ينصرونهم، بل يعادي بعضهم بعضاً ويلعن بعضهم بعضاً، ومأواهم النار وبئس المصير، والله أعلم.(1/222)
اشتراط التواتر في القراءة
المجيب د. رياض بن محمد المسيميري
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 7/6/1425هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد:
فإن جمهور أهل العلم من القراء والأصوليين على أن القراءات السبع وكذلك العشر متواترة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد خالف في ذلك قلة من أهل العلم منهم أبو شامة والجزري فيما قاله في النشر، وكذلك الشوكاني ونسب هذا القول إلى المدني والمهدوي كما هو في نيل الأوطار في أبواب صفة الصلاة, باب: الحجة في الصلاة بقراءة ابن مسعود وأبي، حديث (721-722) ، وذهبوا إلى أنه يجوز القراءة بأي قراءة سواء كانت من العشر أم من غيرها ما دام صح السند - مع عدم اشتراط التواتر بل يكفي أن يكون آحاداً - مع موافقتها لرسم المصحف وموافقتها لوجه من العربية، هناك عدة أسئلة متعلقة بهذا الموضوع؛ حتى يتم ثبوت إيضاح الحق، فمن لم يثبت التواتر في القراءات يقول ما الدليل على أن السند من أحد القراء -كحمزة أو عاصم مثلا- أنه متواتر، حتى إن الصنعاني قال (إن الطرف الأول من سند هؤلاء القراء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو الصحابي كان أحاديًا، حيث قال إن النبي -صلى الله عليه وسلم -كان يدعو أحد الصحابة- رضي الله عنهم- ليبلغه القرآن) . نرجو الرد على هؤلاء الأئمة مع عزو النقل إلى المصنفات ليتم الرجوع لها، وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
أولاً: لا بد أن نعتقد جميعاً بأن القرآن الكريم وصل إلينا بالتواتر، فقد تلقاه الصحابة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وتلقاه عن الصحابة - رضي الله عنهم- من بعهدهم من التابعين، وهكذا.. حتى وصل إلينا كاملاً غير منقوص.
ثانياً: من المجمع عليه عبر العصور الإسلامية كلها أن القرآن قطعي الثبوت، ولم يُعرف عن أحد من المسلمين إنكاره لحرف واحد من القرآن الذي بين أيدينا اليوم.
ثالثاً: من المؤكد أن القراءات المنسوبة إلى السبعة وهم: الكوفيون، عاصم بن أبي النجود، وحمزة بن حبيب الزيات، وعلي بن حمزة الكسائي، وأبو عمر بن العلاء البصري، وعبد الله بن عامر اليحصبي، ونافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المدني، وعبد الله بن كثير المكي. أقول من المؤكد أن هذه القراءات المنسوبة لهؤلاء القراء الأعلام قراءات صحيحة تلقتها الأمة بالقبول لصحة أسانيدها وموافقتها للغة العربية وللرسم العثماني المجمع عليه عن الصحابة الكرام - رضي الله عنهم-.
رابعاً: اشترط أهل العلم بالقراءات ثلاثة شروط لقبول القراءة وهي:
1- صحة السند.
2- موافقة اللغة العربية ولو بوجه من الوجوه.
3- موافقة الرسم العثماني ولو احتمالاً.
لكن اختلفوا في اشتراط التواتر مع الصحة، فالجمهور يشترطون تواتر القراءة، وبعض العلماء كابن الجزري وأبي شامة، وجماعة لا يشترطون ذلك، ومع ذلك فهؤلاء العلماء الذين لا يشترطون التواتر، ويكتفون بصحة السند مع الشرطين الآخرين لا يطعنون في شيء من القراءات السبع المعروفة، وبذلك يصبح الخلاف بينهم وبين الجمهور لا ثمرة له تستدعي كبير بحث أو جهد يتعلق بإثبات قرآنية القراءات السبع أو نفيه، فالأمر محسوم والقضية محل تسليم الجميع، لكن ربما كانت ثمرة الخلاف ظاهرة من حيث أهمية الإجابة عن السؤال التالي:
هل نقبل أي قراءة خارج السبعة إذا استوفت الشروط الثلاثة الآنف ذكرها في القراءات الثلاث المتممة للعشر؟
والجواب - والله أعلم- نعم، علينا أن نقبل كل قراءة ثابتة بأسانيد صحيحة، وكانت موافقة لوجه من وجوه اللغة العربية، وموائمة للرسم العثماني ولو احتمالاً، ولم تكن معلة بعلة قادحة أو شاذة، إذ من المعلوم أن أهل العلم قد ردوا كثيراً من الأحاديث الصحيحة لاشتمالها على علة قادحة أو شذوذ بين. آمل أن تكون الصورة قد وضحت الآن، وتبين لك وجه الصواب في هذه المسألة المهمة. والله يرعاك.(1/223)
من الإعجاز العلمي: البعوضة وما فوقها
المجيب د. محمد بن إبراهيم دودح
باحث علمي في هيئة الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 22/8/1424هـ
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين. أما بعد..فضيلة الشيخ يتناقل الشباب هذه الأيام رسالة عبر البريد الإلكتروني تتحدث عن إعجاز الله في خلقه للبعوضة، وكان مما ذكر قولهم: إن هناك حشرة تعيش فوق ظهر تلك البعوضة، وعليه فإنهم في الرسالة فسَّروا قول الله تعالى "إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ" [البقرة: 26] . على أن المقصود بالآية هو تلك الحشرة الصغيرة. فضيلة الشيخ لو صدق النقل فهل الآية يمكن أن تُفسَّر بما ذكر أعلاه؟ بارك الله فيكم.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد..(1/224)
فهذا جواب مختصر لما سألتموني عنه حول اكتشاف علمي لكائنات حية تفوق البعوضة في الضآلة والخطورة: قال الله تعالى: "إِنّ اللهَ لاَ يستحيي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنّهُ الْحَقّ مِن رّبّهِمْ وَأَمّا الّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهََذَا مَثَلاً يُضِلّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلّ بِهِ إِلاّ الْفَاسِقِينَ" [البقرة: 26] , وذلك في معرض الحديث عن القرآن الكريم، والذي يؤكد فيه "أَنّهُ الْحَقّ" من عند الله ويتوعد الكافرين بتلك الحقيقة، ويبشِّر المؤمنين ويتحدَّى أن يأتي أحد بمثله, واستهل الحديث بقوله تعالى: "وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مّمّا نَزّلْنَا عَلَىَ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم مّن دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" [البقرة: 23] , وهذا يعني أن ضرب المثل بالبعوضة هو من جملة المتحدى به مما يحمل علما لا يدرك أغواره أحد زمن تنزيله، وأنها ذات أثر خطير في حياة المخاطبين, خاصة أن التعبير "أَنّهُ الْحَقّ" قد ورد نفسه في الإعلان المتحدي بتضمن القرآن حقائق خفية عن العالم تكشفها الأيام بينة على أنه من عند الله العليم بالخلق؛ وهو قول الله تعالى: "قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللهِ ثُمّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلّ مِمّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ. سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الاَفَاقِ وَفِيَ أَنفُسِهِمْ حَتّىَ يَتَبَيّنَ لَهُمْ أَنّهُ الْحَقّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أَنّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. أَلاَ إِنّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مّن لّقَآءِ رَبّهِمْ أَلاَ إِنّهُ بِكُلّ شَيْءٍ مّحِيطُ" [فصلت 52-54] , قال الطاهر بن عاشور: (كانت الآيات السابقة ثناء على هذا الكتاب المبين ووصف حال المهتدين بهديه، والناكبين عن صراطه وبيان إعجازه والتحدي به, ووجه ربطها بما تقدم.. إقامة الحجة على أحقية القرآن أنه معجز) .(1/225)
الدلالة العلمية: لم يكن أحد زمن نزول القرآن يدرك أسرار المخلوقات على النحو الذي كشفته اليوم - بعد جهود مضنية في المجالات العلمية المتنوعة - الثورة المحمومة لكشف المجهول، والتي بدأت بعد نزول القرآن بأكثر من عشرة قرون, وقد جاءت الكشوف العلمية مؤيدة لعناية القرآن بالبعوضة لأهميتها في حياة البشر رغم ضآلتها في عالم الأحياء, وهذا مثل صارخ لتسامي القرآن الكريم عن النظرة النسبية في الحكم على الأشياء وتنزهه عن التصورات المحصورة بزمن، فلا تخرج في تعريفها للأشياء عما هو سائد فيه, وفي بيئة التنزيل لم يعرف عن البعوضة سوى أنها غير ذات شأن؛ من جملة ما يستحيى من ذكره في المسائل العظام, ولا يجب أن تلقى أي عناية أو اهتمام, وبلغت اعتبارها المثل في الضآلة والاستحقار, لأن في منظورهم: (ليس شيء.. أصغر من البعوضة) , وأنها: (نهاية في القلة والضعف) , فماذا قرر القرآن الكريم؟: دفع الاستحقار بالبعوضة في منظور الحقيقة؛ فكشف العلم بأنها ذات خطورة على المخاطبين وإن لم يدركوها، وأنها ليست نهاية في الضآلة كما يتصورون, بل هناك ما هو "فَوْقَهَا" في الضآلة ويفوقها في الخطورة, وذلك قبل أن تكتشف الأمراض الخطيرة التي تسببها البعوضة وعوالم الكائنات الحية الأدق وغير المرئية, ولم يكتشف المجهر ويستخدم لمعاينة الكائنات الدقيقة إلا في القرن السابع عشر الميلادي, وهكذا تجاوز القرآن الأفق الأعلى لمعارف المخاطبين لعدة قرون، ورفع أستار المجهول جملة واحدة. وفي نفي الاستحياء بالبعوضة دفع للاستهانة وبيان للأهمية والخطورة والتمكين بقدرات تتحدى المخاطبين, و (الفوقية) في اللغة العلو والزيادة في صفة يبينها السياق سيقت من أجلها المقارنة, قال الفخر الرازي: (أراد بما فوقها في الصغر أي بما هو أصغر منها، والمحققون مالوا إلى هذا القول؛ لأن: الغرض هاهنا بيان أن الله تعالى لا يمتنع من التمثيل بالشيء الحقير، وفي مثل هذا الموضع يجب أن يكون(1/226)
المذكور ثانياً أشد حقارة من الأول.. والشيء كلما كان أصغر كان الاطلاع على أسراره أصعب، فإذا كان في نهاية الصغر لم يحط به إلا علم الله تعالى، فكان التمثيل به أقوى في الدلالة على كمال الحكمة من التمثيل بالشيء الكبير.. وإذا قيل هذا فوق ذلك في الصغر وجب أن يكون أكثر صغراً منه) , وقال الماوردي: (فما فوقها) في الصغر لأن الغرض المقصود هو الصغر. وقال الألوسي: (والزيادة في المعنى الذي وقع التمثيل فيه هو الصغر والحقارة، فهو تنزل من الحقير للأحقر.. (خاصة أن الفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما يشير إليه ما قبلها) . وقال الطاهر بن عاشور: (ولفظ (فوق) يستعمل في معنى التغلب والزيادة في صفة.. ولذلك كان لاختياره في هذه الآية - دون لفظ (أقل) ودون لفظ (أقوى) مثلاً - موقع من بليغ الإعجاز، والفاء عاطفة ما فوقها على بعوضة أفادت تشريكهما في ضرب المثل بهما.. (أي في الحكم مع بيان التدرج في الرتب) , وقال السعدي: (المعنى الذي ضربت فيه مثلاً هو القلة والحقارة.. ولا يقال كيف يضرب المثل بما دون البعوضة وهي النهاية في الصغر؟ , لأن التعقيب على الآية: {فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم} , وهذا يجعلهم: يتفكرون فيها، فإن علموا ما اشتملت عليه على وجه التفصيل ازداد بذلك علمهم وإيمانهم وإلا علموا أنها حق وما اشتملت عليه حق، وإن خفي عليهم وجه الحق فيها لعلمهم بأن الله لم يضربها عبثاً بل لحكمة بالغة) , ويقرر صاحب تفسير مراح لبيد أن نبأ ما دون البعوضة: (لا يسوغ إنكاره لأنه ليس عبثاً بل هو مشتمل على أسرار) , وهكذا يشير القرآن الكريم إلى ما دون البعوضة من كائنات، ويدفع الاستهانة بها قبل اكتشاف الكائنات الحية المجهرية، وقدرتها على إصابة الإنسان وغيره من الكائنات الأكبر منها حجماً بالأمراض المهلكة. ولا يعدل القرآن في حديثه عن الحق، ولا يخالف في بيانه الواقع, فيعبر بالجمع عند الحديث عن "الذباب" و"الفراش" و"الجراد"(1/227)
لأن العلامات الموصوفة تشمل الذكر والأنثى, ولكنه يعدل في حديثه عن البعوض إلى اللفظ المفرد المؤنث "بعوضة", والعجيب أن الأنثى هي بالفعل التي تتغذى على الدماء وتنقل الأمراض, أما الذكر فهو أكبر حجماً ويتغذى فقط على رحيق الأزهار, وهكذا ناسب الاشتقاق أن البعوضة هي الأقل حجماً والأخطر شأناً. فهذه إضافات علمية، إذ إن المعرفة بالبعوضة والأحياء الدقيقة دونها ودورها في نقل الأمراض يستحيل أن يدركها أحد قبل اكتشاف المجهر, فلم يعرف دور البعوضة في نقل طفيل الملاريا مثلا إلا قبيل بداية القرن العشرين, فقد تمكَّن (الفونس لافيران) من معرفة الطفيل المسبب للملاريا عام 1880, وفي عام 1897 اكتشف (سير رونالدز روز) انتقال الطفيل عن طريق البعوضة, وفي عام 1898 تمكَّن فريق من الباحثين من تأكيد دور البعوضة في نقل المرض, وقبيل بداية القرن العشرين كانت هناك عدة فرضيات تحاول تفسير سبب وباء الحمى الصفراء, وفي عام 1881 افترض كارلوس فينلاي أن الناقل هو البعوض, وهو ما أكده ميجور والتر عام 1900 وأثبته ويليام جورجاس في القرن العشرين, وبالتخلص منه أثناء شق قناة بنما تراجع المرض, وفي نفس الفترة اكتشف باتريك مانسون طفيل الفلاريا الذي يسبب داء الفيل، وعرف أن الناقل له هو البعوض كما ينقل طفيل الملاريا, وكلمة "ملاريا" إيطالية الأصل وتعني الهواء الفاسد, وقد بقيت مستخدمة حاليا كمصطلح تاريخي يعكس الاعتقاد الخاطئ بأن المرض ينتقل للإنسان عن طريق الهواء الفاسد, وذلك قبل أن يُعرف دور البعوضة في نقل الطفيليات المجهرية التي تسببه. والبعوضة mosquito في الاصطلاح العلمي حشرة ضئيلة من ثنائيات الأجنحة, وفم الذكر ماص وليس له أية أجزاء ثاقبة ليمص الدماء, ولكن الأنثى وحدها فمها مصمم على ثقب جلد الإنسان والحيوانان ذات الدماء الحارة، لتتغذى عليها باعتبارها مصدر غني بالبروتين اللازم لإنتاج البيض, وتفرز الأنثى على الجرح سوائل من غدتها(1/228)
اللعابية تؤدي إلى الاحتقان، وتمنع تجلط الدم فتجعله ينساب بسهولة إلى فمها, وإذا كانت حاملة لكائنات دقيقة تسبب الأمراض انتقلت إليها من لسعة سابقة لإنسان أو حيوان مصاب، فمن الممكن أن تنقلها مع سوائل الغدة اللعابية وتنشر الأمراض في محيط واسع, ولذا ليست خطورتها في مجرد طنينها المزعج، أو لسعاتها التي قد تكون مؤلمة ومسببة للحكة والاحتقان، وإنما فيما تنقل من كائنات تسبب الأمراض الوبائية الخطيرة، والتي منها طفيل الملاريا Plasmodium وطفيل الفلاريا الذي يسبب داء الفيل Elephantiasis, وعدد من الفيروسات مثل فيروس مرض الحمى الصفراء Yellow fever والحمى المخية Encephalitis ومرض أبو الركب Dengue fever والحمى النازفة Hemorrhagic fever وحمى الوادي المتصدع Rift Valley fever , ويمتد خطرها إلى عديد من الطيور والثدييات كذلك, ومن تلك الأمراض مرض دودة القلب Heartworm disease الذي يصيب الكلاب خاصة ونادراً ما يصيب الإنسان، وهو ناتج عن الإصابة بنوع من طفيليات الفلاريا. وتتكون حشرة البعوض من رأس وصدر وبطن كما هي بقية الحشرات, ولها ثلاثة أزواج من الأرجل الطويلة النحيلة, ولها زوج من الأجنحة وعضوين بجوارهما في موضع زوج آخر ضامر من الأجنحة يستخدمان كأعضاء توازن, وتوجد قشور عديدة على أوردة الجناحين تزيد من قدرة الجناح على الطيران, وتبيض الحشرة الكاملة 100 - 400 بيضة تفرز منها آليات التوازن البيئي أعداداً قليلة تستطيع إكمال دورة الحياة، وبلوغ طور النضوج في مدة قد تبلغ 7 - 10 أيام في بعض الأنواع, ويمكنك توقُّع توالد البعوض في حدود أسبوعين من وضع البيض عندما يتوفر الماء؛ لأنه ضروري لفقس البيض وحياة اليرقات والعذارى, ويمكن للبيضة الكمون لفترات طويلة في انتظار الماء. وقد تفقس البيضة بعد (واحد - ثلاثة أيام) من وضعها لتتحول إلى يرقة Larva وتمكث بدورها خمسة أيام - عدة أسابيع قبل أن تتحول إلى عذراء Pupa, واليرقات أو(1/229)
الدعاميص نشطة الحركة، ولذا تسمى بالهزازات Wigglers, وتأكل بشراهة وتتغذى على الطحالب والمواد العضوية في الماء, وهي من النهم والشراسة، بحيث إنها قد تتغذى على يرقات أمثالها, وتتنفس اليرقات عن طريق أنبوب ذيلي وكذلك العذراء، وعند إثارتها تأتي بحركة لولبية ولذا تسمى بالبهلوان أو الشقلباظ Tumblers, وتمكث 2-3 يوم قبل أن تخرج من غلافها الحشرة الكاملة وتتهيأ بعد مدة قليلة للتزاوج. وتبلغ أنواع الحشرات 3 - 4 مليون على الكوكب، يوجد منها أكثر من 2000 - 3000 نوع من البعوض ينتشر في بيئات مناخية مختلفة ليبلغ كل منطقة يعمرها الإنسان ويمتد من المناطق الاستوائية حتى الدائرة القطبية، ومن الأودية إلى رؤوس الجبال.
والبعوض ثلاثة أنواع رئيسة مهمة وهي:
أولاً: بعوض الأنوفيليس Anopheles: ينقل طفيل الملاريا وطفيل الفلاريا وفيروس الحمى المخية, وتقف الحشرة وجسمها مائل على السطح ورأسها للأسفل, وتضع الأنثى البيض فرادى على سطح الماء, وجسم اليرقات مغمور في الماء في وضع أفقي يوازي سطح الماء, وتتم دورة الحياة في حوالي 18 يوما، وقد تمتد إلى عدة أسابيع.
ثانيا: بعوض الكيولكس Culex: ينقل طفيل الفلاريا وفيروس الحمى الدماغية, وتقف الحشرة موازية للسطح, ويلتصق البيض في مجموعات كل منها قد يزيد عن 100 بيضة, وتميل اليرقات بزاوية على سطح الماء, وتتم دورة الحياة في 10 - 14 يوما.(1/230)
ثالثاً: بعوض الإيديز Aedes: ينقل فيروسات الحمى الصفراء وحمى (أبو الركب) والحمى الدماغية, فالحشرة موازية للسطح وتميل اليرقات بزاوية على سطح الماء مثل الكيولكس, لكنه يتميز عنه بخصائص منها أن الحشرة عليها قشور فضية, ويستطيع البيض الصمود لفترات طويلة من الجفاف, وقد تتم دورة الحياة في عشرة أيام فقط، وقد تطول إلى عدة أشهر إذا لم يتوفر ماء, وتوفر الماء ضروري لفقس البيض وحياة اليرقات والعذارى, والبرك والمستنقعات والمزارع المفتوحة من أنسب مواضع التكاثر, ويمكن لبعض الأنواع استخدام المياه المالحة أو الماء الجاري, ويكفي في بعضها القليل مثل بقايا مياه المطر المتجمعة في ثقوب الأشجار، بل ربما رحيق زهرة إذا تعذر البديل, ويتكاثر البعوض عادة بالقرب من مصادر الماء, ولكن بعض الأنواع ينتقل لمسافات بعيدة عن مكان التوالد، ولذا لا تنجح كثيرا الوسائل الفردية للتخلص من البعوض، ويحتاج الأمر لجهود قومية لتخفيض نسبة التكاثر, ويتفق التوزيع الجغرافي لأكثر المناطق إصابة بالأمراض التي يسببها البعوض، مع التوزيع الجغرافي للمناطق الحارة, وفي فصل الشتاء قد تكون البعوضة كامنة في بعض الأنواع في انتظار فصل الربيع، أو قد تكون في طور البيضة في انتظار توفر الماء, وبانتهاء مواسم تكاثر البعوض تقل نسبة الأمراض وتتلاشى نوبات الوباء, ومن وسائل الحماية الشخصية عند تفشي المرض استخدام المواد الصناعية الطاردة أو الطبيعية، كمستخلصات نبات النيم لما فيها من مواد مؤثرة كالسالانين Salannin أو استخدام الشبكات الواقية (الناموسيات) , وللحد من تكرر النوبات في المناطق المعرضة ينبغي اتخاذ احتياطات وقائية عديدة، منها ردم البرك والمستنقعات أو تربية الأسماك التي تتغذى على أطوار البعوض في الماء مثل أسماك الجامبوزيا Gambosia وجابي Guppy. ويستخدم البعوض قرونه كأدوات للاستشعار, ومن الجائز أن تكون كذلك أعضاء للذوق والشم واستشعار الحركة,(1/231)
والشعيرات الأكثر كثافة التي تغطي قرني الاستشعار عند الذكر تزيد من كفاءته وقدرته على تمييز أنثى نوعه, وقد تجمع من الأدلة ما يكفي للقناعة بأن قرون الاستشعار عند البعوض في غاية الحساسية والكفاءة كأدوات استقبال صوتي تماثل الآذان, خاصة مع اكتشاف انتفاخات عصبية في قواعد الشعيرات تجعلها تستجيب وتتحرك تجاه أصوات ترددها يماثل تردد طنين أجنحة الأنثى من نفس النوع, وعلى سبيل المثال تميز الذبذبة 384 هرتز (دورة/ثانية) بعوض الحمى الصفراء, وتكون تلك الذبذبات على أشدها عندما يكون قرن الاستشعار موجها نحو مصدر الصوت، وبهذا يمكن للحشرة بكل بساطة ودقة تحديد اتجاه الصوت أو الحركة الخفيفة خاصة مع وجود قرنين. ويختلف معدل خفقات الأجنحة في الحشرات المختلفة, فيتدنى ليبلغ 8 خفقات في الثانية في بعض الفراشات، ويرتفع إلى ما يزيد عن 1000 خفقة في الثانية في بعض الحشرات, والبعوض من الحشرات السريعة الخفقان، حيث يبلغ حوالي 600 خفقة في الثانية, وخفقات أجنحة إناث البعوض هي التي تحدث الطنين المعهود, وقد أثبتت الأبحاث أنه يختلف من نوع لآخر فتستطيع الذكور بسهولة تمييز الإناث من نوعها، وبذلك تتواصل الأجيال في النوع ذاته, ومعدل اهتزاز الجناح في الأنثى يقل قليلا عن الذكر, وإذا أمكن تمييز هذه الذبذبات في منطقة ما يمكن معرفة الأنواع المتواجدة, بل من الممكن كذلك اجتذاب الذكور للمصائد والتخلص منها عن طريق أحداث همهمات صناعية تماثل ذبذبات أجنحة الإناث من نفس النوع المتواجد, ومحاكاة الطبيعة كتقنية للتخلص من البعوض يمكن توجيهها كذلك لاجتذاب الإناث عن طريق أجهزة خاصة (مغناطيس البعوض) ، تطلق حرارة ومواداً تماثل ما تطلقه، الأجسام والتي منها ثاني أكسيد الكربون وبخار الماء في هواء الزفير وحمض العرق Lactic acid وقد تستخدم المصابيح ليلاً, وإذا نجحت تلك المحاولات في مناطق انتشار السكان ستكون كذلك أسلم كثيراً من المبيدات الحشرية(1/232)
كمادة د. د. ت DDT، خاصة أنها تقتل الطيور والحشرات المفيدة وتخرق التوازن البيئي، ومع الوقت تتولد ضدها مناعة عند البعوض فتصبح أقل قيمة في مقاومته. كائنات ضئيلة تتحدى البشر: قد تسبب لسعة البعوضة حكة موضعية نتيجة لاستدعاء الجسم لآليات التخلص من المواد التي تفرزها البعوضة أثناء الوخز, لكن خطرها الحقيقي يتمثل في نقل الكائنات الدقيقة المسببة للأمراض, فمن الممكن أن تنقل فيروسات قد تغزو الجهاز العصبي للإنسان وتسبب الالتهاب السحائي Meningitis أو المخي Encephalitis أو المخي الشوكي Encephalo-myelitis, والعائل الوسيط عادة يكون حيواناً أو طائراً قد تغذت البعوضة من دمائه الملوثة قبل مهاجمة الضحية الجديدة, والحمى المخية مرض خطير ومن علاماته تصلب الرقبة وصعوبة تمايلها للخلف، وظهور تشنجات وعدة أعراض عصبية أخرى، وتصل نسبة الوفيات إلى حوالي 70%, وفي الحمى الصفراء يحطم الفيروس الخلايا الكبدية، ويؤدي إلى صفراء تصاحب الحمى ومن هنا كان الاسم, وحمى الوادي المتصدع ينقلها البعوض ويسببها فيروس يصيب المواشي، وقد يؤدي إلى نفوقها ومن الممكن أن يصيب الإنسان, وتبدأ الأعراض بحمى وحساسية من الضوء وآلام عضلية ووهن شديد وربما نزيف، وقد يؤدي للعمى إذا كتبت النجاة للمريض, والحمى المخية من مضاعفات المرض, ويمكن أن ينتقل للإنسان عن طريق التعامل مع اللحوم المصابة والمواد الإخراجية للحيوان المريض, وقد سجلت الحالات الأولى في كينيا في منطقة الوادي المتصدع ومن هنا كان الاسم, ولكن الحالات المرضية سجلت أيضا في شرق وجنوب أفريقيا وأخيراً عام 2000 في بلدان آسيوية كاليمن والمملكة العربية السعودية، ومع ذلك بقي الاسم كمصطلح علمي على المرض, ومرض (أبو الركب) سببه فيروس ومن أعراضه حمى وطفح جلدي وألم شديد في المفاصل، ولذا يسمى حمى تكسير العظام Break-bone fever, ويتسبب في دخول حوالي 0.5 مليون سنويا إلى المستشفيات ووقوع آلاف الوفيات,(1/233)
وقد ظهر شكل للمرض أكثر عنفا بعد الحرب العالمية الثانية في جنوب شرق آسيا سمي "حمى الركب النازفة" أصاب الأطفال وأدى إلى وفيات عديدة, ويتميز بنزيف حاد من الفم والأنف وظمأ شديد وصعوبة في التنفس, وينتشر الآن في أمريكا الوسطى ويمتد شمالا نحو الولايات المتحدة الأمريكية, وقد سجلت حالاته المرضية في أكثر من 100 دولة, ويظهر هذا المرض خاصة في مارس كل عام؛ نتيجة لتكاثر البعوض في الجو الحار صيفاً, ولا يتوفر لهذا المرض حتى الآن أي لقاح ولا يوجد له أي علاج ناجح, وداء الفيل عبارة عن تورم بعض مناطق الجسم خاصة مناطق القدمين والثديين وكيس الصفن؛ نتيجة انسداد الأوعية الليمفاوية بطفيل الفلاريا. ويتكاثر طفيل الملاريا داخل الكريات الدموية الحمراء, والسبب في النوبات هو الانفجار الجماعي لتلك الكريات المصابة دوريا كل يوم أو يومين أو ثلاثة تبعا لنوع الطفيل وإطلاق مواد غريبة مناعيا هي المسئولة عن دورية الأعراض الرئيسية: قشعريرة وارتفاع في درجة الحرارة، ثم عرق تتبعه فترة راحة بين النوبات, وتستمر نوبة الملاريا في العادة 4 - 10 ساعات, وتبدأ بعد حوالي 8 - 25 يوما من التعرض للبعوض, والطفيل من النوع فالسيبارم P.Falciparum يسبب الملاريا الخبيثة, وقد سميت الحالة كذلك لكونها تؤدي إلى موت حوالي 95% من حالات الملاريا, وبعد تناقص عدد الإصابات نتيجة لاستخدام مستخرجات نباتية تماثل الكينين مثل الكلوروكين Chloroquine بدأت الشكوى مع نهاية القرن العشرين من قلة الفاعلية وزيادة عدد الإصابات من جديد؛ نتيجة تنامي أنواع من الطفيل ذات مناعة مما يحتم استخدام بدائل جديدة, ومن الممكن أن تنتقل الملاريا عن طريق استخدام شخص سليم لنفس الإبرة الطبية التي استخدمها شخص مصاب بدون تعقيمها, مثلما يحدث في حالات إدمان المخدرات باستخدام الإبر، وربما ينتقل المرض كذلك عن طريق نقل الدم, وطبقا لتصريحات منظمة الصحة العالمية مازالت الملاريا تصيب(1/234)
حوالي 400 مليون ضحية سنويا على مستوى الكوكب، وتقتل حوالي 2 مليون شخص معظمهم من الأطفال، ولا يوجد لقاح فعال ضدها حتى الآن. وينتقل مرض الإيدز H.I.V. أساسا عن طريق الفاحشة ولكنه يمكن أن يصيب شخصاً سليماً عن طريق نقل الدم من شخص مصاب, ومع اكتشاف المرض وانتشاره السريع اتهمت البعوضة في نقل الوباء, لكن فيروس الإيدز لا يستطيع العيش داخل البعوضة ولذا لا تستطيع أن تنقله من شخص لآخر, بينما يستطيع طفيل الملاريا العيش داخلها 9 - 12 يوما وفيروس الحمى المخية 10 - 25 يوما, والغالب أن فيروس الإيدز يُهضم في بطن البعوضة مع وجبة الدم في حدود 1 - 2 يوما حيث لا تحتاج البعوضة خلال تلك الفترة إلى وجبة إضافية, والنقل عن طريق تلوث فم بعوضة لم يتهيأ لها إكمال وجبتها غير محتمل؛ لأن الأعداد الحرة للفيروس في الدم قليلة لا تكفي عمليا للإصابة بهذه الكيفية, وبهذا أعفيت البعوضة من الاتهام وكفاها ما تسببه من أمراض.
عجز البشر أمام التحدي:(1/235)
إن البعوضة من أخطر الآفات الحشرية Pests ومازالت تهدد البشرية, وإذا لم يمكن التخلص منها - على الأقل حتى الآن - فهل يمكن محاولة تغييرها وراثيا بحيث تصبح حشرات غير ضارة بالإنسان أو الحيوان وتكف عن تناول وجبات الدم؟ , أو يتوقف نقل الأمراض عن طريقها؟ , أو إحداث تغييرات وراثية في المادة الجينية للكائنات الوبائية التي تنقلها بحيث يتوقف إحداثها للأمراض؟ , تعكس مثل تلك التساؤلات الجريئة التي يطرحها المختصون العجز حاليا أمام إمكانات البعوضة، وتحمل في طياتها آفاقا محتملة من التغير البيئي الذي قد يمتد ليشمل جميع الآفات على الكوكب، والذي لا يعلم اليوم مداه أحد إلا الله سبحانه وتعالى وحده. ولقد طالت هجمات البعوضة أكثر الدول تقنية, وعلى سبيل المثال قد انتشرت فجأة في أغسطس عام 1995 في نيوجرسي بالولايات المتحدة الأمريكية بعوضة عدوانية لسعاتها مؤلمة تهاجم بشراسة حتى في وضح النهار, ولأن موطنها الأصلي هو آسيا ولعدوانيتها الشديدة وتخطيط جسمها تسمى بالنمر الآسيوي Asian tiger, وهي من نوع الإيديز Aedes albopictus, وقد ظهرت لأول مرة في الولايات المتحدة عام 1985, فقد بدأت انتشارها بعد الحرب العالمية الثانية في هاواي ومناطق المحيط الهادئ، ولكنها أخيراً وجَّهت زحفها نحو الولايات المتحدة الأمريكية, وتتكاثر تلك البعوضة سريعاً جداً؛ لأنها لا تحتاج لكميات ماء كثيرة كي يفقس بيضها، وتكفيها أية بقايا متجمعة في أواني مهملة كالإطارات القديمة للسيارات أو بقايا مياه المطر المتجمعة في فجوات الأشجار، ولذا تصعب مقاومتها عملياً, وتستطيع أن تنقل فيروسات مرض (أبو الركب) والحمى المخية في الإنسان والحيوان. ومع خرق التوازن البيئي بتقلص مساحة الغابات والمناطق الزراعية وانطلاق أدخنة المصانع بكميات وفيرة من الغازات المؤثرة مثل ثاني أكسيد الكربون في الجو تزداد كمية حرارة الكوكب بنسبة ملحوظة نتيجة عدم قدرة الحرارة المنعكسة منه(1/236)
على الهروب, وهذا يسمى تأثير البيت الزجاجي؛ لأنه يماثل ما يحدث في بيت الزجاج المستخدم لإنتاج نباتات تحتاج لحرارة أكثر, ويتوقع أن يزداد المعدل الوسطي لحرارة الكوكب حوالي 1 - 3.5 درجة مئوية بحلول عام 2100 ميلادية, ولذا يتوقع زيادة أعداد البعوض وارتفاع نسبة الأمراض التي يسببها، إذا لم يمكن اتخاذ إجراءات وقائية حاسمة على مستوى الكوكب، وتعاون الجنس البشري في مواجهته.(1/237)
دعوى عدم إمكانية تطبيق القرآن
المجيب عبد الرحمن بن ناصر البراك
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 10/9/1424هـ
السؤال
ما رأي فضيلتكم في هذه العبارة: قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يطبقوا هذا القرآن لا يستطيعون تطبيقه كاملاً، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً؟
الجواب
الحمد لله، هذه المقولة دعوى لا دليل عليها، والله تعالى إنما أخبر عن عجز الإنس والجن أن يأتوا بمثل القرآن، ولم يخبر سبحانه وتعالى عن عجز الإنس والجن أن يعملوا بهذا القرآن، ولا ريب أن مجموع من آمن من الجن والإنس قد عملوا بكل ما في القرآن من الأوامر والنواهي، نعم الواحد من المؤمنين يمكن أن يقال إنه عاجز عن العمل بكل ما في القرآن على وجه التمام، ولهذا قال سبحانه وتعالى: "فاتقوا الله ما استطعتم" [التغابن: 16] فغاية ما يفعله العبد من طاعة الله ما كان مستطيعاً له وهذا ما كلفه الله به، ولهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاقتصاد في العبادة، وقال: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا" أخرجه البخاري (69) ، ومسلم (1734) من حديث أنس - رضي الله عنه- وقال: "القصد القصد تبلغوا" أخرجه البخاري (6463) ، وانظر صحيح مسلم (2816) . وقال - صلى الله عليه وسلم - " إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا " أخرجه البخاري (39) ، وانظر صحيح مسلم (2816) .، والحاصل أن هذه العبارة المسؤول عنها من خيال من اخترعها، واقتبس لفظ القرآن قالباً لها، فكان بهذا مخطئاً لفظاً ومعنى، والله أعلم.(1/238)
الإعجاز العددي في القرآن
المجيب د. ناصر بن محمد الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 18/7/1424هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هل في القرآن إعجاز عددي مثل ذكر الحديد، أو عدد ذكر الرجل والمرأة، وغيرها؟.
الجواب
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعد، وبعد:
فالكلام عن مصطلح الإعجاز العددي يحتاج إلى دارسة وافية ونظر متأمل، فالكلام حوله كثير والدراسات المعاصرة متعددة ـ وفي الحق ـ فإن من الصعوبة أن أختصر الكلام في هذه المسألة، لأنها تحتاج إلى بسط ومزيد إيضاح، ومع هذا فسأجتهد وُسْعِي أن أختصر الكلام، وألخصه في نقاط بما يحضرني، مع يقيني أن المسألة تحتاج إلى مزيد من البحث والعناية، والله المسئول أن يعصمنا من زلل الرأي وخطل القول:(1/239)
أولا/ مصطلح (الإعجاز العددي) مصطلح متأخر بدأ تداوله في العصر الحديث، غير أن الباحث ربما وجد عند المتقدمين ما يمكن أن يسمى إرهاصات له، واستحضر الآن مثالين على ذلك، أولها ما أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (2172) والبيهقي في السنن الكبرى (4/213) والحاكم في المستدرك (1639) وصححه عن ابن عباس قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدعوني مع أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ويقول لي: لا تتكلم حتى يتكلموا، قال: فدعاهم وسألهم عن ليلة القدر قال: أرأيتم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: التمسوها في العشر الأواخر، أي ليلة ترونها؟ قال: فقال بعضهم: ليلة إحدى، وقال بعضهم: ليلة ثلاث، وقال آخر: خمس، وأنا ساكت فقال: ما لك لا تتكلم؟ فقلت: إن أذنت لي يا أمير المؤمنين تكلمت، قال فقال: ما أرسلت إليك إلا لتتكلم، قال: فقلت: أحدثكم برأيي! قال: عن ذلك نسألك، قال فقلت: السبع، رأيت الله ذكر سبع سماوات، ومن الأرضين سبعا، وخلق الإنسان من سبع، وبرز نبت الأرض من سبع. قال فقال: هذا أخبرتني ما أعلم أرأيت ما لا أعلم ما قولك: نبت الأرض من سبع، قال فقلت، إن الله يقول "شققنا الأرض شقا" [عبس:26] إلى قوله: "وفاكهة وأبا" [عبس:31] والأب نبت الأرض مما يأكله الدواب ولا يأكله الناس، قال: فقال عمر - رضي الله عنه -: أعجزتم أن تقولوا كما قال هذا الغلام الذي لم يجتمع شؤون رأسه بعد، إني والله ما أرى القول إلا كما قلت، قال وقال: قد كنت أمرتك أن لا تتكلم حتى يتكلموا وإني آمرك أن تتكلم معهم. فابن عباس - رضي الله عنهما - نظر إلى تكرر رقم سبعة في عدد من آيات القرآن الكريم، مما يدل على أن له معنى خاصا، فجعله أمارة يستنبط منها أن ليلة القدر الوارد ذكرها في قوله تعالى:"إنا أنزلناه في ليلة القدر" [القدر:1] هي ليلة السابع من العشر الآواخر من رمضان، وهذا لا يمنع أن يكون - رضي الله عنه- استند في فهمه إلى قرائن أخرى.(1/240)
والثاني: أننا نجد عند بعض المفسرين من السلف ومن بعدهم محاولات لبيان معنى حروف التهجي التي افتتح بها بعض سور القرآن الكريم معتمدين في ذلك على حساب الجمل (وهو ما كان يعرف عند العرب قديما من وضع قيمة رقمية لكل حرف عربي حسب ترتيب (أبجد هوز) ويسمونه: حساب الجمل) ، وانظر في هذا إلى ما أشار إليه الألوسي وابن عاشور في تفسيرهما رحمهما الله، ولا يضيرنا أن تكون تلك المحاولات قد أصابت الحق أو أخطأته، لأن المراد البحث في نشأة هذا النوع من الدراسة.
إلا أن هذا المصطلح قد أحاط ظهوره في العصر الحديث كثير من الدخل والدخن؛ فالحسابات العددية ارتبطت بالبهائية (وهي أحد الفرق الباطنية الضالة) وعلى تلك الحسابات اعتمد ـ الهالك ـ رشاد خليفه في دعوى النبوة، وهذا الارتباط مع عوامل أخرى، جعل كثيراً من الدارسين يقف من هذا الاتجاه الحادث موقف الريب، وينزع فيه منزع الشك، ومن أبرز العوامل ـ أيضا ـ ما اتسمت به كثير من الدراسات المتعلِّقة بالإعجاز العددي من مظاهر التكلف وصور التمحل وافتقاد المنهجية المطردة المنضبطة، مما يُجل القرآن الكريم عنه، إلى عوامل أخرى ربما ورد ذكرها في ثنايا الكلام.
ثانيا: عند النظر في مصطلح (الإعجاز العددي) نجده يتركب من جزأين: الإعجاز، والعدد. والأمر المعجز: هو الشيء الذي لا يُستطاع ويُعجز عنه، قال في القاموس عند تعريف المعجزة: هي ما أعجز به الخصم عند التحدي. والعد والعدد: الإحصاء، ويُراد به هنا الأرقام المعروفة التي يُعد بها ويُحصى.
وبهذا يظهر أن مصطلح الإعجاز العددي يراد به ـ وبحسب ما تبين لي من خلال الدراسات المتعلقة به ـ أنه: ((ما ورد في القرآن الكريم من إشارات إلى حقائق كونية بطريق الحساب العددي))
ومن خلال هذا يتبين أن مصطلح الإعجاز العددي يتألف من ركنين أساسين:
أولهما: أن يكون أمراً معجزاً ليس في مقدور البشر المجيء بمثله.(1/241)
الثاني: أن يكون الأمر المعجز معتمدا على الأرقام والأعداد.
إن معرفة هذين الركنين في مصطلح (الإعجاز العددي) أمر أساس فلكي، يصح أن نطلق على ذلك النوع من الدراسات أنها من قبيل البيان لما في القرآن الكريم من إعجاز عددي، فيجب أن يتوفر فيها هذان الركنان، الأول: أنها أمر معجز، والثاني: أنها تعتمد على لغة الأرقام والأعداد.
وبهذا يظهر لنا جليا الخلل الكبير الذي اتسمت به كثير من الدراسات المتعلقة بهذا النوع من الإعجاز، وقد أشار السائل الكريم إلى مثال على هذا، وهو تساوي ذِكْر الرجل والمرأة في القرآن الكريم أو تساوي ذكر الدنيا والآخرة، أو الملائكة والشياطين، فهذه أمور ذكرها من كتب في الإعجاز العددي مستشهدا بها على ما في القرآن الكريم من إعجاز عددي، وهذه الأمثلة ونحوها لو سُلِم بصواب عَدِها وانضباطها مع أن فيها نظر ـ فهي ليست مما يندرج ضمن الأمور المعجزة التي لا يُقدر عليها، فأنت مثلا تستطيع أن تؤلف كتابا ضخما وتتعمد أن تراعي تساوي عدد المرات التي تذكُر فيها لفظ الرجل والمرأة، أو لفظ الدنيا والآخرة، أو لفظ الملائكة والشياطين، فمثل هذا لا خلاف أنه في مقدور كل أحد أن يفعله، وإذاً فهو ليس أمراً معجزا، فلا يصح أن يدرج في البحوث المتصلة بالإعجاز العددي. لأنها غير معجزة أصلاً، وربما ازداد الأمر وضوحاً في الفقرة الرابعة.(1/242)
ثالثا/ أما ما يتعلق بالحكم الشرعي على هذا النوع من الدراسات الحديثة، فقد أبدى كثير من المختصين في الدراسات القرآنية تحفظهم الشديد على هذا النوع من البحوث المتصلة بالقرآن الكريم، بل رأينا المبالغة في النكير على القائلين به والداعين إليه، حتى خرج البحث عن المسار العلمي إلى نطاق يتعلق بالأشخاص، وهذا شطط لا موجب له. وربما أثر في هذا ما أحاط نشأته من إشكالات وما اتسمت به كثير من دراساته بالتكلف والتمحل ـ كما سبق الإشارة إليه ـ إننا قبل أن نطلق الحكم الشرعي على هذه المسألة يجب أن نطرح سؤالاً منهجياً مهماً وهو: هل هذه (الأعداد المعجزة) التي يُذكر أنها في القرآن الكريم، والتي تشير إليها البحوث والدراسات المعاصرة جائزة الوقوع عقلاً، بحيث لا يمتنع وقوعها عقلا في القرآن الكريم، وبمعنى آخر هل هناك ما يمنع من ورود أرقام وأعداد تحسب بطريقة ما فتدل على حقائق علمية وكونية، إن هذا سؤال جوهري، الإجابة عليه بشكل علمي تزيل كثيراً من الحرج، وترفع كثيراً من اللبس في هذه المسألة، والظاهر عندي أن هذا الأمر جائز الوقوع عقلاً؛ لأنه لا يوجد ما يحيل وقوعه لا من حيث نصوص الشرع، ولا من حيث جريان العادات والسنن، كما أنه تعالى لا يعجزه شيء ولا يعزب عنه مثقال ذرة، وعدم وجود المانع دليل على الجواز قطعا، على أنه لا تلازم بين الجواز العقلي والوقوع الفعلي، إذ ليس كل ما يجوز عقلاً يقع فعلاً، وهذا لا إشكال فيه بحمد لله.(1/243)
ومتى صار بنا البحث إلى التسليم بجواز وقوعه عقلاً، فلا معنى للقول بمنعه والحكم بتحريمه ابتداءً، لأنه ممكن الوقوع، ومتى ما وقع صار ذات الوقوع دليلاً على جوازه شرعا، مثال ذلك: حينما نقول: يجوز عقلاً ورود إشارة في القرآن الكريم إلى إحدى الحقائق الكونية التي كشفها العلم الحديث، فلا يلزم منه أن ترد في القرآن الكريم، لكن متى ما وردت كان ذلك الورد بعينه في القرآن دليلاً على جواز البحث القرآني في مثل هذه المسائل شرعا وصحة القول بها، وكذا الحال هنا في المسألة محل البحث، وهذا يجعلنا على حذر من المسارعة إلى الإنكار والتحريم لهذا النوع من الدراسات، معتمدين في ذلك على ما نراه من دراسات جانبت الصواب؛ لأن الإنكار والتحريم سيذهب سُدى بمجرد أن تظهر دراسة علمية رصينة تكشف دلالة الحساب العددي في القرآن الكريم على حقيقة علمية ما، لا سبيل إلى ردها أو التشكيك فيها، إلا بنوع من المكابرة.
ـ وفي الحق ـ فلا تلازم بين القول بجواز هذا النوع من الدراسة من حيث النظر العقلي وتصحيح البحوث الموجودة اليوم، بل فيها ما هو باطل قطعاً، وفيها ما دون ذلك مما يحتاج إلى مزيد من النظر، وإنما المقصود بحث هذه المسألة بحثاً علمياً مجرداً عن تطبيقاتها الحالية.(1/244)
رابعا/ من المسائل المهمة التي وقع خلل كبير نتيجة عدم الوعي بها، أن كثيراً من الدراسات ذات الصلة بموضوع الإعجاز العددي، لا تفرق بين ما توفر فيه ركنا الأمر المعجز ـ كما تقدم في الفقرة الثانية ـ وبين ما أخل بهذين الركنين أو أحدهما، فأدخلوا بعض الحسابات العددية التي توصلوا لها وفق عملية حسابية معينة ضمن إطار الإعجاز، وهذا إخلال في المنهج، وقد مَرّ قريبا في الفقرة الثانية ضرب بعض الأمثلة على هذا الأمر، ومن الأمثلة كذلك قول بعضهم: إن لفظة الجهر ورد في القرآن (16) مرة، مساويا لفظ العلانية، ولفظ إبليس وردت (11) مرة ويساويه لفظ الاستعاذة بالله، ولفظ الرغبة بلغ (8) مرات ويساويه لفظ الرهبة، فهذه وأمثالها ـ كما مر ـ ليست أمرا معجزا لا يُقدر عليه؛ لأن كل أحد يقدر على هذا، وإذاً فمثل هذه التوافقات العددية في القرآن الكريم ليست من الإعجاز، ويمكن أن نطلق عليها مصطلح الظاهرة العددية في القرآن الكريم، فهي حقيقة ظواهر عددية في القرآن الكريم، وليست أمراً معجزاً يدرج ضمن بحوث الإعجاز العددي، وعليه فيجب أن يفرق بين الظاهرة العددية في القرآن وبين الإعجاز العددي فيه.
ولا يفهم من هذا النهي عن الاشتغال بمثل هذه الظواهر العددية، ذلك أن السلف قديماً أحصوا حروف القرآن الكريم بشكل دقيق، وتفننوا في ذلك وشققوا المسائل فيه وفرعوا، فلنا فيهم أسوة، وإنما أردت القول إنها ليست من ضمن البحث الإعجازي في القرآن الكريم.(1/245)
خامسا/ من خلال ما قرأته من دراسات تتعلق بموضوع الإعجاز العددي ظهر لي بشكل جلي ـ وأعتقد أن كثيراً من المختصين يشاركونني هذا الرأي ـ أن هذا النوع من الدراسات يفتقر إلى المنهجية العلمية التي تحكم مساره وتضبط أبحاثه، ولا سيما أن هذا النوع من الدراسات قد يتأثر بمقررات عند الباحث سابقة لدراسته، قد تجعله ـ حتى من غير قصد ـ يتحكم في مسار البحث واتجاه الدراسة، ومن صور افتقاد المنهجية اعتماد بعض الدراسات على بعض المسائل الخلافية المتصلة بالقرآن الكريم التي لم يزل الخلاف فيها بين أهل العلم قائماً، نحو رسم المصحف وترتيب السور، حيث وجدت أن بعض من كتب في هذا المجال يصرح بشكل واضح أنه ينطلق في أبحاثه من اعتبار رسم المصحف أمراً توقيفياً، وهذه المسائل الخلافية وإن كان المرء ربما يرجح فيها قولا ما، فمن الصعب أن يجعل اختياره وترجيحه أساسا منهجيا يُبنى عليه دراسات علمية، بل قد رأيت من تلك الدراسات ما يعتمد على بعض ما أُحدث في رسم المصحف الشريف من الأحزاب والأجزاء، وهذا خلال منهجي خطير؛ لأن هذه الأحزاب والأجزاء أمور حادثة من صنع البشر، بل هي مخالفة لما كان عليه الشأن في عصر النبوة، حيث اشتهر أن القرآن الكريم كان يقسم إلى الطوال والمئين والمثاني والمفصل، فهذه الأمور المحدثة في رسم المصحف ليس لها العصمة التي لكلام الله حتى يبنى عليها وتجعل مأخذا ومنزعا لما يسمى بالإعجاز العددي؛ لأن الباحث ينطلق مما للقرآن الكريم من عصمة باعتباره كلام الله جل وعلا، فيجعله دليلا يرشده إلى حقائق كونية أو مسائل غيبية، ولولا هذه العصمة لم يصح استدلاله، فكيف يساوى هذا بما هو من اجتهاد البشر وصنعهم.
ومن الأمثلة التي نُذَكِر بها هنا ما تردد كثيراً بعد الأحداث التي وقعت في أمريكا، واستدلال بعضهم عليها بما ورد في سورة التوبة، معتمدين في جزء من قوله على هذه الأجزاء والأحزاب.(1/246)
ومما يذكر في هذا الصدد، أن تكون الدراسات التي يتوصل لها الباحث ذات قيمة علمية، أي أن تكون ذات معنى علمي مفيد مهما كان مجاله، سواء، شرط أن تكون ذات قيمة علمية أو فائدة عملية، وإلا كانت عبثا ينزه كلام الله عنه، وتصان الدراسات المتعلقة به عن مثله، وهاك مثالاً ذكره أحد أشهر المهتمين بالدراسات العددية في القرآن الكريم حيث يقول: إنّ سورة النمل تُستهلّ بـ (طس) وقد لفت انتباهنا أنّ حرف الطاء يتكرر في السورة 27 مرّة، وهذا هو ترتيب سورة النمل في المصحف، وأنّ تكرار حرف السين في سورة النمل هو 93 وهذا هو عدد آيات السورة، وأن المجموع هو: (27+ 93) = 120 وهذا هو جُمّل كلمة (نمل) " أ. هـ كلامه، ويريد بقوله (جمل) أي حساب الجمل الذي تقدم بيانه، فهذا المثال على فرض التسليم بصحة ما تضمنه من أرقام وحساب، فإن المحصلة النهائية له ليست ذات قيمة علمية أو عملية، فضلاً عن أنها ليست أمراً معجزاً في ذاتها، فأين هذا من وصف ربنا جل وعلا لكتابه الكريم بقوله: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) .
سادسا/ وأخيراً أود أن أختم هذا الكلام بذكر بعض التنبيهات.
أولها: يجب أن لا يغيب عن النظر ونحن ندرس ما في القرآن الكريم من تلك الإشارات الكونية أو الغيبية، أن القرآن الكريم لم ينزل ليكون كتاب علوم كونية أو دلالة على حوادث غيبية، بل هو كما أخبر جل وعلا كتاب هداية وبيان وإيضاح ورشاد، فلا يضير القرآن الكريم أن لا يوجد فيه شيء من تلك المسائل، إذاً فنحن لسنا بحاجة إلى أن نتكلف أمراً لم يدل عليه القرآن الكريم بشكل جلي.(1/247)
ثانيا/ رأينا بعض الدراسات التي تتعلَّق بمسائل غيبية أوحوادث مستقبلة ـ وفي الحق ـ فهذا دحض مزلة، ومسلك خطر، لا تُأمن فيه السلامة، ولم يزل الدجل والإفك يقترن بما اتصل بالغيبيات والأمور المستقبلة من بحوث ودراسات، ومسائل الغيب قد حجبها الله عن عباده إلا من ارتضى من رسله، فينبغي أن تنزه البحوث المتعلقة بالقرآن الكريم عن الخوض في هذا البحر اللجي.
ثالثا: كثير من المحاولات التي نراها اليوم يقوم بها أناس فيهم غيره ومحبة لهذا الدين، لكنهم ليسوا على علم راسخ بالقران الكريم، ولا معرفة بالأدلة الشرعية والأصول المرعية، وأهل العلم مجمعون على أن الناظر في كلام الله عز وجل ـ حتى يجوز له الكلام فيه ـ لا بد أن يستجمع أموراً معروفة ويحقق شروطاً معلومة، ومن نتائج الخلل في هذا الجانب والقصور فيه، أننا رأينا بعض الدراسات تنطلق من قناعات سابقة في أمر ما، تكون حكما على القرآن الكريم، حتى إنك ترى الباحث يتكلَّف ويتمحَّل في البحث والاستنتاج حتى يصل إلى تلك النتيجة المقررة عنده سلفا.
وأخيرا فلعلك ـ أيها السائل الكريم ـ قد تبيَّن لك أن مسألة الإعجاز العددي أمر جائز الوقوع عقلاً، ولا يوجد ما يمنع من ورود ما يؤيده في القرآن الكريم، غير أن التكلُّف والتمحُّل في الإبحاث ذات الصلة وافتقاد المنهجية شابت كثيراً من تلك الدراسات، مما يجعل المرء على حذر من قبولها مطلقا دون فحص ونظر.
هذا، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(1/248)
السور التي جاءت أحاديث صحيحة في فضلها
المجيب د. محمد بن سريّع السريّع
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 23/4/1424هـ
السؤال
ما هي السور التي ورد في فضائلها أحاديث صحيحة؟.
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فللإجابة عن هذا السؤال نضع النقاط التالية:
أولاً: موضوع فضائل القرآن الكريم وسوره وآياته قد ألف فيه العلماء قديماً وحديثاً تصانيف مستقلة، ومن أجود هذه التآليف كتاب فضائل القرآن لأبي عبيد القاسم بن سلام، وفضائل القرآن للنسائي، ومن كتب المعاصرين كتاب (موسوعة فضائل سور وآيات القرآن) للشيخ محمد بن رزق الطرهوني، وهو كتاب معتبر في بابه.
ثانياً: وردت أحاديث متعددة في فضائل لبعض السور، ومن هذه السور: سورة الفاتحة والبقرة، وآل عمران، والأنعام، والإسراء، والكهف، والملك، والزلزلة، والكافرون، والصمد، والفلق، والناس، وهذا على سبيل المثال لا الحصر.
ثالثاً: وردت أحاديث في فضل سورة واحدة، ووردت أحاديث فيها بيان فضيلة سورتين أو أكثر، فمن الأول قوله - صلى الله عليه وسلم- عن الفاتحة: "والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور، ولا في الفرقان مثلها، وإنها سبع من المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته" رواه الترمذي (2875) ، وأصله في البخاري (4704) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه- وقوله - صلى الله عليه وسلم-: "إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة" رواه مسلم (780) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه-.
ومن المثاني ما جاء في حديث أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اقرؤوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما، اقرؤوا سورة البقرة، فإن أخذها بركةٌُُ، وتركها حسرةٌُ، ولا تستطيعها البطلة" رواه مسلم (804) . والله أعلم.(1/249)
تفسير البيضاوي
المجيب د. عبد اللطيف بن إبراهيم الحسين
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 15/10/1424هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هل تفسير البيضاوي من التفاسير الموثوق بها؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
وعليكم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تفسير البيضاوي تفسير متوسط الحجم جمع فيه صاحبه -رحمه الله- بين التفسير والتأويل على مقتضى قواعد اللغة العربية، وقد اختصره من تفسير الكشاف للزمخشري، وترك ما فيه من اعتزالات، وأحياناً يذهب إلى ما قال صاحب الكشاف.
وجملة القول: إن تفسير البيضاوي من أمهات كتب التفسير، التي لا يستغني عنها الباحث المتخصص في التفسير أو طالب العلم المتمكن؛ الذي يميز الغث من السمين.
أما غير المتخصص فأنصحه بقراءة تفسير ابن كثير، أو اختصاره لمحمد نسيب الرفاعي، وغيره من كتب التفسير الموجزة، والله الموفق.(1/250)
القول بأن للقرآن ظاهراً وباطناً
المجيب د. رشيد بن حسن الألمعي
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك خالد
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 30/4/1424هـ
السؤال
ما معنى القول بأن القرآن له ظاهر وباطن؟ وما حكم من قال به؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فهذا القول من أقوال الباطنية، المعروف من تاريخهم وسيرهم العمل على هدم الشرائع عموماً وشريعة الإسلام على وجه الخصوص، وقد كتب زعيم لهم يدعى عبيد الله بن الحسن القيرواني إلى سليمان بن الحسن بن سعيد الجنابي رسالة طويلة جاء فيها (وإني أوصيك بتشكيك الناس في القرآن والتوراة والزبور والإنجيل وتدعوهم إلى إبطال الشرائع، وإلى إبطال المعاد والنشور من القبور، وإبطال الملائكة في السماء، وإبطال الجن في الأرض..) انظر الفرق بين الفرق ص 280.
والباطنية يقولون: (إن للقرآن ظاهراً وباطناً والمراد باطنه دون ظاهره المعلوم من اللغة، ونسبة الباطن إلى الظاهر كنسبة اللب إلى القشر، والمتمسك بظاهره معذب ... وباطنه مؤد إلى ترك العمل بظاهره) .
وقد ذكر الشاطبي في الاعتصام 2/68 أن اعتماد فعل هذه الفرق على التأويل إنما أرادوا به ضرب شوكة الإسلام في تأويل الشرائع على وجوه تعود إلى قواعد أسلافهم.
وحاصل القول أن دعوى أن للقرآن ظاهراً وباطناً، وأن المراد باطنه دون ظاهره من أبطل الأقوال التي فصل القول في إبطالها العلماء وردوا مزاعمها منذ نشأتها، وانظر للمزيد الكتب التي عنيت بدراسة الفرق والملل، وانظر كتاب التفسير والمفسرون، لمحمد حسين الذهبي ج2 /240 والله الموفق.(1/251)
الاتكاء على رفوف المصاحف
المجيب د. سليمان بن وائل التويجري
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 27/04/1425هـ
السؤال
ما حكم استدبار المصحف؟ حيث إن بعض الإخوة -خاصة في المساجد- يستندون بظهورهم على المصاحف الموجودة على الرفوف، وهل يجب ترك مسافة فاصلة بين ظهر الشخص والمصاحف؟
الجواب
احترام المصحف واجب؛ لأنه يحتوي على كلام الله - جل وعلا- الذي هو خير الكلام، الذي لا يمسه إلا المتطهر من جميع الأحداث والأنجاس، وأما كون الإنسان يستند إلى رفوف فيها مصاحف فأرجو إن شاء الله ألا شيء في ذلك، إذا كان لم يقصد احتقارها بالاستدبار، وإنما وضعت هكذا خلف المصلين، واتكأ على الرفوف ولم يتكئ على المصاحف، فالمصحف لا يُتكأ عليه ولا يستند عليه، وإنما على الأرفف ونحوها، فأرجو إذا كان بهذه الصورة ألا شيء فيه، أما أن يتكئ على المصاحف فلا؛ لأن هذا فيه نوع استهانة بها. والله ولي التوفيق.(1/252)
رفض أبوها حضورها حلقات التحفيظ، فهل تعصيه؟
المجيب د. سليمان بن وائل التويجري
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 27/08/1425هـ
السؤال
أحضر حلقات القرآن الكريم والتفسير- بدون علم والدي؛ لأنه لا يرى تعلم المرأة ذلك، وقد تعلمت كثيرًا من القرآن، وبدأت أدرسه، هل ترون جواز استمراري في ذلك بالنظر لعدم علم والدي عن ذلك؟.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
الاهتمام بحفظ القرآن وتفهمه، ومعرفة تفسيره، هذا من أساسيات الدين، والقرآن هو خير كتاب، وخير كلام، وفيه الكلام العدل، والحكم بالحق، والدلالة على الهدى والرشاد، وحفظ الإنسان لقدر يقرؤه في صلاته أمر واجب، وحتم على كل مسلم ومسلمة، واهتمام الإنسان رجلاً أو امرأة بحفظه من علامات التوفيق والسعادة له، وأما كون ذلك بدون علم والدها، فإذا كان خروجها من منزلها يعرضها لخطر وفتنة، أو إلحاق ضرر بها، فإنه لا يجوز لها الخروج، وإذا كان لا يترتب عليه شيء من الأضرار والمفاسد فلا بأس بخروجها لأجل أن تحفظ القرآن في مكان مصون، ولا تتعرض فيه للفتنة، وبهذه المناسبة أنصح السائلة أن تحاول إقناع والدها بأهمية حفظها للقرآن هي وغيرها من أهلها وغيرهم، بل وهو، وأن حفظ القرآن ينبغي أن يهتم به الجميع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خَيْرُكُمْ مَن تعَلَّم القُرآنَ وعلَّمه". أخرجه البخاري (5027) ، والقرآن يأتي شفيعًا لأصحابه يوم القيامة، تقدمه البقرة وآل عمران، تُحَاجَّان عَن صاحبهما. انظر صحيح مسلم (805) . ويقال يوم القيامة لحافظ القرآن: "اقْرَأْ وارْقَ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنتَ تُرَتِّلُ في الدُّنيا؛ فإنَّ مَنْزِلَتَكَ عِندَ آخِرِ آيةٍ تَقْرَؤهَا". أخرجه أحمد (6799) والترمذي (2914) . وبالله التوفيق.(1/253)
فضائل سورة المزمل
المجيب عبد الحكيم بن عبد الله القاسم
عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 01/08/1425هـ
السؤال
السلام عليكم.
هل هناك فضائل زائدة لقراءة سورة المزمل؟ البعض يقولون إن قراءتها مائة مرة يكون معها فضائل أخرى.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
لم أقف على دليل صحيح يدل على فضيلة خاصة لقراءة سورة المزمل، كما لم أقف على دليل صحيح أو ضعيف يدل على فضيلة لتكرارها بعدد معين كمائة مرة، كما في السؤال.
وجاء في حديث موضوع مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم: "من قرأ سورةَ المزمِّلِ دفَع اللهُ عنه العُسْرَ في الدنيا والآخِرةِ".أخرجه ابن مردويه في تفسيره، والواحدي في الوسيط-كما في تخريج الكشاف 4/112-113. وهذا لا يصح، فقد اعترف راويه بأنه كذب ووضعه ليرغب الناس في القرآن!.
وقد وقفت على حديث متعلق بجملة من آية سورة المزمل الأخيرة وهي قوله تعالى: (فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) [المزمل:20] . قال ابن كثير في تفسيره (4/44) : وقال الطبراني (10940) : حدثنا أحمد بن سعيد بن فرقد الجدي: حدثنا أبو حمة محمد بن يوسف الزبيدي: حدثنا عبد الرحمن بن طاوس، من ولد طاوس، عن محمد بن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن طاوس، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) . قال:"مائة آية ".
وقال ابن كثير: هذا حديث غريب جدًّا لم أره إلا في معجم الطبراني رحمه الله تعالى. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/130) : رواه الطبراني، وفيه عبد الرحمن بن طاوس، ولم أعرفه، وبقية رجاله وثقوا. ا. هـ. فالحديث ضعيف أيضًا.
والذي يظهر أن التكرار مائة مرة منكر؛ لمخالفته المعهود من نصوص الشرع الدالة على فضائل سور وآيات وغالبها ليس فيه تكرير، وما وجد فيه تكرير لآي القرآن أو سوره، فليس أكثر من ثلاث مرات إذ لم يصح تكرار شيء من القرآن فوق ذلك والله أعلم.
وعليه، فالأصل في قراءة سورة المزمل الحديث العام في فضيلة قراءة القرآن، وهو عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَرَأ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، والحسنةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لا أَقُولُ (الم) حَرْفٌ، ولكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ ولَامٌ حَرْفٌ ومِيمٌ حَرْفٌ". أخرجه الترمذي (2910) وقال: حديث حسن صحيح غريب.
ومن السور التي ثبت أن لها فضائل خاصة بأدلة صحيحة: سورة الفاتحة، والبقرة، وآل عمران، والكهف، والملك، والإخلاص، والمعوذتان [أعني سورتي: الفلق والناس] ، ومن الآيات: آية الكرسي [البقرة 255] ، والآيتان من آخر البقرة [285-286] . وفقنا الله وإياك لاتباع الصحيح من سنة محمد صلى الله عليه وسلم وترك ما سواه.(1/254)
ختم القرآن كتابةً بالمنتديات
المجيب د. رياض بن محمد المسيميري
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 26/12/1424هـ
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
شاع وجود الكثير من المنتديات واختلفت من حيث المحتوى، سؤالي -جزاكم الله كل الجزاء- إنه خلال تواجدي بأحد المنتديات لاحظت وجود مواضيع تحت عنوان (فلنختم القرآن بهذا المنتدى) ، علماً بأن المنتدى منتدى عام، توجد فيه أقسام متعددة، علماً بأن الكاتب لعدد من آيات القرآن الكريم قد لا يكون بموضع طهارة،
فهل يجوز طرح مثل تلك المواضيع مع جواز المشاركة فيها؟ جزاكم الله ووفقكم لما فيه خير لهذه الأمة.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وبعد: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. وبعد:
إذا كان الغرض من ختم القرآن بالمنتدى المذكور هو تحفيز المشاركين على التعاون على حفظ كتاب الله، واستحضار الآيات فلا يظهر لي بهذا الفعل محذور، ولا يضر كتابة الآيات بلا طهارة؛ لأن الممنوع عند بعض العلماء مس المصحف الشريف بلا طهارة، أما كتابة الآيات وتلاوتها لمن تلبس بحدث أصغر فلا شيء في ذلك، وفقك الله وأعانك. والسلام عليك.(1/255)
قراءة القرآن بعد الصلاة
المجيب د. سالم بن محمد القرني
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 25/7/1424هـ
السؤال
أنا أقوم بقراءة القرآن بعد الصلاة فهل ذلك بدعة؟ كما أني أكثر من قراءة سورة يس؛ لأنها تساوي قراءة القرآن عشر مرات فهل ذلك بدعة؟
الجواب
السنة بعد الصلوات قراءة الأذكار الواردة، وقراءة القرآن في كل وقت لا بأس بها، وأفضل ذلك في الفجر لقوله تعالى: "وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً" [الإسراء: من الآية78] .
والإكثار من قراءة يس أمر طيب، بشرط ألا يهجر بقية القرآن، فقد روى أنها قلب القرآن وأنها تقرأ عند الموتى، وأنه يغفر لقارئها في ليلة ابتغاء وجه الله.(1/256)
كتابة الآيات على التحف
المجيب د. رفعت فوزي عبد المطلب
رئيس قسم الشريعة بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 24/06/1426هـ
السؤال
ما حكم عمل البنات في (البازارات) في بيع كل من: أوراق البردي - خرطوشة تعلَّق في سلسلة أو ميدالية - تماثيل فرعونية - شماغ ـ جلاليب ـ فضيات بعضها مكتوب عليه آيات قرآنية، وبعضها مرسوم عليه فراعنة؟ وماذا لو تجنَّبت بيع التماثيل أو المرسوم عليه فراعنة؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أولاً: إذا دعت البنتَ ضرورة للخروج للعمل، كأن لم يكن لها من يكفيها مؤنة الحياة، فعليها الالتزام بالآداب الشرعية، كلبس الحجاب الشرعي، وأن تراعي عدم الاختلاط بالرجال الأجانب عنها؛ درءاً لفتنة الاختلاط، وألا تعمل في مجال محرَّم،
ثانياً: العمل في هذه (البازارات) إذا انطبقت عليه الشروط الشرعية السابقة فلا بأس، لكن بشرط تجنب بيع التماثيل، فبيع مثل ذلك لا يجوز؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام"، قالوا: يا رسول الله: أرأيت شحوم الميتة فإنها يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: "لا، هو حرام". ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك: "قاتل الله اليهود؛ إن الله لما حرَّم شحومها جملوها ثم باعوها وأكلوا ثمنها" صحيح البخاري (2236) ، صحيح مسلم (1581) .
أما بيع ما سوى ذلك فالأصل الإباحة، وللمرأة المسلمة أن تبيع وتشتري ولا حرج.
أما كتابة بعض آيات القرآن الكريم على الدراهم والدنانير وبيع ذلك فلا ينبغي؛ خشية الامتهان، فقد صدرت فتوى من دار الإفتاء بمصر، بتاريخ 3 من يوليو 1969م جاء فيها: "تكره كتابة القرآن وأسماء الله تعالى على الدراهم والمحاريب والجدران وما يفرش" (الفتاوى الإسلامية- مجلد 5صـ1632) .
وجاء في الفتاوى الإسلامية أيضاً (مجلد 5صـ 1634) : "تكره كتابة شيء من القرآن على الدراهم والدنانير؛ لأن في ذلك تعريضاً لمسها أثناء تدوالها من الجنب والحائض والنفساء والمحدث وغيرهم، وليست هناك ضرورة تدعو إلى ذلك". والله أعلم.(1/257)
لم قالوا (أنزل من بعد موسى) ولم يذكروا عيسى
المجيب د. ناصر بن محمد الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 14/3/1425هـ
السؤال
"وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَءَامِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ" [الأحقاف:29-31] .
لماذا لم يقولوا"من بعد عيسى" والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.(1/258)
فهذه الآية الكريمة التي ذكرها السائل الكريم تضمنت خبراً عما جرى بين الجن الذين استمعوا لآيات من القرآن الكريم، فذكروا وصفين للقرآن، أحدهما: أنه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، والثاني: أنه أنزل من بعد موسى - عليه السلام -، وسبب قولهم: "من بعد موسى" مع أن عيسى - عليه السلام - كان أقرب لمبعث محمد عليهم -الصلاة والسلام-، قد حاول أهل العلم من المفسرين توجيهه، فأشار كثير منهم ـ كالبغوي، والرازي، وأبي السعود، وغيرهم ـ إلى أن ذلك النفر من الجن كان على دين موسى -عليه السلام-، واعتمدوا في ذلك على أثر يذكر عن قتادة -رحمه الله-، وقد بحثت عنه مسندا في مظانه فلم أجده فلا أستطيع الجزم بصحة نسبته إليه، على أنه إن صحت نسبته إليه فتوجيه الآية اعتمادا عليه محل نظر؛ لاحتمال أن يكون قاله باجتهاده معتمدا في ذلك على مصادر ليست معصومة كروايات أهل الكتاب مثلا، ذلك أن ظواهر النصوص من الكتاب والسنة تقوي القول بضعف هذا التوجيه لما قد تقرر عند أهل العلم؛ أن من خصائص نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم- أنه بعث للثقلين الإنس والجن، وأن من كان قبله من الأنبياء كان يبعث إلى قومه خاصة، ففي الحديث الذي أخرجه البخاري (335) ومسلم (521) وغيره عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجلٍ من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة"، وفي لفظ عند البزار: "وبعثت إلى الإنس والجن" قال ابن عبد البر -رحمه الله-: لا يختلفون ـ أي أهل العلم ـ أنه - صلى الله عليه وسلم- بعث إلى الإنس والجن، وهذا مما فضل به على الأنبياء" أ. هـ وحكى الإجماع أيضا ابن قتيبة في تأويل مشكل الحديث في سياق رده على النظام المعتزلي.(1/259)
والمقصود أن هذا التوجيه المذكور محل نظر، وأحسن منه ما أورده ابن كثير والسمعاني في تفسيريهما، وحاصله أن شريعة عيسى - عليه السلام- جاءت متممة لشريعة موسى - عليه السلام- لم تخرج عنها بكثير شرائع، بل كان غالبها رقائق ومواعظ؛ فلأجل هذا ذكروا موسى - عليه السلام - ولم يذكروا عيسى عليهما السلام، قال ابن كثير -رحمه الله-: " ولم يذكروا عيسى - عليه السلام - لأن عيسى - عليه السلام- أنزل عليه الإنجيل فيه مواعظ وترقيقات وقليل من التحليل والتحريم، وهو في الحقيقة كالمتمم لشريعة التوراة، فالعمدة هو التوراة، فلهذا قالوا: أنزل من بعد موسى - عليه السلام-، وهكذا قال ورقة بن نوفل حين أخبره النبي - صلى الله عليه وسلم- بقصة نزول جبريل - عليه السلام- فقال: بخ بخ هذا الناموس الذي نزل الله على موسى" رواه البخاري (4) ومسلم (160) من حديث عائشة - رضي الله عنها - أ. هـ هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(1/260)
إهداء ثواب قراءة القرآن للأم
المجيب د. محمد بن عبد الله الخضيري
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 27/7/1424هـ
السؤال
أمي امرأة أمية، لا تعرف القراءة ولا الكتابة، وقد ختمت القرآن وتصدقت به عليها، ودائماً كلما أقرأ أتصدق عليها، فهل يجوز ويقبله الله؟ وجزاكم الله عني خير الجزاء.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
قراءة القرآن وإهداء ثوابه لحي أو ميت مسألة داخلة في قضية إهداء ثواب القربات والطاعات، فمن أهل العلم من منعها إلا ما قام الدليل على جوازه والإذن به كالصدقة والحج وقضاء صوم النذر عن الميت ونحوه، ومنهم من أجاز ذلك مطلقاً في العبادات المالية والبدنية وهو مذهب الحنابلة وهو أوسع المذاهب في هذه المسألة، وعلى كل حال فالقول بجوازه لا يعني أفضليته ومشروعيته بذاته وإنما جوازه فقط، والذي أنصح به السائلة أن تسعى لما هو أكثر أجراً وأعظم نفعاً وهو الدعاء الذي هو مشروع بالاتفاق للغير حياً أو ميتاً، وهو المنصوص عليه في الحديث الصحيح: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له"، وكذلك الصدقة عنها، ثم أنصحك أيضاً بمحاولة تعليمها بعض السور القصيرة وتحفيظها لها والتدرج في ذلك؛ حتى تعتاد على قراءة القرآن ويمتلئ جوفها به ويحيا به قلبها، وتسلم من الوصف المترتب على الجوف الخالي من القرآن: "كالبيت الخرب" رواه الترمذي (2913) وغيره من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، ومن تشبيهه بالميت "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت" رواه البخاري (6407) ، ومسلم (779) من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -.(1/261)
علامات الترقيم في كتابة القرآن
المجيب د. ناصر بن محمد الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 25/4/1423
السؤال
وأنا أقرأ أحد المواضيع عن الصلاة وأهميتها أورد الكاتب هذه الآية بهذا الشكل:"كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر؟ قالوا: لم نك من المصلين"، فهل يجوز عند كتابة أي آيه قرآنية كتابة علامات الاستفهام عند الآية التي تأتي بمعنى سؤال أو إضافة نقطتين إلى غير ذلك، أم أن هذا يعد زيادة في القرآن؟ أفيدونا رحمكم الله.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
كتابة علامات الترقيم كالتي أشار إليها السائل ونحوها عند كتابة آية من القرآن الكريم فيه تفصيل، فإن كان ذلك في كتابة المصحف جميعه فإن بعض أهل العلم يشدد في مثل هذا ويمنع منه، من باب حياطة القرآن الكريم وسداً للذريعة التي ربما أفضت إلى التبديل في القرآن الكريم أو التغيير، أما إن كانت الكتابة لجزء من القرآن كآية ونحوها في مقام التعليم والتدريس وما في هذا المعنى، فهذا أرجو ألا بأس به؛ لأنه من باب التوضيح وإفهام القارئ، وقد سبق للسلف -رحمهم الله تعالى- أن وضعوا ما يعرف بنقط المصحف للتفريق بين الحروف، كالعين والغين والفاء والقاف، ووضعوا ما يعرف بشكل المصحف كالفتحة والكسرة، وقصدهم في ذلك ضبط لفظ القرآن الكريم وعصمة تاليه من الخطأ عند القراءة، كما وضعوا الأجزاء والأحزاب لتيسير حفظه وضبطه، ومثل هذا لا يعد زيادة في القرآن الكريم؛ لأن حقيقة الزيادة إنما تكون بتغيير حروفه زيادة أو نقصاً، والله أعلم.(1/262)
إهداء ترجمات معاني القرآن للكفار
المجيب د. ناصر بن محمد الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 8/6/1423هـ
السؤال
ما حكم من أعطى نسخة مترجمة للقرآن -لغير المسلمين-؛ ليطلعوا عليها؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
الكتب التي تتضمن ترجمة معاني القرآن الكريم ليس لها حرمة خاصة كالتي للقرآن الكريم، بحيث لا يمسها إلا المطهرون بل هي في حقيقة الأمر مثل كتب التفسير، لكنها بلغة غير العربية، وعليه فلا حرج من أن تعطى لغير المسلمين، لا سيما إذا رجي انتفاعهم بها، إلا أن يعلم المرء أن آخذها من غير المسلمين يمتهنها ونحو ذلك، فعندئذ لا يجوز إعطاؤه والحالة هذه، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(1/263)
الاجتماع لقراءة القرآن على الشبكة
المجيب د. خالد بن محمد الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 19/11/1423هـ
السؤال
هل يجوز أن يجتمع الأخوات على الشبكة في رمضان لقراءة القرآن؟ أم يكون هذا بدعة؟
الجواب
الاجتماع على قراءة القرآن عمل مشروع، سواء أكان المجتمعون رجالاً، أو نساءً لا يستمع لهن غير محرم لهن، وسواء أكان مباشراً، أم غير مباشر عبر الشبكة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان يجتمع مع أصحابه - رضي الله عنهم - على القراءة كما اجتمع مع ابن مسعود- رضي الله عنه- في الحديث المتفق عليه البخاري (4582) ، ومسلم (800) ، بل وحض على ذلك في الحديث الذي رواه مسلم (2699) عن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- " وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده" وبوب عليه النووي في رياض الصالحين فقال:" باب استحباب الاجتماع على القراءة".(1/264)
ختم القرآن مساءً أو صباحاً
المجيب د. ناصر بن محمد الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 9/1/1424هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ونحن في شهر رمضان شهر القرآن سمعت أن ختم القرآن في بداية المساء أفضل ووجه التفضيل أن الملائكة تصلي عليك حتى تصبح -لأننا في الشتاء وليل الشتاء أطول-، السؤال: ما صحة هذا الكلام؟ وإن كان صحيحاً فمتى الوقت المحدد لنيل فضل المساء بعد الغروب أم قبله؟ وما دليل ذلك؟ أفيدونا أفادكم الله.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
ما ذكر السائل من أن ختم القرآن في أول المساء أفضل لصلاة الملائكة على القارئ لا أعلم أنه قد ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه شيء، لكن قد وردت آثار عن بعض السلف -رحمهم الله- تدل على أن الملائكة تصلي على قارئ القرآن، فإن كان يقرؤه نهاراً صلت عليه حتى يمسي، وإن كان يقرؤه ليلاً صلت عليه حتى يصبح، ولذا كانوا يستحبون أن يكون ختم القرآن الكريم في أول النهار أو أول الليل، حتى يستغرق تسبيح الملائكة وقتاً النهار كله أو الليل كله، فقد ثبت عند الدارمي (3518) من طريق الأوزاعي عن عبدة بن أبي لبابة موقوفاً عليه قال:"إذا ختم الرجل القرآن بنهار صلت عليه الملائكة حتى يمسي، وإن فرغ منه ليلاً صلت عليه الملائكة حتى يصبح"، وله أي الدارمي
(3526) من حديث طلحة بن مصرف عن مصعب بن سعد عن سعد بسند ضعيف قال:"إذا وافق ختم القرآن أول الليل صلت عليه الملائكة حتى يصبح وإن وافق ختمه آخر الليل صلت عليه الملائكة حتى يمسي فربما بقي على أحدنا الشيء فيؤخره حتى يمسي أو يصبح" وله (3520) -أيضاً- من حديث الأعمش عن إبراهيم النخعي قال: إذا قرأ الرجل القرآن نهاراً صلت عليه الملائكة حتى يمسي وإن قرأه ليلاً صلت عليه الملائكة حتى يصبح. قال سليمان -يريد الأعمش-: فرأيت أصحابنا يعجبهم أن يختموه أول النهار وأول الليل. وسنده صحيح، وهذه الآثار عن السلف -رحمهم الله- يستأنس بها في هذه المسألة، قال ابن قدامة في المغني مقرراً هذا: قال أبو داود: وذكرت لأحمد قول ابن المبارك: إذا كان الشتاء فاختم القرآن في أول الليل، وإذا كان الصيف فاختمه في أول النهار، فكأنه أعجبه، وذلك لما روي عن طلحة بن مصرف، قال: أدركت أهل الخير من صدر هذه الأمة يستحبون الختم في أول الليل وفي أول النهار، يقولون: إذا ختم في أول الليل صلت عليه الملائكة حتى يصبح، وإذا ختم في أول النهار صلت عليه الملائكة حتى يمسي، وقال النووي -يحكي مشروعيته- في كلامه عن ختم القرآن: يستحب كونه في أول الليل وأول النهار، والله أعلم.(1/265)
القراءة الصامتة للقرآن
المجيب د. ناصر بن محمد الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 17/09/1425هـ
السؤال
ما حكم قراءة القرآن قراءة صامته؟ وهل لابد من تحريك اللسان والشفتين؟ أرجو التوضيح مع ذكر الدليل.
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: قراءة القرآن الكريم قراءة صامتة فيه تفصيل فإن كان القارئ يقرأ في غير الصلاة فلا بأس بذلك، وأما إن كان يقرأ في الصلاة فلابد أن يحرك لسانه بالقراءة، ولا يجزئه أن يقرأ قراءة صامتة بأن يعرض آيات القرآن على قلبه، لأن القراءة هي فعل اللسان وذلك بإقامة الحروف، فلا يجزئ إلا بتحريك اللسان والشفتين، بل ذهب أكثر أهل العلم من الحنفية والشافعية والحنابلة إلى أنه لابد مع تحريك اللسان أن يسمع نفسه، وذهب المالكية إلى أنه لا يشترط إسماع نفسه، وهو الصحيح؛ لأن إسماع النفس قدر زائد عن القراءة، والله أعلم.(1/266)
هل فسر الرسول القرآن
المجيب د. ناصر بن محمد الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 30/12/1423هـ
السؤال
السلام عليكم.
كنت جالسا عند أحد الأصدقاء فسألني أحد الجالسين سؤالاً احتار به ذهني وجعلني في شبه: قال لي هل الرسول -صلى الله عليه وسلم- فسر القرآن كاملاً؟ طبعاً قلت له نعم والدليل على ذلك التفاسير الموجودة ابن كثير وغيرها، فرد علي كأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين كل ما في القرآن بدليل أنه إلى الآن وكل يوم يظهر لنا إعجاز علمي جديد في القرآن.
والسلام عليكم. وهذا باختصار للكلام الذي دار نرجو منكم الإفادة.
الجواب
لم يفسر الرسول كل لفظة أو آية من القرآن وإنما فسر ما قد يكون فيه خفاء على الصحابة -رضوان الله عليهم-، وقد يسأل الصحابة عما يشكل عليهم فيبينه لهم الرسول كما سأل الصحابة عن الظلم المقصود في قوله تعالى:"الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم" [الأنعام: 82] وأما أنه -صلى الله عليه وسلم- بين كل كلمة أو كل آية فهذا لم يحصل لأنه لو حصل لنقله لنا الصحابة -رضي الله عنهم- ولم يكن الصحابة يحتاجون لذلك لأنهم عرب والقرآن نزل بلسان عربي مبين وحين جاء عصر التابعين وخفي عليهم بعض معاني الآيات فسرها لهم الصحابة بما علموه من رسول الله -عليه الصلاة والسلام- وبما فهموه من لغة العرب وما أدركوه من نزول الآيات وأحوال من نزلت عليهم.
وأما فيما يتعلق بما يسمى الإعجاز العلمي فما كان منه صحيحاً وموافقاً للآيات فليس معنى الآية متوقفاً عليه بل معنى الآية العام معلوم منذ عصر الصحابة، وجاءت مثل هذه الكشوف لتزيد من وضوح الآية وتعمق من دلالتها كما قال تعالى:"سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق" [فصلت: 53] ، والله أعلم.(1/267)
كلام الله عز وجل
المجيب عبد الرحمن بن ناصر البراك
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 14/9/1424هـ
السؤال
السلام عليكم.
القرآن هو كلام الله وغير مخلوق، فهل يعني هذا أنه ليس له بداية ولا نهاية مثل الله -عز وجل-؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف نفهم أن الله يتكلم متى شاء؟ فمثلاً عندما تكلم إلى موسى ألم يكن لكلامه ذاك بداية ونهاية؟ وإذا كان له بداية ونهاية ألا يعني ذلك أنه مخلوق أرجو الإجابة لإزالة حيرتي.
الجواب
الحمد لله، القرآن هو كلام الله الذي أنزله على محمد - صلى الله عليه وسلم-، وهو المحفوظ في صدور المؤمنين "بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم" [االعنكبوت:49] وهو المكتوب في المصاحف المبدوء بسورة الفاتحة المختوم بسورة الناس، وهذا القرآن عند أهل السنة وهو الحق، منزل من عند الله غير مخلوق منه بدأ، أي إنه تعالى تكلَّم به حقيقة وبلغه جبريل وهو الروح الأمين وهو روح القدس بلغه لمحمد - صلى الله عليه وسلم- كما قال تعالى: "نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين" [الشعراء: 193-194] ، وقال تعالى: "قل نزله روح القدس من ربك بالحق" [النحل: 102] نعم والقرآن له بداية ونهاية وليس القرآن كل كلام الله، بل التوراة والإنجيل والزبور التي أنزلها الله على موسى وعيسى وداود - عليهم الصلاة والسلام- هي أيضاً كلام الله، وكلام الله لا يحصى عدداً أبداً، كما قال تعالى: "قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا" [الكهف: 109] وقال: "ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله" [لقمان: 27] ، فجنس كلام الله لا نهاية له ولا بداية له بمعنى أن الله لم يزل يتكلم إذا شاء بما شاء كيف شاء، ولا يزال كذلك، وأما آحاد الكلام مثل تكليمه لموسى وندائه للأبوين وتكليمه للملائكة وكل هذا له بداية ونهاية، وأساس هذا أنه يتكلم سبحانه وتعالى بمشيئة هذا كله مذهب أهل السنة، وأما المخالفون لأهل السنة من سائر الطوائف فلهم في كلام الله مذاهب فمنهم من يقول: إن الله تعالى لا يتكلم، وكل ما يضاف إليه من الكلام فهو مخلوق وهذا قول المعتزلة، ومنهم من يقول: إن كلام الله معنى نفسي ليس بحرف ولا صوت وهو قديم فلا تتعلق به المشيئة وهذا قول الأشاعرة، والمذهبان باطلان، فالقرآن على قول المعتزلة كلام خلقه الله لم يصدر من ذاته سبحانه وتعالى، وعلى قول الأشاعرة هو عبارة عن ذلك المعنى النفسي وليس هو في الحقيقة كلاماً لله، وما ذكرت أيها السائل من الإشكال، إذ كيف يجمع بين كون القرآن قديماً، أو أن كلام الله قديم وبين كلام الله لموسى، ومعلوم أن له بداية ونهاية؟ هذا الإشكال لا يرد على مذهب أهل السنة الذي تقدم تفصيله، وإنما يرد على قول الأشاعرة، وعلى مذهب الأشاعرة موسى لم يسمع كلام الله من الله وإنما سمع كلاماً خلقه الله عبارة عن المعنى النفسي القائم بالله - سبحانه وتعالى- وتقدم أن قول الأشاعرة في كلام الله قول باطل مخالف للعقل ودلالة الشرع فالحق لا يتناقض، وإنما التناقض هو من خصائص المذاهب الباطلة، فيظهر أنك أيها السائل لم تعرف المذهب الحق في كلام الله، فلذلك وقع في ذهنك هذا الإشكال، وهو بحمد الله غير وارد على مذهب أهل السنة والجماعة وهو مذهب السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وهو الذي تقتضيه الأدلة العقلية والنقلية والحمد لله على نعمة الإسلام ونعمة السنة نسأل الله أن يثبتنا عليهما حتى نلقاه، والله أعلم.(1/268)
اختلاف مصاحف الصحابة رضي الله عنهم
المجيب د. رياض بن محمد المسيميري
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 11/11/1424هـ
السؤال
تعرضت لموقف أصابني بالحيرة والدهشة معاً، فأنا أعرف شخصاً إنجليزياً أعطاني ورقة مطبوعة من موقع على الإنترنت، وفيها شبهات كثيرة على الإسلام، فالورقة عبارة عن ترجمة لمجموعة من الأحاديث في البخاري ومسلم بأرقامها، مترجمة باللغة الإنجليزية، ويقوم الموقع بشرحها بطريقة توحي لمن يقرؤها أن القرآن الكريم قد تم تحريفه، وأنه كان هناك مصاحف خاصة لبعض الصحابة الكرام - رضي الله عنهم-، بالتحديد
عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه-، تختلف عن مصحف عثمان بن عفان - رضي الله عنه-، والذي اتفق عليه المسلمون أجمعون، والذي هو موجود بأيدينا الآن، فمثلا: هناك حديث في البخاري مكتوب في الورقة بأنه في المجلد السادس، حديث رقم
(468) ، عن أن قوماً من الصحابة - رضي الله عنهم- ذهبوا لأبي الدرداء- رضي الله عنه-، فسألهم عمن يستطيع قراءة سورة الليل كما كان يقرؤها عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه-؟ فأشاروا إلى علقمة، الذي قرأ "والذكر والأنثى" بدلا من "وما خلق الذكر والأنثى"، وقال إنه لن يتبع من يقرأها بغير هذا، وأيضا حديث آخر في البخاري، مكتوب بأنه حديث رقم (60) ، صفحة (46) ، في المجلد السادس، عن(1/269)
ابن الزبير - رضي الله عنهما- أنه قال لسيدنا عثمان بن عفان - رضي الله عنه- عن أن هناك آية في سورة البقرة قد تم تغييرها بآية أخرى، أعتقد أنهم يقصدون آية عن الذين يتوفون ويتركون زوجاتهم،- عذراً فأنا لا أحفظ الآية - فإجابه عثمان - رضي الله عنه- بأن يترك الآية مكانها، فهو لن يغير أي شيء عن مكانه، والعديد من الأقوال الأخرى عن أشياء من هذا القبيل، وعن وجود اختلاف بين المسلمين وقت جمع القرآن، أرجو من سيادتكم التكرم بالرد علي، حيث إنني قد فوجئت وقتها ولم أستطع أن أرد على هذا الشخص، وأنا لا أريد أن يكون في قلبي أي شبهة على ديني، ولا أريد أن يوسوس لي الشيطان بأشياء تبعدني عن الله، أفيدوني بإجابة سريعة بالله عليكم عن كل نقطة ذكرتها في سؤالي، ومعذرة للإطالة.
وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الحمد لله، وأصلي وأسلم على رسول الله، وبعد: أخي في الله: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
اعلم - وفقك الله وحفظك- أن القرآن الكريم كتاب الله المقدَّس، ودستوره المنزل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، وقد وصلنا كاملاً غير منقوص، لم يخرم منه حرف واحد، كيف وقد قال الله: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" [الحجر:9] ، وقد أجمع المسلمون على أن القرآن الذي بين أيدينا هو القرآن المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم- بتمامه وكماله، من غير زيادة ولا نقصان.
وقد كان لبعض الصحابة - رضي الله عنهم- مصاحف خاصة بهم، كتبوها لأنفسهم بقصد الحفظ والمذاكرة، ورتبوها باجتهادهم الخاص أحياناً وليس في ذلك مانع شرعي؛ لأن القرآن في مصاحفهم جميعاً، وهو لم يتغير، أو يتبدل، وإن اختلف الترتيب.
أرأيت لو أن إنساناً اليوم أراد حفظ سورة البقرة، وسورة النساء فكتبها أو صورها، وجمعها في ملزمة واحدة، فهل يقول أحد بالتحريم؟!.
أو هل يزعم أحد بوجود تناقض بين ما صفه هذا الإنسان من الجمع والترتيب مع المصحف العثماني المعروف؟!(1/270)
الجواب: كلا فليس ثمة حرمة أو تناقص، ثم اعلم أن عثمان - رضي الله عنه- حين جمع القرآن أقره كل الصحابة - رضي الله عنهم- على فعله، وأجمعوا عليه بما فيهم ابن مسعود، وأبو الدرداء- رضي الله عن الجميع.
وأما ما نقل عن ابن مسعود وأبي الدرداء -رضي الله عنهما- من قراءة "الذكر والأنثى" فالإسناد إليها من أصح الأسانيد، والرواية أخرجها الشيخان كلاهما وليس البخاري فقط. ففي البخاري (6278) ومسلم (824) بيد أنها قراءة منسوخة لإمكانية النسخ شرعاً وعقلاً، قال الله: "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير أو مثلها ... " [البقرة:106] ، ولعل النسخ لم يبلغ هذين الصحابيين الجليلين - رضي الله عنهما-.
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله-: ولعل هذا مما نسخت تلاوته، ولم يبلغ النسخ أبا الدرداء ومن ذكر معه -رضي الله عنهم-، والعجب من نقل الحفاظ من الكوفيين هذه القراءة عن علقمة وعن ابن مسعود - رضي الله عنه- وإليها تنتهي القراءة بالكوفة، ثم لم يقرأ بها أحد منهم، وكذا أهل الشام حملوا القراءة عن أبي الدرداء ولم يقرأ أحد منهم بهذا، فهذا مما يقوي أن التلاوة بها نسخت، ا. هـ الفتح (8/707) .
وأما الآية الأخرى التي سألت عنها فهي قوله تعالى: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج ... " [البقرة:240] . وهي آية منسوخة حكماً باقية تلاوة؛ لأن النسخ أنواع منها:
(1) أن ينسخ اللفظ والحكم.
(2) أن ينسخ اللفظ ويبقى الحكم.
(3) أن ينسخ الحكم ويبقى اللفظ مثل عدة المتوفى زوجها في الآية السابقة، فقد كانت العدة حولاً كاملاً، فنسخت إلى أربعة أشهر وعشرة أيام، كما في قوله تعالى: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً.." الآية وكلتاهما في البقرة [الآية:234] .(1/271)
وبهذه المناسبة أنصح الأخ السائل وغيره ألا يرتادوا تلك المواقع المشبوهة في شبكة الإنترنت، أو غيرها مما سخره أعداء الدين لإلقاء الشبهة وتشكيك الشباب وغيرهم في دينهم، واقتناص الفرص لبلبلة الأذهان وترويج الشائعات المغرضة، والآراء المسمومة.
وليس للعامة من أبناء الأمة إقحام أنفسهم في أتون تلك المواقع، أو قراءة ما يكتبه الملاحدة والكفرة والمنافقون بقصد التشكيك والإفساد حفاظاً على دينهم ورعاية لعقائدهم. والله المسؤول أن يحفظ علينا ديننا، ويكبت عدونا إنه سميع قريب. وفقك الله وأعانك والسلام عليكم.(1/272)
أخطاء (في ظلال القرآن)
المجيب د. سليمان بن قاسم العيد
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 15/6/1424هـ
السؤال
هل يوجد حقاً في كتاب ظلال القرآن سموم يجب الحذر منها
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد، فإن كتاب (في ظلال القرآن) لسيد قطب (رحمه الله) كغيره من كتب البشر لا يخلو من المآخذ، ومن أبرزها ما يلي: -
(1) لقد نشأ سيد قطب أديباً وشاعراً وربما غلب عليه الأسلوب الأدبي في بعض الأحيان في كتابه (في ظلال القرآن) ، وخرج ببعض الكلمات والعبارات التي تخالف منهج السلف.
(2) وقع سيد قطب -رحمه الله- ببعض التأويلات على منهج المعتزلة والأشاعرة لبعض الصفات، ومنها على سبيل المثال كلامه حول قوله - تعالى -: "الرحمن على العرش استوى" [طه: 5] قال بأن الاستواء كناية عن الهيمنة، وهذا مخالف لما عليه أهل السنة والجماعة. وكذلك ما ذهب إليه في تأويل صفة اليد، والقبضة، والفوقية ونحوها.
(3) تردده في إثبات بعض الصفات لله - تعالى -، مثل صفة الوجه.
(4) قلة الاعتماد على النصوص الشرعية والآثار عن السلف في بيان معنى الآيات.
(5) كتابه (في ظلال القرآن) ليس تفسيراً بالمعنى الصحيح، بل هو حديث حول الآيات في جوانب دعوية وإيمانية ونحوها.
ومع هذه الملحوظات فلا يعني ذلك أن نتركه بالكلية بل فيه خير كثير، لكن يتنبه فيه من جانب الكلام على صفات الله - عز وجل -.(1/273)
القصص القرآني
المجيب أحمد بن عبد الرحمن الرشيد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 1/8/1424هـ
السؤال
هل تم بحث القصص القرآني في رسائل الماجستير والدكتوراه؟ وإن كان كذلك فأرجو تزويدي بأسماء بعضها، وشكراً وجزاكم الله كل خير.
الجواب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد اشتمل القرآن الكريم على أحسن القصص وأفضلها، كما أخبر بذلك ربنا تبارك وتعالى، حيث قال: "نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن" [يوسف:3] . وقد ورد في هذه القصص خبر من كان قبلنا من الأمم وأحوالهم مع أنبيائهم ورسلهم، وأمرنا الله سبحانه وتعالى بالتدبر في هذه القصص، وأخذ العظة والعبرة مما جاء فيها من أخبار وأحكام، وامتثالاً لهذه الأوامر الكريمة قام كثير من العلماء والباحثين بدراسة هذه القصص المختلفة واستنباط العبر، والدروس، والفوائد التي اشتملت عليها في سور القرآن الكريم، وقد كانت مؤلفاتهم وبحوثهم تدور حول ثلاثة مطالب:
الأول: دراسة القصص القرآني بشكل عام، وبيان مرتكزات هذه القصص وأساليبها الأدبية والبلاغية، وكيفية الاستفادة منها، من دون التركيز على قصة معينة.
الثاني: دراسة قصة معينة من قصص القرآن الكريم، وذلك بجمع الآيات التي تحدثت عن هذه القصة في كل سور القرآن الكريم، كدراسة قصة موسى عليه السلام كما وردت
في القرآن الكريم.
الثالث: دراسة القصص القرآني الوارد في سورة معينة، كدراسة القصص القرآني الوارد في سورة الأعراف مثلاً.
ومن أراد الاطلاع على هذه القصص فعليه بكتاب الله تعالى، حيث اشتمل على أحسن القصص بأسلوب فريد، وبلاغة منقطعة النظير، فيقرؤها الإنسان ويتدبرها ويأخذ العظة والعبرة مما جاء فيها، ويستفيد مما كتبه العلماء في تفاسيرهم، حيث اهتم كثير من المفسرين بقصص القرآن الكريم، وبينوها واستنبطوا منها الدروس والعبر، ونحو ذلك مما هو مهم في هذا الباب.
أما الرسائل الجامعية المؤلفة في مجال القصص القرآني فهي كثيرة، ومنها على سبيل المثال الرسائل الآتية: عنوان الرسالة اسم الباحث المرحلة الجامعية التاريخ.
(1) الجانب القصصي في القرآن الكريم، عمر محمد باحاذق، ماجستير، الجامعة الإسلامية
في المدينة المنورة 1403هـ.
(2) القصص في القرآن الكريم، مريم بنت عبد القادر السباعي، دكتوراه، جامعة أم القرى
في مكة المكرمة 1404هـ.
(3) القصص القرآني الكريم بين الآباء والأبناء، عماد زهير حافظ، ماجستير، جامعة أم القرى في مكة المكرمة 1408هـ.
(4) قصة آدم عليه السلام كما يصورها القرآن الكريم، علوية بنت عبد الرحمن كلنتن، 1402هـ.
(5) قصة نوح عليه السلام كما يصورها القرآن الكريم، علي بن عبد الله طوبجي، 1402هـ.
(6) العبرة من قصة موسى عليه السلام في القرآن، محمد خير عدوي 1400هـ.
(7) الدعوة والعقيدة في قصة موسى عليه السلام، سليمان بن طلق الحازمي، 1410هـ.
(8) دعوة سيدنا شعيب عليه السلام في القرآن الكريم، حسين بن عبد القادر مصطفى، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1403هـ.
(9) القصص القرآني بين المفسرين والمؤرخين، شاكر بن جدعان جبل، جامعة بغداد 1998م
(10) الأهداف التربوية في القصص القرآني، مدهش علي خالد أحمد، جامعة أم القرى 1409هـ.
(11) التناسق الفني في القصص القرآني، أحمد إسماعيل نوفل، جامعة الأزهر 1975م.
(12) قصص النساء في القرآن الكريم والدروس والعبر والأحكام المستفادة منها، محمد بن ناصر الحميد، دكتوراه، الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة.
والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(1/274)
نسيان بعض القراءات
المجيب عبد الحكيم بن عبد الله القاسم
عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 21/3/1425هـ
السؤال
ما حكم نسيان الروايات لمن حفظ بعض الروايات في القرآن؟ مع العلم بأنه لم يتلقها عن مشايخ بل عن طريق كتاب يوضح الفروقات بينها وبين حفص.
الجواب
حكم نسيان الروايات فرع لحفظ فروع العلم، ولا يأثم الإنسان بذلك؛ بل ولا يأثم من حفظ القرآن ثم نسيه لأن إسناد الحديث شديد الضعف (انظر سنن سعيد بن منصور (1/87 ح18 (فقد جمع المحقق طرق الحديث) ، ويمكن أن تحمل على نسيان القرآن بسبب الإعراض عنه وهجر العمل به ونحو ذلك، فهذا لا شك أنه فاعل إثماً عظيماً، وأما من نسيه لا عن إعراض بل لتزاحم الأعمال وهو يرغب في مواصلة الحفظ فهذا لا يأثم إن شاء الله.
ولا شك أن العلم يحتاج إلى مدارسة ومراجعة ومذاكرة وإلا جاء عليه داء النسيان، وقد جاء تحديد مراجعة القرآن أو قراءته في قصة عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- في مدة أقصاها أربعين، فلا ينبغي التقاصر عن قراءة القرآن فيها انظر ما رواه الترمذي (3570) وأبو داود (1395) وأصله في البخاري (1978) ، ومسلم (1159) والله أعلم.(1/275)
إشكالات لغوية في بعض الآيات
المجيب د. رياض بن محمد المسيميري
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 16/12/1424هـ
السؤال
وصلتني هذه الرسالة وأريد الرد عليها:
بسم الأب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين
إلى الإخوة المسلمين السلام والتحية، نرجو من الإخوة المسلمين الإجابة عن هذه الأسئلة اللغوية:
(1) رفع المعطوف على المنصوب س 106: جاء في سورة المائدة 5: 69 "إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَالذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ"، وكان يجب أن ينصب المعطوف على اسم إن فيقول والصابئين كما فعل هذا في سورة البقرة 2: 62 والحج 22: 17.
(2) نصب الفاعل س 107: جاء في سورة البقرة 2: 124 "لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ". وكان يجب أن يرفع الفاعل فيقول: الظالمون.
(3) تذكير خبر الاسم المؤنث. س 108: جاء في سورة الأعراف 7: 56 "إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ". وكان يجب أن يتبع خبر إن اسمها في التأنيث فيقول: قريبة.
(4) تأنيث العدد وجمع المعدود. س 109: جاء في سورة الأعراف 7: 160 "وَقَطَّعْنَاهُمْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً"، وكان يجب أن يذكر العدد ويأتي بمفرد المعدود
فيقول: اثني عشر سبطاً.
(5) جمع الضمير العائد على المثنى. س 110: جاء في سورة الحج 22: 19 "هذانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ"، وكان يجب أن يثنّي الضمير العائد على المثنّى فيقول خصمان اختصما في ربهما.
(6) أتى باسم الموصول العائد على الجمع مفرداً. س 111: جاء في سورة التوبة 9: 69 "وَخُضْتُمْ كَالذِي خَاضُوا". وكان يجب أن يجمع اسم الموصول العائد على ضمير الجمع فيقول: خضتم كالذين خاضوا.(1/276)
(7) جزم الفعل المعطوف على المنصوب. س 112: جاء في سورة المنافقون 63: 10 "وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ" وكان يجب أن ينصب الفعل المعطوف على المنصوب فأَصدق وأَكون.
(8) جعل الضمير العائد على المفرد جمعاً س 113: جاء في سورة البقرة 2: 17 "مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ"، وكان يجب أن يجعل الضمير العائد على المفرد مفرداً فيقول: استوقد ... ذهب الله بنوره.
(9) نصب المعطوف على المرفوع. س 114: جاء في سورة النساء 4: 162 "لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ وَالمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً. وكان يجب أن يرفع المعطوف على المرفوع فيقول: والمقيمون الصلاة.
(10) نصب المضاف إليه. س 115: جاء في سورة هود 11: 10 وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ. وكان يجب أن يجرَّ المضاف إليه فيقول: بعد ضراءِ.
(11) أتى بجمع كثرة حيث أريد القلة. س 116: جاء في سورة البقرة 2: 80 "لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً"، وكان يجب أن يجمعها جمع قلة حيث إنه أراد القلة فيقول: أياماً معدودات.(1/277)
(12) أتى بجمع قلة حيث أريد الكثرة. س 117: جاء في سورة البقرة 2: 183 و184 "كُتِبَ عَلَى الذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُودَات"، وكان يجب أن يجمعها جمع كثرة، حيث إن المراد جمع كثرة عدته 30 يوماً فيقول: أياماً معدودة.
(13) جمع اسم علم حيث يجب إفراده. س 118: جاء في سورة الصافات 37: 123-132 "وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ ... سَلاَمٌ عَلَى إِلْيَاسِينَ ... إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُؤْمِنِين"، فلماذا قال: إلياسين بالجمع عن إلياس المفرد؟ فمن الخطأ لغوياً تغيير اسم العلَم حباً في السجع المتكلَّف. وجاء في سورة التين 95: 1-3 "وَالتِّينِ وَالزَيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا البَلَدِ الأَمِينِ"، فلماذا قال: "سينين" بالجمع عن سيناء؟ فمن الخطا لغوياً تغيير اسم العلَم حباً في السجع المتكلف.
(14) أتى باسم الفاعل بدل المصدر س 119: جاء في سورة البقرة 2: 177 "لَيْسَ َالبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَالمَلائِكَةِ وَالكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ"، والصواب أن يُقال: ولكن البر أن تؤمنوا بالله؛ لأن البر هو الإيمان لا المؤمن.
(15) نصب المعطوف على المرفوع. س 120: جاء في سورة البقرة 2: 177 "وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ"، وكان يجب أن يرفع المعطوف على المرفوع فيقول: والموفون ... والصابرون.
(16) وضع الفعل المضارع بدل الماضي. س 121: جاء في سورة آل عمران 3: 59 "إنّ مثَل عيسى عند الله كمثَل آدمَ خلقه من ترابٍ ثم قال له كن فيكون". وكان يجب أن يعتبر المقام الذي يقتضي صيغة الماضي لا المضارع فيقول: قال له كن فكان.(1/278)
(17) لم يأت بجواب لمّا. س 122: جاء في سورة يوسف 12: 15 "فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ". فأين جواب لمّا؟ ولو حذف الواو التي قبل أوحينا لاستقام المعنى.
(18) أتى بتركيب يؤدي إلى اضطراب المعنى س 123: جاء في سورة الفتح 48: 8 و9 "إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيرا لتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً"، وهنا ترى اضطراباً في المعنى بسبب الالتفات من خطاب محمد - صلى الله عليه وسلم-إلى خطاب غيره؛ ولأن الضمير المنصوب في قوله: "تعزّروه وتوقروه" عائد على الرسول المذكور آخراً، وفي قوله: "تسبحوه" عائد على اسم الجلالة المذكور أولاً. هذا ما يقتضيه المعنى. وليس في اللفظ ما يعينه تعييناً يزيل اللبس، فإن كان القول:"وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاً" عائداً على الرسول يكون كفراً، لأن التسبيح لله فقط. وإن كان القول:"تعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاً" عائداً على الله يكون كفراً، لأنه -تعالى- لا يحتاج لمن يعزره ويقويه!!
(19) أتى باسم جمع بدل المثنى. س 130: جاء في سورة التحريم 66: 4 "إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا". والخطاب (كما يقول البيضاوي) .موجّه لحفصة وعائشة - رضي الله عنهما-. فلماذا لم يقل صغا قلباكما بدل "صغت قلوبكما" إذ إنه ليس للاثنتين أكثر من قلبين؟.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وبعد: فسيكون الجواب - بإذن الله- مجملاً ومفصلاً، فأما الإجمال فأقول:(1/279)
لا ريب أن أعداء هذا الدين لا يألون جهداً في محاولة النيل من إسلامنا وعقيدتنا، وقرآننا العظيم، وقد سخروا طاقاتهم وعلمائهم لتشكيك المسلم العادي في دينه، وكتاب ربه، ومن ذلك ما ورد من هذه الأسئلة التي حاولوا من خلالها وصم القرآن بالنقص والعيب، ورميه بمصادمة القواعد النحوية المعتبرة عند العلماء.
ونسي هؤلاء عظمة اللغة العربية وسعتها واستيعابها لوجوه عديدة في الألفاظ، والمعاني، والمباني، والأوجه النحوية، والإعرابية.
ولو فقه هؤلاء المشككون لغة العرب ودرسوا فنونها، وأصولها، واشتقاقاتها، وقواعد النحو، والصرف ووجوه الإعراب، وطالعوا دواوين الشعر في عصور الاحتجاج لرأوا بطلان كل ما أوردوه من الإشكالات الموهومة، كما سيأتي بيانه بعد قليل بحول الله وقوته.
ثم هاهنا تنبيهان قبل الشروع في الجواب المفصل أولهما: أن هذه التسمية التي صدر بها رسالة القوم هي من بدعهم الشركية، حيث جعلوا عيسى -عليه السلام- وروح القدس وهو جبريل -عليه السلام- إلهيين متساويين لله -تعالى-، وهي عقيدة التثليث المشؤومة التي يؤمن بها النصارى تعالى الله عما يفعله ويقوله هؤلاء الكافرون.
ثانيهما: قولهم إلى الإخوة المسلمين، فالحقيقة أننا نحن المسلمين نبرأ من إخوة هؤلاء النصارى فهم ليسوا لنا بإخوة ونحن نبرأ إلى الله من أخوتهم، بل هم أعداؤنا وبغضاؤنا حتى يسلموا لله الواحد الأحد الفرد الصمد.
وأما الجواب المفصل فإليك بيانه والله المستعان:
السؤال الأول:
إن رفع "الصابئون" [المائدة:69] على نية التأخير وتقديره ولا هم يحزنون والصابئون كذلك، فهو مبتدأ، والخبر محذوف ومثله: فإني وقيار بها لغريب، أي: فإني لغريب وقيار بها كذلك. وهناك تأويلات أخرى أعرضت عن ذكرها اختصاراً.
السؤال الثاني:(1/280)
وأما نصب "الظالمين" في قوله -تعالى- "لا ينال عهدي الظالمين" فلأن (الظالمين) مفعول به وليس فاعلاً والتقدير: لا يصل عهدي الظالمين، في عهدي فاعل وليس مفعولاً به كما توهم السائل.
السؤال الثالث:
وأما تذكير قريب، في قوله: "إن رحمة الله قريب من المحسنين" [الأعراف: 56] ، فلذلك عدة تأويلات وكلها سائغة في لغة العرب فمن ذلك:
(1) ذكرت: قريب، على النسب كما يقال: امرأة طالق، فالتقدير إن رحمة الله ذات قرب.
(2) ويمكن أن يقال: أراد المكان، أي: إن مكان رحمة الله قريب.
(3) أن قريب، فعيل بمعنى مفعول كما يقال: كن خطيباً.
السؤال الرابع:
وأما اعتراض السائل على جمع (أسباطاً) في قوله -تعالى-: "وقطعناهم اثنتى عشرة أسباطاً أمماً" [الأعراف: 160] ، وزعمه وجوب تذكير العدد وإفراد أسباطاً، فالجواب:
أن قطعنا بمعنى: صيرنا فيكون اثنتى عشرة، مفعولاً ثانياً، والتأنيث باعتبار التقطيع آل إلى تصييرهم قطعاً جمع قطعة.
وأما جمع أسباطاً فلأنها بدل من اثنتي عشرة لا تمييز.
السؤال الخامس:
وأما جمع الضمير في اختصموا في قوله -تعالى-: "هذان خصمان اختصموا في ربهم" [الحج: 19] فذلك حملاً على المعنى؛ لأن كل خصم عبارة عن فريق يضم عدداً من الأشخاص فروعي تعدد الأشخاص لا تثنية الخصم.
والتقدير: هذان فريقان: فريق المؤمنين وفريق الكافرين، المؤمنون جماعة والكافرون جماعة أيضاً.
السؤال السادس:
وأما إفراد الاسم الموصول في قوله -تعالى-: "وخضتم كالذي خاضوا" [التوبة: 69] ، فالجواب: أن الذي جنس والتقدير: خوضاً كخوض الذين خاضوا.
السؤال السابع:
وأما جزم وأكن، في قوله -تعالى-: "لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين" [المنافقون: 63] . ففي وأكن قراءة أخرى بالنصب (وأكونَ) قرأ بها أبو عمرو البصري من السبعة. وقرأ الجمهور بالجزم وأكنْ حملاً على المعنى إي: إن أخرتني أكن.
السؤال الثامن:(1/281)
وأما جمع الضمير في نورهم في قوله -تعالى-: "مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم" [البقرة: 17] فالجواب: أن الذي مفرد باللفظ والمعنى على الجمع، ووجه وقوع المفرد موقع الجمع أنه أريد به الجنس مثل: من فيعود إليه الضمير تارة بلفظ المفرد، وتارة بلفظ الجمع.
السؤال التاسع:
وأما نصب المقيمين في قوله -تعالى-: والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله ... " [النساء: 162] ، فالجواب: أن نصبها باعتبارها مفعول به لمفعول محذوف تقديره: وأخص المقيمين.
السؤال العاشر:
وأما نصب ضراء في قوله: "ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته"
[هود: 10] ، فلأنها ممنوعة من الصرف للتأنيث مثل: صحراء والممنوع من الصرف يخفض بالفتحة.
السؤال الحادي عشر:
وأما قوله:"معدودة"، في قوله -تعالى-: "لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة" [البقرة: 80] ، فهذا استثناء مفرغ فأياماً منصوب على الظرف بالفعل قبله والتقدير: لن تمسنا النار أبداً إلا أياماً قلائل، يحصرها العد، لأن العد يحصر القليل.
السؤال الثاني عشر:
وأما قوله: "معدودات"، في قوله -تعالى-: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ... أياماً "معدودات" فإن معدودات صفة، وجمع صفة ما لا يعقل بالألف والتاء مطرد نحو هذا، ونحو قوله: "وقدور راسيات" [سبأ: 13] ، وقوله:"أيام معلومات" [الحج: 28] .
السؤال الثالث عشر:
وأما قوله "الياسين" في قوله -تعالى-: "سلام على إل ياسين"، [الصافات: 13] فيمكن أن يقال: إل يعني: آل وأهل ياسين.
أو يقال: سلام على الجماعة المنسوبين لإلياس، وهو نبي كريم -صلى الله عليه وسلم- مثل: الأشعرون نسبة إلى الأشعري، وكان حقه أن يقال: الأشعريون، فإلياسين، على هذا القول جمع إلياس فحذفت ياء النسبة تخفيفاً كما ذكرنا في (الأشعرون) ، وأما سينين فليست جمعاً لـ سيناء، كما توهم السائل بل هي لغة أخرى لـ سيناء.
السؤال الرابع عشر:(1/282)
وأما اعتراض السائل على جملة "ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة" [البقرة: 177] ، حيث زعم الصواب أن يقال: ولكن البر أن تؤمنوا فالجواب: أن التقدير: ولكن البر بر من آمن فحذف المضاف، وإنما احتيج إلى هذا التقدير؛ لأن البر مصدر "ومن آمن" جسم وعين والأجسام لا تكون خبراً عن المصادر، ولا المصادر خبراً عن الأجسام.
السؤال الخامس عشر:
وأما نصب الصابرين، في قوله -تعالى-:"والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء ... " [البقرة: 177] ، فقد تقدم جواب مشابه عن السؤال التاسع ونعيده، فأقول: نصبت بتقدير فعل محذوف تقديره: وأخص الصابرين أو على المدح. والله أعلم.
السؤال السادس عشر:
وأما قوله: "ثم قال له كن فيكون" في الآية الكريمة: "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون" [آل عمران: 59] ، فالمعنى فيكون كما يأمر الله فيكون حكاية للحال التي يكون عليها آدم، ويجوز أن يكون فيكون، بمعنى فكان وعلى هذا أكثر المفسرين والنحويين.
السؤال السابع عشر:
وأما حذف جواب لما، في قوله "فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب ... " [يوسف: 15] ، فالجواب محذوف تقديره: عرَّفناه أو نحو ذلك وبعض العلماء يقولون الجواب: أوحينا والواو زائدة إعراباً وهو مذهب الكوفيين.
السؤال الثامن عشر:
ليس فيما ذكره المعترض أدنى لبس لمن فهم اللغة العربية والخطاب العربي في قوله -تعالى-: "إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا" [الفتح: 8-9] ، فيجوز حمل الضمائر كلها على الله -تعالى-، ويجوز أن يكون الأولان عائدين على الرسول - صلى الله عليه وسلم- والأخير عائداً على الله -تعالى- لأن التسبيح خاص به، والعربي المسلم يعي هذا فلا إشكال فيه.
السؤال التاسع عشر:
وأما الجمع في قلوبكما، في قوله -تعالى-: "فقد صغت قلوبكما" [التحريم: 4] فسائغ لغة أن يعبر بالجمع عن المثنى؛ لأن التثنية جمع فأقل الجمع اثنان.(1/283)
هل تشترط لتدريس القرآن أخذ الإجازة فيه
المجيب د. عبد العزيز بن علي الحربي
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 19/10/1424هـ
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
هناك أحد علماء التجويد عندنا يقول بأنه لا يجوز لمن ليس لديه سند متصل بالقرآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعرض القرآن على شيخ قارئ فيجيزه فيه، لا يجوز له قراءة القرآن ولا تدريسه، ولدينا في بلادنا حلقات لتحفيظ القرآن الكريم يدرس فيها بعض الشباب الصالح غير أنهم ليسوا على ما ذكر ذلك الشيخ. فهل ما قاله صحيح؟ أفتونا جزاكم الله خيراً.
الجواب
من قال: لا يجوز إقراء القرآن ولا قراءته إلا بإجازة وإسناد فهو مخطئ، جاهل بمذهب السلف، ويذكر عن بعض المتأخرين اشتراط ذلك لمن أراد الإقراء، لا القراءة، فإن اشتراط الإجازة للقراءة لا يقوله عاقل، ولا يمكن تصور إجازة إلا بعد قراءة، وأظن مسألة القراءة زيادة من السائل، فهمها خطأ، لم يقل بها معلم التجويد المذكور، والمقصود: أن اشتراط ذلك والتعسير على الناس بمثل هذا ليس من الحق في شيء، فإن الله يسر للناس الذكر، تلاوة، وحفظاً فقال: "وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ" [القمر: من الآية17] ، وكان في الصحابة -رضي الله عنهم- العربي والعجمي، وفيهم الأعرابي، وكل يقرأ بما تيسر له، ويقول لهم: "اقرءوا فكل حسن" أبو داود (830) وأحمد (14849) والحديث صحيح، بل أنزل القرآن على سبعة أحرف (لغات) ، تيسيراً عليهم ودفعاً للمشقة، ولم يكن منهم ولا بعدهم من أهل القرون الأولى من يجيز، ولا يجاز بإسناد، وقد رد السيوطي في كتاب (الإتقان) على من يشترط ذلك، وتفصيل ذلك يطول، وقد جرت بيني وبين بعض الناس مباحثة في هذا، وكان مما قلته له هذه الأبيات التي منها:
قالوا: الإجازة من شيوخ *** الذكر شرط في القراءة
قلت: السلام عليكم*** رفقاً بنا ما ذي الجراءة
هل كان لأسلاف الأوائل *** قبل عام التسعماءة
لا يقرؤون بغيرها *** أين التثبت والبراءة؟
من يعشق التقليد يوماًً *** يرجع التقليد داءه
والله الموفق.(1/284)
إمام متساهل في أحكام التجويد
المجيب د. مساعد بن سليمان الطيار
عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 19/7/1424هـ
السؤال
إمام مسجدنا متساهل في أحكام التجويد، وخاصة في السكتات الخفيفة مثلا. فكيف يمكن توجيهه إذا اعتبرنا هذا العمل خطأ منه؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه إلى يوم
الدين، أما بعد:
فإن كان يستطيع تعلم أحكام التجويد، فالأولى له أن يتعلم هذا العلم ليقوِّم قراءته، ويضبطها، أما إذا كانت أخطاؤه جلية تمسُّ عربية القرآن، فهذا ممن لا يصلح للصلاة بالناس، فالأولى أن لا يصلي بالناس. وأما السكتات التي ذكرت، فإن كان يقرأ من طريق حفص عن عاصم، فله سكتات أربع مشهورة، وهي: السكت على (عوجا) من قوله تعالى: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا" [الكهف:1] . والسكت على (مرقدنا) من قوله تعالى: "قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ" [يّس:52] .والسكت على (بل) من قوله تعالى: "كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ" [المطففين:14] ، والسكت على (مَن) من قوله "وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ" [المدثر:27] . ومن قرأ برواية حفص عن عاصم من طريق الشاطبية فليس له أن يترك هذه السكتات، وإن كان يعلمها فلا شيء عليه، والله أعلم. وبالجملة، فالأولى لمثل هذا الذي تقلَّد الإمامة للناس أن يتعلم التجويد ويحسِّن قراءته، والله الموفق.(1/285)
التفسير الكبير للرازي
المجيب د. عبد اللطيف بن إبراهيم الحسين
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 19/12/1424هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سؤالي عن التفسير الكبير للرازي، لم عدَّه العلماء من التفاسير المنحرفة؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
يمكن القول بأن الرازي - رحمه الله- من الأشاعرة المتكلمين، وتفسيره: (مفاتيح الغيب) المسمى بالتفسير الكبير فيه لطائف لغوية دقيقة، ونكت إعجازية من البلاغة القرآنية والحقائق الشرعية، إلا أن فيه مآخذ منها: قلة استشهاداته بالأدلة الشرعية، وعدم تمحيص الصحيح من الضعيف، وإقحامه للعقلانية والفلسفة، والعلوم الرياضية والطبيعية، وكتابه: (مفاتيح الغيب) أشبه بموسوعة في علم الكلام، وفي علوم الكون والطبيعة، حتى كادت أن تقلل من أهمية الكتاب كتفسير للقرآن العظيم - كما يقول بعض أهل التفسير-.
وقال الحافظ ابن حجر عنه في (لسان الميزان) : (كان يعاب بإيراد الشبهة الشديدة، ويقصر في حلها، حتى قال بعض المغاربة: يورد الشبهة نقداً، ويحلها نسيئة) .
وأنصح القارئ غير المتخصص والمتمكن في علوم الشريعة بعدم قراءته، ويمكن الرجوع إلى غيره من التفاسير الموثوقة والميسرة.(1/286)
قراءة سورة الإخلاص ثلاثاً هل تعدل ختم القرآن؟
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 27/08/1426هـ
السؤال
أخرج البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- أَنَّ رَجُلاً سَمِعَ رَجُلاً يَقْرَأ: ُ"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" يُرَدِّدُهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ". فهل يكفي أن نقرأ سورة الإخلاص ثلاث مرات في اليوم بدلاً من قراءة أجزاء كثيرة من القرآن؟ وهل يجب التسمية عند كل قراءة للسورة إذا قرأتها ثلاث مرات متتابعةً؟.
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله، وبعد:
في هذا الحديث دليل على فضل: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ، وبيان أنها تعدل ثلث القرآن الكريم، قال بعض أهل العلم: "هي ثلث القرآن باعتبار معاني القرآن الكلية، لأنه أحكام، وأخبار، وتوحيد، وقد اشتملت هي على القسم الثالث، وهو أشرف المعارف وأفضلها، فكانت ثلثاً بهذا الاعتبار، ويستأنس لهذا بقوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ جَزَّأَ القُرْآنَ ثَلاَثَةَ أَجْزَاءٍ فجعل (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) جُزْءاً مِنْ أَجْزَاءِ القُرْآنِ" [فتح الباري (9/61) ] .
وقال أبو العباس بن سريج لما سئل عن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن"، فقال: "معناه أنزل القرآن على ثلاثة أقسام: ثلث منها الأحكام، وثلث منها وعد ووعيد، وثلث منها الأسماء والصفات، وهذه السورة جمعت الأسماء والصفات " [ينظر: مجموع الفتاوى (17/103) ] .(1/287)
وقال القرطبي: " اشتملت هذه السورة على اسمين من أسمائه تعالى يتضمنان جميع أوصاف كماله تعالى, لم يوجدا في غيرها من السور وهما "الأحد"، "الصمد"؛ لأنهما يدلان على أحادية الذات المقدسة الموصوفة بجميع أوصاف الكمال، وبيان ذلك أن "الأحد" يشعر بوجوده الخاص الذي لا يشاركه فيه غيره، وأما "الصمد": فهو المتضمن لجميع أوصاف الكمال، فإن "الصمد" هو الذي انتهى سؤدده بحيث يصمد إليه في الحوائج كلها، أي يقصد، ولا يصح ذلك تحقيقاً إلا ممن حاز جميع خصال الكمال حقيقة، وذلك لا يكمل إلا لله -تعالى- فهو الأحد الصمد الذي: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) ، فقد ظهر أن لهذين الاسمين من شمول الدلالة على الله تعالى وصفاته ما ليس لغيرهما من الأسماء، وأنهما ليسا موجودين في شيء من سور القرآن، فظهرت خصوصية هذه السورة بأنها ثلث القرآن" [المفهم (2/441- 442) ] .
وقد ورد في فضل هذه السورة أحاديث أخرى، منها: حديث عائشة - رضي الله عنها - في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلاً عَلَى سَرِيَّةٍ، وَكَانَ يَقْرَأُ لأصْحَابِهِ فِي صَلاتِهِمْ فَيَخْتِمُ بـ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فَلَمَّا رَجَعُوا ذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "سَلُوهُ لأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ؟ " فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: لأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ" أخرجه البخاري (7375) ، ومسلم (813) .(1/288)
وهذه السورة المباركة إذا قرأها المسلم حصل له ثواب بقدر ثواب ثلث القرآن، ولكن لا يكتفى بتلاوتها ثلاث مرات عن تلاوة بقية القرآن، وذلك لتنوع الثواب والأجر، وحاجة المسلم إلى قراءة بقية القرآن لما فيه من الأحكام والقصص التي يحتاج المسلم إلى تدبرها والانتفاع بما تضمنته من أوامر ونواهٍ وتوجيهات حتى يعبد الله على بصيرة وهدى، ويوفق للاستقامة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: فإذا قرأ الإنسان "قل هو الله أحد" حصل له ثواب بقدر ثواب ثلث القرآن، لكن لا يجب أن يكون الثواب من جنس الثواب الحاصل ببقية القرآن، بل قد يحتاج إلى جنس الثواب الحاصل بالأمر والنهي والقصص، فلا تسد (قل هو الله أحد) مسد ذلك ولا تقوم مقامه،.... بل يبقى فقيراً محتاجاً إلى ما يتم به إيمانه من معرفة الأمر والنهي والوعد والوعيد، ولو قام بالواجب عليه فالمعارف التي تحصل بقراءة سائر القرآن لا تحصل بمجرد قراءة هذه السورة، فيكون من قرأ القرآن كله أفضل ممن قرأها ثلاث مرات من هذه الجهة لتنوع الثواب، وإن كان قارىء (قل هو الله أحد) ثلاثاً يحصل له ثواب بقدر ذلك الثواب، لكنه جنس واحد ليس فيه الأنواع التي يحتاج إليها العبد، كمن معه ثلاثة آلاف دينار وآخر معه طعام ولباس ومساكن ونقد يعدل ثلاثة آلاف دينار، فإن هذا معه ما ينتفع به في جميع أموره، وذاك محتاج إلى ما مع هذا وإن كان ما معه يعدل ما مع هذا، وكذلك لو كان معه طعام من أشرف الطعام يساوي ثلاثة آلاف دينار فإنه محتاج إلى لباس ومساكن وما يدفع به الضرر من السلاح والأدوية وغير ذلك مما لا يحصل بمجرد الطعام. " [مجموع الفتاوى (17/138) ] .
والبسملة عند افتتاح كل سورة مستحبة إلا عند قراءة سورة التوبة، هذا والله أعلم.(1/289)
آية الرجم المنسوخة
المجيب د. محمد بن إبراهيم الغامدي
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك خالد
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 22/3/1425هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله.
هل هنالك آية تسمى آية الرجم حذفت من القرآن؟ إن كان ذلك صحيحاً نرجوكم أن توضحوا لنا الحكمة من ذلك، وهل هناك آيات أخرى حذفت؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده: أما بعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
فنقول وبالله التوفيق نعم هناك آية في كتاب الله عز وجل تسمى آية الرجم لم تحذف ولكن العبارة الصحيحة أنها نسخت لفظاً وبقي حكمها وهذا أمر مقرر شرعاً وهو نسخ اللفظ وبقاء الحكم
وهونوع من أنواع النسخ في القرآن أخرج البخاري في صحيحه6/2503 حديث (6441) حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال عمر - رضي الله عنه - لقد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل لا نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ألا وإن الرجم حق على من زنى وقد أحصن إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف قال سفيان كذا حفظت ألا وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، باب: رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت.(1/290)
وأخرج البخاري (6/2504) أيضا من حديث عمر رضي الله عنه أنه قام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فإني قائل لكم مقالة قد قدر لي أن أقولها لا أدري لعلها بين يدي أجلي فمن عقلها ووعاها فليحدث بها حيث انتهت به راحلته ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحل لأحد أن يكذب علي إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل الله آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله) .
وأخرج مسلم: 3/1317حديث (1691) عن عمر رضي الله عنه أنه قال وهو جالس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله قد بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل عليه آية الرجم قرأناها ووعيناها وعقلناها فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف وأخرج ابن حبان في صحيحه:10/274 أخبرنا محمد بن الحسن بن مكرم بالبصرة قال حدثنا داود بن رشيد قال حدثنا أبو حفص الأبار عن منصور عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش قال لقيت أبي بن كعب - رضي الله عنه - فقلت له إن ابن مسعود - رضي الله عنه - كان يحك المعوذتين من المصاحف ويقول إنهما ليستا من القرآن فلا تجعلوا فيه ما ليس منه قال أبي قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لنا فنحن نقول كم تعدون سورة الأحزاب من آية قال قلت ثلاثا وسبعين قال أبي والذي يحلف به إن كانت لتعدل سورة البقرة ولقد قرأنا فيها آية الرجم "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم".(1/291)
وأخرج الحاكم في مستدركه2/450 أخبرنا أبو العباس أحمد بن هارون الفقيه حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا حجاج بن منهال حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال كانت سورة الأحزاب توازي سورة البقرة وكان فيها "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة" هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وأخرج أيضا في4/400 حديث (8068) قال حدثنا أحمد بن كامل القاضي ثنا محمد بن سعد العوفي ثنا روح بن عبادة ثنا شعبة قال وحدثنا أحمد بن محمد بن عيسى القاضي ثنا أبو النعمان محمد بن الفضل ثنا حماد بن زيد جميعا عن عاصم عن زر قال قال لي أبي بن كعب - رضي الله عنه - وكان يقرأ سورة الأحزاب قال قلت ثلاثا وسبعين آية قال قط قلت قط قال لقد رأيتها وإنها لتعدل البقرة ولقد قرأنا فيما قرأنا فيها "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم" هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه
وأخرج أيضا برقم (8069) قال: أخبرنا أبو العباس القاسم بن القاسم السياري ثنا محمد بن موسى الباشاني ثنا علي بن الحسن بن شقيق أنبأ الحسين بن واقد ثنا يزيد النحوي عن عكرمة عن بن عباس رضي الله عنهما قال من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب قوله -عز وجل- "يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب" [المائدة:15] فكان الرجم مما أخفوا هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
أخرج أيضا حديث برقم (8070) قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب أنبأ محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أنبأ بن وهب أخبرني الليث بن سعد عن سعيد بن أبي هلال عن مروان بن عثمان عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن خالته أخبرته قالت لقد أقرأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الرجم "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة" هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة(1/292)
وأخرج أيضاً برقم (8071) فقال: حدثني محمد بن صالح بن هانئ ثنا الحسين بن محمد بن زياد ثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن قتادة عن يونس بن جبير عن كثير بن الصلت قال كان ابن العاص وزيد بن ثابت - رضي الله عنهما - يكتبان المصاحف فمرا على هذه الآية فقال زيد - رضي الله عنه - سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ثم "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة" فقال عمرو - رضي الله عنه - لما نزلت أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت أكتبها فكأنه كره ذلك فقال له عمرو ألا ترى أن الشيخ إذا زنى وقد أحصن جلد ورجم وإذا لم يحصن جلد وأن الثيب إذا زنى وقد أحصن رجم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
فهذه الآية التي ذكرت ثبت أنها كانت فيما أنزل من القرآن ثم نسخ لفظها وبقي حكمها، وأما الحكمة من ذلك فقد نعلمها وقد لا نعلمها لكن إذا لم نعلمها فالواجب علينا التسليم
والنسخ أمر مقرر شرعاً:
يقول الله جل وعلا "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منه أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير" [البقرة 106] .
وقال "وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون" [النحل 101] .
ومن الحكم التي ذكرها أهل العلم للنسخ 1- اللطف والتخفيف بعد التشديد والتغليظ قال تعالى "الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين......." [الأنفال:66] فنسخ لقاء الواحد من المسلمين للعشرة من المشركين إلى لقاء الواحد للإثنين.
2-العقوبة والمجازاة على جرائم المكلفين كما في قوله - تعالى - "فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم..........." [النساء160] .(1/293)
3- التكريم للمكلف وطلب رضاه وما تطيب به نفسه كما في قوله -تعالى- "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام......." الآية [البقرة:144] ، وقد كان يستقبل بيت المقدس لكنه كان يكره استقبال قبلة اليهود ويحب استقبال قبلة إبراهيم -عليه السلام - فنسخ الله -سبحانه- ما كرهه بما رضيه من القبلتين كرامة له -صلى الله عليه وسلم-.
4-المصلحة المبنية على ما تقدم من السهولة بعد الصعوبة وتخفيف التكليف لكونه أقرب للاستجابة استصلاحا للمكلفين
5- وقد يكون ابتلاء من الله -عز وجل- ولا يبين وجه الأصلح فيه إذ له -عز وجل- فعل ما يشاء كما في قوله -عز وجل- "سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها" فأجابهم بقوله "قل لله المشرق والمغرب"الآية، [البقرة:142] .
فأخبر أنه يملك المشرق والمغرب فله أن يوليهم إلى أي جهة
وعلل بالابتلاء في قوله: "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه" [البقرة:143] فهذا نسخ للابتلاء والاختبار.
والنسخ باب واسع من أبواب أصول الفقه ينظر في هذا الواضح في أصول الفقه لأبي الوفاء ابن عقيل1/243وما بعدها
والذي ينبغي أن يعلم أن الرجم حكم ثابت أيضا بالسنة الصحيحة في حق الزاني المحصن إذا ثبت عليه ذلك بإقراره المعتبر شرعا أو بالبينة المعتبرة شرعا وتوافرت بقية شروطه المفصلة في كتب الفقه والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(1/294)
القراءات العشر
المجيب د. محمد بن سريّع السريّع
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 04/02/1426هـ
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فقد أحببت السؤال بخصوص القراءات المتسلسلة للقرآن الكريم أن عددها عشرة قراءات، وأتمنى أن تعلموني كيف يتم التفريق بينها، إضافة إلى سبب عدم كتابة هذه القراءات، وكيف يمكن للمسلم أن يتعلمها، وما السبيل لذلك؟. وجزاكم الله كل خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
- القراءات القرآنية جمع قراءة، والقراءة: هي مذهب يذهب إليه إمام من أئمة القراء في النطق بالقرآن الكريم. والقراءات القرآنية الصحيحة هي المتلقاة بأسانيد صحيحة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- مع اجتماع باقي الشروط التي ذكرها العلماء لذلك. ومن أمثلة القراءات القرآنية قوله تعالى: "مالك يوم الدين" [الفاتحة:4] ، وفي قراءة: "ملك يوم الدين"، ومن أمثلتها قوله تعالى: "ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون" [البقرة:10] ، وفي قراءة: "يكذّبون"، ومن أمثلتها قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا" [الحجرات:6] ، وفي قراءة: "فتثبتوا".
- والقراءات القرآنية تناقلها الأئمة القراء، وهي مثبتة في كتب أهل العلم، ولكن لا يسوغ جمعها في مصحف واحد؛ لأنه يؤدي إلى التشويش والتلبيس، ومن أراد تعلُّم هذه القراءات فعليه أن يتلقاها من الأئمة القراء الذين تلقوا هذه القراءات عمن قبلهم، كما أنه من الممكن أن يستفيد من كتب أهل العلم المصنفة في القراءات ككتاب التيسير لأبي عمر الداني والنشر في القراءات العشر لابن الجزري. والله أعلم.(1/295)
علماء الإغريق واكتشاف مراحل الجنين
المجيب د. محمد بن إبراهيم دودح
باحث علمي في هيئة الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 1/05/1425هـ
السؤال
هل صحيح أن علماء الإغريق القدامى مثل أرسطو اكتشفوا كيف يتم تكوين الجنين في بطن أمه؟ أي قبل نزول القرآن على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ لأن هناك شخصاً هندوسياً تحدى القرآن، وأبطل كون القرآن كتاباً علمياً، وأنه سبق الكثير من العلوم الحالية في اكتشافاته مثل تكوين الجنين. والسلام عليكم ورحمة الله.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
بخصوص السؤال عن الحقائق العلمية المتعلقة بخلق الجنين، والتي كشفها القرآن الكريم هل كان يعرفها أحد زمن التنزيل؟؛
بديهي أن تسمع من المشككين مغالطات آملين التشويش على غير العارفين بالحقائق, ويكفي أن نخبة من كبار المختصين في العالم في علم الأجنة قد بهرتها الأوصاف العلمية الدقيقة في القرآن، فشاركت معنا في العديد من المؤتمرات العلمية الدولية، مقررة سبق القرآن للمعارف البشرية، ومعترفة أنه ليس بقول بشر, ومن هؤلاء (كيث مور) Keith Moore رئيس قسم التشريح وعلم الأجنة بجامعة (تورنتو) في كندا, ولك أن تطالع كتابه بالإنجليزية حول تخلق الجنين البشري The Developing Human لتجد أمامك مقابل حقائق علم الأجنة المكتشفة حديثاً على يد أشخاص معروفين نفس الدلالات في القرآن، لتشهد للكتاب الكريم بالتنزيل.(1/296)
عاش المفكر الإغريقي أرسطو Aristotleفي القرن الرابع قبل الميلاد, وقد أصاب شهرة واسعة؛ نتيجة لتأملاته في كثير من الظواهر الطبيعية قبل اكتشاف المجهر في القرن السابع عشر, وله مساهمات تجريبية في وصف تطور جنين الدجاجة وغيرها بالعين المجردة، حتى إن البعض يعتبره واضع أساس علم الأجنة, ومع ذلك فقد جاءت الثورة العلمية الحديثة ابتداء من القرن السابع عشر بمكتشفات نقضت معتقداته, ومن ذلك اعتقاده بتخلق الجنين من دم الحيض نتيجة للاتحاد مع السائل المنوي, وليس هو أول من وصف تطور جنين الدجاجة من الإغريق فقد سبقه (أبو قراط) Hippocrates بحوالي قرن عدا كثير من اجتهاداته في الطب، حتى إن كثيراً ممن يحاول من الغربيين قصر نسبة تاريخ العلوم على أسلافه يعتبره أبا الطب, وربما كان (جالن) Galen الذي عاش في القرن الثاني قبل الميلاد أكثر دقة من أرسطو في كثير من أوصاف أجنة الحيوان بالعين المجردة, وفي العصور الوسطى قبل عصر النهضة عاشت أوروبا في كساد علمي لم يتجاوز كثيرا ترديد أفكار الإغريق, ولذا يتعجب البروفيسور (كيث مور) في كتابه من وفرة وتآزر الحقائق العلمية المتعلقة بخلق الجنين في القرآن, فيقول: "لم تُضف في العصور الوسطى معلومات ذات قيمة في مجال تخلق الجنين, ومع ذلك قد سجل القرآن في القرن السابع وهو الكتاب المقدس عند المسلمين أن الجنين البشري يتخلق من أخلاط تركيبية من الذكر والأنثى, مع بيان تخلق الجنين في أطوار ابتداءً مما يماثل في التركيب قطيرة أو نطفة تنغرس وتنمو في الرحم كالبذرة.. ومع وصف الجنين في أول مرحلة بما يماثل العلقة Leech التي تعيش على مص دماء الغير، ثم مما يماثل كتلة ممضوغة بما فيها من علامات أسنان وانبعاجات وهو ما يتفق تماما مع تطور الأعضاء في المرحلة التالية, وإذا أردت مزيدا من الأوصاف العلمية في القرآن في مجال علم الأجنة فإني أحيلك إلى كتابي طبعة 1986.., مع العلم أن أول من درس جنين الدجاجة(1/297)
باستخدام عدسة بسيطة هو (هارفي) Harvey عام 1651, ودرس كذلك أجنة الأيل Deer ولصعوبة معاينة المراحل الأولى للحمل استنتج أن الأجنة ليست إلا إفرازات رحمية, وفي عام 1672 اكتشف جراف Graaf حويصلات في المبايض ما زالت تسمى باسمه Graafian Follicles وعاين حجيرات في أرحام الأرانب الحوامل تماثلها، فاستنتج أن الأجنة ليست إفرازات من الرحم وإنما من المبايض, ولم تكن تلك التكوينات الدقيقة التي عاينها (جراف) سوى تجاويف في كتل الخلايا الجنينية الأولية Blastocysts, وفي عام 1675 عاين مالبيجي Malpighi أجنة في بيض دجاج ظنه غير محتاج لعناصر تخصيب من الذكر، واعتقد أنه يحتوى على كائن مصغر ينمو ولا يتخلق في أطوار, وباستخدام مجهر أكثر تطوراً اكتشف هام Hamm وليفنهوك Leeuwenhoek الحوين المنوي للإنسان للمرة الأولى في التاريخ عام 1677ولكنهما لم يدركا دوره الحقيقي في الإنجاب، وظنا أيضاً أنه يحتوي على الإنسان مصغراً لينمو في الرحم بلا أطوار تخليق, وفي عام 1759 افترض وولف Wolff تطور الجنين من كتل أولية التكوين ليس لها هيئة الكائن المكتمل, وحوالي العام 1775 انتهى الجدل حول فرضية الخلق المكتمل ابتداءً، واستقرت نهائيا حقيقة التخليق في أطوار وأكدت تجارب إسبالانزاني Spallanzani على الكلاب على أهمية الحوينات المنوية في عملية التخليق.. وقبله سادت الفكرة بأن الحوينات المنوية كائنات غريبة متطفلة، ولذا سميت بحيوانات المني Semen Animals, وفي عام 1827 بعد حوالي 150 سنة من اكتشاف الحوين المنوي عاين (فون بير) von Baer البويضة في حويصلة مبيض إحدى الكلاب, وفي عام 1839 تأكد شليدن Schleiden وشوان Schwann من تكون الجسم البشري من وحدات بنائية أساسية حية ونواتجها، وسميت تلك الوحدات بالخلايا Cells وأصبح من اليسير لاحقا تفهم حقيقة التخلق في أطوار من خلية مخصبة ناتجة عن الاتحاد بين الحوين المنوي والبويضة.. وفي عام 1878 اكتشف فليمنج(1/298)
Flemming الفتائل الوراثية Chromosomes داخل الخلايا, وفي عام 1883 اكتشف بينيدن Beneden اختزال عددها في الخلايا التناسلية, وفي القرن العشرين تم التحقق نهائيا من احتواء الخلية البشرية الأولى Zygot على العدد الكامل من تلك الأخلاط الوراثية من الذكر ومن الأنثى وعُرف عددها".
هذا هو تاريخ اكتشاف تلك الحقائق التي سبق القرآن وذكرها قبل اكتشافها بقرون, فكيف لمحقق أن يجهلها أو يتجاهلها ويعارض الحقيقة إلا ويتهمه التاريخ والعلم بالجهل أو الحيدة عن الإنصاف! , يقول العلي القدير: "مّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلّهِ وَقَاراً. وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً" [نوح: 13و14] , ويقول عز وجل: "يَأَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىَ" [الحجرات: 13] , قال القرطبي: "بَيَّنَ الله -تعالى- في هذه الآية أنه خلق الخلق من الذكر والأنثى، وقد ذهب قوم من الأوائل إلى أن الجنين إنما يكون من ماء الرجل وحده، ويتربى في رحم الأم ويستمد من الدم الذي يكون فيه.. والصحيح أن الخلق إنما يكون من ماء الرجل والمرأة لهذه الآية فإنها نص لا يحتمل التأويل", ويقول عز وجل: "إِنّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ" [الإنسان: 2] , قال الشوكاني: "وأمشاج صفة لنطفة وهي جمع مشج أو مشيج وهي الأخلاط والمراد نطفة الرجل ونطفة المرأة واختلاطهما", وقال ابن القيم: "الجنين يخلق من ماء الرجل وماء المرأة خلافا لمن يزعم من الطبائعيين أنه إنما يخلق من ماء الرجل وحده, إن فيض التفاصيل العلمية في القرآن، والتي يستحيل أن يدركها بشر زمن التنزيل هي بعض دلائل النبوة الخاتمة التي تسطع اليوم أمام النابهين.(1/299)
لماذا لم يفسر الرسول القرآن درءاً للخلاف؟
المجيب د. ناصر بن محمد الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 10/03/1427هـ
السؤال
لماذا لم يفسر الرسول -صلى الله عليه وسلم- القرآن كلمة كلمة؟ ألم يكن ذلك حماية لكتاب الله من محاولات البشر لتفسيره كلٌّ كما يرى، مما أدى -في رأيي- إلى تفريق الملتفين حوله كل يدعي صحة تفسيره، وخاصة في عصرنا الحالي، وكلٌّ يستند إلى تفسير البشر المقربين من الرسول -صلى الله عليه وسلم- أي الصحابة وكأنهم بشر مقدسين؟
وأخطر مثال لذلك ما يحدث بين علماء السنة وعلماء الشيعة وكلاهما يكفر الآخر ويدعو أتباعه إلى قتل الآخر وهنا أسأل: أين الحقيقة بين الفريقين، وخاصة فيما يخص الأحاديث النبوية؟
ولماذا لم يوجه الرسول -صلى الله عليه وسلم- الصحابة بضرورة كتابة وتدوين القرآن وكذلك الأحاديث؛ حتى يمكنه تدقيقها بنفسه، وقطع الطريق على المدلسين ... والغريب أن ذلك تم بعد موته بقليل بشأن القرآن، وبعد مدة طويلة بشأن الأحاديث، مما أدى إلى دخول عوامل أخرى أثرت في دقة التدوين، وتعلمون ذلك مما يشاع من قرآن لدى الشيعة مختلف قليلا عن قرآن السنة، والأمر أوضح في الأحاديث؟ أرجو أن لا يفهم تساءلي على أنه رغبة في هدم الإسلام، بل على العكس إنه نقد يهدف إلى تزويد المدافعين عن الإسلام بأجوبة مقنعة لأسئلة تواجههم من خلال وسائل تبادل المعلومات في عصرنا الحالي.
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فقد عرض السائل الكريم في سؤاله لعدد من الموضوعات، وفي بعض ما أورده مسائل كبار، ربما لم يمكن استيعابها في هذه الإجابة، فأرجو أن يكون فيما أذكره ما يفي بمبتغى السائل، ويضع يده على طريق الصواب.(1/300)
فأما سؤالك عن عدم تفسير النبي -صلى الله عليه وسلم- للقرآن، فيغلب على ظني أن الذي حملك على مثل هذا السؤال ما رأيت من اختلاف واسع بين المنتسبين إلى الإسلام، فظننت أنه لو كان النبي -صلى الله عليه وسلم- فسر القرآن كاملا لكان عصم الأمة من هذا الاختلاف، والجواب على هذا من جانبين:
أولهما: أن الاختلاف بين البشر سنة باقية، هي من لوازم وجودهم واجتماعهم، وهي قدر الله السابق، وله في ذلك الحكمة البالغة، والمشيئة النافذة، وهو تعالى يعلم أن هذا الاختلاف سيقع من الناس، ولو شاء لم يكن ذلك، وإنما أراد عز وجل ذلك؛ ليعلم بهذا من يطيعه ممن يعصيه، ويبتلي عباده لينظر من يعظم أمره ممن يتعداه، ولهذا خلق الإنس والجن، وأوجد الجنة والنار، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب.
ولو طردنا هذا الذي تقول في مسألة اختلاف المسلمين، لجاز لنا أن نسأل: لم قدر الله اختلاف الناس أصلا، بين مؤمن وكافر، وبر وفاجر؟
ومتى أجبتَ عن هذا السؤال والإيراد، وبينت حكمة هذا الاختلاف، كان ما قلتَه هو الجواب عما استشكل عليك، ذلك أن الله -عز وجل- لو شاء لهدى الناس جميعا، فكانوا أمة واحدة، لا خلاف بينها، كما قال عز وجل: "وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" [النحل:93] ، ولكن الله -تعالى- أراد أن يبتلي عباده، ليعلم المؤمن من الكافر، والبر من الفاجر.
فمهما يكن من بذل للأسباب المانعة من الخلاف، فإنه لا بد أن يقع بين الأمة اختلاف وافتراق، كما أخبر بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح الذي أخرجه أبوداود (4596) ، والترمذي (2640) وغيرهما، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تفرقت اليهود على إحدى وسبعين، أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة".(1/301)
ثانيهما: يجب لفت نظرك الكريم، إلى أن الخلاف بين أهل الإسلام في فهم كلام الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم -وإن كان واسعا- فإنه بحمد لله لم يوجب شقاقا ولا نزاعا؛ لأنه بقي في دائرة البحث العلمي والنظر الفقهي، الذي تتعدد فيه الرؤى وتتنوع الاعتبارات، وهؤلاء صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسلف الأمة من القرون المفضلة، ثم من تبعهم من علماء المسلمين وأئمة الدين، لم يقع بينهم شقاق أو نزاع، يخرج عن دائرة الاجتهاد والنظر في فهم كلام الله وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم-، لأنهم متفقون على أصول الاعتقاد، وأصول العبادة، وأمهات المسائل الشرعية، والخلاف الذي وقع بينهم سائغ في أصله، لم يوجب أن يضلِّل أو يُبَدِّع بعضهم بعضا.
وأما ما وقع فيه أهل البدعة والضلالة، الذين تأولوا كتاب الله على غير وجهه، فإن من المهم أن تعلم -أخي السائل- أن هذا الخلاف لم يكن من جهة غموض دلالة القرآن والسنة، وعدم فهم مراد الشارع فيهما، بل هم أناس اعتقدوا عقيدة بهوى أنفسهم، وبنوا عليها رأيهم، وأصَّلوا عليها أصولهم، ثم طلبوا الدليل لها، فلما أعياهم ذلك بدأوا يأولون كلام الله، ويحرفون الكلام عن مواضعه، ومن كانت هذه حاله فلن يردعهم عن ضلالهم تفسير النبي-صلى الله عليه وسلم- لجميع القرآن، ولو فعل، وخذ على سبيل المثال، من أنكر سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- جملة وتفصيلا، مقتصرًا على القرآن الكريم، ممن يسمون أنفسهم ـ كذبا ـ (قرآنيون) فهؤلاء يردون سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- من أصلها، ولا يقبلون شيئا منها، وإن كانت ثابتة، فإذاً لو فسر النبي -صلى الله عليه وسلم- كامل القرآن كلمة كلمة، لم يمنعهم ذلك من مخالفة المسلمين.(1/302)
ومثال آخر: تلك الفرق الباطنية المتعددة، التي تقوم أساسا على تفسيرات باطنية، تخالف الظاهر المدرك، ولا تجري على لغة العرب ونسقها، فضلا عن مخالفتها لإجماع علماء المسلمين، فمثل أولئك لابد أن يقع خلاف معهم، لأن أسس الاستدلال والفهم والالتزام غير مشتركة، فلابد أن تكون النتيجة غير متفقة.
وفي هذا السبيل الخلاف الذي أشرت إليه في سؤالك، بين أهل السنة والشيعة، فالخلاف بين الفريقين ليس خلافا في فهم آية من كتاب الله، أو استدلال بحديث من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو فرع من فروع الشريعة، بل الخلاف معهم أعمق من هذا، إنه خلاف في أصول الاعتقاد، ومصادر التلقي، ومنهج الاستدلال، مما يجعل الخلاف منظومة فكرية كاملة، فلو كتب النبي -صلى الله عليه وسلم-، -كما تقول أنت- سنته كاملة، وضبطها وراجعها، لما أغنى ذلك في الخلاف مع الرافضة -وهم غلاة الشيعة- لأنهم يقدحون في كل الصحابة، إلا نفرا قليلا جدا، لا يبلغ العشرة منهم، فلو جئتهم بسنته مكتوبة، وقلت: هذا ما كتبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لما قبلوها، زاعمين أن من كتبها ونقلها -وهم الصحابة -رضي الله عنهم- قد غيروا وبدلوا، بل هذا ما وقع فعلا في كتاب الله -وقد أشرت أنت إلى ذلك- فمع أنه كان قد كتب عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحفظ وضبط، فلم يغن شيئا عند أهل الغلو منهم، فزعموا نقص القرآن وتحريفه.
وأما ما ذكرته من مسألة التلقي عن الصحابة والاحتجاج بأقوالهم، فهي مسألة أصولية بسطت في محلها من كتب الأصول ولها قيود وضوابط، ومن المهم أن تعلم أن الاحتجاج بأقوالهم، ليس لأنهم بشر مقدس لا يخطئ، بل هم يخطئون ويصيبون، ويؤخذ من قولهم ويرد، لا يختلف في ذلك أهل العلم، وإنما كان لأقوالهم في تفسير كلام الله تعالى مزية عن غيرهم لأمور، من أهمها:(1/303)
أولا: أنهم أهل اللسان الذين نزل به القرآن الكريم، فهم أهل العربية الناطقون بها، فمن المعقول أن يكونوا أولى مَنْ فهم كلام الله، وعَرَف مراده.
ثانيا: أنهم قد عايشوا التنزيل، وشهدوا مواقع نزول القرآن، وما احتف بذلك النزول من حوادث، وهذه مزية تجعلهم أعلم بمعاني الكلام، ومراد المتكلم به.
ثالثا: أنهم لصحبتهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- وطول ملازمتهم له، كانوا أعلم الناس بهذه الشريعة، وأدرى الأمة بمراد الشارع.
لهذه الأسباب، وغيرها مما لم أشر إليه، فلا يختلف أهل الإسلام؛ أنهم المقدمون على من سواهم، وأن قولهم حجة على من بعدهم.
وأما مسألة الدقة في التدوين فلا أدري ما قصدك بها، لأنه لا توجد أمة على وجه الأرض، حفظت سنة نبيها وآثار سلفها، كما فعلت هذه الأمة، على نحو يدل أن ذلك من توفيق الله تعالى لها، وهدايته إياها، حتى سلكت هذا السبيل، وبنظرة خاطفة إلى دواوين السنة، والمؤلفات الخادمة لها، تدرك مدى الجهد العلمي الضخم، الذي بذله علماء السنة، وأساطين الدين، حتى حفظوا لنا سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بأسماء رواتها كلهم، على اختلاف بلدانهم، وتنوع أعصارهم، وتفاوت درجاتهم في العدالة والحفظ، بشكل مذهل معجب، مع العناية الفائقة بتمييز الصحيح من الضعيف، والمقبول من المردود.
ومع هذا التدوين والكتابة الدقيقة، فلم يكن الاعتماد على هذا فقط، بل هناك حفظ الصدور، حيث اشتهر في تاريخ تدوين السنة، عدد ضخم من الحفاظ المتقنين، الذين تربو محفوظاتهم من الآثار والسنن بأسانيدها، عن عشرات الألوف، بل وبعضهم مئات الألوف، ولذا فلا شك عند علماء المسلمين، أن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد حفظت لنا، حفظا متقنا، نعلم معه ونميز به، ما قاله الرسول -صلى الله عليه وسلم- مما كُذب عليه ونسب إليه.(1/304)
وبقي أن أقول -أيها السائل الكريم-: ليس بين يدي طالب الحق، الباحث عن الهدى والنور، أو حتى من يدافع عنه، إلا أن يجتهد وسعه، ويخلص النية لله تعالى، ويسأله الهداية لما اختلف فيه من الحق، والله الموفق للصواب، الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.(1/305)
تحزيب القرآن الكريم
المجيب د. رياض بن محمد المسيميري
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 27/11/1424هـ
السؤال
أرجو التفضل بالإفادة عن تقسيم القرآن الكريم إلى أجزاء، وأحزاب، وأرباع، متى تم ذلك؟ ومن الذي قام به؟ وعلى أي أساس؟ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب
لقد مرّ المصحف الشريف بمراحل متعددة قبل أن يصل إلينا بحليته الموجودة بين أيدينا الآن، وقد كان القرآن الكريم في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم- مفرقاً، في الألواح، وعُسْب النخل والأكتاف، وغيرها مما تيسر آنذاك، ثم حصل جمع القرآن في عهد الصديق - رضي الله عنه-، ثم جمع الجمع الأخير، في عهد عثمان - رضي الله عنه- لأسباب وظروف معلومة، يطول شرحها، وظل القرآن في عصر الصحابة - رضي الله عنهم- غير منقوط أو مشكوك حتى اضطر المسلمون إلى نقطه وضبطه بالشكل حين كثر اللحن وشاع الخطأ، وقيل: أول من نقطه هو أبو الأسود الدؤلى وقيل: بل يحيى بن يعمر، وقيل: غير ذلك، وكان بداية تحزيبه بشكله المعروف الآن في عهد الحجاج بن يوسف الثقفي كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (13/409) ، ومما هو جدير بالذكر أن تحزيب الصحابة - رضي الله عنه- كان بالسور وهو أفضل وأحسن من تحزيبه الحالي الذي لا يخلو من بعض الوقوفات على كلمات أو آيات ذات صلة وثيقة بما بعدها، كما أشار السائل. والله أعلم.(1/306)
الإعجاز العلمي للقرآن
المجيب د. محمد بن إبراهيم دودح
باحث علمي في هيئة الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 12/04/1425هـ
السؤال
ما حكم ما يسمى بالإعجاز العلمي للقرآن؟، وأعني بذلك تفسير آيات القرآن الكريم بقوانين العلوم الطبيعية (كالكيمياء، والطب، والجيولوجيا، والفلك، ونحوها) ، هل هو جائز بإطلاق؟ أم ممنوع بإغلاق؟ أم هناك ضوابط وقواعد؟.
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد:
لقد ادخر القرآن الكريم كثيراً من الآيات للأجيال في عبارات معلومة الألفاظ، لكن الكيفيات والحقائق لا تتجلى إلا حيناً بعد حين, يقول تعالى: "إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ" (ص 87و88) , وقد فسر الطبري معنى الحين بقوله: (فلا قول فيه أصح من أن يطلق كما أطلقه الله من غير حصر ذلك على وقت دون وقت) , فلكل نبأ في القرآن زمن يتحقق فيه، فإذا تجلى الحدث ماثلا للعيان أشرقت المعاني، وتطابقت دلالات الألفاظ والتراكيب مع الحقائق, وهكذا تتجدد معجزة القرآن على طول الزمان, يقول العلي القدير: "وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ" [الأنعام: 66-67] , ونقل ابن كثير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- تفسيره للمستقر بقوله: (لكل نبأ حقيقة أي لكل خبر وقوع ولو بعد حين) , وقد تردد هذا الوعد كثيرا في القرآن الكريم بأساليب متعددة كما في قوله -تعالى- "ثم إن علينا بيانه" [القيامة: 19] , وقوله: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق" [فصلت: 53] , وقوله: "وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها" [النمل: 93] , قال ابن حجر: (ومعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة، وخرقه للعادة في أسلوبه، وفي بلاغته، وإخباره بالمغيبات، فلا يمر عصر من العصور إلا ويظهر فيه شيء مما أخبر به أنه سيكون يدل على صحة دعواه) , قال محمد رشيد رضا: (ومن دلائل إعجاز القرآن أنه يبين الحقائق التي لم يكن يعرفها أحد من المخاطبين بها في زمن تنزيله بعبارة لا يتحيرون في فهمها والاستفادة منها مجملة، وإن كان فهم ما وراءها من التفصيل الذي يعلمه ولا يعلمونه يتوقف على ترقي البشر في العلوم والفنون الخاصة بذلك) , وقال جوهري: (أما قولك كيف عميت هذه الحقائق على كثير من أسلافنا؟ , فاعلم أن الله هو الذي قال: "سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ"، وقال: "وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا", إن الله لا يخلق الأمور إلا في أوقاتها المناسبة، وهذا الزمان هو أنسب الأزمنة) , "والمدار على الفهم، والفهم في كل زمان بحسبه، وهذا زمان انكشاف بعض الحقائق) . وفي قوله -تعالى-: "سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ" [الأنبياء: 37] ، قال ابن عاشور: (وعد بأنهم سيرون آيات الله في نصر الدين) , وهي كما قال الرازي: (أدلة التوحيد وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم- ولذلك قال -سبحانه-:"فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ" أي أنها ستأتي لا محالة في وقتها) , واستعجال المنكرين يعني كما قال الشيخ طنطاوي: (استبعاد ما جاء في هذه الآيات من الأمور العلمية التي أوضحها علماء العصر الحاضر، فهم يستبعدونها طبعاً؛ لأنهم لا يعقلونها، فقال الله -تعالى- لا تستبعدوا أيها الناس "سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ"، فإذا لم تفهمها أمم سابقة.. سيعرفها من بعدهم، فقد ادخرنا هذه الأمور لأمم ستأتي؛ لتكون لهم آية علمية على صدقك فتكون الآيات دائما متجددة) , قال محمد رشيد: (والكلام في وجوه إعجاز القرآن واجب شرعاً، وهو من فروض الكفاية، وقد تكلم فيه المفسرون والمتكلمون، فإن كان ذلك قد وفى بحاجة (تلك) الأزمنة.. فهو لا يفي بحاجة هذا الزمان، إذ هي داعية إلى قول أجمع، وبيان أوسع، وبرهان أنصع في أسلوب أجذب للقلب، وأخلب للب، وأصغى للأسماع، وأدنى إلى الإقناع) , هذا ما قاله المحققون، ولكنه لا يعني تعريض كتاب الله للمؤاخذة بسوء فهم للنصوص، وتحريفها عن دلالتها لتلتقي مع حقيقة علمية، أو الانتصار لفرضية لم تؤيدها الوقائع بعد لتلتقي مع دلالة نصية أو استنباطية, تلك هي أهم أصول التحقيق, والله أعلم.(1/307)
حكم الزاني والزانية
المجيب عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 3/12/1424هـ
السؤال
السلام عليكم
ما حكم الزاني والزانية في القرآن الكريم، وأي الآيات التي تدل على الرجم حتى الموت أمام الملأ؟.
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الزاني لا يخلو إما أن يكون بكراً -وهو الذي لم يتزوج- أو محصناً وهو الذي وطئ في نكاح صحيح، فأما إذا كان بكراً لم يتزوج فإن حده جلد مائة، لقول الله -تعالى-: "الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين" [النور: 20] ، هذا ما ورد في القرآن في حكم الزاني البكر، وجاء في السنة أنه يغرب سنة مع الجلد، وذلك فيما رواه البخاري في كتاب الأحكام (7195) ، ومسلم في كتاب الحدود (1698) من رواية الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجنهي - رضي الله عنهما- قالا: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال: أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله، فقام خصمه وكان أفقه منه فقال: صدق، اقض بيننا بكتاب الله، وأذن لي يا رسول الله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قل" فقال: إن ابني هذا كان عسيفاً - يعني أجيراً- على هذا فزنى بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة وخادم، فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال - صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله- جل ذكره- المائة والخادم رد عليك، وعلى ابنك جلد، وتغريب عام، ويا أنيس أغد على امرأة هذا فسلها فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها"، وفي هذا الحديث دلالة على تغريب الزاني عام مع جلد مائة، كما في الآية، وبهذا قال جمهور أهل العلم في حق الزاني البكر، وهذا القول هو المأثور عن مالك والشافعي وأحمد، أما أبو حنيفة - رحمه الله- فيرى أن التغريب مرده إلى الإمام، إن شاء غرب وإن شاء لم يغرب، وفي هذه المسألة نزاع طويل وتفصيل ليس هذا محل بسطه، وأما إذا كان الزاني محصناً، وهو الذي وطئ في نكاح صحيح وهو حرّ بالغ عاقل فحده الرجم، لحديث أبي هريرة وزيد بن خالد - رضي الله عنهما- السابق، ولأحاديث أخرى، منها ما أخرجه البخاري في الحدود (6829) ، ومسلم في الحدود أيضاً (1691) ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما- قال: "جلس عمر - رضي الله عنه- على المنبر، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد: فإن الله بعث محمداً - صلى الله عليه وسلم- بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل الله آية الرجم، فقرأناها ووعيناها وعقلناها، رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم-،ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة، أوكان الحبل أو الاعتراف"،وقوله: كان مما أنزل الله آية الرجم، المراد بهذه الآية (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما) .
وعن شعبة عن قتادة عن يونس بن جبير عن كثير بن الصلت، قال: قال زيد بن ثابت - رضي الله عنه-: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة" قال عمر - رضي الله عنه- لما أنزلت، أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: أكتبنيها - قال شعبة- كأنه كره ذلك، فقال عمر - رضي الله عنه- ألا ترى أن الشيخ إذا لم يحصن جلد؟ وأن الشاب إذا زنى وقد أحصن رجم؟، وقد ساق بعض طرق هذا الحديث ابن كثير في تفسيره (10/162) ثم قال: وهذه طرق كلها متعددة متعاضدة، ودالة على أن آية الرجم كانت مكتوبة فنسخ تلاوتها، وبقي حكمها معمولاً به ولله الحمد.
وأما الآية التي تدل على الرجم حتى الموت فهي قول الله تعالى: "واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم، فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت، حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا" [النساء: 15] .
قال البغوي - رحمه الله - في تفسيره (1/405) قوله: "فإن شهدوا فأمسكوهن" فاحبسوهن في البيوت "حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا" وهذا كان في أول الإسلام قبل نزول الحدود، وكانت المرأة إذا زنت حبست في البيوت حتى تموت، ثم نسخ ذلك في حق البكر بالجلد والتغريب، وفي حق الثيب بالجلد والرجم" اهـ. الجواب مختصراً. والله سبحانه أعلم.(1/308)
حول مصحف عبد الله بن مسعود
المجيب د. ناصر بن محمد الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 24/2/1425هـ
السؤال
السلام عليكم
سمعت أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لم يدخل سورتي الفلق والناس في مصحفه، ما سبب ذلك؟.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
ما أشار إليه السائل الكريم عن ابن مسعود رضي الله عنه صحيح، إذ روي ذلك عنه بأسانيد حسان، فقد أخرج ابن حبان (797) وغيره عن زر بن حبيش قال: لقيت أبي بن كعب رضي الله عنه فقلت له: "إن ابن مسعود رضي الله عنه كان يحك المعوذتين من المصاحف ويقول: إنهما ليستا من القرآن فلا تجعلوا فيه ما ليس منه ... الحديث"، وأخرج الطبراني في الكبير (9151) عن أبي عبد الرحمن السلمي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول: لا تخلطوا بالقرآن ما ليس فيه، فإنما هما معوذتان تعوذ بهما النبي - صلى الله عليه وسلم- "قل أعوذ برب الفلق" و"قل أعوذ برب الناس" وكان عبد الله رضي الله عنه يمحوهما من المصحف. وأخرج الطبراني في الكبير (9148) عن عبد الرحمن بن يزيد قال: رأيت عبد الله رضي الله عنه يحك المعوذتين، ويقول: لم تزيدون ما ليس فيه، وفي لفظ عنده: ليستا من كتاب الله.
وقد اختلف الأئمة قديما في هذا المروي عن ابن مسعود رضي الله عنه فمنهم من رد الرواية عنه وضعفها بل وبالغ في إنكارها كصنيع ابن حزم رحمه الله، ومنهم من صحح الرواية واعتذر عنها بما لا يخلو من ضعف، كصنيع الباقلاني رحمه الله، وبكل حال فإن هذا المروي عن ابن مسعود رضي الله عنه اجتهاد منه، بحسب ما انتهى إليه علمه، إذ ظن أنهما دعاء كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يتعوذ بهما، يدل على ذلك ما رواه الطبراني في الكبير (9152) عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه أنه كان يحك المعوذتين من المصاحف، ويقول: (إنما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أن يتعوذ بهما ولم يكن يقرأ بهما) وهذا منه رضي الله عنه اجتهاد بحسب ما انتهى إليه علمه، وهو بشر غير معصوم يصيب ويخطئ، كما يصيب البشر ويخطئون، ولا عصمة لقول أحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم-، ولذا رأينا الصحابة رضي الله عنهم لم يقروه على قوله بل خالفوه، وأجمعوا على إثبات المعوذتين في المصحف الإمام وفي سائر المصاحف التي أُرسلت إلى الأمصار، ولم ينقل عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم أنه تابع ابن مسعود رضي الله عنه على قوله هذا، بل رأينا أبي بن كعب رضي الله عنه يخالفه في ذلك استنادا إلى ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم- فقد أخرج أحمد (21186) وغيره بسند صحيح عن زر بن حبيش قال: قلت لأبي بن كعب رضي الله عنه: إن ابن مسعود رضي الله عنه كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه! فقال: أشهد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أخبرني أن جبريل عليه السلام قال له: "قل أعوذ برب الفلق" فقلتها، فقال: "قل أعوذ برب الناس" فقلتها، فنحن نقول ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم- ومن المتقرر؛ أن من حفظ وعلم، حجة على من لم يحفظ ولم يعلم، فابن مسعود رضي الله عنه لم يحفظ ولم يعلم هاتين السورتين، وغيره من سائر الصحابة رضي الله عنهم علمها وحفظها فالحجة لهم عليه، وكذلك لم ينقل عن أحد من تلاميذ ابن مسعود رضي الله عنه ـ مع كثرتهم وجلالة قدرهم ـ أنه تابعه على قوله هذا، بل ثبت عن بعضهم مخالفته صراحة فقد روى ابن أبي شيبة (30197) عن النخعي قال: قلت للأسود بن يزيد ـ وكان من أعلم أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه من القرآن هما؟ قال: نعم، يعني المعوذتين. وفوق هذا أن إجماع الأمة كلها من عهد الصحابة رضي الله عنهم إلى يومنا على إثبات هاتين السورتين أبلغ دليل على خطأ هذا القول، ومع هذا فقد ثبتت أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم- في المعوذتين خصوصا تدل على أنهما من القرآن الكريم، وأنهما أنزلتا كما أنزل القرآن الكريم، فقد أخرج النسائي (953) وغيره بسند صحيح عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أنزل علي آيات الليلة لم يُر مثلهن قط "قل أعوذ برب الفلق" و "قل أعوذ برب الناس"، وأخرج أحمد (17341) وغيره بسند صحيح عنه أيضا أنه قال اتبعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وهو راكب فوضعت يدي على قدمه فقلت أقرئني سورة هود أو سورة يوسف فقال: "لن تقرأ شيئا أبلغ عند الله من "قل أعوذ برب الفلق" "قل أعوذ برب الناس". فالحمد لله الذي حفظ كتابه من التبديل وصانه من التغيير، هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(1/309)
إهداء قراءة القرآن للميت
المجيب عبد العزيز بن باز - رحمه الله -
المفتي العام للمملكة العربية السعودية سابقاً
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 17/09/1425هـ
السؤال
هل يجوز إهداء قراءة القرآن للميت وإذا كان كذلك هل يجوز أن ندعو لأنفسنا عند دعاء الختمة التي نريد إهدائها ويكون الدعاء مستجاباً كم لو كانت لنا؟
الجواب
سئل فضيلة الشيخ/ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- عن سؤال مشابه لسؤالك فنذكر لك فيما يلي نص السؤال والإجابة:
س: والدتي أمية لا تقرأ ولا تكتب، فهل يجوز لي قراءة القرآن الكريم وصلاة النوافل وإهداء ثواب ذلك لها. وإذا كان لا يجوز، فما هي الأمور التي يمكن أن أهدي ثوابها إليها؟ وجزاكم الله خيراً.
ج: ليس هناك دليل شرعي على شرعية إهداء الصلاة والقراءة عن الغير سواء كان حياً أو ميتاً، والعبادة توقيفية لا يشرع منها إلا ما دل الشرع على شرعيته، ولكن يشرع لك الدعاء لها والصدقة عنها، والحج عنها والعمرة إذا كانت كبيرة السن لا تستطيع الحج والعمرة. [مجموع فتاوى ومقالات متنوعة، تأليف الشيخ/ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-، ج9 صـ321] .(1/310)
القرآن ... ودعوى الإبهام
المجيب د. ناصر بن محمد الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 8/3/1425هـ
السؤال
السلام عليكم
صديق نصراني يقول -والعياذ بالله-: إن القرآن مبهم، حيث إنه بالمقارنة بالإنجيل نحتاج نحن المسلمين للنظر في كتاب آخر نسميه (التفسير) لمعرفة ما حدث من تفاصيل عندما نزلت الآية، وكمثال أذكرُ عندما قال لموسى لقومه: "يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم"، ولم يكن رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- هناك، والقصة بخصوص الآية أعلاه مذكورة في التفسير، فسألني هذا النصراني: ما هي مصادر التفسير بجانب الإنجيل؟ لأن هذه القصة بتمامها مذكورة في الإنجيل، وأنهم بدلاً من العجل الحي جعلوا عجلاً من ذهب ولؤلؤ، وتفاصيل عن السامري الذي دعا بني إسرائيل لعبادة صنم، أنا أؤمن بالقرآن وأصدق به، ولا أحتاج كتاباً آخر لتوضيح الأمور، لكن في هذا الوضع أرى أننا بحاجة للنظر في الكتب الأخرى لمعرفة ما جرى. فما هي صحة الكتب الأخرى التي تتكلم في هذه الوقائع؟.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
فالجواب عن هذا الإشكال الذي أُورد على السائل الكريم يقتضي ذكر مقدمتين، فهمهما يعين على دفع هذه الشبهة:(1/311)
الأولى: لقد نزل القرآن الكريم بلغة العرب، وجرى على أساليبهم، ومعهود خطابهم في الكلام، فالعربي الذي لم تتأثر سليقته العربية باختلاطه بالأعاجم لا يحتاج في فهم أكثر (ألفاظ القرآن الكريم) إلى بيان وتفسير؛ لأنه نازل بلغته وبلسانه، ولذا رأينا قلة التفسير المروي عن الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين، وإن كان في التابعين أكثر، وإنما توسع الناس في تفسير ألفاظ القرآن الكريم بعد ظهور العجمة وضعف السليقة العربية، بدخول الأعاجم في الإسلام وتأثيرهم على اللسان العربي.
وعلى هذا؛ فإن أكثر آيات القرآن الكريم واضحة المعنى من جهة الألفاظ، وإنما أشكل على الناس فهمها بعد أن ضعف اللسان العربي.(1/312)
الثانية: من المهم جدا أن ندرك طبيعة منهج القرآن الكريم في عرض القصص والحوادث التي وقعت في الأمم الماضية، فالقرآن الكلام ـ وهو كلام ربنا ـ ليس كتابا تأريخيا يعتني بسرد الوقائع بتفصيلاتها الدقيقة وجزيئاتها الصغيرة، بل هو فوق هذا كله وأعظم، إنه كتاب هداية وإرشاد، يهدي كما وصفه المتكلم به -جل وعلا-: "للتي هي أقوم" [الإسراء: من الآية 9] ، ويقول تعالى ـ أيضاً ـ في وصفه: "قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين" [يونس:57] ، فالقرآن الكريم لم يورد هذه الوقائع من أجل سردها سرداً قصصياً فقط، إنما كان الهدف من ذكرها أخذ العبرة بما وقع للأمم الماضية، والاستفادة من تجاربهم فيما يقع لنا يقول -تعالى-: "قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل" [الروم:42] وإذا؛ فلا يذكر القرآن من تلك الحوادث إلا ما تدعو الحاجة لبيانه، مما يساعد على أخذ العبرة والهداية من تلك الحادثة أو القصة، فلا نجد في القرآن الكريم ذكر كثير من الأسماء التي يحكي خبرها ولا أسماء الأمم ولا تواريخ الحوادث؛ لأنها لا تؤثر ولا تمنع أخذ العبرة منها، وخذ مثلا؛ قصة أصحاب الكهف، نجد حديث القرآن عنها وذكره لها مقتصرا على ما يحقق الغاية المتمثلة في أخذ العبرة من تلك القصة، ولذا لم يذكر تعالى أسماءهم ولا زمن القصة ولا اسم القرية التي كانوا فيها؛ لأنها لا تؤثر في الهدف الذي سيقت من أجله.(1/313)
وعلى هذا فدعوى أن القرآن مبهم فيما يتعلق بالحوادث والقصص عارية عن الصحة، وذلك أننا نقطع جازمين بأننا لسنا بحاجة إلى أي تفاصيل زائدة عما في القرآن الكريم من أجل أخذ العبرة، فنحن نستطيع أن نفهم القصة أو الحادثة بشكل عام، ونستطيع أيضا أن نستلهم الهدايات من خلالها مقتصرين على ما ورد ذكره في القرآن الكريم فقط؛ لأن ما لم يذكر في القرآن الكريم من تلك التفاصيل والجزئيات لا يخدم الهدف والغاية التي من أجلها سيقت، وبعبارة أكثر دقة وموضوعية لا يؤثر عدم ذكرها في تحقق الهدف والغرض.
وأما سؤالك ـ بناء على ما أورده عليك ذلك النصراني ـ عن مصادر التفسير فقد تكلم أهل العلم عن ذلك بكلام طويل أذكر لك أبرز ما هنالك مختصرا:
أولها: القرآن الكريم ذاته، فهو أولى ما فسر القرآن به. وأما المصدر الثاني فهو ما ورد عن النبي- صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو تقرير يتعلق بمعنى آية وفهم المراد بها، يقول -تعالى-: " وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم" [النحل: من الآية 44] . ومن المصادر أيضا الصحابة -رضي الله عنهم-، وكونهم من مصادر التفسير لأمور؛ فهم أهل اللغة إذ القرآن نزل بلغتهم، وفضلا عن هذا فالنبي- صلى الله عليه وسلم- بين أظهرهم يسمعون منه ويتلقون عنه ويسألونه، ثم إن القرآن الكريم نزل عليهم فهم أعلم الناس بأسباب نزوله وما احتف به من وقائع ومناسبات. ويأتي بعد الصحابة - رضي الله عنهم- التابعون لهم بإحسان فهم أقرب الناس بعد الصحابة لزمن الوحي العجمة فيهم أقل ممن جاء بعدهم.(1/314)
ومن مصادر التفسير ـ أيضا ـ أخبار أهل الكتاب ورواياتهم المتعلقة بالحوادث التي وقعت لأنبيائهم ومن عاصرهم، أو الأمور الغيبية المستقبلية ونحوها، غير أنه مما يجدر التأكيد عليه أن هذا المصدر ليس في قيمة المصادر التي قبله ولا يوازيها من جهتين؛ الأولى: من جهة مقدار ما أخذ عنهم، فهو قليل بالنسبة إلى مقدار التفسير. والثانية: من جهة الثقة به والاعتماد عليه، فقد تقرر عند أهل العلم أن أخبار أهل الكتاب ـ مما لم يثبت عندنا بطلانها أو صوابها ـ تروى دون الجزم بصحتها أو بطلانها، ولذا وجدنا أئمة التفسير وأهل التحقيق أقلوا كثيرا من النقل عنهم، بل وحذروا من ذلك، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن الروايات الإسرائيلية: (وما لم يعلم حكمه في شرعنا لا يصدق ولا يكذب وغالبه لا فائدة فيه) أ. هـ.
وأما سؤالك عن الكتب التي تكلمت على هذه فهناك من الكتب من بالغت وأكثرت من سرد تفاصيل القصص التي وردت في القرآن الكريم، وهذه المبالغة أوقعت في ذكر الغث والسمين والصحيح والسقيم، حتى كان بعضهم ينقل بلا تمييز مما يجب أن يصان تفسير كلام الله عن مثله كتفسير الثعلبي والخازن، وغالب كتب التفسير تنقل تلك التفاصيل على نحو مختصر، وأفضل ما أنصحك به فيما يتعلق بهذا الأمر كتاب تفسير القرآن العظيم للإمام ابن كثير -رحمه الله -؛ فهو فارس الحلبة لا يشق غباره، أدرك قصب السبق غير منازع.(1/315)
وبعد فبقي أن ألفت نظرك إلى أن وجود الإبهام في القرآن الكريم ليس أمرا يعاب وجوده بإطلاق، بل ربما كان أمرا محمودا حيث يعرف به العالم من الجاهل، ولو تساوى الناس في فهمه فأي فضيلة تكون، بل حتى هذه الأناجيل التي بين أيديهم لا يزعم أهلها أنها قد حوت من التفاصيل ما لا تحتاج معه إلى بيان، بل المقطوع به يقينا أن فيها من الإجمال ما تحتاج معه إلى بيان وتفصيل، وفوق هذا؛ فأكثر هذه الأناجيل ـ كما يعلم ذلك المختصون ـ عبارة عن شروح وهوامش كتبت على النص الموحى به. هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(1/316)
الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- عند القراءة في الصلاة
المجيب د. محمد بن سليمان المنيعي
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 15/08/1425هـ
السؤال
حينما نصلي ويتلو الإمام آيات من القرآن فيها ذكر محمد صلى الله عليه وسلم، يقع ضجيج من المصلين لأنهم يصلون على النبي عليه الصلاة والسلام- في الصلاة.
سؤالي: هل يجوز أن نصلي على نبينا صلى الله عليه وسلم- جهرًا؟ أو نصلي على نبينا صلى الله عليه وسلم- في السر؟ وأرجو من فضيلتكم جوابًا واضحًا. وأعانكم الله. والسلام عليكم.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
يقول الحق في محكم التنزيل: (وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأعراف: 204] . وعلى ذلك فالواجب الاستماع إلى كتاب الله وتدبر آياته، وعدم التشويش على المصلين؛ امتثالاً للأمر الكريم المذكور في الآية، ولم يرد فيما أعلم أنه صلى الله عليه وسلم أو أحد من صحابته، رضي الله عنهم، كانوا يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم- في الصلاة إذا ورد ذكره صلى الله عليه وسلم في آية من كتاب الله. والله أعلم.(1/317)
تطور الجنين كما حكاه القرآن
المجيب د. محمد بن إبراهيم دودح
باحث علمي في هيئة الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 03/04/1426هـ
السؤال
السلام علبكم ورحمته وبركاته.
أريد من فضيلتكم إعطائي تفسيراً علمياً دقيقاً عن تطور الجنين في بطن الأم كما جاء في القرآن، مع ما جاء في العلم الحديث، وهل هو متوافق مع العلم؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله, وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
إجابة على السؤال حول مراحل تطور الجنين البشري في القرآن الكريم، ومدى تطابقها مع المعطيات العلمية الحديثة؛ أقول مستعينا بالله العلي العظيم، القادر وحده على كل شيء:
ليس غرض القرآن أن يعطي المخاطب درساً في علم الأجنة على نحو المقررات الدراسية اليوم, وإنما يمد بصره في نظرة أوسع من آفاق المألوف تعيده إلى البداية، حيث لم يكن شيئاً لتقوده إلى اليقين بقدرة الله؛ يقول العلي القدير: "أَوَلاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَانُ أَنّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً" [مريم: 67] , وفي ثنايا العرض ترد في عفوية جملة من الحقائق التي لم يكن يعلم بها أحد زمن التنزيل؛ يقول العلي القدير: "هَلْ أَتَىَ عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مّنَ الدّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مّذْكُوراً. إِنّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً" [الإنسان: 1-2] , فلم يكن يعلم أحد بتكون الجنين من بويضة مخصبة Fertilized egg تماثل "نطفة" أي قطرة ماء غاية في الضآلة، ذات أخلاط تحتوي على مكونات وراثية من الأبوين؛ نسميها اليوم كروموزومات Chromozomes.(1/318)
ويكفيك أن تعرف أن الإدراك بتكون الجنين من أخلاط من الجنسين؛ أي أمشاج, لم يتحقق إلا بعد عقود من اكتشاف المجهر في القرن السابع عشر, وأول من استخدم عدسة بسيطة في دراسة أجنة الدجاج هو هارفي Harvey عام 1651م، ولصعوبة معاينة المراحل الأولى استنتج أن الأجنة ليست إلا إفرازات رحمية, وفي عام 1672، اكتشف جراف Graaf حويصلات المبايض Graafian Follicles وعاين حجيرات في أرحام الأرانب الحوامل تماثلها، فاستنتج أن الأجنة ليست إفرازات من الرحم وإنما من المبايض, ولم تكن تلك التكوينات الدقيقة التي عاينها جراف سوى تجاويف في كتل الخلايا الجنينية الأولية Blastocysts, وفي عام 1675م عاين مالبيجي Malpighi أجنة في بيض الدجاج، واعتقد بأنه يحتوى على كائن مصغر ينمو في الحجم فحسب، ولا يتخلق في أطوار, وباستخدام مجهر أكثر تطوراً اكتشف هام Hamm وليفنهوك Leeuwenhoek الحوين المنوي عام 1677م، وظنا أيضاً أنه يحتوي على الإنسان مصغراً, وفي عام 1827م عاين فون بير von Baer البويضة, وأخيراً انتهى الجدل حول فرضية الخلق المكتمل، وتأكدت أهمية كل من الحوينات المنوية والبويضة، واستقرت حقيقة التخلق في أطوار, وفي عام 1878م اكتشف فليمنج Flemming الكروموزومات, وفي القرن العشرين تم التحقق نهائياً من احتواء البويضة المخصبة على تلك الأخلاط الوراثية، والتخلق من الذكر والأنثى [The Developing Human, Keith L. Moore, Fourth ed.,1988, Saunders Comp., Toronto, P: 7-11, 14.] .
وبديهي أن يسعى المعاند إلى التهرب من الحجج بكل وسيلة ممكنة, لكن تأكيد القصد في البيان بالتثنية يغلق عليه الأبواب، فترسمه المخيلة مغلق العينين عن الحقيقة الساطعة, يقول العلي القدير: "يَأَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىَ" [الحجرات: 13] , قال القرطبي: بيَّنَ الله -تعالى- في هذه الآية أنه خلق الخلق من الذكر والأنثى..(1/319)
وقد ذهب قوم من الأوائل إلى أن الجنين إنما يكون من ماء الرجل وحده، ويتربى في رحم الأم، ويستمد من الدم الذي يكون فيه.. والصحيح أن الخلق إنما يكون من ماء الرجل والمرأة لهذه الآية؛ فإنها نص لا يحتمل التأويل" [تفسير القرطبي ج: 16 ص: 342و343.] .
وفي قوله تعالى: "فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً"؛ سبقت وظيفة السمع في مقام بيان أطوار التخليق وظيفة البصر, ووظيفة السمع خلال تكون الجنين تسبق بالفعل وظيفة البصر، حيث تبدأ العمل ابتداء من الشهر الخامس بينما يتأخر البصر, فهل هي مصادفة أن يتفق النظم مع الواقع، أم هو الإحكام في البيان والبينة على التنزيل؟ وهكذا كلما غصت أكثر نحو الأغوار، كان رصيدك أكثر من دلائل الإحكام في البيان الموافق الحقيقة من كل وجه.
ولصعوبة الرؤية في المجاهر الأولية رسم داليمباتيوس Dalempatius الإنسان كاملاً داخل رأس الحوين المنوي عام 1699م, أي قبل بداية القرن 18 بعام واحد فقط, بدون إدراك لتخلق الجنين من الأبوين في أطوار, بينما يعلن القرآن الكريم -بجلاء- منذ القرن السابع الميلادي بتخلق الجنين في أطوار, يقول العلي القدير: ?مّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلّهِ وَقَاراً. وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً? [نوح: 13-14] .
وقد تتلاحق المشاهد في سرعة خاطفة لتبرز النقلات الواسعة في إنجاز المشروع الخلقي والقدرة الفائقة وفق تقدير غاية في الإحكام من مكونات ضئيلة، ليس لها في مرأى العين وجود, فتتجلى القدرة المبدعة في جلاء يعمق اليقين بقدرة الخالق وإمكان البعث, يقول العلي القدير: "قُتِلَ الإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ. مِنْ أَيّ شَيءٍ خَلَقَهُ. مِن نّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدّرَهُ ثُمّ السّبِيلَ يَسّرَهُ" [عبس: 17-20] , ولكن العجيب أن تتخفى الحقائق في ثنايا العرض فلا يكاد يلمحها إلا العالمون, فبعد تكون البويضة الملقحة مباشرة يتكون البرنامج الوراثي، وتقدر بالفعل سمات الجنين.(1/320)
ويرجع القرآن بالإنسان إلى أصول أولية للبويضة المخصبة نحو السائل المنوي المماثل للماء عديد النطف، وأصول جيولوجية أبعد كالطين، ليدرك أن معرفة الله وعبادته هي القصد من كل تكوين, يقول العلي القدير: "الّذِيَ أَحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ. ثُمّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مّن مّآءٍ مّهِينٍ" [السجدة: من 7-8] .
وندرك اليوم أهمية المني في الإنجاب, ونعرف أن نخبة أو سلالة هي التي تنجح بالفعل في بلوغ البويضة, ويرجع القرآن بالإنسان إلى أصل ضئيل في مرأى العين، ويمضى به نحو قاع الضآلة، ثم ينقله فجأة إلى وليد مكتمل القسمات ليشهد بالقدرة المفزعة, يقول العلي القدير: "أَلَمْ نَخْلُقكّم مّن مّآءٍ مّهِينٍ. فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مّكِينٍ. إِلَىَ قَدَرٍ مّعْلُومٍ. فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ" [المرسلات: 20-23] ، وفي قوله تعالى: "كَلاّ إِنّا خَلَقْنَاهُم مّمّا يَعْلَمُونَ" [المعارج: 39] ؛ يشير إلى الإبهام بضآلة الأصل، ويضاعف الإعراض قدر الجريمة، ويجعل المتهم شاهد عيان يعرف بنفسه الحكم.
ولا يقوم بالإخصاب إلا مكون منوي واحد من السائل المنوي المماثل للماء عديد النطف (حوالي 60 مليون\ ميلليليتر) , يقول العلي القدير: "أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى. أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مّن مّنِيّ يُمْنَىَ" [القيامة: 36-37] , والمدهش أن يعدل القرآن في وصف مكونات المني المماثل للماء إلى اسم الفاعل "دافق" بدلا من اسم المفعول قبل أن نعاين بالمجهر حركته الذاتية, يقول تعالى: "فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمّ خُلِقَ. خُلِقَ مِن مّاءٍ دَافِقٍ" [الطارق: 5-6] .(1/321)
ويحتوي الحوين المنوي على نصف عدد الكروموزومات، وتحتوي البويضة على النصف المكمل, والحوينات إما أن تكون ذات شارة تأنيث؛ لوجود كروموزوم الجنس فيها على هيئة (Y) أو تكون ذات شارة تأنيث لوجوده على هيئة (X) بينما لا تملك البويضة إلا شارة تأنيث, ولذا يرجع تحديد جنس الجنين إلى المني فحسب, وهو ما تطالعه في قوله تعالى: "وَأَنّهُ خَلَقَ الزّوْجَيْنِ الذّكَرَ وَالاُنثَىَ. مِن نّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىَ" [النجم: 45-46] , وقوله تعالى: "أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مّن مّنِيّ يُمْنَىَ. ثُمّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّىَ. فَجَعَلَ مِنْهُ الزّوْجَيْنِ الذّكَرَ وَالاُنثَىَ" [القيامة: 37-39] .
ويبين القرآن بالتفصيل تباين أطوار تكون الجنين في تعبيرات وصفية بالغة الإحكام, يقول العلي القدير: "وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مّن طِينٍ. ثُمّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مّكِينٍ. ثُمّ خَلَقْنَا النّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ" [المؤمنون 12-14] .(1/322)
ومشهد محاكمة المعاند مألوف خلال عرض مثل تلك الحقائق فضحاً لما في طويته من مكابرة وعناد, وترى غالباً ذلك الناكر في زاوية من المخيلة يترقب إصدار الحكم يشاهد مع الحضور دلائل التنزيل, وفي المحاكمة يجعلك التعبير تعجب من الجسارة وجسامة الجريمة آملا أن ينال المجرم أقصى عقوبة خاصة مع النقلة العاجلة التي تجلي عناية الله وقدرته, يقول تعالى: "خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن نّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مّبِينٌ" [النحل: 4] , ويقول تعالى: "أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنّا خَلَقْنَاهُ مِن نّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مّبِينٌ" [يس 77] , حقائق مبهرة، وتألق في مهابة, فأين المهرب إذن! , يقول العلي القدير: "فَأيْنَ تَذْهَبُونَ. إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ. لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ" [التكوير: 26-28] .(1/323)
جمع القرآن وفقد آية الأحزاب
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 23/07/1426هـ
السؤال
أرجو شرح رواية الإمام البخاري في جمع القرآن الكريم في عهد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وفيها: قال زيد بن ثابت -رضي الله عنه-: حين نسخنا المصحف التمسنا آية في سورة الأحزاب، فوجدناها عند خزيمة بن ثابت الأنصاري: "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه".
فهل معنى ذلك أن هذه الآية لم تكتب في عهد أبي بكر -رضي الله عنه- وهل هي متواترة، حيث اقتصروا على خزيمة -رضي الله عنه-؟.
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله، وبعد:
الحديث المذكور أخرجه البخاري (4986) قال: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ، أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عِنْدَهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي، فَقَالَ: إِنَّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ، قُلْتُ لِعُمَرَ: كَيْفَ تَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟! قَالَ عُمَرُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ. فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِذَلِكَ، وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَى عُمَرُ. قَالَ زَيْدٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لا نَتَّهِمُك، َ وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتَتَبَّعْ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ. فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ. قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟! قَالَ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنْ الْعُسُبِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ، حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ، لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ: "لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ... " حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ، فَكَانَتْ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عنهما-.
قال البخاري: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، سَمِعَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ: فَقَدْتُ آيَةً مِنْ الْأَحْزَابِ حِينَ نَسَخْنَا الْمُصْحَفَ قَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْرَأُ بِهَا، فَالْتَمَسْنَاهَا فَوَجَدْنَاهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ: " مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ " فَأَلْحَقْنَاهَا فِي سُورَتِهَا فِي الْمُصْحَفِ.
كان زيد - رضي الله عنه - لا يكتفي في جمعه للقرآن بالحفظ دون الكتابة، وكان لا يقبل من أحدٍ شيئاً حتى يشهد شاهدان، ولما جمع القرآن لم يجد آخر براءة مكتوبة إلا عند أبي خزيمة بن أوس، وكذلك آية الأحزاب لم يجدها مكتوبة إلا عند خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين، ومعنى هذا أنه لم يجد هذه الآيات مكتوبة وإلا فهي محفوظة في صدور الصحابة، ويدل على ذلك قول زيد نفسه: فقدتُ آية من سورة الأحزاب....، فإن تعبيره بلفظ " فقدت " يشعر بأنه كان يحفظ هذه الآية، وأنها كانت معروفة له، غير أنه فقدها مكتوبة. وهذا لا ينفي أن تكون هذه الآيات متواترة، ونحن بحمد الله لدينا دليل قطعي على أن هذا القرآن محفوظ بحفظ الله، قال الله عز وجل: " إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(1/324)
هل في القرآن العظيم كلمات أعجمية؟
المجيب د. محمد بن سريّع السريّع
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 07/08/1425هـ
السؤال
فضيلة الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هل في القرآن الكريم كلمات غير عربية، أقصد أصلها غير عربي؟ شكر الله لكم ونفع بعلمكم.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
اختلف العلماء على أحوال:
1- لا يوجد في القرآن.
2- يوجد.
3- اختار جمع من المحققين أن في القرآن كلمات، وإن كانت أصلها غير عربي إلا أن العرب في استعمالها عربتها، فأصبحت كلمات عربية مستعملة عند العرب، وعلى القول الأول فإن قوله تعالى: "قرآنا عربياً" أن المقصود أصل تنزيله وأكثره، وإذا كانت فيه كلمات يسيرة غير عربية فإنها لا تخرجه عن أصل كونه عربياً، وأما إذا قلنا إنه لا توجد في القرآن كلمة غير عربية، أو أن العرب قد عربتها باستعمالها، فإن الآية واضحة الدلالة على هذين القولين في كون القرآن عربياً. والله أعلم.(1/325)
متى كتب القرآن الكريم؟
المجيب د. عبد الرحمن بن معاضة الشهري
المشرف العام على شبكة التفسير والدراسات القرآنية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 27/3/1425هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذا سؤال هام: أنا أعيش في أمريكا، وقد سألني سائل إذا كان القرآن كتب على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- أم بعد وفاته؟ أرجو تقديم جواب مفصل؛ لكي أقنع هذا الشخص بالدخول في الإسلام.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم
القرآن الكريم كله كُتِبَ في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد كان ظهور الإسلام في مكة إيذاناً بنهضة كتابية عظيمة، تتمثل في حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على تدوين القرآن الكريم منذ بدء نزوله، وتعلم الصحابة - رضي الله عنهم- للكتابة.
والأدلة على أن القرآن الكريم كتب كله بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيرة على ذلك منها:
1- في قصة إسلام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، أنه ذهب لبيت أخته فاطمة بنت الخطاب وهي مع زوجها -رضي الله عنهما-، يقرأُ لهما سورة طه خباب بن الأرت رضي الله عنه من صحيفة مكتوبة، وهي صحيفة من صحف كثيرة كان يكتب فيها القرآن الكريم في أول الإسلام في مكة، ثم بعد ذلك في المدينة.(1/326)
2- نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن كتابة غير القرآن في أحاديث كثيرة، منها ما رواه الإمام مسلم في صحيحه (3004) : "لاَ تَكْتُبُوا عَنِّي شَيْئًا إِلاَّ الْقُرْآنَ فَمَنْ كَتَبَ عَنِّي شَيْئًا غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ " وهذا لفظ أحمد (11142) . وهذا حث من النبي -صلى الله عليه وسلم -وأمر بكتابة القرآن، ودليل على عناية الصحابة - رضي الله عنهم- بكتابة الوحي، وأنهم قد تجاوزوا تدوين القرآن إلى تدوين كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- مما دعاه عليه الصلاة والسلام أن ينهاهم عن كتابة شيء غير القرآن.
3- عن ابن عباس - رضي الله عنهما- قال: قلت لعثمان بن عفان - رضي الله عنه- ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال؟
فقال عثمان- رضي الله عنه-: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه من السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من كان يكتب فيقول ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا وإذا نزلت عليه الآية فيقول ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا) . أخرجه الترمذي (3086) وأبو داود (786) والنسائي في السنن الكبرى (8007) والبيهقي في السنن الكبرى (2/42) وأحمد (376) . فهذا دليل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بكتابة كل ما ينزل عليه من القرآن مباشرة.(1/327)
4- أخرج أبو داود (2507) وغيره عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه- قال: (كنت إلى جنب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فغشيته السكينة فوقعت فخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - على فخذي فما وجدت ثقل شيء أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سُرِّي عنه فقال:"اكتب". فكتبت في كتف: "لا يستوي القاعدون من المؤمنين" "والمجاهدون في سبيل الله ... " إلى آخر الآية [النساء:95] . فقام ابن أم مكتوم - رضي الله عنه- وكان رجلا أعمى لما سمع فضيلة المجاهدين فقال يا رسول الله فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين؟ فلما قضى كلامه غشيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السكينة فوقعت فخذه على فخذي ووجدت من ثقلها في المرة الثانية كما وجدت في المرة الأولى ثم سُرِّي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال:"اقرأ يا زيد". فقرأت: "لا يستوي القاعدون من المؤمنين"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"غير أولي الضرر.." الآية كلها. قال زيد - رضي الله عنه- فأنزلها الله وحدها فألحقتها والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلى مُلْحَقِهَا عِنْدَ صَدْعٍ فِي كَتِف ... ) .
وفي الصحيحين البخاري (2831) ، ومسلم (1898) عن البراء بن عازب - رضي الله عنه- قال: " لما نزلت "لا يستوي القاعدون من المؤمنين" دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - زيدا - رضي الله عنه- فجاء بكتف فكتبها وشكا ابن أم مكتوم - رضي الله عنه- ضرارته فنزلت: "لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر ... " الآية [النساء:95] .
وهذا دليل صريح على أن القرآن كان يكتب مباشرة بعد نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم.(1/328)
5- آيات كثيرة تدل على معرفة العرب للكتابة وشيوعها بينهم، فقد وردت مادة كتب وما اشتق منها في القرآن الكريم أكثر من ثلاثمائة مرة (300) ، ووردت مادة قرأ وما اشتق منها نحواً من ثمانين مرة (80) ، ووردت مادة خط وأسماء أدوات الكتابة: القلم، والصحف، والقرطاس، والرق. مما يعني أن كل هذه الأمور مما يعرفه العرب المخاطبون بالقرآن الكريم، وليست مجرد معرفة ساذجة كما يزعم بعض الباحثين، بل معرفة شائعة بينهم.
6- بلغ عدد الذين يكتبون للنبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة وأربعين كاتباً، وكان بعضهم منقطعاً لكتابة القرآن خاصة، ومن أشهرهم: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وحنظلة بن الربيع -رضي الله عنهم جميعاً -. وكان أول من كتب للنبي -صلى الله عليه وسلم- من قريش هو عبد الله بن سعد بن أبي سرح -رضي الله عنه- وأول من كتب له من الأنصار أبي بن كعب -رضي الله عنه -.(1/329)
ويجب التفريق بين كتابة القرآن وتدوينه كله في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبين جمعه في مصحف واحد بعد وفاته، أما عن التدوين فالقرآن كله كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم، وأما عدم تدوين القرآن الكريم في مصحف جامع فهذا يرجعه العلماء إلى عدم الحاجة إليه في هذا العصر لوجود النبي -صلى الله عليه وسلم- مرجعا للناس، إضافة إلى نزول القرآن مفرقاً منجماً بحسب الوقائع والأحداث، وما قد يعتريه من النسخ. وفي عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن للصحابة - رضي الله عنهم- القراء مرجع سوى المحفوظ في صدر النبي -عليه الصلاة والسلام-، وهو الأصل الذي يُرجع إليه عند التنازع، أما ما كان مكتوبًا في الرقاع وغيرها فلم يكن مما يرجع إليه الناس، مع وفرته وصحته وصوابه، وكذلك في عهدي أبى بكر وعمر -رضى الله عنهما- كان الاعتماد على الحفظ في الصدور هو المعول عليه دون الكتابة؛ لأنها كانت مفرقة، ولم تكن مجموعة، ولذلك استنكر أبو بكر على عمر - رضي الله عنهما- عندما أشار عليه بجمع القرآن. وكانت حظوظ الصحابة- رضي الله عنهم-، من حفظ القرآن متفاوتة، فكان منهم من يحفظ القدر اليسير، ومنهم من يحفظ القدر الكثير، ومنهم من يحفظ القرآن كله. وهم جمع كثيرون مات منهم في موقعة اليمامة في خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - سبعون حافظًا للقرآن- رضي الله عنهم-، وكانوا يسمون حفظة القرآن بـ (القُرَّاء (.(1/330)
ولما قتل سبعون رجلاً من حُفَّاظِه دعت الحاجة إلى جمع ما كتب مفرقًا في مصحف واحد في منتصف خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - باقتراح من عمر -رضي الله عنه-.وبعد وفاة أبي بكر - رضي الله عنه - تسلم المصحف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه-، وبعد وفاته ظل المصحف في حوزة ابنته أم المؤمنين حفصة -رضي الله عنها-، وفي هذه الفترة كان حفظ القرآن في الصدور هو المتبع كذلك. وانضم إلى حُفَّاظه من الصحابة - رضي الله عنهم - بعد انتقال النبي -عليه الصلاة والسلام - إلى الرفيق الأعلى، التابعون من الطبقة الأولى، وكانت علاقتهم بكتاب الله هي الحفظ بتفاوت حظوظهم فيه قلة وكثرة، وحفظًا للقرآن كله، وممن اشتهر منهم بحفظ القرآن كله التابعي الكبير الحسن البصري -رضي الله عنه- وآخرون. كان هذا أول جمع للقرآن، والذي تم فيه هو جمع الوثائق التي كتبها كتبة الوحي في حضرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-،بمعنى تنسيق وثائق كل سورة مرتبة آياتها على نسق نزولها، ولا معنى لهذا الجمع إلا هذا، وإطلاق وصف المصحف عليه إطلاق مجازي. والغاية منه أن يكون مرجعًا موثوقًا به عند اختلاف الحفاظ.
ومما يجب التنبيه إليه مرات أن الجمع في عهد أبي بكر وعثمان -رضي الله عنهما - لم يضف شيئًا أو يحذفه من تلك الوثائق الخطية، التي تم تدوينها في حياة النبي -عليه الصلاة والسلام- إملاءً منه على كتبة وحيه الأمناء الصادقين. فالجمع في عهد أبي بكر وعثمان - رضي الله عنهما- لم يُدْخِِِِِلا على رسم الآيات ولا نطقها أي تعديل أو تغيير أو تبديل، وفي كل الأماكن والعصور واكب حفظ القرآن تدوينه في المصاحف، وبقي السماع هو الوسيلة الوحيدة لحفظ القرآن على مدى العصور حتى الآن وإلى يوم الدين ومع كثرة انتشار الطباعة اليوم، وكثرة المصاحف، إلا أن هذا لا يغني عن الأخذ عن القراء المتقنين، وهذا من خصائص القرآن الكريم.(1/331)
وينبغي أن ينبه إلى أن هذا التدوين أو الجمع المبكر للقرآن كان وما يزال هو الأصل الثابت الذي قامت على أساسه كل المصاحف فيما بعد، حتى عصرنا الحالي. وهذه الفترة الراشدة التي سبقت جمع القرآن في خلافة أبي بكر -رضى الله عنه-، لم تكن فترة إهمال للقرآن، كما يزعم بعض خصوم القرآن من المبشرين والمستشرقين والملحدين بل العكس هو الصحيح، كانت فترة عناية شديدة بالقرآن اعتمدوا فيها على السماع من الحفظة المتقنين لحفظ القرآن وتلاوته، والحفظ المتقن في الصدور والسماع هما أقدم الوسائل لحفظ وتلاوة كتاب الله العزيز. وسيظلان هكذا إلى يوم الدين. والله أعلم.(1/332)
(المنجيات السبع) !
المجيب د. محمد أبو رحيم
أستاذ الشريعة في جامعة العلوم التطبيقية سابقًا
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 29/07/1425هـ
السؤال
وردتني رسالة جاء فيها إذا مررت بضيق نتيجة مشكلة أو كرب فعليك قراءة السبع الآيات المنجيات وأنت على يقين بأن الفرج لا يأتي إلا من عند الله سبحانه وتعالى. السبع الآيات المنجيات: "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون". "وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم". "وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين". "إني توكلت على الله ربى وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم". "وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم". "ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم". "ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون".
الجواب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الخلق محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن القرآن من جهة العموم فيه شفاء؛ قال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء: 82] . وقال تعالى: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ) [فصلت: 44] .
وقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم؛ الفزع إلى الصلاة عندما يحزبه أمر، ومعلوم حكمًا أن القرآن يدخل فيها.
أما تخصيص هذه الآيات والنص على أنها من المنجيات من الكرب فيحتاج إلى نص من كتاب أو سنة؛ لأنها أمور توقيفية. وليس في الكتاب ما يدل على تخصيصها مجتمعة أو متفرقة، وكذا السنة، فيما أعلم.
أما الآيات الواردة في إثبات التفريج لله وحده نصًّا أو معنى فكثيرة، منها بعض ما ورد على لسان السائل، ومنها قوله تعالى: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) [النمل 62] .
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم، في قوله تعالى: (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن: 29] . قال: من شأنه؛ أن يغفر ذنبًا، ويفرج كربا، ويرفع قوما، ويخفض آخرين. أخرجه ابن ماجة (202) ، وقد ثبت من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أدعية عند الكرب منها: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول عند الكرب: "لا اله إلا الله العظيم الحليم، لا اله إلا الله رب العرش العظيم، لا اله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم. أخرجه البخاري (6346) ومسلم (2730) .
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ نَاصِيَتِي بِيَدِكَ مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي وَجِلَاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجًا قَالَ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَتَعَلَّمُهَا فَقَالَ بَلَى يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا". أخرجه أحمد (3712) وصححه أحمد شاكر. والله الموفق.(1/333)
(إنا أنزلناه في ليلة القدر)
المجيب عمر بن عبد الله المقبل
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 06/02/1426هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قرأت تفسير الآية الأولى من سورة القدر: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) . وفي التفسير: إن القرآن الكريم نزل جملة إلى السماء الدنيا، ومن المعروف أنه نزل مُنَجَّمًا، وعندما يكون في مكان ما ليل، فقد يكون في الآخر نهار، أرجو التوضيح. وجزاكم الله خيرًا.
الجواب
بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
قد جاء عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أن القرآن الكريم أنزل إلى بيت العزة في السماء الدنيا في ليلة القدر، ثم نزل منجمًا على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم. انظر ما رواه الحاكم في المستدرك (2881) . والليل المراد هنا هو ليل مكة، حيث إنها مهبط الوحي أول ما نزل، ولا إشكال في ذلك. والله أعلم.(1/334)
قراءة الفاتحة في الاجتماع
المجيب د. عبد الله بن المحفوظ بن بيه
وزير العدل في موريتانيا سابقاً
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 1/05/1425هـ
السؤال
ما حكم قراءة سورة الفاتحة قبل عقد الاجتماعات العامة؟ أرجو تفصيل الحكم، مع التكرم ببيان الدليل؛ حتى يكون معنا حجة شرعية.
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
تستحب القراءة مطلقاً بشكل مطلق لا بقيد مكاني معين، ولا زماني، والله - سبحانه وتعالى- يقول: "فاقرأوا ما تيسر من القرآن" وفي نفس الآية: "فاقرأوا ما تيسر منه" [المزمل: 20] ، فقراءة القرآن فيها ثواب عظيم؛ لأن الله - سبحانه وتعالى- يعطيك مقابل كل حرف عشر حسنات ولا أقول (ألم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف" أو كما قال - عليه الصلاة والسلام- فيما رواه الترمذي (2910) من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- وفي الحديث الذي يرويه الترمذي (2926) عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين"، إذاً قراءة القرآن هي من فضائل الأعمال ومستحباتها، أما كون ذلك قبل الاجتماعات، أو بعد الاجتماعات، أو أثناءها فهذا لم يرد فيه النص، فإذا فعله الإنسان، وهو يعتقد أنه سنة من السنن، أو فريضة من الفرائض فهذا خالف الشرع، وإذا كان يقرأه تبركاً بالقرآن الكريم فهذا لا بأس به - إن شاء الله- على الصحيح الذي نختاره، والمسألة فيها الخلاف الوارد على ما يسمى بالبدعة الإضافية، وكثير من المالكية يكرهون البدعة الإضافية، وعند بعض العلماء المسألة ترجع إلى الدليل العام، فما شمله الدليل العام من الإباحة، أو الاستحباب، كما يرى الشافعية والعز بن عبد السلام، وكذلك القرافي من المالكية، فالمسألة - إن شاء الله- لا بأس بها، بمعنى أنه لا ينبغي أن توجد خلافاً بين المسلمين، "لا تباغضوا ولا تحاسدوا، ولا تدابروا ... " الحديث رواه البخاري (6065) ، ومسلم (2559) عن أنس -رضي الله عنه- فمن أراد أن يقرأ فلا نمنعه أن يقرأ الفاتحة.
لكن لا تقول: إنها من السنن أو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يبدأ بها، هذا ليس صحيحاً، لكن مع ذلك إذا قرأت الفاتحة تبركاً بها، وطلباً لما عند الله من الأجر والثواب، فهذا أمر لا بأس به -إن شاء الله-.(1/335)
طريق إثبات عدم تحريف القرآن
المجيب د. أحمد بن سعد بن حمدان الغامدي
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 16/02/1426هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هل بالإمكان أن نثبت أن القرآن غير محرف لمن لا يؤمن به مثل المسيحي مثلاً؟. وشكراً.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
وجود مصحف واحد في جميع العالم في مكة وإسرائيل والصين وأمريكا، وهكذا في جميع دول العالم دليل على حفظه من التحريف.
أما نسخ التوراة والإنجيل فلا تخلو من اختلاف وتناقض، وعليك بقراءة كتاب: (إظهار الحق) ، فقد عرض كثيراً من اختلافات تلك النسخ.
أما القرآن فقد حفظه الله - عز وجل- وعندما أراد (موريس بوكاي النصراني) أن يدرس القرآن ليبين عدم صحته، انتهى إلى الإسلام، وأكد أنه الكتاب الوحيد الذي بقي كما أنزل. راجع كتابه الذي يقارن فيه بين القرآن والتوراة والإنجيل. والله الموفق.(1/336)
كيفية جمع القرآن الكريم في عهد عثمان -رضي الله عنه-
المجيب د. محمد بن سريّع السريّع
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 25/06/1425هـ
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم.
كيف تم جمع القرآن الكريم في عهد سيدنا عثمان -رضى الله عنه-؟ وهل كان جمعاً أم نسخاً للمصحف الذي كان موجوداً في عهد سيدنا أبي بكر الصديق -رضى الله عنه-؟ وهل شارك زيد بن ثابت- رضي الله عنه- في المرتين؟. أرجو الإفادة أفادكم الله.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله- صلى الله عليه وسلم-، وبعد:
فعن أنس - رضي الله عنه- "أن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قدم على عثمان - رضي الله عنه- وكان يغازي أهل الشام في أرمينية وأذربيجان مع أهل الطرق، فأفزع حذيفة -رضي الله عنه- اختلافهم في القراءة، فقال لعثمان- رضي الله عنه-: "أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل إلى حفصة -رضي الله عنها- أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها من المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة -رضي الله عنها- إلى عثمان - رضي الله عنهما- فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام - رضي الله عنهم- فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان - رضي الله عنه- للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت- رضي الله عنه- في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش؛ فإنه إنما نزل بلسانهم ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان- رضي الله عنه- الصحف إلى حفصة - رضي الله عنها- وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن من كل صحيفة أو مصحف أن يحرق، قال زيد - رضي الله عنه-: آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ بها، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري-رضي الله عنه-: "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه" [الأحزاب: 23] فألحقناها في سورتها في المصحف) رواه البخاري (4988) .
وهذا الجمع الذي حصل في عهد عثمان - رضي الله عنه- لم يعتمد على النسخ المجرد لما جمع في عهد أبي بكر - رضي الله عنه-، بل اتسم بمزيد توثيق وتدقيق، كما أنه جمع في مصحف واحد مرتب الآيات والسور، كما هو الحال في المصحف الذي بين أيدينا، بينما لا يظهر أن الجمع الذي كان في عهد أبي بكر -رضي الله عنه- قد اعتنى بترتيب السور وإنما بجمعها، كما أن الجمع الأخير كان جمعاً على حرف واحد من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن على الصحيح من أقوال العلماء كما يظهر من قول عثمان - رضي الله عنه- للرهط القرشيين الثلاثة-رضي الله عنهم- إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت-رضي الله عنه- في شيء في القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنه إنما نزل بلسانهم.
وأما بالنسبة لمشاركة زيد- رضي الله عنه- في الجمع فإنه قد شارك في المرتين كما ثبت في البخاري، وليس في ذلك ما يستنكر، ذلك أنه كان يتمتع بقدرات تمكنه من هذا العمل الجليل، وقد كان قيامه بالجمع الأول مرجحاً لمشاركته في الجمع الثاني، وذلك أنه قد أضحى عنده من القدرة والأهلية والخبرة ما يمكنه من ذلك، كما أن في اختيار أفضل الأمة وهما أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما- له دليل على جدارته بهذا العمل، وقدرته عليه أكثر من غيره، كما أنه في الجمع الثاني لم يقم بهذا العمل لوحده، وإنما شاركه معه غيره؛ كما في الحديث السابق. والله أعلم.(1/337)
اختلاف بعض الألفاظ في قصص القرآن المتكررة
المجيب د. محمد بن سريّع السريّع
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 21/11/1425هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فسؤالي، عفا الله عنكم: أني عندما أقرأ القرآن الكريم، وخصوصًا عندما أمر على قصص القرآن يرد في ذهني إشكال وهو أن- مثلًا- هذه القصة وقعت مرة واحدة، وأجد التعبيرات القرآنية مختلفة مما يشكل علي أيُّ الألفاظ قيلت، مع أن المعنى واحد، مثلًا يقول الله تعالى، عن موسى: (إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارًا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى) [طه: 10] . بينما يقول في سورة النمل: (إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون) . وقال في سورة القصص: (آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار) . والأمثلة على هذا كثيرة ولا تخفى عليكم، فهل هذا من المتشابه الذي يجب الإمساك عنه؟ أم أن الله تقدس وعلا يروي ذلك بالمعنى؟ أم ماذا؟ أفيدونا مأجورين وبارك الله في علمكم ونفع بكم، آمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. وبعد:
فليس ما سأل عنه السائل من المتشابه الذي لا يعقل معناه أو المراد به، بل هذا التنوع في العبارات هو لأن الآيات تدل على أكثر من معنى، ففي كل آية يبرز معنى من المعاني، ومن المعلوم أن موسى عليه السلام، أو فرعون لم يتكلما باللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم، وإنما جاء التعبير في القرآن عن المعاني التي ذكروها كما هي، فمثلًا القبس أو شهاب القبس، أو جذوة النار تدل على شيء واحد، فلا اختلاف بينها، وإن كانت كل آية تشير إلى معنى زائد غير ما أشارت إليه الآية الأخرى، ولذلك لا تجد بين هذه الآيات وإن اختلفت ألفاظها تضادًّا أو تناقضًا، بل تجد بينها توافقًا، مع أن كل آية تشير إلى معنى زائد بحسب سياقها. والله أعلم.(1/338)
الاهتزاز أثناء التلاوة
المجيب د. خالد بن علي المشيقح
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 03/07/1425هـ
السؤال
السلام عليكم.
ما حكم الاهتزاز وتحريك الجسم أثناء الجلوس وتلاوة القرآن الكريم؟ البعض يقول بتحريم ذلك؛ لأن فيه تشبهاً باليهود.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
بالنسبة لتحريك الجسم والاهتزاز هذا لم يرد عن النبي - عليه الصلاة والسلام- ولا عن صحابته - رضي الله عنهم- فالأحسن ترك مثل ذلك، وإن اعتقد هذا الذي يهتز أنه سنة وأنه يتقرب بذلك فهو يعد بدعة؛ لأن العبادات توقيفية، وأما القول بأن هذا من عمل اليهود فهذا لا أعرفه. والله أعلم.(1/339)
تلاوة القرآن أم الصلاة به
المجيب عبد الرحمن بن عبد الله العجلان
المدرس بالحرم المكي
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 11/08/1425هـ
السؤال
هل قراءة القرآن في الصلاة النافلة والإطالة فيه أفضل، أم قراءته في غير الصلاة، وجزاكم الله خيراً.
الجواب
إطالتك في قراءة القرآن في صلاة النافلة أفضل من قراءتك بدون صلاة؛ لأنك تجمع بين الصلاة والقراءة، والإطالة في القرآن بالصلاة تدخل تحت قوله تعالى: "وقوموا لله قانتين" [البقرة: 238] ، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيراً ما يطيل القراءة في الصلاة حتى تتفطر قدماه، وربما قرأ في الركعة الواحدة سورة البقرة والنساء وآل عمران.(1/340)
الحكمة من تكرار القصص القرآني
المجيب د. ناصر بن محمد الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 21/11/1425هـ
السؤال
ما الحكمة من تكرار نفس القصة في العديد من سور القرآن مثل قصة موسى عليه السلام، وفرعون؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فتكرار القصص في القرآن الكريم، يرتكز بشكل أساس على عدد من القصص، التي أعيد ذكرها في القرآن الكريم، وهي قصة آدم، ونوح، وعاد، وهود، وإبراهيم، ولوط، وشعيب، وموسى، فهذه أبرز القصص التي وردت في القرآن الكريم وتكرر ذكرها فيه، ويمكن إدراك بعض الحكمة من هذا التأكيد على تلك القصص بعينها، وإعادة القول فيها مرة بعد أخرى، عند التأمل في طبيعة تلك القصص، ومضمونها.
إن المتأمل في هذه القصص، يجد كل قصة منها بأحداثها تعالج أنواعًا من الانحراف، الذي يظهر في المجتمعات البشرية، باعتبارها تجمعات إنسانية، بغض النظر عن جنسها، وبيئتها الزمانية والمكانية، وهذا النوع من الضلال عن الحق، والانحراف عن الصراط المستقيم، الذي أشارت إليه قصص القرآن الكريم، لم يزل يتكرر في المجتمعات البشرية، فمثلًا: قصة فرعون مع موسى- وقد أشار إليها السائل- تمثل نوعًا من الانحراف الذي يورثه عز السلطة ونشوة القوة، حتى تبلغ بصاحبها درجة من الانحراف تصل به إلى أن يكذب أكبر كذبة عرفتها البشرية، فيقول: أنا ربكم الأعلى. فضلًا عن الكبر والبطر والأشر، ونحن لم نزل نرى هذا المثل يتكرر على تعاقب الزمان ومر العصور، ولذا رأينا أن الله تعالى أعاد ذكر هذه القصة في أكثر من موضع، فهي لا تعالج أمرًا ظرفيًّا آنيًّا يكون ثم يزول، بل هي صورة لم تزل تتكرر مرة بعد أخرى، وكذا الشأن في باقي القصص التي أعيد ذكرها في القرآن الكريم، فكل منها تعالج نوعًا من الانحراف الذي تشهده المجتمعات البشرية في كل العصور. وإذًا: فتكرار مثل هذه القصص، والتأكيد عليها، وإعادتها مرة بعد أخرى، هو مما تقتضيه الحكمة، فالناظر في هذه القصص يتمثل المنهج الأمثل في مواجهة هذه الانحرافات على منهج الأنبياء عليهم السلام.
وفضلاً عن هذا، فقد تميز كل موضع ذكرت فيه تلك القصص، بأنه يعتني بجانب من جوانب أحداث القصة، ويلقي الضوء على زاوية من زواياها، على نحو لا يوجد في الموضع الآخر، الذي تذكر فيه القصة، على معنى: أن السياقات التي ترد فيها القصة، تختلف باختلاف موضعها الذي تذكر فيه، واختلاف السياقات يورث- ولابد- اختلافًا في المعاني التي تستفاد منها، وهذا ما يؤكد ما قرره أهل العلم من أن القصة لا تتكرر على نحو حرفي، بل لها في كل موضع ذكرت فيه ما يميزها، ويجعلها موضعًا لاستنباط هدايات وعظات جديدة، وبعد هذا فقصص القرآن الكريم، مظهر من مظاهر الإعجاز البياني، فالقصة الواحدة ترد في القرآن الكريم، بسياقات وألفاظ متعددة، بتعدد المواضع التي ترد فيها، وهذا من كمال البلاغة وعظيم البيان.
والله أعلم. وصلى الله على وسلم على نبينا محمد.(1/341)
شبهة حول قوله تعالى: "وأنزل لكم من الأنعام ... "
المجيب د. محمد بن إبراهيم دودح
باحث علمي في هيئة الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 06/01/1426هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(1/342)
فيما يلي مقال نشر على أحد مواقع الإنترنت، يشكّك في القرآن وإعجازه، أرجو من فضيلتكم قراءته والرد عليه: قال أشهر علماء العالم في مؤتمرات الإعجاز العلمي للقرآن الكريم الدكتور (استروخ) وهو من أشهر علماء وكالة ناسا الأمريكية للفضاء، قال: لقد أجرينا أبحاثا كثيرة على معادن الأرض وأبحاثاً معملية، ولكن المعدن الوحيد الذي يحير العلماء هو الحديد، قدرات الحديد لها تكوين مميز، إن الإلكترونات والنيترونات في ذرة الحديد لكي تتحد فهي محتاجة إلى طاقة هائلة تبلغ أربع مرات مجموع الطاقة الموجودة في مجموعتنا الشمسية، ولذلك فلا يمكن أن يكون الحديد قد تكون على الأرض، ولا بد أنه عنصر غريب وفد إلى الأرض ولم يتكون فيها، قال تعالى: "وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ" [الحديد: 25] المصدر (الأدلة المادية على وجود الله) لفضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي، يتصور المسلمون بأن قرآنهم يحوي معجزات علمية حديثة، وهم في محاولتهم تلك يلوون عنق اللغة العربية ويجعلون القرآن ينطق بما لم يخطر على بال كاتبه، في مثالنا هذا حول المعجزة المزعومة في القرآن بأن الحديد أتى إلينا من الفضاء الخارجي نجد المحاولة الخائبة من المسلمين مفضوحة تماماً بلا ستر أو أستار، لأن القرآن نفسه ينقضها نقضاً واضحاً، تقول سورة الحديد: "وأنزلنا الحديد"، ويحاول مسلم هذا العصر أن يقول لنا بأن مقصد القرآن بأن الحديد أنزل من السماء ولم يتكون على الأرض، ولكني يجب أن أتوقف عند آية مشابهة وأفحصها هي الأخرى، تقول سورة الزمر الآية 6: "وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج"، يقول ابن كثير في تفسير الآية: وقوله تعالى "وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج" أي وخلق لكم من ظهور الأنعام ثمانية أزواج وهي المذكورة في سورة الأنعام، ثمانية أزواج من الضأن(1/343)
اثنين، ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين.
إذاً من الواضح لنا تماماً بأن هذه الأنعام ليست إلا حيوانات: إبل، بقر، ضأن، معز. إذًا وجب علي الأيمان بأن "أنزلنا الحديد" تعني نزوله من الفضاء الخارجي إلى الأرض (مخالفاً كل تفاسير ثقات المفسرين للآية) يجب علي أن أؤمن بأن الإبل، البقر، الضأن، المعز كلهم قد هبطوا إلى أرضنا من الفضاء الخارجي أيضاً. لأن القرآن يقول: "وأنزل لكم". أو إذا قلت بأن معنى "وأنزل لكم من الأنعام"، هو خلق لكم من الأنعام. إذًا يجب أن أسلم بأن "أنزلنا الحديد" تعني أيضا خلقنا الحديد. وإذا لم تعجبك هذه المقارنة، قارن أنت بنفسك آية الحديد إلى الأعراف (26) : "يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً" لا تقل لي بأن اللباس (وهو الملابس) قد هبطت علينا من السماء أيضاً؟! إذا لم يعجبك كلامي راجع تفاسير القرآن بنفسك.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله, وبعد:(1/344)
جوابا على السؤال حول تباين دلالة لفظ (الإنزال) في موضعين في القرآن الكريم بين الإنزال الحسي للحديد والإنزال المعنوي للأنعام وللقرآن وما شابه تبعا للسياق وكليهما حقيقة واقعة؛ أقول مستعينا بالله تعالى: إن ظاهرة تباين دلالة اللفظ تبعا للسياق من الخصائص الأساسية في لغات التخاطب وهي أجلى ما تكون في لغة القرآن الكريم, وسماها اللغويون "الوجوه", والدلالات المعجمية لنفس اللفظ لا يتحدد إحداها إلا من خلال السياق, وكمثال على ذلك قوله تعالى: (بَقَرَةٌ لاّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ) [البقرة:71] ؛ فليس المراد هنا بلفظ (الأرض) الكرة الأرضية لأن المقام يتعلق بمشهد معلوم وهو إثارة بقرة للغبار ولذا يستقيم أن يكون المراد بلفظ (الأرض) هو التربة, وفي قوله تعالى: (مَن كَانَ يَظُنّ أَن لّن يَنصُرَهُ اللهُ فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السّمَآءِ ثُمّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ) [الحج: 15] ؛ ليس المراد بلفظ (السماء) هنا مطلق الكون أو الجو الذي يعلونا لأن المقام يتعلق بمشهد معلوم وهو مشنوق مربوط إلى ما يعلوه وهو السقف عادة.
ومن يتتبع مدار لفظ (أنزلنا) في القرآن الكريم يجده متعلقا بأمر جلل استوجب التعبير بالتعظيم, وفي مقام النعمة يجد أن فيض الطيف الدلالي يتباين من مقام إلى آخر بين الحسي والمعنوي مع قاسم مشترك من الدلالات مثل التفضل والإنعام من العلي القدير وسبق التقدير من الحكيم العظيم إلى المحتاج الضئيل بما يستوجب الامتنان والتعظيم, وفي مقام النقمة يتجلى معنى الاقتدار والتهويل.(1/345)
والدلالة الحسية في (أنزلنا) لا تُستبعد إلا بقرائن صارفة ولا تنفي الدلالة المعنوية, وفي قوله تعالى: (يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مّن رّبّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مّبِينا) [النساء: 174] ؛ يتعلق المقام بوصف القرآن كنعمة تستوجب الامتنان لما فيه من رحمة للبشرية فناسبه تعبير (الإنزال) , وهو كقوله تعالى: (وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) [الزمر:6] ؛ وأجناسها على النحو التالي: الضأن والمعز والإبل والبقر, وتمثل لحومها وألبانها أهم مصادر الغذاء لسكان البادية, وتعبير (الإنزال) يكشف مدى الرحمة والإنعام في إيجاد تلك المواشي المعبر عنها بلفظ (الأنعام) , وفي قوله تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَىَ حِينٍ) [النحل:80] ؛ منافع إضافية غير اللحوم والألبان وهي منتجات الجلود كالصوف في زمهرير الصحراء, ولبيان هذا الإنعام في اللباس خاصة ناسب التعبير عن هذا (الجعل) بلفظ (الإنزال) ضمن مصادر اللباس في تاريخ البشرية؛ وذلك في قوله تعالى: (يَابَنِيَ آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ) [الأعراف:26] ، ولذا فقد أصاب المفسرون في توجيه دلالة لفظ (الإنزال) في مثل هذا المقام إلى معاني كالإنعام والجعل والإيجاد.(1/346)
أما في قوله تعالى: (وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنّاسِ) [الحديد: 25] ؛ فيستقيم حمل لفظ (الإنزال) على الأصل وهو الدلالة الحسية باعتبار تعلق المقام هنا بخلق الأرض لمجيء بيان إنزال الحديد وهو من أثقل مكونات الأرض في مقابل بيان إخراج المواد الأخف من الأرض نحو السطح في قوله تعالى: (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا. أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا. وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا) [النازعات:30-32] , وهذا ما يتفق تماما مع المعرفة الحديثة بخروج كل ما أدى في النهاية إلى وجود مظاهر الحياة من نبات وحيوان المعبر عنها باللفظ الجامع (مَرْعَاهَا) بعد التهيئة بتكثف أبخرة الماء وانقشاع دخان البراكين في مقابل هبوط أثقل المواد ممثلة بالحديد نحو لب الأرض الذي يتكون معظمه بالفعل من الحديد, وناسب اقتصار نزول الحديد على ما دون الجو الخلو من الإضافة (من السماء) التي لازمت في مواضع عديدة بيان نزول الماء من السحب في الجو نحو قوله تعالى: (وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السّمَآءِ مَآءً) [النمل: 60] , ويتفق هذا مع تكون الأرض من طبقات يعلو بعضها بعضا أخفها الأعلى وأثقلها هو ما فيها في الباطن, وتلك الحقيقة العلمية يتضمنها بيان أحداث نهاية الأرض المعلومة لدينا اليوم في قوله تعالى: (وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا) [الزلزلة:2] ، وفي قوله تعالى: (وَإِذَا الأرْضُ مُدّتْ. وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلّتْ) [الإنشقاق:3و4] ؛ فالوصف متعلق بالأرض المعهودة حاليا لأن ضمير (أثقالها) وضمير (ما فيها) عائد قطعا عليها نفسها.
نزول الحديد نحو الباطن عند تكون الأرض
مع خروج المواد الأخف في اتجاه السطح
(المصدر كتاب فرانك برس: علوم الأرض)
تتكون الأرض من طبقات بعضها فوق بعض
وتتزايد الكثافة مع العمق ومعظم اللب حديد.(1/347)
وتتميز ذرة الحديد بقوة ترابط شديدة مدهشة قد لا تكفي حرارة باطن شمسنا لتكونها مما فتح بابا لفرضية تكونه خارج النظام الشمسي في قلب نجم مجاور أعظم كتلة انفجر وتناثرت مكوناته, وتدخل ذرة الحديد في تركيبات حيوية غاية في الأهمية بالنسبة للأحياء مثل مركب هيموجلوبين الدم, وتولد حركة الحديد في لب الأرض أغلفة مغناطيسية تحمي الأحياء من خطر الرياح الشمسية, وكل تلك الحقائق يجملها قوله تعالى:) وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنّاسِ (, هذا والله تعالى أعلم.(1/348)
أول تسمية القرآن بالمصحف
المجيب د. عبد الرحمن بن معاضة الشهري
المشرف العام على شبكة التفسير والدراسات القرآنية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 25/02/1426هـ
السؤال
هل صحيح أن الصديق -رضي الله عنه- هو من أطلق اسم المصحف على القرآن الكريم؟ وهل هذا يعني أن كلمة المصحف لم تكن في قاموس العرب قبل ذلك؟.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الزركشي في كتابه البرهان في علوم القرآن (1/377) : (ذكر المظفري في تاريخه: لَمَّا جَمعَ أبو بكر القرآنَ قال: سَمُّوهُ. فقال بعضُهم: سَمُّوهُ إِنْجيلاً. فَكرهوه. وقال بعضُهم: سَمُّوهُ السِّفْرَ. فكرهوه مِن يهود. فقال ابنُ مَسعودٍ: رأيتُ للحَبَشَةِ كِتَاباً يدعونهُ المُصْحَفَ، فسمُّوهُ بهِ) .
فهذه الرواية إن صحت تدل على أن صاحب الرأي بتسمية المصحف بهذا الاسم هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقد وافقه الصحابة واستمر إلى اليوم. وكلام ابن مسعود يدل على أن التسمية حبشية الأصل، غير أني لم أجد من ذكر كلمة مصحف في كتب (المُعَرَّب) في اللغة مثل الجواليقي والمُحبي وغيرهم، وذلك لأن أصل الكلمة وهي مادة (صحف) عربية معروفة.
أَمَّا كلمةُ صُحُفٍ وصَحيفة فهي معروفة عند العرب بِمَعنى الشيء الذي يكتب فيه من الورق ونحوه، ومن ذلك قول لقيط بن يعمر الإيادي وهو شاعر جاهلي مات قبل الإسلام، وقد بعث بهذه الأبيات لتحذير قومه قبيلة إياد العربية غَزوَ الفُرس:
سَلامٌ في الصحيفةِ من لَقيطٍ *** إلى من في الجزيرةِ من إيادِ
وأَمَّا المُصْحَفُ فهو الجامعُ للصُحُفِ المكتوبةِ بين الدفتين. وقد ذكره اللغويون في معاجمهم، كالخليل بن أحمد في العين، فقد ذكر المصحف فقال: (سُمِّيَ المُصْحَفُ مُصْحَفاً لأنَّه أُصْحِفَ، أي جُعِلَ جامعاً للصُحُف المكتوبة بين الدَّفَّتَيْن) .
ومن ذلك قول الجوهري في مادة (صحف) : (والمُصْحَفُ والمِصْحَفُ. قال الفراء: وقد استثقلت العربُ الضَمَّةَ في حروفٍ فكسروا ميمها وأصلها الضمُّ، من ذلك مِصْحَفٌ، ومِخْدَعٌ، ومِطْرَفٌ، ومِغْزَلٌ، ومِجْسَدٌ: لأنَّها في المعنى مأخوذة من أُصْحِفَ أن جمعت فيه الصحفُ، وأُطْرِفَ أي جُعِلَ في طرفيْهِ عَلَمان، وأُجْسِدَ أُلْصِقَ بالجسد) . وقال الصاغاني في كتابه العباب الزاخر: (والمَصْحَفُ والمِصْحَفُ والمُصْحَفُ -بالحركات الثلاث- عن ثعلب قال: والفتح لغة صحيحة فصيحة) .
ولم تكن العربُ تعرفُ لفظةَ المُصحفِ بِمعنى الكتابِ الذي يَجمعُ بين دفتيه صُحُفاً مكتوبةً، وإِنَّما هو اسمٌ أطلقَ على القرآن الكريِم بعدَ جَمعهِ بين الدفتين في عهد أبي بكر الصديق، وأَصبحَ عَلَمَاً على القرآن الكريم. فيقال: قرأتُ المُصحفَ، ويُجمعُ على مَصَاحِف. وقد تكون التسمية هذه نسبت لأبي بكر باعتبار حصولها في زمنه رضي الله عنه، كما سمي المصحف الذي جمع في عهد عثمان بالمصحف العثماني وإن لم يكن هو الذي كتبه بيده رضي الله عنه. وقد بحثت في الكتب المصنفة في الأوائل مثل كتاب العسكري ومعجم الأوائل لفؤاد السيد، فلم أجد من أشار إلى أول من سَمَّى المصحفَ بهذا الاسم، فلعله مِمَّا فاتهم، أو أنَّهم لم يجدوا نصاً صحيحاً في ذلك.
وقد بدأ الشعراء يستخدمونه في شعرهم على قلة في ذلك العهد ثم كثر بعد ذلك في شعر شعراء بني أمية وبني العباس.
ومن ذلك قول الحصين بن حمام الفزاري المريّ الذبياني، وهو شاعر مخضرم أدرك الجاهلية، وقال يوم صفين:
فَما بَرِحوا حَتّى رَأى اللَهُ صَبرَهُم *** وَحَتّى أَشَرَّت بِالأَكُفِّ المَصاحِفُ
يعني رفع المصاحف على أسنة الرماح في القصة المشهورة، وقال العجاج التميمي وهو شاعر مخضرم وذكر المصحف:
وَذِروَةَ الناسِ وَأَهلَ الحُكَّمِ *** وَمُستَقَرَّ المُصحَفِ المُرَقَّمِ
عِندَ كَريمٍ مِنهُمُ مُكَرَّمِ
وأما في عصر بني أمية فمن ذلك قول العرجي الأموي:
لَهُ مَعَ النَعتِ الَّذي *** أَنعَتُ لَونٌ مُشرَبُ
كَوَرَقِ المَصحَفِ قَد *** أُجرى عَلَيهِ الذَهَبُ
وقال أعشى همدان الأموي:
وَإِنّي اِمرُؤٌ أَحبَبتُ آلَ مُحَمَّد *** وآثَرتُ وَحياً ضُمِّنَتهُ المَصاحِفُ
وقال الطرماح بن حكيم من شعراء الخوارج وهو أموي العصر:
وَلَكِن أَحِن يَومي شَهيداً وَعُقبَة *** يُصابونَ في فَجٍّ مِنَ الأَرضِ خائِفِ
إِذا فارَقوا دُنياهُمُ فارَقوا الأَذى *** وَصاروا إِلى مَوعودِ ما في المَصاحِفِ
وقال الفرزدق:
سَمَوتَ فَلَم تَترُك عَلى الأَرضِ ناكِثا *** وَآمَنتَ مِن أَحيائِنا كُلَّ خائِفِ
أَبَرتَ زُحوفَ المُلحِدينَ وَكِدتَهُم *** بِمُستَنصِرٍ يَتلو كِتابَ المَصاحِفِ
وقال الفرزدق أيضاً:
هُوَ المانِعُ الجيرانِ وَالمُعجِلُ القِرى *** وَيَحفَظُ لِلإِسلامِ ما في المَصاحِفِ
وأما في العصر العباسي فقد كثر ذكره المصحف في أشعار الشعراء، ومن ذلك قول أبي تمام:
بِأَكُفِّ أَبدالٍ إِذا أَمّوا بِها *** مَلمومَةً عَمِلوا بِما في المُصحَفِ
وقال ابن المعتز:
وَيَثقُبُ الجِلدَ وَراءَ المُطرَفِ *** حَتّى تَرى فيهِ كَشَكلِ المِصحَفِ
وقال البحتري:
أَنزَلتَ بِالإِنجيلِ ثُمَّ بِأَهلِهِ *** ذُلّاً أَراهُم عِزَّ أَهلِ المُصحَفِ
وهذا يؤكد إن شاء الله أن لفظة المصحف لفظة استحدثت في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه سُمِّي بها القرآن الكريم بعد جَمعه بين الدفتين، وأصبحت عَلَمَاً عليه.
والله أعلم.(1/349)
التشكيك في وجود الإعجاز العلمي في القرآن
المجيب د. محمد بن إبراهيم دودح
باحث علمي في هيئة الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 26/02/1426هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كيف يمكن الرد على من يشككون في الإعجاز العلمي في القرآن ويقولون مثلاً أن ذكر أطوار نمو الجنين مثلاً ذكر قبلاً في التوراة ومحمد- صلى الله عليه وسلم- لم يأت بجديد؟.
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله, وبعد:
أقول مستعينا بالله تعالى:
ليس نادرا أن يوجد من يعمل على وأد الحقيقة عن إدراك التزاما بموروث الآباء حتى لو شابه التناقض وعابه الخلل, ولكن النادر أن ينبري محقق للنقد الموضوعي والاعتراف بالحقيقة وإن خالفت الإرث الطائفي, وفي يقظة جريئة بين ركام التقليد اعترف المحقق الفرنسي موريس بوكاي بسبق القرآن الكريم في تسجيل كثير من الحقائق في ميادين علمية مختلفة بلا خطا واحد بينما لم تثبت المدونات التي تنسب للوحي للنقد العلمي, وهكذا نال بكتابه "القرآن والإنجيل في ضوء العلم الحديث" شهرة واسعة ورفعه صدقه وجرأته إلى مصاف الأعلام.
وفي التماعة لا تخلو من جرأة كذلك في كتاب "دليل إلى قراءة الكتاب المقدس" المنشور في 12 تشرين الثاني عام 1982 والمطبوع بالعربية في بيروت؛ كتب المحقق الفرنسي الأب أسطفان شربنتييه قائلا: "إن الكتاب المقدس لا سيما العهد القديم كتاب محير, نعلم قبل أن نفتحه أنه الكتاب المقدس عند اليهود والمسيحيين ونتوقع أن نجد فيه كلام الله غير ممزوج بأي شيء.. وعندما نفتحه نجد فيه قصصا من ماضي شعب صغير, قصصا كثيرا ما تكون لا فائدة فيها, وروايات لا نستطيع أن نقرأها بصوت مرتفع دون أن نخجل؛ وحروبا واعتداءات, وقصائد لا تحملنا على الصلاة وإن سميناها مزامير, وفضائح أخلاقية قديمة تخطاها الزمن وكثيرا ما هي مبغضة للنساء" ص 8, "وكذلك فإن أسفار الكتاب المقدس كثيرا ما تبدو لنا مبتذلة ولا فائدة لها" ص 8, وفي الحقيقة قد شارك الكاتب في فضل جرأة الاعتراف عدد من أعلام الطائفة هم المترجم: الأب صبحي حموي اليسوعي, والمقدم الأب أنطوان أودو اليسوعي أستاذ الكتاب المقدس بجامعة القديس يوسف في بيروت, والموافق على النشر النائب الرسولي: بولس باسيم, وما يهمنا في أقوال الأب أسطفان شربنتييه فيما يتعلق بالجوانب العلمية عامة أو الحقائق التي فاض بها القرآن الكريم هو اعترافه بجرأة قائلا: "قد نجد في الكتاب المقدس كثيرا من الأمور غير المطابقة للواقع" ص9, ولو تناول أي إنسان يرغب في معرفة الحقيقة جميع ما ينسب للوحي من مدونات تسبق القرآن فلن يجد شيئا خاصة في مجال علم الأجنة؛ فمن أين إذن ذلك الفيض غير المسبوق من الحقائق العلمية في القرآن الكريم قبل أن يبزغ عصر الكشوف العلمية بأكثر من عشرة قرون إذا كان ما يسبقه ناقص ومغلوط!.(1/350)
العزوف عن حفظ القرآن خشية نسيانه
المجيب سامي بن عبد العزيز الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 14/05/1426هـ
السؤال
كثير من الشباب يريدون حفظ القرآن؛ لما في ذلك من الأجر والثواب، ولكنهم لا يفعلون؛ بسبب الحديث الذي فيه أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- اطلع على حسنات أمته وذنوبها حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد، فما وجد ذنباً أعظم من رجل أوتي آية من القرآن ثم نسيها، فالبعض يتهيب التوسع في حفظ القرآن من أجل ذلك. فماذا نقول لهؤلاء؟.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
هذا وسوسة من الشيطان؛ ليصد المؤمنين عن حفظ القرآن، ولو أخذ كل أحد بهذه الطريقة ما أقدم أحد على عمل صالح يعزم على المداومة عليه، ولتركه خشية أن يمل وينقطع عنه، وعلى المسلم أن يحسن النية، فمن أحسن النية وأخلص العمل لله كان قمناً أن يعينه الله عليه، ومن حفظ شيئاً من القرآن بنية صالحة فهو مأجور -إن شاء الله-، ولا يضيع أجر حفظه حتى لو نسي شيئاً من ذلك.
ومن نسي شيئاً من القرآن لعذر أو لكثرة الصوارف والشواغل التي تفرضها ظروف الحياة وطلب المعيشة، فهو في ذلك معذور إن شاء الله. المهم ألا يلتفت إلى هذه المخاوف التي يثيرها له الشيطان ليصرفه عن هذه القربات.
وأما الحديث الذي يشير إليه السائل، فقد رواه ابن خزيمة في صحيحه (1297) ، والترمذي (2916) ، وأبو داود (461) ، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-، لكنه حديث ضعيف، قال الترمذي: حديث غريب، وضعَّفه الألباني، واستغربه البخاري. وضعَّفه ابن عبد البر في التمهيد (14/136) .
وقال ابن عيينة: النسيان المذموم هو ترك العمل به، وليس من انتهى حفظه وتفلَّت منه بناسٍ إذا عمل به، ولو كان كذلك ما نسي شيئاً منه، قال تعالى: "سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله" (شرح الزرقاني 17/2) على موطأ مالك. والله الموفِّق.(1/351)
رسالة جوال في فضائل سور القرآن
المجيب عمر بن عبد الله المقبل
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 30/11/1425هـ
السؤال
أرسل لي أحدهم رسالة جوال هذا نصها: "سورة الفاتحة تمنع غضب الله، وسورة الكوثر تمنع الخصومة، وسورة الكافرون تمنع الكفر عند الموت، وسورة الإخلاص تمنع النفاق، وسورة الفلق تمنع الحسد، وسورة الناس تمنع الوسواس، أرسلها إلى خمسة غيرك أمانة في ذمتك إلى يوم القيامة"، وسؤالي: ما صحة الفضائل التي وردت في الرسالة، وهل أنا آثم في عدم إرسال هذه الرسالة؟!
الجواب
أما هذه الفضائل الواردة في سور القرآن، فمثلها لا يقال بالرأي، بل لا بد لها من خير ثابت عن المعصوم -صلى الله عليه وسلم-، ولا يوجد شيء من ذلك فيما نقله السائل، بل كل ذلك كذب.
وليعلم أن أكثر الأحاديث الواردة في فضائل السور لا تصح، فالذي صح منها قليل بالنسبة لما ورد من الأحاديث في هذا الباب.
ولقد ذكرتني هذه الرسالة بأحاديث الكذابين الذي يضعون الحديث، ويكذبون على الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليرغبوا الناس في القرآن!
فما أعظم جنايتهم! وما أعظم فريتهم! يكذبون على الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وينسبون إليه ما لم يقله!
وقد روى أبو جعفر العقيلي في "الضعفاء" 1/156 عن ابن المبارك - وذكر عنده الحديث الذي ذكر فيه فضائل سور القرآن من الفاتحة إلى البقرة- فقال: أظن الزنادقة وضعته.
فانظر كيف جعل هذا الإمام الجليل مثل هذا العمل من قبيل الزندقة؟!
وتعظم إساءة هذا المرسل وأمثاله بإحراج الآخرين وتأثيمهم بمثل هذه العبارات "أرسلها إلى خمسة غيرك أمانة في ذمتك إلى يوم القيامة"!! أحشفًا، وسوء كيلة؟!
فليتق الله هؤلاء -الذين قد يدفعهم حب الخير لمثل هذه العمل المنكر-.
ومن جاءته مثل هذه الرسالة، أو وقف على شيء من هذه الفضائل، فلا يصح له التسرع في الإرسال حتى يسأل أهل العلم، ويتأكد من صحة ما يرسل.
كما ينبغي البعد والحذر من إلزام الناس بمثل تلك العبارات التي وردت في السؤال لو كان ما فيها حق، فكيف بها وما فيها ليس عليه أثارة من علم؟!.(1/352)
الكون بين الاتساع والانكماش
المجيب د. محمد بن إبراهيم دودح
باحث علمي في هيئة الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 11/07/1426هـ
السؤال
يقول القرآن إن الساعة قريبة، بينما يؤكد دعاة الإعجاز العلمي ما يقوله الفيزيائيون من أن الكون في اتساع دائم، فما تفسير ذلك؟.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
جوابا على السؤال حول حالة الكون الآن: (هل هو في اتساع مستمر إلى أن تضم جوانبه فجأة، أم هو في ارتداد قد بلغتنا علاماته, وهل الجواب في القرآن والعلم سواء) ؛ أقول مستعينا بالعلي القدير سائله -سبحانه وتعالى- العون والتوفيق:(1/353)
أعلن أدوين هبل Edwin Hubble في العام 1929 ملاحظة كانت حجر الأساس في المفهوم الحديث حول طبيعة الكون وتطوره, فقد لاحظ أن المجرات العظمى تبدو في انحسار، وكلما زاد بعدها زاد معدل الانحسار مما يعني أن مادة الكون في الماضي البعيد كانت في حيز ضئيل تزايد بالاتساع كما تتباعد المواد عند الانفجار, ولذا نالت تسمية "الانفجار العظيم Big Bang" قبولا واسعا في تفسير نشأة الكون وتشكل مكوناته بالاتساع Expansion, ومعدل انحسار المجرات قيمته ثابتة وفقا لبعدها ويسمى (ثابت هبل) وتقديره حاليا حوالي: 24 (30-20) كم/ ثانية، ولذا يمكن استنتاج عمر الكون (عمر الكون = سرعة الضوء\ثابت هبل×مليون) وهو حوالي: 12.5 (10-15) بليون سنة, ولما كانت فكرة مركزية الأرض للكون قد دفعتها مشاهدات سابقة فلم يبق إلا قبول مبدأ التجانس Uniformity في تباعد المجرات أو اقترابها بحيث يعاين المراقب من أي موقع في الكون نفس ما يعاينه المراقب على الأرض, ولما كان الكون حادثا وليس أزليا والتوسع المعاين يعكس حالة المجرات العظمى في الماضي البعيد عندما صدر الضوء المحدود السرعة منها منذ بلايين السنين فليس مستبعدا أن يكون بناء الكون آيل للانهيار والزوال خاصة أن المجرة الأقرب على سبيل المثال وهي المجرة المسلسلة Andromeda تبدو في اقتراب بسرعة حوالي 300 كم\ثانية, فإذا كان التجانس مقبولا في ابتعاد المجرات واقترابها فليس مستبعدا أن يكون الكون حاليا ينطوي في انكماش بلغتنا شواهده من الطرف الأقرب، ولم تصلنا بعد من المجرات الأعظم إلا شواهد الانحسار في الماضي نتيجة لبعدها الشديد, والقول إذن بأن الكون في اتساع مستمر يغفل عن اقتراب أقرب المجرات والسرعة المحدودة للضوء القادم من المجرات الأعظم ذات الأبعاد الهائلة، وهو في جانب وهم أزلية المادة والتشكيك في مبدأ حدوث الكون واستبعاد نهايته.(1/354)
واكتشاف أدوين هبل بأن الكون يبدو في توسع مما يحتم أن تكون له بداية قد أزعج فئة تميل للإلحاد، فحاولوا التشويش عليه تهربا من مبدأ الخلق بفرضيات يجمعها وهم سرمدية الكون تحت مسمى الحالة الثابتة ٍSteady state, ولو كان الكون ذا بداية أكبر كثافة وأكبر حرارة نتيجة لانضغاط المادة في حيز ضئيل لأصدر في كل اتجاه أشعة تدل على درجة الحرارة الهائلة، تلك التي لا يبلغها اليوم قلب أي نجم مهما بلغت عظمته, ولذا جاءت الضربة القاصمة لتلك الفرضيات قبل نهاية القرن الماضي، فتوارت إلى الأبد عندما اكتشف أرنو بنزياس Arno Penzias وروبرت ويلسون Robert Wilson تلك الأشعة عام 1964 بغير قصد, وتحتمت البداية بلا منافس وتزاحمت الاحتمالات حول كيفيتها, واعترف الفيزيائي هاوكنج قائلا: "إن كونا ذا بداية يستحيل مطلقا أن يكون بلا خالق", فوحدة البداية تقطع بوجود الخالق، وبالطبع وحدته ناهيك عن التصميم المتقن والنظام الثابت الذي أقر هاوكنج أنه "عماد تاريخ العلم التجريبي أجمعه".
ويبحث الفيزيائيون -حالياً- عن أدلة تكشف نهاية الكون, وأحد الأساليب لتأييد احتمال الانكماش أو الكون المغلق Closed universe اصطلاحا هو تجاوز القيمة الحرجة للكثافة الوسطية للمادة في الكون وقيمتها: 10-29 جم\سم3؛ أي ما يعادل حوالي 5 ذرات أيدروجين في المتر المكعب، وهي في حدود القيمة المحسوبة حاليا للمادة المنظورة, وللمقارنة تبلغ قيمة كثافة الماء 1 جم\سم3 أي ما يعادل حوالي 500 بليون بليون بليون ذرة أيدروجين في المتر المكعب, والمعتقد حاليا وجود مادة غير منظورة بكميات هائلة تسمى المادة السوداء Black matter ترجح انكماش الكون.(1/355)
وكلما انكمش الكون تزايدت كثافته، ومع تلاشي المسافات تصبح لا نهائية, ولكن تلاشي المسافة يعني انعدام المادة بحيث تتلاشي الكثافة, وهذا يعني توقف القوانين وبلوغ حالة يستوي فيها العدم والوجود في لحظة الفناء العظيم، وهي تماثل تماما لحظة الخلق العظيم حيث وجدت مادة الكون فجأة من عدم, تلك اللحظة المبهرة تسمى -فيزيائياً- لحظة التفرد Singularity لتوحد كافة تنوعات المادة في بنية أساسية واحدة, واللحظة التي يحتمل إعمال قوانين الفيزياء عندها أو قبلها تسمى الكثافة عندها كثافة بلانك Planck density وتبلغ 10 93 جم\سم3 أو ما يماثل 100 بليون مجرة مكدسة في حيز ضئيل لا يتجاوز مداه 10-35 متر (مسافة بلانك) عندما كان عمر الكون 10-43 ثانية (زمن بلانك) , ولك أن تقول إنه كان عدما عند اللحظة صفر فلا تعمل قوانين الفيزياء إلا مع توفر المادة بعد أجزاء ضئيلة للغاية من أول ثانية, فصفحة الكون ليست أبدية، وإنما ضمن منظومة طوي بعضها الزمن والبعض لم يظهر بعد للوجود، وإنما الكون ينحني على نفسه وينطوي في امتداد مستمر نحو نهايته إن شئت التعبير بالاستمرار, والتعبير الأدق أن يقال: إنه كان حين البناء في اتساع كما ترتفع طوابق البيت حين البناء، وعندما تحين ساعته يُعكس الاتجاه ليعود لأصل حالته, والقول إذن بأن الكون في اتساع مستمر يغفل عن قوانين تطوره، ويماثل القول بالخلق الفجائي للكائنات بلا أطوار.(1/356)
وقد بلغ التمثيل في القرآن الكريم لحقائق الكون الخفية زمن التنزيل الغاية في الدقة والوفرة والاستيعاب بما لا يعارض حقيقة مكتشفة والقمة في التلطف بما لا يلفت عن غرض, فوصف الكون بالبناء، وجاء بتعبير السماء الدال على العلو بالنسبة للمتطلع من الأرض في مرونة يحدد مداه السياق, وجعل بروج النجوم لبنات والوجود آفاق بتعبير السماوات, ووظف دلالات لفظ السماء لتشمل طيفا واسعا من الكيانات التي تمتد فوق سطح الأرض ولذا طالها فرع شجرة في قوله تعالى: "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السّمَاءِ" [إبراهيم: 24] ، وبعيدا عن تصورات الكيفية قبل استقرار الحقائق فإن القرآن حاسم في جعل تنوعات التجمعات النجمية باسم البروج فوق عالم الكواكب الأدنى، حيث تسبح الشمس والقمر في محيط الوجود حولنا في قوله تعالى: "وَالسّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ" [البروج: 1] , وقرائن السياق قد تدل على الإطلاق فتمد دلالة لفظ السماء لتستوعب الكون الفيزيائي Physical universe أجمعه.(1/357)
ولا يفوتك أن التعبير عن التوسع حين البناء برفع السماء تمثيلا جاء فيه فعل (الرفع) بصيغة الماضي بلا استثناء مما يقصر الاتساع على وقت البناء، ويعارض القول باستمراره إلى الآن, يقول تعالى: "أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبلِ كَيْفَ خُلِقَتْ. وَإِلَى السّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ" [الغاشية 17و18] ، ويقول تعالى: "وَالسّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ" [الرحمن: 7] ، ويقول تعالى: "اللهُ الّذِي رَفَعَ السّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا" [الرعد:2] ، وجاء التعبير عن الرفع بلفظ الخلق بيانا لتكامل البناء في قوله تعالى: "خَلَقَ السّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا" [لقمان: 10] ، إنه عمل كامل يمكن معاينته اليوم، ولذا ورد بيان خلقه بفعل (البناء) بالماضي كذلك بلا استثناء, يقول تعالى: "أَأَنتُمْ أَشَدّ خَلْقاً أَمِ السّمَاءُ بَنَاهَا. رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوّاهَا" [النازعات: 27و28] ، ويقول تعالى: "أَفَلَمْ يَنظُرُوَاْ إِلَى السّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا" [ق: 6] ، ويقول تعالى: "وَالسّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا" [الشمس: 5] ، وفي قوله تعالى: "وَالسّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنّا لَمُوسِعُونَ" [الذاريات: 47] ؛ فعل (البناء) بالماضي يفيد التكامل، ويرجح أن (مُوسِعُونَ) أي قادرون على إعادته كقوله تعالى: "عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُه" [البقرة: 236] ، أي القادر خاصة أنه غير (مُوَسِّعُون) أي نوسعها دوما.(1/358)
فهل الكون في القرآن في ارتداد؟؛ هذا هو صريح الآيات، فالموعد قريب والكون كله كمثقلة على وشك الوضع، والأمر قد أتى ولم يصل بعد تأكيدا لتقدير سرعته، ولا دليل على أن سرعة الانتقال عند نهاية الكون ستصبح لحظية فجأة وتخرق قانونا يشهد بوحدة التقدير, وإذا كنا نشاهد الأطراف البعيدة في انحسار فذلك حالها يوم أن انطلق في الماضي السحيق الضوء المرصود الآن، أما حالها آنيا فلا يعلم به أحد سوى الله تعالى وحده, أليس الضوء مقدر السرعة؟ فكيف نقرأ إذن رسالة سُطِّرَت منذ بلايين السنين عند تشييد الطوابق قبل اكتمال ارتفاع هيكل البناء وكأنها كُتِبَت الآن؟ , وإن شئت أن تنال ما تستحقه الحقيقة من فزع فاسأل الجيران من المجرات في أقرب الآفاق تخبرك أقربهن على بعد 2 مليون سنة ضوئية أنها تقترب مسرعة، ولا نعلم شيئا عنها الآن, ولم يقل القرآن إن الكون في اتساع مستمر, وقوله تعالى: "وَالسّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنّا لَمُوسِعُونَ" [الذاريات: 47] ؛ لا يعني دوام التوسع بعد تكامل البناء، وإلا ما كانت للنهاية ساعة, وفي اللغة اسم الفاعل "مُوَسِّعُون" (بضم الميم وفتح الواو وتشديد وكسر السين) يعني دوام التوسعة، ولكن الذي في الآية "مُوسِعُون" (بضم الميم وتسكين الواو وكسر السين) ويعني دوام القدرة, والقدرة في مقام الخلق تعني إعادته.(1/359)
وأصل اللفظ (مُوسِعُون) أي لذو سعة تمثيلا للقدرة والاستطاعة بالامتداد في المكان وتكشف قرائن السياق ماهية السعة, فتشمل أحوالا كسعة المكان وسعة الرزق وسعة الثراء وسعة القوة والقدرة والاستطاعة، وفي مقام خلق الكون تعني القوة والقدرة والاستطاعة على إعادته وتتضمن الدلالة على بالغ سعة امتداده وعظمته إيغالا في بيان الاقتدار فتعني ضمنا التوسعة الهائلة حين البناء, قال ابن جزي: "وسع يسع سعة من الاتساع ضد الضيق، والسعة الغنى، والواسع اسم الله تعالى، أي واسع العلم والقدرة والغنى والرحمة", وقال البغوي: " (وإنا لموسعون) قال ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- لقادرون", وقال الزمخشري: " (وإنا لموسعون) لقادرون من الوسع وهو الطاقة", وقال ابن حجر: "قوله لموسعون أي لذو سعة، وكذلك (على الموسع قدره) يعني في قوله تعالى (ومتعوهن على الموسع قدره) أي من يكون ذا سعة.. يعني القوي وروى ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح قال (وإنا لموسعون) قال أن نخلق سماء مثلها", وقال السمعاني: "قال مجاهد معناه يسع قدرتنا أن تخلق سماء مثلها", وقال الرازي: "وبناء السماء دليل على القدرة على خلق الأجسام ثانيا كما قال تعالى: (أَوَلَيْسَ الَذِي خَلَقَ السّمَاواتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىَ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىَ وَهُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ) [يس: 81] .(1/360)
والقرآن الكريم يؤكد على قرب ساعة الميعاد؛ يقول تعالى: "أَزِفَتْ الْآزِفَةُ" [النجم: 57] , ويقول تعالى: "اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ" [الأنبياء: 1] , ويقول تعالى: "فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا" [محمد: 18] , "يَسْأَلُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنّكَ حَفِيّ عَنْهَا قُلْ إِنّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللهِ وَلََكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ" [الأعراف: 187] ، وفي كل هذا كما قال ابن كثير وغيره (رحمهم الله جميعا) : "يخبر تعالى عن اقتراب الساعة وفراغ الدنيا وانقضائها، كما قال تعالى: "أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ" [النحل: 1] ", فكيف يُستبعد إذن أن يكون الكون في ارتداد والقوى تمضي مسرعة لا تحتاج مزيد استعجال ليكتمل طي كل الصفحات! , كما قال تعالى: "يَوْمَ نَطْوِي السّمَاءَ كَطَيّ السّجِلّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوّلَ خَلْقٍ نّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنّا كُنّا فَاعِلِينَ" [الأنبياء: 104] ، والسجل مسطح يُطوى يحوي كل الصفحات، ولا يظهر منه سوى طرفه القريب، وهو أدق وصف للكون المترابط البناء المنحني المحجوب, وأما بدء الخلق فحقيقة ساطعة قضت إلى الأبد على فرضية الكون الأزلي باسم الحالة الثابتة، وزيفت مستنداً مزعوماً فطواه الزمن, وتصريح القرآن بالتوسع الكوني -قبل أن يدركه بشر بقرون- دليل حاسم على التنزيل.(1/361)
قصة تحريق عثمان -رضي الله عنه- للمصاحف
المجيب خالد بن عبد العزيز السيف
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 25/03/1426هـ
السؤال
أنا مسلمة ملتزمة، وعن فهم والحمد لله، المشكلة أنني مقتنعة أن الله لا يريدني أن أكون مسلمة لمجرد أني ولدت مسلمة، فإن لم أتفكر، فما الفرق بيني وبين المسيحيين، أو حتى المشركين الذين يعيب الله عليهم اتباعهم دين آبائهم دون تفكير؟ لذلك بدأت أقرأ عن المسيحية وأستمع للطرفين، والمشكلة أنني أريد أن أكون محايدة، مما يجعلني في موقف شك في كل شيء إلا وجود الله الخالق عز وجل، هل ما أفعله حرام وأنا مقتنعة من أنه حقي أن أختار الإسلام ديناً، وليس أن يفرض علي كما يرضى اليهود والنصارى.
والأمر الآخر أرجو توضيح قصة حرق عثمان للمصاحف، وما هي القراءات؟ شكراً لكم.
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
يقول الله تعالى: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم " [البقرة:256] .(1/362)
فاختيار الدين راجع لقرار الإنسان، ولذلك لم يجبر الإسلام أحداً على الدخول فيه ولم يحارب أحداً على الدخول في الإسلام، وإنما حارب من يقف بينه وبين تبليغه للناس، أو من يقف في طريق الناس لاتخاذ قرارهم في الإسلام أو عدمه، ولذلك بعد الفتوحات الإسلامية ترك الناس على أديانهم التي كانوا عليها قبل الإسلام، فمن شاء دخل فيه ومن شاء بقي على دينه، ولهم جميع الحقوق، ولكن بعد تبيين الحق يتحمل الإنسان مسؤولية قراره الديني والدين الذي ارتضاه لنفسه، ويتحمل خطأه إن كان أخطأ في الآخرة، أو يفوز بالنعيم الأبدي إذا أحسن اختيار القرار الصحيح، وليس هذا في الإسلام فحسب، بل حتى في اليهودية والنصرانية، بل في المسيحية الوضع أشد، فلا يعذر أحد بجهله كما هو معروف في يوم الدينونة، يوم يدين المسيح العالم على حسب اعتقادهم. أما في الإسلام فقد يعذر الإنسان بجهله، أو غيره من الأعذار التي قررها الإسلام في شرائعه.
وأما ما يتعلق بالبحث بين الفروق بين الإسلام وغيره من الديانات فهذا ليس واجباً على المسلم، بل يكفي في المسلم إذا أراد أن يعرف الفروق بين الديانات أن يقرأ القرآن الكريم، ففيه كل شيء عن أحوال الديانات السابقة، وأيضاً فيه الرد عليها وبيان فسادها، ولا أفضل من التعبير الرباني في بيان الحق ورد الباطل. والأفضل في ذلك قراءة القرآن بتفهم وتدبر، والوقوف على بيان ميسَّر لبيان ألفاظه.(1/363)
ومهمة البحث في أقوال أهل الديانات الأخرى من خلال كتبهم ومراجعهم فهذا ليس فيه فائدة؛ لأن الله أغنانا بالقرآن عن ذلك وهو أصدق الحاكمين، ولكن هذه المهمة ممكن أن تكون خاصة بأهل العلم، ممن يقوم بالدعوة في صفوف المخالفين أو مناقشتهم في معتقداتهم، وهذه لا ينبغي الإقدام عليها إلا ممن وثق في قوة حجته وقوة إيمانه ويقينه وتصديقه، لأنه قد يتعرض للفتنه والشبهات، والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان كثيراً ما يدعو بقوله: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" أخرجه الترمذي (2140) .
وأما الوصول إلى الشك في كل شيء إلا في وجود الخالق، فلا شك أنه حرام في كل الديانات، والشك لا يغني من الحق شيئاً، والشك ضده الإيمان وهو التصديق، أي التصديق بكل ما جاء عن خبر الصادق النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا من شك فمعناه أنه ليس مؤمناً؛ لأن الإيمان هو التصديق، فالله أغنانا عن النظر في كلام المسيحيين مما ساقه هو في كتابه، فالأفضل الوقوف عنده.
أما السؤال عن موضوع إحراق المصاحف فهذه شبهه يرددها المسيحيون للتشكيك في القرآن الكريم، وخلاصتها الصحيحة:(1/364)
أنه في عهد عثمان - رضي الله عنه - وعلى التحديد عام ثلاثين للهجرة أخذت مهمة تعليم القرآن التي كانت موكولة إلى القراء تتعرض لخطر اختلاف القراءات باختلاف القراء المعلمين، وقول كل منهم إن قراءته هي الأدق، وخصوصاً بعد توسع الفتوحات الإسلامية، ودخول كثير من غير العرب في الإسلام، ومضى حذيفة بن اليمان الذي كان رفيق سعيد بن العاص في فتح أذربيجان، وأعلن عن تخوفه من أن يختلف الناس على القرآن، ومضى حذيفة إلى عثمان فأخبره بما رأى، وهو يقول: أنا النذير العريان فأدركوا الأمة. واستجاب لحذيفة، وقرر عثمان نسخ مصحف إمام، فأرسل إلى حفصة يطلب منها المصاحف التي كان قد نسخها أبو بكر فأرسلتها، وأمر زيداً ليقوم بالمهمة التي قام بها أيام أبى بكر، وضم إليه عبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وقال لهم، إذا اختلفتم فاكتبوه بلسان قريش ففعلوا. وبعد أن نسخوا المصحف ردَّ عثمان إلى حفصة نسختها، وأرسل إلى كل أفق بمصحف وحرق ما سوى ذلك انظر صحيح البخاري (4988) .
وحدد عثمان - رضي الله عنه - مع الكُتّاب - رضي الله عنهم - الأسس والمنهج الذي يعتمدون عليه في نسخ المصاحف العثمانية، وهي:
1- لا يكتب شيء إلا بعد التحقق من أنه قرآن.
2- لا يكتب شيء إلا بعد العلم بأنه استقر في العرضة الأخيرة التي عرضها جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم.
3- لا يكتب شيء إلا بعد التأكد أنه لم ينسخ.
4- لا يكتب شيء إلا بعد عرضه على جمع من الصحابة.
5- إذا اختلفوا في شيء من القرآن كتبوه بلغة قريش.
6- يحافظ على القراءات المتواترة، ولا تكتب قراءة غير متواترة.
7- اللفظ الذي لا تختلف فيه وجوه القراءات يرسم بصورة واحدة.
فالضوابط التي حددها عثمان -رضي الله عنه- لا تجعل مجالاً للشك في أن الذي بين أيدي المسلمين اليوم إنما هو عين القرآن الذي أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم-.(1/365)
وما فعله الخليفة عثمان -رضي الله عنه- كان محل الرضى من الأمة ومن جميع الصحابة. وهذا خلاصة ما فعله الخليفة عثمان رضي الله عنه، مع العلم أن بعض المسيحيين يزيدون وينقصون في هذه القصة، ويأخذون بعض الأقوال الشاذة، ويبرزونها على أنها الحقيقة، وهذا مخالف للمنهج العلمي كما هو معروف، فالمنهج العلمي ألا يؤخذ من الخصم إلا ما صح عند الخصم نفسه، وهكذا.
وأما عن القراءات فهي تعني كيفية النطق بكلمات القرآن، وغالبها في أداء التلاوة وكيفية النطق بكلماتها كالإدغام والإظهار والتَفخيم والترقيق والمَد والقَصْر والتليين، وهلم جرا، وليس معناها آيات جديدة، أو قرآن جديد.
وضابط القراءات المقبولة: كل قراءة وافقت أحد المصاحف العثمانيّة، ولو تقديرًا، ووافقت اللغة العربية ولو بوجه وصحّ إسنادها، ـ فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردُّها ولا يحل إنكارُها.
وسبب تعدد القراءات مرجعه إلى النقل واللغة العربية، فليس لأحد أن يقرأ القرآن برأيه المجرد، بل القراءة سنة متبعة، بمعنى أن القراءة توقيفية أي مردها إلى الشارع الحكيم، فمتى ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ بها جازت، وإلا فلا.
والله أعلم.(1/366)
هل تلقى جبريل القرآن عن اللوح المحفوظ؟
المجيب عبد الرحمن بن ناصر البراك
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 19/07/1426هـ
السؤال
هل هذه العبارة صحيحة: (تلقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القرآن عن جبريل -عليه السلام- عن اللوح المحفوظ، عن رب العزة؟)
الجواب
الحمد لله، وبعد:
مذهب أهل السنة والجماعة أن القرآن كلام الله تكلَّم به وألقاه إلى جبريل الروح الأمين، فنزل به فأوحاه إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- فألقاه على سمعه وقلبه، فابتداء نزول القرآن على النبي -صلى الله عليه وسلم- من ربه بواسطة الرسول الكريم جبريل، قال الله تعالى: (وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين) [الشعراء: 192-195] . وقال تعالى: (قل نزله روح القدس من ربك بالحق) [النحل: 102] . وقال تعالى: (إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين) [التكوير: 19-20] ، وقال تعالى: (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم) [الزمر: 1] .
وهذه العبارة المذكورة في السؤال تقتضي أن جبرائيل -عليه السلام- لم يسمع القرآن من الله، وإنما أخذه من اللوح المحفوظ.
نعم القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ، واللوح المحفوظ هو أم الكتاب، كما قال تعالى: (إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم) [الزخرف: 3-4] . وقال تعالى: (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ) [البروج: 21-22] .
وبهذا يتبين أن العبارة غير صحيحة؛ لما تتضمنه من المعنى الفاسد، وهو أن جبريل لم يسمع القرآن من الله، وهذا مذهب أهل البدع من الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الأشاعرة وغيرهم، يقولون: إن الله لا يتكلم وهذا القرآن مخلوق، بل كل كلام يضاف إلى الله فهو مخلوق، والأشاعرة يقولون: إن كلام الله معنىً نفسي قديم لا يُسمع منه ولا تتعلق به مشيئته، وهذا القرآن المكتوب في المصاحف، المتلو بالألسن، المحفوظ المسموع هو عبارة عن المعنى النفسي.
وحقيقة قولهم أن هذا القرآن مخلوق، فشابهوا بذلك المعتزلة، وهذه مذاهب مبتدعة باطلة مناقضة للعقل والشرع، ومناقضة لمذهب أهل السنة والجماعة من السلف الصالح من الصحابة والتابعين -رضوان الله عليهم- والله أعلم.(1/367)
هل قرأ ابن مسعود هذه الآية هكذا؟!
المجيب د. الشريف حاتم بن عارف العوني
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 24/10/1426هـ
السؤال
السلام عليكم
ذكر الحافظ الزيلعي في كتاب "نصب الراية" رواية عن مؤلف كتاب "التنقيح" ان عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- نسي كيف كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتلو قول الله تعالى: "وما خلق الذكر والأنثى" فما صحة ذلك؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة السلام على إمام الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الغر الميامين، وبعد:
فقد ذكر هذا القول الزيلعي في نصب الراية (1/397-402) ، نقلاً عن كتاب تنقيح التحقيق لابن عبد الهادي، وهو فيه (2/778) نقلاً عن الإمام أبي بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب النيسابوري الصِّبغي (ت342هـ) .
وهو قول ذكره هذا الإمام ليُقابل به قَوْلَ من ردَّ رفع اليدين في الصلاة قبل الركوع وبعد التشهد الأوّل، وهو ثابت من حديث عدد من الصحابة، ذكر البخاري في جزء (رفع اليدين) أنهم سبعة عشر صحابياً، فأراد ذلك الرادُّ أن يدفع هذا كُله لمجرّد أن ابن مسعود -رضي الله عنه- لم يحفظ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا رفعاً واحداً عند تكبيرة الإحرام.
فأراد هذا الإمام أن يُقابل غُلُوَّ هذا الرادّ بقول يردعُه، وهو أن هذا النقل عن ابن مسعود -رضي الله عنه- لو ثبت (لأن في ثبوته خلافاً) ، فيبقى احتمال نسيان ابن مسعود -رضي الله عنه- وارداً.
فإن قيل: كيف ينسى ابن مسعود -رضي الله عنه- هذا الأمر المشهور من أمر الصلاة المتكررة أمامه من فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فيُجاب عليه بما ذكره أبو بكر الصِّبغي: أن ابن مسعود -رضي الله عنه- نسي ما لا ينساه أحدٌ، بمعنى أن الحافظ القوي الحفظ قد ينسى ما لا ينساه أحد، كما أنّ الذكي الشديد الذكاء قد يغفل ويستغلق عليه ما لا يستغلق على بُلداء الخلق أحياناً.(1/368)
هذا هو قول هذا الإمام، وهو قول غير مرضي، وبيان ذلك كالآتي:
1- أما تطبيق ابن مسعود -رضي الله عنه- في الركوع، وهو أن يشبك بين أصابع كفّيه، ويضعهما بين فخذيه، وأنه لم يكن يأخذ بركبته، وهو ثابت من فعله وحثه عليه، كما في صحيح مسلم (534) . فهو محمول على أنه كان يرى جواز التطبيق، وجواز الأخذ بالركب، لا على النسيان، إذ كيف ينسى هيئة الصلاة وسبع عشرة ركعة يصليها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومع أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-.
أما ما جاء من حثِّه على هذا الفعل، فلا يقطع بأنه كان لا يُجَوِّزُ الأخذ بالركب، ولكنه خشيّ -حسب اجتهاده في المسألة- أن يُظنَّ عدمُ جواز التطبيق، ورأى كثرة الآخذين بالركب وغلبتهم، فرأى أن يحث على التطبيق، ليتقرّر جوازه عند الناس.
ولولا أن هذا الاجتهاد كان سائغاً في زمن الصحابة، وإن كان عندهم مرجوحاً لما سكتوا عنه، ولألزموه الحجّة بعدم صحّة فعله هذا.
2- وأمّا وضع المرافق في السجود، فهو ثابت أيضاً عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (2670، 2676) ، بإسنادين صحيحين عنه، أنه قال: "هُيّئت عظامُ بني آدم للسجود، فاسجدوا حتى بالمرافق"، وأحد الإسنادين اقتصر على العبارة الأخيرة.
وهذا القول ليس شاذاً غريباً، ولابن مسعود -رضي الله عنه- من يوافقه من السلف، كما تراه في المصنّف لابن أبي شيبة (2/104-106) .
وإذا حمل قول ابن مسعود هذا على الجواز عند الإعياء والتعب من طول السجود، فهو قول وجيه لأهل العلم.
3- وأمّا أن ابن مسعود -رضي الله عنه- كان يقرأ سورة الليل: "والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى" دون أن يقرأ "وما خلق الذكر والأنثى" فهو أيضاً ثابتُ عنه في صحيح البخاري (3742، 3743، 3761، 4943، 4944، 6278) ، وفي صحيح مسلم (824) .(1/369)
ولكن أوّلاً: لم ينفرد بها ابن مسعود -رضي الله عنه- بل وافقه على ذلك أبو الدرداء -رضي الله عنه- كما في الصحيحين (المواضع السابقة) .
وهذا يدلّ على أن هذه القراءة إحدى الأحرف السبعة التي تنزل بها القرآن، وليست خطأ ولا نسياناً من هذين الصحابيين الجليلين القارئين -رضي الله عنهما-.
ولكن بعد أن جمع عثمان بن عفان -رضي الله عنه- الأمة على مصحف واحد، خشية أن لا تعي ما وعاه الصحابة -رضوان الله عليهم- من شأن الأحرف السبعة، وأجمع الصحابة على قبول فعله هذا، وأجمعت الأمة عليه، أصبح من غير الجائز أن يُقرأ بغير ما في المصحف العثماني، وأصبحت موافقة القراءة لمصحفه شرطاً من شروطٍ ثلاثةٍ لقبول صحة القراءة عند جميع الأمة. وهذا ما يفسِّرُ ثبوت قراءة ابن مسعود وأبي الدرداء كليهما لسورة الليل، كما في المصحف "وما خلق الذكر والأنثى" بالتواتر عنهما؛ لأنهما اثنان ممن اتصلت أسانيدُ القُرّاء بهم من الصحابة -رضي الله عنهم-.
فقراءة ابن مسعود وأبي الدرداء بالقراءة الموافقة لخطّ المصحف، وتركهما القراءة الأخرى، يدل على أنهما تركاها لما خالفت إجماع الصحابة -وهما منهم- على مصحف عثمان -رضي الله عنه-.
والشاهد: أن ابن مسعود -رضي الله عنه-لم يقرأ بتلك القراءة نسياناً، ولا تركها نسياناً بل قرأ بها قبل إجماع الأمة على مصحف عثمان، وتركها بعد إجماعها عليه.(1/370)
ومع هذا كله، ومع خطأ أبي بكر الصِّبغي في تقريره لهذه المسائل، وأنها نسيانٌ من ابن مسعود -رضي الله عنه- إلا أنه يصح أن يُحْتَجَّ بها على من خالف الثابت عن العدد الوفير من الصحابة -رضي الله عنهم- في رفع اليدين قبل الركوع وبعده؛ بأن ابن مسعود -رضي الله عنه- لم يكن يفعله، أو لم يكن يعلم به. وذلك بأن يقال له: أنت تخالف الظاهر من تلك الروايات الثلاث عن ابن مسعود في الركوع والسجود والقراءة، وأوجدت لذلك التخريجات والتأويلات الصحيحة، فلماذا لا تفعل ذلك مع رواية ابن مسعود -رضي الله عنه- في مسألة رفع اليدين؟!
وثبوتُ خلافها للراجح لائح واضح.
وهذا هو ما فعله الإمام الشافعي في الأمّ (7/184-189) ، حيث ذكر مسائل عديدة، منها مسألة تطبيق الركوع، ووضع المرافق في السجود، مما يقول به ابن مسعود -رضي الله عنه- وخالفه الحنفيّة. ليذكَّرهم أن مخالفة ابن مسعود -رضي الله عنه- إذا جاء الدليل بخلاف قوله، أو الرواية أقوى مما رُوي عنه، ليس أمراً جديداً على الفقه، ولا على فقههم هم أنفسهم، فلا ينبغي أن تكون مخالفته مجرّدةً دليلاً على مجانبة الصواب.
هذا والله أعلم. والحمد لله على أفضاله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله.(1/371)
الإعجاز العلمي في قوله "إذا بلغ مغرب الشمس ... "
المجيب د. محمد بن إبراهيم دودح
باحث علمي في هيئة الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة
القرآن الكريم وعلومه/مسائل متفرقة
التاريخ 03/11/1426هـ
السؤال
يؤرقني تفسير الآية (86) من سورة الكهف: "حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة...." رجاء التفسير في ضوء الحقائق العلمية المسلَّم بها حالياً.
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فجوابا على السؤال حول معنى قوله تعالى: "حَتّىَ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ" [الكهف:86] , ومدى مطابقته للواقع؛ أقول مستعينا بالله -تعالى- سائله العون والتوفيق:
(1) في أعماق البحار شقوق تدفع بحمم حامية ملتهبة:(1/372)
اكتشف علماء الجيولوجيا حديثا أن القشرة الأرضية مقسمة بشبكة من الصدوع العميقة إلى قطع متجاورات يسمى كل منها لوحًا (Plate) بالإضافة إلى عدة ألواح صغيرة تسمى لويحات (Platelets) , وتطفو هذه الألواح على طبقة شبه منصهرة، وتصعد الصهارة (Magma) من بينها في قيعان المحيطات، لتضيف مادة جديدة إلى كل لوحين متجاورين، وبالزيادة من طرف تنقص الألواح من الطرف الآخر دوما بالانثناء تحت طرف الألواح المجاورة, وهكذا تبين تميز وجود صدوع عميقة في منتصف المحيطات (Mid-Oceanic Rifts) تمتد لتغطي القشرة الأرضية بأكملها، وقد يصل عمقها إلى حوالي (150كم) بعمق القشرة ذاتها في أسمك منطقة, وتبين كذلك أن جميع القارات المعلومة اليوم وما يميزها من جبال تتحرك بحركة الألواح التي تحملها متقاربة أو متباعدة عن بعضها البعض حركة بطيئة، لتحقق مسافة لا تتجاوز عدداً قليلاً من السنتيمترات كل سنة، ولكنها حركة مستمرة, فمثلاً يتسع شق البحر الأحمر بنسبة (3 سم) في السنة، وشق خليج كاليفورنيا بنسبة (6سم) في السنة، ويعتقد حاليا بأن القارات الشابة كانت متكتلة مع بعضها البعض منذ حوالي (200) مليون سنة، لتكون قارة وحيدة ضخمة وسط محيط واحد, ومع انقسامها سمي الصدع الأصلي(1/373)
بصدع المنتصف الأطلنطي (Mid-Atlantic Ridge) ومازال إلى اليوم يمثل منطقة نشطة بركانياً, وفي مناطق الوديان العميقة في منتصف المحيطات (Mid-Ocean Rifts) حيث تلتقي الألواح القارية تتوقد الأعماق بنيران لا يقدر ماء المحيطات كله على إطفائها, وتبلغ درجة الحرارة في تلك المناطق البركانية النشطة الألف درجة مئوية, وفي قوله تعالى: "وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ. إِنّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ" [الطور:6و7] ترجع عظمة القسم على المقسوم به كدليل على الوحي, ولفظ (البحر) اسم جنس يعني البحار العظيمة في سياق نظرة شمولية للعالم حاليا تنذر بخرابه مستقبلا في جواب القسم "إِنّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ", ووصف البحر بلفظ (المسجور) يعني أن قاعه ملتهب يتقد بالنيران، كما في قوله تعالى: "ثُمّ فِي النّارِ يُسْجَرُونَ" [غافر:72] أي توقد تحتهم، لأن (السجر) هو الإيقاد في التنور.
وأما قوله تعالى: "وَإِذَا الْبِحَارُ سُجّرَتْ" [التكوير: 6] فيعني أن نيران القاع محجوزة وينذر باندفاعها لتصبح منظورة لاحقاً بياناً لدمار العالم مستقبلاً, ولم تعرف صدوع منتصف المحيط (Mid-OceanRifts) إلا بعد الحرب العالمية الثانية خلال نظرية الألواح التكتونية (Tectonic Plates) التي صيغت في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي فقط.
ومن الناحية العلمية تمثل تلك الصدوع الملتهبة المتصلة والممتدة عميقا أبرز معلم لقشرة الأرض, ولذا في قوله تعالى: "وَالأرْضِ ذَاتِ الصّدْعِ" [الطارق:12] وقوله تعالى: "وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ" يعتبر سبق القرآن بالإشارة إلى هذه الحقائق المخبوءة عميقا تحت سطح المحيطات دليلاً جازماً على أنه كلام الله العليم الحكيم.
(2) مشهد غروب الشمس في البحر مبني على رأي العين:(1/374)
الواقع أن جرم الشمس أكبر كتلة وحجما من كواكبها وأقمارها مجتمعة، حيث يحوي وحده ما يقدر فلكيا بنسبة (99.86%) من كتلة النظام الشمسي, وتبلغ كتلتها (1.99) × (10 أس 30) كجم [وللاختصار يصطلح رياضيا بالأس لتضاعيف الأعداد, والقيمة (10 أس 3) تعني 1 أمامه 3 أصفار (1000) وكذلك القيمة (10 أس 30) تعني 1 أمامه 30 صفراً] ،
أي (333.1325) ألف مرة قدر كتلة الأرض التي تبلغ (5.9736) × (10 أس 24) كجم, ويبلغ متوسط نصف قطر الشمس حوالي (696) ألف كم، بينما يبلغ نصف قطر الأرض (6371.3) كم, ونظراً لضخامة الشمس يمكن أن تستوعب حوالي (1.3) مرة قدر حجم كوكب الأرض, ومع أن قرص الشمس يبدو كالقمر حجما قطع القرآن بأنه حقيقة أكبر على لسان نبي الله إبراهيم (عليه السلام) محاججا قومه في قوله تعالى: "فَلَماّ رَأَى الشّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هََذَا رَبّي هََذَآ أَكْبَرُ فَلَمّآ أَفَلَتْ قَالَ يَقَوْمِ إِنّي بَرِيَءٌ مّمّا تُشْرِكُونَ" [الأنعام:78] ، ولا يتوهم إذن أن القرآن يقرر أن جرم الشمس صغير حتى تهبط حقيقة في بحر من بحار الأرض؛ لأن التعبير (وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) قائم على النسبة لسكان الأرض كما ترى العين، نحو قوله تعالى: "قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنّ اللهَ يَأْتِي بِالشّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ" [البقرة:258] ، وعلى هذا اتفق الجمع الغفير من المفسرين سلفا وخلفا؛ قال ابن الجوزي: "ربما توهم متوهم أن هذه الشمس على عظم قدرها تغوص بذاتها في عين ماء وليس كذلك.. وإنما وجدها تغرب.. كما يرى راكب البحر الذي لا يرى طرفه أن الشمس تغيب في الماء، وذلك لأن ذا القرنين انتهى إلى آخر البنيان" [زاد المسير لعبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي المتوفى سنة (597 هـ) , المكتب الإسلامي بيروت (1404 ط3) , (ج5ص186) ] .(1/375)
وقال البيضاوي: "بلغ ساحل المحيط فرآها كذلك إذ لم يكن.. (أمام) بصره غير الماء، ولذلك قال (وجدها تغرب) ، ولم يقل (كانت تغرب) " [أنوار التنزيل وأسرار التأويل لأبي سعيد عبد الله بن عمر الشيرازي البيضاوي المتوفى (سنة 791 هـ) , دار الفكر بيروت (1416) , (ج3ص520) ] .
وقال الرازي: "الشمس أكبر من الأرض بمرات كثيرة، فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض.. (و) أول الليل عند أهل المغرب هو أول النهار الثاني عند أهل المشرق, بل ذلك الوقت الذي هو أول الليل عندنا فهو وقت العصر في بلد، ووقت الظهر في بلد آخر، ووقت الضحى في بلد ثالث، ووقت طلوع الشمس في بلد رابع، ونصف الليل في بلد خامس، وإذا كانت هذه الأحوال معلومة بعد الاستقراء والاعتبار، وعلمنا أن الشمس طالعة ظاهرة في كل هذه الأوقات كان الذي يقال أنها تغيب (حقيقة) في الطين والحمئة كلاما على خلاف اليقين, وكلام الله –تعالى- مبرأ عن هذه التهمة فلم يبق إلا أن يصار إلى التأويل" [التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب لابن خطيب الري فخر الدين محمد بن عمر الرازي المتوفى (سنة 606 هـ) , دار الكتب العلمية بيروت (1421) , (ج21ص142) ] .
وقال البغوي: "معنى قوله: (وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) .. في رأي العين" [معالم التنزيل للحسن بن سعيد الفراء البغوي المتوفى (سنة 516 هـ) , دار المعرفة بيروت (1407 ط) , (ج3ص179) ] .
وقال أبو حيان: "أي فيما ترى العين" البحر المحيط لأبي حيان في تفسير الآية.(1/376)
وقال القرطبي: "ليس المراد أنه انتهى إلى الشمس مغربا ومشرقا حتى وصل إلى جرمها ومسها؛ لأنها مع السماء حول الأرض من غير أن تلتصق بالأرض وهي أعظم من أن تدخل في عين من عيون الأرض، بل هي أكبر من الأرض أضعافا مضاعفة، بل المراد أنه انتهى إلى آخر العمارة من جهة المغرب ومن جهة المشرق فوجدها في رأي العين تغرب في عين حمئة، كما أنا نشاهدها في الأرض الملساء كأنها تدخل في الأرض، ولهذا قال: "حَتّىَ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىَ قَوْمٍ لّمْ نَجْعَل لّهُمْ مّن دُونِهَا سِتْراً" [الكهف:90] ، ولم يُرد أنها تطلع عليهم بأن تماسهم وتلاصقهم، بل أراد أنهم أول من تطلع عليهم" [الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي المتوفى (سنة 671 هـ) , دار الشعب القاهرة (1372ط2) , (ج11ص49) ] .
وقال السعدي: " أعطاه الله ما بلغ به مغرب الشمس، حتى رأى الشمس في مرأى العين كأنها تغرب في عين حمئة أي سوداء، وهذا هو المعتاد لمن كان بينه وبين أفق الشمس الغربي ماء رآها تغرب في نفس الماء وإن كانت في غاية الارتفاع" [تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لعبد الرحمن بن ناصر السعدي المتوفى (سنة 1376 هـ) , مؤسسة الرسالة (بيروت 1421) , (ص485) ] .(1/377)
وقال الألوسي: " (حَتّىَ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشّمْسِ) أي منتهى الأرض من جهة المغرب، بحيث لا يتمكن أحد من مجاوزته، ووقف كما هو الظاهر على حافة البحر المحيط الغربي الذي يقال له أوقيانوس.. (و) جرم الشمس أكبر من جسم الأرض بأضعاف مضاعفة، فكيف يمكن دخولها في عين ماء في الأرض؟ وهو مدفوع بأن المراد: وجدها في نظر العين كذلك إذ لم ير هناك إلا الماء، لا أنها كذلك حقيقة، وهذا كما أن راكب البحر يراها إذا لم ير الشط كأنها تطلع من البحر وتغيب فيه إذا لم ير هناك إلا الماء لا أنها كذلك حقيقة، والذي في أرض ملساء واسعة يراها أيضا كأنها تطلع من الأرض وتغيب فيها.. فالشمس على ما هو الحق لم تزل سائرة طالعة على قوم غاربة على آخرين بحسب آفاقهم.. ويدل على ما ذكر ما أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال: الشمس بمنزلة الساقية تجري بالنهار في السماء في فلكها، فإذا غربت جرت بالليل في فلكها تحت الأرض حتى تطلع من شرقها وكذلك القمر" [روح المعاني لشهاب الدين الألوسي المتوفى (سنة 1270 هـ) , دار إحياء التراث العربي بيروت (ج16ص31) ] .
وأوجز سيد قطب فهم المفسرين -رحمهم الله تعالى أجمعين- بقوله: "ومغرب الشمس هو المكان الذي يرى الرائي أن الشمس تغرب عنده وراء الأفق، وهو يختلف بالنسبة للمواضع، فبعض المواضع يرى الرائي فيها أن الشمس تغرب خلف جبل، وفي بعض المواضع يرى أنها تغرب في الماء كما في المحيطات الواسعة والبحار، وفي بعض المواضع يرى أنها تغرب في الرمال إذا كان في صحراء مكشوفة على مد البصر, والظاهر من النص أن ذا القرنين غَرَّبَ حتى وصل إلى نقطة على شاطئ المحيط الأطلسي، وكان يسمى بحر الظلمات ويظن أن اليابسة تنتهي عنده، فرأى الشمس تغرب فيه" [في ظلال القرآن لسيد قطب المتوفى (سنة 1386 هـ) , طبعة دار الشروق] .
(3) شقوق أعماق المحيطات تدفع بصهارة حارة تسود بالتبرد:(1/378)
قال الألوسي: "وجدها أي الشمس (تغرب في عين حمئة) أي ذات حمأة وهي الطين الأسود.. وقرأ عبد الله وطلحة بن عبيد الله وعمرو بن العاص وابنه عبد الله وابن عمر ومعاوية والحسن وزيد بن علي وابن عامر وحمزة والكسائي (حامية) .. أي حارة" [روح المعاني للألوسي (ج16ص31) ] .
وقال الصنعاني: "عن الحسن في قوله تعالى (حمئة) قال حارة" [تفسير عبد الرزاق بن همام الصنعاني المتوفى (سنة 211 هـ) , مكتبة الرشد الرياض (1410) , (ج2ص410) ] .
وقال ابن عاشور: " (حامية) .. أي حارة، من الحمو وهو الحرارة" [التحرير والتنوير لمحمد الطاهر بن عاشور المتوفى (سنة 1393) هـ, الدار التونسية (1984م) , صفحة: (2573) ] .
وقال الطبري: "والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان.. ولكل واحدة منهما وجه صحيح" [تفسير محمد بن جرير الطبري المتوفى (سنة 310 هـ) , دار الفكر بيروت (1405) , (ج16ص11) ] .
وقال الرازي: "فجائز أن تكون العين جامعة للوصفين جميعا" [التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب للرازي (ج21ص142) ] .
وبمثلهما قال النحاس [معاني القرآن لأبي جعفر أحمد بن إسماعيل النحاس المتوفى (سنة 338 هـ) , جامعة أم القرى مكة المكرمة (1409) , (ج4ص288) ] .
(4) الشقوق الملتهبة في قيعان المحيطات هي أبرز معالمها:
قال الشنقيطي: "قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: أي رأى الشمس تغرب في البحر المحيط.. ومقتضى كلامه أن المراد بالعين في الآية البحر المحيط.. والعين تطلق في اللغة على ينبوع الماء.. فاسم العين يصدق على البحر لغة.. وكون من على شاطئ المحيط الغربي يرى الشمس في نظر عينه تسقط في البحر أمر معروف، وعلى هذا التفسير فلا إشكال في الآية، والعلم عند الله تعالى" [أضواء البيان لمحمد الأمين بن محمد بن المختار الجكني الشنقيطي المتوفى (سنة 1393) , دار الفكر بيروت (1415 هـ) , (ج3ص341) ] .(1/379)
وقال القرطبي: "قال القتبي: ويجوز أن تكون هذه العين من البحر" [الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (ج11ص49) ] .
وبمثله قال أبو حيان والنحاس, ومقتضى كلامهم أن تلك العيون من لوازم المحيطات وأنها متصلة، وفي كل محيط عين حامية حمئة مما يتفق مع وجود فوهات تدفع بحمم الصخور النارية الداكنة خاصة في المحيط الغربي أو الأطلسي, وعلى هذا الوجه يكون في التعبير إيجاز حذف اكتفاء بشهرة معلوم، وهو مشهد غروب الشمس بالمحيط، وعبر عن المحيط بلازمه الذي لم تشاهده عين وهو شقوق قاعه, ولا يأبى السياق التقدير (وجدها تغرب في مرأى العين في محيط ذي عين حمئة) ؛ أي يطفح قاعه بمواد صخرية نارية سوداء من عيون متصلة بطول المحيط, واحتمل الألوسي كلا الوجهين بقوله: "المراد بالعين الحمئة إما عين في البحر أو البحر نفسه، وتسميته عينا مما لا بأس به" [روح المعاني للألوسي (ج16ص32) ] .
والمعنى أن البحر المحيط نفسه أو شق في قاعه يدفع على الدوام بمواد ملتهبة قاتمة وهو ما يتفق مع الواقع بالفعل, وخص القرآن للمحيط الغربي أو الأطلسي بالبيان يتفق مع كونه المحيط المتميز بالصدع الأصلي والأعظم عندما كانت القارات كلها متصلة في قارة واحدة, وعلى هذا الوجه يتضمن النص الكريم إخباراً بغيب لا يعلمه بشر زمن الوحي يصف خفايا أعمق مما شاهده ذا القرنين، وما يشاهده جميع الناس على سواحل المحيطات عند الغروب, والله تعالى أعلم.(1/380)
السنة النبوية وعلومها(1/381)
وافدة النساء
المجيب عمر بن عبد الله المقبل
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 24/7/1422
السؤال
ما رتبة الحديث الذي رواه البيهقي في شعب الإيمان " أن أسماء بنت يزيد الأشهلية الأنصارية أتت النبي فقالت: إني وافدة النساء إليك ... إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: انصرفي.. من خلفك من النساء.... تهلل وتكبر استبشاراً "، أفتونا مأجورين.
الجواب
أيها الأخ السائل: أشكر لك حرصك على معرفة صحة الحديث من ضعفه، في الوقت الذي يتهاون فيه كثير من الناس بهذه القضية مع أهميتها، فزادك الله هدى وتوفيقاً.
أما ما سألت عنه - وفقك الله - من الحديث، فقد رواه البيهقي في " شعب الإيمان " (15/248) رقم الحديث8369 عن وافدة الأنصار، فهو مروي من حديث أسماء بنت يزيد الأنصارية رضي الله عنها، ومن حديث ابن عباس رضي الله عنه.
فأما حديث أسماء، ففي سنده عبد الله بن سعيد الساحلي، وقد بحثت عنه كثيراً فلم أجد له ترجمة تبيّن حاله، وعليه فهو في عداد المجاهيل؛ إذ لو كان معروفا بالرواية لم تغفله كتب التراجم على كثرتها.
وأما حديث ابن عباس -رضي الله عنه- فضعيف الإسناد جداً؛ لأنه من رواية رشدين بن كريب. قال عنه الإمامان أحمد والبخاري: منكر الحديث، والله أعلم.(1/382)
حديث ... هل أنشره في الإنترنت؟!
المجيب د. عبد الوهاب بن ناصر الطريري
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 24/7/1422
السؤال
ما صحة هذا الحديث؟ وهل تنصحوني بنشره إذا كان صحيحاً في المنتديات؟
قال - صلى الله عليه وسلم -: " من قال حين يصبح لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شئ قدير " عشر مرات كتب الله بكل واحدة قالها عشر حسنات، وحط الله عنه عشر سيئات، ورفعه الله بها عشر درجات، وكن له كعشر رقاب، وكن له مسلحة من أول النهار إلى آخره ولم يعمل يومئذ يقهرهن"، وحين يمسي له مثل ذلك.
الجواب
السلام عليك ورحمته وبركاته، وبعد، فبين يدي جواب سؤالك، فإني أحمد لك أمرين دلت عليهما مسألتك:
أولهما: حرصك على نشر الخير، ودلالة إخوانك المسلمين عليه، من خلال نشر هذا الحديث في المنتديات التي طفحت بفضول القول ومكرور الكلام.
وثانيهما: تثبتك في عملك، وسؤالك عن صحة الخبر قبل نشره، وخيراً صنعت إذ سألت، وقد أحسن من انتهى إلى ما علم.
زادك الله بصيرة وهدى، وجعلك من مفاتيح الخير ودعاة الحق، ثم إني أختصر لك الجواب اختصاراً في نقاط:
الأولى: هذا الحديث بهذا اللفظ أخرجه أحمد في (المسند 23568) من حديث أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من قال حين يصبح لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير (عشر مرات) كتب الله له بكل واحدة قالها عشر حسنات، وحط عنه بها عشر سيئات، ورفعه الله بها عشر درجات، وكن له كعشر رقاب، وكنّ له مسلحة من أول النهار إلى آخره، ولم يعمل يومئذ عملاً يقهرهنّ، فإن قال حين يمسي فمثل ذلك " وهو حديث صحيح.
وهو عند البخاري (6404) مختصراً، بمعناه، وفيه " كان كمن أعتق رقبة من ولد إسماعيل "، وعند مسلم (2693) بمعناه مختصراً، وقال:" كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل ".
ثانياً: جاء معنى الحديث عن جمع من الصحابة منهم: أبو هريرة، ومعاذ بن جبل، وأبو أمامة، وعبد الرحمن بن غنم، وأبو عياش، وغيرهم.
وانظرها في (الترغيب والترهيب) ، باب (الترغيب في أذكار يقولها بعد صلاة الصبح) و (سلسلة الأحاديث الصحيحة) رقم (2563) .
ثالثاً: اختلفت الروايات في عدد الرقاب التي تعدل هذا الذكر، قال الحافظ في (الفتح) : " واختلاف هذه الروايات مع اتحاد المخرج يقتضي الترجيح بينها، فالأكثر على ذكر أربعة ".
رابعاً: ظاهر إطلاق الحديث أن الأجر يحصل لمن قال هذا التهليل في اليوم متوالياً أو متفرقاً في مجلس، أو مجالس في أول النهار أو آخره، لكن الأفضل أن يأتي به أول النهار متوالياً، ليكون له حرزاً جميع نهاره، وكذا في أول الليل ليكون له حرزاً في جميع ليله.
خامساً: ترتب هذا الثواب العظيم على هذا الذكر دليل على شرفه، وفضله، وعظيم ما احتواه من المعاني، ففيه توحيد الله - جل جلاله - بقوله: (لا إله إلا الله) ، وتأكيد هذا التوحيد بقوله: (لا شريك له) ، وتمجيده - جل وعلا - بقوله: (له الملك) ، وحمده -سبحانه وتعالى - بقوله: (له الحمد) ، والثناء عليه وتعظيمه - سبحانه - بقوله: (وهو على كل شيء قدير) .
فمن قال هذا الذكر فقد وحد ربه، ومجّده، وحمده، وعظّمه، وأثنى عليه، وهو - سبحانه - أهل الثناء والمجد، جل ربنا وتعالى وتقدس.
سادساً: ما ذكر في هذا الحديث من ثواب هذا الذكر ليس حصراً للثواب، وإنما ذكر لبعضه، وللذكر فوائد وثمرات طيبة مباركة من أجلّها: ذكر المولى - جل وتقدس - لعباده الذين يذكرونه: "فاذكروني أذكركم " فهل ثمة شرف لهذا المخلوق الضعيف أعظم من أن يذكره مالك الملك في الملأ الأعلى؟ كما في الحديث القدسي " وإن ذكرني في ملإٍ ذكرته في ملأ خير منهم ". أخرجه البخاري (7405) .
وارجع - زادك الله توفيقاً وهدى - إلى مقدمة (الوابل الصيّب) للإمام الرباني ابن القيم، فإنه سيوقفك على فوائد مجتناة في فضل الذكر يفصلها لك بِنَفَس العالم المتألّه الذي عرف فوصف، وذاق طعم المناجاة والذكر، فأخبر عنها خبر العارفين.
سابعاً: في هذا الحديث مشهد من مشاهد كرم الله وجوده، وسعة فضله، حيث يعطي هذا العطاء الغامر ثواباً لعمل يسير لا يأخذ من جهدك ووقتك إلا أقل القليل، ولكنه عطاء الكريم الغني، كما أن فيه دلالة على باب من أبواب الخير، وطريق من طرق كسب الثواب، وكان من فضل الله - جل جلاله - أن نوّع طرق الخير ويسرها، حتى يجد كل ما يناسبه ويقدر عليه، وقد بوب النووي ـ رحمه الله ـ في كتابه الماتع (رياض الصالحين) باب في كثرة طرق الخير، وألف الحافظ الدمياطي كتابه الحفيل (المتجر الرابح في ثواب العمل الصالح) فجمع فيه فأوعى من الأحاديث الدالة على أنواع من أعمال الخير مثاب عليها بعظائم الأجور، وهو لك مفيد إذا رجعت إليه مع التثبت من صحة الأحاديث المذكورة فيه.
جعلنا الله وإياك من المسارعين إلى الخيرات، ورزقنا إخلاص القصد، وصدق القول، وصلاح العمل، والله أعلم.(1/383)
هذا حديث موضوع
المجيب د. الشريف حاتم بن عارف العوني
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 3/8/1422
السؤال
وجدت الحديث التالي وأريد أن أعرف معناه ومدى صحته من إحدى المنتديات عن أبي هريرة رفعه قال: ((كلم الله هذا البحر الغربي، وكلم البحر الشرقي، فقال للغربي: إني حامل فيك عباداً من عبادي، فكيف أنت صانع بهم؟)) قال أغرقهم قال: بأسك في نواحيك، وحرمه الحلية والصيد
وكلم هذا البحر الشرقي، فقال: إني حامل فيك عباداً من عبادي، فما أنت صانع بهم؟ ((قال: أحملهم على يدي، وأكون لهم كالوالدة لولدها، فأثابه الحلية والصيد. ثم قال لا تعلم أحداً)) جزاكم الله خيراً.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:
أولاً: الحديث موضوع مكذوبٌ على النبي -صلى الله عليه وسلم-، لا تجوز نسبته إليه -صلى الله عليه وسلم- بحالٍ من الأحوال.
وبيان ذلك أن الحديث باللفظ الذي ذكره السائل أخرجه البزار في مسنده (كما في كشف الأستار عن زوائد البزّار: 2/265 - 266 رقم 1669) ، من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعاً إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم قال البزّار عقبه: "تفرّد به عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة: عبدُ الرحمن، وهو منكر الحديث وقد رواه سهيل، عن النعمان بن أبي عياش، عن عبد الله بن عمرو موقوفاً)) .
فهنا قد بيَّنَ البزار سببَ ردِّ الحديث:
فهو من جهة: يرويه رجلٌ متهم بالكذب هو عبد الرحمن بن عبد الله العمري حتى قال الإمام أحمد (كما في العلل ومعرفة الرجال: رقم 4364) : "أحاديثه مناكير، كان كذّاباً"، وكفى بمن كذّبه الإمام أحمد - على ورعه وإنصافه - سوءاً.
ولذلك أنكر هذا الحديث عليه عامّة أهل العلم: كالعقيلي في الضعفاء (2/748) ، وابن حبّان في المجروحين (2/53-54) ، وابن عدي في الكامل في معرفة ضعفاء المحدّثين (4/277) ، وابن الجوزي في العلل المتناهية (رقم 33) . بل إن ابن عدي لما أورده، قال بعد إيراده: "هو أفظعُ حديثٍ أُنكر عليه".
ثم هو من جهةٍ أخرى إنما يُروى من حديث عبد الله بن عَمرو بن العاص عن كعب الأحبار، أو من حديث عبد الله بن عَمرو من كلامه لا يرفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-. (كما تراه في المصادر الأتيه: السنن لسعيد بن منصور (رقم 2389) ، وتاريخ بغداد للخطيب (10/233-235) ، والعلل المتناهية لابن الجوزي (رقم 35، 36) .
وهذا يعني أن الحديث من الإسرائيليات، إمّا أن عبد الله بن عَمرو بن العاص أخذه عن كعب الأحبار، وهو من علماء اليهود الذين أسلموا وحَسُنَ إسلامهم، فكانت تُنقل عنه بعضُ أخبار كُتُب أهل الكتاب. وإما أن عبد الله بن عَمرو أخذ هذا الخبر عن كتب بني إسرائيل مباشرة، وإلى ذلك مال ابن كثير في كتابه (البداية والنهاية1/52) وبهذا نعلم أن هذا الحديث إنما هو من الإسرائيليات، وهي الأخبار عن التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب اليهود والنصارى. والمسلمون يؤمنون بأن الله - عز وجل - أنزل التوراة على موسى عليه السلام والإنجيل على عيسى عليه السلام وأنزل كُتباً أخرى على أنبيائه عليهم السلام، بل هذا أحد أركان الإيمان عند المسلمين، كما قال تعالى: "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كلٌ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحدٍ من رسله"، وقال -صلى الله عليه وسلم- لما سأله جبريل عليه السلام عن الإيمان: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشرِّه" أخرجه مسلم (8) من حديث عمر، لكن كما يؤمن المسلمون بذلك، ولا يصح إيمانهم إلا به، فإنهم يؤمنون كذلك أن هذه الكتب قد حُرّفت وبُدِّلت، وأعظم ما حُرِّف فيها عقيدة التوحيد، كما قال تعالى: "وقد كان فريقٌ منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون" وقال سبحانه: "فويلٌ للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويلٌ لهم مما كتبت أيديهم وويلٌ لهم مما يكسبون" وقال عز وجل: " من الذين هادوا يُحرّفون الكلم عن مواضعه"
ومع ذلك كُلِّه فلأن هذا الدين دين الله عز وجل، فقد جعل الله تعالى العَدْل واحداً من أعظم خصائصه "وتمّت كلمةُ ربِّك صدقاً وعدلاً لا مُبدّل لكلماته وهو السميع العليم " وقياماً بفريضة العدل والإنصاف وبناءً على الأدلة التي جاءت في موضوع الإسرائيليات، وبملاحظة واقع هذه الإسرائيليات فقد قسم العلماء الإسرائيليات إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما نؤمن بمضمونه ونصدّق به، وهو ما وافق القرآن والسنة ونحن في هذا القسم مُستغنون بما لدينا عمّا لديهم.
الثاني: ما نكذُبه ونقطع بتحريفه، وهو ما خالف الكتاب والسنة.
الثالث: ما قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- "لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم" أخرجه البخاري (4485) ، وهو مالم نجد في الكتاب والسنة دليلاً على صدقه أو على كذبه، وهذا القسم هو الذي قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-:" حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج"أخرجه أبو داود (3662) من حديث أبي هريرة. وغالب الإسرائيليات الثابتة عن السلف، أو المذكورة في كتب أئمة السنة (كتفسير الطبري وابن كثير) هي من القسم الأول والثالث. أمّا القسم الثاني فلا يذكرونها غالباً إلا مع بيان بطلانها، ومخالفتها للحق الوارد في الكتاب والسنة والحديث الذي يسأل عنه السائل هو من القسم الثالث، ولذلك حدّث به عبد الله بن عمرو (رضى الله عنه) فليس لدينا دليلٌ بصدقه، ولا دليل بكذبه وهو إن كان قد رُفع الحرج عن التحديث به، إلا أن الانشغال بغيره مما قد يقع الحرج بسبب الجهل به أَوْلَى وأحقّ، كفرائض الإسلام وسننه والله ينفعنا وإياكم بالعلم النافع، وييسر لنا جميعاً العمل المتقبَّل الصالح. والله أعلم.(1/384)
معنى حديث " إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل "
المجيب د. الشريف حاتم بن عارف العوني
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 3/8/1422
السؤال
هل مقولة: " إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل " هو حديث صحيح، أو قاعدة فقهية تتبع، أم ماذا؟ وما معناها؟.
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد فالمقولة المذكورة حديثٌ صحيح: باللفظ المذكور في (صحيح ابن حبّان رقم 1183) ، وفي (صحيح مسلم رقم 349) بلفظ: "إذا جلس بين شعبها الأربع، ومسَّ الختانُ الختانَ، فقد وجب الغُسل". وأصل الحديث متفق عليه بمعناه. (صحيح البخاري رقم 291) .
والمعنى: أن وُجُوبَ الغُسْل من الجنابة لا يُشترط فيه إنزالُ ماء الرجل أو المرأة، وإنما يجب الغُسْل بمجرّد الإيلاج، ويكفي في الإيلاج الموجب للغُسْل إدخال حشفة ذكر الرجل في فَرْج المرأة.
فالمقصود بالختانين: ختان الرجل وختان المرأة، أي موضع الختان من كل واحدٍ منهما، والله أعلم، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.(1/385)
أحاديث الأذان والإقامة في أذن المولود
المجيب عمر بن عبد الله المقبل
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 1/6/1422
السؤال
ما صحة أحاديث الأذان والإقامة في أذن المولود؟
الجواب
قد ورد في هذا الباب أحاديث بعضها موضوع، وبعضها ضعيف، وأجود ما ورد في الباب -حسب علمي- حديث أبي رافع -رضي الله عنه- قال: ((رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم أذّن في أذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة بالصلاة)) أخرجه أحمد 6/9، وأبو داود (5105) ، والترمذي (1514) وقال: حسن صحيح. ورواه غيرهم. ولكنه ضعيف الإسناد؛ لأن مداره على عاصم بن عبيد الله، وهو ضعيف الحديث.
وقد أورد العلامة ابن القيم في الباب الرابع من كتابه (تحفة المودود بأحكام المولود) ثلاثة أحاديث في هذا الموضوع، أحسنها حديث أبي رافع على ضعفه، ثم ذكر الحكمة من استحباب بعض أهل العلم التأذين في أذنه أوّل ما يولد.
والذي يظهر أنه إذا لم تثبت بذلك الأحاديث المرفوعة، ولا الآثار الموقوفة فلا ينبغي فعله، ومن استحبه من أهل العلم فالظاهر أنه لم يقف على ضعف الأحاديث الواردة في الباب، والله أعلم.(1/386)
ارتداد أم جحود
المجيب د. سعد بن عبد الله الحميد
أستاذ الدراسات العليا بجامعة الملك سعود
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 7/4/1422
السؤال
ما صحة حديث إرتداد بعض الصحابة عقب حادثة الإسراء والمعراج بعد إخبار النبي صلى الله عليه وسلم لهم بها؟
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فإنه لا يصح أن أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ارتدّ بعد حادثة الإسراء، ولم يرد ذلك صراحة إلا في حديث منكر أخرجه الحاكم (3/62و63) وغيره من طريق محمد بن كثير الصنعاني، عن معمر بن راشد، عن ابن شهاب الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: لمّا أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى، أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتدّ ناس ممن كانوا آمنوا به وصدّقوه … الحديث قال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه؛ فإن محمد بن كثير صدوق) ، والحاكم كما هو معلوم انتُقد كثيراً على أحكامه على الأحاديث في "المستدرك"، ويظهر انتقاده هنا بوضوح. فإن محمد بن كثير هذا لم يخرج له أحد الشيخين شيئاً، ومع هذا فهو مضَعف من قبل حفظه، ويشتد ضعفه إذا روى عن معمر، وهذا من روايته عنه. قال عبد الله بن الإمام أحمد: ذكر أبي محمد بن كثير فضعّفه جداً، وضعّف حديثه عن معمر جداً، وقال: هو منكر الحديث، وقال: يروي أشياء منكره. أ. هـ من "تهذيب الكمال" (26/331) . والصواب في هذا الحديث: رواية ابن جرير له في تفسيره (17/335) عن ابن شهاب الزهري، عن ابن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن مرسلاً، والمرسل من أنواع الضعيف، ومع ذلك فذكر الارتداد لم يرد من قولهما، وإنما ذكره عبد الله بن وهب من قوله، وابن وهب هو الرواي للحديث عن يونس بن يزيد، عن الزهري.
فإن قيل: ورد خبر الارتداد أيضاً في حديث ابن عباس عند الإمام أحمد (1/374 رقم 3546) ، والنسائي في "الكبرى" (11383) ، وغيرهما، وصححه ابن جرير الطبري في "تهذيب الآثار" (17) ، وابن كثير في "التفسير" (5/26) .
فالجواب: أن هذا الحديث ليس فيه دلالة على أنهم كانوا مؤمنين، ولفظه عند هؤلاء: "فقال ناس: نحن لا نصدق محمداً بما يقول، فارتدّوا كفاراً، فضرب الله أعناقهم مع أبي جهل. . " الحديث.
فقوله: "فارتدوا كفاراً" لا يدل على أنهم كانوا مؤمنين، وإنما يدل على أنهم بعد أن رأوا هذه الآية العجيبة؛ وهي أنهم تحدّوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يثبت صدقه في أنه أسري به إلى بيت المقدس، ثم رجع في ليلة، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يصف لهم بيت المقدس وصفاً دقيقاً، وهم يعلمون أنه لم يره، وأخبرهم بعيرهم التي في الطريق، وهذه آية عظيمة تستوجب من كفار مكة الإيمان بصدق نبوته r، ولكنهم مع هذا كله قالوا: نحن لا نصدق محمداً بما يقول، فبدلاً من الإيمان ارتدّوا إلى كفرهم، وباقي الروايات التي ذكرت في هذه الحادثة من غير هذا الطريق تدل على ما ذكرته، فليس فيها ذكر الارتداد، فضلاً عن التصريح بردة بعض من كان آمن، على أن سند الحديث يحتاج إلى تأمل، يشعر به قول ابن جرير الطبري في الموضع السابق من "تهذيب الآثار": "وهذا خبر عندنا صحيح سنده، وقد يجب أن يكون على مذهب الآخرين سقيماً غير صحيح؛ لعلل: إحداها: أنه خبر لا يعرف له مخرج يصح عن ابن عباس - على ما روي عن هلال بن خباب، عن عكرمة، عنه - إلا من هذا الوجه، وإن كان قد روى بعض ذلك عن عكرمة، من غير حديث هلال بن خباب. .)) الخ ما قال، والمهم منه ذكر العلة الأولى هذه فالحديث يرويه هلال بن خبّاب، عن عكرمة، عن ابن عباس. وأحاديث الإسراء وردت عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم استوعب ذكرهم الحافظ ابن كثير في أول سورة الإسراء، ومنهم ابن عباس رضي الله عنهما، ولم يرد في حديث أي منهم ذكر الردّة إلا في طريق عائشة الذي تقدم الكلام عنه، أو في هذه الرواية. وقد روي الحديث عن ابن عباس من خمس طرق - على ما ذكر ابن كثير -، وبعضها في الصحيح، وليس في شيء منه هذه الطرق ذكر الردّة، إلا في رواية عكرمة. ولم نجد هذه الرواية مروية عن عكرمة إلا من طريق هلال بن خبّاب، وتلاميذ عكرمة الذين رووا عنه السنّة كثر، ولم يرو أحد منهم هذا الذي رواه هلال بن خبّاب، وهم أكثر ملازمة لعكرمة من هلال، وأحاديثهم مخرّجة في الصحيح عنه، وأما هلال بن خبّاب فأعرض صاحبا الصحيح عن إخراج حديثه بالمرة، لأنه تغيّر قبل موته بسبب كبر سنّه، ومثله لا يحتمل منه التفرُّد بهذه الرواية، وفيها ما تقدم ذكره مما ينكر عليه من لفظها.
فهذا ما يتعلق بالرواية من حيث السند، أمن نقدها من حيث المتن فهي منكرة للأسباب التالية: -
(1) حديث أبي سفيان مع هرقل، وفيه سؤال هرقل لأبي سفيان - وكان حين ذلك مشركا - هل يرتد أحدٌ منهم - يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - سخطة لدينه بعد أن يدخلة قال أبو سفيان: لا، فلو كانت حادثة الارتداد عن الإيمان صحيحة لما أقرّ أبو سفيان بذلك، بل كان يقول له: نعم هناك من ارتدّ عن الإيمان به لما حصل كذا وكذا.
(2) في متن هذا الحديث من هذا الطريق ألفاظ أخرى منكرة تدل على عدم ثبوته؛ كقوله: "ورأى الدجال في صورته رؤيا عين، ليس رؤيا منام. . "، وذكر صفته، فلو كان صلى الله عليه وسلم رآه في تلك الليلة؛ لما التبس الأمر عليه بابن صيّاد بعد أن هاجر إلى المدينة، بل كان يعرفه بعد أن رآه رأي العين، وبالأخص ما ذكر في الحديث من علاماته التي لا تخفي، ومنها قوله: "رأيته فيلمانيَّاً أقمر هِجَاناً إحدى عينيه قائمة كأنها كوكب دُرِّيّ، كأن شعر رأسه أغصان شجرة"، وبعض هذه الأوصاف من أنها لم تكن في ابن صياد، كذكر العين؛ فإن عينه كانت في زمن النبي rسليمة، وإنما نَفَرت بعد ذلك كما يدلّ عليه حديث ابن عمر عند مسلم في "صحيحه" (2932) .
(3) إن الصحابة كانوا وقت حادثة الإسراء قلة قليلة معروفون بأسمائهم وأسماء آبائهم وحفظت لنا كل الحوادث التي مرت بهم في تلك الفترة، فنقل إلينا خبر إسلامهم وتعذيبهم وهجرتهم الأولى والثانية إلى الحبشة ومن مات منهم ومن ولد له كل ذلك باسم كلٍ منهم، فلا يعقل أن يحدث لأحد منهم هذا الحدث وهو الردة عن الإسلام، ثم لا ينقل لنا اسم أحد من هؤلاء المرتدين، فلم يسمي لنا من طريق صحيح أو ضعيف، أسم شخص على أنه ممن ارتد بعد حادثة الإسراء. ومعلوم أنه لا يمكن أن تنقل لنا أحدثٌ أقل من هذا شأناً ويترك ذكر ذلك.
(4) أن كل مؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم يؤمن بأن جبرائيل ينزل من السماء على قلب محمد صلى الله عليه وسلم في لحظة، فكيف يستبعد أن يُسرى بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس في ليلة. ولذلك نقل هذا المعنى عن أبي بكر -رضى الله عنه- في محاجته للمشركين، وأنه قال لهم أنا أصدقه فيما هو أعظم من ذلك بخبر السماء يأتيه في لحظة. فعُلِمَ من ذلك كله عدم صحة هذه الحادثة، ولشهرتها أطلنا القول فيها تصحيحاً لأحداث السيرة وبياناً للحق والله أعلم.(1/387)
ما صحة هذا الحديث. .
المجيب عمر بن عبد الله المقبل
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 22/7/1422
السؤال
من قرأ القرآن وعمل بما فيه، ألبس والداه تاجا يوم القيامة، ضوءه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا لو كانت فيكم، فما ظنكم بالذي عمل بهذا؟ "
الجواب
أخرجه أبو داود ح (1453) ، وأحمد 3/ 440 وغيرهما وهو ضعيف الإسناد جداً، لأن فيه زبان بن فائد، وهو ضعيف الحديث وفي روايته عن سهل بن معاذ ـ وهو شيخه في هذا الحديث ـ ضعف شديد، كما نبه على ذلك ابن حبان في " المجروحين " 1/ 313.
وقد ورد معنى هذا الحديث أيضاً عند الطبراني في " الأوسط " من حديث أبي هريرة ح (5764) وهو أيضاً لا يصح، لأن مداره على شريك وهو سئ الحفظ، وقد تفرد به، كما نص على ذلك الطبراني رحمه الله تعالى.(1/388)
خبر عائشة في قتل عثمان
المجيب د. محمد بن تركي التركي
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 25/8/1424هـ
السؤال
هل الأحاديث الواردة صحيحة: فتوى عائشة بقتل عثمان "اقتلوا نعثلاً فقد كفر"، ونعثل اسم لشخص يهودي، "اقتلوا نعثلاً فقد كفر" أي عثمان، راجع، تاريخ الطبري (4/459) ، الكامل في التاريخ لابن الأثير الجزري (3/209) ، تذكرة الخواص للسبط ابن الجوزي صـ 61-64، الإمامة والسياسة لابن قتيبة (1/49) ، وفيه "فجر" بل كفر. السيرة الحلبية لعلي برهان الدين (3/286) ، تاريخ بن أعشم صـ 155، النهاية لابن الجوزي (5/80) ، تاج العروس من شرح القاموس للزبيدي (8/141) ، لسان العرب (14/193) .
الجواب
الخبر الذي أشار إليه السائل لا يثبت عن عائشة - رضي الله عنها-.
وقد أخرجه الطبري في تاريخه 4/459 من طريق سيف بن عمر الضبي، وهو متفق على تضعيفه وقد تفرد به، وعليه فلا يثبت عن عائشة - رضي الله عنها- كيف وهي التي روت بعض الأحاديث في فضل عثمان بن عفان - رضي الله عنه- وخرجت في وقعة الجمل للمطالبة بدمه - رضي الله عنهم أجمعين_. والله أعلم.(1/389)
صحة قصة عمر مع أم كلثوم بنت علي
المجيب عمر بن عبد الله المقبل
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 18/04/1427هـ
السؤال
قرأت أن عليا -رضي الله عنه- أرسل ابنته أم كلثوم إلى عمر -رضي الله عنه- بغرض الزواج بها. وفي رواية ذُكر أن عمر كشف ثوبها ونظر إلى ساقيها!!
أرجو بيان صحة هذه الرواية مع المرجع؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فالأثر المروي أن عمر -رضي الله عنه- كشف ساق أم كلثوم بنت علي -رضي الله عنهم- لم يصح، بل هو منقطع، فإن الأثر قد رواه عبد الرزاق في مصنفه (6/163) وسعيد بن منصور (1/147) ، كلاهما من طريق محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، قال: خطب عمر ... الحديث.
وسبب انقطاعه أن محمد بن علي لم يدرك عمر ولا عليا -رضي الله عنهما.
وروي من طريق أخرى منقطعة، وهي طريق الأعمش، أن عمر -رضي الله عنه- خطب ... الحديث.
رواه عبد الرزاق -أيضاً- (6/163) ، والأعمش لم يسمع أحداً من صغار الصحابة، فكيف بعمر -رضي الله عنه-؟!.
تنبيه: وقع في التلخيص الحبير (3/147) أن راوي الأثر هو محمد بن علي بن الحنفية، والذي رأيته في المصدرين السابقين هو أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وليس محمد بن الحنفية، فإن ابن الحنفية مشهور بكنيتين: أبي القاسم، وأبي عبد الله، ولا يعرف أنه يكنى بأبي جعفر، ينظر: تهذيب الكمال (26/148) .
ولما كان الشوكاني ينقل كثيراً من "التلخيص" في كتابه "نيل الأوطار"، فقد وقع في الوهم نفسه الذي وقع للحافظ، والله أعلم.(1/390)
صحة حديث" واضربوهم عليها لعشر"
المجيب د. تركي بن فهد الغميز
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 03/05/1427هـ
السؤال
في بلدي كثر ممن ينكر أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم! هؤلاء الجهال ينكرون حديث "مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر". يقولون: الرسول أرسل رحمة، والقلم مرفوع عن الأطفال، فكيف يأمر بضربهم؟ سؤالي: أولاً ما صحة هذا الحديث؟ ثانياً: هل ضرب الرسول عليه الصلاة والسلام الأطفال في حياته الطاهرة؟ وإذا ضرب، لماذا وكيف؟ ثالثا: كيف نجيب هؤلاء؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فالحديث المذكور هو من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا إسناد حسن عند أكثر أهل العلم على اختلاف بينهم في ذلك، لكن بشرط ثبوت الإسناد عن عمرو بن شعيب، وهنا قد رواه عنه راو فيه كلام وتابعه آخر ضعيف، وقد قواه بعض أهل العلم خصوصاً أن له ما يشهد له. ومع ذلك هو لا يخلو من ضعف [ (المسند) (6689) ] .
المهم في هذا أن من تكلم في هذا الحديث من جهة إسناده فله وجه، أما من رده لموجب رأي رآه هو دون أن يعتبر صحته وعدمها، فليس هذا بصحيح. فإن ضرب التأديب سواء للأطفال أو لغيرهم كالنساء، إنما يجوز بالقدر الذي يحصل به المقصود، ثم هو ضرب خفيف غير مبرح يراد به التأديب وليس التعذيب.
ولا أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب أحداً لا طفلاً ولا امرأة فإنه كان رحيماً رفيقاً. ولكن هذا لا يمنع من الضرب عند الحاجة فعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كانت له درة يحملها، والله قد أذن بضرب المرأة إذا خيف نشوزها. ضرباً غير مبرِّح.
وهؤلاء المخالفون هنا يبين لهم، فإن كان خلافهم نشأ عن جهل فتوضح لهم السنة، وإن كان عن اتباع هوى، فيوعظون، ويذكرون، وتقام عليهم الحجة، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.(1/391)
حديث: "من مات ولم يعرف إمامه"
المجيب عبد الرحمن بن ناصر البراك
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 08/05/1425هـ
السؤال
يقول الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم-: "من مات ولم يعرف إمامه مات ميتة الجاهلية"، أنا بصراحة لا أعرف من هو إمامي؟ هل إذا مت أعتبر من الجاهلين؟ وما السبيل لأعرف إمامي؟
الجواب
الحمد لله، هذا الحديث لا أصل له عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فهو حديث موضوع مكذوب، وهو من وضع الرافضة؛ لأن الرافضة يرون أن معرفة الإنسان لإمامه أو معرفة المكلف للإمام كمعرفته للرسول - صلى الله عليه وسلم-، فكما يجب على كل إنسان معرفة الرسول - صلى الله عليه وسلم- والإقرار برسالته، فكذلك عند الرافضة يجب على كل مكلف أن يعرف الإمام والأئمة عندهم اثنا عشر أولهم: علي - رضي الله عنه-، وآخرهم الإمام محمد بن الحسن العسكري، الذي يزعمون أنه دخل سرداب سامراء، وهو ابن خمس أو ست سنين، وأنه سيخرج في آخر الزمان، وهم ينتظرونه، وهذا من حماقات الرافضة، ويسمونه الإمام المنتظر، وإمام الزمان، والإمام المعصوم، وهو في الحقيقة الإمام المعدوم المزعوم، والرافضة تزعم العصمة للأئمة الاثني عشر، وبهذا يرفعونهم إلى منزلة الأنبياء، بل ربما فضلهم بعضهم على الأنبياء، فلا تغتر أيها السائل بهذا الحديث وأمثاله من الموضوعات، وإذا سمعت بحديث فعليك أن تسأل أهل العلم عن ثبوته عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنه قد وضع الكذابون على الرسول - صلى الله عليه وسلم- أحاديث كثيرة ضل بها كثير من الناس، والذي دلت عليه السنة الصحيحة أن الإنسان يسأل في قبره عن ربه ودينه، ونبيه، ولا يسأل عن إمامه، وإمام كل مسلم هو الرسول - صلى الله عليه وسلم-، وأنت بحمد الله تعرفه، فعليك أن تحقق إيمانك به بتحقيق متابعته وطاعته، ومحبته - صلى الله عليه وسلم-، فإنه صلى الله عليه وسلم- سيد المرسلين وإمام المتقين، جعلنا الله منهم بمنه وكرمه. والله أعلم.(1/392)
انحسار الفرات عن جبل من ذهب
المجيب د. الشريف حاتم بن عارف العوني
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 18/3/1424هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هل تعد المعركة القائمة الآن -في العراق الجريح- مصداقاً لما في حديث الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - فيما معناه (سيتقاتل على جبل من ذهب إلى تسعة وتسعين) ... إلى آخر الحديث؟ خصوصاً أن الدول المحاربة الآن كثيرة، وكذلك الدول الأخرى التي أرسلت القوات، أو التي أيدت أمريكا وبريطانيا هل هي بداية لذلك؟ وجزاكم الله خيراً وأحسن إليكم ورفع منزلتكم في الدنيا والآخرة، والسلام عليكم.
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
أقول وبالله التوفيق:
صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب يقتتل الناس عليه، فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون، ويقول كل رجل منهم لعلي أكون أنا الذي أنجو" أخرجه البخاري (2894) ومسلم (2895) ، واللفظ له.
فهذا الحديث واضح منه أن هذا الذي يقتتل عليه هو معدن صلب يكون كالجبل، بل قد سماه النبي صلى الله عليه وسلم ذهباً، فهو الذهب المعروف، ولا يصح حمله على النفط.
أما متى سيقع ذلك؟ فالله أعلم؛ إلا أننا نجزم أنه سيقع كما أخبر الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- في مستقبل الزمان، الذي قد يكون قريباً وقد يكون بعيداً.
وهنا أحذر من التعجل وعدم التثبت في تنزيل أحاديث الفتن وأشراط الساعة والملاحم على الواقع، كما أنني أحذر من تعطيل معانيها وعدم الاستفادة منها في تصور المستقبل، أو تفسير الواقع إذا كانت تتعلق بالواقع يقيناً. والله أعلم والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.(1/393)
قراءة سورة هود يوم الجمعة
المجيب عبد الحكيم بن عبد الله القاسم
عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 22/5/1424هـ
السؤال
هل ورد شيء صحيح عن قراءة سورة هود في يوم الجمعة؟ أي هل كان هذا من فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم-، أفيدونا بارك الله فيكم، لأنني كنت أظنها واردة، وأنا أداوم عليها كل جمعة، والآن أخاف أن تكون هذه مخالفة لما كان يفعله الرسول - صلى الله عليه وسلم-. وجزاكم الله خيراً على ما تقومون به من مجهودات.
الجواب
الحديث الذي تشير إليه نصه: "اقرؤوا سورة هود يوم الجمعة" أخرجه الدارمي في سننه ج:2ص: 545 (3403) و (3404) ، والبيهقي في شعب الإيمان ج 2ص: 472، وهو على أحسن الأحوال مرسل عن كعب الأحبار -رضي الله عنه-، وعليه فالحديث ضعيف لا يثبت، ولم يصح من الأحاديث فيما يقرأ يوم الجمعة في غير صلاة فجرها وجمعتها إلا سورة الكهف، والله أعلم، وفقنا الله وإياك لتحري السنة والتثبت من الأحاديث.
فائدة قال ابن حجر: واعلم أن المتبادر إلى أكثر الأذهان أنه ليس المطلوب قراءته ليلة الجمعة ويومها إلا الكهف وعليه العمل في الزوايا والمدارس وليس كذلك، فقد وردت أحاديث في قراءة غيرها يومها وليلتها منها ما رواه التيمي في الترغيب:"من قرأ سورة البقرة، وآل عمران في ليلة الجمعة كان له من الأجر كما بين البيداء -أي الأرض السابعة- وعروباً -أي السماء السابعة-" وهو غريب ضعيف جداً، وما رواه الطبراني في الأوسط (6157) عن ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعاً:"من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة -صلى الله عليه- وملائكته حتى تغيب الشمس"، قال ابن حجر: وفيه طلحة بن زيد ضعيف جداً؛ بل نسب للوضع، وخبر أبي داود في فضائل القرآن عن الحبر -رضي الله عنه-:"من قرأ سورة يس والصافات ليلة الجمعة أعطاه الله سؤله"، وفيه انقطاع، وخبر ابن مردويه عن كعب -رضي الله عنه- يرفعه:"اقرؤوا سورة هود يوم الجمعة" قال ابن حجر: مرسل سنده صحيح، انظر فيض القدير ج: 6ص: 199.(1/394)
حديث اشتراط الطواف للتحلل يوم النحر
المجيب د. فهد بن عبد الرحمن اليحيى
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 11/8/1424هـ
السؤال
يوجد حديث أخرجه الحاكم وأبو داود والبيهقي، وفيه "هذا يوم رخص فيه لكم إذا رميتم الجمرة ونحرتم الهدي إن كان لكم فقد حللتم من كل شيء حرمتم منه إلا النساء حتى تطوفوا بالبيت، فإذا أمسيتم ولم تفيضوا صرتم حرما كما كنتم أول مرة حتى تفيضوا بالبيت". وقد صحح الإمام الألباني هذا الحديث وقال به، وسبقه الإمام النووي في المجموع، واعتذر عنه بأن الإجماع انعقد على خلافه، وبأن ذلك الإجماع دل على ناسخ لهذا الحديث.
فما رأي فضيلتكم بالعمل بهذا الحديث؟ علماًَ أن مذاهب الأئمة على خلافه، وإن قلتم به فما حكم من تحلل من ملابس الإحرام؟ ولكنه لم يطف إلا في اليوم التالي ليوم النحر.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإن هذا الحديث قد قال فيه البيهقي -رحمه الله-: (لا أعلم أحداً من الفقهاء قال به) .
وقد ضعفه ابن حزم رحمه الله، ومن صححه فقد رأى أنه مخالف للإجماع، كما ذكر النووي -رحمه الله-.
والذي يظهر لي -والله أعلم- أن هذا الحديث لا يخلو من ضعف أو شذوذ، وإذا أردت الاستزادة في شأن الكلام على هذا الحديث فارجع إلى كتاب (المسائل المشكلة من مناسك الحج والعمرة) لـ د/ الصبيحي، فهو من خير ما وقفت عليه في دراسة هذا الحديث وبيان ما فيه، والله أعلم.(1/395)
سؤال اليهود للرسول عن الصلوات
المجيب د. الشريف حاتم بن عارف العوني
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 26/5/1424هـ
السؤال
سلام الله عليكم، أود أن أتأكد من صحة هذا الحديث أو ضعفه، وأرجو الإفادة، وجزاكم الله خيراً، في حفظ الله.
روي عن سيدنا علي - رضي الله عنه - بينما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - جالساً بين الأنصار والمهاجرين إذ أتى إليه جماعة من اليهود فقالوا له: يا محمد إنا نسألك عن كلمات أعطاهن الله تعالى لموسى بن عمران لا يعطاها إلا نبي مرسل أو ملك مقرب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - سلوا، فقالوا يا محمد أخبرنا عن هذه الصلوات الخمس التي افترضها الله على أمتك؟ فقال النبي أما صلاة الظهر إذا زالت الشمس يسبح كل شيء لربه، وأما صلاة العصر فإنها الساعة التي أكل فيها آدم عليه السلام من الشجرة، وأما صلاة المغرب فإنها الساعة التي تاب الله على آدم - عليه السلام - فيها، فما من مؤمن يصلي هذه الصلاة محتسباً ثم يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه، وأما صلاة العتمة فإنها الصلاة التي صلاها المرسلون قبلي، وأما صلاة الفجر فإن الشمس إذا طلعت تطلع بين قرني الشيطان ويسجد لها كل كافر من دون الله، قالوا له صدقت يا محمد فما ثواب من صلى؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - أما صلاة الظهر فإنها الساعة التي تسعر فيها جهنم فما من مؤمن يصلي هذه الصلاة إلا حرم الله تعالى عليه لفحات جهنم يوم القيامة، وأما صلاة العصر فإنها الساعة التي أكل آدم - عليه السلام - فيها من الشجرة فما مؤمن يصلي هذه الصلاة إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ثم تلا قوله تعالى: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى".
وأما صلاة المغرب فإنها الساعة التي تاب الله فيها على آدم - عليه السلام - فما من مؤمن يصلي هذه الصلاة محتسباً ثم يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه، وأما صلاة العتمة فإن القبر ظلمة ويوم القيامة ظلمة فما من مؤمن مشى في ظلمة الليل إلى صلاة العتمة إلا حرم الله عليه وقود النار، ويعطى نوراً يجوز به على الصراط، وأما صلاة الفجر فما من مؤمن يصلي الفجر أربعين يوماً في جماعة إلا أعطاه الله براءتين براءة من النار وبراءة من النفاق، قالوا صدقت يا محمد.
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: أقول وبالله التوفيق:
الحديث المذكور حديث ظاهر النكارة والتصنُّع، وملامح الوضع ظاهرة عليه، فلا تجوز نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإجماع في مثله، بل الجزم بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع العلم ببطلانه من أكبر الكبائر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من حدث عني حديثاً وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين". رواه الترمذي (2662) ، وابن ماجة
(41) من حديث المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه-.
ومع ذلك فلا شك أن فضل الفروض الخمسة من الصلوات ثابت معلوم من الدين بالضرورة، وهي أفضل القربات بعد تحقيق التوحيد، دلّ على ذلك الكتاب وصحيح السنة والإجماع، والله أعلم. والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.(1/396)
ما معنى "النساء ناقصات عقل ودين"
المجيب أ. د. بكر بن زكي عوض
أستاذ مقارنة الأديان بجامعة الأزهر
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 17/8/1424هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ما مدى صحة الحديث المنقول عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو:"النساء ناقصات عقل ودين"؟ وإن كان صحيحاً فما هو نص الحديث؟ وما هي مناسبته؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
أخي الفاضل: الحديث صحيح، وروي من طرق متعددة، وصيغته هي: "عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه- قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في أضحى أو فطر؛ أي يوم عيد الأضحى أو عيد الفطر إلى المصلى، فمر على النساء فقال: يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقلن: وبم يا رسول الله قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن، قلن وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل قلن: بلى: قال فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان دينها"، وقد ورد الحديث 32 مرة في كتب السنة وشروحها، راجع البخاري ج2 ص 531 رقم (1393) ، ح 2 ص 941، رقم (298) ، (2515) ، وصحيح مسلم من رواية عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- مع خلاف في بعض الألفاظ، وفي المستدرك حـ 4 ص645، رقم (8783) ، وسنن الترمذي حـ 5 ص 10رقم (2613) ، وسنن ابن ماجة حـ 2 ص 1306، رقم (4003) ، ومسند أحمد حـ 2 ص 26، رقم (5343) ، وسنن أبي داود حـ 4 ص 219 وابن خزيمة حـ 3ص 268، رقم (2045) ، وغير ذلك من كتب السنة.
مناسبة الحديث: الرسول - صلى الله عليه وسلم- يلفت نظر المسلمين إلى إكمال جوانب النقص في العبادة، وإذا كانت بعض السيدات لا يصلين لظروف خاصة، فإن الصدقة تجبر النقص في غير الفرائض.
والحديث فيه مدح للنساء أكثر من كونه ذماً لهن، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم- أكد على قدرة النساء في السيطرة على عقول وقلوب الرجال، فهن أقوى تأثيراً على الرجل من تأثير الرجل عليهن.
وعلينا نحن المسلمين أن لا نأخذ بحديث واحد ورد بحق النساء ونترك سائر آيات القرآن التي كرمت المرأة كالرجل، وامتدحتها كما امتدحت الرجل، وكذلك الأحاديث النبوية التي أثنت على المرأة في كل مرحلة من مراحلها، وأوجبت برها وحسن معاملتها، سواء أكانت بنتاً أو أختاً، أو زوجة، أو أماً..إلخ ... والله أعلم.(1/397)
حديث توسل الأعمى بالنبي
المجيب محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله -
عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وعضو هيئة كبار العلماء
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 26/2/1424هـ
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم.
سؤالي بخصوص الحديث الشريف "أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال ادع الله لي أن يعافيني، فقال إن شئت أخرت لك، وهو خير وإن شئت دعوت فقال ادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بمحمد نبي الرحمة يا محمد إني قد توجهت بك إلى ربي في حاجتي، هذه لتقضى اللهم شفعه في" وإسناده صحيح.
السؤال هو: أليس في هذا الحديث سؤال برسول الله -عليه الصلاة والسلام- وهو شيء منهي عنه؟ سؤالي سؤال الجاهل لا المعترض.
جزاكم الله خيراً.
الجواب
سئل فضيلة الشيخ عن هذا الحديث: أنّ أعمى أتى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله ادع الله أن يكشف عن بصري. قال: "أو أدعك"، قال: يا رسول الله إنه قد شق علي ذهاب بصري، فقال:"فانطلق فتوضأ ثم صلى ركعتين ثم قل: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد، - صلى الله عليه وسلم- نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فيقضي حاجتي" ما صحة هذا وما معناه؟
فأجاب قائلاً: هذا الحديث اختلف أهل العلم في صحته، فمنهم من قال إنه ضعيف، ومنهم من قال إنه حسن، وقد رواه الترمذي (3578) ، وقال حسن صحيح غريب، وصححه الألباني - رحمه الله-، ولكن له وجهة ليست كما يتبادر من اللفظ، فإن هذا الحديث معناه أن النبي - صلى الله عليه وسلم- أمر هذا الرجل الأعمى أن يتوضأ ويصلي ركعتين؛ ليكون صادقاً في طلب شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم- له، وليكون وضوؤه وصلاته عنواناً على رغبته في التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم- والتوجه به إلى الله - سبحانه وتعالى-،فإذا صدقت النية وصحت وقويت العزيمة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم- يشفع له إلى الله - عز وجل-، وذلك بأن يدعو النبي - صلى الله عليه وسلم- له فإن الدعاء نوع من الشفاعة، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه" مسلم (948) ، فيكون معنى هذا الحديث أن هذا الأعمى يطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم- أن يدعو الله له، لأن هذا الدعاء نوع شفاعة. أما الآن وبعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم- فإن مثل هذه الحال لا يمكن أن تكون لتعذر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم- لأحد بعد الموت، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم- "إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" مسلم (1631) ، والدعاء بلا شك من الأعمال التي تنقطع بالموت، بل الدعاء عبادة كما قال الله - تعالى -: "وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ" [غافر:60] ، ولهذا لم يلجأ الصحابة- رضي الله عنهم- عند الشدائد وعند الحاجة إلى سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم- أن يدعو الله لهم، بل قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- حين قحط المطر "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون" البخاري (1010) ، وطلب من العباس - رضي الله عنه- أن يدعو الله - عز وجل- بالسقيا فدعا فسقوا. وهذا يدل على أنه لا يمكن أن يطلب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بعد موته أن يدعو لأحد، لأن ذلك متعذر لانقطاع علمه بموته صلوات الله - وسلامه عليه-، وإذا كان لا يمكن لأحد أن يطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم- فإنه لا يمكن - ومن باب أولى - أن يدعو أحد النبي - صلى الله عليه وسلم- نفسه بشيء من حاجاته أو مصالحه، فإن هذا من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، والذي حرم الله على من اتصف به الجنة، قال الله - تعالى-: "وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ" [يونس:106] وقال - تعالى- "فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ" [الشعراء:213] ، وقال الله - عز وجل-: "وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ" [المؤمنون:117] . وقال - تعالى- "إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ" [المائدة: من الآية72] ، فالمهم أن من دعا رسول الله - صلى الله عله وسلم- بعد وفاته أو غيره من الأموات لدفع ضرر أو جلب منفعة فهو مشرك شركاً أكبر مخرجا عن الملة، وعليه أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى، وأن يوجه الدعاء إلى العلي الكبير، الذي يجيب دعوة المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، وإني لأعجب من قوم يذهبون إلى قبر فلان وفلان يدعونه أن يفرج عنهم الكربات ويجلب لهم الخيرات، وهم يعلمون أن هذا الرجل كان في حال حياته لا يملك ذلك فكيف بعد موته؟! بعد أن كان جثة، وربما يكون رميماً قد أكلته الأرض، فيذهبون يدعونه ويتركون دعاء الله - عز وجل-، الذي هو كاشف الضر وجالب النفع والخير، مع أن الله -تعالى - أمرهم بذلك وحثهم عليه، فقال: "وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ" [غافر: من الآية60] . وقال - تعالى-:" وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ" [البقرة: من الآية186] .
وقال تعالى منكراً على من دعا غيره:"أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ" [النمل:62] ، أسأل الله تعالى أن يهدينا جميعاً صراطه المستقيم.
[مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ: محمد بن عثيمين -رحمه الله- (2/348) ](1/398)
صحة حديث في الاحتراس
المجيب د. محمد بن تركي التركي
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 11/4/1424هـ
السؤال
ما مدى صحة الحديث الطويل القائل:"بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله وبالله، بسم الله خير الأسماء، بسم الله رب الأرض والسماء، بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، وأعز وأجل مما أخاف وأحذر، اللهم إني أستجيرك وأحتجب بك من كل شيء خلقته وأحترس بك من جميع خلقك ... " سبع مرات؟
الجواب
الحديث أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة برقم (346) من حديث أبان بن أبي عياش عن أنس -رضي الله عنه- قال: كتب عبد الملك إلى الحجاج بن يوسف أن انظر إلى أنس بن مالك خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فادن مجلسه وأحسن جائزته وأكرمه قال: فأتيته فقال لي: ذات يوم يا أبا حمزة إني أريد أن أعرض عليك خيلي فتعلمني أين هي من الخيل التي كانت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -فعرضها فقلت شتان ما بينهما فإنها كانت تلك أرواثها وأبوالها وأعلافها أجرا فقال الحجاج: لولا كتاب أمير المؤمنين فيك لضربت الذي فيه عيناك فقلت: ما تقدر على ذلك قال: ولم؟ قلت: لأن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- علمني دعاء أقوله لا أخاف معه من شيطان ولا سلطان ولا سبع قال: يا أبا حمزة علمه ابن أخيك محمد بن الحجاج فأبيت عليه فقال: لابنه إيت عمك أنساً فسله أن يعلمك ذلك قال أبان: فلما حضرته الوفاة دعاني فقال: يا أحمر إن لك إلي انقطاعا وقد وجبت حرمتك وإني معلمك الدعاء الذي علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -فلا تعلمه من لا يخاف الله -عز وجل- أو نحو ذلك قال: تقول: "الله أكبر الله أكبر الله أكبر بسم الله على نفسي وديني بسم الله على كل شيء أعطانيه ربي بسم الله خير الأسماء بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء بسم الله افتتحت وعلى الله توكلت، الله ربي لا أشرك به أحداً أسألك اللهم بخيرك من خيرك الذي لا يعطيه أحد غيرك عز جارك وجل ثناؤك ولا إله غيرك اجعلني في عياذك من شر كل سلطان ومن الشيطان الرجيم، اللهم إني أحترس بك من شر جميع كل ذي شر خلقته وأحترز بك منهم وأقدم بين يدي بسم الله الرحمن الرحيم "قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد" ومن خلفي مثل ذلك وعن يميني مثل ذلك وعن يساري مثل ذلك ومن فوقي مثل ذلك" وهذا الحديث إسناده ضعيف جداً؛ لأنه من رواية أبان وهو متروك الحديث كما قال الحافظ في التقريب، وعلى هذا فلا يصح هذا الحديث، والله أعلم.(1/399)
أحاديث فضل فاطمة
المجيب د. محمد بن تركي التركي
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 19/2/1424هـ
السؤال
ما مدى صحة الأحاديث التالية؛ لأني أقرأ عنها لأول مرة:
(1) "إذا كان يوم القيامة نادى مناد يا أهل الجمع غضوا أبصاركم حتى تمر فاطمة".
(2) "إذا اشتقت إلى رائحة الجنة شممت رقبة فاطمة".
(3) إذا اشتقت إلى ثمار الجنة قبلت فاطمة"، أول مرة أسمع بهذه الأحاديث أفيدوني مأجورين.
الجواب
هذه الأحاديث كلها موضوعة ولا يصح نسبتها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأما الأول فأخرجه تمام في فوائده (1491) وابن حبان في المجروحين (2/190) وابن عدي في الكامل (5/5) ، وغيرهم من طريق العباس بن الوليد الضبي عن خالد الواسطي عن بيان عن الشعبي عن أبي جحيفة عن علي بنحوه.
وقال ابن عدي: وهذا الحديث بهذا الإسناد منكر، لا أعلم قد رواه عن خالد غير عباس هذا، وقال ابن حبان عن العباس: يروي العجائب لا يجوز الاحتجاج به بحال.
وذكر هذا الحديث ابن الجوزي في الموضوعات والسيوطي في اللآلي وحكما عليه بأنه موضوع، وللاستزادة يراجع تخريج محقق فوائد تمام (4/313) .
وأما الحديثان الثاني والثالث فهما لحديث واحد أورده السيوطي أيضاً في اللآلي المصنوعة (1/394) ونقل عن غير واحد من الأئمة تضعيفهم له، ومن ذلك قول الذهبي: هذا كذب جلي وهو من وضع مسلم الصفار.
وقال في الميزان: هذا حديث موضوع.
ومقام فاطمة - رضي الله عنها وأرضاها- أعلى من أن يشاد بهذه الأحاديث الموضوعة والواهية، فهي سيدة نساء العالمين، وهي بضعة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يريبه ما يريبها، ويحزنه ما يحزنها، وأول أهله لحوقاً به، فصلوات الله وسلامه وبركاته على محمد وذريته وأزواجه وآله وصحبه.
والخلاصة أن هذه الأحاديث موضوعة ولا تثبت، والله أعلم.(1/400)
صحة حديث "من ترك ثلاث جمع تهاوناً ... "
المجيب عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 24/2/1425هـ
السؤال
السلام عليكم
ما هو نص الحديث الذي ذكر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من لا يحضر ثلاث صلوات جمعة متتالية فهو كافر؟ وهل الحديث صحيح؟ وما هو قول العلماء في الحكم المستنبط من هذا الحديث؟ وما هي الاستدلالات على هذا الحكم؟.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الحديث ليس كما ذكر في السؤال، وإنما لفظه " من ترك ثلاث جمع تهاوناً بها طبع الله على قلبه" أخرجه أبو داود في سننه، باب التشديد في ترك الجمعة حـ (1052) - عن مسدد عن يحيى بن عمرو عن عبيدة بن سفيان عن أبي الجعد الضمري، قال أبو داود: (وكانت له صحبة) .
وأخرجه أيضاً أحمد في مسنده (3/424 - 425) ، والترمذي في جامعه في الصلاة، باب ما جاء في ترك الجمعة من غير عذر حـ (500) ، والنسائي في سننه 3 /88، باب التشديد في التخلف عن الجمعة، والدارمي (1/369) ، والبيهقي (3/172) ، والحاكم (1/280) .. كلهم من طريق محمد بن عمرو به والحديث صححه ابن خزيمة حـ (1857) ، وابن حبان حـ (2786) كما في صحيحيهما وقد جاء من حديث جابر رواه ابن ماجة في سننه حـ (1126) ، وأحمد في مسنده بلفظ:" من ترك الجمعة ثلاثاً من غير ضرورة طبع الله على قلبه ". وصححه الحاكم في مستدركه (1/292) والبوصيري في مصباح الزجاجة.
وقد جاء أيضاً من حديث عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه باللفظ السابق، رواه أحمد في مسنده حـ (22558) لكن المحفوظ كما قال أبو حاتم في العلل (1/203) أنه من رواية عبد الله بن أبي قتادة عن جابر.
والحكم المستنبط من الحديث، التشديد في ترك الجمعة كما بوب بذلك أبو داود والنسائي وغيرهما على هذا الحديث، وقال ابن حبان في صحيحه (7/26) على هذا الحديث:" باب صلاة الجمعة، ذكر طبع الله جل وعلا على قلب التارك إتيان الجمعة على سبيل التهاون بها عند المرة الثالثة ".
وقد روى الإمام مسلم في صحيحه حـ (865) ، في الجمعة، باب التغليظ في ترك الجمعة، عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين".(1/401)
حديث:"إني والإنس والجن في نبأ عظيم ... "
المجيب د. محمد بن تركي التركي
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 21/2/1424هـ
السؤال
ما مدى صحة هذا الحديث القدسي؟ وأين أجده في كتب الحديث؟ "إني والإنس والجن في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري، خيري إلى العباد نازل وشرهم إلي صاعد ... " إلى آخر الحديث.
الجواب
هذا الحديث أخرجه الطبراني في مسند الشاميين (2/93) رقم (974) ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (17/77) .
وأخرجه أيضاً البيهقي في شعب الإيمان (4/134) رقم (4563) (طبعة دار الكتب العلمية) وعبد الغني المقدسي في كتاب التوحيد صـ (85) رقم (89) .
كلهم من طريق بقية بن الوليد، عن صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، وشريح بن عبيد الحضرميان، عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- نحوه.
وحكم الشيخ الألباني على الحديث بالضعف في السلسلة الضعفية رقم (2371) وفي ضعيف الجامع رقم (4052) .(1/402)
صحة حديث: إحياء ليلة العيد
المجيب عمر بن عبد الله المقبل
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 29/9/1424هـ
السؤال
ما صحة حديث من قام ليلتي العيد لم يمت قلبه يوم تموت القلوب؟
الجواب
هذا الحديث رواه ابن ماجه ح (1782) من طريق بقية بن الوليد، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قام ليلتي العيدين، لم يمت قلبه
يوم تموت القلوب".
وفي سنده بقية بن الوليد، وهو وإن كان ثقة، إلا أنه يدلس ويكثر من ذلك عن الضعفاء
والمتروكين، وهو هنا لم يصرح بالسماع، وقد رواه الطبراني في "الأوسط" من طريق عمر بن هارون، عن ثور به، إلا أنه جعله من مسند عبادة بن الصامت.
وعمر بن هارون هذا، لا يبعد ـ والله أعلم ـ أن يكون هو شيخ بقية بن الوليد في الحديث السابق، واختلاف مخرج الحديث من سوء حفظه، بل قال عنه ابن مهدي، وأحمد، والنسائي: متروك، وكذبه ابن معين وصالح بن محمد البغدادي ـ كما في "الميزان" 3/228،وقد صحح الإمام الدارقطني وقف هذا الحديث على مكحول، كما ذكره ابن حجر في "التلخيص" 2/80.
والحديث بلا شك فيه نكارة من جهة المتن أيضاً، فإن من المقطوع به أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحي ليلة النحر في حجته، بل قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في سياق حجته صلى الله عليه وسلم في زاد المعاد 2/ 247: "ولا صح عنه في إحياء ليلتي العيد شيء ".
وخلاصة القول أن هذا الحديث ضعيف جداً إن لم يكن موضوعاً، وقد ورد نحو هذا الحديث
حديثان موضوعان، فينظر السلسلة الضعيفة رقم (520،522) .
ومع ذلك، فمن كانت عادته قيام الليل، فإن إحياءه لليل جرياً على عادته لا إشكال في
جواز عمله؛ وإنما المقصود بهذا الحديث من يعمد إلى إحيائها اتكاءا على هذا الحديث الضعيف جداً، والله أعلم.(1/403)
صحة حديث: يوم العيد يوم الجوائز
المجيب عمر بن عبد الله المقبل
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 30/9/1422
السؤال
ما صحة حديث يوم العيد يوم الجوائز؟
الجواب
هذا الحديث يروى أنه: " إذا كان يوم الفطر وقفت الملائكة على أفواه الطرق، ونادت:
يا معشر المسلمين! اغدوا إلى رب رحيم، يأمر بالخير ويثيب عليه الجزيل، أمركم فصمتم
،وأطعتم ربكم، فاقبلوا جوائزكم، فإذا صلوا العيد، نادى مناد من السماء: ارجعوا إلى
منازلكم راشدين، فقد غفرت ذنوبكم كلها، ويسمى ذلك اليوم: يوم الجوائز "
قال الحافظ ابن رجب في لطائف المعارف (374) : خرّجه سلمه بن شبيب في كتابه (فضائل رمضان) وغيره وفي إسناده مقال، وقد روي من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما- موقوفاً بعضه، وقد روي معناه مرفوعاً من وجه أخر فيها ضعف " ا. هـ.
وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم 1/97: "وهذا الحديث رويناه في كتاب المستقصى في فضائل المسجد الأقصى تصنيف الحافظ أبى محمد بن عساكر الدمشقي -رحمه الله- ".
ولم أقف على سند لهذا الحديث ليتسنى الحكم عليه، ولكن ما من شك لدى المشتغلين بهذا العلم الشريف، أن الحديث إذا لم يكن في دواوين الإسلام المعروفة، فهو مظنة الضعف، فكيف به إذا لم يوجد ولا في الكتب التي هي من مظان الضعاف والغرائب؟ هذا أبعد وأبعد من الصحة، والله أعلم.(1/404)
هل هذا الحديث صحيح؟
المجيب د. الشريف حاتم بن عارف العوني
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 28/9/1422
السؤال
ما صحة الحديث الآتي: ما رواه أحمد - رحمه الله - عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من توضأ فأسبغ الوضوء، ثم صلى ركعتين يتمهما أعطاه الله ما سأل معجلاً، أو مؤخراً "؟
الجواب
أخرج الإمام أحمد (6/442) ، والدارقطني، في الأفراد (كما في أطرافه رقم 4617) الحديث المسؤول عنه، فقال الإمام أحمد: " حدثنا محمد بن بكر، قال: حدثنا ميمون (يعني أبا محمد المرَئي التميمي) قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن يوسف بن عبد الله بن سلام، قال صحبت أبا الدرداء أتعلم منه، فلما حضره الموت، قال: آذِن الناس بموتي، فآذنت الناس بموته، فجئت وقد مُلئ الدار وما سواه قال: فقلت: قد آذنت الناس بموتك، وقد مُلئ الدار وما سواه، قال: أخرجوني، فأخرجناه، قال أجلسوني، فقال: أجلسناه فقال: أيها الناس، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من توضأ فأسبغ الوضوء، ثم صلى ركعتين يُتِمَّهُما، أعطاه الله ما سأل مُعَجَّلاً أو مؤجَّلاً. قال أبو الدرداء: يا أيها الناس، إياكم والإلتفات في الصلاة، فإنه لا صلاة لملتفت، فإن غُلبتم في التطوع، فلا تُغْلَبُنّ في الفريضة ".
وإسناده حسن، وقد حكم الدارقطني بتفرّد محمد بن بكر البُرْساني به. لكن أخرجه المحاملي في أماليه (رقم 71) ، من طريق محمد بن بكر البرساني، لكن بتسمية الراوي، من يوسف بن عبد الله بن سلام، يحيى بن أبي هيثم - وهو العطار - أحدُ الثقات، وهو المعروف بالرواية عن يوسف بن عبد الله، كما في تهذيب الكمال (32/436) .
فالحديث على أيًّ من الوجهين حسنُ الإسناد.
وللحديث وَجْهٌ آخر حسن الإسناد أيضاً، من طريق صدقة بن أبي سهل، عن كثير بن يسار، عن يوسف بن عبد الله بن سلام، عن أبي الدرداء، قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من توضأ فأحسن الوضوء، ثم قام فصلى ركعتين أو أربع ركعات [شكّ سهل] يُحسن فيهن الركوع والسجود والخشوع، ثم استغفر الله، غفر له " أخرجه الإمام أحمد وابنه عبد الله في زوائده (6/420) وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (رقم 2040) والطبراني في الدعاء (رقم 1848) لكن الإسناد الأول أشهرُ رجالاً، ومتنه أضبط لفظاً. والله أعلم.(1/405)
أفطرنا ثم أقلعت الطائرة فرأينا الشمس
المجيب محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله -
عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وعضو هيئة كبار العلماء
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 3/9/1424هـ
السؤال
في شهر رمضان يكون إقلاع بعض الرحلات وقت أذان المغرب فنفطر ونحن على الأرض، وبعد الإقلاع والارتفاع عن مستوى الأرض نشاهد قرص الشمس ظاهراً، فهل نمسك أم نكمل إفطارنا؟
الجواب
أكمل إفطارك، ولاتمسك؛ لأنك أفطرت بمقتضى الدليل الشرعي؛ لقوله -تعالى-:" ثم أتموا الصيام إلى الليل " [البقرة:187] ، وقوله- صلى الله عليه وسلم-:"إذا أقبل الليل من هاهنا، وأشار إلى المشرق وأدبر النهار من هاهنا، وأشار إلى المغرب وغربت الشمس فقد أفطر الصائم".
مجموع فتاوى ورسائل الشيخ/محمد بن عثيمين-رحمه الله- فتوى رقم (1174) .(1/406)
صحة حديث استياك النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو صائم
المجيب عمر بن عبد الله المقبل
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 6/9/1422
السؤال
ما صحة حديث: " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستاك مالا أحصي وهو صائم "
الجواب
هذا الحديث رواه أبو داود - وغيره كما سيأتي، فقال في (2/768) باب السواك للصائم ح (2364) : حدثنا محمد بن الصبّاح، حدثنا شريك /ح/، وحدثنا مسدد، حدثنا يحيى عن سفيان، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه قال:" رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يستاك وهو صائم"، زاد مسدد: "ما لا أعد ولا أحصي".
تخريجه:
أخرجه (الترمذي 3/104) باب ما جاء في السواك للصائم ح (725) ، و (أحمد 3/248، 445،446) ، و (ابن أبي شيبة 2/295) ح (9148) و (الحميدي 1/77) ح (141) (ابن خزيمة 3/) 248 ح (2007) ، و (البخاري (تعليقاً) 2/39) ، باب سواك الرطب واليابس للصائم، عن عامر بن ربيعة - رضي الله عنه - بصيغة التمريض.
الحكم عليه:
إسناد الحديث ضعيف من أجل عاصم -كما سبق بيان حاله - ولذا قال أبو جعفر العقيلي في (الضعفاء 3/334) - عقب إخراجه الحديث من طريق الثوري عن عاصم: " ولا يروى بغير هذا الإسناد، إلا بإسناد لين " ا. هـ. وقال الدارقطني عقب إخراجه الحديث (2/162) ح (2344) "عاصم بن عبيد الله غيره أثبت منه " ا. هـ وقال - كما في (إتحاف المهرة لابن حجر 6/393) "عاصم ليس بقوي " ا. هـ وقد سقط هذا الكلام من المطبوع.
وقال (البيهقي 4/272) لما أخرجه من طريق عاصم: " عاصم ليس بالقوي "، وفي موضع آخر قال عن عاصم 2/12: " ضعيف "، وقال في 10/24: " روايات عاصم فيها ضعيف ". وأشار ابن عبد البر إلى تضعيفه بقوله في (الاستذكار 10/254) : " وقد روي عنه.. " ا. هـ. وقال المنذري في (اختصار سنن أبي داود 3/241) - عقب حكاية تحسين الترمذي - " وفي إسناده عاصم بن عبيد الله، وقد تكلم فيه غير واحد ". وقال ابن حجر في (التغليق 3/159) : وأما إمام أهل الصنعة محمد بن إسماعيل فعلق حديثه بصيغة التمريض للين فيه " ا. هـ ومع ذلك فقد حسن إسناده الحافظ في (التلخيص 1/62) .
وأما ابن خزيمة فقد قال عقب إخراجه له: " وأنا برئ من عهدة عاصم.. - ثم قال -:" كنت لا أخرج حديث عاصم بن عبيد الله في هذا الكتاب، ثم نظرت فإذا شعبة والثوري قد رويا عنه ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي، وهما إماما أهل زمانهما قد رويا عن الثوري عنه، وقد روى عنه مالك خبراً في غير الموطأ "ا. هـ.
وبما سبق يعلم أن في تحسين الترمذي وابن حجر في (التلخيص 1/62) له نظر، والله أعلم ولم أقف على ما يشهد لما دل عليه حديث الباب من كثرة السواك للصائم إلا أنه جاء حديث عن عائشة مرفوعاً: " من خير خصال الصائم السواك " وهو حديث ضعيف؛ لأنه من رواية مجالد بن سعيد، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة - رضي الله عنها - ومجالد ليس بالقوي، وفي روايته عن الشعبي - خاصة - ضعف - كما نص عليه الإمام أحمد - رحمه الله - فينظر جملة كبيرة من أقوال الأئمة فيه في ترجمته عند العقيلي في (الضعفاء 4/233) ولذا قال ابن حجر في (التلخيص) عن هذا الحديث (1/68) : " ضعيف " ولا تخلو أحاديث الباب - التي وقفت عليها - من ضعف وبعضها شديد الضعف.
وبعد: فإن ضعف الأحاديث الواردة في الباب، لا يعني عدم مشروعية السواك للصائم، بل المشروعية ثابتة بالأحاديث العامة التي تدل على مشروعية السواك في كل وقت كحديث:" لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة " أخرجه البخاري ح (887) ومسلم ح (252) . وقد حكى ابن القيم - رحمه الله - استحباب السواك في كل وقت عن أكثر العلماء، كما في (تهذيب السنن 3/241) .
ولعل من المناسب هنا أن أشير إلى أشهر حديثين تمسك بهما - فيما أعلم - من كره السواك بعد الزوال:
الحديث الأول:
حديث علي وخباب - رضي الله عنهما - الذي أخرجه (البزار 6/82-83) ح (2138،2137) والطبراني في (الكبير 4/78) ح (3696) ، والدارقطني في (السنن 2/204) والبيهقي في (الكبرى 4/274) من طريق كيسان أبي عمر القصار، عن يزيد بن بلال، عن علي - رضي الله عنه -، وثنا كيسان عن عمرو بن عبد الرحمن، عن خباب - رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا صمتم فاستكاوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي؛ فإنه ليس من صائم تيبس شفتاه بالعشي إلا كان نوراً بين عينيه يوم القيامة ". هذا لفظ الطبراني، وقال بعده: " لم يرفعه علي " أي: أنه موقوف على علي - رضي الله عنه - من قوله، وهذا الحديث مداره - كما ترى - على كيسان أبي عمر القصار، وقد ضعفه أحمد وابن معين والساجي وقال الدارقطني: "ليس بالقوي"، كما في (تهذيب التهذيب 8/396) .وقال الدارقطني - عقب إخراجه الحديث في سننه -: "كيسان أبو عمر ليس بالقوي ومن بينه وبين علي غير معروف "، ووافقه على ذلك الذهبي في تهذيبه للسنن الكبرى للبيهقي 4/1650 ح (7203) ، وضعفه ابن حجر في (التلخيص 1/62) .
الحديث الثاني:
حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أخرجه (الدارقطني 2/203) ، و (البيهقي 4/274) من طريق عمرو بن قيس، عن عطاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "لك السواك إلى العصر، فإذا صليت العصر فألقه، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك "، وفي إسناده عمرو بن قيس، قال عنه ابن حبان في (المجروحين 2/85) يروي عن عطاء، وكان فيه دعابة، ويقلب الأسانيد ويروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات "، ولذا قال الذهبي في تعليقه على سنن (البيهقي 4/1650-1651) ح (7204) : " عمرو واهٍ "(1/407)
صحة حديث "أفطر الحاجم والمحجوم "
المجيب عمر بن عبد الله المقبل
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 7/9/1422
السؤال
نرجو بيان درجة حديث: " أفطر الحاجم والمحجوم "
الجواب
هذا الحديث روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم- من طرق كثيرة، لكن أصح ما ورد فيها بنص جمع من الأئمة حديثان، وهما:
الحديث الأول: حديث ثوبان - رضي الله عنه -
وقد أخرجه أبو داود: وغيره من الأئمة كما سيأتي: قال أبو داود: 2/770 باب في الصائم يحتجم ح (2367) حدثنا مسدد، حدثنا يحيى عن هشام /ح/ حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا حسن بن موسى، حدثنا شيبان جميعاً، عن يحيى، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، يعني الرحبي، عن ثوبان عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أفطر الحاجم والمحجوم ".
قال شيبان: أخبرني أبو قلابة، أن أبا أسماء الرحبي حدثه أن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبره أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقبل أن أذكر تخريجه والكلام عليه مفصلاً، أذكر خلاصة ما ظهر لي في هذا البحث وهي كما يلي:
01 أن الحديث روي عن ثوبان من أربعة طرق، وأن هذه الطرق أكثرها معل، وأقواها الطريق التي رواها مسدد، عن يحيى القطان، عن هشام الدستوائي، عن يحيى ابن أبي كثير، عن أبي قلابة عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان - رضي الله عنه _
02 أن أكثر أئمة الحديث كأحمد والبخاري والدارمي وغيرهم على تصحيح الحديث وخالف في ذلك إمامان، وهما: يحيى بن معين وأبو حاتم الرازي، ولعل سبب إعلالهما له هو ما وقع فيه من اضطراب سيأتي الجواب عنه -إن شاء الله-.
03 أن تصحيح الحديث لا يكفي في الحكم به وحده على مسألة الحجامة للصائم، لأن؛ في المسألة أحاديث كثيرة تدل على أن هذا الحديث منسوخ وبإمكان القارئ الفاضل أن يراجع مظان هذه المسألة من كتب الشروح، والفقه مع الإشارة إلى أن مذهب جماهير أهل العلم على عدم الفطر بالحجامة.
تخريج الحديث:
الحديث في مسند أحمد 5/283
وأخرجه النسائي في (الكبرى 2/217) ، باب ذكر الاختلاف على أبي قلابة ح (3137) وأحمد (5/282) وفي (5/277) و (الدارمي 1/440) ح (1682) والحاكم (1/427) من طرق عن هشام الدستوائي به بنحوه إلا أن في حديث أصحاب هشام جميعاً - سوى ابن علية- قصة في أوله.
وأخرجه (ابن ماجه 1/537) باب ما جاء في الحجامة للصائم ح (1680) و (عبد الرزاق 4/209) ح (7522) و (أحمد 5/280) و (ابن خزيمة 3/226) ح (1962) وا (بن حبان 8/301) ح (3532) و (الحاكم 1/427) من طرق عن يحيى بن أبي كثير به بنحوه وفي حديث بعضهم قصة. وأخرجه النسائي في (الكبرى 2/217) ح (3139) من طريق عاصم بن هلال، وفي ح (3140،3141) من طريق عباد بن منصور. وفي ح (3142) من طريق جرير بن حازم. وفي ح (3143) من طريق حماد بن زيد، وفي ح (3144) من طريق ابن عيينة وعبد الرزاق 4/209 ح (7519) عن معمر، ستتهم (عاصم، وعباد، وجرير، وحماد، وابن عيينه، ومعمر) عن أيوب، عن أبي قلابة به بنحوه إلا أن عباد بن منصور اضطرب فجعله مرة كحديث الباب، ومرة جعله عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن شداد، وفي حديث جرير: عن أبي قلابة عن شداد وثوبان، لم يذكر أبا أسماء، وقال جرير: عرضت على أيوب كتاباً لأبي قلابة، فإذا فيه: عن شداد وثوبان هذا الحديث، قال: عرضته عليه فعرفه، وفي حديث حماد وابن عيننه: عن أبي قلابة عن شداد فحسب، ليس فيه أبو أسماء ولا ثوبان، وفي حديث معمر: عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن أبي أسماء عن شداد وفي حديث عاصم: عن أبي قلابة عن أبي أسماء، عن شداد وأخرجه النسائي في (الكبرى 2/216) باب من الشيخ؟ ح (3136) من طريق راشد بن داود، و (أحمد 5/282) ومن طريقه (أبو داود 2/772) ح (2370) و (النسائي 2/216)
ح (3135،3134) من طريق عن ابن جريج. و (أبو داود 2/273) ح (2371) و (النسائي 2/216) ح (3135) من طرق العلاء بن الحارث و (النسائي 2/217) ح (3137) من طريق سعيد بن عبد العزيز ثلاثتهم (ابن جريج، والعلاء، وسعيد) عن مكحول. كلاهما (راشد، ومكحول) عن أبي أسماء الرحبي به بنحوه، وفي حديث ابن جريج، وسعيد بن عبد العزيز عن شيخ من الحي، وقد سماه العلاء بن الحارث في حديثه وأنه مكحول , وأخرجه (النسائي 2/221) ح (3157) من طريق همام بن يحيى وفي 2/222 ح (3158) وأحمد 5/282، من طريق ابن أبي عروبة و (أحمد 5/286) من طريق شعبة، ثلاثتهم (همام، وابن أبي عروبة، وشعبة) عن قتادة، عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم و (النسائي في 2/222) ، باب الاختلاف على خالد الحذاء ح (3159) ، والطبراني في " الكبير " 2/91 ح (1406) من طريق بكير بن أبي السميط، عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة، والنسائي في 2/222 ح (3160) و (ابن خزيمة 3/236) ح (1984) ، والطبراني في (الأوسط 57/153) ح (4720) من طريق الليث، عن قتادةن عن الحسن. ثلاثتهم (ابن غنم، ومعدان، والحسن) عن ثوبان به بنحوه، إلا أن هماماً لم يذكر عبد الرحمن بن غنم، بل جعله عن شهر عن ثوبان.
دراسته والحكم عليه:
إسناد أبي داود صحيح، وما يخشى من إرسال أبي قلابة زال بتصريحه بالسماع كما نقل ذلك أبو داود عن شيبان عن أبي قلابة نفسه، وأما ما وقع في حديث ابن جريج وسعيد بن عبد العزيز من قولهما: عن شيخ من الحي، فقد صرّح العلاء بن الحارث في روايته عن مكحول بأنه أبو أسماء الرحبي، وقد نص على اسمه أيضاً أبو حاتم - كما في (العلل) لابنه 1/238 ولذلك جعل المزي في (التحفة 2/143) حديث ثوبان هذا فيما رواه عنه أبو أسماء حيث أحال عليه عند قوله: "حديث شيخ من الحي". وقد تبين من التخريج السابق أن الحديث رواه عن ثوبان أربعة:
01 أبو أسماء الرحبي، وعنه ثلاثة: مكحول، وراشد بن داود، وأبو قلابة، وقد اختلف على أبي قلابة:
أ. فرواه يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء عن ثوبان
ب. ورواه أيوب، عن قلابة، واختلف عليه:
- فرواه عباد بن منصور، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان.
- ورواه عباد نفسه، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن شداد، عن أوس.
-ورواه جرير بن حازم، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن شداد وثوبان، مرسلاً، فلم يذكر أبو قلابة أحداً بينه وبين ثوبان ولا شداد.
-ورواه حماد بن زيد، وابن عيينة، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن شداد فأرسلاه عن أبي قلابة.
-ورواه معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن أبي أسماء، عن شداد
-ورواه عاصم بن هلال، عن أبي أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن شداد.
أما رواية عباد بن منصور، فقد قال عنها النسائي (2/217) : " عباد بن منصور جمع بين الحديثين، فقال: عن أبي أسماء، عن ثوبان، عن أبي الأشعث عن شداد: " ثم قال عقب ذلك (2/218) : " وعباد بن منصور ليس بحجة في الحديث، وقيل إن ريحان بن سعيد - الراوي عنه - ليس بقديم السماع منه ". وقول النسائي هنا: (ليس بحجة) مفسرٌ بقوله في (الضعفاء) ص (214) رقم (414) : " ضعيف، وكان أيضاً قد تغير " ا. هـ. أما رواية معمر، فهي من روايته عن البصريين، وهي متكلم فيها عند الأئمة - كما في ترجمته من (تهذيب الكمال 28/303) . وأما رواية جرير، فجرير وإن كان ثقة، إلا أن الإمام أحمد قال - كما في شرح علل الترمذي 2/699 - " يروي عن أيوب عجائب " ا. هـ، ومع ذلك فقد خولف من قبل حماد بن زيد، وسفيان، وحماد خاصة ـ من أثبت الناس في أيوب، كما نص على ذلك جمع من الأئمة - كما في شرح العلل 2/699- ولذلك أشار النسائي إلى ترجيح رواية حماد بن زيد على غيره بقوله - في (السنن الكبرى 2/218) : " تابعه حماد بن زيد على إرساله عن شداد وهو أعلم الناس بأيوب"ا. هـ وأما رواية عاصم، فعاصم قال عنه أبو زرعه - كما في أسئلة البرذعي له (2/536) -: " حدث عن أيوب بأحاديث مناكير" ا. هـ فلعل هذا منها، والله أعلم.
وهناك اختلاف أوسع من هذا على أيوب، سيأتي ذكره في حديث شداد التالي - إن شاء الله تعالى - فتبين إذاً أن الراجح عن أيوب، هو ما رواه حماد بن زيد، وابن زيد، وابن عيينه، وتابعهما جرير بن حازم على بعض ذلك، عن أيوب عن أبي قلابة عن أيوب، فرجع حديث أيوب إلى حديث شداد، وسيأتي الكلام على حديث شداد في الحديث التالي - إن شاء الله تعالى -. أما بقية الراوة عن ثوبان فهم ثلاثة، وهم:
01 معدان بن أبي طلحة: وقد رواه عنه سالم بن أبي الجعد، وعن سالم، بكير بن أبي السميط.
02 الحسن البصري: وقد رواه عنه قتادة، وعن قتادة، الليث بن سعد
وقد سئل أبو حاتم الرازي - كما في (العلل) لابنه (1/226) عن طريق الليث فقال:" هذا خطأ، رواه قتادة، عن الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم- وهو مرسل ورواه أشعب بن عبد الملك عن الحسن، عن أسامة بن زيد " ا. هـ. وقال النسائي عن هذين الطريقين: " ما علمت أحداً تابع الليث، ولا بكير بن أبي السميط على روايتهما، والله أعلم " ا. هـ وقال ابن خزيمة: " الحسن لم يسمع من ثوبان " ا. هـ وقال الطبراني في (الأوسط) : " لم يرو هذا الحديث عن قتادة عن الحسن عن ثوبان إلا الليث بن سعد " ا. هـ.
03 عبد الرحمن بن غنم: قد رواه عنه شهر بن حوشب وعن شهر، قتادة واختلف عليه:
أ. فرواه ابن أبي عروبة، وشعبة، عن قتادة، عن شهر، عن عبد الرحمن بن غنم، عن ثوبان.
ب. ورواه همام بن يحيى، عن قتادة، عن شهر، عن ثوبان، ليس فيه ذكر عبد الرحمن بن غنم.
وقد قال أبو حاتم - كما في (العلل) لابنه (1/226) - " وأما حديث ثوبان، فإن سعيد بن أبي عروبة يرويه عن قتادة، عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن ثوبان عن النبي- صلى الله عليه وسلم - ورواه بكير بن أبي السميط، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عن ثوبان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ورواه يزيد بن هارون، عن أيوب أبي العلاء، عن قتادة، عن شهر بن حوشب عن بلال عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ورواه قتادة عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " ا. هـ.
وكلام الإمام أبي حاتم، يشير إلى أن في الحديث اضطراباً، وأن قتادة اختلف عليه في ذلك كثيراً، ويمكن أن يقال: إن هذا الاضطراب الذي وقع في الطرق إلى شهر، إنما هي من شهر نفسه، لأنه متكلم في حفظه وضبطه، كما في ترجمته من (تهذيب الكمال 12/587) . والله أعلم.
وبناء على ما تقدم من نقد الطرق إلى ثوبان فإنها كلها معلولة سوى الطريق الأولى التي أخرجها أبو داود. وقد صحح حديث الباب جمع من الأئمة، منهم:
01 ابن المديني، كما نقله عنه الترمذي في (العلل الكبير) ص (123)
02 أحمد: ففي مسائل أبي داود ص (311) قال أحمد: " كل شيء يروى عن ثوبان فهو صحيح، يعني حديث مكحول هذا " ا. هـ.
وفي مسائل ابنه عبد الله (2/626) قال: شيبان جمع الحديثين جميعاً، يعني: حديث ثوبان، وحديث شداد بن أوس " ا. هـ وقد نص أحمد على الحديثين - أي ثوبان وشداد - كما في (طبقات الحنابلة 1/206) وفي مسائل (ابن هانئ 1/131) نص على أن أقوى حديث عنده هو حديث ثوبان. ونقل ابن حجر في (الفتح 4/209) عن عثمان الدرامي أنه قال: " صح حديث أفطر الحاجم والمحجوم، من طريق ثوبان، وشداد، قال: وسمعت أحمد يذكر ذلك، ولما قيل لأحمد: إن يحيى بن معين قال: ليس فيه شيء يثبت، قال: هذه مجازفة " انتهى بتصرف "
03 عثمان الدرامي، وقد تقدم آنفاً.
04 البخاري: نقله الترمذي في (العلل الكبير) ص (122) ،فأورد الترمذي عليه ما فيه من الاضطراب؟ فقال: كلاهما عندي صحيح؛ لأن يحيى بن أبي كثير، روى عن أبي قلابة عن أبي أسماء، عن ثوبان، وعن أبي الأشعث، عن شداد بن أوس، روى الحديثين جميعاً ا. هـ. قال ابن حجر معلقاً على ذلك في (الفتح 4/209) يعني فانتفى الاضطراب، وتعين الجمع بذلك " ا. هـ.
05 (ابن خزيمة 3/226) .
06 (ابن حبان 8/301) .
07 (الحاكم 1/427) .
08 ابن حزم في (المحلى 6/203) .
09 النووي في (المجموع 6/349-350) .
010 شيخ الإسلام بن تيمية في (مجموع الفتاوى 25/255) .
011ابن القيم: كما يدل عليه كلامه في (تهذيب السنن 3/243) وما بعدها وغيرهم من أهل العلم - رحمهم الله جميعاً -
وكلام الإمام أبي حاتم الرازي في (العلل) لابنه (1/249) ،يدل على أن الحديث عنده غلط، حيث قال - لما سئل عن حديث رافع بن خديج " أفطر الحاجم والمحجوم " الذي روى من طريق معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ عن السائب بن يزيد عن رافع - قال رحمه الله: " إنما يروي هذا الحديث عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء عن ثوبان، واغتر أحمد بن حنبل بأن قال: الحديثان عنده، وإنما يروى بذلك الإسناد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن كسب الحجام ومهر البغي، وهذا الحديث في يفطر الحاجم والمحجوم عندي باطل " ا. هـ.
ومراد أبي حاتم - رحمه الله - أن الراجح في حديث رافع هو قوله -صلى الله عليه وسلم - "كسب الحجام خبيث " الذي أخرجه مسلم وغيره أنه " أفطر الحاجم والمحجوم ". وأما رد أبي حاتم لهذا الحديث كله - كما يفهم من كلامه - فلعل سبب رده هو أنه يرى أن الحديث مضطرب الإسناد، إلا أن أبا حاتم خولف من بعض الأئمة الذي نصّ بعضهم على أن الحديث عن ثوبان وشداد - محفوظ لا اضطراب فيه كما تقدم آنفاً-. والله أعلم.
الحديث الثاني: حديث شداد بن أوس:
والبحث فيه كالبحث في سابقه من حيث كثرة الاختلاف فيه، وطول الكلام عليه، ولذا سأكتفي عن إيراده بحديث ثوبان - رضي الله عنه - وما حصل فيه من تفصيل، إلا أنه يحسن هنا أن أجيب على إيراد قد يورده بعض الفضلاء، ألا وهو: ألا يحتمل أن حديث ثوبان، وشداد كلاهما مضطرب؛ لأن مدار الحديثين على رجل واحد، وهو أبو قلابة؟
والجواب: أنه تقدم من كلام الإمام أحمد، والبخاري - في حديث ثوبان السابق - ما يبين أن كلا الحديثين محفوظ، وقد تبعهما على هذا الجواب؛ (ابن حبان 8/303) ، و (الحاكم 1/427) ،وابن حجر في (الفتح 4/209) ، بل يقال: إن جميع الأئمة الذين ثبت عنهم تصحيح الحديثين يقولون بذلك، إذ لو ثبت الاضطراب في الحديث عند أحدهم، لم يقل بتصحيح الحديثين.
هذا وقد صحح حديث شداد هذا جمع من الأئمة، ومنهم من تقدم ذكرهم في حديث ثوبان وهم: ابن المديني، وأحمد، وعثمان الدارمي، والبخاري، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وغيرهم، ويضاف إليهم هنا: الإمام إسحاق بن راهوية، كما نقله الحاكم (1/428) ، حيث قال: " هذا إسناد صحيح، تقوم به الحجة، وهذا الحديث قد صح بأسانيد، وبه نقول ا. هـ، وكذا صححه أبو جعفر العقيلي في (الضعفاء 4/456) والله تعالى أعلم.
بقي أن يقال: إن تصحيح الحديث، لا يكفي في الحكم به وحده على مسألة الحجامة للصائم؛ لأن في المسألة أحاديث كثيرة جعلت أهل العلم يختلفون في حكم الفطر بالحجامة؟ فمنهم من يرى أن هذا الحديث منسوخ، وأن الحجامة لا تفطر كما هو مذهب جماهير أهل العلم، ومنهم من أخذ بحديث الباب فقال: إن الحجامة تفطر، وهو المشهور من مذهب الحنابلة، ونصره من فقهاء الحديث ابن خزيمة، وابن المنذر، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه - رحم الله الجميع -.
وفي المسألة تفاصيل عند بعضهم من حيث تعليق الحكم بتأثير الحجامة على إضعاف الصائم وعدمه، وبإمكان القارئ الفاضل أن يراجع مظان هذه المسألة من كتب الشروح، والفقه، ومنها:
(المغني لابن قدامه 4/350) ، (البحر الرائق 2/294) ، و (شرح الزرقاني على مختصر خليل 1/92) ، و (فتح الباري 4/205) عند شرح الباب رقم (32) من كتاب الصيام، وهو: باب الحجامة والقئ للصائم. والله أعلم.(1/408)
صحة حديث دعوة الصائم عند فطره
المجيب عمر بن عبد الله المقبل
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 9/9/1422
السؤال
ما صحة حديث: ((ثلاثة لا تردّ دعوتهم ... )) وذكر منهم: ((والصائم حتى يفطر)) ؟
الجواب
حديث: " ثلاثة لا ترد دعوتهم ... ":
هذا الحديث رواه الإمام (الترمذي 4/580) كتاب صفة الجنة، باب ما جاء في صفة الجنة ونعيمها ح (2526) فقال:
حدثنا أبو كريب، حدثنا محمد بن فضيل، عن حمزة الزيات، عن زياد الطائي، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قلنا يا رسول الله، مالنا إذا كنا عندك رقت قلوبنا، وزهدنا في الدنيا، وكُنَّا من أهل الآخرة، فإذا خرجنا من عندك فآنسنا أهالينا، وشممنا أولادنا أنكرنا أنفسنا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لو أنكم تكونون إذا خرجتم من عندي كنتم على حالكم ذلك، لزارتكم الملائكة في بيوتكم، ولو لم تذنبوا لجاء الله بخلقٍ جديد كي يذنبوا فيغفر لهم "، قال: قلت يا رسول الله ممّ خُلِق الخلق؟ قال: "من الماء "، قلنا: الجنة ما بناؤها؟ قال: " لبنة من فضة ولبنة من ذهب، ومِلاطها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران، من دخلها ينعم ولا ييأس، ويُخلَّد ولا يموت، لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم"،ثم قال:" ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حين يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها فوق الغمام، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب -عز وجل-: وعزتي لأنصرنَّكِ ولو بعد حين ".
قال أبو عيسى: هذا حديث ليس إسناده بذاك القوي، وليس هو عندي بمتصل، وقد روي هذا الحديث بإسنادٍ آخر عن أبي مُدلَّة، عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-
وقبل أن ذكر الكلام عليه مفصلاً، أذكر خلاصة الحكم، فأقول:
1- الحديث مداره ـ على الراجح ـ على أبي مدلة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
2- إن أبا مدلة في عداد المجاهيل، ولم يتابعه أحد فيما وقفت عليه.
3- أنه قد ورد معنى هذا الحديث عن أنس -رضي الله عنه- وفيه ضعف ـ كما سأبينه ـ.
4- أن الأحاديث الواردة في إجابة دعوة المسافر ـ وإن كانت ضعيفة ـ إلا أن ذلك لا يعني ترك الصائم للدعاء، فإن الدعاء مشروع في كل وقت، بل دعاء الإنسان عند تلبسه بالعبادة أرجى في الإجابة، والله أعلم.
تخريجه:
*أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (380) ح (1075) عن حمزة الزيات، عن سعد الطائي، عن رجلٍ، عن أبي هريرة به بنحوه، فسمَّى شيخ حمزة: سعداً.
*وأخرجه (الترمذي 5/539) في الدعوات، باب في العفو والعافية ح (3598) من طريق عبد الله بن نمير، و (ابن ماجة 1/557) باب الصائم لا ترد دعوته ح (1752) ، و (أحمد 2/443،477) من طريق وكيع، و (الدارمي في 2/789) ح (2717) عن أبي عاصم النبيل، ثلاثتهم (ابن نمير، ووكيع، وأبو عاصم) عن سعدان بن بشر، والطيالسي ص (337) ، وأحمد 2/304 عن أبي كامل، وأبي النضر، وأحمد 2/305 عن حسن بن موسى، والطبراني في "الدعاء" (3/1414) ح (315) من طريق أحمد بن يونس، و (ابن حبان 8/214) ح (3428) ، وفي 16/396 ح (7387) من طريق فرح - بالحاء المهملة - ابن رواحة، ستتهم (الطيالسي، وأبو كامل، وأبو النضر، وحسن، وأحمد بن يونس، وفرح) عن زهير بن معاوية، و (ابن خزيمة 3/199) ح (1901) من طريق محمد بن عبد الرحمن المحاربي، عن عمرو بن قيس الملائي، ثلاثتهم (سعدان، وزهير، وعمرو) عن أبي مجاهد سعد بن عبيد الطائي، عن أبي مدلّة، عن أبي هريرة به بنحوه، إلاَّ أن وكيعاً، والطيالسي، وعمرو بن قيس اقتصر حديثهما على قوله: (ثلاثة لا ترد دعوتهم ... الخ) ، وفي الموضع الثاني - عند (أحمد 2/477) - قال وكيع في حديثه: (الصائم لا ترد دعوته) فحسب، وفي الموضع الأول عند أحمد عن وكيع (1/443) اقتصر حديثه على قوله: (الإمام العادل لا ترد دعوته) فحسب، ولفظ حديث فرح في الموضع الأول نحو حديث الطيالسي وعمرو الملائي، واقتصر حديث أبي عاصم على صفة بناء الجنة.
*وأخرجه (البزار 4/38) ح (3139) - كشف - من طريق إبراهيم بن خيثم بن عراك بن مالك، عن أبيه، عن جده، عن أبي هريرة بنحوه، إلاَّ أنه قال: "والمسافر حتى يرجع" بدلاً من "الإمام العادل".
الحكم عليه:
وقد تبين من التخريج أن الحديث رواه عن أبي هريرة اثنان، وهما: زياد (أو سعد) الطائي - كما سيأتي تحريره - وأبو مدلة، ولكن عند التأمل والنظر يتبين أنهما واحد، وبيان ذلك أن يقال:
إن محمد بن فضيل، رواه عن حمزة الزيات، عن زياد الطائي، عن أبي هريرة، وخالفه ابن المبارك، فرواه عن حمزة عن سعد الطائي - الذي هو أبو مجاهد - حدثه، عن رجل، عن أبي هريرة فذكره بنحوه، ورواية ابن المبارك أرجح من وجهين:
الأول: أن ابن المبارك ثقة ثبت فقيه عالم - كما في التقريب (320) ، وابن فضيل ليس في منزلته، على أن في روايته مخالفةً أخرى ـ كما سيأتي ـ.
الثاني: أن الرواة الآخرين عن أبي مجاهد رووه كذلك عنه عن أبي مدلة، فعاد حديث حمزة إلى رواية الجماعة.
وثمة مخالفة أخرى من ابن فضيل لابن المبارك في إسناده، وهو أن ابن فضيل قد أسقط الواسطة بين أبي هريرة وزياد الطائي، بينما رواه ابن المبارك بذكر الواسطة.
وقد سئل الدارقطني ـ كما في (العلل 11/235) ـ عن هذا الحديث فقال - بعد إشارته إلى الرواة عن أبي مجاهد الذين سبق ذكرهم -: "ورواه حمزة الزيات، عن سعد الطائي أبي مجاهد، وقال: عن رجل، عن أبي هريرة، وأحسبه لم يحفظ كنيته، فقال: عن رجل، وأراد أبا مدلَّة، والله أعلم، والحديث محفوظ" اهـ.
فالإمام الدارقطني، لم يشر إلى مخالفة ابن فضيل في إسناده، فكأنه لم يلتفت إليها، وإنما أشار إلى رواية ابن المبارك فحسب، وإلى هذا أشار الترمذي بقوله عن الطريق التي رواها ابن فضيل:" هذا حديث ليس إسناده بذاك القوي، وليس هو عندي بمتصل، وقد روي هذا الحديث بإسناد آخر عن أبي مدلَّة، عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
فكأنه يقول - رحمه الله -: إن هذا هو المحفوظ في حديث أبي مدلة عن أبي هريرة، وأن تسمية زياد وهْم، وبهذا يمكن أن تفسر كلمة الدارقطني بقوله: "والحديث محفوظ" أي من حديث أبي مدلة عن أبي هريرة، والله أعلم.
وإذا تبين أن مدار الحديث على أبي مجاهد، عن أبي مدلة، عن أبي هريرة، فقد حسنه الترمذي ح (3598) ،وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، وحسنه ابن حجر - كما في "الفتوحات الربانية" لابن علان (4/338) -.
وابن خزيمة - رحمه الله - قد صحح الحديث من طريق محمد بن عبد الرحمن المحاربي عن عمرو بن قيس الملائي، عن أبي مجاهد به، وقد قال الدارقطني - كما في (أطراف الغرائب 5/297) -:" تفرد به المحاربي محمد بن عبد الرحمن، عن عمرو بن قيسٍ بطوله، وروي عن قُرَّان بن تمام، عن عمر بعضه" اهـ.
وأبو مدلَّة - الذي مدار الحديث عليه - قال عنه ابن المديني - كما في (تهذيب التهذيب 12/204) -: " أبو مدلة مولى عائشة لا يعرف اسمه، مجهول، لم يرو عنه غير أبي مجاهد" اهـ.
وفي التقريب (671) : مقبول، ومثل هذا لا يحسن حديثه، خاصةً وأنه لم يتابع - فيما وقفت عليه - والله أعلم.
وفيما يتعلق بالطريق التي أخرجها البزار، فهي لا تصلح، لأن في إسنادها إبراهيم بن خيثم، قال عنه النسائي: "متروك" كما في "الميزان" 1/30.
وهذا الحديث قد اشتمل على عدة فقرات، إلاَّ أنني لم أجد ما يشهد له بهذا السياق، وأما المعنى الذي لأجله ذكر الحديث ههنا هذا الحديث وهو قوله: "ثلاث دعوات ... ومنها: والصائم حتى يفطر" فقد وقفت على حديث أخرجه (البيهقي 3/345) ، والضياء في (المختارة 6/74) ح (2057) من طريق إبراهيم بن بكر المروزي، عن عبد الله بن بكر السهمي، عن حميد الطويل، عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " ثلاث دعوات لا ترد: دعوة الوالد، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر ".
وفي إسناده إبراهيم بن بكر، لم أظفر له -بعد البحث - بترجمة، مع أنه في طبقة الإمام أحمد بن حنبل؛ لأن عبد الله بن بكر السهمي في طبقة شيوخ أحمد، فقد توفي سنة 208هـ، كما في التقريب (293) ، ومثل هذا لو كان مشهوراً، أو له عناية بالحديث لترجمه الأئمة أو بعضهم، ولكن لم أجد شيئاً من هذا، إلاَّ أن ابن الجوزي قال - كما نقله عنه الذهبي في "الميزان" 1/24 -:"وإبراهيم بن بكر ستة، لا نعلم فيهم ضعفاً سوى هذا " يعني الشيباني الأعور، قال الذهبي معلقاً:" قلت: ولو سماهم لأفادنا، فما ذكر ابن أبي حاتم منهم أحداً " اهـ، فكلمة الذهبي فيها ردٌ لكلمة ابن الجوزي؛ لأنهم لو كانوا معروفين بحمل العلم لترجمهم الأئمة.
وفي الإسناد أيضاً عنعنة حميد، وهو كثير التدليس حتى قيل إن معظم ما يرويه عن أنس، رواه بواسطة ثابت وقتادة - كما في تعريف أهل التقديس (133،134) - ولم أقف على غير هذا الحديث.(1/409)
صحة حديث (صوموا تصِحُّوا)
المجيب عمر بن عبد الله المقبل
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 2/9/1422
السؤال
نرجوا بيان صحة حديث: صوموا تصِحُّوا:
الجواب
هذا الحديث روي عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - منهم:
01 أبو هريرة - رضي الله عنه -: أخرج حديثه العقيلي في " الضعفاء " 2/92 في ترجمة زهير بن محمد التميمي، والطبراني في " الأوسط " 8/213 ح (8312) من طريق زهير بن محمد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - بلفظ: " اغزوا تغنموا، وصوموا تصحوا، وسافروا تستغنوا ".
قال العقيلي عقب إخراجه: " لا يتابع عليه إلا من وجه فيه لين ".
وقال الطبراني: " لم يروِ هذا الحديث عن سهيل بهذا اللفظ إلا زهير "
وضعفه العراقي في " تخريج الإحياء" 3/115
02 علي - رضي الله عنه - أخرجه ابن عدي في " الكامل " 2/357 من طريق حسين بن عبد الله بن ضميرة بن أبي ضميرة، عن أبيه عن جده، عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " صوموا تصحوا " وإسناده تالف؛ لأن حسيناً هذا متروك الحديث كما قاله أحمد والنسائي وغيرهما، وقال عنه البخاري: منكر الحديث، كما ذكر ذلك ابن عدي عنهم.
03 عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أخرجه ابن عدي في " الكامل " 7/57 من طريق نهشل بن سعيد عن الضحاك، عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " سافروا تصحوا، وصوموا تصحوا، واغزوا تغنموا ".
وإسناده ضعيف جداً، إن لم يكن موضوعاً؛ لأن نهشل بن سعيد قال عنه ابن راهويه: كان كذاباً، وقال النسائي: متروك الحديث.
وخلاصة القول:
أن الحديث روي عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم -، ولا يصح منها عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم - شيء، ولا يعني ذلك بطلان معناه؛ لأن الأطباء يتحدثون كثيراً عن فوائد الصيام الصحية، وهو أمر مشاهد ومعروف، بل هو - أي الصيام - من الأساليب التي يستخدمها بعض الأطباء لعلاج بعض الأعراض، ولكن هنا ينبغي التنبُّه لأمرين:
الأول: أن المحدثين يهتمون ببيان صحة الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهل هو ثابت عنه من ذلك الطريق أم لا؟ وقد يكون معناه صحيحاً، أو صح موقوفاً عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - إلا أن صحة المعنى أو ثبوته عن الصحابي شيء، وصحة نسبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - شيء آخر.
الثاني: أن بعض الناس حينما يتحدث عن فوائد بعض العبادات الصحية أو الطبية، يوغل في ذلك ويبالغ مبالغة غير محمودة، حتى إنه ليخيل لبعض المستمعين أن تلك العبادة إنما شرعت لهذه الفوائد الطبية أو تلك، وهذا خطأ! لأن الغاية العظمى من مشروعية العبادات هي تعبيد الناس لرب العالمين - جل جلاله - وحصول التذلل له -سبحانه- وزيادة الإيمان بالإقبال عليه - تبارك وتعالى -، وحصول التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - الذي شرع وبين لأمته هذه العبادات العظيمة.. نعم، في العبادات فوائد صحية وبدنية، لكنها تبع، وليست أصلاً، فينبغي أن تعطى حجمها اللائق بها، والله أعلم.(1/410)
صحة حديث " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته "
المجيب عمر بن عبد الله المقبل
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 4/9/1422
السؤال
ما صحة حديث: " صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته"؟
الجواب
هذا اللفظ هو جزء من حديث روي عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - وحديث بعضهم في الصحيحين، ولذا فسأقتصر على ذكر اثنين منهم، وهما: أبو هريرة، وابن عمر -رضي الله عنهما -.
فأما حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: فأخرجه (البخاري 2/32) ح (1909) ، و (مسلم 2/762) ح (1081) وأما حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - فأخرجه (البخاري 2/30) ح (1900) ، و (مسلم 2/759) ح (1080) .(1/411)
صحة حديث "إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة"
المجيب عمر بن عبد الله المقبل
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 5/9/1422
السؤال
نرجو منكم بيان درجة حديث: " إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين "
الجواب
هذا الحديث متفق على صحته من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - فقد أخرجه (البخاري 2/30) ح (1899) ، و (مسلم 2/758) ح (1079) . ولفظ البخاري: " إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين" ولفظ مسلم " إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وفي لفظ (الرحمة) - وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين".(1/412)
متى يحكم الباحث على الأحاديث؟
المجيب د. الشريف حاتم بن عارف العوني
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 22/6/1423
السؤال
متى يحكم طالب العلم المتخصص في علم الحديث على حديث ما بالصحة
أو الضعف؟
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثره واتقى حدّه، أما بعد:
فأقول وبالله التوفيق:
إن الطالب الذي يتخصص في علوم السنة النبوية قد يكون في مراحل طلبه الأولى، وقد يكون تجاوز ذلك، ولا أقصد بذلك الزمن أو المراحل التعليمية والشهادات والألقاب، فكم من رجل يمضي عمره ويشيخ في السن ولم يزل في أولى مراحل الطلب، وكم من دكتور في علوم السنة ولما يزل في أولى تلك المراحل.
ولكني قصدت مراحل التعليم الحقيقية التي يترقى من خلالها طالب العلم، حتى يصل إلى الحد الذي يُمكن الطالب فيه أن يفهم مآخذ الأحكام على الأحاديث وطريقة الوصول إليها، وكنت قد ذكرت في مناسبة قديمة السلم التعليمي الذي إذا سار عليه طالب علم الحديث، رجي له أن يصل إلى حد الإفادة، ويمكن أن أضع ضابطاً إجمالياً للحد الذي إذا بلغه طالب العلم يكون معه متأهلاً للحكم على الأحاديث بدراسة أسانيدها، وهو أن تكون غالب أحكامه صواباً ويعرف أن غالب أحكامه صواب، بأن توافق أحكامه -غالباً- أحكام الأئمة المعتمدين، لا تقليداً، ولكن اتباعاً وفهماً لدليل الحكم.
فإذا وصل الطالب إلى هذا الحد، حق له أن يحكم على الأحاديث التي يظهر له فيها وجه الحكم، ويبقى أنه لا بد أن يقف على أحاديث لا يظهر له فيها وجه الحكم، فلا ينسى حينها أن يقول: لا أدري.
ثم إن الأحاديث التي يحكم عليها المتأخر من المتخصصين في علوم السنة تنقسم قسمين:
الأول: الأحاديث التي سبق إلى الحكم عليها بنحو حكمه عليها -صراحة أو تلميحاً- من إمام متقدم من النقاد المعتبرين، فهذه يكون حكمه عليها شاملاً الإسناد والمتن؛ لأن الناقد المتقدم قد قام بما يعجز عنه المتأخر من نفي وجود العلل الخفية عند الحكم على الحديث بالصحة، أو نفي وجود المتابعة المقوية للحديث عند الحكم عليه بالضعف.
الثاني: الأحاديث التي لم يُسبق إلى الحكم عليها، وهذه ليكن حكمه عليها مقتصراً على الإسناد وحده دون المتن؛ لأن المتأخرين لم تتحقق فيهم أهلية الاستقلال بالحكم على المتن.
وقد سبق الجواب في هذا الموقع عن الفرق بين الحكم على الإسناد والحكم على المتن، وبينت في الجواب إفادة الحكم على الإسناد وحده، وأنها تقيم الحجة بالحديث المحكوم على إسناده بالقبول -صحة أو حسناً-، وأنها أيضاً إفادة بعدم الثبوت وعدم القبول للحديث المحكوم على إسناده بالضعف، هذا والله أعلم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه والتابعين.(1/413)
حديث باطل
المجيب د. الشريف حاتم بن عارف العوني
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 14/11/1422
السؤال
قرأت حديثاً شريفاً ولكنني غير متأكدة من صحته، والحديث هو: قال الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: يا علي لا تنم قبل أن تأتي بخمسة أشياء هي: قراءة القرآن كله، والتصدُّق بأربعة آلاف درهم، وزيارة الكعبة، وحفظ مكانك في الجنة، ورضاء الخصوم. فقال علي - كرم الله وجهه -: كيف ذلك يا رسول الله؟ " فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أما تعلم أنك إذا قرأت (قل هو الله أحد) إلى آخره ثلاث مرات فقد قرأت القرآن كله، وإذا قرأت (سورة الفاتحة) أربع مرات فقد تصدقت بأربعة آلاف درهم، وإذا قلت (لا إله إلا الله يحي ويميت وهو على كل شيء قدير) عشر مرات فقد زرت الكعبة، وإذا قلت (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) عشر مرات فقد حفظت مكانك في الجنة، وإذا قلت (أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه) فقد أرضيت الخصوم. أرجو من حضرتكم معرفة ما إذا كان هذا الحديث صحيحاً أم أنه موضوع؟
الجواب
جواباً على سؤال السائلة عن حديث: " يا علي، لا تنم قبل أن تأتي بخمسة أشياء، هي: قراءة القرآن كله، والتصدُّق بأربعة آلاف درهم، وزيارة الكعبة، وحفظ مكانك في الجنة، ورضاء الخصوم..) إلى آخره.
فأقول إن هذا الحديث حديث باطل لا أصل له، وفيه من علامات الوضع ما لا يخفى على أهل العلم، مع أنه قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن قراءة سورة الإخلاص: " قل هو الله أحد " تعدل ثلث القرآن انظر ما رواه البخاري (5013) ومسلم (811) ، وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في فضل سورة الفاتحة أحاديث متعددة انظر ما رواه البخاري (4474) ومسلم (806) ، وكذلك صح في صنوف الذكر من التهليل والتسبيح والتحميد والتكبير وغير ذلك أحاديث ووردت فيها نصوص، لكن هذا الحديث المسؤول عنه بهذا اللفظ وبهذه المقادير والأجور والخصائص لا يصح، وفي هذا السياق فإني أنبه إلى أن هناك كتاباً يتضمن وصايا من النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وقد طُبع مراراً أنه كتاب مكذوب على نبينا - صلى الله عليه وسلم -، يجب الحذر منه وتحذير الناس منه. وقد نبّه العلماء على كذب غالب الوصايا المنسوبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - زوراً وبهتاناً والموجَّهة - بزعمهم- إلى عليّ - رضي الله عنه - مبدوءة بعبارة: " يا علي " حتى قال بعض أهل العلم: " إن وصايا علي المصدّرة بياء النداء كلها موضوعة غير قوله - صلى الله عليه وسلم -: " يا علي، أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي " فقد رواه أحمد (27467) وانظر ما رواه البخاري (3706) ومسلم (2404) وإن كان في هذا الحصر نظر، لكن يبقى أن غالب هذه الوصايا مكذوب، فعلى المسلم أن يحذر من أمثال هذه الأحاديث وأن يسأل عنها أهل العلم.
ومن هذه الوصايا ما أورده ابن الجوزي في الموضوعات (رقم 1677، 1678) والصنعاني في الموضوعات (رقم 9،8) ، والسيوطي في اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة (2/373 - 376) ، والأسرار المرفوعة لملا علي القارئ (رقم 614) والمصنوع في معرفة الحديث الموضوع له أيضاً (رقم 436) والتنكيت والإفادة لابن هِمّات (44-45) . والله أعلم. والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.(1/414)
صحة حديث: فرعون هذه الأمة
المجيب د. الشريف حاتم بن عارف العوني
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 21/11/1422
السؤال
ما صحة قول النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أبي جهل "إنه فرعون هذه الأمة " عندما أخبره ابن مسعود عن قتله إياه، فإن كان صحيحاً كيف يكون أبو جهل من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد مات كافراً، ومن المعلوم أنه إذا أطلق لفظ "أمة محمد " قصد به المسلمون دون غيرهم؟
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثره واتقى حده. أما بعد.
فجواباً عن سؤال القائل: " ما صحة قول النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أبي جهل " إنه فرعون هذه الأمة.. " يعني السائل: هل ثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم- ثم يسأل عن وجه وصف أبي جهل بأنه فرعون هذه الأمة، مع أن أمة محمد هم المسلمون فقط دون غيرهم. فأقول وبالله التوفيق:
أولاً: الحديث المذكور أخرجه الإمام أحمد (رقم 3824، 3825، 4246، 4247) وأبو داود مختصراً ليس فيه موطن الشاهد (رقم 2716) ، والنسائي في السنن الكبرى مختصراً (رقم 8617) وغيرهم من طريق أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه - رضي الله عنه - بقصة مقتل أبي جهل يوم بدر، وفيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " هذا فرعون هذه الأمة ". غير أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه كما عليه عامة من تكلم في هذا الإسناد من أهل العلم، وانظر البحث القوي للشيخ أبي إسحاق الحويني في هذه المسألة الإسنادية المذكورة في كتابه. (النافلة في الأحاديث الضعيفة والباطلة 1/26 31 رقم 6) ولذلك قال ابن حزم في المحلى (9/389) عن هذا الحديث " إسناده متكلم فيه " وللحديث متابعات كلها لا تصح، ومرجعها إلى أن تكون وهماً عن الرواية السابقة كما بين ذلك النسائي في الكبرى (رقم 5961) والدارقطني في العلل (5/294-295 رقم 893) والبيهقي في الكبرى (9/92-93) مع أن أصل قصة مقتل أبي جهل ثابت صحيح لكن دون ذكر الكلمة المسؤول عنها - فانظر صحيح البخاري (رقم3141،3964،3963،3962،3961) وصحيح مسلم (رقم 1800) .
ومع ما ذكرناه من الكلام في إسناد هذا الخبر إلا أنه قابل للتحسين، لعلم أبي عبيدة بأبيه وتقصيه لأحواله، ولذلك كان الترمذي غالباً ما يُحَسَّن أحاديث أبي عبيدة عن أبيه.
والخلاصة: أن هذه اللفظة ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: أما ما استشكله السائل من وصف أبي جهل بكونه من هذه الأمة، فجوابه أن الأمة في اللغة تطلق على كل جماعة يجمعها أمرٌ، ما إما دين واحد، أو زمان واحد، أو مكان واحد، أو نسب واحد، وغير ذلك. أما أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فيقول الإمام النووي في تهذيب الأسماء واللغات (3/11) : " لفظة الأمة تطلق على معانٍ منها: من صَدَّق النبي - صلى الله عليه وسلم - وآمن بما جاء به واتبعه فيه، وهذا هو الذي جاء مدحه في الكتاب والسنة كقوله - تعالى-: " وكذلك جعلناكم أمة وسطاً " و " كنتم خير أمة " وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: " شفاعتي لأمتي " وقوله: " تأتي أمتي غُراً محجلين " وغير ذلك، ومنها من بُعِِثَ إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من مسلم وكافر، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة: يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار " رواه مسلم في صحيحه (رقم 153) في كتاب الإيمان.
وهذان القسمان من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - هما اللذان اصطلح العلماء على تسميتهما بأمة الإجابة (وهم المسلمون) وأمة الدعوة (وهم كل أهل الملل ممن أدرك بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو جاء بعدها إلى قيام الساعة) .
ومن العلماء من يقسم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى ثلاثة أقسام: أمة الاتباع (وهم أهل العمل الصالح من المسلمين) وأمة الإجابة (وهم مطلق المسلمين) وأمة الدعوة (وهم من عداهم ممن بُعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم) كما تراه في فتح الباري لابن حجر (11/411) .
وعلى هذا فإنما وصف أبو جهل بأنه فرعون هذه الأمة لأنه من أمة الدعوة أي من الأمة المطالبة بالإيمان بدين الإسلام الذي بعث به النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس في هذه الإضافة إلى أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أي تشريف، إنما التشريف يكون لمن كان من أمة الإجابة والاتباع فقط دون أمة الدعوة. والله الهادي إلى سواء السبيل ولا حول ولا قوة إلا بالله، والله أعلم. والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.(1/415)
صحة حديث "رحم الله امرأً صلى قبل العصر أربعاً"
المجيب د. الشريف حاتم بن عارف العوني
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 18/1/1425هـ
السؤال
ما صحة الحديث: " رحم الله امرأً صلى قبل العصر أربعاً ".
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
حديث: " رحم الله امرأً صلى قبل العصر أربعاً" من الأحاديث التي اختلف فيها، والحكم عليه فيه دقة بالغة , والذي أميل إليه التوقف فيه. فقد أخرجه الإمام أحمد (5980) ، وأبو داود (1265) ، والترمذي (430) وقال: حديث غريب حسن (430) ، وابن خزيمة في صحيحه (1193) ، وابن حبان في صحيحه (2453) ،كهلم من طريق أبي داود الطيالسي عن محمد بن إبراهيم بن مسلم بن مهران بن المثنى عن جدَّه أبي المثنى مسلم بن المثنى، عن ابن عمر - رضي الله عنهما-، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وسبب الخلاف هو شيخ أبي داود الطيالسي: محمد بن إبراهيم بن مسلم فإنه تفرد بأحاديث عن جدَّه، منها هذا الحديث، والتفرد يُلزم التثبت في الرواية، بل ربما في الراوي نفسه، خاصة مع قلة حديث مثل هذا الراوي، ويُنظر هل يقع في ضبطه وإتقانه ما يجبر تفرده؟ وهل طبقته تحتمل أن يتفرد بما تفرد به؟ فذهب الترمذي وابن خزيمة وابن حبان إلى قبول حديثه، وهذا يقتضي أنهم قد قبلوا روايته ورأوه أهلاً لضبط ما نقل، في حين قال الفلاس: أنه ذكر لعبد الرحمن بن مهدي حديثاً تفرد به هذا الراوي عن جده عن ابن عمر في الوتر، قال: " فأنكره، ولم يرض الشيخ " وتابعه الفلاس فقال عنه:" روى عنه أبو داود الطيالسي أحاديث منكرة في السواك وغيره ". وسُئل أبو زرعة الرازي عنه، مُعرَّفاً في السؤال بأنه الذي روى عن جده عن ابن عمر - رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-:" من صلى قبل العصر" فقال أبو زرعة: " واهي الحديث " ولم يرد شيء من هذه الأقوال في هذا الراوي في ترجمته في تهذيب التهذيب (9/16-17) وإنما ورد في الجرح والتعديل (8/78) والكامل لابن عدي (6/243) وقد أورد ابن عدي كلمة ابن مهدي في ترجمة هذا الراوي، وأخرج له ثلاثة أحاديث وكان منها حديثه هذا ثم قال: " ومحمد بن مسلم بن مهران " هذا ليس له من الحديث إلا اليسير، ومقدار ماله من الحديث لا يتبين صدقه من كذبه " وهذا الذي ذهب إليه ابن عدي هو ما أرجحه، وهو التوقف عن الحكم على الراوي وعلى حديثه.
والله أعلم بالصواب. والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه والتابعين.(1/416)
صحة حديث "كل عمل ابن آدم له يؤجر عليه إلا البناء"
المجيب د. محمد بن تركي التركي
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 4/12/1422
السؤال
ما مدى صحة حديث " كل عمل ابن آدم له يؤجر عليه إلا البناء"، وما هو فقه الحديث -إن صح-، وكيف الجمع بينه وبين الأحاديث التي تدل على أجر المسلم فيما ينفقه على أهله.
الجواب
الحديث الذي أشار إليه السائل هو ما ورد عن خباب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " يؤجر الرجل في نفقته كلها إلا التراب"، وفي رواية: " إلا البناء "، والحديث أخرجه أحمد بإسناد رجاله ثقات، كما أخرجه الترمذي، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وانظر تمام تخريجه في هامش المسند (طبعة مؤسسة الرسالة 34/539، رقم 21059) ، ومعنى الحديث محمول على ما لا حاجة للإنسان فيه.
قال الحافظ ابن حجر بعد إشارته لهذا الحديث، ونحو مما ورد في معناه، قال:"وهذا كله محمول على ما لا تمس الحاجة إليه مما لا بد منه للتوطن، وما يقي البرد والحر". (فتح الباري 11/95، الحديث رقم 6302) ، وقال المباركفوري في شرحه على الترمذي: "وهذا في بناء لم يقصد به قربة أو كان فوق الحاجة".
ولما تقدم فلا معارضة بينه وبين ما ذكره السائل من أنه قد يفهم منه تعارض هذا الحديث مع الأحاديث الدالة على أجر المسلم فيما ينفقه على أهله؛ لأن البناء الذي يبنيه الرجل له ولأهله مما يريد به الاستقرار فيه، وغير ذلك مما هو معلوم من حاجة الإنسان للبناء، فهذا كله داخل في النفقة على الأهل، ولعله أن لا يحرم الأجر - إن شاء الله -، وخاصة مع الاحتساب في ذلك، والله أعلم.(1/417)
صحة حديث "من زار قبري وجبت له شفاعتي"
المجيب د. أحمد بن سعد بن حمدان الغامدي
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 6/12/1422
السؤال
ما صحة الحديث الذي يقول:" من زار قبري وجبت له شفاعتي"؟
الجواب
أولاً: يشكر الأخ السائل على حرصه على البحث عن درجة الحديث إذ ليس كل حديث في الكتب يكون صحيحاً، فيجب على المسلم قبل أخذ الحديث التأكد من صحته.
ثانياً: هذا الحديث هو فقرة من حديث موضوع، قال ابن عبد الهادي:"هو حديث موضوع مكذوب مختلق مفتعل مصنوع من النسخة الموضوعة المكذوبة الملصقة بسمعان المهدي قبح الله واضعها ... "، وللحديث رواية أخرى رواها أبو داود الطيالسي (65) ، ورواها البيهقي في (الشعب والسنن) ثم قال في (السنن) :" إسناد مجهول" (5/245) .
ثالثاً: زيارة القبور مشروعة ما لم ينشئ لها سفراً، فأما السفر للزيارة فلا يجوز قال -صلى الله عليه وسلم-:" كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" رواه مسلم (977) من حديث بريدة بن الحصيب -رضي الله عنه-، وقال - صلى الله عليه وسلم -:" لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى" متفق عليه عند البخاري (1189) ومسلم (827) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.
رابعاً: زيارة مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - مستحبة، ثم بعد ذلك يزور قبره - صلى الله عليه وسلم -، والله الموفق.(1/418)
صحة حديث" تعلموا السحر ولا تعملوا به"
المجيب عبد العزيز بن باز - رحمه الله -
المفتي العام للمملكة العربية السعودية سابقاً
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 27/12/1422
السؤال
ما صحة الحديث الذي يقول:" تعلموا السحر ولا تعملوا به"؟
الجواب
سئل الشيخ/ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - عن هذا الحديث، نذكر لك فيما يلي نص السؤال والإجابة:
السؤال: ما صحة حديث سمعته عن النبي - صلى الله عليه وسلم-: " تعلموا السحر ولا تعملوا به"؟
الجواب:
هذا الحديث باطل لا أصل له، ولا يجوز تعلم السحر ولا العمل به، وذلك منكر بل كفر وضلال، وقد بين الله إنكاره للسحر في كتابه الكريم في قوله -تعالى-:" واتبعوا ما تتلوا الشياطين على مُلك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يُعلمان من أحدٍ حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحدٍ إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خيرٌ لو كانوا يعلمون " [البقرة:102-103] ، فأوضح -سبحانه- في هذه الآيات أن السحر كفر، وأنه من تعليم الشياطين، وقد ذمهم الله على ذلك وهم أعداؤنا، ثم بين أن تعليم السحر كفر، وأنه يضر ولا ينفع، فالواجب الحذر منه؛ لأن تعلم السحر كله كفر، ولهذا أخبر عن الملكين أنهما لا يعلمان الناس حتى يقولا للمتعلم إنما نحن فتنة فلا تكفر، ثم قال: " وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله " فعلم أنه كفر وضلال، وأن السحرة لا يضرون أحداً إلا بإذن الله، والمراد بذلك إذنه -سبحانه- الكوني القدري لا الشرعي الديني؛ لأنه -سبحانه- لم يشرعه ولم يأذن فيه شرعاً، بل حرمه ونهى عنه، وبين أنه كفر ومن تعليم الشياطين، كما أوضح -سبحانه- أن من اشتراه، أي: اعتاضه وتعلمه ليس له في الآخرة من خلاق؛ أي: من حظ ولا نصب، وهذا وعيد عظيم، ثم قال -سبحانه-:" ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون"، والمعنى: باعوا أنفسهم للشيطان بهذا السحر، ثم قال -سبحانه-:" ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون" فدل ذلك على أن تعلم السحر والعمل به ضد الإيمان والتقوى ومناف لهما، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
[مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن باز - رحمه الله - (الجزء 6ص 371) ](1/419)
بطلان حديث أوس في التوسل بالنبي -صلى الله عليه وسلم-
المجيب د. فهد بن عبد الرحمن اليحيى
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 14/11/1424هـ
السؤال
قرأت هذا الحديث في مقدمة سنن الدارمي، وقد ذكر لي أن الدارمي من علماء الحديث، أفلا يدل على جواز التوسل بالنبي -صلى الله عليه وسلم- خاصة وأن الذي أمرهم بذلك السيدة عائشة -رضي الله عنها-؟
عن أبي الجوزاء أوس بن عبد الله قال: "قحط أهل المدينة قحطاً شديداً، فشكوا إلى عائشة فقالت: "انظروا قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فاجعلوا منه كوى إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، قال: ففعلوا فمطرنا مطراً حتى نبت العشب، وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم فسمي عام الفتق.
الجواب
لا شك أن الدارمي -رحمه الله- من علماء الحديث ومن أصحاب الكتب المصنفة فيه، ولكن لا تلازم بين عدالة وإمامة الجامع للأحاديث في مصنف، وبين صحة كل ما ورد فيه؛ لأنه يذكر الأحاديث بأسانيدها، ويستطيع الباحث عن صحتها بعد ذلك أن يعرف هل هي صحيحة أو لا من خلال البحث؟
فهذا الحديث أخرجه الدارمي في سننه رقم (92) باللفظ المذكور في السؤال، ولكن الحديث فيه علل من حيث الإسناد ومن حيث المتن، فأما من حيث الإسناد:
1-فيه سعيد بن زيد، نقل العقيلي في الضعفاء عن يحيى بن معين أنه ضعيف، وأنه ليس بشيء، وضعفه يحيى بن سعيد.
فإذا انفرد في مثل هذا الحديث فهذه علة قوية.
2-فيه أبو النعمان: محمد بن الفضل الملقب بعارم، قال فيه الحافظ في التقريب: ثقة ثبت تغير في آخر عمره، وقد نص على اختلاطه البخاري وأبو حاتم والعقيلي والنسائي والدارقطني.
3-فيه عمرو بن مالك النكري قال فيه ابن حبان: يخطئ ويغرب، وقال في الكامل في الضعفاء: منكر الحديث عن الثقات ويسرق الحديث، وقال ابن حجر في التقريب: صدوق له أوهام، وإن كان قد نقل في التهذيب من الطعن فيه ما يظهر للناظر أنه أدنى مرتبة من قوله صدوق له أوهام، والله أعلم.
وأما من حيث المتن:
1-ما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على البكري، وما روي عن عائشة -رضي الله عنها- من فتح الكوة من قبره إلى السماء لينزل المطر فليس بصحيح، ولا يثبت إسناده، ومما يبين كذب هذا أنه في مدة حياة عائشة -رضي الله عنها- لم يكن للبيت كوة، بل كان باقياً كما كان على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، بعضه مسقوف وبعضه مكشوف، وكانت الشمس تنزل فيه كما ثبت في الصحيحين البخاري (545) ومسلم (610) عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى العصر والشمس في حجرتها لم يظهر الفيء من حجرتها، ولم تزل الحجرة كذلك في مسجد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ومن حينئذ دخلت الحجرة النبوية في المسجد، ثم إنه بني حول حجرة عائشة -رضي الله عنها- التي فيها قبر جدار عال، وبعد ذلك جعلت الكوة لينزل منها من ينزل إذا احتيج إلى ذلك لأجل كنس أو تنظيف، وأما وجود الكوة في حياة عائشة -رضي الله عنها- فكذب بين، ولو صح ذلك لكان حجة ودليلاً على أن القوم لم يكونوا يقسمون على الله، وإنما فتحوا على القبر لتتنزل الرحمة عليه، ولم يكن بدعائه أو بعلمه، فإن الله -تعالى- يحب أن نتوسل إليه بالإيمان والعمل والصلاة والسلام على نبيه -صلى الله عليه وسلم- ومحبته وطاعته وموالاته، فهذه هي الأمور التي يحب الله أن نتوسل بها إليه.
2-أن هذا الأثر فيه غرابة؛ لأن فتح السقف على القبر كيف يكون له أثر في نزول المطر؟! فهل المقصود أن يكون القبر حينئذ أقرب إلى الله؟ فكيف يقال هذا والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول عند وفاته: "في الرفيق الأعلى في الرفيق الأعلى"، كما في الصحيحين البخاري (4451) ومسلم (2192) من حديث عائشة -رضي الله عنها-؟ فمنزلته -عليه الصلاة والسلام- أعلى من أن يتصور أن يحول بينه وبين قربه من ربه سقف الحجرة فضلاً عن غيره.
وإن كان المقصود أن ينزل المطر على قبره، فإذاً كان قبره بحاجة إلى تنزل الرحمة عليه كما أشار إلى ذلك ابن تيمية، مع أن تنزل المطر على قبره لا يظهر كونه سبباً للاستسقاء.
3-أن من يستدل بهذا الأثر إنما يستدل به على التوسل بذات النبي -صلى الله عليه وسلم- كما هو وارد في السؤال أيضاً.
وهذا الاستدلال لا يستقيم حتى مع صحة الأثر، ولو كان باتفاق الصحابة -رضي الله عنهم-، وذلك أن الأثر ليس فيه إلا فتح الكوى، فليس فيه أن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أمرتهم بالتوسل بذاته -عليه الصلاة والسلام- وقالت: قولوا: اللهم اسقنا بنبيك أو بجاهه ونحو ذلك.
4-أن هذا الأثر -على فرض صحته- هو من قبيل الموقوف عن عائشة -رضي الله عنها-، وحينئذ فقد يكون اجتهاداً منها في هذه المسألة لم ينقل عن غيرها مثله، ومن استقرأ ما جاء عن الصحابة -رضي الله عنهم- تبين له أنهم لم يكونوا يتوسلون بذات النبي -صلى الله عليه وسلم-، مع أنهم أصدق الناس له حباً وأكملهم له اتباعاً، بل كانوا يتوسلون بدعائه -صلى الله عليه وسلم- في حياته، وأما بعد مماته فكانوا يدعون الله مباشرة، أو يطلبون ممن يرونه أصلح منهم وأتقى لله وأقرب إليه أن يدعو لهم كما في قصة عمر -رضي الله عنه- في توسله بالعباس -رضي الله عنه- حين قحطوا وذلك بطلب الدعاء منه، وهذا في البخاري (1010) من حديث أنس -رضي الله عنه-، وكذلك طلبه من أويس القرني أن يدعو له، وهذا في مسلم (2542) من حديث أُسير بن جابر -رضي الله عنه-، وكما طلب معاوية -رضي الله عنه- من يزيد بن الأسود أن يدعو في الاستسقاء.
وهذا يدل على أنهم لم يكونوا يتوسلون بذات النبي -صلى الله عليه وسلم-، إذ لو كانوا يرون التوسل به جائزاً ما عدلوا عنه إلى غيره، بل إن عمر -رضي الله عنه- وهو من هو في العلم والدين والفضل لم يتوجه إلى قبر المصطفى -عليه الصلاة والسلام- عند الاستسقاء، بل إنما طلب من العباس -رضي الله عنه- الدعاء، وكان هذا بمجمع من الصحابة -رضي الله عنهم-، ومع ذلك لم ينقل أن أحداًَ منهم أرشده إلى غير ما فعله (سبق تخريجه) .
فلو فرض ثبوت النقل عن أحد من الصحابة -رضي الله عنهم- بخلاف ذلك كما في هذا الأثر عن عائشة -رضي الله عنها- لو صح، وكما ورد في أثر آخر أيضاً لم يثبت عن عثمان بن حنيف -رضي الله عنه- فهذا لا يقاوم ما ثبت عن جمهورهم من ترك ذلك، وما زال بعض الصحابة -رضي الله عنهم- يقول القول ولا يوافق عليه سائرهم، كما كان ابن عمر -رضي الله عنهما- يغسل عينيه في الوضوء. وكما كان أبو هريرة -رضي الله عنه- يغسل ذراعيه حتى يبلغ الإبط، وكقول ابن عباس في العول وبعض مسائل الفرائض وغير ذلك. بل عائشة -رضي الله عنها- جاء عنها بعض مسائل لم يوافقها عليها سائر الصحابة -رضي الله عنهم- وعامة الأمة كثبوت المحرمية برضاع الكبير وغيرها. وقول الصحابي إنما يكون حجة حين يوافقه بقية الصحابة -رضي الله عنهم- فيصبح إجماعاً. أو لا ينقل عن غيره مخالفة له، أو لا يعرف له مخالف، فقوله حينئذ حجة عند طوائف من أهل العلم.
5-أن هذا الأثر لو صح أو صح غيره مما يدل على التوسل بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، واعتقد الناظر صحة تلك الأدلة، وأنه لا معارض لها فينبغي حينئذ أن يقتصر على التوسل بالنبي -صلى الله عليه وسلم- دون غيره، فإن إلحاق غيره به لا يصح بحال، ولا يمكن الاستدلال له بذات الأدلة؛ لما لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الخصوصية والمنزلة التي لا يشاركه -بل ولا يدانيه- فيها غيره.
وهذا على فرض صحة الأدلة وسلامتها من المعارض، مع أنا قد بينا خلاف ذلك، وليس لأحد حين يتبين له الحق أن يحيد عنه إلى غيره، وقد تبين له ضعف دليله، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(1/420)
أحاديث شهر رجب
المجيب محمد بن ناصر السلمي
القاضي في وزارة العدل
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 06/07/1426هـ
السؤال
حفظكم الله يا شيخ: أود معرفة صحة هذه الأحاديث الأربعة، وحبذا يا شيخنا إعطائي مصدر تضعيفها؛ لكي يتسنى لي البحث في الأحاديث الموضوعة والضعيفة في شهر رجب.
الأحاديث هي كالتالي:
(1) رجب شهر الله وشعبان شهري ورمضان شهر أمتي.
(2) عن علي- رضي الله عنه-: من صام يوماً من رجب كتب الله له صوم ألف سنة، ومن صام منه سبعة أيام أغلقت عنه أبواب جهنم، ومن صام منه خمسة عشر يوماً بدلت سيئاته حسنات، ونادى مناد من السماء: قد غفر لك فاستأنف العمل.
(3) إن في الجنة نهراً يقال له رجب. من صام يوماً من رجب سقاه الله من ذلك النهر.
(4) من صام ثلاثة أيام من شهر حرام كتب الله له عبادة تسعمائة سنة.
وجزاكم الله كل خير يا شيخنا على كل ما بذلتم وماتبذلون.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم -وفقني الله وإياك- أنه لما كثر اختلاف الناس في هذا الشهر المسمى برجب، وقلَّ العارف به المتكلم فيه بما وجب، حتى قال بعضهم في نهاره بفضيلة صيامه، ونزع بعضهم في ليله إلى الاعتناء بقيامه، وجعله من لا يدري مفضلاً على الشهور، وزاده فضيلة على الأربعة الحرام في المذكور، ولما كثر الخلط في ذلك بين العوام، ولم يكن من الخواص من يعرف ما فيه من الكلام، تعيَّن على أهل العلم (1) بيان الحق في هذا الشهر المذكور.
فأقول: إن هَدْي النبي - صلى الله عليه وسلم- في الشهور محفوظ منقول، حفظه عنه أصحابه الكرام - رضي الله عنهم- في أحاديث صحيحة كثيرة، جاءت في الصحاح، والسنن، والمسانيد....إلخ.
ولم يكن له في ذلك هدي خاص في رجب، ولو كان له فيه هدي لنقله إلينا أصحابه - رضي الله عنهم- كما نقلوه في أشهر أخرى. لكن الوضاعين من الوعَّاظ، والقصَّاص أبوا إلا أن يلصقوا بالسنة ما ليس منها، فألصقوا فيها من الأحاديث الدالة على فضيلة شهر رجب، وفضيلة الصلاة فيه والصيام، وما علموا أن لهذا الفن فرسانه فذبوا عن حياض السنة وحاموا عن حماها، ولكن العجب كل العجب ممن شم رائحة العلم بالسنن أن يغتر بمثل هذه الأحاديث، فيرويها ويعمل بمقتضاها، وما علم أن هذه الأحاديث باطلة منكرة، وأن كل حديث في صوم رجب، وصلاة بعض الليالي فيه كذب مفترى، كما ذكر ذلك غير واحد من أهل العلم.
قال ابن رجب - رحمه الله- في اللطائف (1/194) : (لم يصح في شهر رجب صلاة مخصوصة تختص به، والأحاديث المروية في فضل صلاة الرغائب في أول ليلة جمعة من شهر رجب كذب وباطل لا تصح، وهذه الصلاة بدعة عند جمهور العلماء، وممن ذكر ذلك من أعيان العلماء المتأخرين من الحفاظ أبو إسماعيل الأنصاري، وأبو بكر السمعاني وأبو الفضل بن ناصر، وأبو الفرج ابن الجوزي.
ولم يصح في فضل صوم رجب بخصوصه شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم- ولا عن أصحابه - رضي الله عنهم-) ا. هـ.
وقال الإمام أبو العباس ابن تيمية (25/29) : (وأما صوم رجب بخصوصه فأحاديثه كلها ضعيفة بل موضوعة، لا يعتمد أهل العلم على شيء منها، وليست من الضعيف الذي يروى في الفضائل، بل عامتها من الموضوعات المكذوبات) . ا. هـ.
وقال ابن القيم في المنار المنيف (96) : (وكل حديث في ذكر صوم رجب وصلاة بعض الليالي فيه فهو كذب مفتري) . ثم ساق - رحمه الله- بعض الأحاديث في ذلك.
وقال ابن حجر في تبيين العجب (23) : (لم يرد في فضل شهر رجب -ولا في صيامه، ولا صيام شيء منه معين، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه- حديث صحيح يصلح للحجة، وقد سبقني إلى الجزم بذلك الإمام أبو إسماعيل الهروي الحافظ) .
وقال في موطن آخر (33) : (الأحاديث الواردة في فضل رجب أو فضل صيامه أو صيام شيء منه صريحة، فهي على قسمين ضعيفة وموضوعة) .
وقال: (وورد في فضل رجب من الأحاديث الباطلة أحاديث لا بأس بالتنبيه عليها لئلا يغتر بها) ا. هـ (ص40) .
وممن ذكر أنه لا يصح في الباب شيء: الإمام ابن دحية الكلبي، وأبو الفضل بن ناصر وغيرهم كثير، والأحاديث التي جاء السؤال عنها: كحديث:
(1) "رجب شهر الله وشعبان شهري ورمضان شهر أمتي"، فقد جاء من حديث أبي سعيد الخدري، وأنس بن مالك - رضي الله عنهما- فأما حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: فأخرجه ابن الجوزي في الموضوعات (2/576) ، وابن عراق في التنزيه (2/151) من طريق محمد بن الحسن النقاش: حدثنا أبو عمرو أحمد بن العباس الطبري: حدثنا الكسائي: حدثنا أبو معاوية: حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن أبي سعيد به، وذكر حديثاً طويلاً في فضل صيام رجب.
قال ابن الجوزي: (هذا حديث موضوع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- والكسائي لا يعرف والنقاش متَّهم) .
وقال ابن حجر في تبيين العجب (23) : ولهو سند مركب… والعهدة في هذا الإسناد على النقاش، والنقاش هذا هو مؤلف كتاب "شفاء الصدور" وقد ملأ أكثره بالكذب والزور.
قال الخطيب الحافظ أبو بكر بن ثابت البغدادي في تاريخه (2/602) : بل هو شقاء الصدور. ثم ذكر كلام الناس في النقاش واتهامهم له بالوضع، ومن ذلك ما قال الخطيب فيه: من أن أحاديثه مناكير بأسانيد مشهورة، وقال طلحة بن محمد بن جعفر الحافظ: كان النقاش يكذب في الحديث والغالب عليه القصص.
وقال البرقاني: كل حديثه منكر. والكسائي هذا غير معروف قال الحافظ في تبيين العجب: (لا يدرى من هو، وليس هو علي بن حمزة المقدسي، فإنه أقدم من هذه الطبقة بكثير) .
وله طريق آخر: أخرجه السهمي في تاريخ جرجان (225) ، فقال: حدثنا أبو علي الحسن بن أحمد بن يحيى الثقفي: حدثنا محمد بن إبراهيم المقري: حدثنا أبو عبد الله سختويه بن الجنيد: حدثنا عبيد الله بن موسى: حدثنا عثمان بن الأسود، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- به.
وهو حديث مسلسل بالمجاهيل والضعفاء. وللحديث طرق أخرى واهية ذكرها ابن حجر في تبيين العجب.
وأما حديث أنس، فأخرجه ابن الجوزي في الموضوعات (2/436) ، وأبو شامة المقدسي في الباعث على إنكار البدع والحوادث، والكناني في فضل رجب، وابن عراق في تنزيه الشريعة، من طريق عبد الرحمن بن محمد بن إسحاق بن منده، عن أبي الحسين علي بن عبد الله بن جهضم، عن علي بن محمد بن سعيد البصري، عن أبيه، عن خلف بن عبد الله -وهو الصغاني - عن حميد الطويل عن أنس به، وفيه ذكر صلاة الرغائب.
قال ابن الجوزي: هذا حديث موضوع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وقد اتهموا به ابن جهضم ونسبوه إلى الكذب، وسمعت شيخنا عبد الوهاب الحافظ يقول: رجاله مجهولون، وقد فتشت عليهم جميع الكتب، فما وجدتهم، زاد الذهبي بل لعلهم لم يخلقوا.
قلت: ابن جهضم هذا متهم بوضع الحديث، قاله الذهبي في الميزان (3/142) ، وقد استوفى الحافظ اللكنوي في (الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة) الكلام على هذا الحديث فعد إليه.
وله طريق آخر أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (7/396) من طريق نوح بن أبي مريم عن زيد العمي عن يزيد الرقاشي عن أنس به.
قال البيهقي: (هذا إسناد منكر) . وهو حديث مسلسل بالضعفاء والمتروكين.
(2) وحديث علي - رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "إن شهر رجب شهر عظيم من صام فيه يوماً كتب الله له صوم ألف سنة" ... الحديث. أخرجه ابن الجوزي في الموضوعات (2/578) ، وابن شاهين في الترغيب والترهيب، من طريق إسحاق بن إبراهيم الختلي قال: حدثنا الحسين بن علي بن يزيد الصدائي: حدثنا أبي: حدثنا هارون بن عنترة عن أبيه عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه- به.
قال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم-.
قلت: هذا الحديث مسلسل بالمجاهيل الضعفاء والمتروكين. فإسحاق بن إبراهيم الختلي ضعيف الحديث. الميزان (1/180) ، وعلى بن يزيد الصدائي قال عنه الذهبي: تالف. وهارون بن عنترة قال عنه ابن حبان: منكر الحديث جداً يروي المناكير الكثيرة، حتى يسبق إلى قلب المستمع لها أنه المتعمد لذلك من كثرة ما يروي مما لا أصل له، ولا يجوز الاحتجاج به بحال. وقد ذكر هذا الخبر ابن حجر في تبيين العجب، واتهم به إسحاق بن إبراهيم الختلي، وقال السيوطي في اللآلي: (لا يصح، وهارون بن عنترة يروي المناكير) . وعده الشوكاني في الفوائد المجموعة من المنكرات.
(3) وحديث: "إن في الجنة نهراً يقال له رجب، من صام يوماً من رجب سقاه الله من ذلك النهر" أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (8300) ، وابن شاهين في الترغيب والترهيب، ومن طريقه الخلال في فضل رجب (ق: 103/أ) ، والديلمي (1/2/281) ، وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/555) ، والأصبهاني في الترغيب والترهيب (1847) ، والذهبي في الميزان (4/189) ، من طريق منصور بن يزيد الأسدي عن موسى بن عمران عن أنس بن مالك - رضي الله عنه- به.
قال ابن الجوزي: لا يصح وفيه مجاهيل لا ندري من هم. وقال الذهبي: ومنصور لا يعرف والخبر باطل، وقد أورده الألباني - رحمه الله- في الضعيفة رقم (1898) ، وقال: (حديث باطل) .
(4) وحديث: "من صام ثلاثة أيام من شهر حرام كتب الله له عبادة تسعمائة سنة".
أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (1789) ، والبيهقي في فضائل الأوقات (308) ، والخطيب في الموضح (1/118) ، وابن عساكر في تاريخه (19/116) ، وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/554) من حديث أنس -رضي الله عنه- بلفظ: "من صام ثلاثة أيام من شهر حرام: الخميس والجمعة والسبت؛ كتب له عبادة تسعمائة عام".
وعندالطبراني بلفظ: "عبادة سنتين". وروي بألفاظ أخر.
وفي إسناده مسلمة بن راشد، قال أبو حاتم: مضطرب الحديث. وقال الأزدي: لا يحتج به. وأورده الألباني في الضعيفة (4611) . والله أعلم.
__________
(1) مقدمة كتاب (أداء ما وجب من بيان وضع الوضاعين في رجب) لابن دحية الكلبي.(1/421)
حديث صلاة الأبرار
المجيب د. الشريف حاتم بن عارف العوني
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 30/6/1424هـ
السؤال
الرجاء التفضل بتعليق فضيلتكم بيان المقصود بقوله: "فصلى ركعتين" في حديث أبي أمامة الذي أخرجه الطبراني في الكبير:
عن أبي أمامة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:"من توضأ ثم أتى المسجد فصلى ركعتين قبل الفجر ثم جلس حتى يصلي الفجر كتبت صلاته يومئذ في صلاة الأبرار وكتب في وفد الرحمن".
قوله:"فصلى ركعتين قبل الفجر" هل سنة الفجر أو قيام الليل أو تحية المسجد أو ركعتين لهما ثواب معين؟.
حديث عثمان مرفوعا "من توضأ مثل هذا الوضوء ثم أتى المسجد فركع ركعتين ثم جلس غفر له ما تقدم من ذنبه ولا تغتروا". (صحيح) انظر صحيح الجامع.
الظاهر في هذا أن المراد بقوله:"فصلى ركعتين" هي سنة الفجر.
أن أكثر الأحاديث الواردة في قوله:"ركعتين قبل الفجر" المراد بها سنة الفجر.
كما في مسند أحمد: عن عائشة -رضي الله عنها-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا صلى ركعتين قبل الفجر ربما اضطجع.
وكما روى النسائي في سننه عن مالك بن ربيعة السلولي، قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر، فأسرينا ليلة، فلما كان في وجه الصبح، نزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فنام، ونام الناس، فلم يستيقظ إلا بالشمس قد طلعت علينا، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المؤذن، فأذن، ثم صلى ركعتين قبل الفجر، ثم أمره، فأقام، ثم صلى بالناس، ثم حدثنا ما هو كائن، حتى تقوم الساعة. وعند النسائي من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- الذي فيه "ثم أتيته فقمت عن يساره فتناولني بيده فأقامني عن يمينه فصلى ثلاث عشرة ركعة ثم اضطجع حتى جاءه بلال -رضي الله عنه- فأذن بالصلاة فقام فصلى ركعتين قبل الفجر".
قال المباركفوري في تحفة الأحوذي في (باب ما جاء في الوتر بركعة 2/454) قوله:"أطيل في ركعتي الفجر" المراد بركعتي الفجر سنة الفجر، وفي رواية البخاري: قلت لابن عمر أرأيت الركعتين قبل صلاة الغداة أطيل فيهما القراءة.
وأما معنى قوله صلاة الأبرار: فقال المناوي في فيض القدير الجزء الرابع في حديث (صلاة الأبرار ركعتان إذا دخلت بيتك وركعتان إذا خرجت (عن عثمان بن أبي سودة مرسلا. (ضعيف) انظر حديث رقم: 3508 في ضعيف الجامع) .
(صلاة الأبرار) لفظ هذه الرواية كما حكاه المؤلف (أي السيوطي) في مختصر الموضوعات، وكذا غيره صلاة الأوابين وصلاة الأبرار (ركعتان إذا دخلت بيتك وركعتان إذا خرجت من بيتك) أي: من محل إقامتك بيتاً أو غيره، فهاتان الركعتان سنة للدخول والخروج.
على أنه صححه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب والترهيب (1/240-241) وبيَّن أحاديث أفضلية صلاة السنة الراتبة في البيت؛ لأن لكل منهما أجراً خاصاً به.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثره واتقى حدّه. أما بعد:
فجواباً على السؤال أقول وبالله التوفيق:
الحديث المسؤول عنه منكر سنداً ومتناً.
فقد أخرجه الطبراني في الكبير (رقم 7766) ، ومسند الشاميين (رقم 525-1229) من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن هود، عن محمد بن يزيد الكلاعي الواسطي، عن عاصم بن رجاء بن حيوة، عن عروة بن رُويم، عن القاسم بن عبد الرحمن الشامي، عن أبي أمامة ... به مرفوعاً.
قلت: فيه إسماعيل بن إبراهيم بن هود -وينسب إلى جده- الواسطي، مولى قريش أبو إبراهيم الضرير، (ت 243هـ) مختلف فيه، لكن الأرجح أنه ضعيف، فانظر (لسان الميزان 1/101-102 رقمه 1125) .
ثم هو مخالف في إسناده: فقد أخرجه عبد الرزاق (رقم 4783) عن الأوزاعي، عن عروة بن رُويم، قال:"من صلى ركعتي الفجر، وصلى الصبح في جماعة، كُتبت صلاته يومئذ في صلاة الأوابين، وكُتب يومئذ في وفد المتقين".
وأخرجه أبو نعيم في الحلية (6/122) من وجه آخر عن الأوزاعي بمثله، ثم تعقبه بالإشارة إلى مخالفته لحديث عاصم بن رجاء بن حيوة.
ولا شك أن الأوزاعي وحديثه أرجح وأصح إسناداً.
ثم هو يختلف في متنه عن متن الحديث المرفوع، مما يدل على نكارة متن الحديث المسؤول عنه أيضاً، حيث إن هذا الحديث يدل على أن الركعتين الأولى هي سنة الفجر، وليس فيه أنها كانت في المسجد، وأن الركعتين الثانية هي فريضة الفجر في جماعة، ولو صح الحديث المسؤول عنه، فيحمل على تحية المسجد بعد أداء راتبته في البيت.
وأما فقه المسألة: فقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية جواز صلاة النافلة غير راتبة الفجر قبل فريضة، بشرط ألا يتخذ ذلك سنة، كما في مجموع الفتاوى (23/205) .
وأما ما نقله السائل من تصحيح الألباني -عليه رحمة الله- للحديث، في صحيح الترغيب والترهيب، فلم أجده فيه، بل وجدت نقيضه، فقد أورده في ضعيف الترغيب والترهيب (1/125-126 رقم 228) , مشيراً في الحاشية إلى أنه كان قد حسنه، ثم رجع عن ذلك إلى الحكم بنكارته.
هذا والله أعلم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه والتابعين.(1/422)
خبر: رجم القردة للزانية
المجيب د. علي بن عبد الله الجمعة
رئيس قسم السنة وعلومها بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 17/2/1424هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
روى البخاري في صحيحه كتاب مناقب الأنصار أن أحد الصحابة -رضوان الله عليهم- مر على قردة قد زنت وقد اجتمع حولها قردة يرجمونها فرجمها معهم، فما حكم هذا الحديث؟ مع العلم أن ابن عبد البر -رحمه الله- قال عنه: حديث موضوع.
وهل يقبله العقل؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
بسم الله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
(1) إن عَمْر بن ميمون ليس صحابياً إنما هو تابعي.
(2) إن هذا الحديث ليس حديثاً مرفوعاً، إنما هي قصة من قسم المقطوع حسب اصطلاح علماء مصطلح الحديث.
(3) هذه القصة ذكرها البخاري تعليقاً لأن أغلب رواياته -رحمه الله- عن نعيم بن حماد تعليقا، ً كما حكى ذلك الحافظ في الفتح مجلد (7/160) وحديث (3849) ولعل هذا منها.
(4) قال السائل: وهل هذا يعقل؟ فنقول: شرعنا جاء بما تدركه العقول وبما لا تدركه العقول، لكنه لم يرد فيه ما تستحيله العقول.
(5) هذه القصة لم يكن فيها تشريع إنما هي حكاية صورة وقعت من هذا المخلوق أشبهت ما يقع من المكلفين من الجن والإنس الذين نزل التشريع فيهم.
(6) لمّا ذكر ابن عبد البر هذه القصة استخرج منها حكمين، أحدهما: إضافة الزنا إلى غير المكلفين. وثانيهما: إقامة الحد على من وقع منه ذلك من البهائم. وقال: هذا منكر عند أهل العلم. (الاستيعاب 3/5-1206) . وأجاب الحافظ بأنه لا يلزم من كون صورة الواقعة صورة الزنا والرجم أن يكون ذلك زنا حقيقة ولا حداً وإنما أطلق ذلك عليه لشبهه به، فلا يستلزم ذلك إيقاع التكليف على الحيوان.
(7) حكاية السائل عن ابن عبد البر أنه قال: هذا حديث موضوع، قول باطل لأمور ثلاثة: أحدها: إنه لا يوجد في صحيح البخاري حديث موضوع بإجماع أهل العلم. وثانيها: أن ابن عبد البر لم يقل ذلك وإنما قال استنكرها أهل العلم. وثالثها: أن الحديث الموضوع هو التقول على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما لم يصدر منه من قول أو فعل أو تقرير، وليس في القصة المذكورة شيء من ذلك.
(8) إن هذه القصة لا يجوز الاستدلال بها على إثبات حكم من الأحكام على أي نوع من المخلوقات عدا المكلفين من الجن والإنس.
(9) قد ورد في الصحيح وغيره شيء من الحكايات والقصص التي لا يراد منها التشريع في إثبات حكم أو نفيه كما ورد عن أخبار بني إسرائيل وقد قال -صلى الله عليه وسلم-:"حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج"، البخاري (3461) ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(1/423)
حديث: من وضع يده على امرأة لا تحل له..
المجيب د. محمد بن تركي التركي
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 28/2/1424هـ
السؤال
السلام عليكم، نرجو إفادتنا بدرجة هذا الحديث:
من وضع يده على امرأة لم تحل له بشهوة جاء يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه، فإن قبلها قرضت شفتاه في النار، فإن زنى بها نطقت فخذه وشهدت عليه يوم القيامة، وقالت: أنا للحرام ركبت، فينظر الله - تعالى- إليه بعين الغضب، فيقع لحم وجهه فيكابر، ويقول: ما فعلت، فيشهد عليه لسانه فيقول: أنا بما لا يحل نطقت، وتقول يداه، أنا للحرام تناولت، وتقول عيناه أنا للحرام نظرت، وتقول رجلاه: أنا للحرام مشيت، ويقول فرجه، أنا فعلت، ويقول الحافظ من الملائكة: وأنا سمعت، ويقول الآخر: وأنا كتبت ويقول الله - تعالى- وأنا اطلعت وتسترت، ثم يقول الله - تعالى- "يا ملائكتي خذوه ومن عذابي أذيقوه، فقد اشتد غضبي على من قل حياؤه مني".
الجواب
لم أقف على من أخرج هذا الحديث بهذا اللفظ وليت أن السائل ذكر من أي مصدر جاء به. وإن كان لفظه لا يشبه كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أشبه بكلام القصاص والوعاظ وسياقه بهذا اللفظ يشبه الأحاديث الموضوعة. ولكن ورد عدة أحاديث صحيحة في الترهيب من الزنا وفي أن زنا العين النظر وزنا اليد البطش ... إلخ وكذا في الترهيب من الخلوة بالأجنبية. وفيها غنية عن هذه الأحاديث الغريبة والتي تكون عادة ضعيفة أو موضوعة.(1/424)
حديث (ما نزل بلاء إلا بذنب)
المجيب د. الشريف حاتم بن عارف العوني
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 25/7/1423هـ
السؤال
هناك أثر يقول:"ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة"، فهل هذا الأثر حديث أم قول لأحد السلف؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه والتابعين، أما بعد:
فجواباً على سؤالك أقول - وبالله التوفيق-: الحكمة القائلة "ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة "، لم أجده من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- وإنما وجدته مروياً عن العباس بن عبد المطلب عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنه - فأخرج الدينوري في (المجالسة رقم 727) ، وابن عساكر في (تاريخ دمشق - مجلد ترجمة العباس - رضي الله عنه - 184 - 185) ، بأسانيد واهية شديدة الضعف، أنه كان من ضمن دعاء العباس في استسقائه: "اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة".
إلا أن هذه الحكمة حق لا مرية فيها، وتواترت نصوص الكتاب والسنة في الدلالة عليها، فكل عقوبات الله -تعالى- العامة للأمم المذكورة في كتاب الله -تعالى- كانت بسبب الكفر والمعاصي، وفي ذلك يقول الله -تعالى-:"كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ" [آل عمران:11] ، وقال -تعالى-:"أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ" [الأنعام:6] ، وقال -تعالى-:"أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ" [الأعراف:100] ، وبين الله -تعالى- أثر الإيمان والتقوى والاستغفار في حصول الخير لأهل الأرض، فقال -تعالى-:"وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ" [لأعراف:96] ، وفي دعوة نوح -عليه السلام- يقول -تعالى-:"فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً" [نوح: 10- 12] ، وقال -تعالى-: "وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ" [الطلاق: 2 - 3] . إلى غير ذلك من آيات كثيرة جداً، وفي الصحيحين (صحيح البخاري رقم (7507) ، وصحيح مسلم (2758) ، في الحديث القدسي، أن الله -تعالى- يقول:"أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب ... ".
وعن ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ... " أخرجه ابن ماجة (رقم 90، 4022) ، وابن حبان في صحيحه (872) ، والحاكم وصححه (1/493) قال البوصيري في (مصباح الزجاجة رقم 33) :"سألت شيخنا أبا الفضل العراقي - رحمه الله - عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث حسن".
وهو كما قال العراقي، فأقل أحواله الحسن.
وفي حديث بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم" أخرجه الإمام أحمد (4/260) (5/293) وأبو داود رقم (4347) بإسناد صحيح، وفي تفسير قوله -صلى الله عليه وسلم-:"حتى يعذروا" قال أبو عبيد في غريب الحديث (1/131) يقول:"حتى تكثر ذنوبهم وعيوبهم".
وعن جبير بن نفير - رضي الله عنه - قال: لما فتحت مدائن قبرس وقع الناس يقتسمون السبي ويفرقون بينهم ويبكي بعضهم على بعض فتنحى أبو الدرداء ثم احتبى بخمائل سيفه، فجعل يبكي فأتيته، فقلت: ما يبكيك يا أبا الدرداء؟! أتبكي في يوم أعزَّ الله فيه الإسلام وأهله وأذل فيه الكفر وأهله؟!! فضرب على منكبيه، ثم قال: ثكلتك أمُّك يا جبير ابن نفير!! ما أهون الخلق على الله إذا تركوا أمره!!! بينما هي أمّةُ قاهرة ظاهرة على الناس، لهم الملك، حتى تركوا أمر الله، فصاروا إلى ما ترى، وإنه إذا سلط السباء على قوم فقد خرجوا من عين الله، وليست لله بهم حاجة" أخرجه الإمام أحمد في (الزهد رقم 762) ، وسعيد بن منصور في سننه - واللفظ له - (2/290 - 291 رقم 2660) ، وابن أبي الدنيا في (العقوبات رقم 2) بإسناد صحيح.
أسأل الله -تعالى- أن يوفقنا لما رضيه، وأن يجعل أعمالنا خالصة له، والله أعلم.
والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.(1/425)
صحة حديث: "العنوهن فإنهن ملعونات"
المجيب د. محمد بن تركي التركي
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 17/8/1424هـ
السؤال
الحديث الشهير الذي أوله: صنفان من أهل النار لم أرهما، هل وردت في آخره عبارة "العنوهن فإنهن ملعونات"؟ وما المقصود بها؟ ولماذا لم يأمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم- بالدعاء لهم بالرحمة والهداية؟
الجواب
الحديث المشهور: "صنفان من أمتي.." حديث صحيح أخرجه مسلم وابن حبان وغيرهما من رواية أبي هريرة - رضي الله عنه-. ولكن لم يرد فيه لفظ "العنوهن" الحديث.
وهذه اللفظة وردت في حديث آخر عند أحمد (2/223) وابن حبان برقم (5703) ، والحاكم (4/436) ، والطبراني في الصغير (1125) ، من رواية عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما-.
ولكن في إسنادهم جميعاً عبد الله بن عباس القتيباني وهو ضعيف، وعليه فلا تثبت هذه اللفظة، إضافة إلى معارضتها للأحاديث الكثيرة التي نهت عن لعن المسلم. والله أعلم.(1/426)
"استفت قلبك وإن أفتوك"
المجيب د. أنيس بن أحمد طاهر
عضو هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية في المدينة النبوية
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 7/5/1424هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أسأل عن عبارة (استفت قلبك وإن أفتوك)
(1) هل من حديث صحيح ورد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أم لا؟.
(2) هل المقصود بهذه العبارة أنني إذا كنت أعتقد أن هذا الأمر حلال وأفتاني أهل العلم بحرمته فإنني أترك فتوى أهل العلم، وأعمل بما أشعر به بقلبي؟.
(3) نرجو إيضاح معنى هذا الحديث إذا كان صحيحا والمقصود به؟
جزاكم الله خيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب
هذا الحديث أخرجه أحمد (18006) ، والدارمي (2575) ، وغيرهما، من حديث وابصة بن معبد -رضي الله عنه- وحسنه النووي وغيره.
وهناك حديث صحيح آخر وهو: "البر هو ما اطمأن إليه القلب وسكنت إليه النفس، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس"، وهو يحمل المعنى نفسه، والمراد به أن القلب يطمئن بعد معرفة حكم القرآن والسنة في هذا الأمر، فإذا كان حلالاً وكان مما يرضي الله - تبارك وتعالى - فإن النفس المؤمنة تطمئن إلى هذا، وأما إذا كان فيه حرام أو كانت فيه شبهة فغالباً ما يقع عدم السكينة في الأمور المشتبهة، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "البر ما اطمأن إليه القلب"، والغالب أن البر يطمئن إليه القلب، والبر أول ما يدخل فيه ما أحله الله - تبارك وتعالى - في كتابه وأباحه النبي - صلى الله عليه وسلم - في سنته، وأما الإثم أو المشتبه الذي يشتبه على الإنسان تحليله أو تحريمه فهذا يقع في النفس منه ما يقع من الاضطراب وعدم السكينة وعدم الطمأنينة، وهذا هو المراد بالاستفتاء للقلب، ليس بمعنى ما يدعيه ويعتقده بعض من انحرفت عقيدتهم عن أهل السنة والجماعة من أن الإنسان لا يعلم حلالاً ولا حراماً ولا سنة ولا بدعة، ولكن يترك لقلبه العنان باختيار ما يختاره وفي محبة ما يحب وفي كراهة ما يكره، هذا يؤدي إلى ضلال مبين، وهو ما يقع فيه بعض طوائف الصوفية هداهم الله، من قولهم: حدثني قلبي عن ربي، وما شابه ذلك، ولكن الحديث يدل على أن قلب المؤمن كما يقال دليله، ولكن بالإيمان والتوحيد والعلم، وإنما العلم بالتعلم.(1/427)
صحة حديث: "من مات يوم الجمعة ... "
المجيب د. سعد بن عبد الله الحميد
أستاذ الدراسات العليا بجامعة الملك سعود
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 15/1/1425هـ
السؤال
ما صحة حديث أن من مات ليلة الجمعة أو يوم الجمعة وقاه الله عذاب القبر؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا تخريج لحديث: "ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر"، وبيان لدرجته التي خلاصتها: أنه حديث ضعيف، لا يصح من طريق، ولا يتقوى بمجموع طرقه، وهذا ظاهر صنيع البخاري -رحمه الله -؛ حين ترجم في كتاب الجنائز من "صحيحه" (3/253- الفتح) بقوله: (باب موت يوم الإثنين) ، ثم أخرج برقم (1387) حديث موت أبي بكر -رضي الله عنه-، فقال: حدثنا مُعَلّى بن أسد؛ قال: حدثنا وُهَيْب، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: دخلت على أبي بكر -رضي الله عنه-، فقال: في كم كَفّنْتم النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ قالت: في ثلاثة أثوابٍ بيضٍ سَحولِيّة، ليس فيها قميص ولا عمامة. وقال لها: في أي يوم توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قالت: يوم الإثنين، قال: فأي يوم هذا؟ قالت: يوم الإثنين، قال: أرجو فيما بيني وبين الليل، فنظر إلى ثوب عليه كان يمرّض فيه به رَدْعٌ من زعفران، فقال: اغسلوا ثوبي هذا، وزيدوا عليه ثوبين فكفِّنوني فيها. قلت: إن هذا خَلِق، قال: إن الحيّ أحقّ بالجديد من الميت، إنما هو للمُهْلَة. فلم يُتَوَفّ حتى أمسى من ليلة الثلاثاء، ودُفِن قبل أن يصبح.
قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري 3/253) : قوله: "باب موت يوم الإثنين": قال الزين ابن المنيِّر: تعيين وقت الموت ليس لأحد فيه اختيار، لكن في التسبب في حصوله مدخل؛ كالرغبة إلى الله لقصد التبرك، فمن لم تحصل له الإجابة أثيب على اعتقاده. وكأن الخبر الذي ورد في فضل الموت يوم الجمعة لم يصح عند البخاري، فاقتصر على ما وافق شرطه، وأشار إلى ترجيحه على غيره. والحديث الذي أشار إليه [يعني: ابن الْمُنَيِّر] أخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- مرفوعًا: "ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر"، وفي إسناده ضعف، وأخرجه أبو يعلى من حديث أنس -رضي الله عنه- نحوه وإسناده أضعف. اهـ.
وقال العيني في "عمدة القاري" (8 / 218) : أي: هذا باب في بيان فضل الموت يوم الإثنين. فإن قلت: ليس لأحد اختيار في تعيين وقت الموت، فما وجه هذا؟ قلت: له مدخل في التسبب في حصوله؛ بأن يرغب إلى الله لقصد التبرك، فإن أجيب فخير حصل، وإلا يثاب على اعتقاده. اهـ.
وقال عن مناسبة الحديث للترجمة: (مطابقته للترجمة: من حيث إن النبي - صلى الله عليه وسلم- كانت وفاته يوم الإثنين، فمن مات يوم الإثنين يرجى له الخير لموافقة يوم وفاته يوم وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم-، فظهرت له مزيّة على غيره من الأيام بهذا الاعتبار ... ) ، ثم ذكر حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- الذي ذكره ابن حجر، ثم قال: (فلذلك لم يذكره البخاري فاقتصر على ما وافق شرطه) .
وحديث فضل الموت يوم الجمعة هذا ورد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وأنس، وجابر -رضي الله عنه-.
أما حديث عبد الله بن عمرو: فأخرجه الإمام أحمد في (المسند 2/169) ، والترمذي في "الجامع" (1074) والطحاوي في (شرح مشكل الآثار ص277) ، وابن منده في "تعزية المسلم ص108) من طريق هشام بن سعد، عن سعيد ابن أبي هلال، عن ربيعة بن سيف، عن عبد الله بن عمرو؛ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر".
وأخرجه عبد الرزاق في (المصنف 5596) عن ابن جريج، عن ربيعة بن سيف، عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "برئ من فتنة القبر".
وابن جريج معروف بالتدليس، ولم يصرح هنا بالسماع.
قال الترمذي: (هذا حديث غريب) ؛ يعني أنه ضعيف، يوضحه قوله بعد ذلك: (وهذا حديث ليس إسناده بمتصل؛ ربيعة بن سيف إنما يروي عن أبي عبد الرحمن الْحُبُلي، عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-، ولا نعرف لربيعة بن سيف سماعًا من عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما-) .
وقد خولف هشام بن سعد في هذا الإسناد، فرواه الليث بن سعد، واختلف عليه.
فأخرجه الطحاوي في (شرح المشكل ص 279) من طريق يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن الليث، عن ربيعة بن سيف: أن عبد الرحمن بن قحزم أخبره: أن ابنًا لفياض بن عقبة توفي يوم جمعة، فاشتد وجده عليه، فقال له رجل من أهل الصدق: يا أبا يحيى، ألا أبشرك بشيء سمعته من عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- سمعته يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول ... ، فذكره.
ثم أخرجه الطحاوي (280) فقال: حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم؛ حدثنا أبي وشعيب بن الليث، عن الليث؛ حدثنا خالد _ يعني ابن يزيد _، عن ابن أبي هلال، عن ربيعة بن سيف: أن عبد الرحمن بن قحزم أخبره: أن ابنًا لفياض بن عقبة، ثم ذكر مثله سواء.
وأخرجه البيهقي في "إثبات عذاب القبر ص 155) من طريق يعقوب بن سفيان عن أبي صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث وأبي بكر _ غير منسوب _، كلاهما عن الليث بمثل رواية ابن عبد الحكم.
وكان الطحاوي أعلّ الحديث أوّلاً (1/ 250) بمثل إعلال الترمذي، ثم قال: عن هذا الإسناد: (وزاد [يعني ابن عبد الحكم] على يونس في إسناده إدخاله بين الليث وبين ربيعة بن سيف: خالد بن يزيد وسعيد ابن أبي هلال، وهو أشبه عندنا بالصواب _ والله أعلم _، فوقفنا بذلك على فساد إسناد هذا الحديث، وأنه لا يجوز لمثله إخراج شيء مما يوجب حديث عائشة -رضي الله عنها- دخوله فيه) .
وحديث عائشة -رضي الله عنها- الذي ذكره الطحاوي هو الحديث الأصل الذي أورده في أول الباب، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إن للقبر لضغطة، لو كان أحد ناجيًا منها؛ نجا سعد بن معاذ"، ولأجله ضعّف حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- الذي فيه: "وقاه الله فتنة القبر".
ومع ما تقدم من العلل: فإن ربيعة وإن كان صدوقًا، فإنه ضعيف من قبل حفظه، فقد قال عنه البخاري في (التاريخ الكبير 3/290) : ((عنده مناكير)) ، وقال في (الأوسط) (1464) : ((وروى ربيعة بن سيف المعافري الإسكندراني أحاديث لا يتابع عليه)) ، وقال النسائي في رواية: ((ليس به بأس)) ، وقال في أخرى: ((ضعيف)) ، وقال الدارقطني في (سؤالات البرقاني ص 153) : ((صالح)) ، وذكره ابن حبان في (الثقات 6/301) ، وقال: ((يخطئ كثيرًا)) ، وقال ابن يونس: ((في حديثه مناكير)) ، وقال العجلي في (تاريخه) (463) : ((ثقة)) . انظر (تهذيب التهذيب ص3/ 221) .
وقد عدّ الذهبي هذا الحديث من مناكير هشام بن سعد، حين قال في (الميزان 7/81) : (ومن مناكيره ما ساق الترمذي له عن سعيد بن أبي هلال عن ربيعة بن سيف ... ) ، ثم ذكر هذا الحديث.
وله طريق آخر عن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنهما-: أخرجه الإمام أحمد (2/176و220 رقم 6646 و7050) ، وعبد بن حميد (323) والطبراني في (الأوسط، 3107) ، والدارقطني في "الغرائب والأفراد" كما في (أطرافه، 3585) ، وابن منده في (تعزية المسلم ص 106 و 107) ، والبيهقي في (إثبات عذاب القبر، ص 156) من طريق معاوية بن سعيد التجيبي، عن أبي قَبيل، عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "من مات في يوم الجمعة _ أو ليلة الجمعة _ وُقي فتنة القبر".
قال الدارقطني: (تفرد به معاوية بن سعيد، عن أبي قبيل) .
وسنده ضعيف؛ فيه معاوية بن سعيد التجيبي ولم يوثق من إمام معتبر، وإنما ذكره البخاري في (تاريخه 7 / 334 رقم 1441) ، وابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل 8/384 رقم 1755) ، وسكتا عنه، وذكره ابن حبان في (الثقات 9/166) وقال: (من أهل مصر يروي المقاطيع) ، ولذا قال عنه ابن حجر في (التقريب 6757) : (مقبول) .
وروي موقوفًا على عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: أخرجه البيهقي في "إثبات عذاب القبر ص 157) من طريق ابن وهب؛ أخبرني ابن لهيعة، عن سنان بن عبد الرحمن الصدفي: أن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- كان يقول: من توفي يوم الجمعة _ أو ليلة الجمعة _ وُقي الفتان.
وأما حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-: فأخرجه أبو يعلى (4113) _ ومن طريقه ابن عدي في "الكامل ص 7/ 92) _ من طريق عبد الله بن جعفر، عن واقد بن سلامة، عن يزيد بن أبان الرقاشي، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "من مات يوم الجمعة وقي عذاب القبر".
وسنده ضعيف جدًّا؛ فيه يزيد بن أبان الرقاشي ضعيف كما في "التقريب ص 7683) .
والراوي عنه واقد _ ويقال: وافد (بالفاء) _ ابن سلامة وهو ضعيف أيضًا. انظر لسان الميزان 6/215 رقم 754) .
والراوي عنه عبد الله بن جعفر يظهر أنه والد علي بن المديني، وهو ضعيف أيضًا كما في "التقريب 3255) .
وله طريق أخرى أخرجها ابن منده في "تعزية المسلم 109) من طريق الحسين ابن علوان، عن أبان بن أبي عياش، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "لا ينجو من ضغطة القبر إلا شهيد أو مصلوب أو من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة".
لكنها متابعة أوهى من سابقتها، فالحسين بن علوان كذاب يضع الحديث كما في (الكامل) لابن عدي (2/359) .
وأبان ابن أبي عياش متروك كما في "التقريب ص 142) .
وأما حديث جابر -رضي الله عنه-: فأخرجه أبو نعيم في "الحلية 3/155) من طريق عمر بن موسى بن الوجيه، عن محمد بن المنكدر، عن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة أجير من عذاب القبر، وجاء يوم القيامة عليه طابع الشهداء".
وفي سنده عمر بن موسى بن وجيه وهو يضع الحديث أيضًا. انظر "لسان الميزان 4/332_333) . وللحديث طرق أخرى مراسيل وفيها مجاهيل، لا يعتضد بشيء منها، والله أعلم.(1/428)
الصيام في شدة الحر
المجيب د. يوسف بن أحمد القاسم
عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 9/9/1424هـ
السؤال
أريد صيام يوم الاثنين القادم وهو حسب التقويم الموجود لدي أطول نهاراً في هذه السنة. وقد قرأت أنّه من صام في يوم طويل شديد الحرارة إيمانا واحتسابا لوجه الله الكريم وقاه الله تعالى حر الموقف يوم القيامة، وأظله وسقاه بصيامه هذا اليوم الحار، وأدخله جنته برحمته. سؤالي:
(1) كيف يكون العمل إيماناً واحتساباً؟
(2) هل ما قرأت عنه وارد عن الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - أم أنه تقوّل عنه؟
(3) إذا كان صحيحاً فكيف تكون نية الصيام لأكون قد صمت إيمانا واحتسابا؟. ولكم جزيل الشكر وأرجو لكم دوام التقدم والنجاح.
الجواب
الحمد لله وحده، وبعد:
أقول: أما بالنسبة للحديث المشار إليه في السؤال، فلم أعثر عليه في كتب السنة بهذا اللفظ، ولا بهذا المعنى، وإنما جاء بنحوه بسند ضعيف - في مستدرك الحاكم (3/530) من طريق عبد الله بن المؤمل عن عطاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعمل أبا موسى على سرية البحر، فبينما هي تجري بهم في البحر في الليل، إذ ناداهم مناد من فوقهم: ألا أخبركم بقضاء قضاه الله على نفسه، أنه من يعطش لله في يوم صائف، فإن حقاً على الله أن يسقيه يوم العطش الأكبر" ثم قال الحاكم في المستدرك (3/530) : "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه" أهـ فتعقبه الإمام الذهبي في التخليص، وقال: "إن المؤمل ضعيف" أ. هـ وهو كما قال، ولا سيما فيما انفرد به كما قاله ابن حبان في المجروحين (2/27-28) ، وعبارته: "عبد الله بن المؤمل المخزومي شيخ من أهل مكة كان قليل الحديث، منكر الرواية، لا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد ... "أهـ ثم ذكر من رواياته هذا الحديث، وقال عنه الحافظ ابن حجر في التقريب (ص: 384) : "ضعيف الحديث " كما في ترجمته برقم (3648) .
ومع هذا، فقد ذكر المنذري في الترغيب والترهيب (2/51) هذا الحديث من رواية البزار عن ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعاً بدون إسناد، ثم قال: "رواه البزار بإسناد حسن - إن شاء الله - ورواه ابن أبي الدنيا من حديث لقيط عن أبي بردة عن أبي موسى - رضي الله عنه- بنحوه، إلا أنه قال فيه: "قال: إن الله تعالى قضى على نفسه أنه من عطش نفسه لله في يوم حار، كان حقاً على الله أن يرويه يوم القيامة، قال: وكان أبو موسى- رضي الله عنه- يتوخى اليوم الشديد الحر، الذي يكاد الإنسان أن ينسلخ فيه حراً، فيصومه" أ. هـ. وقد علق الهيثمي في مجمع الزوائد (3/183) على رواية البزار بقوله: "رواه البزار، ورجاله موثوقون" أهـ ولم أعثر على هذا الحديث في مسند البزار المطبوع، للنظر في إسناده، وبكل حال، فالأحاديث الصحيحة الواردة في فضل الصيام كثيرة، ومنها قول نبينا - صلى الله عليه وسلم - "من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً" أخرجه البخاري (2840) ، ومسلم (1153) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - وفي صحيح البخاري (2/671) ومسلم (2/808) عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن في الجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون، لا يدخل منه أحد غيرهم...." الحديث، قال العيني في عمدة القاري (10/262) في معرض تفسيره للفظ (الريان) ما نصه: " ... مشتق من الري الكثير، الذي هو ضد العطش وسمي بذلك: لأنه جزاء الصائمين على عطشهم وجوعهم، واكتفى بذكر الري عن الشبع لأنه يدل عليه من حيث أنه يستلزمه، وأفرد لهم هذا الباب إكراماً لهم، واختصاصاً؛ وليكون دخولهم الجنة غير متزاحمين، فإن الزحام قد يؤدي إلى العطش" أهـ.
وهذا بالنسبة للحديث المشار إليه وما يتعلق به من أحاديث، وبهذا يتبين أن اللفظ المذكور " ... إيماناً واحتساباً ... لا وجود له في ذلك الحديث، فيما وقفت عليه.
وقد جاء هذا اللفظ في أحاديث أخرى صحيحة، ومنها ما أخرجه البخاري (2/672) ومسلم (1/523) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ... " الحديث.
ومعنى قوله: "إيماناً واحتساباً" أي: تصديقاً بوعد الله بالثواب عليه، وطلباً للأجر لا لقصد آخر من رياء أو نحوه كما أشار إلى هذا المعنى الحافظ ابن حجر في فتح الباري (4/251) وبهذا يعلم أن نية الصيام تكون بالقلب، وذلك بأن يكون قصده من الصيام التقرب إلى الله سبحانه بهذا العمل الصالح، وهو الصيام لأجل كسب رضا الله سبحانه وما يترتب عليه من ثواب في الآخرة، والله أعلم.(1/429)
أحاديث المهدي
المجيب سليمان بن عبد الله القصير
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 13/3/1425هـ
السؤال
سؤالي عن المهدي المنتظر، هل أحاديث المهدي ضعيفة كلها أم صحيحة كلها؟ أم يوجد هناك الضعيف والصحيح؟ وإن كان هناك أحاديث صحيحة في المهدي فهلا سمحتم بإيرادها، وإن كانت كل أحاديثه ضعيفة فهل نستنتج من ذلك أن أمر المهدي هو من المظنونات؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
ورد في المهدي أحاديث كثيرة، منها ما هو مرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومنها ما هو موقوف على الصحابة - رضي الله عنهم -، وقد ذكر جماعة من أهل العلم أن أحاديث المهدي بلغت حد التواتر المعنوي (انظر: الإشاعة لأشراط الساعة للبرزخي صـ (87) ولوامع الأنظار البهية (2/84) للسفاريني، والإذاعة للقنوجي صـ (112) .
قال الشوكاني:"الأحاديث في تواتر ما جاء في المهدي المنتظر التي أمكن الوقوف عليها منها خمسون حديثاً، فيها الصحيح والحسن والضعيف المنجبر، وهي لها حكم الرفع، إذ لا مجال للاجتهاد في مثل ذلك". (الإذاعة للقنوجي صـ (113) نقلاً عن كتاب الشوكاني (التوضيح) .
ومن الأحاديث الصحيحة ما يلي:
1. عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:"يخرج في آخر أمتي المهدي، يسقيه الله الغيث، وتخرج الأرض نباتها، ويعطى المال صحاحاً، وتكثر الماشية، وتعظم الأمة، يعيش سبعاً أو ثماني (يعني حججاً) -يعني: سبع أو ثمان سنين-". أخرجه الحاكم (4/557) بهذا اللفظ وقال: صحيح، وأخرجه أبو داود (4284) ، وأحمد (3/37) بنحوه، قال ابن القيم على سند أبي داود: إسناده جيد. وقال الألباني في (السلسلة الصحيحة 2/336) : سنده صحيح.
2. وعن علي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"المهدي منا -أهل البيت- يصلحه الله في ليلة" أخرجه أحمد (2/58) ، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح، وأخرجه ابن ماجه (1367) .
3. وعن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:"المهدي من عترتي من ولد فاطمة" أخرجه أبو داود (4283) وابن ماجة (1368) ، وقال الألباني في صحيح الجامع (6610) : صحيح.
4. وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجل مني أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي" وفي رواية:"يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً". أخرجه أبو داود في باب ذكر المهدي (4281) ، وقال الألباني: صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير (5180) .
5. وعن جابر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"يكون في آخر أمتي خليفة يحثي المال حثياً لا يعده عدا " قال الجريري -أحد رواة الحديث-: قلت لأبي نصرة وأبو العلاء: أتريان أنه عمر بن عبد العزيز؟ فقالا: "لا" أخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة من صحيحه (18/38 مع شرح النووي) . وهذا الحديث وإن لم يصرح بأن هذا الخليفة هو المهدي إلا أن أكثر العلماء ذكروا أن المراد به المهدي كما جاء في روايات وأحاديث أخرى أنه في زمن المهدي يكثر المال ... إلخ.
هذه هي أشهر الأحاديث الصحيحة في هذا الباب وهناك أخرى لكنها أقل منها في الصحة، وكل من ألف في أشراط الساعة فإنه يذكرها ويستدل بها. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.(1/430)
هل تفسير ابن عباس لهذه (وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ) من باب التأويل؟
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 28/09/1425هـ
السؤال
ما صحة نسبة هذه الآثار إلى ابن عباس، رضي الله عنهما:
1- في قول الله تعالى: (وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ) [الذاريات:47] . قال: أي بقوة عظيمة. (رواه الطبري وذكره سفيان الثوري وقتادة) .
2- في قوله تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [النور:35] . أولها ابن عباس بالهادي الذي يخلق الهداية. (رواه الطبري) .
3- في قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ) [القلم:42] . أولها ابن عباس، رضي الله عنهما، باشتداد الأمور في يوم القيامة؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله، وبعد:
هذه الآثار الثلاثة مما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، رضي الله عنهما، ومن المعلوم أن علي بن أبي طلحة له نسخة مشتملة على تفسير ابن عباس، رضي الله عنهما، وقد أثنى عليها العلماء؛ لأنها من أجود الطرق وأصحها عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال الإمام أحمد: بمصر صحيفة في التفسير، رواها علي بن أبي طلحة، لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدًا، ما كان كثيرًا.
وقال الحافظ ابن حجر: وهذه النسخة كانت عند أبي صالح كاتب الليث، رواها عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، وهي عند البخاري عن أبي صالح، وقد اعتمد عليها في صحيحه كثيرًا فيما يعلقه عن ابن عباس.
وقال الحافظ السيوطي: وقد ورد عن ابن عباس في التفسير ما لا يحصى كثرة، وفيه روايات وطرق مختلفة، فمن جيدها طريق علي بن أبي طلحة عنه.
وتنظر هذه الآثار في صحيفة علي بن أبي طلحة التي جمعها بعض الباحثين (ص: 375، 466، 496) ، وليس ما جاء عن ابن عباس من باب التأويل، بل فهم منها ابن عباس، رضي الله عنهما، أنها ليست نصًّا في الصفات، إذ لا يعرف عن الصحابة، رضي الله عنهم، تأويل شيء من نصوص الصفات، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن جميع ما في القرآن من آيات الصفات فليس عن الصحابة، رضي الله عنهم، اختلاف في تأويلها، وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة، رضي الله عنهم، وما رووه من الحديث، ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مائة تفسير فلم أجد إلى ساعتي هذه عن أحد من الصحابة، رضي الله عنهم، أنه تأوَّل شيئًا من آيات الصفات أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف.... وتمام هذا أنى لم أجدهم تنازعوا إلا في مثل قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ) . فروى عن ابن عباس، رضي الله عنهما، وطائفة أن المراد به الشدة، أن الله يكشف عن الشدة في الآخرة، وعن أبى سعيد وطائفة أنهم عدوها في الصفات؛ للحديث الذي رواه أبو سعيد في الصحيحين، ولا ريب أن ظاهر القرآن لا يدل على أن هذه من الصفات فإنه قال: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ) . نكرة في الإثبات لم يضفها إلى الله ولم يقل عن ساقه، فمع عدم التعريف بالإضافة لا يظهر أنه من الصفات إلا بدليل آخر، ومثل هذا ليس بتأويل، إنما التأويل صرف الآية عن مدلولها ومفهومها ومعناها المعروف. ينظر: مجموع الفتاوى (6/394) . وقال أيضًا: ثم قول من قال من السلف: هادي أهل السموات والأرض. لا يمنع أن يكون في نفسه نورًا، فإن من عادة السلف في تفسيرهم أن يذكروا بعض صفات المُفسَّر من الأسماء أو بعض أنواعه، ولا ينافى ذلك ثبوت بقية الصفات للمسمَّى بل قد يكونان متلازمين ولا دخول لبقية الأنواع فيه..... فقول من قال: (نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) : هادى أهل السماوات والأرض. كلام صحيح، فإن من معاني كونه نور السماوات والأرض أن يكون هاديًا لهم، أما أنهم نفوا ما سوى ذلك فهذا غير معلوم، وأما أنهم أرادوا ذلك فقد ثبت عن ابن مسعود أنه قال: إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور السماوات من نور وجهه. وقد تقدم عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذكر نور وجهه، وفى رواية (النور) ما فيه كفاية. ينظر: مجموع الفتاوى (6/390) . والحاصل أن بعض الآيات والأحاديث يفهم من سياقها والقرائن المحتفة بها أنها ليست نصًّا في الصفات، فتفسر بما يفهم من المقصود بها مثل قوله تعالى: (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة:115] . ومثل قوله تعالى: (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ) [الزمر:56] . وقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ) [يس:71] .
قال الحافظ ابن رجب- معلقًا على قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا) : وليس المراد هنا الصفة الذاتية- بغير إشكال- وإلا استوى خلق الأنعام وخلق آدم عليه السلام. فتح الباري لابن رجب (1/7) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: والصواب في كثير من آيات الصفات وأحاديثها: القطع بالطريقة الثابتة كالآيات والأحاديث الدالة على أن الله سبحانه وتعالى- فوق عرشه، ويعلم طريقة الصواب في هذا وأمثاله، بدلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك؛ دلالة لا تحتمل النقيض، وفى بعضها قد يغلب على الظن ذلك مع احتمال النقيض، وتردد المؤمن في ذلك هو بحسب ما يؤتاه من العلم والإيمان، (وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) [النور:40] . ينظر: مجموع الفتاوى (5/117) . هذا والله أعلم.(1/431)
صحة أثر ابن عباس في الحكم
المجيب عمر بن عبد الله المقبل
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 2/3/1424هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ما صحة الأثر المنسوب إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - في تفسير قوله تعالى في سورة المائدة "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ"؛ أنه قال: "كفر دون كفر".
وهل الأثر الضعيف إذا اجتمعت له شواهد ومتابعات ضعيفة أخرى تقويه؟
أفيدونا أثابكم الله.
الجواب
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
أما الأثر المنسوب إلى ابن عباس - رضي الله عنهما -، فهو مشهور عنه، وله عن ابن عباس طرق كثيرة، بعضها ضعيف، وبعضها قوي، وأقواها ما رواه الإمام محمد بن نصر المروزي في "تعظيم قدر الصلاة" 2/521 رقم (570،571) ، وابن جرير الطبري 6/256 من طريق ابن طاووس، عن أبيه عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وسنده صحيح، ومما يؤيد ثبوته عن ابن عباس، شهرته عن أصحابه كعطاء، وطاووس، كما نقل ذلك ابن نصر، وابن جرير.
ولكن لهذا الأثر فقه ونظر وتوضيح، وهو مبسوط في مواضعه، ومنها: رسالة تحكيم القوانين، للشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله-[نشرته دار الوطن وغيرها] ، وكتاب الشيخ د. عبد الرحمن المحمود: الحكم بغير ما أنزل الله، أحواله وأحكامه (نشرته دار طيبة) ، وكذلك كتاب: نواقض الإيمان القولية والعملية، للشيخ د. عبد العزيز العبد اللطيف (نشرته دار الوطن) .(1/432)
بول الكلاب في مسجد الرسول
المجيب سامي بن عبد العزيز الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 17/2/1424هـ
السؤال
ورد حديث كانت الكلاب تقبل وتدبر وتبول في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وما كانوا يرشون عليها شيئا، ً فما صحة هذا الحديث؟ وهل يدل على أن بول الكلاب طاهر؟ وما الجمع بينه وبين حديث إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات إحداهن بالتراب؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
هذا الحديث صحيح، أخرجه البخاري معلَّقاً بصيغة الجزم (174) ، ووصله أبو داود في سننه (382) ، والبيهقي في السنن الكبرى (1/242) ، وصححه البيهقي والنووي كما في المجموع (2/585) .
وظاهره يدل على طهارة بول الكلاب، ولكن أجيب عن الاستدلال به لذلك بعدة أجوبة:
الجواب الأول: إن ذلك كان أول الأمر؛ إذ جاء في رواية أبي داود قول ابن عمر -رضي الله عنهما- وهو راوي الحديث ـ: كنت أبيت في المسجد في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكنت فتىً عَزِباً، وكانت الكلاب تبول...... الحديث.
ثم ورد الأمر بتكريم المساجد، وتطهيرها، وجعل الأبواب عليها.
(وهذا أحسن جوابٍ وأقواه، وهو ما ارتضاه ابن حجر من الأجوبة على الاستدلال بهذا الحديث) .
الجواب الثاني: المراد أنها كانت تبول خارج المسجد في مواطنها، ثم تقبل وتدبر في المسجد، إذ لم يكن عليه في ذلك الوقت غلق، ويبعد أن تترك الكلاب تنتاب المسجد حتى تمتهنه بالبول فيه.
الجواب الثالث: إنهم لم يكونوا يرشّون شيئاً من المسجد؛ لأن مكان بول الكلاب خفي عليهم، لكن من علمه وجب عليه غسله.
وعلى كل حالٍ فلا يسوغ ترك حديث الولوغ الشهير الصحيح الصريح لمثل هذا الحديث المحتمل، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(1/433)
وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بأهل بيته
المجيب د. الشريف حاتم بن عارف العوني
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 16/2/1425هـ
السؤال
وردت علينا هذه الشبهة من رافضي وحيث إنها تحتاج إلى متخصص في علم الحديث فأرجو التكرم بالإجابة عنها من متخصص.
يقول الرافضي:" عندما يقول الشيعة بأن رسول الله -صلى الله عليه وآله- أوصى الأمة بالتمسك بعترته مع القرآن يصر البعض دون خجل وخشية لله تعالى أن يحرف الحقائق، ويصر على الكذب والتشويه، ويتمسك بخبر غير صحيح موضوع على لسان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو: "إني تارك لكم كتاب الله وسنتي" وما ذلك إلا محاربة لله تعالى، ولرسوله -عليه الصلاة والسلام-، ولأهل بيت رسوله الأطهار.
ولنناقش تلك الكذبة المفضوحة:
أي سنة تركها رسول الله - صلى الله عليه وآله - بعد وفاته؟ هل كانت سنته مكتوبة مدونة حتى يتسنى للمسلمين التمسك بها، لاسيما وأن كتابة الحديث كان منهيا عنها حتى سنيين طويلة بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وآله-، وكان لعمر بن الخطاب مقولة شهيرة يمنع فيها تدوين السنة حتى لا تختلط بالقرآن.
أسأل الجميع سؤالاً واضحاً ومحدداً: هل ورد هذا الحديث الموضوع في واحد من الكتب الستة المشهورة عندكم؟
* ففي (الموطأ) جاء فيه ما نصه:"وحدّثني عن مالك أنه بلغه أن رسول الله -صلى الله عليه [وآله] وسلم- قال: تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما، كتاب الله وسنة نبيه" (1) . (الموطأ 2: 899 حديث 3) .
وها أنت ترى بأن الحديث لا سند له: وقد قال السيوطي بشرحه: «وصله ابن عبد البر من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده» (تنوير الحوالك في شرح موطأ مالك 3: 93)
وقال الحاكم: حدث عن أبيه عن جده نسخة فيها مناكير.
*وأما في المستدرك فقد أخرجه من طريق ابن أبي أويس عن عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، ثم قال: "وقد وجدت له شاهداً من حديث أبي هريرة" فأخرجه عنه من طريق صالح بن موسى الطلحي (المستدرك على الصحيحين 1: 93) .
هكذا رأيتم أيها الإخوة حال هذا الحديث الموضوع، والذي وضع قبالة الحديث الصحيح الوارد عن رسول الله -صلى الله عليه وآله-، وهو:"ألا أيها الناس إنَّما أنا بشر يوشك أنْ يأتي رسول ربي فأُجيب، وأنا تارك فيكم الثقلين: أوَّلهما كتاب الله فيه الهدى والنور، وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي".
وفي لفظ آخر: إنِّي تارك فيكم ما إنْ تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله عزَّ وجلَّ حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما.
(انظر: سنن الترمذي 5: 662 و 663 صحيح مسلم 4: 1873, 2408 مسند أحمد 3: 17 و5: 181، مستدرك الحاكم 3: 109، أُسد الغابة 2: 12، السيرة الحلبية 3: 336، مجمع الزوائد 9: 163 الصواعق المحرقة: 230)
وهو حديث تواتر نقله عن الصحابة والتابعين، حتى إن ابن حجر المكي مثلاً قال: «إنّ لحديث التمسّك بذلك طرقاً كثيرةً وردت عن نيف وعشرين صحابّياً".
رغم أن التتبع يظهر بأنها بلغت نيفاً وثلاثين صحابيًّا، ولكن لا يهم.
انتهى كلام الرافضي.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثره واتقى حدّه. أما بعد:
فجواباً على السؤال أقول وبالله التوفيق:
إن الحديث المذكور أورده الإمام مالك في الموطأ بلاغاً (معلقاً) غير متصل، رقم (2618) ، ووصله بعض أهل العلم من طرق لا تصح، وليس في طرقه ما يُقوي بعضها، هذا ما يترجح لديّ وإن كان من أهل العلم من صحح أو قبل بعضها، بل منهم من اعتبره مستغنياً بشهرته عن الإسناد، كابن عبد البر في التمهيد (24/331) .
لكن لي مع كلام ذلك الرافضي وقفات، لن أستوعب فيها إلا أهم ضلالاته وتلبيساته:
الأولى: اعتباره الحديث موضوعاً، هذا لا يُقبل منه ولا من غيره، بل الحديث ضعيف فقط، فبلاغات الإمام مالك، وإن كانت ضعيفة حتى نقف على إسنادها، فهي من أقوى المنقطعات.
ومع ذلك: فمعنى الحديث ثابت بالكتاب وصحيح السنة، فالآيات الآمرة بطاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- والمحذرة من معصيته والحاثة على الاقتداء به والرجوع إلى سنته أكثر من أن تحصى، وكذلك أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- الثابتة عنه.
الثانية: أن هذا الرافضي لبِس لباس المكتشف لأمر خفي على أهل السنة، وكأنه قد عرف ما لم يعرفوه!
ألم يكفِه أن الحديث لم يخرجه أحد من أصحاب أمهات كتب السنة عند أهل السنة كما ذكر هو، ليعلم أن أهل السنة كانوا أدرى بضعفه منه؟!
ولئن صحح الحاكم (وكان فيه تشيع) بعض طرقه (1/93) ، فإن الحاكم عند أهل السنة لا يُقلد في أحكامه ما دام قد بان لنا ما يدل على خلاف حكمه، مع إمامته، هذا ما نص عليه أهل السنة في كتب علوم الحديث.
على أن ابن عدي، وهو من أئمة السنة، وقد توفي قبل هذا الرافضي بألف سنة (حيث توفي سنة 365هـ) ، قد أورد إحدى طريقي الحديث عند الحاكم في كتابه (الكامل في معرفة ضعفاء المحدثين وعلل الحديث 4/69) ، مبيناً ضعف روايته ونكارة إسناده.
ولئن خالف بعض أهل السنة في تضعيف هذا الحديث، فصححه، أو احتج به، فلم يكن ذلك منهم لأنهم يريدون رد حديث الوصية بالعترة!! بل هذه الدعوى هي الكذبة المفضوحة!!! فهذا الحاكم الذي صحح الحديث المسؤول عنه، قد صحح أيضاً حديث العترة (3/109-110) ، وهذا الإمام مسلم يخرج حديث العترة في صحيحه (رقم 2408) ، دون الحديث المسؤول عنه، وأخرج حديث العترة جماعة من أهل السنة وصححوه.
فلماذا يدعي هذا الرافضي ما ليس له، ويتشبع بما لم يُعطَ؟!
بل هذه بضاعتنا ردت إلينا، وهو دخيل فيها دعي عليها!
وهذا يبين أن تصحيح من صحح الحديث المسؤول عنه أو احتجاجه به من أهل السنة لم يكن بقصد تضعيف ورد حديث الوصية بالعترة، كما ادعاه ذلك الرافضي، بل هو راجع إلى أحد سببين: الأول: اختلاف الاجتهاد، حيث إن في الحديث خلافاً -كما تقدم-، وهذا أمر غير مستنكر. الثاني: أنه ناشئ عن عدم اطلاع على علم الحديث عند بعض المحتجين به، ممن ليس تخصصه الحديث ولا علم له به من أتباع السنة، ومثل هذا يوجد في كل الملل والفرق.
وإن كان الواجب -حينها- على هذا الذي لا علم عنده بالسنة من أهل السنة أن يسأل أهل العلم بها، كما فعل هذا السائل الذي طلب الإجابة لهذا الرافضي -وفقه الله تعالى-.
الثالثة: أن هذا الرافضي قد اعتاد أن يلبس ثوبي زور!! فكما حاول أن يوهم أنه عرف ما لم يعرفه أهل السنة بالنسبة للحديث المسؤول عنه، فإنه أخذ يوهم نحو ذلك في حديث الوصية بالعترة، وكأنه هو وأمثاله من الرافضة أول من عرف صحته!!!
فحديث العترة صححه وحسنه من أئمة السنة -كما سبق- عدد منهم، ومنهم الإمام مسلم (رقم 2408) ، والترمذي (رقم 3786-3788) ، وابن خزيمة (رقم 2357) ، والحاكم (3/109-110-148) وغيرهم.
لكن الفرق بين أهل السنة والرافضة في حديث العترة، أن الرافضة يعتبرونه دليلاً على عصمة أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- (وهو معتقد باطل يصادم الكتاب والسنة والإجماع) ، وأما أهل السنة فيعتبرونه دليلاً على حق آل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإكرام والمحبة والتقدير واحتمال الخطأ منهم والعفو عن إساءتهم وعلى عدم إهانتهم أو إيذائهم أو إنكار حقوقهم، حيث إن أصح ألفاظ حديث العترة، وهو لفظ صحيح مسلم (8408) ، ليس فيه أكثر من هذه المعاني الصحيحة، فلفظه:"وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما: كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به" فحث على كتاب الله ورغب فيه. ثم قال:"وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي" ثم بيّن زيد بن أرقم -رضي الله عنه- وهو راوي الحديث- أن أهل بيته هم: أزواجه أمهات المؤمنين، وآل علي وآل عقيل وآل جعفر أبناء أبي طالب، وآل العباس بن عبد المطلب، -رضي الله عنهم أجمعين-.
وأهل السنة هم أعرف الناس بحق آل البيت، وأن تحقيق هذا الحق من جليل شعب الإيمان، وهذا إمام أهل السنة قاطبة، خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- يقول -كما في صحيح البخاري رقم (3712-4036-4241) -:"والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحب إلي أن أصل من قرابتي"، ويقول -رضي الله عنه- كما في صحيح البخاري رقم (3713) :"ارقبوا محمداً -صلى الله عليه وسلم- في أهل بيته" ويُفدي الحسن بن علي -رضي الله عنهما- بأبيه، فيقول -رضي الله عنه- كما في صحيح البخاري رقم (3542-3750) وهو حامل للحسن على عاتقه:"بأبي شبيه بالنبي، لا شبيه بعلي" وعلي -رضي الله عنه- يضحك.
ولا ينكر أهل السنة أن آل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- قد بُغي عليهم وظلموا، كما لا يجهلون أنه قد أُفرط في محبتهم، وغُلي في شأنهم، وأن الناس فيهم بين إفراط وتفريط، إلا ما كان من أهل السنة، الذين عرفوا لهم حقهم، وحققوه قولاً وعملاً -لا قولاً بغير عمل- بغير غلو ولا جفاء.
فما لهذا الرافضي أن يدخل بين آل البيت وأنصارهم حقاً من أهل السنة؟!!
فما خان آل البيت إلا أنتم!! وكما رفضكم أَوَّلوُنا يرفضكم آخِرونا!!!
والله الهادي إلى سواء السبيل. والله أعلم، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن ولاه.(1/434)
"أنت ومالك لأبيك"
المجيب سامي بن محمد الخليل
مدير مركز الدعوة والإرشاد بعنيزة
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 11/10/1425هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أمي متوفاة منذ 30 عامًا، وخلَّفتْ من الأولاد والبنات تسعة، وبعدها تزوج أبي وأعطى كل مصاغ المرحومة أمي لزوجته الجديدة، وعشنا وعاش الجميع، والله أعلم كيف عشنا نحن أولاد المرحومة، وخلفت زوجة أبي من الأولاد والبنات 13، وبضغط من زوجة أبي تريد كل شيء لأولادها، أبي والحمد لله كان وضعه المادي جيدًا، ولكن كان يحب أن يأخذ منا للآخرين ودائمًا. ما تفسير: "أنت ومالك لأبيك؟ ".
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
قوله صلى الله عليه وسلم: "أنتَ ومالُكَ لأبيك". أخرجه أبو داود (3530) وابن ماجه (2292) . يعني أنه يجوز للأب أن يأخذ أو يتملك من مال ابنه ما يشاء، لكن بشرط ألا يضر الابن، وذلك بأن يأخذ الأب ما يحتاجه الابن أو يضطر إليه، وذلك مثل أن يأخذ الأب أثاث بيت الابن المضطر إليه، أو يكون ليس مضطرًّا إليه، لكنه بحاجة إليه، أو يأخذ منه مالاً هو محتاج إليه، أو نحو ذلك فمثل هذه الأشياء ليس للأب أن يأخذها من ابنه.
وأما ما ذكرته من أن والدك يعطي إخوتك من زوجته الثانية أكثر منكم، فهذا لا يجوز، ويجب على الأب أن يسوي بين أولاده، ولعلك تبيِّن لأبيك بلطف وحكمة أن هذا أمر لا يجوز، أو تطلب من غيرك مثل أعمامك أو غيرهم ممن يناسب أن يبين لأبيك ذلك؛ لعله يقبل منه ويرجع إلى العدل بينكم. والله أعلم.(1/435)
صحة حديث: "خير أمتي في المدن"
المجيب عمر بن عبد الله المقبل
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 06/10/1426هـ
السؤال
أرجو إفادتي عن صحة حديث: "خير أمتي في المدن ".
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فقد بحثت عن هذا الحديث فلم أجده، ولكن معناه -من حيث الجملة- صحيح، أعني أن أهل المدن والقرى -في الغالب- خير من أهل البوادي، وذلك لأمور، منها:
1- أن الأنبياء كلهم بعثوا من القرى -أي من الحواضر- كما قال سبحانه: "وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى ... " [يوسف:109] ، ولم يبعث الله نبياً قط من البادية.
2- أهل الحواضر والمدن أكثر علماً بالشرع، وأقرب إلى التدين من أهل البوادي من الأعراب وأمثالهم، كما قال سبحانه وتعالى: "الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم" [التوبة:97] .
3- أن أهل المدن ألين عريكة، وأسمح خلقاً، وأكثر تسامحاً، وأقرب إلى العفو.
ولا يعني هذا التفضيل المطلق، فإنه ما من شك أن في أهل البادية فضلاء، وفي أهل البوادي من كريم الأخلاق ما قد لا يوجد عند بعض أهل المدن، وقد أنصفهم خالقهم سبحانه وتعالى؛ فقال عنهم: "ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم" [التوبة:99] .
وأوكد على أن هذا لا يبيح نسبة هذا الحديث إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى يثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- بإسناد يحتج بمثله، والله أعلم.(1/436)
عدم قبول صلاة شارب الخمر
المجيب د. الشريف حاتم بن عارف العوني
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 7/5/1424هـ
السؤال
هل صحيح أن من شرب خمراً وسكر لا تقبل الصلاة منه لمدة أربعين يوماً، وأنه إن مات خلال الأربعين يوماً يكون كعابد وثن، وردت تلك الأحاديث في كتاب (الكبائر) للذهبي في موقع الوراق؟.
الجواب
جواباً عن سؤال من سأل عن صحة حديث فيه أن من شرب خمراً وسكر لا تقبل منه صلاة لمدة أربعين يوماً، وأنه إن مات خلال الأربعين يوماً يكون كعابد وثن، وعزاه السائل إلى كتاب (الكبائر) للذهبي، أقول وبالله التوفيق:
صح من حديث عبد الله بن عَمرو - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من شرب الخمر فسكر لم تُقبل له صلاة أربعين صباحاً، فإن مات دخل النار، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشرب فسكر، لم تُقبل له صلاة أربعين صباحاً فإن مات دخل النا ر، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشرب فسكر لم تُقبل له صلاة أربعين صباحاً، فإن مات دخل النار، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخَبال يوم القيامة " قالوا: يا رسول الله ما طينة الخبال؟ قال: " عُصارة أهل النار " ـ أخرجه الإمام أحمد (رقم 6644، 6659، 6773،6854) ، والنسائي (رقم 5664، 5670) ،وابن ماجة (رقم 3377) ، وابن خزيمة (رقم 939) ، وابن حبان (رقم 5357) ، والحاكم وصححه (1/30-31، 257) (4/146) ، وأما حديث:" مدمن الخمر كعابد وثن " فقد اختلف فيه تصحيحاً وتضعيفاً، والراجح ضَعْفُه من جميع وجوهه، فانظر (العلل) لابن أبي حاتم (رقم 1553، 1591) ، و (التاريخ الكبير) للبخاري (1/129) (3/515) ، و (شعب الإيمان) للبيهقي (5/12-13رقم 5597 - 5598) ، (والعلل المتناهية) لابن الجوزي (رقم 1116-1121) ، وأما من صححه كابن حبان (رقم 5347) ، والضياء (10/330) فتأولوا الحديث وفسروه بأقوال:
منها: أن المشبه بعابد الوثن هو المستحل له المعتقد أنه حلال مع علمه بتحريم الله تعالى له (وهو تفسير ابن حبان له) .
ومنها: أن وجه الشبه، هو: حبوط عمله كحبوط عمل الكافر، أي أنه لا يُثاب على القربات (وهو تفسير طاووس بن كيسان أحد علماء التابعين، كما في (المجتبي) للنسائي رقم 5665) .
ومنها: أن المدمن والكافر سواءٌ في مطلق التعذيب بالنار، ولا يلزم استواؤهما في كل شيء، فإن الكافر مخلّد في النار، وأما عُصاة المؤمنين فلا يخلدون، ثم هم مُعرضون لعفو الله ورحمته.
ومنها: أن مدمن الخمر في اتباعه لهواه ومخالفته أمر الله -تعالى- كعابد الوثن، وقد قرن الله - تعالى- بين الخمر وعبادة الأوثان، فقال - تعالى-: " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون " [المائدة: 90] .
ومنها: أن تعلق قلب مدمن الخمر بالخمر يشبه تعلق قلب عابد الوثن بالوثن، كما قال - تعالى- عن اليهود: " وأُشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم" [البقرة: 93] .
وعلى هذه المعاني يُحمل قول عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -: " من شرب الخمر فلم يِنْتشِ لم تقبل له صلاةٌُ ما دام في جوفه أو عروقه منها شيءٌُُ، وإن مات مات كافراً، وإن انتشى لم تقبل له صلاة أربعين ليلة، وإن مات فيها مات كافراً " أخرجه النسائي (رقم 5668) ، وأما عزو السائل للحديث إلى كتاب (الكبائر) للذهبي، فهذه فرصة للتنبيه على أمر مهم بخصوص هذا الكتاب، فإن كتاب (الكبائر) طبع عدة طبعات، ومنه نسخة طبعت بتحقيق الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة - رحمه الله -، وبتحقيق عبد الرحمن فاخوري، وطُبع بتحقيق غيرهما وهي طبعات لا تُمثل كتاب الذهبي في (الكبائر) ففي نسبة تلك الطبعات للإمام الذهبي شكٌ كبير، وبيَّن ذلك واستدل له الأستاذ محي الدين مستو في الطبعة التي بتحقيقه لكتاب (الكبائر) للذهبي، وطبعته هذه هي التي تمثل كتاب الذهبي فعلاً.
وقد نظرت في كتاب (الكبائر) للذهبي بتحقيق محيي الدين مستو، فلم أجد فيها الحديث المسؤول عنه! ، وليس هذا بأول حديث ضعيف أو باطلٍ يوجد في الطبعة المنسوبة خطاً للذهبي، ففيها - غيره- كثير!!. والله أعلم.(1/437)
حديث الأعرابي في الطواف
المجيب د. الشريف حاتم بن عارف العوني
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 22/5/1424هـ
السؤال
بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - في الطواف، إذ سمع أعرابياً يقول: يا كريم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- خلفه: يا كريم، فمضى الأعرابي إلى جهة الميزاب، وقال: يا كريم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- خلفه: يا كريم، فالتفت الأعرابي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال: يا صبيح الوجه، يا رشيق القد، أتهزأ بي لكوني أعرابياً؟ والله لولا صباحة وجهك، ورشاقة قدك لشكوتكم إلى حبيبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، تبسم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال: أما تعرف نبيك يا أخا العرب؟ قال الأعرابي: لا، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: فما إيمانك به؟ قال: آمنت بنبوته ولم أره، وصدَّقت برسالته ولم ألقه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: يا أعرابي اعلم أني نبيك في الدنيا، وشفيعك في الآخرة فأقبل الأعرابي يقبل يد النبي - صلى الله عليه وسلم-، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: مه يا أخا العرب لا تفعل بي كما تفعل الأعاجم بملوكها، فإن الله -سبحانه وتعالى- بعثني لا متكبراً ولا متجبراً، بل بعثني بالحق بشيراً ونذيراً، فهبط جبريل على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال له: يا محمد السلام يقرئك السلام، ويخصك بالتحية والإكرام، ويقول لك: قل للأعرابي، لا يغرنه حلمنا ولا كرمنا، فغداً نحاسبه على القليل والكثير، والفتيل والقطمير، فقال الأعرابي: أو يحاسبني ربي يا رسول الله، قال: نعم يحاسبك إن شاء، فقال الأعرابي: وعزته وجلاله إن حاسبني لأحاسبنه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: وعلى ماذا تحاسب ربك يا أخا العرب؟ قال الأعرابي: إن حاسبني ربي على ذنبي حاسبته على مغفرته، وإن حاسبني على معصيتي حاسبته على عفوه، وإن حاسبني على بخلي حاسبته على كرمه، فبكى النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى ابتلت لحيته، فهبط جبريل -عليه السلام- على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال: يا محمد، السلام يقرئك السلام، ويقول لك: يا محمد قلل من بكائك، فقد ألهيت حملة العرش عن تسبيحهم. قل لأخيك الأعرابي لا يحاسبنا ولا نحاسبه، فإنه رفيقك في الجنة. فما أصل هذا الحديث، وما مدى صحته
الجواب
إن الحديث المذكور يصلح مثالاً للأحاديث التي تظهر فيها علامات الوضع والكذب، وفيه من ركاكة اللفظ، وضعف التركيب، وسمج الأوصاف، ولا يَشُكُّ من له معرفة بالسنة النبوية وما لها من الجلالة والجزالة أنه لا يمكن أن يكون حديثاً صحيحاً ثابتاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم أجده بهذا اللفظ، وليت أن السائل يخبرنا بالمصدر الذي وجد فيه هذا الحديث ليتسنى لنا تحذير الناس منه. على أن أبا حامد الغزالي - على عادته رحمه الله - قد أورد حديثاً باطلاً في (إحياء علوم الدين 4/130) قريباً من مضمونه من الحديث المسؤول عنه، وفيه أن أعرابياً قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا رسول الله من يلي حساب الخلق يوم القيامة؟ فقال - صلى الله عليه وسلم-: الله - تبارك وتعالى-، قال: هو بنفسه؟ قال: نعم، فتبسم الأعرابي، فقال - صلى الله عليه وسلم-: ممَّ ضحكت يا أعرابي؟ قال: إن الكريم إذا قدر عفا، وإذا حاسب سامح.. إلى آخر الحديث.
وقد قال العراقي عن هذا الحديث:"لم أجد له أصلاً"، وذكره السبكي ضمن الأحاديث التي لم يجد لها إسناداً (تخريج أحاديث الإحياء: رقم 3466، وطبقات الشافعية الكبرى: 6/364) ، ومع ذلك فالنصوص الدالة على سعة رحمة الله -تعالى- وعظيم عفوه -عز وجل-، وقبوله لتوبة التائبين، واستجابته لاستغفار المستغفرين كثيرة في الكتاب وصحيح السنة.
قال - تعالى-:"وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى" [طه:82] ، وقال - تعالى-:"وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون" [الشورى:25] ، وقال -تعالى-:"ورحمتي وسعت كل شيء " [الأعراف: 156] .
وفي الصحيحين البخاري (7554) ومسلم (2751) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:"إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق إن رحمتي سبقت غضبي"، والله أعلم.(1/438)
هل بنى الصحابة مسجداً على قبر أبي بصير؟
المجيب د. سعد بن عبد الله الحميد
أستاذ الدراسات العليا بجامعة الملك سعود
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 14/06/1426هـ
السؤال
اطلعت في بعض المواقع على حديث منسوب إلى مغازي موسى بن عقبة، أن أبا بصير-رضي الله عنه- لما توفي دُفن بسيف البحر، وبني على قبره مسجد، فما درجة صحة هذا الحديث؟ وهل يصلح دليلاً على جواز بناء المساجد على القبور؟ أفيدونا أفادكم الله، وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا الحديث المشار إليه رواه موسى بن عقبة، كما في "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/1613-1614) ، و"الاكتفاء" للكلاعي (2/184) ، و"تاريخ الإسلام" للذهبي (2/400) ، و"فتح الباري" لابن حجر (5/351) .
ومن طريق موسى بن عقبة أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة" (4/172- 175) فقال: أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان، قال: أخبرنا أبو بكر بن عتَّاب العَبْدي، قال: حدثنا القاسم بن عبد الله بن المغيرة، قال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن موسى بن عقبة.
(ح) ، وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: أخبرنا إسماعيل بن محمد بن الفضل الشعراني، قال: حدثنا جَدِّي، قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر، قال: حدثنا محمد بن فُلَيح، عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب - وهذا لفظ حديث القطان -، قال: ولما رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة انفلت رجل من أهل الإسلام من ثقيف - يقال له: أبو بصير بن أسيد بن جارية الثقفي - من المشركين ... ، فذكر قصة أبي جندل وأبي بصير -رضي الله عنهما- المشهورة، وكيف قتل أبو بصير أحد الرجلين اللذين أخذاه من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم خرج حتى أتى سيف البحر، وكيف انفلت أبو جندل بن سهيل من قريش، فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، فما سمعوا بِعِيرٍ خرجت لقريشٍ إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- تناشده أن يرسل إلى أبي بصير وأصحابه ... ، وفي آخره قال: "وكتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أبي جندل وأبي بصير يأمرهم أن يقدموا عليه، ويأمر من معهما ممن اتبعهما من المسلمين أن يرجعوا إلى بلادهم وأهليهم، ولا يعترضوا لأحدٍ مرَّ بهم من قريشٍ وعيرانها، فقدم كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زعموا -على أبي جندل وأبي بصير، وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في يده يقرؤه، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدًا".
وأخرجه ابن عساكر في "تاريخ مدينة دمشق" (25/299-300) من طريق البيهقي السابق، ومن طريق الخطيب البغدادي، عن أبي الحسين بن الفضل القطان شيخ البيهقي، به.
والشاهد من هذه القصة: قوله: "وجعل عند قبره مسجدًا".
وهذا ليس فيه دلالة على جواز بناء المساجد على القبور؛ لأمرين:
الأول: أن هناك فرقًا بين قوله: «على قبره» ، وقوله: «عند قبره» ، فالمنهي عنه هو: «بناء المساجد على القبور» ، وليس «عند القبور» ؛ لما جاء في حديث عائشة -رضي الله عنها-: أن أم حبيبة وأم سلمة -رضي الله عنها- ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا، وصوَّروا فيه تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة". أخرجه البخاري (427) ، ومسلم (528) .
ومن المعلوم أن قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه -رضي الله عنهما- عند مسجده، ولو كان ذلك غير جائز لما قُبِروا هناك، فكان الأولى بهذا الْمُسْتَدِلِّ أن يستدِلَّ بهذا الذي هو أقوى وأصرح!!
ولكن الذي يظهر لي أنه وقع على خطأ جاء في الموضع السابق من "الاستيعاب" لابن عبد البر، فإن اللفظ عنده هناك جاء هكذا: «فدفنه أبو جندل مكانه، وصلى عليه، وبنى على قبره مسجدًا» .
وطريقة أهل السنة في مثل هذه المواضع أنهم يأخذون بالمحكم، ويردون إليه المتشابه، فقد نقل هذا النص عن موسى بن عقبة عدد من أهل العلم، وكلهم قالوا: «عند قبره» ، ومنهم الكلاعي، والذهبي، وابن حجر، وكذا رواه عنه البيهقي وابن عساكر بإسناديهما كما سبق، ولم أجد من ذكر أن موسى بن عقبة قال في روايته: «على قبره» ، سوى ما جاء في كتاب ابن عبد البر، وهذا يحتمل أن يكون خطأً من الطباعة، فلا بُدَّ من مراجعة نسخ الكتاب الخطِّيَّة، فإن وجد فيها كذلك فلَعَلَّه تصحيف من النُّسَّاخ، وربما كان من ابن عبد البر نفسه؛ فإنه ليس معصومًا من الزلل، وقد ذكر هو في "كتاب الاستذكار" (1/521) : حديث سهو النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم- في الصلاة، ثم قال: «وفي هذا الحديث بيانُ أن أحدًا لا يسلم من الوهم والنسيان؛ لأنه إذا اعتَرَى ذلك الأنبياء، فغيرُهم بذلك أحرى» .
ونبَّه في "كتاب التمهيد" (1/366) على خطأ وقع فيه ابن شهاب الزهري بقوله: «لا أعلم أحدًا من أهل العلم والحديث المصنِّفين فيه عوَّل على حديث ابن شهاب في قصة ذي اليدين؛ لاضطرابه فيه، وأنه لم يُتِمَّ له إسنادًا ولا متنًا، وإن كان إمامًا عظيمًا في هذا الشأن، فالغلط لا يسلم منه أحدٌ، والكمال ليس لمخلوق، وكلُّ أحد يؤخذ من قوله ويُترَك، إلا النَّبيّ -صلى الله عليه وسلم-» .
الأمر الثاني: أن موسى بن عقبة رواه عن الزهري مرسلاً، والمرسل ضعيف كما هو مقرر عند أهل الحديث، فلا تقوم بهذه الرواية حجة.
ويزداد ضعف هذه الرواية بكونها من مراسيل ابن شهاب الزهري، فإنها رديئة عند طائفة من أهل العلم بالحديث.
قال ابن أبي حاتم في "المراسيل" (ص3) : "حدثنا أحمد بن سنان؛ قال: كان يحيى بن سعيد القطان لا يرى إرسال الزهري وقتادة شيئًا، ويقول: هو بمنزلة الريح".
وقال أيضًا: «قرئ على عباس الدوري، عن يحيى بن معين قال: مراسيل الزهري ليس بشيء» .
وروى ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (55/368) عن أبي قدامة عبيد الله بن سعيد قال: سمعت يحيى بن سعيد [يعني: القطان] يقول: «مرسل الزهري شرٌّ من مرسل غيره؛ لأنه حافظ، وكلما قدر أن يُسَمِّيَ سَمَّى، وإنما يترك من لا يحسن أو يستجيز أن يُسَمِّيَه» .
وروى أيضًا هو والخطيب البغدادي في "الكفاية" (ص386) من طريق أحمد بن أبي شريح الرازي، قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن إدريس الشافعي الذَّابَّ عن أهل السنة، والمنكر على أهل البدعة - رضوان الله عليه ورحمته - يقول: «إرسال الزهري عندنا ليس بشيء، وذلك أنَّا نجده يروي عن سليمان بن أرقم» .
وفي لفظ؛ قال: سمعت الشافعي يقول: «يقولون: نُحابي، ولو حابَيْنا لحابينا الزهري! وإرسال الزهري ليس بشيء، وذاك أنا نجده يروي عن سليمان بن أرقم» .
وسليمان بن أرقم هذا متروك الحديث، كما قال أبو داود وأبو حاتم والترمذي وأبو أحمد الحاكم والدارقطني وغيرهم، وقال البخاري: تركوه. انظر "تهذيب التهذيب" (4/148) .
وروى ابن عساكر أيضًا (55/369) عن علي بن المديني ويعقوب بن شيبة أنهما قالا: «مرسلات الزهري رديئة» .
ولما أورد الحافظ الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (5/339) بعض هذه الأقوال؛ قال: «قلت: مراسيل الزهري كالمعضل؛ لأنه يكون قد سقط منه اثنان، ولا يسوغ أن نظن به أنه أسقط الصحابي فقط، ولو كان عنده عن صحابي لأوضحه، ولما عجز عن وصله، ولو أنه يقول: عن بعض أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن عَدَّ مرسل الزهري كمرسل سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير ونحوهما، فإنه لم يَدْرِ ما يقول، نعم مرسله كمرسل قتادة ونحوه» .
هذا، وقد روى البخاري في "صحيحه" (2731 و2732) أصل قصة أبي بصير وأبي جندل ومن معهم رضي الله عنهم، ولم يذكر هذه اللفظة أصلاً، لا بلفظ «عند قبره» ، ولا غيره، ورواه متصلاً، فقال: حدثني عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق. أخبرنا معمر، قال: أخبرني الزهري، قال: أخبرني عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان - يُصَدِّقُ كُلُّ واحد منهما حديثَ صاحبه - قالا: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زمن الحديبية ... ، فذكر حديث صلح الحديبية بطوله، وفيه قصة أبي جندل وأبي بصير -رضي الله عنهما- المشهورة، وكيف قتل أبو بصير أحد الرجلين اللذين أخذاه من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم خرج حتى أتى سيف البحر، وكيف انفلت أبو جندل بن سهيل من قريش، فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، فما سمعوا بِعِيرٍ خرجت لقريشٍ إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- تناشده بالله والرحم أن يرسل إلى أبي بصير وأصحابه: فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهم، فأنزل الله تعالى: (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم) حتى بلغ: (الحمية حمية الجاهلية) [الفتح: 26] ، وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينهم وبين البيت.
هكذا رويت هذه القصة بالإسناد المتصل، ولم تذكر فيها وفاة أبي بصير -رضي الله عنه- ولا أنه بني على قبره مسجد.
ثم إن البخاري روى الحديث (2733) عقب هذه الرواية تعليقًا، فقال: وقال عقيل عن الزهري. قال عروة: فأخبرتني عائشة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يمتحنهن، وبلغنا أنه لما أنزل الله -تعالى- أن يردوا إلى المشركين ما أنفقوا على من هاجر من أزواجهم، وحكم على المسلمين أن لا يمسكوا بعصم الكوافر: أن عمر طلق امرأتين. وما نعلم أحدًا من المهاجرات ارتدَّت بعد إيمانها، وبلغنا أن أبا بصير بن أسيد الثقفي قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- مؤمنًا مهاجرًا في المدَّة، فكتب الأخنس بن شريق إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأله أبا بصير، فذكر الحديث. اهـ، وانظر (4182) .
وأوضح الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (5/351) مراد البخاري بصنيعه هذا فقال: «قوله: "قال عقيل، عن الزهري" تقدم موصولاً بتمامه في أول الشروط. وأراد المصنف بإيراده: بيان ما وقع في رواية معمر من الإدراج. قوله: "وبلغنا" هو مقول الزهري، وصله ابن مردويه في تفسيره من طريق عقيل. وقوله: "وبلغنا أن أبا بصير ... " إلخ، هو من قول الزهري أيضًا، والمراد به: أن قصة أبي بصير في رواية عقيل من مرسل الزهري، وفي رواية معمر موصولة إلى المسور، لكن قد تابع معمرًا على وصلها ابن إسحاق كما تقدَّم، وتابع عقيلاً الأوزاعي على إرسالها، فلعل الزهري كان يرسلها تارة، ويوصلها أخرى، والله أعلم» . وانظر "فتح الباري" (7/455) أيضًا.
وخلاصة ما تقدَّم: أنه لم يثبت في شيء من طرق هذا الحديث الصحيحة ذكر وفاة أبي بصير - واسمه: عُتْبَة بن أَسيد بن جارية - رضي الله عنه بسيف البحر، وأنه بُني عند قبره مسجد، وورد في طريق مرسلة ضعيفة أرسلها الزهري - وانفرد بها عن الزهري موسى بن عقبة -: «فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدًا» ، وهذه اللفظة لو ثبتت لم يكن فيها حُجَّة، فالمنهي عنه هو: «بناء المساجد على القبور» ، وليس «عند القبور» ، فكيف وهي لم تثبت؟!! والله أعلم.(1/439)
حديث "من أخذ الأجر حاسبه الله بالعمل"
المجيب عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 1/3/1425هـ
السؤال
كتب لي أحد الإخوة حديثاً بدأ فيه بقوله: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "من أخذ الأجر حاسبه الله بالعمل"، فهل هذا حديث أو جزء من حديث؟ وما درجة صحته إن كان حديثاً؟ أم هو من كلام الناس الدارج على ألسنتهم؟ -وجزاكم الله خيراً-.
الجواب
لم أجد شيئاً بهذا اللفظ، ولكن الأحاديث الواردة في وجوب أداء حقوق الناس والنهي عن إضاعتها وبيان عظيم العقوبة لمن ضيعها ولم يؤدها كما أمر الله كثيرة جداً، منها ما رواه مسلم في صحيحه في كتاب البر والصلة (ح2582) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء "، ومنها ما رواه البخاري في صحيحه في كتاب المظالم ح (2449) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: " من كانت عنده مظلمة لأخيه، من عرضه أو من شيء، فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه.."، وفي صحيح البخاري أيضاً في كتاب فرض الخمس ح (3118) عن أبي الأسود عن ابن أبي عياش عن خولة الأنصارية رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: " إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة ".
وفي صحيح مسلم، في كتاب البر والصلة ح (2581) عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-:" أتدرون من المفلس؟ قالوا: " المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع " فقال: "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته، قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار ".
وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة، وكل هذه الأحاديث التي ذكرت صحيحة ثابتة وفيها غنية عن ما لم يصح، وجميعها دلت على التشديد في حقوق الناس وأموالهم، ووجوب التخلص من هذه الحقوق وإعطائها أصحابها قبل أن لا يكون دينار ولا درهم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(1/440)
معنى: (كان الله ولا مكان)
المجيب د. رشيد بن حسن الألمعي
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك خالد
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 05/04/1425هـ
السؤال
السلام عليكم.
كنت قد تكلمت مع بعض المخالفين لعقيدة أهل السنة والجماعة في مسألة الاستواء، فقال لي كلاماً ونسبه لعلي -رضي الله تعالى عنه-، وهو أن الله كان؛ ولا مكان؛ وهو على ما كان عليه كان، فهل نسبة هذا الكلام لعلي - رضي الله عنه- صحيحة، وما معنى هذا الكلام.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن والاه. أما بعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
فهذا الكلام لا تصح نسبته إلى علي -رضي الله عنه- ولا غيره من الصحابة -رضوان الله عليهم- وإنما تكلم بهذا بعض المتأخرين من المتكلمين، فقالوا: (كان الله ولا مكان ولا زمان، وهو الآن على ما عليه كان) ، ومرادهم بذلك نفي حقيقة الاستواء على العرش ونفي علو الله بذاته، ونفي نزوله إلى السماء الدنيا على ما يليق بجلاله، وهذا من تقولهم على الله بلا علم ومن السجع المتكلف الذي أرادوا به معارضة النصوص ونفي دلالتها على إثبات بعض صفات الله، والثابت هو قوله صلى الله عليه وسلم من حديث عمران بن حصين مرفوعاً بلفظ "كان الله ولم يكن شيء قبله"، وفي لفظ "ولم يكن شيء معه، وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السماوات والأرض" رواه البخاري (3192) ، فحرف الملاحدة الاتحادية المدّعون للتحقيق والعرفان لفظ الحديث فأوردوه بلفظ: "كان الله ولم يكن شيء معه وهو الآن على ما عليه كان"، وهذه الزيادة كذب مفترى على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد اتفق أهل العلم بالحديث على أن هذه الزيادة موضوعة مختلقة، ولمزيد البيان حول هذه المقولة انظر فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (2/272-278) . والله الموفق.(1/441)
حديث: "أنتم أعلم بأمر دنياكم"
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 19/5/1425هـ
السؤال
فضيلة الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بالنسبة لرواية: (أنتم أعلم بأمر دنياكم) التي عند مسلم -رحمه الله- هناك رجل يزعم:
1- أنها موضوعة بناء على إسنادها.
2- أن معناها باطل؛ لأنها على زعمه:
أ - مقيدة بالله فيكون معناها أنتم أعلم بأمر دنياكم من الله.
ب - مطلقة فيكون معناها -على زعمه- أنتم أعلم بأمر دنياكم من الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم- والملائكة، والجن ... الخ، ويرفض رفضاً شديداً أن يكون المقصود بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- فما رأي فضيلتكم في تفكير ذلك الرجل؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
قصة تأبير النخل أخرجها الإمام مسلم من حديث غير واحد من الصحابة - رضي الله عنهم-:
1- أخرجها ح (2361) من حديث طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه- قَالَ: مَرَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَوْمٍ عَلَى رُؤوسِ النَّخْلِ، فَقَالَ: "مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ؟ " فَقَالُوا: يُلَقِّحُونَهُ يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِي الْأُنْثَى فَيَلْقَحُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئًا " قَالَ: فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-بِذَلِكَ فَقَالَ: "إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ، فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا. فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ؛ وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ اللَّهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-".
2- ومن حديث رافع بن خديج - رضي الله عنه- ح (2362) قال: قَدِمَ نَبِيُّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-الْمَدِينَةَ، وَهُمْ يَأْبُرُونَ النَّخْلَ، يَقُولُونَ يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ، فَقَالَ: "مَا تَصْنَعُونَ؟ " قَالُوا: كُنَّا نَصْنَعُهُ، قَالَ: لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا"، فَتَرَكُوهُ فَنَفَضَتْ أَوْ فَنَقَصَتْ، قَالَ: فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيٍ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ " قَالَ عِكْرِمَةُ أَوْ نَحْوَ هَذَا.
3- من حديث أنس- رضي الله عنه- ح (2363) أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ فَقَالَ: "لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ" قَالَ: فَخَرَجَ شِيصًا، فَمَرَّ بِهِمْ، فَقَالَ: "مَا لِنَخْلِكُمْ؟ " قَالُوا: قُلْتَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: " أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ ".
- هذه القصة ظاهرة الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم قد خاطب أصحابه- رضي الله عنهم- حينما وجدهم يؤبرون النخل، فظن أن هذا لا يفيد شيئاً، والصحابة -رضي الله عنهم- فهموا أنه صلى الله عليه وسلم نهاهم عن ذلك فتركوا التأبير، والرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-لم ينههم عن التلقيح، لكن هم غلطوا في ظنهم أنه نهاهم.
وظنه عليه الصلاة والسلام في أمور المعايش وخبرات الحياة كغيره، فلا يمتنع وقوع مثل هذا ولا نقص في ذلك، قال القرطبي: "وقوله صلى الله عليه وسلم": ما أظن ذلك يغني شيئاً " يعني به الإبار، إنما قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-هذا؛ لأنه لم يكن عنده علم باستمرار هذه العادة، فإنه لم يكن ممن عانى الزراعة، ولا الفلاحة، ولا باشر شيئاً من ذلك، فخفيت عليه تلك الحالة. " المفهم (6/168) .
وقال النووي: "قال العلماء: ولم يكن هذا القول خبراً وإنما كان ظناً؛ كما بينه في هذه الروايات، قالوا: ورأيه صلى الله عليه وسلم في أمور المعايش وظنه كغيره فلا يمتنع وقوع مثل هذا، ولا نقص في ذلك، وسببه تعلق هممهم بالآخرة ومعارفها، والله أعلم " شرح النووي لصحيح مسلم (15/116) .
- هذه القصة وقعت مرة واحدة، وقد تعددت ألفاظها، مما يشعر بدخول الرواية بالمعنى في بعض سياقاتها، والإمام مسلم قدم حديث طلحة - رضي الله عنه- في الترتيب، ولعل ما جاء في سياقه مقدم على غيره ثم ثنى برواية عكرمة بن عمار عن رافع بن خديج وفيه: "وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيٍ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ".
قال النووي - رحمه الله -: " لفظة الرأي إنما أتى بها عكرمة على المعنى لقوله في آخر الحديث قال عكرمة: أو نحو هذا، فلم يخبر بلفظ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-محققاً "، وينظر إكمال المعلم (7/334) .
ثم ذكر الإمام مسلم السياق الثالث، وهو من طريق حماد بن سلمة، وكان حماد يخطئ، وهذا السياق هو الذي فيه: "أنتم أعلم بأمور دنياكم"، وبعض الناس اتخذ من قوله: "أنتم أعلم بأمور دنياكم" ذريعة للتنصل من أحكام الإسلام المتعلقة بالدنيا مثل المعاملات ونحوها، ومن المعلوم أن تشريعات الإسلام وأحكامه جاءت لتحكم حياة الناس في جميع شؤونهم من عبادات ومعاملات وأحكام أسرية، وغير ذلك، قال الله -تعالى-: "فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً"، وقال تعالى: "إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً"، وقال عز وجل: "قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ". هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(1/442)
صحة حديث أحب النساء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم-
المجيب عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 28/11/1424هـ
السؤال
أرجو بيان صحة الحديث التالي:
روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مر على زوجاته في ليلة، وقدم لهن خواتم، وقال: "أحبك أكثر، وفي اليوم التالي اجتمع بهن كلهن، وقال: أتدرين من أحب أكثر؟ فسألت أمهات المؤمنين -رضي الله عنهن-: من؟ فقال: التي أحبها أكثر هي من أعطيتها خاتماً.
الجواب
هذا الأثر، ليس موجوداً في كتب السنة المشهورة - كما تبين لي بعد بحث وتقصٍ- والثابت في هذا الباب، ما رواه البخاري في الفضائل (3662) ، وفي المغازي (4358) عن خالد الحذاء عن أبي عثمان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بعث عمرو بن العاص - رضي الله عنه- على جيش ذات السلاسل، قال: فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة" قلت: من الرجال؟ قال: "أبوها".
وهذا الحديث صحيح صريح الدلالة على أن أحب نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه عائشة - رضي الله عنها-، يؤيده أحاديث أخرى كثيرة، منها ما رواه البخاري في صحيحه في الفضائل (3774) عن أبي أسامة عن هشام عن أبيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما كان في مرضه جعل يدور في نسائه ويقول: "أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟ " حرصاً على بيت عائشة - رضي الله عنها- قالت عائشة - رضي الله عنها-: فلما كان يومي سكن.
وفي البخاري أيضاً في الفضائل (3775) ، عن هشام عن أبيه قال: كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة - رضي الله عنها-، قالت عائشة - رضي الله عنها-: "فاجتمع صواحبي إلى أم سلمة - رضي الله عنها- فقلن: يا أم سلمة: والله إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة - رضي الله عنها- وإنا نريد الخير كما تريده عائشة - رضي الله عنها- فمري رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أن يأمر الناس أن يهدوا إليه حيث ما كان، أو حيثما دَارَ، قالت: فذكرت ذلك أم سلمة - رضي الله عنها- للنبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: فأعرض عنِّي، فلما عاد إليَّ ذكرت له ذلك، فأعرض عنِّي، فلما كان في الثالثة ذكرت له، فقال: "يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة، فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها". والله سبحانه أعلم. اهـ.(1/443)
ضعف أحاديث التباكي
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 6/3/1425هـ
السؤال
ذكر أحد الفضلاء في كتابٍ له عن البكاء والتباكي أن أحاديث الحث على التباكي كلها ضعيفة وأن االتباكي من النفاق، فما وجهة نظركم في هذا الكلام؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. وبعد
نعت الله -عز وجل- عباده المؤمنين المتدبرين لكلامه المتفكرين في معانيه بوجل القلب ورقته وخشوعه وجريان الدمع عند سماعه وتلاوته فقال -تعالى-: " اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ" [الزمر:23] ، وقال -تعالى-: "إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً" [الإسراء:107-109] ، قال عبد الأعلى التيمي: (من أوتي من العلم ما لا يبكيه فليس بخليق أن يكون أوتي علماً ينفعه؛ لأن الله -تعالى- نعت العلماء فقال: "إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ.... "وتلا الآيتين.
وقال -تعالى-: "وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ... " [المائدة:83] ، وفي الصحيحين البخاري (4582) ، ومسلم (800) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: إِنِّي أَشْتَهِي أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي، فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ: "فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا" [النساء:41] رَفَعْتُ رَأْسِي أَوْ غَمَزَنِي رَجُلٌ إِلَى جَنْبِي فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيْتُ دُمُوعَهُ تَسِيلُ "، قال ابن بطال: " وإنما بكى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عند هذا لأنه مثل لنفسه أهوال يوم القيامة، وشدة الحال الداعية له إلى شهادته لأمته بتصديقه والإيمان به، وسؤاله الشفاعة لهم ليريحهم من طول الموقف، وأهواله، وهذا أمر يحق له طول البكاء والحزن "، واقتدى الصحابة -رضي الله عنهم- ومن بعدهم من سلف هذه الأمة رضي الله عنهم بالرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في ذلك فكانوا عند قراءة القرآن أو سماعه يغلبهم الوجل أو البكاء بأدب وخشية.
- ففي صحيح مسلم (418) من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال في مرضه الذي تُوفي فيه: " مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ " قَالَتْ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ وَإِنَّهُ مَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ لَا يُسْمِعْ النَّاسَ....، وفي رواية قالت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَا يَمْلِكُ دَمْعَهُ ".
- وفي صحيح البخاري (3905) من حديث عائشة -رضي الله عنها- حين ذكرت خروج أبي بكر - رضي الله عنه- إلى أرض الحبشة، ثم رجوعه، ودخوله في جوار ابن الدَّغنة، قالت: ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَيَنقَذِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ، وَأَبْنَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ....
- ولما قدم أهل اليمن في زمان أبي بكر -رضي الله عنه- فسمعوا القرآن جعلوا يبكون فقال أبو بكر - رضي الله عنه-: " هكذا كنا ثم قست القلوب "
- وعن عبد الله بن شداد أنه قال: " سمعت نشيج عمر - رضي الله عنه-، وأنا في آخر الصف، وهو يقرأ سورة يوسف: "إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ" [يوسف:86]
- وعن سالم بن عبد الله أن ابن عمر -رضي الله عنهما- قرأ: "وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ" [البقرة:284] الآية فدمعت عيناه.
- وعن عبد الله بن رباح عن صفوان بن محرز أنه كان إذا قرأ هذه الآية بكى حتى أرى قصص زوره سيندق " وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ" [الشعراء:227] .
- وعن إبراهيم التيمي قال: " لقد أدركت ستين من أصحاب عبد الله في مسجدنا هذا أصغرهم الحارث بن سويد، وسمعته يقرأ: "إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا...... " حتى بلغ "فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ" [الزلزلة:7] قال: فبكى ثم قال: إن هذا الإحصاء شديد.."
- وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه-: " ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخلطون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكياً محزوناً حليماً حكيماً...."
- وعن أبي رجاء قال: " كان هذا المكان من ابن عباس - رضي اله عنهما - مجرى الدموع مثل الشراك البالي
من الدموع ". (أخرج هذه الآثار ابن أبي شيبة في مصنفه (7/224) .
ومن خلال ما سبق يتضح ما كان عليه السلف من تدبر للقرآن وحسن فهمه واستحضارهم لمعانيه وخشوعهم عند سماعه وتلاوته فيغلبهم الوجل أوالبكاء من غير تكلف ولا تصنع بخلاف أهل البدع الذين يتصارخون عند سماع القرآن، ويتكلفون ما ليس فيهم ويتصنعون الصعق والغشيان عليهم.
وقد بدأ ظهور هذا في زمن الصحابة، قال قتادة في قوله تعالى: " تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ.." [الزمر:23] قال: " هذا نعت أولياء الله -تعالى-، نعتهم الله فقال: تقشعر جلودهم، وتبكي أعينهم، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله تعالى، ولم ينعتهم الله تعالى بذهاب عقولهم، والغشيان عليهم، إنما هذا في أهل البدع، وإنما هو من الشيطان) .
وعن عبد الله بن عروة بن الزبير - رضي الله عنه-، قال: " قلت لجدتي أسماء - رضي الله عنها - كيف كان يصنع أصحاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا قرأوا القرآن؟ قالت: كانوا كما نعتهم الله -عز وجل-: تدمع أعينهم، وتقشعر جلودهم، قلت: فإن ناساً ههنا إذا سمعوا ذلك تأخذهم غَشْية؟ ، فقالت: أعوذ بالله من الشيطان ".
وأما الأحاديث الواردة في الأمر بالتباكي فهي ضعيفة من جهة أسانيدها، ومنها: ما أخرجه ابن ماجه (1327) من حديث سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَلَ بِحُزْنٍ فَإِذَا قَرَأْتُمُوهُ فَابْكُوا فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا وَتَغَنَّوْا بِهِ فَمَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِهِ فَلَيْسَ مِنَّا " ففي إسناده إسماعيل بن رافع وهو متروك.
وما أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن (ص:22) من حديث عبد الملك بن عمير أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: " إني قارئ عليكم سورة فمن بكى فله الجنة، فقرأها فلم يبك أحد، ثم أعاد الثانية، ثم الثالثة، فقال: ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا "، وهذا الحديث مرسل وفيه عبد الرحمن بن إسحاق وهو ضعيف..
وأخرج البيهقي حديثاً في الشعب (5/19) في الأمر بالتباكي من حديث جرير بن عبد الله البجلي وقال: هذا إسناد ضعيف بمرة
وهذه الأحاديث على فرض ثبوتها محمولة على أن التباكي مندوب إليه، ومعناه أن يتدبر القارئ آيات القرآن ويستحضر معانيها مع الحرص على الخشوع، وليس المقصود ما يفعله بعض القراء من تصنع البكاء وتكلفه، فالبكاء الصادق ما يجلبه التدبر لآيات القرآن وهذا الذي كان عليه السلف رضي الله عنهم. هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
ضعف أحاديث التباكي
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 6/3/1425هـ
السؤال
ذكر أحد الفضلاء في كتابٍ له عن البكاء والتباكي أن أحاديث الحث على التباكي كلها ضعيفة وأن االتباكي من النفاق، فما وجهة نظركم في هذا الكلام؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. وبعد
نعت الله -عز وجل- عباده المؤمنين المتدبرين لكلامه المتفكرين في معانيه بوجل القلب ورقته وخشوعه وجريان الدمع عند سماعه وتلاوته فقال -تعالى-: " اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ" [الزمر:23] ، وقال -تعالى-: "إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً" [الإسراء:107-109] ، قال عبد الأعلى التيمي: (من أوتي من العلم ما لا يبكيه فليس بخليق أن يكون أوتي علماً ينفعه؛ لأن الله -تعالى- نعت العلماء فقال: "إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ.... "وتلا الآيتين.
وقال -تعالى-: "وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ... " [المائدة:83] ، وفي الصحيحين البخاري (4582) ، ومسلم (800) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: إِنِّي أَشْتَهِي أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي، فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ: "فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا" [النساء:41] رَفَعْتُ رَأْسِي أَوْ غَمَزَنِي رَجُلٌ إِلَى جَنْبِي فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَرَأَيْتُ دُمُوعَهُ تَسِيلُ "، قال ابن بطال: " وإنما بكى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عند هذا لأنه مثل لنفسه أهوال يوم القيامة، وشدة الحال الداعية له إلى شهادته لأمته بتصديقه والإيمان به، وسؤاله الشفاعة لهم ليريحهم من طول الموقف، وأهواله، وهذا أمر يحق له طول البكاء والحزن "، واقتدى الصحابة -رضي الله عنهم- ومن بعدهم من سلف هذه الأمة رضي الله عنهم بالرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في ذلك فكانوا عند قراءة القرآن أو سماعه يغلبهم الوجل أو البكاء بأدب وخشية.
- ففي صحيح مسلم (418) من حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال في مرضه الذي تُوفي فيه: " مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ " قَالَتْ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ وَإِنَّهُ مَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ لَا يُسْمِعْ النَّاسَ....، وفي رواية قالت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَا يَمْلِكُ دَمْعَهُ ".
- وفي صحيح البخاري (3905) من حديث عائشة -رضي الله عنها- حين ذكرت خروج أبي بكر - رضي الله عنه- إلى أرض الحبشة، ثم رجوعه، ودخوله في جوار ابن الدَّغنة، قالت: ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَيَنقَذِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ، وَأَبْنَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ....
- ولما قدم أهل اليمن في زمان أبي بكر -رضي الله عنه- فسمعوا القرآن جعلوا يبكون فقال أبو بكر - رضي الله عنه-: " هكذا كنا ثم قست القلوب "
- وعن عبد الله بن شداد أنه قال: " سمعت نشيج عمر - رضي الله عنه-، وأنا في آخر الصف، وهو يقرأ سورة يوسف: "إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ" [يوسف:86]
- وعن سالم بن عبد الله أن ابن عمر -رضي الله عنهما- قرأ: "وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ" [البقرة:284] الآية فدمعت عيناه.
- وعن عبد الله بن رباح عن صفوان بن محرز أنه كان إذا قرأ هذه الآية بكى حتى أرى قصص زوره سيندق " وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ" [الشعراء:227] .
- وعن إبراهيم التيمي قال: " لقد أدركت ستين من أصحاب عبد الله في مسجدنا هذا أصغرهم الحارث بن سويد، وسمعته يقرأ: "إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا...... " حتى بلغ "فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ" [الزلزلة:7] قال: فبكى ثم قال: إن هذا الإحصاء شديد.."
- وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه-: " ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخلطون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكياً محزوناً حليماً حكيماً...."
- وعن أبي رجاء قال: " كان هذا المكان من ابن عباس - رضي اله عنهما - مجرى الدموع مثل الشراك البالي
من الدموع ". (أخرج هذه الآثار ابن أبي شيبة في مصنفه (7/224) .
ومن خلال ما سبق يتضح ما كان عليه السلف من تدبر للقرآن وحسن فهمه واستحضارهم لمعانيه وخشوعهم عند سماعه وتلاوته فيغلبهم الوجل أوالبكاء من غير تكلف ولا تصنع بخلاف أهل البدع الذين يتصارخون عند سماع القرآن، ويتكلفون ما ليس فيهم ويتصنعون الصعق والغشيان عليهم.
وقد بدأ ظهور هذا في زمن الصحابة، قال قتادة في قوله تعالى: " تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ.." [الزمر:23] قال: " هذا نعت أولياء الله -تعالى-، نعتهم الله فقال: تقشعر جلودهم، وتبكي أعينهم، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله تعالى، ولم ينعتهم الله تعالى بذهاب عقولهم، والغشيان عليهم، إنما هذا في أهل البدع، وإنما هو من الشيطان) .
وعن عبد الله بن عروة بن الزبير - رضي الله عنه-، قال: " قلت لجدتي أسماء - رضي الله عنها - كيف كان يصنع أصحاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا قرأوا القرآن؟ قالت: كانوا كما نعتهم الله -عز وجل-: تدمع أعينهم، وتقشعر جلودهم، قلت: فإن ناساً ههنا إذا سمعوا ذلك تأخذهم غَشْية؟ ، فقالت: أعوذ بالله من الشيطان ".
وأما الأحاديث الواردة في الأمر بالتباكي فهي ضعيفة من جهة أسانيدها، ومنها: ما أخرجه ابن ماجه (1327) من حديث سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَلَ بِحُزْنٍ فَإِذَا قَرَأْتُمُوهُ فَابْكُوا فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا وَتَغَنَّوْا بِهِ فَمَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِهِ فَلَيْسَ مِنَّا " ففي إسناده إسماعيل بن رافع وهو متروك.
وما أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن (ص:22) من حديث عبد الملك بن عمير أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: " إني قارئ عليكم سورة فمن بكى فله الجنة، فقرأها فلم يبك أحد، ثم أعاد الثانية، ثم الثالثة، فقال: ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا "، وهذا الحديث مرسل وفيه عبد الرحمن بن إسحاق وهو ضعيف..
وأخرج البيهقي حديثاً في الشعب (5/19) في الأمر بالتباكي من حديث جرير بن عبد الله البجلي وقال: هذا إسناد ضعيف بمرة
وهذه الأحاديث على فرض ثبوتها محمولة على أن التباكي مندوب إليه، ومعناه أن يتدبر القارئ آيات القرآن ويستحضر معانيها مع الحرص على الخشوع، وليس المقصود ما يفعله بعض القراء من تصنع البكاء وتكلفه، فالبكاء الصادق ما يجلبه التدبر لآيات القرآن وهذا الذي كان عليه السلف رضي الله عنهم. هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(1/444)
أول الشاربين من حوضه صلى الله عليه وسلم
المجيب د. عثمان بن جمعة عثمان ضميرية
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 27/3/1425هـ
السؤال
لقد سمعت كلاما من بعض الناس، وأود أن أعرف ما مدى صحته، قالوا: إن أول من يشرب من حوض النبي -صلى الله عليه وسلم-، هم أهل اليمن؟ ما مدى صحة هذا الكلام? إذا كان صحيحا لماذا أهل اليمن بالضبط؟
الجواب
الحمد لله، وبعد:
فقد روى الإمام مسلم - رحمه الله تعالى - في صحيحه (2301) ، كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا -صلى الله عليه وسلم- وصفاته، عن ثوبان -رضي الله عنه- أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إني لَبِعُقْر حوضي أذود الناسَ لأهل اليمن، أضرب بعصاي حتى يرفضَّ عليهم".
قال الإمام النووي -رحمه الله - في شرحه لهذا الحديث: (ومعناه: أطرد الناس عنه من غير أهل اليمن ليرفضَّ على أهل اليمن. وهذه كرامة لأهل اليمن في تقديمهم في الشرب منه، مجازاةً لهم بحسن صنيعهم وتقدّمهم في الإسلام، والأنصار من أهل اليمن، فيدفع غيرهم حتى يشربوا، كما دَفَعوا في الدنيا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعداءَه، والمكروهات. ومعنى (يرفضّ عليهم) : أي يسيل عليهم، وبهذا يظهر صحة الكلام المذكور لأن الحديث صحيح، وفي كلام النووي رحمه الله بيان لكون أهل اليمن أول من يشرب من الحوض وسبب ذلك. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.(1/445)
اشتراط الخلافة في ولد فهر بن مالك
المجيب عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 26/3/1425هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. أما بعد:
لقد قرأت كتاب جمهرة أنساب العرب لابن حزم، واستشهد فيه بحديث لرسول الله -صلى الله عليه وسلم - أنه لا تجوز الخلافة إلا في ولد فهر بن مالك أي قريش، فهل هذا الحديث صحيح؟ وإن كان صحيحا فما هي آثاره في العصر الحديث لتفريق الصادق من الدعي، لاسيما وأن علم الأنساب قد أهمل، أرجو منكم الإفادة أفادكم الله فأنا باحث في العلوم السياسية أحاول الموازنة بين الجديد من الأفكار بالرجوع إلى الأصل أي القرآن والسنة.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
لم أجد في كتب الحديث المشهورة حديثا فيه النص على أن الخلافة لا تجوز إلا في ولد فهر بن مالك، والثابت في هذا الباب، ما رواه البخاري (3501) ومسلم (1820) عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي اثنان" وعند مسلم (1820) : "ما بقي من الناس اثنان"، وروى البخاري (3496) ومسلم (1818) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الناس تبع لقريش في هذا الشأن، مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم ".
وروى البخاري (7223) ومسلم (1821) عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول اله - صلى الله عليه وسلم يقول: "يكون اثنا عشر أميراً كلهم من قريش".
وروى البخاري في صحيحه (3500) عن معاوية - رضي الله عنه - قال: "إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحدٌ إلا كبه الله في النار على وجهه ما أقاموا الدين" وفي رواية "الصلاة ".
وهذه الأحاديث كلها صحيحة ثابتة عند أهل العلم، قال القاضي عياض: المراد بالأئمة في هذه الأحاديث الخلفاء. وقال ابن حجر - رحمه الله - في الفتح 126/13 في المراد بقوله:" لا يزال هذا الأمر -أي الخلافة-، وقال - رحمه الله - عن رواية مسلم (1820) لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان ": ليس المراد حقيقة العدد، وإنما المراد به انتفاء أن يكون الأمر في غير قريش ويحتمل أن يحمل المطلق على المقيد في الحديث الأول ويكون التقدير: لا يزال هذا الأمر أي لا يسمى بالخليفة إلا من كان من قريش، ويحتمل أن يكون بقاء الأمر في قريش في بعض الأقطار دون بعض ".
وقال الكرماني في شرحه على البخاري:" لم يخل زمان عن وجود خليفة من قريش إذ في المغرب خليفة منهم على ما قيل....".
وقد ذكر ابن حجر - رحمه الله - عن بعض الشراح قولاً ثالثاً وهو: أنه ليس المراد أن الفضل لا يكون إلا للقرشي، إنما المراد أنه كونه قرشياً من أسباب الفضل، وأما طريق إثبات النسب لقريش فقد ذكر الفقهاء وعلماء النسب أنه يكون بأحد ثلاثة أمور:
1 - الاستفاضة والشهرة بذلك لا سيما إذا كان ذلك مستفيضاً عند علماء الأنساب.
2 - أن ينص عليه إمام معتبر من أئمة النسب.
3 - أن يشهد بذلك اثنان من الاثبات الثقات. والطريقان الأولان هما المعتمدان عند أهل العلم. والله اعلم.(1/446)
توبة صاحب البدعة
المجيب محمد بن ناصر السلمي
القاضي في وزارة العدل
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 8/2/1425هـ
السؤال
أرجو بيان صحة هذا الحديث: "إن الله لا يقبل توبة صاحب بدعة حتى يتوب" (رواه الطبراني وغيره) ، كما أرجو بيان صحة القول التالي للإمام الشافعي: "من كان يظن أنه يستطيع أن يبتدع في الدين بأفضل مما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو مشرع، وكأنه ينافس الله عز وجل، فلو كان ذلك جائزاً في الإسلام لتقدم المفكرون وليس علماء الشرع بدين جديد ولضل الناس".
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
حديث: "إن الله لا يقبل توبة صاحب بدعة حتى يتوب"، أقول: أخرج نحوه أبو الشيخ في تاريخ أصبهان (259) ، والطبراني في الأوسط (4202) ، والهروي في ذم الكلام (960) ، والبيهقي في شعب الإيمان (12/513) ، والمقدسي في المنار (2054) ، كلهم عن طريق هارون بن موسى الفروي عن أبي ضمرة أنس بن عياض عن حميد الطويل عن أنس - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن حجز وفي لفظ حجب التوبة عن كل صاحب بدعة"، وهذا الحديث تفرد به هارون بن موسى الفروي، وإن كان ثقة كما وصفه بذلك الدارقطني وغيره، إلا أنه لا يقبل منه ما يتفرد به لا سيما مثل هذا، وقد عد الذهبي - رحمه الله- في الميزان (4/287) هذا الحديث من منكراته وقال: هذا منكر.
والسبب في ذلك - والعلم عند الله- أن هارون بن موسى تفرد بهذا الخبر، والتفرد من علامات المنكر لا سيما إذا كان المتفرد بالحديث من أهل الطبقات النازلة، وهو من دون عصر التابعين بعد أن استقرت الرواية وعرفت مخارجها، قال الإمام الذهبي في الموقظة (77-78) ، بعد أن ذكر أسامي جملة من الحفاظ، قال: فهؤلاء الحفاظ الثقات، إذا انفرد الرجل منهم من التابعين فحديثه صحيح، وإن كان من الأتباع قيل: صحيح غريب، وإن كان من أصحاب الأتباع قيل: غريب فرد، ويندر تفردهم، فتجد الإمام منهم عنده مئتا ألف حديث، لا يكاد ينفرد بحديثين أو ثلاثة، ومن كان بعدهم، فأين ما ينفرد به؟ ما علمته يوجد، ثم قال: وقد يسمي جماعة من الحفاظ الحديث الذي ينفرد به مثل هشيم وحفص بن غياث منكراً، ثم قال: فإن كان المنفرد من طبقة مشيخة الأئمة، أطلقوا النكارة على ما انفرد به، مثل عثمان ابن أبي شيبة وأبي سلمة التبوذكي، وقالوا: هذا منكر، قلت: وهارون بن موسى الفروي من هذه الطبقة، وقد تفرد بهذا الخبر وليس هو ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه.
قال ابن رجب في شرح العلل (2/582) ، وأما أكثر الحفاظ المتقدمين، فإنهم يقولون في الحديث إذا انفرد به واحد، وإن لم يرو الثقات خلافه إنه لا يتابع عليه، ويجعلون ذلك علة فيه، اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه كالزهري ونحوه، وربما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار أيضاً.."، وقد ذكر المعلمي - رحمه الله- هارون بن موسى هذا في حديث ذكره الشوكاني في الفوائد ثم قال: تفرد به هارون بن موسى وهارون شيخ لا يقبل منه ما يتفرد به لا سيما مثل هذا ص (503) ، قلت: وتابع هارون محمد بن عبد الرحمن القشيري، أخرجه ابن أبي عاصم في السنة رقم (37) ،وابن عدي في الكامل (7/505) ، من طريق بقية بن الوليد عن محمد بن عبد الرحمن القشيري به، ومحمد بن عبد الرحمن القشيري: قد قال فيه أبو الفتح الأزدي، كذاب متروك الحديث، وقال الدارقطني: متروك، وقال ابن عدي: منكر الحديث، وقال الذهبي: فيه جهالة وهو متهم ليس بثقة. ذكر ابن عدي حديثه هذا قال: وهذه الأحاديث لمحمد بن عبد الرحمن القشيري بأسانيد كلها مناكير بهذا الإسناد/ وفيها ما متنه منكر ومحمد هذا مجهول وهو من مجهولي شيوخ بقية، وانظر كلام ابن الجوزي حول هذا الحديث في العلل المتناهية (1/145) ، وأخرج نحوه ابن وضاح في البدع والنهي عنها رقم (156) من طريق بقية عن محمد بن عبد الرحمن القشيري عن هشام عن الحسن مرسلاً، وفي إسناده القشيري وقد تقدم أنه متروك الحديث.(1/447)
حديث: "ثلاث جدهن جد.."
المجيب عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 06/07/1425هـ
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم.
مشايخنا الكرام والإخوة في موقع (الإسلام اليوم) -جزاكم الله خيراً-.
ما صحة الحديث الوارد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- القائل: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد". وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:
حديث: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد؛ النكاح والطلاق والعتق". رواه أبو داود (2194) ، والترمذي (1184) ، وابن ماجة (2039) ، وسعيد بن منصور (1603) ، وابن الجارود في (المنتقى (712) ، والطحاوي (4/98) ، والدارقطني (3/256و257) ، و (4/18-19) ، والحاكم (2/198) ، والبيهقي (7/340-341) ، والبغوي (9/219) كلهم من طريق عبد الرحمن بن حبيب عن عطاء بن أبي رباح عن يوسف بن ماهك عن أبي هريرة - رضي الله عنه- به.
قال الترمذي (4/171) هذا حديث حسن غريب ... اهـ، وأقره المنذري في مختصر السنن (3/119) .
وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وعبد الرحمن بن حبيب من ثقات المدنيين ولم يخرجاه. اهـ. وتعقبه الذهبي فقال: فيه لين 0اهـ.
وعبد الرحمن بن حبيب بن أردك المدني، قال النسائي: منكر الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات، وجهله القطان في كتابه " بيان الوهم والإيهام" (3/509-510) . وتعقبه الذهبي فقال في النقد (ص 98) : قال النسائي: منكر الحديث. اهـ. وكذا قال في التنقيح (2/207) .
ولما نقل الحافظ ابن حجر في " التلخيص الحبير" (3/336) تصحيح الحاكم قال: وهو من رواية عبد الرحمن بن حبيب بن أردك، وهو مختلف فيه. قال النسائي: منكر الحديث. ووثقه غيره فهو على هذا حسن. اهـ.
ولما نقل الألباني رحمه الله في "الإرواء" (6/225) قول الحافظ ابن حجر: "ووثقه غيره". قال: ليس بحسن؛ لأن الغير المشار إليه إنما هو ابن حبان لا غير، وتوثيق ابن حبان مما لا يوثق به إذا تفرد به، كما بينه الحافظ في مقدمة اللسان، وهذا إذا لم يخالف، فكيف وقد خالف هنا النسائي في قوله فيه: منكر الحديث، ولذلك رأينا الحافظ لم يعتمد على توثيقه في كتابه الخاص بالرجال (التقريب) ، فالسند ضعيف وليس بحسن عندي والله أعلم. اهـ.
ورواه ابن عدي في الكامل (6/5) قال: حدثنا زيد: ثنا مسعود: ثنا عمر بن أيوب: ثنا غالب عن الحسن عن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاث ليس فيهن لعب من تكلم بشيء منهم لاعباً فقد وجب عليه الطلاق والعتاق والنكاح".
وهذا الحديث إسناده ضعيف؛ لأن فيه غالب بن عبيد الله العقيلي الجزري وهو ضعيف، بل قال أبو حاتم والنسائي: متروك. اهـ.
ولهذا قال الحافظ ابن حجر في "الدراية" (2/91) : وفي إسناده غالب بن عبد الله وهو متروك. اهـ.
والخلاصة أن الحديث الوارد في السؤال ضعيف. والله أعلم.(1/448)
تفسير ابن عباس لقوله تعالى: (وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ)
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 22/11/1425هـ
السؤال
ما صحة نسبة هذه الآثار إلى ابن عباس، رضي الله عنهما:
1- في قول الله تعالى: (وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ) [الذاريات:47] . قال: أي بقوة عظيمة. (رواه الطبري وذكره سفيان الثوري وقتادة) .
2- في قوله تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [النور:35] . أولها ابن عباس بالهادي الذي يخلق الهداية. (رواه الطبري) .
3- في قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ) [القلم:42] . أولها ابن عباس، رضي الله عنهما، باشتداد الأمور في يوم القيامة؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله، وبعد:
هذه الآثار الثلاثة مما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، رضي الله عنهما، ومن المعلوم أن علي بن أبي طلحة له نسخة مشتملة على تفسير ابن عباس، رضي الله عنهما، وقد أثنى عليها العلماء؛ لأنها من أجود الطرق وأصحها عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال الإمام أحمد: بمصر صحيفة في التفسير، رواها علي بن أبي طلحة، لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدًا، ما كان كثيرًا.
وقال الحافظ ابن حجر: وهذه النسخة كانت عند أبي صالح كاتب الليث، رواها عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، وهي عند البخاري عن أبي صالح، وقد اعتمد عليها في صحيحه كثيرًا فيما يعلقه عن ابن عباس.
وقال الحافظ السيوطي: وقد ورد عن ابن عباس في التفسير ما لا يحصى كثرة، وفيه روايات وطرق مختلفة، فمن جيدها طريق علي بن أبي طلحة عنه.
وتنظر هذه الآثار في صحيفة علي بن أبي طلحة التي جمعها بعض الباحثين (ص: 375، 466، 496) ، وليس ما جاء عن ابن عباس من باب التأويل، بل فهم منها ابن عباس، رضي الله عنهما، أنها ليست نصًّا في الصفات، إذ لا يعرف عن الصحابة، رضي الله عنهم، تأويل شيء من نصوص الصفات، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن جميع ما في القرآن من آيات الصفات فليس عن الصحابة، رضي الله عنهم، اختلاف في تأويلها، وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة، رضي الله عنهم، وما رووه من الحديث، ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مائة تفسير فلم أجد إلى ساعتي هذه عن أحد من الصحابة، رضي الله عنهم، أنه تأوَّل شيئًا من آيات الصفات أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف.... وتمام هذا أنى لم أجدهم تنازعوا إلا في مثل قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ) . فروى عن ابن عباس، رضي الله عنهما، وطائفة أن المراد به الشدة، أن الله يكشف عن الشدة في الآخرة، وعن أبى سعيد وطائفة أنهم عدوها في الصفات؛ للحديث الذي رواه أبو سعيد في الصحيحين، ولا ريب أن ظاهر القرآن لا يدل على أن هذه من الصفات فإنه قال: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ) . نكرة في الإثبات لم يضفها إلى الله ولم يقل عن ساقه، فمع عدم التعريف بالإضافة لا يظهر أنه من الصفات إلا بدليل آخر، ومثل هذا ليس بتأويل، إنما التأويل صرف الآية عن مدلولها ومفهومها ومعناها المعروف. ينظر: مجموع الفتاوى (6/394) . وقال أيضًا: ثم قول من قال من السلف: هادي أهل السموات والأرض. لا يمنع أن يكون في نفسه نورًا، فإن من عادة السلف في تفسيرهم أن يذكروا بعض صفات المُفسَّر من الأسماء أو بعض أنواعه، ولا ينافى ذلك ثبوت بقية الصفات للمسمَّى بل قد يكونان متلازمين ولا دخول لبقية الأنواع فيه..... فقول من قال: (نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) : هادى أهل السماوات والأرض. كلام صحيح، فإن من معاني كونه نور السماوات والأرض أن يكون هاديًا لهم، أما أنهم نفوا ما سوى ذلك فهذا غير معلوم، وأما أنهم أرادوا ذلك فقد ثبت عن ابن مسعود أنه قال: إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور السماوات من نور وجهه. وقد تقدم عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذكر نور وجهه، وفى رواية (النور) ما فيه كفاية. ينظر: مجموع الفتاوى (6/390) . والحاصل أن بعض الآيات والأحاديث يفهم من سياقها والقرائن المحتفة بها أنها ليست نصًّا في الصفات، فتفسر بما يفهم من المقصود بها مثل قوله تعالى: (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة:115] . ومثل قوله تعالى: (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ) [الزمر:56] . وقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ) [يس:71] .
قال الحافظ ابن رجب- معلقًا على قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا) : وليس المراد هنا الصفة الذاتية- بغير إشكال- وإلا استوى خلق الأنعام وخلق آدم عليه السلام. فتح الباري لابن رجب (1/7) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: والصواب في كثير من آيات الصفات وأحاديثها: القطع بالطريقة الثابتة كالآيات والأحاديث الدالة على أن الله سبحانه وتعالى- فوق عرشه، ويعلم طريقة الصواب في هذا وأمثاله، بدلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك؛ دلالة لا تحتمل النقيض، وفى بعضها قد يغلب على الظن ذلك مع احتمال النقيض، وتردد المؤمن في ذلك هو بحسب ما يؤتاه من العلم والإيمان، (وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) [النور:40] . ينظر: مجموع الفتاوى (5/117) . هذا والله أعلم.(1/449)
الأحاديث الضعيفة في كتاب (قصص الأنبياء)
المجيب عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 29/3/1425هـ
السؤال
هل يوجد أحاديث ضعيفة في كتاب ابن كثير (قصص الأنبياء؟) .
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
هذا الكتاب كغيره من كتب التاريخ التي لم يشترط مؤلفوها أن لا يذكروا إلا صحيحاً، وكتب التاريخ عامة يكون فيها الصحيح ويكون فيها الضعيف بل والموضوع، ومن المؤلفات التي يكثر فيها الموضوعات والأخبار الإسرائيلية - قصص الأنبياء للثعلبي، وتنبيه الغافلين للسمرقندي، وقرة العيون له أيضا، وبدائع الزهور في وقائع الدهور لابن إياس -، وكتاب إحياء علوم الدين للغزالي -، ومن التفاسير المشهورة: تفسير الزمخشري، وتفسير النسفي -، وتفسير البيضاوي، وغيرها كثير، وعلى القارئ أن يحذر أخذ الحديث من غير أهله، وأن يسأل أهل الحديث عما يشكل عليه منها، وليعلم أن جملة المؤلفين في التاريخ والتفسير والرقائق - حتى الفقه والحديث أحيانا - لم يشترطوا أن لا يذكروا إلا حديثا صحيحاً إلا ما ندر منهم كصاحبي الصحيح البخاري ومسلم وابن خزيمة وابن حبان وقلائل من المصنفين، وقد أجاز بعض أهل العلم ذكر الحديث الضعيف من غير بيان ضعفه لكن شرطوا لذلك شروطاً:
الأول: أن يكون الحديث في القصص أو المواعظ أو فضائل الأعمال أو نحو ذلك مما لا يتعلق بالعقائد ولا بالحلال والحرام.
ثانياً: أن يكون مندرجاً تحت أصل عام في الشريعة.
ثالثاً: أن لا يكون موضوعاً ولا ضعيفاً ضعفاً شديداً.
قال عبد الرحمن بن مهدي - فيما أخرجه البيهقي في المدخل: " إذا روينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحلال والحرام والأحكام الشرعية شددنا في الأسانيد، وانتقدنا الرجال، وإذا روينا في الفضائل والثواب والعقاب سهلنا في الأسانيد وتسامحنا في الرجال".
وقال أحمد - في رواية الميموني عنه: (الأحاديث الرقائق يحتمل أن يتساهل فيها حتى يجيء شيء فيه حكم) .
وقال في رواية الدوري عنه: (ابن إسحاق رجل تكتب عنه هذه الأحاديث، يعني المغازي ونحوها، وإذا جاء الحلال والحرام أردنا قوماً هكذا - وقبض أصابع يديه الأربع) .
ومسألة رواية الحديث الضعيف في غير باب الأحكام، مسألة نزاع وخلاف بين أهل العلم قديماً وحديثاً. يرجع فيها إلى ما كتبه أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله في الفتاوى 18/65-68.
ولشيخنا الدكتور/ عبد الكريم الخضير -حفظه الله- مؤلف نفيس في هذا الموضوع فليرجع إليه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(1/450)
درجة حديث: "سبعة يلعنهم الله تعالى ... "
المجيب د. محمد بن سليمان المنيعي
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 18/08/1425هـ
السؤال
ما صحة حديث: "سَبْعَةٌ يَلْعَنُهُم اللهُ تعالى ولا يَنظُرُ إليهم يومَ القِيامَةِ، ويقولُ: ادخُلوا النَّارَ مع الدَّاخِلِين: الفَاعِلُ والمفعولُ به -يعني اللواط- وناكِحُ البهيمةِ، وناكحُ الأمِّ وبنتِها، وناكحُ يدِهِ، إلاَّ أنْ يتُوبُوا". ثم إن كان صحيحًا، لماذا لم يستدل به العلماء على حرمة فعل العادة السرية؟ وما درجة انتساب هذا القول لابن عباس، رضي الله عنهما: "أن اللوطيَّ إذا مات من غير توبة فإنه يُمسَخُ في قبرِه خِنزيرًا". وهل نحن، أهل السنة والجماعة، نؤمن بالمسخ؟!
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
الحديث ضعيف، ضعفه ابن حجر العسقلاني وغيره، وأما ما ذكرت من الأثر عن ابن عباس، رضي الله عنهما- فقد أخرجه مرفوعًا أبو الفتح الأزدي في كتاب الضعفاء، كما في لسان الميزان 1/446، وكشف الخفاء 2/532، وهو لا يثبت؛ ومعناه لا يصح، فما وجه الزجر في المسخ بعد الدفن، وليس له نظائر في الشرع، وأما سؤالك عن الإيمان بالمسخ، فالمسخ أوقعه الله في أمة من اليهود، كما في قوله سبحانه: (فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ) ] البقرة: من الآية65 [. وسيقع في قوم من هذه الأمة يستحلون الحِرَ، والحرير، والخمر، والمعازف، يمسخون قردة وخنازير، رواه البخاري (5590) من حديث أبي مالك الأشعري. والله أعلم.(1/451)
هل ورد شيء في تفضيل الشباب على الشيوخ؟
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 18/08/1425هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هل ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "بعثني الله عز وجل وصدقني الشباب وكذبني الشيوخ". أو نحو هذا المعنى, وهل ثبت في فضل الشباب شيء؟ أرجو منكم التكرم بالإجابة عن هذا السؤال، ونتمنى أن يكون المجيب هو الشيخ القناص أو الشيخ حاتم العوني لتخصصهما في هذا الفن.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله، وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
هذا الحديث لم أقف عليه بعد البحث الواسع في كتب السنة وغيرها من المصادر، ولكن من المعلوم أن الشباب أسرع استجابة وأقبل للحق من الشيوخ، فكثير من السابقين الأولين ممن استجاب لدعوة الإسلام كانوا من الشباب، قال الحافظ ابن كثير- رحمه الله- عند قوله تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) [الكهف:13] . قال: فذكر تعالى أنهم فتية، وهم الشباب، وهم أقبل للحق وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل، ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم- شبابًا، وأما المشايخ من قريش فعامتهم بقوا على دينهم، ولم يسلم منهم إلا القليل، وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شبابًا. [تفسير ابن كثير (3/75) ] .
وقال أبو حمزة الشاري الخارجي في خطبته المشهورة: يا أهل الحجاز، قد بلغني أنكم تعيرونني بأصحابي وتزعمون أنهم شباب، ويحكم! وهل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا شبابًا؟ ... أخرجه الفاكهي (1909) .
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ: مَنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا فَلَهُ مِنْ النَّفَلِ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: فَتَقَدَّمَ الْفِتْيَانُ وَلَزِمَ الْمَشْيَخَةُ الرَّايَاتِ فَلَمْ يَبْرَحُوهَا، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَالَ الْمَشْيَخَةُ: كُنَّا رِدْءًا لَكُمْ، لَوْ انْهَزَمْتُمْ لَفِئْتُمْ إِلَيْنَا فَلَا تَذْهَبُوا بِالْمَغْنَمِ وَنَبْقَى. فَأَبَى الْفِتْيَانُ، وَقَالُوا: جَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأَنْفَالِ قُلْ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) إِلَى قَوْلِهِ: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ) [الأنفال:1-5] . أخرجه أبو داود (2737) والنسائي في السنن الكبرى (11197) .
وكان العلماء في تعليمهم وتدريسهم يعتنون بالشباب، ويحرصون عليهم؛ لكونهم أقدر من غيرهم على حمل العلم وتبليغه، حيث يتوفر فيهم القوة والنشاط، وحدة الذهن، وصفاء النفس، وصدق الرغبة، وقوة الحافظة، فعن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، أنه كان إذا رأى الشباب قال: مرحبًا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نوسع لكم في المجلس، وأن نُفهمكم الحديثَ، فإنكم خلوفنا، وأهل الحديث بعدنا. وكان يقبل على الشاب يقول له: يا ابن أخي، إذا شككت في شيء فسلني حتى تستيقن، فإنك إن تنصرف على اليقين أحب إلي من أن تنصرف على الشك. أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (1741) .
وعن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: ما بعث الله نبيًّا إلا وهو شاب، ولا أوتي عالم علمًا إلا وهو شاب. أخرجه الطبراني في الأوسط (6421) . وكان الحسن يقول: قَدِّموا إلينا أحداثكم، فإنهم أفرغ قلوبًا، وأحفظ لما سمعوا، فمن أراد الله أن يتمه له أتمه. وقال مالك بن دينار: إنما الخير في الشباب. وعن سعيد بن رحمة الأصبحي قال: كنت أسبق إلى مجلس عبد الله بن المبارك بليل، معي أقراني، لا يسبقني أحد، ويجيء هو مع الأشياخ، فقيل له: قد غلبنا عليك هؤلاء الصبيان. فقال: هؤلاء أرجى عندي منكم، أنتم كم تعيشون؟ وهؤلاء عسى الله أن يَبْلُغ بهم. قال سعيد: فما بقي أحد غيري. وعن يحيى بن حميد الطويل قال: أتينا يومًا حماد بن سلمة وبين يديه صبيان يحدثهم، فجلسنا إليه حتى فرغ فقلنا له: يا أبا سلمة، نحن مشايخ أهلك، قد جئناك، تركتنا وأقبلت على هؤلاء الصبيان! قال: رأيت فيما يرى النائم كأني على شط نهر، ومعي دُلَيَّة أسقي فَسِيلاً فَتأوَّلْتُهُ هؤلاء الصبيان. ولما كلف أبو بكر، رضي الله عنه، زيد بن ثابت، رضي الله عنه، بجمع القرآن، قال له: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ وَلَا نَتَّهِمُكَ، كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فَتَتَبَّعْ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ ... أخرجه البخاري (4679) . قال الحافظ ابن حجر: ذكر له أربع صفات مقتضية خصوصيته بذلك: كونه شابًّا فيكون أنشط لما يطلب منه، وكونه عاقلاً فيكون أوعى له، وكونه لا يتهم فتركن النفس إليه، وكونه كان يكتب الوحي فيكون أكثر ممارسة له، وهذه الصفات التي اجتمعت له قد توجد في غيره لكن مفرقة. [فتح الباري (9/13) ] .
والشاب إذا وفق للاستقامة والثبات على الدين، وسلوك مسلك الاعتدال والوسط، والبعد عن الغلو والإفراط؛ فهو على خير عظيم، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظله إلا ظله شابًّا نَشَأ في طَاعَةِ اللهِ. أخرجه البخاري (660) ، ومسلم (1031) . وفي الحديث الآخر: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَعْجَبُ مِنْ الشَّابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ". أخرجه أحمد (17371) . والشباب بما أعطاهم الله من القوة والنشاط والحماس بحاجة إلى الاستفادة من حكمة الشيوخ، وتجاربهم في الحياة، وحسن نظرهم في العواقب ومآلات الأمور، ولهذا لما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم- المؤلفة قلوبهم يوم حنين من أموال هوازن، وسمع أن ناسًا من الأنصار قالوا: يغفر الله لرسول الله، يعطي قريشًا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، فلما جمعهم قال: " مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟ ". فَقَالَ لَهُ فُقَهَاءُ الْأَنْصَارِ: أَمَّا ذَوُو رَأْيِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا، وَأَمَّا أُنَاسٌ مِنَّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ، قَالُوا: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِهِ يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا، وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَإِنِّي أُعْطِي رِجَالًا حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفُهُمْ، أَفَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالْأَمْوَالِ وَتَرْجِعُونَ إِلَى رِحَالِكُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ؟ فَوَاللَّهِ لَمَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ". فَقَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ رَضِينَا. قَالَ: "فَإِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ أَثَرَةً شَدِيدَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنِّي عَلَى الْحَوْضِ". قَالُوا: سَنَصْبِرُ. أخرجه البخاري (3147) ، ومسلم (1059) . ولما ذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الخوارج وصفهم بحداثة الأسنان، وسفاهة الأحلام، ففي حديث علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " سَيَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". أخرجه البخاري (3611) ، ومسلم (1066) .
ويؤخذ من هذا أن حداثة السن مظنة للوقوع في الخطأ والزلل والغلو في الدين إذا لم تقترن بالعقل والعلم والفقه في الدين، والبعد عن التسرع، والأخذ عن العلماء الربانيين الراسخين في العلم، والتأسي بهم، والوقوف عند كلامهم. والله أعلم.(1/452)
شبهة في تجويز البدعة
المجيب د. الشريف حاتم بن عارف العوني
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 26/10/1425هـ
السؤال
السلام عليكم ... وبعد:
قرأت في فتح الباري تعليقًا لابن حجر- رحمه الله- على حديث: (حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن نعيم بن عبد الله المجمر، عن علي بن يحيى بن خلاد الزرقي، عن أبيه، عن رفاعة بن رافع الزرقي، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلما رفع رأسه من الركعة قال: "سمع الله لمن حمده". قال رجل وراءه: (ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه) . فلما انصرف قال: "من المتكلم؟ ". قال: أنا. قال: "رأيت بضعة وثلاثين ملكًا يبتدرونها أيهم يكتبها أول". قول استدل به على جواز إحداث ذكر في الصلاة غير مأثور إذا كان غير مخالف للمأثور) . وسؤالي هو: ألا يخالف قول ابن حجر هذا- أومن نقل عنه هذا القول- حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل محدثة بدعة"؟ وعلى قوله فهل يجوز لي أن أحدث دعاءً جديدًا في الصلاة؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
أقول، وبالله التوفيق والسداد:
حديث رفاعة بن رافع، رضي الله عنه، في صحيح البخاري (799) .
وأمّا قول الحافظ ابن حجر في الفتح (2/335) : (واستدلّ به على جواز إحداث ذكر في الصلاة غير مأثور إذا كان غير مخالفٍ للمأثور) . فليس فيه مخالفةٌ لقوله صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ". لأنّ الحافظ لم يُجوّز المداومة على هذا الذكر دون توقيف من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنما نقل جواز الذكر بغير المأثور في الصلاة دون تعرُّضٍ لكون هذا الذكر داومَ عليه المصلّي أو لم يداوم عليه.
والذي يُرجِّحُ أن الحافظ إنما نقل الجواز بناءً على أنه كان ذكرًا عارضًا من غير مداومة عليه ولا كان بقصد المداومة عليه، أنه رجّح أن قصّة هذا الحديث قد وقعت للصحابي الذي رواه، وهو رفاعة بن رافع، رضي الله عنه، وأنه قال هذا الذكر بعد أن عطس في صلاته، كما جاء مصرّحًا به عند أبي داود (773) ، والترمذي (404) ، والنسائي (931) ، وجمع الحافظ بين حديث البخاري وحديث هؤلاء بقوله: (والجواب أنه لا تعارض بينهما، بل يُحمل على أن عطاسه قد وقع عند رفع رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
وبناءً على ذلك: فالحافظ إنما نقل جواز ذكرٍ غيرِ مأثور على وَجْه العُرُوض والندرة، لا على وجه التكرار أو المداومة.
وهذا ليس من الابتداع في شيء، وهو يتخرّج على قول من يُجيز الذكر بغير المأثور، في صلاة الفرض، إذا كان من دعاء الآخرة، وهو قول عامّة أهل العلم: [انظر: بداية المجتهد لابن رشد (1/92) ، والمغني لابن قدامة (2/237- 239) ، والشرح الكبير للحفيد مع الإنصاف في حاشيته (3/553- 560، 626- 633) .
بل ظاهر الحديث يدل على أكثر من ذلك، كما قال ابن عبد البر في التمهيد (16/199) : (وفي حديث هذا الباب لمالكٍ أيضًا دليل على أن الذكر كله والتحميد والتمجيد ليس بكلام تفسد به الصلاة، وأنه كله محمود في الصلاة المكتوبة والنافلة، مستحبٌّ مرغوب فيه) .
ولذلك فليس في كلام الحافظ ابن حجر مؤاخذة عندي، لا من جهة أنه نقله عن غيره فقط، وإنما من جهة أنه لا يدل على أن ابتداعَ ذكر في الصلاة جائز؛ لأن الذكر بغير المأثور، إذا لم يكن على جهة المداومة والاعتياد عليه، ولا على وجه الحثّ عليه، وأمر الناس به حتى يتوهَم الناس أنه مأثور أو أنه مستحبٌّ على التخصيص- لا وَجْهَ للقول ببدعيّته.
والله أعلم. والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.(1/453)
حديث: "يضحك الله إلى رجلين ... "
المجيب د. أحمد بن سعد بن حمدان الغامدي
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 4/6/1425هـ
السؤال
السلام عليكم.
هناك حديث يذكر أن الله يضحك إلى ثلاثة أشخاص، فعلام يدل من يضحك الله إليه؟
ومن هم هؤلاء النفر؟ سمعت أن منهم من يترك زوجته في الليل ليتهجد، وهل ينطبق ذلك أيضاً على المرأة؟.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
روى ابن ماجة (200) وأحمد (11352) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله ليضحك إلى ثلاثة للصف في الصلاة، وللرجل يصلي في جوف الليل، وللرجل يقاتل أراه قال: خلف الكتيبة" وهذا الحديث لا يصح؛ لأن في سنده: (مجالد بن سعيد) ضعيف، والصحيح: "يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة، يُقاتل هذا في سبيل الله فيُقتل ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد" رواه البخاري (2826) ومسلم (1890) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه-، وضحك الله - عز وجل- للشخص دليل الرضا عنه، وإذا رضي الله عنه أكرمه وأدخله الجنة. والله أعلم.(1/454)
مرويات حديث "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين ... "
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 24/11/1425هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ما صحة هذا الحديث: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ... ". قيل من هم وأين هم؟ قال: "هم في بيت المقدس". أو كما قال، لا أحفظ الحديث، ولكن هل هم فعلاً الذين في بيت المقدس؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله، وبعد:
هذا الحديث بالسياق الذي ذكره السائل في مسند الإمام أحمد (22320) وجادةً؛ قَالَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ: (وَجَدْتُ فِي كِتَابِ أَبِي بِخَطِّ يَدِهِ: حَدَّثَنِي مَهْدِيُّ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّمْلِيُّ، حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ، عَنِ السَّيْبَانِيِّ- وَاسْمُهُ يَحْيَى بْنُ أَبِي عَمْرٍو- عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: "بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ". وفي إسناده عمرو بن عبد الله السيباني الحضرمي، لم يوثقه غير ابن حبان والعجلي.
وللحديث شاهد من حديث مُرَّة بن كعب البهزي، رضي الله عنه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لَا تَزَالُ طائِفةٌ مِن أُمَّتي عَلَى الحَقِّ ظاهِرِين على مَن نَاوَأَهُمْ، وَهُمْ كالإِنَاءِ بينَ الأَكَلَةِ حتَّى يَأْتِي أَمْرُ اللهِ وهُمْ كَذَلِكَ". قلنا: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: "بأَكْنَافِ بيتِ المَقْدِسِ". أخرجه الطبراني 20/317 (754) .
ومن حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَا تَزَالُ عِصابَةٌ مِن أُمَّتي يُقاتِلونَ علَى أبوابِ دِمَشْقَ ومَا حَوْلَهُ، وعلَى أبوابِ بيتِ المَقْدِسِ ومَا حَوْلَهُ، لَا يَضُرُّهُم خِذْلانُ مَن خذَلهم، ظَاهِرِين علَى الحَقِّ إلى أنْ تَقُومَ السَّاعَةُ". أخرجه أبو يعلى (6417) ، والطبراني في الأوسط (47) ، وابن عدي في الكامل 7/84.
وأصل الحديث في الصحيحين دون قوله: "بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ". من حديث الْمُغِيرَةِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَنْ يَزَالَ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى النَّاسِ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ". البخاري (3640) ، ومسلم (1921) .
وأخرجاه من حديث معاوية، رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ". قَالَ عُمَيْر بن هاني -الراوي عن معاوية-: فَقَالَ مَالِكُ بْنُ يُخَامِرَ: قَالَ مُعَاذٌ: وَهُمْ بِالشَّأْمِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: هَذَا مَالِكٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاذًا يَقُولُ: وَهُمْ بِالشَّأْمِ. البخاري (3641) ومسلم (1037) .
وأخرجه مسلم (1920) من حديث ثوبان، رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ".
وأخرجه مسلم (1922) من حديث جابر بن سمرة، رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لَنْ يَبْرَحَ هَذَا الدِّينُ قَائِمًا يُقَاتِلُ عَلَيْهِ عِصَابَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ".
وأخرجه مسلم (1923) من حديث جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".
وأخرج أبو داود (2484) ، والإمام أحمد (19851) ، من حديث عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَال: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَيَنْزِلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَام". وأخرج الإمام أحمد (8274) ، من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَزَالُ لِهَذَا الْأَمْرِ- أَوْ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ- عِصَابَةٌ عَلَى الْحَقّ، ِ وَلَا يَضُرُّهُمْ خِلَافُ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ".
وهذا الحديث من الأحاديث المستفيضة المشهورة، بل يمكن أن يكون متواترًا فقد رواه ما يقرب من عشرين صحابيًّا، رضي الله عنهم، وفيه بشارة لهذه الأمة المحمدية ببقاء واستمرار وجود طائفة من هذه الأمة على الحق إلى أن يأتي أمر الله، لا يضرهم خلاف المخالف، ولا خذلان الخاذل. والمتأمل في هذه الأحاديث يجد أن بعضها حدد هذه الطائفة ببيت المقدس، وبعضها بالشام، وبعضها أطلق ولم يحدد، ولا خلاف بينها بإذن الله، حيث يمكن توجيه تحديد الطائفة بالشام وبيت المقدس على ما يكون قبل قيام الساعة، حيث تدل النصوص الكثيرة على أن معظم الأحاديث المتعلقة بالمهدي وعيسى ونحوهما من أحداث الساعة إنما تكون بالشام، فيكون قوله: "ببيت المقدس". أي حال إتيان الأمر.
قال الحافظ ابن حجر فيما نقله عن الطبري: (المراد بالذين يكونون ببيت المقدس الذين يحصرهم الدجال إذا خرج، فينزل عيسى إليهم فيقتل الدجال، ويظهر الدين في زمن عيسى، ثم بعد موت عيسى تهب الريح المذكورة، فهذا هو المعتمد في الجمع، والعلم عند الله تعالى....) ينظر: فتح الباري (13/294) .
وأما الأحاديث التي دلت على وجود الطائفة المنصورة ولم يرد فيها التحديد فتحمل على إطلاقها، والله أعلم، ويؤخذ منها وجود هذه الطائفة ولا يلزم أن تكون محددة بمكان، قال الإمام النووي. (وأما هذه الطائفة فقال البخاري: هم أهل العلم. وقال أحمد بن حنبل: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم. وقال القاضي عياض: إنما أراد أحمد أهل السنة والجماعة ومن يعتقد مذهب أهل الحديث ... ) .
وقال أيضًا: (ويحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين منهم شجعان مقاتلون ومنهم فقهاء ومنهم محدثون ومنهم زهاد وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر ومنهم أهل أنواع أخرى من الخي، ر ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض ... ) ينظر: شرح النووي على مسلم (13/67) .(1/455)
هل تجاب دعوة الساهي في دعائه؟
المجيب د. رفعت فوزي عبد المطلب
رئيس قسم الشريعة بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 12/01/1426هـ
السؤال
السلام عليكم.
سمعت من أحد الوعاظ أن من دعا بشيء وعقله في شيء آخر أي أنه ساهٍ في دعائه لا يجيب الله دعاءه، وقال الواعظ إن موسى -عليه السلام- مرّ على رجل يدعو ربه فطلب من موسى-عليه السلام- أن يدعو له حتى يجيبه الله، فقال له ربه: إن الرجل يدعو وعقله في غنمه وأن لو كان عقله معي لأجبته. هل هذا صحيح؟ وجزاك الله خيراً.
الجواب
الحمد لله رب العالمين، مجيب السائلين، وحبيب التائبين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد النبي الهادي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
أولاً: أدعو الله لك ـ يا أختنا الكريمة ـ أن يحقق لك الخير حيث كان، وأن يهيئ لك من أمرك رشدا، وأن يهدينا وإياك إلى ما فيه رضاه.
ثانيًا: لم أجد هذه الرواية التي جاءت في سؤالك الكريم في أي من كتب الحديث المعروفة، إلا رواية ضعيفة ساقها الألباني ـ رحمه الله ـ في السلسلة الضعيفة برقم (317) وجاء فيها "إن موسى بن عمران مر برجل وهو يضطرب، فقام يدعو له أن يعافيه، فقيل له: يا موسى إنه ليس الذي يصيبه خبط من إبليس، ولكنه جوَّع نفسه لي فهو الذي ترى، إني أنظر إليه كل يوم مرات أتعجب من طاعته لي، فمره فليدع لك فإن له عندي كل يوم دعوة".
ثالثًا: هناك آداب وشروط للدعاء، كما أن هناك موانع لإجابة الدعاء، وإليك ـ أختي الكريمة ـ بعض ما يتعلق بهذا:
قال سهيل بن عبد الله التّستري: شروط الدعاء سبعة: التضرع والخوف والرجاء والمداومة والخشوع والعموم وأكل الحلال.
وقال ابن عطاء: إن للدعاء أركاناً وأجنحةً وأسباباً وأوقاتاً..... فإن وافق أركانه قوي، وإن وافق أجنحته طار في السماء، , وإن وافق مواقيته فاز، وإن وافق أسبابه نجح..، وأركانه حضور القلب والرأفة والاستكانة والخشوع، وأجنحته الصدق، ومواقيته الأسحار، وأسبابه الصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد روى البخاري (6338) ، ومسلم (2678) واللفظ للبخاري عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة، ولا يقولنَّ: اللهم إن شئت فأعطني فإنه لا مستكره له"، وفي الموطأ (494) ، وصحيح البخاري (6339) ، ومسلم (2679) : "اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت".
فلا بد من العزم في المسألة والاجتهاد في الطلب ويكون على رجاء من الإجابة ولا يَمل ولا يَسأم ولا يَقنط من رحمة الله التي وسعت كل شيء فإنه يدعو كريماً، وقد قال في هذا المعنى سفيان بن عينية: (لا يمنعنَّ أحداًً من الدعاء ما يعلمه من نفسه فإن الله تعالى قد أجاب شر الخلق إبليس حين دعاه قال رب فانظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين) .
والمؤمن موضعه من ربه أقرب فكان لا بد من حسن الظن بالله عز وجل حين يدعوه ويطلب منه، ففي كل فعل وأداء وأمر ونهي يحسن الظن بالله؛ بأن يقبله ويتقبل منه، وقد أخرج مسلم (2877) في هذا المعنى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -قال: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله".
وحسن الظن وطهارة القلب وصفاؤه لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض فلا يمكن أن يوجد حسن الظن وتنتفي طهارة القلب فالقلب الداعي لربه العابد له المؤتمر بما أمر يدعو ويطلب، وحُسن ظنه بربه أن يستجيب، يوضح ذلك ما روى شهر بن حوشب أن أم الدرداء -رضي الله عنه- قالت له: يا شهر ألا تجد القشعريرة؟ قلت: نعم، قالت: فادع الله؛ فإن الدعاء مستجاب عند ذلك.
وطهارة القلب وحُسن الظن إن تمازجا أنتجا (الرضا) ، والرضا هو اطمئنان القلب لقضاء الله -عز وجل-، وحين يدعو من اطمأن قلبه ورضي كان دعاؤه مناجاة لربه، وصدق الله العظيم ?اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ? [الزمر:23] .
ولابد في النهاية من حضور القلب والعقل في الدعاء فقد قال صلى الله عليه وسلم: "اعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاهٍ" الترمذي (3479) .(1/456)
حديث الصيحة إذا وافق نصف رمضان يوم جمعة
المجيب د. الشريف حاتم بن عارف العوني
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 11/09/1425هـ
السؤال
وردت بعض الأحاديث في كتاب (هرمجدون) التي تتحدث عن موافقة يوم الجمعة للنصف من رمضان، فإنه ستحدث صيحة في رمضان، ومعمعة في شوال، وأشياء كثيرة، فما مدى صحة هذه الأحاديث؟ وما الموقف الصحيح تجاهها؟.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:
أقول وبالله التوفيق:
لهذا الحديث ألفاظٌ متعدّدة، وروايات عِدّة، وكلّها لا يصحّ منها شيء.
1- فمنها حديث ابن مسعود - رضي الله عنه-: أخرجه نعيم بن حماد في الفتن (رقم 638) ، ومن طريقه الشاشي في مسنده (رقم 837) ، وأبو الشيخ في الفتن (كما في اللآلئ المصنوعة للسيوطي 2/386) .
وفي إسنادهم محمد بن ثابت بن أسلم البناني، وهو مختلفٌ فيه بين الضعف والضعف الشديد، وفي الإسناد إليه أيضًا من لا يُعتمد.
2- حديث فيروز الديلمي (وفي صحبته خلاف) : أخرجه الطبراني في الكبير (18/332) ، وأبو عَمرو الداني في السنن الواردة في الفتن (رقم 518) ، والجورقاني في الأباطيل والمناكير (رقم 468، 469) ، وابن الجوزي في الموضوعات (رقم 1687) .
وبيّن الجورقاني وابن الجوزي شدّة ضعفه، بل حكم عليه ابن الجوزي بالوضع.
3- حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، وله عنه طُرق:
أ- أخرجه نعيم بن حماد (رقم 628) ، ومن طريقه الحاكم في المستدرك (4/517-518) ، والجورقاني في الأباطيل (رقم 470) .
وفيه مسلمة بن علي، وبه ضعّفه الحاكم، وأنكره الجورقاني، وكذّبه ابن الجوزي- (3/461-462) ، وتعقبه الذهبي في تلخيص المستدرك بقوله عن مسلمة: "بل هو ساقطٌ متروك".
ب- أخرجه العقيلي في الضعفاء - في ترجمعة عبد الواحد بن قيس- (3/807 رقم 1014) ، وابن الجوزي في الموضوعات (رقم 1686) ؛ من طريق عنبسة بن أبي صغيرة، عن الأوزاعي عن عبد الواحد بن قيس عن أبي هريرة.
وعنبسة اتّهمه الذهبي، ودافع عنه ابن حجر (اللسان 6/242) ، وعبد الواحد لم يسمع من أبي هريرة، وهو مختلفٌ فيه بين تضعيف شديد وتوثيق.
ونكارة هذا الحديث لا تعدو أحدهما، وأظن المتّهم به عنبسة، كما مال إليه الذهبي.
ج- أخرجه الطبراني في الأوسط (رقم 516) من طريق نوح بن قيس عن البختري بن عبد الحميد عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة. وقال الطبراني عقبه: "لم يرو هذا الحديث عن شهر إلا البختري، تفرّد به نوح بن قيس".
والبختري- بالخاء المعجمة، أو المهملة- مجهول، وقد قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/210) : "لم أعرفه".
د- ورُوي موقوفًا على أبي هريرة: أخرجه نعيم بن حماد (رقم 645) ، عن شيخ من الكوفيين عن ليث بن أبي سليم عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة.
وعلّقه الجورقاني في الأباطيل والمناكير (رقم 471) ، وابن الجوزي في الموضوعات (3/461) ، من طريق إسماعيل بن عياش عن ليث بن أبي سليم به.
وفي الإسناد الأول إبهامُ شيخ نُعَيم بن حماد، وما في ليث من ضعف الحفظ.
وفي الإسناد الثاني: فوق التعليق، أن حديث إسماعيل بن عياش عن غير الشاميين ضعيف، وليثٌ ليس شاميًّا.
مع نكارة المتن في كليهما.
4- حديث عبد الله بن عَمرو (وفيه جزء مرفوع وجزء موقوف عليه) : أخرجه نعيم بن حماد (رقم 631، 632، 986، 987) ، ومن طريقه الحاكم في المستدرك ساكتًا عليه دون تصحيح (4/502) .
فتعقّبه الذهبي بقوله عن رجال أحد طريقيه: "سنده ساقط، ومحمد أظنّه المصلوب".
قلت: وفي إسناده أبو يوسف الكوفي ثم المقدسي (انظر: الفتن لنعيم بن حماد رقم 599) ، لم أستطع تمييزه، ففيه جهالة عندي، مع نكارة حديثه.
وقد رُوي الحديث مرسلاً مقطوعًا على بعض التابعين، وهم:
1- سعيد بن المسيب مقطوعاً: أخرجه نعيم بن حماد (رقم 629) ، ولا يصحّ عنه.
2- شهر بن حوشب: أخرجه نعيم بن حماد (رقم 630) ، وأبو عَمرو الداني في السنن الواردة في الفتن (رقم 519) مرسلاً، وفي إسناده عنبسة بن عبد الرحمن بن عنبسة القرشي، وهو متروك متّهم بالوضع.
وأخرجه نعيم من حماد (رقم 652) مقطوعاً، ولا يصح عنه أيضاً.
3- مكحول الشامي مرسلاً: أخرجه نعيم بن حماد (رقم 626) عن رشدين بن سعد، عن ابن لهيعة، عن عبد الوهاب بن بخت، عن مكحول. ورشدين بن سعد وابن لهيعة فيهما ضعف مشهور، مع ضعف الإرسال من مكحول أيضاً.
4- وكثير بن مُرّة: أخرجه نعيم بن حماد (رقم 637، 647، 650، 653) .
5- وكعب الأحبار: أخرجه نعيم بن حماد (رقم 622، 643) .
فيبدو أن مرجع هذا الخبر أنه من الإسرائيليّات، بدليل ذكر كعب الأحبار له. ثم أخذه عنه الكذّابون والمغفّلون وركّبوا له الأسانيد السابقة.
ولذلك فقد تتابع العلماء على الحكم على هذا الحديث بالوضع، وأنه مكذوبٌ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، ومن هؤلاء العلماء:
1- العقيلي في الضعفاء، حيث قال عقب أحد طرقه السابقة:
"ليس لهذا الحديث أصل من حديث ثقة، ولا من وجه يثبت".
2- والجورقاني في الأباطيل والمناكير.
3- وابن الجوزي حيث أورده في الموضوعات.
4- والذهبي (كما سبق عنه) ، وكما في الميزان (2/675) في ترجمة عبد الواحد بن قيس.
5- وابن القيّم في المنار المنيف (رقم 212) .
6- وعمر بن بدر الموصلي في المغني عن الحفظ والكتاب، كما في جُنّة المرتاب (رقم 95) .
7- وملا علي القاري في الأسرار المرفوعة (450) .
8- والعجلوني في كشف الخفاء (2/569) .
أمّا السيوطي فخالف في الحكم عليه بالوضع، ولم يُصرّح بقبوله، كما في اللآلئ المصنوعة (2/386-389) ، والنكت البديعات (رقم 271) ، وتابعه على ذلك ابن عراق- كعادته- في تنزيه الشريعة المرفوعة (2/347-348) .
والحديث واضح البطلان، ولذلك ضرب ابن القيم به وبأمثاله المثل على الأحاديث الظاهرة الكذب.
وما أحسن ما تعقِّب به الجورقاني بعض الطرق السابقة، حيث بيَّن عللها الإسناديّة، ثم أورد حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال:
"إذا جاء رمضان فُتحت أبواب الجنّة، وغُلّقت أبواب النار، وصُفّدت الشياطين"، وهو حديث متفق على صحّته. ثم قال عقب هذا الحديث وحديثٍ آخر بمعناه: "وهذا الشهر شهر رمضان مخصوصٌ بالبركة والخير والرحمة، بَشّرَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أُمته بهذه الفضائل التي ذكرها في هذا الحديث وغيره من الأحاديث الصِّحاح. فلا يجوز الذّهاب عن الحديث الصحيح إلى حديثٍ واهٍ باطل، ليس لسنده قِوام ولا لحقيقته نظام". (الأباطيل للجورقاني 2/88) .
وصدق (رحمه الله) وبَرَّ.
هذا والله أعلم، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.(1/457)
السفر بالقرآن إلى بلاد الكفار
المجيب د. محمد بن عبد الرحمن العمير
عضو هيئة التدريس بقسم الدراسات الإسلامية بجامعة الملك فيصل بالإحساء وعميد كلية التربية بالجامعة
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 07/01/1426هـ
السؤال
ما صحة هذا الحديث: (عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو) ، وقد قيل لي أن هذا النهى في حالة ما إذا خيف وقوعه بأيدي العدو، فكيف يصح هذا مع أن الحديث غير مقيد بشرط؟.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذا الحديث صحيح رواه الشيخان البخاري (2990) ، ومسلم (1869) وغيرهما، والنهي مقيد بما إذا خيف على القرآن أن تنتهك حرمته من قبل العدو، تبين ذلك رواية مسلم، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه كان ينهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو، وعليه فإذا لم يخف على القرآن أن يمتهن، فلا شيء في السفر به، خاصة لمن لا يحفظ القرآن، فهو محتاج إلى تلاوته وعدم هجره. والله أعلم.(1/458)
أسانيد (تاريخ الطبري)
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 19/10/1425هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هل كل الأسانيد والأحاديث الواردة في كتاب الإمام الطبري (تاريخ الأمم والملوك) صحيحة؟ إن كان قليل منها غير صحيح أو أقل من مرتبة الصحيح فكيف أتأكد وأعرف ذلك؟ سبب سؤالي هو أني قرأت في المجلد الأول للطبري فوجدت أسانيد للصحابي الجليل عبد الله بن العباس، رضي الله عنهما، ولكعب الأحبار قد أثارت الشك لدي، بالذات حينما قرأت في فصل خلق الأرض والشمس والقمر, والعين الحمئة. ونترك لسماحتكم الإجابة, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله. وبعد:
محمد بن جرير الطبري (224 - 310 هـ) أحد الأئمة المشهورين في التفسير والفقه والتاريخ، واشتهر بكتابيه في التفسير والتاريخ، وكتابه في التاريخ من أوسع الكتب التاريخية وأكثرها شمولاً للأحداث والوقائع، ولم يلتزم الصحة فيما يذكره من الروايات والأخبار، ولكنه أوردها مسندة وترك الحكم للقارئ، على منهج وطريقة: العهدة على الرواة، ومن أسند فقد أحال. قال في مقدمته: فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين، مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجهًا من الصحة ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنما أُتي من قبل بعض ناقليه إلينا، وأنَّا إنما أدينا ذلك على نحو ما أُدِّي إلينا. ينظر: تاريخ الطبري (1/8) . وقد وقع في تاريخه كثير من الأخبار الواهية والإسرائيليات المنكرة، والأحاديث الموضوعة والضعيفة، ونجد في تاريخ الطبري الاعتماد على كتب الأخباريين المطعون في عدالتهم والمتكلم فيهم، من أمثلة: سيف بن عمر التميمي (ت 170 هـ) ، وأبي مخنف لوط بن يحيى (ت 157 هـ) ، وعلي بن محمد المدائني (225 هـ) ، ومحمد بن عمر الواقدي (207 هـ) ، وغيرهم، ويصعب التعامل مع تاريخ الطبري لغير المتخصصين الذين يستطيعون التمييز بين صحيح الأخبار وسقيمها، ولهذا أنصح السائل أن تكون مطالعته في كتاب البداية والنهاية للحافظ ابن كثير لعنايته بانتقاء الروايات والأخبار ونقد المرويات، حيث ذكر منهجه في مقدمته (1/ 6) ، قال: أما بعد: فهذا كتابٌ أذكر فيه بعون الله وحسن توفيقه ما يسَّره الله تعالى بحوله وقوته من ذكر مبدأ المخلوقات من خلق العرش والكرسي والسموات والأرضين وما فيهن وما بينهن من الملائكة والجان والشياطين، وكيفية خلق آدم عليه السلام وقصص النبيين، وما جرى مجرى ذلك إلى أيام بني إسرائيل، وأيام الجاهلية حتى تنتهي النبوة إلى أيام نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه، فنذكر سيرته كما ينبغي فتشفي الصدور والغليل وتزيح الداء عن العليل، ثم نذكر ما بعد ذلك إلى زماننا، ونذكر الفتن والملاحم وأشراط الساعة، ثم البعث والنشور وأهوال القيامة، ثم صفة ذلك وما في ذلك اليوم وما يقع فيه من الأمور الهائلة، ثم صفة النار ثم صفة الجنان وما فيها من الخيرات الحسان، وغير ذلك وما يتعلق به، وما ورد في ذلك من الكتاب والسنة والآثار والأخبار المنقولة المقبولة عند العلماء وورثة الأنبياء الآخذين من مشكاة النبوة المصطفوية المحمدية على من جاء بها أفضل الصلاة والسلام، ولسنا نذكر من الإسرائيليات إلا ما أذن الشارع في نقله مما لا يخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهو القسم الذي لا يصدق ولا يكذب مما فيه بسط لمختصر عندنا أو تسمية لمبهم ورد به شرعنا مما لا فائدة في تعيينه لنا، فنذكره على سبيل التحلي به لا على سبيل الاحتياج إليه والاعتماد عليه وإنما الاعتماد والاستناد على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما صح نقله أو حسن، وما كان فيه ضعف نبينه، وبالله المستعان وعليه التكلان.
وأُرشد السائل أيضًا إلى العناية بكتب السنة مثل الكتب الستة ومسند أحمد ولاسيما الصحيحين، مع الرجوع إلى شرحيهما مثل فتح الباري للحافظ ابن حجر، وشرح النووي على مسلم، وأما من أراد دراسة أسانيد تاريخ الطبري فعليه الرجوع إلى كتب الرجال لمعرفة مراتبهم ومنزلتهم، وكتب الرجال كثيرة، منها المتقدمة والمتأخرة، ومنها المطولة والمختصرة مثل: التاريخ الكبير للبخاري، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم، طبقات ابن سعد، كتاب الثقات لابن حبان، والمجروحين له، الكامل لابن عدي، الضعفاء الكبير للعقيلي، الميزان للذهبي، تهذيب الكمال للمزي، وتهذيب التهذيب لابن حجر، وغيرها من الكتب التي صنفت في الرجال، ويمكن الاستفادة في البحث عن الرجال من برامج الحاسب مثل: المكتبة الألفية، الموسوعة الذهبية، موسوعة الكتب التسعة، وعلى الدارس للأسانيد التأكد من مواضع الاتصال والانقطاع، وذلك بالرجوع إلى كتب المراسيل مثل: المراسيل لابن أبي حاتم، جامع التحصيل للعلائي، وغيرهما، وعليه أيضًا الرجوع إلى كتب العلل للنظر في المحفوظ من الروايات وغير المحفوظ، وعلى كل حال فدراسة الأسانيد فن له أصوله وقواعده، ويمكن الاستفادة من الكتب التي ألفت في هذا الفن، وهي متوفرة في المكتبات، ويوجد لأساتذة الجامعات مذكرات في هذه المادة حيث إن مادة دراسة الأسانيد تدرس في كليات أصول الدين، وفي برنامج الماجستير والدكتوراه في تخصصات السنة وعلومها. والله أعلم.(1/459)
حديث "من حمل جنازة فليتوضأ"
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 17/04/1426هـ
السؤال
فضيلة الشيخ: ما صحة حديث "من حمل جنازة فليتوضأ، ومن غسلها فليغتسل؟ ".
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد:
الحديث المشار إليه في السؤال أخرجه الطيالسي (2314) ، وابن أبي شيبة (11153،12000) ، وأحمد (9862) ، والبيهقي (1/303) من طريق ابن أبي ذئب، عن صالح مولى التوأمة، قال: سمعت أبا هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من غسَّل ميتاً فليغتسل".
وفي هذا الإسناد: صالح مولى التوأمة، وهو صدوق اختلط
وقد اختلف في رفع هذا الحديث ووقفه، وأشار غير واحد من الأئمة -منهم الإمام أحمد والبخاري وأبو حاتم- إلى أن المحفوظ وقف الحديث على أبي هريرة رضي الله عنه.
وللحديث طرق أخرى يطول المقام ببسطها [ينظر: البدر المنير (2/524 - 543) ] .
وقد ذكر غير واحد من الأئمة أنه لا يصح في هذا الباب شيء، منهم الإمام أحمد، وعلي بن المديني، والذهلي
وقال الترمذي: "سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث، فقال: إن أحمد بن حنبل وعلي بن عبد الله قالا: لا يصح في هذا الباب شيء " [ينظر: علل الترمذي (1/142) ، سنن البيهقي (1/302) ] .
وفي سنن البيهقي (1/302) : "قال محمد بن يحيى: لا أعلم فيمن غسل ميتاً حديثاً ثابتاً، ولو ثبت لزمنا استعماله".
وقال البيهقي (1/302) بعد أن ذكره موقوفاً: " هذا هو الصحيح موقوفاً على أبي هريرة كما أشار البخاري".
ويتلخص مما سبق أن الحديث موقوف على أبي هريرة -رضي الله عنه- وعلى هذا فلا ينهض للاستدلال به على وجوب الغسل على من غَسَّل الميت، وقد ذهب بعض العلماء إلى استحباب الغسل لمن غسل ميتاً، وهذا قول الشافعي وإسحاق والأحناف، ورواية عن الإمام أحمد وعليها المذهب، وفي رواية أخرى لا يستحب، والله أعلم.(1/460)
صحة حديث (اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان)
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 03/07/1426هـ
السؤال
ما صحة حديث: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل رجب قال: اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان".
الجواب
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلاة على رسول الله، وبعد:
حديث: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ رَجَبٌ قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي رَجَبٍ وَشَعْبَانَ وَبلغنا رَمَضَانَ". وفي رواية: "وبَارِكْ لَنَا فِي رَمَضَانَ".
أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (2346) ، والبزار في مسنده، -كما في كشف الأستار (616) -، وابن السني في عمل اليوم والليلة (658) ، والطبراني في الأوسط (3939) ، وفي الدعاء (911) ، وأبو نعيم في الحلية (6/269) ، والبيهقي في الشعب (3534) ، وفي كتاب فضائل الأوقات (14) ، والخطيب البغدادي في الموضح (2/473) ، وابن عساكر في تاريخه (40/57) ، من طريق زائدة بن أبي الرقاد عن زياد النميري عن أنس.
وهذا إسنادٌ ضعيف: زائدة بن أبي الرقاد: قال البخاري والنسائي: منكر الحديث، وقال أبو داود: لا أعرف خبره، وقال أبو حاتم: يحدث عن زياد النميري عن أنس أحاديث مرفوعة منكرة، ولا ندري منه أو من زياد، وقال الذهبي: ضعيف، وقال الحافظ ابن حجر: منكر الحديث [ينظر: التاريخ الكبير (3/433) ، الجرح (3/613) ، المجروحين (1/308) ، الميزان (2/65) ، التهذيب (3/305) ، التقريب (1/256) ] .
وزياد بن عبد الله النميري البصري: قال ابن معين: ليس بشيء، وضعفه أبو داود، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ، ثم ذكره في المجروحين، وقال: منكر الحديث يروي عن أنس أشياء لا تشبه حديث الثقات، لا يجوز الاحتجاج به، وقال الذهبي: ضعيف، وقال الحافظ: ضعيف [ينظر: تاريخ ابن معين (2/179) ، الجرح (3/536) ، الكامل (3/1044) ، الميزان (2/65) ، التهذيب (3/378) ] .
وقد تفرد زائدة بن أبي الرقاد بهذا الحديث عن زياد النميري، قال الطبراني في الأوسط: "لا يروى هذا الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا بهذا الإسناد، تفرد به زائدة بن أبي الرقاد".
وقال البيهقي: " تفرد به النميري وعنه زائدة بن أبي الرقاد، قال البخاري: زائدة بن أبي الرقاد عن زياد النميري منكر الحديث".
وقد أشار غير واحد من العلماء إلى ضعف إسناد هذا الحديث منهم: النووي في الأذكار (547) ، وابن رجب في لطائف المعارف (ص143) ، والهيثمي في المجمع (2/165) ، والذهبي في الميزان (2/65) ، وابن حجر في تبيين العجب (38) .
ويحسن الإشارة بمناسبة تخريج هذا الحديث إلى أنه لم يثبت في فضل شهر رجب ولا في صيامه ولا قيام ليلة مخصوصة منه حديث صحيح، قال الحافظ ابن حجر في تبيين العجب بما ورد في شهر رجب (ص23) : "لم يرد في فضل شهر رجب، ولا في صيام شيء منه معين، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة، وقد سبقني إلى الجزم بذلك الإمام أبو إسماعيل الهروي الحافظ، رويناه عنه بإسناد صحيح، وكذلك رويناه عن غيره".
وقال الحافظ ابن رجب في لطائف المعارف (ص140) : " فأما الصلاة فلم يصح في شهر رجب صلاة مخصوصة تختص به، والأحاديث المروية في فضل صلاة الرغائب في أول ليلة جمعة من شهر رجب كذب وباطل لا تصح، وهذه الصلاة بدعة عند جمهور العلماء، وممن ذكر ذلك من العلماء المتأخرين من الحفاظ: أبو إسماعيل الأنصاري، وأبو بكر بن السمعاني، وأبو الفضل بن ناصر، وأبو الفرج بن الجوزي، وغيرهم، وإنما لم يذكرها المتقدمون لأنها أحدثت بعدهم، وأول ما ظهرت بعد الأربعمائة فلذلك لم يعرفها المتقدمون ولم يتكلموا فيها، وأما الصيام فلم يصح في فضل رجب بخصوصه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه.... وقد روي أنه كان في شهر رجب حوادث عظمية، ولم يصح شيء من ذلك، فروي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولد في أول ليلة منه، وأنه بعث في السابع والعشرين منه، وقيل: في الخامس والعشرين، ولا يصح شيء من ذلك، وروي بإسناد لا يصح عن القاسم بن محمد أن الإسراء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان في السابع والعشرين من رجب، وأنكر ذلك إبراهيم الحربي وغيره."(1/461)
استغاثة زينب أخت الحسين يوم كربلاء
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 22/07/1426هـ
السؤال
في قصة كربلاء ذكر بعضهم أن زينب أخت الإمام الحسين -رضي الله عنه- حفيدة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نادت: "يا محمد يا محمد قد هلك أهلك اليوم" أو شيء من هذا القبيل. فما مدى صحة هذه الرواية؟
وإذا صحَّت، فما توضيح أهل السنة والجماعة لقولها؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله، وبعد:
الرواية المذكورة أخرجها الطبري في تاريخه (5/455) ، من رواية أبي مخنف، قال: حدثني أبو زهير العبسي، عن قرة بن قيس التميمي، قال: نظرت إلى تلك النسوة لما مررن بحسين وأهله وولده صِحْنَ ولطمن وجوههن، قال: فاعترضتهن على فرس، فما رأيت منظراً من نسوة قط كان أحسن من منظر رأيته منهم ذلك اليوم، قال: فما نسيت من الأشياء لا أنس قول زينب ابنة فاطمة حين مرت بأخيها الحسين صريعاً وهي تقول: يا محمداه يا محمداه صلى عليك ملائكة السماء، هذا الحسين بالعراء مرمل بالدماء، مقطع الأعضاء، يا محمداه وبناتك سبايا، وذريتك مقتلة، تسفي عليها الصبا، قال: فأبكت والله كل عدو وصديق.
وأبو مخنف هو: لوط بن يحيى، وهو شيعي ضعيف الحديث، أجمع نقاد الحديث على تضعيفه، بل على تركه وأنه لا يعتد بروايته، ولا ريب أن مقتل الحسين -رضي الله عنه- يحزن له كل مسلم، وهو مصيبة عظيمة، أخرج البخاري (5994) بسنده عن ابْنِ أَبِي نُعْمٍ، قَالَ: كُنْتُ شَاهِدًا لابن عُمَرَ -رضي الله عنهما- وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ فَقَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، قَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا يَسْأَلُنِي عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ وَقَدْ قَتَلُوا ابْنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُول: ُ "هُمَا رَيْحَانَتَايَ مِنْ الدُّنْيَا".
والحسين - رضي الله عنه - من سادات المسلمين وعلماء الصحابة، وابن بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي هي أفضل بناته، وكان عابداً شجاعاً سخياً، وقد أسرف الرافضة في إظهار الجزع والحزن لمقتل الحسين، وأحدثوا كثيراً من البدع الشنيعة يوم عاشورا إحياءً لذكرى مقتل الحسين -رضي الله عنه-، قال الحافظ ابن كثير: "فكل مسلم ينبغي له أن يحزنه قتله رضي الله عنه، ولكن لا يحسن ما يفعله الشيعة من إظهار الجزع والحزن الذي لعل أكثره تصنعٌ ورياءٌ، وقد كان أبوه أفضل منه، فقتل وهم لا يتخذون مقتله مأتما كيوم مقتل الحسين، فإن أباه قتل يوم الجمعة وهو خارج إلى صلاة الفجر في السابع عشر من رمضان سنة أربعين، وكذلك عثمان كان أفضل من علي عند أهل السنة والجماعة، وقد قتل وهو محصورٌ في داره في أيام التشريق من شهر ذي الحجة سنة ست وثلاثين، وقد ذبح من الوريد إلى الوريد، ولم يتخذ الناس يوم قتله مأتماً، وكذلك عمر بن الخطاب وهو أفضل من عثمان وعلي، قتل وهو قائم يصلي في المحراب صلاة الفجر ويقرأ القرآن ولم يتخذ الناس يوم قتله مأتماً، وكذلك الصديق كان أفضل منه ولم يتخذ الناس يوم وفاته مأتما، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، وقد قبضه الله إليه كما مات الأنبياء قبله، ولم يتخذ أحد يوم موتهم مأتما يفعلون فيه ما يفعله هؤلاء الجهلة من الرافضة ... وأحسن ما يقال عند ذكر هذه المصائب وأمثالها ما رواه علي بن الحسين عن جده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما من مسلم يصاب بمصيبة فيتذكرها وإن تقادم عهدها فيحدث لها استرجاعا إلا أعطاه الله من الأجر مثل يوم أصيب بها" [البداية والنهاية (8/203) ] .
وقال في موضع آخر: "وقد أسرف الرافضة في دولة بني بويه في حدود الأربعمائة وما حولها فكانت الدبادب - أي الطبل - تضرب ببغداد ونحوها من البلاد في يوم عاشوراء، ويُذر الرماد والتبن في الطرقات والأسواق، وتعلق المسوح على الدكاكين، ويظهر الناس الحزن والبكاء، وكثيرٌ منهم لا يشرب الماء ليلتئذٍ موافقةً للحسين؛ لأنه قتل عطشان ثم تخرج النساء حاسراتٍ عن وجوههن ينحن ويلطمنَ وُجوههن وصدورهن حافيات في الأسواق إلى غير ذلك من البدع الشنيعة "، هذا والله أعلم.(1/462)
حديث مسح ظهر آدم
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 14/09/1426هـ
السؤال
قرأت حديثاً أن الله -تعالى- مسح ظهر آدم عليه السلام.
وهناك أسانيد كثيرة لهذا الحديث، لكنني أعلم أن جميع هذه الروايات ضعيفة. فهل هناك أي حديث صحيح في هذه المسألة؟ أو على الأقل هل مجموع هذه الروايات تجعله حسناً لغيره؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله، وبعد:
فقد أخبر الله -سبحانه وتعالى- في كتابه أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، قال عز وجل: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) [الأعراف:172] .
واختلف المفسرون في معنى الإشهاد المذكور في الآية على قولين:
1-أن الإشهاد في الآية هو أن الله فطرهم على التوحيد، وجبلهم على الإيمان وجعل لديهم الاستعداد لقبوله، قال سبحانه وتعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [الروم:30] ، وفي الصحيحين [البخاري (1385) ، ومسلم (2658) ] من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ".
وفي صحيح مسلم (2865) من حديث عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: "أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا، كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا ... " الحديث.
2- تفسير الإشهاد بما ورد في بعض الأحاديث والآثار الدالة على أن الله -عز وجل- استخرج ذرية آدم من صلبه، وأشهدهم أنه ربهم ومعبودهم، ففي الصحيحين [البخاري (3334) ، ومسلم (2805) ] من حديث أنس -رضي الله عنه-: "إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا: لَوْ أَنَّ لَكَ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ كُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَقَدْ سَأَلْتُكَ مَا هُوَ أَهْوَنُ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ أَنْ لَا تُشْرِكَ بِي فَأَبَيْتَ إِلَّا الشِّرْكَ". ووردت أحاديث فيها تفصيل هذا الإشهاد الذي أُخذ على بني آدم حينما اسْتُخِرجوا من صلب آدم عليه السلام، وهذه الأحاديث لا تخلو من كلام، ومن تلك الأحاديث ما يأتي:
1- حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ بِنَعْمَانَ (يَعْنِي عَرَفَةَ) ، فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ كَالذَّرِّ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قِبَلًا قَالَ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ". أخرجه أحمد (2327) ، عن حسين بن محمد، عن جرير بن حازم، عن كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ورجال هذا الإسناد ثقات، ولكن الحديث أُعل بالوقف، قال الحافظ ابن كثير: " وقد رواه عبد الوارث، عن كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، فوقفه.
وكذا رواه إسماعيل بن علية ووكيع، عن ربيعة بن كلثوم بن جبر، عن أبيه، به.
وكذا رواه عطاء بن السائب وحبيب بن أبي ثابت وعلي بن بذيمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
وكذا رواه العوفي وعلي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، فهذا أكثر وأثبت والله أعلم" [تفسير ابن كثير (2/347) ] .
وقال النسائي بعد إخراجه للحديث في السنن الكبرى (6/347) : "وكلثوم هذا ليس بالقوي، وحديثه ليس بالمحفوظ"
2- حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ) ، فَقَالَ عُمَرُ -رضي الله عنه-: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُئِلَ عَنْهَا، فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- خَلَقَ آدَمَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّة، ً فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ". فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّه، ِ فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ الْجَنَّةَ، وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ النَّارَ". أخرجه مالك في الموطأ (1395) ، ومن طريقه أبو داود (4081) ، والترمذي (3001) ، وأحمد (311) ، عن زيد بن أبي أنيسة، أن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أخبره عن مسلم بن يسار الجهني، أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ... ".
وهذا الإسناد ضعيف، مسلم بن يسار الجهني لم يسمع من عمر، ولم يوثقه غير ابن حبان والعجلي، ولم يرو عنه غير عبد الحميد بن عبد الرحمن فهو في عداد المجاهيل.
وذكر في بعض الطرق بين مسلم بن يسار رجل وهو: نعيم بن ربيعة، وهو مجهول الحال. وقال ابن عبد البر في التمهيد (6/3) : "هذا الحديث منقطع بهذا الإسناد؛ لأن مسلم بن يسار هذا لم يلق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.
ثم قال: زيادة من زاد في هذا الحديث نعيم بن ربيعة ليست حجة؛ لأن الذي لم يذكره أحفظ، وإنما تقبل الزيادة من الحافظ المتقن.
وجملة القول في هذا الحديث أنه حديث ليس إسناده بالقائم؛ لأن مسلم بن يسار ونعيم بن ربيعة كليهما غير معروفين بحمل العلم، ولكن معنى هذا الحديث قد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من وجوه كثيرة ثابتة يطول ذكرها".
3- حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم، قال: "أخذوا من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس، فقال لهم: (ألست بربكم قالوا بلى) ، قالت الملائكة: (شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) . أخرجه ابن جرير في تفسيره (6 /110) من طريق أحمد بن أبي طيبة، عن سفيان بن سعيد، عن الأجلح، عن الضحاك، عن منصور، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-.
وأُعل هذا الحديث بالوقف، قال الحافظ ابن كثير: "أحمد بن أبي طيبة هذا هو: أبو محمد الجرجاني، قاضي قومس كان أحد الزهاد، أخرج له النسائي في سننه، وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه، وقال ابن عدي: حدث بأحاديث كثيرة غرائب.
وقد روى هذا الحديث عبد الرحمن بن حمزة بن مهدي، عن سفيان الثوري، عن منصور، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو.
وكذا رواه جرير، عن منصور، به، وهذا أصح، والله أعلم".
وقال أيضاً بعد أن ساق عدداً من الأحاديث والآثار الواردة في أخذ الذرية من صلب آدم عليه السلام، قال: "فهذه الأحاديث دالة على أن الله -عز وجل- استخرج ذرية آدم من صلبه، وميز بين أهل الجنة وأهل النار، وأما الإشهاد عليهم هناك بأنه ربهم، فما هو إلا في حديث كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وفي حديث عبد الله بن عمرو وقد بينا أنهما موقوفان لا مرفوعان، كما تقدم، ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف: إن المراد بهذا الإشهاد، إنما هو فطرهم على التوحيد، كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض بن حمار المجاشعي، ومن رواية الحسن البصري عن الأسود بن سريع، وقد فسر الحسن الآية بذلك، قالوا: ولهذا قال: (وإذ أخذ ربك من بني آدم) ، ولم يقل من آدم (من ظهورهم) ، ولم يقل من ظهره (ذريتهم) أي جعل نسلهم جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن، كقوله تعالى: (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض) ، وقال: (ويجعلكم خلفاء الأرض) ، وقال: (كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين) ، ثم قال (وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى) أي أوجدهم شاهدين بذلك قائلين له حالاً وقالاً والشهادة تارة تكون بالقول، كقوله: (قالوا شهدنا على أنفسنا) الآية، وتارة تكون حالا كقوله تعالى: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر) أي حالهم شاهد عليهم بذلك لا أنهم قائلون ذلك، وكذا قوله تعالى: (وإنه على ذلك لشهيد) كما أن السؤال تارة يكون بالقال، وتارة يكون بالحال، كقوله: (وآتاكم من كل ما سألتموه) . قالوا: ومما يدل على أن المراد بهذا هذا أن جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك، فلو كان قد وقع هذا -كما قال من قال- لكان كل أحد يذكره ليكون حجة عليه، فإن قيل: إخبار الرسول -صلى الله عليه وسلم- به كاف في وجوده، فالجواب: أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره، وهذا جعل حجة مستقلة عليهم فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد، ولهذا قال: (أن تقولوا) أي لئلا تقولوا يوم القيامة (إنا كنا عن هذا) أي التوحيد (غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا) " [ينظر: تفسر ابن كثير (2/345- 347) ] .(1/463)
درجة حديث: "من قرأ الفاتحة لن يرى الفقر أبداً"
المجيب د. الشريف حاتم بن عارف العوني
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 25/10/1426هـ
السؤال
روي أن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أخبر بأنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من قرأ سورة الفاتحة في الليل لن يرى الفقر أبداً"، فما مدى صحة هذه الرواية؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فهذا حديث لا يصح في فضل سورة الفاتحة، مع أنه قد صحّ في فضل هذه السورة أحاديث عدة، بل صحّ عنه -صلى الله عليه وسلم- أنها أفضل سورة في القرآن.
والمرويُّ عن ابن مسعود -رضي الله عنه- بنحو هذا المعنى إنما ورد في سورة الواقعة، لا في سورة الفاتحة، وهو مع ذلك حديث لا يصح أيضاً، كما بين ذلك الإمام أحمد، حيث حكم على حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- في سورة الواقعة أنه حديث منكر. المنتخب من العلل للخلال (ص116-117) رقم (49) . والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه والتابعين.(1/464)
درجةُ حديث: "واقرأ وأنت ساجد الفاتحة سبع مرات"
المجيب د. بندر بن نافع العبدلي
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 02/06/1427هـ
السؤال
قرأت في كتاب "الدّعاء المستجاب من الحديث والكتاب" لأحمد عبد الجوّاد: عن النبي-صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قال: "اثنتي عشرة ركعة تصلّيهنّ من ليل أو نهار، وتتشهّد بين كلّ ركعتين. فإذا تشهّدت في آخر صلاتك، فأثن على الله عزّ وجلّ، وصلِّ على النبي -صلّى الله عليه وسلّم- واقرأ وأنت ساجد (فاتحة الكتاب) سبع مرّات، وآية الكرسي سبع مرّات، وقل: "لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير" عشر مرّات. ثمّ قل: "اللهم إنّي أسألك بمعاقد العزّ من عرشك، ومنتهى الرّحمة من كتابك، واسمك الأعظم، وجدّك الأعلى، وكلماتك التّامة". ثمّ سل حاجتك، ثمّ أرفع رأسك، ثمّ سلّم يميناً وشمالاً" رواه الحاكم عن ابن مسعود رضي الله عنه.
ثمّ بعد توضيح هذه الصّلاة روى الكاتب عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- أنّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- نهى عليًّا عن القراءة وهو راكع أو ساجد!
وأسئلتي هي:
1- كيف تجوز قراءة القرآن أثناء السّجود في الصّلاة، وهل هذا لا يتنافى مع الحديث المذكور أعلاه عن النّهي؟
2- فهمت أنّه بعد التّشهّد يقع سجود، ثمّ دعاء، ثمّ سلام. فهل يجوز السّلام بعد السّجود من دون تشهّد آخر؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فهذا الحديث وهو حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" من طريق الحاكم (1029) ، ولم أقف عليه في "المستدرك" للحاكم. وأورده السيوطي في "اللآلئ المصنوعة" (2/68) ، وابن عراق في "تنزيه الشريعة" (2/112) .
وقال ابن الجوزي بعد إخراجه: هذا إسناد موضوع بلا شك، وإسناده مخبَّط كما ترى، وفي إسناده عمر بن هارون، قال يحيى: كذاب، وقال ابن حبان: يروي عن الثقات المعضلات، ويدَّعي شيوخًا لم يرهم. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن القراءة في السجود ا. هـ.
فالحديث موضوع سنداً، منكر متناً؛ لمخالفته للأحاديث الصحيحة في نهيه صلى الله عليه وسلم عن القراءة في الركوع والسجود.
وأما حديث ابن عباس فهو ثابت في "صحيح مسلم" (479) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا وإني نهيت أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع فعظمِّوا فيه الرب عز وجل، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فَقَمِنٌ أن يستجاب لكم". والله الموفق.(1/465)
درجة حديث (أجد نَفَسَ ربكم قِبَل اليمن)
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 24/10/1426هـ
السؤال
هناك حديث يروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول فيه: "أجد نَفَسَ ربكم مِنْ قِبلَ اليمن"، فماذا يعني هذا الحديث؟ هل يعني أن هناك صفة تنفس لله عز وجل؟ وهل يشعر من يذهب إلى اليمن بذلك؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله، وبعد:
فالحديث المشار إليه في السؤال أخرجه الإمام أحمد في مسنده (10978) ، قال: حَدَّثَنَا عِصَامُ بْنُ خَالِدٍ: حَدَّثَنَا حَرِيزٌ، عَنْ شَبِيبٍ أَبِي رَوْحٍ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- فَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ حَدِّثْنَا عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: قَالَ: النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَلَا إِنَّ الْإِيمَانَ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةَ يَمَانِيَةٌ وَأَجِدُ نَفَسَ رَبِّكُمْ مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ".
وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين (1083) من طريق علي بن عياش الحمصي، عن حريز بن عثمان به.
وأصل الحديث في الصحيحين بلفظ: "جاء أهل اليمن هم أرق أفئدة، الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية ".
وقوله: "وأجد نفس ربكم من قبل اليمن" زيادة تفرد بها شبيب أبو روح، ولم يوثقه غير ابن حبان.
وعلى تقدير ثبوت هذه الزيادة، فمعناها أي تفريج الله وتنفيسه من قبل اليمن. والمراد أن الله -سبحانه وتعالى- نفس الكرب عن نبيه -صلى الله عليه وسلم- بأهل اليمن، وهم الأنصار، قال ابن قتيبة: "وهذا من الكناية؛ لأن معنى هذا أنه قال: كُنتُ في شدة وكرب وغم من أهل مكة، ففرج الله عني بالأنصار، يعني أنه يجد الفرج من قبل الأنصار وهم من اليمن، فالريح من فرج الله تعالى وروحه، كما كان الأنصار من فرج الله تعالى" [ينظر: تأويل مختلف الحديث ص (143) ] .
قال القرطبي في تفسيره (20/212) : " روي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إني لأجد نفس ربكم من قبل اليمن"، وفيه تأويلان: أحدهما: أنه الفرج لتتابع إسلامهم أفواجاً، والثاني: معناه أن الله تعالى نفس الكرب عن نبيه -صلى الله عليه وسلم- بأهل اليمن وهم الأنصار".
وقال ابن الأثير في النهاية (5/203) : (عَنَى به الأنصار؛ لأنَّ اللَّه نَفَّس بهم الكَرْبَ عن المؤمنين وهُم يَمَانُون لأنَّهم من الأزْد) هذا والله أعلم.(1/466)
هل الأكل من ضيافة المريض تنقص الأجر
المجيب د. بندر بن نافع العبدلي
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 03/05/1427هـ
السؤال
كنا في عيادة مريض، فقدم لنا أهل المريض طعاما للضيافة فأبى أحدنا من الأكل بحجة أنه يوجد حديث ملخصه أن من أكل عند مريض فذلك هو ثوابه من تلك العيادة لذلك المريض!
السؤال: هل ورد في هذا الخصوص حديث؟ وما درجة صحته؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
نعم ورد حديث أبي أمامة -رضي الله عنه- مرفوعاً: "إذا عاد أحدكم مريضاً، فلا يأكل عنده شيئاً، فإنه حظُّه من عيادته" أخرجه الديلمي في "مسند الفردوس" (1/1207) .
وإسناده ضعيف جداً، لأن في سنده عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي، وهو متروك، وكذَّبه ابن معين، كما في التقريب" (ص666) .
وعليه فالصحيح جواز الأكل عند المريض، وأن ذلك لا ينقص من ثواب عيادته. بل ربما يكون الأكل أحياناً مما يُدخل السرور عليه فيندب حينئذ. والله الموفق.(1/467)
درجة حديث "علموهم الصلاة يعلموكم الدعاء"
المجيب د. خالد بن ناصر الغامدي
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 05/04/1427هـ
السؤال
سألت فضيلتكم عن حكم مناجاة قصيرة لئن سألتني يا رب يوم القيامة عن ذنبي لنسألنك عن رحمتك ولئن سألتني يا رب عن تقصيري فلنسألنك عن عفوك ولئن قذفتني في النار لأخبرن أهل النار أني أحبك كفاني عزا أن تكون لي ربا وكفاني فخرا أن أكون لك عبدا فأجبتوني بأن حكم مثل هذه المناجاة أنها بدعه، وهي من طرق تعبد الصوفية، فسؤالي الآن هل يشمل ذلك إرفاق دعاء أو مناجاة بنية إطلاع الإخوان على دعاء أو مناجاة لم يطلعوا عليها لسبب أو لآخر، وهل يشمل هذا الحكم نية التعليم كما ورد في أهل عسير والتي هذه قصتهم التي ذكرها الرحالة ابن بطوطة:
لهم صدق نية، وحسن اعتقاد وهم إذا طافوا بالكعبة يتطارحون عليها لائذين بجوارها، متعلقين بأستارها، داعين بأدعية تعتصر لرقتها القلوب، وتدمع العيون الجامدة، فترى الناس حولهم باسطي أيديهم مؤمنين على أدعيتهم ولا يمكن لغيرهم الطواف معهم، ولا استلام الحجر لتزاحمهم على ذلك. وبمثل ذلك وصفهم ابن جبير في موسم حج عام (579) هـ وذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكرهم وأثنى عليهم خيراً، وقال: "علموهم الصلاة يعلموكم الدعاء "، وأضاف: ودعاءهم: "كثير التجشيع للنفوس". أفيدونا أفادكم الله , فالجميع حريص على طاعة الله أولا، ودمتم بحفظ الله.
الجواب
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد:
فبادئ ذي بدء إنني لم أطلع على هذا السؤال سابقاً ولكن لا بأس من بعض الإيضاح عل الله أن ينفع به..
فأقول وبالله التوفيق وهو المعين على التحقيق:
أولا: فأحسن الدعاء هو ما أرشد إليه المصطفى صلى الله عليه وسلم من جوامع الدعاء وأكمله وأحسنه، كما ثبت ذلك في الكتاب والسنة، ومن أراد ذلك فهو يسير ومطبوع في كتب الأذكار التي عني بها علماء الحديث من أهل السنة والجماعة، ولله الحمد.
ثانياً: إن الدعاء المذكور في السؤال منه ما هو حسن ومنه ما دون ذلك، كأن يكون غير مشروع في أقل أحواله، ومن ذلك الجرأة في قول السائل "لأسألنك ... لأسألنك ... لأسألنك"، وفي ذلك اليوم العصيب لا يسأل الخلاق العظيم بل المسؤول هو المخلوق الضعيف، كما قال عز من قائل: "فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ" [الحجر:92] . وقال تعالى: "يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا" [طه:108-111] .
ثالثا: بالنسبة لكلام ابن جبير الرحالة فهو على ظاهره من رقة وخشوع أهل اليمن وإخباتهم، وهذا من حسناتهم، كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- صحيح البخاري (4388) ، وصحيح مسلم (52) . ولا يلزمنا إن خالف أحد من الناس أو جاء بما يوهم أن نجتنب ذلك وأن نبين أنه مخالف لهدي النبي -صلى الله عليه وسلم-.
رابعاً: ما ذكره السائل من دعاء أهل عسير لم يذكر لنا هل هو ثابت أم لا ومن أين جاء به ومن أي الكتب قرأه؟؟، وقد بحثت عنه في كتب السنة قاطبة فلم أجد له أثراً.. والواجب التثبت قبل أن ننسب كلاما للنبي الأعظم -صلى الله عليه وسلم-.
خامسا: الحديث دراية يدل على أنه لا يثبت -والله أعلم- لأن الصحابة رضوان الله عليهم هم الذين يعلمون الناس الدين وقد ابتعثهم النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن لتعليم الناس أمور دينهم كما في حديث معاذ صحيح البخاري (1458) ، وصحيح مسلم (19) . فكيف يعلم الجاهل المتعلم للصلاة والدين أمور الدين الأخرى التي هو أحوج لتعلمها لمن هو أعلم منه بالأصول والفروع؟؟
سادساً: نشكر للسائلة الحرص على تعلم أمور دينها وتوخي اتباع السنة في عباداتها ونسأل الله لنا ولها اتباع سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- والحمد لله رب العالمين.(1/468)
حديث فتح القسطنطينية
المجيب عمر بن عبد الله المقبل
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 16/04/1427هـ
السؤال
ما صحة حديث: "إنكم ستفتحون القسطنطينية، فأفضل قائد هو قائد جيش الفتح، والجيش هو أفضل الجيوش".
علماً أن الحديث مذكور في الجامع الصغير، وفي مستدرك الحاكم، فهل هناك أي شك في صحة هذا الحديث؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
هذا الحديث مختلف فيه بين العلماء، وقد صححه الحاكم، وحسنه ابن عبد البر، وضعّفه جماعة آخرون، كالألباني وهو الأقرب، لجهالة أحد رواته، وهو عبد الله بن بشر الخثعمي.
وقد تحقق فتح القسطنطينية على يد السلطان العثماني محمد الفاتح -رحمه الله- وقد جاء في صحيح مسلم ما يدل على أن القسطنطينية ستفتح مرة أخرى قبل قيام الساعة، فقد روى مسلم (2897) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سمعتم بمدينة جانب منها في البر وجانب منها في البحر". قالوا: نعم يا رسول الله! ... الحديث، وفيه: "فيفرج لهم فيدخلوها فيغنموا".(1/469)
صحة حديث "القرآن أعظم شفاعة"
المجيب عمر بن عبد الله المقبل
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/تصحيح الأحاديث والآثار وتضعيفها
التاريخ 11/03/1427هـ
السؤال
أرجو بيان صحة الحديث الذي معناه: يوم القيامة لن يكون أعظم شفاعة عند الله من القرآن، لا نبي ولا ملَك".
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فاللفظ الذي سألت عنه -من كون القرآن هو أعظم شافع، وأنه أعظم من شفاعة كل نبي وملك- لم أجده، وفي صحة ذلك نظر، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطي أنواعاً من الشفاعة عظيمة، اختص منها بثلاث، وشاركه غيره من الأنبياء والصالحين والملائكة بثلاث.
وقد جاء في السنة في بيان شفاعة القرآن أحاديث، أشهرها حديثان:
الأول: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد". أخرجه أحمد (6626) ، والحاكم (1/554) ، وغيرهما. وصححه الحاكم وحسنه المنذري، ولينه الذهبي، وقوله أصح.
الثاني: ما رواه مسلم في صحيحه (804) من حديث أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، اقرأوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما، اقرأوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة". قال معاوية -أحد رواة الحديث-: بلغني أن البطلة: السحرة. والله الموفق.(1/470)
اختلاف الحكم على الحديث، بين المتقدمين والمتأخرين
المجيب عمر بن عبد الله المقبل
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/مسائل في مصطلح الحديث والجرح والتعديل
التاريخ 6/5/1422
السؤال
أحياناً نجد بعض الأحاديث التي حكم عليها علماء الحديث قديماً بالضعف كابن حبان، وأبي حاتم، وابن خزيمة وغيرهم. وهذه الأحاديث حكم عليها علماء حديث معاصرون بالتصحيح أو العكس. فلمن يكون الترجيح؟
فهناك من يقول نأخذ قول العلماء الأوائل؛ لأنهم أقرب عهداً برواة الحديث، وبالسلف الصالح. وهناك من يقول إن الترجيح للمعاصرين؛ لأنهم أوتوا من سبل البحث والتحقيق ما لم يؤتَ أولئك. نرجو التوضيح.
الجواب
الحمد لله، وبعد:
فهذا السؤال يتصل بقضية كثر الكلام فيها أخيراً، ولعلي أجمل الجواب في ست نقاط.
الأولى: لا ريب أن الأصل هو التعويل والرجوع إلى الأئمة المتقدمين، وهذا ليس خاصاً بعلم الحديث بل في كل فن من علوم الشريعة.
الثانية: من حيث العموم فأئمة الحديث المتقدمون أعلم من المتأخرين، وأدقّ نظراً، وأقرب عهداً بعصور الرواية والتدوين؛ فقد شاهدوا جمعاً غفيراً من حملة الآثار ورواة الأسانيد، ووقفوا على كتبهم وأصولهم التي يروون منها، فتحصّل عندهم، وتهيأ لهم من ملكة النقد، والقدرة على التمحيص ما لم يتهيأ لغيرهم ممن أتى بعدهم، خاصة في أدق وأجل علوم الحديث، وهو علم (العلل) الذي برز فيه جمع من الأئمة الكبار كابن المديني، وأحمد، والبخاري، ومسلم، والنسائي، والدارقطني، وغيرهم.
الثالثة: إذا تقرر أن الأئمة المتقدمين لهم من المزايا والخصائص ما ليس لغيرهم ممن أتى بعدهم، فإنه يجب التسليم لقولهم إذا اتفقوا ولم ينقل عنهم اختلاف، ولو خالفهم بعض المتأخرين، يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله:
((فمتى وجدنا حديثاً قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم بتعليله، فالأولى تباعه في ذلك، كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا صححه)) (انظر: النكت 2/711)
وللعلائي، وابن كثير، والسخاوي رحمهم الله كلام يدور حول هذا المعنى، فينظر: اختصار علوم الحديث: 79، وفتح المغيث 1/237.
الرابعة: هذا الذي سبق فيما إذا اتفق المتقدمون على الحكم على الحديث بالصحة أو الضعف، فأما إذا اختلفوا، فإن كان الشخص قادراً على المقارنة والترجيح أخذ بما تطمئن إليه نفسه، وإن كان لا يقدر فيقلد من يرى أنه أعلم بهذا الشأن، كما بيّن ذلك غير واحد من الحفاظ المتأخرين كالعلائي رحمه الله. (ينظر: فتح المغيث 1/236)
الخامسة: أن قول بعض الناس إن سبب ترجيح قول المعاصرين لكونهم أوتوا من سبل البحث والتحقيق ما لم يكن للأوائل، فالحقيقة أن هذا الكلام لا يصدر ممن له أدنى اطلاع ومعرفة بأقدار الأئمة، وما آتاهم الله عز وجل من سعة الاطلاع العجيب، والفهم الدقيق، والنظر العميق في الأحاديث، وطرقها وعللها، ومعرفة أحوال رواتها على وجه الدقة. ويكفي أن يعلم السائل الكريم أن المتأخرين لم يظفروا بكثير من الطرق التي كانت معروفة عند الأئمة.
ثم أين يقع علم المتأخرين الذين علم كثير منهم في كتبه، مع علم الأئمة المتقدمين الذين أكثر علمهم محفوظ في صدورهم، يأتون به متى شاؤوا؟!
ولا ريب أن هذا كلّه لا يعني انتقاص أقدار العلماء المتأخرين - ومنهم المعاصرون - حاشا والله، بل لهم فضل وأثر كبير في نفع الأمة، وخدمة السنة، وإنما المقصود بيان منازل أولئك الأئمة ومعرفة أقدارهم على وجه الإيجاز الشديد.
السادسة:
أن السائل - بارك الله فيه - قرن في سؤاله بين ثلاثة من الأئمة وهم: أبو حاتم الرازي، وابن خزيمة، وابن حبان.
ومع الاتفاق على جلالة هؤلاء الأئمة إلاّ أن أهل العلم بالحديث يقدمون أبا حاتم على ابن خزيمة، كما يقدمون ابن خزيمة على تلميذه ابن حبان رحم الله الجميع.
فأبو حاتم له طريقة متميزة في النقد على مشرب الأئمة الكبار: أحمد، والبخاري، وأبي داود، والنسائي، وغيرهم.
وابن خزيمة مع موافقته في كثير من الأحيان لمشرب الأئمة، إلاّ أنه أحياناً - مع تلميذه ابن حبان - لهما طريقة في النقد لا يوافقهما عليها الأئمة الكبار، ومن سار على طريقتهم.
ومقصودي من هذا التنبيه أن تُعلم أقدار الأئمة، وأن الله تعالى فضّل بعضهم على بعض في العلم والفهم، ينبغي أن يلاحظ هذا ويعتبر عند النظر في كلامهم، والله أعلم.(1/471)
بين أمهات المؤمنين رضي الله عنهن
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/مسائل في مصطلح الحديث والجرح والتعديل
التاريخ 24/06/1425هـ
السؤال
إلى فضيلة الشيخ: - حفظه الله - كيف نجمع بين هذين الحديثين؟ الحديثان بالمعنى: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخلت عليه إحدى أمهات المؤمنين ومعه غيرها منهن، فجعلت تسبها، فقال عليه الصلاة والسلام للتي عنده: دونك فانتصري".
والآخر: أن إحدى زوجاته عليه الصلاة والسلام جعلت تسب أخرى منهن وهي صامتة، ثم أخذت ترد عليها، فقال: "كان ملك يذب عنك فلما تكلمت ذهب وتركك".
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
الحديث الأول أخرجه باللفظ المذكور الإمام أحمد بإسناد حسن (24664) من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "مَا عَلِمْتُ حَتَّى دَخَلَتْ عَلَيَّ زَيْنَبُ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَهِيَ غَضْبَى، ثُمَّ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَحْسِبُكَ إِذَا قَلَبَتْ لَكَ بُنَيَّةُ أَبِي
بَكْرٍ ذُرَيِّعَيْهَا ثُمَّ أَقْبَلَتْ إِلَيَّ فَأَعْرَضْتُ عَنْهَا حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "دُونَكِ فَانْتَصِرِي"، فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهَا حَتَّى رَأَيْتُهَا قَدْ يَبِسَ رِيقُهَا فِي فَمِهَا مَا تَرُدُّ عَلَيَّ شَيْئًا فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-يَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ. وهذا الحديث أصله في الصحيحين البخاري (2581) ، ومسلم (2442) بسياق مطول من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: " أَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ مَعِي فِي مِرْطِي فَأَذِنَ لَهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَكَ أَرْسَلْنَنِي إِلَيْكَ يَسْأَلْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ وَأَنَا سَاكِتَةٌ قَالَتْ: فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-أَيْ بُنَيَّةُ أَلَسْتِ تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ؟ فَقَالَتْ بَلَى قَالَ: فَأَحِبِّي هَذِهِ قَالَتْ فَقَامَتْ فَاطِمَةُ حِينَ سَمِعَتْ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-فَرَجَعَتْ إِلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-فَأَخْبَرَتْهُنَّ بِالَّذِي قَالَتْ وَبِالَّذِي قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-فَقُلْنَ لَهَا مَا نُرَاكِ أَغْنَيْتِ عَنَّا مِنْ شَيْءٍ فَارْجِعِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-فَقُولِي لَهُ إِنَّ أَزْوَاجَكَ يَنْشُدْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُ فِيهَا أَبَدًا، قَالَتْ عَائِشَةُ فَأَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ زَوْجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْهُنَّ فِي الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-وَلَمْ أَرَ امْرَأَةً قَطُّ خَيْرًا فِي الدِّينِ مِنْ زَيْنَبَ وَأَتْقَى لِلَّهِ وَأَصْدَقَ حَدِيثًا وَأَوْصَلَ لِلرَّحِمِ وَأَعْظَمَ صَدَقَةً وَأَشَدَّ ابْتِذَالًا لِنَفْسِهَا فِي الْعَمَلِ الَّذِي تَصَدَّقُ بِهِ وَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا عَدَا سَوْرَةً مِنْ حِدَّةٍ كَانَتْ فِيهَا تُسْرِعُ مِنْهَا الْفَيْئَةَ، قَالَتْ فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-مَعَ عَائِشَةَ فِي مِرْطِهَا عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي دَخَلَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا وَهُوَ بِهَا، فَأَذِنَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَكَ أَرْسَلْنَنِي إِلَيْكَ يَسْأَلْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ قَالَتْ ثُمَّ وَقَعَتْ بِي فَاسْتَطَالَتْ عَلَيَّ وَأَنَا أَرْقُبُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَرْقُبُ طَرْفَهُ هَلْ يَأْذَنُ لِي فِيهَا قَالَتْ: فَلَمْ تَبْرَحْ زَيْنَبُ حَتَّى عَرَفْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَا يَكْرَهُ أَنْ أَنْتَصِرَ، قَالَتْ: فَلَمَّا وَقَعْتُ بِهَا لَمْ أَنْشَبْهَا حَتَّى أَنْحَيْتُ عَلَيْهَا، قَالَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَبَسَّمَ إِنَّهَا ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ وحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُهْزَاذَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ فِي الْمَعْنَى، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ فَلَمَّا وَقَعْتُ بِهَا لَمْ أَنْشَبْهَا أَنْ أَثْخَنْتُهَا غَلَبَةً " واللفظ لمسلم.
والحديث الثاني: حديث حسن، قد رواه جماعة من الصحابة، فقد أخرجه أحمد (23796) من حديث النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَسَبَّ رَجُلٌ رجلاً عِنْدَهُ قَالَ فَجَعَلَ الرَّجُلُ الْمَسْبُوبُ يَقُولُ عَلَيْكَ السَّلَامُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " أَمَا إِنَّ مَلَكًا بَيْنَكُمَا يَذُبُّ عَنْكَ كُلَّمَا يَشْتُمُكَ هَذَا قَالَ لَهُ بَلْ أَنْتَ وَأَنْتَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِذَا قَالَ لَهُ عَلَيْكَ السَّلَامُ قَالَ لَا بَلْ لَكَ أَنْتَ أَحَقُّ بِهِ" وأخرجه الإمام أحمد (9622) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا شَتَمَ أَبَا بَكْرٍ وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَالِسٌ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-يَعْجَبُ وَيَتَبَسَّمُ فَلَمَّا أَكْثَرَ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-وَقَامَ فَلَحِقَهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يَشْتُمُنِي وَأَنْتَ جَالِسٌ فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ غَضِبْتَ وَقُمْتَ قَالَ إِنَّهُ كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عَنْكَ فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ وَقَعَ الشَّيْطَانُ فَلَمْ أَكُنْ لِأَقْعُدَ مَعَ الشَّيْطَانِ ثُمَّ قَالَ: " يَا أَبَا بَكْرٍ ثَلَاثٌ كُلُّهُنَّ حَقٌّ مَا مِنْ عَبْدٍ ظُلِمَ بِمَظْلَمَةٍ فَيُغْضِي عَنْهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا أَعَزَّ اللَّهُ بِهَا نَصْرَهُ...." الحديث، وأخرجه البخاري في الأدب المفرد (419) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما- وأخرجه عبد الرزاق مرسلاً (20255) من حديث زيد بن أثيع. ومن خلال استعراض هذه الأحاديث يتبين أن السباب وقع بين رجلين، وفي بعض هذه الأحاديث أن المسبوب أبو بكر -رضي الله عنه-، وليس كما ورد في السؤال أن السباب كان بين زوجتين من أزواج الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-والله أعلم. ولا تعارض بين الحديثين، فيجوز للإنسان أن ينتصر ممن ظلمه كما فعلت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- مع أم المؤمنين زينب رضي الله عنها حينما نالت منها، وتطاولت عليها بالكلام، ولكن العفو والصفح أفضل إذا لم يكن في الانتصار مصلحة أكبر، قال الله -عز وجل-: "وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ "إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ" [الشورى: 39-41] ، والانتصار مشروط بشرطين:
1- القدرة على ذلك، فإذا كان عاجزاً أو كان الانتصار يفضي إلى عدوان زائد أو مفسدة أكبر ترك، وهو أصل النهي عن الفتنة.
2- ألا يعتدي. قال الله عز وجل: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ"، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا فَعَلَى الْبَادِئِ مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ" أخرجه مسلم (2587) من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- وعلى هذا فالمباح في الانتصار أن يرد مثل ما قال الجاني، أو يقاربه لأنه قصاص، فلو قال له: يا كلب - مثلاً - فالانتصار أن يرد عليه بقوله: بل هو الكلب. وهكذا فلا يتجاوز المنتصر في السباب وغيره. هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(1/472)
إقرارات النبي - صلى الله عليه وسلم -
المجيب د. الشريف حمزة بن حسين الفعر
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/مسائل في مصطلح الحديث والجرح والتعديل
التاريخ 14/9/1424هـ
السؤال
ذكر القاضي أبو يعلى في العدة أن تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم- لحكم يستفاد منه تارة الجواز وتارة الوجوب، فهل هناك مثال للوجوب؟.
الجواب
التقرير هو: سكوت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إنكار قول أو فعل قيل، أو فُعل بين يديه، أو في عصره وعلم به، وهذا التقرير كاشف عن حكم القول أو الفعل، فترك النكير على الفاعل، أو القائل بيان لحكم الفعل، ومثال الإقرار الذي يفيد الوجوب أن يشاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - من يفعل فعلاً على جهة الوجوب فيقره عليه بترك الإنكار عليه فيدل على وجوبه، كما أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في مرض موته على الصلاة قياماً خلفه وهو جالس، انظر ما رواه البخاري (687) ، ومسلم (418) مع أنه قد تقدم قوله - عليه الصلاة والسلام - في حكم متابعة الإمام والاقتداء بفعله: " وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً " مسلم (413) ، فدل إقراره لهم على القيام على نسخ القعود خلف الإمام القاعد، وإعادة الأمر إلى ما كان عليه، وهو الوجوب؛ لأن القيام في الصلاة فرض مع القدرة لقوله - تعالى-: " وقوموا لله قانتين" [البقرة: 238] .(1/473)
الفرق بين القرآن والحديث القدسي
المجيب د. محمد بن عبد الله الخضيري
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/مسائل في مصطلح الحديث والجرح والتعديل
التاريخ 26/7/1424هـ
السؤال
ما الفرق بين الحديث القدسي والقرآن؟ حيث إنني أعتقد أن الحديث القدسي معنى من الله ولفظاً من النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلا أنني فوجئت أن هناك من يقول إن هذا من أقوال الأشاعرة، وأن الصحيح أن الحديث القدسي لفظاً ومعنى من الله، فإذا كان كذلك هل معنى هذا أن كلام الله على درجات منه الفصيح ومنه الرديء، أستغفر الله - حيث إن القرآن - بلا شك - أفصح من الحديث القدسي أفيدونا، جزاكم الله خيراً.
الجواب
الحديث القدسي هو الذي يسنده النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ربه عز وجل - والقدسي نسبة للقدس وهو التنزيه والتعظيم والتكريم، وبين الحديث القدسي والقرآن عدة فروق: منها.
1. أن القرآن الكريم كلام الله لفظاً ومعنى، أما الحديث القدسي فذهب بعض أهل العلم إلى أنه كلام الله لفظاً ومعنى لكنه يختلف عن القرآن في طريقة تبليغه وعن الواسطة فيه وهو جبريل عليه السلام، بحيث يكون بالإلهام أو الإلقاء في الروع أو حال المنام أو غيرها من طرق الوحي غير المجلى، وذهب آخرون إلى القول المشهور وهو أن الحديث القدسي معناه من الله ولفظه من الرسول - صلى الله عليه وسلم - واختاره عامة المؤلفين في القرآن وعلومه، وكون الأشاعرة يقولون به لا يعني موافقته لطريقتهم في صفة الكلام.
ومن الفروق أيضاً:
2. أن القرآن متواتر كله فهو قطعي الثبوت، أما الحديث القدسي فمنه الصحيح والضعيف والموضوع، ووصفه بقدسي راجع إلى منزلته فلا يعني بالضرورة ثبوت كل مروي فيه، إذ إن موضوع الصحة والضعف المدار فيه على السند وقواعد القبول والرد المعروفة عند المحدثين.
3. أن الحديث القدسي تجوز روايته بالمعنى، أما القرآن فلا يجوز فيه ذلك.
4. أن القرآن متعبد بتلاوته فكل حرف بحسنة والحسنة بعشر أمثالها كما في الحديث الذي رواه الترمذي (2910) وغيره عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -.
5. القرآن معجز بلفظه ومعناه، أما الحديث القدسي فليس كذلك.
6. القرآن تحدى الله به العرب - بل العالمين - أن يأتوا بمثله، وأما الحديث القدسي فليس فيه تحد، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(1/474)
جرح العدل الضابط
المجيب بكر بخاري
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/مسائل في مصطلح الحديث والجرح والتعديل
التاريخ 10/6/1423هـ
السؤال
إذا كان أحد رواة الحديث عدلاً ضابطاً عند جمهور المحدثين ثم يقوم أحد علماء الجرح والتعديل كالإمام الذهبي -رحمه الله- بتجريح هذا الراوي
جرحاً غير مفسَّر، فهل يقدم في هذه الحالة الجرح على التعديل أم العكس؟
الجواب
بسم الله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فإن علماء المصطلح عقدوا مباحث في تعارض الجرح والتعديل وكذا علماء الأصول، وتباينت مذاهبهم في ذلك، والذي يحسن بطالب العلم معرفته:
أنه ما من قاعدة إلا ولها مستثنيات، ولا يقدح هذا في كونها قاعدة؛ لأنها قواعد استقرائية، وإنما القواعد التي تنقض بالمستثنيات القواعد العقلية.
وأنه ما من عام إلا وقد خص، وحتى هذه القاعدة قد خصت بقوله -تعالى-:"إن الله بكل شيء عليم" [الأنفال:75] .
والحاجة إلى هذه المقدمة المختصرة ماسة عند التعامل مع قواعد العلماء في الجرح والتعديل؛ لأنها استقراء واستنتاج لتصرفات أئمة هذا الشأن، ولذا يقع التباين بين التقعيد والتطبيق، فيلزم النظر في كل راوٍ نظراً مستقلاً مع استصحاب قواعد أهل العلم، وأما ما يخص ذات السؤال فيظهر منه أنه سؤال افتراضي وهو محتمل لأمرين:
الأمر الأول: كون الموثقين جمهور، أي أنه وجد لهم مخالف، وحينئذ فللناظر أن يرجح ما يراه أقرب إلى الصواب مراعياً القواعد والقرائن في ذلك الراوي.
الأمر الثاني: كون الموثقين جميع من وقف عليهم الباحث بحيث يغلب على ظنه اتفاقهم وخاصة إذا كان منهم أئمة هذا الشأن وحينئذٍ إذا كان جرح من بعدهم مجملاً فله اجتهاده، ولنا أن نتبع من سَلَفَ من الأئمة فإن رأي الجماعة مقدم على رأي الفرد خاصة إذا كانوا أعلم وأقرب لزمن الرواية، والله -تعالى- أعلم.(1/475)
قبول روايات الصحابة
المجيب بكر بخاري
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/مسائل في مصطلح الحديث والجرح والتعديل
التاريخ 13/8/1423هـ
السؤال
السلام عليكم.
عندي سؤال عن الصحابي أبي بكرة - رضي الله عنه -: ذكرتْ عدة مصادر قصة لأبي بكرة - رضي الله عنه - مع صحابي آخر هو المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - ملخصها: أن أبا بكرة - رضي الله عنه - مع اثنين من إخوته اتهموا المغيرة بالزنى أيام عمر -رضي الله عنه-، ولما أنكر أخ لهم رابع رؤيته للإيلاج، أقيم حد القذف على الإخوة بما فيهم أبو بكرة - رضي الله عنه - الذي رفض إعلان التوبة وأصر على اتهامه للمغيرة - رضي الله عنه -. هذه الراوية وردت في (وفيات الأعيان) لابن خلكان، (سير الأعلام) للذهبي وغيرها، هناك كتب أخرى أشارت للواقعة دون إسهاب. السؤال هو: لماذا قبلت رواية الحديث عن طريق أبي بكرة والمغيرة - رضي الله عنهما -؟ أبو بكرة - رضي الله عنه - حُدّ للقذف، والمغيرة - رضي الله عنه- وضع نفسه موضع الشبهات، وعلى الرغم من ذلك نجد لهم أحاديث حتى في صحيح البخاري.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فقد أجاب ابن حجر في الفتح (5/256) عند ذكر البخاري للقصة في صحيحه في باب: شهادة القاذف والسارق والزاني من كتاب الشهادات، قال: وقد حكى الإسماعيلي في "المدخل" أن بعضهم استشكل إخراج البخاري هذه القصة واحتجاجه بها مع كونه احتج بحديث أبي بكرة - رضي الله عنه - في عدة مواضع، وأجاب الإسماعيلي بالفرق بين الشهادة والرواية، وأن الشهادة يطلب فيها مزيد تثبت لا يطلب في الرواية كالعدد والحرية وغير ذلك، واستنبط المهلب من هذا أن إكذاب القاذف نفسه ليس شرطاً في قبول توبته؛ لأن أبا بكرة - رضي الله عنه - لم يكذب نفسه ومع ذلك فقد قبل المسلمون روايته وعملوا بها.
ومعنى كلام المهلب أن قبول شهادة القاذف متوقفة على إكذاب نفسه، فلما لم يكذب أبو بكرة نفسه لم تقبل شهادته، والرواية متعلقة بالعدالة، والعدالة متعلقة بالتوبة، ولا ارتباط بين التوبة وإكذاب النفس، وقد قال -تعالى- بعد ذكر حكم القاذف:"إلا الذين تابوا من بعد ذلك" [النور:5] ، فإن قيل: كيف يكون عدلاً ولا تقبل شهادته؟ فالجواب: أن بين الرواية والشهادة فرقاً، فالشهادة يطلب فيها العدد ولا تقبل شهادة الواحد وإن كان عدلاً، ولذا احتجنا إلى تتميم النصاب باليمين المكملة، ولا تقبل شهادة ذي الظنة والجنة ولا شهادة الفرع لأصله والعكس مع قبول روايتهم.
ومما يجدر التنبيه عليه أن الله -تعالى- يقدّر على بعض الصحابة - رضي الله عنهم - شيئاً من الذنوب، وله في ذلك حكم منها: بيان التشريع وتنزل الأحكام، ومعرفة كيفية تطبيقها، فلو لم تقع الفتنة بين الصحابة -رضي الله عنهم- ما عرفنا أحكام البغاة، فهي إنما عرفت من تصرفاتهم -رضي الله عنهم- في الفتنة، وكذا تطبيق أحكام القذف والقاذف التي بينها عمر -رضي الله عنه- في هذه القصة، وأما من وقعت منهم تلك الأشياء فلهم من سابقة الصحبة والجهاد مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ونصرته، والحسنات المكفرة والإيمان والتوبة ما يمحو الله به السيئات، والله -تعالى- أعلم.(1/476)
حال المستظل بن حصين الأزدي
المجيب د. الشريف حاتم بن عارف العوني
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/مسائل في مصطلح الحديث والجرح والتعديل
التاريخ 25/10/1425هـ
السؤال
روى الحاكم في مستدركه أثرًا عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه- رجاله ثقات إلا المستظل بن الحصين أبو الميثا، فما حاله؟ خصوصًا أنه ليس من رجال كتب السنة، ولا من رجال (تعجيل المنفعة) أو (لسان الميزان) .
الجواب
هذا الراوي هو: المستظل بن حصين الأزدي البارقي، أبو ميثاء الكوفي، وهو تابعي قديم، حتى ذُكر في الصحابة خطأ، وعُدَّ من المخضرمين، كما تجده في الإنابة إلى معرفة المختلف فيهم من الصاحبة لملغطاي (رقم:9506) ، والإصابة لابن حجر (6/290) ، وتذكرة الطالب المعلم بمن يقال إنه مخضرم لبرهان الدين الحلبي (26) .
سمع عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وحذيفة بن اليمان، وجرير بن عبد الله البجلي، ويقال: عن أبي ذرّ أيضًا.
وروى عنه شبيب بن غردقة البارقي [وهو تابعي ثقة من رجال الجماعة] ذكره البخاري في التاريخ الكبير (8/62) ، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (8/429) ، ولم يذكر فيه جرحًا أو تعديلاً.
لكن ترجم له ابن سعد في الطبقات (8/250) ، وقال عنه: "كان ثقة قليل الحديث".
وقال عنه العجلي (رقم:1706) : "كوفي تابعي ثقة".
وذكره ابن حبان في الثقات (5/463-462) .
وأخرج له الحاكم في المستدرك (4/428) ، وصحح إسناد حديثه.
وقد قال الذهبي في الموقظة (78) عمن لم نجد فيه جرحًا أو تعديلاً: "إن صحح له كالدارقطني والحاكم، فأقل أحواله حُسن حديثه". فكيف بمن وجدنا فيه توثيقًا دون جرح؟!
وأخرج له أيضًا الضياء في المختارة مصححًا له بذلك (1/398رقم281) .
فرجل من طبقة هذا التابعي الكبير المخضر، في جلالة هذه الطبقة وفضلها، ويوثقه أولئك الأئمة بالقول الصريح، وبالفعل المقتضي للتوثيق، ولم يجرحه أحد لا شك أنه ثقة.
وانظر لتكملة مصادر عناصر ترجمته وضبط كنيته الكتب التالية: الجعديات لأبي قاسم البغوي (رقم:2385-2386) ، ومسند البزار (7/340-341رقم2938) ، والكنى لمسلم (110) ، والمعجم الكبير للطبراني (2/347-348رقم2457، 3/44رقم2631) ، والمعجم الوسيط (رقم371) ، والمؤتلف والمختلف للدارقطني (4/7-21) ، والإكمال لابن ماكولا (7/307) ، وتوضيح المشتبه لابن ناصر الدين (8/322-323) ، وتاج العروس للزبيدي (ميث 5/366) .(1/477)
توثيق ابن حجر
المجيب د. الشريف حاتم بن عارف العوني
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/مسائل في مصطلح الحديث والجرح والتعديل
التاريخ 17/8/1423هـ
السؤال
السلام عليكم.
لله الحمد والمنة فقد أشرفت على موسوعة الحافظ ابن حجر العسقلاني في الأحاديث التي حكم عليها الحافظ في جميع مؤلفاته، وخرجت الموسوعة عن مؤسسة الحكمة في ستة مجلدات كبار، ورغم ما بها من أخطاء في الطباعة أو غير ذلك فيبقى جهداً به من الخير ما به، واليوم وقد شرعت -ولله الحمد- بموسوعة الرجال الذين تكلم عليهم الحافظ ابن حجر، وقد شارفت على الانتهاء من الجمع، وفكرة الموسوعة هي:
(1) جرد الكلام الموجود في جميع مؤلفات الحافظ المطبوعة حول الرجال.
(2) لا يدخل في هذه الموسوعة كلام الحافظ في (التهذيب، التقريب، تعجيل المنفعة، اللسان، الإيثار بمعرفة رواة الآثار) .
واكتفيت بذكر إحالة على هذه المؤلفات، أما الكلام في غير هذه المؤلفات فقد ذكرته بنصه، وقد تحصل لنا فوائد كثيرة أذكر منها مثالاً لا حصراً:
1. الكلام على رواة لم يتكلم الحافظ حولهم في المؤلفات السالفة.
2. إضافة معلومات جديدة حول الرواة.
3. معلومات دقيقة تنفع في علم العلل ومقارنات دقيقة.
السؤال: في مواضع كثيرة يذكر الحافظ أن هذا الحديث رجاله ثقات، أو عبارة وثقوا، أو سنده صحيح.
هل أبحث في هذه الأسانيد، وأذكر الرجال الذين أشار لهم الحافظ؟ وسبب سؤالي: أني وجدت الحافظ يذكر هذه العبارة ويعني بها طرف السند لثلاثة أو أربعة رجال، أما شيوخ الراوي كالطبراني أو الطبري فلا يدخلون في شرطه، وأنا محتار هل أعد هؤلاء من شرط الكتاب أم لا؟
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثره واتقى حدّه، أما بعد:
فأقول وبالله التوفيق:
إذا قال الحافظ أو غيره من العلماء عن إسناد:"رجاله ثقات"، أو "سنده صحيح" فالأصل أنها تدل على أن رجال الإسناد كلهم ثقات عند القائل، إلا إذا استثنى أحداً صراحة، أو دل سياق كلامه على استثناء أحد منهم، وأما إذا قال:"وثقوا" فلا يلزم من ظاهر هذه العبارة أن يكونوا ثقاتاً عند قائلها، ولكن يلزم أن يكون القائل قد علم أنه لم يخل أحد منهم من توثيق، ولو من واحد، ولو كان مخالفاً لغيره بتضعيف.
لذلك أنصح السائل بما يلي:
(1) أن ينقل في ترجمة جميع رجال الإسناد عبارة الحافظ التي ذكرها، إلا من استثناه صراحة، أما من لم يستثنِهِ صراحة فإنه ينقل العبارة فيه، لكن إن رأى أن ينبِّه على دلالة الاستثناء التي لاحت له في حاشية الكتاب، أو أن ينبه في مقدمة كتابه على أهمية الرجوع إلى سياق كلام الحافظ لاحتمال خروج الراوي عن أن يكون مقصوداً في كلام الحافظ حتى لا يُفهم كلام الحافظ بغير مراده، فهذا حسن، وبذلك تبرأ عُهدة السائل، ولم يُفوت فائدة (ولو محتملة) !
(2) وتخفيفاً على السائل ما لا طائل تحته، فإني أنصحه بألا يذكر تلك العبارات من عبارات التوثيق الضمني في الأئمة المشهورين الذين أغنت شهرتهم بالإمامة عن نقل أمثال تلك العبارات فيهم.
وفق الله السائل لكل خير، والله أعلم، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.(1/478)
وصف الحسن البصري بالتدليس
المجيب د. الشريف حاتم بن عارف العوني
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/مسائل في مصطلح الحديث والجرح والتعديل
التاريخ 26/02/1426هـ
السؤال
هل صحيح أن أحداً من المتقدمين لم يصف الحسن البصري بالتدليس غير النسائي؟ وأن إعلال حديثه بالتدليس لا يعرف إلا عند المتأخرين؟ وأن هذا غير سديد؟.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
أقول وبالله التوفيق:
لقد وصف الحسن البصري بالتدليس غير واحد من أئمة النقد، كخلف بن سالم (ت231هـ) ، والنسائي، وابن حبان، والحاكم. غير أن تدليس الحسن البصري الذي أكثر منه وكان له أثر في قبول عنعنته هو من نوع رواية الراوي عمن عاصره ولم يسمع منه، وهو النوع الذي سماه الحافظ ابن حجر: (المرسل الخفي) ، وفرق بينه وبين (التدليس) . وهذا التفريق خطأ لم يسبق الحافظ ابن حجر إليه، والعلماء قبله بخلافه.
وهذا النوع من التدليس (وهو رواية الراوي عمن عاصره ولم يلقه) ، يقتضي أن لا تقبل عنعنة المكثر منه عمن روى عنه حتى نعلم أنه قد سمع من روى عنه، ولو في حديث واحد من أحاديثه عنه، لنضمن أن هذا الراوي قد سمع من هذا الشيخ، وأنه في روايته عنه ليس من قبيل ما عرفناه عنه من أنه يروي عمن عاصره ولم يلقه. فإذا ثبت السماع (ولو في حديث واحد) من ذلك الشيخ حملنا عنعنته عنه بعد ذلك على السماع.
هذا هو حكم هذا النوع من التدليس، وهو حكم لم ينص عليه أحد في كتب علوم الحديث؛ إلا أني استنبطته من تصرفات أئمة النقد، ومن غير ذلك. وقد بسطت الكلام عنه في كتابي (المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس) ، واستفاد هذا الحكم منه أهل زماننا، مع العزو أحياناً، ودون عزو أحياناً أخرى.
وإذا كان هذا هو نوع تدليس الحسن البصري، وذا هو حكمه، فإن القول بأن العلماء لم يكونوا يعلون الأحاديث المعنعنة للحسن بذلك قول مجانب للصواب كل المجانبة، فما زال العلماء يتوقفون في سماع الحسن ممن روى عنه، حتى يثبت عندهم سماعه، لتدليسه هذا النوع من التدليس. كما تراه موسعاً بيانه في كتابي المشار إليه. نعم إطلاق..القول برد عنعنة الحسن، حتى عمن عرفناه بلقائه وسماعه منه، لا أعرفه عن أحد من أئمة النقد المتقدمين، بل واضح أحكامهم وتطبيقاتهم بخلافه. والله أعلم. والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.(1/479)
التفريق بين السنة والعادة
المجيب د. عبد الله بن المحفوظ بن بيه
وزير العدل في موريتانيا سابقاً
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/مسائل في مصطلح الحديث والجرح والتعديل
التاريخ 26/8/1424هـ
السؤال
بالنسبة لوضع الإثمد للعينين أو تطويل الشعر أو أكل الثريد وغيرها, هل هي عادات يحبها النبي صلى الله عليه وسلم, أم عبادات نؤجر إذا اتَّبعناه فيها؟.
الجواب
هذه الأمور بعض العلماء اعتبرها من العادات، وبعض العلماء قال: إن الوصف هو المطلوب فيه الاقتداء، بمعنى أن الطريقة التي وضع بها الإثمد في عينه، أو الطريقة التي أكل بها هي التي تعتبر من الشرع، ولهذا قال صاحب مراقي السعود في نظم جمع الجوامع: وفعله المركوز في الجبلة *** كالأكل والشرب فليس ملة
من غير نفي الوصف، أي أن الأفعال المركوزة في الجبلة أي الأفعال الطبيعية ليست شرعاً، إلا أننا إذا لمحنا الوصف أي: الطريقة التي أتى بها بالفعل نقول: إن هذه الطريقة يستحب للإنسان أن يسلكها إذا كان يريد أن يضع إثمداً في عينه، فعليه مثلاً أن ينظر إلى الطريقة التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يضع الإثمد في عينه ويبدأ باليمنى ... إلخ، ولكن العلماء يختلفون في بعض الأفعال هل هي من العبادات أم من العادات، كحجه - صلى الله عليه وسلم - راكباً انظر ما رواه مسلم (1218) من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما- وكضجعة الفجر، أي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يضجع بعد ركعتي السنة بينها وبين صلاة الفجر انظر ما رواه البخاري (626) ، ومسلم (736) من حديث عائشة -رضي الله عنها- فهنا يختلف العلماء فبعضهم قال هذه من العبادة، وبعضهم قال إنها من العادة، فذهب الإمام أحمد إلى أنها مستحبة، وذهب الإمام مالك إلى غير ذلك، وقال: إنها من العادات، ولهذا قال في مراقي السعود بأن هذه الأشياء يختلف فيها:
والحج راكباً عليه يجري *** كضجعة بعد صلاة الفجر
فالأمر سهل إن شاء الله، ومن شاء أن يفعله فذلك خير، ومن تركه فلا شيء عليه إن شاء الله.(1/480)
حول حفظ أبي هريرة -رضي الله عنه-
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/مسائل في مصطلح الحديث والجرح والتعديل
التاريخ 10/11/1425هـ
السؤال
قرأت أن ذاكرة أبي هريرة، رضي الله عنه، لم تكن جيدة، وأنه كان ينسى كثيرًا، فلا تكون الأحاديث التي يرويها صحيحة، وسأنقل لكم جزءًا من كامل النص وأرجو أن تخبروني عن صحة ذلك من عدمه، وأيضًا أريد معرفة منزلة الإمام الزركشي بين أهل السنة والجماعة، وأن عائشة، رضي الله عنها، نازعت في كثير من أحاديث أبي هريرة، رضي الله عنه، وقررت في كثير من الأحيان أنه لا يسمع جيدًا، وأنه عندما يُسأل يعطي أجوبة خاطئة (الزركشي صفحة 116) ، وأيضًا ذكر العسقلاني نقلاً عن أبي هريرة، رضي الله عنه، في مناقب الخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قولَه: "نريد أن نقول أشياء كثيرة لكننا نخاف من هذا الرجل (عمر) . الإصابة للعسقلاني (مجلد 7، صفحة 44) .
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله، وبعد:
ما قرأته عن أبي هريرة، رضي الله عنه- غير صحيح، وهذا كلام بعض المغرضين الذين يريدون النيل من أبي هريرة، رضي الله عنه، والتشكيك فيه؛ حتى يتسنى لهم التشكيك في الأحاديث التي رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم- بالحرص على الحديث. انظر صحيح البخاري (99) . وشهد له الصحابة، رضي الله عنهم، بالحفظ والضبط لما يحدِّث به، قال الإمام الشافعي: (أبو هريرة أحفظ مَن روَى الحديث في عصره) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (هو حافظ الأمة على الإطلاق، يؤدي الحديث كما سمعه ويدرسه بالليل درسًا، فكانت همته منصرفة إلى الحفظ وتبليغ ما حفظه كما سمعه) [مجموع الفتاوى (4/ 94) ] ، وقد سبق أن فصلت القول في هذه القضية والإجابة عن الشبهات التي أثيرت حول أبي هريرة، رضي الله عنه- في جواب نشر في الموقع فراجعه إن شئت. وأما كون عائشة، رضي الله عنها، قد استدركت على أبي هريرة، رضي الله عنه، فعائشة، رضي الله عنها، استدركت على أبي هريرة وغيره من الصحابة، رضي الله عنهم، مثل: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن مسعود، رضي الله عنهم، وهذا حسب اجتهادها، وقد يكون الصواب معها في بعض ما استدركته، وقد يكون الصواب والحق مع غيرها، وهذه قضايا اجتهادية بين الصحابة، رضي الله عنهم، والتفصيل في كل قضية يطول.
أما الإمام الزركشي، فهو: محمد بن عبد الله بن بهادر بن عبد الله الزركشي، أبو عبد الله بدر الدين، مصري المولد والوفاة، ولد سنة (745 هـ) ، وأخذ عن الشيخين: جمال الدين الأسنوي، وسراج الدين البلقيني، ورحل إلى حلب فأخذ عن الشيخ شهاب الدين الأذرعي، وسمع الحديث بدمشق وغيرها، وكان فقيهًا أصوليًّا أديبًا فاضلًا، ودرّس وأفتى، وكان أكثر اشتغاله بالفقه وأصوله وعلوم الحديث والقرآن والتفسير، وقد ترك فيها أكثر من ثلاثين مصنفًا، ومن أشهر مؤلفاته: البرهان في علوم القرآن، التذكرة في الأحاديث المشتهرة، النكت على ابن الصلاح، وغيرها. توفي بمصر سنة (794 هـ) . وقد سبقه إلى التأليف في هذا الموضوع- وهو جمع ما استدركته عائشة على الصحابة- أبو منصور عبد المحسن محمد بن على الشيحي البغدادي (ت 489هـ) ، والكتاب مطبوع بعنوان: جزء فيه استدراك أم المؤمنين عائشة على الصحابة، رضي الله عنهم. ينظر: ترجمة الإمام الزركشي في: شذرات الذهب (6/335 - 336) .
وأما ما نقل عن عمر، رضي الله عنه، فمن المعروف أن عمر رضي الله عنه كان يشدد على الصحابة، رضي الله عنهم، في التحديث من باب الاحتياط للسنة، والتثبت في النقل، خشية أن يؤدي التوسع في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى الوقوع في الخطأ والوهم، وقصة عمر مع أبي موسى الأشعري، رضي الله عنهما، مشهورة، فقد روى الإمام مسلم (2154) عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، قَالَ: جَاءَ أَبُو مُوسَى إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رضي الله عنهم، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُم، هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ. فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُم، هَذَا أَبُو مُوسَى، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، هَذَا الْأَشْعَرِيُّ. ثُمَّ انْصَرَف، َ فَقَالَ: رُدُّوا عَلَيَّ، رُدُّوا عَلَيَّ. فَجَاءَ، فَقَال: َ يَا أَبَا مُوسَى: مَا رَدَّكَ؟ كُنَّا فِي شُغْلٍ. قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ، فَإِنْ أُذِنَ لَكَ وَإِلَّا فَارْجِعْ". قَالَ لَتَأْتِيَنِّي عَلَى هَذَا بِبَيِّنَةٍ وَإِلَّا فَعَلْتُ وَفَعَلْتُ. فَذَهَبَ أَبُو مُوسَى، رضي الله عنه، قَالَ عُمَرُ: إِنْ وَجَدَ بَيِّنَةً تَجِدُوهُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ عَشِيَّةً، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ بَيِّنَةً فَلَمْ تَجِدُوهُ. فَلَمَّا أَنْ جَاءَ بِالْعَشِيِّ وَجَدُوهُ، قَالَ: يَا أَبَا مُوسَى، مَا تَقُولُ؟ أَقَدْ وَجَدْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ. قَالَ: عَدْلٌ. قَالَ: يَا أَبَا الطُّفَيْلِ، مَا يَقُولُ هَذَا؟ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ذَلِكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، فَلَا تَكُونَنَّ عَذَابًا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! إِنَّمَا سَمِعْتُ شَيْئًا فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَثَبَّتَ. هذا والله أعلم.(1/481)
منزلة أئمة النقد
المجيب د. الشريف حاتم بن عارف العوني
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/مسائل في مصطلح الحديث والجرح والتعديل
التاريخ 2/7/1424هـ
السؤال
عندي سؤال يختص بكتب الرجال، كيف نعلم أن مؤلفي تلك الكتب لم يكذبوا فيما ذكروه عن الرواة فينسبون الكذب إلى الصادق؟ كيف نتيقن من عدالة الذين يقومون بالجرح والتعديل؟ في إمكان الشيعي أن يزعم أن علماءنا كذابون وأن الراوي المجروح في كتبهم صادق في واقع الأمر، كيف نرد عليهم؟.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
أقول وبالله التوفيق:
إن هذا المشكك الذي أشار إليه السائل ينحو منحى الشكاك الذين لا يرون شيئاً من الأدلة قائماً بشيء من الاستدلال، الذين إذا أطردوا في منهجهم هذا آل بهم الأمر إلى الشك في الموجودات والمحسات كلها، وقد وصل الأمر ببعضهم إلى ذلك فعلاً، قديماً وحديثاً.
فما الفرق بين هذا التشكيك وتشكيك من يقول: إن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لم يكن من جلة أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن يزعم أنه قد اختلق له ما يدل على ذلك ... بإمكان كل أحد أن يفترض هذه الافتراضات التي لا ترجع إلى عقل ولا تعرف البراهين؛ وإلا: فهل يحتاج النهار إلى دليل.
لقد كان أئمة الجرح والتعديل يعيشون بين الناس، ويعاشرونهم، ولم يكونوا محجوبين في سراديب. فعرفهم الناس كما يعرفون الناس، بل كما يعرفون رؤوس الناس، فقد كانوا أئمة ينظر إليهم، ويقتدى بهم، ويحتكم إليهم، ويتناقل الناس أخبارهم، ويروون أقوالهم، ويستشهدون بآرائهم. ثم هم مع ذلك تصدوا للكلام في رواة السنة جرحاً وتعديلاً، وهو تصدٍ صعب، وتصدر له تبعاته وأخطاره، وأنظار الناس وألسنتهم لمن تصدى له متوجهة، خاصة من تكلم فيه وجرح، أو من يمت له بصلة قرابة أو تمذهب أو أي صلة تدعو للانتصار له. ثم يموت هؤلاء العلماء الذين جرحوا وعدلوا، وتبقى أقوالهم على تعاقب الأجيال وتقلب الأحوال، ومع ذلك كله فلم يستطع أحد ممن في عصرهم (أو بعدهم) أن يتهمهم في عدالتهم ودينهم، كما يريد هذا المشكك أن يتهمهم به، مع كل دواعي اشتهار ذلك عنهم لو كان فيهم شيء من ذلك، وحاشاهم منه!!
لقد استفاضت عدالة أولئك العلماء وتواترت أخبار ديانتهم وعظيم ورعهم في زمنهم وبعد زمنهم. والتواتر من أقوى الأدلة، كما تواتر الناس على وجود الصين، فنحن نصدق بها وإن لم نرها. وهذا أمر متفق عليه جميع العقلاء، ولم يخالف فيه إلا قوم من المرضى بداء الشك. ثم قد قامت أدلة أخرى كثيرة لا يمكن أن تحصى على تمام ورعهم وعلى صدقهم في تحري الحق، دون محاباة لأحد، أو اعتداء على أحد. حيث منهم من جرح أباه، ومنهم من جرح ابنه، وصديقه، وقريبه. وفي المقابل: أثنوا على من يستحق الثناء عليه ممن يخالفهم في المذهب، وأثنوا عليهم بما فيهم من الخير، مع تنبيههم على خطئهم أو بدعتهم. وأقوالهم في ذلك شهيرة كثيرة، ليست تحتاج إلى ضرب أمثلة. وإنما على المشكك أن يرجع إلى أقوالهم، إن كان قصده معرفة الحق بدليله.
ولكن لا بأس بأن أضرب مثالاً واحداً، فهذا الإمام ابن خزيمة يقول عن عباد بن يعقوب الرواجني، وهو من علماء الشيعة وغلاة الرافضة: "حدثني الصدوق في حديثه المتهم في دينه"!! هذا مثال واحد من ألوف الأمثلة عن صدق وورع أئمة الجرح والتعديل، وعلى كمال إنصافهم حتى لمن خالفهم. وأخيراً أقول: إن مآل كلام هذا المشكك التشكيك في دين الإسلام كله؛ لأن السنة - وهي بيان القرآن ووحي الله معه - إنما عرفناها من طريق هؤلاء العلماء، فالطعن فيهم طعن في القرآن والسنة!!
وعليه فإن كان هذا المشكك بلغ به الأمر إلى حد الشك في أصل الدين، فيتبدأ معه من أولى الخطوات:
فأولاً: نثبت له نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - من خلال دلائل نبوته في القرآن والسنة وغيرهما.
إذا أقر بذلك تبين له أن هذا يلزمه بتصديق أن القرآن كلام الله تعالى، منزل من ربنا عز وجل إلى رسولنا - صلى الله عليه وسلم-.
فإذا أقر بذلك، بينَّا له أن ذلك يلزمه باعتقاد حفظ السنة، من جهتين: وهي أن القرآن قد وعد الله فيه بحفظه "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"، وحفظ القرآن لا يتم إلا بحفظ السنة، لأن السنة هي المفسرة للقرآن، حيث إن بيان القرآن إحدى أعظم وظائف النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما قال تعالى: "وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم".
والجهة الثانية: أن القرآن أمر في آيات كثيرات بطاعة النبي - صلى الله عليه وسلم- وبالتحذير من مخالفته، وحث على أن نتخذه قدوة وأسوة، وهذه الأوامر ستكون تكليفاً بمالا يستطاع فيما لو ضاعت السنة، ولا يصح شرعاً وعقلاً أن يكلف الله نفساً إلا وسعها؛ فدل ذلك على أن السنة محفوظة ولابد.
فإذا أقر بوجوب حفظ السنة، سألناه هل بلغتنا السنة إلا بجهود هؤلاء العلماء؟! وهل عرفنا صحيحها من سقيمها إلا من خلال علمهم وأحكامهم؟!
فلو كان أولئك العلماء على ما ادعى ذلك المشكك لزم ضياع السنة، وهذا ما فرغنا من كونه مستحيلاً آنفاً. فلم يبق أن أولئك العلماء على ضد ما ادعاه ذلك المشكك، وأنهم حفظوا السنة، وميزوا بين صحيحها وسقيمها، وفرقوا بين مقبول رواتها ومردودهم.
إذن خرجنا أن أولئك العلماء لا يجوز فيهم أن يكونوا كما ادعاه ذلك المشكك شرعاً وعقلاً.
والمجال يتسع فيه المقال، لكن الوقت أثمن من أن نمضيه في الرد على كلام من لا يرجع إلى دليل، ولا يعرف صحة برهان.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه والله أعلم.(1/482)
الأخذ بأحاديث الآحاد في العقائد
المجيب د. الشريف حاتم بن عارف العوني
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/مسائل في مصطلح الحديث والجرح والتعديل
التاريخ 3/12/1424هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حديث الآحاد يؤخذ به في العقائد، ما حكم منكر نزول سيدنا عيسى عليه السلام؟ جزاكم الله خيراً.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
أقول وبالله التوفيق:
أما خبر الآحاد الذي يصححه أهل الحديث ويقبلونه فهو حجة في العقائد والأحكام، بإجماع الصحابة- رضي الله عنهم - والتابعين وتابعيهم، إذ كانوا - رضي الله عنهم- يروون أحاديث الآحاد في العقائد، ويعتقدون بما تضمنته من العقائد والأخبار الغيبية، ولا يفرقون بينها وبين أحاديث الأحكام في شروط القبول وأسباب الرد، بل يوجبون في أحاديث العقائد ما يوجبونه في أحاديث الأحكام من التثبت والتحري.
وقد قال الإمام الشافعي في كتابه (الرسالة) : (ولو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة: أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه، بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبته جاز لي. ولكن أقول: لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد، بما وصفت من أن ذلك موجود على كلهم) الرسالة للشافعي (457-458 رقم 1248-1249) .
وقال ابن عبد البر الأندلسي الفقيه المالكي الشهير (ت463هـ) ، وهو يتكلم عن خبر الآحاد وموقف العلماء منه: (وكلهم يدين بخبر الواحد العدل في الاعتقادات، ويعادي ويوالي عليها، ويجعلها شرعاً وديناً في معتقده، على ذلك جميع أهل السنة) . (التمهيد لابن عبد البر1/8) .
وقال ابن قيم الجوزية (ت751) وهو يرد على من لم يحتج بخبر الآحاد في العقائد من أهل البدع، (وأما المقام الثامن: وهو انعقاد الإجماع المعلوم المتيقن على قبول هذه الأحاديث، وإثبات صفات الرب -تعالى-بها. فهذا لا يشك فيه من له أقل خبرة بالمنقول. فإن الصحابة - رضي الله عنهم- هم الذين رووا هذه الأحاديث وتلقاها بعضهم عن بعض بالقبول، ولم ينكرها أحد منهم على من رواها، ثم تلقاها عنهم جميع التابعين، من أولهم إلى آخرهم ... " (مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم: (577) . وبناءً على ذلك: فإن رد خبر الآحاد في العقائد منهج بدعي يخالف إجماع أهل السنة والجماعة.
بل إن رد خبر الآحاد في العقائد يؤول إلى رد السنة كلها، كما قال الإمام أبو حاتم ابن حبان (ت354هـ) ، في مقدمة صحيحة: (فأما الأخبار فإنها كلها أخبار آحاد) ، إلى أن قال: (وأن من تنكب عن قبول أخبار الآحاد، فقد عمد إلى ترك السنن كلها؛ لعدم وجود السنن إلا من رواية الآحاد) . (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان: (1/156) ، وأما إنكار نزول عيسى -عليه السلام- في آخر الزمان، فلا شك أنه خطأ كبير، لا يكون إلا عن جهل بنصوص الكتاب والسنة الواردة في ذلك، أو عن منهج مبتدع في طريقة التعامل مع أدلة القرآن والسنة، لن يكون إنكار نزول عيسى -عليه السلام- معه أول ضلالاته ومنكرات آرائه المبنية عليه، ولا آخرها.
ولقد جاء ما يدل على نزول عيسى عليه السلام في القرآن الكريم، في ثلاث آيات منه، وهي:
قوله -تعالى-: "وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً" [النساء:159] ، ومعنى الآية: ليس أحد من اليهود والنصارى إلا وسيؤمن قطعاً وجزماً بعيسى -عليه السلام-، عبد لله -تعالى- ورسولاً منه -سبحانه-، وذلك سيكون قبل موت عيسى -عليه السلام-، ومعلوم أن هذا لم يقع حتى الآن، مما يعني أنه مما سوف يقع فيما نستقبله من الزمان.
وقوله -تعالى-: "وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ" [الزخرف: من الآية61] ، لقد كانت الآيات قبل هذه الآية تتحدث عن عيسى -عليه السلام-، فالضمير في هذه الآية يعود إليه -عليه السلام-. والمعنى: إن عيسى -عليه السلام- شرط وعلامة من علامات الساعة التي تعلم بها، فسمي الشرط علماً لحصول العلم به. وقوله -تعالى-: "وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً" [آل عمران: 46] . ووجه دلالة هذه الآية على نزول عيسى -عليه السلام- أن الله -تعالى- عدد بعض خصائص عيسى -عليه السلام- ودلائل نبوته، فكان منها كلامه في المهد وهو رضيع، وكلام الرضيع من الخوارق الدالة على النبوة ولا شك. فما هو وجه ذكر كلامه وهو كهل، والكهولة سن بداية ظهور الشيب، والأصحاء كلهم يتكلمون في هذا السن؟! إن ذكر الكلام في سن الكهولة في سياق ذكر خصائص عيسى -عليه السلام-، والخوارق التي تدل على نبوته فيه إشارة واضحة إلى أن هذا الكلام سيكون في حالة تكون معها إحدى خصائصه أيضاً الدالة على نبوته، وهذه الحالة لم تقع فيما مضى من حياته التي كان فيها بين الناس، وذلك مما لا يخالف فيه اليهود والنصارى والمسلمون. فلم يبق إلا أن هذه الخصيصة ستتحقق فيما نستقبل من الزمان، وهذا يعني أن عيسى -عليه السلام- سيعود بين الناس، لتتحقق له هذه المعجزة، وهي كلامه كهلاً.
ومع هذه الآيات فهناك أحاديث صحيحة كثيرة في نزول عيسى -عليه السلام-، ومنها أحاديث أخرجها البخاري ومسلم في صحيحيهما، اللذين هما أصح الكتب بعد كتاب الله، وهي أحاديث تلقتها الأمة بالقبول، فهي مفيدة لليقين، حتى عند أهل البدع من أهل الكلام، الذين لا يحتجون بأخبار الآحاد في العقائد، بل لقد وصفت أحاديث نزول عيسى عليه السلام بالتواتر، ووصفها بذلك جمع كبير من أهل العلم، ومنهم:
(1) ابن جرير الطبري (ت310هـ) في تفسير (5/451) في تفسير الآية (55) من سورة آل عمران.
(2) وأبو الوليد ابن رشد المالكي (ت520هـ) في البيان والتحصيل (18/255) .
(3) وعبد الحق بن عطية المالكي (ت541هـ) في تفسيره (308) ، في تفسير الآية (55) ، من سورة آل عمران.
(4) وابن كثير (ت774هـ) ، في تفسيره (7/236) ، في تفسير الآية (61) من سورة الزخرف.
(5) والشوكاني (ت1250هـ) ، له كتاب: (التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر والدجال والمسيح) .
(6) والكتاني (1345هـ) ، فقد ذكره في كتاب: نظم المتناثر من الحديث المتواتر (رقم 291) .
(7) ومحمد أنور شاه الكشميري (ت1352هـ) ، له كتاب: التصريح بما تواتر في نزول المسيح.
ولذلك فقد ذهب بعض أهل العلم إلى تكفير من أنكر نزول عيسى -عليه السلام-، مع علمه بالنصوص الواردة في ذلك، كما ذهب إليه العلامة محمود شكري الألوسي البغدادي (ت1342هـ) ، في تفسيره (روح المعاني) ، في تفسير الآية رقم (44) من سورة الأحزاب (22/34) .
ولا شك أن التكفير له شروط، ولا يفقهها كل أحد. لكن هذا كله يدل على بعد إنكار نزول عيسى -عليه السلام- عن الصواب، وأن على قائل ذلك الرجوع إلى الحق، وأن لا يتكلم إلا بعلم، وأن يسلم لنصوص الوحيين: الكتاب والسنة.
هدى الله الجميع إلى مرضاته، وبلغنا أعالي جناته. والله أعلم والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.(1/483)
هل في البخاري أحاديث ضعيفة
المجيب د. الشريف حاتم بن عارف العوني
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/مسائل في مصطلح الحديث والجرح والتعديل
التاريخ 24/12/1424هـ
السؤال
هل صحيح أن الشيخ الألباني وجد أحاديث لا ترقى إلى الصحة في صحيح البخاري؟.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: أقول وبالله التوفيق:
نعم.. لقد ضعَّف الشيخ الألباني أحاديث قليلة جداً في صحيح البخاري، ولكن لا يلزم من تضعيف الشيخ لها أن تكون ضعيفة بالفعل، بل قد تكون صحيحة كما ذهب إلى ذلك البخاري من قبل، وقد تكون ضعيفة فعلاً. فتضعيف الشيخ الألباني - عليه رحمة الله- اجتهاد منه، قابل للقبول والرد.
لكن العلماء قد نصوا أن أحاديث الصحيحين (صحيح البخاري وصحيح مسلم) كلها مقبولة، إلا أحاديث يسيرة انتقدها بعض النقاد الكبار، الذين بلغوا رتبة الاجتهاد المطلق في علم الحديث. وأن ما سوى تلك الأحاديث اليسيرة، فهي متلقاة بالقبول عند الأمة جميعها.
وبناء على ذلك: فإن الحديث الذي يضعفه الشيخ الألباني في صحيح البخاري له حالتان: الأولى: أن يكون ذلك الحديث الذي ضعفه الألباني قد سبقه إلى تضعيفه إمام مجتهد متقدم، فهذا قد يكون حكم الشيخ الألباني فيه صواباً، وقد يكون خطأ، وأن الصواب مع البخاري.
الثانية: أن يكون الحديث الذي ضعفه الألباني لم يسبق إلى تضعيفه، فهذا ما لا يقبل من الشيخ -رحمه الله-؛ لأنه عارض اتفاق الأمة على قبول ذلك الحديث (كما سبق) . والله أعلم.
والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.(1/484)
معنى الجرح والتعديل ومن يقوم به
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/مسائل في مصطلح الحديث والجرح والتعديل
التاريخ 15/1/1425هـ
السؤال
ارجو أن توضحوا لي باختصار ما معنى: (الجرح والتعديل؟) ومن يقوم به؟ ومن أين جاء؟ مع الأدلة.
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبعد:
الجرح في اللغة: التأثير في الجسم بالسلاح ونحوه، يقال: جرحه جرحاً إذا أثر فيه، ويكون الجرح معنوياً فيقال: جرحه بلسانه أي: شتمه، وسبه، وقال بعض أئمة اللغة: (الجُرح- بالضم - يكون في الأبدان بالحديد ونحوه، والجَرح - بالفتح - يكون باللسان في المعاني والأعراض ونحوها.
وقد استعمل المحدثون الجرح في نقد الرواة والمقصود به: وصف الراوي بما يقتضي تليين روايته أو تضعيفها أو ردها، مثل قولهم: لين الحديث، سيىء الحفظ، مجهول، متروك، متهم بالكذب، كذاب، وضاع.
والتعديل في اللغة: التسوية، وتقويم الشيء وهو ضد الجور.. والتعديل عند المحدثين: وصف الراوي بما يقتضي قبول روايته، مثل قولهم: ثقة متقن، ثقة ثبت، ثقة، حجة، صدوق، لا بأس به، وذلك إذا تحقق فيه شرطان هما: عدالة الراوي وضبطه، كما أن جرح الراوي يكون بسبب اختلال هذين الشرطين أو أحدهما.... والمراد بالعدالة: ملكة تحمل المرء على ملازمة التقوى والمروءة، والمراد بالتقوى: اجتناب الأعمال السيئة من شرك أو فسق أو بدعة، وأما المروءة فآداب تحمل الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات، ويرجع في معرفتها إلى العُرْف، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص والبلدان.
والمراد بالضبط: الضبط نوعان هما: ضبط الصدر وضبط الكتاب، فضبط الصدر: أن يكون الراوي يقظاً غير مُغَفَّل بل يحفظ ما سمعه ويُثْبِتُه، بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء، مع علمه بما يحيل المعاني إن روى بالمعنى.
وضبط الكتاب: صيانته لديه منذ سمع فيه وصححه إلى أن يؤدي منه، والأدلة على اعتبار العدالة والضبط في الرواة: الأصل في اعتبار عدالة الراوي قوله -تعالى-: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين" [الحجرات: 6] ، ووجه الدلالة أن الآية نص في وجوب التبين والتثبت من حقيقة خبر الفاسق.
والأصل في اعتبار الضبط الحديث المشهور: "نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلَّغها فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه..... "الحديث أخرجه الترمذي (2580) وغيره من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-، وفي بعض رواياته: ".... سمع منا شيئاً فبلغه كما سمع" عند الترمذي (2657) ، ووجه الدلالة:
(1) أن قوله -صلى الله عليه وسلم-: (فحفظها) نص على الحفظ، وهو يشمل الحفظ في الصدر وفي الكتاب.
(2) وقوله: " فبلغه كما سمع " نص على اعتبار الضبط عند الأداء، وجرح الرواة بقدر الحاجة لا يعد من الغيبة المحرمة بإجماع المسلمين، بل هو واجب إذ يترتب عليه تميز ما يقبل من الأحاديث، وما يرد منها، ومن الأدلة على جواز الغيبة لغرض شرعي: ما أخرجه البخاري (6032) ، ومسلم (2591) من حديث عائشة -رضي الله عنها-: أن رجلاً استأذن على النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما رآه قال: "بئس أخو العشيرة وبئس ابن العشيرة"فلما جلس تَطَلَّقَ النبي -صلى الله عليه وسلم- في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل قالت عائشة- رضي الله عنها-: يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا عائشة متى عهدتني فاحشاً؟ إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره " وفي رواية عند مسلم: " اتقاء فحشه ".
ووجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم- تكلم في ذلك الرجل على وجه الذم لما كان في ذلك مصلحة شرعية، وهي التنبيه إلى سوء خلقه ليحذره السامع كما يفيده قوله: " إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه " سبق تخريجه، ولذلك تطلق في وجهه وانبسط إليه مداراة له لا مداهنة، وتثبت عدالة الراوي بأحد أمرين:
الأمر الأول: الاستفاضة بأن يشتهر الراوي بالصدق والأمانة والاستقامة، ويعرف بالضبط والإتقان والعلم، مثل الأئمة الأعلام كمالك وأحمد والشافعي، ومن جرى مجراهم في نباهة الذكر، والاشتهار بالصدق والبصيرة والفهم.
الأمر الثاني: تنصيص الأئمة على عدالة الراوي، ويكفي تعديل الإمام الواحد على القول الراجح قياساً على قبول خبر الراوي الثقة عند تفرده، ويعرف الأئمة عدالة الراوي بتتبع سيرته وحياته، وهذا يقوم به من عايش هذا الراوي، وقد يستدل على عدالة الراوي بتمعن أحاديثه، وأما ضبط الراوي فيعرف بعرض رواياته على أقرانه ممن يروي عن شيخه، فإذا وافق الثقات صار ضابطاً، وإذا خالفهم اختل ضبطه، وهو درجات، وقد يعرف ضبط الراوي باختباره مباشرة من قبل أحد الأئمة، والذي يقوم باختبار ضبط الراوي ومعرفته لعدالته هم أئمة الجرح والتعديل: كأحمد، وابن معين، وابن المديني، والبخاري وغيرهم، فالإمام أحمد أو غيره من الأئمة مثلاً عندما يقول: فلان في أحاديثه اضطراب يكون عرف ذلك بتتبع مروياته ودراسة أحاديثه. هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(1/485)
قولهم: (إسناده صحيح) هل يلزم منه تصحيحهم للحديث؟!
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/مسائل في مصطلح الحديث والجرح والتعديل
التاريخ 04/11/1425هـ
السؤال
علمت من مقدمة ابن الصلاح أن قول المحدث: (إسناده صحيح) . لا يدل على صحة الحديث قطعًا عند المحدث وإلا لقال: (صحيح) . ورد عليه ابن حجر في النكت على ابن الصلاح بأن هذا ليس شأن كل المحدثين وأنه يجب الرجوع لما اطردت عليه عادة كل محدث على حدة. وأسأل الآن: هل إذا قال الألباني: إسناده صحيح رجاله ثقات. يعني أن الحديث صحيح عنده؟ بارك الله فيك.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله، وبعد:
نعم ذكر ابن الصلاح أن قول المحدث: (هذا حديث صحيح الإسناد أو حسن الإسناد) . دون قولهم: (هذا حديث صحيح (أو حديث حسن) . لأنه قد يقال: هذا حديث صحيح الإسناد. ولا يصح، لكونه شاذًّا أو معلولاً ... [مقدمة ابن الصلاح (ص: 38) ] . وتعقبه الحافظ ابن حجر بأن هذا لا يطرد مع كل محدث بل يحتاج إلى استقراء طريقة كل محدث والنظر فيها، ولكن ذكر السيوطي عن الحافظ ابن حجر أنه قال: (والذي لا أشك فيه أن الإمام لا يعدل عن قوله صحيح إلى قوله صحيح الإسناد إلا لأمر ما) [تدريب الراوي (1/161) ] .
وهذا الذي ذكره الحافظ جيد، فإن كثيرًا من الأئمة المتأخرين إذا قيدوا التصحيح أو التحسين بالإسناد، فإنهم يقصدون توفر ثلاثة شروط وهي: عدالة الراوي، ضبطه، اتصال السند.
قال السخاوي: (قد يصح السند أو يحسن لاستجماع شروطه من الاتصال، والعدالة، والضبط دون المتن لشذوذ أو علة....) [فتح المغيث (1/106) ] .
بل ذكر السخاوي أن من المحدثين والفقهاء من يحكم بصحة الحديث أو حسنه على وجه الإطلاق قبل النظر في سلامته من الشذوذ والعلة، وقد انتقد هذا المسلك فقال: (وأما من لم يتوقف من المحدثين والفقهاء في تسمية ما يجمع الشروط الثلاثة صحيحًا، ثم إن ظهر شذوذ أو علة رده- فشاذ، وهو استرواح حيث يحكم على الحديث بالصحة قبل الإمعان في الفحص عن تتبع طرقه التي يعلم بها الشذوذ والعلة نفيًا وإثباتًا فضلاً عن أحاديث الباب كله التي ربما احتيج إليها في ذلك) [فتح المغيث (1/17) ] .
ولو نظرنا في طريقة الحاكم في المستدرك فإنه كثيرًا ما يصحح الأسانيد، ولا يشترط سلامتها من العلة، وقد نص على هذا في المقدمة حيث قال: (وقد سألني جماعة من أعيان أهل العلم بهذه المدينة وغيرها، أن أجمع كتابًا يشتمل على الأحاديث المروية بأسانيد يحتج محمد بن إسماعيل ومسلم بن حجاج بمثلها، إذ لا سبيل إلى إخراج ما لا علة له....) . وقال: (وأنا أستعين بالله على إخراج أحاديث رواتها ثقات قد احتج بمثلها الشيخان رضي الله عنهما أو أحدهما، وهذا شرط الصحيح عند كافة فقهاء أهل الإسلام أن الزيادة في الأسانيد والمتون من الثقات مقبولة ... ) .
وكذلك الضياء المقدسي في (المختارة) فإنه يصحح أحاديث، ولا يشترط سلامتها من العلة، وقد نص على هذا في المقدمة حيث قال: (هذه أحاديث اخترتُها مما ليس في البخاري ومسلم، إلا أنني ربما ذكرتُ بعض ما أورده البخاريُّ معلَّقًا، وربما ذكرنا أحاديث بأسانيد جياد لها علَّةٌ.....) [الأحاديث المختارة (1/69- 70) ]
وقال ابن القيم: (وقد عُلِم أن صحة الإسناد شرط من شروط صحة الحديث وليست موجبة لصحة الحديث، فإن الحديث الصحيح إنما يصح بمجموع أمور منها: صحة سنده، وانتفاء علته، وعدم شذوذه ونكارته، وألاَّ يكون راويه قد خالف الثقات أو شذ عنهم) [الفروسية لابن القيم ص (64) ] .
وأما ما يتعلق بخصوص الشيخ الألباني، فقد أشار في مقدمة تمام المنة إلى أن إطلاق الصحة على الإسناد يقصد بها استيفاء الشروط الخمسة، فعلى هذا لا فرق عنده بين إسناده صحيح أو حديث صحيح، قال رحمه الله: (قول بعض المحدثين في حديث ما: (رجاله رجال الصحيح) أو: (رجاله ثقات) أو نحو ذلك لا يساوي قوله: (إسناده صحيح) ؛ فإن هذا يثبت وجود جميع شروط الصحة التي منها السلامة من العلل....) . ومن المعلوم أن الشيخ- رحمه الله- يغلب على طريقته في التحسين أو التصحيح الإطلاق دون التقيد بالإسناد. هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(1/486)
السنن المؤكدة
المجيب أحمد بن عبد الرحمن الرشيد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/مسائل في مصطلح الحديث والجرح والتعديل
التاريخ 09/08/1425هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سؤالي هو: ما هي السنن المؤكدة؟ ولو تكرمتم أعطوني أمثلة عليها، وهل إذا لم يؤدها الشخص يكون عليه إثم؟ أرجو الإسهاب في ذلك مع ذكر أقوال الأئمة، وجزاكم الله خيراً على هذا الموقع الطيب.
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن السنة كما يعرفها أهل العلم: ما يُثاب فاعلها ولا يُعاقب تاركها، ولها أمثلةٌ عديدة، منها: السنن الرواتب، والوتر، والسواك، والمبالغة في المضمضة والاستنشاق، وتخليل الأصابع، وإفطار الصائم على تمرٍ، وتكرار الحج والعمرة، والصدقة غير الزكاة، ومساعدة المحتاجين من الناس، ونحو ذلك. إلا أن هذه السنن ليست على درجةٍ واحدةٍ، بل بعضها أقوى من بعض مع اشتراكها في أفضلية الفعل، وعدم المعاقبة على الترك، ولذلك قسم أهل العلم السنن قسمين: سنن مؤكدة، وسنن غير مؤكدة. والذي يعنينا هنا السنن المؤكدة، وهي كما يعرفها أهل العلم: ما فعله الرسول - صلى الله عليه وسلم-; وواظب على فعله، كالسنن الرواتب، والوتر، وصلاة العيدين عند طائفةٍ من أهل العلم، وقراءة السورة بعد الفاتحة في الصلاة، وسجود التلاوة، وقيام الليل، والأضحية، وصلاة الكسوف، وصلاة الاستسقاء، وركعتا الطواف، وإبداء السلام، وعيادة المريض، والتسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير. هذا هو المشهور عند أهل العلم في معنى السنة المؤكدة، وخلاصته أن فاعلها يستحق الثواب، وتاركها لا يستحق العقاب.
إلا أن الأحناف لهم تفسيرٌ آخر للسنة المؤكدة، فهم يعنون بها الواجب، يقول الكاساني في بدائع الصنائع (1/155) : «....لأن السنة المؤكدة, والواجب سواء, خصوصا ما كان من شعائر الإسلام» ، ولا شك أن السنة بهذا المعنى تختلف عن المعنى المتقدم ذكره، وذلك من حيث الأثر المترتب على تركها، فإن تارك السنة المؤكدة بالمعنى الأول لا يأثم، لكن تارك السنة بالمعنى المشهور عند الأحناف يأثم؛ لأنها مثل الواجب، والواجب يعاقب تاركه كما هو معلوم، ومن أمثلة السنة المؤكدة عند الأحناف: صلاة الجماعة، فإنهم يصرحون بأنها سنة مؤكدة، وليس معنى هذا أنهم يجيزون التخلف عنها، ولكنهم يعنون بالسنة المؤكدة الواجب كما صرحوا هم به، ولذلك فإنهم لا يجيزون التخلف عن صلاة الجماعة من غير عذر.
والله الموفق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(1/487)
الشك في أحاديث الصحيحين
المجيب د. فهد بن عبد الرحمن اليحيى
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/مسائل في مصطلح الحديث والجرح والتعديل
التاريخ 25/04/1427هـ
السؤال
هل يجوز رفض حديث وارد في صحيح البخاري أو في صحيح مسلم على ضوء الحجج التالية:
1- الشك في رواية الحديث.
2- القبول بأن الحديث صحيح، لكن بسبب عدم التمكن من فهمه، أو أنه يعارض حديثاً صحيحاً آخر فيتأتى رفضه؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فإن التعامل مع الصحيحين الذي ورد طرف منه في السؤال يجب التفريق فيه بين من له دراية بعلم الحديث وأهليته، وبين عامة الناس، بل ربما يقال حتى من طلبة العلم الذين ليس لديهم الأهلية في علم الحديث.
فأما المشتغلون بعلم الحديث فهؤلاء لهم أن يناقشوا قبول أي حديث حتى وإن كان في الصحيحين، ولكن ليس ببدعٍ من القول، وإنما على ضوء القواعد الحديثية المعروفة، ومن خلال كلام من تقدم من أهل العلم، وقد أشار الحافظ ابن حجر -رحمه الله- إلى ذلك في (مقدمة فتح الباري) وذكر أمثلة من الأحاديث المنتقدة على الصحيح، والإجابة عنها.
ومن أوائل من انتقد بعض أحاديث الصحيحين الإمام الدارقطني -رحمه الله- في (الإلزامات والتتبع) .
ومع هذا الذي ذكرت فإنني أنبه إلى أمور:
1- أن طالب العلم لا ينبغي له التعجل في هذا الباب والاستقلال بالحكم، فإن للصحيحين من المنزلة وتلقي الأمة لهما بالقبول ما ليس لغيرهما، ولذا فإنك تجد من علماء الحديث من لم يسلّم بهذه الانتقادات كلها سوى مواضع يسيرة منها كابن الصلاح، والنووي، وابن حجر وآخرين.
2- أن الانتقاد الوارد على الصحيحين إنما هو في أحاديث معدودة نسبتها ضئيلة إلى جانب مجموع ما فيهما، ومع ذلك فكثير منها قد أجيب عنه كما تقدم.
3-أن ما يمكن انتقاده على الصحيحين يكاد أن يكون قد فرغ منه، فقد مضى على تأليف الصحيحين أكثر من ألف عام، وما من حديث قد يتطرق إليه الانتقاد إلا ذُكر خلال هذه المدة، وستجد في المقابل من يجيب عن الانتقاد سواء كان ذلك من جهة السند أو المتن.
4- -وهو أمر مهم- أن الغالب في الانتقادات الواردة كانتقادات الدارقطني -رحمه الله- إنما هو من جهة السند الذي ساقه صاحب الصحيح، مع أن متن الحديث ثابت من طرق أخرى، وكثير منها يسلّم به المنتقِد كالدارقطني. فإذاً لا يلزم من توجيه الانتقاد إلى حديث ما في أحد الصحيحين عدم ثبوته من وجه آخر.
5- أن النظر العقلي المحض وردّ الروايات الصحيحة بدعوى مخالفتها للعقل -فحسب- ليس من منهج أهل السنة، فإنهم -وإن كانوا قد يناقشون المتن منفرداً عن السند- بيد أنهم لا يطلقون العنان للعقل المجرد كي يردّ ما شاء من صحيح المنقول، وإنما تَرِدُ المناقشة عندهم في المتن -حين يقتضي الحال ذلك- على ضوء النصوص الأخرى والقواعد الحديثية والأصولية والفقهية.
ولئن كان هذا في شأن أهل العلم، فهو في حق العامة أولى، إذ ليس لهم أن يردوا الأحاديث بدعوى عدم موافقتها للعقل، وأي عقل هذا الذي يتحاكم إليه؟ فإن عقول الناس وفهومهم مختلفة متفاوتة!
هذا ما يتعلق بالمتخصصين في هذا العلم أما غيرهم -لا سيما عامة الناس- فلا ينبغي لهم الخوض في قضية القبول والرفض لما في الصحيحين، بل عليهم أن يأخذوا بالأصل، وهو: قبول ما في الصحيحين، لتلقي الأمة لهما بالقبول والتسليم بصحة ما فيهما في الجملة.
أما ما أشير إليه في السؤال فإنما ينظر فيه أهل الاختصاص المشار إليهم أولاً، مع أن التعبير الأصح بدلاً من (الشك في رواية الحديث) (نقد الرواية) ، وأما عدم التمكن من فهم الحديث فليس عذراً في رفضه، بل يرجع إلى أهل العلم في فهمه من خلال الكتب أو السؤال، كما أن مخالفة حديث لآخر لا يلزم منها الرفض لأحدهما وردّ ما فيه، بل تجرى عليهما قواعد أهل العلم في الأحاديث التي ظاهرها التعارض، والله -تعالى- أعلم.(1/488)
هل مخالفة الصحابي للسنة تدل على نسخها؟!
المجيب عمر بن عبد الله المقبل
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/مسائل في مصطلح الحديث والجرح والتعديل
التاريخ 29/09/1426هـ
السؤال
إذا خالف فعل بعض الصحابة أو التابعين أو تابعي التابعين أمراً من سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- فهل يجوز أن نستند على هذا الفعل، ونقول: إن الذي ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- سُنة منسوخة؟.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فأود أن أقول -قبل الإجابة عن هذا السؤال- إن مخالفة الصحابي -فضلاً عمن دونه من فضلاء هذه الأمة من التابعين، وتابعي التابعين، للسنة- لا تكون إلا لعذر، ولا يمكن لإمام من أئمة الدين أن يتعمد مخالفة السنة، كما بين ذلك بجلاء شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كتابه القيم "رفع الملام عن الأئمة الأعلام"، حيث بيّن أعذار العلماء الذين ثبتت عنهم مخالفة السنة.
أما ما يتصل بسؤال الأخ عن مخالفة الصحابي، أو التابعي، أو تابع التابعي للسنة، فهل تكون تلك السنة منسوخة؟
فيقال: ذيول هذا الجواب طويلة، وهي تتصل بمسائل حديثية، ومسائل أصولية:
أما الحديثية: فهي مخالفة الصحابي للسنة، فهل هذه المخالفة لما رواه هو أم غيره؟
فإن كانت المخالفة لما رواه هو، فينظر في نقد الأئمة للمرفوع والموقوف، فإنه -وبالتتبع- وُجد أنهم ينظرون إلى هذه الصورة بأحد ثلاثة طرق:
إما أن يضعفوا المرفوع بالموقوف، أو بالعكس، أو يصححوا كلا الوجهين، وتفصيل ذلك ليس هذا موضعه.
فينظر في ثبوت ذلك، ثم بعد ذلك ينظر إليه من الجهة الأخرى، وهي الجهة الأصولية:
فبعض صور سؤال الأخ لها صلة بما يعرف بمسألة الإجماع السكوتي، ومدى حجيته، وهل هي خاصة بالصحابة، أم عامة في جميع المجتهدين؟!
فإن كان المخالف من الصحابة أو من دونهم، قد خالفه غيره من أقرانه، فلا حجة فيه بلا ريب، فضلا عن أن يكون ناسخاً للسنة الثابتة.
وإن كان الصحابي قال قولاً يخالف سنة مروية، ثم ينتشر عنه، ولا يُعلم أن أحداً خالفه، أو أنكر عليه، فهل يعتبر هذا القول حجة لاحتمال كونه اطلع على ناسخ؟.
وفي هذه الصور خلاف -أيضاً- لكن الراجح- كما هو قول الجمهور- أنه لا يعتبر قوله دليلاً على أنه اطلع على ناسخ، لاحتمالات كثيرة.
قال الحافظ العلائي -رحمه الله- في كتابه القيم (إجمال الإصابة في أقوال الصحابة) ، ص (91) : "والذي ذهب إليه جمهور العلماء أنه لا يعدل عن الخبر الظاهر، أو النص إلى مذهب الراوي -وإن قلنا إن مذهب الصحابي حجة- لأن مذهب الصحابي إنما يكون حجة إذا لم يعارضه قول النبي -صلى الله عليه وسلم- وظن كونه اطلع على ناسخ، أو دليل يترجح على هذا الخبر -وإن كان منقدحاً- فهو مرجوح، لما سيأتي من الاحتمالات التي تعارضه، والظن المستفاد من الخبر أرجح منه ... " ثم ذكر الاحتمالات، ويمكنك مراجعتها هناك، وينظر: إرشاد الفحول للشوكاني (113) .(1/489)
أقوى الأسانيد عند الشافعي
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/مسائل في مصطلح الحديث والجرح والتعديل
التاريخ 02/05/1425هـ
السؤال
ما هي أقوى أسانيد الإمام الشافعي التي استخدمها؟.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
تلقى الإمام محمد بن إدريس الشافعي المطلبي (150 هـ - 204 هـ) مروياته الحديثية عن جماعة من أئمة الحديث، ومن أبرزهم الإمام مالك بن أنس (ت 179 هـ) إمام دار الهجرة، حيث سمع منه الموطأ، وقد قال الإمام البخاري: أصح الأسانيد كلها مالك عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما-. (علوم الحديث لابن الصلاح ص:16) ، والإمام الشافعي روى عن مالك من هذا الطريق أحاديث كثيرة، فقد روى مالك عن نافع في الموطأ ثمانين حديثاً، وهذه كلها رواها الشافعي؛ لأنه سمع الموطأ من مالك كما سبق، قال أبو منصور: أجل الأسانيد: الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، واحتج بإجماع أصحاب الحديث على أنه لم يكن في الرواة عن مالك أجل من الشافعي -رضي الله عنهم أجمعين-.
وينظر بعض مرويات الشافعي بهذا الإسناد في مسنده (رقم: 164، 213، 682، 683،789، 966،) ينظر: علوم الحديث لابن الصلاح ص:16، تجريد التمهيد ص:170، النكت لابن حجر (1/262) ، مسند الإمام الشافعي الذي جمعه أبو العباس بن يعقوب الأصم (ت 346 هـ) ورتبه محمد عابد السندي. هذا والله الموفق، والهادي إلى سواء السبيل.(1/490)
مصطلحات حديثية
المجيب د. تركي بن فهد الغميز
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/مسائل في مصطلح الحديث والجرح والتعديل
التاريخ 27/07/1425هـ
السؤال
بسم الله الرحمان الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نرجو من فضيلتكم أن تشرحوا لنا معاني هذه الكلمات، التي تبين نوع أو إسناد الحديث: حديث غريب, مرسل, موقوف, مرفوع, منكر, حسن, لا بأس به, حسن غريب, صحيح الإسناد, منقطع, حسن صحيح, وضعيف، وهل يعمل بأمثال هذه الأحاديث؟ نرجو من فضيلتكم توضيح وشرح هذه الكلمات. وفقكم الله لما فيه الخير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
فهذا بيان المصطلحات الحديثية التي سأل عنها - السائل- وهي:
1- حديث غريب: الحديث الغريب هو الذي تفرد بروايته راوٍ واحد، وهذه الغرابة قد تكون مطلقة، وقد تكون نسبية، فالغريب المطلق هو ما كانت الغرابة في أصل سنده، يعني بأن لا يكون لهذا الحديث إلا مخرج واحد، فليس له طريق آخر.
وأما الغريب النسبي فهو ما كانت الغرابة في أثناء سنده، يعني له طرق متعددة، وفي أثناء بعضها وقعت الغرابة، وهي التفرد.
والحديث الغريب داخل تحت تقسيم الحديث باعتبار طرقه، وهذا التقسيم ليس من حيث الصحة وعدمها، فقد يكون الحديث غريباً، ويكون إسناده صحيحاً يجب العمل به، مثل حديث: "إنما الأعمال بالنيات" رواه البخاري (1) ، ومسلم (1907) عن عمر -رضي الله عنه-، وقد يكون إسناد الحديث الغريب ضعيفاً لا يعمل به، وهذا كثير.
2- مرسل: أصل الإرسال الانقطاع، فما كان من الحديث مرسلاً فهو منقطع، ولكن اشتهر إطلاق ذلك على ما رفعه التابعي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-.
والحديث المرسل في أصله ضعيف للانقطاع الذي فيه، ولكن المراسيل تتفاوت، فمنها مراسيل قوية كمراسيل سعيد بن المسيب، ومنها غير ذلك، وقد يحتف بالمرسل ما يجعله صالحاً للاحتجاج والاستدلال عند كثير من أهل العلم، ومنهم من يحتج به مطلقاً، ومنهم من لا يحتج به أبداً، ولهذه المسألة تفاصيل تنظر في مظانها.
3- الحديث الموقوف: هو ما نسب إلى الصحابي من قوله أو فعله أو تقريره، وقد يكون الإسناد إليه صحيحاً، وقد يكون ضعيفاً، وقول الصحابي إن خالف نصاً صحيحاً فليس بحجة، وإن خالفه صحابي آخر فهي مسألة خلافية ينظر فيها، وأما إذا اتفق الصحابة - رضي الله عنهم- على شيء فهو حجة يجب العمل به.
4- مرفوع: الحديث المرفوع هو ما أضيف إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو تقرير أو صفة، ثم قد يكون صحيحاً يجب العمل به، وقد يكون ضعيفاً لا يجب العمل به.
5- منكر: الحديث المنكر يطلق على أنواع من الحديث؛ منها: الحديث الذي خالف فيه الراوي الضعيف من هو أوثق منه، كما يطلق على الحديث الذي ينفرد به راو فاحش الغلط، أو نحو ذلك وإن لم يكن فيه مخالفة، بل قد يطلق على حديث الصدوق أو نحوه إذا علم أنه غلط فيه، وقد قال الإمام أحمد بن حنبل: المنكر أبداً منكر، فالحديث المنكر لا يصح العمل به ولا الاحتجاج.
6- حسن: الحديث الحسن اشتهر في كتب المصطلح تقسيمه قسمين:
1- الحسن لذاته: وهو ما توفرت فيه شروط الحديث الخمسة، إلا أن راويه أخف ضبطاً من راوي الحديث الصحيح.
2- الحسن لغيره: وهو الحديث الذي فيه ضعف غير شديد، مثل الحديث المرسل إذا جاء ما يعضده، على تفصيل في الاعتضاد متى يكون، وبم يكون، ومبحث الحديث الحسن مبحث فيه غموض، وأشهر من ذكر هذا المصطلح واستعمله هو الإمام الترمذي، وقد اشترط في الحديث الحسن ثلاثة شروط نص عليها في خاتمة كتابه، وهي:
أ- ألا يكون فيه راو متهم.
ب- وألا يكون شاذاً.
ج- وأن يروى نحوه من غير وجه.
وأما العمل به فالمشهور في كتب المصطلح أن الحديث الحسن داخل في دائرة القبول يجب العمل به، ولكن هذا ليس على إطلاقه، خصوصاً في كلام الترمذي، فإن شروطه الثلاثة المذكورة لا يلزم منها القبول.
7- حسن غريب: سبق معنى الحسن ومعنى الغريب، وهذا المصطلح إنما يكثر من ذكره الإمام الترمذي، وليس بين الحسن والغرابة تعارض على مصطلح الترمذي، فالحسن توفرت فيه شروطه الثلاثة السابقة، وغرابته أن إسناده فرد من الوجه الذي ذكره، ولا يعني ذلك أنه لا يروى من وجه آخر، ولذا فربما قال بعد ذلك: لا نعرفه من هذا الوجه إلا من حديث فلان، وما حكم عليه الترمذي بهذا الحكم ليس يلزم من شروطه السابقة أن يكون ثابتاً، بل الظاهر خلاف ذلك، ولو كان عنده ثابتاً لقال: حسن صحيح غريب، ولكن اختلاف نسخ الترمذي في هذا كثير، فيجب التحقق من صحة النسخة.
8- لا بأس به: الظاهر أن هذا قريب من معنى الحسن على المشهور، وهو ما كان مقبولاً ولكنه دون الصحيح، وقد يكون لبعض الأئمة اصطلاح يخصه في هذه العبارة، هذا إذا كانت هذه العبارة في حكم على الحديث، أما إذا كانت في الحكم على راوٍ فهي تعني أنه متوسط من صدوق أو نحو ذلك، وبعض الأئمة -كابن معين - تعني عنده التوثيق، والله أعلم.
9- صحيح الإسناد: الصحيح ما توفرت فيه شروط خمسة متفق عليها بين الأئمة، وهي: عدالة الرواة، وتمام ضبطهم، واتصال الإسناد، والسلامة من الشذوذ، والسلامة من العلة القادحة، ولكن يستعمل بعضهم قوله: صحيح الإسناد فيما توفرت فيه الشروط الثلاثة الأولى فقط، وهذه خطوة أولى لا يصح الاعتماد عليها حتى تستعمل الخطوة الثانية بالسلامة من الشذوذ والعلة القادحة، وإنما يلجأ إلى ذلك بعضهم لحال الاستعجال أو عدم الكتب أو عدم القدرة، أو غير ذلك، وقد حصل من أجل ذلك تشويش وإيهام فينبغي فهم ذلك، وما كان من الحديث صحيحاً فيجب العمل به، أما إذا كان هذا الحكم لتوفر الشروط الثلاثة الأولى فقط، فلا يجب العمل به حتى يتحقق من سلامته من الشذوذ والعلة القادحة ليكون صحيحاً.
10- منقطع: هو ما لم يتصل إسناده في أي مكان كان هذا الانقطاع، واشتهر في كتب المتصل التفريق بين أنواع المنقطع المشهورة، الإرسال، وقد سبق، والتعليق وهو ما حذف أول إسناده من جهة المصنف، والمعضل وهو ما سقط منه رجلان فأكثر على التوالي، فالمنقطع هو ما سوى ذلك، مع صحة إطلاق اسم المنقطع على جميع هذه الأقسام كما هو المستعمل عند أئمة الحديث الأولين، والحديث المنقطع ليس بصحيح فلا يجب العمل به.
11- حسن صحيح: هذا المصطلح أكثر منه الترمذي، وقد وقع للأئمة كلام كثير في معناه، والصحيح فيه ما حققه الحافظ ابن رجب شارح جامع الترمذي، ومفاد ذلك أن الحسن الصحيح توفرت فيه شروط الحسن الثلاثة السابقة عند الترمذي مع شروط الحديث الصحيح المشهورة عند جميع الأئمة، ومعلوم أنه ليس في شروط الحسن زيادة، إلا أنه يروى من غير وجه، فيضاف هذا الشرط إلى شروط الصحيح ليكون الحديث حسناً صحيحاً، وبهذا يكون الحسن الصحيح أعلى مما قيل فيه: صحيح فقط؛ لزيادته شرطاً سادساً على شروط الصحيح، ولا شك أنه يجب العمل بالحديث الحسن الصحيح لثبوته.
12- ضعيف: الحديث الضعيف: هو ما فقد شرطاً من شروط قبول الحديث السابقة. والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(1/491)
مرويات الواقدي
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/مسائل في مصطلح الحديث والجرح والتعديل
التاريخ 16/08/1426هـ
السؤال
حصل عندي إشكال: وهو أني عندما أقرأ في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- أو في سير السلف أجد الكثير منقولاً عن الإمام الواقدي، وعندما نرى كلام الأئمة عنه نجد أنهم مجمعون على ضعفه، فكيف نوفق؟ وكيف يمكن أن يتساهل في السيرة والأحكام تؤخذ منها؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله، وبعد:
الواقدي هو: محمد بن عمر بن واقد الواقدي الأسلمي مولاهم، أبو عبد الله المدني، القاضي، أحد الأعلام، ولد سنة (130 هـ) ، وتوفي سنة (207 هـ) ، واتفق أئمة النقد على أنه متروك، قال الذهبي: "استقر الإجماع على وهن الواقدي"، وقد عرف عن الواقدي سعة حفظه للأخبار والسير والمغازي والحوادث وأيام الناس، ولهذا نجد أن الأئمة الذين كتبوا في التاريخ والمغازي والأخبار احتاجوا إلى ما عند الواقدي، فأوردوا شيئاً كثيراً من طريقه، ومن أمثال هؤلاء: الذهبي، وابن كثير، وابن حجر، قال ابن كثير: والواقدي - رحمه الله - عنده زيادات حسنة وتأريخ محرر غالباً، فإنه من أئمة هذا الشأن الكبار، وهو صدوق في نفسه مكثار".
وقال الذهبي: "وقد تقرر أن الواقدي ضعيف، يحتاج إليه في الغزوات والتأريخ ".
وقال في موضع آخر: "الواقدي جمع فأوعى، وخلط الغث بالسمين والخرز بالدر الثمين فاطرحوه لذلك، ومع هذا فلا يستغنى عنه في المغازي وأيام الصحابة وأخبارهم. " [ينظر: سير أعلام النبلاء (9/454) ] .
ويظهر من صنيع هؤلاء الأئمة أن الواقدي يؤخذ عنه ما عرف اختصاصه به وهو المغازي والسير والأخبار، ولكن يحتاط فيما إذا تضمنت المرويات عنه أشياء في العقائد أو الأحكام والشريعة، وكذلك عند الاختلاف يرجح مرويات من كان أوثق منه، والله أعلم.(1/492)
معنى قول الترمذي: "حسن صحيح غريب"
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/مسائل في مصطلح الحديث والجرح والتعديل
التاريخ 01/11/1426هـ
السؤال
حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه خرج مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فسمع رجلاً يتلو: "قل هو الله أحد"، فقال: "قد أوجبت". فقلت: ما أوجبت؟ فقال: "الجنة". رواه الترمذي وغيره من طريق الإمام مالك، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من رواية مالك.
السؤال: ما معنى قول الترمذي: "حسن صحيح غريب"؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله، وبعد:
الحديث المشار إليه في السؤال أخرجه الترمذي (2897) ،قال الترمذي: حدثنا أبو
كريب: حدثنا إسحاق بن سليمان، عن مالك بن أنس، عن عبيد الله بن عبد الرحمن، عن أبي حنين مولى لآل زيد بن الخطاب، أو مولى زيد بن الخطاب، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: أقبلت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسمع رجلا يقرأ: "قل هو الله أحد الله الصمد" فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "وجبت"، قلت: ما وجبت؟ قال: "الجنة".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث مالك بن أنس، وأبو حنين هو عُبيد بن حنين.
ومعنى قول الترمذي: حسن صحيح أي أن الحديث توفرت فيه شروط الصحة، وهي: عدالة الرواة، وتمام ضبطهم، واتصال السند والسلامة من الشذوذ والعلة القادحة، وهي الشروط الخمسة المعروفة.
ووصف الترمذي له بالحسن مع الصحة من باب التأكيد على صحة الحديث، وترادف العبارة لاسيما وأن بعض الأئمة المتقدمين يصفون الحديث الحسن بالصحة.
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "واختار بعض من أدركنا أن اللفظين -يعني الحسن والصحيح- عند الترمذي مترادفان، ويكون إتيانه باللفظ الثاني بعد الأول على سبيل التأكيد، كما يقال: صحيح ثابت، أو جيد قوي، أو غير ذلك" [ينظر النكت على ابن الصلاح (1/478) ] .
وقال ابن دقيق العيد: "إن ههنا صفات للرواة تقتضي قبول الرواية، وتلك الصفات درجات بعضها فوق بعضٍ، كالتيقظ والحفظ والإتقان مثلاً، فوجود الدرجة الدنيا كالصدق مثلاً وعدم التهمة بالكذب لا ينافيه وجود ما هو أعلى منه كالحفظ والإتقان، فإذا وجدت الدرجة العليا لم يناف ذلك وجود الدنيا، كالحفظ مع الصدق، فيصح أن يقال في هذا: إنه حسن باعتبار وجود الصفة الدنيا، وهي الصدق مثلاً، صحيح باعتبار الصفة العليا، وهي الحفظ والإتقان" [ينظر: الاقتراح ص (176) ] .
وأما وصف الترمذي له بالغرابة، فالمقصود أن هذا الحديث ليس له إلا طريقٌ واحد، فمداره على مالك بن أنس. ولهذا قال: لا نعرفه إلا من حديث مالك بن أنس.
وللعلماء أقوال أخرى في توجيه جمع الترمذي بين الحسن والصحة في وصف الحديث منها:
1- أن ذلك بسبب التردد الحاصل من المجتهد في راوي الحديث، هل اجتمعت فيه شروط الصحة أو قصر عنها؟.
قال الحافظ ابن حجر: "فإن جُمعا أي الصحيح والحسن في وصفٍ واحدٍ، كقول الترمذي وغيره" حديث حسن صحيح "فللتردد الحاصل من المجتهد في الناقل، وهل اجتمعت فيه شروط الصحة أو قصر عنها، وهذا حيث يحصل منه التفرد بتلك الرواية.
وعرف بهذا جواب من استشكل الجمع بين الوصفين، فقال: الحسن قاصر عن الصحيح، ففي الجمع بين الوصفين إثبات لذلك القصور ونفيه.
ومحصل الجواب: أن تردد أئمة الحديث في حال ناقله اقتضى للمجتهد ألا يصفه بأحد الوصفين، فيقال فيه: حسن باعتبار وصفه عند قوم، صحيح باعتبار وصفه عند قوم، وغاية ما فيه أنه حذف منه حرف التردد؛ لأن حقه أن يقول: "حسن أو صحيح"، وهذا كما حذف حرف العطف من الذي بعده، وعلى هذا فما قيل فيه: حسن صحيح دون ما قيل فيه: صحيح، لأن الجزم أقوى من التردد، وهذا حيث التفرد" [ينظر: نزهة النظر ص: 66] .
وهذا التوجيه بعد أن ذكره الحافظ في كتابه النكت عن بعض المتأخرين، قال: "ويتعقب هذا بأنه لو أراد ذلك لأتى بالواو التي للجمع، فيقول: "حسن وصحيح" أو أتى بـ "أو" التي هي للتخيير أو التردد، فقال: "حسن أوصحيح".
ثم إن الذي يتبادر إلى الفهم أن الترمذي إنما يحكم على الحديث بالنسبة إلى ما عنده لا بالنسبة إلى غيره، فهذا يقدح في هذا الجواب ويتوقف -أيضاً- على اعتبار الأحاديث التي جمع الترمذي فيها بين الوصفين، فإن كان في بعضها ما لا اختلاف فيه عند جميعهم في صحته، فيقدح في الجواب -أيضاً- لكن لو سلم هذا الجواب من التعقب لكان أقرب إلى المراد من غيره، وإني لأميل إليه وأرتضيه" [ينظر: النكت على ابن الصلاح (1/477) ] .
2- أنه حسن باعتبار إسناد، وصحيح باعتبار إسناد آخر، وهذا إذا كان للحديث أكثر
من إسناد، قال ابن الصلاح: "إن ذلك راجع إلى الإسناد، فإذا روي الحديث الواحد بإسنادين أحدهما إسناد حسن، والآخر إسناد صحيح استقام أن يقال فيه إنه "حديث حسن صحيح". أي: أنه حسن بالنسبة إلى إسنادٍ، وصحيح بالنسبة إلى إسنادٍ آخر" [ينظر: علوم الحديث ص: 39] .
وقد تعقب هذا ابن رجب، فقال: "إن الترمذي إذا جمع بين الحسن والصحة فمراده أنه روى بإسنادين: أحدهما حسن، والآخر صحيح.
وهذا فيه نظر، لأنه يقول كثيراً: "حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه".
3- أن المقصود أن الحديث بين الصحة والحسن، قال ابن كثير: "والذي يظهر لي
أنه يُشرِب الحكم بالصحة على الحديث كما يُشرِب الحسن بالصحة، فعلى هذا يكون
ما يقول فيه: "حسن صحيح" أعلى رتبة عنده من الحسن ودون الصحيح، ويكون حكمه على الحديث بالصحة المحضة أقوى من حكمه عليه بالصحة مع الحسن، والله أعلم" [اختصار علوم الحديث ص: 47] .
وتعقب ابن رجب هذا القول فقال: "ومن المتأخرين من قال: إن "الحسن الصحيح" عند الترمذي دون "الصحيح" المفرد، فإذا قال: "صحيح" فقد جزم بصحته، وإذا قال: "حسن صحيح" فمراده أنه جمع طرفاً من الصحة وطرفاً من الحسن، وليس بصحيح محض، بل حسن مشوب بصحة، كما يقال في المز: إنه حلو حامض، باعتبار أن فيه حلاوة وحموضة وهذا بعيد جداً، فإن الترمذي يجمع بين الحسن والصحة في غالب الأحاديث الصحيحة المتفق على صحتها، والتي أسانيدها في أعلى درجة الصحة، كمالك عن نافع عن ابن عمر، والزهري عن سالم عن أبيه، ولا يكاد الترمذي يفرد الصحة إلا نادراً، وليس ما أفرد فيه الصحة بأقوى مما جمع فيه بين الصحة والحسن" [ينظر: شرح علل الترمذي (1/392- 393) ] .
وتعقب الحافظ قول ابن كثير، فقال: "قلت لكن هذا يقتضي إثبات قسم ثالث ولا قائل به، ثم إنه يلزم عليه أن لا يكون في كتاب الترمذي حديث صحيح إلا النادر؛ لأنه قل ما يعبر إلا بقوله: حسن صحيح" [النكت على ابن الصلاح (1/477) ] .
فهذه خلاصة أجوبة أهل العلم عن الجمع بين الحسن والصحة، والترمذي لم ينص على قصده بهذا الاصطلاح، ولكن فسر الحسن بأن لا يكون في إسناده متهم بالكذب، ولا يكون شاذاً، ويروى من غير وجه نحوه. فكل حديث كان كذلك فهو عنده حديث حسن." [شرح علل الترمذي (1/384) ] .
ولهذا فيمكن أن يرجع في المراد بالحسن لما ذكره، قال ابن رجب: "فعلى هذا: الحديث الذي يرويه الثقة العدل، ومن كثر غلطه، ومن يغلب على حديثه الوهم، إذا لم يكن أحد منهم متهماً كله حسن بشرط أن لا يكون شاذاً مخالفاً للأحاديث الصحيحة، وبشرط أن يكون معناه قد روي من وجوه متعددة. فإن كان مع ذلك من رواية الثقات العدول الحفاظ فالحديث حينئذ حسن صحيح، وإن كان مع ذلك من رواية غيرهم من أهل الصدق الذين في حديثهم وهم وغلط -إما كثير أو غالب عليهم- فهو حسن، ولو لم يرو لفظه إلا من ذلك الوجه، لأن المعتبر أن يروى معناه من غير وجه، ولا نفس لفظه.
وعلى هذا: فلا يشكل قوله: "حديث حسن غريب"، ولا قوله: "صحيح حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، لأن مراده أن هذا اللفظ لا يُعرف إلا من هذا الوجه، لكن لمعناه شواهد من غير هذا الوجه، وإن كانت شواهده بغير لفظه.
وهذا كما في حديث "الأعمال بالنيات"، فإن شواهده كثيرة جداً في السنة، مما يدل على أن المقاصد والنيات هي المؤثرة في الأعمال، وأن الجزاء يقع على العمل بحسب ما نوي به، وإن لم يكن لفظ حديث عمر مروياً من غير حديثه من وجه يصح".
ويحتمل أن يقال: إن الترمذي أراد بالحسن الذي فسره إذا أفرد هذه العبارة، قال الحافظ ابن رجب: "إن الترمذي إنما أرد بالحسن ما فسره به، إذا ذكر الحسن مجرداً عن الصحة، فأما الحسن المقترن بالصحيح فلا يحتاج إلى أن يروى نحوه من غير وجه، لأن صحته تغني عن اعتضاده بشواهد أخر. والله أعلم" [شرح علل الترمذي (1/384- 386) ] .(1/493)
التعويل على منهج المتقدمين في تصحيح الأحاديث
المجيب عمر بن عبد الله المقبل
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/مسائل في مصطلح الحديث والجرح والتعديل
التاريخ 04/05/1427هـ
السؤال
أنا أَطْلُبُ العلمَ عند أحدِ طلبةِ العلمِ في مدينتنا، إلا أنه كثيرا ما يرد أحاديث صححها الشيخ الألباني، ويضعف أي زيادة على الصحيحين إذا كان المُخْرِجُ واحدًا، حتى وإن كانت من الثقات، ويقول: أنا أتبع منهج المتقدمين، ويقول: إن المتأخرين متساهلين في التصحيح، وأن المتقدمين هم أهل الصنعة.
أرجو توجيهي في هذه المسألة بتفصيل (منهج المتقدمين والمتأخرين) ؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فبالنسبة لما ذكرته من حال شيخك الذي تطلب العلم عنده، ويرد كثيراً من تصحيحات الشيخ الألباني -رحمه الله-، ويضعف أي زيادة على الصحيحين إذا كان المخرج واحداً -وإن كان من الثقات- ويعزو ذلك إلى منهج المتقدمين، فأقول:
كثر الحديث عن منهج المتقدمين والمتأخرين في الآونة الأخيرة، وظهرت دعوة قوية للرجوع إلى طريقة المتقدمين، وكأي دعوة تصحيحية في أي منهج علمي أو دعوي، ينقسم الناس في ذلك إلى ثلاثة أقسام:
قسم غالٍ في الطرح وطريقة الدعوة، وقسم جافٍ ومعارض، وقسم متوسط بين ذلك.
والصواب -فيما أرى- مع المتوسطين، الذين يدعون إلى التعويل على منهج المتقدمين، مع الاعتدال في الطرح، والأدب في النقاش، والاستفادة من جهود العلماء المتأخرين، والبناء عليها -مهما أمكن- بدلاً من هدمها.
والذي يخشى من هذا الاندفاع الحاصل الآن -في مسألة المتقدمين والمتأخرين- هو أنه بدأت تظهر مقالات وآراء جريئة وجازمة، وذلك بإصدار أحكام كلية في مسائل هي من أدق مسائل هذا الفن ونسبتها إلى الأئمة المتقدمين، مع أن البحث العلمي الدقيق لا يساعد على قبولها، كمسائل التدليس، والجهالة، والاتصال والانقطاع، ونحو ذلك.
وقد كتبت سابقاً -كما كتب بعض أهل العلم- مقالات وأجوبة حول هذه المسألة طرحت في هذا الموقع، وفي غيره من الملتقيات العلمية، كملتقى أهل الحديث، فأوصيك بالرجوع إليها للاستفادة منها، وبالله التوفيق.(1/494)
الجواب عما أشكل في حديث "سجود الشمس"
المجيب عمر بن عبد الله المقبل
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/شروح حديثية
التاريخ 09/05/1427هـ
السؤال
في الصحيحين عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أتدري أين تذهب هذه الشمس إذا غربت؟ قلت: لا. قال: إنها تنتهي فتسجد تحت العرش، ثم تستأذن، فيوشك أن يقال لها: ارجعي من حيث جئت، وذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً".
أثار هذا الحديث في قلبي شبهة! إذ يفهم منه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يتكلم من منطلق أن الأرض مسطحة وثابتة، والشمس هي التي تدور حولها، تخرج من المشرق، وتغرب من المغرب، أرجو توضيح ذلك؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فأشكرك -أخي- على طرح مثل هذه الأسئلة، والبحث عن مخرج لما يقع في القلب من الشبه، فإن العبد إذا أهمل السؤال عن مثل هذه الأمور، ربما أدت به إلى نهايات خطيرة يدخل منها الشيطان على قلب العبد؛ فَيفسِدُ عليه دينه.
أما بالنسبة لما سألت عنه، فجوابه فيما يلي:
1- اعلم -وفقني الله وإياك لما يحبه ويرضاه- أنه إذا صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن أبدا أن يكون معارضاً لما هو كائن في الواقع، بل إما أن فهمنا للواقع غير صحيح، أو فهمنا للنص غير صحيح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخبر إلا بالحق، وأخبار الوحي -كتاباً وسنة- لا يمكن أن يدخلها الخطأ.
فيبقى الأمر -في حقنا- هو: وجوب النظر فيما يزيل هذا الإشكال الذي وقع في نفوسنا.
2- اعلم -وفقك الله- أن ظواهر الكتاب والسنة تكاد تصل إلى حد الصراحة -وأؤكد على كلمة ظواهر- في أن الحركة إنما تصدر من الشمس لا من الأرض، ومن ذلك هذا الحديث، ومنه -أيضاً- آيات كثيرة في كتاب الله تعالى، أذكرها الآن؛ ليتضح لك هذا المعنى بشكل جلي:
أ- قوله تعالى: "فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً" [الأنعام:78] .
فنسب البزوغ لها.
ب- قوله تعالى -في قصة أصحاب الكهف-: "وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَال" [الكهف:17] .
فهذه أربعة أفعال نسبت إلى الشمس: الطلوع، والغروب، والتزاور والقرض.
ج- وفي قصة ذي القرنين يقول تعالى: "حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ". إلى قوله "حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ". [الكهف:86-90] .
فنسب الغروب والطلوع إليها.
د- ومن أصرح الأدلة قوله تعالى: "وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ" إلى قوله سبحانه: "لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ" [يس:38-40] .
فنسب الجري والإدراك للشمس.
هـ- وفي قصة سليمان عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى عنها: "حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ" [ص:32] .
أي أن الشمس غربت، فنسب التواري إليها.(1/495)
فأنت ترى -وفقك الله- أن نسبة هذه الأفعال كلها للشمس ظاهر في أنها تتحرك.
إذا علم ذلك، فاعلم أن القرآن لم ينف أن الأرض تتحرك ولم يثبت ذلك -أيضاً-، وعليه فلا تعارض بين القرآن والواقع العلمي الذي يثبت حركة الأرض، ويكون ما ذكر -من نسبة الأفعال إلى الشمس- هو باعتبار نظر العين لها.
3- فيما يخص سجود الشمس، وذهابها وسجودها تحت العرش. وكيفية تصوره مع أنها إنما تغرب عنا لتشرق على آخرين، فالجواب عنه سهل -بحمد الله- وذلك من وجهين:
الأول: إنه لا مانع أن تكون الشمس في حالة سجود دائم لربها -عز وجل-، وهذا ليس بغريب إذا تصورت أن كل ما في السماوات والأرض يسجد لله، وأن سجود كل شيء بحسبه، كما قال تعالى: "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ" [الحج:18] .
ومن المعلوم أن سجود الآدميين ليس كسجود السماوات والأرض وبقية هذه المخلوقات العظيمة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية، والفعل المضارع يفيد التجدد والاستمرار.
ولا عجب فالملائكة -وهم مخلوقون يتكلمون ويبصرون ويقومون بوظائف جليلة- يقول الله عنهم: "يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ" [الأنبياء:20] . فإذا كان هذا في حق هذه المخلوقات التي كلفت ببعض الوظائف فما ظنك بالجمادات؟! هي من باب أولى في ديمومة سجودها لله تعالى، ومنها الشمس، فهي في حالة سجود واستئذان دائمين في شروقها وغروبها.
فإن قلت: إن قوله في الحديث: "ثم تذهب تسجد" مشعر بأن هناك سجود غير السجود العام الذي دلّت عليه الآية؟!
فالجواب: هذا الذي ذُكر في الإيراد محتمل، والمخرج منه أن يقال:
إن مجرد غروب الشمس عن أعيننا في قطر من الأقطار هو في الوقت ذاته سجود لها، وإن كانت تظهر على آخرين، وهذا تصوره غير عسير -بحمد الله-، ونظيره ما يقال عن كسوف الشمس، فإنك تعلم -وفقك الله- أن الشمس قد تنكسف عن بلدٍ، بينما بلدان أخرى لا يحصل فيها كسوف، مع أن الأرض واحدة والشمس واحدة، فإذا كان هذا متصوراً في الأمور المحسوسة، فتصوره في الأمور الغيبية المعنوية من باب أولى.
الثاني: أن الشمس إنما هي -في هذا الكون العظيم- جرم صغير، فأينما سجدت فهي ساجدة تحت عرش الرب -عز وجل-.
هذا مبلغ علمي في هذه المسألة، وأرجو أن نتخلص بهذا الجواب -مع ما سأذكره لك لاحقاً- من هذا الإشكال، فإن انشرح صدرك لهذا الجواب فالحمد لله، وهذا هو المطلوب، وإلا فعلينا -جميعاً- أن نؤمن ونصدق وإن لم تدرك عقولنا الحقيقة، ونقول: صدق الله ورسوله، مبتعدين بذلك عن مسالك بعض الناس الذين جعلوا عقولهم حاكمة على النصوص، من أمثال المعتزلة أو من تأثر بمسلكهم، يطعنون في هذا الحديث بحجة أنه خبر آحاد!!
وما أعظم جناية هؤلاء على الشريعة! وإنني لأتعجب منهم هل أحاطت عقولهم بالغيب؟!(1/496)
أليسوا يجهلون كنه وحقيقة الروح التي بين جنوبهم؟! فكيف يتصورون أنهم لابد أن يفهموا وجهة كل نص من النصوص التي تتحدث عن الأمور الغيبية سواء في الدنيا، أو في الآخرة؟!
وكم من الأحاديث التي تتحدث عن أمور غيبية لو حكمنا فيها عقولنا القاصرة لعجزنا عن إدراكها، ولكن معاذ الله أن نجعل عقولنا حاكمة على خبر الله ورسوله، بل نقول في باب الأخبار: آمنا وصدقنا. وفي باب الأحكام: سمعنا وأطعنا. وسيأتي في الفقرة التالية مزيد إيضاح لهذه المسألة العظيمة.
4- ثمة قاعدة تذكر في هذا الباب -أعني باب الإشكالات التي ترد في النصوص مع الواقع وغيره -وهي قاعدة تريح قلب المؤمن إذا أخذ بها، وهي: أنه إذا لم تزل عنك الشبهة -مع صحة النص الشرعي- فعليك بالتسليم والتصديق ولو لم تفهم، فإن هذه هي حقيقة العبودية، وقل -كما قال خيار هذه الأمة-: "آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِن رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ" [البقرة:285] .
بل هذه طريقة الراسخين في العلم الذين أثنى الله عليهم بقوله: "هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ" [آل عمران:7-8] .
ولقد ضرب الصحابة أروع الأمثلة في الانقياد والتسليم، وإن كان الأمر في أول وهلة على غير ما تهواه نفوسهم، أولم يفهموا الغرض منه، وإليك مثالاً واحداً يجلي هذه المعاني، ففي الصحيحين أن ظهير بن رافع، وهو عم رافع بن خديج -رضي الله عنهما- لما بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صورة معينة من صور المزارعة، قال: لقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا رافقاً -يعني فيه رفق بنا- قال رضي الله عنه: وطواعية الله ورسوله أنفع لنا. صحيح البخاري (2339) ، وصحيح مسلم (1548) .
ولما حدّث النبي صلى الله عليه وسلم بحديث الدجال، قال الصحابة -رضي الله عنهم-: وما لبثه في الأرض؟ قال: "أربعون يوماً: يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم". قلنا: يا رسول الله: فذلك اليوم الذي كسنةٍ أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: "لا، اقدروا له قدره". صحيح مسلم (2937) .(1/497)
فانظر إلى عمق علم الصحابة -رضي الله عنهم-، كيف لم يقولوا: كيف يكون اليوم كسنة، أو كشهر، أو كجمعة؟ لأنهم يعلمون أن من جعل اليوم (24ساعة) ، قادر على جعله أسبوعاً (168ساعة) ، وقادر على جعله شهراً (720 ساعة) ، وهكذا، بل سألوا عما يخصهم، وهو أمر دينهم، سألوا عن صلاتهم! فرضي الله عنهم وأرضاهم، ما أعمق علمهم، وأقوى تصديقهم! نسأل الله تعالى أن يرزقنا السير على طريقتهم في العلم والعمل، وأن يجمعنا بهم في الجنة بحبنا إياهم، والله تعالى أعلم.(1/498)
الجمع بين حديث: "لا نُوَرث" ووراثة سليمان لداود!
المجيب د. محمد بن سريّع السريّع
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/شروح حديثية
التاريخ 11/04/1427هـ
السؤال
هل يمكن أن يترك نبيٌّ تركةً من المال؟ فإني قرأتُ في بعض التفاسير أن سليمان ورث من داود عليهما السلام ألف حصان؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وبعد:
فالجواب على هذا السؤال في ثلاث مسائل:
1- نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لا يورث كما دل على ذلك الحديث الصحيح، في البخاري (3093) ، ومسلم (1758) أنه قال: "لا نورث ما تركنا صدقة" وبهذا عمل أبو بكر والصحابة -رضي الله عنهم- فيما خلفه النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم عملوا فيه بأمره صلى الله عليه وسلم، حيث قال: "لا يقتسم ورثتي ديناراً ولا درهما، ما تركت بعد نفقة نسائي ومئونة عاملي، فهو صدقة" رواه البخاري (2776) ، ومسلم (1760) .
2- أما فيما يتعلق بباقي الأنبياء عليهم السلام فإن جمهور أهل العلم على أن حكمهم كحكم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لقوله: "إنا معاشر الأنبياء لا نورث" أخرجه أحمد (9593) وأصله في الصحيحين، وذهب بعض أهل العلم كابن عُليَّة إلى أن هذا الحكم خاص بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن غيره من الأنبياء يورثون، ومما استدل به قوله تعالى حكاية عن زكريا "يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ" [مريم:6] وقوله: "وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ" [النمل:16] .
والصحيح الذي عليه أكثر أهل العلم أن سائر الأنبياء لا يورثون؛ للحديث السابق، وأما الآيات السابقة فهي محمولة على أن المراد بها وراثة العلم، والحكمة، والملك، لا وراثة المال.
3- وما ذكره السائل من أن سليمان ورث من داود ألف حصان، فإن هذا من أخبار بني إسرائيل التي لا يصح الاعتماد عليها. والله أعلم.(1/499)
الفرار من مرض الالتهاب الرئوي
المجيب هاني بن عبد الله الجبير
قاضي بمحكمة مكة المكرمة
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/شروح حديثية
التاريخ 24/2/1424هـ
السؤال
انتشر عندنا في شرق آسيا مرض الالتهاب الرئوي، وهذا المرض قاتل، وينتشر انتشاراً سريعاً عن طريق التنفس، وحتى الآن توجد 2000 حالة إصابة، منهم 80 توفوا بهذا المرض، فهل يجوز الفرار خوفاً من العدوى؟ وهل نشبهه بالطاعون؟ وفي الحديث كما تعلمون قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-:"إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه"؛ يعني الطاعون، فهل منع الفرار في الحديث لعدم نقل العدوى لمنطقة أخرى، أو هو لعدم الفرار من قدر الله؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الحمد لله وحده، وبعد:
فقد روى أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:"إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها" صحيح البخاري (5728) ، صحيح مسلم (2218) .
والمراد بالطاعون كل مرض عام أو وباء ينتشر في جهة من الأرض، فيشمل المرض المسؤول عنه والفرار منه منهي عنه، وفي بعض روايات الحديث:"فلا تخرجوا منها فراراً"، وأخرج أحمد (14478) ، والألباني في الصحيحة (1292) عن عائشة -رضي الله عنها- بسند حسن مرفوعاً:"الفار من الطاعون كالفار من الزحف"، وروى البخاري (5734) عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:"ليس عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابراً يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله له، إلا كان له مثل أجر الشهيد".
وقد التمس العلماء عللاً لهذا النهي ذكر جملة منها الحافظ ابن حجر في فتح الباري (10/200) ، منها: ضياع مصلحة المريض لفقد من يتعاهده حياً وميتاً، وإدخال الرعب في قلوب الناس خاصة من لم يفر، ونقل المرض إلى بقاع أخرى، وهذا الأخير له حظ كبير من النظر، وهو ما ذكره ابن القيم في زاد المعاد (4/43) ، وأما الخروج من أرض الطاعون لغير الفرار بل لعارض كتجارة وعمل معتادين فلا بأس به إذا كان سليماً من المرض وأمن أن ينقل العدوى بحمله للمرض.
وليستغل كل مسلم إقامته في بلد الوباء بحمل النفس على الثقة بالله والتوكل عليه والصبر على قضائه والرضا به، وتذكر الأجر فيه، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:"الطاعون شهادة لكل مسلم" صحيح البخاري (5732) ، صحيح مسلم (1961) ، والله الموفق.(1/500)
قبول التوبة بعد خروج الدجال
المجيب د. الشريف حاتم بن عارف العوني
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/شروح حديثية
التاريخ 9/4/1424هـ
السؤال
أود أن أسأل فضيلتكم عن توجيهكم لهذا الحديث:
قال الإمام مسلم -رحمه الله-: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب قالا حدثنا وكيع ح وحدثنيه زهير بن حرب حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق جميعاً عن فضيل بن غزوان ح وحدثنا أبو كريب محمد بن العلاء واللفظ له حدثنا ابن فضيل عن أبيه عن أبي حازم عن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض". ورواه الترمذي -رحمه الله- قال: حدثنا عبد بن حميد حدثنا يعلى بن عبيد عن فضيل بن غزوان عن أبي حازم عن أبي هريرة - رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:"ثلاث إذا خرجن لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل الآية، الدجال والدابة وطلوع الشمس من المغرب أو من مغربها" قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح وأبو حازم هو الأشجعي الكوفي واسمه سلمان مولى عزة الأشجعية. حيث نجد الحديث رواه أحمد بنفس إسناد مسلم، ولكن بلفظ آخر: حدثنا وكيع قال حدثنا فضيل بن غزوان الضبي عن أبي حازم عن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"ثلاث إذا خرجن لم ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا؛ طلوع الشمس من مغربها والدخان ودابة الأرض" وهذا الحديث الظاهر من خلال السند أنه صحيح الإسناد وهو موافق للأحاديث الصحيحة التي تدل على أن التوبة تقبل بعد خروج الدجال، حيث يخرج المسيح -عليه السلام- بعد خروج الدجال ويقتل الدجال ولا يقبل من أهل الكتاب إلا الإيمان، فدل على أن التوبة تقبل بعد خروج الدجال، وهذا يتعارض مع رواية مسلم والترمذي أن التوبة لا تقبل بعد خروج الدجال. فما توجيهكم لهذا؟ حفظكم الله ورعاكم.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
أقول وبالله التوفيق:
بعد النظر في ألفاظ الحديث، وما جاء عند الإمام أحمد في مسنده من استبدال لفظ (الدخان) بـ (الدجال) ترجح عندي أن لفظ (الدجال) أصح من جهة الرواية؛ لاتفاق مصادر متعددة على ذكره، دون لفظ (الدخان) ، وتوجيه هذا الاختلاف أنه ربما كان من قبل راوي المسند عن عبد الله بن الإمام أحمد، وهو القطيعي، فقد ذكرت له أخطاء في روايته للمسند لعل هذا أحدها، خاصة أن احتمال تصحيف (الدجال) إلى (الدخان) احتمال وارد، لتشابه الكلمتين في الخط.(1/501)
أما الإشكال في المعنى، من جهة أن باب التوبة لا يُغلق بعد خروج الدجال، فحله يظهر من حديث صحيح آخر، وهو حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:"بادروا بالأعمال ستاً: الدجال، والدخان، ودابة الأرض، وطلوع الشمس من مغربها، وأمر العامة، وخويصة أحدكم" أخرجه مسلم رقم (2947) . والمقصود بأمر العامة: قيام الساعة، وأما خويصة أحدنا: فهو الموت، أما المراد بالمبادرة بالأعمال، أي: المسابقة بالأعمال الصالحة، والمسارعة باغتنام الوقت قبل هذه الأمور الستة التي هي دواه ومصائب عظام، تُلهي الإنسان عن العمل الصالح وتشغله، أو لا يوفق إليه من لم يسبق له قدم ثبات على الهدى والحق، فيفتن عن التوبة والعمل الصالح، لا لمانع، ولكن لضعف إيمانه الذي لا يصمد أمام هذه الدواهي، ومن هذه الأمور الستة ما لا تقبل بعدها التوبة، لو حاولها أحد من شاهدها، وهي: طلوع الشمس من مغربها، وقيام الساعة، وغرغرة الموت.
وانظر: المفهم للقرطبي (7/308 رقم 2842) وشرح الطيبي على المشكاة (11/3448-3449 رقم 4565) .
وعليه فيكون معنى الحديث المسؤول عنه: أن تلك الأمور الثلاثة، إذا وقعت بهتت الناس وحيرتهم، فلم يقو على التوبة والثبات إلا من حسن عمله وصح توكله على الله تعالى، ولا يعارض ذلك أن من هذه الأمور الثلاثة ما ضم إلى ذلك أنه لا تقبل معه التوبة، كطلوع الشمس من مغربها، ولا يعارض ذلك أيضاً أن من هذه الأمور ما إذا زال وانتهى وجوده، لم تبق حيرته وفتنته بعد زواله، فيمكن الناس بعدها التوبة والعمل الصالح، إذا قدر لهم ألا يموتوا في زمن الفتنة والتحير، كما قد يحصل في فتنة الدجال.
هذا ما ظهر لي، والله أعلم.
والحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثره واتقى حده.(1/502)
معنى (أعمار أمتي بين الستين ... )
المجيب هاني بن عبد الله الجبير
قاضي بمحكمة مكة المكرمة
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/شروح حديثية
التاريخ 5/1/1424هـ
السؤال
بخصوص حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-:"أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين" ما المقصود بأمتي؟ وهل تشمل في عصرنا هذا المسلم والكافر؟ ولماذا الستين والسبعين؟ ولماذا يعمر الأوروبيون؟ جزاكم الله خيراً.
الجواب
الحمد لله وحده، وبعد:
فهذا الحديث رواه أبو هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:"أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك" وهو حديث صحيح أخرجه الترمذي
(3550) ، وابن ماجة (4236) ، وابن حبان (2/96) ، والحاكم (2/427) ، وقد حسّن إسناده الحافظ ابن حجر في فتح الباري (11/244) ، وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وللحديث شاهد من حديث أنس نحوه إلا أنه قال:"وأقلهم الذين يبلغون الثمانين" أخرجه أبو يعلى (5/283) ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (757) ، والمراد بالأمة في الحديث أمة الدعوة فشمل المسلم والكافر.
والمراد بالستين والسبعين إما أن العقد على طريقة من يلغي الكسر بين العقود فيقول: لمن كان عمره خمسة وستين عمره ستون، أو أن السبعين انتهاء الغاية.
وأما لماذا فهذا قدر الله تعالى الذي كتبه على عباده لا يسأل عما يفعل وهم يُسألون، وقد التمس بعضهم حكمة لذلك أن تقل الأعمار فيسهل الحساب (فيض القدير للمناوي
(2/11) .
وأما الأوروبيون فإن متوسط أعمارهم لا يتجاوز إلى الثمانين فآخر تقرير لمتوسط الأعمار في البلدان المتقدمة أنه بين السبعين والست وسبعين حسب ما صدر عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة اليونسيف (وضع الأطفال في العالم صـ88) ، وهذا مصداق للحديث على الاعتبار الأول الذي دلت عليه رواية أنس. ولو زاد متوسط الأعمار عن ذلك -كما تشير إليه بعض الدراسات نظراً للتحسن المطرد في مستوى الخدمات الصحية- فهذا لا يعارض الحديث أيضاً إذ هم من القلة التي تجوز السن المذكور وتبقى أمم أخرى لا تصل إليه من الحاضرة مع قرون كثيرة ماضية، وفق الله الجميع لهداه، وصلى الله على محمد وآله.(1/503)
معنى كلمات الله التامات
المجيب د. علي بن عبد الله الجمعة
رئيس قسم السنة وعلومها بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/شروح حديثية
التاريخ 03/04/1427هـ
السؤال
ما هي كلمات الله التامة التي نتعوذ بها، والتي ذكرت في حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم-.
الجواب
نعم صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أمره بأن يستعاذ بكلمات الله التامات في الصباح والمساء، وعندما ينزل الإنسان منزلاً، بدلاً مما كان يفعله المشركون في الجاهلية من الاستعاذة بالجن، حيث كان أحدهم إذا نزل وادياً قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، فأبدلها النبي - صلى الله عليه وسلم- بالاستعاذة بالله - عز وجل- واللجوء إليه، فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه (3708) ، عن خولة بنت حكيم -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول:"من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات، من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك"، وقد اختلف العلماء في المراد بكلمات الله التامات على قولين القول الأول: أنها أسماء الله الحسنى وصفاته العلى بأن يستعيذ بأسمائه فيقول: أعوذ بالسميع العليم، أو بصفاته فيقول: أعوذ برحمة الله وقوة الله وكبرياء الله، والقول الثاني: أن المراد بكلمات الله هو القرآن الكريم، فإن القرآن كلامه، تكلم به سبحانه ونزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم، ووصفت الكلمات بالتامات لأنها سالمة من العيوب والنقائص التي تعتري أسماء وصفات البشر على القول الأول، وعلى القول الثاني فالقرآن سالم من النقص والعيوب التي تعتري كلام البشر، لذا أعجز العرب مع فصاحتهم وبلاغتهم أن يأتوا بمثل أقصر سورة فيه، وسأسوق لك ما ذكره الشيخ عبد الرحمن بن حسن في شرح كتابه فتح المجيد؛ حيث قال: شرع الله لأهل الإسلام أن يستعيذوا به بدلاً عما يفعله أهل الجاهلية من الاستعاذة بالجن، فشرع الله للمسلمين أن يستعيذوا بأسمائه وصفاته، قال القرطبي: قيل: معناه الكاملات التي لا يلحقها نقص ولا عيب، كما يلحق كلام البشر، وقيل: معناه: الشافية الكافية، وقيل: الكلمات هنا هي القرآن، فإن الله تعالى قال عنه بأنه "هدى وشفاء" [فصلت: 44] ، وهذا الأمر على جهة الإرشاد إلى ما يدفع به الأذى، ولما كان ذلك استعاذة بصفات الله تعالى كان من باب المندوب إليه المرغب فيه، وعلى هذا فحق المستعيذ بالله أو بأسمائه وصفاته، أن يصدق الله في التجائه إليه، ويتوكل في ذلك عليه ويحضر ذلك في قلبه، فمتى فعل ذلك وصل إلى منتهى طلبه ومغفرة ذنبه.(1/504)
قلت: وبما أن هذه العبارة وهي قوله - صلى الله عليه وسلم-" أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق" حصن حصين، وحمى مكين، من نزغات الشيطان، ومن شياطين الإنس والجان، فأرشدك يا أختي إلى بعض النصوص من كتاب الله، وسنة رسوله -عليه الصلاة والسلام-، فهي حصن المسلم كآية الكرسي، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، يقول المسلم هذا ثلاث مرات في الصباح والمساء، ويقول أيضاً بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم، وأعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وأعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة، ويحسن الالتجاء إلى الله - عز وجل- ويكثر من قراءة القرآن والأوراد الواردة عند النوم والاستيقاظ ودخول البيت والخروج منه وعند الأكل والشرب، والوضوء وغير ذلك.
- وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم-.(1/505)
حتى أهل مكة يحرمون من مكة
المجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز-رحمه الله-
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/شروح حديثية
التاريخ 12/11/1423هـ
السؤال
ما معنى قوله:- صلى الله عليه وسلم- "حتى أهل مكة يحرمون من مكة" بعد أن قال:- صلى الله عليه وسلم- "من أراد الحج والعمرة" في الرواية الصحيحة لابن عباس رضي الله عنهما؟
الجواب
معناه أن كل من أراد الحج والعمرة وكان منزله دون المواقيت يحرم من منزله، حتى أن أهل مكة يحرمون لنسكهم من مكة، وهو عام في الحج والعمرة، ولكنه خصصه حديث أمره - صلى الله عليه وسلم- عائشة رضي الله عنها أن تعتمر من التنعيم، لكونه أدنى الحل من الحرم، فصار الحديث الذي سألت عن معناه محمولاً على من يحج أو يعتمر وهو دون المواقيت المسماة في الأحاديث، وخارج حدود الحرم، وعلى من يحرم بالحج مفرداً أو بالحج والعمرة قراناً أو يحج ممن تمتع بالعمرة إلى الحج لا على من يحرم بالعمرة فقط، استثنائها بحديث عائشة، عملاً بالأحاديث الواردة في النسك كلها دون نظر إلى قياس أو خصوصية لعائشة أو غيرها.
وبالله التوفيق - وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
[اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (11/149-150) ](1/506)
حديث:"ولد صالح يدعو له"
المجيب عبد الرحمن بن عبد الله العجلان
المدرس بالحرم المكي
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/شروح حديثية
التاريخ 3/2/1424هـ
السؤال
السلام عليكم.
أرجو إفادتي في حديث "وولد صالح يدعو له" هل منها العمرة عن الوالدين المتوفين؟ أي العمرة النفل؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
دعاؤك لوالديك، وعملك ما تدخله النيابة من القرب كالحج والعمرة والصدقة ينفع والديك بإذن الله، ويكون من تمام برك بهما، فقد جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء بعد موتهما، قال -عليه الصلاة والسلام-:"نعم الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وبر صديقهما" أبو داود (5142) ، وابن ماجة (3664) ، وأحمد (16059) .
"وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم" [التوبة: 103] ، والمراد: أدعو لهم، وكان -عليه الصلاة والسلام- يدعو لمن جاء بصدقته، والله أعلم.(1/507)
معنى حديث "إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر "
المجيب د. محمد بن تركي التركي
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/شروح حديثية
التاريخ 7/11/1422
السؤال
ما معنى حديث " ينصر الدين بالرجل الفاجر"، وما درجة صحته؟
الجواب
الحديث في البخاري ومسلم فهو صحيح بلا شك، ولفظه: " إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر " انظر البخاري (رقم 3062) ، ومسلم (رقم 111) ، ومعنى الحديث يببينه ما ورد في سببه، وهو أن رجلاً ممن قاتل مع المسلمين في إحدى المعارك لما أصيب قام وقتل نفسه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، فمعناه أن الله - عز وجل - قد يجعل من أفعال بعض الناس سبباً لنصرة هذا الدين وإن لم يكن قصد ذلك الشخص هذه النصرة، ولو لم يكن هذا الشخص مؤمناً، وقال بعض شراح الحديث: إن معنى الرجل الفاجر يشمل الكافر، وقال بعض شراح الحديث: إن معنى الرجل الفاجر يشمل الكافر والمسلم الذي عنده بعض المعاصي.
وعلى هذا فالمسلم العاصي والفاسق قد يحدث الله على أيديهم ما يكون سبباً في نصرة هذا الدين، وفي هذا إشارة إلى أن العاصي والفاسق ينبغي أن لا يحتجوا بسبب عصيانهم بعدم العمل لهذا الدين، والله أعلم.(1/508)
حديث:"خلق الله آدم على صورته ... "
المجيب د. سالم بن محمد القرني
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/شروح حديثية
التاريخ 17/11/1423هـ
السؤال
ما هو الراجح في تفسير قوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-:"خلق الله آدم على صورته، طوله ستون ذراعاً" رواه البخاري؟
الجواب
هذا من أحاديث المتشابه الخاص الذي يعلم من وجه دون وجه، فيعلم من جهة المعنى دون الكنه والكيف أو الحقيقة.
ومعلوم أنه لا يراد به الظاهر الذي فيه التمثيل بصفات المخلوقين أو ما هو من خصائصهم، لأن الله سبحانه وتعالى "ليس كمثله شيء" [الشورى:11] ، و"لم يكن له كفواً أحد" [الإخلاص:4] وقد وسع كرسيه السماوات والأرض، والسماوات والأرض بالنسبة للكرسي -الذي هو موضع قدميه سبحانه- كحلقة ملقاة في فلاة فما ظنك برب العالمين.
لا أحد يحيط به وصفاً ولا تخيلاً فمهما تخيل الإنسان من عظمة لله فالله أعظم من ذلك، فيحمل الحديث على أن المراد خلق آدم على صورته تعالى من حيث الجملة، ومجرد كونه على صورته لا يقتضي المماثلة، فقد ورد في الحديث:"إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أضوأ كوكب في السماء" مسلم (2834) ولا يلزم من ذلك أن تكون هذه الزمرة مماثلة للقمر لأن القمر أكبر من أهل الجنة بكثير، فإنهم يدخلون الجنة طولهم ستون ذراعاً فليسوا مثل القمر من كل وجه، فالمؤمن العاقل يدرك أن هناك قدراً مميزاً هذا عن هذا.
وذكر العلماء قولاً آخر وهو: أن الله خلق آدم على صورة اختارها وأضافها إلى نفسه - تعالى- تكريماً وتشريفاً، والراجح الأول، والله أعلم.(1/509)
معنى حديث: "خير المجالس ما استقبل به القبلة"
المجيب د. الشريف حاتم بن عارف العوني
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/شروح حديثية
التاريخ 3/3/1423هـ
السؤال
ما معنى حديث: "خير المجالس ما استقبل القبلة"؟ آمل الجواب بالتفصيل.
الجواب
حديث: "خير المجالس ما استقبل به القبلة"، من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، ولذلك أورده السخاوي في كتابه المهم في بابه: (المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة) (رقم153) بلفظ: "أكرم المجالس ... ".
وللحديث طرق متعددة وشواهد:
وأشهر رواياته حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، لكن الإسناد إليه شديد الضعف، وحكم عليه بالبطلان، كما تراه في أحاديث الشيوخ الثقات لأبي بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري وحاشية تحقيقه (رقم173) .
وخير أسانيده ما أخرجه الطبراني في (الأوسط رقم2375) ، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن لكل شيء سيداً، وإن سيد المجالس قبالة القبلة".
فقد وصفه السخاوي بقوله: "سنده حسن"، وهو كما قال، فشيخ الطبراني الذي قد يتمسك من يضعف الحديث به لتضعيفه، وهو إبراهيم بن محمد بن عرق الحمصي، الصواب فيه أنه مقبول الحديث، وباقي رجال الإسناد معروفون مقبولون.
لكن يبقى التفرد الذي في إسناده، أخشى أن يؤتى الإسناد من قِبَلِهِ.
وقد يشير إلى عدم صحة الحديث مرفوعاً من جميع وجوهه، ما نقله السخاوي عن ابن حبان أنه حكم على الحديث بالوضع، وقال: "وقد كانت أحواله -صلى الله عليه وسلم- في مواعظ الناس أن يخطب وهو مستدبر القبلة"، لكن السخاوي تعقبه بقوله: كذا قال! وما استدل به لا ينهض للحكم بالوضع، إذ استدباره -صلى الله عليه وسلم- القبله؛ ليكون مستقبلاً لمن يعلمه أو يعظه ممن بين يديه".
وإن كنت لا أجرؤ على الحكم على الحديث بالقبول، إلا أني لا أحكم بعدم صحة معناه، وأن استقبال القبلة في المجالس، وخاصة مجالس العبادة، مثل: عند الذكر والدعاء وقراءة القرآن والتعليم ونحو ذلك، أمر دلت النصوص المتفرقة على استحسانه، وجاءت آثار السلف على اتباعه.
فالقبلة هي اتجاه أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي الصلاة حتى أطراف الأصابع تستقبل بها القبلة في السجود، وإشارة الإصبع في التشهد. (صحيح البخاري رقم828)
وفي الحج: يحج البيت (وهي القبلة) ، ويطوف بها، ويهل حين يهل بالحج مستقبلاً لها (صحيح البخاري رقم1553) ، ويستقبل القبلة على الصفا والمروة للذكر والدعاء، وكذلك في عرفة، وعند المشعر الحرام بمزدلفة (صحيح مسلم رقم1218) ، ويوجه الهدي عند النحر إلى القبلة (موطأ مالك رقم1112) ، وبعد رمي الجمرة الصغرى والوسطى يتوجه البيت بالدعاء (صحيح البخاري رقم1751،1752،1753)
وفي الاستسقاء تستقبل القبلة عند الدعاء (صحيح البخاري رقم1005،1028، وصحيح مسلم رقم894) .
وعند الابتهال بالدعاء، كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر (صحيح مسلم رقم1763) .(1/510)
وحتى يدفن المسلم، يوجه إلى القبلة كما فُعِل بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه -رضي الله عنهما-، وكما هو حال جميع مقابر المسلمين قديماً وحديثاً، وهذا كله يدل على تكريم هذه الجهة حتى في غير الصلاة.
ويدل على أن تكريم هذه الجهة مقصد شرعي: النهي الصريح الصحيح عن استقبال القبلة أو استدبارها عند قضاء الحاجة (صحيح البخاري رقم 144، وصحيح مسلم رقم264،265) .
ولذلك فقد جاء عن جمع من السلف استحباب الجلوس مستقبل القبلة.
ففي المصنف لابن أبي شيبة (8/675) بإسناد صحيح: "أن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- جلس مستقبل القبلة"، وأورده ابن أبي شيبة مع آثار أخرى، تحت باب (من كان يستحب إذا جلس أن يجلس مستقبل القبلة) .
وانظر أيضاً: (الأدب المفرد للبخاري (رقم1137) ، وأدب الإملاء والاستملاء للسمعاني رقم119) .
ويظهر من ذلك أن المقصود من هذا الحديث مطلب شرعي صحيح، وهو تكريم جهة القبلة، والحرص على الجلوس باستقبالها في حال المجالس الفاضلة.
وقد عبر المناوي في (فيض القدير 2/512) عن ذلك تعبيراً حسناً، فقال: "يشير إلى أن كل حركة وسكون من العبد على نظام العبودية، بحسب نيته، في يقظته ومنامه، وقعوده وقيامه، وشرابه وطعامه، تشرف حالته بذلك، فيتحرى القبلة في مجلسه، ويستشعر هيئتها، فلا يعبث، فيسن المحافظة على استقبالها"، والله أعلم.(1/511)
معنى حديث: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم.."
المجيب د. محمد بن سليمان المنيعي
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/شروح حديثية
التاريخ 17/10/1423هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة وبركاته.
أرجو منكم تفسير هذا الحديث الذي رواه مسلم: "والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا، لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله تعالى فيغفر لهم". وجزاكم الله خيراً.
الجواب
ليس هذا الحديث تسلية للمنهمكين في الذنوب كما يتوهمه بعض الناس، ولكنه لبيان عفو الله - تعالى - ليرغب المسيء في التوبة، والمعنى لو كنتم مجبولين على ما جبلت عليه الملائكة من عدم مقارفة الذنوب لجاء بقوم يذنبون فيستغفرون، وذلك أن من أسماء الله الغفار الحليم التواب العفو وهذا يقتضي غفران الذنوب والحلم عنها، وقبول التوبة من العاصي والعفو عنه، وهذا من حكمة الله تعالى، فإن الله خلق الإنسان وفيه شموخ وعلو وترفع وإعجاب بنفسه، فقدر له من الذنوب ما يوقظه به إذا انشغل عنه، إذ يوجب له الشعور بالذنب الاعتراف بالله وبعبوديته له، فينتكس رأسه بعد العجب ويميل إلى الندم والأسف ويسعى إلى حصول التوبة والاستغفار لتحصيل عفو الله، والله يحب العفو، وانظر إلى كلام نفيس لابن القيم في كتاب طريق الهجرتين في حكمة تقدير المعاصي على بني آدم.(2/1)
معنى حديث "ليبلغن هذا الدين"
المجيب د. علي بن عبد الله الجمعة
رئيس قسم السنة وعلومها بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/شروح حديثية
التاريخ 19/1/1424هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ما يقول فضيلتكم فيمن يشكك في حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين" بحجة أن هناك أماكن في مجاهيل إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية لم يصل إليها الدين الإسلامي بعد على الرغم من مرور أكثر من ألف وأربعمائة عام على بعثة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وأن هناك كثيراً من البيوت لم يدخلها الإسلام قد هدمت خلال تلك الأعوام؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فأقول وبالله التوفيق:
أولاً: إن هذا الحديث صحيح وثابت وصححه الألباني في السلسلة تحت رقم الحديث (3) مجلد (1) وأخرجه الإمام أحمد عن تميم الداري مجلد (4) صـ (103) وعن مقداد بن الأسود مجلد (6) صـ (4) وإسناده صحيح على شرط مسلم، وأخرجه ابن منده في الإيمان (1085) والبيهقي في السنن (9/181) وأخرجه البخاري في التاريخ (2/150) ، ويعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ (2/231) والطحاوي في شرح مشكل الآثار
(6155) والحاكم (4/430) وأخرجه الطبراني في الكبير (1280) وأورده الهيثمي في المجمع (6/14) ، وقال رواه أحمد والطبراني ورجال رجال الصحيح.
ثانياً: أن تشكيك الأعداء بهذا الدين ومصادره ليس أمراً جديداً فإنهم ما فتئوا يشككون فيه منذ بدء نزول الوحي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يكن التشكيك مقتصراً على سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بل يشككون في القرآن المعجز الذي أعجز الفصحاء والبلغاء أن يأتوا بسورة من مثله مع تحدي الله لهم.
ثالثاً: أن من المعلوم والمجزوم به أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى" [النجم: 3-4] فإذا صح ثبوت الخبر إليه فهو حق لا مرية فيه والإيمان بما دل عليه الخبر واجب.
رابعاً: هذا الحديث ليس بينه وبين الواقع الذي أشار إليه السائل تعارض ولا تنافٍ ولا مجال للغمز في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.(2/2)
خامساً: جوابنا على استشكال المستشكل أن الحديث لا يدل على أن أهل الأرض يدخلون في الإسلام جميعاً وقد دل على ذلك القرآن الكريم حيث يقول الله عز وجل:"ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" [يونس: 99] ومعنى الحديث أن خبر هذا الدين وشيوعه ينتشر انتشاراً كثيراً وأن ذكره سيصل كل بيت وهذا متحقق بوسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية فإن خبر الإسلام يدخل في كل بيت حتى في مجاهل أفريقيا وأمريكا سواءً كان وصول الخبر من طريق أهل الإسلام للدعوة إليه أو من طريق أعدائه للتحذير منه، وهذا محسوس وملموس ولم يرد في الحديث أن كل فرد من أهل البيت يدخل في الدين، وإنما الذي دل عليه الحديث دخول الدين في البيت وهذا يعني دخول الخبر، ودخول الدين غير الدخول فيه وإنما تضمن الحديث البشارة بأن هذا الدين سينتشر انتشاراً كثيراً كما جاء في الحديث الصحيح قوله -صلى الله عليه وسلم-:"إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وأن ملك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها" مسلم (2889) وملك الأمة على هذه الرقعة الكبيرة من الأرض لا يلزم منه إسلام جميع أفراد من يعيش عليها بل يوجد منهم من لم يدخل في الإسلام، ولذلك شرعت الجزية على من بقي من اليهود والنصارى والمجوس بين أظهر المسلمين.
وقال الألباني -رحمه الله- حول هذا الحديث عبارة جميلة ونصها "ومما لا شك فيه أن تحقيق هذا الانتشار يستلزم أن يعود المسلمون أقوياء في معنوياتهم ومادياتهم وسلاحهم حتى يستطيعوا أن يتغلبوا على قوى الكفر والطغيان وهذا ما يبشرنا به الحديث.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(2/3)
ربا العباس بن عبد المطلب
المجيب أ. د. سليمان بن فهد العيسى
أستاذ الدراسات العليا بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/شروح حديثية
التاريخ 14/9/1424هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ورد في خطبة الوداع قول الرسول -عليه الصلاة والسلام-: "وإن ربا الجاهلية موضوع ... وأول ما أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب" ماذا يقصد بربا العباس أو ما هو ربا العباس الذي ألغاه النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ أسأل الله أن يحفظكم ويرعاكم.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فالجواب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال في الحديث المذكور"وإن ربا الجاهلية موضوع كله وأول ربا أضع ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله" مسلم (1218) ، قال النووي في شرحه لهذا الحديث في هذه الجملة إبطال أفعال الجاهلية وبيوعها، وقوله في الربا إنه موضوع كله، معناه الزائد على رأس المال، كما قال تعالى "وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم" [البقرة: 275] ، وهذا الذي ذكرته إيضاحاً، وإلا فالمقصود مفهوم من نفس لفظ الحديث، لأن الربا هو الزيادة، فإذا وضع الربا فمعناه وضع الزيادة، والمراد بالوضع الرد والإبطال، انتهى كلامه -رحمه الله- قلت وربا العباس الذي ألغاه الرسول - صلى الله عليه وسلم- هو من ربا الجاهلية الذي قال فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم- "وإن ربا الجاهلية موضوع كله" (سبق تخريجه) ، والربا إذا وضع يبقى رأس المال لمالكه، كما قال تعالى: "وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون" (سبق تخريجها) ، والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.(2/4)
الملك العضوض والملك الجبري
المجيب د. عبد الله بن وكيل الشيخ
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/شروح حديثية
التاريخ 14/4/1424هـ
السؤال
فضيلة الشيخ: حفظه الله آمل من فضيلتكم شرح الحديث الآتي: تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً، فيكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم يكون ملكاً جبرياً، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت. رواه أحمد 273/4: ثنا سليمان بن داود الطيالسي: ثنا داود بن إبراهيم الواسطي: ثنا حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير قال: كنا قعوداً في المسجد _ وكان بشير رجلاً يكف حديثه _ فجاء أبو ثعلبة الخشني، فقال: يا بشير بن سعد! أتحفظ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأمراء؟ فقال حذيفة: أنا أحفظ خطبته. فجلس أبو ثعلبة، فقال حذيفة: (فذكره مرفوعاً) . قال حبيب: فلما قام عمر بن عبد العزيز - وكان يزيد بن النعمان بن بشير في صحابته - فكتبت إليه بهذا الحديث أذكره إياه، فقلت له: إني أرجو أن يكون أمير المؤمنين - يعني: عمر - بعد الملك العاض والجبرية. فأدخل كتابي على عمر بن عبد العزيز، فسر به وأعجبه. (والحديث حسن على أقل الأحوال إن شاء الله تعالى) ، (ومن البعيد عندي حمل الحديث على عمر بن العزيز؛ لأن خلافته كانت قريبة العهد بالخلافة الراشدة، ولم يكن بعد ملكان: ملك عاض وملك جبرية والله أعلم. ملاحظة: أرجو بيان معنى كلمة ملكاً عاضاً وجبرياً.
الجواب
هذا الحديث حسن أخرجه أحمد (30/355 حديث 18406) ، والبزار والطبراني في الأوسط (6577) وسند أحمد حسن فيه داود بن إبراهيم الواسطي روى عنه الطيالسي ووثقه وذكره ابن حبان في الثقات [يراجع تحقيق المسند طبعة الرسالة (30/355) ] .
وهذا الحديث خبر منه - صلى الله عليه وسلم - عن أمر أمته وأنها تمر بخمس أحوال:
الحالة الأولى: حال النبوة وهو أكمل أحوالها حيث يوجد نبيها - عليه السلام - ويتنزل الوحي إليه، ويرشد الأمة إلى الحق والخير.
والحالة الثانية: خلاف على منهاج النبوة، وهي تلك الفترة الذهبية من عمر هذه الأمة، وقد جاء تحديدها في الحديث الذي رواه سفينة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: سمعت رسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: الخلافة ثلاثون عاماً ثم يكون بعد ذلك الملك، قال سفينة: أمسك؛ خلافة أبي بكر سنتين، وخلافة عمر عشر سنين، وخلافة عثمان اثنتي عشرة سنة وخلافة علي ست سنين" رواه أحمد (حديث 21919) وأبو داود (4647) ، والترمذي (2226) وابن حبان (6943) وغيرهم، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وإنما سميت هذه الفترة بالخلافة كما في بعض الروايات، وبخلافة النبوة في روايات أخرى، لأن الخلفاء صدقوا هذا الاسم بأعمالهم، وتمسكوا بسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، والتزموا الشرع في أحكامهم، كما قاله حميد بن زنجوية فيما نقله عنه البغوي في شرح السنة.(2/5)
الحالة الثالثة: الملك العضوض وهو الذي يصيب الرعية فيه عسف وظلم، كأنه معضوض فيه عضاً، ويقال عضوض بضم العين وأعضاد جمع عض وهو الخبيث الشرس.
الحالة الرابعة الملك الجبري وهو الذي يكون فيه عتو وقهر.
الحالة الخامسة: خلافة على منهاج النبوة وقد سبق بيان معنى كونها على منهاج النبوة.
وهذا الحديث وما في معناه يبين فضل الخلافة على الملك لما في الملك من النقص من بعض الوجوه، ولذا لما خير الله نبيه - عليه السلام - بين أن يكون ملكاً أو يكون عبداً رسولاً اختار - صلى الله عليه وسلم - أن يكون عبداً رسولاً؛ كما جاء ذلك في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الذي أخرجه أحمد (7160) ، وابن حبان في صحيحه (6365) [السلسة الصحيحة حديث رقم 1002] ، وقد روى ابن سعد أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سأل سلمان - رضي الله عنه عن الفرق بين الخليفة والملك؟ فقال سلمان - رضي الله عنه- إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهماً أو أقل أو أكثر ثم وضعته في غير حقه فأنت ملك، أما الخليفة فهو الذي يعدل في الرعية، ويقسم بينهم بالسوية ويشفق عليهم شفقة الرجل على أهل بيته، والوالد على ولده، ويقضي بينهم بكتاب الله " [الطبقات الكبرى 3/306] .
على أنه مما ينبغي أن ينتبه له أن هذه الأحكام في الملك إنما هي في الجملة وإلا فقد يحصل من بعض الملوك من اتباع السنة ونشر الشريعة والجهاد في سبيل الله مثل ما يحصل في زمن الخلفاء، كما كان في عهد عمر بن عبد العزيز وبعض الملوك من بعده، ثم إنه يجوز إطلاق الخليفة على الملوك من بعد الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم-، وإنما اختص الخلفاء الراشدون -رضي الله عنهم- بكمال الخلافة، فقد روى الشيخان من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا " كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فيكثرون، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فُوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم [البخاري (3455) - الفتح 6/495، مسلم حديث رقم 1842] ، وعلى كل ففي الحديث بشارة لهذه الأمة أنه سيكون في آخرها خلافة النبوة، فيعز الإسلام وتعلو رايته وينتشر دين الله في الأرض، فعلى المسلم أن يثق بهذا الوعد الكريم، وأن يحدث نفسه بالجد في أن يكون من أسباب تحقق هذا الوعد.
وما ذكره السائل من استبعاد أن يكون عمر بن عبد العزيز من الخلفاء بعد فترة الملكين حق، خاصة وأن الخلافة الأخيرة التي على منهاج النبوة هي خاتمة هذه الأمة أو قرب خاتمتها، فلعل سروره - رضي الله عنه - لما ستكون عليه خاتمة الأمة.
للتوسع [مجموع الفتاوى 35/18 وما بعدها، تحفة الأحوذي 9/70 وما بعدها، عون المعبود 13/397) .(2/6)
حديث الأعمى (لا أجد لك رخصة) وتخلف المعذور عن الجماعة
المجيب أ. د. سليمان بن فهد العيسى
أستاذ الدراسات العليا بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/شروح حديثية
التاريخ 9/10/1424هـ
السؤال
مما أشكل علي بالنسبة لحديث الأعمى الذي أمره الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة في المسجد بعد أن سأله "هل تسمع النداء" فأجاب بنعم، ما جاء فيه من قرائن كثيرة تدل على تعذُّر الصلاة في المسجد لهذا الأعمى، فقد جاء في الحديث أنه أعمى، ولا يجد من يقوده، وأن بينه وبين المسجد وادياً أو نحو هذا فيه سباع وعقبات، ومن المعلوم أن الشرع خفَّف على من أصابه مطر يبل الثياب ويحدث الوحل بأن يصلي في بيته، فكيف بهذا الأعمى الذي اجتمعت فيه الموانع كلها؟
وسؤالي هل من الممكن إزالة هذا الإشكال، فهل هذا الحديث صحيح أصلاً (لأن الكثيرين يستشهدون به) ؟ وهل هو منسوخ (لأني سمعت بعض العلماء يقول إن الأعمى عليه أن يستأجر من يقوده للمسجد) ؟ الرجاء إزالة هذا الإشكال مأجورين.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
إن حديث ابن أم مكتوم الأعمى قد ورد بعدة روايات، فقد رواه مسلم (653) وغيره، وجاء فيه أنه ليس له قائد يلازمه، وأنه يسمع النداء، وفي بعض الروايات بينه وبين المسجد أشجار ونخيل، والرسول - صلى الله عليه وسلم - لما قال له: أتسمع النداء قال: نعم، قال: "أجب فإني لا أجد لك رخصة"، قال النووي في المجموع شرح المهذب (4/192) ، بعد ما ذكر أن حديث الأعمى من أدلة القائلين بأن الجماعة فرض عين، قال في الإجابة عنه: وأما حديث الأعمى فجوابه ما أجاب عنه الأئمة الحفاظ الفقهاء: أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة والحاكم أبو عبد الله والبيهقي، قالوا لا دلالة فيه لكونها فرض عين، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص لعتبان حين شكا بصره أن يصلي في بيته وحديثه في الصحيحين البخاري (425) ، ومسلم (33) قالوا وإنما معناه لا رخصة لك تلحقك بفضيلة من حضرها، انتهى.(2/7)
أقول وحديث عتبان المذكور جاء فيه أنه جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله إني قد أنكرت بصري وأنا أصلي لقومي فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم ولم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي لهم، وودت أنك يا رسول الله تأتي تصلي في مصلى فأتخذه مصلى، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أفعل إن شاء الله ... " الحديث، وقد فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلى في مكان في بيته، قلت وأرى أن الجواب الذي ذكره النووي عن بعض الأئمة عن حديث ابن أم مكتوم الأعمى، والاستدلال بحديث عتبان غير مقنع، للفرق بين مضمون كل من الحديثين في نظري، فابن أم مكتوم جاء يطلب رخصة مستمرة ليصلي في بيته فلم يرخص له، وعتبان ذكر في طلبه أنه إذا كانت الأمطار سال الوادي وحال بينه وبين مسجد قومه.... الخ فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكان في بيته ليصلي فيه النوافل مطلقاً والفريضة عند الحاجة، وهذا هو الجواب عن الإشكال الوارد في السؤال؛ كيف لم يعذر هذا الأعمى ... في ترك الجماعة، وجاء العذر في حال المطر الذي يبل الثياب أو الوحل، وذلك لما تقدم من الفرق بين العذر المستمر لعذر الأعمى، والعذر الطارئ كالمطر والوحل، وكالجمع والقصر لعذر السفر وغير ذلك. والله أعلم.(2/8)
معنى "حتى يحب لأخيه"
المجيب محمد بن عبد المحسن المطلق
مدرس العلوم الإسلامية بثانوية صقلية
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/شروح حديثية
التاريخ 14/5/1424هـ
السؤال
لقد استمعت إلى جزء من محاضرة لأحد المشايخ في إحدى الإذاعات، وقد كان يتحدث عن حديث "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، ففسر معنى الأخ بأنه ليس أخا الإسلام وإنما الأخ في الإنسانية ككل، بالتالي لا يؤمن أحد حتى يحب للكافر مثلاً الهداية، وعليه كيف يمكن أن نوفق بين هذا المعنى، وبين ما الدعاء على الكفار؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد:
فإن لفظ الأخوة في الحديث الذي ذكرتيه المراد به هو أخوة الدين؛ لأن الكافر ليس أخاً لنا في الدين، قال تعالى "إنما المؤمنون إخوة" [الحجرات: 10] ، وهذا أسلوب حصر، فحصر الأخوة في المؤمنين، وقال تعالى عن الكفار كما في سورة التوبة: "فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين" [التوبة: 11] ، فيفهم من الآية أن المشركين إذا لم يتوبوا من شركهم ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فليسوا إخوة لنا في الدين، وليس في الدين ولاء يقوم على الإنسانية، وهذا المصطلح أحدثه الغربيون ليقربوا بين الدين الإسلامي والنصرانية واليهودية، وما ورد من إطلاق لفظ الأخوة على الكفار في سورة الشعراء والأعراف من قبل بعض الأنبياء كقوله - تعالى -: "وإلى عاد أخاهم هودا" [الأعراف: 65] ، وقوله تعالى: "وإلى مدين أخاهم شعيبا" [الأعراف: 85] ، فهذا من باب القرابة من جهة النسب، فهو أخوهم من النسب، لأنه من قبيلتهم، حيث كانت الأنبياء تبعث في أقوامهم، ومما يوضح أن هؤلاء الكفرة ليسوا إخوة لنا في الدين، بل هم شر الخليقة كما في قوله - تعالى -: "إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية" [البينة: 6] ، ومن أصول الدين الولاء والبراء؛ الولاء للمؤمنين والبراءة من المشركين، بل إن إبراهيم -عليه السلام- تبرأ من المشركين قبل البراءة من الشرك؛ كما ذكر الله ذلك في سورة الممتحنة، لكن لا يمنع هذا من الإحسان إلى الكفرة الذين لم يقاتلونا، ولم يظاهروا على إخراجنا، خاصة إذا كانوا أقارب، كما في سورة الممتحنة، والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(2/9)
معنى حديث "العبادة في الهرج كهجرة إلي"
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/شروح حديثية
التاريخ 17/7/1424هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فضيلة الشيخ: قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-فيما معنى الحديث "العبادة في الهرج كهجرة إلي"
(1) ما هو الهرج؟
(2) وهل القيام بأي عبادة سواء كانت فرضاً، أم نافلة، أو ذكراً من الأذكار، أو غير ذلك يكون كالهجرة؟
(3) وهل ورد في الوحيين ذكر لأجر الهجرة؟
(4) لماذا كانت العبادة في الهرج بهذا الأجر؟ أو لماذا حرص المصطفى -صلى الله عليه وسلم- على الحث عليها في الهرج؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعد:
هذا الحديث أخرجه مسلم (2948) ، والإمام أحمد (20298) ، والترمذي
(220) من حديث معقل بن يسار -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "العِبَادة في الهَرْجِ كهِجْرةٍ إليَّ"، وعند الإمام أحمد: " العمل في الهَرْجِ ... "
الهَرْج: أصل الهرج في اللغة الاختلاط، ومنه هرج الرجل في حديثه خلط، وهَرَّجَ الناس: اختلطوا واختلفوا، والمراد به في الحديث: القتل والفتن. وقد شبَّه النبي -صلى الله عليه وسلم- العبادة في الهرج- وهو زمن ظهور الفتن والقتل، واختلاط أمور الناس - بالهجرة إليه عليه الصلاة والسلام، ووجه الشبه: أن المهاجر قد فرَّ بدينه من دار الكفر وأهله إلى دار الإيمان وأهله، والمتعبد في الهرج قد اعتصم بعبادة ربه من الفتن، وتمسَّك بدينه، واتبع ما يحبه الله ويرضاه، وتجنب ما يسخطه، ونبذ ما يكون عليه الناس في زمن الفتن من اتباع الأهواء والآراء المنحرفة، التي تصد عن دين الله.
وهناك معنى آخر: وهو ما يحصل في زمن الفتن، من انشغال الناس وغفلتهم عن العبادة؛ بحيث لا يتفرغ لها إلا القليل من الناس، فبذلك يعظم أجرها وثوابها، ثم ما يكون في لزوم العبادة من زيادة الإيمان، ورسوخ اليقين الذي يظهر أثره على المتعبد فتحصل له العصمة -بإذن الله- من الفتن، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم. يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً. يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا" أخرجه مسلم ح (118) ، والعبادة - المنوه بفضلها في زمن الهرج - يدخل فيها جميع أنواع العبادة من الصلاة، والصيام، والصدقة، والحج، والعمرة، والذكر، وقراءة القرآن، وغير ذلك.
وأما عن فضل الهجرة، فقد ورد في القرآن والسنة ما يدل على فضلها ومنزلتها، وامتداح أهلها قال الله -عز وجل-: "وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً" [النساء:100] قال سبحانه: "وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" [التوبة:100] وقال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" [البقرة:218] .
وورد في السنة أحاديث كثيرة تدل على فضل الهجرة وعظيم ثوابها، وتكفيرها للذنوب ومن ذلك: ما أخرجه مسلم (121) من حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه- عندما جاء يبايع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأراد أن يشترط، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها ... "، وكذلك ما أخرجه مسلم (116) من حديث الطفيل بن عمرو الدوسي -رضي الله عنه- عندما هاجر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- ومعه رجل آخر من قومه فقتل هذا الرجل نفسه، فرآه الطفيل في المنام في هيئة حسنة، فقال له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وما أخرجه النسائي (780) من حديث أبي مسعود - رضي الله عنه- قال: قال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله وأقدمهم قراءة فإن كانوا في القراءة سواء فيؤمهم أقدمهم هجرة ... "، وما جاء في الصحيحين البخاري (1296) ، ومسلم (1628) من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " اللهم امض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم....."، وهذا يدل على فضل الهجرة، وحرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه كي يفوزوا بفضلها، ولا يفوتهم ما ادخر الله لهم من أجلها من أجر عظيم وثواب جزيل. هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(2/10)
الجرس في البيت
المجيب د. حسين بن عبد الله العبيدي
رئيس قسم الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/شروح حديثية
التاريخ 1/2/1425هـ
السؤال
ما حكم الجرس عند دخول البيت؟ وهل يدخل ضمن هذا الحديث (لا تدخل الملائكة بيتاً فيه الجرس) ؟ جزاكم الله خيراً.
الجواب
ورد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه جرس" رواه أبو داود (4231) ، وأحمد (25521) من حديث عائشة - رضي الله عنها-، والمراد بالملائكة هنا ملائكة الرحمة ونحوهم، وجاء التعليل لذلك بأن الجرس من مزامير الشيطان، والملائكة بضده، لكن لما دعت الحاجة إلى وضع ما ينبه خصوصاً مع اتساع البيوت، لذا فإنه ينبغي للإنسان أن يتخذ منبهاً من غير الأجراس أو الموسيقى؛ لئلا يكون داخلاً ضمن النهي الوارد في هذا الحديث. وبالله التوفيق.(2/11)
هل الكراهية للحديث بعد العشاء مطلقة!
المجيب عبد الحكيم محمد أرزقي بلمهدي
كلية الشريعة/ جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/شروح حديثية
التاريخ 29/05/1427هـ
السؤال
سمعنا أنه ينبغي النوم بعد صلاة العشاء , فهل هذا صحيح؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يكره النوم قبل العشاء، والحديث بعدها. ففي الصحيحين عن أبي برزة الأسلمي -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يكره النوم قبل العشاء، والحديث بعدها صحيح البخاري (547) ، وصحيح مسلم (647) .
وقد ذكر العلماء علة ذلك، منها ما قاله القاضي عياض، والنووي، وابن حجر وملخصه: أن سبب كراهة النوم قبلها أنه يعرضها لفوات وقتها باستغراق النوم، أو لفوات وقتها المختار والأفضل، ولئلا يتساهل الناس في ذلك، فيناموا عن صلاتها جماعة.
وسبب كراهة الحديث بعدها أنه يؤدي إلى السهر، ويخاف منه غلبة النوم عن قيام الليل، أو الذكر فيه، أو عن صلاة الصبح في وقتها الجائز، أو في وقتها المختار أو الأفضل. ولأن السهر في الليل، سبب للكسل في النهار عما يتوجب من حقوق الدين، والطاعات، ومصالح الدنيا.
ثم إن المكروه من الحديث بعد العشاء هو ما كان في الأمور التي لا مصلحة فيها، أما ما فيه مصلحة وخير فلا كراهة فيه؛ وذلك كمدارسة العلم، وحكايات الصالحين، ومحادثة الضيف، والعروس للتأنيس، ومحادثة الرجل أهله وأولاده للملاطفة والحاجة، ومحادثة المسافرين بحفظ متاعهم أو أنفسهم، والحديث في الإصلاح بين الناس، والشفاعة إليهم في خير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإرشاد إلى مصلحة ونحو ذلك. فكل هذا لا كراهة فيه. وقد جاءت أحاديث صحيحة ببعضه والباقي في معناه ... ثم كراهة الحديث بعد العشاء المراد بها بعد صلاة العشاء لا بعد دخول وقتها. واتفق العلماء على كراهة الحديث بعدها إلا ما كان في خير، كما ذكرناه. والله أعلم.(2/12)
حديث"رأيت ربي في أحسن صورة"
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/شروح حديثية
التاريخ 18/5/1425هـ
السؤال
السلام عليكم.
أريد شرحاً لحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم- الذي ورد فيه قوله: "رأيت الله في أحسن صورة.."، ولعل هذه الجملة التي أحتاج شرحاً لها بالتفصيل. وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وبعد:(2/13)
الجملة المذكورة في السؤال وردت في حديث معاذ - رضي الله عنه-، والحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند (5/243) ح (22162) قال: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا جهضم - يعني اليمامي- حدثنا - يحي يعني بن أبي كثير- حدثنا زيد يعني بن أبي سلام- عن أبي سلام- وهو زيد بن سلام بن أبي سلام نسبه إلى جده- أنه حدثه عبد الرحمن بن عياش الحضرمي عن مالك بن يخامر أن معاذ بن جبل - رضي الله عنه- قال- احتبس علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ذات غداة عن صلاة الصبح، حتى كدنا نتراءى قرن الشمس، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم- سريعاً فثوب بالصلاة وصلى وتجوز في صلاته، فلما سلم قال: "كما أنتم على مصافكم"، ثم أقبل إلينا فقال: "إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة، إني قمت من الليل، فصليت ما قدر لي، فنعست في صلاتي حتى استثقلت فإذا أنا بربي - عز وجل- في أحسن صورة، فقال يا محمد: أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري يا رب قال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري رب فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين صدري فتجلى لي كل شيء وعرفت، فقال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفارات، قال: وما الكفارات؟ قلت: نقل الأقدام إلى الجمعات وجلوس في المساجد بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء عند الكريهات، قال: وما الدرجات؟ قلت: إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة والناس نيام، قال: سل، قلت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة في قوم، فتوفني غير مفتون، وأسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقربني إلى حبك" وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "إنها حق فادرسوها وتعلموها" أخرجه الترمذي ح (3235) ، وقال: حديث حسن صحيح، وسألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث حسن صحيح. وصححه الإمام أحمد كما في التهذيب (6/205) : والرؤية المذكورة في الحديث رؤيا منام لا يقظة، وهذا ظاهر من قوله في الحديث: "فنعست في صلاتي حتى استثقلت ... " وفي المسند: "حتى استيقظت"، وقال الحافظ ابن كثير- بعد أن أورد الحديث-: (فهذا حديث المنام المشهور ومن جعله يقظة فقد غلط) ، وأما ما جاء في هذا الحديث من وصف النبي - صلى الله عليه وسلم- لربه، فهو حق يجب الإيمان به من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه، كما قال -عز وجل- عن نفسه: "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" [الشورى من الآية: 11] ، قال الحافظ ابن رجب: "وأما وصف النبي - صلى الله عليه وسلم- لربه عز وجل بما وصفه به فكل ما وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - به ربه عز وجل فهو حق وصدق يجب الإيمان والتصديق به كما وصف الله عز وجل به نفسه مع نفي التمثيل عنه، ومن أشكل عليه فهم شيء من ذلك واشتبه عليه فليقل كما مدح الله تعالى به الراسخين في العلم وأخبر عنهم أنهم يقولون عند المتشابه: "آمنا به كل من عند ربنا" [آل عمران من الآية: 7] ، وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم- في القرآن: "وما جهلتم منه فكلوه إلى عالمه" خرجه الإمام أحمد (6702) ، ولا يتكلف ما لا علم له به فإنه يخشى عليه من ذلك الهلكة، وقد أفرد الحافظ ابن رجب - رحمه الله- شرح الحديث في كتاب مستقل، وهو:
"اختيار الأولى في شرح حديث الملأ الأعلى"، وهو كتاب نفيس توسع فيه ابن رجب في شرح الحديث، فيحسن الرجوع إليه. هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(2/14)
هل يقتضي حديث: "سياحة أمتي الجهاد" تحريم السياحة للنزهة؟!
المجيب سامي بن عبد العزيز الماجد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/شروح حديثية
التاريخ 5/8/1424هـ
السؤال
السلام عليكم.
يدَّعي بعض الناس أن السفر لغرض السياحة محرَّم، وهم يستندون في دعواهم على حديث: "سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله" نرجو التكرم بإيضاح الأمر بالتفصيل على ضوء الحديث أعلاه.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
السياحة المنهي عنها في بعض الأحاديث والآثار، والتي ذمها أهل العلم في القديم ليست بالسياحة التي تعارف الناس عليها اليوم، ولكنها سياحةُ العُبّاد والزهاد، وهي الذهاب في الأرض للتعبد والترهب واعتزال الناس، وقد كانت هذه السياحة مما يتعبد به رهبان النصارى.
وقد عقد أبو داود -رحمه الله- في سننه باباً سماه: بابٌ في النهي عن السياحة (سنن أبي داود/ كتاب الجهاد) وأورد فيه حديث أبي أمامة - رضي الله عنه- أن رجلاً قال: يا رسول الله! ائذن لي في السياحة. فقال: "إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله". كما أخرجه الحاكم 2/83 وصححه، والبيهقي 9/161، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2172) .
قال ابن تيمية (مجموع الفتاوى (10/642) : (السياحة في البلاد لغير قصد شرعي، كما يفعله بعض النساك ـ أي ذهابهم في الأرض للتعبد والترهب واعتزال الناس ـ أمرٌ منهي عنه) ، قال الإمام أحمد: (ليست السياحة من الإسلام في شيء، ولا هي من فعل النبيين والصالحين) أهـ.
وقال ابن كثير في تفسيره "عند تفسيره للآية 112 من سورة التوبة": (وليس المراد من السياحة ما قد يفهمه بعض من يتعبد بمجرد السياحة في الأرض والتفرد في شواهق الجبال والكهوف والبراري، فإن هذا ليس بمشروع إلا في أيام الفتن والزلازل في الدين) أهـ.
ويقابل هذه السياحة المذمومة سياحةٌ شرعية مستحبة، ندب الله إليها بالثناء على أهلها في كتابه، كما في قوله تعالى: "التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ" [التوبة: من الآية112] وفي وقوله: "مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً" [التحريم: من الآية5] .
وذهب جمهور المفسرين إلى أن المقصود بهذه السياحة هو الصيام، روي ذلك عن ابن عباس وعائشة - رضي الله عنهم- ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح والضحاك وابن عيينة وغيرهم.
وعلى ما تقدم فإن كل سياحة رغب إليها القرآن فهي التقرب إلى الله بالصيام، وكل سياحة ذمّها أهل العلم السابقون فهي سياحةُ العُبّاد والزهاد، وهي الذهاب في الأرض للتعبد والترهب واعتزال الناس.
وأما السياحة بمفهومها المعاصر وعرف الناس اليوم والتي تعني السفر للتنزّه والفرجة والاستمتاع وما إلى ذلك فمصطلح حادثٌ لا يصح أن تُنزّل عليه النصوص التي سيقت فيها السياحة مدحاً أو ذماً.(2/15)
وظاهرٌ من صورة السياحة بمفهومها المعاصر أنها مندرجة في حكم السفر، فإن كانت السياحة بقصد مباح إلى مكان لا يحرم قصده فهي سياحة مباحة حتى وإن تخللها ارتكابٌ لمعصية، وهذا ما يسمى عند الفقهاء بالمعصية في السفر، وهو أن يكون أصل السفر مباحاً لكن ارتكب المسافر أثناءه معصيةً ما، أما العاصي بسفره فهو الذي أنشأ السفر لقصد محرم؛ كارتكاب فاحشة أو إبرام عقدٍ ربوي مثلاً، وهذا (العاصي بسفره) هو الذي يحرم عليه في قول كثير من أهل العلم أن يترخص بشيء من رخص السفر؛ لأن الرخص ـ عندهم ـ لا تُستباح بالمعصية.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(2/16)
شرح: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة"
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/شروح حديثية
التاريخ 26/12/1425هـ
السؤال
السلام عليكم.
هناك حديث: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة". أريد توضيح الحكم المستفاد من هذا الحديث، وهل هناك أي اختلاف بين العلماء بهذا الشأن؟ جزاكم الله خيرًا.
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله، وبعد:
الحديث المشار إليه في السؤال أخرجه مسلم (710) ، والترمذي (421) ، والنسائي (865) ، من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةُ ".
والحديث يدل على النهي عن الاشتغال بالنافلة بعد الشروع في إقامة الصلاة، سواء كانت النافلة راتبة الفجر أو غيرها، وقد جاء في رواية: (قِيلَ: يَا رَسُول اللَّهِ، وَلَا رَكْعَتَيْ الْفَجْر؟ قَالَ: "وَلَا رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ". أخرجها ابن عدي 7/246 والبيهقي 2/483 وحسّن إسنادها الحافظ في الفتح (2/149) .
وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من صلى ركعتي الفجر وقد أقيمت الصلاة، ففي الصحيحين: البخاري (663) ، ومسلم (711) ، من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكِ بْنِ بُحَيْنَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِرَجُلٍ يُصَلِّي، وَقَدْ أُقِيمَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ، فَكَلَّمَهُ بِشَيْءٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ، فَلَمَّا انْصَرَفْنَا أَحَطْنَا نَقُولُ: مَاذَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: قَالَ لِي: "يُوشِكُ أَنْ يُصَلِّيَ أَحَدُكُمْ الصُّبْحَ أَرْبَعًا".
وقال أبو بكر الأثرم: سئل أحمد بن حنبل، وأنا أسمع، عن الرجل يدخل المسجد والإمام في صلاة الصبح ولم يركع الركعتين؟ فقال: يدخل في الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةُ ". واحتج أيضًا بقوله: "أَصَلاتَانِ مَعًا". أخرجه الترمذي (422) [التمهيد (22/74) ] .
وقد أشار غير واحد من الأئمة إلى الحكمة من هذا النهي، قال النووي، رحمه الله: (الحكمة فيه أن يتفرغ للفريضة من أولها فيشرع فيها عقب شروع الإمام، والمحافظة على مكملات الفريضة أولى من التشاغل بالنافلة) .
وقال القاضي عياض، رحمه الله: (وفيه حكمة أخرى: وهو النهي عن الاختلاف على الأئمة) . شرح النووي على مسلم (5/ 230) .
وأباح بعض العلماء صلاة ركعتي الفجر ولو بعد إقامة الصلاة، منهم من قيد ذلك بألا تفوته الركعة الأولى، ومنهم من قيده بألا تفوته الركعة الثانية، ومنهم من قيده بألا يكون ذلك في المسجد بل يكون خارج المسجد، قال مالك: إذا كان قد دخل المسجد فليدخل مع الإمام ولا يركعهما، وإن كان لم يدخل المسجد فإن لم يخف أن يفوته الإمام بركعة فليركع خارج المسجد، ولا يركعهما في شيء من أفنية المسجد.
وقال الثوري: إن خشي فوت ركعة دخل معهم ولم يصلهما، وإلا صلاهما وإن كان قد دخل المسجد.(2/17)
وقال الأوزاعي: إذا دخل المسجد يركعهما إلا أن يوقن أنه إن فعل فاتته الركعة الآخرة، فأما الركعة الأولى فيركع وإن فاتته.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن خشي أن تفوته الركعتان ولا يدرك الإمام قبل رفعه من الركوع في الثانية دخل معه، وإن رجا أن يدرك ركعة صلى ركعتي الفجر خارج المسجد ثم يدخل مع الإمام.
وقد استدلوا بدليلين:
1- أن ركعتي الفجر من السنن المؤكدة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يواظب عليها. انظر صحيح البخاري (1163) ومسلم (724) .
2- ما روي عن ابن مسعود، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أنه جاء والإمام يصلي الفجر، فصلى ركعتين إلى سارية، ولم يكن صلى ركعتي الفجر. أخرجه عبد الرزاق (4021) . وما روي عن ابن عمر، رضي الله عنهما، أنه دخل المسجد والناس في الصلاة، فدخل بيت حفصة، رضي الله عنها، فصلى ركعتين، ثم خرج إلى المسجد فصلى. أخرجه ابن عبد البر في التمهيد (22/ 75) .
والأولى الأخذ بما دل عليه عموم الحديث أنه إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة، والسنة هي الحجة عند التنازع.
وإذا تقرر ما سبق من النهي عن الشروع في النافلة بعد سماع الإقامة، فهل يقطع النافلة من كان داخلاً فيها بعد إقامة الصلاة؟ من العلماء من قال بقطع النافلة عند سماع الإقامة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةُ ".
قال العراقي: (إن قوله: " فَلَا صَلَاةَ ". يحتمل أن يراد: فلا يشرع حينئذٍ في صلاة عند إقامة الصلاة. ويحتمل أن يراد: فلا يشتغل بصلاة، وإن كان قد شرع فيها قبل الإقامة، بل يقطعها المصلي لإدراك فضيلة التحريم، أو أنها تبطل بنفسها، وإن لم يقطعها المصلي. يحتمل كلا من الأمرين) . [ينظر: نيل الأوطار (3/97) ] .
وخص بعض العلماء النهي في الحديث عن الشروع في النافلة بعد سماع الإقامة، أما من كان شارعًا فيها قبل الإقامة فلا يشمله النهي، وله أن يتمها بشرط أن لا تفوته الجماعة، وبعضهم لم يشترط ذلك، واستدلوا بعموم قوله تعالى: (وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) [محمد: 33] . ويمكن الإجابة عن الآية بأنها عامة والحديث خاص، فيخصص ما تضمنه الحديث من عموم الآية، ثم إن سياق الآية يدل على أن المقصود بالإبطال المعصيةُ من الشرك وغيره الذي يؤدي إلى إبطال العمل.
والذي يظهر - والله أعلم - أن المصلي إذا كان في نافلة وسمع الإقامة فإن أمكنه أن يتمها خفيفة ويدرك أول الصلاة مع الإمام بحيث لا تفوته الركعة الأولى من الصلاة فله ذلك، وإذا قطعها أخذًا بعموم الحديث فلا حرج. والله أعلم. هذا والله الموفق، والهادي إلى سواء السبيل.(2/18)
هل في هذا ما يقدح في عدالة الصحابة؟!
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/شروح حديثية
التاريخ 24/02/1426هـ
السؤال
السلام عليكم.
أرجو التكرم بشرح الحديث الذي في البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: لددنا النبي -صلى الله عليه وسلم- في مرضه، فجعل يشير إلينا أن لا تلدوني، فقلنا: كراهية المريض للدواء، فلما أفاق قال: "ألم أنهكم أن تلدوني؟ " قلنا: كراهية المريض للدواء، فقال: "لا يبقى أحد في البيت إلا لد وأنا أنظر إلا العباس فإنه لم يشهدكم". فإن الشيعة يستدلون به على لعن الصحابة-رضي الله عنهم-.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله. وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الحديث المشار إليه في السؤال أخرجه البخاري (4458) ، ومسلم (2213) من حديث عَائِشَةُ -رضي الله عنها- قالت: لَدَدْنَا النبي -صلى الله عليه وسلم- فِي مَرَضِهِ، فَجَعَلَ يُشِيرُ إِلَيْنَا أَنْ لَا تَلُدُّونِي، فَقُلْنَا: كَرَاهِيَةُ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: "أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ تَلُدُّونِي؟ " قُلْنَا: كَرَاهِيَةَ الْمَرِيضِ لِلدَّوَاءِ، فَقَالَ: "لَا يَبْقَى أَحَدٌ فِي الْبَيْتِ إِلَّا لُدَّ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَّا الْعَبَّاسَ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُم"ْ.
وأخرج عبد الرزاق في مصنفه (9754) وأحمد (27469) من حديث أسماء بنت عميس-رضي الله عنها- قالت: أول ما اشتكى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت ميمونة-رضي الله عنها-فاشتد مرضه حتى أغمي عليه، قال: فتشاور نساؤه في لده فلدوه، فلما أفاق قال: "هذا فعل نساء جئن من هؤلاء - وأشار إلى أرض الحبشة - وكانت أسماء بنت عميس-رضي الله عنها- فيهن قالوا: كنا نتهم بك ذات الجنب يا رسول الله، قال: "إن ذلك لداء ما كان الله ليقذفني به لا يبقين في البيت أحد إلا التدَّ إلا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم- يعني عباسا - فلقد التدت ميمونة-رضي الله عنها- يومئذ وإنها لصائمة لعزيمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. [صحح إسناده الحافظ في الفتح (8/148) ] .
ومعنى الحديث ظاهر وهو أن بعض الصحابة-رضي الله عنهم- ممن كان موجوداً عنده في مرضه أراد أن يداوي النبي -صلى الله عليه وسلم-عن طريق اللد.
واللد معناه: أن يُجعل في جانب فم المريض دواء بغير اختياره.
وقد جاء في رواية أحمد في فضائل الصحابة (1754) أنهم أذابوا قسطاً بزيت فلدوه به.
وعند ابن سعد 2/235-236 من طريق الواقدي - وهو ضعيف -: قال: فبما لددتموني؟ ، قالوا بالعود الهندي وشيء من ورسٍ، وقطرات زيت، وذلك لأن الصحابة-رضي الله عنهم- ظنوا أن به ذات الجنب، وهو ورم حار يعرض في الغشاء المستبطن، فلدوه بما يرونه ملائماً لدائه ومرضه، ونهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك؛ لأنه كان غير ملائم لمرضه، ولكنهم لم يستجيبوا، لحملهم نهي الرسول -صلى الله عليه وسلم- لهم على كراهية المريض للدواء، فأقدموا على لده، فعند ذلك أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يؤدبهم لتركهم امتثال نهيه صلى الله عليه وسلم.(2/19)
وأما العباس - رضي الله عنه - فلم يشهد الموقف بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ"، فلذلك استثناه النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وليس في الحديث غض من قدر الصحابة - رضي الله عنهم - فما فعلوه هو من تمام شفقتهم على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكمال محبتهم له، حيث رغبوا أن يبذلوا ما يستطيعون من أسباب لكي يستعيد النبي -صلى الله عليه وسلم- عافيته، ولكن اجتهادهم حملهم على تأويل نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، وأنه قال ذلك من باب كراهية المريض للدواء، وأن المريض ولو كره الدواء يلزم به ويحمل عليه، ولما أمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يلد جميع من في البيت، بادروا إلى ذلك فلم يبق أحد في البيت إلا لد.
والصحابة - رضي الله عنهم - هم سادة الأمة فضلاً وعلماً ومنزلة، وكيف يستجيز أحدٌ سبهم والنيل منهم وهم خير القرون وأفضل الأمة بعد نبيها عليه الصلاة والسلام، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ" أخرجه البخاري (3673) ومسلم (2541) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.
ومن المعلوم أن الصحابة-رضي الله عنه- كلهم عدول، كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة وإجماع من يعتد بإجماعهم من الأمة، والطعن في عدالتهم وتنقصهم من سمات أهل الزندقة والضلال، قال أبو زرعة الرازي: (إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم- حق، والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما أدى ذلك كله إلينا الصحابة-رضي الله عنهم-، وهؤلاء الزنادقة يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، فالجرح بهم أولى) .(2/20)
وقال الخطيب: (عدالة الصحابة-رضي الله عنهم- ثابتة معلومة بتعديل الله لهم، وإخباره عن طهارتهم واختياره لهم في نص القرآن، فمن ذلك قوله تعالى: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ". وقوله: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً". وقوله: "لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً". وقوله تعالى: "وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ"، وقوله تعالى: "وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ". وقوله: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ". وقوله تعالى: "لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" في آيات يكثر إيرادها ويطول تعدادها ... ، وجميع ذلك يقتضي القطع بتعديلهم، ولا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله -تعالى- له إلى تعديل أحدٍ من الخلق له، على أنه لو لم يرد من الله -عز وجل- ورسوله-صلى الله عليه وسلم- فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد، ونصرة الإسلام، وبذل المهج والأموال، وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين، القطع على عدالتهم والاعتقاد لنزاهتهم وأنهم أفضل من جميع الخالفين بعدهم، والمعدلين الذين يجيؤن من بعدهم، هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتد بقوله من الفقهاء) [الكفاية في علم الرواية ص: 46-48، والإصابة في تميز الصحابة (1/ 11) ] .
وقال ابن الصلاح: (للصحابة بأسرهم خصيصة وهي أنه لا يسأل عن عدالة أحد منهم، بل ذلك أمر مفروغ منه؛ لكونهم على الإطلاق معدلين بنصوص الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به في الإجماع من الأمة) . هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(2/21)
الحكمة في عدم الاسترقاء
المجيب عبد الرحمن بن ناصر البراك
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/شروح حديثية
التاريخ 16/1/1424هـ
السؤال
لماذا خص النبي - صلى الله عليه وسلم - في السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عقاب "ولا يسترقون" دون سائر أنواع الاستطباب؟
الجواب
الحمد لله، الاسترقاء هو طلب الرقية من الغير، وسؤال الغير فيه ميل إلى المخلوق واحتياج إليه وقد دلت النصوص على أن من كمال التوحيد عدم سؤال الناس، وقد بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة من أصحابه - رضوان الله عليهم - على أمور منها: ألا يسألوا الناس شيئاً حتى كان أحدهم يسقط سوطه فينزل من على دابته فيأخذه ولا يسأل أحداً أن يناوله إياه كما جاء في صحيح مسلم (1043) ، وفي ذلك تحقيق استغناء العبد عن المخلوقين، فالاسترقاء تركه أولى، وأما إذا رقى الإنسان نفسه أو رقاه أخوه متبرعاً دون طلب فإنه لا كراهة في ذلك. إنما المكروه أن يطلب الإنسان الرقية من الغير، كما يدل عليه لفظ الاسترقاء، فإن السين والتاء في الفعل تدل على الطلب كالاسترقاء والاستعانة وما أشبه ذلك، فهؤلاء السبعون ألفاً من كمال توحيدهم وكمال استقامتهم تحقيق مقام التوكل على الله وذلك باجتناب كل ما ينافيه أو ينقصه ومن ذلك أنهم يتركون الأسباب المتضمنة لما ينقص كمال التوكل عليه سبحانه وتعالى ولهذا قال في وصفهم "لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون" أخرجه البخاري
(5705) ، ومسلم (220) ، والله أعلم.(2/22)
معنى "من خاف أدلج ... "
المجيب د. محمد بن تركي التركي
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/شروح حديثية
التاريخ 17/9/1424هـ
السؤال
ما معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل) ؟
الجواب
معنى الحديث أن من خاف من عدو ونحوه أدلج، ومعنى أدلج أي سار أول الليل، فإذا سار أول الليل بلغ منزله ومأمنه.
قال المنذري: ومعنى الحديث أن من خاف ألزمه الخوف إلى السلوك إلى الآخرة، والمبادرة بالأعمال الصالحة خوفاً من القواطع والعوائق، وقال الرامهرمزي في أمثال الحديث: ومعناه من خاف النار جد في العمل، ومن جد في العمل وصل إلى الجنة، فجعل خائف النار بمنزلة المسافر الذي يخاف فوت المنزل فيرحل مدلجاً. انتهى.
وللحافظ ابن رجب الحنبلي كتاب جيد في شرح هذا الحديث، أنصح السائل بقراءته واسمه: المحجة في سير الدلجة، والله أعلم.(2/23)
معنى حديث: "الأئمة من قريش"
المجيب د. عبد الله بن عمر الدميجي
عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/شروح حديثية
التاريخ 8/2/1425هـ
السؤال
ما هو تفسير قول الرسول - صلى الله عليه وسلم-: "الأئمة من قريش" وشكراً لكم.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه، وبعد:
فهذا الحديث المتفق على صحته من الأحاديث المتواترة فرواه أحمد (12489 - 19278) والحاكم في المستدرك (6962) وغيرهما، وقد ذكر الحافظ ابن حجر أنه جمع طرقه عن نحو أربعين صحابيًّا - رضي الله عنهم-، فتح الباري (7/32) ، وقد انعقد الإجماع على اشتراط القرشية في الخليفة الذي يختاره أهل الحل والعقد إماماً للمسلمين، حكى هذا الإجماع النووي والقاضي عياض، والماوردي، وغيرهم، ولم يخالف في ذلك إلا ما حكي عن بعض الخوارج، وبعض المتكلمين، وقلة من المعاصرين.
أما تفسيره فهو من ظاهره، وهو أنه يشترط في الخليفة العام للمسلمين أن يكون قرشياً، قال النووي: (هذه الأحاديث وأشباهها دليل ظاهر على أن الخلافة مختصة بقريش، لا يجوز عقدها لأحد من غيرهم، وعلى هذا انعقد الإجماع في زمن الصحابة- رضي الله عنهم- والتابعين، فمن بعدهم بالأحاديث الصحيحة) أ. هـ، شرح مسلم (12/200) ، وقد اشترط ذلك الأئمة الأربعة، وقال به الإمام أبو حنيفة في رواية زرقان عنه (أصول الدين ص275) ، وقال الإمام مالك: ولا يكون الإمام إلا قرشياً وغيره لا حكم له إلا أن يدعو إلى الإمام القرشي) ، أحكام القرآن لابن العربي (4/1721) ، ونص على ذلك الشافعي في الأم (1/143) ، وقال الإمام أحمد في رواية الاصطخري: الخلافة في قريش ما بقي من الناس اثنان ليس لأحد من الناس أن ينازعهم فيها، ولا يخرج عليهم، ولا يُقر لغيرهم بها إلى قيام الساعة) طبقات الحنابلة (1/26) .
لكن هذا الشرط لا يشترط في ولاية الأقاليم، ولا يشترط إلا عند الاختيار من أهل الحل والعقد، أما الإمام المتغلب الذي غلب على الحكم بالقوة فلا يشترط فيه القرشية؛ بدليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم-: "اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة" رواه البخاري (693) من حديث أنس - رضي الله عنه -، فالحديث أوجب الطاعة لكل إمام، وإن كان عبداً حبشيًّا. والله أعلم.(2/24)
إن يك في أمتي محدثون فإنه عمر
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/شروح حديثية
التاريخ 1/9/1424هـ
السؤال
ما معنى حديث (إن يكن منكم محدثون ... فإنه عمر) ؟ وهل من الممكن أن يعلم أحد من الناس الغيب المستقبل (غير نبي) ؟ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. وبعد:
هذا الحديث أخرجه البخاري ح (3689) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد كان فيما قبلكم من الأمم ناس محدثون،
فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر " وأخرجه مسلم ح (2398) من حديث عائشة رضي الله عنها. المحدثون - بفتح الدال -: جمع محدث، وهو الملهم، بهذا فسره ابن وهب كما في صحيح مسلم، وفي مسند الحميدي - عقب حديث عائشة رضي الله عنها -: المحدث الملهم بالصواب الذي يلقى على فيه. والمعنى: أنهم يلقى في قلوبهم الصواب والحق فيجري على ألسنتهم، ويخبرون بالشيء فيقع كما أخبروا.... وفسره بعض العلماء بأن معناه أنهم مصيبون فيما يظنون من نوع الفراسة والتوسم ... وخص عمر رضي الله عنه بهذا لكثرة ما وقع له في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من الموافقات التي نزل القرآن مطابقاً لها، ووقع له بعد النبي صلى الله عليه وسلم أشياء عديدة حدث بها فأصاب كما في قصة: الجبل يا سارية. .وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وجود المحدثين في الأمم السابقة، وعلق وجودهم في هذه الأمة بـ " إن " الشرطية، مع أنها أفضل الأمم وأكرمها عند الله، - هذا والله أعلم - لاحتياج الأمم قبلنا إليهم في إصابة الحق حيث لا يكون حينئذ فيهم نبي، واستغناء هذه الأمة بالقرآن والسنة، لهذا لا يؤخذ بقول أحد محدث ولا ملهم حتى يعرض على الكتاب والسنة. وأما السؤال عن الغيب المستقبل، وهل يعلمه غير نبي؟ فيجاب بأن الغيب الحقيقي، وهو ما لا يمكن أن تدركه الحواس والعقول، فهذا على مرتبتين:
1- المرتبة الأولى: ما استأثر الله بعلمه، فهذا لا يطلع عليه أحد لا نبي مرسل ولا ملك مقرب، كعلم الساعة وسائر الأمور الخمسة التي هي مفاتح الغيب، قال سبحانه: " وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو......." [الأنعام: 59](2/25)
2- ما لم يرد فيه نص صريح أن الله سبحانه قد كتمه عن الخلق جميعا، فله سبحانه أن يطلع من يشاء من رسله على ما شاء منه، قال سبحانه: " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا " سورة [الجن: 26- 27] ، وقال سبحانه: " وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء..... " [آل عمران: 179] ، فالرسل عليهم الصلاة والسلام لا يعلمون شيئا من الغيب إلا ما أطلعهم الله عليه.... قالت عائشة رضي الله عنها: " من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول " قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله " [النمل: 65] أخرجه مسلم (177) .ولهذا نعرف ضلال من يدعي شيئا من علم الغيب الذي استأثر به الله، أو لم يمكن الخلق من أسباب معرفته مثل ما يدعيه المنجمون والكهنة وغيرهم من علم الغيب.(2/26)
معنى "يقادون إلى الجنة في السلاسل"
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/شروح حديثية
التاريخ 2/9/1424هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "عجب ربنا - عز وجل - من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل" رواه البخاري وأحمد وأبو داود، ما معنى الحديث، مع ذكر أمثلة للتوضيح؟ والسلام.
الجواب
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. وبعد:
الحديث أخرجه البخاري ح (3010) بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: " عجب ربنا من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل " وأخرجه ح (4557) بلفظ: " كنتم خير أمة أخرجت للناس "، قال: خير الناس للناس، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام". ومعنى الحديث أن الأسارى الذين يؤتى بهم إلى بلاد الإسلام وهم مقيدون بالسلاسل يمن الله عليهم بالإسلام فيدخلون الجنة ... ويكون دخولهم في الإسلام عن طواعية واختيار بعد ما يعلمون أنه الحق، فما حصل لهم من الأسر والتقييد سببا لما تحقق لهم من الخير. وذكر بعض العلماء: أن ذكر السلاسل ليس مقصوداً وإنما المراد أنهم يقادون إلى ديار الإسلام مكرهين فيدخلون في الإسلام، وقد حصل في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم والفتوحات الإسلامية أن المسلمين يأتون بالسبايا من المشركين من غير أن يكونوا مسلسلين أو مقيدين، فإذا عرفوا الإسلام وسمعوا القرآن أسلموا ... ويمكن أن يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في هذا الحديث طائفة من الأسارى يؤتى بهم على الصفة المذكورة، وهذا دليل على شدة نفورهم وكراهيتهم للمسلمين ومع هذا فيدخلون في الإسلام حينما يعلمون أنه الحق ويخالط الإيمان بشاشة قلوبهم. ويؤخذ من الحديث أن الله سبحانه وتعالى إذا أراد بالعبد خيراً هيأ له الأسباب التي توصله إليه وتدله عليه وإن كان كارهاً لهذه الأسباب، فربما أراد شخص - على سبيل المثال - أن ينتقل من بلد إلى بلد وهو كاره فيجد في البلد الذي انتقل إليه رفقة طيبة من أهل الخير والصلاح فينتفع بصحبتهم وتتغير حاله إلى الأفضل والأحسن، وربما تزوج شخص امرأة ولم يحبها ولكنه أمسكها ولم يطلقها فحصل له منها ذرية طيبة صالحة، ولهذا قال الله عز وجل:" فإن كرهتهموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً " سورة النساء آية 19(2/27)
مفهوم الولد في حديث "إذا مات ابن آدم انقطع عمله...."
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/شروح حديثية
التاريخ 17/08/1426هـ
السؤال
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث. منها ولد صالح يدعو له".
السؤال المطروح: هل الولد المقصود في الحديث الشريف هو الولد من الصلب أم الولد بشكل عام؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله، وبعد:
فمعنى الحديث أن عمل الميت ينقطع بموته، وينقطع تجدد الثواب له إلا بهذه الأشياء الثلاثة؛ لكونه كان سببها، فإن الولد من كسبه، وكذلك العلم الذي خلفه من تعليم أو تصنيف، وكذلك الصدقة الجارية وهي الوقف، وعلى هذا فالولد الصالح في الحديث هو ولد الإنسان من صلبه، ولكن إذا صدر الدعاء من المسلم لأخيه المسلم أو لمن له فضل عليه في تربية أو تعليم أو إحسان، فإن الدعاء ينتفع به الميت، ولهذا أثنى الله -سبحانه وتعالى- على المؤمنين الذين يأتون بعد إخوانهم ويدعون لهم: (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) [الحشر: 10] ، وفي دعاء التشهد: "السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُه، ُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ ذَلِكَ أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ" البخاري (5876) .
وأخرج مسلم (2732) من حديث أَبِي الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَدْعُو لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ إِلَّا قَالَ الْمَلَكُ: وَلَكَ بِمِثْلٍ".
وشُرع دعاء المسلم للأموات من المسلمين إذا مر بالمقبرة، ففي حديث بُرَيْدَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: كَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُهُمْ إِذَا خَرَجُوا إِلَى الْمَقَابِرِ، فَكَانَ قَائِلُهُمْ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَلَاحِقُونَ أَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ " أخرجه مسلم (975) .
وكذلك الدعاء للميت عند الصلاة عليه، ففي حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى الْمَيِّتِ فَأَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاءَ" أخرجه أبو داود (2784) .(2/28)
وفي حديث عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قال: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى جَنَازَةٍ فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ وَهُوَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَنَقِّهِ مِنْ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنْ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ، وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ أَوْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، قَالَ: حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْمَيِّتَ". أخرجه مسلم (963) .
وهذا كله يدل على انتفاع المسلم بدعاء أخيه المسلم، وأن ثواب الدعاء والصدقة يصل إلى الأموات، والله أعلم.(2/29)
شرح حديث "اللهم لك الحمد أنت نور السماوات ... "
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/شروح حديثية
التاريخ 06/06/1426هـ
السؤال
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو في الليل: "اللهم لك الحمد أنت رب السموات والأرض، لك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن، لك الحمد أنت نور السموات ... أنت إلهي لا إله غيرك" أرجو شرح الحديث.
الجواب
السلام عليكم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله، وبعد:
الحديث المشار إليه في السؤال أخرجه البخاري (1120) ، ومسلم (769) من حديث ابْنَ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ: " اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ وَمُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ. اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْت، ُ أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَوْ لَا إِلَهَ غَيْرُكَ".
شرح الحديث:
قول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ": أي إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل، وظاهر السياق أنه كان يقوله أول ما يقوم إلى الصلاة.
قوله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ": معنى الحمد: الثناء على الله -تبارك وتعالى- لما اتصف به من صفات الكمال والجلال والجمال، ولنعمه وآلائه على عباده، فهو المستحق للحمد دون سواه و "ال" في الحمد للاستغراق، أي جميع أصناف الحمد له سبحانه وتعالى.
قوله صلى الله عليه وسلم: "قَيِّمُ السَّمَوَاتِ": من صفاته سبحانه القيام والقيِّم والقيُّوم، ومعنى ذلك أن الله -سبحانه وتعالى- هو القائم بنفسه الدائم الذي لا يزول، وهو قيمٌ لأهل السموات والأرض، القائم بتدبيرهم وأرزاقهم وتصريف أحوالهم، المطلع على أعمالهم، وسوف يجازيهم ويحاسبهم، قال تعالى: (أفمن هو قائمٌ على كل نفسٍ بما كسبت) [آل عمران:39] .(2/30)
قوله صلى الله عليه وسلم: "أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ": من صفات الله -تبارك وتعالى- النور، ومنه اشتق اسم النور الذي هو أحد الأسماء الحسنى، وقد أضاف الله -سبحانه وتعالى- النور إلى نفسه إضافة الصفة إلى موصوفها في قوله تعالى: (وأشرقت الأرض بنور ربها) [الزمر:69] ، ومن معاني قوله: "أنت نور السموات والأرض" أنه هادي أهل السموات والأرض، وأنه منور السموات والأرض وخالق نورهما.
قوله صلى الله عليه وسلم: "أَنْتَ الْحَقُّ": من أسمائه تبارك وتعالى: الحق، فهو الحق المبين في ذاته وصفاته لا شك ولا ريب في وجوده، فهو واجب الوجود الذي لا تنبغي الألوهية والربوبية إلا له لا شريك له، وما سواه من الآلهة والمعبودات باطل زائل.
قوله صلى الله عليه وسلم: "وَوَعْدُكَ الْحَقُّ": أي وعدك ثابت لا يتخلف، وعرفه ونكر ما بعده لأن وعده مختص بالإنجاز دون وعد غيره والتنكير في البواقي (لقاء - قول) للتعظيم، واللقاء وما ذكر بعده داخل تحت الوعد، لكن الوعد مصدر وما ذكر بعده هو الموعود به، ويحتمل أن يكون من الخاص بعد العام، كما أن ذكر القول بعد الوعد من العام بعد الخاص.
قوله صلى الله عليه وسلم: "وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ": فيه الإقرار بالبعث بعد الموت، وهو عبارة عن مآل الخلق في الدار الآخرة بالنسبة إلى الجزاء على الأعمال.
قوله صلى الله عليه وسلم: "وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ": فيه إشارة إلى أنهما موجودتان.
قوله صلى الله عليه وسلم: "وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ": خصه بالذكر تعظيماً له.
قوله صلى الله عليه وسلم: "وَالسَّاعَةُ حَقٌّ": أي يوم القيامة وأصل الساعة القطعة من الزمان، وإطلاق اسم الحق على ما ذكر من الأمور معناه أنه لا بد من كونها، وأنها مما يجب أن يصدق به، وتكرار لفظ حق للمبالغة في التأكيد.
قوله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ": أي انقدت وخضعت، "وَبِكَ آمَنْتُ": أي صدقت، "وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْت"ُ: أي فوضت الأمر إليك، "وَإِلَيْكَ أَنَبْت":ُ أي رجعت إليك في تدبير أمري، "وَبِكَ خَاصَمْتُ": أي بما أعطيتني من البرهان وبما لقنتني من الحجة، "وَإِلَيْكَ حَاكَمْت"ُ: أي كل من جحد الحق حاكمته إليك، وجعلتك الحكم بيننا لا من كانت الجاهلية تتحاكم إليه من كاهن ونحوه.
قوله صلى الله عليه وسلم: "فَاغْفِرْ لِي": قال ذلك مع كونه مغفوراً له إما على سبيل التواضع والهضم لنفسه وإجلالاً وتعظيماً لربه، أو على سبيل التعليم لأمته لتقتدي به، والأولى أنه لمجموع ذلك.
قوله صلى الله عليه وسلم: "مَا قَدَّمْتُ": أي قبل هذا الوقت، "وَمَا أَخَّرْتُ": عنه، "وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْت":ُ أي أخفيت وأظهرت، أو ما حدثت به نفسي وما تحرك به لساني.
قوله صلى الله عليه وسلم: "أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ": أي أن الله -سبحانه وتعالى- يقدِّم من شاء من عباده بتوفيقه، ويؤخر من شاء بخذلانه، وينزل الأشياء منازلها، يقدم من شاء من مخلوقاته ويؤخر.(2/31)
وهذا حديث عظيم من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، تضمن حمد الله والثناء عليه بأسمائه وصفاته الحسنى الدالة على عظمته وجلاله وكماله وإحاطته بخلقه، وفي هذا الدعاء إظهار العبودية لله، والتأله وتفويض الأمور إليه، والإقرار بذكر الإيمان بالأمور الغيبية التي هي أصول الإيمان وأركانه مثل الإيمان بالله والنبيين واليوم الآخر والجنة والنار، وتقديم الثناء على الله قبل طلب المغفرة.
فحري بالمسلم أن يتضرع إلى الله بهذا الدعاء الكريم اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. هذا والله أعلم.(2/32)
هل في حديث "ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء" استهانة بهن؟!
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/شروح حديثية
التاريخ 21/10/1424هـ
السؤال
أرجو من حضرتكم إيضاح وتفسير المعنى في حديث النبي صلى الله عليه وسلم:"ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء" وأرجو أن يكون ذلك بإسهاب؛ لما قد يبدو من ظاهر الحديث من أنه استهانة بحق النساء وتقليل من شأنهن ... وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد:
الحديث المذكور في السؤال أخرجه البخاري ح (5096) من حديث أُسَامَةَ بْن زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ قَالَ:"مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ
مِنْ النِّسَاءِ" وأخرجه مسلم ح (2742) من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:"إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ" ومعنى الحديث التحذير من الفتنة بالنساء، وذلك أن الله سبحانه وتعالى ركب في طبيعة الرجل الميل إلى المرأة ومحبتها، كما قال سبحانه:"زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ......" [آل عمران: الآية14](2/33)
فإذا كان هذا فيما أباحه الله من الزواج فهو مطلوب، وقد امتن الله به على عباده، قال سبحانه:" وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً ... " [النحل: الآية72] ، وقال سبحانه:"وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً...." [الروم: الآية21] ، ورغب النبي صلى الله عليه وسلم في الزواج وحث عليه، لما يحصل فيه من غض البصر وتحصين الفرج وبقاء النسل، ففي الصحيحين البخاري (5065) ومسلم (1400) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ"، وفي مسلم (1403) من حديث جابر رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:"إِذَا أَحَدُكُمْ أَعْجَبَتْهُ الْمَرْأَةُ فَوَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ فَلْيَعْمِدْ إِلَى امْرَأَتِهِ فَلْيُوَاقِعْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ"، وأما إذا كان الميل والمحبة وقضاء الشهوة عن الطرق المحرمة فالمرأة تكون فتنة للرجل حيث أوقعته فيما حرم الله، ولهذا قال سبحانه:"وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ... " [النساء: الآية24] ، وقال سبحانه:"الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُم وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ...." [المائدة:5] ، وقد تكون الزوجة فتنة لزوجها إذا صرفته عن طاعة الله، أو أمرته بمعصية الله سبحانه وتعالى، مثل أن تحمله على قطيعة أرحامه، أو تحمله على التساهل في ترك أوامر الله مثل الصلاة أو الزكاة أو الجهاد ونحو ذلك، ولهذا قال سبحانه وتعالى:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ... " [التغابن: الآية14] .(2/34)
وحث النبي صلى الله عليه وسلم على اختيار الزوجة الصالحة التي تعين زوجها على الاستقامة والخير وتحفظه في نفسها وماله، ففي الصحيحين البخاري (5090) ومسلم (1466) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَلِجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ"، وفي صحيح مسلم (1467) من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:"الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ"، ونهى الله سبحانه وتعالى المرأة عن التبرج وإظهار الزينة لغير محارمها؛ حتى لا تكون فتنة للرجل، وأمرها بالعفاف والحشمة وغض البصر.
قال تعالى:"وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" [النور:31] ، وقال تعالى:"وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ...." [الأحزاب: الآية33] والمرأة حينما تخالف ما شرع الله سبحانه وتعالى، وتنحرف عن الصراط المستقيم تكون فتنة للرجال، وقد وقع ما حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منه من فتنة الرجال بالنساء، وهي من أعظم الفتن التي تفاقم خطرها، وعظم خطبها، ولعل من المناسب أن أذكر بعض مظاهر الفتنة بالمرأة في زماننا الحاضر:
1) سفور النساء وتبرجهن في كثير من المجتمعات الإسلامية، مما ترتب عليه إطلاق النظر إليهن وإثارة الغرائز وثوران الشهوة والوقوع فيما حرم الله والافتتان بهن. وكما قيل:
نظرةٌ، فابتسامةٌ، فسلامُ فكلامٌ، فموعدٌ فلقاءُ
2) تفننت وسائل الإعلام بأنواعها من تلفاز وفضائيات وفيديو ومجلات وكتب في عرض صور النساء الخليعة وشبه العارية مما لم يوجد في عصر مضى، وأصبحت الفتنة بهن عظيمة، حيث تعلق كثير من الرجال بصورهن وافتتنوا بهن.
3) كثر الاختلاط بين الجنسين في كثير من مجالات الأعمال، مما أدى إلى حصول الفتنة بالنساء التي حذَّر منها النبي صلى الله عليه وسلم.(2/35)
والحاصل أن الحديث لا يفهم من ظاهره الاستهانة بحق المرأة، وحاشا كلام النبي صلى الله عليه وسلم أن يشتمل على مثل هذا، كيف والإسلام رفع شأن المرأة وأعلى مكانها، فهي الأم والبنت والأخت والزوجة، والنساء شقائق الرجال كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أبو داود والترمذي، ولكن الحديث حذَّر الرجال أن يحملهم ما يجدونه من المحبة والميل إلى المرأة في الوقوع فيما حرم الله، وهو متضمن تحذير المرأة من إظهار زينتها للرجال الأجانب فتكون سبباً في فتنتهم.
وقد سمى الله سبحانه الأولاد والأموال فتنة، لأن هذه الأشياء محبوبة للنفس، فإذا أدت إلى الوقوع فيما حرم الله أو ترك ما أوجب الله تكون فتنة، قال سبحانه وتعالى:"إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ... " [التغابن: الآية15] ، وقال سبحانه:"قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" [التوبة:24] ، هذا والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(2/36)
حديث الأخفياء الأتقياء
المجيب سليمان بن عبد الله القصير
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/شروح حديثية
التاريخ 4/1/1425هـ
السؤال
أريد شرحاً وافياً لهذا الحديث وما درجته:
"إن الله يحب الأخفياء الأحفياء الأتقياء الأبرياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى يخرجون من كل فتنة عمياء مظلمة".
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن الحديث المسؤول عنه وهو حديث: "إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا ... إلخ.." قد أخرجه ابن ماجة في سننه برقم: (3989) ولفظه: عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- أنه خرج يوماً إلى مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوجد معاذ بن جبل - رضي الله عنه- قاعداً عند قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- يبكي، فقال: ما يبكيك؟ قال: يبكيني شيءٌ سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن يسير الرياء شركٌ، وإن من عادى لله ولياً، فقد بارز الله بالمحاربة، إن الله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإن حضروا لم يدعوا ولم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل غبراء مظلمة".
وهذا الحديث إسناده ضعيف؛ لأن فيه: عبد الله بن لهيعة، وهو ضعيف، ومعنى قوله: "الأخفياء" جمع خفي، وهو المعتزل عن الناس الذي يخفى عليهم مكانه، ولا يعرف من بينهم.
وقوله: "لم يفتقدوا" أي: ما يلتفت أحد إلى معرفة حالهم ومكانهم، ولا ينظر أحد إلى أنهم أحياء أو أموات.
وقوله: "لم يدعوا" أي: إلى المجالس والأمور المهمة لقلة شأنهم وعدم اكتراث الناس بهم وبرأيهم.
وقوله: "غبراء" أي: مشكلة وبليِّة شديدة.
وقد جاء في معنى هذا الحديث الضعيف حديث آخر صحيح وهو ما روى مسلم في صحيحه برقم: (2965) ، عن عامر بن سعد - رضي الله عنه- قال: كان سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنه- في إبله، فجاءه ابنه عمر، فلما رآه سعد -رضي الله عنه-، قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب، فنزل، فقال له: أنزلت في إبلك وغنمك وتركت الناس يتنازعون الملك بينهم؟ فضرب سعد في صدره، فقال: اسكت، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي".
ومعنى قوله: "الخفي" قال النووي: "أي: الخامل المنقطع إلى العبادة والاشتغال بأمور نفسه" وفي هذا الحديث حجة لمن يقول: اعتزال الناس أفضل من الاختلاط بهم، وفي المسألة خلاف سبق بيانه، ومن قال بتفضيل الاختلاط قد يتأول هذا الحديث على الاعتزال وقت الفتنة ونحوها.
وقوله - صلى الله عليه وسلم- في الحديث: "الغني" قال النووي: (المراد بالغنى غنى النفس، هذا هو الغنى المحبوب) ، لقوله - صلى الله عليه وسلم-: "ولكن الغنى غنى النفس" رواه البخاري (6446) ومسلم (1051) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، وذهب القاضي عياض إلى أن المراد الغنى بالمال، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(2/37)
معنى "فليستنثر ثلاثاً فإن الشيطان يبيت على خيشومه"
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/شروح حديثية
التاريخ 28/10/1426هـ
السؤال
ما معنى الحديث التالي: "إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فليستنثر ثلاثاً فإن الشيطان يبيت على خيشومه"؟ ولماذا ينام الشيطان على خيشومه؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله، وبعد:
فالحديث المشار إليه في السؤال أخرجه البخاري (3295) ، ومسلم (238) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِذَا اسْتَيْقَظَ أُرَاهُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَتَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلَاثًا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيْشُومِهِ". الخيشوم: بفتح الخاء المعجمة وبسكون الياء التحتانية وضم المعجمة وسكون الواو هو الأنف.
وقوله: فإن الشيطان يبيت على خيشومه: يحتمل أحد أمرين:
1- أن يكون هذا على ظاهره، وأن الشيطان يبيت في هذا المكان، ويختار الشيطان هذا المكان لأن الخيشوم محل الأذى والقذارة، قال ابن القيم -رحمه الله-: "وفي مبيت الشيطان على الخيشوم سر يعرفه من عرف أحكام الأرواح، واقتران الشياطين بالمحال التي تلابسها، فإن الشيطان خبيث يناسبه الخبائث، فإذا نام العبد لم ير في ظاهر جسده أوسخ من خيشومه فيستوطنه في المبيت" [ينظر حاشية ابن القيم على سنن أبي داود (1/85) ] .
2- ويحتمل أن يكون المعنى أن ما يكون في الأنف من الأذى والقذارة يوافق الشيطان، لأن الشياطين خبيثة، وتكون في الأماكن الخبيثة، فيشرع للنائم إذا استيقظ أن ينظف أنفه بالاستنثار، وهو جذب الماء إلى الأنف ثم إخراجه، قال القاضي عياض: "يحتمل أن يكون ذلك على حقيقته، وأن يكون على الاستعارة، فإن ما ينعقد من الغبار ورطوبة الخياشيم قذارة توافق الشيطان" ينظر: شرح النووي على مسلم (3/127) .
وظاهر الحديث أن هذا يتناول كل نائم، ويحتمل أن يكون مخصوصاً بمن لم يحصن نفسه بشيء من الذكر عند النوم، مثل قراءة آية الكرسي.
قال الحافظ ابن حجر: "ظاهر الحديث أن هذا يقع لكل نائم، ويحتمل أن يكون مخصوصاً بمن لم يحترس من الشيطان بشيء من الذكر لحديث أبي هريرة، فإن فيه: "فكانت له حرزاً من الشيطان" وكذلك آية الكرسي، وقد تقدم فيه: "ولا يقربك شيطان"، ويحتمل أن يكون المراد بنفي القرب هنا أنه لا يقرب من المكان الذي يوسوس فيه وهو القلب، فيكون مبيته على الأنف ليتوصل منه إلى القلب إذا استيقظ، فمن استنثر منعه من التوصل إلى ما يقصد من الوسوسة فحينئذ فالحديث متناول لكل مستيقظ" فتح الباري (6/343) ، والله أعلم.(2/38)
أفضل دينار ينفقه الرجل
المجيب عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/شروح حديثية
التاريخ 30/1/1425هـ
السؤال
جاء في الحديث: "أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله، ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله"، قال أبو قلابة: وبدأ بالعيال، ثم قال أبو قلابة: وأي رجل أعظم أجراً من رجل ينفق على عيال صغار يعفهم، أو ينفعهم الله به ويغنيهم، صحيح مسلم (994) .
وفي حديث آخر: "أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله، ودينار ينفقه على فرس في سبيل الله، ودينار ينفقه الرجل على أصحابه في سبيل الله".
السؤال: هل الحديث يفيد التساوي في الأجر للثلاثة الأصناف، أم يفيد الأفضلية؟ أي: الأول الإنفاق على العيال، والثاني على الفرس، والثالث الإنفاق في سبيل الله. أفيدونا -جزاكم الله كل خير-.
الجواب
جاء جواب هذا الإشكال في حديث آخر رواه مسلم أيضاً في صحيحه (995) من طريق مجاهد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: "دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك".
فهذا الحديث صريح الدلالة في أن الإنفاق على الأهل هو أفضل هذه الأنواع، وأعظمها أجراً، بل إن الإنفاق على الأهل واجب، قال الطبري: (الإنفاق على الأهل واجب، والذي يعطيه يؤجر على ذلك بحسب قصده، ولا منافاة بين كونها واجبة، وبين تسميتها صدقة، بل هي أفضل من صدقة التطوع) ، وقال المهلب: "النفقة على الأهل واجبة بالإجماع". وقال البخاري -رحمه الله- (باب وجوب النفقة على الأهل والعيال) ، وذكر تحته حديث رقم (5355) عن أبي هريرة - رضي الله عنه-: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أفضل الصدقة ما ترك غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول ... " الحديث، والأحاديث الواردة في فضل الإنفاق على الأهل والعيال كثيرة، منها ما رواه البخاري (2742) ومسلم (1628) من طريق عامر بن سعد عن أبيه سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة، حتى اللقمة ترفعها إلى فيّ امرأتك ... " الحديث. ومنها ما رواه البخاري (5351) من طريق عبد الله بن زيد عن أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أنفق المسلم نفقة على أهله - وهو يحتسبها - كانت له صدقة".
أما الديناران الآخران المذكوران في الحديث الوراد في السؤال "دينار ينفقه على فرس في سبيل الله، ودينار ينفقه الرجل على أصحابه في سبيل الله ... " الحديث رواه مسلم (994) من حديث توبان - رضي الله عنه - فالتفضيل بينهما راجع إلى مقدار منفعتهما في الجهاد في سبيل الله، فأيهما كان أعظم نفعاً فهو أعظم أجراً. والله أعلم.(2/39)
حديث افتراق الأمة على ثلاث وسبعين فرقة
المجيب د. رشيد بن حسن الألمعي
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك خالد
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/شروح حديثية
التاريخ 27/11/1424هـ
السؤال
أرجو التكرم بشرح الأحاديث التي تتكلم عن تفرق المسلمين إلى 73 فرقة جميعها في النار ما عدا واحدة، فمن هي تلك الفرقة؟ وهل ينطبق الحديث فقط على تلك الفرق الخارجة من ملة الإسلام مثل: الأحمدية والبهائية والعلوية؟ (هذا ما نصت عليه إحدى المجلات) ، وما معنى كلمة: (فرقة) المذكورة في الحديث. وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإنه يصعب الشرح مفصلاً لأحاديث افتراق الأمة في مثل هذا الجواب، غير أني سأبين لك ما يتسع المقام لبيانه، وأحيلك على ما تجده في ثنايا هذا الجواب من المراجع، فأقول ومن الله أستمد العون والتوفيق:
أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم- عن وقوع الافتراق والأهواء في هذه الأمة وحذر منه، ومن ذلك ما ورد في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "تفترق اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة"، رواه أبو داود (4596) وابن ماجة (3991) والترمذي (2640) وقال: حديث حسن صحيح.
وقد اختلف أهل العلم قديماً وحديثاً في الفرق الثنتين والسبعين الهالكة من هي، ومن يدخل فيها من الفرق التي ظهرت، ومن يخرج، وهل يمكن تعيينها نوعاً وعدداً وإحصاؤها على سبيل الحصر والتحديد.
أما الفرقة الناجية فليست موضع خلاف بين أهل العلم - ولله الحمد -، فقد جاء تعيينها بالوصف حيث وصفها الرسول - صلى الله عليه وسلم- بأنها من كان على ما عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم- وأصحابه - رضي الله عنهم-.
وقد اجتهد بعض أهل العلم في تعيين أصول الفرق الهالكة وتقسيم عددها على أصول الفرق الكبرى في زمانهم، قال ابن تيمية - رحمه الله-: ولهذا قال عبد الله بن المبارك ويوسف بن أسباط وغيرهما، أصول البدع أربعة: الشيعة، والخوارج، والقدرية، والمرجئة، قالوا: والجهمية ليسوا من الثنتين وسبعين فرقة، انظر مجموع الفتاوى (17/447) .
كما حاول بعضهم تسمية الثنتين وسبعين فرقة وتحديدها كما فعل ذلك البغدادي في كتابه الفرق بين الفرق، والشهرستاني في كتابه الملل والنحل، والسكسكي في كتابه البرهان، والملطي في كتابه التنبيه والرد، وابن الجوزي في كتابه تلبيس إبليس وغيرهم.
ويمكن القول بأن الفرقة يصدق عليها وصف المفارقة لأهل السنة والجماعة في حالتين:
إحداهما: فيما إذا خالفت أهل السنة والجماعة في أصل كلي أو قاعدة كلية من قواعد الشرع.
ثانيتهما: فيما إذا خالفت في فروع كثيرة وجزئيات كثيرة مخرجة عن سمة أهل السنة وهديهم كبدع الشعائر والعبادات، إذا كثرت، وانظر في ذلك الاعتصام للشاطبي ج (2/200-201) ، وانظر مقدمات في الأهواء والافتراق والبدع للدكتور ناصر العقل ص34-35.(2/40)
على أنه ينبغي أن يعلم أن الفرق الثنتين والسبعين الهالكة كلهم من أهل الوعيد المستحقين دخول النار بنص الحديث، لكن لا يلزم من ذلك أن يكونوا كلهم كفاراً، كما أنهم ليسوا كلهم خارجين عن الملة، قال ابن تيمية - رحمه الله-: (ومن قال إن الثنتين وسبعين فرقة كل واحد منهم يكفر كفراً ينقل عن الملة فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين- بل وإجماع الأئمة الأربعة وغير الأربعة، فليس فيهم من كفر كل واحد من الثنتين وسبعين فرقة، وإنما يكفر بعضَهم بعضاً ببعض المقالات) ، انظر مجموع الفتاوى (7/217-218) .
وقال أيضاً: وأما من يقول ببعض التجهم كالمعتزلة ونحوهم الذين يدينون بدين الإسلام باطناً وظاهراً فهؤلاء من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم- بلا ريب، وكذلك من هو خير منهم كالكلابية والكرامية، وكذلك الشيعة المفضلين لعلي - رضي الله عنه- ومن كان منهم يقول بالنص والعصمة مع اعتقاده بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم-باطناً وظاهراً، وظنه أن ما هو عليه هو دين الإسلام فهؤلاء أهل ضلال وجهل، ليسوا خارجين عن أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- بل هم من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، انظر مجموع الفتاوى (17/448) ، فليتنبه الفطن اللبيب إلى ضرورة معرفة الضوابط التي يحكم بها على المعين ببدعة أو فسق. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(2/41)
حديث: "ستكون أمراء ... " وحكام اليوم
المجيب د. محمد بن عبد الله القناص
عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم
التصنيف الفهرسة/ السنة النبوية وعلومها/شروح حديثية
التاريخ 4/12/1424هـ
السؤال
ما معنى حديث النبي - صلى الله عليه وسلم-: "ستكون أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا ما صلوا"، وهل ينبطق على حكامنا اليوم؟.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعد:(2/42)
الحديث المذكور أخرجه مسلم (1854) من حديث أُمِّ سَلَمَةَ - رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-َ قَالَ: "سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ قَالُوا: أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: لَا مَا صَلَّوْا". وقوله في الحديث: "سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُون"َ أي: يعمل الأمراء أعمالاً منها ما تعرفون كونه معروفاً، ومنها ما تعرفون كونه منكراً..... أي: أن أفعالهم منها ما يكون حسناً موافقاً للشريعة، ومنها ما يكون قبيحاً مخالفاً للشريعة..وقوله: "فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ"، والرواية الأخرى في مسلم أيضاً: "فمن كره فقد برئ". ومعناه: فمن كره ذلك المنكر فقد برئ من إثمه وعقوبته، وهذا في حق من لا يستطيع إنكاره بيده ولا لسانه، فيكره بقلبه.. وقوله: "وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِم"َ. أي: من أنكر باللسان تلك الأفعال القبيحة إذا استطاع ذلك فقد سلم من الهلاك.. ويحتمل أن يكون الإنكار أيضاً بالقلب، ويكون المعنى: اعتقد الإنكار بقلبه، وقد جاء في رواية في صحيح مسلم: "أي: من كره بقلبه وأنكر بقلبه"، قال القرطبي: أي اعتقد الإنكار بقلبه، وجزم عليه بحيث لو تمكن من إظهار الإنكار لأنكره. ومَن كان كذلك فقد سلم من مُؤاخذة الله -تعالى- على الإقرار على المنكر. وهذه المرتبة هي رتبةُ مَن لم يقدر على تغيير المنكر لا باللسان، ولا باليد، وهي التي قال فيها -صلى الله عليه وسلم-: "وذلك أضعف الإيمان" أخرجه مسلم (49) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- وفي الحديث الآخر: "وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" رواه مسلم (50) من حديث أبي مسعود -رضي الله عنه-، وقوله: "وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ....." أي: من رضي المنكر، وتابع عليه فعليه الإثم والعقوبة والمؤاخذة. قال النووي: وفيه دَلِيل عَلَى أَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ إِزَالَة الْمُنْكَر لَا يَأْثَم بِمُجَرَّدِ السُّكُوت. بَلْ إِنَّمَا يَأْثَم بِالرِّضَا بِهِ، أَوْ بِأَلَّا يَكْرَههُ بِقَلْبِهِ أَوْ بِالْمُتَابَعَةِ عَلَيْهِ. وقوله في الحديث: "أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: لَا مَا صَلَّوْا.." أي: ما أقاموا الصلاة في الناس، وفي حديث عوف بن مالك -رضي الله عنه- كما سيأتي: "لا ما أقاموا فيكم الصلاة" رواه مسلم (1855) قال النووي: "لا يجوز الخروج على الخلفاء بمجرد الظلم أو الفسق، ما لم يغيروا شَيئاً من قواعد الإسلام." وقال شيخ الإسلام: "هذا يبين أن الأئمة هم الأمراء ولاة الأمور، وأنه يُكره ويُنكر ما يأتونه من معصية الله، ولا تنزع اليد من طاعتهم، بل يطاعون في طاعة الله، وأن منهم خياراً وشراراً".
وقد دلت أحاديث أخرى على ما دل عليه حديث أم سلمة - رضي الله عنها- من ترك الخروج على أئمة الجور(2/43)
ما لم يوجد منهم كفر بواح، والسمع والطاعة ما لم يأمروا بمعصية. - ففي صحيح مسلم (1855) من حديث عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: " خِيَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ " قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ؟ فَقَالَ:" لَا مَا أَقَامُوا فِيكُمْ الصَّلَاةَ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ وُلَاتِكُمْ شَيْئًا تَكْرَهُونَهُ، فَاكْرَهُوا عَمَلَهُ، وَلَا تَنْزِعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ " وفي الصحيحين البخاري(2/44)
(7199) ، ومسلم (1842) من حديث عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ -رضي الله عنه- قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-َ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُومَ أَوْ نَقُولَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا، لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ" زاد في رواية عندهما بعد قوله: "وألا ننازع الأمر أهله" قال: " إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان "وفي الصحيحين البخاري (3455) ، ومسلم (1842) من حديث أَبَي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: " كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَتَكُونُ خُلَفَاءُ تَكْثُرُ قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: فُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، وَأَعْطُوهُمْ حَقَّهُم، ْ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ" وفي الصحيحين البخاري (7053) ، ومسلم (1849) من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:" مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا، فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ خَرَجَ مِنْ السُّلْطَانِ شِبْرًا فَمَاتَ عَلَيْهِ إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً" وفي صحيح مسلم (1846) من حديث سَلَمَةُ بْنُ يَزِيدَ الْجُعْفِيُّ - رضي الله عنه -أنه سأل رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-َ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ قَامَتْ عَلَيْنَا أُمَرَاء، ُ يَسْأَلُونَا حَقَّهُمْ وَيَمْنَعُونَا حَقَّنَا، فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ فَجَذَبَهُ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ، فقَالَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-َ: اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ ". وفي الصحيحين البخاري (7084) ، ومسلم (1847)) من حديث حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا بِشَر، ٍّ فَجَاءَ اللَّهُ بِخَيْرٍ، فَنَحْنُ فِيهِ فَهَلْ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ: "نَعَمْ" قُلْتُ: هَلْ وَرَاءَ ذَلِكَ الشَّرِّ خَيْرٌ؟ قَالَ: "نَعَم"ْ قُلْتُ: فَهَلْ وَرَاءَ ذَلِكَ الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ: "نَعَمْ" قُلْت: ُ كَيْفَ؟ قَالَ: "يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لَا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ، وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ" قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ؟ قَالَ: "تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلْأَمِيرِ وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ، وَأُخِذَ مَالُك، َ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ" وقد أخذ بما دلت عليه هذه الأحاديث جمهور أهل السنة والجماعة، فذهبوا إلى تحريم(2/45)