قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا يحل بيع وَسلف وَلَا شَرْطَانِ فِي بيع " مثل أَن يَقُول بِعْت هَذَا على أَن تقرضني كَذَا، وَمعنى الشَّرْطَيْنِ أَن يشْتَرط حُقُوق البيع، وَيشْتَرط شَيْئا خَارِجا مِنْهَا مثل أَن يَهبهُ كَذَا، أَو يشفع لَهُ إِلَى فلَان، أَو إِن احْتَاجَ إِلَى بَيْعه لم يبع إِلَّا مِنْهُ، وَنَحْو ذَلِك، فَهَذَا شَرْطَانِ فِي صَفْقَة وَاحِدَة.
وَمِنْهَا أَلا يكون التَّسْلِيم بيد الْعَاقِد، كمبيع لَيْسَ بيد البَائِع، وَإِنَّمَا هُوَ حق توجه لَهُ على غَيره، وَشَيْء لَا يجده إِلَّا بِرَفْع قَضِيَّة أَو إِقَامَة بَيِّنَة أَو سعى واحتيال أَو اسْتِيفَاء واكتيال أَو نَحْو ذَلِك فَإِنَّهُ مَظَنَّة أَن يكون قَضِيَّة فِي قَضِيَّة أَو يحصل غرر وتخبيب، وكل مَا لَيْسَ عنْدك فَلَا تأمن أَن تَجدهُ إِلَّا بِجهْد
النَّفس وَرُبمَا يُطَالِبهُ المُشْتَرِي بِالْقَبْضِ، فَلَا يكون عِنْده فَيُطَالب الَّذِي توجه عَلَيْهِ حَقه، أَو يذهب ليصطاد من الْبَريَّة، أَو يَشْتَرِي من السُّوق، أَو يستوهب من صديقه، وَهَذَا أَسد المناقشات.
قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا تبع مَا لَيْسَ عنْدك ".
وَنهى عَن بيع الْغرَر، وَهُوَ الَّذِي لَا يتَيَقَّن أَنه مَوْجُود أَو لَا.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من ابْتَاعَ طَعَاما فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيه " قيل: مَخْصُوص بِالطَّعَامِ لِأَنَّهُ أَكثر الْأَمْوَال تعاورا وحاجة " وَلَا ينْتَفع بِهِ إِلَّا باهلاكه، فَإِذا لم يستوفه فَرُبمَا تصرف فِيهِ البَائِع، فَيكون قَضِيَّة فِي قَضِيَّة وَقيل: يجْرِي فِي الْمَنْقُول لِأَنَّهُ مَظَنَّة أَن يتَغَيَّر، ويتعيب، فَتحصل الْخُصُومَة وَقَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: وَلَا أَحسب كل شَيْء إلامثله وَهُوَ الأقيس بِمَا ذكرنَا من الْعلَّة.
وَمِنْهَا مَا هُوَ مَظَنَّة لمناقشات وَقعت فِي زَمَانه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعرف أَنه حقيق بِأَن تكون فِيهِ المناقشات كَمَا ذكر زيد بن ثَابت رَضِي الله عَنهُ أَنهم كَانُوا يحتجون بعاهات تصيب الثِّمَار يَقُولُونَ: أَصَابَهَا قشام دمان فَنهى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن بيع الثمارحتى يَبْدُو صَلَاحهَا، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يشْتَرط الْقطع فِي الْحَال، وَعَن السَّبِيل حَتَّى يبيض، ويأمن العاهة، وَقَالَ: " أَرَأَيْت إِذا منع الله الثَّمر بِمَ يَأْخُذ أحدكُم مَال أَخِيه " يَعْنِي أَنه غرر، لِأَنَّهُ على خطر أَن يهْلك، فَلَا يجد الْمَعْقُود عَلَيْهِ وَقد لزمَه الثّمن، وَكَذَا فِي بيع السنين.(2/170)
وَمِنْهَا مَا يكون سَببا لسوء انتظام الْمَدِينَة وإضرار بَعْضهَا بَعْضًا، فَيجب
إخمالها والصد عَنْهَا، قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا تلقوا الركْبَان لبيع، وَلَا يبع بَعْضكُم على بيع بعض، وَلَا يسم الرجل على سوم أَخِيه وَلَا تناجشوا، وَلَا يبع حَاضر لباد ".
أَقُول: أما تلقي الركْبَان فَهُوَ أَن يقدم ركب بِتِجَارَة فيتلقاه رجل قبل أَن يدخلُوا الْبَلَد، ويعرفوا السّعر، فيشتري مِنْهُم بأرخص من سعر الْبَلَد، وَهَذَا مَظَنَّة ضَرَر بالبائع، لِأَنَّهُ إِن نزل بِالسوقِ كَانَ أغْلى لَهُ وَلذَلِك كَانَ لَهُ الْخِيَار إِذا عثر على الضَّرَر، وضرر بالعامة لِأَنَّهُ تُوجد فِي تِلْكَ التِّجَارَة حق أهل الْبَلَد جَمِيعًا، والمصلحة المدنية تَقْتَضِي أَن يقدم الأحوج فالأحوج، فَإِن اسْتَووا سوى بَينهم أَو أَقرع، فاستئثار وَاحِد مِنْهُم بالتلقي نوع من الظُّلم، وَلَيْسَ لَهُم الْخِيَار لِأَنَّهُ لم يفْسد عَلَيْهِم مَالهم، وَإِنَّمَا منع مَا كَانُوا يرجونه.
وَأما البيع على البيع فَهُوَ تضييق على أَصْحَابه من التُّجَّار وَسُوء مُعَاملَة مَعَهم، وَقد توجه حق البَائِع الأول وَظهر وَجه لرزقه فافساده عَلَيْهِ ومزاجته فِيهِ نوع من ظلم.
وَكَذَا السّوم على سوم أَخِيه فِي التَّضْيِيق على المشترين والإساءة مَعَهم، وَكثير من المناقشات والأحقاد تنبعث فيهم من أجل هذَيْن.
والنجش فِي زِيَادَة الثّمن بِلَا رَغْبَة فِي الْمَبِيع تغريرا للمشترين، وَفِيه من الضَّرَر مَا لَا يخفى.
وَبيع الْحَاضِر للبادى أَن يحمل البدوي مَتَاعه إِلَى الْبَلَد يُرِيد أَن يَبِيعهُ بِسعْر يَوْمه، فيأتيه الْحَاضِر، فَيَقُول: خل متاعك عِنْدِي حَتَّى أبيعه على المهلة بِثمن غال، وَلَو بَاعَ البادى بِنَفسِهِ لأرخص، ونفع البلديين، وانتفع هُوَ أَيْضا، فَإِن انْتِفَاع التُّجَّار يكون بِوَجْهَيْنِ: أَن يبيعوا بِثمن غال بالمهلة على من يحْتَاج إِلَى الشَّيْء أَشد حَاجَة. فيستقل فِي جنبها مَا يبْذل، وَأَن يبيعوا بِرِبْح يسير،
ثمَّ يَأْتُوا بِتِجَارَة أُخْرَى عَن قريب، فيربحوا أَيْضا وهلم جرا، وَهَذَا الِانْتِفَاع أوفق بمصلحة المدينه وَأكْثر بركَة، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من احتكر فَهُوَ خاطئ ".
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " الجالب مَرْزُوق والمحتكر مَلْعُون ".
أَقُول: وَذَلِكَ لِأَن حبس المناع مَعَ حَاجَة أهل الْبَلَد إِلَيْهِ لمُجَرّد طلب الغلاء وَزِيَادَة الثّمن إِضْرَار بهم يتَوَقَّع نفع مَا هُوَ سوء انتظام الْمَدِينَة.(2/171)
وَمِنْهَا أَن يكون فِيهِ التَّدْلِيس على المُشْتَرِي، قَالَ رَسُول الله:
" لَا تصروا الْإِبِل وَالْغنم، فَمن ابتاعها بعد ذَلِك فَهُوَ بِخَير النظرين بعد أَن يحلبها، إِن رضيها أمْسكهَا، وَإِن سخطها ردهَا وصاعا من تمر - ويروى صَاعا من طَعَام - لَا سمراء ".
أَقُول: التصرية جمع اللَّبن فِي الضَّرع ليتخيل المُشْتَرِي غزارته، فيغتر، وَلما كَانَ أقرب شبهه بِخِيَار الْمجْلس أَو الشَّرْط لِأَن عقد البيع كَأَنَّهُ مَشْرُوط بغزارة اللَّبن لم يَجْعَل من بَاب الضَّمَان بالخراج، ثمَّ لما كَانَ قدر اللَّبن وَقِيمَته بعد إهلاكه وإتلافه مُتَعَذر الْمعرفَة جدا لَا سِيمَا عِنْد تشاكس الشُّرَكَاء وَفِي مثل البدو وَجب أَن يضْرب لَهُ حد معتدل بِحَسب المظنة الغالبية يقطع بِهِ النزاع، وَلبن النوق فِيهِ زهومة وَيُوجد رخيصا، وَلبن الْغنم طيب، وَيُوجد غَالِبا، فَجعل حكمهَا وَاحِدًا، فَتعين أَن يكون صَاعا من أدنى جنس يقتاتون بِهِ كالتمر فِي الْحجاز. وَالشعِير. والذرة عندنَا لَا من الْحِنْطَة والأرز فانهما أغْلى الأقوات وأعلاها، وَاعْتذر بعض من لم يوفق للْعَمَل بِهَذَا
الحَدِيث بِضَرْب قَاعِدَة من عِنْد نَفسه، فَقَالَ. كل حَدِيث لَا يرويهِ إِلَّا غير فَقِيه إِذا إنسد بَاب الرَّأْي فِيهِ يتْرك الْعَمَل بِهِ، وَهَذِه الْقَاعِدَة على مَا فِيهَا لَا تنطبق على صورتنا هَذِه لِأَنَّهُ أخرجه البُخَارِيّ عَن ابْن مَسْعُود أَيْضا، وناهيك بِهِ، وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة سَائِر الْمَقَادِير الشَّرْعِيَّة يدْرك الْعقل حسن تَقْدِير مَا فِيهِ، وَلَا يسْتَقلّ بِمَعْرِِفَة حِكْمَة هَذَا الْقدر خَاصَّة اللَّهُمَّ إِلَّا عقول الراسخين فِي الْعلم.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صبرَة طَعَام داخلها بَلل:
" أَفلا جعلته فَوق الطَّعَام حَتَّى يرَاهُ النَّاس، فَمن غش فَلَيْسَ مني ".
وَمِنْهَا أَن يكون الشَّيْء مُبَاح الأَصْل كَالْمَاءِ الْعد فيتغلب ظَالِم عَلَيْهِ، فيبيعه وَذَلِكَ تصرف فِي مَال الله من غير حق وإضرار بِالنَّاسِ وَلذَلِك نهى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن بيع فضل المَاء ليباع بِهِ الْكلأ أَقُول: هُوَ أَن يتغلب رجل على عين أَو وَاد، فَلَا يدع أحد يسْقِي مِنْهُ مَاشِيَة إِلَّا بِأَجْر، فَإِنَّهُ يُفْضِي إِلَى بيع الْكلأ الْمُبَاح يَعْنِي يصير الرَّعْي من ذَلِك بِإِزَاءِ مَال، وَهَذَا بَاطِل لِأَن المَاء والكلأ مباحان، وَهُوَ وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام: " فَيَقُول الله الْيَوْم أمنعك فضلي كَمَا منعت فضل مَا لم تعْمل يداك ".
وَقيل: يحرم بيع المَاء الْفَاضِل عَن حَاجته لمن أَرَادَ الشّرْب أَو سقِِي الدَّوَابّ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" الْمُسلمُونَ شُرَكَاء فِي ثَلَاث فِي المَاء والكلأ وَالنَّار "(2/172)
أَقُول: يتَأَكَّد اسْتِحْبَاب الْمُوَاسَاة فِي هَذِه فِيمَا كَانَ مَمْلُوكا وَمَا لَيْسَ بمملوك أمره ظَاهر.
(أَحْكَام البيع)
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" رحم الله رجلا سَمحا إِذا بَاعَ، وَإِذا اشْترى، وَإِذا اقْتضى " أَقُول: السماحة من أصُول الْأَخْلَاق الَّتِي تتهذب بهَا النَّفس، وتتخلص بهَا عَن إحاطة الْخَطِيئَة، وَأَيْضًا فِيهَا نظام الْمَدِينَة، وَعَلَيْهَا بِنَاء التعاون، وَكَانَت الْمُعَامَلَة بِالْبيعِ وَالشِّرَاء والاقتضاء مَظَنَّة لضد السماحة، فسجل النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على استحبابها.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" الْحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة " أَقُول: يكره إكثار الْحلف فِي البيع لشيئين: كَونه مَظَنَّة لتغرير المتعاملين، وَكَونه سَببا لزوَال تَعْظِيم اسْم الله من الْقلب، وَالْحلف الْكَاذِب منفقة للسلعة لِأَن مبْنى الانفاق فِي تَدْلِيس المُشْتَرِي، وممحقة للبركة لِأَن مبْنى الْبركَة على توجه دُعَاء الْمَلَائِكَة إِلَيْهِ، وَقد تَبَاعَدت بالمعصية بل دعت عَلَيْهِ.
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام:
" يَا معشر التُّجَّار إِن البيع يحضرهُ اللَّغْو وَالْحلف فشوبوه بِالصَّدَقَةِ " أَقُول: فِيهِ تَكْفِير الْخَطِيئَة وجبر مَا فرط من غلواء النَّفس.
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِيمَن بَاعَ بِالدَّنَانِيرِ وَأخذ مَكَانهَا الدَّرَاهِم: " لَا بَأْس أَن تأخذها بِسعْر يَوْمهَا مَا لم تفترقا وبينكما شَيْء ".
أَقُول. لِأَنَّهُمَا إِن افْتَرقَا وَبَينهمَا شَيْء مثل أَن يجعلا تَمام صرف الدِّينَار بِالدَّرَاهِمِ مَوْقُوفا على مَا يَأْمر بِهِ الصيرفيون، أَو على أَن يزنه الْوزان أَو مثل ذَلِك كَانَ مَظَنَّة أَن يحْتَج بِهِ المحتج، ويناقش فِيهِ المناقش، وَلَا تصفوا الْمُعَامَلَة.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من ابْتَاعَ نخلا بعد أَن تؤبر فثمرتها للْبَائِع إِلَّا أَن يشْتَرط الْمُبْتَاع " أَقُول: ذَلِك لِأَنَّهُ عمل زَائِد عَن أصل الشَّجَرَة، وَقد ظَهرت الثَّمَرَة على ملكه وَهُوَ يشبه الشَّيْء الْمَوْضُوع فِي الْبَيْت فَيجب أَن يُوفى لَهُ حَقه إِلَّا أَن يُصَرح بِخِلَافِهِ.(2/173)
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" مَا كَانَ من شَرط لَيْسَ فِي كتاب الله فَهُوَ بَاطِل ". أَقُول: المُرَاد كل شَرط ظهر النَّهْي عَنهُ، وَذكر فِي حكم الله نَفْيه لَا النَّفْي الْبَسِيط.
وَنهى عَلَيْهِ السَّلَام عَن بيع الْوَلَاء. وَعَن هِبته لِأَن الْوَلَاء لَيْسَ بِمَال حَاضر مضبوط، إِنَّمَا هُوَ حق تَابع للنسب، فَكَمَا لَا يُبَاع النّسَب لَا يَنْبَغِي أَن يُبَاع الْوَلَاء.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" الْخراج بِالضَّمَانِ ". أَقُول: لَا تَنْقَطِع الْمُنَازعَة إِلَّا بِأَن يَجْعَل الْغنم بالغرم، فَمن رد الْمَبِيع بِالْعَيْبِ إِن طُولِبَ بخراجه كَانَ فِي إِثْبَات مِقْدَار الْخراج حرج عَظِيم، فَقطع المنازعه بِهَذَا الحكم كَمَا قطع المنازع فِي الْقَضَاء بِأَن مِيرَاث الْجَاهِلِيَّة على مَا قسم.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البيعان: إِذا اخْتلفَا وَالْمَبِيع قَائِم لَيْسَ بَينهمَا بَيِّنَة فَالْقَوْل مَا قَالَ البَائِع أَو يترادان. أَقُول: وَإِنَّمَا قطع بِهِ الْمُنَازعَة لِأَن الأَصْل أَلا يخرج شَيْء من ملك أحد إِلَّا بِعقد صَحِيح وتراض، فَإِذا وَقعت المشاحة وَجب الرَّد إِلَى الأَصْل وَالْمَبِيع مَا لَهُ يَقِينا وَهُوَ صَاحب الْيَد بِالْفِعْلِ أَو قبل العقد الَّذِي لم تتقر صِحَّته، وَالْقَوْل قَول صَاحب المَال لَكِن الْمُبْتَاع بِالْخِيَارِ لِأَن البيع مبناه على التَّرَاضِي.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الشُّفْعَة فِيمَا لم يقسم فَإِذا وَقعت الْحُدُود وصرفت الطَّرِيق فَلَا شُفْعَة " وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام:
" الْجَار أَحَق بعقبه ".
أَقُول: الأَصْل فِي الشُّفْعَة دفع الضَّرَر من الْجِيرَان والشركاء، وَأرى أَن الشُّفْعَة شفعتان: شُفْعَة يجب للْمَالِك أَن يعرضهَا على الشَّفِيع فِيمَا بَينه وَبَين الله، وَأَن يؤثره على غَيره، وَلَا يجْبر عَلَيْهَا فِي الْقَضَاء، وَهِي للْجَار الَّذِي لَيْسَ بِشريك، وشفعة يجْبر عَلَيْهَا فِي الْقَضَاء وَهِي للْجَار الشَّرِيك فَقَط، وَهَذَا وَجه الْجمع بَين الْأَحَادِيث الْمُخْتَلفَة فِي الْبَاب.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أقَال أَخَاهُ الْمُسلم صَفْقَة كرهها أقَال الله عثرته يَوْم الْقِيَامَة " أَقُول: يستجب إِقَالَة النادم فِي صفقته دفعا للضَّرَر عَنهُ، وَلَا يجب لِأَن الْمَرْء مَأْخُوذ باقراره لَازم عَلَيْهِ مَا الْتَزمهُ.(2/174)
وَحَدِيث جَابر رَضِي الله عَنهُ بِعته، واستثنيت حملانه إِلَى أهلى أَقُول: فِيهِ جَوَاز الِاسْتِثْنَاء فِيمَا لم يكن مَحل المناقشة وَكَانَا متبرعين متباذلين لِأَن الْمَنْع إِنَّمَا هُوَ لكَونه مَظَنَّة المناقشة.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من فرق بَين وَالِدَة وَوَلدهَا فرق الله بَينه وَبَين أحبته يَوْم الْقِيَامَة " وَقَالَ لعَلي رَضِي الله عَنهُ حِين بَاعَ أحد الْأَخَوَيْنِ: " رده ".
أَقُول: التَّفْرِيق بَين وَالِده وولدهما يهيجهما على الوحشة والبكاء، وَمثل ذَلِك حَال الْأَخَوَيْنِ، فَوَجَبَ أَن يجْتَنب الْإِنْسَان ذَلِك.
قَالَ الله تَعَالَى: {إِذا نودى للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة فَاسْعَوْا إِلَى ذكر الله وذرا البيع}
أَقُول: يتَعَلَّق الحكم بالنداء الَّذِي هُوَ عِنْد خُرُوج الإِمَام، وَلما كَانَ الِاشْتِغَال بِالْبيعِ وَنَحْوه كثيرا مَا يكون مفضيا إِلَى ترك الصَّلَاة وَترك اسْتِمَاع الْخطْبَة نهى عَن ذَلِك.
وَقيل: قد غلا السّعر فسعر لنا فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام:
" إِن الله هُوَ المسعر الْقَابِض الباسط الرازق وَإِنِّي لأرجو أَن ألْقى الله وَلَيْسَ أحد يطلبني بمظلمة "،
أَقُول: لما كَانَ الحكم الْعدْل بَين المشترين وَأَصْحَاب السّلع الَّذِي لَا يتَضَرَّر بِهِ أَحدهمَا، أَو يكون تضررهما سَوَاء فِي غَايَة الصعوبة تورع مِنْهُ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِئَلَّا يتخذها الْأُمَرَاء من بعده سنة، وَمَعَ ذَلِك فان رؤى مِنْهُم جور ظَاهر لَا يشك فِيهِ النَّاس جَازَ تَغْيِيره فانه من الافساد فِي الأَرْض.
قَالَ الله تَعَالَى:
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذْ تداينتم بدين إِلَى أجل مُسَمّى فاكتبوه}
اعْلَم أَن الدّين أعظم الْمُعَامَلَات مناقشة وبأكثرها جدلا، وَلَا بُد مِنْهُ للْحَاجة، فَلذَلِك أكد الله تَعَالَى فِي الْكِتَابَة والاستشهاد، وَشرع الرَّهْن وَالْكَفَالَة، وَبَين إِثْم كتمان الشَّهَادَة، وَأوجب بالكفاية الْقيام بِالْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَة، وَهُوَ من الْعُقُود الضرورية.
وَقدم رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَة وهم يسلفون فِي الثِّمَار السّنة والسنتين وَالثَّلَاث، فَقَالَ:
" من أسلف فِي شَيْء، فليسلف فِي كيل مَعْلُوم وَوزن مَعْلُوم إِلَى أجل مَعْلُوم "(2/175)
أَقُول: ذَلِك لترتفع المناقشة بِقدر
الْإِمْكَان، وقاسوا عَلَيْهَا الْأَوْصَاف الَّتِي يبين بهَا الشَّيْء من غير تضييق، ومبنى الْقَرْض على التَّبَرُّع من أول الْأَمر، وَفِيه معنى الْإِعَارَة؛ فَلذَلِك جَازَت النَّسِيئَة، وَحرم الْفضل، ومبنى الرَّهْن على الاستيثاق، وَهُوَ بِالْقَبْضِ، فَلذَلِك اشْترط فِيهِ، وَلَا اخْتِلَاف عِنْدِي بَين حَدِيث " لَا يغلق الرَّهْن الرهت من صَاحبه الَّذِي رَهنه لَهُ غنمه وَعَلِيهِ غرمه " وَحَدِيث " الظّهْر يركب بِنَفَقَتِهِ إِذا كَانَ مَرْهُونا، وَلبن الدّرّ يشرب بِنَفَقَتِهِ إِذا كَانَ مَرْهُونا، وعَلى الَّذِي يركب وَيشْرب النَّفَقَة "؛ لِأَن الأول هُوَ الْوَظِيفَة، لَكِن إِذا امْتنع الرَّاهِن من النَّفَقَة عَلَيْهِ، وَخيف الْهَلَاك، وأحياه الْمُرْتَهن، فَعِنْدَ ذَلِك ينْتَفع بِهِ بِقدر مَا يرَاهُ النَّاس عدلا.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَصْحَاب الْكَيْل وَالْمِيزَان:
" إِنَّكُم قد وليتم أَمريْن هَلَكت فِيهَا الْأُمَم السَّابِقَة قبلكُمْ " أَقُول: يحرم التطفيف لِأَنَّهُ خِيَانَة وَسُوء مُعَاملَة، وَقد سبق فِي قوم شُعَيْب عَلَيْهِ السَّلَام مَا اقص الله تَعَالَى فِي كِتَابه.
وَقَالَ: " أَيّمَا رجل أفلس، فَأدْرك رجل مَاله بِعَيْنِه، فَهُوَ أَحَق بِهِ " أَقُول: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الأَصْل مَاله من غير مزاحمة، ثمَّ بَاعه، وَلم يرض فِي بَيْعه بِخُرُوجِهِ من يَده إِلَّا بِالثّمن، فَكَانَ البيع إِنَّمَا هُوَ بِشَرْط إِيفَاء الثّمن، فَلَمَّا لم يؤد كَانَ لَهُ نقضه مَا دَامَ الْمَبِيع قَائِما بِعَيْنِه، فَإِذا فَاتَ الْمَبِيع لم يُمكن أَن يرد الْمَبِيع، فَيصير دينه كَسَائِر الدُّيُون.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من سره أَن ينجيه الله من كرب يَوْم الْقِيَامَة فلينفس عَن مُعسر أَو يضع عَنهُ ".
أَقُول: هَذَا ندب إِلَى السماحة الَّتِي هِيَ من أصُول مَا ينفع فِي الْمعَاد والمعاش، وَقد(2/176)
ذَكرْنَاهُ.
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام:
" مطل الْغَنِيّ ظلم، وَإِذا أتبع أحدكُم على ملئ فَليتبعْ " أَقُول: هَذَا أَمر اسْتِحْبَاب لِأَن فِيهِ قطع المناقشة.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لى الْوَاجِد يحل عرضه وعقوبته "، أَقُول: هُوَ هَذَا أَن يغلظ لَهُ فِي القَوْل، وَيحبس، وَيجْبر على البيع إِن لم يكن لَهُ مَال غَيره.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" الصُّلْح جَائِز بَين الْمُسلمين إِلَّا صلحا حرم حَلَالا، أَو أحل حَرَامًا، والمسلمون على شروطهم إِلَّا شرطا حرم حَلَالا، أَو أحل حَرَامًا " فَمِنْهُ وضع جُزْء من الدّين كقصة ابْن أبي حَدْرَد، وَهَذَا الحَدِيث أحد الْأُصُول فِي بَاب الْمُعَامَلَات
(التَّبَرُّع والتعاون)
التَّبَرُّع أَقسَام: صَدَقَة إِن أُرِيد بِهِ وَجه الله، وَيجب أَن يكون مصرفة مَا ذكر الله تَعَالَى فِي قَوْله:
{إِنَّمَا الصَّدقَات للْفُقَرَاء} الْآيَة
وهدية إِن قصد بِهِ وَجه الْمهْدي لَهُ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أعْطى عَطاء فَوجدَ فليجز بِهِ، وَمن لم يجد فليثن، فَإِن من أثنى فقد شكر، وَمن كتم فقد كفر، وَمن تحلى بِمَا لم يُعْط كَانَ كلابس ثوبي زور "
اعْلَم أَن الْهَدِيَّة إِنَّمَا يَبْتَغِي بهَا إِقَامَة الألفة فِيمَا بَين النَّاس، وَلَا يتم هَذَا الْمَقْصُود إِلَّا بِأَن يرد إِلَيْهِ مثله، فَإِن الْهَدِيَّة تحبب الْمهْدي إِلَى المهدى لَهُ من غير عكس، وَأَيْضًا فَإِن الْيَد الْعليا خير من الْيَد السُّفْلى، وَلمن أعطي الطول على من أَخذ، فَإِن عجز فليشكره، وليظهر نعْمَته فَإِن الثَّنَاء أول اعْتِدَاد بنعمته وإضمار لمحبته، وَأَنه يفعل فِي إيراث الْحبّ مَا تفعل الْهَدِيَّة، وَمن كتم فقد خَالف عَلَيْهِ مَا أَرَادَهُ، وناقض مصلحَة الائتلاف، وغمط حَقه،(2/177)
وَمن أظهر مَا لَيْسَ فِي الْحَقِيقَة فَذَلِك كذب، وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام:
" كلابس ثوبي زور " مَعْنَاهُ كمن تردى أَو اتزر بالزور وَشَمل الزُّور جَمِيع بدنه.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من صنع إِلَيْهِ مَعْرُوف، فَقَالَ لفَاعِله:
جَزَاك الله خيرا، فقد أبلغ فِي الثَّنَاء " أَقُول: إِنَّمَا عين النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِه اللَّفْظَة لِأَن الْكَلَام الزَّائِد فِي مثل هَذَا الْمقَام إطراء وإلحاح، والناقص، كتمان وغمط "، وَأحسن مَا يحيي بِهِ بعض الْمُسلمين بِهِ بَعْضًا مَا يذكر الْمعَاد، ويحيل الْأَمر على الله، وَهَذِه اللَّفْظَة نِصَاب صَالح بِجَمِيعِ مَا ذكرنَا.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" تهادوا، فَإِن الْهَدِيَّة تذْهب الضغائن " وَفِي رِوَايَة " تذْهب وحر الصَّدْر " أَقُول: الْهَدِيَّة وَإِن قلت تدل على تَعْظِيم المهدى لَهُ، وَكَونه مِنْهُ على بَال، وَأَنه يُحِبهُ، ويرغب فِيهِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَة فِي حَدِيث "
لَا تحقرن جَارة لجارتها وَلَو فرسن شاه " فَلذَلِك كَانَ طَرِيقا صَالحا لدفع الضغينة، ويدفعها تَمام الألفة فِي الْمَدِينَة والحي.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من عرض عَلَيْهِ ريحَان فَلَا يردهُ، فَإِنَّهُ خَفِيف الْمحمل طيب الرّيح " أَقُول: إِنَّمَا كره رد الريحان، وَمَا يُشبههُ لخفة مُؤْنَته، وتعامل النَّاس بإهدائه، فَلَا يلْحق هَذَا كثير عَار فِي قبُوله، وَلَا فِي ذَلِك كثير حرج فِي إهدائه، وَفِي التَّعَامُل بذلك إئتلاف، وَفِي رده فَسَاد ذَات الْبَين، وإضمار على وحر.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" الْعَائِد فِي هِبته كَالْكَلْبِ يعود فِي قيئه، لَيْسَ لنا مثل السوء " أَقُول: إِنَّمَا كره الرُّجُوع فِي الْهِبَة لِأَن منشأ الْعود فِيمَا أفرزه عَن مَاله، وَقطع الطمع عَنهُ إِمَّا شح بِمَا أعْطى، أَو تضجر مِنْهُ، أَو إِضْرَار لَهُ، وكل ذَلِك من الْأَخْلَاق المذمومة، وَأَيْضًا نفي نقض الْهِبَة بعد مَا أحكم، وأمضى وحر وضغينة، بِخِلَاف مَا لم يُعْط من أول الْأَمر، فَشبه النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعود فِيمَا أفرزه من ملكه بِعُود الْكَلْب فِي قيئه، يمثل لَهُم الْمَعْنى بادئ الرَّأْي وَبَين لَهُم قبح تِلْكَ الْحَالة بأبلغ وَجه اللَّهُمَّ إِلَّا
إِذا كَانَ بَينهمَا مباسطة ترفع المناقشة ك الْوَالِد وَالْولد، وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام:
" إِلَّا الْوَالِد من وَلَده ".
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَن ينْحل بعض أَوْلَاده مَا لم ينْحل الآخر.
" أَيَسُرُّك أَن يَكُونُوا إِلَيْك فِي الْبر سَوَاء؟ قَالَ: بلَى. قَالَ: فَلَا إِذا ".(2/178)
أَقُول: إِنَّمَا كره تَفْضِيل بعض الْأَوْلَاد على بعض فِي الْعَطِيَّة لِأَنَّهُ يُورث الحقد فِيمَا بَينهم والضغينة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَالِد، فَأَشَارَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَن تَفْضِيل بَعضهم إِلَى بعض سَبَب أَن يضمر المنقوص لَهُ على ضغينة، ويطوي على غل، فيقصر فِي الْبر، وَفِي ذَلِك فَسَاد الْمنزل.
وَوَصِيَّة إِن كَانَ موقنا بِالْمَوْتِ، وَإِنَّمَا جرت بهَا السّنة لِأَن الْملك فِي بني آدم عَارض لِمَعْنى المشاحة، فَإِذا قَارب أَن يَسْتَغْنِي عَنهُ بِالْمَوْتِ اسْتحبَّ أَن يتدارك مَا قصر فِيهِ، ويواسي من وَجب حَقه عَلَيْهِ فِي مثل هَذِه السَّاعَة.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" أوص بِالثُّلثِ وَالثلث كثير ". وَاعْلَم أَن مَال الْمَيِّت ينْتَقل إِلَى ورثته عِنْد طوائف الْعَرَب والعجم، وَهُوَ كالجبلة عِنْدهم وَالْأَمر اللَّازِم فِيمَا بَينهم لمصَالح لَا تحصى، فَلَمَّا مرض، وأشرف على الْمَوْت توجه طَرِيق لحُصُول ملكهم، فَيكون تأييسهم عَمَّا يتوقعون غمطا لحقهم وتفريطا فِي جنبهم، وَأَيْضًا فالحكمة أَن يَأْخُذ مَاله من بعده أقرب النَّاس مِنْهُ، وَأَوْلَادهمْ، بِهِ وأنصرهم لَهُ، وَأَكْثَرهم مواساة، وَلَيْسَ أحد فِي ذَلِك بِمَنْزِلَة الْوَالِد وَالْولد، وَغَيرهمَا من الْأَرْحَام. وَهُوَ وَقَوله تَعَالَى:
{وَأولُوا الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض فِي كتاب الله}
وَمَعَ ذَلِك فكثيراً مَا تقع أُمُور توجب مواساة غَيرهم، وَكَثِيرًا مَا يُوجب خُصُوص الْحَال أَن يخْتَار غَيرهم، فَلَا بُد من ضرب حد لَا يتجاوزه النَّاس وَهُوَ الثُّلُث لِأَنَّهُ لَا بُد من تَرْجِيح الْوَرَثَة، وَذَلِكَ بِأَن يكون لَهُم أَكثر من النّصْف، فَضرب لَهُم الثُّلثَيْنِ، ولغيرهم الثُّلُث.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِن الله أعْطى لكل ذِي حق حَقه، فَلَا وَصِيَّة لوَارث. أَقُول: لما كَانَ النَّاس فِي الْجَاهِلِيَّة يضارون فِي الْوَصِيَّة، وَلَا يتبعُون فِي ذَلِك الْحِكْمَة الْوَاجِبَة، فَمنهمْ من ترك الْحق والأوجب سواساته، وَاخْتَارَ الْأَبْعَد بِرَأْيهِ الأبتر. وَجب أَن يسد هَذَا الْبَاب، وَوَجَب عِنْد ذَلِك أَن يعْتَبر المظان الْكُلية بِحَسب الْقرَابَات دون الخصوصيات الطارئة بِحَسب الْأَشْخَاص، فَلَمَّا تقرر أَمر الْمَوَارِيث قطعا لمنازعتهم وسدا لضغائنهم كَانَ من حكمه أَلا يسوغ الْوَصِيَّة لوَارث؛ إِذْ فِي ذَلِك مناقضة للحد الْمَضْرُوب.(2/179)
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
" مَا حق امْرِئ مُسلم لَهُ شَيْء يُوصي فِيهِ يبيت لَيْلًا إِلَّا ووصيته مَكْتُوبَة عِنْده ". أَقُول: اسْتحبَّ تَعْجِيل الْوَصِيَّة احْتِرَازًا من أَن يهجمه الْمَوْت، أَو يحدث حَادث بَغْتَة، فتفوته الْمصلحَة الَّتِي يجب إِقَامَتهَا عِنْده، فيتحسر، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" أَيّمَا رجل أعمر عمري " الحَدِيث. أَقُول: كَانَ فِي زمَان النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مناقشات لَا تكَاد تَنْقَطِع، فَكَانَ قطعهَا إِحْدَى الْمصَالح الَّتِي بعث النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا كالربا والثارات وَغَيرهَا، وَكَانَ قوم أعمروا لقوم، ثمَّ انقرض هَؤُلَاءِ
وَهَؤُلَاء، فجَاء الْقرن الآخر، فَاشْتَبَهَ عَلَيْهِم الْحَال، فتخاصموا، فَبين النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه إِن كَانَ نَص الْوَاجِب هِيَ لَك ولعقبك فَهِيَ هبة؛ لِأَنَّهُ بَين الْأَمر بِمَا يكون من خَواص الْهِبَة الْخَالِصَة، وَإِن قَالَ: هِيَ لَك مَا عِشْت فَهِيَ إِعَارَة إِلَى مُدَّة لمُدَّة حَيَاته؛ لِأَنَّهُ قَيده بِقَيْد يُنَافِي الْهِبَة.
وَمن التَّبَرُّعَات الْوَقْف وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة لَا يعرفونه، فاستنبطه النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمصَالح لَا تُوجد فِي سَائِر الصَّدقَات، فَإِن الْإِنْسَان رُبمَا يصرف فِي سَبِيل الله مَالا كثيرا، ثمَّ يفنى، فَيحْتَاج أُولَئِكَ الْفُقَرَاء تَارَة أُخْرَى، وَيَجِيء أَقوام آخَرُونَ من الْفُقَرَاء، فيبقون محرومين، فَلَا أحسن وَلَا أَنْفَع للعامة من أَن يكون شَيْء حبسا للْفُقَرَاء وَأَبْنَاء السَّبِيل تصرف عَلَيْهِم منافعة، وَيبقى أَصله على ملك الْوَاقِف، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمر رَضِي الله عَنهُ:
" إِن شِئْت حبست أَصْلهَا؛ وتصدقت بهَا " فَتصدق بهَا عمر أَنه لَا يُبَاع أَصْلهَا، وَلَا يُوهب، وَلَا يُورث، وَتصدق بهَا فِي الْفُقَرَاء وَفِي الْقُرْبَى، وَفِي الرّقاب، وَفِي سَبِيل الله، وَابْن السَّبِيل، والضعيف، لَا جنَاح على من وَليهَا أَن يَأْكُل مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَيطْعم غير مُتَمَوّل.
أما المعاونة فَهِيَ أَنْوَاع أَيْضا: مِنْهَا الْمُضَاربَة، وَهِي أَن يكون المَال لإِنْسَان، وَالْعَمَل فِي التِّجَارَة من الآخر ليَكُون الرِّبْح بَينهَا على مَا يبينانه.
والمفاوضة أَن يعْقد رجلَانِ مَا لَهما سَوَاء الشّركَة فِي جَمِيع مَا يشتريانه ويبيعانه، وَالرِّبْح بَينهمَا، وكل وَاحِد كَفِيل الآخر ووكيله.
والعنان أَن يعقدا الشّركَة فِي مَال معِين كَذَلِك، وَيكون كل وَاحِد وَكيلا للْآخر فِيهِ وَلَا يكون كَفِيلا يُطَالب بِمَا على الآخر.
وَشركَة الصَّنَائِع كخياطين أَو صباغين اشْتَركَا على أَن يتَقَبَّل كل وَاحِد، وَيكون الْكسْب بَينهمَا.(2/180)
وَشركَة الْوُجُوه أَن يشتركا وَلَا مَال بَينهمَا على أَن يشتريا بوجوههما، ويبيعا، الرِّبْح بَينهمَا.
وَالْوكَالَة أَن يكون أَحدهمَا يعْقد الْعُقُود لصَاحبه.
وَالْمُسَاقَاة أَن تكون أصُول الشّجر لرجل فَيَكْفِي مؤنتها الآخر على أَن يكون الثَّمر بَينهمَا.
والمزارعة أَن تكون الأَرْض وَالْبذْر لوَاحِد، وَالْعَمَل، وَالْبَقر من الآخر
وَالْمُخَابَرَة أَن تكون الأَرْض لوَاحِد، وَالْبذْر، وَالْبَقر، وَالْعَمَل من الآخر، وَنَوع آخر يكون الْعَمَل من أَحدهمَا وَالْبَاقِي من الآخر.
وَالْإِجَارَة وفيهَا معنى الْعِبَادَة. وَمعنى المعاونة فَإِن كَانَ الْمَطْلُوب نفس الْمَنْفَعَة فالمبادلة غالبة، وَإِن كَانَ خُصُوص الْعَامِل مَطْلُوبا فَمَعْنَى المعاونة غَالب، وَهَذِه عُقُود كَانَ النَّاس يتعاملون بهَا قبل النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا لم يكن مِنْهَا محلا لمناقشة غَالِبا، وَلم بنه عَنهُ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ بَاقٍ على إِبَاحَته دَاخل فِي قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" الْمُسلمُونَ على شروطهم ".
وَقد اخْتلف الروَاة فِي حَدِيث رَافع بن خديج اخْتِلَافا فَاحِشا، وَكَانَ وُجُوه التَّابِعين يتعاملون بالمزراعة، وَيدل على الْجَوَاز حَدِيث مُعَاملَة أهل خَيْبَر، وَأَحَادِيث النَّهْي عَنْهَا مَحْمُولَة على الْإِجَارَة بِمَا على الماذيانات أَو قِطْعَة مُعينَة، وَهُوَ قَوْله رَافع رَضِي الله عَنهُ، أَو على التَّنْزِيه والإرشاد وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا، أَو على مصلحَة خَاصَّة بذلك الْوَقْت من جِهَة كَثْرَة مناقشتهم فِي هَذِه الْمُعَامَلَة حِينَئِذٍ، وَهُوَ قَول زيد رَضِي الله عَنهُ وَالله أعلم.
(الْفَرَائِض)
اعْلَم أَنه أوجبت الْحِكْمَة أَن تكون السّنة بَينهم أَن يتعاون أهل الْحَيّ فِيمَا بَينهم، ويتناصروا، ويتواسوا، وَأَن يَجْعَل كل وَاحِد ضَرَر الآخر ونفعه بِمَنْزِلَة ضَرَر نَفسه ونفعه،(2/181)
وَلَا يُمكن إِقَامَة ذَلِك إِلَّا بجبلة تؤكدها أَسبَاب طارئة، ويسجل عَلَيْهَا سنة متوارثه بَينهم فالجبلة هِيَ مَا بَين الْوَالِد، وَالْولد، والأخوة، وَغير ذَلِك من المرادة.
والأسباب الطارئة هِيَ التألف، والزيارة، والمهاداة، والمواساة فَإِن كل ذَلِك يحبب الْوَاحِد إِلَى الآخر، ويشجع على النَّصْر والمعاونة فِي الكريهات.
وَأما السّنة فَهِيَ مَا نطقت بِهِ الشَّرَائِع من وجوب صلَة الْأَرْحَام وَإِقَامَة اللأئمة على إهمالها، ثمَّ لما كَانَ من النَّاس من يتبع فكرا فَاسِدا، وَلَا يُقيم صلَة الرَّحِم كَمَا يَنْبَغِي، ويعد مَا دون الْوَاجِب كثيرا مست الْحَاجة إِلَى إِيجَاب بعض ذَلِك عَلَيْهِم، أشاءوا، أم أَبَوا مثل عِيَادَة الْمَرِيض، وَفك العاني، وَالْعقل، وإعتاق مَا ملكه من ذِي حم وَغير ذَلِك، وأحق هَذَا الصِّنْف مَا اسْتغنى عَنهُ بالإشراف على الْمَوْت، فَإِنَّهُ يجب فِي مثل ذَلِك أَن يصرف مَاله على عينه فِيمَا هُوَ نَافِع فِي المعاونات المنزلية، أَو يصرف مَاله من بعده فِي أَقَاربه.
وَاعْلَم أَن الأَصْل فِي الْفَرَائِض أَن النَّاس جَمِيعهم عربهم وعجمهم اتَّفقُوا على أَن أَحَق النَّاس بِمَال الْمَيِّت أَقَاربه وأرحامه، ثمَّ كَانَ لَهُم بعد ذَلِك اخْتِلَاف شَدِيد، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يورثون الرِّجَال دون النِّسَاء يرَوْنَ أَن الرِّجَال هم القائمون بالبيضة، وهم الذابون عَن الذمار، فهم أَحَق بِمَا يكون شبه
المجان، وَكَانَ أول مَا نزل على النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجوب الْوَصِيَّة للاقربين من غير تعْيين وَلَا تَوْقِيت؛ لِأَن النَّاس أَحْوَالهم مُخْتَلفَة: فَمنهمْ من ينصره أحد أَخَوَيْهِ دون الآخر، وَمِنْهُم من ينصره وَالِده، وعَلى هَذَا الْقيَاس فَكَانَت الْمصلحَة أَن يُفَوض الْأَمر إِلَيْهِم، ليحكم كل وَاحِد مَا يرى من مصلحَة، ثمَّ إِذا ظهر من موص جنف أَو إِثْم كَانَ للقضاة أَن يصلحوا وَصيته، ويغيروا، فَكَانَ الحكم على ذَلِك مُدَّة، ثمَّ أَنه لما ظَهرت أَحْكَام الْخلَافَة الْكُبْرَى، وزوى للنَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا؛ وتشعشعت أنوار الْبعْثَة الْعَامَّة أوجبت الْمصلحَة أَلا يَجْعَل أَمرهم إِلَيْهِم وَلَا إِلَى الْقُضَاة من بعدهمْ، بل يَجْعَل على المظان الغالبية فِي علم الله من عادات الْعَرَب والعجم وَغَيرهم مِمَّا يكون كالأمر الطبيعي، وَيكون مُخَالفَة كالشاذ النَّادِر وكالبهيمية المخدجة الَّتِي تولد جَدْعَاء أَو عرجاء خرقا للْعَادَة المستمرة، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{لَا تَدْرُونَ أَيهمْ أقرب لكم نفعا}
ومسائل الْمَوَارِيث تبتنى على أصُول: مِنْهَا أَن الْمُعْتَبر فِي هَذَا الْبَاب هُوَ المصاحبة الطبيعية؛ والمناصرة؛ والموادة الَّتِي هِيَ(2/182)
كمذهب جبلي، دون الاتفاقات الطارئة؛ فَإِنَّهَا غير مضبوطة، وَلَا يُمكن أَن يبْنى عَلَيْهَا النواميس الْكُلية؛ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{وَأولُوا الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض فِي كتاب الله}
فَلذَلِك لم يَجْعَل الْمِيرَاث إِلَّا لأولي الْأَرْحَام غير الزَّوْجَيْنِ؛ فَإِنَّهُمَا لاحقان بِأولى الْأَرْحَام داخلان فِي تضاعيفهم لوجوه: مِنْهَا تَأْكِيد التعاون فِي تَدْبِير
الْمنزل، والحث على أَن يعرف كل وَاحِد مِنْهُمَا ضَرَر الآخر ونفعه رَاجعا إِلَى نَفسه، وَمِنْهَا أَن الزَّوْج ينْفق عَلَيْهَا، ويستودع مِنْهَا مَاله؛ ويأمنها على ذَات يَده؛ حَتَّى يتخيل أَن جَمِيع مَا تركته أَو بعض ذَلِك حَقه فِي الْحَقِيقَة، وَتلك خُصُومَة لَا تكَاد تنصرم؛ فعالج الشَّرْع هَذَا الدَّاء بِأَن جعل لَهُ الرّبع أَو النّصْف، ليَكُون جَابِرا لِقَلْبِهِ وكاسرا لسورة خصومته، وَمِنْهَا أَن الزَّوْجَة رُبمَا تَلد من زَوجهَا أَوْلَادًا هم من قوم الرجل لَا محَالة وَأهل نسبه ومنصبه، واتصال الْإِنْسَان بِأُمِّهِ لَا يَنْقَطِع أبدا، فَمن هَذَا الْجِهَة تدخل الزَّوْجَة فِي تضاعيف من لَا يَنْفَكّ عَن قومه، وَتصير بِمَنْزِلَة ذَوي الْأَرْحَام، وَمِنْهَا أَنه يجب عَلَيْهَا يعده أَن تَعْتَد فِي بَيته لمصَالح لَا تخفى وَلَا متكفل لمعيشتها من قومه، فَوَجَبَ أَن تجْعَل كفايتها فِي مَال الزَّوْج، وَلَا يُمكن أَن يَجْعَل قدرا مَعْلُوما لِأَنَّهُ لَا يدْرِي كم يتْرك، فَوَجَبَ جُزْء شَائِع كَالثّمنِ، وَالرّبع.
وَمِنْهَا أَن الْقَرَابَة نَوْعَانِ: أَحدهمَا مَا يَقْتَضِي الْمُشَاركَة فِي الْحسب، والمنصب، وَأَن يَكُونَا من قوم وَاحِد وَفِي منزله وَاحِدَة، وَثَانِيهمَا مَا لَا يَقْتَضِي الْمُشَاركَة فِي الْحسب، وَالنّسب، والمنزلة، وَلكنه مَظَنَّة الود والرفق، وَأَنه لَو كَانَ أَمر قسْمَة التَّرِكَة إِلَى الْمَيِّت لما جَاوز تِلْكَ الْقَرَابَة، وَيجب أَن يفضل النَّوْع الأول على الثَّانِي، لِأَن النَّاس عربهم وعجمهم يرَوْنَ إِخْرَاج منصب الرجل وثروته من قومه إِلَى قوم آخَرين جورا وهضما، ويسخطون على ذَلِك، وَإِذا أعطي مَال الرجل ومنصبه لمن يقوم مقَامه من قومه رَأَوْا ذَلِك عدلا، وَرَضوا بِهِ وَذَلِكَ كالجبلة الَّتِي لَا تنفك مِنْهُم إِلَّا أَن تقطع قُلُوبهم اللَّهُمَّ إِلَّا فِي زَمَاننَا حِين اختلت الانساب، وَلم يكن تناصرهم بنسبهم، وَلَا يجوز أَن يهمل حق النَّوْع الثَّانِي أَيْضا بعد ذَلِك وَلذَلِك كَانَ نصيب الْأُم مَعَ أَن برهَا أوجب وصلتها أوكد أقل من نصيب الْبِنْت. وَالْأُخْت فَإِنَّهَا لَيست من قوم ابْنهَا وَلَا من أهل حَسبه وَنسبه ومنصبه وشرفه، وَلَا مِمَّن يقوم مقَامه، أَلا ترى أَن الابْن رُبمَا يكون هاشميا، وَالأُم حبشية، وَالِابْن
قرشيا، وَالأُم عجمية، وَالِابْن من بَيت الْخلَافَة، وَالأُم مغموصا عَلَيْهَا بعهر ودناءة، أما الْبِنْت وَالْأُخْت فهما من قوم الْمَرْء وَأهل منصبه، وَكَذَلِكَ أَوْلَاد الْأُم لم يرثوا حِين ورثوا إِلَّا ثلثا لَا يُزَاد لَهُم عَلَيْهِ(2/183)
أَلْبَتَّة، أَلا ترى أَن الرجل يكون من قُرَيْش وَأَخُوهُ لأمه من تَمِيم، وَقد يكون بَين القبيلتين خُصُومَة، فينصر كل رجل قومه على قوم الآخر، وَلَا يرى النَّاس قِيَامه مقَام أَخِيه عدلا، وَكَذَلِكَ الزَّوْجَة الَّتِي هِيَ لاحقة بذوي الْأَرْحَام دَاخِلَة فِي تضاعيفها لم تَجِد إِلَّا أوكس الانصباء، وَإِذا اجْتمعت جمَاعَة مِنْهُنَّ اشتركن فِي ذَلِك النَّصِيب، وَلم يرز أَن سَائِر الْوَرَثَة أَلْبَتَّة، أَلا ترى أَنَّهَا تتَزَوَّج بعد بَعْلهَا زوجا غَيره، فتنقطع العلاقة بِالْكُلِّيَّةِ.
وَبِالْجُمْلَةِ فالتوارث يدورعلى معَان ثَلَاثَة: الْقيام مقَام الْمَيِّت فِي شرفه ومنصبه وَمَا هُوَ من هَذَا الْبَاب، فَإِن الْإِنْسَان يسْعَى كل السَّعْي، ليبقي لَهُ خلف يقوم مقَامه، والخدمة. والمواساة. والرفق. والحدب عَلَيْهِ من هَذَا الْبَاب، الثَّالِث الْقَرَابَة المتضمنة لهذين الْمَعْنيين جَمِيعًا، والأقدم بِالِاعْتِبَارِ هُوَ الثَّالِث، ومظنتها جَمِيعًا على وَجه الْكَمَال من يدْخل فِي عَمُود النّسَب كَالْأَبِ. وَالْجد. وَالِابْن. وَابْن الابْن فَهَؤُلَاءِ أَحَق الْوَرَثَة بِالْمِيرَاثِ، غير أَن قيام الابْن مقَام أَبِيه هُوَ الْوَضع الطبيعي الَّذِي عَلَيْهِ بِنَاء الْعَالم من انْقِرَاض قرن وَقيام الْقرن الثَّانِي مقامهم، وَهُوَ الَّذِي يرجونه، ويتوقعونه، ويحصلون الْأَوْلَاد والأحفاد لأَجله، أما قيام الْأَب بعد ابْنه فَكَأَنَّهُ لَيْسَ بِوَضْع طبيعي، وَلَا مَا يطلبونه، ويتوقعونه، وَلَو أَن الرجل خير فِي مَاله لكَانَتْ مواساة وَلَده أملك لِقَلْبِهِ من مواساة وَالِده، فَلذَلِك كَانَت السّنة الفاشية فِي طوائف النَّاس تَقْدِيم الْأَوْلَاد على الأباء، أما الْقيام مقَامه فمظنته بعد مَا ذكرنَا الْأُخوة وَمن فِي مَعْنَاهُ مِمَّن هم كالعضد وكالصنو وَمن قوم
الْمَرْء وَأهل نسبه وشرفه، وَأما الْخدمَة والرفق فمظنة الْقَرَابَة الْقَرِيبَة، فالأحق بِهِ الْأُم وَالْبِنْت وَمن فِي مَعْنَاهُمَا مِمَّن يدْخل فِي عَمُود النّسَب، وَلَا تَخْلُو الْبَتّ من قيام مَا مقَامه، ثمَّ الْأُخْت وَلَا تَخْلُو أَيْضا من قيام مَا مقَامه، ثمَّ من بِهِ علاقَة التَّزَوُّج، ثمَّ أَوْلَاد الْأُم، وَالنِّسَاء لَا يُوجد فِيهِنَّ معنى الحماية وَالْقِيَام مقَامه كَيفَ وَالنِّسَاء رُبمَا تَزَوَّجن فِي قوم آخَرين، ويدخلن فيهم اللَّهُمَّ إِلَّا الْبِنْت وَالْأُخْت على ضعف فيهمَا، وَيُوجد فِي النِّسَاء معنى الرِّفْق والحدب كَامِلا موفرا، وَإِنَّمَا مَظَنَّة الْقَرَابَة الْقَرِيبَة جدا كالأم وَالْبِنْت ثمَّ الْأُخْت دون الْبَعِيدَة كالعمة وعمة الْأَب، وَالْبَاب الأول يُوجد فِي الْأَب وَالِابْن كَامِلا، ثمَّ الْأُخوة، ثمَّ الْأَعْمَام، وَالْمعْنَى الثَّانِي يُوجد فِي الْأَب كَامِلا، ثمَّ الابْن، ثمَّ الْأَخ لأَب(2/184)
وَأم أَو لأم، وَإِنَّمَا مَظَنَّة الْقَرَابَة الْقَرِيبَة دون الْبَعِيدَة، فَمن ثمَّ لم يَجْعَل للعمة شَيْء مِمَّا للعم لِأَنَّهَا لَا تذب عَنهُ كَمَا يذب الْعم وَلَيْسَت كالاخت فِي الْقرب.
وَمِنْهَا أَن الذّكر يفضل على الْأُنْثَى إِذا كَانَا فِي منزلَة وَاحِدَة أبدا لاخْتِصَاص الذُّكُور بحماية الْبَيْضَة والذب عَن الذمار، وَلِأَن الرِّجَال عَلَيْهِم انفاقات كَثِيرَة، فهم أَحَق مَا يكون شبه المجان، بِخِلَاف النِّسَاء فَإِنَّهُنَّ كل على أَزوَاجهنَّ أَو آبائهن أَو أبنائهن، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{الرِّجَال قوامون على النِّسَاء بِمَا فضل الله بَعضهم على بعض وَبِمَا أَنْفقُوا}
وَقَالَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ فِي مَسْأَلَة ثلث الْبَاقِي: مَا كَانَ الله ليريني أَن أفضل أما على أَب، غير أَن الْوَالِد لما اعْتبر فَضله مرّة بجمعه بَين الْعُصُوبَة وَالْفَرْض وَلم يعْتَبر ثَانِيًا بتضاعف نصِيبه أَيْضا، فَإِنَّهُ غمط لحق سَائِر الْوَرَثَة، وَأَوْلَاد الْأُم لَيْسَ للذّكر مِنْهُم حماية للبيضة وَلَا ذب عَن الذمار، فَإِنَّهُم من
قوم آخَرين، فَلم يفضل على الْأُنْثَى، وَأَيْضًا فَإِن قرابتهم منشعبة من قرَابَة الْأُم فكأنهم جَمِيعًا إناث.
وَمِنْهَا أَنه إِذا اجْتمع جمَاعَة من الْوَرَثَة فَإِن كَانُوا فِي مرتبَة وَاحِدَة وَجب أَن يوزع عَلَيْهِم لعدم تقدم وَاحِد مِنْهُم على الآخر وَإِن كَانُوا فِي منَازِل شَتَّى فَذَلِك على وَجْهَيْن: إِمَّا أَن يعمهم اسْم وَاحِد أَو جِهَة وَاحِدَة وَالْأَصْل فِيهِ أَن الْأَقْرَب يحجب الْأَبْعَد حرمانا لِأَن التَّوَارُث إِنَّمَا شرع حثا على التعاون وَلكُل قرَابَة وتعاون كالرفق فِيمَن يعمهم اسْم الْأُم وَالْقِيَام مقَام الرجل فِيمَن يعمهم اسْم الابْن والذب عَنهُ فِيمَن يعمهم اسْم الْعُصُوبَة. وَلَا تتَحَقَّق هَذِه الْمصلحَة إِلَّا بِأَن يتَعَيَّن من يُؤَاخذ نَفسه بذلك، ويلام على تَركه، ويتميز من سَائِر من هُنَالك بِالنَّبلِ اما فضل سهم على سهم، فَلَا يَجدونَ لَهُ كثير بَال أَو تكون أَسمَاؤُهُم وجهاتهم مُخْتَلفَة، وَالْأَصْل فِيهِ أَن الْأَقْرَب والأنفع فِيمَا عِنْد الله من علم المظان الغالبية يحجب الْأَبْعَد نُقْصَانا.
وَمِنْهَا أَن السِّهَام الَّتِي تعين بهَا الْأَنْصِبَاء يجب أَن تكون أجزاؤها ظَاهِرَة يتميزها بادئ الرَّأْي المحاسب وَغَيره، وَقد أَشَارَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله:
" إِنَّا أمة أُميَّة لَا نكتب وَلَا نحسب " إِلَى أَن الَّذِي يَلِيق أَن يُخَاطب بِهِ جُمْهُور الْمُكَلّفين هُوَ مَا لَا يحْتَاج إِلَى تعمق فِي الْحساب وَيجب أَن يكون بِحَيْثُ يظْهر فِيهَا تَرْتِيب الْفضل وَالنُّقْصَان بادئ الرَّأْي، فآثر الشَّرْع من السِّهَام فصلين: الأول الثُّلُثَانِ، وَالثلث، وَالسُّدُس، وَالثَّانِي النّصْف، وَالرّبع، وَالثمن، فَإِن مخرجهما الْأَصْلِيّ أَولا الْأَعْدَاد، ويتحقق فيهمَا ثَلَاث مَرَاتِب بَين كل مِنْهَا نِسْبَة(2/185)
الشَّيْء إِلَى ضعفه ترفعا وَنصفه تنزلا، وَذَلِكَ أدنى أَن يظْهر فِيهِ الْفضل وَالنُّقْصَان محسوسا متبينا، ثمَّ إِذا اعْتبر فضل ظَهرت نسب أُخْرَى لَا بُد مِنْهَا فِي الْبَاب كالشيء الَّذِي زيد على النّصْف، فَلَا يبلغ التَّمام وَهُوَ الثُّلُثَانِ، وَالشَّيْء الَّذِي ينقص عَن النّصْف، وَلَا يبلغ الرّبع وَهُوَ الثُّلُث، وَلم يعْتَبر الْخمس، والسبع لِأَن تَخْرِيج مخرجهما أدق، والترفع والتنزل فيهمَا يحْتَاج إِلَى تعمق فِي الْحساب، وَقَالَ الله تَعَالَى:
{يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِن كن نسَاء فَوق اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثلثا مَا ترك وَإِن كَانَت وَاحِدَة فلهَا النّصْف}
أَقُول: يضعف نصيب الذّكر على الْأُنْثَى، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{الرِّجَال قوامون على النِّسَاء بِمَا فضل الله}
وللبنت المنفردة النّصْف لِأَنَّهُ إِن كَانَ ابْن وَاحِد لأحاط المَال، فَمن حق الْبِنْت الْوَاحِدَة أَن تَأْخُذ نصفه قَضِيَّة للتضعيف، والبنتان حكمهمَا حكم الثَّلَاث بالأجماع، وَإِنَّمَا أعطيتا الثُّلثَيْنِ لِأَنَّهُ لَو كَانَ مَعَ الْبِنْت ابْن لوجدت الثُّلُث،، فالبنت الْأُخْرَى أولى أَلا ترزأ نصِيبهَا من الثُّلُث، وَإِنَّمَا أفضل للْعصبَةِ الثُّلُث لِأَن للبنات مَعُونَة وللعصبات مَعُونَة، فَلم يسْقط إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى، لَكِن كَانَت الْحِكْمَة أَن يفضل من فِي عَمُود النّسَب على من يُحِيط بِهِ من جوانبه، وَذَلِكَ نِسْبَة الثُّلثَيْنِ من الثُّلُث، وَكَذَلِكَ حَال الْوَالِدين مَعَ الْبَنِينَ وَالْبَنَات، وَقَالَ الله تَعَالَى:
{ولأبويه لكل وَاحِد مِنْهُمَا السُّدس مِمَّا ترك إِن كَانَ لَهُ ولد فَإِن لم يكن لَهُ ولد وَورثه أَبَوَاهُ فلأمه الثُّلُث فَإِن كَانَ لَهُ إخْوَة فلأمه السُّدس} الْآيَة.
أَقُول: قد علمت أَن الْأَوْلَاد أَحَق بِالْمِيرَاثِ من الْوَالِدين، وَذَلِكَ بِأَن يكون لَهُم الثُّلُثَانِ، وَلَهُمَا الثُّلُث، وَإِنَّمَا لم يَجْعَل نصيب الْوَالِد أَكثر من نصيب
الْأُم لِأَنَّهُ اعْتبر فَضله من جِهَة قِيَامه مقَام الْوَلَد وذبه عَنهُ مرّة وَاحِدَة بالعصوبة، فَلَا يعْتَبر ذَلِك الْفضل بِعَيْنِه فِي حق التَّضْعِيف أَيْضا، وَعند عدم الْوَلَد لَا أَحَق من الْوَالِدين، فأحاط تَمام الْمِيرَاث، وَفضل الْأَب على الْأُم، وَقد علمت أَن الْفضل الْمُعْتَبر فِي أَكثر هَذِه الْمسَائِل فضل التَّضْعِيف، ثمَّ إِن كَانَ الْمِيرَاث للْأُم والأخوة وهم أَكثر من وَاحِد وَجب أَن ينقص سهمها إِلَى السُّدس لِأَنَّهُ إِن لم تكن الْأُخوة عصبَة، وَكَانَت الْعَصَبَات أبعد من ذَلِك فالعصوبة، والرفق، والمودة على السوَاء، فَجعل النّصْف لهَؤُلَاء، وَالنّصف لهَؤُلَاء ثمَّ قسم النّصْف على الْأُم وَأَوْلَادهَا، فَجعل السُّدس لَهَا أَلْبَتَّة لَا ينقص سهمها مِنْهُ، وَالْبَاقِي لَهُم جَمِيعًا، وَإِن كَانَت الْأُخوة(2/186)
عصبات فقد اجْتمع فيهم الْقَرَابَة الْقَرِيبَة والحماية، وَكَثِيرًا مَا يكون مَعَ ذَلِك وَرَثَة آخَرُونَ كالبنت والبنين وَالزَّوْج فَلَو لم يَجْعَل لَهَا السُّدس حصل التفسيق عَلَيْهِم. وَقَالَ تَعَالَى:
{وَلكم نصف مَا ترك أزواجكم إِن لم يكن لَهُنَّ ولد فَإِن كَانَ لَهُنَّ ولد فلكم الرّبع مِمَّا تركن من بعد وَصِيَّة يوصين بهَا أَو دين ولهن الرّبع مِمَّا تركْتُم إِن لم يكن لكم ولد فَإِن كَانَ لكم ولد فَلَهُنَّ الثّمن مِمَّا تركْتُم من بعد وَصِيَّة توصون بهَا أَو دين} .
أَقُول: الزَّوْج يَأْخُذ الْمِيرَاث لِأَنَّهُ ذُو الْيَد عَلَيْهَا وعَلى مَالهَا، فاخراج المَال من يَده يسوؤه، وَلِأَنَّهُ يودع مِنْهَا، ويأمنها فِي ذَات يَده حَتَّى يتخيل أَن لَهُ حَقًا قَوِيا فِيمَا فِي يَدهَا أَو الزَّوْجَة تَأْخُذ حق الْخدمَة والمواساة والرفق ففضل الزَّوْج على الزَّوْجَة، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{الرِّجَال قوامون على النِّسَاء}
ثمَّ اعْتبر أَلا يضيقا على الْأَوْلَاد، وَقد علمت أَن الْفضل الْمُعْتَبر فِي أَكثر الْمسَائِل فضل التَّضْعِيف قَالَ تَعَالَى:
{وَإِن كَانَ رجل يُورث كللة أَو امْرَأَة وَله أَخ أَو أُخْت فَلِكُل وَاحِد مِنْهُمَا السُّدس فَإِن كَانُوا أَكثر من ذَلِك فهم شُرَكَاء فِي الثُّلُث} .
أَقُول: هَذِه الْآيَة فِي أَوْلَاد الْأُم للاجماع، وَلما لم يكن لَهُ وَالِد وَلَا ولد جعل لحق الرِّفْق - إِذا كَانَت فيهم الْأُم - النّصْف، وَلحق النُّصْرَة والحماية النّصْف، فان لم تكن أم جعل لَهُم الثُّلُثَانِ، ولهؤلاء الثُّلُث، قَالَ الله تَعَالَى:
{يستفتونك قل الله يفتيكم فِي الكللة إِن امرؤا هلك لَيْسَ لَهُ ولد وَله أُخْت فلهَا نصف مَا ترك وَهُوَ يَرِثهَا إِن لم يكن لَهَا ولد فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا ترك وَإِن كَانُوا أخوة رجَالًا وَنسَاء فللذكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ} الْآيَة.
أَقُول: هَذِه الْآيَة فِي أَوْلَاد الْأَب بني الْأَعْيَان وَبني العلات بالاجماع، والكلالة من لَا وَالِد لَهُ وَلَا ولد، وَقَوله (لَيْسَ لَهُ ولد) كشف لبَعض حَقِيقَة الْكَلَالَة، وَالْجُمْلَة فِي ذَلِك أَنه إِذا لم يُوجد من يدْخل فِي عَمُود النّسَب حمل أقرب من يشبه الْأَوْلَاد وهم الْأُخوة وَالْأَخَوَات على الْأَوْلَاد.
قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ألْحقُوا الْفَرَائِض بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِي فَهُوَ لأولى، رجل ذكر ".
أَقُول: قد علمت أَن الأَصْل فِي التَّوَارُث مَعْنيانِ، وَقد ذكرناهما وَأَن الْمَوَدَّة، والرفق لَا يعْتَبر إِلَّا فِي الْقَرَابَة الْقَرِيبَة جدا كالأم والأخوة دون مَا سوى ذَلِك، فَإِذا جاوزهم(2/187)
الْأَمر تعين التَّوَارُث بِمَعْنى الْقيام مقَام الْمَيِّت والنصرة لَهُ، وَذَلِكَ قوم الْمَيِّت وَأهل نسبه وشرفه الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا يَرث الْمُسلم الْكَافِر وَلَا الْكَافِر الْمُسلم ". أَقُول: إِنَّمَا شرع ذَلِك ليَكُون طَرِيقا إِلَى قطع الْمُوَاسَاة بَينهمَا، فان اخْتِلَاط الْمُسلم بالكافر يفْسد عَلَيْهِ دينه، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى فِي حكم النِّكَاح:
{أُولَئِكَ يدعونَ إِلَى النَّار}
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" الْقَاتِل لَا يَرث " أَقُول إِنَّمَا شرع ذَلِك لِأَن من الْحَوَادِث الْكَثِيرَة الْوُقُوع أَن يقتل الْوَارِث مُوَرِثه، ليحرز مَاله لَا سِيمَا فِي أَبنَاء الْعم وَنَحْوهم، فَيجب أَن تكون السّنة بَينهم تأييس من فعل ذَلِك عَمَّا أَرَادَهُ، لتقطع عَنْهُم تِلْكَ الْمفْسدَة، وَجَرت السّنة أَلا برث العَبْد، وَلَا يُورث، وَذَلِكَ لِأَن مَاله لسَيِّده وَالسَّيِّد أَجْنَبِي.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِن أَعْيَان بني الْأُم يتوارثون دون بني العلات " أَقُول وَذَلِكَ لما ذكرنَا من أَن الْقيام مقَام الْمَيِّت مبناه على الِاخْتِصَاص وحجب الْأَقْرَب والأبعد بالحرمان، وأجمعت الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فِي زوج وأبوين وَامْرَأَة وأبوين أَن للْأُم ثلث الْبَاقِي، وَقد بَين ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ ذَلِك. بِمَا لَا مزِيد عَلَيْهِ حَدِيث قَالَ: مَا كَانَ الله ليريني أَن أفضل أما على
أَب، وَقضى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بنت وَابْنَة ابْن وَأُخْت لأَب وَأم للابنة النّصْف ولابنة الابْن السُّدس وَمَا بَقِي فللاخت.
أَقُول: وَذَلِكَ لِأَن الْأَبْعَد لَا يزاحم الْأَقْرَب فِيمَا يجوزه، فَمَا بَقِي فان الْأَبْعَد أَحَق بِهِ حَتَّى يسْتَوْفى مَا جعل الله لذَلِك النّصْف، فالابنة تَأْخُذ النّصْف كملا وَابْنَة الابْن فِي حكم الْبَنَات، فَلم تزاحم الْبِنْت الْحَقِيقِيَّة، واستوفت مَا بَقِي من نصيب الْبَنَات، ثمَّ كَانَت الْأُخْت عصبَة لِأَن فِيهَا معنى من الْقيام مقَام الْبِنْت وَهِي من أهل شرفه.
وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ فِي زوج وَأم، وأخوة لأَب وَأم، وأخوة لأم: لم يزدهم الْأَب إِلَّا قربا، وتابع عَلَيْهِ ابْن مَسْعُود، وَزيد، وَشُرَيْح، رَضِي الله عَنْهُم، وخلائق، وَهَذَا القَوْل أوفق الْأَقْوَال بقوانين الشَّرْع، وَقضى للجدة بالسدس إِقَامَة لَهَا مقَام الْأُم عِنْد عدمهَا. وَكَانَ أَبُو بكر، وَعُثْمَان، وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم يجْعَلُونَ الْجد ابا، وَهُوَ أولى الْأَقْوَال عِنْدِي.
وَأما الْوَلَاء فالسر فِيهِ النُّصْرَة وحماية الْبَيْضَة، فالأحق بهَا مولى النِّعْمَة، ثمَّ بعده الذُّكُور من قومه الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب، وَالله أعلم.(2/188)
(من أَبْوَاب تَدْبِير الْمنزل)
اعْلَم أَن أصُول فن تَدْبِير الْمنَازل مسلمة عِنْد طوائف الْعَرَب والعجم لَهُم اخْتِلَاف فِي أشباحها وصورها، وَبعث النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَرَب، واقتضت الْحِكْمَة أَن يكون طَرِيق ظُهُور كلمة الله فِي الأَرْض غلبتهم على الْأَدْيَان، وَنسخ عادات أُولَئِكَ بعاداتهم، ورياسة أُولَئِكَ برياساتهم، فَأوجب ذَلِك أَلا يتَعَيَّن تَدْبِير الْمنَازل إِلَّا فِي الْعَادَات للْعَرَب، وَأَن تعْتَبر تِلْكَ الصُّور والأشباح بِأَعْيَانِهَا، وَقد ذكرنَا أَكثر مَا يجب ذكره فِي مُقَدّمَة الْبَاب فِي الارتفاقات وَغَيرهَا فراجع.
(الْخطْبَة وَمَا يتَعَلَّق بهَا)
قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" يَا معشر الشَّبَاب من اسْتَطَاعَ مِنْكُم الْبَاءَة فليتزوج، فانه أَغضّ لِلْبَصَرِ وَأحْصن لِلْفَرجِ، وَمن لم يسْتَطع فَعَلَيهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وَجَاء " اعْلَم أَن الْمَنِيّ إِذا كثر توالده فِي الْبدن صعد بخاره إِلَى الدِّمَاغ، فحبب إِلَيْهِ النّظر إِلَى الْمَرْأَة الجميلة، وشغف قلبه حبها، وَنزل قسط مِنْهُ إِلَى الْفرج، فَحصل الشبق، واشتدت الغلمة، وَأكْثر مَا يكون ذَلِك فِي وَقت الشَّبَاب، وَهَذَا حجاب عَظِيم من حجب الطبيعة يمنعهُ من الإمعان فِي الْإِحْسَان، ويهيجه إِلَى الزِّنَا، وَيفْسد عَلَيْهِ الْأَخْلَاق، ويوقعه فِي مهالك عَظِيمَة من فَسَاد ذَات الْبَين، فَوَجَبَ إمَاطَة هَذَا الْحجاب، فَمن اسْتَطَاعَ الْجِمَاع، وَقدر عَلَيْهِ بِأَن تيسرت لَهُ امْرَأَة على مَا تَأمر بِهِ الْحِكْمَة، وَقدر على نَفَقَتهَا فَلَا أحسن لَهُ من أَن يتَزَوَّج، فان التَّزَوُّج أَغضّ لِلْبَصَرِ وَأحْصن لِلْفَرجِ من حَيْثُ إِنَّه سَبَب لكثر استفراغ الْمَنِيّ، وَمن لم يسْتَطع ذَلِك فَعَلَيهِ بِالصَّوْمِ، فان سرد الصَّوْم لَهُ من خاصية فِي كسر سُورَة الطبيعة، وكبحها عَن غلوائها؛ لما فِيهِ من تقليل مادتها، فيتغير بِهِ كل خلق فَاسد نَشأ من كَثْرَة(2/189)
الِاخْتِلَاط.
ورد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على عُثْمَان بن مطعون التبتل، فَقَالَ: " أما وَالله إِنِّي لأخشاكم لله، وأتقاكم لَهُ، لكني أَصوم، وَأفْطر، وأصلي، وأرقد، وأتزوج النِّسَاء، فَمن رغب عَن سنتي فَلَيْسَ مني ".
اعْلَم أَنه كَانَت المانوية والمترهبة من النَّصَارَى يَتَقَرَّبُون إِلَى الله بترك
النِّكَاح، وَهَذَا بَاطِل، لِأَن طَريقَة الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام الَّتِي ارتضاها الله للنَّاس هِيَ إصْلَاح الطبيعة وَدفع اعوجاجها، لَا سلخها عَن مقتضياتها، وَقد ذكرنَا ذَلِك مستوعبا، فراجع، ثمَّ لَا بُد من الْإِرْشَاد إِلَى الْمَرْأَة الَّتِي يكون نِكَاحهَا مُوَافقا للحكمة موفرا عَلَيْهِ مَقَاصِد تَدْبِير الْمنزل؛ لِأَن الصُّحْبَة بَين الزَّوْجَيْنِ لَازِمَة، والحاجات من الْجَانِبَيْنِ متأكدة، فَلَو كَانَ لَهَا جبلة سوء، وَفِي خلقهَا وعادتها فظاظة، وَفِي لسانها بذاء - ضَاقَتْ عَلَيْهِ الأَرْض بِمَا رَحبَتْ، وانقلبت عَلَيْهِ الْمصلحَة مفْسدَة، وَلَو كَانَت صَالِحَة صلح الْمنزل كل الصّلاح، وتهيأ لَهُ أَسبَاب الْخَيْر من كل جَانب، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" الدُّنْيَا مَتَاع، وَخير مَتَاع الدُّنْيَا الْمَرْأَة الصَّالِحَة "، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تنْكح الْمَرْأَة لأَرْبَع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بِذَات الدّين تربت يداك " وَاعْلَم أَن الْمَقَاصِد الَّتِي يقصدها النَّاس فِي اخْتِيَار الْمَرْأَة أَربع خِصَال غَالِبا: تنْكح لمالها بِأَن يرغب فِي المَال، ويرجو مواساتها مَعَه فِي مَالهَا، أَو يكون أَوْلَاده أَغْنِيَاء لما يَجدونَ من قبل أمّهم، ولحسبها يعْنى مفاخر آبَاء الْمَرْأَة فان التَّزَوُّج فِي الْأَشْرَاف شرف وجاه، ولجمالها فَإِن الطبيعة البشرية راغبة فِي الْجمال، وَكثير من النَّاس تغلب عَلَيْهِم الطبيعة، ولدينها أَي لعفتها عَن الْمعاصِي وَبعدهَا عَن الريب وتقربها إِلَى بارئها بالطاعات ... فَالْمَال، والجاه مقصد من غلب عَلَيْهِ حجاب الرَّسْم ... ؛ وَالْجمال، وَمَا يُشبههُ من الشَّبَاب مقصد من غلب عَلَيْهِ حجاب الطبيعة ... ، وَالدّين مقصد من تهذب بالفطرة، فَأحب أَن تعاونه امْرَأَته فِي دينه وَرغب فِي صُحْبَة أهل الْخَيْر.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" خير نسَاء ركبن الْإِبِل نسَاء قُرَيْش، أحناه على ولد فِي صغره، وأرعاه على زوج فِي ذَات يَده "(2/190)
أَقُول: يسْتَحبّ أَن تكون الْمَرْأَة من كورة وقبلة عادات نسائها صَالحه " فَإِن النَّاس معادن
كمعادن الذَّهَب وَالْفِضَّة وعادات الْقَوْم ورسومهم غالبة على الْإِنْسَان، وبمنزلة الْأَمر المجبول هُوَ عَلَيْهِ، وَبَين أَن نسَاء قُرَيْش خير النِّسَاء من جِهَة أَنَّهُنَّ أحنى إِنْسَان على الْوَلَد فِي صغره، وأرعاه على الزَّوْج فِي مَاله ورقيقه، وَنَحْو ذَلِك، وَهَذَانِ من أعظم مَقَاصِد النِّكَاح، وَبِهِمَا انتظام تَدْبِير الْمنزل، وَإِن أَنْت فتشت حَال النَّاس الْيَوْم فِي بِلَادنَا مَا وَرَاء النَّهر وَغَيرهَا لم تَجِد أرسخ قدما فِي الْأَخْلَاق الصَّالِحَة وَلَا أَشد لُزُوما لَهَا من نسَاء قُرَيْش.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" تزوجوا الْوَلُود الْوَدُود، فَإِنِّي مُكَاثِر بكم الْأُمَم ".
أَقُول: تواد الزَّوْجَيْنِ بِهِ تتمّ الْمصلحَة المنزلية، وَكَثْرَة النَّسْل بهَا تتمّ الْمصلحَة المدنية والملية، وود الْمَرْأَة لزَوجهَا دَال على صِحَة مزاجها، وَقُوَّة طبيعتها مَانع لَهَا من أَن يطمح بصرها إِلَى غَيره، باعث على تجملها بالامتشاط وَغير ذَلِك، وَفِيه تحصين فرجه وَنَظره.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِذا خطب إِلَيْكُم من ترْضونَ دينه وخلقه فَزَوجُوهُ إِن لَا تَفعلُوا تكن فتْنَة فِي الأَرْض وَفَسَاد عريض " أَقُول. لَيْسَ فِي هَذَا الحَدِيث أَن الْكَفَاءَة غير مُعْتَبرَة، كَيفَ وَهِي مِمَّا جبل عَلَيْهِ طوائف النَّاس، وَكَاد يكون الْقدح فِيهَا اشد من الْقَتْل، وَالنَّاس على مَرَاتِبهمْ والشرائع لَا تهمل مثل ذَلِك وَلذَلِك قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ: لأمنعن النِّسَاء إِلَّا من أكفائهن، وَلكنه أَرَادَ أَلا يتبع أحد محقرات الْأُمُور نَحْو قلَّة المَال ورثاثة الْحَال ودمامة الْجمال، أَو يكون ابْن أم ولد وَنَحْو ذَلِك من الْأَسْبَاب بعد أَن يرضى دينه وخلقه، فَإِن اعظم مَقَاصِد تَدْبِير الْمنزل الاصطحاب
فِي خلق حسن، وَأَن يكون ذَلِك الاصطحاب سَببا لصلاح الدّين. قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" الشؤم فِي الْمَرْأَة وَالدَّار وَالْفرس " أَقُول: التَّفْسِير الصَّحِيح الَّذِي يُوجِبهُ مورد الحَدِيث أَن هُنَالك سَببا خفِيا غالبيا يكون بِهِ أَكثر من يتَزَوَّج الْمَرْأَة مثلا محارفا غير مبارك، وَيسْتَحب للرجل إِذا دلّت التجربة على شُؤْم امْرَأَة أَن يرِيح نَفسه بترك تزَوجهَا إِن كَانَت جميلَة أَو ذَات مَال.
وَالْحكمَة تحكم بايثار الْبكر بعد أَن تكون عَاقِلَة بَالِغَة، فَإِنَّهَا أرْضى باليسير لقلَّة(2/191)
خبابتها، وانتق رحما لقُوَّة شبابها وَأقرب للتأدب بِمَا تَأمر بِهِ الْحِكْمَة وَيلْزم عَلَيْهَا، وَأحْصن لِلْفَرجِ وَالنَّظَر بِخِلَاف الثيبات فأنهن أهل خبابة وصعوبة الْأَخْلَاق وَقلة الْأَوْلَاد وَهن كالألواح المنقوشة لَا يكَاد يُؤثر فِيهِنَّ التَّأْدِيب اللَّهُمَّ إِلَّا إِذا كَانَ تَدْبِير الْمنزل لَا يَنْتَظِم إِلَّا بِذَات التجربة كَمَا ذكره جَابر بن عبد الله رَضِي الله عَنْهُمَا.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِذا خطب أحدكُم الْمَرْأَة فَإِن اسْتَطَاعَ أَن ينظر إِلَى مَا يَدعُوهُ إِلَى نِكَاحهَا فَلْيفْعَل " وَقَالَ: " فَإِنَّهُ أَحْرَى أَن يُؤْدم بَيْنكُمَا " وَقَالَ " هَل رَأَيْتهَا فَإِن فِي أعين الْأَنْصَار شَيْئا " أَقُول: السَّبَب فِي اسْتِحْبَاب النّظر إِلَى المخطوبة أَن يكون التَّزَوُّج على روية، وَأَن يكون أبعد من النَّدَم الَّذِي يلْزمه إِن اقتحم فِي النِّكَاح وَلم يُوَافقهُ فَلم يردهُ، وأسهل للتلافي إِن رد، وَأَن يكون تزَوجهَا على شوق ونشاط إِن وَافقه، وَالرجل الْحَكِيم لَا يلح مولجا حَتَّى يتَبَيَّن خَيره وشره قبل ولوجه.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
" إِن الْمَرْأَة تقبل فِي صُورَة شَيْطَان، وتدبر
فِي صُورَة شَيْطَان إِذا أحدكُم أَعْجَبته امْرَأَة، فَوَقَعت فِي قلبه فليعمد إِلَى امْرَأَته، فليواقعها؛ فَإِن ذَلِك يرد مَا فِي نَفسه ".
اعْلَم أَن شَهْوَة الْفرج أعظم الشَّهَوَات وأرهقها للقلب موقعة فِي مهالك كَثِيرَة، وَالنَّظَر إِلَى النِّسَاء يهيجها، وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام:
" الْمَرْأَة تقبل فِي صُورَة شَيْطَان " الخ فَمن نظر إِلَى امْرَأَة، وَوَقعت فِي قلبه، واشتاق إِلَيْهَا وتوله لَهَا فالحكمة أَلا يهمل ذَلِك، فَإِنَّهُ يزْدَاد حينا فحينا فِي قلبه حَتَّى يملكهُ، ويتصرف فِيهِ، وَلكُل شَيْء مدد يتقوى بِهِ، وتدبير ينتقص بِهِ، فمدد التوله للنِّسَاء امْتَلَأَ أوعية الْمَنِيّ بِهِ وصعود بخاره إِلَى الدِّمَاغ، وتدبير انتقاصه استفراغ تِلْكَ الأوعية، وَأَيْضًا فَإِن الْجِمَاع يشغل قلبه، ويسلبه عَمَّا يجده، وَيصرف قلبه عَمَّا هُوَ مُتَوَجّه إِلَيْهِ، وَالشَّيْء إِذا عولج قبل تمكنه زَالَ بِأَدْنَى سعى.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا يخْطب الرجل على خطْبَة أَخِيه حَتَّى ينْكح، أَو يتْرك ".
أَقُول: سَبَب ذَلِك أَن الرجل إِذا خطب امْرَأَة، وركنت إِلَيْهِ ظهر وَجه لصلاح منزله، فَيكون تأييسه عَمَّا هُوَ لسبيله وتخبيته عَمَّا يتوقعه إساءة مَعَه وظلما عَلَيْهِ وتضييقا بِهِ.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا تسْأَل الْمَرْأَة طَلَاق أُخْتهَا لتستفرغ صحفتها، ولتنكح فَإِن لَهَا مَا قدر(2/192)
لَهَا " أَقُول السرفية أَن طلب طَلاقهَا اقتضاب عَلَيْهَا وسعى فِي إبِْطَال معيشتها، وَمن أعظم أَسبَاب فَسَاد الْمَدِينَة أَن يقتضب وَاحِد على الآخر وَجه معيشته، وَإِنَّمَا المرضى عِنْد الله أَن يطْلب كل وَاحِد معيشته بِمَا يسر الله لَهُ من غير أَن يسْعَى فِي إِزَالَة معيشة الآخر.
(ذكر العورات)
اعْلَم أَنه لما كَانَ الرِّجَال يهيجهم النّظر إِلَى النِّسَاء على عشقهن والتوله بِهن، وَيفْعل بِالنسَاء مثل ذَلِك، وَكَانَ كثيرا مَا يكون ذَلِك سَببا لِأَن يَبْتَغِي قَضَاء الشَّهْوَة مِنْهُنَّ على غير السّنة الراشدة، كإتباع من هِيَ فِي عصمَة غَيره، أَو بِلَا نِكَاح، أَو غير اعْتِبَار كفاءة - وَالَّذِي شوهد فِي هَذَا الْبَاب يُغني عَمَّا سطر فِي الدفاتر - اقْتَضَت الْحِكْمَة أَن يسد هَذَا الْبَاب، وَلما كَانَت الْحَاجَات متنازعة محوجة إِلَى المخالطة وَجب أَن يَجْعَل ذَلِك على مَرَاتِب بِحَسب الْحَاجَات فشرع النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُجُوهًا من السّنَن.
أَحدهَا أَلا تخرج الْمَرْأَة من بَيتهَا إِلَّا لحَاجَة لَا تَجِد مِنْهَا بدا.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
الْمَرْأَة عَورَة فَإِذا خرجت استشرفها الشَّيْطَان ".
أَقُول: مَعْنَاهُ استشرف حزبه، أَو هُوَ كِنَايَة عَن تهيئ أَسبَاب الْفِتْنَة، وَقَالَ الله تَعَالَى:
{وَقرن فِي بيوتكن}
وَكَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ - لما أُوتِيَ من علم أسرار الدّين - حَرِيصًا على أَن ينزل هَذَا الْحجاب حَتَّى نَادَى: يَا سَوْدَة إِنَّك لَا تخفين علينا لكنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى أَن سد هَذَا الْبَاب بِالْكُلِّيَّةِ حرج عَظِيم فندب إِلَى ذَلِك من غير إِيجَاب، وَقَالَ:
{أذن لَكِن أَن تخرجن إِلَى حوائجكن}
الثَّانِي أَن تلقي عَلَيْهَا جلبابها، وَلَا تظهر مَوَاضِع الزِّينَة مِنْهَا إِلَّا لزَوجهَا أَو لذِي رحم محرم، قَالَ تَعَالَى:(2/193)
{وَقل للْمُؤْمِنين يغضوا من أَبْصَارهم ويحفظوا فروجهم ذَلِك أزكى لَهُم إِن الله خَبِير بِمَا يصنعون}
{وَقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن وَلَا يبدين زينتهن إِلَّا مَا ظهر مِنْهَا وَليَضْرِبن بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبهنَّ وَلَا يبدين زينتهن إِلَّا لبعولتهن أَو آبائهن أَو آبَاء بعولتهن أَو أبنائهن أَو أَبنَاء بعولتهن أَو إخوانهن} إِلَى قَوْله: (تفلحون)
فَرخص فِيمَا يَقع بِهِ الْمعرفَة من الْوَجْه، وَفِيمَا يَقع بِهِ الْبَطْش فِي غَالب الْأَمر وَهُوَ اليدان، وَأوجب ستر مَا سوى ذَلِك إِلَّا من بعولتهن والمحارم وَمَا ملكت أيمانهن من العبيد، وَرخّص للقواعد من النِّسَاء أَن يَضعن ثيابهن.
الثَّالِث أَلا يَخْلُو رجل مَعَ امْرَأَة فِي بَيت لَيْسَ مَعَهُمَا من يهابانه، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" أَلا لَا يبيتن رجل عِنْد امْرَأَة ثيب إِلَّا أَن يكون ناكحا أَو ذَا رحم "، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا يخلون رجل بِامْرَأَة فان الشَّيْطَان ثالثهما ".
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا تجلوا على المغيبات فَإِن الشَّيْطَان يجْرِي من ابْن آدم مجْرى الدَّم ".
الرَّابِع أَلا ينظر أحد امْرَأَة كَانَ أَو رجلا إِلَى عَورَة الآخر امْرَأَة كَانَ أَو رجلا إِلَّا الزَّوْجَانِ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا ينظر الرجل إِلَى عَورَة الرجل وَلَا الْمَرْأَة إِلَى عَورَة الْمَرْأَة ".
أَقُول: ذَلِك لِأَن النّظر إِلَى الْعَوْرَة يهيج الشَّهْوَة، وَالنِّسَاء رُبمَا يتعاشقن
فِيمَا بَينهُنَّ، وَكَذَلِكَ الرِّجَال فِيمَا بَينهم، وَلَا حرج فِي ترك النّظر إِلَى السوءة، وَأَيْضًا فَستر الْعَوْرَة من أصُول الارتفاقات لَا بُد مِنْهَا.
الْخَامِس أَن لَا يكامع أحد أحدا فِي ثوب وَاحِد، وَفِي مَعْنَاهُ أَن يبيتا على سَرِير وَاحِد مثلا، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا يُفْضِي الرجل إِلَى الرجل فِي ثوب وَاحِد، وَلَا تُفْضِي الْمَرْأَة إِلَى الْمَرْأَة فِي ثوب وَاحِد ".
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا تباشر الْمَرْأَة الْمَرْأَة لتنعتها لزَوجهَا كَأَنَّهُ ينظر إِلَيْهَا " أَقُول: السَّبَب أَنه أَشد شَيْء فِي تهيج الشَّهْوَة وَالرَّغْبَة، وَيُورث شَهْوَة السحاق واللواطة، وَقَوله: كَأَنَّهُ ينظر إِلَيْهَا مَعْنَاهُ أَن مُبَاشرَة الْمَرْأَة رُبمَا كَانَت سَببا لاضمار حبها، فَيجْرِي على لسانها ذكر مَا وجدت فِيهِ من اللَّذَّة عِنْد زَوجهَا أَو ذِي رحم مِنْهَا، فَيكون سَببا لتولههم، وأعم الْمَفَاسِد أَن تنْعَت امْرَأَة عبد رجل لَيْسَ زوجا لَهَا، وَهُوَ سَبَب إِخْرَاج هيت المخنث من الْبيُوت.(2/194)
وَاعْلَم أَن ستر الْعَوْرَة أَعنِي الْأَعْضَاء الَّتِي يحصل الْعَار بانكشافها بَين النَّاس فِي الْعَادَات المتوسطة كَالَّتِي كَانَت فِي قُرَيْش مثلا يَوْمئِذٍ - من أصل الارتفاقات الْمسلمَة عِنْد كل من يُسمى بشرا، وَهُوَ مِمَّا امتاز بِهِ الْإِنْسَان من سَائِر أَنْوَاع الْحَيَوَانَات، فَلذَلِك أوجبه الشَّرْع، والسوأتان، والخصيتان، والعانة، وَمَا وَليهَا من أصُول الفخذين من أجلى بديهيات الدّين أَنَّهَا من الْعَوْرَة، لَا حَاجَة إِلَى الِاسْتِدْلَال فِي ذَلِك، وَدلّ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِذا زوج
أحدكُم عَبده أمته فَلَا ينظر إِلَى، عورتها " وَفِي رِوَايَة " فَلَا ينظر إِلَى مادون السُّرَّة وَفَوق الرّكْبَة "، وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام: " أما علمت أَن الْفَخْذ عَورَة " على أَن الفخذين عَورَة، وَقد تَعَارَضَت الْأَحَادِيث فِي الْمَسْأَلَة لَكِن الْأَخْذ بِهَذَا أحوط وَأقرب من قوانين الشَّرْع.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
" إيَّاكُمْ والتعري فَإِن مَعكُمْ من لَا يفارقكم إِلَّا عِنْد الْغَائِط وَحين يُفْضِي الرجل إِلَى أَهله فاستحيوهم وأكرموهم " وَقَالَ: " فَالله أَحَق أَن تستحيا مِنْهُ " أَقُول: التعري لَا يجوز إِن كَانَ خَالِيا إِلَّا عِنْد ضَرُورَة لَا تَجِد مِنْهَا بدا؛ فَإِنَّهُ كثيرا مَا يهجم الْإِنْسَان عَلَيْهِ، والأعمال إِنَّمَا تعْتَبر بالأخلاق الَّتِي تنشأ مِنْهَا، ومنشأ السّتْر الْحيَاء، وَأَن يغلب على النَّفس هَيْئَة التحفظ والتقيد، وَأَن يتْرك الوقاحة، وَألا يسترسل، وَإِذا أَمر الشَّارِع أحدا بِشَيْء اقْتضى ذَلِك أَن يُؤمر الآخر أَن يفعل مَعَه حسب ذَلِك، فَلَمَّا أمرت النِّسَاء بالتستر وَجب أَن يرغب الرِّجَال فِي غض الْبَصَر، وَأَيْضًا فَإِن فتهذيب نفوس الرِّجَال لَا يتَحَقَّق إِلَّا بغض الْأَبْصَار ومؤاخذة أنفسهم بذلك ... قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" الأولى لَك وَلَيْسَت لَك الْآخِرَة ".
أَقُول: يُشِير أَن حَالَة الْبَقَاء بِمَنْزِلَة الْإِنْشَاء، وَحين دخل أعمى، وَقيل: " أَلَيْسَ هُوَ أعمى لَا يُبصرنَا؟ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أفعميان أَنْتُمَا ألستما تبصرانه " أَقُول: السِّرّ فِي ذَلِك أَن النِّسَاء يرغبن فِي الرِّجَال كَمَا يرغب الرِّجَال فِيهِنَّ.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لفاطمة رَضِي الله عَنْهَا:
" إِنَّه لَيْسَ عَلَيْك بَأْس إِنَّمَا هُوَ أَبوك وغلامك " أَقُول: إِنَّمَا كَانَ العَبْد بِمَنْزِلَة الْمَحَارِم لِأَنَّهُ لَا رَغْبَة لَهُ فِي سيدته لجلالتها فِي عنيه، وَلَا لسيدته فِيهِ لحقارته عِنْدهَا، ويعسر التستر بَينهمَا، وَهَذِه الصِّفَات كلهَا مُعْتَبرَة فِي الْمَحَارِم فان الْقَرَابَة الْقَرِيبَة الْمُحرمَة مَظَنَّة قلَّة الرَّغْبَة، واليأس أحد أَسبَاب قطع الطمع،(2/195)
وَطول الصُّحْبَة يكون سَبَب قلَّة النشاط وعسر التستر وَعدم الِالْتِفَات، فَلذَلِك جرت السّنة أَن السّتْر عَن الْمَحَارِم دون السّتْر عَن غَيرهم:
(صفة النِّكَاح)
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لَا نِكَاح إِلَّا بولِي " اعْلَم أَنه لَا يجوز أَن يحكم فِي النِّكَاح النِّسَاء خَاصَّة لنُقْصَان عقلهن وَسُوء فكرهن، فكثيرا مَا لَا يهتدين الْمصلحَة، وَلعدم حماية الْحسب مِنْهُنَّ غَالِبا، فَرُبمَا رغبن فِي غير الْكُفْء وَفِي ذَلِك عَار على قَومهَا، فَوَجَبَ أَن يَجْعَل للأولياء شَيْء من هَذَا الْبَاب لتسد الْمفْسدَة، وَأَيْضًا فَإِن السّنة الفاشية فِي النَّاس من قبل ضروره جبلية أَن يَكُونُوا الرِّجَال قوامين على النِّسَاء، وَيكون بيدهم الْحل وَالْعقد وَعَلَيْهِم النَّفَقَات وَإِنَّمَا النِّسَاء عوان بِأَيْدِيهِم، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{الرِّجَال قوامون على النِّسَاء بِمَا فضل الله بَعضهم} . الْآيَة،
وَفِي اشْتِرَاط الْوَلِيّ فِي النِّكَاح تنويه أَمرهم، واستبداد النِّسَاء بِالنِّكَاحِ وقاحة مِنْهُنَّ، منشؤها قلَّة الْحيَاء واقتضاب على الْأَوْلِيَاء وَعدم اكتراث لَهُم، وَأَيْضًا يجب أَن يُمَيّز النِّكَاح من السفاح بالتشهير، وأحق التشهير أَن يحضرهُ أولياؤها.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا تنْكح الثّيّب حَتَّى تستأمر، وَلَا الْبكر حَتَّى تستأذن، وإذنها الصموت " وَفِي رِوَايَة " الْبكر يستأذنها أَبوهَا " أَقُول:
لَا يجوز أَيْضا أَن يحكم الْأَوْلِيَاء فَقَط لأَنهم لَا يعْرفُونَ مَا تعرف الْمَرْأَة من نَفسهَا وَلِأَن حَار العقد وقاره راجعان إِلَيْهَا، والاستثمار طلب أَن تكون هِيَ الآمره صَرِيحًا، والاستئذان طلب أَن تَأذن، وَلَا تمنع، وَأَدْنَاهُ السُّكُوت، وَإِنَّمَا المُرَاد اسْتِئْذَان الْبكر الْبَالِغَة دون الصَّغِيرَة كَيفَ وَلَا رَأْي لَهَا، وَقد زوج أَبُو بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا من رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِي بنت سِتّ سِنِين.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إيما عبد تزوج بِغَيْر إِذن سَيّده فَهُوَ عاهر " أَقُول: لما كَانَ العَبْد مَشْغُولًا بِخِدْمَة مَوْلَاهُ، وَالنِّكَاح وَمَا يتَفَرَّع عَلَيْهِ من الْمُوَاسَاة مَعهَا والتخلي بهَا رُبمَا ينقص من خدمته وَحب أَن تكون السّنة أَن يتَوَقَّف نِكَاح العَبْد على إِذن مَوْلَاهُ، وَأما حَال الْأمة فَأولى أَن يتَوَقَّف نِكَاحهَا على إِذن مَوْلَاهَا، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:(2/196)
{فانكحوهن بِإِذن أهلهن} .
قَالَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ: علمنَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّشَهُّد فِي الْحَاجة أَن الْحَمد لله، ونستعينه، وَنَسْتَغْفِرهُ، ونعوذ بِاللَّه من شرور أَنْفُسنَا، من يهد الله فَلَا مضل لَهُ، وَمن يضلله فَلَا هادي لَهُ، وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله، وَيقْرَأ ثَلَاث آيَات.
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله حق تُقَاته وَلَا تموتن إِلَّا وَأَنْتُم مُسلمُونَ} .
{وَاتَّقوا الله الَّذِي تساءلون بِهِ والأرحام إِن الله كَانَ عَلَيْكُم رقيبا} .
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وَقُولُوا قولا سديدا يصلح لكم أَعمالكُم وَيغْفر لكم ذنوبكم وَمن يطع الله وَرَسُوله فقد فَازَ فوزا عَظِيما} .
أَقُول كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يخطبون قبل العقد بِمَا يرونه من ذكر ومفاخر قَومهمْ وَنَحْو ذَلِك يتوسلون بذلك إِلَى ذكر الْمَقْصُود والتنويه بِهِ، وَكَانَ جَرَيَان الرَّسْم بذلك مصلحَة، فَإِن الْخطْبَة مبناها على التشهير وَجعل الشَّيْء بمسمع ومرآى من الْجُمْهُور، والتشهير بِمَا يُرَاد وجوده فِي النِّكَاح ليتميز من السفاح، وَأَيْضًا فالخطبة لَا تسْتَعْمل إِلَّا فِي الْأُمُور المهمة، والاهتمام بِالنِّكَاحِ وَجعله أمرا عَظِيما بَينهم من أعظم الْمَقَاصِد، فأبقى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْلهَا، وَغير وصفهَا، وَذَلِكَ أَنه ضم مَعَ هَذِه الْمصَالح مصلحَة ملية، وَهِي أَنه يَنْبَغِي أَن يضم مَعَ كل ارتفاق ذكر مُنَاسِب لَهُ، وينوه فِي كل مَحل بشعائر الله، ليَكُون الدّين الْحق منشورا أَعْلَامه وراياتة، ظَاهرا شعاره وأماراته، فسن فِيهَا أنواعا من الذّكر كالحمد، والاستعانة، وَالِاسْتِغْفَار، والتعوذ، والتوكل، وَالتَّشَهُّد، وآيات من الْقُرْآن، وَأَشَارَ إِلَى هَذِه الْمصلحَة بقوله: " كل خطْبَة لَيْسَ فِيهَا تشهد فَهِيَ كَالْيَدِ الجذماء " وَقَوله:
" كل كَلَام لَا يبْدَأ فِيهِ بِالْحَمْد لله فَهُوَ أَجْذم "
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فصل مَا بَين الْحَلَال وَالْحرَام الصَّوْت
والدف فِي النِّكَاح " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" أعْلنُوا هَذَا النِّكَاح واجعلوه فِي الْمَسَاجِد واضربوا عَلَيْهِ الدفوف ".
أَقُول: كَانُوا يستعملون الدُّف وَالصَّوْت فِي النِّكَاح، وَكَانَت تِلْكَ عَادَة فَاشِية فيهم لَا يكادون يتركونها فِي النِّكَاح الصَّحِيح الَّذِي أبقاه النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الْأَنْكِحَة الْأَرْبَعَة على مَا(2/197)
بَينته عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، وَفِي ذَلِك مصلحَة وَهِي أَن النِّكَاح والسفاح لما اتفقَا فِي قَضَاء الشَّهْوَة ورضا الرجل وَالْمَرْأَة وَجب أَن يُؤمر بِشَيْء يتَحَقَّق بِهِ الْفرق بَينهمَا بادى الرَّأْي بِحَيْثُ لَا يبْقى لأحد فِيهِ كَلَام وَلَا خَفَاء، وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد رخص فِي الْمُتْعَة أَيَّامًا، ثمَّ نهى عَنْهَا، أما الترخيص أَولا فلمكان حَاجَة تَدْعُو إِلَيْهِ كَمَا ذكره ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِيمَن يقدم بَلْدَة لَيْسَ بهَا أَهله، وَأَشَارَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنَّهَا لم تكن يَوْمئِذٍ استئجارا على مُجَرّد الْبضْع، بل كَانَ ذَلِك مغمورا فِي ضمن حاجات من بَاب تَدْبِير الْمنزل، كَيفَ والاستئجار على مُجَرّد الْبضْع انسلاخ عَن الطبيعة الإنسانية، ووقاحة يمجها الْبَاطِن السَّلِيم وَأما النَّهْي عَنْهَا فلارتفاع تِلْكَ الْحَاجة فِي غَالب الْأَوْقَات، وَأَيْضًا فَفِي جَرَيَان الرَّسْم بِهِ اخْتِلَاط الْأَنْسَاب لِأَنَّهَا عِنْد انْقِضَاء تِلْكَ الْمدَّة تخرج من حيزه، وَيكون الْأَمر بِيَدِهَا، فَلَا يدْرِي مَاذَا تصنع، وَضبط الْعدة فِي النِّكَاح الصَّحِيح الَّذِي بِنَاؤُه على التأييد فِي غَايَة الْعسر فَمَا ظَنك فِي بِالْمُتْعَةِ وإهمال النِّكَاح الصَّحِيح الْمُعْتَبر فِي الشَّرْع؟ فان أَكثر الراغبين فِي النِّكَاح إِنَّمَا غَالب داعيتهم قَضَاء
شَهْوَة الْفرج وَأَيْضًا فان من الْأَمر الَّذِي يتَمَيَّز بِهِ النِّكَاح من السفاح التوطين على المعاونة الدائمة وَإِن كَانَ الأَصْل فِيهِ قطع الْمُنَازعَة فِيهَا على أعين النَّاس.
وَكَانُوا لَا يناكحون إِلَّا بِصدق لأمور بعثتهم على ذَلِك، وَكَانَ فِيهِ مصَالح مِنْهَا أَن النِّكَاح لَا تتمّ فَائِدَته إِلَّا بِأَن يوطن كل وَاحِد نَفسه على المعاونة الدائمة، ويتحقق ذَلِك من جَانب الْمَرْأَة بِزَوَال أمرهَا من يَدهَا، وَلَا جَائِز أَن يشرع زَوَال أمره أَيْضا من يَده وَإِلَّا انسد بَاب الطَّلَاق، وَكَانَ أَسِيرًا فِي يَدهَا كَمَا أَنَّهَا عانية بِيَدِهِ وَكَانَ الأَصْل أَن يَكُونُوا قوامين على النِّسَاء، وَلَا جَائِز أَن يَجْعَل أَمرهمَا إِلَى الْقَضَاء. فان مُرَاجعَة الْقَضِيَّة إِلَيْهِم فِيهَا حرج وهم لَا يعْرفُونَ مَا يعرف هُوَ من خَاصَّة أمره، فَتعين أَن يكون بَين عَيْنَيْهِ خسارة مَال إِن أَرَادَ فك النّظم لِئَلَّا يجترئ على ذَلِك إِلَّا عِنْد حَاجَة لَا يجد مِنْهَا بدا، فَكَانَ هَذَا نوعا من التوطين.
وَأَيْضًا لَا يظْهر الاهتمام بِالنِّكَاحِ إِلَّا بِمَال يكون عوض الْبضْع، فَإِن النَّاس لما تشاحوا بالأموال شحا لم يتشاحوا بِهِ فِي غَيرهَا كَانَ الاهتمام لَا يتم إِلَّا ببذلها، وبالاهتمام(2/198)
تقر أعين الْأَوْلِيَاء حِين يتَمَلَّك هُوَ فلذة أكبادهم وَبِه يتَحَقَّق التَّمْيِيز بَين النِّكَاح والسفاح، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{أَن تَبْتَغُوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} .
فَلذَلِك أبقى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجوب الْمهْر كَمَا كَانَ، وَلم يضبطه للنَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَدّ لَا يزِيد وَلَا ينقص، إِذْ الْعَادَات فِي إِظْهَار الاهتمام مُخْتَلفَة، والرغبات لَهَا مَرَاتِب شَتَّى، وَلَهُم فِي المشاحة طَبَقَات، فَلَا يُمكن تحديده عَلَيْهِم كَمَا لَا يُمكن أَن يضْبط ثمن الْأَشْيَاء المرغوبة بِحَدّ مَخْصُوص، وَلذَلِك قَالَ: التمس وَلَو خَاتمًا من حَدِيد " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: " من أعْطى فِي صدَاق امْرَأَته ملْء كَفه سويقا أَو تَمرا فقد اسْتحلَّ " غير أَنه سنّ فِي صدَاق أَزوَاجه وَبنَاته ثِنْتَيْ عشرَة أوقيات ونشا، وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ: لَا تغَالوا فِي صدقَات النِّسَاء فَإِنَّهَا إِن كَانَت مكرمَة فِي الدُّنْيَا أَو تقوى عِنْد الله لَكَانَ أولاكم بهَا نَبِي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحَدِيث.
أَقُول: والسر فِيمَا سنّ أَنه يَنْبَغِي أَن يكون الْمهْر مِمَّا يتشاح بِهِ، وَيكون لَهُ بَال يَنْبَغِي أَلا يكون مِمَّا يتَعَذَّر أَدَاؤُهُ عَادَة بِحَسب مَا عَلَيْهِ قومه، وَهَذَا الْقدر نِصَاب صَالح حَسْبَمَا كَانَ عَلَيْهِ النَّاس فِي زَمَانه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَلِكَ أَكثر النَّاس بعده اللَّهُمَّ إِلَّا نَاس أغنياؤهم بِمَنْزِلَة الْمُلُوك على الأسرة وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يظْلمُونَ النِّسَاء فِي صدقاتهن بمطل أَو نقص فَأنْزل الله تَعَالَى:
{وَآتوا النِّسَاء صدقاتهن نحلة فَإِن طبن لكم} الْآيَة.
وَقَالَ الله تَعَالَى:
{لَا جنَاح عَلَيْكُم إِن طلّقْتُم النِّسَاء مَا لم تمَسُّوهُنَّ أَو تفرضوا لَهُنَّ فَرِيضَة} . الْآيَة
أَقُول: الأَصْل فِي ذَلِك أَن النِّكَاح سَبَب الْملك وَالدُّخُول بهَا أَثَره، وَالشَّيْء إِنَّمَا يُرَاد بِهِ أَثَره، وَإِنَّمَا يَتَرَتَّب الحكم على سَببه فَلذَلِك كَانَ من حَقّهمَا أَن يوزع الصَدَاق عَلَيْهِمَا، وبالموت يَتَقَرَّر الْأَمر، وَيثبت حَيْثُ لم يردهُ حَتَّى مَاتَ، وَمَا انخنس عَنهُ حَتَّى حَال بَينه وَبَينه الْمَوْت، وبالطلاق يرْتَفع الْأَمر، وينفسخ، وَهُوَ شبه الرَّد وَالْإِقَالَة،(2/199)
إِذا تمهد هَذَا فَنَقُول:
كَانَت فِي الْجَاهِلِيَّة مناقشات فِي بَاب الْمهْر، وَكَانُوا يتشاحون بِالْمَالِ، ويحتجون بِأُمُور، فَقضى الله تَعَالَى فِيهَا بالحكم الْعدْل على هَذَا الأَصْل، فَإِن سمى لَهَا شَيْئا، وَدخل بهَا فلهَا الْمهْر كَامِلا سَوَاء مَاتَ عَنْهَا أَو طَلقهَا لِأَنَّهُ قد تمّ لَهُ سَبَب الْملك وأثره، وأفضى الزَّوْج إِلَيْهَا وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{وَقد أفْضى بَعْضكُم إِلَى بعض وأخذن مِنْكُم ميثاقا غليظا} .
وَإِن سمى لَهَا، وَلم يدْخل بهَا، وَمَات عَنْهَا فلهَا الْمهْر كَامِلا، لِأَنَّهُ بِالْمَوْتِ تقرر الْأَمر وَعدم الدُّخُول غير ضار وَالْحَالة هَذِه لِأَنَّهُ بِسَبَب سماوي، فان طَلقهَا فلهَا نصف الْمهْر على هَذِه الْآيَة، لتحَقّق أحد الْأَمريْنِ دون الآخر، فَحصل شبهان: شبه بِالْخطْبَةِ من غير نِكَاح، وَشبه بِالنِّكَاحِ التَّام، وَإِن لم يسم لَهَا شَيْئا وَدخل بهَا فلهَا مثل صدَاق نسائها، لَا وكس، وَلَا شطط، وَعَلَيْهَا الْعدة، وَلها الْمِيرَاث، لِأَنَّهُ تمّ لَهَا العقد بِسَبَبِهِ وأثره، فَوَجَبَ أَن يكون لَهَا مهر، وَإِنَّمَا يقدر الشَّيْء بنظيره وَشبهه، وصداق نسائها أقرب مَا يقدر بِهِ فِي ذَلِك، وَإِن لم يسم لَهَا شَيْئا، وَلم يدْخل بهَا فلهَا الْمُتْعَة لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يكون عقد نِكَاح خَالِيا عَن المَال، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{أَن تَبْتَغُوا بأموالكم} .
وَلَا سَبِيل إِلَى إِيجَاب الْمهْر لعدم تقرر الْملك وَلَا التَّسْمِيَة، فَقدر دون ذَلِك بِالْمُتْعَةِ، وَجعل النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرّة سورا من الْقُرْآن مهْرا، لِأَن تعليمها أَمر ذُو بَال يرغب فِيهِ، وَيطْلب كَمَا ترغب وتطلب الْأَمْوَال، فَجَاز أَن يقوم مقَامهَا، وَكَانَ النَّاس يعتادون الْوَلِيمَة قبل الدُّخُول بهَا، وَفِي ذَلِك مصَالح كَثِيرَة.
مِنْهَا التلطف بإشاعة النِّكَاح، وَأَنه على شرف الدُّخُول بهَا إِذْ لَا بُد من الإشاعة لِئَلَّا يبْقى مَحل لوهم الواهم فِي النّسَب؛ وليتميز النِّكَاح عَن السفاح بادى الرَّأْي، ويتحقق اخْتِصَاصه بهَا على أعين النَّاس.
وَمِنْهَا شكره مَا أولاه الله تَعَالَى من انتظام تَدْبِير الْمنزل بِمَا يصرفهُ الآيه عباده، وينفعهم بِهِ.
وَمِنْهَا الْبر بِالْمَرْأَةِ وقومها فَإِن صرف المَال لَهَا، وَجمع النَّاس فِي أمرهَا يدل على كراماتها عَلَيْهِ وَكَونهَا ذَات بَال عِنْده، وَمثل هَذِه الْأُمُور لَا بُد مِنْهَا فِي إِقَامَة التَّأْلِيف فِيمَا بَين أهل الْمنزل لَا سِيمَا فِي أول اجْتِمَاعهم.(2/200)
وَمِنْهَا: أَن تجدّد النِّعْمَة حَيْثُ ملك مَا لم يكن مَالِكًا لَهُ يُورث الْفَرح والنشاط وَالسُّرُور، ويهيج على صرف المَال، وَفِي اتِّبَاع تِلْكَ الداعية التمرن على السخاوة، وعصيان دَاعِيَة الشُّح إِلَى غير ذَلِك من الْفَوَائِد والمصالح فَلَمَّا كَانَ فِيهَا جملَة صَالِحَة من فَوَائِد السياسة المدنية والمنزلية وتهذيب النَّفس والاحسان وَجب أَن، يبقيها النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويرغب فِيهَا، ويحث عَلَيْهَا، وَيعْمل هُوَ بهَا، وَلم يضبطه النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَدّ بِمثل مَا ذكرنَا فِي الْمهْر، وَالْحَد الْوسط الشَّاة، لم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على صَفِيَّة رَضِي الله عَنْهَا بحيس وَأَوْلَمَ على بعض نِسَائِهِ بمدين من شعير.
قَالَ: " إِذا دعى أحدكُم إِلَى الْوَلِيمَة فليأتها " وَفِي رِوَايَة " فَإِن شَاءَ طعم وَإِن شَاءَ ترك " أَقُول: لما كَانَ من الْأُصُول التشريعية أَنه إِذا أَمر وَاحِد أَن يصنع بِالنَّاسِ شَيْئا لمصْلحَة فَمن مُوجب ذَلِك أَن يحث النَّاس على أَن ينقادوا لَهُ فِيمَا يُرِيد، ويتمثلوا لَهُ، ويطاوعوه، وَإِلَّا لما تحققت الْمصلحَة الْمَقْصُودَة بِالْأَمر، فَلَمَّا أَمر هَذَا أَن يشيع أَمر النِّكَاح بوليمة تصنع للنَّاس وَجب أَن يُؤمر أُولَئِكَ أَن يُجِيبُوهُ إِلَى طَعَامه، فَإِن كَانَ صَائِما وَلم يطعم
فَلَا بَأْس بذلك فَإِنَّهُ حصلت الإشاعة الْمَقْصُودَة، وَأَيْضًا فَمن الصِّلَة أَن يجِيبه إِذا دعى، وَفِي جَرَيَان السّنة بذلك انتظام أَمر الْمَدِينَة والحي.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِنَّه لَيْسَ لي أَو لنَبِيّ أَن يدْخل بَيْتا مزوقا " أَقُول: لما كَانَت الصُّور يحرم صنعها، وَيحرم اسْتِعْمَال الثَّوْب المصنوعة هِيَ فِيهِ كَانَ من مُقْتَضى ذَلِك أَن يهجر الْبَيْت الَّذِي فِيهِ تِلْكَ الصُّورَة، وَأَن تُقَام اللأئمة فِي ذَلِك لَا سِيمَا للأنبياء عَلَيْهِم السَّلَام، فَإِنَّهُم بعثوا أَمريْن بِالْمَعْرُوفِ وناهين عَن الْمُنكر، وَأَيْضًا فَلَمَّا كَانَ اسْتِحْبَاب التجمل الْبَالِغ سَببا لشدَّة خوضهم فِي طلب الدُّنْيَا - وَقد وَقع ذَلِك فِي الْأَعَاجِم حَتَّى أنساهم ذكر الْآخِرَة - وَجب أَن يكون فِي الشَّرْع ناهية عَن ذَلِك وَإِظْهَار نفرة عَنهُ.
وَنهى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن طَعَام المتبارين أَن يُؤْكَل. أَقُول: كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يتفاخرون يُرِيد كل وَاحِد أَن يغلب الآخر، فَيصْرف المَال لذَلِك الْغَرَض دون سَائِر النيات، وَفِيه الحقد وَفَسَاد ذَات الْبَين وإضاعة المَال من غير مصلحَة دينية أَو مَدَنِيَّة، وَإِنَّمَا هُوَ اتِّبَاع داعيه نفسانية، فَلذَلِك وَجب أَن يهجر أمره، ويهان، ويسد هَذَا الْبَاب، وَأحسن مَا ينْهَى بِهِ أَلا يُؤْكَل طَعَامه.(2/201)
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِذا اجْتمع داعيان فأجب أقربهما بَابا، وَإِن سبق أَحدهمَا فأجب الَّذِي سبق ". أَقُول: لما تَعَارضا طلب التَّرْجِيح وَذَلِكَ بِالسَّبقِ أَو بِقُرْبِهِ.
(الْمُحرمَات)
الأَصْل فِيهَا قَوْله تَعَالَى:
{وَلَا تنْكِحُوا مَا نكح آبائكم}
إِلَى قَوْله:
{وَالله غَفُور رَحِيم} .
وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" أمسك أَرْبعا وَفَارق سائرهن " وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا تنْكح الْمَرْأَة على عَمَّتهَا " الحَدِيث، وَقَوله تَعَالَى:
{الزَّانِي لَا ينْكح إِلَّا زَانِيَة} . الْآيَة
اعْلَم أَن تَحْرِيم الْمُحرمَات الْمَذْكُورَة فِي هَذِه الْآيَات كَانَ أمرا شَائِعا فِي أهل الْجَاهِلِيَّة مُسلما عِنْدهم، لَا يكادون يتركونه، اللَّهُمَّ إِلَّا أَشْيَاء يسيرَة كَانُوا ابتدعوها من عِنْد أنفسهم بغيا وعدوانا كَنِكَاح مَا نكح آباؤهم وَالْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ، وَكَانُوا توارثوا تَحْرِيمهَا طبقَة عَن طبقَة حَتَّى صَار لَا يخرج من قُلُوبهم إِلَّا أَن تمزع وَكَانَ فِي تَحْرِيمهَا مصَالح جليلة، فأبقى الله تَعَالَى عز وَجل أَمر الْمُحرمَات على مَا كَانَ، وسجل عَلَيْهِم فِيمَا كَانُوا تهاونوا فِيهِ.
وَالْأَصْل فِي التَّحْرِيم أُمُور:
مِنْهَا جَرَيَان الْعَادة بالاصطحاب والارتباط وَعدم إِمْكَان لُزُوم السّتْر فِيمَا بَينهم وارتباط الْحَاجَات من الْجَانِبَيْنِ على الْوَجْه الطبيعي دون الصناعي فَإِنَّهُ لَو لم تجر السّنة بِقطع الطمع عَنْهُن والإعراض عَن الرَّغْبَة فِيهِنَّ لهاحت مفاسد لَا تحصى وَأَنت ترى الرجل يَقع بَصَره على محَاسِن امْرَأَة أَجْنَبِيَّة، فيتوله بهَا، ويقتحم فِي المهالك لأَجلهَا، فَمَا ظَنك فِيمَن يَخْلُو مَعهَا، وَينظر إِلَى محاسنها لَيْلًا وَنَهَارًا؟ وَأَيْضًا لَو فتح بَاب الرَّغْبَة فِيهِنَّ وَلم يسد، وَلم(2/202)
تقم اللائمة عَلَيْهِم فِيهِ أفْضى ذَلِك إِلَى ضَرَر عَظِيم عَلَيْهِنَّ، فَإِنَّهُ سَبَب عضهن إياهن
عَمَّن يرغبن فِيهِ لأَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّهُ بيدهم أمرهن، وإليهم إنكاحهن أَولا يكون لَهُنَّ أَن نكحوهن من يطالبهم عَنْهُن حُقُوق الزَّوْجِيَّة مَعَ شدَّة احتياجهن إِلَى من يُخَاصم عَنْهُن.
وَنَظِيره مَا وَقع فِي الْيَتَامَى كَانَ الْأَوْلِيَاء يرغبون فِي مالهن وجمالهن وَلَا يُوفونَ حُقُوق الزَّوْجِيَّة فَنزل:
{وَإِن خِفْتُمْ أَلا تقسطوا فِي الْيَتَامَى فانكحوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء} . الْآيَة
بيّنت ذَلِك عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَهَذَا الارتباط على الْوَجْه الطبيعي وَاقع بَين الرِّجَال، والأمهات، وَالْبَنَات، وَالْأَخَوَات، والعمات، والخالات، وَبَنَات الْأَخ، وَبَنَات الْأُخْت.
وَمِنْهَا الرضَاعَة فَإِن الَّتِي أرضعت تشبه الْأُم من حَيْثُ إِنَّهَا سَبَب اجْتِمَاع أمشاج بنيته وَقيام هيكله، غير أَن الْأُم جمعت خلقته فِي بَطنهَا، وَهَذِه درت عَلَيْهِ سد رمقه فِي أول نشأته، فَهِيَ أم بعد الْأُم وَأَوْلَادهَا أخوة بعد الْأُخوة. وَقد قاست فِي حضانته مَا قاست، وَقد ثَبت فِي ذمَّته من حُقُوقهَا مَا ثَبت، وَقد رَأَتْ فِي صغره مَا رَأَتْ، فَيكون تَملكهَا والوثوب عَلَيْهَا مَا تمجه الْفطْرَة السليمة، وَكم من بَهِيمَة عجماء لَا تلْتَفت إِلَى أمهَا أَو مرضعتها هَذِه اللفتة فَمَا ظَنك بِالرِّجَالِ؟ وَأَيْضًا فَإِن الْعَرَب كَانُوا يسترضعون أَوْلَادهم فِي حَيّ من الْأَحْيَاء، فيشب فيهم الْوَلِيد، ويخالطهم كمخالطة الْمَحَارِم، وَيكون عِنْدهم للرضاعة لحْمَة كلحمة النّسَب، فَوَجَبَ أَن يحمل على النّسَب، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" يحرم من الرضَاعَة مَا يحرم من الْولادَة ".
وَلما كَانَ الرَّضَاع إِنَّمَا صَار سَببا للتَّحْرِيم لِمَعْنى المشابهة بِالْأُمِّ فِي كَونهَا سَببا لقِيَام بنية الْمَوْلُود وتركيب هيكله وَجب أَن يعْتَبر فِي الأرضاع شيآن:
أَحدهمَا الْقدر الَّذِي يتَحَقَّق بِهِ هَذَا الْمَعْنى، فَكَانَ فِيمَا أنزل من الْقُرْآن عشر رَضعَات مَعْلُومَات (يحر - من -، ثمَّ نسخن بِخمْس مَعْلُومَات، فتوفى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهن مِمَّا يقْرَأ فِي الْقُرْآن. أما التَّقْدِير فَلِأَنَّهُ لما كَانَ الْمَعْنى مَوْجُودا فِي الْكثير دون الْقَلِيل وَجب عِنْد التشريع أَن يضْرب بَينهمَا حد يرجع إِلَيْهِ عِنْد الِاشْتِبَاه، وَأما التَّقْدِير بِعشر فَلِأَن الْعشْر أول حد مُجَاوزَة الْعدَد من الْآحَاد وتدربه فِي العشرات، وَأول حد يسْتَعْمل فِيهِ جمع الْكَثْرَة وَلَا يسْتَعْمل فِيهِ جمع الْقلَّة، فَكَانَ نِصَابا صَالحا لضبط الْكَثْرَة المعتد بهَا المؤثرة فِي بدن(2/203)
الْإِنْسَان أما النّسخ بِخمْس فللاحتياط لِأَن الطِّفْل إِذا أرضع خمس رَضعَات غزيرات يظْهر الرونق والنضارة على وَجهه وبدنه، وَإِذا أَصَابَهُ عوز اللَّبن فِي هَذِه الرضعات وَكَانَت الْمُرْضع غير ذَات در ظهر على بدنه القحول والهزال وَهَذِه آيَة أَنَّهَا سَبَب التنمية وَقيام الهيكل وَمَا دون ذَلِك لَا يظْهر أَثَره.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تحرم الرضعة والرضعتان، وَلَا تحرم المصة والمصتان، لَا تحرم الإملاجة وَلَا الإملاجتان " وَأما على قَول من قَالَ يحرم الْكثير والقليل فالسبب تَعْظِيم أَمر الرَّضَاع وَجعله كالمؤثر بالخاصية كَسنة الله تَعَالَى فِي سَائِر مَا لَا يدْرك منَاط حكمه.
وَالثَّانِي أَن يكون الرَّضَاع فِي أول قيام الهيكل وتشبح صُورَة الْوَلَد، وَإِلَّا فَهُوَ غذَاء بِمَنْزِلَة سَائِر الأغذية الكائنة بعد التشبح وَقيام الهيكل كالشاب يَأْكُل الْخبز، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِن الرضَاعَة من المجاعة " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا يحرم من الرَّضَاع إِلَّا مَا فتق الأمعاء فِي الثدي، وَكَانَ قبل الْفِطَام ".
وَمِنْهَا الِاحْتِرَاز عَن قطع الرَّحِم بَين الْأَقَارِب؛ فَإِن الضرتين تتحاسدان، وينجر الْبَعْض إِلَى أقرب النَّاس مِنْهُمَا، والحسد بَين الْأَقَارِب أخنع وأشنع، وَقد كره جماعان من السّلف ابْنَتي عَم لذَلِك، فَمَا ظَنك بامرأتين أَيهمَا فرض ذكرا حرمت عَلَيْهِ الْأُخْرَى كالأختين، وَالْمَرْأَة، وعمتها، وَالْمَرْأَة، وخالتها، وَقد اعْتبر النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الأَصْل فِي تَحْرِيم الْجمع بَين بنت النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبنت غَيره؛ فَإِن الْحَسَد من الضره واستئثارها من الزَّوْج كثيرا مَا ينجران إِلَى بغضها وبغض أَهلهَا، وبغض النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَو بِحَسب الْأُمُور المعاشية يُفْضِي إِلَى الْكفْر، وَالْأَصْل فِي هَذَا الْأخْتَان، وَنبهَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقولة: " لَا يجمع بَين الْمَرْأَة وعمتها " الحَدِيث على وَجه الْمَسْأَلَة.
وَمِنْهَا الْمُصَاهَرَة فَإِنَّهُ لَو جرت السّنة رَغْبَة بَين النَّاس أَن يكون للْأُم رَغْبَة فِي زوج بنتهَا وللرجال فِي حلائل الْأَبْنَاء وَبَنَات نِسَائِهِم لأفضى إِلَى السَّعْي فِي فك ذَلِك الرَّبْط أَو قتل من يشح بِهِ، وَإِن أَنْت تسمعت إِلَى قصَص قدماء الفارسيين واستقرأت حَال أهل زَمَانك من الَّذين لم يتقيدوا بِهَذِهِ السّنة الراشدة وجدت أمروا عظاما ومهالك ومظالم لَا تحصى،(2/204)
وَأَيْضًا فَإِن الاصطحاب فِي هَذِه الْقَرَابَة لَازم، والستر مُتَعَذر، والتحاسد شنيع، والحاجات من الْجَانِبَيْنِ متنازعة، فَكَانَ أمرهَا بِمَنْزِلَة الْأُمَّهَات وَالْبَنَات أَو بِمَنْزِلَة الْأُخْتَيْنِ.
وَمِنْهَا الْعدَد الَّذِي لَا يُمكن الْإِحْسَان إِلَيْهِ من الْعشْرَة الزَّوْجِيَّة فَإِن النَّاس كثيرا مَا يرغبون فِي جمال النِّسَاء، ويتزوجون مِنْهُنَّ ذَوَات عدد، ويستأثرون مِنْهَا حظية، ويتركون الْأُخَر كالمعلقة، فَلَا هِيَ مُزَوّجَة حظية تقر عينهَا، وَلَا هِيَ أيم يكون أمرهَا بِيَدِهَا، وَلَا يُمكن أَن يضيق فِي ذَلِك كل تضييق، فَإِن من النَّاس من لَا يحصنه فرج وَاحِد، وَأعظم الْمَقَاصِد التناسل، وَالرجل
يَكْفِي لتلقيح عدد كثير من النِّسَاء، وَأَيْضًا فالاكثار من النِّسَاء شِيمَة الرِّجَال وَرُبمَا يحصل بِهِ المباهاة، فَقدر الشَّارِع بِأَرْبَع، وَذَلِكَ أَن الْأَرْبَع عدد يُمكن لصاحبة أَن يرجع إِلَى كل وَاحِدَة بعد ثَلَاثَة لَيَال، وَمَا دون لَيْلَة لَا يُفِيد فَائِدَة الْقسم، وَلَا يُقَال فِي ذَلِك: بَات عِنْدهَا، وَثَلَاث أول حد كَثْرَة وَمَا فَوْقهَا زِيَادَة الْكَثْرَة، وَكَانَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن ينْكح مَا شَاءَ وَذَلِكَ لِأَن ضرب هَذَا الْحَد إِنَّمَا هُوَ لدفع مفْسدَة غالبية دَائِرَة على مَظَنَّة لَا لدفع مفْسدَة عَيْنِيَّة حقيقيه، وَالنَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد عرف المئة فَلَا حَاجَة لَهُ فِي المظنة وَهُوَ مامون فِي طَاعَة الله وامتثال أمره دون سَائِر النَّاس.
وَمِنْهَا اخْتِلَاف الدّين؛ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{وَلَا تنْكِحُوا الْمُشْركين حَتَّى يُؤمنُوا} . الْآيَة
وَقد بَين فِي هَذِه الْآيَة أَن الْمصلحَة المرعية فِي هَذَا الحكم هُوَ أَن صُحْبَة الْمُسلمين مَعَ الْكفَّار وجريان الْمُوَاسَاة فِيمَا بَين الْمُسلمين وَبينهمْ لَا سِيمَا على وَجه الازدواج مفْسدَة للدّين سَبَب لآن يدب فِي قلبه الْكفْر من حَيْثُ يشْعر وَمن حَيْثُ لَا يشْعر، وَأَن الْيَهُود. وَالنَّصَارَى يتقيدون بشريعة سَمَاوِيَّة قَائِلُونَ بأصول قوانين التشريع وكلياته دون الْمَجُوس وَالْمُشْرِكين فمفسدة صحبتهم خَفِيفَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيرهم، فَإِن الزَّوْج قاهر على الزَّوْجَة قيم عَلَيْهَا وَإِنَّمَا الزَّوْجَات عوان بِأَيْدِيهِم، فَإِذا تزوج الْمُسلم الْكِتَابِيَّة خف الْفساد، فَمن حق هَذَا أَن يرخص فِيهِ، وَلَا يشدد كتشديد سَائِر أَخَوَات الْمَسْأَلَة.
وَمِنْهَا كَون الْمَرْأَة أمة لآخر، فَإِنَّهُ لَا يُمكن تحصين فرجهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَيِّدهَا، وَلَا اخْتِصَاصه بهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ إِلَّا من جِهَة التَّفْوِيض إِلَى دينه
وأمانته، وَلَا جَائِز أَن يسد سَيِّدهَا عَن استخدامها والتخلي بهَا فَإِن ذَلِك تَرْجِيح أَضْعَف الْملكَيْنِ على أقواهما فَإِن هُنَالك ملكَيْنِ: ملك الرَّقَبَة. وَملك الْبضْع، وَالْأول هُوَ الْأَقْوَى الْمُشْتَمل على الآخر المستتبع لَهُ، وَالثَّانِي هُوَ الضَّعِيف المندرج، وَفِي اقتضاب الْأَدْنَى للأعلى قلب الْمَوْضُوع وَعدم الِاخْتِصَاص بهَا، وَعدم إِمْكَان ذب الطامع فِيهَا هُوَ أصل الزِّنَا، وَقد اعْتبر انبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا(2/205)
الأَصْل فِي تَحْرِيم الْأَنْكِحَة الَّتِي كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يتعاملونها، كالاستبضاع وَغَيره على مَا بَينته عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، فَإِذا كَانَت فتاة مُؤمنَة بِاللَّه مُحصنَة فرجهَا، واشتدت الْحَاجة إِلَى نِكَاحهَا لمخافة الْعَنَت وَعدم طول الْحر خف الْفساد وَكَانَت الضروره والضرورات تبيح الْمَحْظُورَات.
وَمِنْهَا كَون الْمَرْأَة مَشْغُولَة بِنِكَاح مُسلم أَو كَافِر، فَإِن أصل الزِّنَا هُوَ الازدحام على الموطوءه من غير اخْتِصَاص أَحدهمَا بهَا وَغير قطع طمع الآخر فِيهَا، وَلذَلِك قَالَ الزُّهْرِيّ رَحْمَة الله عَلَيْهِ: وَيرجع ذَلِك إِلَى أَن الله تَعَالَى حرم الزِّنَا، وَأصَاب الصحابه رَضِي الله عَنْهُم سَبَايَا، وتحرجوا من غشيانها من أجل أَزوَاجهنَّ من الْمُشْركين، فَأنْزل الله تَعَالَى:
{وَالْمُحصنَات من النِّسَاء إِلَّا مَا ملكت أَيْمَانكُم} .
أَي فهن حَلَال من جِهَة أَن السَّبي قَاطع لطعمه، وَاخْتِلَاف الدَّار مَانع من الازدحام عَلَيْهَا، ووقوعها فِي سَهْمه مُخَصص لَهَا بِهِ.
وَمِنْهَا كَون الْمَرْأَة زَانِيَة مكتسبة بِالزِّنَا، فَلَا يجوز نِكَاحهَا حَتَّى تتوب، وتقلع عَن فعلهَا ذَلِك، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{والزانية لَا ينْكِحهَا إِلَّا زَان أَو مُشْرك} .
والسر فِيهِ أَن كَون الزَّانِيَة فِي عصمته وَتَحْت يَده وَهِي بَاقِيَة على عَادَتهَا من الزِّنَا ديوسية وانسلاخ عَن الْفطْرَة السليمة، وَأَيْضًا فانه لَا يَأْمَن من أَن تلْحق بِهِ ولد غَيره.
وَلما كَانَت الْمصلحَة من تَحْرِيم الْمُحرمَات لَا تتمّ إِلَّا بِجعْل التَّحْرِيم أمرا لَازِما وخلقا جبليا بِمَنْزِلَة الْأَشْيَاء الَّتِي يستنكف مِنْهَا طبعا، وَجب أَن يُؤَكد شهرتها وشيوعها وَقبُول النَّاس لَهَا باقامة لائمة شَدِيدَة على إهمال تَحْرِيمهَا، وَذَلِكَ أَن تكون السّنة قتل من وَقع على ذَات، ورحم محرم مِنْهُ بِنِكَاح أَو غَيره، وَلذَلِك بعث رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى من تزوج بامرأه أَبِيه أَن يُؤْتى بِرَأْسِهِ.
(آدَاب الْمُبَاشرَة)
اعْلَم أَن الله تَعَالَى لما خلق الْإِنْسَان مدنيا بالطبع، وتعلقت إِرَادَته بِبَقَاء النَّوْع بالتناسل وَجب أَن يرغب الشَّرْع فِي التناسل أَشد رَغْبَة، وَينْهى عَن قطع النَّسْل والأسباب المفضية إِلَيْهِ أَشد نهي، وَكَانَ أعظم أَسبَاب النَّسْل وأكثرها وجودا وأفضاها إِلَيْهِ وأحثها عَلَيْهِ هُوَ شَهْوَة الْفرج، فانها كالمسلط عَلَيْهِم مِنْهُم يقهرهم على ابْتِغَاء النَّسْل، أشاءوا أم أَبَوا،(2/206)
وَفِي جَرَيَان الرَّسْم باتيان الغلمان وَوَطْء النِّسَاء فِي أدبارهن تَغْيِير خلق الله حَيْثُ منع الْمُسَلط على شَيْء من إفضائه إِلَى مَا قصد لَهُ وَأَشد ذَلِك كُله وَطْء الغلمان فانه تَغْيِير لخق الله من الْجَانِبَيْنِ وتأنث الرِّجَال أقبح الْخِصَال، وَكَذَلِكَ جَرَيَان الرَّسْم بِقطع أَعْضَاء النَّسْل وَاسْتِعْمَال الادوية القامعة للباءة والتبتل وَغَيرهَا تَغْيِير لخلق الله عز وَجل وإهمال لطلب النَّسْل، فَنهى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن كل ذَلِك قَالَ: " لَا تَأْتُوا النِّسَاء فِي أدبارهن، مَلْعُون من أَتَى امْرَأَة فِي دبرهَا " وَكَذَلِكَ نهى عَن الخصاء والتبتل فِي أَحَادِيث كَثِيرَة قَالَ الله تَعَالَى:
{نِسَاؤُكُمْ حرث لكم فَأتوا حَرْثكُمْ أَنى شِئْتُم} .
اقول: كَانَ الْيَهُود يضيقون فِي هَيْئَة الْمُبَاشرَة من غير حكم سماوي، وَكَانَ الْأَنْصَار وَمن وليهم يَأْخُذُونَ سنتهمْ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِذا أَتَى الرجل امْرَأَته من دبرهَا فِي قبلهَا كَانَ الْوَلَد أَحول فَنزلت هَذِه الْآيَة: أقبل، وَأدبر مَا كَانَ فِي صمام وَاحِد، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ شَيْء لَا يتَعَلَّق بِهِ الْمصلحَة المدنية والملية " وَالْإِنْسَان أعرف بمصلحة خَاصَّة نَفسه، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك من تعمقات الْيَهُود فَكَانَ من حَقه أَن ينْسَخ.
وَسُئِلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن الْعَزْل؟ فَقَالَ:
" مَا عَلَيْكُم أَلا تَفعلُوا مَا من نسمَة كائنة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا وَهِي كائنة " أَقُول: يُشِير إِلَى كَرَاهِيَة الْعَزْل من غير تَحْرِيم، وَالسَّبَب فِي ذَلِك أَن الْمصَالح متعارضة، فالمصلحة الْخَاصَّة بِنَفسِهِ فِي السَّبي مثلا أَن يعْزل، والمصلحة النوعية أَلا يعْزل، ليتَحَقَّق كَثْرَة الْأَوْلَاد وَقيام النَّسْل، وَالنَّظَر إِلَى الْمصلحَة النوعية أرجح من النّظر إِلَى الْمصلحَة الشخصية فِي عَامَّة أَحْكَام الله تَعَالَى التشريعية والتكوينية، على أَن الْعَزْل لَيْسَ فِيهِ مَا إتْيَان الدبر من تَغْيِير خلق الله وَلَا الْأَعْرَاض من التَّعَرُّض للنسل، وَنبهَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: " مَا عَلَيْكُم أَن أَلا تَفعلُوا " على أَن الْحَوَادِث مقدرَة قبل وجودهَا. وَأَن الشَّيْء إِذا قدر وَلم يكن لَهُ فِي الأَرْض إِلَّا سَبَب ضَعِيف فَمن سنة الله عز وَجل أَن يبسط ذَلِك السَّبَب الضَّعِيف حَتَّى يُفِيد الْفَائِدَة التَّامَّة، فالإنسان إِذا قَارب الْإِنْزَال وَأَرَادَ أَن ينْزع ذكره كثيرا مَا يتقاطر فِي إحليله قطرات تَكْفِي من مَادَّة وَلَده وَهُوَ لَا يدْرِي، وَهُوَ سر قَول عمر رَضِي الله عَنهُ بالحاق الْوَلَد بِمن أقرّ أَنه مَسهَا لَا يمْنَع من ذَلِك الْعَزْل.(2/207)
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لقد هَمَمْت أَن أنهِي عَن الغيلة فَنَظَرت فِي الرّوم فَارس فَإِذا هم يغيلون أَوْلَادهم فَلَا تضر أَوْلَادهم " وَقَالَ:
" لَا تقتلُوا أَوْلَادكُم سرا فان الغيل يدْرك الْفَارِس، فيدعثره ".
أَقُول: هَذَا إِشَارَة إِلَى كَرَاهِيَة الغيلة من غير تَحْرِيم، وَسَببه أَن جماع الْمُرْضع يفْسد لَبنهَا، وينفه الْوَلَد، وَضَعفه فِي أول نمائه يدْخل فِي جذر مزاجه، وَبَين النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه أَرَادَ التَّحْرِيم لكَونه مَظَنَّة الْغَالِب للضَّرَر، ثمَّ أَنَّهَا لما استقرأ وجد أَن الضَّرَر غير مطرد وَأَنه لَا يصلح للمظنة حَتَّى يدار عَلَيْهِ التَّحْرِيم، وَهَذَا الحَدِيث أحد دَلَائِل مَا أَثْبَتْنَاهُ من أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يجْتَهد وَأَن اجْتِهَاده معرفَة الْمصَالح والمظان وإدارة التَّحْرِيم والكراهية عَلَيْهَا.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِن من أشر النَّاس عِنْد الله منزلَة الرجل يُفْضِي إِلَى امْرَأَته، وتفضي هِيَ إِلَيْهِ ثمَّ ينشر سرها " أَقُول: لما كَانَ السّتْر وَاجِبا وَإِظْهَار مَا أسبل عَلَيْهِ السّتْر قلبا لموضوعه ومناقضا لغرضه كَانَ من مُقْتَضَاهُ أَن ينْهَى عَنهُ، وَأَيْضًا فاظهار مثل هَذِه مجانة ووقاحة، وَاتِّبَاع مثل هَذِه الدَّوَاعِي يعد النَّفس لتشبح الألوان الظلمانية فِيهَا.
وَكَانَت الْملَل مُخْتَلفه فِيمَا يفعل فِي بالحائض، فَمن متعمق كاليهود يمْنَع مؤاكلتها ومضاجعتها، وَمن متهاون كالمجوس يجوز الْجِمَاع وَغَيره، وَلَا يجد للْحيض بَالا وكل ذَلِك إفراط وتفريط، فراعت الْملَّة المصطفوية التَّوَسُّط فَقَالَ: " اصنعوا كل شَيْء إِلَّا النِّكَاح " وَذَلِكَ لمعان
مِنْهَا أَن جماع الْحَائِض لَا سِيمَا فِي فَور حَيْضَتهَا ضار اتّفق الْأَطِبَّاء على ذَلِك، وَمِنْهَا أَن مُخَالطَة النَّجَاسَة خلق فَاسد تمجه الطبيعة السليمة، وَيقرب
من الشَّيَاطِين وَفِي مثل الِاسْتِنْجَاء حَاجَة، وَإِنَّمَا الْمَقْصُود من ذَلِك إِزَالَتهَا، وَفِي جماع الْحَائِض الغمس فِي النَّجَاسَة، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{قل هُوَ أَذَى فاعتزلوا النِّسَاء فِي الْمَحِيض} .
وَاخْتلفت الرِّوَايَة فِيمَا دون الْجِمَاع، فَقيل: يَتَّقِي شعار الدَّم، وَقيل: يَتَّقِي مَا تَحت الْإِزَار، وعَلى الْوَجْهَيْنِ هُوَ الدَّوَاعِي، وَجَاء الْأَمر لمن عصى الله، فجامع الْحَائِض أَن يتَصَدَّق بِدِينَار أَو نصف دِينَار وَهَذَا لَيْسَ بمجمع عَلَيْهِ، وسر الْكَفَّارَة مَا ذكرنَا مرَارًا.(2/208)
(حُقُوق الزَّوْجِيَّة)
اعْلَم أَن الارتباط الْوَاقِع بَين الزَّوْجَيْنِ أعظم الارتباطات المنزلية بأشرها، وأكثرها نفعا، وأتمها حَاجَة؛ إِذْ السّنة عِنْد طوائف النَّاس عربهم وعجمهم أَن تعاونه الْمَرْأَة فِي اسْتِيفَاء الارتفاقات، وَأَن تتكفل لَهُ بتهيئة الْمطعم وَالْمشْرَب والملبس، وَأَن تخزن مَاله، وتحضن وَلَده، وَتقوم فِي بَيته مقَامه عِنْد غيبته إِلَى غير ذَلِك مِمَّا لَا حَاجَة إِلَى شَرحه وَبَيَانه، فَلذَلِك كَانَ أَكثر توجه الشَّرَائِع إِلَى إبقائه مَا أمكن وتوفير مقاصده وكراهية تنغيصه وإبطاله، وكل ارتباط لَا يُمكن اسْتِيفَاء مقاصده إِلَّا بِإِقَامَة الألفة، وَلَا ألفة إِلَّا بخصال يقيدان أَنفسهمَا عَلَيْهَا، كالمواساة وعفو مَا يفرط من سوء الْأَدَب والاحتراز عَمَّا يكون سَببا للضغائن ووحر الصَّدْر وَإِقَامَة المفاكهة وطلاقة الْوَجْه وَنَحْو ذَلِك، فاقتضت الْحِكْمَة أَن يرغب فِي هَذِه الْخِصَال ويحث عَلَيْهَا.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" اسْتَوْصُوا بِالنسَاء خيرا فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ من ضلع، فَإِن ذهبت تُقِيمهُ كَسرته وَإِن تركته لم يزل أَعْوَج " أَقُول: مَعْنَاهُ اقْبَلُوا وصيتي، وَاعْمَلُوا بهَا فِي النِّسَاء، وان فِي خَلقهنَّ عوجا وسوءا، وَهُوَ
كالأمر اللَّازِم بِمَنْزِلَة مَا يتوارثه الشَّيْء من مادته، وَأَن الْإِنْسَان إِذا أَرَادَ اسْتِيفَاء مَقَاصِد الْمنزل مِنْهَا لَا بُد أَن يُجَاوز عَن محقرات الْأُمُور، ويكظم الغيظ فِيمَا يجده خلاف هَوَاهُ إِلَّا مَا يكون من بَاب الْغيرَة المحمودة وتداركا لجور وَنَحْوه ذَلِك.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا يفرك مُؤمن مُؤمنَة، ان كره مِنْهَا خلقا رَضِي مِنْهَا الآخر " أَقُول: الْإِنْسَان إِذا كره مِنْهَا خلقا يَنْبَغِي أَلا يُبَادر إِلَى الطَّلَاق، فَإِنَّهُ كثيرا مَا يكون فِيهَا خلق آخر يستطاب مِنْهَا، ويتحمل سوء عشرتها لذَلِك.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" اتَّقوا الله فِي النِّسَاء، فَإِنَّكُم أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَان الله، واستحللتم فروجهن بِكَلِمَة الله، وَلكم عَلَيْهِنَّ أَلا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فَإِن فعلن، فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عَلَيْكُم رزقهن وكسوتهن بِالْمَعْرُوفِ ".
اعْلَم أَن الْوَاجِب الْأَصْلِيّ هُوَ المعاشرة بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:(2/209)
{وعاشروهن بِالْمَعْرُوفِ} .
فبينها النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرزق وَالْكِسْوَة وَحسن الْمُعَامَلَة، وَلَا يُمكن فِي الشَّرَائِع المستندة إِلَى الْوَحْي أَن يعين جنس الْقُوت وَقدره مثلا، فَإِنَّهُ لَا يكَاد يتَّفق أهل الأَرْض على شَيْء وَاحِد، وَلذَلِك إِنَّمَا أَمر أمرا مُطلقًا.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِذا دَعَا الرجل امْرَأَته إِلَى فرَاشه، فَأَبت، فَبَاتَ غَضْبَان لعنتها الْمَلَائِكَة حَتَّى تصبح ". أَقُول لما كَانَت الْمصلحَة المرعية فِي النِّكَاح تحصين فرجه وَجب أَن تحقق تِلْكَ الْمصلحَة، فَإِن من أصُول الشَّرَائِع أَنَّهَا إِذا ضربت مَظَنَّة لشَيْء سجل بِمَا يُحَقّق وجود الْمصلحَة عِنْد المظنة وَذَلِكَ أَن تُؤمر الْمَرْأَة بمطاوعته إذأ أَرَادَ مِنْهَا ذَلِك، وَلَوْلَا هَذَا لم يتَحَقَّق تحصين فرجه، فَإِن أَبَت، فقد سعت فِي رد الْمصلحَة الَّتِي أَقَامَهَا الله فِي عباده، فَتوجه إِلَيْهَا لعن الْمَلَائِكَة على كل من سعى فِي فَسَادهَا.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِن من الْغيرَة مَا يحب الله وَمِنْهَا مَا يبغض الله، فَأَما الَّتِي يُحِبهَا الله فالغيرة فِي الرِّيبَة، وَأما الَّتِي يبغضها الله فالغيرة فِي غير رِيبَة ". أَقُول: فرق بَين اقامة الْمصلحَة والسياسة الَّتِي لَا بُد لَهُ مِنْهَا وَبَين سوء الْخلق والضجر والضيق من غير مُوجب.
قَالَ الله تَعَالَى:
{الرِّجَال قوامون على النِّسَاء بِمَا فضل الله} إِلَى قَوْله. {إِن الله كَانَ عليما خَبِيرا} .
أَقُول: يجب أَن يَجْعَل الزَّوْج قواما على امْرَأَته، وَأَن يكون لَهُ الطول عَلَيْهَا بالجبلة فَإِن الزَّوْج أتم عقلا وأوفر سياسة وآكد حماية وذبا للعار، بِالْمَالِ حَيْثُ أنْفق عَلَيْهَا رزقها وكسوتها، وَكَون السياسة بِيَدِهِ يَقْتَضِي أَن يكون لَهُ تعزيرها وتأديبها أَن بَغت، وليأخذ بالأسهل فالأسهل، فَالْأول بالوعظ، ثمَّ الهجر بالضجع يَعْنِي ترك مضاجعتها، وَلَا يُخرجهَا من بَيته، ثمَّ الضَّرْب غير المبرح أَي الشَّديد، فَإِن اشْتَدَّ الشقاق، وَادّعى كل نشوز الآخر وظلمه لم يكن قطع الْمُنَازعَة إِلَّا بحكمين: حكم من أَهله، وَحكم من أَهلهَا يحكمان عَلَيْهِمَا من النَّفَقَة وَغَيرهَا مَا يريان من الْمصلحَة وَذَلِكَ لِأَن
إِقَامَة الْبَيِّنَة على مَا يجْرِي فِي الزَّوْجَيْنِ ممتنعة؛ فَلَا أَحَق من أَن يَجْعَل الْأَمر إِلَى أقرب النَّاس إِلَيْهِمَا وأشفقهم(2/210)
عَلَيْهِمَا.
قَالَ رَسُول الله:
" لَيْسَ منا من خبب امْرَأَة على زَوجهَا أَو عبدا على سَيّده،. أَقُول: أحد أَسبَاب فَسَاد تَدْبِير الْمنزل أَن يخبب إِنْسَان الْمَرْأَة أَو العَبْد وَذَلِكَ سعي فِي تنغيص هَذَا النّظم وفكه ومناقضة الْمصلحَة الْوَاجِب إِقَامَتهَا.
وَاعْلَم أَن بَاب فَسَاد تَدْبِير الْمنزل خِصَالًا فَاشِية فِي النَّاس، كثيرا المبتلون بهَا، فَلَا بُد أَن يتَعَرَّض الشَّرْع لَهَا، ويبحث عَنْهَا، مِنْهَا أَن يجْتَمع عِنْد رجل عدد من النسْوَة، فيفضل إِحْدَاهُنَّ فِي الْقسم وَغَيره، وَيظْلم الآخرى وَيَتْرُكهَا كالمعلقة قَالَ الله تَعَالَى:
{وَلنْ تستطيعوا أَن تعدلوا بَين النِّسَاء وَلَو حرصتم فَلَا تميلوا كل الْميل فتذروها كالمعلقة وَإِن تصلحوا وتتقوا فَإِن الله كَانَ غَفُورًا رحِيما} .
قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذا كَانَ عِنْد الرجل امْرَأَتَانِ، فَلم يعدل بَينهمَا جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة وَشقه سَاقِط ". أَقُول: قد مر أَن المجازاة إِنَّمَا تظهر فِي صُورَة الْعَمَل فَلَا نعيده.
وَمِنْهَا أَن يعضلهن الْأَوْلِيَاء عَمَّا يرغبن فِيهِ من الْأَكفاء أتباعا لداعية نفسانية من حق وَغَضب وَنَحْوهمَا، وَفِي ذَلِك من الْمفْسدَة مَا لَا يخفى فَنزل قَوْله تَعَالَى:
{وَإِذا طلّقْتُم النِّسَاء فبلغن أَجلهنَّ فَلَا تعضلوهن أَن ينكحن أَزوَاجهنَّ} .
وَمِنْهَا أَن يتَزَوَّج الْيَتَامَى اللَّاتِي فِي حجره إِن كن ذَوَات مَال وجمال، وَلَا يَفِي بحقوقهن مثل مَا يصنع بذوات الْآبَاء، ويتركهن إِن كن على غير ذَلِك، قَالَ الله تَعَالَى:
{وَإِن خِفْتُمْ أَلا تقسطوا فِي الْيَتَامَى فنكحوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء مثنى وَثَلَاث وَربَاع فَإِن خِفْتُمْ أَن لَا تعدلوا فَوَاحِدَة أَو مَا ملكت أَيْمَانكُم} .
فَنهى الْإِنْسَان إِن خشِي الْجور أَن ينْكح الْيَتَامَى، أَو ينْكح ذَوَات عدد من النِّسَاء.
وَمن السّنة إِذا تزوج الْبكر على امْرَأَة أَقَامَ عِنْدهَا سبعا، ثمَّ قسم، وَإِذا تزوج الثّيّب أَقَامَ عِنْدهَا ثَلَاثًا، ثمَّ قسم.
أَقُول: السِّرّ فِي هَذَا أَنه لَا يجوز أَن يضيق فِي هَذَا الْبَاب كل التَّضْيِيق، فَإِنَّهُ لَا يطيقه أَكثر أَفْرَاد الْإِنْسَان وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{وَلنْ تستطيعوا أَن تعدلوا بَين النِّسَاء وَلَو حرصتم}
نبه على أَنه لما لم يكن إِقَامَة الْعدْل الصراح وَجب أَن يدار الحكم على ترك الْجور(2/211)
الصَّرِيح، فَإِذا رغب رجل فِي امْرَأَة، وَأَعْجَبهُ حسنها، وشغف قلبه جمَالهَا، وَكَانَ لَهُ رَغْبَة وافره إِلَيْهَا لم يكن أَن يصد عَن ذَلِك بِالْكُلِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ كالتكليف بالممتنع، فَقدر لَهُ مِقْدَار استئثاره لَهَا، لِئَلَّا يزِيد، فيقتحم
فِي الْجور، وَأَيْضًا فَمن الْمصلحَة الْمُعْتَبرَة تأليف قلب الجديدة وإكرامها، وَلَا يحصل إِلَّا بِأَن يستأثر وَهُوَ إِيمَاء قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا:
" لَيْسَ لَك على أهلك هوان إِن شِئْت سبعت " الحَدِيث وَأما كسر قلب الْقَدِيمَة فقد عولج فِي الجريان السّنة بِالزِّيَادَةِ للجديدة، فَإِنَّهُ إِذا جرت السّنة بِشَيْء، وَلم يكن مِمَّا قصد بِهِ إِيذَاء أحد أَو مِمَّا خص بِهِ هان وقعه عَلَيْهِ، وَهُوَ إِيمَاء قَوْله تَعَالَى:
{ذَلِك أدنى أَن تقر أعينهن وَلَا يحزن ويرضين بِمَا آتيتهن كُلهنَّ} .
يَعْنِي نزُول الْقُرْآن بالخيرة فِي حقهن سَبَب زَوَال السخطة بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْبكْر الرَّغْبَة فيهاا أتم، وَالْحَاجة إِلَى تأليف قَلبهَا أَكثر، فَجعل قدرهَا السَّبع، وَقدر الثّيّب الثَّلَاث.
وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقسم بِهن، وَإِذا أَرَادَ سفرا أَقرع بَين نِسَائِهِ. أَقُول: وَذَلِكَ دفعا لوحر الصَّدْر، وَالظَّاهِر أَن ذَلِك مِنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ تَبَرعا وإحسانا من غير وجوب عَلَيْهِ لقَوْله تَعَالَى:
{ترجي من تشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْك من تشَاء} .
وَأما فِي غَيره فموضع تَأمل واجتهاد، وَلَكِن جُمْهُور الْفُقَهَاء أوجبوا
الْقسم، وَاخْتلفُوا فِي الْقرعَة. أَقُول: وَفِيه أَن قَوْله: فَلم يعدل مُجمل لَا يدْرِي أَي عدل أُرِيد بِهِ، وَقَوله تَعَالَى:
{فتذروها كالمعلقة} .
مُبين أَن المُرَاد نفي الْجور الْفَاحِش وإهمال أمرهَا بِالْكُلِّيَّةِ سوء الْعشْرَة مَعهَا.
وأعتقت بربرة، وَكَانَ زَوجهَا عبدا، فَخَيرهَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَاخْتَارَتْ نَفسهَا. أَقُول: السَّبَب فِي ذَلِك ان كَون الْحرَّة فراشا للْعَبد عَار عَلَيْهَا، فَوَجَبَ دفع ذَلِك الْعَار عَنْهَا إِلَّا أَن ترْضى بِهِ، وَأَيْضًا فالأمة تَحت يَد مَوْلَاهَا لَيْسَ رِضَاهَا رضَا حَقِيقَة، وَإِنَّمَا النِّكَاح بِالتَّرَاضِي، فَلَمَّا أَن كَانَ أمرهَا بِيَدِهَا وَجب مُلَاحظَة رِضَاهَا،(2/212)
وَفِي رِوَايَة إِن قربك، فَلَا خِيَار لَك، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا بُد من ضرب حد يَنْتَهِي إِلَيْهِ الْخِيَار، وَإِلَّا كَانَ لَهَا الْخِيَار طول عمرها، وَفِي ذَلِك قلب مَوْضُوع النِّكَاح، وَلَا يصلح اخْتِيَارهَا إِيَّاه بالْكلَام حَتَّى يَنْتَهِي إِلَيْهِ، لِأَنَّهَا رُبمَا تشَاور أَهلهَا، وتقلب الْأَمر فِي نَفسهَا وَكَثِيرًا مَا يجْرِي عِنْد ذَلِك صِيغَة الِاخْتِيَار وَإِن لم تجزم بِهِ، وَفِي إلجائها أَلا تَتَكَلَّم بِمِثْلِهَا حرج، فَلَا أَحَق من القربان إِذْ هُوَ فَائِدَة الْملك وَالشَّيْء الَّذِي يقْصد مِنْهُ وَالْأَمر الَّذِي يتم بِهِ، وَالله أعلم.
(الطَّلَاق)
قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" أَيّمَا امْرَأَة سَأَلت زَوجهَا طَلَاقا من غير بَأْس فَحَرَام عَلَيْهَا رَائِحَة الْجنَّة "
، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أبْغض الْحَلَال إِلَى الله الطَّلَاق " اعْلَم أَن فِي الأكثار من الطَّلَاق وجريان الرَّسْم بِعَدَمِ المبالاة بِهِ مفاسد كَثِيرَة، وَذَلِكَ أَن نَاسا ينقادون إِلَى لشَهْوَة الْفرج،
وَلَا يقصدون إِقَامَة تَدْبِير الْمنزل وَلَا التعاون فِي الارتفاقات وَلَا تحصين الْفرج، وَإِنَّمَا مطمح أَبْصَارهم التَّلَذُّذ بِالنسَاء وذوق لَذَّة كل امْرَأَة، فيهيجهم ذَلِك إِلَى أَن يكثروا الطَّلَاق وَالنِّكَاح، وَلَا فرق بَينهم وَيبين الزناة من جِهَة مَا يرجع إِلَى نُفُوسهم، وَإِن تميزوا عَنْهُم بِإِقَامَة سنة النِّكَاح والموافقة لسياسة الْمَدِينَة، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لعن الله الذواقين والذواقات " وَأَيْضًا فَفِي جَرَيَان الرَّسْم لذَلِك إهمال لتوطين النَّفس على المعاونة الدائمة أَو شبه الدائمة، وَعَسَى إِن فتح هَذِه الْبَاب أَن يضيق صَدره أَو صدرها فِي شَيْء من محقرات الْأُمُور، فيندفعان إِلَى الْفِرَاق، وَأَيْنَ ذَلِك من احْتِمَال أعباء الصُّحْبَة، وَالْإِجْمَاع على إدامة هَذَا النّظم؟ وَأَيْضًا فَإِن اعتيادهن بذلك وَعدم مبالاة النَّاس بِهِ وَعدم حزنهمْ عَلَيْهِ يفتح بَاب الوقاحة، وَألا يَجْعَل كل مِنْهُمَا ضَرَر الآخر ضَرَر نَفسه، وَأَن تخون كل وَاحِد الآخر يمهد لنَفسِهِ إِن وَقع الِافْتِرَاق، وَفِي ذَلِك مَا لَا يخفى، وَمَعَ ذَلِك لَا يُمكن سد هَذَا الْبَاب والتضيق، فِيهِ فانه قد يصير الزَّوْجَانِ متناشزين إِمَّا لسوء خلقهما أَو لطموح غين أَحدهمَا إِلَى حسن إِنْسَان آخر أَو لضيق معيشتهما أَو(2/213)
لخرق وَاحِد مِنْهُمَا، وَنَحْو ذَلِك من الْأَسْبَاب، فَيكون إدامة هَذَا النّظم مَعَ ذَلِك بلَاء عَظِيما وحرجا.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة عَن النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظ، وَعَن الصَّبِي حَتَّى يبلغ، وَعَن الْمَعْتُوه حَتَّى يعقل " أَقُول: السِّرّ فِي ذَلِك أَن مبْنى جَوَاز الطَّلَاق بل الْعُقُود كلهَا على الْمصَالح الْمُقْتَضِيَة لَهَا، والنائم وَالصَّبِيّ وَالْمَعْتُوه بمعزل عَن معرفَة تِلْكَ الْمصَالح.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا طَلَاق وَلَا إِعْتَاق فِي إغلاق " مَعْنَاهُ: فِي إِكْرَاه، اعْلَم أَن السَّبَب فِي هدر طَلَاق الْمُكْره شَيْئَانِ:
أَحدهمَا أَنه لم يرض بِهِ، وَلم يرد فِيهِ مصلحَة منزلية، وَإِنَّمَا هُوَ لحادثة لم يجد مِنْهَا بدا، فَصَارَ بِمَنْزِلَة النَّائِم.
وَثَانِيهمَا أَنه لَو اعْتبر طَلَاقه طَلَاقا لَكَانَ ذَلِك فتحا لباب الاكراه، فَعَسَى أَن يختطف الْجَبَّار الضَّعِيف من حَيْثُ لَا يعلم النَّاس، ويخيفه بِالسَّيْفِ، ويكرهه على الطَّلَاق إِذا رغب فِي امْرَأَته، فَلَو خيبنا رَجَاءَهُ، وقلبنا عَلَيْهِ مُرَاده كَانَ ذَلِك سَببا لترك تظالم النَّاس فِيمَا بَينهم بالاكراه، وَنَظِيره مَا ذكرنَا فِي قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" الْقَاتِل لَا يَرث ".
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا طَلَاق فِيمَا لَا لَا يملك " وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " لَا طَلَاق قبل النِّكَاح ". أَقُول: الظَّاهِر أَنه يعم الطَّلَاق المنجر وَالْمُعَلّق بِنِكَاح وَغَيره، وَالسَّبَب فِي ذَلِك أَن الطَّلَاق إِنَّمَا يجوز فِي للْمصْلحَة، والمصلحة لَا تتمثل عِنْده قبل أَن يملكهَا، وَيرى مِنْهَا سيرتها، فَكَانَ طَلاقهَا قبل ذَلِك بِمَنْزِلَة نِيَّة الْمُسَافِر الْإِقَامَة فِي الْمَفَازَة أَو الغازى فِي دَار الْحَرْب مِمَّا تكذبه دَلَائِل الْحَال، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يطلقون ويراجعون إِلَى مَتى شَاءُوا وَكَانَ فِي ذَلِك من الأضرار مَا لَا يخفى، فَنزل قَوْله تَعَالَى:
{الطَّلَاق مَرَّتَانِ} . الْآيَة
مَعْنَاهُ: أَن الطَّلَاق المعقب للرجعة مَرَّتَانِ، فَإِن طَلقهَا الثَّالِثَة، فَلَا تحل لَهُ من بعد حَتَّى تنْكح زوجا غَيره، وألحقت السّنة ذوق الْعسيلَة بِالنِّكَاحِ.(2/214)
والسر فِي جعل الطَّلَاق ثَلَاثًا لَا يزِيد عَلَيْهَا أَنَّهَا أول حد كَثْرَة، وَلِأَنَّهُ لَا بُد من ترو، وَمن النَّاس لَا يتَبَيَّن لَهُ الْمصلحَة حَتَّى يَذُوق فقدا، وأصل التجربة وَاحِدَة، ويكملها ثِنْتَانِ.
وَأما اشْتِرَاط النِّكَاح بعد الثَّالِثَة فلتحقيق معنى التَّحْدِيد والإنهاء، وَذَلِكَ أَنه لَو جَازَ رُجُوعهَا إِلَيْهِ من غير تخَلّل نِكَاح الآخر كَانَ ذَلِك بِمَنْزِلَة الرّجْعَة،
فَإِن نِكَاح الْمُطلقَة إِحْدَى الرجعتين، وَأَن الْمَرْأَة مَا دَامَت فِي بَيته وَتَحْت يَده وَبَين أظهر أَقَاربه يُمكن أَن يغلب على رأيها، وتضطر إِلَى رضَا مَا يسولون لَهَا فَإِذا فَارَقْتهمْ، ذاقت الْحر والقر، ثمَّ رضيت بعد ذَلِك فَهُوَ حَقِيقِيَّة الرِّضَا، وَأَيْضًا فَفِيهِ إذاقة الْفَقْد ومعاقبة على اتِّبَاع دَاعِيَة الضجر من غيرتروي مصلحَة مهمة أَيْضا: فَفِيهِ إعظام المطلقات الثَّلَاث بَين أَعينهم وَجعلهَا بِحَيْثُ لَا يُبَادر إِلَيْهَا إِلَّا من وَطن نَفسه على ترك الطمع فِيهَا إِلَّا بعد ذل وإرغام أنف لَا مزِيد عَلَيْهِ.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لامْرَأَة رِفَاعَة حِين طَلقهَا، فَبت طَلاقهَا، فنكحت زوجا غَيره: أَتُرِيدِينَ أَن ترجعى إِلَى رِفَاعَة؟ قَالَت: نعم، قَالَ: لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَته وَيَذُوق عُسَيْلَتك ". أَقُول: إِنَّمَا شَرط تَمام النِّكَاح بذوق الْعسيلَة ليتَحَقَّق معنى التَّحْدِيد الَّذِي ضرب عَلَيْهِم فَإِنَّهُ لَوْلَا ذَلِك لاحْتِمَال رجل باجراء صِيغَة النِّكَاح على اللِّسَان، ثمَّ يُطلق فِي الْمجْلس، وَهَذَا مناقضة لفائدة التَّحْدِيد.
وَلعن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحَلّل والمحلل لَهُ. أَقُول: لما كَانَ من النَّاس من ينْكح لمُجَرّد التَّحْلِيل من غير أَن يقْصد مِنْهَا تعاونا فِي الْمَعيشَة، وَلَا يتم بذلك الْمصلحَة الْمَقْصُودَة، وَأَيْضًا فَفِيهِ وقاحة وإهمال غيرَة وتسويغ إزدحام على الموطوأة من غير أَن يدْخل فِي تضاعيف المعاونة نهى عَنهُ.
وطلق عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنهُ امْرَأَته وَهِي حَائِض. وَذكر ذَلِك للنَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتغيظ، وَقَالَ: ليراجعها، ثمَّ ليمسكها حَتَّى تطهر، ثمَّ تحيض ثمَّ تطهر، فَإِن بدا لَهُ أَن يطلقهَا فَلْيُطَلِّقهَا طَاهِرا قبل أَن يَمَسهَا ". أَقُول: السِّرّ فِي ذَلِك أَن الرجل قد يبغض الْمَرْأَة بغضة طبيعية، وَلَا طَاعَة لَهَا مثل كَونهَا حَائِضًا، وَفِي هَيْئَة رثَّة وَقد، يبغضها لمصْلحَة يحكم بإقامتها
الْعقل السَّلِيم مَعَ وجود(2/215)
الرَّغْبَة الطبيعية، وَهَذِه هِيَ المتبعة وَأكْثر مَا يكون النَّدَم فِي الأول وَفِيه يَقع التراجع، وَهَذَا دَاعِيَة يتَوَقَّف تَهْذِيب النَّفس على إهمالها وَترك اتباعها، وَقد يشْتَبه الْأَمْرَانِ على كثير من النَّاس، فَلَا بُد من ضرب حد يتَحَقَّق بِهِ الْفرق، فَجعل الطُّهْر مَظَنَّة للرغبة الطبيعية، وَالْحيض مَظَنَّة للبغضة الطبيعية، والأقدام على الطَّلَاق على حِين رَغْبَة فِيهَا مَظَنَّة للْمصْلحَة الْعَقْلِيَّة،، والبقاء مُدَّة طَوِيلَة على هَذَا الخاطر مَعَ تحول الْأَحول من حيض إِلَى طهر، وَمن رثاثة إِلَى زِينَة، وَمن انقباض إِلَى انبساط مَظَنَّة لِلْعَقْلِ الصراح وَالتَّدْبِير الْخَالِص، فَلذَلِك كره الطَّلَاق فِي الْحيض، وَأمر بالمراجعة وتخلل حيض جَدِيد، وَأَيْضًا فَإِن طَلقهَا فِي الْحيض فَإِن عدت هَذِه الْحَيْضَة فِي الْعدة انتقصت مُدَّة الْعدة، وَإِن لم تعد تضررت الْمَرْأَة بطول الْعدة سَوَاء كَانَ المُرَاد بالقروء الإطهار أَو الْحيض، فَفِي كل ذَلِك مناقضة للحد الَّذِي ضربه الله فِي مُحكم كِتَابه من ثَلَاثَة قُرُوء.
وَإِنَّمَا أَمر أَن يكون الطَّلَاق فِي الطُّهْر قبل أَن يَمَسهَا لمعنيين: أَحدهمَا بَقَاء الرَّغْبَة الطبيعية فِيهَا، فَإِنَّهُ فِي بِالْجِمَاعِ تفتر سُورَة الرَّغْبَة.
وَثَانِيهمَا أَن يكون ذَلِك أبعد من اشْتِبَاه الإنساب.
وَإِنَّمَا أَمر الله تَعَالَى بإشهاد شَاهِدين على الطَّلَاق لمعنيين: أَحدهمَا الاهتمام بِأَمْر الْفروج؛ لِئَلَّا يكون نظم تَدْبِير الْمنزل، وَلَا فكه إِلَّا على أعين النَّاس،
وَالثَّانِي أَلا تشتبه الانساب وَألا يتواضع الزَّوْجَانِ من بعد، فيهملا الطَّلَاق، وَالله أعلم.
وَكره أَيْضا جمع الطلقات الثَّلَاث فِي طهر وَاحِد، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إهمال للحكمة المرعية فِي شرع تفريقها، فَإِنَّهَا شرعت ليتدارك المفرط، وَلِأَنَّهُ تضييق على نَفسه وتعرضه للندامة، وَأما الطلقات الثَّلَاث فِي ثَلَاثَة أطهار فأيضا تضييق
ومظنة ندامة غير أَنَّهَا أخف من الأول من جِهَة وجود التروي والمدة الَّتِي تتحول فِيهَا الْأَحْوَال، وَرب إِنْسَان تكون مصْلحَته فِي تَحْرِيم المغلظ.
(الْخلْع. وَالظِّهَار. وَاللّعان. والايلآء)
اعْلَم أَن الْخلْع فِيهِ شناعة مَا؛ لِأَن الَّذِي أعطَاهُ من المَال قد وَقع فِي مُقَابِله الْمَسِيس وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:(2/216)
{وَكَيف تأخذونه وَقد أفْضى بَعْضكُم إِلَى بعض وأخذن مِنْكُم ميثاقا غليظا} .
وَاعْتبر النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْمَعْنى فِي اللّعان حَيْثُ قَالَ:
" إِن صدقت عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا استحللت من فرجهَا " وَمَعَ ذَلِك فَرُبمَا تقع الْحَاجة إِلَى ذَلِك فَذَلِك قَوْله تَعَالَى:
{فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ}
وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يحرمُونَ أَزوَاجهم، ويجعلونهن كَظهر الْأُم، فَلَا يقربونهن بعد ذَلِك أبدا، وَفِي ذَلِك من الْمفْسدَة مَا لَا يخفى، فَلَا هِيَ حظية تتمتع مِنْهُ كَمَا تتمتع النِّسَاء من أَزوَاجهنَّ، وَلَا هِيَ أيم يكون أمرهَا بِيَدِهَا، فَلَمَّا وَقعت هَذِه الْوَاقِعَة فِي زمَان النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستفتي فِيهَا أنزل الله عز وَجل.
{قد سمع الله قَول الَّتِي تُجَادِلك فِي زَوجهَا} .
إِلَى قَوْله {عَذَاب أَلِيم} .
والسر فِيهِ أَن الله تَعَالَى لم يَجْعَل قَوْلهم ذَلِك هدرا بِالْكُلِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ أَمر ألزمهُ على نَفسه، وأكد فِيهِ القَوْل بِمَنْزِلَة سَائِر الايمان، وَلم يَجعله مُؤَبَّدًا كَمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة دفعا للْحَرج الَّذِي كَانَ عِنْدهم، وَجعله مؤقتا إِلَى كَفَّارَة لِأَن الْكَفَّارَة شرعت دافعة للآثام منهية لما يجده الْمُكَلف فِي صَدره، أما كَون هَذَا القَوْل زورا فَلِأَن الزَّوْجَة لَيست بِأم حَقِيقَة وَلَا بَينهمَا مشابهة أَو مجاورة تصحح إِطْلَاق اسْم أحداهما على الْأُخْرَى إِن كَانَ خَبرا، وَهُوَ عقد ضار، غير مُوَافق للْمصْلحَة، وَلَا مِمَّا أوحاه الله فِي شرائعه، وَلَا مِمَّا استنبطه ذَوُو الرَّأْي فِي أقطار الأَرْض إِن كَانَ إنْشَاء، وَأما كَونه مُنْكرا فَلِأَنَّهُ ظلم وجور وتضييق على من أَمر بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ.
وَإِنَّمَا جعلت الْكَفَّارَة عتق رَقَبَة أَو إطْعَام سِتِّينَ مِسْكينا أَو صِيَام شَهْرَيْن مُتَتَابعين لِأَن مَقَاصِد الْكَفَّارَة أَن يكون بَين عَيْني الْمُكَلف مَا يكبحه عَن الاقتحام فِي الْفِعْل خشيَة أَن يلْزمه ذَلِك، وَلَا يُمكن ذَلِك إِلَّا بِكَوْنِهَا طَاعَة شاقة تغلب على النَّفس إِمَّا من جِهَة كَونهَا بذل مَال يشح بِهِ، أَو من جِهَة مقاساة جوع وعطش مفرطين.(2/217)
{للَّذين يؤلون من نِسَائِهِم تربص أَرْبَعَة أشهر} الْآيَة.
اعْلَم أَن أهل الْجَاهِلِيَّة كَانُوا يحلفُونَ أَلا يطأوا أَزوَاجهم أبدا أَو مُدَّة طَوِيلَة، وَفِي ذَلِك جور وضرر، فَقضى الله تَعَالَى بالتربص أَرْبَعَة أشهر.
قَالَ الله تَعَالَى:
{فَإِن فاءوا فَإِن الله غَفُور رَحِيم} .
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي الْفَيْء، فَقيل: يُوقف الْمولي بعد مُضِيّ أَرْبَعَة أشهر ثمَّ يجْبر على التسريح بالاحسان أَو الامساك بِالْمَعْرُوفِ، وَقيل: يَقع الطَّلَاق،
وَلَا يُوقف أما السِّرّ فِي تعْيين هَذِه الْمدَّة فَإِنَّهَا مُدَّة تتوق النَّفس فِيهَا للجماع لَا محَالة، ويتضرر بِتَرْكِهِ إِلَّا أَن يكون مؤفا، وَلِأَن هَذِه الْمدَّة ثلث السّنة، وَالثلث يضْبط بِهِ أقل من النّصْف، وَالنّصف يعد مُدَّة كَثِيرَة.
قَالَ الله تَعَالَى:
{وَالَّذين يرْمونَ أَزوَاجهم وَلم يكن لَهُم شُهَدَاء} الْآيَة.
واستفاض حَدِيث عُوَيْمِر الْعجْلَاني. وهلال بن أُميَّة.
اعْلَم أَن أهل الْجَاهِلِيَّة كَانُوا إِذا قذف الرجل امْرَأَته، وَكَانَ بَينهمَا فِي ذَلِك مشاقة رجعُوا إِلَى الْكُهَّان كَمَا كَانَ فِي قصَّة هِنْد بنت عتبَة فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام امْتنع أَن يسوغ لَهُم الرُّجُوع إِلَى الْكُهَّان؛ وَلِأَن فِي مبْنى الْملَّة الحنيفية على تَركهَا وإخمالها، لِأَن الرُّجُوع إِلَيْهِم من غير أَن يعرف صدقهم من كذبهمْ ضَرَرا عَظِيما، وَامْتنع أَن يُكَلف الزَّوْج بأَرْبعَة شُهَدَاء وَإِلَّا ضرب الْحَد؛ لِأَن الزِّنَا إِنَّمَا يكون فِي الْخلْوَة، وَيعرف الزَّوْج مَا فِي بَيته وَيقوم عِنْده من المخايل مَا لَا يُمكن أَن يعرفهُ غَيره، وَامْتنع أَن يَجْعَل الزَّوْج بِمَنْزِلَة سَائِر النَّاس يضْربُونَ الْحَد لِأَنَّهُ مَأْمُور شرعا وعقلا بِحِفْظ مَا فِي حيزه من الْعَار والشنار، مجبول على غَيره أَن يزدحم على مَا فِي عصمته، وَلِأَن الزَّوْج أقْصَى مَا يقطع بِهِ الرِّيبَة وَيطْلب بِهِ تحصين فرجهَا، فَلَو كَانَ هُوَ فِيمَا يؤاخذها بِهِ بِمَنْزِلَة سَائِر النَّاس ارْتَفع الْأمان، وانقلبت الْمصلحَة مفْسدَة، وَكَانَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما وَقعت الْوَاقِعَة مترددا تَارَة لَا يقْضِي بِشَيْء
لأجل(2/218)
هَذِه المعارضات، وَتارَة يستنبط حكمه مِمَّا أنزل الله عَلَيْهِ من الْقَوَاعِد الْكُلية، فَيَقُول: " الْبَيِّنَة أَو حدا فِي ظهرك حَتَّى قَالَ، الْمُبْتَلى: وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ إِنِّي لصَادِق، ولينزل الله مَا يُبرئ ظهرى من الْحَد، ثمَّ أنزل الله تَعَالَى آيَة اللّعان "، وَالْأَصْل فِيهِ أَنه أَيْمَان مُؤَكدَة تبرئ الزَّوْج من حد الْقَذْف، وَتثبت اللوث عَلَيْهَا تحبس لأَجله، ويضيق عَلَيْهَا بِهِ؛ فَإِن نكل ضرب الْحَد وأيمان مُؤَكدَة مِنْهَا تبرئها، فَإِن نكلت ضربت الْحَد.
وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا أحسن فِيمَا لَيْسَ فِيهِ بَيِّنَة، وَلَيْسَ مِمَّا يهدر، وَلَا يسمع من الْإِيمَان المؤكده، وَجَرت السّنة أَن تذكره الْمَرْأَة تَحْقِيقا للمقصود من الْإِيمَان، وَجَرت السّنة أَلا تعود إِلَيْهِ أبدا فَإِنَّهُمَا بَعْدَمَا حصل بَينهمَا هَذَا التشاجر، وانطوت صدورهما على اشد الوحر، وأشاع عَلَيْهَا الْفَاحِشَة لَا يتوافقان، وَلَا يتوادان غَالِبا، وَالنِّكَاح إِنَّمَا شرع لأجل الْمصَالح المبينة على التواد والتوافق، وَأَيْضًا فَفِي هَذِه زجر عَلَيْهِمَا من الْإِقْدَام على مثل هَذِه الْمُعَامَلَة.
(الْعدة)
قَالَ الله تَعَالَى:
{والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء} إِلَى أخر الْآيَات.
أعلم أَن الْعدة كَانَت من المشهورات الْمسلمَة فِي الْجَاهِلِيَّة، وَكَانَت مِمَّا لَا يكادون يتركونه، وَكَانَ فِيهَا مصَالح كَثِيرَة:
مِنْهَا معرفَة بَرَاءَة رَحمهَا من مَائه، لِئَلَّا تختلط الْأَنْسَاب، فان النّسَب أحد مَا يتشاح بِهِ،(2/219)
ويطلبه الْعُقَلَاء، وَهُوَ من خَواص نوع الانسان، وَمِمَّا امتاز بِهِ من سَائِر الْحَيَوَان، وَهِي الْمصلحَة المرعية من بَاب الِاسْتِبْرَاء.
وَمِنْهَا التنويه بفخامة أَمر النِّكَاح حَيْثُ لم يكن أمرا يَنْتَظِم إِلَّا بِجمع
رجال، وَلَا يَنْفَكّ إِلَّا بانتظار طَوِيل، وَلَوْلَا ذَلِك لَكَانَ بِمَنْزِلَة لعب الصّبيان يَنْتَظِم، ثمَّ يفك فِي السَّاعَة.
وَمِنْهَا أَن مصَالح النِّكَاح لَا تتمّ حَتَّى يوطنا أَنفسهمَا على إدامة هَذَا العقد ظَاهرا، فان حدث حَادث يُوجب فك النظام لم يكن بُد من تَحْقِيق صُورَة الإدامة فِي الْجُمْلَة بِأَن تَتَرَبَّص مُدَّة تَجِد لتربصها بَالا، وتقاسي لَهَا عناء.
وعدة الْمُطلقَة ثَلَاثَة قُرُوء، فَقيل: هِيَ الإطهار، وَقيل: هِيَ الْحيض، وعَلى أَنَّهَا طهر، فالسر فِيهِ أَن الطُّهْر مَحل رَغْبَة كَمَا ذكرنَا، فَجعل تكرارها عدَّة لَازِمَة ليتروى المتروي، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صفة الطَّلَاق: "
فَتلك الْعدة الَّتِي أَمر الله بِالطَّلَاق فِيهَا " وعَلى أَنَّهَا حيض فالحيض هُوَ الأَصْل فِي معرفَة عدم الْحمل.
فَإِن لم تكن من ذَوَات الْحيض لصِغَر أَو كبر، فتقوم ثَلَاثَة اشهر مقَام ثَلَاثَة قُرُوء لِأَنَّهَا مظنتها وَلِأَن بَرَاءَة الرَّحِم ظَاهِرَة، وَسَائِر الْمصَالح تحقق بِهَذِهِ الْمدَّة.
وَفِي الْحَامِل انْقِضَاء الْحمل لِأَنَّهُ معرف بَرَاءَة رَحمهَا.
والمتوفى عَنْهَا زَوجهَا تَتَرَبَّص أَرْبَعَة أشهر وَعشرا، وَيجب عَلَيْهَا الْإِحْدَاد فِي هَذِه الْمدَّة، وَذَلِكَ لوجوه:
أَحدهَا أَنَّهَا لما وَجب عَلَيْهَا أَن تَتَرَبَّص، وَلَا تنْكح، وَلَا تخْطب فِي هَذِه الْمدَّة حفظا لنسب الْمُتَوفَّى عَنْهَا اقضى ذَلِك فِي حكمه السياسة أَن تُؤمر بترك الزِّينَة لِأَن الزِّينَة تهيج الشَّهْوَة من الجابيين، وهيجانها فِي مثل هَذِه الْحَالة مفْسدَة عَظِيمَة.
وَأَيْضًا فان من حسن الْوَفَاء أَن تحزن على فَقده، وَتصير تفلة شعثة، وَأَن تحد عَلَيْهِ، فَذَلِك من حسن وفائها، وَتَحْقِيق معنى قصر بصرها عَلَيْهِ ظَاهرا.
وَلم تُؤمر الْمُطلقَة بذلك لِأَنَّهَا تحْتَاج إِلَى أَن تتزين، فيرغب زَوجهَا فِيهَا، وَيكون ذَلِك مَعُونَة فِي جمع مَا افترق من شملها، وَكَذَلِكَ اخْتلف الْعلمَاء فِي الْمُطلقَة ثَلَاثًا هَل تتزين أم لَا؟ فَمن نَاظر إِلَى الْحِكْمَة، وَمن نَاظر إِلَى عُمُوم لفظ الْمُطلقَة.
وَإِنَّمَا عين فِي عدتهَا أَربع أشهر وَعشرا لِأَن الْأَرْبَعَة أشهر هِيَ ثَلَاث أربعينات، وَهِي(2/220)
مُدَّة تنفخ فِيهَا الرّوح فِي الْجَنِين، وَلَا يتَأَخَّر عَنْهَا تحرّك الْجَنِين غَالِبا، وَزيد عشر لظُهُور تِلْكَ الْحَرَكَة.
وَأَيْضًا فَإِن هَذِه الْمدَّة نصف مُدَّة الْحمل الْمُعْتَاد وَفِيه يظْهر الْحمل بادى الرَّأْي بِحَيْثُ يعرف كل من يرى.
وَإِنَّمَا شرع عدَّة الْمُطلقَة قروءا، وعدة الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا أَرْبَعَة أشهر وَعشرا لِأَن هُنَالك صَاحب الْحق قَائِم بأَمْره ينظر إِلَى مصلحَة النّسَب، وَيعرف بالمخايل والقرائن، فَجَاز أَن تُؤمر بِمَا تخْتَص بِهِ، وتؤمن عَلَيْهِ، وَلَا يُمكن للنَّاس أَن يعلمُوا مِنْهَا إِلَّا من جِهَة خَبَرهَا، وَهَهُنَا لَيْسَ صَاحب الْحق مَوْجُودا وَغَيره لَا يعرف بَاطِن أمرهَا، وَلَا يعرف مكايدها كَمَا يعرف هُوَ، فَوَجَبَ أَن يَجْعَل عدتهَا أمرا ظَاهرا يتساوى فِي تَحْقِيقه الْقَرِيب والبعيد، ويحقق الْحيض لِأَنَّهُ لَا يَمْتَد إِلَيْهِ الطُّهْر غَالِبا أَو دَائِما.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا تُوطأ حَامِل حَتَّى تضع، وَلَا غير ذَات حمل حَتَّى تحيض حَيْضَة "، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" كَيفَ يستخدمه
وَهُوَ لَا يحل لَهُ، أم كَيفَ يورثه، وَهُوَ لَا يحل لَهُ " أَقُول: السِّرّ فِي الِاسْتِبْرَاء معرفَة بَرَاءَة الرَّحِم وَألا تختلط الْأَنْسَاب، فَإِذا كَانَت حَامِلا فقد دلّت التجربة على أَن الْوَلَد فِي هَذِه الصُّورَة يَأْخُذ شبهين: شبه من خلق من مَائه. وَشبه من جَامع فِي أَيَّام حمله، بَين ذَلِك أثر عمر رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ إِيمَاء قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا يحل لامرئ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن يسقى مَاءَهُ لزرع غَيره " وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام: " كَيفَ يستخدمه " الخ مَعْنَاهُ أَن الْوَلَد الْحَاصِل بعد جماع الحبلى فِيهِ شبهان لكل شبه حكم يُنَاقض حكم الشّبَه الآخر، فَشبه الأول يَجْعَل الْوَلَد عبدا، وَشبه الثَّانِي يَجعله ابْنا، وَحكم الأول الرّقّ وَوُجُوب الْخدمَة عَلَيْهِ لمَوْلَاهُ، وَحكم الثَّانِي الْحُرِّيَّة وَاسْتِحْقَاق الْمِيرَاث، فَلَمَّا كَانَ الْجِمَاع سَبَب التباس أَحْكَام الشَّرْع فِي الْوَلَد نهى عَنهُ، وَالله أعلم.(2/221)
(تربية الْأَوْلَاد والمماليك)
اعْلَم أَن النّسَب أحد الْأُمُور الَّتِي جبل على محافظتها الْبشر، فَلَنْ ترى إنْسَانا فِي إقليم من الأقاليم الصَّالِحَة لنشء النَّاس إِلَّا وَهُوَ يحب أَن ينْسب إِلَى أَبِيه وجده، وَيكرهُ أَن يقْدَح فِي نسبته إِلَيْهِمَا، اللَّهُمَّ إِلَّا لعَارض من دناءة النّسَب أَو غَرَض من دفع ضرّ أَو جلب نفع وَنَحْو ذَلِك، وَيجب أَيْضا أَن يكون لَهُ أَوْلَاد ينسبون إِلَيْهِ ويقومون بعده مقَامه، فَرُبمَا اجتهدوا اشد الِاجْتِهَاد، وبذلوا طاقاتهم فِي طلب الْوَلَد، فَمَا اتّفق طوائف النَّاس على هَذِه الْخصْلَة إِلَّا لِمَعْنى فِي جبلتهم، ومبنى شرائع الله على إبْقَاء هَذِه الْمَقَاصِد الَّتِي تجْرِي بجري الجبلة، وتجري فِيهَا المناقشة والمشاحة والاستيفاء لكل ذِي حق حَقه مِنْهَا وَالنَّهْي عَن التظالم فِيهَا، فَلذَلِك وَجب أَن يبْحَث الشَّارِع عَن النّسَب، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" الْوَلَد للْفراش وللعاهر الْحجر "
فَقيل: مَعْنَاهُ الرَّجْم، وَقيل: الخيبة.
أَقُول: كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يَبْتَغُونَ الْوَلَد بِوُجُوه كَثِيرَة لَا تصححها قوانين الشَّرْع، وَقد بيّنت بعض ذَلِك عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، فَلَمَّا بعث النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سد هَذَا الْبَاب، وَخيَّب العاهر، وَذَلِكَ لِأَن من الْمصَالح الضرورية الَّتِي لَا يُمكن بَقَاء نوع الْإِنْسَان إِلَّا بهَا اخْتِصَاص الرجل بامرأته حَتَّى يسد بَاب الازدحام على الموطوأة رَأْسا، وَمن مُقْتَضى ذَلِك أَن يخيب من عصى هَذِه السّنة الراشدة، وابتغى الْوَلَد من غير اخْتِصَاص؛ إرغامه لأنفه وازدراء بأَمْره وزجرا لَهُ أَن يقْصد مثل ذَلِك، وَإِلَى هَذَا الْإِشَارَة فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام للعاهر الْحجر: " العاهر للحجر " إِن أُرِيد معنى الخيبة كَمَا يُقَال: بِيَدِهِ التُّرَاب، وَبِيَدِهِ الْحجر، وَأَيْضًا فَإِذا تزاحمت الْحُقُوق، وَادّعى كل لنَفسِهِ وَجب أَن يرجح من يتَمَسَّك بِالْحجَّةِ الظَّاهِرَة المسموعة عِنْد جَمَاهِير النَّاس وَالَّذِي يتَمَسَّك بِمَا يزِيد اللأئمة عَلَيْهِ، وَيفتح بَاب ضرب الْحَد، أَو يعْتَرف فِيهِ بِأَنَّهُ عصى الله، وَكَانَ مَعَ ذَلِك أَمر خفِيا لَا يعلم إِلَّا فَمن جِهَة قَوْله: من حق ذَلِك أَن يهجر ويخمل، وَقد اعْتبر النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل هَذَا الْمَعْنى حَدِيث قَالَ فِي قصَّة اللّعان:
" إِن كذبت عَلَيْهِ فَهُوَ أبعد لَك " وَإِلَيْهِ الْإِشَارَة فِي قَوْله: " وللعاهر الْحجر " إِن أُرِيد معنى الرَّجْم بِالْحِجَارَةِ.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من ادّعى إِلَى غير أَبِيه وَهُوَ يعلم أَنه غير أَبِيه فالجنة عَلَيْهِ حرَام ".
أَقُول: من النَّاس من يقْصد مَقَاصِد دنية، فيرغب عَن أَبِيه، وينتسب إِلَى غَيره، وَهُوَ(2/222)
ظلم وعقوق لِأَنَّهُ تخييب أَبِيه، فانه طلب بَقَاء نَسْله الْمَنْسُوب اليه المتفرغ عَلَيْهِ، وَترك شكر نعْمَته وإساءة مَعَه، وَأَيْضًا فَإِن النُّصْرَة والمعاونة لَا بُد مِنْهَا فِي نظام الْحَيّ وَالْمَدينَة، وَلَو فتح بَاب الانتفاء من الاب
لأهملت هَذِه الْمصلحَة، ولاختلطت أَنْسَاب الْقَبَائِل، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيّمَا امْرَأَة أدخلت على قوم من لَيْسَ مِنْهُم فَلَيْسَتْ من الله فِي شَيْء وَلنْ يدخلهَا الله الْجنَّة، وَأَيّمَا رجل جحدو وَلَده وَهُوَ ينظر إِلَيْهِ احتجب الله مِنْهُ " وفضحه على رُءُوس الْخَلَائق ".
أَقُول: لما كَانَت الْمَرْأَة مؤتمنة فِي الْعدة وَنَحْوهَا مأمورة أَلا تلبس عَلَيْهِم أنسابهم وَجب أَن ترهب فِي ذَلِك وَإِنَّمَا عوقبت على هَذَا لِأَنَّهُ سعي فِي إبِْطَال مصلحَة الْعَالم ومناقضة لما فِي جبلة النَّوْع، وَذَلِكَ جالب بغض الْمَلأ الْأَعْلَى حَيْثُ أمروا بِالدُّعَاءِ لصلاح النَّوْع، وَأَيْضًا فَفِي ذَلِك تخييب لوَلَده وتضييق وَحمل لنقل الْوَلَد على آخَرين، وَالرجل إِذا أنكر وَلَده فقد عرضه للذل الدَّائِم والعار الَّذِي لَا يَنْتَهِي حَيْثُ لَا نسب لَهُ، وأضاع نسمته حَيْثُ ى منفق عَلَيْهِ، وَهُوَ يشبه قتل أَوْلَاد من جِهَة، وَعرض والدته للذل الدَّائِم والعار الْبَاقِي طول الْعُمر.
(الْعَقِيقَة)
وَاعْلَم أَن الْعَرَب كَانُوا يعقون عَن أَوْلَادهم، وَكَانَت الْعَقِيقَة أمرا لَازِما عِنْدهم وَسنة مُؤَكدَة، وَكَانَ فِيهَا مصَالح كَثِيرَة رَاجِعَة إِلَى الْمصلحَة الملية وَالْمَدينَة فِيمَن تِلْكَ الْمصَالح التلطف بإشاعة نسب الْوَلَد، إِذْ لَا بُد من إشاعته لِئَلَّا يُقَال مَا لَا يُحِبهُ، وَلَا يحسن أَن يَدُور فِي السكَك، فينادي أَنه ولد لي ولد. فَتعين التلطف بِمثل ذَلِك، وَمِنْهَا اتِّبَاع دَاعِيَة السخاوة وعصيان دَاعِيَة الشُّح، وَمِنْهَا أَن النَّصَارَى كَانَ إِذا ولد لَهُم ولدا صبغوه بِمَاء اصفر يسمونه المعمودية، وَكَانُوا يَقُولُونَ: يصير الْوَلَد بِهِ نَصْرَانِيّا، وَفِي مشاكلة هَذَا الِاسْم نزل قَوْله تَعَالَى:
{صبغة الله وَمن أحسن من الله صبغة} .
فاستحب أَن يكون للحنفيين فعل بِإِزَاءِ فعلهم ذ لَك يشْعر بِكَوْن الْوَلَد حنيفيا تَابعا لملة إِبْرَاهِيم واسماعيل عَلَيْهِمَا السَّلَام والنفسانية، فأبقاها النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعمل بهَا، وَرغب النَّاس فِيهَا من الْإِجْمَاع على ذبح وَلَده، ثمَّ نعْمَة الله عَلَيْهِ أَن فدَاه بِذبح عَظِيم، وَأشهر شرائعهما الْحَج الَّذِي فِيهِ الْحلق وَالذّبْح، فَيكون التَّشَبُّه بهما فِي هَذَا تنويها بالملة الحنيفية ونداء أَن الْوَلَد قد فعل بِهِ مَا يكون من أَعمال هَذِه الْملَّة،(2/223)
وَمِنْهَا أَن هَذَا الْفِعْل فِي بَدْء وِلَادَته يخيل إِلَيْهِ أَنه بذل وَلَده فِي سَبِيل الله كَمَا فعل إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام، وَفِي ذَلِك تَحْرِيك سلسلة الاحسان والانقياد كَمَا ذكرنَا فِي السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" مَعَ الْغُلَام عقيقة فأهريقوا عَنهُ دَمًا وأميطوا عَنهُ الْأَذَى " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
الْغُلَام مُرْتَهن بعقيقته يذبح عَنهُ يَوْم السَّابِع وَيُسمى ويحلق ".
أَقُول: أما سَبَب الْأَمر فِي بالعقيقة فقد ذكرنَا، وَأما تَخْصِيص الْيَوْم السَّابِع فَلِأَنَّهُ لَا بُد من فصل بَين الْولادَة والعقيقة، فَإِن أَهله مشغولون باصلاح الوالدة وَالْولد فِي أول الْأَمر، فَلَا يكلفون حِينَئِذٍ بِمَا يُضَاعف شغلهمْ، وَأَيْضًا فَرب إِنْسَان لَا يجد شَاة إِلَّا بسعي، فَلَو سنّ كَونهَا فِي أول يَوْم لضاق الْأَمر عَلَيْهِم، والسبعة أَيَّام مُدَّة صَالِحَة للفصل المعتد بِهِ غير الْكثير، وَأما إمَاطَة الْأَذَى فللتشبه بالحاج، وَقد ذكرنَا، وَأما التَّسْمِيَة فَلِأَن الطِّفْل قبل ذَلِك لَا يحْتَاج أَن يُسمى.
وعق رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن الْحسن بِشَاة، وَقَالَ: " يَا فَاطِمَة احلقي رَأسه، وتصدقي بزنة شعره فضَّة " أَقُول السَّبَب فِي التَّصَدُّق بِالْفِضَّةِ أَن الْوَلَد لما انْتقل من الجنينية إِلَى الطفلية كَانَ ذَلِك نعْمَة يجب شكرها، وَأحسن مَا يَقع بِهِ الشُّكْر مَا يُؤذن أَنه عوضه، فَلَمَّا كَانَ شعر الْجَنِين
بَقِيَّة النشأة الجنسية وإزالته أَمارَة للاستقلال بالنشأة الطفلية وَجب أَن يُؤمر بِوَزْن الشّعْر فضَّة، وَأما تَخْصِيص الْفضة فَلِأَن الذَّهَب أغْلى، وَلَا يجده إِلَّا غَنِي، وَسَائِر الْمَتَاع لَيْسَ لَهُ بَال أَن يزنه شعر الْمَوْلُود.
وَأذن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أذن الْحسن بن عَليّ حِين وَلدته فَاطِمَة بِالصَّلَاةِ. أَقُول: السِّرّ فِي ذَلِك مَا ذكرنَا فِي الْعَقِيقَة من الْمصلحَة الملية، فَإِن الْأَذَان من شَعَائِر الْإِسْلَام، وإعلام الدّين المحمدي، ثمَّ لَا بُد من تَخْصِيص الْمَوْلُود بذلك الْأَذَان، وَلَا يكون إِلَّا بِأَن بِصَوْت بِهِ فِي أُذُنه، وَأَيْضًا فقد علمت أَن من خاصية الْأَذَان أَن يفر مِنْهُ الشَّيْطَان، والشيطان يُؤْذِي الْوَلَد فِي أول نشأته حَتَّى ورد فِي الحَدِيث " إِن استهلاله لذَلِك ".
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" عَن الْغُلَام شَاتَان وَعَن الْجَارِيَة شَاة ".(2/224)
أَقُول: يسْتَحبّ لمن وجد الشاتين أَن ينْسك بهما عَن الْغُلَام وَذَلِكَ لما عِنْدهم أَن الذّكر أَنْفَع لَهُم من الْإِنَاث، فَنَاسَبَ فِي زِيَادَة الشُّكْر وَزِيَادَة التنويه بِهِ.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أحب الْأَسْمَاء إِلَى الله عبد الله وَعبد الرَّحْمَن " اعْلَم أَن أعظم الْمَقَاصِد الشَّرْعِيَّة أَن يدْخل ذكر الله فِي تضاعيف ارتفاقاتهم الضرورية ليَكُون كل ذَلِك أَلْسِنَة تدعوا إِلَى الْحق، وَفِي تَسْمِيَة الْمَوْلُود بذلك إِشْعَار بِالتَّوْحِيدِ، وَأَيْضًا فَكَانَ الْعَرَب وَغَيرهم يسمون الْأَوْلَاد بِمن يعبدونه وَلما بعث النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقيما لمراسم التَّوْحِيد وَجب أَن يسن فِي التَّسْمِيَة أَيْضا مثل ذَلِك، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَانِ الاسمان أحب من سَائِر مَا يُضَاف فِيهِ العَبْد إِلَى اسْم من أَسمَاء الله تَعَالَى لِأَنَّهُمَا أشهر الْأَسْمَاء، وَلَا يطلقان على غَيره تَعَالَى بِخِلَاف غَيرهمَا، وَأَنت تَسْتَطِيع أَن تعلم من هَذَا سر اسْتِحْبَاب تَسْمِيَة الْمَوْلُود بِمُحَمد وَأحمد، فَإِن طوائف النَّاس أولعوا بِتَسْمِيَة أَوْلَادهم
بأسماء أسلافهم المعظمين عِنْدهم، وَكَاد يكون ذَلِك تنويها بِالدّينِ وبمنزلة الْإِقْرَار بِأَنَّهُ من أَهله.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" اخنى الْأَسْمَاء يَوْم الْقِيَامَة عِنْد الله رجل يُسمى ملك الْأَمْلَاك ".
أَقُول: السَّبَب فِيهِ أَن أصل أصُول الدّين هُوَ تَعْظِيم الله وَألا يسوى بِهِ غَيره وتعظيم الشَّيْء مساوق لتعظيم اسْمه، وَلذَلِك وَجب أَلا يُسمى باسمه لَا سِيمَا هَذَا الِاسْم الدَّال على أعظم التَّعْظِيم، قَالَ الله تَعَالَى:
{والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلين} الْآيَة.
أَقُول: لما تَوَجَّهت إِرَادَة الله تَعَالَى إِلَى إبْقَاء نوع الْإِنْسَان بالتناسل، وَجرى بذلك قَضَاؤُهُ وَكَانَ الْوَلَد لَا يعِيش فِي الْعَادة إِلَّا بتعاون من الْوَالِد والوالدة فِي أَسبَاب حَيَاته، وَذَلِكَ أَمر جبلي خلق النَّاس عَلَيْهِ بِحَيْثُ يكون عصيانه ومخالفته تغييرا لخلق الله وسعيا فِي نقض مَا أوجبته الْحِكْمَة الإلهية - وَجب أَن يبْحَث الشَّرْع عَن ذَلِك، ويوزع عَلَيْهِمَا مَا يَتَيَسَّر، ويتأتى مِنْهُمَا، والمتيسر من الوالدة أَن ترْضع. وتحضن. فَيجب عَلَيْهَا ذَلِك، والمتيسر من الْوَالِد أَن ينْفق عَلَيْهِ من طوله، وَينْفق عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ حَبسهَا عَن المكاسب، وشغلها بحضانة وَلَده، ومعاناة التَّعَب فِيهَا. فَكَانَ الْعدْل أَن تكون كفايتها عَلَيْهِ، وَلما كَانَ من النَّاس من يستعجل الْفِطَام، وَرُبمَا يكون ذَلِك ضارا بِالْوَلَدِ حد الله لَهُ حدا تغلب السَّلامَة عِنْده وَهُوَ حولان(2/225)
كاملان، وَرخّص فِيمَا دون ذَلِك بِشَرْط تشَاور مِنْهُمَا، إِذْ كثيرا مَا يكون الْوَلَد بِحَيْثُ يقدر على التغذى قبلهَا، وَلكنه يحْتَاج إِلَى اجْتِهَاد وتحر وهما أرْفق النَّاس بِهِ وأعلمهم بسريرته، ثمَّ حرم المضادة من الْجَانِبَيْنِ لِأَنَّهُ
تضييق يُفْضِي إِلَى نُقْصَان التعاون فَإِن احتاجوا إِلَى الاسترضاع لضعف الوالدة أَو مَرضهَا، أَو تكون قد وَقعت بَينهمَا فرقة لَا تلائمه وَنَحْو ذَلِك من الْأَسْبَاب فَلَا جنَاح فِيهِ، وَيجب عِنْد ذَلِك إِيفَاء الْحق من الْجَانِبَيْنِ.
" قيل يَا رَسُول الله مَا يذهب عني مذمة الرَّضَاع؟ قَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" غرَّة عبد أَو أمة ". اعْلَم أَن الْمُرْضع أم بعد الْأُم الْحَقِيقِيَّة، وبرها وَاجِب بعد بر الْأُم حَتَّى أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسط رِدَاءَهُ لمرضعة إِكْرَاما لَهَا، وَرُبمَا لَا ترْضى بِمَا يهديه إِلَيْهَا وَإِن كثر، وَرُبمَا يستكثر الَّذِي رضع الْقَلِيل الَّذِي يمنحها، وَيكون فِي ذَلِك الِاشْتِبَاه، فَسئلَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن حد يضر بِهِ، فَضرب الْغرَّة حدا، وَذَلِكَ أَن الْمُرْضع إِنَّمَا أَثْبَتَت حَقًا فِي ذمَّته لأجل إِقَامَة بنيته وتصييرها إِيَّاه إنْسَانا كَامِلا وَلأَجل حضانته ومقاساة التَّعَب فِيهِ، فَيكون الْجَزَاء الْوِفَاق أَن يمنحها إنْسَانا يكون بِمَنْزِلَة جوارحه فِيمَا يُرِيد من ارتفاقاته، ويتحمل عَنْهَا مُؤنَة عَملهَا، وَهُوَ حد استحبابي لَا ضَرُورِيّ.
وَقَالَت هِنْد: " إِن أَبَا سُفْيَان رجل شحيح لَا يعطيني إِلَّا أَن آخذ من مَاله بِغَيْر إِذْنه، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خذي مَا يَكْفِيك وولدك بِالْمَعْرُوفِ " أَقُول: لما كَانَت نَفَقَة الْوَلَد وَالزَّوْجَة يعسر ضَبطهَا فوضها النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا، وأكد اشْتِرَاط أَخذهَا بِالْمَعْرُوفِ، وأهمل الرُّجُوع إِلَى الْقُضَاة مثلا لِأَنَّهُ عسير عِنْد ذَلِك.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" مروا أَوْلَادكُم بِالصَّلَاةِ " الحَدِيث. وَقد مر أسراره فِيمَا سبق.
وَاخْتلفت قضاياه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الأحق بالحضانة عِنْد المشاجرة
مِنْهُمَا، لِأَنَّهُ إِنَّمَا ينظر إِلَى الأرفق بِالْوَلَدِ وَالِديهِ، وَلَا ينظر إِلَى من يُرِيد المضارة، وَلَا يلْتَفت إِلَى الْمصلحَة، فَإِن الْحَسَد والضرار غير مُتبع، فَجَاءَتْهُ مرّة امْرَأَة، وَقَالَت: يَا رَسُول الله إِن أبني هَذَا كَانَ بَطْني لَهُ وعَاء وثدي لَهُ سقاء، وحجري لَهُ حَوَّاء، وان أَبَاهُ طَلقنِي وَأَرَادَ أَن يَنْزعهُ مني، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. " أَنْت أَحَق بِهِ مَا لم تنكحي ".
أَقُول: وَذَلِكَ لِأَن الْأُم أهْدى للحضانة وأرفق بِهِ، فَإِذا نكحت كَانَت كالمملوكة تَحْتَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ أَجْنَبِي لَا يحسن إِلَيْهِ،(2/226)
وَخير غُلَاما بَين أَبِيه وَأمه وَذَلِكَ إِذا كَانَ مُمَيّزا.
اعْلَم أَن الْإِنْسَان مدنِي بالطبع لَا يَسْتَقِيم معاشه إِلَّا بتعاون بَينهم، وَلَا تعاون إِلَّا بالألفة وَالرَّحْمَة فِيمَا بَينهم، وَلَا ألفة إِلَّا بالمواساة ومراعاة الخواطر من الْجَانِبَيْنِ، وَلَيْسَ التعاون على مرتبَة وَاحِدَة، بل لَهُ مَرَاتِب يخْتَلف باختلافها الْبر والصلة، فأدناها الارتباط الْوَاقِع بَين الْمُسلمين، وحد رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبر فِيمَا بَينهم بِخمْس، فَقَالَ: " حق الْمُسلم على الْمُسلم خمس: رد السَّلَام، وعيادة الْمَرِيض، وَاتِّبَاع الْجَنَائِز، وَإجَابَة الدعْوَة وتشميت الْعَاطِس " وَفِي رِوَايَة سِتَّة السَّادِسَة " إِذا استنصحك فانصح لَهُ: وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أطعموا الجائع، وفكوا العاني " يَعْنِي الْأَسير.
والسر فِي ذَلِك أَن هَذِه الْخمس أَو السِّت خَفِيفَة المؤنه مورثة للألفة، ثمَّ الارتباط الْوَاقِع بَين أهل الْحَيّ وَالْجِيرَان والأرحام، فتتأكد هَذِه الْأَشْيَاء فِيمَا بَينهم، وتتأكد التَّعْزِيَة والتهنئة والزيارة والمهاداة، وَأوجب النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمورا يتقيدون بهَا شَاءُوا أم أَبَوا كَقَوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من ملك ذَا رحم محرم فَهُوَ حر وكباب الدِّيات ".
ثمَّ الارتباط الْوَاقِع بَين أهل الْمنزل من الزَّوْجَة وَمَا ملكت يَمِينه أما الزَّوْجَة فقد ذكرنَا الْبر مَعهَا، وَأما مَا ملكت الْيَمين فَجعل النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بره على مرتبتين: إِحْدَاهمَا واجبه يلْزمهُم أشاءوا أم أَبُو، وَالثَّانيَِة ندب إِلَيْهَا، وحث عَلَيْهَا من غير إِيجَاب.
أما الأولى فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" للمملوك طَعَامه وَكسوته، وَلَا يُكَلف من الْعَمَل مَا لَا يُطيق " وَذَلِكَ أَنه مَشْغُول بخدمته عَن الِاكْتِسَاب، فَوَجَبَ أَن تكون كِفَايَته عَلَيْهِ، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من قذف مَمْلُوكه، وَهُوَ برِئ مِمَّا قَالَ جلد يَوْم الْقِيَامَة " وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " من جدع عَبده فَالْعَبْد حر عَلَيْهِ ".
أَقُول: وَذَلِكَ أَن إِفْسَاد ملكه عَلَيْهِ مزجرة عَن أَن يفعل مَا فعل.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يجلد فَوق عشر جلدات إِلَّا فِي حد من حُدُود الله " أَقُول: وَذَلِكَ سد لباب الظُّلم والامعان فِي التعزيز زِيَادَة بِالْحَدِّ على الْحَد، أَو المُرَاد النَّهْي عَن أَن يُعَاقب فِي حق نَفسه أَكثر من عشر جلدات كَتَرْكِ مَا أَمر بِهِ وَنَحْو ذَلِك، وَالْمرَاد بِالْحَدِّ الذَّنب الْمنْهِي عَنهُ لحق الشَّرْع، وَهُوَ قَول الْقَائِل أصبت حدا، وَأرى ان هَذَا الْوَجْه أقرب، فان الْخُلَفَاء لم يزَالُوا يعزرون أَكثر من عشر فِي حُقُوق الشَّرْع.
وَأما الثَّانِيَة فَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
ِ " إِذا صنع لأحدكم خادمه طَعَامه، ثمَّ جَاءَ بِهِ، وَقد ولى حره ودخانه،(2/227)
فليقعده مَعَه فَليَأْكُل، فان كَانَ الطَّعَام مشفوها قَلِيلا فليضع فِي يَده مِنْهُ أَكلَة أَو أكلتين " وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من ضرب غُلَاما لَهُ حدا لم يَأْته أَو لطمه، فان كَفَّارَته أَن يعتقهُ "، وَقَوله
" إِذا ضرب أحدكُم خادمه، فَذكر اسْم الله فليمسك.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من أعتق رَقَبَة مسلمة أعتق الله بِكُل عُضْو مِنْهَا عضوا فِيهِ من النَّار ".
أَقُول: الْعتْق فِيهِ جمع شَمل الْمُسلمين، وَفك عانيهم، فجوزي جَزَاء وفَاقا.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من أعتق شِقْصا فِي عبد اعْتِقْ كُله إِن كَانَ لَهُ مَال "، أَقُول: سَببه مَا وَقع التَّصْرِيح بِهِ فِي نفس الحَدِيث حَيْثُ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَيْسَ لله شريك " يُرِيد أَن الْعتْق جعله لله، وَلَيْسَ من الْأَدَب أَن يبْقى مَعَه ملك لأحد.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من ملك ذَا رحم محرم فَهُوَ حر "، أَقُول: السَّبَب فِيهِ صلَة الرَّحِم، فَأوجب الله تَعَالَى نوعا مِنْهَا عَلَيْهِم، أشاءوا أم أَبَوا، وَإِنَّمَا حض هَذَا لِأَن ملكة وَالتَّصَرُّف فِيهِ واستخدامه بِمَنْزِلَة العبيد حفاء عَظِيم.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِذا ولدت أمة الرجل مِنْهُ فَهِيَ مُعتقة عَن دبر مِنْهُ ".
أَقُول: السِّرّ فِي الْإِحْسَان إِلَى الْوَلَد لِئَلَّا يملك أمه غير أَبِيه، فَيكون عَلَيْهِ عَار من هَذِه الْجِهَة.
وَأوجب على العَبْد خدمَة الْمولى وَحرم عَلَيْهِ الاباق، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إيما عبد أبق فقد برِئ من الذِّمَّة حَتَّى يرجع " وَحرم على الْمُعْتق أَن يوالي غير موَالِيه.
وَأعظم ذَلِك كُله حُرْمَة حق الْوَالِدين، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من أكبر الْكَبَائِر عقوق الْوَالِدين " وبرهما يتم بِأُمُور: الْإِطْعَام وَالْكِسْوَة والخدمة إِن احتاجا. وَإِذا دَعَاهُ الْوَالِد أجَاب. وَإِذا أمره أطَاع مَا لم يَأْمر بِمَعْصِيَة، وَيكثر زيارته، وَيتَكَلَّم مَعَه بالْكلَام اللين، وَلَا يقل أُفٍّ، وَلَا يَدعُوهُ باسمه، وَيَمْشي خَلفه، ويذب عَنهُ من اغتابه وآذاه، ويوقره فِي مَجْلِسه، وَيَدْعُو لَهُ بالمغفرة، وَالله أعلم.(2/228)
(من أَبْوَاب سياسة المدن)
اعْلَم أَنه يجب أَن يكون فِي جمَاعَة الْمُسلمين خَليفَة لمصَالح لَا تتمّ إِلَّا بِوُجُودِهِ، وَهِي كَثِيرَة جدا يجمعها صنفان:
أَحدهمَا مَا يرجع إِلَى سياسة الْمَدِينَة من ذب الْجنُود الَّتِي تغزوهم وتقهرهم، وكف الظَّالِم عَن الْمَظْلُوم، وَفصل القضايا، وَغير ذَلِك، وَقد شرحنا هَذِه الْحَاجَات من قبل.
وَثَانِيهمَا مَا يرجع إِلَى الْملَّة، وَذَلِكَ أَن تنويه دين الْإِسْلَام على سَائِر الْأَدْيَان لَا يتَصَوَّر إِلَّا بِأَن يكون فِي الْمُسلمين خَليفَة يُنكر على من خرج من الْملَّة، وارتكب مَا نصت على تَحْرِيمه أَو ترك مَا نصت على افتراضه أَشد الانكار، ويذل أهل سَائِر الْأَدْيَان وَيَأْخُذ مِنْهُم الْجِزْيَة عَن يَد وهم صاغرون، وَإِلَّا كَانُوا متساوين فِي الْمرتبَة لَا يظْهر فيهم رُجْحَان إِحْدَى الفزقتين على الْأُخْرَى، وَلم يكن كابح يكبحم عَن عدوانهم.
وَالنَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جمع تِلْكَ الْحَاجَات فِي أَبْوَاب أَرْبَعَة: بَاب الْمَظَالِم. وَبَاب الْحُدُود. وَبَاب الْقَضَاء. وَبَاب الْجِهَاد، ثمَّ وَقعت الْحَاجة إِلَى ضبط كليات هَذِه الْأَبْوَاب وَترك الجزئيات إِلَى رأى الْأَئِمَّة ووصيتهم بالمجاعة " خيرا، وَذَلِكَ لوجوه:
مِنْهَا أَن مُتَوَلِّي الْخلَافَة كثيرا مَا يكون جائرا ظَالِما يتبع هَوَاهُ، وَلَا يئبع الْحق، فيفسدهم، وَتَكون مفسدته عَلَيْهِم أَشد مِمَّا يُرْجَى من مصلحتهم، ويحتج فِيمَا يفعل أَنه تَابع للحق، وَأَنه رأى الْمصلحَة فِي ذَلِك، فَلَا بُد من كليات يُنكر على من خالفها، ويؤاخذ بهَا، وَيرجع احتجاجهم عَلَيْهَا إِلَيْهَا.
وَمِنْهَا أَن الْخَلِيفَة يجب أَن يصحح على النَّاس ظلم الظَّالِم، وَأَن الْعقُوبَة لَيست زَائِدَة على قدر الْحَاجة، ويصحح فِي فصل القضايا أَنه قضى بِالْحَقِّ، وَإِلَّا كَانَ سَببا لاختلافهم عَلَيْهِ، وَأَن يجد الَّذِي كَانَ الضَّرَر عَلَيْهِ وأوليائه فِي أنفسهم وحرا رَاجعا إِلَى غدر، ويضمروا عَلَيْهِ حقدا يرَوْنَ فِيهِ أَن الْحق بِأَيْدِيهِم وَذَلِكَ مفْسدَة شَدِيدَة.
وَمِنْهَا أَن كثيرا من النَّاس لَا يدركون مَا هُوَ الْحق فِي سياسة الْمَدِينَة، فيجتهدون، فيخطئون يَمِينا وَشمَالًا، فَمن صلب شَدِيد يرى الْبَالِغ فِي المزجرة قَلِيلا، وَمن سهل لين(2/229)
يرى الْقَلِيل كثيرا، وَمن أذن إمعة يرى كل مَا أنهى إِلَيْهِ الْمُدعى حَقًا، وَمن متمنع كؤود يظنّ بِالنَّاسِ ظنونا فَاسِدَة، وَلَا يُمكن الِاسْتِقْصَاء، فانه كالتكليف بالمحال، فَيجب أَن تكون الْأُصُول مضبوطة، فان اخْتلَافهمْ فِي الْفُرُوع أخف من اخْتلَافهمْ فِي الْأُصُول.
وَمِنْهَا أَن القوانين إِذا كَانَت ناشئة من الشَّرْع كَانَت بِمَنْزِلَة الصَّلَاة وَالصِّيَام فِي كَونهَا قربَة إِلَى الْحق، وَالسّنة تذكر الْحق عِنْد الْقَوْم، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يُمكن أَن يُفَوض الْأَمر بِالْكُلِّيَّةِ إِلَى أولي أنفس شهوية أَو سبعية، وَلَا يُمكن معرفَة الْعِصْمَة وَالْحِفْظ عَن الْجَوَاز فِي الْخُلَفَاء والمصالح الَّتِي ذَكرنَاهَا فِي التشريع وَضبط الْمَقَادِير كلهَا متأتيه هَهُنَا، وَالله أعلم.
(الْخلَافَة)
اعْلَم أَنه يشْتَرط فِي الْخَلِيفَة أَن يكون عَاقِلا بَالغا حرا ذكرا شجاعا ذَا رَأْي وَسمع وبصر ونطق، وَمِمَّنْ سلم النَّاس شرفه وَشرف قومه، وَلَا يستنكفون عَن طَاعَته، قد عرف مِنْهُ أَنه يتبع الْحق فِي سياسة الْمَدِينَة، هَذَا كُله يدل عَلَيْهِ الْعقل، وَاجْتمعت أُمَم بني آدم على تبَاعد بلدانهم وَاخْتِلَاف أديانهم على اشْتِرَاطهَا، وَلما رَأَوْا أَن هَذِه الْأُمُور لَا تتمّ الْمصلحَة الْمَقْصُودَة من نصب الْخَلِيفَة إِلَّا بهَا، وَإِذا وَقع شَيْء من إهمال هَذِه رَأَوْهُ خلاف مَا يَنْبَغِي، وَكَرِهَهُ قُلُوبهم، وسكتوا على غيظ، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَارس لما ولوا عَلَيْهِ امْرَأَة. " لن يفلح قوم ولوا عَلَيْهِم امْرَأَة ".
والمملة المصطفوية اعْتبرت فِي خلَافَة النُّبُوَّة أمورا أُخْرَى:
مِنْهَا الْإِسْلَام، وَالْعلم، وَالْعَدَالَة، وَذَلِكَ لِأَن الْمصَالح الملية لَا تتمّ بِدُونِهَا ضَرُورَة اجْمَعْ الْمُسلمُونَ عَلَيْهِ، وَالْأَصْل فِي ذَلِك قَوْله تَعَالَى:
{وعد الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَعمِلُوا الصَّالِحَات ليَستَخْلِفنهم فِي الأَرْض كَمَا اسْتخْلف الَّذين من قبلهم} إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَأُولَئِك هم الْفَاسِقُونَ} .
وَمِنْهَا كَونه من قُرَيْش، قَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" الْأَئِمَّة من قُرَيْش "(2/230)
وَالسَّبَب الْمُقْتَضِي لهَذَا أَن الْحق الَّذِي أظهره الله على لِسَان نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا جَاءَ بِلِسَان قُرَيْش وَفِي عاداتهم، وَكَانَ أَكثر مَا تعين من الْمَقَادِير وَالْحُدُود مَا هُوَ عِنْدهم، وَكَانَ الْمعد لكثير من الْأَحْكَام مَا هُوَ فيهم، فهم أقوم بِهِ وَأكْثر النَّاس تمسكا بذلك، وَأَيْضًا فَإِن قُريْشًا قوم النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحزبه، وَلَا فَخر لَهُم إِلَّا بعلو دين مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقد اجْتمع فيهم حمية دينيه وحمية نسبيه، فَكَانُوا مَظَنَّة الْقيام
بالشرائع والتمسك بهَا، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يجب أَن يكون الْخَلِيفَة مِمَّن لَا يستنكف النَّاس من طَاعَته لجلالة نسبه وحسبه، فَإِن من نسب لَهُ يرَاهُ النَّاس حَقِيرًا ذليلا، وان يكون مِمَّن عرف مِنْهُم الرياسات والشرف، ومارس قومه جمع الرِّجَال وَنصب الْقِتَال، وَأَن يكون قومه أقوياء يحمونه، وينصرونه، ويبذلون دونه الْأَنْفس، وَلم تَجْتَمِع هَذِه الْأُمُور إِلَّا فِي قُرَيْش لَا سِيمَا بعد مَا بعث النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنبهَ بِهِ أَمر قُرَيْش.
وَقد أَشَارَ أَبُو بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ إِلَى هَذِه فَقَالَ: وَلنْ يعرف هَذَا الْأَمر إِلَّا بِقُرَيْش هم أَوسط الْعَرَب دَارا الخ.
وَإِنَّمَا لم يشْتَرط كَونه هاشميا مثلا لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا أَلا يَقع النَّاس فِي الشَّك، فيقولوا إِنَّمَا أَرَادَ ملك أهل بَيته كَسَائِر الْمُلُوك فَيكون سَببا للارتداد ولهذه الْعلَّة لم يُعْط النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِفْتَاح لعباس بن عبد الْمطلب رَضِي الله عَنهُ.
وَالثَّانِي أَن المهم فِي الْخلَافَة رضَا النَّاس بِهِ واجتماعهم عَلَيْهِ وتوقيرهم إِيَّاه وَأَن يُقيم الْحُدُود، ويناضل دون الْملَّة، وَينفذ الأحكم، واجتماع هَذِه الْأُمُور لَا يكون إِلَّا فِي وَاحِد بعد وَاحِد، وَفِي اشْتِرَاط أَن تكون من قَبيلَة خَاصَّة تضييق وحرج فَرُبمَا لم يكن فِي هَذِه الْقَبِيلَة من تَجْتَمِع فِيهِ الشُّرُوط، وَكَانَ فِي غَيرهَا، ولهذه الْعلَّة ذهب الْفُقَهَاء إِلَى الْمَنْع عَن اشْتِرَاط كَون الْمُسلم فِيهِ من قَرْيَة صَغِيرَة وجوزوا كَونه من قَرْيَة كَبِيرَة.
وتنعقد الْخلَافَة بِوُجُوه: بيعَة أهل الْحل وَالْعقد من الْعلمَاء والرؤساء وأمراء الأجناد مِمَّن يكون لَهُ رأى ونصيحة للْمُسلمين، كَمَا انْعَقَدت خلَافَة أبي بكر رَضِي الله عَنهُ.
وَبِأَن يُوصي الْخَلِيفَة النَّاس بِهِ، كَمَا انْعَقَدت خلَافَة عمر رَضِي الله عَنهُ
أَو يَجْعَل شُورَى بَين قوم، كَمَا كَانَ انْعِقَاد خلَافَة عُثْمَان، بل عَليّ أَيْضا رَضِي الله عَنْهُمَا،(2/231)
أَو اسْتِيلَاء رجل جَامع للشروط على النَّاس وتسلطه عَلَيْهِم، كَسَائِر الْخُلَفَاء بعد خلَافَة النُّبُوَّة، ثمَّ إِن إستوى من لم يجمع الشُّرُوط لَا يَنْبَغِي أَن يُبَادر إِلَى الْمُخَالفَة. لِأَن خلعه لَا يتَصَوَّر غَالِبا إِلَّا بحروب ومضايقات، وفيهَا من الْمفْسدَة اشد مِمَّا يُرْجَى من الْمصلحَة، وَسُئِلَ رَسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُم فَقيل: أَفلا ننابذهم؟ قَالَ: " لَا مَا أَقَامُوا فِيكُم الصَّلَاة " وَقَالَ: " إِلَّا أَن تروا كفرا بواحا عنْدكُمْ من الله فِيهِ برهَان "
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِذا كفر الْخَلِيفَة بانكار ضرورى من ضروريات الدّين حل قِتَاله بل وَجب وَإِلَّا لَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ فَاتَت مصلحَة نَصبه، يل يخَاف مفسدته على الْقَوْم، فَصَارَ قِتَاله من الْجِهَاد فِي سَبِيل الله.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" السّمع وَالطَّاعَة على الْمَرْء الْمُسلم فِيمَا أحب، وَكره، مَا لم يؤمو بِمَعْصِيَة، فَإِذا أَمر بِمَعْصِيَة فَلَا سمع وَلَا طَاعَة "
أَقُول لما كَانَ الإِمَام مَنْصُوبًا لنوعين من الْمصَالح اللَّذين بهما انتظام الْملَّة والمدن. وَإِنَّمَا بعث النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأجلهما والامام نَائِبه ومنفذ أمره - كَانَت طَاعَته طَاعَة رَسُول الله، ومعصيته مَعْصِيّة رَسُول الله إِلَّا أَن يَأْمر بالمعصية، فَحِينَئِذٍ ظهر أَن طَاعَته لَيْسَ بِطَاعَة الله، وَأَنه لَيْسَ نَائِب رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلذَلِك قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام. " وَمن يطع الْأَمِير فقد أَطَاعَنِي وَمن عصى الْأَمِير فقد عَصَانِي ".
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِنَّمَا الامام جنَّة يُقَاتل من وَرَائه، وَيَتَّقِي بِهِ، فان أَمر بتقوى الله، وَهدى فان لَهُ بذلك أجرا، وَإِن قَالَ بِغَيْرِهِ فان عَلَيْهِ مِنْهُ ".
أَقُول إِنَّمَا جعله بِمَنْزِلَة الْجنَّة لِأَنَّهُ سَبَب اجْتِمَاع كلمة الْمُسلمين والذب عَنْهُم.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من رأى من أميره شَيْئا يكرههُ فليصير، فانه لَيْسَ أحد يُفَارق الْجَمَاعَة شبْرًا فَيَمُوت إِلَّا مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة ".
أَقُول وَذَلِكَ لِأَن الْإِسْلَام إِنَّمَا امتاز من الْجَاهِلِيَّة بِهَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ من الْمصَالح، والخليفة نَائِب رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهمَا، فَإِذا فَارق منفذهما ومقيمهما أشبه الْجَاهِلِيَّة.(2/232)
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" مَا من عبد يسترعيه الله رعية، فَلم يحطهَا بنصيحة إِلَّا لم يجد رَائِحَة الْجنَّة " أَقُول لما كَانَ نصب الْخَلِيفَة لمصَالح وَجب أَن يُؤمر الْخَلِيفَة بايفاء هَذِه الْمصَالح، كَمَا أَمر النَّاس أَن ينقادوا لَهُ، لتتم الْمصَالح من الْجَانِبَيْنِ.
ثمَّ إِن الامام لما كَانَ لَا يَسْتَطِيع بِنَفسِهِ أَن يُبَاشر جباية الصَّدقَات وَأخذ العشور وَفصل الْقَضَاء فِي كل نَاحيَة وَجب بعث الْعمَّال والقضاة، وَلما كَانَ أُولَئِكَ مشغولين بِأَمْر من مصَالح الْعَامَّة وَجب أَن تكون كفايتهم فِي بَيت المَال، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَة فِي قَول أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ لما اسْتخْلف
لقد علم قومِي أَن حرفتي لم تكن تعجز عَن مؤونة أَهلِي وشغلت بِأَمْر الْمُسلمين، فسيأكل آل أبي بكر من هَذَا المَال، ويحترف للْمُسلمين فِيهِ.
ثمَّ وَجب أَن يُؤمر الْعَامِل بالتيسير، وَينْهى عَن الْغلُول والرشوة، وَأَن يُؤمر الْقَوْم بالانقياد لَهُ لتتم الْمصلحَة الْمَقْصُودَة، وَهَذَا قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِن رجَالًا يتخوضون فِي مَال الله بِغَيْر حق فَلهم النَّار يَوْم الْقِيَامَة وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فَمَا أَخذ بعد ذَلِك فَهُوَ غلُول " وَلعن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الراشي والمرتشي، والسر فِي ذَلِك أَنه يُنَافِي الْمصلحَة الْمَقْصُودَة وَيفتح بَاب الْمَفَاسِد.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تسْتَعْمل من طلب الْعَمَل " أَقُول وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَلما يخلوا طلبه من دَاعِيَة نفسانية، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إِذْ جَاءَكُم الْعَامِل فليصدر وَهُوَ عَنْكُم رَاض "
ثمَّ وَجب أَن يقدر الْقدر الَّذِي يعْطى الْعمَّال فِي عَمَلهم لِئَلَّا يُجَاوِزهُ الامام، فيفرد، أَو يفرط، وَلَا يعدوه الْعَامِل بِنَفسِهِ، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من كَانَ لنا عَاملا فليكتسب زَوْجَة، فان لم يكن لَهُ خَادِم فليكتسب خَادِمًا , فَإِن لم يكن لَهُ مسكن فليكتسب مسكنا.
فاذا بعث الامام الْعَامِل فِي صدقَات سنة فليجعل لَهُ فِيهَا مَا يَكْفِي مُؤْنَته، ويفضل فضل بِقدر بِهِ على حَاجَة من هَذِه الْحَوَائِج، فان الزَّائِد لَا حد لَهُ، والمؤنة بِدُونِ زِيَادَة لَا يتعانى لَهَا الْعَامِل، وَلَا يرغب فِيهَا(2/233)
(الْمَظَالِم)
اعْلَم أَن من أعظم الْمَقَاصِد الَّتِي قصدت ببعثة الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام دفع الْمَظَالِم من بَين للنَّاس، فان تظالمهم يفْسد حَالهم، ويضيق عَلَيْهِم، وَلَا حَاجَة إِلَى شرح ذَلِك،
والمظالم على ثَلَاثَة أَقسَام: تعد على النَّفس، وتعد على أَعْضَاء النَّاس، وتعد على أَمْوَال النَّاس، فاقتضت حِكْمَة من الله أَن يزْجر عَن كل نوع من هَذِه الْأَنْوَاع بزواجر قَوِيَّة تردع النَّاس عَن أَن يَفْعَلُوا ذَلِك مرّة أُخْرَى، وَلَا يَنْبَغِي أَن تجْعَل هَذِه الزواجر على مرتبَة وَاحِدَة فان الْقَتْل لَيْسَ كَقطع الطّرف؛ وَلَا قطع الطّرف كاستهلاك المَال.
وَأَن الدَّوَاعِي الَّتِي تنبعث مِنْهَا هَذِه الْمَظَالِم لَهَا مَرَاتِب؛ فَمن البديهي أَن تعمد الْقَتْل لَيْسَ كالتساهل المنجر إِلَى الْخَطَأ: فأعظم الْمَظَالِم الْقَتْل، وَهُوَ أكبر الْكَبَائِر، أجمع عَلَيْهِ أهل الْملَل قاطبتهم، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ طَاعَة النَّفس فِي دَاعِيَة لغضب، وَهُوَ أعظم وُجُوه الْفساد فِيمَا بَين النَّاس، وَهُوَ تَغْيِير خلق الله وَهدم بُنيان الله ومناقضة مَا أَرَادَ الْحق فِي عباده من انتشار نوع الْإِنْسَان
وَالْقَتْل على ثَلَاثَة أَقسَام: عمد، وَخطأ، وَشبه عمد، فالعمد هُوَ الْقَتْل الَّذِي يقْصد فِيهِ إزهاق روحه بِمَا يقتل غَالِبا جارحا أَو مُثقلًا،
وَالْخَطَأ مَا لَا يقْصد فِيهِ إِصَابَته، فَيُصِيبهُ فيقتله كَمَا إِذا وَقع على إِنْسَان فَمَاتَ أَو رمى شَجَرَة، فَأَصَابَهُ، فَمَاتَ.
وَشبه الْعمد أَن يقْصد الشَّخْص بِمَا لَا يقتل غَالِبا، فيقتله كَمَا إِذا ضرب بِسَوْط أَو عَصا فَمَاتَ،
وَإِنَّمَا جعل على ثَلَاثَة أَقسَام لما أَشَرنَا من قبل أَن الزاجر يَنْبَغِي أَن يكون بِحَيْثُ يُقَاوم الداعية والمفسدة، وَلَهُمَا مَرَاتِب، فَلَمَّا كَانَ الْعمد أَكثر فَسَادًا وَأَشد دَاعِيَة وَجب أَن يغلظ فِيهِ بِمَا يحصل زِيَادَة الزّجر، وَلما كَانَ الْخَطَأ أقل فَسَادًا وأخف دَاعِيَة وَجب أَن يُخَفف من جَزَائِهِ، واستنبط النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَين الْعمد وَالْخَطَأ نوعا آخر لمناسبة مِنْهُمَا وَكَونه برزخا بَينهمَا، فَلَا يَنْبَغِي أَن يدْخل فِي أَحدهمَا.
فالعمد فِيهِ قَوْله تَعَالَى:(2/234)
{وَمن يقتل مُؤمنا مُتَعَمدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم خَالِدا فِيهَا وَغَضب الله عَلَيْهِ ولعنه وَأعد لَهُ عذَابا عَظِيما} .
ظَاهره أَنه لَا يغْفر لَهُ، وَإِلَيْهِ ذهب ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا، لَكِن الْجُمْهُور وَظَاهر السّنة على أَنه بِمَنْزِلَة سَائِر الذُّنُوب، وَأَن هَذِه التشديدات للزجر وَأَنَّهَا تَشْبِيه لطول مكثه بالخلود وَاخْتلفُوا فِي الْكَفَّارَة فان الله تَعَالَى لم ينص عَلَيْهَا فِي مَسْأَلَة الْعمد قَالَ الله تَعَالَى:
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كتب عَلَيْكُم الْقصاص فِي الْقَتْلَى الْحر بِالْحرِّ وَالْعَبْد بِالْعَبدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} .
نزلت فِي حيين من أَحيَاء الْعَرَب: أَحدهمَا أشرف من الآخر، فَقتل الأوضع من الْأَشْرَف قَتْلَى فَقَالَ الْأَشْرَف لَنَقْتُلَنَّ الْحر بِالْعَبدِ وَالذكر بِالْأُنْثَى، ولنضاعفن الْجراح.
وَمعنى الْآيَة - وَالله أعلم أَن خُصُوص الصِّفَات لَا يعْتَبر فِي الْقَتْلَى كالعقل، وَالْجمال، والصغر، وَالْكبر وَكَونه شريفا أَو ذَا مَال وَنَحْو ذَلِك،
وَإِنَّمَا تعْتَبر الْأَسَامِي والمظان الْكُلية، فَكل امْرَأَة مكافئة لكل امْرَأَة، وَلذَلِك كَانَت ديات النِّسَاء وَاحِدَة وَإِن تفاوتت الْأَوْصَاف، وَكَذَلِكَ الْحر يُكَافِئ الْحر، وَالْعَبْد يُكَافِئ العَبْد، فَمَعْنَى الْقصاص التكافؤ وَأَن يَجْعَل اثْنَان فِي دَرَجَة وَاحِدَة من الحكم لَا يفضل أَحدهمَا على الآخر لَا الْقَتْل مَكَانَهُ أَلْبَتَّة، ثمَّ أَثْبَتَت السّنة أَن الْمُسلم لَا يقتل بالكافر، وَأَن الْحر لَا يقتل بِالْعَبدِ. وَالذكر يقتل بِالْأُنْثَى لِأَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتل الْيَهُودِيّ بِجَارِيَة وَفِي كتاب رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أقيال هَمدَان " وَيقتل الذّكر بِالْأُنْثَى " وسره أَن الْقيَاس فِيهِ مُخْتَلف، ففضل الذُّكُور على الْإِنَاث، وكونهم قوامين عَلَيْهِنَّ يَقْتَضِي أَلا يُقَاد بهَا وَأَن الْجِنْس وَاحِد، وَإِنَّمَا الْفرق بِمَنْزِلَة الْفرق الصَّغِير وَالْكَبِير وعظيم الجثة وحقيرها، ورعاية مثل ذَلِك عسيرة جدا، وَرب امْرَأَة هِيَ أتم من الرِّجَال فِي محَاسِن الْخِصَال تَقْتَضِي أَن يُقَاد، فَوَجَبَ أَن يعْمل على القياسين، وَصُورَة الْعَمَل بهما أَنه اعْتبر الْمُقَاصَّة فِي الْقود وَعدم الْمُقَاصَّة فِي الدِّيَة، وَإِنَّمَا فعل ذَلِك لِأَن صَاحب الْعمد قَصدهَا وَقصد التَّعَدِّي عَلَيْهَا، والمتعمد المتعدى يَنْبَغِي أَن يذب عَنْهَا أتم ذب، فَإِنَّهَا لَيست بِذَات شَوْكَة، وقتلها لَيْسَ فِيهِ حرج بِخِلَاف قتل(2/235)
الرِّجَال فَإِن الرجل يُقَاتل الرجل، فَكَانَت هَذِه الصُّورَة أَحَق بِإِيجَاب الْقود؛ ليَكُون ردعا وزجرا عَن مثله.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا يقتل مُسلم لكَافِر ". أَقُول: والسر فِي ذَلِك أَن الْمَقْصُود الْأَعْظَم فِي الشَّرْع تنويه الْملَّة الحنيفية، وَلَا يحصل إِلَّا بِأَن يفضل الْمُسلم على الْكَافِر، وَلَا يُسَوِّي بَينهمَا.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا يُقَاد الْوَالِد بِالْوَلَدِ " أَقُول: السَّبَب فِي
ذَلِك أَن الْوَالِد شفقته وافرة، وحبه عَظِيم، فاقدامه على الْقَتْل مَظَنَّة أَنه لم يتعمده. وَإِن ظَهرت مخايل الْعمد أَو كَانَ لِمَعْنى أَبَاحَ قَتله، وَلَيْسَت دلَالَة هَذِه اقل من دلَالَة اسْتِعْمَال مَا لَا يقتل غَالِبا على أَنه لم يقْصد إزهاق الرّوح.
وَأما الْقَتْل شبه الْعمد، فَقَالَ فِيهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من قتل فِي عمية فِي رمي يكون فيهم بِالْحِجَارَةِ أَو جلد بالسياط أَو ضرب بعصا فَهُوَ خطأ وعقله عقل الْخَطَأ ".
أَقُول: مَعْنَاهُ أَنه يشبه الْخَطَأ وَأَنه لَيْسَ من الْعمد وَأَن عقله مثل عقله فِي الأَصْل، وَإِنَّمَا يتمايزا فِي الصّفة، أَو أَنه لَا فرق بَينه وَبَينه فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة وَاخْتلفت الرِّوَايَة فِي الدِّيَة الْمُغَلَّظَة. فَقَوْل ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ: إِنَّهَا تكون أَربَاعًا خمْسا وَعشْرين جَذَعَة. وخمسا وَعشْرين حقة، وخمسا وَعشْرين بنت لبون، وخمسا وَعشْرين بنت مَخَاض، وَعنهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَلا إِن فِي قتل الْعمد الْخَطَأ بِالسَّوْطِ أَو الْعَصَا مائَة من الْإِبِل مِنْهَا أَرْبَعُونَ خلفة فِي بطونها الأولادها، وَفِي رِوَايَة " ثَلَاثُونَ حقة وَثَلَاثُونَ جَذَعَة وَأَرْبَعُونَ خَلفه " وَمَا صولحوا عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُم ".
وَأما الْقَتْل الْخَطَأ فَفِيهِ الدِّيَة المخففة المخمسة عشرُون بن مَخَاض. وَعِشْرُونَ ابْن مَخَاض. وَعِشْرُونَ بنت لبون. وَعِشْرُونَ حقة وَعِشْرُونَ جَذَعَة، وَفِي هذَيْن الْقسمَيْنِ إِنَّمَا تجب الدِّيَة على الْعَاقِلَة فِي ثَلَاث سِنِين.
وَلما كَانَت هَذِه الْأَنْوَاع مُخْتَلفَة الْمَرَاتِب روعي فِي ذَلِك التَّخْفِيف والتغليظ من وُجُوه:
مِنْهَا أَن سفك دم الْقَاتِل لم يحكم بِهِ إِلَّا فِي الْعمد. وَلم يَجْعَل فِي الباقيين إِلَّا الدِّيَة، وَكَانَ فِي شَرِيعَة الْيَهُود الْقصاص لَا غير: فَخفف الله على هَذِه الْأمة،
فَجعل جَزَاء الْقَتْل(2/236)
الْعمد عَلَيْهَا أحد الْأَمريْنِ الْقَتْل. وَالْمَال، فلربما كَانَ المَال أَنْفَع للأولياء من الثأر، وَفِيه إبْقَاء نسمَة مسلمة.
وَمِنْهَا أَن كَانَت الدِّيَة فِي الْعمد وَاجِبَة على نفس الْقَاتِل وَفِي غَيره تُؤْخَذ من عَاقِلَته؛ لتَكون مزجرة شَدِيدَة وابتلاء عَظِيما للْقَاتِل ينهك مَاله أَشد إنهاك، وَإِنَّمَا تُؤْخَذ فِي غير الْعمد من الْعَاقِلَة لِأَن هدر الدَّم مفْسدَة عَظِيمَة، وجبر قُلُوب المصابين مَقْصُود، والتساهل من الْقَاتِل فِي مثل هَذَا الْأَمر الْعَظِيم ذَنْب يسْتَحق التَّضْيِيق عَلَيْهِ، ثمَّ لما كَانَت الصِّلَة وَاجِبَة على ذَوي الْأَرْحَام اقْتَضَت الْحِكْمَة الإلهية أَن يُوجب شَيْء من ذَلِك عَلَيْهِم أشاءوا أم أَبَوا، وَإِنَّمَا تعين هَذَا لمعنيين.
أَحدهمَا أَن الْخَطَأ وَإِن كَانَ مأخوذا بِهِ لِمَعْنى التساهل فَلَا يَنْبَغِي أَن يبلغ بِهِ أقْصَى المبالغ، فَكَانَ أَحَق مَا يُوجب عَلَيْهِم عَن ذَوي رَحِمهم مَا يكون الْوَاجِب فِي التَّخْفِيف عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي أَن الْعَرَب كَانُوا يقومُونَ بنصرة صَاحبهمْ بِالنَّفسِ وَالْمَال عِنْدَمَا يضيق عَلَيْهِ الْحَال، ويرون ذَلِك صلَة وَاجِبَة وَحقا مؤكدا، ويرون تَركه عقوقا وَقطع رحم، فاستوجبت عاداتهم تِلْكَ أَن يغين لَهُم ذَلِك.
وَمِنْهَا أَن جعل دِيَة الْعمد مُعجلَة فِي سنة وَاحِدَة، ودية غَيره مُؤَجّلَة فِي ثَلَاث سِنِين لما ذكرنَا من معنى التَّخْفِيف.
وَالْأَصْل فِي الدِّيَة أَنَّهَا يجب أَن تكون مَالا عَظِيما يَغْلِبهُمْ، وَينْقص من مَالهم، ويجدون لَهُ بَالا عِنْدهم وَيكون بِحَيْثُ يؤدونه بعد مقلساة الضّيق؛ ليحصل الزّجر وَهَذَا الْقدر يخْتَلف باخْتلَاف الْأَشْخَاص، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة قدروها بِعشْرَة من الْإِبِل، فَلَمَّا رأى عبد الْمطلب أَنهم لَا ينزجرون بهَا بلغَهَا إِلَى مائَة، وأبقاها النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذَلِك لِأَن الْعَرَب يَوْمئِذٍ كَانُوا أهل إبل، غير أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عرف أَن شَرعه
لَازم للْعَرَب والعجم وَسَائِر النَّاس، وَلَيْسوا كلهم أهل إبل، فَقدر من الذَّهَب ألف دِينَار، وَمن الْفضة اثْنَي عشر ألف دِرْهَم، وَمن الْبَقر مِائَتي بقرة، وَمن الشَّاء ألفي شَاة.
وَالسَّبَب فِي هَذَا إِذا مائَة رجل إِن وزع عَلَيْهِم ألف دِينَار فِي ثَلَاث سِنِين أصَاب كل وَاحِد مِنْهُم فِي سنة ثَلَاثَة دَنَانِير وَشَيْء، وَمن الدَّرَاهِم ثَلَاثُونَ درهما وَشَيْء، وَهَذَا شَيْء لَا يَجدونَ لأَقل مِنْهُ بَالا، والقبائل تَتَفَاوَت فِيمَا بَينهَا، يكون مِنْهَا الْكَبِيرَة، وَمِنْهَا الصَّغِيرَة، وَضبط الصَّغِيرَة بِخَمْسِينَ، فَإِنَّهُم أدنى مَا تتقرى بهم الْقرْيَة، وَلذَلِك جعل الْقسَامَة خمسين يَمِينا متوزعة على خمسين رجلا، والكبيرة ضعف الْخمسين فَجعلت الدِّيَة مائَة ليصيب كل وَاحِد بَعِيرًا أَو بعيران أَو بعير وَشَيْء فِي أَكثر الْقَبَائِل عِنْد اسْتِوَاء حَالهم.(2/237)
وَالْأَحَادِيث الَّتِي تدل على أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذا رخصت الْإِبِل خفض من الدِّيَة، وَإِذا غلت رفع مِنْهَا، فمعناها عِنْدِي أَنه كَانَ يقْضِي بذلك على أهل الْإِبِل خَاصَّة، وَأَنت إِن فتشت عَامَّة الْبِلَاد وَجَدتهمْ ينقسمون إِلَى أهل تِجَارَات وأموال وهم أهل الْحَضَر، وَأهل رعي، وهم أهل البدو لَا يجاوزهم حَال الْأَكْثَرين.
قَالَ الله تَعَالَى:
{وَمن قتل مُؤمنا خطأ فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة} . الْآيَة
أَقُول. إِنَّمَا وَجب فِي الْكَفَّارَة تَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة أَو إطْعَام سِتِّينَ مِسْكينا ليَكُون طَاعَة مكفرة لَهُ فِيمَا بَينه وَبَين الله فَإِن الدِّيَة مزجرة تورث فِيهِ النَّدَم بِحَسب تضييق النَّاس عَلَيْهِ، وَالْكَفَّارَة فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى.
قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
" لَا يحل دم امْرِئ مُسلم يشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنِّي رَسُول الله إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث. النَّفس بِالنَّفسِ.
وَالثَّيِّب الزَّانِي. والمفارق لدينِهِ التارك للْجَمَاعَة. " أَقُول. الأَصْل الْمجمع عَلَيْهِ فِي جَمِيع الْأَدْيَان أَنه إِنَّمَا يجوز الْقَتْل لمصْلحَة كُلية لَا تتأتى بِدُونِهِ، وَيكون تَركهَا اشد إفسادا مِنْهُ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى.
{والفتنة أَشد من الْقَتْل} .
وعندما تصدى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للتشريع وَضرب الْحُدُود وَجب أَن يضْبط الْمصلحَة الْكُلية المسوغة للْقَتْل وَلَو لم يضْبط، وَترك سدى لقتل مِنْهُم قَاتل من لَيْسَ قَتله من الْمصلحَة الْكُلية ظنا أَنه مِنْهَا فضبط بِثَلَاث:
الْقصاص فَإِنَّهُ مزجرة، وَفِيه مصَالح كَثِيرَة قد أَشَارَ الله تَعَالَى إِلَيْهَا بقوله.
{وَلكم فِي الْقصاص حَيَاة يَا أولي الْأَلْبَاب} .
وَالثَّيِّب الزَّانِي لِأَن الزِّنَا من أكبر الْكَبَائِر فِي جَمِيع الْأَدْيَان، وَهُوَ من أصل مَا تَقْتَضِيه الجبلة الإنسانية، فَإِن الْإِنْسَان عِنْد سَلامَة مزاجه يخلق على الْغيرَة أَن يزاحمه أحد على موطوأته كَسَائِر الْبَهَائِم، إِلَّا أَن الْإِنْسَان اسْتوْجبَ أَن يعلم مَا بِهِ إصْلَاح النظام فِيمَا بَينهم، فَوَجَبَ عَلَيْهِم ذَلِك.
وَالْمُرْتَدّ اجترأ على الله وَدينه، وناقض الْمصلحَة المرعية فِي نصب الدّين وَبعث الرُّسُل.
وَأما مَا سوى هَؤُلَاءِ الثَّلَاث مِمَّا ذهبت إِلَيْهِ الْأمة مثل الصَّائِل. وَمثل الْمُحَارب من غير أَن يقتل أحدا عِنْد من يَقُول بالتخيير بَين أجزية الْمُحَارب فَيمكن إرجاعه إِلَى أحد هَذِه الْأُصُول.(2/238)
وَاعْلَم أَنه كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يحكمون بالقسامة وَكَانَ أول من قضى بهَا أَبُو طَالب كَمَا بَين ذَلِك ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَكَانَ فِيهَا مصلحَة عَظِيمَة، فَإِن الْقَتْل رُبمَا يكون فِي الْمَوَاضِع الْخفية والليالي الْمظْلمَة حَيْثُ لَا تكون الْبَيِّنَة
فَلَو جعل مثل هَذَا الْقَتْل هدرا لاجترأ النَّاس عَلَيْهِ ولعم الْفساد، وَلَو أَخذ بِدَعْوَى أَوْلِيَاء الْمَقْتُول بِلَا حجَّة لادعى النَّاس على كل من يعادونه، فَوَجَبَ أَن يُؤْخَذ بأيمان جمَاعَة عَظِيم تتقرى بهَا قَرْيَة، وهم خَمْسُونَ رجلا، فَقضى بهَا النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأثبتها.
وَاخْتلف الْفُقَهَاء فِي الْعلَّة الَّتِي تدار عَلَيْهَا، فَقيل. وجود قَتِيل بِهِ أثر جِرَاحَة من ضرب أَو خنق فِي مَوضِع هُوَ فِي حفظ قوم كمحلة، وَمَسْجِد، وَدَار، وَهَذَا مَأْخُوذ من قصَّة عبد الله بن سهل وجد قَتِيلا بِخَيْبَر يتشحب فِي دَمه، وَقيل. وجود قَتِيل وَقيام لوث على أحد أَنه الْقَاتِل باخبار الْمَقْتُول أَو شَهَادَة دون النّصاب وَنَحْوه، وَهَذَا مَأْخُوذ من قصَّة الْقسَامَة الَّتِي قضى بهَا أَبُو طَالب.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
" دِيَة الْكَافِر نصف دِيَة الْمُسلم " أَقُول. السَّبَب فِي ذَلِك مَا ذكرنَا قبل أَنه يجب أَن يُنَوّه بالملة الإسلامية، وَأَن يفضل الْمُسلم على الْكَافِر، وَلِأَن قتل الْكَافِر أقل إفسادا بَين الْمُسلمين؛ وَأَقل مَعْصِيّة؛ فَإِنَّهُ كَافِر مُبَاح الأَصْل ينْدَفع بقتْله شُعْبَة من الْكفْر، وَهُوَ مَعَ ذَلِك ذَنْب وخطيئة وإفساد فِي الأَرْض، فَنَاسَبَ أَن تخفف دِيَته.
وَقضى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الاملاص بغرة عبد أَو أمة اعْلَم أَن الْجَنِين فِيهِ وَجْهَان: كَونه نفسا من النُّفُوس البشرية، وَمُقْتَضَاهُ أَن يَقع فِي عوضه النَّفس، وَكَونه طرفا وعضوا من أمة لَا يسْتَقلّ بِدُونِهَا وَمُقْتَضَاهُ أَن يَجْعَل بِمَنْزِلَة سَائِر الجروح فِي الحكم بِالْمَالِ، فروعي الْوَجْهَانِ فَجعل دِيَته مَالا هُوَ أدمي وَذَلِكَ غَايَة الْعدْل.
وَأما التَّعَدِّي على أَطْرَاف الْإِنْسَان فَحكمه مَبْنِيّ على أصُول: أَحدهَا أَن مَا كَانَ مِنْهَا عمدا فَفِيهِ الْقصاص إِلَّا أَن يكون الْقصاص فِيهِ مفضيا إِلَى الْهَلَاك فَذَلِك مَانع من الْقصاص، وَفِيه قَوْله تعال ى:(2/239)
{النَّفس بِالنَّفسِ وَالْعين بِالْعينِ وَالْأنف بالأنف وَالْأُذن بالأذن وَالسّن بِالسِّنِّ والجروح قصاص} .
فالعين بِمِرْآة محماة وَالسّن بالمبرد وَلَا تقلع لِأَن فِي الْقلع خوف زِيَادَة الأدى. وَفِي الجروح إِذا كَانَ كالموضحة الْقصاص يقبض على السكين بِقدر عمق الْمُوَضّحَة فان كَانَ كسر الْعظم فَلَا قصاص لِأَنَّهُ يخَاف مِنْهُ الْهَلَاك.
وَجَاء عَن بعض التَّابِعين لطمة بلطمة. وقرصة بقرصة.
وَالثَّانِي أَن مَا كَانَ إِزَالَة لقُوَّة نافعة فِي الْإِنْسَان كالبطش. وَالْمَشْي وَالْبَصَر. والسمع. وَالْعقل. والباءة، وَيكون بِحَيْثُ يصير الْإِنْسَان بِهِ كلا على النَّاس، وَلَا يقدر على الِاسْتِقْلَال بِأَمْر معيشته، وَيلْحق بِهِ عَار فِيمَا بَين النَّاس، وَيكون مثله يتَغَيَّر بهَا خلق الله، وَيبقى أَثَرهَا فِي بدنه طول الدَّهْر فانه يجب فِيهَا الدِّيَة كَامِلَة، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ظلم عَظِيم وتغيير لخلقه وَمثله بِهِ وإلحاق عَار بِهِ وَكَانَ النَّاس لَا يقومُونَ بنصرة الْمَظْلُوم بأمثال ذَلِك كَمَا يقومُونَ فِي بَاب الْقَتْل، ويحقر أَمرهم الظَّالِم وَالْحَاكِم. وعصبة الظَّالِم وعصبة الْمَظْلُوم فاستوجب ذَلِك أَن يُؤَكد الْأَمر فِيهِ ويبلغ مزجرته أقْصَى المبالغ.
وَالْأَصْل فِي قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابه إِلَى أهل الْيمن: " فِي الْأنف إِذا أوعب جدعة الدِّيَة، وَفِي الاسنان الدِّيَة، وَفِي الشفتين الدِّيَة، وَفِي البيضتين الدِّيَة، وَفِي الذّكر الدِّيَة، وَفِي الصلب الدِّيَة، وَفِي الْعَينَيْنِ الدِّيَة " وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام.
" فِي الْعقل الدِّيَة ".
ثمَّ مَا كَانَ إتلافا لنصف هَذِه الْمَنْفَعَة فَفِيهِ نصف الدِّيَة، فِي الرجل الواحده نصف الدِّيَة، وَفِي الْيَد الْوَاحِدَة نصف الدِّيَة، وَمَا كَانَ إتلافا لعشرها كأصبع
من أَصَابِع الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ فَفِيهِ عشر الدِّيَة، وَفِي كل سنّ نصف عشر الدِّيَة، وَذَلِكَ لِأَن الْأَسْنَان تكون ثَمَانِيَة وَعشْرين. وَسِتَّة وَعشْرين، وَالْكَسْر الَّذِي يكون بِإِزَاءِ نِسْبَة الْوَاحِد إِلَى ذَلِك الْعدَد خَفِي مُحْتَاج إِلَى التعمق فِي الْحساب، فأخذنا الْعشْرين، وأوجبنا نصف عشر الدِّيَة.
وَالثَّالِث أَن الجروح الَّتِي لَا تكون إبطالا لقُوَّة مُسْتَقلَّة وَلَا لنصفها، وَلَا تكون مثله، وَإِنَّمَا هِيَ تَبرأ، وتندمل لَا يَنْبَغِي أَن تجْعَل بِمَنْزِلَة النَّفس وَلَا بِمَنْزِلَة الْيَد وَالرجل، فَيحكم بِنصْف الدِّيَة، وَلَا يَنْبَغِي أَن يهدر وَلَا يَجْعَل بإزائه شَيْء، فأقلها الْمُوَضّحَة إِذْ مَا كَانَ دونهَا يُقَال لَهُ خدش وخمش لَا جرح، والموضحة مَا يُوضح الْعظم فَفِيهِ نصف الْعشْر لآن نصف الْعشْر أقل حِصَّة يعرف من غير إمعان فِي الْحساب، وَإِنَّمَا يبْنى الْأَمر فِي(2/240)
الشَّرَائِع على السِّهَام الْمَعْلُوم مقدارها عِنْد الحاسب وَغَيره، والمنقلة فِيهَا خَمْسَة عشر بَعِيرًا لِأَنَّهَا إِيضَاح وَكسر وَنقل فَصَارَ بِمَنْزِلَة ثَلَاثَة إيضاحات والجائفة والآمة أعظما الْجِرَاحَات فَمن حَقّهمَا أَن يَجْعَل فِي كل وَاحِدَة مِنْهُمَا ثلث الدِّيَة لِأَن الثُّلُث يقدر بِهِ مَا دون النّصْف.
قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" هَذِه وَهَذِه سَوَاء " يَعْنِي الحنصر والابهام، وَقَالَ " الثَّنية والضرس سَوَاء ".
أَقُول وَالسَّبَب أَن الْمَنَافِع الْخَاصَّة بِكُل عُضْو عُضْو لما صَعب ضَبطهَا وَجب أَن يدار الحكم على الْأَسَامِي وَالنَّوْع.
وَاعْلَم أَن من الْقَتْل وَالْجرْح مَا يكون هدرا وَذَلِكَ لأحد وَجْهَيْن: إِمَّا أَن يكون دفعا لشر يلْحق بِهِ، وَالْأَصْل فِيهِ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَوَاب من قَالَ:
" يَا رَسُول الله أَرَأَيْت إِن جَاءَ رجل يُرِيد أَخذ مَالِي؟ قَالَ: فَلَا تعطه مَالك، قَالَ: أَرَأَيْت إِن قاتلني؟ قَالَ: قَاتله، قَالَ: أَرَأَيْت إِن قتلني؟ قَالَ: فَأَنت شَهِيد، قَالَ: أَرَأَيْت إِن قتلته؟ قَالَ: هُوَ فِي النَّار ".
وعض إِنْسَان إنْسَانا، فَانْتزع المعضوض يَده من فَمه، فأندر ثنيته، فأهدرها رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَالْحَاصِل أَن الصَّائِل على نفس الْإِنْسَان أَو طرفه أَو مَاله يجوز ذبه بِمَا أمكن، فان انجر الْأَمر إِلَى الْقَتْل لَا إِثْم فِيهِ، فان الْأَنْفس السبعية كثيرا مَا يتغلبون فِي الأَرْض، فَلَو لم يدفعوا لضاق الْحَال وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَو اطلع فِي بَيْتك أحد، وَلم تَأذن لَهُ، فحذفته بحصاة، ففقأت عينه مَا كَانَ عَلَيْك من جنَاح ".
وَأما أَن يكون بِسَبَب لَيْسَ فِيهِ تعد لأحد، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَة الْآفَات السماوية، وَالْأَصْل فِيهِ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" العجماء جَبَّار، والمعدن جَبَّار، والبئر جَبَّار ".
أَقُول: وَذَلِكَ لِأَن الْبَهَائِم تسرح للمرعى، فاذا أَصَابَت أحدا لم يكن ذَلِك من صنع مَالِكهَا، وَكَذَلِكَ إِذا وَقع فِي الْبِئْر أَو انطبق عَلَيْهِ الْمَعْدن، ثمَّ إِن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سجل عَلَيْهِم أَن يحتاطوا لِئَلَّا يصاب أحد مِنْهُم بخطأ، فان من القرف والتلف.(2/241)
وَمِنْه نَهْيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن الْحَذف قَالَ: " إِنَّه لَا يصاد بِهِ صيد، وَلَا ينْكَأ بِهِ عَدو، وَلكنه قد يكسر السن، ويفقأ الْعين ".
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذا مر أحدكُم فِي مَسْجِدنَا أَو فِي سوقنا وَمَعَهُ نبل فليمسك على نصالها أَن تصيب أحدا من الْمُسلمين مِنْهَا شَيْء ".
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا يُشِير أحدكُم إِلَى أَخِيه بِالسِّلَاحِ فَإِنَّهُ لَا يدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَان ينْزع من يَده، فَيَقَع فِي حُفْرَة من النَّار ".
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من حمل علينا السِّلَاح فَلَيْسَ منا ".
وَنهى عَلَيْهِ السَّلَام أَن يتعاطى السَّيْف مسلولا، وَنهى أَن يقدر السّير بَين أصبعين.
وَأما التَّعَدِّي على أَمْوَال النَّاس فأقسام: غصب. وَإِتْلَاف. وسرقة. وَنهب ...
أما السّرقَة. والنهب فستعرفهما، وَأما الْغَصْب فاغا هُوَ تسلط على مَال الْغَيْر مُعْتَمدًا على شُبْهَة واهية لَا يثبتها الشَّرْع، أَو اعْتِمَادًا على أَلا يظْهر على الْحُكَّام جلية الْحَال، وَنَحْو ذَلِك، فَكَانَ حريا أَن يعد من الْمُعَامَلَات، وَلَا يبتنى عَلَيْهِ الْحُدُود، وَلذَلِك كَانَ غصب ألف دِرْهَم لَا يُوجب الْقطع، وسرقة ثَلَاثَة دَرَاهِم توجبه.
وَأما الاتلاف فَيكون عمدا. وَشبه عمد. وَخطأ، لَكِن الْأَمْوَال لما كَانَت دون الْأَنْفس لم يَجْعَل لكل وَاحِد مِنْهَا حكما وَكفى الضَّمَان عَن جَمِيعهَا زاجرا.
قَالَ رسولى الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أَخذ شبْرًا من الأَرْض ظلما طوقه يَوْم الْقِيَامَة من سبع أَرضين ".
أَقُول لقد علمت مرَارًا أَن الْفِعْل الَّذِي ينْقض الْمصلحَة المدنية، وَيحصل بِهِ الْإِيذَاء والتعدي يسْتَوْجب لعن الْمَلأ الْأَعْلَى، وَيتَصَوَّر الْعَذَاب بِصُورَة الْعَمَل أَو مجاروه.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" على الْيَد مَا أخذت ".
أَقُول: هَذَا هُوَ الأَصْل فِي بَاب الْغَصْب وَالْعَارِية يجب رد عينه، فان تعذر فَرد مثله.
وَدفع عَلَيْهِ السَّلَام صَحْفَة فِي مَوضِع صَحْفَة كسرت، وَأمْسك الْمَكْسُورَة
أَقُول: هَذَا هُوَ الأَصْل فِي بَاب الاتلاف، وَالظَّاهِر من السّنة أَنه يجوز أَن يغرم فِي المتقومات بِمَا يحكم بِهِ الْعَامَّة والخاصة أَنه مثلهَا كالصحفة مَكَان الصحفة، وَقضى عُثْمَان(2/242)
رَضِي الله عَنهُ بِمحضر من الصحابه رَضِي الله عَنْهُم على الْمَغْرُور أَن يفدى بِمثل أَوْلَاده.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من وجد عين مَاله عِنْد رجل فَهُوَ أَحَق بِهِ، وَيتبع البيع من بَاعه " أَقُول السَّبَب الْمُقْتَضِي لهَذَا الحكم أَنه إِذا وَقعت هَذِه الصُّورَة فَيحْتَمل أَن يكون فِي كل جَانب الضَّرَر والجور، فَإِذا وجد مَتَاعه عِنْد رجل. فان كَانَت السّنة أَن يهمله حَتَّى يجد بَائِعه فَفِيهِ ضَرَر عَظِيم لصَاحب الْمَتَاع، فان الْغَاصِب أَو السَّارِق إِذا عثر على خيانته رُبمَا يحْتَج بِأَنَّهُ اشْترِي من إِنْسَان يذب بذلك عَن نَفسه، وَرُبمَا يكون السَّارِق وَالْغَاصِب وكل بعض النَّاس بِالْبيعِ لِئَلَّا يُؤَاخذ هُوَ وَلَا البَائِع، وَفِي ذَلِك فتح بَاب ضيَاع حُقُوق النَّاس، وَرُبمَا لَا يجد البَائِع إِلَّا عِنْد غيبَة هَذَا المُشْتَرِي فيؤاخذه فَلَا يجد عِنْده شَيْء فيسكت على خيبة، وَإِن كَانَت السّنة أَن يقبضهُ فِي الْحَال فَفِيهِ ضَرَر للْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ رُبمَا يبْتَاع من السُّوق لَا يدْرِي من البَائِع وَأَيْنَ مَحَله ثمَّ يسْتَحق مَاله وَلَا يجد البَائِع فيسكت على خيبة وَرُبمَا يكون لَهُ حَاجَة إِلَى الْمَتَاع وَيكون فِي قبض
الْمُسْتَحق إِيَّاه حوالته على البَائِع فَوت حَاجته فَلَمَّا دَار الْأَمر بَين ضررين وَلم يكن بُد من وجود أَحدهمَا وَجب أَن يرجع إِلَى الْأَمر الظَّاهِر الَّذِي تقبله أفهام النَّاس من غير رِيبَة وَهُوَ هُنَا أَن الْحق تعلق بِهَذِهِ الْعين وَالْعين تحبس فِي الْعين الْمُتَعَلّق بِهِ إِذا قَامَت الْبَيِّنَة وارتفع الأشكال، وعَلى هَذَا الْقيَاس يَنْبَغِي أَن تعْتَبر القضايا.
وَقضى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن على أهل الحوائط حفظهَا بِالنَّهَارِ وَأَن مَا أفسدت الْمَوَاشِي فَهُوَ ضَامِن على أَهلهَا أَقُول: السَّبَب الْمُقْتَضِي لهَذَا الْقَضَاء أَنه إِذا أفسدت الْمَوَاشِي حَوَائِط النَّاس كَانَ الْجور والعذر مَعَ كل وَاحِد، فَصَاحب الْمَاشِيَة يحْتَج بِأَنَّهُ لَا بُد أَن يسرح مَاشِيَته فِي المرعى وَإِلَّا هَلَكت جوعا، وَاتِّبَاع كل بَهِيمَة وحفظها يفْسد عَلَيْهِم الارتفاقات الْمَقْصُودَة، وَأَنه لَيْسَ لَهُ اخْتِيَار فِيمَا أتلفته بهيمته، وَأَن صَاحب الْحَائِط هُوَ الَّذِي قصر فِي حفظ مَاله وَتَركه فِي بمضيعة، وَصَاحب الْحَائِط يحْتَج بِأَن الْحَائِط لَا تكون إِلَّا خَارج الْبِلَاد فحفظها والذب عَنْهَا والاقامة عَلَيْهَا يفْسد حَاله، وَأَن صَاحب الْمَاشِيَة هُوَ الَّذِي سرحها فِي الْحَائِط أَو قصر فِي حفظهَا، فَلَمَّا دَار الْأَمر بَينهمَا وَكَانَ لكل وَاحِد جور وَعذر، وَجب أَن يرجع إِلَى الْعَادة المألوفة الفاشية بَينهم فيبنى، الْجور على مجاوزتها، وَالْعَادَة أَن يكون فِي كل حَائِط فِي النَّهَار من يعْمل فِيهِ، وَيصْلح أمره، ويحفظه. وَأما فِي اللَّيْل فيتركونه، ويبيتون فِي الْقرى والبلاد، وَأَن أهل الْمَاشِيَة يجمعُونَ ماشيتهم بِاللَّيْلِ فِي بُيُوتهم، ثمَّ يسرحونها فِي النَّهَار للرعي، فَاعْتبر الْجور أَن يُجَاوز الْعَادة الفاشية بَينهم.(2/243)
وَسُئِلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن الثَّمر الْمُعَلق، فَقَالَ:
" من أَصَابَهُ بِفِيهِ من ذِي حَاجَة غير متخذ خبنه فَلَا شَيْء عَلَيْهِ "
اعْلَم أَن دفع التظالم بَين النَّاس إِنَّمَا هُوَ أَن يقبض على يَد من يضر
بِالنَّاسِ وَيَتَعَدَّى عَلَيْهِم، لَا أَن يتبع شحهم وغمر نُفُوسهم، فَفِي صُورَة الْأكل من الثَّمر الْمُعَلق غير المحرز الْكثير الَّذِي لَا يشح مِنْهُ بشبع إِنْسَان مُحْتَاج إِذا لم يكن هُنَاكَ مُجَاوزَة حد الْعرف. وَلَا اتِّخَاذ خبنة، وَلَا رمي الْأَشْجَار بِالْحِجَارَةِ، فان الْعرف يُوجب الْمُسَامحَة فِي مثله، فَمن ادّعى فِي مثل ذَلِك فانه اتبع الشُّح، وَقصد الضرار. فَلَا يتبع، وَأما مَا كَانَ من ثَمَر مشفوة أَو اتِّخَاذ خبنة أَو رمى الْأَشْجَار أَو مُجَاوزَة الْحَد فِي الاتلاف بِوَجْه من الْوُجُوه فَفِيهِ التعرير والغرامة.
وَأما لبن الْمَاشِيَة فالافية فِيهِ متعارضة، وَقد بَينهَا النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقاسها تَارَة على الْمَتَاع المخزون فِي الْبيُوت، فَنهى عَن حلبه. وَتارَة على الثَّمر الْمُعَلق والأشياء غير المحرزة، فأباح مِنْهُ بِقدر الْحَاجة لمن لم يجد صَاحب المَال ليستأذنه، وَالْأَصْل فِيمَا اخْتلف فِيهِ الاحاديث وأظهرت الْعِلَل أَن يجمع بِاعْتِبَار تِلْكَ الْعِلَل، فحينما جرت الْعَادة ببذل مثله وَلَيْسَ هُنَاكَ شح وتضييق وَكَانَت حَاجَة جَازَ وَإِلَّا فَلَا، وعَلى مثل ذَلِك يَنْبَغِي أَن يعْتَبر تصرف الزَّوْجَة فِي مَال الزَّوْج وَالْعَبْد فِي مَال سَيّده
(الْحُدُود)
اعْلَم أَن من الْمعاصِي مَا شرع الله فِيهِ الْحَد، وَذَلِكَ كل مَعْصِيّة جمعت وُجُوهًا من المفسده، بِأَن كَانَت فَسَادًا فِي الأَرْض واقتضابا على طمأنينة الْمُسلمين، وَكَانَت لَهَا دَاعِيَة فِي نفوس بني آدم لَا تزَال تهيج فِيهَا، وَلها ضراوة لَا يَسْتَطِيعُونَ الاقلاع مِنْهَا بعد أَن أشربت قُلُوبهم بهَا، وَكَانَ فِيهِ ضَرَر لَا يَسْتَطِيع الْمَظْلُوم دَفعه عَن نَفسه فِي كثير من الأحيان، وَكَانَ كثير الْوُقُوع فِيمَا بَين النَّاس، فَمثل هَذِه الْمعاصِي لَا يَكْفِي فِيهَا التَّرْهِيب بِعَذَاب الْآخِرَة، بل لَا بُد من إِقَامَة ملامة شَدِيدَة عَلَيْهَا وإيلام، ليَكُون بَين أَعينهم ذَلِك، فيردعهم عَمَّا يريدونه.
كَالزِّنَا فَإِنَّهَا تهيج من الشبق وَالرَّغْبَة فِي جمال النِّسَاء، وَلها شرة وفيهَا عَار شَدِيد(2/244)
على أَهلهَا، وَفِي مزاحمة النَّاس على موطوأة تَغْيِير الجبلة الإنسانية، وَهِي مَظَنَّة المقاتلات والمحاربات فِيمَا بَينهم، وَلَا يكون غَالِبا إِلَّا بِرِضا الزَّانِيَة وَالزَّانِي، وَفِي الخلوات حَيْثُ لَا يطلع عَلَيْهَا إِلَّا الْبَعْض، فَلَو لم يشرع فِيهَا حد وجيع لم يحصل الردع.
كالسرقة فَإِن الْإِنْسَان كثيرا مَا لَا يجد كسبا صَالحا، فينحدر إِلَى السّرقَة وَلها ضراوة فِي نُفُوسهم، وَلَا يكون الاختفاء بِحَيْثُ لَا يرَاهُ النَّاس بِخِلَاف الْغَصْب، فانه يكون باحتجاج وشبهة لَا يثبتها الشَّرْع، وَفِي تضاعيف معاملات بَينهمَا وعَلى أعين النَّاس فَصَارَ مُعَاملَة من الْمُعَامَلَات.
وكقطع الطَّرِيق فانه لَا يَسْتَطِيع الْمَظْلُوم ذبه عَن نَفسه وَمَاله، وَلَا يكون فِي بِلَاد الْمُسلمين وَتَحْت شوكتهم فيدفعوا، فَلَا بُد لمثله أَن يُزَاد فِي الْجَزَاء والعقوبة، وكشرب الْخمر فان لَهَا شَرها وفيهَا فَسَادًا فِي الأَرْض وزوالا لمسكة عُقُولهمْ الَّتِي بهَا صَلَاح معادهم ومعاشهم،
وكالقذف فان الْمَقْذُوف يتَأَذَّى أَذَى شَدِيدا، وَلَا يقدر على دَفعه بِالْقَتْلِ وَنَحْوه لِأَنَّهُ إِن قتل قتل بِهِ، وَإِن ضرب ضرب بِهِ، فَوَجَبَ فِي مثله زاجر عَظِيم.
ثمَّ الْحَد إِمَّا قتل وَهُوَ زجر لَا زجر فَوْقه، وَإِمَّا قطع وَهُوَ إيلام شَدِيد وتفويت قُوَّة لَا يتم الِاسْتِقْلَال بالمعيشة دونهَا طول عمره ومثو عَار ظَاهر أَثَره بمرأى النَّاس لَا يَنْقَضِي، فان النَّفس إِنَّمَا تتأثر من وَجْهَيْن؛ النَّفس الواغلة فِي البهيمية يمْنَعهَا الايلام كالبقر. والجمل وَالَّتِي فِيهَا حب الجاه يردعه الْعَار اللَّازِم لَهُ اشد من الايلام، فَوَجَبَ جمع هذَيْن الْوَجْهَيْنِ فِي الْحُدُود
وَدون ذَلِك إيلام بِضَرْب يضم مَعَه مَا فِيهِ عَار، ظهر أَثَره كالتغريب وَعدم قبُول الشَّهَادَة والتبكيت
وَاعْلَم أَنه كَانَ من شَرِيعَة من قبلنَا الْقصاص فِي الْقَتْل، وَالرَّجم فِي الزِّنَا وَالْقطع فِي السّرقَة، فَهَذِهِ الثَّلَاث كَانَت متوارثة فِي الشَّرَائِع السماوية وأطبق عَلَيْهَا جَمَاهِير الْأَنْبِيَاء والأمم، وَمثل هَذَا يجب أَن يُؤْخَذ عَلَيْهِ بالنواجذ، وَلَا يتْرك، وَلَكِن الشَّرِيعَة المصطفوية تصرفت فِيهَا بِنَحْوِ آخر، فَجعلت مزجرة كل وَاحِد على طبقتين: إِحْدَاهمَا الشَّدِيدَة الْبَالِغَة أقْصَى المبالغ، وَمن حَقّهَا أَن تجْعَل فِي الْمعْصِيَة الشَّدِيدَة، وَالثَّانيَِة دونهَا، وَمن حَقّهَا أَن تجْعَل فِيمَا كَانَت الْمعْصِيَة دونهَا.(2/245)
فَفِي الْقَتْل الْقود وَالدية وَالْأَصْل فِيهِ قَوْله تَعَالَى:
{ذَلِك تَخْفيف من ربكُم}
قَالَ: ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا: كَانَ فيهم الْقصاص وَلم يكن فيهم الدِّيَة.
وَفِي الزِّنَا الْجلد، وَكَانَ الْيَهُود لما ذهبت شوكتهم، وَلم يقدروا على الرَّجْم ابتدعوا التجبيه. والتشحيم فَصَارَ ذَلِك تحريفا لشريعتهم، فَجمعت لنا بَين شريعتي من قبلنَا السماوية والابتداعية، وَذَلِكَ غَايَة رَحْمَة الله بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا
وَفِي السّرقَة الْعقُوبَة وغرامة مثلَيْهِ على مَا جَاءَ فِي الحَدِيث.
وَإِن حملت أَنْوَاع من الظُّلم عَلَيْهَا كالقذف. وَالْخمر فَجعلت لَهَا حدا فَإِن هَذِه أَيْضا بِمَنْزِلَة تِلْكَ الْمعاصِي وَإِن زَادَت فِي عُقُوبَة قطع الطَّرِيق.
وَاعْلَم أَن النَّاس على طبقتين - ولسياسة كل طبقَة وَجه خَاص _ طبقَة هم مستقلون، أَمرهم بأيدهم، وسياسة هَؤُلَاءِ أَن يؤخذوا على أعين النَّاس، ويوجعوا، وَيلْزم عَلَيْهِم عَار شَدِيد، ويهانوا، ويحقروا.
وطبقة هم بأيدي نَاس آخَرين أسراء عِنْدهم، وسياسة هَؤُلَاءِ أَن يُؤمر سادتهم أَن يحفظوهم عَن الشَّرّ، فَإِنَّهُ يظْهر لَهُم وَجه فِي حَبسهم عَن فعلهم ذَلِك، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِذا زنت أمة أحدكُم فليضرب " الحَدِيث، وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام:
" إِذا سرق عبد أحدكُم فبيعوه وَلَو بنش " فضبطت الطبقتان بِوَصْف ظَاهر، فَالْأولى الْأَحْرَار وَالثَّانيَِة الارقاء.
ثمَّ كَانَ من السَّادة من يتَعَدَّى على عبيده، ويحتج بِأَنَّهُ زنى، أَو سرق، وَنَحْو ذَلِك، فَكَانَ الْوَاجِب فِي مثله أَن يشرع على الأرقاء دون مَا على الْأَحْرَار ليقطع هَذَا النَّوْع، وَألا يخيروا فِي الْقَتْل وَالْقطع، وَأَن يخيروا فِيمَا دون ذَلِك.
وَالْحَد يكون كَفَّارَة لأحد وَجْهَيْن، لِأَن العَاصِي إِمَّا أَن يكون منقادا لأمر الله وَحكمه، مُسلما وَجهه لله فالكفارة فِي حَقه تَوْبَة عَظِيمَة، وَدَلِيله حَدِيث
" لقد تَابَ تَوْبَة لَو قسمت على أمة مُحَمَّد لوسعتهم ".(2/246)
وَإِمَّا أَن يكون إيلاما لَهُ وقسرا عَلَيْهِ، وسر ذَلِك أَن الْعَمَل يَقْتَضِي فِي حِكْمَة الله أَن يجازى فِي نَفسه أوماله، فَصَارَ مُقيم الْحَد خَليفَة الله فِي المجازاة فَتدبر.
قَالَ الله تَعَالَى:
{الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا كل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة جلدَة} .
وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ: إِن الله بعث مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ، وَأنزل عَلَيْهِ الْكتاب، فَكَانَ مِمَّا أنزل الله آيَة الرَّجْم، رجم رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورجمنا بعده، وَالرَّجم فِي كتاب الله حق على من زنى إِذا أحصن من الرِّجَال وَالنِّسَاء.
أَقُول: إِنَّمَا جعل حد الْمُحصن الرَّجْم، وحد غير الْمُحصن الْجلد؛ لِأَنَّهُ كَمَا يتم التَّكْلِيف ببلوغ خمس عشر سنة أَو نَحوه، وَلَا يتم دون ذَلِك لعدم تَمام الْعقل وَتَمام الجثة وَكَونه من الرِّجَال فَلذَلِك يَنْبَغِي أَن تَتَفَاوَت الْعقُوبَة المترتبة على التَّكْلِيف بأتمية الْعقل وصيرورته رجلا كَامِلا مُسْتقِلّا بأَمْره مستبدا بِرَأْيهِ، وَلِأَن الْمُحصن كَامِل وَغير الْمُحصن نَاقص، فَصَارَ وَاسِطَة بَين الْأَحْرَار الكاملين وَبَين العبيد، وَلم يعْتَبر ذَلِك إِلَّا فِي الرَّجْم خَاصَّة لِأَنَّهُ أَشد عُقُوبَة شرعت فِي حق الله.
وَأما الْقصاص فَحق النَّاس وهم محتاجون، فَلَا يضيع حُقُوقهم.
وَأما حد السّرقَة وَغَيرهَا فَلَيْسَ بِمَنْزِلَة الرَّجْم وَلِأَن الْمعْصِيَة مِمَّن أنعم الله عَلَيْهِ وفضله على كثير من خلقه أقبح وأشنع لِأَنَّهَا اشد الكفران، فَكَانَ من حَقّهَا أَن يُزَاد فِي الْعقُوبَة لَهَا، وَإِنَّمَا جعل حد الْبكر مائَة جلدَة لِأَنَّهَا عدد كثير مضبوط يحصل بِهِ الزّجر والإيلام، وَإِنَّمَا عُوقِبَ بالتغريب لِأَن الْعقُوبَة المأثرة تكون على وَجْهَيْن: إيلام فِي الْبدن وإلحاق حَيَاء وخجالة وعار وفقد مألوف فِي النَّفس، وَالْأول عُقُوبَة جسمانية، وَالثَّانِي عُقُوبَة نفسانية، وَلَا تتمّ الْعقُوبَة إِلَّا بِأَن تجمع الْوَجْهَيْنِ: قَالَ الله تَعَالَى:
{فَإِذا أحصن فَإِن أتين بِفَاحِشَة فعليهن نصف مَا على الْمُحْصنَات من الْعَذَاب} .
أَقُول السِّرّ فِي تصنيف الْعقُوبَة على الارقاء أَنهم يُفَوض أَمرهم إِلَى
مواليهم، فَلَو شرع فيهم مزجرة بَالِغَة أقْصَى المبالغ لفتح ذَلِك بَاب الْعدوان بِأَن يقتل الْمولى عَبده، ويحتج بِأَنَّهُ زَان، وَلَا يكون سَبِيل الْمُؤَاخَذَة عَلَيْهِ، فنقص من حَدهمْ، وَجعل مَا لَا يُفْضِي إِلَى الْهَلَاك، وَالَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي الْفرق بَين الْمُحصن وَغَيره يَتَأَتَّى هُنَا.
قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خُذُوا عني، خُذُوا عني، قد جعل الله لَهُنَّ سَبِيلا الْبكر بالبكر جلد مائَة، وتغريب عَام، وَالثَّيِّب بِالثَّيِّبِ، جلد مائَة، وَالرَّجم " وَعمل بِهِ عَليّ رَضِي الله عَنهُ(2/247)
أَقُول: اشْتبهَ هَذَا على النَّاس وظنوا مناقضا مَعَ رجمه الثّيّب وَعدم جلده، وَعِنْدِي أَنه لَيْسَ مناقضا لَهُ، وَأَن الْآيَة عَامَّة لَكِن يسن الإِمَام الِاقْتِصَار على الرَّجْم عِنْد وجوبهما، وَإِنَّمَا مثله مثل الْقصر فِي السّفر، فَإِنَّهُ لَو أتم جَازَ، لَكِن يسن لَهُ الْقصر، وَإِنَّمَا شرع ذَلِك لِأَن الرَّجْم عُقُوبَة عَظِيمَة، فتضمنت مَا دونهَا، وَبِهَذَا يجمع بَين قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا، وَعمل عَليّ رَضِي الله عَنهُ. وَبَين عمله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأكْثر خلفائه فِي الِاقْتِصَار على الرَّجْم، وَحَدِيث جَابر أَمر بِالْجلدِ، ثمَّ اخبر أَنه مُحصن، فَأمر بِهِ، فرجم يدل عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مَا أقدم على الْجلد إِلَّا لجَوَاز مثله مَعَ كل زَان.
وَعِنْدِي أَن التَّرْغِيب يحْتَمل الْعَفو، وَبِه بِجمع بَين الْآثَار.
لما قَالَ مَاعِز بن مَالك زَنَيْت فطهرني، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَعَلَّك قبلت أَو غمزت أَو نظرت؟ قَالَ: لَا يَا رَسُول الله قَالَ: أنكتها؟ قَالَ: نعم فَعِنْدَ ذَلِك أَمر برجمه ".
أَقُول الْحَد مَوضِع الاحيتاط، وَقد يُطلق الزِّنَا على مَا دون الْفرج كَقَوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فزنا اللِّسَان كَذَا وزنا الرجل كَذَا " فَوَجَبَ التثبت والتحقق فِي مثل ذَلِك.
وَاعْلَم أَن الْمقر على نَفسه بِالزِّنَا الْمُسلم نَفسه لإِقَامَة الْحَد تائب، والتائب كمن لَا ذَنْب لَهُ، فَمن حَقه أَلا يحد، لَكِن هُنَا وُجُوه مقتضية لإِقَامَة الْحَد عَلَيْهِ:
مِنْهَا أَنه لَو كَانَ إِظْهَار التَّوْبَة وَالْإِقْرَار درءا للحد لم يعجز كل زَان أَن يحتال إِذا استشعر بمؤاخذة الإِمَام بِأَن يعْتَرف، فيندرئ عَنهُ الْحَد، وَذَلِكَ مناقضة للْمصْلحَة.
وَمِنْهَا أَن التَّوْبَة لَا تتمّ إِلَّا أَن يعتضد بِفعل شاق عَظِيم لَا يَتَأَتَّى إِلَّا من مخلص، وَلذَلِك قَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَاعِز لما أسلم نَفسه للرجم: " لقد تَابَ تَوْبَة لَو قسمت بَين أمة مُحَمَّد لوسعتهم " وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام، فِي الغامدية " لقد تابت تَوْبَة تابها صَاحب مكس لغفر لَهُ ".
وَمَعَ ذَلِك فَيُسْتَحَب السّتْر عَلَيْهِ، وَهُوَ وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهزال " لَو كَسرته بثوبك لَكَانَ خيرا لَك "، وَأَن يُؤمر هُوَ أَن يَتُوب فِيمَا بَينه وَبَين الله، وَأَن يحتال فِي دَرْء الْحَد.(2/248)
قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. " إِذا زنت أمة أحدكُم، فَتبين زنَاهَا فليجلدها الْحَد، وَلَا يثرب عَلَيْهَا "، ثمَّ إِن زنت فليجلدها
الْحَد، وَلَا يثرب عَلَيْهَا " أَقُول: السِّرّ فِي ذَلِك أَن الْإِنْسَان مَأْمُور شرعا أَن يذب عَن حريمه الْمعاصِي ومجبول على ذَلِك خلقه، وَلَو لم يشرع الْحَد إِلَّا عِنْد الإِمَام لما اسْتَطَاعَ السَّيِّد إِقَامَته فِي كثير من الصُّور، وَلم يتَحَقَّق الذب عَن الذمار، وَلَو لم يحد مِقْدَار معِين للحد لتجاوز المتجاوز إِلَى حد الإهلاك أَو الايلام الزَّائِد عَن الْحَد، فَلذَلِك قَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يثرب ".
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أقيلوا ذوى الهيآت عثراتهم إِلَّا الْحُدُود " أَقُول: المُرَاد بذوي الهيآت أهل المروءات، أما أَن يعلم من رجل صَلَاح فِي الدّين، وَكَانَت العثرة أمرا فرط مِنْهُ على خلاف عَادَته، ثمَّ نَدم، فَمثل هَذَا يَنْبَغِي أَن يُجَاوز عَنهُ، أَو يَكُونُوا أهل نجدة وسياسة وَكبر فِي النَّاس، فَلَو أُقِيمَت الْعقُوبَة عَلَيْهِ فِي كل ذَنْب قَلِيل أَو كَبِير لَكَانَ فِي ذَلِك فتح بَاب التشاحن وَاخْتِلَاف على الامام وبغى عَلَيْهِ فان النُّفُوس كثيرا مَالا تحْتَمل ذَلِك.
وَأما الْحُدُود فَلَا يَنْبَغِي لَهَا أَن تهمل إِلَّا إِذا وجد لَهَا سَبَب شَرْعِي تندرئ بِهِ، وَلَو أهملت لتناقضت الْمصلحَة وَبَطلَت فَائِدَة الْحُدُود.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُخْدج يَزْنِي " خُذُوا لَهُ عثْكَالًا فِيهِ مائَة شِمْرَاخ فاضربوا بِهِ ".
اعْلَم أَن من لَا يَسْتَطِيع أَن يُقَام عَلَيْهِ الْحُدُود لضعف فِي جبلته، فان ترك سدى كَانَ مناقضا لتأكد الْحُدُود فانما اللَّائِق بالشرائع اللَّازِمَة الَّتِي جعلهَا الله تَعَالَى بِمَنْزِلَة الْأُمُور الجبلية أَن يَجْعَل كالمؤثر بالخاصية، ويعض عَلَيْهِ بالنواجذ، وَأَيْضًا فان فِيهِ بعض الْأَلَم الميسور لَا ضَرُورَة فِي تَركه.
وَاخْتلف فِي حد اللواطة، وَقيل. هِيَ من الزِّنَا، وَقيل: يقتل لحَدِيث " من وجدتموه يعْمل عمل قوم لوط فَاقْتُلُوا الْفَاعِل وَالْمَفْعُول بِهِ ".
قَالَ الله تَعَالَى:
{وَالَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات ثمَّ لم يَأْتُوا بأَرْبعَة شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جلدَة وَلَا تقبلُوا لَهُم شَهَادَة أبدا وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذين تَابُوا من بعد ذَلِك وَأَصْلحُوا فَإِن الله غَفُور رَحِيم} .
وَفِي حكم الْمُحْصنَات المحصنون بالاجماع، والمحصن حر مُكَلّف مُسلم عفيف من وَطْء يحد بِهِ.(2/249)
وَاعْلَم أَن هَهُنَا وَجْهَيْن متعارضين، وَذَلِكَ أَن الزِّنَا مَعْصِيّة كَبِيرَة يجب إخمالها وَإِقَامَة الْحَد عَلَيْهَا والمؤاخذة بهَا، وَكَذَلِكَ الْقَذْف مَعْصِيّة كَبِيرَة، وَفِيه إِلْحَاق عَار عَظِيم يجب إِقَامَة الْحَد عَلَيْهَا، وَيشْتَبه الْقَذْف بِالشَّهَادَةِ على الزِّنَا، فَلَو أَخذنَا الْقَاذِف لنقيم عَلَيْهِ الْحَد يَقُول: أَنا شَاهد على الزِّنَا، وَفِيه بطلَان لحد الْقَذْف وَالَّذِي هُوَ شَاهد على الزِّنَا يذبه عَن نَفسه الْمَشْهُود عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قَاذف يسْتَحق الْحَد، فَلَمَّا تعَارض الحدان فِي هَذِه الْجُمْلَة عَن سياسة الْأمة وَجب أَن يفرق بَينهمَا بِأَمْر ظَاهر وَذَلِكَ كَثْرَة المخبرين، فَإِنَّهُم إِذا كَثُرُوا قوى ظن الشَّهَادَة والصدق، وَضعف ظن الْقَذْف، فان الْقَذْف يستدعى جمع صفتين: ضَعِيف فِي الدّين، وغل بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَقْذُوف، وَيبعد أَن يجتمعا فِي جمَاعَة من الْمُسلمين وَإِنَّمَا لم يكتف بعدالة الشَّاهِدين لِأَن الْعَدَالَة مَأْخُوذَة فِي جَمِيع الْحُقُوق، فَلَا يظْهر للتعارض أثر، وضبطت الْكَثْرَة بِضعْف نِصَاب الشَّهَادَة.
وَإِنَّمَا جعل حد الْقَذْف ثَمَانِينَ لِأَنَّهُ يَنْبَغِي أَن يكون أقل من الزِّنَا، فان
إِشَاعَة فَاحِشَة لَيست بِمَنْزِلَة فعلهَا، وَضبط النُّقْصَان بِمِقْدَار ظَاهر وَهُوَ عشرُون، فَإِنَّهُ خمس الْمِائَة وَإِنَّمَا جعل من تَمام حَده عدم قبُول الشَّهَادَة لما ذكرنَا أَن الايلام قِسْمَانِ: جسماني. ونفساني. وَقد اعْتبر الشَّرْع جَمعهمَا فِي جَمِيع الْحُدُود لَكِن جمع مَعَ حد الزِّنَا التَّغْرِيب لِأَن الزِّنَا عِنْد سياسة وُلَاة الْأُمُور وَغَيره الأؤلياء لَا يتَصَوَّر إِلَّا بعد مُخَالطَة وممازجة وَطول صُحْبَة وائتلاف، فَجَزَاؤُهُ الْمُنَاسب لَهُ أَن يجلى عَن مَحل الْفِتْنَة، وَجمع مَعَ حد الْقَذْف عدم قبُول الشَّهَادَة، لِأَنَّهُ إِخْبَار، وَالشَّهَادَة إِخْبَار، فجوزي بِعَارٍ من جنس الْمعْصِيَة فان عدم قبُول الشَّهَادَة من الْقَاذِف عُقُوبَة، وَعدم قبُولهَا من سَائِر العصاة لفَوَات الْعَدَالَة وَالرِّضَا، وَأَيْضًا فقد ذكرنَا أَن الْقَاذِف لَا يعجز أَن يَقُول: أَنا شَاهد فَيكون سد هَذَا الْبَاب أَن يُعَاقب بِمثل مَا احْتج بِهِ، وَجمع فِي حد الْخمر التبكيت.
وَاخْتلفُوا فِي قَوْله تَعَالَى:
{إِلَّا الَّذين} .
هَل الِاسْتِثْنَاء رَاجع إِلَى عدم قبُول الشَّهَادَة أم لَا؟ وَالظَّاهِر مِمَّا مهدنا أَن الْفسق لما انْتهى وَجب أَن يَنْتَهِي أَثَره وعقوبته، وَقد اعْتَبرهُ الْخُلَفَاء لحد الزِّنَا فِي تنصيف الْعقُوبَة على الأرقاء.
قَالَ تَعَالَى:
{السَّارِق والسارقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا جَزَاء بِمَا كسبا نكالا من الله وَالله عَزِيز حَكِيم} .
اعْلَم أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث مُبينًا لما أنزل إِلَيْهِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:(2/250)
{لتبين للنَّاس} .
وَكَانَ أَخذ مَال الْغَيْر أقساما: مِنْهُ السّرقَة، وَمِنْه قطع الطَّرِيق، وَمِنْه الاختلاس، وَمِنْه الْخِيَانَة، وَمِنْه الِالْتِقَاط، وَمِنْه الْغَصْب، وَمِنْه مَا يُقَال لَهُ قلَّة المبالاة والورع، فَوَجَبَ أَن يبين النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقِيقَة السّرقَة متميزة عَن هَذِه الْأُمُور.
وَطَرِيق التميز أَن ينظر إِلَى ذاتيان هَذِه الْأَسَامِي الَّتِي لَا تُوجد فِي السّرقَة، وَيَقَع بهَا التفارق فِي عرف النَّاس، ثمَّ تضبط السّرقَة بِأُمُور مضبوطة مَعْلُومَة يحصل بهَا التَّمْيِيز مِنْهَا والاحتراز عَنْهَا، فَقطع الطَّرِيق. والنهب. والحرابة أَسمَاء تنبئ عَن اعْتِمَاد الْقُوَّة بِالنِّسْبَةِ إِلَى المظلومين، وَاخْتِيَار مَكَان أَو زمَان لَا تحلق فِيهِ الْغَوْث من جمَاعَة الْمُسلمين، والاختلاس يُنبئ عَن اختطاف على أعين النَّاس وَفِي مرأى مِنْهُم ومسمع، والخيانة تنبئ عَن تَقْدِيم شركَة أَو مباسطة وَإِذن بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ وَنَحْو ذَلِك، والالتقاط يُنبئ عَن وجدان شَيْء فِي غير حرز، وَالْغَصْب يُنبئ عَن غَلَبَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَظْلُوم لَا مُعْتَمدًا على الْحَرْب والهرب وَلَكِن على الجدل وَظن أَلا يرفع قَضيته إِلَى الْوُلَاة وَلَا ينْكَشف عَلَيْهِم جبلة الْحَال وَقلة المبالاة، والورع يُقَال فِي الشَّيْء التافه الَّذِي جرى الْعرف ببذله والمواساة بِهِ بَين النَّاس كَالْمَاءِ. والحطب، فضبط النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاحْتِرَاز على ذاتيات هَذِه الْأَسَامِي.
قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا تقطع يَد السَّارِق إِلَّا فِي ربع دِينَار " وروى الْقطع فِيمَا بلغ ثمن الْمِجَن، وروى أَنه قطع فِي مجن ثمنه ثَلَاثَة دَرَاهِم، وَقطع عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ فِي أترجة ثمنهَا ثَلَاثَة دَرَاهِم من صرف اثْنَي عشر درهما.
وَالْحَاصِل أَن هَذِه التقديرات الثَّلَاث كَانَت منطبقة على شَيْء وَاحِد فِي زَمَانه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثمَّ اخْتلفت بعده، وَلم يصلح الْمِجَن للاعتبار لعدم انضباطه، فَاخْتلف الْمُسلمُونَ فِي الْحَدِيثين الآخرين: فَقيل: ربع دِينَار،
وَقيل: ثَلَاثَة دَرَاهِم قيل: بُلُوغ المَال إِلَى حد القدرين وَهُوَ الْأَظْهر عِنْدِي، وَهَذِه شرعة النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرقا بَين التافه وَغَيره لِأَنَّهُ لَا يصلح للتقدير جنس دون جنس لاخْتِلَاف الأسعار فِي الْبلدَانِ، وَاخْتِلَاف الْأَجْنَاس نفاسة وخساسة بِحَسب اخْتِلَاف الْبِلَاد، فمباح قوم وتافههم مَال عَزِيز عِنْد آخَرين، فَوَجَبَ أَن يعْتَبر التَّقْدِير فِي الثّمن، وَقيل: يعْتَبر فيهمَا، وَأَن الْحَطب وَإِن كَانَ قِيمَته عشرَة دَرَاهِم لَا يقطع فِيهِ.(2/251)
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا قطع فِي ثَمَر مُعَلّق وَلَا فِي حريسة الْجَبَل فَإِذا آواه المراح والجرين فالقطع فِيمَا بلغ ثمن الْمِجَن " وَسُئِلَ عَن الثَّمر الْمُعَلق، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " من سرق مِنْهُ شَيْئا بعد ان يؤويه الجرين فَبلغ ثمن الْمِجَن فَعَلَيهِ الْقطع ".
أَقُول: أفهم النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن الْحِرْز شَرط الْقطع وَسبب ذَلِك أَن غير المحرز يُقَال فِيهِ الِالْتِقَاط فَيجب الِاحْتِرَاز عَنهُ.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَيْسَ على خائن وَلَا منتهب وَلَا مختلس قطع ".
أَقُول. أفهم النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه لَا بُد فِي السّرقَة من أَخذ المَال مختفيا وَإِلَّا كَانَ نهبة أَو خطْفَة وَألا يتقدمها شركَة وَلُزُوم حق، وَإِلَّا كَانَ خِيَانَة أَو اسْتِيفَاء لحقه.
وَفِي الْآثَار فِي العَبْد يسرق مَال سَيّده إِنَّمَا هُوَ ملك بعضه فِي بعض.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اسارق:
" اقطعوه ثمَّ احسموه " أَقُول: إِنَّمَا أَمر بالحسم لِئَلَّا يسري فَيهْلك، فان الحسم سَبَب عدم السَّرَايَة، وَأمر عَلَيْهِ السَّلَام بِالْيَدِ فعلقت فِي عنق السَّارِق أَقُول. إِنَّمَا فعل هَذَا للتشهير، وليعلم النَّاس أَنه سَارِق وفرقا بَين مَا يقطع الْيَد ظلما وَبَين مَا يقطع حدا.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرقَة مَا دون النّصاب: " عَلَيْهِ الْعقُوبَة وغرامة مثيلة ".
أَقُول: إِنَّمَا أَمر بغرامة المثلين لِأَنَّهُ لَا بُد من ردع وعقوبة مَالِيَّة وبدنية، فَإِن الْإِنْسَان رُبمَا يرتدع بِالْمَالِ أَكثر من ألم الْجَسَد. وَرُبمَا يكون الْأَمر بِالْعَكْسِ فَجمع بَين ذَلِك، ثمَّ غَرَامَة مثله يَجْعَل كَأَن لم لَكِن يسرق وَلَيْسَ فِيهِ عُقُوبَة، وَلذَلِك زيدت غَرَامَة أُخْرَى لتَكون مناقضة لقصده فِي السّرقَة.
وأتى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلص قد اعْترف اعترافا وَلم يُوجد مَعَه مَتَاع، فَقَالَ: مَا إخالك سرقت قَالَ: بلَى فَأَعَادَ عَلَيْهِ مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا فَأمر بِهِ فَقطع، وجئ بِهِ فَقَالَ. قل اسْتغْفر الله وَأَتُوب إِلَيْهِ، فَقَالَ. اسْتغْفر الله وَأَتُوب إِلَيْهِ قَالَ. اللَّهُمَّ تب عَلَيْهِ ثَلَاثًا ".
أَقُول: السَّبَب فِي ذَلِك أَن العَاصِي الْمُعْتَرف بِذَنبِهِ النادم عَلَيْهِ يسْتَحق أَن يحتال فِي دَرْء الْحَد عَنهُ، وَقد ذكرنَا قَوْله الله تَعَالَى:(2/252)
{إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله} الْآيَة.
أَقُول: الْحِرَابَة لَا تكون إِلَّا مُعْتَمدَة على الْقِتَال بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَمَاعَة الَّتِي وَقع الْعدوان عَلَيْهَا، وَالسَّبَب فِي مَشْرُوعِيَّة هَذَا الْحَد أَشد من حد السّرقَة أَن الِاجْتِمَاع الْكثير من بني آدم لَا يَخْلُو من أنفس تغلب عَلَيْهِم الْخصْلَة السبعية لَهُم جزاءه شديده وقتال واجتماع فَلَا يبالون بِالْقَتْلِ والنهب، وَفِي ذَلِك مفْسدَة اعظم من السّرقَة لِأَنَّهُ يتَمَكَّن أهل الْأَمْوَال من حفظ أَمْوَالهم من السراق، وَلَا يتَمَكَّن أهل الطَّرِيق من التمنع من قطاع الطَّرِيق، وَلَا يَتَيَسَّر
لولاة الْأُمُور وَجَمَاعَة الْمُسلمين نصرتهم فِي ذَلِك الْمَكَان وَالزَّمَان، وَلِأَن دَاعِيَة الْفِعْل من قطاع الطَّرِيق أَشد وَأَغْلظ، فَإِن الْقَاطِع لَا يكون إِلَّا جرئ الْقلب قوي الْجنان، وَيكون فِيمَا هُنَالك اجْتِمَاع واتفاق بِخِلَاف السراق، فَوَجَبَ أَن تكون عُقُوبَته أغْلظ من عُقُوبَته
وَالْأَكْثَرُونَ على أَن الْجَزَاء على التَّرْتِيب وَهُوَ الْمُوَافق لقَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا يقتل الْمُؤمن إِلَّا لأحدى ثَلَاث " الحَدِيث، وَقيل: على التَّخْيِير وَهُوَ الْمُوَافق لكلمة " أَو " وَعِنْدِي أَن قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" المفارق للْجَمَاعَة " يحْتَمل أَن يكون قد جمع العلتين وَالْمرَاد أَن كل عِلّة تفِيد الحكم كَمَا جمع النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَين العلتين، فَقَالَ:
" لَا يخرج الرّجلَانِ يضربان الْغَائِط كاشفين عَن عودتهما يتحدثان " فكشف الْعَوْرَة سَبَب اللَّعْن والتحديث فِي مثل تِلْكَ الْحَالة أَيْضا سَبَب اللَّعْن.
قَالَ الله تَعَالَى:
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَنما الْخمر وَالْميسر والأنصاب والأزلام رِجْس من عمل الشَّيْطَان فَاجْتَنبُوهُ لَعَلَّكُمْ تفلحون، إِنَّمَا يُرِيد الشَّيْطَان أَن يُوقع بَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء فِي الْخمر وَالْميسر ويصدكم عَن ذكر الله وَعَن الصلواة فَهَل أَنْتُم مُنْتَهُونَ} .
أَقُول: بَين الله تَعَالَى أَن فِي الْخمر مفسدتين: مفْسدَة فِي النَّاس، فان شاربها يلاحي الْقَوْم يعدوا عَلَيْهِم، ومفسدة فِيمَا يرجع إِلَى تَهْذِيب نَفسه، فان شاربها يغوص فِي حَالَة بهيمية، وَيَزُول عقله الَّذِي بِهِ قوام الاحسان
وَلما كَانَ قَلِيل الْخمر يَدْعُو إِلَى كَثِيره وَجب عِنْد سياسة الْأمة أَن يدار التَّحْرِيم على كَونهَا مسكرة، لَا على وجود السكر فِي الْحَال.
ثمَّ بَين النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن الْخمر مَا هِيَ، فَقَالَ:
" كل مُسكر خمر وكل مُسكر حرَام " وَقَالَ: "(2/253)
الْخمر من هَاتين الشجرتين النَّخْلَة والعنبة " وتخصيصهما بِالذكر لما كَانَ حَال تِلْكَ الْبِلَاد، وَسُئِلَ عَلَيْهِ السَّلَام عَن المزر والبتع، فَقَالَ: " كل مُسكر حرَام " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" مَا أسكر كَثِيره فقليله حرَام " أَقُول: هَذِه الْأَحَادِيث مستفيضة، وَلَا أَدْرِي أَي فرق بَين العنبى وَغَيره لِأَن التَّحْرِيم مَا نزل إِلَّا للمفاسد الَّتِي نَص الْقُرْآن عَلَيْهَا وَهِي مَوْجُودَة فيهمَا، وَفِيمَا سواهُمَا سَوَاء
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من شرب الْخمر فِي الدُّنْيَا فَمَاتَ وَهُوَ يدمنها لم يتب لم يشْربهَا فِي الْآخِرَة " أَقُول: وَسبب ذَلِك أَن الغائص فِي الْحَالة البهيمية الْمُدبرَة عَن الْإِحْسَان لَيْسَ لَهُ فِي لذات الْجنان نصيب، فَجعل شرب الْخمر وإدمانها وَعدم التَّوْبَة مِنْهَا مَظَنَّة للغوص، وأدير الحكم عَلَيْهَا، وَخص من لذات الْجنان الْخمر، ليظْهر تخَالف اللذتين بادئ الرَّأْي، وَأَيْضًا أَن النَّفس إِذا انهمكت فِي اللَّذَّة البهيمية فِي ضمن فعل تمثل هَذَا الْفِعْل عِنْدهَا شبحا لتِلْك اللَّذَّة يتذكرها بتذكرها، فَلَا يسْتَحق أَن تتمثل اللَّذَّة الاحسانية بصورتها، وَأَيْضًا فَأمر الْجَزَاء على الْمُنَاسبَة، فَمن عصى بالاقدام على شَيْء فَجَزَاؤُهُ أَن يؤلم يفقد مثل تِلْكَ اللَّذَّة عِنْد طلبه لَهَا واستشرافه عَلَيْهَا
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِن على الله عهدا لمن شرب الْمُسكر أَن يسْقِيه من طِينَة الخبال وطينة عصارة أهل النَّار ".
أَقُول: السِّرّ فِي ذَلِك أَن الْقَيْح وَالدَّم أقبح الْأَشْيَاء السيالة عندنَا وأحقرها
واشدها نعزة بِالنِّسْبَةِ للطبائع السليمة، وَالْخمر شَيْء سيال فَنَاسَبَ أَن يتَمَثَّل مَقْرُونا بِصفة الْقبْح فِي صُورَة طِينَة الخبال وَذَلِكَ كَمَا قَالُوا فِي الْمُنكر والنكير: إنَّهُمَا إِنَّمَا كَانُوا أزرقين لِأَن الْعَرَب يكْرهُونَ الزرقة، وَقد ذكرنَا أَن بعض الوقائع الْخَارِجَة بِمَنْزِلَة الْمَنَام فِي ذَلِك
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من شرب الْخمر لم يقبل الله لَهُ صَلَاة أَرْبَعِينَ صباحا فان تَابَ تَابَ الله عَلَيْهِ ".
أَقُول: السِّرّ فِي عدم قبُول صلَاته أَن ظُهُور صفة الْبَهِيمَة وغلبتها على الملكية بالإقدام على الْمعْصِيَة اجتراء على الله وغوص نَفسه فِي حَالَة رذيلة تنَافِي الْإِحْسَان وتضاده، وَيكون سَببا لفقد اسْتِحْقَاق أَن تَنْفَع الصَّلَاة فِي نَفسه نفع الْإِحْسَان وَأَن تنقاد نَفسه للحالة الإحسانية.(2/254)
وَكَانَ الشَّارِب يُؤْتى بِهِ إِلَى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيأمر بضربه فَيضْرب بالنعال والأردية وَالْيَد حَتَّى يبلغ أَرْبَعِينَ ضَرْبَة، ثمَّ قَالَ: " بكتوه " فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ يَقُولُونَ: مَا اتَّقَيْت الله، مَا خشيت الله، مَا استحييت من رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ! وروى أَنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخذ تُرَابا من الأَرْض فَرمى بهَا وَجهه.
أَقُول: السَّبَب فِي نُقْصَان هَذَا الْحَد بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَائِر الْحُدُود أَن سَائِر الْحُدُود لوُجُود مفْسدَة بِالْفِعْلِ أَن يكون سرق مَتَاعا أَو قطع طَرِيق أَو زنى قذف، وَأما هَذَا فقد أَتَى بمظنة الْفساد دون الْفساد فَلذَلِك نقص عَن الْمِائَة وَإِنَّمَا كَانَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضْرب أَرْبَعِينَ لِأَنَّهُ مَظَنَّة الْقَذْف والمظنة يَنْبَغِي أَن تكون أقل من نفس الشَّيْء بِمَنْزِلَة نصفه.
ثمَّ لما كثر الْفساد جعل الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم حَده ثَمَانِينَ إِمَّا لِأَنَّهُ أخف
حد فِي كتاب الله فَلَا يُجَاوز غير الْمَنْصُوص عَن أقل الْحُدُود، وَإِمَّا لِأَن الشَّارِب يقذف غَالِبا إِن لم يكن زنى أَو قتل، وَالْغَالِب حكمه حكم الْمُتَيَقن وَأما سر التبكيت فقد ذكرنَا من قبل.
قَالَ النَّبِي أَيْنَمَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِن أهلك الَّذين من قبلكُمْ أَنهم كَانُوا إِذا سرق مِنْهُم الشريف تَرَكُوهُ وَإِذا سرق مِنْهُم الضَّعِيف أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَد، وَايْم وَالله لَو أَن فَاطِمَة بنت مُحَمَّد سرقت لَقطعت يَدهَا " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من حَالَتْ شَفَاعَته دون حد من حُدُود الله فقد ضاد الله " أَقُول: علم النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن حفظ جاه الشرفاء والمسامحة مَعَهم والذب عَنْهُم والشفاعة فِي أَمرهم أَمر توارد عَلَيْهِ الْأُمَم وانقاد لَهَا طوائف النَّاس من الْأَوَّلين والآخرين، فأكد فِي ذَلِك وسجل، فان الشَّفَاعَة والمسامحة بالشرفاء مناقضة لشرع الله الْحُدُود.
وَنهى رَسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن لعن الْمَحْمُود أَو الْوُقُوع فِيهِ لِئَلَّا يكون سَببا لِامْتِنَاع النَّاس عَن إِقَامَة الْحَد، وَلِأَن الْحَد كَفَّارَة، وَالشَّيْء إِذا تدورك بِالْكَفَّارَةِ صَار كَأَن لم يكن، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ إِنَّه لفي انهار الْجنَّة منغمس بهَا ".
وَيلْحق بالحدود مزجرتان أخريان: إِحْدَاهمَا عُقُوبَة هتك حُرْمَة الْملَّة، وَالثَّانيَِة الذب عَن الأمامة، وَالْأَصْل فِي الأولى قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ " وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يجب أَن يُقَام اللائمة الشَّدِيدَة على الْخُرُوج من الْملَّة وَإِلَّا لانفتح بَاب هتك حُرْمَة الْملَّة، ومرضى الله تَعَالَى أَن تجْعَل الْملَّة السماوية بِمَنْزِلَة الْأَمر المجبول عَلَيْهِ الَّذِي لَا يَنْفَكّ عَنهُ، وَتثبت الرِّدَّة بقول يدل على نعني الصَّانِع أَو الرُّسُل أَو تَكْذِيب رَسُول أَو فعل تعمد بِهِ استهزاء صَرِيحًا بِالدّينِ، وَكَذَا إِنْكَار ضروريات الدّين، قَالَ الله تَعَالَى:(2/255)
{وطعنوا فِي دينكُمْ} .
وَكَانَت يَهُودِيَّة تَشْتُم النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقَع فِيهِ فخنقها رجل حَتَّى مَاتَت فَأبْطل النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَمهَا، وَذَلِكَ لانْقِطَاع ذمَّة الذِّمِّيّ بالطعن فِي دين الْمُسلمين والشتم والإيذاء الظَّاهِر.
قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنا برِئ من كل مُسلم مُقيم بَين أظهر الْمُشْركين، لَا يتَرَاءَى ناراهما ".
أَقُول: السَّبَب فِي ذَلِك أَن الِاخْتِلَاط معم وتكثير سوادهم إِحْدَى النصرتين لَهُم، ثمَّ ضبط النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبعد من أَحيَاء الْكفَّار بِأَن يكون مِنْهُم بِحَيْثُ لَو أوقدت نَارا على أرفع مَكَان فِي بلدهم أَو حلتهم لم تظهر للآخرين، وَالْأَصْل فِي الثَّانِيَة قَوْله تَعَالَى:
{فَإِن بَغت إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى فَقَاتلُوا الَّتِي تبغي حَتَّى تفئ إِلَى أَمر الله} .
وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذا بُويِعَ لخليفتين فَاقْتُلُوا الآخر مِنْهُمَا "
أَقُول: السَّبَب فِي ذَلِك أَن الامامة مَرْغُوب فِيهَا طبعا، وَلَا يخلوا اجْتِمَاع النَّاس فِي الأقاليم من رجل يجترئ لأَجلهَا على الْقِتَال، ويجتمع لنصرته الرِّجَال، فَلَو ترك وَلم يقتل لقتل الْخَلِيفَة ثمَّ قَاتله آخر وهلم جرا، وَفِيه فَسَاد عَظِيم للْمُسلمين، وَلَا ينسد بَاب هَذِه الْمَفَاسِد إِلَّا بِأَن تكون السّنة بَين الْمُسلمين أَن الْخَلِيفَة إِذا انْعَقَدت خِلَافَته، ثمَّ خرج آخر ينازعه حل قَتله وَوَجَب على الْمُسلمين نصْرَة الْخَلِيفَة عَلَيْهِ، ثمَّ الَّذِي خرج بِتَأْوِيل لمظلمة يُرِيد دَفعهَا عَن نَفسه وعشيرته أَو لنقيصة يثبتها فِي الْخَلِيفَة ويحتج عَلَيْهَا بِدَلِيل شَرْعِي بعد أَلا يكون مُسلما عِنْد جُمْهُور الْمُسلمين وَلَا يكون أمرا من الله فِيهِ عِنْدهم
برهَان لَا يَسْتَطِيعُونَ إِنْكَاره فَأمره دون الْأَمر الَّذِي خرج يفْسد فِي الأَرْض وَيحكم السَّيْف دون الشَّرْع، فَلَا يَنْبَغِي أَن يجعلا بِمَنْزِلَة وَاحِدَة، فَلذَلِك كَانَ الأول أَن يبْعَث الإِمَام إِلَيْهِم فطنا ناصحا عَالما يكْشف شبهتهم أَو يدْفع عَنْهُم مظلتهم كَمَا بعث أَمر الْمُؤمنِينَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ عبد الله بن وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ إِلَى الحرورية، فَإِن رجعُوا إِلَى جمَاعَة الْمُسلمين فِيهَا وَإِلَّا قَاتلهم وَلَا يقتل مدبرهم وَلَا أسيرهم وَلَا يُجهز على جريحهم لِأَن الْمَقْصُود إِنَّمَا هُوَ دفع شرهم وتفريق جَمَاعَتهمْ وَقد حصل، وَأما الثَّانِي فَهُوَ من الْمُحَاربين وَحكمه حكم الْمُحَارب.
(الْقَضَاء)
اعْلَم أَن من الْحَاجَات الَّتِي يكثر وُقُوعهَا وتشتد مفسدتها المناقشات فِي النَّاس؛ فانها(2/256)
تكون باعثة على الْعَدَاوَة والبغضاء وَفَسَاد ذَات الْبَين، وتهيج الشُّح على غمط الْحق وَألا ينقاد للدليل فَوَجَبَ أَن يبْعَث فِي كل نَاحيَة من يفصل قضاياهم بِالْحَقِّ، ويقهرهم على الْعَمَل بِهِ أشاءوا أم أَبَوا، وَلذَلِك كَانَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعتني ببعث قُضَاة اعتناء شَدِيدا، ثمَّ لم يزل الْمُسلمُونَ على ذَلِك، ثمَّ لما كَانَ الْقَضَاء بَين النَّاس مَظَنَّة الْجور والحيف وَجب أَن يدهب النَّاس عَن الْجور فِي الْقَضَاء وَأَن يضْبط الكليات الَّتِي يرجع إِلَيْهَا الْأَحْكَام.
قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من جعل قَاضِيا بَين النَّاس فقد ذبح بِغَيْر سكين ".
أَقُول: هَذَا بَيَان أَن الْقَضَاء حمل ثقيل وَإِن الْإِقْدَام عَلَيْهِ مَظَنَّة الْهَلَاك إِلَّا أَن يَشَاء الله.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من ابْتغى الْقَضَاء وَسَأَلَهُ وكل إِلَى نَفسه وَمن أكره عَلَيْهِ أنزل الله ملكا يسدده ".
أَقُول: السِّرّ فِيهِ أَن الطَّالِب لَا يَخْلُو غَالِبا من دَاعِيَة نفسانية من مَال أَو جاه أَو التَّمَكُّن من انتقام عَدو نَحْو ذَلِك فَلَا يتَحَقَّق مِنْهُ خلوص النِّيَّة الَّذِي هُوَ سَبَب نزُول البركات.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" الْقُضَاة ثَلَاثَة وَاحِد فِي الْجنَّة وَاثْنَانِ فِي النَّار فَأَما الَّذِي فِي الْجنَّة فَرجل عرف الْحق وَقضى بِهِ، وَرجل عرف الْحق فجار فِي الحكم فَهُوَ فِي النَّار، وَرجل قضى للنَّاس على جهل فَهُوَ فِي النَّار ".
أَقُول: فِي هَذَا الحَدِيث أَنه لَا يسْتَوْجب الْقَضَاء إِلَّا من كَانَ عدلا بَرِيئًا من الْجور والميل قد عرف مِنْهُ ذَلِك. وعالما يعرف الْحق لَا سِيمَا فِي مسَائِل الْقَضَاء، والسر فِي ذَلِك وَاضح فَإِنَّهُ لَا يتَصَوَّر وجود الْمصلحَة الْمَقْصُودَة إِلَّا بهَا.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا يقضين حكم بَين اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَان ".
أَقُول: السَّبَب الْمُقْتَضِي لذَلِك أَن الَّذِي اشْتغل قلبه بِالْغَضَبِ لَا يتَمَكَّن من التَّأَمُّل فِي الدَّلَائِل والقرائن وَمَعْرِفَة الْحق.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِذا حكم الْحَاكِم فاجتهد فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ وَإِذا حكم فاجتهد فَأَخْطَأَ فَلهُ أجر وَاحِد " اجْتهد يَعْنِي بذل طاقته فِي انباع الدَّلِيل؛ وَذَلِكَ لِأَن التَّكْلِيف بِقدر الوسع وَإِنَّمَا وسع الْإِنْسَان أَن يجْتَهد وَلَيْسَ فِي وَسعه أَن يُصِيب الْحق أَلْبَتَّة.(2/257)
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعَلي رَضِي الله عَنهُ: " إِذا تقاضى إِلَيْك رجلَانِ فَلَا تقض للْأولِ حَتَّى تسمع كَلَام الآخر فَإِنَّهُ أَحْرَى أَن يتَبَيَّن لَك الْقَضَاء أَقُول: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عِنْد مُلَاحظَة الحجتين يظْهر التَّرْجِيح ".
وَأعلم أَن الْقَضَاء فِيهِ مقامان: أَحدهمَا أَن يعرف جلية الْحَال الَّتِي تشاجرا فِيهِ، وَالثَّانِي الحكم الْعدْل فِي تِلْكَ الْحَالة، وَالْقَاضِي قد يحْتَاج إِلَيْهِمَا وَقد يحْتَاج إِلَى أَحدهمَا فَقَط فَإِذا ادّعى كل وَاحِد أَن هَذَا الْحَيَوَان مثلا ملكه قد ولد فِي يَده، وَهَذَا الْحجر التقطه من جبل ارْتَفع الْإِشْكَال لمعْرِفَة جلية الْحَال.
والقضية الَّتِي وَقعت بَين عَليّ، وَزيد، وجعفر رَضِي الله عَنْهُم فِي حضَانَة بنت حَمْزَة رَضِي الله عَنهُ كَانَت جلية الْحَال مَعْلُومَة وَإِنَّمَا كَانَ الْمَطْلُوب الحكم.
وَإِذا ادّعى وَاحِد على الآخر الْغَصْب وَالْمَال متغير صفته وَأنكر الآخر
وَقعت الْحَاجة أَولا إِلَى معرفَة جلية الْحَال هَل كَانَ هُنَاكَ غصب أَولا، وَثَانِيا إِلَى الحكم هَل يحكم بردعين الْمَغْصُوب أَو قِيمَته، وَقد ضبط النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلا المقامين بضوابط كُلية، أما الْمقَام الأول فَلَا أَحَق فِيهِ من الشَّهَادَات والأيمان فَإِنَّهُ لَا يُمكن معرفَة الْحَال إِلَّا باخبار من حضرها أَو بِإِخْبَار صَاحب الْحَال مؤكدا بِمَا يظنّ أَنه لَا يكذب مَعَه، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَو يعْطى النَّاس بدعواهم لادعى نَاس دِمَاء رجال وَأَمْوَالهمْ وَلَكِن الْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي وَالْيَمِين على الْمُدَّعِي عَلَيْهِ " فالمدعي هُوَ الَّذِي يَدعِي خلاف الظَّاهِر وَيثبت الزِّيَادَة، وَالْمُدَّعى عَلَيْهِ هُوَ مستصحب الأَصْل والمتمسك بِالظَّاهِرِ وَلَا عدل ثمَّ من أَن يعْتَبر فِيمَن يَدعِي بَيِّنَة وفيمن يتَمَسَّك بِالظَّاهِرِ ويدرأ عَن نَفسه الْيَمين إِذا لم تقم حجَّة الآخر.
وَقد أَشَارَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى سَبَب مَشْرُوعِيَّة هَذَا الأَصْل حَيْثُ قَالَ: " لَو يعْطى النَّاس " الخ يَعْنِي كَانَ سَببا للتظالم فَلَا بُد من حجَّة، ثمَّ أَنه يعْتَبر فِي الشَّاهِد صفة كَونه مرضيا عَنهُ لقَوْله تَعَالَى:
{مِمَّن ترْضونَ من الشُّهَدَاء} .
وَذَلِكَ بِالْعقلِ. وَالْبُلُوغ. والضبط. والنطق. وَالْإِسْلَام. وَالْعَدَالَة. والمروءة. وَعدم التُّهْمَة.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا تجوز شَهَادَة خائن وَلَا خَائِنَة وَلَا زَان وَلَا زَانِيَة، وَلَا ذِي غمر على(2/258)
أَخِيه وَترد شَهَادَة القانع لأهل الْبَيْت " وَقَالَ الله تَعَالَى فِي القذفة:
{وَلَا تقبلُوا لَهُم شَهَادَة أبدا وَأُولَئِكَ هم الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذين تَابُوا} الْآيَة.
وَفِي حكم الْقَذْف. وَالزِّنَا سَائِر الْكَبَائِر، وَذَلِكَ لِأَن الْخَبَر يحْتَمل فِي نَفسه الصدْق وَالْكذب وَإِنَّمَا يتَرَجَّح أحد المحتملين بِالْقَرِينَةِ، وَهِي إِمَّا فِي الْمخبر أَو الْمخبر عَنهُ أَو غَيرهمَا، وَلَيْسَ شَيْء من ذَلِك مضبوطا يحِق أَن يدار عَلَيْهِ الحكم التشريعي إِلَّا صِفَات الْمخبر غير مَا ذكرنَا من الظَّاهِر والاستصحاب، وَقد اعْتبر مرّة حَيْثُ شرع للْمُدَّعِي الْبَيِّنَة وَالْمُدَّعى عَلَيْهِ الْيَمين ثمَّ اعْتبر عدد الشُّهُود على أطوار وزعها على أَنْوَاع الْحُقُوق، فالزنا لَا يثبت إِلَّا بأَرْبعَة شُهَدَاء. وَالْأَصْل فِيهِ قَوْله تَعَالَى:
{وَالَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات ثمَّ لم يَأْتُوا بأَرْبعَة شُهَدَاء} الْآيَة.
وَقد ذكر سَبَب مَشْرُوعِيَّة هَذَا من قبل.
وَلَا يعْتَبر فِي الْقصاص وَالْحُدُود إِلَّا شَهَادَة رجلَيْنِ، وَالْأَصْل فِيهِ قَول الزُّهْرِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: جرت السّنة من عهد رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلا تقبل شَهَادَة النِّسَاء فِي الْحُدُود، وَيعْتَبر فِي الْحُقُوق الْمَالِيَّة شَهَادَة رجل وَامْرَأَتَيْنِ، وَالْأَصْل فِيهِ قَوْله تَعَالَى:
{فَإِن لم يَكُونَا رجلَيْنِ فَرجل وَامْرَأَتَانِ} .
وَقد نبه الله تَعَالَى على سَبَب مَشْرُوعِيَّة الْكَثْرَة فِي جَانب النِّسَاء " فَقَالَ:
{أَن تضل إِحْدَاهمَا فَتذكر إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى} .
يَعْنِي هن ناقصات الْعقل، فَلَا بُد من جبر هَذَا النُّقْصَان بِزِيَادَة الْعدَد.
وَقضى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاهِد وَيَمِين وَذَلِكَ لِأَن الشَّاهِد الْعدْل إِذا لحق مَعَه الْيَمين تَأَكد الْأَمر، وَأمر الشَّهَادَات لَا بُد فِيهِ توسعة، وَجَرت السّنة أَنه إِذا كَانَ ريب زكى الشَّاهِدَانِ، وَذَلِكَ لِأَن شَهَادَتهمَا إِنَّمَا
اعْتبرت من جِهَة صفاتهما المرجحة للصدق على الْكَذِب فَلَا بُد من تبينها.
وَجَرت السّنة أَنه إِذا كَانَ ريب غلظت الْأَيْمَان بِالزَّمَانِ وَالْمَكَان وَاللَّفْظ، وَذَلِكَ لِأَن الْأَيْمَان إِنَّمَا صَارَت دَلِيلا على صدق الْخَبَر من جِهَة اقتران قرينَة تدل على أَنه لَا يقدم على الْكَذِب مَعهَا فَكَانَ حَقّهَا إِذا كَانَ زِيَادَة ريب طلب قُوَّة الْقَرَائِن، فِي اللَّفْظ زياده الْأَسْمَاء وَالصِّفَات، وَالْأَصْل فِيهِ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " احْلِف بِاللَّه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة " وَنَحْو ذَلِك،(2/259)
وَالزَّمَان أَن يحلف بعد الْعَصْر لقَوْله تَعَالَى:
{تحبسونهما من بعد الصَّلَاة} .
وَالْمَكَان أَن يُقَام بَين الرُّكْن وَالْمقَام إِن كَانَ بِمَكَّة. وَعند مِنْبَر رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِن كَانَ بِالْمَدِينَةِ. وَعند الْمِنْبَر فِي سَائِر الْبلدَانِ لوُرُود فضل هَذِه الْأَمْكِنَة وتغليظ الْكَذِب عِنْدهَا.
ثمَّ وَقعت الْحَاجة أَن يرهب النَّاس أَشد ترهيب من أَن يجترئوا على خلاف مَا شرع الله لَهُم لفصل القضايا وَمَعْرِفَة جلية الْحَال.
وَالْأَصْل فِي تِلْكَ الترهيبات ثَلَاثَة أَشْيَاء: أَحدهَا أَن الْإِقْدَام على فعل نهى الله تَعَالَى عَنهُ وَغلظ فِي النَّهْي دَلِيل قلَّة الْوَرع والاجتراء على الله فأدير حكم الاجتراء على هَذِه الْأَشْيَاء، وَأثبت لَهَا أَثَره مثل وجوب دُخُول النَّار وَتَحْرِيم الْجنَّة وَنَحْو ذَلِك.
وَالثَّانِي أَن ذَلِك سعى فِي الظُّلم وبمنزلة السّرقَة وَقطع الطَّرِيق، أَو بِمَنْزِلَة دلَالَة السَّارِق على المَال ليَسْرِق أوردء الْقَاطِع فتوجهت لعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس على السَّعَادَة فِي الأَرْض بِالْفَسَادِ إِلَى هَذَا العَاصِي فَاسْتحقَّ النَّار.
وَالثَّالِث أَنه مخالفه لما شرع الله لِعِبَادِهِ وسعى فِي سد جَرَيَانه على مَا أَرَادَ الله فِي شرائعه فان الْيَمين إِنَّمَا شرعت معرفَة للحق، وَالْبَيِّنَة إِنَّمَا شرعت مبينَة لجلية الْحَال فان جرت السّنة بزور الشَّهَادَة وَالْإِيمَان انسد بَاب الْمصلحَة المرعية.
فَمن ذَلِك كتمان الشَّهَادَة لقَوْله تَعَالَى.(2/260)
{وَمن يكتمها فَإِنَّهُ آثم قلبه} .
وَمِنْهَا شَهَادَة الزُّور لعده عَلَيْهِ السَّلَام من الْكَبَائِر شَهَادَة الزُّور.
وَمِنْهَا الْيَمين الكاذبة لقَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من حلف على يَمِين صَبر وَهُوَ فِيهَا فَاجر ليقتطع بهَا حق امْرِئ مُسلم لَقِي الله تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان ".
وَمِنْهَا الدَّعْوَى الكاذبة لقَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من ادّعى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ منا وليتبوأ مَقْعَده من النَّار ".
وَمِنْهَا الاخذ لقَضَاء القَاضِي وَلَيْسَ لَهُ الْحق لقَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
" إِنَّمَا أَنا بشر مثلكُمْ وأنكم تختصمون " الحَدِيث.
وَمِنْهَا الاعتياد بالمجادلة وَرفع الْقَضِيَّة فان ذَلِك لَا يَخْلُو من إِفْسَاد ذَات الْبَين لقَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِن أبْغض الرِّجَال إِلَى الله الألد الْخصم ".
وَرغب لمن ترك الْمُخَاصمَة فِي الْحق وَالْبَاطِل جَمِيعًا فَإِن ذَلِك مطاوعة لداعية السماحة، وَأَيْضًا كثيرا مَا لَا يكون الْحق لَهُ، ويظن أَن الْحق لَهُ فَلَا يخرج
عَن الْعهْدَة بِالْيَقِينِ إِلَّا إِذا وَطن نَفسه على ترك الْخُصُومَة فِي الْحق وَالْبَاطِل جَمِيعًا، وَفِي الحَدِيث " إِن رجلَيْنِ تداعيا دَابَّة فَأَقَامَ كل وَاحِد مِنْهُمَا الْبَيِّنَة أَنَّهَا دَابَّته نتجها فَقضى بهَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للَّذي فِي يَده.
أَقُول: والسر فِي ذَلِك أَن الحجتين لما تَعَارَضَتَا تساقطتا فَبَقيَ الْمَتَاع فِي يَد صَاحب الْقَبْض لعدم مَا يَقْتَضِي رده، أَو نقُول اعتضدت إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ بِالدَّلِيلِ الظَّاهِر وَهُوَ الْقَبْض فرجحت.
وَأما الْمقَام الثَّانِي فشرع النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ أصولا يرجع إِلَيْهَا: وَالْجُمْلَة فِي ذَلِك أَن جلية الْحَال إِذا كَانَت مَعْلُومَة فالنزاع يكون إِمَّا فِي طلب كل وَاحِد شَيْئا وَهُوَ مُبَاح فِي الأَصْل وَحكمه أبدا التَّرْجِيح إِمَّا بِزِيَادَة صفة يكون فِيهَا نفع للْمُسلمين وَلذَلِك الشَّيْء أَو سَبْعَة أَحدهمَا إِلَيْهِ أَو بِالْقُرْعَةِ مِثَاله فقضية زيد. وَعلي. وجعفر رَضِي الله عَنْهُم فِي حضَانَة بنت حَمْزَة رَضِي الله عَنهُ فَقضى بهَا لجَعْفَر رَضِي الله عَنهُ، وَقَالَ: " الْخَالَة أم "، وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَذَان: " لَا ستهموا " وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذا أَرَادَ سفرا أَقرع بَين نِسَائِهِ، وَأما أَن يكون هُنَاكَ سَابِقَة من عقد أَو غصب يَدعِي كل وَاحِد أَنه أَحَق، وَيكون لكل وَاحِد شُبْهَة وَحِكْمَة اتِّبَاع الْعرف وَالْعَادَة الْمسلمَة عِنْد جُمْهُور النَّاس يُفَسر الأقارير وألفاظ الْعُقُود بِمَا عِنْد جمهورهم من الْمَعْنى وَيعرف الأضرار وَغَيرهَا بِمَا عِنْدهم، مِثَاله قَضِيَّة الْبَراء ابْن عَازِب دخلت نَاقَته حَائِطا فأفسدت فِيهِ، وأدعى كل وَاحِد أَنه مَعْذُور فَقضى بِمَا(2/261)
هُوَ الْمَعْرُوف من عَادَتهم من حفظ أهل الحوائط أَمْوَالهم بِالنَّهَارِ وَحفظ أهل الْمَوَاشِي مَوَاشِيهمْ بِاللَّيْلِ.
وَمن الْقَوَاعِد المبنية عَلَيْهَا كثير من الْأَحْكَام أَن الْغنم بالغرم، وَأَصله
مَا قضى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن الْخراج بِالضَّمَانِ وَذَلِكَ لعسر ضبط الْمَنَافِع، وَإِن قسم الْجَاهِلِيَّة ودمائها وَمَا كَانَ فِيهَا لَا يتَعَرَّض بهَا، وَأَن الْأَمر مُسْتَأْنف بعْدهَا، وَأَن الْيَد لَا تنقص إِلَّا بِدَلِيل آخر وَهُوَ أصل الِاسْتِصْحَاب وَأَنه إِن انسد بَاب التفتيش فَالْحكم أَن يكون مَا يُريدهُ صَاحب المَال أَو يترادا، وَالْأَصْل فِيهِ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" البيعان إِذا اخْتلفَا بَينهمَا والسلعة قَائِمَة " الحَدِيث وَأَن الأَصْل فِي كل عقد أَن يُوفي لكل أحد وعَلى كل أحد مَا الْتَزمهُ بعقده إِلَّا أَن يكون عقدا نهى الشَّرْع عَنهُ، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْمُسلمُونَ على شروطهم إِلَّا شرطا أحل حَرَامًا أَو حرم حَلَال " فَهَذِهِ نبذ مِمَّا شرع النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمقَام الثَّانِي.
وَمن القضايا الَّتِي قضى فِيهَا رَسُول الله قَضِيَّة صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضيت بنت حَمْزَة رَضِي الله عَنهُ فِي الْحَضَانَة حَيْثُ قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ. بنت عمي وَأَنا أَخَذتهَا، وَقَالَ جَعْفَر رَضِي الله عَنهُ: بنت عمي وخالتها تحتي، وَقَالَ زيد رَضِي الله عَنهُ: بنت أخي فَقضى بهَا لجَعْفَر رَضِي الله عَنهُ، وَقَالَ: الْخَالَة بِمَنْزِلَة الْأُم ".
وَقَضِيَّة ابْن وليدة زَمعَة فِي الدعْوَة حَيْثُ قَالَ سعد: إِن أخي قد عهد إِلَيّ فِيهِ، وَقَالَ عبد بن زَمعَة ابْن وليدة أبي ولد على فرَاشه، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ": هُوَ لَك يَا عبد ابْن زَمعَة الْوَلَد للْفراش وللعاهر الْحجر ".
وَقَضِيَّة زيد رَضِي الله عَنهُ. والأنصاري فِي شراج الْحرَّة فَأَشَارَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَمر لَهما فِي سَعَة " اسْقِ يَا زبير ثمَّ أرسل إِلَى جَارك فَغَضب الْأنْصَارِيّ، فاستوعى لزبير حَقه قَالَ: احْبِسْ المَاء حَتَّى يرجع إِلَى الْجدر ".
وَقَضِيَّة نَاقَة برَاء بن عَازِب رَضِي الله عَنهُ دخلت حَائِطا لرجل من الْأَنْصَار فأفسدت فِيهِ فَقضى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن على أهل الْأَمْوَال حفظهَا بِالنَّهَارِ وعَلى أهل الْمَوَاشِي حفظهَا بِاللَّيْلِ.
وَقضى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّفْعَة فِيمَا لم يقسم فَإِذا وَقعت الْحُدُود وصرفت الطّرق فَلَا شُفْعَة، وَقد ذكرنَا فِيمَا سبق وُجُوه هَذِه القضايا.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِذا اختلفتم فِي الطَّرِيق جعل عرضه سَبْعَة أَذْرع ".(2/262)
أَقُول: وَذَلِكَ أَن النَّاس إِذا عمروا أَرضًا مُبَاحَة فقصروا بهَا وَاخْتلفُوا فِي الطَّرِيق، فَأَرَادَ بَعضهم أَن يضيق الطَّرِيق وَيَبْنِي فِيهَا، وأبى الْآخرُونَ ذَلِك، وَقَالُوا: لَا بُد للنَّاس من طَرِيق وَاسِعَة قضى بِأَن يَجْعَل عرضه سَبْعَة أَذْرع وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا بُد من مُرُور قطارين من الْإِبِل يمشي أَحدهمَا إِلَى جَانب، وَثَانِيهمَا إِلَى الآخر، وَإِذا جَاءَت زاملة من هَهُنَا وزاملة من هُنَالك فَلَا بُد من طَرِيق تسعهما وَإِلَّا كَانَ الْحَرج وَمِقْدَار ذَلِك سَبْعَة أَذْرع.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من زرع فِي أَرض قوم بِغَيْر إذْنهمْ فَلَيْسَ لَهُ من الزَّرْع شَيْء وَله نَفَقَته " أَقُول: جعله بِمَنْزِلَة أجِير عمل لَهُ عملا نَافِعًا، وَالله أعلم.
(الْجِهَاد)
اعْلَم أَن أتم الشَّرَائِع وأكمل النواميس هُوَ الشَّرْع الَّذِي يُؤمر فِيهِ بِالْجِهَادِ، وَذَلِكَ لِأَن تَكْلِيف الله عباده بِمَا أَمر وَنهى - مثله كَمثل رجل مرض عبيده، فَأمر رجلا من خاصته أَن يقيهم دَوَاء، فَلَو أَنه قهرهم على شرب الدَّوَاء، وأوجره فِي أَفْوَاههم لَكَانَ حَقًا، لَكِن الرَّحْمَة اقْتَضَت أَن يبين لَهُم فَوَائِد الدَّوَاء؛ ليشربوه على رَغْبَة فِيهِ، وَأَن يخلط مَعَه الْعَسَل؛ ليتعاضد فِيهِ الرَّغْبَة الطبيعية والعقلية.
ثمَّ إِن كثيرا من النَّاس يغلب عَلَيْهِم الشَّهَوَات الدنية والأخلاق السبعية ووساوس الشطان فِي حب الرياسات، ويلصق بقلوبهم رسوم آبَائِهِم، فَلَا يسمعُونَ تِلْكَ الْفَوَائِد، وَلَا يذعنون لما يَأْمر بِهِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يتأملون فِي حَسَنَة، فَلَيْسَتْ الرَّحْمَة فِي حق أُولَئِكَ أَن يقْتَصر على إِثْبَات الْحجَّة عَلَيْهِم، بل الرَّحْمَة فِي حَقهم أَن يقهروا؛ ليدْخل الْإِيمَان عَلَيْهِم على رغم أنفهم بِمَنْزِلَة إِيجَاد الدَّوَاء المر، وَلَا قهر إِلَّا بقتل من لَهُ مِنْهُم بكناية شَدِيدَة وتمنع قوى، أَو تَفْرِيق منعتهم وسلب أَمْوَالهم حَتَّى يصيروا لَا يقدرُونَ على شَيْء، فَعِنْدَ ذَلِك يدْخل أتباعهم وذراريهم فِي الْإِيمَان برغبة وطوع، وَلذَلِك كتب رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَيْصر " كَانَ عَلَيْك إِثْم الأريسيين.
وَرُبمَا كَانَ أسرهم وقهرهم يُؤَدِّي إِلَى إِيمَانهم، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ:
" عجب الله من قوم يدْخلُونَ الْجنَّة فِي السلَاسِل ".
وَأَيْضًا فالرحمة التَّامَّة الْكَامِلَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبشر أَن يهْدِيهم الله إِلَى الاحسان،
وَأَن يكبح ظالمهم عَن الظُّلم، وَأَن يصلح ارتفاقاتهم وتدبير منزلهم وسياسة مدينتهم، فالمدن(2/263)
الْفَاسِدَة الَّتِي يغلب عَلَيْهَا نفوس السبعية، وَيكون لَهُم تمنع شَدِيد إِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَة الْأكلَة فِي بدن الْإِنْسَان لَا يَصح الْإِنْسَان إِلَّا بِقطعِهِ، وَالَّذِي يتَوَجَّه إِلَى إصْلَاح مزاجه وَإِقَامَة طَبِيعَته لَا بُد لَهُ من الْقطع، وَالشَّر الْقَلِيل إِذا كَانَ مفضيا إِلَى الْخَيْر الْكثير وَاجِب فعله، وَلَك عَبدة بِقُرَيْش وَمن حَولهمْ من الْعَرَب كَانُوا بعد خلق الله عَن الاحسان وأظلمهم على الضُّعَفَاء، وَكَانَت بَينهم مقاتلات شَدِيدَة، وَكَانَ بَعضهم يأسر بَعْضًا، وَمَا كَانَ أَكْثَرهم متأملين فِي الْحجَّة ناظرين فِي الدَّلِيل فجاهدهم النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَقتل أَشَّدهم بطشا وأحدهم نفسا حَتَّى ظهر أَمر الله، وانقادوا لَهُ، فصاروا بعد ذَلِك من أهل الْإِحْسَان، واستقامت أُمُورهم، فَلَو لم يكن فِي الشَّرِيعَة جِهَاد أُولَئِكَ لم يحصل اللطف فِي حَقهم.
وَأَيْضًا فَإِن الله تَعَالَى غضب على الْعَرَب والعجم، وَقضى بِزَوَال دولتهم وكبت ملكهم، فنفث فِي روع رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبواسطته فِي قُلُوب أَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم أَن يقاتلوا فِي سَبِيل الله؛ ليحصل الْأَمر الْمَطْلُوب، فصاروا فِي ذَلِك بِمَنْزِلَة الْمَلَائِكَة تسْعَى فِي إتْمَام مَا أَمر الله تَعَالَى، غير أَن الْمَلَائِكَة تسْعَى من غير أَن يعْقد فيهم قَاعِدَة كُلية، والمسلمون يُقَاتلُون لأجل قَاعِدَة كُلية علمهمْ الله تَعَالَى، وَكَانَ علمهمْ ذَلِك أعظم الْأَعْمَال، وَصَارَ الْقَتْل لَا يسند إِلَيْهِم إِنَّمَا يسند إِلَى الْآمِر، كَمَا يسند قتل العَاصِي إِلَى الْأَمِير دون السياف، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{فَلم تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِن الله قَتلهمْ} .
وَإِلَى هَذَا السِّرّ أَشَارَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ:
" مقت عربهم وعجمهم " الحَدِيث، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " لَا كسْرَى وَلَا قَيْصر " يَعْنِي المتدينين بدين الْجَاهِلِيَّة.
وفضائل الْجِهَاد رَاجِعَة إِلَى أصُول: مِنْهَا أَنه مُوَافقَة تَدْبِير الْحق وإلهامه، فَكَانَ السَّعْي فِي إِتْمَامه سَببا لشمُول الرَّحْمَة، وَالسَّعْي فِي إِبْطَاله سَببا لشمُول اللَّعْنَة، والتقاعد عَنهُ فِي مثل هَذَا الزَّمَان تفويتا لخير كثير.
وَمِنْهَا أَن الْجِهَاد عمل شاق يحْتَاج إِلَى تَعب وبذل مَال ومهجة وَترك الأوطان والأوطار، فَلَا يقدم عَلَيْهِ إِلَّا من أخْلص دينه لله وآثر الْآخِرَة على الدُّنْيَا، وَصَحَّ اعْتِمَاده على الله.
وَمِنْهَا أَن نفث مثل هَذِه الداعية فِي الْقلب لَا يكون إِلَّا بتشبه الْمَلَائِكَة، وأحظاهم بِهَذَا الْكَمَال أبعدهم عَن شرور البهيمية وأطرفهم من رسوخ الدّين فِي قلبه، فَيكون مُعَرفا لِسَلَامَةِ صَدره.(2/264)
هَذَا كُله إِن كَانَ الْجِهَاد على شَرطه، وَهُوَ مَا سُئِلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِن الرجل يُقَاتل شجاعة وَيُقَاتل حمية فَأَي ذَلِك فِي سَبِيل الله؟ فَقَالَ: من قَاتل لتَكون كلمة الله هِيَ الْعليا فَهُوَ فِي سَبِيل الله ".
وَمِنْهَا أَن الْجَزَاء يتَحَقَّق بِصُورَة الْعَمَل يَوْم الْقِيَامَة، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا يكلم أحد فِي سَبِيل الله وَالله أعلم بِمن يكلم ي سَبيله إِلَّا جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة وجرحه يثغب دَمًا، اللَّوْن لون الدَّم، وَالرِّيح ريح الْمسك ".
وَمِنْهَا أَن الْجِهَاد لما كَانَ أمرا مرضيا عِنْد الله تَعَالَى وَهُوَ لَا يتم فِي الْعَادة إِلَّا بأَشْيَاء من النَّفَقَات ورباط الْخَيل وَالرَّمْي وَنَحْوهَا وَجب أَن يتَعَدَّى الرِّضَا إِلَى هَذِه الْأَشْيَاء من جِهَة إفضائها إِلَى الْمَطْلُوب.
وَمِنْهَا أَن بِالْجِهَادِ تَكْمِيل الْملَّة وتنويه أمرهَا وَجعله فِي النَّاس كالأمر اللَّازِم، فَإِذا حفظت هَذِه الْأُصُول انكشفت لَك حَقِيقَة الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي فَضَائِل الْجِهَاد.
قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِن فِي الْجنَّة مائَة دَرَجَة أعدهَا الله للمجاهدين " الحَدِيث.
أَقُول: سره أَن ارْتِفَاع الْمَكَان فِي دَار الْجَزَاء تِمْثَال لارْتِفَاع المكانة عِنْد الله، وَذَلِكَ بِأَن تسكب النَّفس سعادتها من التطلع للجبروت وَغير ذَلِك، وَبِأَن يكون سَببا لاشتهار شَعَائِر الله وَدينه وَسَائِر مَا يُرْضِي الله باشتهاره، وَلذَلِك كَانَت الْأَعْمَال الَّتِي هِيَ مَظَنَّة هَاتين الخصلتين جزاؤها الدَّرَجَات فِي الْجنَّة، فورد فِي تالي الْقُرْآن أَنه يُقَال لَهُ " اقْرَأ وارتق ورتل كَمَا كنت ترتل فِي الدُّنْيَا " وَورد فِي الْجِهَاد أَنه سَبَب رفع الدَّرَجَات فَإِن عمله يُفِيد ارْتِفَاع الدّين، فيجازى بِمثل مَا تضمنه عمله، ثمَّ إِن ارْتِفَاع المكانة يتَحَقَّق بِوُجُوه كَثِيرَة، فَكل وَجه يتَمَثَّل دَرَجَة فِي الْجنَّة، وَإِنَّمَا كَانَ كل دَرَجَة كَمَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض لِأَنَّهُ غَايَة مَا تمكن فِي عُلُوم الْبشر من الْبعد الفوقانى فيتمثل فِي دَار الْجَزَاء كَمَا تمكن فِي علومهم.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مثل الْمُجَاهِد فِي سَبِيل الله كَمثل القانت الصَّائِم ".
أَقُول: سره أَن الصَّائِم القانت إِنَّمَا فضل على غَيره بِأَنَّهُ عمل عملا شاقا لمرضاة الله، وَأَنه صَار بِمَنْزِلَة الْمَلَائِكَة ومتشبها بهم، والمجاهد إِذا كَانَ جهاده على مَا أَمر الشَّرْع بِهِ يُشبههُ فِي كل ذَلِك غير أَن الِاجْتِهَاد فِي الطَّاعَات
يسلم فضلَة النَّاس، وَهَذَا لَا يفهمهُ إِلَّا الْخَاصَّة، فَشبه بِهِ لينكشف الْحَال.(2/265)
ثمَّ مست الْحَاجة إِلَى التَّرْغِيب فِي مُقَدمَات الْجِهَاد الَّتِي لَا يَتَأَتَّى الْجِهَاد فِي الْعَادة إِلَّا بهَا كالرباط والرعي وَغَيرهمَا لِأَن الله تَعَالَى إِذا أَمر بِشَيْء وَرَضي بِهِ وَعلم أَنه لَا يتم إِلَّا بِتِلْكَ الْمُقدمَات كَانَ من مُوجبَة الْأَمر بهَا وَالرِّضَا عَنْهَا.
ورد فِي الرِّبَاط أَنه " خير من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا " وَأَنه " خير من صِيَام شهر وقيامه وَإِن مَاتَ أجْرى عَلَيْهِ عمله الَّذِي كَانَ عمله وأجرى عَلَيْهِ رزقه وَأمن الفتان ".
أَقُول: أما سر كَونه خيرا من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا فَلِأَن لَهُ ثَمَرَة بَاقِيَة فِي الْمعَاد، وكل نعيم من نعيم الدُّنْيَا لَا محَالة زائل ...
وَأما كَونه خيرا من صِيَام شهر وقيامه فَلِأَنَّهُ عمل شاق يَأْتِي على البهيمية لله وَفِي سَبِيل الله كَمَا يفعل ذَلِك الصّيام وَالْقِيَام. .
وسر إِجْرَاء عمله أَن الْجِهَاد بعضه مبْنى على بعض بِمَنْزِلَة الْبناء وَيقوم الْجِدَار على الأساس وياقوم السّقف على الْجِدَار، وَذَلِكَ لِأَن الْأَوَّلين من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار كَانُوا سَبَب دُخُول قُرَيْش وَمن حَولهمْ فِي الْإِسْلَام ثمَّ فتح الله على أَيدي هَؤُلَاءِ الْعرَاق وَالشَّام، ثمَّ فتح الله على أَيدي هَؤُلَاءِ الْفرس وَالروم، ثمَّ فتح الله على أَيدي هَؤُلَاءِ الْهِنْد وَالتّرْك والسودان، فالنفع الَّذِي يَتَرَتَّب على الْجِهَاد يتزايد حينا فحينا وَصَارَ بِمَنْزِلَة الْأَوْقَاف
والرباطات وَالصَّدقَات الْجَارِيَة.
وَأما الْأَمْن من الفتان يَعْنِي الْمُنكر والنكير فَإِن الْمهْلكَة مِنْهُمَا على من لم يطمئن قلبه بدين مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلم ينْهض لنصرته، أما المرابط على شَرطه فَهُوَ جَامع الهمة على تَصْدِيق ناهض الْعَزِيمَة على تمشية نور الله.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من جهز غازيا فِي سيل الله فقد غزا وَمن خلف غازيا فِي أَهله فقد غزا " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" أفضل الصَّدَقَة ظلّ فسطاط فِي سَبِيل الله " وَنَحْو ذَلِك.
أَقُول: السِّرّ فِي ذَلِك أَنه عمل نَافِع للْمُسلمين يَتَرَتَّب عَلَيْهِ نصرتهم، وَهُوَ الْمَعْنى فِي الْغَزْو أَو الصَّدَقَة.
وَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا يكلم أحد فِي سَبِيل الله وَالله أعلم بِمن يكلم فِي سَبيله إِلَّا حاء يَوْم الْقِيَامَة وجرحه يثغب دَمًا اللَّوْن لون الدَّم وَالرِّيح ريح الْمسك ".
أَقُول: الْعَمَل يلتصق بِالنَّفسِ بهيئته وَصورته ويجر مَا فِيهِ معنى التضاعف بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَمَل والمجازاة مبناها على تمثل النِّعْمَة والراحة بِصُورَة اقْربْ مَا هُنَاكَ، فَإِذا جَاءَ الشَّهِيد يَوْم الْقِيَامَة ظهر عَلَيْهِ عمله وتنعم بِهِ بِصُورَة مَا فِي الْعَمَل.(2/266)
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى:
{وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا بل أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ} . الْآيَة
" أَرْوَاحهم فِي جَوف طير خضر لَهَا قناديل معلقَة بالفرش تسرح فِي الْجنَّة حَيْثُ شَاءَت ثمَّ تأوي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيل ".
أَقُول: الَّذِي يقتل فِي سَبِيل الله يجْتَمع فِيهِ خصلتان: إِحْدَاهمَا أَنه تبقى
نسمته وافرة كَامِلَة لم تضمحل علومها الَّتِي كَانَت منغمسة فِيهَا فِي حَيَاتهَا الدُّنْيَا وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَة رجل مَشْغُول بِأَمْر معاشه ينَام نومَة بِخِلَاف الْمَيِّت الَّذِي ابْتُلِيَ بأمراض شَدِيدَة تغير مزاجه وتنسيه كثيرا مِمَّا كَانَ فِيهِ.
وَالثَّانيَِة أَنه شملته الرَّحْمَة الإلهية المتوجهة إِلَى نظام الْعَالم الممتلئ مِنْهَا حَظِيرَة الْقُدس وَالْمَلَائِكَة المقربون، فَلَمَّا زهقت نَفسه وَهِي ممتلئة من السَّعْي فِي إِقَامَة دين الله فتح بَينه وَبَين حَظِيرَة الْقُدس فيح وَاسع، وَنزل من هُنَاكَ الْأنس وَالنعْمَة والراحة، وتنفست إِلَيْهِ حَظِيرَة الْقُدس نفسا مثاليا، فيتمثل الْجَزَاء حَسْبَمَا عِنْده، فتركبت من اجْتِمَاع هَاتين الخصلتين أُمُور عَجِيبَة:
مِنْهَا أَنه تتمثل نَفسه معلقَة بالعرش بنحوما، وَذَلِكَ لدُخُوله فِي حَملَة الْعَرْش وطموح همته إِلَى مَا هُنَاكَ.
وَمِنْهَا أَنه تمثل لَهُ بدن طير أَخْضَر، فكونه طيرا لِأَنَّهُ من الْمَلَائِكَة بِمَنْزِلَة الطير من دَوَاب الأَرْض فِي ظُهُور أَحْكَام الْجِنْس إِجْمَالا وَكَونه أَخْضَر لحسن منظره.
وَمِنْهَا أَنه تتمثل نعْمَته وراحته بِصُورَة الرزق كَمَا كَانَ يتَمَثَّل النِّعْمَة فِي الدُّنْيَا بالفواكه والشواء.
ثمَّ مست الْحَاجة إِلَى تَمْيِيز مَا يُفِيد تَهْذِيب النَّفس مِمَّا لَا يفِيدهُ وَهُوَ مشتبه بِهِ فَإِن الشَّرْع أَتَى بأمرين: بانتظام الْحَيّ وَالْمَدينَة. وَالْملَّة؛ وبتكميل النُّفُوس.
قيل: الرجل يُقَاتل للمغنم وَالرجل يُقَاتل للذّكر. وَالرجل يُقَاتل
ليرى مَكَانَهُ، فَمن يُقَاتل فِي سَبِيل الله؟ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من قَاتل لتَكون كلمة الله هِيَ الْعليا فَهُوَ فِي سَبِيل الله " أَقُول: وَذَلِكَ لما ذكرنَا من أَن الْأَعْمَال أجساد، وَأَن النيات أَرْوَاح لَهَا، وَإِنَّمَا(2/267)
الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ، وَلَا عِبْرَة بالجسد إِلَّا بِالروحِ، وَرُبمَا تفِيد النِّيَّة فَائِدَة الْعَمَل وَإِن لم يقْتَرن بهَا إِذا كَانَ فَوته لمَانع سماوي دون تَفْرِيط مِنْهُ، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِن بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مسيرًا وَلَا قطعْتُمْ وَاديا إِلَّا كَانُوا مَعكُمْ حَبسهم الْعذر " وَإِن كَانَ من تَفْرِيط فَإِن النِّيَّة لم تتمّ حَتَّى يَتَرَتَّب عَلَيْهَا الْأجر
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" الْبركَة فِي نواصي الْخَيل " وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام:
" الْخَيل مَعْقُود فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة الْأجر وَالْغنيمَة ".
اعْلَم أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث بالخلافة الْعَامَّة، وَغَلَبَة دينه على سَائِر الْأَدْيَان لَا يتَحَقَّق إِلَّا بِالْجِهَادِ وإعداد آلاته، فَإِذا تركُوا الْجِهَاد، وَاتبعُوا أَذْنَاب الْبَقر أحَاط بهم الذل؛ وَغلب عَلَيْهِم أهل سَائِر الْأَدْيَان.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من احْتبسَ فرسا فِي سَبِيل الله إِيمَانًا بِاللَّه وَتَصْدِيقًا بوعده فَإِن شبعه وريه وروثه وبوله فِي مِيزَانه يَوْم الْقِيَامَة ". أَقُول: ذَلِك لِأَنَّهُ يتعانى فِي علفه وَشَرَابه وَفِي روثه وبوله، فَصَارَ عمله ذَلِك متصورا بِصُورَة مَا تعانى فِيهِ، فَيظْهر يَوْم الْقِيَامَة كل ذَلِك بصورته وهيئته، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِن الله يدْخل بِالسَّهْمِ الْوَاحِد ثَلَاثَة نفر الْجنَّة، صانعه يحْتَسب فِي صنعه والرامي بِهِ ومنبله "
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " من رمى بِسَهْم فِي سَبِيل الله فَهُوَ لَهُ عدل مُحَرر " أَقُول: لما علم الله تَعَالَى أَن كبت الْكفَّار لَا يتم إِلَّا بِهَذِهِ الْأَشْيَاء انْتقل رضَا الْحق بِإِزَالَة الْكفْر وَالظُّلم إِلَى هَذِه.
قَالَ الله تَعَالَى: {لَيْسَ على الْأَعْمَى حرج وَلَا على الْأَعْرَج حرج وَلَا على الْمَرِيض حرج} .
وَقَالَ الله تَعَالَى: {لَيْسَ على الضُّعَفَاء وَلَا على المرضى وَلَا على الَّذين لَا يَجدونَ مَا يُنْفقُونَ حرج} .
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لرجل:
" أَلَك والدان؟ قَالَ. نعم، قَالَ ففيهما فَجَاهد ".
أَقُول: لما كَانَ إقبالهم بأجمعهم على الْجِهَاد يفْسد أرتفاقاتهم وَجب أَلا يقوم بِهِ إِلَّا الْبَعْض، وَإِنَّمَا تعين غير الْمَعْلُول بِهَذِهِ الْعِلَل لِأَن على أَصْحَابهَا حرجا وَلَيْسَ فيهم غنية مُعْتَد بهَا لِلْإِسْلَامِ بل رُبمَا يخَاف الضَّرَر مِنْهُم(2/268)
قَالَ الله تَعَالَى: {الْآن خفف الله عَنْكُم وَعلم أَن فِيكُم ضعفا} .
أَقُول: إعلاء كلمة الله لَا يتَحَقَّق إِلَّا بِأَن يوطنوا أنفسهم بالثبات والنجدة وَالصَّبْر على مشاق الْقِتَال وَلَو جرت الْعَادة بِأَن يَفروا إِذا عثروا على مشقة لم يتَحَقَّق الْمَقْصُود بل رُبمَا أفْضى إِلَى الخذلان.
وَأَيْضًا فالفرار جبن وَضعف وَهُوَ أَسْوَأ الْأَخْلَاق
ثمَّ لَا بُد من بَيَان حد يتَحَقَّق بِهِ الْفرق بَين الْوَاجِب وَغَيره وَلَا تتَحَقَّق النجدة والشجاعة إِلَّا إِذا كَانَ أَسبَاب الْهَزِيمَة أَكثر من أَسبَاب الْغَلَبَة فَقدر أَولا بِعشْرَة أَمْثَال لِأَن الْكفْر يَوْمئِذٍ كَانَ أَكثر وَلم يكن الْمُسلمُونَ إِلَّا أقل شَيْء فَلَو رخص لَهُم الْفِرَار لم يتَحَقَّق الْجِهَاد أصلا، ثمَّ خفف إِلَى مثلين لِأَنَّهُ لَا تتَحَقَّق النجدة والثبات فِيمَا دون ذَلِك.
ثمَّ لما وَجب الْجِهَاد لإعلاء كلمة الله وَجب مَا لَا يكون الإعلاء إِلَّا بِهِ، وَلذَلِك كَانَ سد الثغور وَعرض الْمُقَاتلَة وَنصب الْأُمَرَاء على كل نَاحيَة وثغر وَاجِبا على الإِمَام وَسنة متوارثة، وَقد سنّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخلفاؤه رَضِي الله عَنْهُم فِي هَذَا الْبَاب سننا، وَكَانَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذا أَمر أَمِيرا على جَيش أَو على سَرِيَّة أوصاه فِي خاصته بتقوى الله وَمن مَعَه من الْمُسلمين خيرا، ثمَّ قَالَ: " اغزوا باسم الله فِي سَبِيل الله قَاتلُوا من كفر بِاللَّه اغزوا وَلَا تغلوا " الحَدِيث.
وَإِنَّمَا نهى عَن الْغلُول لما فِيهِ من كسر قُلُوب الْمُسلمين وَاخْتِلَاف كلمتهم واختيارهم النَّهْي على الْقِتَال، وَكَثِيرًا مَا يُفْضِي ذَلِك إِلَى الْهَزِيمَة، وَعَن الْغدر لِئَلَّا يرْتَفع الْأمان من عَهدهم وذمتهم وَلَو ارْتَفع ذهب أعظم الْفتُوح وأقربها وَهِي الذِّمَّة، وَعَن الْمثلَة لِأَنَّهُ تَغْيِير خلق الله، وَعَن قتل الْوَلِيد لِأَنَّهُ تضييق على الْمُسلمين وإضرار بهم فَإِنَّهُ لَو بَقِي حَيا لصار رَقِيقا لَهُم وَاتبع السابي فِي الْإِسْلَام.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا ينْكَأ عدوا وَلَا ينصر فِئَة.
والدعوة إِلَى ثَلَاث خِصَال مترتبة: الأولى الْإِسْلَام مَعَ الْهِجْرَة وَالْجهَاد وَحِينَئِذٍ لَهُ مَا للمجاهدين من الْحق فِي الْفَيْء والمغانم.
الثَّانِيَة الْإِسْلَام من غير هِجْرَة وَلَا جِهَاد إِلَّا فِي النفير الْعَام وَحِينَئِذٍ لَيْسَ لَهُ نصيب فِي الْمَغَانِم والفيء، وَذَلِكَ لِأَن الْفَيْء إِنَّمَا يصرف إِلَّا الأهم فالأهم، وَالْعَادَة قاضية بألا(2/269)
يسع بَيت المَال الصّرْف إِلَى المتوطنين فِي بِلَادهمْ غير الْمُجَاهدين فَلَا اخْتِلَاف بَين هَذَا وَبَين قَول عمر رَضِي الله عَنهُ: فَأَيْنَ عِشْت فليأتين الرَّاعِي وَهُوَ بسرو حمير نصِيبه مِنْهَا لم يعرق فِيهَا جَبينه يَعْنِي إِذا فتح كنوز الْمُلُوك وَجِيء من الْخراج شَيْء كثير فَيبقى بعد حَظّ الْمُقَاتلَة وَغَيرهم
الثَّالِثَة أَن يَكُونُوا من أهل الذِّمَّة، ويؤدوا الْجِزْيَة عَن يَد وهم صاغرون
فبالأولى تحصل المصلحتان من نظام الْعَالم وَرفع التظالم من بَينهم وَمن تَهْذِيب نُفُوسهم بِأَن يحصل نجاتهم من النَّار ويكونوا ساعين فِي تمشية أَمر الله.
وبالثانية النجَاة من النَّار من غير أَن ينالوا دَرَجَات الْمُجَاهدين.
وبالثالثة زَوَال شَوْكَة الْكفَّار وَظُهُور شَوْكَة الْمُسلمين، وَقد بعث النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهَذِهِ الْمصَالح.
وَيجب على الإِمَام أَن ينظر فِي أَسبَاب ظُهُور شَوْكَة الْمُسلمين وَقطع أَيدي الْكفَّار عَنْهُم، ويجتهد، ويتأمل فِي ذَلِك فيفعل مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده مِمَّا عرف هُوَ أَو نَظِيره عَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخلفائه رَضِي الله عَنْهُم؛ لِأَن الْأَمَام إِنَّمَا جعل لمصَالح، وَلَا تتمّ إِلَّا بذلك، وَالْأَصْل فِي هَذَا الْبَاب سير النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَنحن نذْكر حَاصِل أَحَادِيث الْبَاب:
فَنَقُول. يجب أَن يشحن ثغور الْمُسلمين بجيوش يكفون من يليهم، وَيُؤمر عَلَيْهِم رجلا شجاعا ذَا رَأْي ناصحا للْمُسلمين وَإِن احْتَاجَ إِلَى حفر خَنْدَق أَو بِنَاء حصن فعله كَمَا فعله رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم الخَنْدَق، وَإِذا بعث سَرِيَّة أَمر عَلَيْهِم أفضلهم أَو أنفعهم للْمُسلمين، وأوصاه فِي نَفسه وبجماعة الْمُسلمين خيرا كَمَا كَانَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل، وَإِذا أَرَادَ الْخُرُوج للغزو عرض جَيْشه، ويتعاهد الْخَيل وَالرِّجَال فَلَا يقبل من دون خمس عشرَة سنة كَمَا كَانَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل ذَلِك، وَلَا مخذلا وَهُوَ الَّذِي يقْعد النَّاس عَن الْغَزْو، وَلَا مرجفا وَهُوَ الَّذِي يحدث بِقُوَّة الْكفَّار، وَالْأَصْل فِيهِ قَوْله تَعَالَى. {كره الله انبعائهم فَثَبَّطَهُمْ وَقيل اقعدوا مَعَ القاعدين لَو خَرجُوا فِيكُم مَا زادوكم إِلَّا خبالا} .
وَلَا مُشْركًا لقَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِنَّا لَا نستعين بمشرك إِلَّا عِنْد ضَرُورَة ووثوق بِهِ " وَلَا امْرَأَة شَابة يخَاف عَلَيْهَا، وَيَأْذَن للطاعنة فِي السن لِأَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْزُو بِأم سليم ونسوة من(2/270)
الْأَنْصَار يسقين المَاء ويداوين الْجَرْحى، ويعبي الْجَيْش ميمنة وميسرة، وَيجْعَل لكل قوم راية، وَلكُل طَائِفَة أَمِيرا وعريفا كَمَا فعل رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم الْفَتْح لِأَنَّهُ أَكثر إرهابا وَأقرب ضبطا، ويعين لَهُم شعارا يتكلمونه فِي البيات لِئَلَّا يقتل بَعضهم بَعْضًا كَمَا كَانَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل، وَيخرج يَوْم الْخَمِيس أَو الِاثْنَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَوْمَانِ يعرض فيهمَا الْأَعْمَال، وَقد ذكرنَا من قبل، " ويكلفهم من السّير مَا يطيقه الضَّعِيف
إِلَّا عِنْد الضَّرُورَة، وَيتَخَيَّر لَهُم من الْمنَازل أصلحها وأوفرها مَاء، وَينصب الحرس والطلائع إِذا خَافَ الْعَدو، وَيخْفى من أمره مَا اسْتَطَاعَ، ويورى إِلَّا من ذَوي الرَّأْي والنصيحة.
قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا تقطع الْأَيْدِي فِي الْغَزْو " وسره مَا بَينه عمر رَضِي الله عَنهُ أَلا تلْحقهُ حمية الشَّيْطَان فَيلْحق بالكفار، وَلِأَنَّهُ كثيرا مَا يُفْضِي إِلَى اخْتِلَاف بَين النَّاس، وَذَلِكَ يخل بمصلحتهم، وَيُقَاتل أهل الْكتاب وَالْمَجُوس حَتَّى يسلمُوا أَو يُعْطوا الْجِزْيَة عَن يَد وهم صاغرون، وَلَا يقتل وليدا. وَلَا امْرَأَة، وَلَا شَيخا فانيا إِلَّا عِنْد ضَرُورَة كالبيات، وَلَا يقطع الشّجر، وَلَا يحرق، وَلَا يعقر الدَّوَابّ إِلَّا إِذا تعيّنت الْمصلحَة فِي ذَلِك كالبويرة قَرْيَة بني النَّضِير، وَلَا يخيس بالعهد، وَلَا يحبس الْبرد لِأَنَّهُ سَبَب انْقِطَاع المراسلة بَينهم، ويخدع فَإِن الْحَرْب خدعة، ويهجم عَلَيْهِم غارين ويرميهم بالمنجنيق، ويحاصرهم، ويضيق عَلَيْهِم ثَبت عَن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كل ذَلِك، وَلِأَن الْقِتَال لَا يتَحَقَّق إِلَّا بِهِ كَمَا لَا حَاجَة إِلَى شَرحه، وَيجوز المبارزة بِإِذن الإِمَام لمن وثق بِنَفسِهِ كَمَا فعل عَليّ. وَحَمْزَة رَضِي الله عَنْهُمَا. وللمسلمين أَن يتصرفوا فِيمَا يجدونه هُنَالك من الْعلف وَالطَّعَام من غير أَن يُخَمّس لِأَنَّهُ لَو لم يرخص فِيهِ لضاق الْحَال فَإِذا أَسرُّوا أسراء خير الإِمَام بَين أَربع خِصَال، الْقَتْل، وَالْفِدَاء، والمن، والارقاق يفعل من ذَلِك الأحظ وَللْإِمَام أَن يعطيهم الْأمان ولآحادهم.
وَالْأَصْل فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِن أحد من الْمُشْركين استجارك فَأَجره} .
وَذَلِكَ لِأَن دُخُولهمْ فِي الْإِسْلَام لَا يتَحَقَّق إِلَّا بمخالطة الْمُسلمين وَمَعْرِفَة حجتهم وسيرتهم.
وَأَيْضًا فكثيرا مَا تقع الْحَاجة إِلَى تردد التُّجَّار وأشباههم، ويصالحهم بِمَال وَبِغير مَال فَإِن الْمُسلمين رُبمَا يضعفون عَن مقاتلة الْكفَّار فيحتاجون إِلَى الصُّلْح وَرُبمَا يَحْتَاجُونَ إِلَى المَال يتقوون بِهِ، أَو إِلَى أَن يأمنوا من شَرّ قوم فيجاهدوا آخَرين.(2/271)
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا أَلفَيْنِ أحدكُم يَجِيء يَوْم الْقِيَامَة على رقبته بعير لَهُ رُغَاء يَقُول يَا رَسُول الله أَغِثْنِي فَأَقُول: لَا أملك لَك شَيْئا قد بلغتك " وَنَحْو ذَلِك قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" على رقبته فرس لَهُ حَمْحَمَة وشَاة لَهَا يعار وَنَفس لَهَا صياح ورقاع تخفق ".
أَقُول الأَصْل فِي ذَلِك أَن الْمعْصِيَة تتَصَوَّر بِصُورَة مَا وَقعت فِيهِ، وَأما حمله فثقله والتأذي بِهِ، وَأما صَوته فعقوبته بإشاعة فاحشته على رُءُوس النَّاس.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِذا وجدْتُم الرجل قد غل فاحرقوا مَتَاعه كُله واضربوه " وَعمل بِهِ أَبُو بكر. وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا.
أَقُول سره الزّجر وكبح النَّاس أَن يَفْعَلُوا مثل ذَلِك
وَاعْلَم أَن الْأَمْوَال الْمَأْخُوذَة من الْكفَّار على قسمَيْنِ: مَا حصل مِنْهُم بِإِيجَاف الْخَيل والركاب وَاحْتِمَال أعباء الْقِتَال وَهُوَ الْغَنِيمَة.
وَمَا حصل مِنْهُم بِغَيْر قتال كالجزية وَالْخَرَاج والعشور الْمَأْخُوذَة من تجارهم وَمَا بذلوا صلحا أَو هربوا عَنهُ فَزعًا.
فالغنيمة تخمس وَيصرف الْخمس إِلَى مَا ذكر الله تَعَالَى فِي كِتَابه حَيْثُ قَالَ: {وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء فَأن لله خمسه وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى واليتامى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل} .
فَيُوضَع سهم رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعده فِي مصَالح الْمُسلمين الأهم فالأهم، وَسَهْم ذَوي الْقُرْبَى فِي بني هَاشم وَبني الْمطلب الْفَقِير مِنْهُم والغني وَالذكر وَالْأُنْثَى، وَعِنْدِي أَنه يُخَيّر الإِمَام فِي تعْيين الْمَقَادِير، وَكَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ يزِيد فِي فرض آل النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بَيت المَال ويعين الْمَدِين مِنْهُم والناكح وَذَا الْحَاجة، وَسَهْم الْيَتَامَى لصغير فَقير لَا أَب لَهُ، وَسَهْم الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين لَهُم يُفَوض كل ذَلِك إِلَى الإِمَام يجْتَهد فِي الْفَرْض وَتَقْدِيم الأهم فالأهم وَيفْعل مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده وَيقسم أَرْبَعَة أخماسه فِي الْغَانِمين يجْتَهد الإِمَام أَولا فِي حَال الْجَيْش فَمن كَانَ نفله أوفق بمصلحة الْمُسلمين نفل لَهُ، وَذَلِكَ بِإِحْدَى ثَلَاث.
أَن يكون الإِمَام دخل دَار الْحَرْب فَبعث سَرِيَّة تغير على قَرْيَة مثلا فَيجْعَل لَهَا الرّبع بعد الْخمس أَو الثُّلُث بعد الْخمس فَمَا قدمت بِهِ السّريَّة رفع خمسه ثمَّ أعطي السّريَّة ربع مَا غبر أَو ثلثه وَجعل الْبَاقِي فِي الْمَغَانِم.(2/272)
وثانيتها أَن يَجْعَل الإِمَام جعلا لمن يعْمل عملا فِيهِ غناء عَن الْمُسلمين، مثلا أَن يَقُول: من طلع هَذَا الْحصن فَلهُ كَذَا. وَمن جَاءَ بأسير فَلهُ كَذَا. من قتل قَتِيلا فَلهُ سلبه، فَإِن شَرط من مَال الْمُسلمين أعطي مِنْهُ، وَإِن شَرط من الْغَنِيمَة أعطي من أَرْبَعَة أَخْمَاس.
وثالثتها أَن يخص الإِمَام بعض الْغَانِمين بِشَيْء لغنائه وبأسه كَمَا أعطي
رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلمَة بن الْأَكْوَع فِي غَزْوَة ذِي قرد سهم الْفَارِس والراجل حَيْثُ ظهر مِنْهُ نفع عَظِيم للْمُسلمين.
وَالأَصَح عِنْدِي أَن السَّلب إِنَّمَا يسْتَحقّهُ الْقَاتِل بِجعْل الإِمَام قبل الْقَتْل أَو تنفيله بعده.
وَيرْفَع مَا يَنْبَغِي أَن يرْضخ دون السهْم للنِّسَاء يداوين المرضى، ويطبخن الطَّعَام، ويصلحن شَأْن الْغُزَاة وللعبيد وَالصبيان وَأهل الذِّمَّة الَّذين أذن لَهُم الإِمَام إِن حصل مِنْهُم نفع للغزاة وَإِن عثر على أَن شَيْئا من الْغَنِيمَة كَانَ مَال مُسلم ظفر بِهِ الْعَدو رد عَلَيْهِ بِلَا شَيْء، ثمَّ يقسم الْبَاقِي على من حضر الْوَقْعَة للفارس ثَلَاثَة أسْهم. وللراجل سهم.
وَعِنْدِي أَنه إِن رأى الإِمَام أَن يزِيد لركبان الْإِبِل أَو للرماة شَيْئا أَو يفضل العراب على البراذين بِشَيْء دون السهْم فَلهُ ذَلِك بعد أَن يشاور أهل الرَّأْي وَيكون أمرا لَا يخْتَلف عَلَيْهِ لأَجله وَبِه يجمع اخْتِلَاف سير النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم فِي الْبَاب.
وَمن بَعثه الْأَمِير لمصْلحَة الْجَيْش كالبريد والطليعة والجاسوس يُسهم لَهُ وَإِن لم يحضر الْوَقْعَة كَمَا كَانَ لعُثْمَان يَوْم بدر.
وَأما الْفَيْء فمصرفه مَا بَين الله تَعَالَى حَيْثُ قَالَ: {مَا أَفَاء الله على رَسُوله من أهل الْقرى فَللَّه وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القريى واليتامى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل} .
إِلَى قَوْله " {رءوف رَحِيم} وَلما قَرَأَهَا عمر رَضِي الله عَنهُ قَالَ: هَذِه استوعبت الْمُسلمين فيصرفه إِلَى الأهم فالأهم، وَينظر فِي ذَلِك إِلَى مصَالح الْمُسلمين لَا مصْلحَته الْخَاصَّة بِهِ.(2/273)
وَاخْتلفت السّنَن فِي كَيْفيَّة قسْمَة الْفَيْء، فَكَانَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذا أَتَاهُ الْفَيْء قسمه فِي يَوْمه، فَأعْطى الْأَهْل حظين، وَأعْطى الأعزب حظا، وَكَانَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ يقسم للْحرّ وَلِلْعَبْدِ. ويتوخى كِفَايَة الْحَاجة، وَوضع عمر رَضِي الله عَنهُ الدِّيوَان على السوابق والحاجات، فالرجل وَقدمه، وَالرجل وبلاؤه، وَالرجل وَعِيَاله، وَالرجل وَحَاجته، وَالْأَصْل فِي كل مَا كَانَ مثل هَذَا من الِاخْتِلَاف أَن يحمل على أَنه إِنَّمَا فعل ذَلِك على الِاجْتِهَاد فتوخى كل الْمصلحَة بِحَسب مَا رأى فِي وقته، والأراضي الَّتِي غلب عَلَيْهَا الْمُسلمُونَ للْإِمَام فِيهَا الْخِيَار. إِن شَاءَ قسمهَا فِي الْغَانِمين، وَإِن شَاءَ أوقفها على الْغُزَاة كَمَا فعل رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَر. قسم نصفهَا ووقف نصفهَا، ووقف عمر رَضِي الله عَنهُ أَرض السوَاد، وَإِن شَاءَ أسكنها الْكفَّار ذمَّة لنا.
وَأمر النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معَاذًا رَضِي الله عَنهُ أَن يَأْخُذ من كل حالم دِينَارا أَو عدله معافر، وَفرض عمر رَضِي الله عَنهُ على الْمُوسر ثَمَانِيَة وَأَرْبَعين درهما، وعَلى الْمُتَوَسّط أَرْبَعَة وَعشْرين، وعَلى الْفَقِير المعتمل اثْنَي عشر.
وَمن هُنَا يعلم أَن قدره مفوض إِلَى الإِمَام يفعل مَا يرى من الْمصلحَة، وَلذَلِك اخْتلفت سيرهم، وَكَذَلِكَ الحكم عِنْدِي فِي مقادير الْخراج وَجَمِيع مَا اخْتلفت فِيهِ سير النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخلفائه رَضِي الله عَنْهُم.
وَإِنَّمَا أَبَاحَ الله لنا الْغَنِيمَة والفيء لما بَينه النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: " لم تحل الْغَنَائِم لأحد من قبلنَا. . ذَلِك بِأَن الله رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِن الله فضل أمتِي على الْأُمَم وَأحل لنا الْغَنَائِم " وَقد شرحنا هَذَا فِي الْقسم الأول فَلَا نعيده.
وَالْأَصْل فِي المصارف أَن أُمَّهَات الْمَقَاصِد أُمُور:
مِنْهَا إبْقَاء نَاس لَا يقدرُونَ على شَيْء لزمانه أَو لاحتياج مَالهم أَو بعده مِنْهُم.
وَمِنْهَا حفظ الْمَدِينَة عَن شَرّ الْكفَّار بسد الثغور ونفقات الْمُقَاتلَة وَالسِّلَاح والكراع.
وَمِنْهَا تَدْبِير الْمَدِينَة وسياستها من الحراسة وَالْقَضَاء وَإِقَامَة الْحُدُود والحسبة.
وَمِنْهَا حفظ الْملَّة بِنصب الخطباء وَالْأَئِمَّة والوعاظ والمدرسين.
وَمِنْهَا مَنَافِع مُشْتَركَة ككرى الأنها وَبِنَاء القناطر وَنَحْو ذَلِك.
وَأَن الْبِلَاد على قسمَيْنِ. قسم تجرد لأهل الْإِسْلَام كالحجاز، أَو غلب عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ، وَقسم أَكثر أَهله الْكفَّار فغلب عَلَيْهِم الْمُسلمُونَ بعنوة أَو صلح.(2/274)
وَالْقسم الثَّانِي يحْتَاج إِلَى شَيْء كثير من جمع الرِّجَال وإعداد آلَات الْقِتَال وَنصب الْقُضَاة والحرس والعمال،
وَالْأول لَا يحْتَاج إِلَى هَذِه الْأَشْيَاء كَامِلَة وافرة.
وَأَرَادَ الشَّرْع أَن يوزع بَيت المَال الْمُجْتَمع فِي كل بِلَاد على مَا يلائمها فَجعل مصرف الزَّكَاة وَالْعشر مَا يكون فِيهِ كِفَايَة المحتاجين أَكثر من غَيرهَا، ومصرف الْغَنِيمَة والفيء مَا يكون فِيهِ إعداد الْمُقَاتلَة وَحفظ الْملَّة وتدبير الْمَدِينَة أَكثر، وَلذَلِك جعل سهم الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين والفقراء من الْغَنِيمَة والفيء أقل من سهمهم من الصَّدقَات وَسَهْم الْغُزَاة مِنْهُمَا أَكثر من سهمهم مِنْهَا.
ثمَّ الْغَنِيمَة إِنَّمَا تحصل بمعاناة وإيجاف خيل وركاب فَلَا تطيب قُلُوبهم إِلَّا بِأَن يُعْطوا مِنْهَا. والنواميس الْكُلية المضروبة على كَافَّة النَّاس لَا بُد فِيهَا من النّظر
إِلَى حَال عَامَّة النَّاس. وَمن ضم الرَّغْبَة الطبيعية إِلَى الرَّغْبَة الْعَقْلِيَّة وَلَا يرغبون إِلَّا بِأَن يكون هُنَاكَ مَا يجدونه بِالْقِتَالِ، فَلذَلِك كَانَ أَرْبَعَة أخماسها للغانمين والفيء إِنَّمَا يحصل بِالرُّعْبِ دون مُبَاشرَة الْقِتَال فَلَا يجب أَن يصرف على نَاس مخصوصين فَكَانَ حَقه أَن يقدم فِيهِ الأهم فالأهم.
وَالْأَصْل فِي الْخمس أَنه كَانَ المرباع عَادَة مستمرة فِي الْجَاهِلِيَّة يَأْخُذهُ رَئِيس الْقَوْم وعصبته فَتمكن ذَلِك فِي علومهم وَمَا كَادُوا يَجدونَ فِي أنفسهم حرجا مِنْهُ، وَفِيه قَالَ الْقَائِل:
(وَإِن لنا المرباع من كل غَارة ... تكون بِنَجْد أَو بِأَرْض التهائم)
فشرع الله تَعَالَى الْخمس لحوائج الْمَدِينَة وَالْملَّة نَحوا مِمَّا كَانَ عِنْدهم كَمَا أنزل الْآيَات على الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام نَحوا مِمَّا كَانَ شَائِعا ذائعا فيهم، وَكَانَ المرباع لرئيس الْقَوْم وعصبته تنويها بشأنهم وَلِأَنَّهُم مشغولون بِأَمْر الْعَامَّة محتاجون إِلَى نفقات كَثِيرَة، فَجعل الله الْخمس لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام مَشْغُول بِأَمْر النَّاس لَا يتفرغ أَن يكْتَسب لأَهله، فَوَجَبَ أَن تكون نَفَقَته فِي مَال الْمُسلمين، وَلِأَن النُّصْرَة حصلت بدعوة النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والرعب الَّذِي أعطَاهُ الله إِيَّاه، فَكَانَ كحاضر الْوَقْعَة، ولذوي الْقُرْبَى لأَنهم أَكثر النَّاس حمية لِلْإِسْلَامِ حَيْثُ اجْتمع فيهم الحمية الدِّينِيَّة إِلَى الحمية النسبية فَإِنَّهُ لَا فَخر لَهُم إِلَّا بعلو دين مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِأَن فِي ذَلِك تنويه أهل بَيت النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتلك مصلحَة رَاجِعَة إِلَى الْملَّة، وَإِذا كَانَ الْعلمَاء والقراء يكون توقيرهم تنويها بالملة يجب أَن يكون توقير ذَوي الْقُرْبَى كَذَلِك بِالْأولَى، وللمحتاجين وضبطهم بالمساكين والفقراء واليتامى، وَقد ثَبت أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعْطى الْمُؤَلّفَة قُلُوبهم وَغَيرهم من الْخمس.
وعَلى هَذَا فتخصيص هَذِه الْخَمْسَة بِالذكر للاهتمام بشأنها، والتوكيد أَلا
يتَّخذ الْخمس(2/275)
والفيء أغنياؤهم دولة فيهملوا جَانب المحتاجين، ولسد بَاب الظَّن السَّيئ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقرابته.
وَإِنَّمَا شرعت الْأَنْفَال والأرضاخ لِأَن الْإِنْسَان كثيرا مَا يقدم على مهلكة إِلَّا لشَيْء لَا يطْمع فِيهِ، وَذَلِكَ ديدن وَخلق للنَّاس لَا بُد من رعايته.
وَإِنَّمَا جعل للفارس ثَلَاثَة أسْهم وللراجل سهم لِأَن غناء الْفَارِس عَن الْمُسلمين أعظم ومؤنته أَكثر وَإِن رَأَيْت حَال الجيوش لم تشك أَن الْفَارِس لَا يطيب قلبه وَلَا تَكْفِي ومؤنته إِذا جعلت جائزته دون ثَلَاثَة أَضْعَاف سهم الراجل لَا يخْتَلف فِيهِ طوائف الْعَرَب والعجم على اخْتِلَاف أَحْوَالهم وعاداتهم.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَئِن عِشْت إِن شَاءَ الله لأخْرجَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى من جَزِيرَة الْعَرَب " وَأوصى بِإِخْرَاج الْمُشْركين مِنْهَا. أَقُول: عرف النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن الزَّمَان دوَل وسجال فَرُبمَا ضعف الْإِسْلَام وانتشر شَمله فَإِن كَانَ الْعَدو فِي مثل هَذَا الْوَقْت فِي بَيْضَة الْإِسْلَام ومحتده أفْضى ذَلِك إِلَى هتك حرمات الله وقطعها فَأمر بإخراجهم من حوالي دَار الْعلم وَمحل بَيت الله.
وَأَيْضًا المخالطة مَعَ الْكفَّار تفْسد على النَّاس دينهم وَتغَير نُفُوسهم، وَلما لم يكن بُد من المخالطة فِي الأقطار أَمر بتنقية الْحَرَمَيْنِ مِنْهُم، وَأَيْضًا انْكَشَفَ عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يكون فِي آخر الزَّمَان فَقَالَ: " إِن الدّين ليأرز إِلَى الْمَدِينَة " الحَدِيث وَلَا يتم ذَلِك إِلَّا بألا يكون هُنَاكَ من أهل سَائِر الْأَدْيَان، وَالله أعلم.(2/276)
(من أَبْوَاب الْمَعيشَة)
اعْلَم أَن جَمِيع سكان الأقاليم الصَّالِحَة اتَّفقُوا على مُرَاعَاة آدابهم فِي مطعمهم. وَمَشْرَبهمْ. وملبسهم. وقيامهم. وقعودهم. وَغير ذَلِك من الهيئات وَالْأَحْوَال، وَكَانَ ذَلِك كالأمر المفطور عَلَيْهِ الْإِنْسَان عِنْد سَلامَة مزاجه وَظُهُور مقتضيات نَوعه عِنْد اجْتِمَاع أَفْرَاد مِنْهُ، وتراءى بَعْضهَا لبَعض وَكَانَت لَهُم مَذَاهِب فِي ذَلِك.
فَكَانَ مِنْهُم من يسويها على قَوَاعِد الْحِكْمَة الطبيعية فيختار فِي كل ذَلِك مَا يُرْجَى نَفعه وَلَا يخْشَى ضَرَره بِحكم الطِّبّ والتجربة، وَمِنْهُم من يسويها على قوانين الْإِحْسَان حَسْبَمَا تعطيه مِلَّته، وَمِنْهُم من يُرِيد محاكاة مُلُوكهمْ وحكمائهم وَرُهْبَانهمْ، وَمِنْهُم من يسويها على غير ذَلِك، وَكَانَ فِي بعض ذَلِك مَنَافِع يجب التَّنْبِيه عَلَيْهَا وَالْأَمر بِهِ لأَجلهَا، وَفِي الْبَعْض الآخر مفاسد يجب أَن يُنْهِي عَنْهَا لأَجلهَا وينبه عَلَيْهَا، وَالْبَعْض الآخر غفل من الْمَعْنيين يجب أَن يبْقى على الأباحة ويرخص فِيهِ فَكَانَ تنقيحها والتفتيش عَنْهَا إِحْدَى الْمصَالح الَّتِي بعث النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا.
والعمدة فِي ذَلِك أُمُور:
فَمِنْهَا أَن الِاشْتِغَال بِهَذِهِ الأشغال ينسي ذكر الله ويكدر صفاء الْقلب فَيجب أَن يعالج هَذَا السم بترياق، وَهُوَ أَن يسن قبلهَا وَبعدهَا وَمَعَهَا أذكار تردع النَّفس عَن اطمئنانها بهَا بِأَن يكون فِيهَا مَا يذكر الْمُنعم الْحَقِيقِيّ ويميل الْفِكر إِلَى جَانب الْقُدس.
وَمِنْهَا أَن بعض الْأَفْعَال والهيآت تناسب أمزجة الشَّيَاطِين من حَيْثُ إِنَّهُم لَو تمثلوا فِي مَنَام أحد أَو يقظته لتلبسوا بِبَعْضِهَا لَا محَالة، فتلبس الْإِنْسَان
بهَا معد للتقرب مِنْهُم وانطباع ألوانها الخسيسة فِي نُفُوسهم فَيجب أَن يمْنَع عَنْهَا كَرَاهَة أَو تَحْرِيمًا حَسْبَمَا تحكم بِهِ الْمصلحَة كالمشي فِي نعل وَاحِدَة وَالْأكل بِالْيَدِ الْيُسْرَى، وَبَعضهَا مطردَة للشياطين مقربة من الْمَلَائِكَة كالذكر عِنْد ولوج الْبَيْت وَالْخُرُوج مِنْهُ، وَيجب أَن يحض عَلَيْهَا.(2/277)
وَمِنْهَا الِاحْتِرَاز عَن هيآت يتَحَقَّق فِيهَا التأذي بِحكم التجربة كالنوم على سطح غير محجوز وَترك المصابيح عِنْد النّوم، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" فَإِن الفويسقة تضرم على أَهلهَا ".
وَمِنْهَا مُخَالفَة الْأَعَاجِم فِيمَا اعتادوه من الترفه الْبَالِغ والتعمق فِي الاطمئنان بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا فأنساهم ذكر الله وَأوجب الْإِكْثَار من طلب الدُّنْيَا وتشبح اللَّذَّات فِي نُفُوسهم فَيجب أَن يخص رُءُوس تعمقاتهم بِالتَّحْرِيمِ كالحرير. والقسى. والمياثر. والأرجوان. وَالثيَاب المصنوعة فِيهَا الصُّور. وأواني الذَّهَب. وَالْفِضَّة. والمعصفر. والخلوق وَنَحْو ذَلِك، وَأَن يعم سَائِر عاداتهم بالكراهية، وَيسْتَحب ترك كثير من الإرفاه.
وَمِنْهَا الِاحْتِرَاز عَن هيآت تنَافِي الْوَقار وتلحق الْإِنْسَان بِأَهْل الْبَادِيَة مِمَّن لم يتفرغوا لأحكام النَّوْع ليحصل التَّوَسُّط بَين الإفراط والتفريط.
(الْأَطْعِمَة والأشربة)
اعْلَم أَنه لما كَانَت سَعَادَة الْإِنْسَان فِي الْأَخْلَاق الْأَرْبَعَة الَّتِي ذَكرنَاهَا وشقاوته فِي أضدادها أوجب حفظ الصِّحَّة النفسانية وطرد الْمَرَض النفساني أَن يفحص عَن أَسبَاب تغير مزاجه إِلَى إِحْدَى الوجهتين.
فَمِنْهَا أَفعَال تتلبس بهَا النَّفس وَتدْخل فِي جذر جوهرها، وَقد بحثنا عَن جملَة صَالِحَة من هَذَا الْبَاب.
وَمِنْهَا أُمُور تولد فِي النَّفس هيآت دنية توجب مشابهة الشَّيَاطِين والتبعد من الْمَلَائِكَة وَتحقّق أضداد الْأَخْلَاق الصَّالِحَة من حَيْثُ يَشْعُرُونَ وَمن حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، فتلقت النُّفُوس اللاحقة بالملأ الْأَعْلَى التاركة للألواث البهيمية من حَظِيرَة الْقُدس بشاعة تِلْكَ الْأُمُور كَمَا تلقى الطبيعة كَرَاهِيَة المر والبشع، وَأوجب لطف الله وَرَحمته بِالنَّاسِ أَن يكلفهم برءوس تِلْكَ الْأُمُور، وَالَّذِي هُوَ منضبط مِنْهَا وأثرها جلي غير خَافَ فيهم.
وَلما كَانَ أقوى أَسبَاب تغير الْبدن والأخلاق الْمَأْكُول وَجب أَن يكون رؤوسها من هَذَا الْبَاب، فَمن أَشد ذَلِك أثرا تنَاول الْحَيَوَان الَّذِي مسخ قوم بصورته، وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى إِذا لعن الْإِنْسَان وَغَضب عَلَيْهِ أورث غَضَبه ولعنه فِيهِ وجود مزاج هُوَ من سَلامَة الْإِنْسَان على طرف شاسع وصقيع بعيد حَتَّى يخرج من الصُّورَة النوعية بِالْكُلِّيَّةِ فَذَلِك أحد وُجُوه(2/278)
التعذيب فِي بدن الْإِنْسَان وَيكون خُرُوج مزاجه عِنْد ذَلِك إِلَى مشابهة حَيَوَان خَبِيث يتنفر مِنْهُ الطَّبْع السَّلِيم فَيُقَال فِي مثل ذَلِك مسخ الله قردة وَخَنَازِير فَكَانَ فِي حَظِيرَة الْقُدس علم متمثل أَن بَين هَذَا النَّوْع من الْحَيَوَان وَبَين كَون الْإِنْسَان مغضوبا عَلَيْهِ بَعيدا من الرَّحْمَة مُنَاسبَة خُفْيَة وَأَن بَينه وَبَين الطَّبْع السَّلِيم الْبَاقِي على فطرته بونا بَائِنا فَلَا جرم أَن تنَاول هَذَا الْحَيَوَان وَجعله جُزْء بدنه أَشد من مخامرة النَّجَاسَات وَالْأَفْعَال المهيجة للغضب وَلذَلِك لم يزل تراجمة حَظِيرَة الْقُدس نوح فَمن بعده من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام يحرمُونَ الْخِنْزِير ويأمرون بالتبعد مِنْهُ إِلَى أَن يتنزل عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فيقتله، وَيُشبه أَن الْخِنْزِير كَانَ يَأْكُلهُ قوم فنطقت الشَّرَائِع بِالنَّهْي عَنهُ وهجر أمره أَشد مَا يكون، والقردة. والفأرة لم تكن تُؤْكَل قطّ فَكفى ذَلِك عَن التَّأْكِيد الشَّديد، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الضَّب. " إِن الله غضب على سبط من
بني إِسْرَائِيل فمسخهم دَوَاب يدبون فِي الأَرْض فَلَا أَدْرِي لَعَلَّ هَذَا مِنْهَا "، وَقَالَ الله تَعَالَى: {جعل مِنْهُم القردة والخنازير وَعبد الطاغوت} .
وَنَظِيره مَا ورد من كَرَاهِيَة الْمكْث بِأَرْض وَقع فِيهَا الْخَسْف أَو الْعَذَاب، وكراهية هيآت المغضوب عَلَيْهِم فَإِن مخامرة هَذِه الْأَشْيَاء لَيست أدنى من مخامرة النَّجَاسَات، والتلبس بهَا لَيْسَ أقل تَأْثِيرا من التَّلَبُّس بالهيآت الَّتِي يقتضيها مزاج الشَّيْطَان.
ويتلوه تنَاول حَيَوَان جبل على الْأَخْلَاق المضادة للأخلاق الْمَطْلُوبَة من الْإِنْسَان حَتَّى صَار كالمندفع إِلَيْهَا بضرورة، وَصَارَ يضْرب بِهِ الْمثل، وَصَارَت الطبائع السليمة تستخبثه وتأبى تنَاوله اللَّهُمَّ إِلَّا قوم لَا يعبأ بهم، وَالَّذِي تَكَامل فِيهِ هَذَا الْمَعْنى وَظهر ظهورا بَينا وانقاد لَهُ الْعَرَب والعجم جَمِيعًا أَشْيَاء:
مِنْهَا السبَاع المخلوقة على الخدش. وَالْجرْح. والصولة. وقسوة الْقلب، وَلذَلِك قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي الذِّئْب: " أَو يَأْكُلهُ أحد "؟
وَمِنْهَا الْحَيَوَانَات المجبولة على إِيذَاء النَّاس والاختطاف مِنْهُم وانتهاز الفرص للإغارة عَلَيْهِم وَقبُول إلهام الشَّيَاطِين فِي ذَلِك كالغراب. والحديات. والوزغ. والذباب. والحية وَالْعَقْرَب وَنَحْو ذَلِك.(2/279)
وَمِنْهَا حيوانات جبلت على الصغار والهوان والتستر فِي الاخدود كالفأرة وخشاش الأَرْض.
وَمِنْهَا حيوانات تتعيش بالنجاسات أَو الجيفة ومخامرتها وتناولها حَتَّى امْتَلَأت أبدانها بالنتن.
وَمِنْهَا الْحمار فَإِنَّهُ يضْرب بِهِ الْمثل فِي الْحمق والهوان وَكَانَ كثير من أهل
الطبائع السليمة من الْعَرَب يحرمونه وَيُشبه الشَّيَاطِين، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِذا سَمِعْتُمْ نهيق الْحمار فتعوذوا بِاللَّه من الشَّيْطَان فَإِنَّهُ رأى شَيْطَانا "
وَأَيْضًا قد اتّفق الْأَطِبَّاء أَن هَذِه الْحَيَوَانَات كلهَا مُخَالفَة لمزاج نوع الْإِنْسَان لَا يسوغ تنَاولهَا طِبًّا.
وَاعْلَم أَن هَهُنَا أمورا مُبْهمَة تحْتَاج إِلَى ضبط الْحُدُود وتمييز الْمُشكل.
مِنْهَا أَن الْمُشْركين كَانُوا يذبحون لطواغيتهم يَتَقَرَّبُون بِهِ إِلَيْهَا وَهَذَا نوع من الْإِشْرَاك فاقتضت الْحِكْمَة الالهية أَن ينْهَى عَن هَذَا الْإِشْرَاك، ثمَّ يُؤَكد التَّحْرِيم بِالنَّهْي عَن تنَاول مَا ذبح لَهَا ليَكُون كابحا عَن ذَلِك الْفِعْل، وَأَيْضًا فَإِن قبح الذّبْح يسري فِي الْمَذْبُوح لما ذكرنَا فِي الصَّدَقَة ثمَّ الْمَذْبُوح للطواغيت أَمر مُبْهَم ضبط بِمَا أهل لغير الله بِهِ، وَبِمَا ذبح على النصب، وَبِمَا ذبحه غير المتدين بِتَحْرِيم الذّبْح بِغَيْر اسْم الله وهم الْمُسلمُونَ وَأهل الْكتاب، وجر ذَلِك أَن يُوجب ذكر اسْم الله عِنْد الذّبْح لِأَنَّهُ لَا يتَحَقَّق الْفرْقَان بَين الْحَلَال وَالْحرَام بَادِي الرَّأْي إِلَّا عِنْد ذَلِك، وَأَيْضًا فَإِن الْحِكْمَة الالهية لما أَبَاحَتْ لَهُم الْحَيَوَانَات الَّتِي هِيَ مثلهم فِي الْحَيَاة وَجعل لَهُم الطول عَلَيْهِم أوجبت أَلا يغفلوا عَن هَذِه النِّعْمَة عِنْد إزهاق أرواحها، وَذَلِكَ أَن يذكرُوا اسْم الله عَلَيْهَا، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى. {لِيذكرُوا اسْم الله على مَا رزقهم من بَهِيمَة الْأَنْعَام} .
وَمِنْهَا أَن الْميتَة حرَام فِي جَمِيع الْملَل والنحل، أما الْملَل فاتفقت عَلَيْهَا لما تلقى من حَظِيرَة الْقُدس أَنَّهَا من الْخَبَائِث، وَأما النَّحْل فَلَمَّا أدركوا أَن كثيرا مِنْهَا يكون بِمَنْزِلَة السم من أجل انتشار أخلاط سميَّة تنَافِي المزاج الإنساني عِنْد النزع، ثمَّ لَا بُد من تَمْيِيز الْميتَة من غَيرهَا فضبط بِمَا قصد إزهاق روحه للْأَكْل فجر ذَلِك إِلَى تَحْرِيم المتردية والنطيحة وَمَا أكل السَّبع فَإِنَّهَا كلهَا خبائث مؤذية.
وَمِنْهَا أَن الْعَرَب وَالْيَهُود كَانُوا يذبحون وينحرون وَكَانَ الْمَجُوس يخنقون ويبعجون وَالذّبْح والنحر سنة الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام توارثوهما، وَفِيهِمَا مصَالح.(2/280)
مِنْهَا إراحة الذَّبِيحَة فَإِنَّهُ أقرب طَرِيق لازهاق الرّوح، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" فليرح ذَبِيحَته " وَهُوَ سر النَّهْي عَن شريطة الشَّيْطَان.
وَمِنْهَا أَن الدَّم أحد النَّجَاسَات الَّتِي يغسلون الثِّيَاب إِذا أَصَابَهَا ويتحفظون مِنْهَا وَالذّبْح تَطْهِير للذبيحة مِنْهَا، والخنق والبعج تنجيس لَهَا بِهِ.
وَمِنْهَا أَنه صَار ذَلِك أحد شَعَائِر الْملَّة الحنيفة يعرف بِهِ الحنيفي من غَيره فَكَانَ بِمَنْزِلَة الْخِتَان وخصال الْفطْرَة، فَلَمَّا بعث النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقيما للملة الحنيفية وَجب الْحِفْظ عَلَيْهِ، ثمَّ لَا بُد من تَمْيِيز الخنق والبعج من غَيرهمَا، وَلَا يتَحَقَّق إِلَّا بِأَن يُوجب المحدد وَأَن يُوجب الْحلق واللبة فَهَذَا مَا نهى عَنهُ لأجل حفظ الصِّحَّة النفسانية والمصلحة الملية، وَأما الَّذِي ينْهَى عَنهُ لأجل الصِّحَّة الْبَدَنِيَّة كالسموم والمفترات فحالها ظَاهر.
وَإِذا تمهدت هَذِه الْأُصُول حَان أَن نشتغل بالتفصيل، فَنَقُول: مَا نهى الله عَنهُ من الْمَأْكُول صنفان: صنف نهى عَنهُ لِمَعْنى فِي نوع الْحَيَوَان. وصنف نهى عَنهُ لفقد شَرط الذّبْح، فالحيوان على أَقسَام: أَهلِي يُبَاح مِنْهُ الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم. وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {أحلّت لكم بَهِيمَة الْأَنْعَام} .
وَذَلِكَ لِأَنَّهَا طيبَة معتدلة المزاج مُوَافقَة لنَوْع الْإِنْسَان، وَأذن يَوْم خَيْبَر فِي الْخَيل وَنهى عَن الْحمر، وَذَلِكَ لِأَن الْخَيل يستطيبه الْعَرَب والعجم وَهُوَ
أفضل الدَّوَابّ عِنْدهم وَيُشبه الْإِنْسَان، وَالْحمار يضْرب بِهِ الْمثل فِي الْحمق والهوان وَهُوَ يرى الشَّيْطَان فينهق وَقد حرمه من الْعَرَب أذكاهم فطْرَة وأطيبهم نفسا، واكل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحم الدَّجَاج، وَفِي مَعْنَاهَا الأوز والبط لِأَنَّهَا من الطَّيِّبَات والديك يرى الْملك فيصقع، وَيحرم الْكَلْب والسنور لِأَنَّهُمَا من السبَاع ويأكلان الْجِيَف، وَالْكَلب شَيْطَان.
وَوَحْشِي يحل مِنْهُ مَا يشبه بَهِيمَة الْأَنْعَام فِي اسْمهَا ووصفها كالظباء وَالْبَقر الوحشي والنعامة، وأهدي لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحم الْحمار الوحشي فَأَكله والأرنب فَقبله، وَأكل الضَّب على مائدته لِأَن الْعَرَب يستطيبون هَذِه الْأَشْيَاء، وَاعْتذر فِي الضَّب تَارَة بِأَنَّهُ " لم يكن بِأَرْض قومِي فأجدني أعافه " وَتارَة بِاحْتِمَال المسخ وَالنَّهْي عَنهُ تَارَة وَلَيْسَ فِيهَا عِنْدِي تنَاقض لِأَنَّهُ كَانَ فِيهَا وَجْهَان جَمِيعًا كل وَاحِد كَاف فِي الْعذر لَكِن ترك مَا فِيهِ الِاحْتِمَال ورع من غير تَحْرِيم، وَأَرَادَ بِالنَّهْي الْكَرَاهَة التنزيهية،(2/281)
وَنهى عَن كل ذِي نَاب من السبَاع لخُرُوج طبيعتها من الِاعْتِدَال ولشكاسة أخلاقها وقسوة قلوبها.
وطير يُبَاح مِنْهُ الْحمام والعصفور لِأَنَّهُمَا من المستطاب، وَنهى عَن كل ذِي مخلب وسمى بَعْضهَا فَاسِقًا فَلَا يجوز تنَاوله وَيكرهُ مَا يَأْكُل الْجِيَف والنجاسة وكل مَا يستخبثه الْعَرَب لقَوْله تَعَالَى:
{يحرم عَلَيْهِم الْخَبَائِث} .
وَأكل الجرادفي عَهده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَن الْعَرَب يستطيبونه وبحري يُبَاح مِنْهُ مَا يستطيبه الْعَرَب كالسمك والعنبر وَأما مَا يستخبثه
الْعَرَب ويسميه باسم حَيَوَان محرم كالخنزير فَفِيهِ تعَارض الدَّلَائِل وَالتَّعَفُّف أفضل.
وَسُئِلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن السّمن مَاتَت فِيهِ الْفَأْرَة: فَقَالَ " ألقوها وَمَا حولهَا وكلوه " وَفِي رِوَايَة " إِذا وَقعت الْفَأْرَة فِي السّمن فان كَانَ جَامِدا فألقوها وَمَا حولهَا وَإِن كَانَ مَائِعا فَلَا تقربوه ".
أَقُول: الجيفة وَمَا تأثر من منهاني جَمِيع الْأُمَم والملل فَإِذا تميز الْخَبيث من غَيره ألْقى الْخَبيث وَأكل الطّيب وَإِن لم يُمكن التميز حرم كُله. وَدلّ الحَدِيث على حُرْمَة كل نجس ومتنجس.
وَنهى عَلَيْهِ السَّلَام عَن أكل الْجَلالَة وَأَلْبَانهَا، أَقُول ذَلِك لِأَنَّهَا لما شربت أعضائها النَّجَاسَة وانتشرت فِي جَمِيع أَجْزَائِهَا كَانَ حكمهَا حكم النَّجَاسَات أَو حكم من يتعيش بالنجاسات.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" أحلّت لنا ميتَتَانِ وَدَمَانِ أما الْمَيتَتَانِ الْحُوت وَالْجَرَاد والدمان الكبد وَالطحَال "، أَقُول: الكبد وَالطحَال عضوان من أَعْضَاء بدن الْبَهِيمَة لكنهما يشبهان الدَّم فأزاح النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشّبَه فيهمَا وَلَيْسَ فِي الْحُوت وَالْجَرَاد دم مسفوح فَلذَلِك لم يشرع فيهمَا الذّبْح، وَأمر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتل الوزغ وَسَماهُ فَاسِقًا وَقَالَ: " كَانَ ينْفخ على إِبْرَاهِيم " وَقَالَ: " من قتل وزغا فِي أول ضَرْبَة كتب لَهُ كَذَا وَكَذَا وَفِي الثَّانِيَة دون ذَلِك وَفِي الثَّالِثَة دون ذَلِك ".
أَقُول: بعض الْحَيَوَان جبل بِحَيْثُ يصدر مِنْهُ أَفعَال وهيآت شيطانية وَهُوَ أقرب الْحَيَوَان شبها بالشيطان وأطوعه لوسوسته، وَقد علم النَّبِي
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن مِنْهُ الوزغ وَنبهَ على ذَلِك بِأَنَّهُ كَانَ ينْفخ على إِبْرَاهِيم لانقياده بِحَسب الطبيعة لوسوسة الشَّيْطَان وَإِن لم ينفع نفخه فِي(2/282)
النَّار شَيْئا، وَإِنَّمَا رغب فِي قَتله لمعنيين: أَحدهمَا أَن فِيهِ دفع مَا يُؤْذِي نوع الْإِنْسَان فَمثله كَمثل قطع أَشجَار السمُوم من الْبلدَانِ وَنَحْو ذَلِك مِمَّا فِيهِ جمع شملهم.
وَالثَّانِي أَن فِيهِ كسر جند الشَّيْطَان وَنقص وكر وسوسته، وَذَلِكَ مَحْبُوب عِنْد الله وَمَلَائِكَته المقربين، وَإِنَّمَا كَانَ الْقَتْل فِي أول ضَرْبَة أفضل من قَتله فِي الثَّانِيَة لما فِيهِ من الحذاقة والسرعة إِلَى الْخَيْر، وَالله أعلم.
قَالَ الله تَعَالَى:
{حرمت عَلَيْكُم الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير وَمَا أهل لغير الله بِهِ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَا أكل السَّبع إِلَّا مَا ذكيتم وَمَا ذبح عَن النصب وَأَن تستقسموا بالأزلام ذَلِكُم فسق} .
أَقُول: فالميتة وَالدَّم لِأَنَّهُمَا نجسان، وَالْخِنْزِير لِأَنَّهُ حَيَوَان مسخ بصورته قوم (وَمَا أهل لغير الله بِهِ) (وَمَا ذبح على النصب) يَعْنِي الْأَصْنَام قطعا لدابر الشّرك، وَلِأَن قبح الْفِعْل يسري فِي الْمَفْعُول بِهِ و (المنخنقة) وَهِي الَّتِي تخنق فتموت (والمتردية) وَهِي الَّتِي تقع من الْأَعْلَى إِلَى الْأَسْفَل (والنطيحة) وَهِي الَّتِي قتلت نطحا بالقرون (وَمَا أكل السَّبع) فَبَقيَ مِنْهُ لِأَنَّهُ ضبط الْمَذْبُوح الطّيب بِمَا قصد إزهاق الرّوح بِاسْتِعْمَال المحدد فِي حلقه أَو لبته فجر ذَلِك إِلَى تَحْرِيم هَذِه الْأَشْيَاء.
وَأَيْضًا فَإِن الدَّم المسفوح ينتشر فِيهِ ويتنجس جَمِيع الْبدن (إِلَّا مَا ذكيتم) أَي وجدتموه قد أُصِيب بِبَعْض هَذِه الْأَشْيَاء، وَفِيه حَيَاة مُسْتَقِرَّة فذبحتموه فَكَانَ إزهاق روحه بِالذبْحِ (وَأَن تستقسموا بالأزلام) أَي تَطْلُبُوا علم مَا قسم لكم من الْخَيْر وَالشَّر بِالْقداحِ الَّتِي كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يجيلونها، فِي أَحدهَا افْعَل، وَالثَّانِي لَا تفعل، وَالثَّالِث غفل فَإِن ذَلِك افتراء على الله واعتماد على جهل.
وَنهى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن تصبر بَهِيمَة وَعَن أكل المصبورة أَقُول كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يصبرون الْبَهَائِم ويرمونها بِالنَّبلِ، وَفِي ذَلِك إيلام غير مُحْتَاج إِلَيْهِ وَلِأَنَّهُ لم يصر قربانا إِلَى الله وَلَا شكر بِهِ نعم الله.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِن الله كتب الاحسان على كل شَيْء فَإِذا قتلتم فَأحْسنُوا القتلة وَإِذا ذبحتم فَأحْسنُوا الذبْحَة وليحد احدكم شفرته وليرح ذَبِيحَته ".(2/283)
أَقُول: فِي اخْتِيَار أقرب طَرِيق لازهاق الرّوح اتِّبَاع دَاعِيَة الرَّحْمَة وَهِي خلة يرضى بهَا رب الْعَالمين ويتوقف عَلَيْهَا اكثر الْمصَالح المنزلية والمدنية.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَا يقطع من الْبَهِيمَة وَهِي حَيَّة فَهِيَ ميتَة " أَقُول:
" كَانُوا يجبونَ أسنمة الابل ويقطعون إليات الْغنم وَفِي ذَلِك تَعْذِيب ومناقضة لما شرع الله من الذّبْح، فَنهى عَنهُ.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من قتل عصفورا فَمَا فَوْقه بِغَيْر حَقه سَأَلَهُ الله عز وَجل عَن قَتله، قيل: يَا رَسُول الله وَمَا حَقه؟ قَالَ. أَن يذبحه فيأكله
وَلَا يقطع رَأسه فَيرمى بِهِ " أَقُول: هَهُنَا شيآن متشابهان لَا بُد من التَّمْيِيز بَينهمَا: أَحدهمَا الذّبْح للْحَاجة وَاتِّبَاع دَاعِيَة إِقَامَة مصلحَة نوع الْإِنْسَان.
وَالثَّانِي السَّعْي فِي الأَرْض بِفساد نوع الْحَيَوَان وَاتِّبَاع دَاعِيَة قسوة الْقلب.
وَاعْلَم أَنه كَانَ الِاصْطِيَاد ديدنا للْعَرَب وسيرة فَاشِية فيهم حَتَّى كَانَ ذَلِك أحد المكاسب الَّتِي عَلَيْهَا معاشهم فأباحه النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَين مَا فِي إكثاره بقوله:
" من اتبع الصَّيْد لَهَا ".
وَأَحْكَام الصَّيْد تبنى على أَنه مَحْمُول على الذّبْح فِي جَمِيع الشُّرُوط إِلَّا فِيمَا يعسر الْحِفْظ عَلَيْهِ وَيكون أَكثر سَعْيهمْ أَن اشْترط بَاطِلا فَيشْتَرط التَّسْمِيَة على إرْسَال الْجَارِح أَو الرَّمْي وَنَحْوهَا وَيشْتَرط أَهْلِيَّة الصَّائِد وَلَا يشْتَرط الذّبْح وَلَا الْحلق واللبة وعَلى تَحْقِيق ذاتيات الِاصْطِيَاد كارسال الْجَارِح الْمعلم قصدا وَإِلَّا كَانَ ظفرا بالصيد اتِّفَاقًا لَا اصطيادا، وَكَون الْجَارِح لم يَأْكُل مِنْهُ فَإِن أكل فَأدْرك حَيا وذكى حل وَإِلَّا لَا، وَذَلِكَ تَحْقِيقا لِمَعْنى الْمعلم وتميزا لَهُ مِمَّا أكل السَّبع.
وَسُئِلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن أَحْكَام الصَّيْد والذبائح فَأجَاب بالتخريج على هَذِه الْأُصُول.
قيل: إِنَّا بِأَرْض قوم أهل كتاب أفنأ كل فِي آنيتهم؟ وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الَّذِي لَيْسَ بمعلم ولكلبي الْمعلم فَمَا يصلح لي؟ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أما مَا ذكرت من آنِية أهل الْكتاب فَإِن وجدْتُم غَيرهَا فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا وَإِن لم تَجدوا فاغسلوها وكلوا فِيهَا وَمَا صدت بقوسك فَذكرت اسْم الله فَكل وَمَا صدت بكلبك الْمعلم فَذكرت اسْم الله فَكل وَمَا صدت بكلبك غير الْمعلم وَأدْركت ذَكَاته فَكل ".
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" فَإِن وجدْتُم غَيرهَا فَلَا تَأْكُلُوا فِيهَا ".(2/284)
أَقُول: ذَلِك تحريا للمختار وراحة للقلب من الوساوس وَقيل: يَا رَسُول الله إِنَّا نرسل الْكلاب المعلمة قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذا أرْسلت كلبك فاذكر اسْم الله فَإِن أمسك عَلَيْك فَأَدْرَكته حَيا فاذبحه وَإِن أَدْرَكته قد قتل وَلم يَأْكُل مِنْهُ فكله فَإِن أكل فَلَا تَأْكُل فَإِنَّمَا أمسك على نَفسه وَإِن وجدت مَعَ كلبك كَلْبا غَيره وَقد قتل فَلَا تَأْكُل فَإنَّك لَا تَدْرِي أَيهمَا قَتله، قيل: يَا رَسُول الله ارمي الصَّيْد فَإِنِّي فأجد فِيهِ من الْغَد سهمي قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَإِذا رميت سهمك فاذكر اسْم الله فَإِن غَابَ عَنْك يَوْمًا فَلم تَجِد فِيهِ إِلَّا أثر سهمك فَكل إِن شِئْت وَإِن وجدته غريقا فِي المَاء فَلَا تَأْكُل " قيل: " إِنَّا نرمي بالمعراض قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كل مَا خزق وَمَا أصَاب بعرضه فَقتل فانه وقيذ فَلَا تَأْكُل، قيل: " يَا رَسُول الله إِن هُنَا أَقْوَامًا حَدِيث عَهدهم بشرك يأتوننا بلحمان لَا نَدْرِي يذكرُونَ اسْم الله عَلَيْهَا أم لَا، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اذْكروا أَنْتُم اسْم الله وكلوا " أَقُول: أَصله أَن الحكم على الظَّاهِر، قيل: " إِنَّا لاقوا الْعَدو غَدا وَلَيْسَت مَعنا مدى أفنذبح بالقصب؟ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أنهر الدَّم وَذكر اسْم الله فَكل لَيْسَ السن وَالظفر وسأحدثك عَنهُ أما السن فَعظم وَأما الظفر فمدى الْحَبَش " وند بعير فَرَمَاهُ رجل بِسَهْم فحبسه فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِن لهَذِهِ الْإِبِل أوابد كأوابد الْوَحْش فَإِذا غَلَبَكُمْ مِنْهَا شَيْء فافعلوا بِهِ هَكَذَا " أَقُول: لِأَنَّهُ صَار وحشيا فَكَانَ حكمه حكم الصَّيْد.
وَسُئِلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن شَاة أَبْصرت جَارِيَة بهَا موتا فَكسرت حجرا فذبحتها فَأمر بأكلها.
قيل: " إِن من الطَّعَام طَعَاما أتحرج مِنْهُ؟ قَالَ لَا يختلجن فِي صدرك شَيْء، ضارعت فِيهِ النَّصْرَانِيَّة ".
قيل: " يَا رَسُول نَنْحَر النَّاقة ونذبح الْبَقر وَالشَّاة فنجد فِي بَطنهَا الْجَنِين أنلقيه أم نأكله؟ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كلوه إِن شِئْتُم فَإِن ذَكَاته زَكَاة أمه ".(2/285)
(آدَاب الطَّعَام)
وَاعْلَم أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علم آدابا يتأدبون فِيهَا فِي الطَّعَام.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بركَة الطَّعَام والضوء قبله وَالْوُضُوء بعده " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" كيلوا طَعَامكُمْ يُبَارك لكم " وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " إِذا أكل أحدكُم طَعَاما فَلَا يَأْكُل من أَعلَى الصحفة وَلَكِن ليَأْكُل من أَسْفَلهَا فان الْبركَة تنزل من أَعْلَاهَا ".
أَقُول: من الْبركَة أَن تشبع النَّفس، وتقر الْعين، وينجمع الخاطر، وَلَا يكون هاعا لاعا كَالَّذي يَأْكُل وَلَا يشْبع.
تَفْصِيل ذَلِك أَنه رُبمَا يكون رجلَانِ عِنْد كل مِنْهُمَا مائَة دِرْهَم، وَأَحَدهمَا يخْشَى الْعيلَة ويطمع فِي أَمْوَال النَّاس وَلَا يَهْتَدِي لصرف مَاله فِيمَا يَنْفَعهُ فِي دينه ودنياه، وَالْآخر متعفف يحسبه الْجَاهِل غَنِيا مقتصدا فِي معيشته منجمعا فِي نَفسه.
فَالثَّانِي بورك لَهُ فِي مَاله، وَالْأول لم يُبَارك لَهُ، وَمن الْبركَة أَن يصرف الشَّيْء فِي الْحَاجة وَيَكْفِي عَن أَمْثَاله.
تَفْصِيله أَنه رُبمَا يكون رجلَانِ يَأْكُل كل وَاحِد رطلا يصرف طبيعة أَحدهمَا إِلَى تغذية الْبدن وَيحدث فِي معدة الآخر آفَة فَلَا يَنْفَعهُ مَا أكل بل رُبمَا صَار ضارا، وَرُبمَا يكون لكل مِنْهُمَا مَال فَيصْرف أَحدهمَا فِي مثل ضَيْعَة كَثِيرَة الرِّيف ويهتدي لتدبير المعاش، وَالثَّانِي يبذر تبذيرا فَلَا يَقع من حَاجته فِي شَيْء.
وَإِن لهيآت النَّفس وعقائدها مدخلًا فِي ظُهُور الْبركَة، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: " فَمن اخذه بإشراف نفس لم يُبَارك لَهُ فِيهِ وَكَانَ كَالَّذي لَا يَأْكُل وَلَا يشْبع " وَلذَلِك تزلق رجل الْمَاشِي على الْجذع فِي الجو دون الأَرْض فَإِذا أقبل على شَيْء بالهمة وَأَرَادَ بِهِ أَن يَقع كِفَايَة عَن حَاجته وَجمع نَفسه فِي ذَلِك كَانَ سَبَب قوه عينه وانجماع خاطره وتعفف نَفسه، وَرُبمَا يسري ذَلِك إِلَى الطبيعة فصرفت فِيمَا لَا بُد مِنْهُ، فَإِذا عسل يَدَيْهِ قبل الطَّعَام وَنزع النَّعْلَيْنِ وَاطْمَأَنَّ فِي مَجْلِسه وَأَخذه اعتدادا بِهِ وَذكر اسْم الله أفيضت عَلَيْهِ الْبركَة، وَإِذا كال الطَّعَام وَعرف مِقْدَاره واقتصد فِي صرفه وَصَرفه على عينه كَانَ أدنى أَن يَكْفِيهِ اقل مِمَّا لَا يَكْفِي الآخرين، وَإِذا جعل الطَّعَام بهيئة مُنكرَة تعافها الْأَنْفس وَلَا تَعْتَد بِهِ لأَجلهَا كَانَ أدنى أَلا يكفى أَكثر مِمَّا يَكْفِي الآخرين كَيفَ وَلَا أَظن أَن أحدا يخفى عَلَيْهِ أَن الْإِنْسَان رُبمَا يَأْكُل الرَّغِيف(2/286)
كَهَيئَةِ المتفكه أَو يَأْكُلهُ وَهُوَ يمشي وَيحدث فَلَا يجد لَهُ بَالا وَلَا يرى نَفسه قد اغتدت وَلَا تشبع بِهِ نَفسه وَإِن امْتَلَأت الْمعدة وَرُبمَا يَأْخُذ مِقْدَار الرطل جزَافا فَيكون الزَّائِد يَسْتَوِي وجوده وَعَدَمه وَلَا يَقع من الْحَاجة فِي شَيْء ويجد الطَّعَام بعد حِين وَقد ظهر فِيهِ النُّقْصَان.
وَبِالْجُمْلَةِ لوُجُود الْبركَة وَعدمهَا أَسبَاب طبيعية يمد فِي ضمنهَا ملك كريم أَو شَيْطَان رجيم، وينفخ فِي هيكلها روح ملكي أَو شيطاني، وَالله أعلم.
أما غسل الْيَد قبل الطَّعَام فَفِيهِ إِزَالَة الْوَسخ، وَأما غسلهَا بعده فَفِيهِ إِزَالَة الْغمر وكراهية ان يفْسد عَلَيْهِ ثِيَابه، أَو يخدشه سبع أَو تلدغه هَامة، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من بَات وَفِي يَده غمر لم يغسلهُ فَأَصَابَهُ شَيْء فَلَا يَلُومن إِلَّا نَفسه ".
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِذا أكل أحدكُم فَليَأْكُل بِيَمِينِهِ وَإِذا شرب فليشرب بِيَمِينِهِ "، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَأْكُل أحدكُم بِشمَالِهِ وَلَا يشرب بِشمَالِهِ فَإِن الشَّيْطَان يَأْكُل بِشمَالِهِ وَيشْرب بِشمَالِهِ ".
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِن الشَّيْطَان يسْتَحل الطَّعَام إِلَّا يذكر اسْم الله عَلَيْهِ:.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذا أكل أحدكُم فنسي أَن يذكر اسْم الله على طَعَامه فَلْيقل بِسم الله أَوله وَآخره " وَقَالَ فِيمَن فعل ذَلِك: " مَا زَالَ الشَّيْطَان يَأْكُل مَعَه فَلَمَّا ذكر اسْم الله استقاء مَا فِي بَطْنه " وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " إِن الشَّيْطَان يحضر أحدكُم عِنْد كل شَيْء من شَأْنه حَتَّى يحضر عِنْد طَعَامه فَإِذا سَقَطت من أحدكُم اللُّقْمَة فليمط مَا كَانَ بهَا من أَذَى ثمَّ ليأكلها وَلَا يَدعهَا للشَّيْطَان ".
أَقُول من الْعلم الَّذِي أعطَاهُ الله نبيه حَال الْمَلَائِكَة وَالشَّيَاطِين وانتشارهم فِي الأَرْض يتلَقَّى هَؤُلَاءِ من الْمَلأ الْأَعْلَى إلهامات خير فيوحونه إِلَى بني آدم، وينبجس من مزاج الشَّيَاطِين آراء فَاسِدَة تميل إِلَى فَسَاد النظامات الفاضلة ومعصية حكم الْوَقار وَمَا تَقْتَضِيه الطبيعة السليمة فيفعلون ذَلِك ويوحونه إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ من الْأنس.
فَمن حَال الشَّيَاطِين أَنهم إِذا تمثلوا فِي الْمَنَام أَو الْيَقَظَة تمثلوا فِي بهيآت مُنكرَة تنفر مِنْهَا الطبائع السليمة كَالْأَكْلِ بالشمال، وكصورة الأجدع وَنَحْو ذَلِك.
وَمِنْهَا أَنه قد تنطبع فِي نُفُوسهم هيآت دنية تنبجس فِي بني آدم من البهيمية كالجوع والشبق، فَإِذا حدثت فيهم انْدَفَعُوا إِلَى اخْتِلَاط بِتِلْكَ الْحَاجَات وتلفع بهَا ومحاكاة مَا يَفْعَله الْأنس عِنْدهَا ويتخيلون فِي ذَلِك
قَضَاء تِلْكَ الشَّهْوَة يقضون بذلك أوطارهم، فَيصير(2/287)
الْوَلَد الَّذِي حصل من جماع اشْترك فِيهِ الشَّيَاطِين وقضوا عِنْده وطرهم قَلِيل الْبركَة مائلا إِلَى الشيطنة، وَالطَّعَام الَّذِي باشروه وقضوا بِهِ وطرهم قَلِيل الْبركَة لَا ينفع النَّاس بل رُبمَا يضرهم وَذكر اسْم الله والتعوذ بِاللَّه مضاد بالطبع لَهُم، وَلذَلِك ينخنسون عَمَّن ذكر الله وتعوذ بِهِ
وَقد اتّفق لنا أَنه زارنا ذَات يَوْم رجل من أَصْحَابنَا فَقَرَّبْنَا إِلَيْهِ شَيْئا، فَبينا يَأْكُل إِذا سَقَطت كسرة من يَده وتدهدهت فِي الأَرْض فَجعل يتبعهَا وَجعلت تتباعد عَنهُ حَتَّى تعجب الْحَاضِرُونَ بعض الْعجب وكابد هُوَ فِي تتبعها بعض الْجهد، ثمَّ إِنَّه أَخذهَا فَأكلهَا فَلَمَّا كَانَ بعد أَيَّام تخبط الشَّيْطَان إنْسَانا وَتكلم على لِسَانه فَكَانَ فِيمَا تكلم أَنِّي مَرَرْت بفلان وَهُوَ يَأْكُل فَأَعْجَبَنِي ذَلِك الطَّعَام فَلم يطعمني شَيْئا فخطفته من يَده فنازعني حَتَّى أَخذه مني.
وَبينا يَأْكُل أهل بيتنا أصُول الجزر إِذا تدهده بَعْضهَا فَوَثَبَ عَلَيْهِ إِنْسَان فَأَخذه وَأكله فَأَصَابَهُ وجع فِي صَدره ومعدته ثمَّ تخبطه الشَّيْطَان فَأخْبر على لِسَانه أَنه كَانَ أَخذ ذَلِك المتدهدة، وَقد قرع أسماعنا شَيْء كثير من هَذَا النَّوْع حَتَّى علمنَا أَن هَذِه الْأَحَادِيث لَيست من بَاب إِرَادَة الْمجَاز وَإِنَّمَا أُرِيد بهَا حَقِيقَتهَا، وَالله أعلم.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذا وَقع الذُّبَاب فِي إِنَاء أحدكُم فليغمسه كُله ثمَّ ليطرحه فَإِن فِي أحد جناحيه شِفَاء وَفِي الآخر دَاء " وَفِي رِوَايَة " وَإنَّهُ يتقى بجناحيه الَّذِي فِيهِ الدَّاء " وَأعلم أَن الله تَعَالَى خلق الطبيعة فِي الْحَيَوَان مُدبرَة لبدنه فَرُبمَا دفعت الْموَاد المؤذية الَّتِي لَا تصلح أَن تصير جُزْء الْبدن من أعماق الْبدن إِلَى أَطْرَافه وَلذَلِك نهى الْأَطِبَّاء عَن أكل أَذْنَاب الدَّوَابّ
فالذباب كثيرا مَا يتَنَاوَل أغذية فَاسِدَة لَا تصلح جُزْءا للبدن فتدفعها الطبيعة إِلَى أخس عُضْو مِنْهُ كالجناح، ثمَّ إِن ذَلِك الْعُضْو لما فِيهِ من الْمَادَّة السمية ينْدَفع إِلَى الحك وَيكون أقدم أَعْضَائِهِ عِنْد الهجوم فِي المضايق، وَمن حِكْمَة الله تَعَالَى أَنه لم يَجْعَل فِي شَيْء سما إِلَّا جعل فِيهِ ترياقيه لتحفظ بهَا بَينه الْحَيَوَان، وَلَو ذكرنَا هَذَا المبحث من الطِّبّ لطال الْكَلَام. وَبِالْجُمْلَةِ فسم لسع الذُّبَاب فِي بعض الْأَزْمِنَة وَعند تنَاول بعض الأغذية محسوس مَعْلُوم وتحرك الْعُضْو الَّذِي تنْدَفع إِلَيْهِ الْمَادَّة اللذاعة مَعْلُوم، وَأَن الطبيعة يختفي فِيهَا مَا يُقَاوم مثل هَذِه الْموَاد المؤذية مَعْلُوم فَمَا الَّذِي يستبعد من هَذَا المبحث.
وَمَا أكل رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على خوان وَلَا فِي سكرجة وَلَا خبز لَهُ مرقق وَلَا رأى(2/288)
شَاة سميطا بِعَيْنِه قطّ. وَلَا أكل مُتكئا. وَمَا رأى منخلا كَانُوا يَأْكُلُون الشّعير غير منخول.
اعْلَم أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث فِي الْعَرَب وعاداتهم أَوسط الْعَادَات وَلم يَكُونُوا يتكلفون تكلّف الْعَجم وَالْأَخْذ بهَا أحسن وَأدنى أَلا يتعمقوا فِي الدُّنْيَا وَلَا يعرضُوا عَن ذكر الله، وَأَيْضًا أحسن لأَصْحَاب الْملَّة من أَن يتبعوا إمامها فِي كل نقير وقطمير.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِن الْمُؤمن يَأْكُل فِي معى وَاحِد وَالْكَافِر يَأْكُل فِي سَبْعَة أمعاء ".
أَقُول: مَعْنَاهُ أَن الْكَافِر همه بَطْنه وَالْمُؤمن همه آخرته وَأَن الحرى
بِالْمُؤمنِ أَن يقلل الطَّعَام وَأَن تقليله خصْلَة من خِصَال الْإِيمَان وَأَن شرة الْأكل خصْلَة من خِصَال الْكفْر.
وَنهى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن يقرن الرجل بَين تمرتين.
أَقُول: النَّهْي عَن الْقرَان يحْتَمل وُجُوهًا: مِنْهَا أَنه لَا يحسن المضع عِنْد جمع تمرتين وَأَنه أدنى أَن تؤذيه إِحْدَى النواتين لنُقْصَان ضبطهما بِخِلَاف النواة الْوَاحِدَة.
وَمِنْهَا أَن ذَلِك هَيْئَة من هيآت الشره والحرص.
وَمِنْهَا أَنه استئثار على أَصْحَابه ومظنة أَن يكرههُ أَصْحَابه وَيَزُول هَذَا الْمَعْنى بالاذن.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يجوع أهل بَيت عِنْدهم تمر "، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " بَيت لَا تمر فِيهِ جِيَاع أَهله " وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " نعم الادام الْخلّ ".
أَقُول من تَدْبِير الْمنزل أَن يدّخر فِي بَيته شَيْئا تافها يجده رخيصا فِي السُّوق كالتمر فِي الْمَدِينَة وأصول الجزر وَنَحْوهَا فِي سَواد بِلَادنَا فَإِن وجد طَعَاما يشتهيه فِيهَا إِلَّا كَانَ الَّذِي عِنْده كفافا لَهُم وسترا فان لم يَفْعَلُوا ذَلِك كَانُوا على شرف الْجُوع وَكَذَلِكَ حَال الادام.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أكل ثوما أَو بصلا فليعتزلنا " وأتى بِقدر فِيهِ خضرات لَهَا رَائِحَة فَقَالَ، لبَعض اصحابة: " كل فَانِي أُنَاجِي من لَا تناجي ".
أَقُول: الْمَلَائِكَة تحب من النَّاس النَّظَافَة وَالطّيب وكل شَيْء يهيج خلق
التَّنْظِيف وتتنفر من أضداد ذَلِك، وَفرق النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَين مَا كَانَ هُوَ شَرِيعَة الْمُحْسِنِينَ المتلعلع فيهم أنوار الملكية وَبَين غَيرهم.(2/289)
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِن الله يرضى من العَبْد أَن يَأْكُل الْأكلَة فيحمده عَلَيْهَا وَيشْرب الشربة وَيَحْمَدهُ عَلَيْهَا " قد مر سره.
وَقد روى عَن الْحَمد صِيغ أَيهَا فعل فقد أدّى السّنة: مِنْهَا الْحَمد لله حمدا كثيرا طيبا مُبَارَكًا فِيهِ غير مكفى وَلَا مُودع وَلَا مُسْتَغْنى عَنهُ رَبنَا ".
وَمِنْهَا الْحَمد الَّذِي أطعمنَا وَسَقَانَا وَجَعَلنَا مُسلمين.
وَمِنْهَا الْحَمد لله الَّذِي أطْعم وَسَقَى وسوغه وَجعل لَهُ مخرجا.
وَلما كَانَت الضِّيَافَة بَابا من أَبْوَاب السماحة وسببا لجمع شَمل الْمَدِينَة وَالْملَّة مُؤديا إِلَى تودد النَّاس وَألا يتَضَرَّر أَبنَاء السَّبِيل وَجب أَن تعد من الزَّكَاة ويرغب فِيهَا ويحث عَلَيْهَا، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَليُكرم ضَيفه " ثمَّ مست الْحَاجة إِلَى تَقْدِير مُدَّة الضِّيَافَة لِئَلَّا يحرج الضَّيْف أَو يعد الْقَلِيل مِنْهَا كثيرا فَقدر الاكرام بِيَوْم وَلَيْلَة وَهُوَ الجائزه وَجعل آخر الضِّيَافَة ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ بعد ذَلِك صَدَقَة.
(المسكرات)
وَاعْلَم أَن إِزَالَة الْعقل بتناول الْمُسكر يحكم الْعقل بقبحه لَا محَالة إِذْ فِيهِ تردى النَّفس فِي ورطة البهيمية والتبعد من الملكية فِي الْغَايَة وتغيير خلق الله حَيْثُ أفسد عقله الَّذِي خص الله بِهِ نوع الْإِنْسَان وَمن بِهِ عَلَيْهِم وإفساد الْمصلحَة المنزلية والمدنية وإضاعة المَال والتعرض لهيآت مُنكرَة يضْحك مِنْهَا الصّبيان.
وَقد جمع الله تَعَالَى كل هَذِه الْمعَانِي تَصْرِيحًا أَو تَلْوِيحًا فِي هَذِه الْآيَة
{إِنَّمَا يُرِيد الشَّيْطَان أَن يُوقع بَيْنكُم الْعَدَاوَة} الْآيَة.
وَلذَلِك اتّفق جَمِيع الْملَل والنحل على قبحه بالمرة، وَلَيْسَ الْأَمر كَمَا يَظُنّهُ من لَا بَصِيرَة لَهُ من أَنه حسن بِالنّظرِ إِلَى الْحِكْمَة العملية لما فِيهِ من تَقْوِيَة الطبيعة فَإِن هَذَا الظَّن من بَاب اشْتِبَاه الْحِكْمَة الطّيبَة بالحكمة العملية، وَالْحق أَنَّهُمَا متغايرتان وَكَثِيرًا مَا يَقع بَينهمَا تجاذب وتنازع كالقتال يحرمه الطِّبّ لما فِيهِ من التَّعَرُّض لفك البنية الإنسانية الْوَاجِب حفظهَا فِي الطِّبّ، وَرُبمَا أوجبته الْحِكْمَة العملية إِذا كَانَ فِيهِ صَلَاح الْمَدِينَة أَو دفع عَار شَدِيد، وكالجماع يُوجِبهُ الطِّبّ عِنْد التوقان وَخَوف التأذي من تَركه، وَرُبمَا حرمته الْحِكْمَة العملية إِذا كَانَ فِيهِ عَار أَو منابذة سنة راشدة.(2/290)
وَأهل الرَّأْي من كل أمة وكل قرن يذهبون إِلَى تَرْجِيح الْمصلحَة على الطِّبّ ويرون من لَا يتحراها وَلَا يتَقَيَّد بهَا ميلًا إِلَى صِحَة الْجِسْم فَاسِقًا مَاجِنًا مذموما مقبوحا لَا اخْتِلَاف لَهُم فِي ذَلِك، وَقد علمنَا الله تَعَالَى ذَلِك حَيْثُ قَالَ:
{فيهمَا إِثْم كَبِير وَمَنَافع للنَّاس وإثمهما أكبر من نفعهما}
نعم تنَاول الْمُسكر إِذا لم يبلغ حد الاسكار وَلم تترتب عَلَيْهِ الْمَفَاسِد يخْتَلف فِيهِ أهل الرَّأْي، والشريعة القومية المحمدية - الَّتِي هِيَ الْغَايَة فِي سياسة الْأمة. وسد الذرائع. وَقطع احْتِمَال التحريف - نظرت إِلَى أَن قَلِيل الْخمر يدعوا إِلَى كثيرها، وَأَن النَّهْي على الْمَفَاسِد من غير أَن ينْهَى عَن ذَات الْخمر لَا ينجع فيهم، وَكفى شَاهدا على ذَلِك مَا كَانَ فِي الْمَجُوس وَغَيرهم وَأَنه أَن فتح بَاب الرُّخْصَة فِي بَعْضهَا لم تنظيم السياسة الملية أصلا فَنزل التَّحْرِيم إِلَى نوع الْخمر قليلها وكثيرها.
وَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لعن الله الْخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومتباعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إِلَيْهِ ".
أَقُول: لما تعيّنت الْمصلحَة فِي تَحْرِيم شَيْء وإخماله وَنزل الْقَضَاء بذلك وَجب أَن ينْهَى عَن كل مَا يُنَوّه أمره ويروجه فِي النَّاس ويحملهم عَلَيْهِ فَإِن ذَلِك مناقضة للْمصْلحَة ومناوأة بِالشَّرْعِ.
وَقد استفاض عَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم أَحَادِيث كَثِيرَة من طرق لَا تحصى وعبارات مُخْتَلفَة، فَقَالَ: الْخمر من هَاتين الشجرتين النَّخْلَة والعنبه " وَأجَاب صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من سَأَلَ عَن البتع والمزر وَغَيرهمَا، فَقَالَ: " كل شراب أسكر فَهُوَ حرَام " وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام:
" كل مُسكر خمر وكل مُسكر حرَام وَمَا أسكر كَثِيره فقليله حرَام وَمَا أسكر مِنْهُ الْفرق فملء الْكَفّ مِنْهُ حرَام "، وَقَالَ: " من شَاهد
نزُول الْآيَة إِنَّه قد نزل تَحْرِيم الْخمر وَهِي من خَمْسَة أَشْيَاء الْعِنَب. وَالتَّمْر. وَالْحِنْطَة. وَالشعِير. وَالْعَسَل وَالْخمر مَا خامر الْعقل " وَقَالَ: " لقد حرمت الْخمر حِين حرمت " وَمَا نجد خمر الأعناب إِلَّا قَلِيل وَعَامة خمرنا الْبُسْر وَالتَّمْر وكسروا دنان الفضيخ حِين نزلت وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ قوانين(2/291)
التشريع فَإِنَّهُ لَا معنى من للخصوصية الْعِنَب وَإِنَّمَا الْمُؤثر فِي التَّحْرِيم كَونه مزيلا لِلْعَقْلِ يَدْعُو قَلِيله إِلَى كَثِيره فَيجب بِهِ القَوْل، وَلَا يجوز لأحد الْيَوْم أَن يذهب إِلَى تَحْلِيل مَا اتخذ من غير الْعِنَب، وَاسْتعْمل أقل من حد الْإِسْكَار.
نعم كَانَ نَاس من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ لم يبلغهم الحَدِيث فِي أول الْأَمر فَكَانُوا معذورين، وَلما استفاض الحَدِيث وَظهر الْأَمر - وَلَا كرابعة النَّهَار - وَصَحَّ حَدِيث " ليشر بن نَاس من أمتِي الْخمر يسمونها بِغَيْر اسْمهَا " لم يبْقى عذر " أعاذنا الله تَعَالَى وَالْمُسْلِمين من ذَلِك.
وَسُئِلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن الْخمر تتَّخذ خلا؟ قَالَ: " لَا وَقيل إِنَّمَا أصنعها للدواء فَقَالَ: " إِنَّه لَيْسَ بدواء وَلكنه دَاء ".
أَقُول: لما كَانَ النَّاس مولعين بِالْخمرِ وَكَانُوا يتحيلون لَهَا حيلا لم تتمّ الْمصلحَة إِلَّا بِالنَّهْي عَنْهَا على كل حَال لِئَلَّا يبْقى عذر لأحد وَلَا حِيلَة.
وَنهى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن خليط التَّمْر والبسر، وَعَن خليط الزَّبِيب وَالتَّمْر، وَعَن خليط الزهو وَالرّطب أَقُول: السِّرّ فِي ذَلِك أَن الْإِسْكَار يسْرع إِلَيْهِ بِسَبَب الْخَلْط قبل أَن يتَغَيَّر طعمه فيظن الشَّارِب أَنه لَيْسَ بمسكر وَيكون مُسكرا.
وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتنفس فِي الشَّرَاب ثَلَاثًا وَيَقُول: " إِنَّه أروى وَأَبْرَأ وأمرأ " أَقُول: ذَلِك لِأَن الْمعدة إِذا وصل إِلَيْهَا المَاء قَلِيلا قَلِيلا صرفته الطبيعة إِلَى مَا يهمها وَإِذا هجم عَلَيْهَا المَاء الْكثير تحيرت فِي تصريفه والمبرود إِذا لفى فِي معدته المَاء أَصَابَته الْبُرُودَة لضعف قوته من مزاحمة الْقدر الْكثير بِخِلَاف مَا إِذا تدرج، والمحرور إِذا ألْقى على معدته مَاء دفْعَة حصلت بَينهمَا المدافعة وَلم تتمّ الْبُرُودَة، وَإِذا ألْقى شَيْئا فَشَيْئًا وَقعت الْمُزَاحمَة أَولا ثمَّ ترجحت الْبُرُودَة.
وَنهى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن الشَّارِب من فِي السقاء وَعَن اختناث الأسقية أَقُول: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذا ثنى فَم الْقرْبَة فَشرب مِنْهُ فَإِن المَاء يتدفق وَينصب فِي فِي حلقه(2/292)
حقله دفْعَة، وَهُوَ يُورث الكباد، ويضر بالمعدة وَلَا يتَمَيَّز عِنْده فِي دفق المَاء وانصبابه القذاه وَنَحْوهَا.
ويحكى أَن إِنْسَان شرب من فِي السقا فَدخلت حَيَّة فِي جَوْفه.
وَنهى عَلَيْهِ السَّلَام أَن يشرب الرجل قَائِما، وروى أَنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شرب قَائِما أَقُول: هَذَا النَّهْي نهي إرشاد وتأديب فَإِن الشّرْب قَاعِدا من الهيآت الفاضلة وَأقرب لجموع النَّفس والري وَأَن تصرف الطبيعة المَاء فِي مَحَله أما الْفِعْل فلبيان الْجَوَاز.
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام:
" الْأَيْمن فالأيمن " أَقُول أَرَادَ بذلك قطع الْمُنَازعَة فَإِنَّهُ لَو كَانَت السّنة تَقْدِيم الْأَفْضَل رُبمَا لم يكن الْفضل مُسلما بَينهم وَرُبمَا يَجدونَ فِي أنفسهم من تَقْدِيم غَيرهم حَاجَة.
وَنهى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن يتنفس فِي الْإِنَاء أَو ينْفخ فِيهِ أَقُول. ذَلِك لِئَلَّا يَقع فِي المَاء من فَمه أَو أَنفه مَا يكرههُ فَيحدث هَيْئَة مُنكرَة.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سموا إِذا أَنْتُم شربتم واحمدوا إِذا أَنْتُم رفعتم " قد مر سره.
(اللبَاس. والزينة. والأواني وَنَحْوهَا)
اعْلَم أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نظر إِلَى عادات الْعَجم وتعمقاتهم فِي الاطمئنان بلذات الدُّنْيَا فَحرم رءوسها وأصولها، وَكره مَا دون ذَلِك، لِأَنَّهُ علم أَن ذَلِك مفض إِلَى نِسْيَان الدَّار الْآخِرَة مُسْتَلْزم للإكثار من طلب الدُّنْيَا.
فَمن تِلْكَ الرُّءُوس اللبَاس الفاخر فَإِن ذَلِك أكبر هَمهمْ وَأعظم فَخْرهمْ، والبحث عَنهُ من وُجُوه.
مِنْهَا الاسبال فِي القيص والسراويلات فَإِنَّهُ لَا يقْصد بذلك السّتْر والتجمل اللَّذين هما المقصودان فِي اللبَاس، وَإِنَّمَا يقْصد بِهِ الْفَخر وإراءة الْغَنِيّ نَحْو ذَلِك، والتجمل لَيْسَ إِلَّا فِي الْقدر الَّذِي يُسَاوِي الْبدن، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا ينظر الله يَوْم الْقِيَامَة إِلَى من جر إزَاره بطراً، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إزَاره الْمُؤمن إِلَى أَنْصَاف سَاقيه لَا جنَاح عَلَيْهِ فِيمَا بَينه وَبَين الْكَعْبَيْنِ وَمَا أَسْفَل من ذَلِك فَفِي النَّار ".(2/293)
وَمِنْهَا الْجِنْس المستغرب الناعم من الثِّيَاب.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من لبس الْحَرِير فِي الدُّنْيَا لم يلْبسهُ يَوْم الْقِيَامَة " وسره مثل مَا ذكرنَا فِي الْخمر
وَنهى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن لبس الْحَرِير والديباج وَعَن لبس القسى
والمياثر والأرجوان، وَرخّص فِي مَوضِع إِصْبَعَيْنِ أَو ثَلَاثَة لِأَنَّهُ لَيْسَ من بَاب اللبَاس وَرُبمَا تقع الْحَاجة إِلَى ذَلِك، وَرخّص للزبير. وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف فِي لبس الْحَرِير لحكمة بهما لِأَنَّهُ لم يقْصد حِينَئِذٍ بِهِ الإرفاه وَإِنَّمَا قصد الِاسْتِشْفَاء.
وَمِنْهَا الثَّوْب الْمَصْبُوغ بلون مطرب يحصل بِهِ الْفَخر والمراءاة؛ فَنهى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن المعصفر والمزعفر، وَقَالَ: " إِن هَذِه من ثِيَاب أهل النَّار " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلا طيب الرِّجَال ريح لَا لون لَهُ وَطيب النِّسَاء لون لَا ريح لَهُ " وَلَا اخْتِلَاف بَين قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِن البذاذة من الْإِيمَان " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من لبس ثوب شهرة فِي الدُّنْيَا ألبسهُ الله ثوب مذلة يَوْم الْقِيَامَة "، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من ترك لبس ثوب جمال تواضعا كَسَاه الله حلَّة الْكَرَامَة " وَبَين قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَن الله يحب أَن يرى اثر نعْمَته على عَبده " وَرَأى رجلا شعثا، فَقَالَ: " مَا كَانَ يجد هَذَا مَا يسكن بِهِ رَأسه " وَرَأى رجلا عَلَيْهِ ثِيَاب وسخة فَقَالَ: " مَا كَانَ يجد هَذَا مَا يغسل بِهِ ثَوْبه ".
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذا أَتَاك الله مَا لَا فأثر نعْمَة الله وكرامته عَلَيْك " لِأَن هُنَالك شَيْئَيْنِ مُخْتَلفين فِي الْحَقِيقَة قد يشتبهان بادئ الرَّأْي: أَحدهمَا مَطْلُوب، وَالْآخر مَذْمُوم، فالمطلوب ترك الشُّح، وَيخْتَلف باخْتلَاف طَبَقَات النَّاس، فَالَّذِي هُوَ فِي الْمُلُوك شح رُبمَا يكون إسرافا فِي حق الْفَقِير، وَترك عادات البدو واللاحقين بالبهائم وَاخْتِيَار النَّظَافَة ومحاسن الْعَادَات، والمذموم الامعان فِي التَّكَلُّف والمراءاة والتفاخر بالثياب وَكسر قُلُوب الْفُقَرَاء وَنَحْو ذَلِك، وَفِي أَلْفَاظ الحَدِيث إشارات إِشَارَة إِلَى هَذِه الْمعَانِي كَمَا لَا يخفى على المتأمل، ومناط الْأجر ردع النَّفس عَن اتِّبَاع دَاعِيَة الغمط وَالْفَخْر.
وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذا استجد ثوبا سَمَّاهُ باسمه عماقة أَو قَمِيصًا أَو رِدَاء ثمَّ يَقُول: " اللَّهُمَّ لَك الْحَمد كَمَا كسوتنيه أَسأَلك خَيره وَخير مَا صنع لَهُ وَأَعُوذ بك من شَره وَشر مَا صنع لَهُ " وَقد مر سره من قبل.(2/294)
وَمن تِلْكَ الرُّءُوس الْحلِيّ المترفة، وَهَهُنَا أصلان: أَحدهمَا أَن الذَّهَب هُوَ الَّذِي يفاخر بِهِ الْعَجم ويفضي جَرَيَان الرَّسْم بالتحلي بِهِ إِلَى الْإِكْثَار من طلب الدُّنْيَا دون الْفضة وَلذَلِك شدد النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الذَّهَب، وَقَالَ: " وَلَكِن عَلَيْكُم بِالْفِضَّةِ فالعبوا بهَا ".
وَالثَّانِي أَن النِّسَاء أحْوج إِلَى تزين ليرغب فِيهِنَّ أَزوَاجهنَّ، وَلذَلِك جرت عَاده الْعَرَب والعجم جَمِيعًا بِأَن يكون تزينهن أَكثر من تزينهم فَوَجَبَ أَن يرخص لَهُنَّ أَكثر مِمَّا يرخص لَهُم، وَلذَلِك قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
" أحل الذَّهَب وَالْحَرِير للأناث من أمتِي وَحرم على ذكورها ".
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فِي خَاتم ذهب فِي يَد رجل. " يعمد أحدكُم إِلَى جمر من نَار فَيَجْعَلهُ فِي يَده " وَرخّص عَلَيْهِ السَّلَام فِي خَاتم الْفضة لَا سِيمَا لذِي سُلْطَان، قَالَ. " وَلَا تتمه مِثْقَالا " وَنهى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّسَاء عَن غير المقطع من الذَّهَب وَهُوَ مَا كَانَ قِطْعَة وَاحِدَة كَبِيرَة، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
" من أحب أَن يحلق حَبِيبه حَلقَة من النَّار فليحلقه حَلقَة من ذهب " وَذكر على هَذَا الأسلوب الطوق السوار. وَكَذَا جَاءَ التَّصْرِيح بقلادة من ذهب، وخرص من ذهب. وسلسلة من ذهب، وَبَين الْمَعْنى فِي هَذَا الحكم حَيْثُ قَالَ: " أما إِنَّه لَيْسَ مِنْكُن امْرَأَة تحلي ذَهَبا تظهره إِلَّا عذبت بِهِ " وَكَانَ لأم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا أوضاع من ذهب، وَالظَّاهِر
أَنَّهَا كَانَت مقطعَة، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" حل الذَّهَب للاناث " مَعْنَاهُ الْحل فِي الْجُمْلَة.
هَذَا مَا يُوجِبهُ مَفْهُوم هَذِه الأحديث وَلم أجد لَهَا مُعَارضا، وَمذهب الْفُقَهَاء فِي ذَلِك مَعْلُوم مَشْهُور وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال.
وَمِنْهَا التزين بالشعور فان النَّاس كَانُوا مُخْتَلفين فِي أمرهَا، فالمجوس كَانُوا يقصون اللحى ويوفرون الشَّوَارِب، وَكَانَت سنة الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام خلاف ذَلِك، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" خالفوا الْمُشْركين، وفروا اللحى واحفوا الشَّوَارِب ".
وَكَانَ نَاس يحبونَ التشعث والتمهن والهيئة البذة ويكرهون التجمل والتزين. وناس(2/295)
يتعمقون فِي التجمل ويجعلون ذَلِك أحد وُجُوه الْفَخر وغمط النَّاس، فَكَانَ إخمال مَذْهَبهم جَمِيعًا ورد طريقهم أحد الْمَقَاصِد الشَّرْعِيَّة، فان مبْنى الشَّرَائِع على التَّوَسُّط بَين المنزلتين، وَالْجمع بَين المصلحتين.
وَقَالَ رَسُول الله:
" الْفطْرَة خمس: الْخِتَان. والاستحداد. وقص الشَّارِب. وتقليم الأظافر. ونتف الابط " ثمَّ مست الْحَاجة إِلَى تَوْقِيت ذَلِك ليمكن الْإِنْكَار على من خَالف السّنة وَلِئَلَّا يصل المتورع إِلَى الْحلق والنتف كل يَوْم، والمتهاون إِلَى تَركهَا سنة فوقت قصّ الشَّارِب وتقليم الأظافر ونتف الابط وَحلق الْعَانَة أَلا يتْرك أَكثر من أَرْبَعِينَ لَيْلَة.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِن الْيَهُود وَالنَّصَارَى لَا يصبغون " وَكَانَ أهل الْكتاب يسدلون، وَالْمُشْرِكُونَ يفرقون، فسدل النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ناصيته ثمَّ فرق بعد، فالسدل أَن يُرْخِي ناصيته على وَجهه، وَهِي هَيْئَة بذة، وَالْفرق أَن يَجعله ضفيرتين يُرْسل كل ضفيرة إِلَى صدغ.
وَنهى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن القزع.
أَقُول: السِّرّ فِيهِ أَنه من هيآت الشَّيَاطِين، وَهُوَ نوع من الْمثلَة تعافها الْأَنْفس إِلَّا الْقُلُوب المؤفة باعتيادها، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من كَانَ لَهُ شعر فليكرمه، وَنهى عَن التَّرَجُّل إِلَّا غبا يُرِيد التَّوَسُّط بَين الافراط والتفريط.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لعن الله الْوَاشِمَات وَالْمُسْتَوْشِمَات وَالْمُتَنَمِّصَات وَالْمُتَفَلِّجَات لِلْحسنِ الْمُغيرَات خلق الله " وَلعن صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
المتشبهين من الرِّجَال بِالنسَاء والمتشبهات من النِّسَاء بِالرِّجَالِ، أَقُول: الأَصْل فِي ذَلِك ان الله خلق كل نوع وصنف متقيضيا لظُهُور أَحْكَام فِي الْبدن كالرجال تلتحي وكالنساء يصغين إِلَى نوع من الطَّرب والخفة، فاقتضاؤها للْأَحْكَام لِمَعْنى فِي المبدأ هُوَ بِعَيْنِه كَرَاهِيَة أضدادها، وَلذَلِك كَانَ المرضي بَقَاء كل نوع(2/296)
وصنف على مَا تَقْتَضِيه فطرته وَكَانَ تَغْيِير الْخلق سَببا للعن، وَلذَلِك كره النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنزاء الْحمير لتَحْصِيل البغال.
فَمن الزِّينَة مَا يكون كالتقوية لفعل الطبيعة والتوطئة لَهُ والتمشية إِيَّاه كالكحل والترجل وَهُوَ مَحْبُوب، وَمِنْهَا مَا يكون كالمباين لفعلها كاختيار الْإِنْسَان هَيْئَة الدَّوَابّ وَمَا يكون تعمقا فِي إبداع مَا لَا تَقْتَضِيه الطبيعة، وَهُوَ غير مَحْبُوب إِذا خلى الانسان وفطرته عدَّة مثله.
وَمِنْهَا صناعَة التصاوير فِي الثِّيَاب والجدران وَالْأَنْمَاط، فَنهى عَنْهَا النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومدار النَّهْي شيآن: أَحدهمَا أَنَّهَا أحد وُجُوه الإرفاه والزينة فانهم كَانُوا يتفاخرون بهَا ويبذلون أَمْوَالًا خطيرة فِيهَا فَكَانَت كالحرير وَهَذَا الْمَعْنى مَوْجُود فِي صُورَة الشّجر وَغَيرهَا.
وَثَانِيهمَا أَن المخامرة بالصور واتخاذها وجريان الرَّسْم بالرغبة فِيهَا يفتح بَاب عبَادَة الْأَصْنَام وينوه أمرهَا ويذكرها لأَهْلهَا، وَمَا نشأت عبَادَة الْأَصْنَام فِي أَكثر الطوائف إِلَّا من هَذِه، وَهَذَا الْمَعْنى يخْتَص بِصُورَة الْحَيَوَان وَلذَلِك أَمر بِقطع راس التماثيل لتصير كَهَيئَةِ الشّجر، وخف فَسَاد صناعَة صور الْأَشْجَار، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِن الْبَيْت الَّذِي فِيهِ الصُّور لَا تدخله الْمَلَائِكَة " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كل مُصَور فِي النَّار يَجْعَل لَهُ بِكُل صُورَة صورها نفسا يعذبه فِي جَهَنَّم " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من صور صُورَة عذب وكلف أَن ينْفخ فِيهَا وَلَيْسَ بنافخ ".
أَقُول: لما كَانَت التصاوير فِيهَا معنى الْأَصْنَام وَقد تحقق فِي الْمَلأ الْأَعْلَى دَاعِيَة غضب وَلعن على الْأَصْنَام وعبدتها وَجب أَن يتنفر مِنْهَا الْمَلَائِكَة، وَإِذا حشر النَّاس يَوْم الْقِيَامَة بأعمالهم تمثل عمل المصور بالنفوس الَّتِي تصورها فِي نَفسه وَأَرَادَ محاكاتها فِي عمله لِأَنَّهَا أقرب مَا هُنَالك وَظهر إقدامه على المحاكاة، وسعيه أَن يبلغ فِيهَا غَايَة المدى فِي صُورَة التَّكْلِيف بِأَن ينْفخ فِيهَا الرّوح وَلَيْسَ بنافخ.
وَمِنْهَا الِاشْتِغَال بالمسليات وَهِي مَا يسلي النَّفس عَن هم آخرته ودنياه ويضيع الْأَوْقَات كالمعازف وَالشطْرَنْج واللعب بالحمام واللعب بتحريش الْبَهَائِم وَنَحْوهَا؛ فان الانسان إِذا اشْتغل بِهَذِهِ الْأَشْيَاء لَهَا عَن طَعَامه وَشَرَابه وَحَاجته، وَرُبمَا كَانَ حاقنا لَا يقوم للبول فان جرى الرَّسْم بالاشتغال بهَا صَار النَّاس كلا على الْمَدِينَة، وَلم يتوجهوا إِلَى إصْلَاح نُفُوسهم.
وَاعْلَم أَن الْغناء والدف فِي الْوَلِيمَة وَنَحْوهَا عَادَة الْعَرَب والعجم وديدنهم،
وَذَلِكَ لما يَقْتَضِيهِ الْحَال من الْفَرح وَالسُّرُور فَلَيْسَ ذَلِك من المسليات إِنَّمَا ميزَان المسليات مَا كَانَ فِي زَمَانه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحجاز وَفِي الْقرى العامرة، لَا مَكَان الِاشْتِغَال بِهِ زَائِدا على الْفَرح وَالسُّرُور المطلوبين كالمزامير.(2/297)
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من لعب بالنردشير فقد عصى الله وَرَسُوله " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: من لعب بالنردشير فَكَأَنَّمَا صبغ يَده فِي لحم خِنْزِير وَدَمه " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَيَكُونن أمتِي أَقوام يسْتَحلُّونَ الْحر وَالْحَرِير وَالْخمر وَالْمَعَازِف " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" أعْلنُوا النِّكَاح واضربوا عَلَيْهِ بالدف " فالملاهي نَوْعَانِ. محرم وَهِي الْآلَات المطربة كالمزامير، ومباح وَهُوَ الدُّف والغناء فِي الْوَلِيمَة وَنَحْوهمَا من حَادث سرُور.
وَأما الحداء فَهُوَ فِي الأَصْل مَا يقْصد بِهِ تهيج الابل، لَكِن المُرَاد هُنَا مُطلق النشيد مَعَ تأليف الألحان والإيقاع فَهُوَ مُبَاح فَإِنَّهُ من المباسطات دون المسليات.
وَأما اللّعب بآلات كالمناضلة. وتأديب الْفرس. واللعب بِالرِّمَاحِ فَلَيْسَ من اللّعب فِي الْحَقِيقَة لما فِيهِ من مَقْصُود شَرْعِي، وَقد لعبت الْحَبَشَة بالحراب والدرق بَين يَدي رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْجده ".
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لرجل يتبع حمامة:
" شَيْطَان يتبع شَيْطَانه " وَنهى عَلَيْهِ السَّلَام صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن التحريش بَين الْبَهَائِم.
وَمِنْهَا اقتناء عدد كثير من الدَّوَابّ والفرش لَا يقْصد بذلك كِفَايَة الْحَاجة بل مراءاة النَّاس وَالْفَخْر عَلَيْهِم، فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" فرَاش للرجل. وفراش لامْرَأَته. وَالثَّالِث للضيف. وَالرَّابِع للشَّيْطَان " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" يكون إبل للشياطين وبيوت للشياطين، قَالَ أَبُو هُرَيْرَة
رَضِي الله عَنهُ: أما أبل الشَّيَاطِين فقد رَأَيْتهَا يخرج أحدكُم بنجيبات مَعَه قد أسمنها وَلَا يعلوا بَعِيرًا آمنها ويمر بأَخيه قد انْقَطع بِهِ فَلَا يحملهُ ".
وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة مولعين باقتناء الْكلاب - جمع كلب - وَهُوَ حَيَوَان مَلْعُون تتأذى مِنْهُ الْمَلَائِكَة فَإِن لَهُ مُنَاسبَة بالشياطين كَمَا قُلْنَا فِي الوزغ، فَحرم النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقتناءها، وَقَالَ:
" من اتخذ كَلْبا إِلَّا كلب مَاشِيَة أَو صيدا أَو زرع انْتقصَ من أجره كل يَوْم قِيرَاط " وَفِي رِوَايَة قيراطان " وَفِي حكم الْكلاب القردة والخنازير.
أَقُول: السِّرّ فِي انتقاص أجره أَنه يمد البهيمية ويقهر الملكية، والقيراط خرج مخرج الْمثل، يُرِيد بِهِ الْجَزَاء الْقَلِيل وَلذَلِك لم يكن بَين قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قيراطان. وَقَوله قِيرَاط مناقضة.
وَمِنْهَا اسْتِعْمَال أواني الذَّهَب وَالْفِضَّة، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الَّذِي يشرب فِي إِنَاء الْفضة إِنَّمَا(2/298)
يجر جر فِي بَطْنه نَار جَهَنَّم ".
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا تشْربُوا فِي آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلَا تَأْكُلُوا فِي صحافها فانها لَهُم فِي الدُّنْيَا وَلكم فِي الْآخِرَة " وَقد ذكرنَا من قبل مَا ينْكَشف بِهِ سره.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمروا الْآنِية وأوكلوا الأسقية وأجيفوا الْأَبْوَاب واكفتوا صِبْيَانكُمْ عِنْد الْمسَاء فان للجن انتشارا وخطفة وأطفئوا المصابيح عِنْد الرقاد فان الفويسقة رُبمَا اجْتَرَّتْ الفتيلة فأحرقت أهل الْبَيْت " وَفِي رِوَايَة فان الشَّيْطَان " لَا يحل سقا وَلَا يفتح بَاب وَلَا يكْشف إِنَاء " وَفِي رِوَايَة " فان فِي السّنة لَيْلَة ينزل فِيهَا وباء لَا يمر بِإِنَاء لَيْسَ عَلَيْهِ غطاء أَو سقاء لَيْسَ عَلَيْهِ وكاء إِلَّا نزل فِيهِ من ذَلِك الوباء ".
أَقُول: أما انتشار الْجِنّ عِنْد الْمسَاء فلكونهم ظلمانيين فِي أصل الْفطْرَة فَيحصل لَهُم عَن انتشار الظلمَة ابتهاج وسرور فينتشرون، وَأما إِن الشَّيْطَان لَا يحل وكاء فَلِأَن اكثر تأثيراتها على مَا أدركنا فِي ضمن الْأَفْعَال الطبيعية كَمَا أَن الْهَوَاء إِذا دخل فِي الْبَيْت دخل الجني مَعَه وَإِذا تدهده الْحجر وأمد فِي تدهده تدهده أَكثر مِمَّا تَقْتَضِيه الْعَادة وَنَحْو ذَلِك، وَأما إِن فِي السّنة لَيْلَة ينزل فِيهَا الوباء، فَمَعْنَاه أَنه يَجِيء بعد زمَان طَوِيل وَقت يفْسد فِيهِ الْهَوَاء.
وَقد شاهدت ذَلِك مرّة أحسست بهواء خَبِيث أصابني صداع فِي سَاعَة مَا وصل إِلَيّ ثمَّ رَأَيْت كثيرا من النَّاس قد مرضوا واستعدوا لحَدث وَمرض فِي تِلْكَ اللَّيْلَة.
وَمِنْهَا التطاول فِي الْبُنيان وتزويق الْبيُوت وزخرفتها فَكَانُوا يتكلفون فِي ذَلِك غَايَة التَّكَلُّف ويبذلون أَمْوَالًا خطيرة فعالجه النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتغليظ الشَّديد، فَقَالَ:
" مَا أنْفق الْمُؤمن من نَفَقَة إِلَّا أجر فِيهَا إِلَّا نَفَقَته فِي هَذَا التُّرَاب "، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِن كل بِنَاء وبال على صَاحبه إِلَّا مَا لَا إِلَّا مَا لَا " يَعْنِي إِلَّا مَا لَا بُد مِنْهُ، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَيْسَ لوَلِيّ - أَو لَيْسَ لنَبِيّ - أَن يدْخل بَيْتا مزوقا "، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " إِن الله لم يَأْمُرنَا أَن نكسوا الْحِجَارَة والطين ".
وَكَانَ النَّاس قبل النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتمسكون فِي أمراضهم وعاهاتهم بالطب والرقى، وَفِي تقدمة الْمعرفَة بالفأل. والطيرة، والحظ - وَهُوَ الرمل - وَالْكهَانَة. والنجوم. وتعبير الرُّؤْيَا، وَكَانَ فِي بعض ذَلِك مَا لَا يَنْبَغِي، فَنهى عَنهُ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأباح الْبَاقِي.
فالطب حَقِيقَته التَّمَسُّك بطبائع الْأَدْوِيَة الحيوانية أَو والنباتية أوالمعدنية. وَالتَّصَرُّف(2/299)
فِي الأخلاط نقصا وَزِيَادَة، وَالْقَوَاعِد الملية تصحح إِذْ لَيْسَ فِيهِ شَائِبَة شرك وَلَا فَسَاد فِي الدّين وَالدُّنْيَا بل فِيهِ نفع كَبِير، وَجمع لشمل
النَّاس إِلَّا المداداة بِالْخمرِ إِذْ للخمر ضراوة لَا تَنْقَطِع، والمداواة بالخبيث أَي السم مَا أمكن العلاج بِغَيْرِهِ فانه رُبمَا أفْضى إِلَى الْقَتْل، والمداواة بالكي مَا أمكن بِغَيْرِهِ لِأَن الحرق بالنَّار أحد الْأَسْبَاب الَّتِي تنفر مِنْهَا الْمَلَائِكَة، وَالْأَصْل فِيمَا روى عَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المعالجات التجربة الَّتِي كَانَت عِنْد الْعَرَب.
وَأما الرقي فحقيقتها التَّمَسُّك بِكَلِمَات لَهَا تحقق فِي الْمثل وَأثر، وَالْقَوَاعِد الملية لَا تدفعها مَا لم يكن فِيهَا شرك لَا سِيمَا إِذا كَانَ من الْقُرْآن أَو السّنة أَو مِمَّا يشبههما من التضرعات إِلَى الله.
وَالْعين حق وحقيقتها تَأْثِير إِلْمَام نفس العائن وصدمة تحصل من إلمامها بالمعين، وَكَذَا نظرة الْجِنّ وكل حَدِيث فِيهِ نهي عَن الرقى والتمائم والتولة مَحْمُولَة على مَا فِيهِ شرك أَو انهماك فِي التَّسَبُّب بِحَيْثُ يغْفل عَن البارى جلّ شَأْنه.
وأمال الفأل والطيرة فحقيقتهما أَن الْأَمر إِذا قضى بِهِ فِي الْمَلأ الْأَعْلَى رُبمَا تلونت بلونه وقائع جبلت على سرعَة الانعكاس، فَمِنْهَا الخواطر، وَمِنْهَا الْأَلْفَاظ الَّتِي يتفوه بهَا من غير قصد مُتَعَدٍّ بِهِ وَهِي أشباح الخواطر الْخفية الَّتِي يقْصد إِلَيْهَا بِالذَّاتِ، وَمِنْهَا الوقائع الجوية فَإِن أَسبَابهَا فِي الْأَكْثَر من الطبيعة ضَعِيفَة وَإِنَّمَا تخْتَص بِصُورَة دون صُورَة بِأَسْبَاب فلكية أَو انْعِقَاد أَمر فِي الْمَلأ الْأَعْلَى وَكَانَ الْعَرَب يستدلون بهَا على مَا يَأْتِي وَكَانَ فِيهِ تخمين وإثارة وسواس بل رُبمَا كَانَت مَظَنَّة للكفر بِاللَّه وَإِن لم كطمح الهمة إِلَى الْحق فَنهى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن الطَّيرَة، وَقَالَ:
" خَيرهَا الفأل " يعْنى كلمة صَالِحَة يتَكَلَّم بهَا إِنْسَان صَالح فَإِنَّهَا أبعد من تِلْكَ القبائح، وَنفي الْعَدْوى لَا بِمَعْنى نفي أَصْلهَا لَكِن الْعَرَب يظنونها سَببا مُسْتقِلّا وينسبون التَّوَكُّل رَأْسا، وَالْحق
أَن سَبَبِيَّة هَذِه الْأَسْبَاب إِنَّمَا تتمّ إِذا لم ينْعَقد قَضَاء الله على خِلَافه لِأَنَّهُ إِذا انْعَقَد أئمه الله من غير أَن ينخرم النظام، وَالتَّعْبِير عَن هَذِه النُّكْتَة بِلِسَان الشَّرْع أَنَّهَا أَسبَاب عَادِية لَا عقلية، والهامة تفتح بَاب الشّرك غَالِبا، وَكَذَلِكَ الغول فَهَذَا عَن الِاشْتِغَال بِهَذِهِ الْأُمُور لِأَن هَذِه لَيست حَقِيقَة أَلْبَتَّة، كَيفَ وَالْأَحَادِيث متظاهرة على ثُبُوت الْجِنّ وتردده فِي الْعَالم.(2/300)
وعَلى ثُبُوت اصل الْعَدْوى. وعَلى ثُبُوت اصل الشؤم فِي الْمَرْأَة وَالْفرس وَالدَّار، فَلَا جرم أَن المُرَاد نَفيهَا من حَيْثُ جَوَاز الِاشْتِغَال بهَا وَمن حَيْثُ أَنه لَا يجوز الْمُخَاصمَة فِي ذَلِك فَلَا يسمع خُصُومَة من ادّعى على أحد على أَنه قتل إبِله وأمرضها بادخال الابل الْمَرِيضَة عَلَيْهَا وَنَحْو ذَلِك كَيفَ وَأَنت خَبِير بِأَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عَن الكهانة وَهِي الاخبار عَن الْجِنّ أَشد نهي وَبرئ مِمَّن أَتَى كَاهِنًا، ثمَّ لما سُئِلَ عَن حَال الْكُهَّان أخبر. أَن الْمَلَائِكَة تنزل فِي الْعَنَان فَتذكر الْأَمر قد قضي فِي السَّمَاء فتسترق الشَّيَاطِين السّمع فتسمعه فتوحيه إِلَى الْكُهَّان فيكذبون مَعهَا مائَة كذبة، يَعْنِي أَن الْأَمر إِذا تقرر فِي الْمَلأ الْأَعْلَى ترشح مِنْهُ رشحات على الْمَلَائِكَة السافلة الَّتِي استعدت للإلهام فَرُبمَا أَخذ مِنْهُم بعض أذكياء الْجِنّ، ثمَّ تتلقى الْكُهَّان مِنْهُم بِحَسب مناسبات جبلية وكسبية فَلَا [تشكن أَن النَّهْي لَيْسَ مُعْتَمدًا على عدمهَا فِي الْخَارِج بل على كَونهَا مَظَنَّة للخطأ والشرك وَالْفساد] كَمَا قَالَ عز من قَائِل:
{قل فيهمَا إِثْم كَبِير وَمَنَافع للنَّاس وإثمهما أكبر من نفعهما} .
أما الأنواء والنجوم فَلَا يبعد أَن يكون لَهما حَقِيقَة مَا فَإِن الشَّرْع إِنَّمَا
أَتَى بِالنَّهْي عَن الِاشْتِغَال بِهِ لانفى الْحَقِيقَة أَلْبَتَّة وَإِنَّمَا توارث السّلف الصَّالح ترك الأشتغال بِهِ وذم المشتغلين وَعدم الْقبُول بِتِلْكَ التأثيرات لَا القَوْل بِالْعدمِ أصلا، وَإِن مِنْهَا مَا يلْحق البديهيات الأولية كاختلاف الْفُصُول باخْتلَاف أَحْوَال الشَّمْس وَالْقَمَر وَنَحْو ذَلِك.
وَمِنْهَا مَا يدل عَلَيْهِ الحدس والتجربة والرصد كَمثل مَا تدل هَذِه على حرارة الزنجبيل وبرودة الكافور، وَلَا يبعد أَن يكون تأثيرها على وَجْهَيْن: وَجه يشبه الطبائع فَكَمَا أَن لكل نوع طبائع مُخْتَصَّة بِهِ من الْحر وَالْبرد واليبوسة والرطوبة بهَا يتَمَسَّك فِي دفع الْأَمْرَاض فَكَذَلِك للأفلاك وَالْكَوَاكِب طبائع وخواص كحر الشَّمْس ورطوبة الْقَمَر فَإِذا جَاءَ ذَلِك الْكَوْكَب فِي مَحَله ظَهرت قُوَّة فِي الأَرْض أَلا تعلم أَن الْمَرْأَة إِنَّمَا اخْتصّت بعادات النِّسَاء وأخلاقهن الشَّيْء يرجع إِلَى طبيعتها وَإِن خَفِي إِدْرَاكهَا، وَالرجل إِنَّمَا اخْتصَّ بالجراءة والجهورية وَنَحْوهمَا لِمَعْنى فِي من مزاجه " فَلَا تنكر أَن يكون لحلول قوى الزهرة والمريخ وبالأرض أثر كأثر هَذِه الطبائع الْخفية ".
وَثَانِيهمَا وَجه يشبه قُوَّة روحانية متركبة مَعَ الطبيعة وَذَلِكَ مثل قُوَّة نفسانية فِي الْجَنِين من قبل أمه وَأَبِيهِ، والمواليد بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّمَوَات والأرضيين كالجنين بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَبِيه وَأمه فَتلك الْقُوَّة تهيئ الْعَالم لفيضان صُورَة حيوانية ثمَّ إنسانية.
ولحلول تِلْكَ القوى بِحَسب الاتصالات الفلكية أَنْوَاع وَلكُل نوع خَواص فأمعن(2/301)
قوم فِي هَذَا الْعلم فَحصل لَهُم علم النُّجُوم يتعرفون لَهُ الوقائع الْآتِيَة غير أَن الْقَضَاء إِذا انْعَقَد على خِلَافه جعل قُوَّة الْكَوْكَب متصورة بِصُورَة أُخْرَى قريبَة من تِلْكَ الصُّورَة وَأتم الله قَضَاءَهُ من غير أَن ينخرم نظام الْكَوَاكِب فِي خواصها ويعبر عَن هَذِه النُّكْتَة بِأَن الْكَوَاكِب خواصها يجْرِي عَادَة الله لَا باللزوم الْعقلِيّ، وَيُشبه بالأمارات والعلامات، وَلَكِن
النَّاس جَمِيعًا توغلوا فِي هَذَا الْعلم توغلا شَدِيدا حَتَّى صَار مَظَنَّة لكفر الله وَعدم الْإِيمَان فَعَسَى أَلا يَقُول صَاحب توغل هَذَا الْعلم: مُطِرْنَا بِفضل الله وَرَحمته من صميم قلبه بل يَقُول: مُطِرْنَا بَنو كَذَا وَكَذَا فَيكون ذَلِك صادا عَن تحَققه الْإِيمَان الَّذِي هُوَ الأَصْل فِي النجَاة.
وَأما علم النُّجُوم فَإِنَّهُ لَا يضر جَهله إِذْ الله مُدبر للْعَالم على حسب حكمته على علم أحد أَو لم يعلم فَلذَلِك وَجب فِي الْملَّة أَن يخمل ذكره وَينْهى عَن تعلمه ويجهر بِأَن " من اقتبس علما من النُّجُوم اقتبس شُعْبَة من السحر زَاد مَا زَاد " وَمثل ذَلِك مثل التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل شدد النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على من من أَرَادَ أَن ينظر فيهمَا لِكَوْنِهِمَا محرفين ومظنة لعدم الانقياد لِلْقُرْآنِ الْعَظِيم وَلذَلِك نهوا عَنهُ.
هَذَا مَا أدّى إِلَيْهِ رَأينَا وتفحصنا فَإِن ثَبت من السّنة مَا يدل على خلاف ذَلِك فَالْأَمْر على مَا فِي السّنة.
وَأما الرُّؤْيَا فَهِيَ على خمس أَقسَام: بشرى من الله. وتمثل نوراني من للحمائد والرذائل المندرجة من النَّفس على وَجه ملكي وتخويف من الشَّيْطَان. وَحَدِيث نفس من قبل الْعَادة الَّتِي اعتادتها النَّفس فِي الْيَقَظَة تحفها المتخيلة وَيظْهر فِي الْحس الْمُشْتَرك مَا اختزن فِيهَا. وخيالات طبيعية لغَلَبَة الاخلاط وتنبه النَّفس بأذاها فِي الْبدن
أما الْبُشْرَى من الله فحقيقتها أَن النَّفس الناطقة إِذا انتهزت فرْصَة عَن
غواشي الْبدن بِأَسْبَاب خُفْيَة إِلَّا يكَاد يتفطن لَهَا لآ بعد تَأمل واف استعدت لِأَن يفِيض عَلَيْهَا من منبع الْخَيْر والجود كَمَال علمي فأفيض عَلَيْهِ شَيْء على حسب استعداده ومادته الْعُلُوم المخزونة عِنْده.
وَهَذِه الرُّؤْيَا تَعْلِيم إلهي كالمعراج المنامي الَّذِي رأى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ ربه فِي أحسن صُورَة فَعلمه الْكَفَّارَات والدرجات وكالمعراج المنامي الَّذِي انْكَشَفَ فِيهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْوَال(2/302)
الْمَوْتَى بعد انفكاكهم عَن الْحَيَاة الدُّنْيَا كَمَا رَوَاهُ جَابر بن سَمُرَة رَضِي الله عَنهُ وكعلم مَا سَيكون من الوقائع الْآتِيَة فِي الدُّنْيَا.
وَأما الروؤيا الملكية فيحققها أَن فِي الْإِنْسَان ملكمات حَسَنَة وملكات قبيحة وَلَكِن لَا يعرف حسنها وقبحها إِلَّا المتجرد إِلَى الصُّورَة الملكية فَمن تجرد إِلَيْهَا تظهر حَسَنَاته وسيآته فِي صُورَة مثالية فَصَاحب هَذَا يرى الله تَعَالَى، وَأَصله الانقياد للبارى، وَيرى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَصله الانقياد للرسول المركوز فِي صَدره، وَيرى الْأَنْوَار وَأَصلهَا الطَّاعَات المكتسبة فِي صَدره وجوارحه تظهر فِي صُورَة الْأَنْوَار والطيبات كالعسل وَالسمن وَاللَّبن، فَمن رأى الله أَو الرَّسُول أَو الْمَلَائِكَة فِي صُورَة قبيحة أَو فِي صُورَة الْغَضَب فليعرف أَن فِي اعْتِقَاده خللا وضعفا وَأَن نَفسه لم تتكمل، وَكَذَلِكَ الْأَنْوَار الَّتِي حصلت بِسَبَب الطَّهَارَة تظهر فِي صُورَة الشَّمْس وَالْقَمَر.
وَأما التخويف من الشَّيْطَان فوحشه وَخَوف من الْحَيَوَانَات الملعونة كالقرد، والفيل. وَالْكلاب. والسودان من النَّاس فَإِذا رأى ذَلِك فليتعوذ بِاللَّه وليتفل ثَلَاثًا على يسَاره وليتحول عَن جنبه الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ.
وَأما الْبُشْرَى فلهَا تَعْبِير والعمدة فِيهِ معرفَة الخيال أَي شَيْء مَظَنَّة لأي معنى فقد ينْتَقل الذِّهْن من الْمُسَمّى إِلَى الِاسْم كرؤية النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه كَانَ فِي دَار عقبَة بن رَافع فَأتى برطب ابْن طَابَ " قَالَ
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " فأولت أَن الرّفْعَة لنا فِي الدُّنْيَا والعافية فِي الْآخِرَة وَأَن ديننَا قد طَابَ.
وَقد ينْتَقل الذِّهْن من الملابس إِلَى مَا يلابسه كالسيف لِلْقِتَالِ، وَقد ينْتَقل الذِّهْن من الْوَصْف إِلَى جَوْهَر مُنَاسِب لَهُ كمن غلب عَلَيْهِ حب المَال رَآهُ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَة سوار من ذهب.
وَبِالْجُمْلَةِ فللانتقال من شَيْء إِلَى شَيْء صور شَتَّى، وَهَذِه الرُّؤْيَا شُعْبَة من النُّبُوَّة لِأَنَّهَا ضرب من إفَاضَة غيبية وتدل من الْحق إِلَى الْخلق وَهُوَ أصل النُّبُوَّة، وَأما سَائِر أَنْوَاع الرُّؤْيَا فَلَا تَعْبِير لَهَا.(2/303)
(آدَاب الصُّحْبَة)
اعْلَم أَنه مِمَّا أوجبت سَلامَة الْفطر وَوُقُوع الْحَاجَات فِي أشخاص الْإِنْسَان والارتفاق مِنْهَا آدَاب يتأدبون بهَا فِيمَا بَينهم، وأكثرها أُمُور اجْتمعت طرائف الْعَرَب والعجم على أُصُولهَا وَإِن اخْتلفُوا فِي الصُّور والأشباح، فَكَانَ الْبَحْث عَنْهَا وتميز الصَّالح من الْفَاسِد مِنْهَا إِحْدَى الْمصَالح الَّتِي بعث النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا.
فَمِنْهَا التَّحِيَّة الَّتِي يحيي بهَا بَعضهم بَعْضًا؛ فَإِن النَّاس يَحْتَاجُونَ إِلَى إِظْهَار التبشيش فِيمَا بَينهم. وَأَن يلاطف بَعضهم بَعْضًا. وَيرى الصَّغِير فضل الْكَبِير وَيرْحَم الْكَبِير الصَّغِير. ويواخى الأقران بَعضهم بَعْضًا؛ فَإِنَّهُ لَوْلَا هَذِه لم تثمر الصُّحْبَة فائدتها وَلَا أنتجت جدولها وَلَو لم تضبط بِلَفْظ لكَانَتْ من الْأُمُور الْبَاطِنَة لَا يعلم إِلَّا استنباطا من الْقَرَائِن، وَلذَلِك جرت سنة السّلف فِي كل طَائِفَة بِتَحِيَّة حَسْبَمَا أدّى إِلَيْهِ رَأْيهمْ ثمَّ صَارَت شعارا لملتهم وإمارة لكَون الرجل مِنْهُم.
فَكَانَ الْمُشْركُونَ يَقُولُونَ: أنعم الله بك علينا وأنعم الله بك صبحا
وَكَانَ الْمَجُوس يَقُولُونَ: هز إرْسَال برزي.
وَكَانَ قانون الشَّرْع يَقْتَضِي أَن يذهب فِي ذَلِك إِلَى مَا جرت بِهِ سنة الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وتلقوها عَن الْمَلَائِكَة.
وَكَانَ من قبيل الدُّعَاء وَالذكر دون الاطمئنان بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا كتمني طول الْحَيَاة وَزِيَادَة الثروة وَدون الافراط فِي التَّعْظِيم حَتَّى يتاخم الشّرك
كالسجدة ولئم الأَرْض وَذَلِكَ هُوَ السَّلَام، فقد قَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لما خلق الله آدم قَالَ: اذْهَبْ فَسلم على أُولَئِكَ النَّفر وهم نفر من الْمَلَائِكَة جُلُوس فاستمع مَا يحينوك يحيونك لله فَإِنَّهَا تحيتك وتحية ذريتك فَذهب فَقَالَ: السَّلَام عَلَيْكُم فَقَالُوا: السَّلَام عَلَيْك وَرَحْمَة الله، قَالَ: فزادوه وَرَحْمَة لله.
قَوْله: " فَسلم على أُولَئِكَ " مَعْنَاهُ - وَالله أعلم - حيهم حَسْبَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ اجتهادك فَأصَاب الْحق، فَقَالَ: " السَّلَام عَلَيْكُم " وَقَوله: " فانها تحيتك " يعْنى حتما من حَيْثُ إِنَّه عرف أَن ذَلِك مترشح من حَظِيرَة الْقُدس.(2/304)
وَقَالَ الله تَعَالَى فِي قصَّة الْجنَّة: {سَلام عَلَيْكُم طبتم فادخلوها خَالِدين} قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا تدخلون الْجنَّة حَتَّى تؤمنوا وَلَا تؤمنوا حَتَّى تحَابوا أَولا أدلكم على شَيْء إِذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السَّلَام بَيْنكُم ".
أَقُول: بَين النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَائِدَة السَّلَام وَسبب مشروعيته فَإِن التحابب فِي النَّاس خصْلَة يرضاها الله تَعَالَى وإفشاء السَّلَام آلَة صَالِحَة لإنشاء الْمحبَّة. وَكَذَلِكَ المصافحة. وتقبيل الْيَد وَنَحْو ذَلِك، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" يسلم الصَّغِير على الْكَبِير والمار على الْقَاعِد والقليل على الْكثير " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: " يسلم الرَّاكِب على الْمَاشِي ".
أَقُول: الفاشي فِي طوائف النَّاس أَن يحي الدَّاخِل صَاحب الْبَيْت والحقير الْعَظِيم فأبقاه النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذَلِك غير أَنه مر عَلَيْهِ السَّلَام على غلْمَان فَسلم عَلَيْهِم. وَمر على نسْوَة فَسلم عَلَيْهِنَّ علما مِنْهُ أَن فِي رُؤْيَة الْإِنْسَان فضل من هُوَ أعظم مِنْهُ واشرف جمعا لشمل الْمَدِينَة، وَأَن فِي ذَلِك نوعا من الاعجاب بِنَفسِهِ فَجعل وَظِيفَة الْكِبَار التَّوَاضُع ووظيفة
الصغار توقير الْكِبَار، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من لم يرحم صَغِيرنَا وَلم يوقر كَبِيرنَا فَلَيْسَ منا ".
وَإِنَّمَا جعل وَظِيفَة الرَّاكِب السَّلَام على الْمَاشِي لِأَنَّهُ أهيب عِنْد النَّاس وَأعظم فِي نَفسه فتأكد لَهُ التَّوَاضُع.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
: لَا تبدأوا الْيَهُود وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ، وَإِذا لَقِيتُم أحدهم فِي الطَّرِيق فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أضيفة، أَقُول: سره أَن إِحْدَى الْمصَالح الَّتِي بعث النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا التنويه بالملة الإسلامية وَجعلهَا أَعلَى الْملَل وَأَعْظَمهَا لَا يتَحَقَّق إِلَّا بِأَن يكون لَهُم طول على سواهُم.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَن قَالَ. " السَّلَام عَلَيْكُم عشر، وفيمن زَاد وَرَحْمَة الله عشرُون، وفيمن زَائِد أَيْضا وَبَرَكَاته ثَلَاثُونَ، وَأَيْضًا ومغفرته أَرْبَعُونَ، وَقَالَ: هَكَذَا تكون الْفَضَائِل ".
أَقُول: سر الْفضل ومناطه أَنه تتميم لما شرع الله لَهُ السَّلَام من التبشيش. والتألف. والموادة. وَالدُّعَاء وَالذكر. وإحالة الْأَمر على الله.(2/305)
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" يُجزئ عَن الْجَمَاعَة إِذا مروا أَن يسلم أحدهم، وَيُجزئ عَن الْجُلُوس أَن يرد أحدهم " أَقُول: وَذَلِكَ لِأَن الْجَمَاعَة وَاحِدَة فِي الْمَعْنى وَتَسْلِيم وَاحِد مِنْهُم يدْفع الوحشة ويودد بَعضهم بَعْضًا.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِذا انْتهى أحدكُم إِلَى مجْلِس فليسلم فَإِن بدا لَهُ أَن يجلس فليجلس ثمَّ إِذا قَامَ فليسلم فَلَيْسَتْ الأولى بِأَحَق من الْآخِرَة "
أَقُول: سَلام الْوَدَاع فِيهِ فَوَائِد؛ مِنْهَا التَّمْيِيز بَين قيام المتاركة والكراهية، وَقيام الْحَاجة على نِيَّة الْعود لمثل تِلْكَ الصُّحْبَة، وَمِنْهَا أَن يتدارك المتدارك بعض مَا كَانَ يَقْصِدهُ ويهمه من الحَدِيث وَنَحْو ذَلِك، وَمِنْهَا أَلا يكون ذَهَابه من التسلل، والسر فِي المصافحة، وَقَوله: مرْحَبًا بفلان ومعانقة القادم وَنَحْوهَا أَنَّهَا زِيَادَة فِي الْمَوَدَّة والتبشيش وَرفع الوحشة والتدابر.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِذا التقى المسلمان فتصافحا حمدا لله واستغفراه غفر لَهما " أَقُول: وَذَلِكَ لِأَن التبشيش فِيمَا بَين الْمُسلمين توادهم وتلاطفهم وإشاعة ذكر الله فِيمَا بَينهم يرضى بهَا رب الْعَالمين.
وَأما الْقيام فاختلفت فِيهِ الْأَحَادِيث، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من سره أَن يتَمَثَّل لَهُ الرجل قيَاما فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار
" وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تقوموا كَمَا يقوم الْأَعَاجِم يعظم بَعضهم بَعْضًا " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قصَّة سعد:
" قومُوا إِلَى سيدكم " وَكَانَت فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا إِذا دخلت على النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ إِلَيْهَا فَأخذ بِيَدِهَا فقبلها وأجلسها فِي مَجْلِسه، وَإِذا دخل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا قَامَت وَأخذت بِيَدِهِ فقبلته وأجلسته فِي مجلسها.
أَقُول: وَعِنْدِي أَنه لَا اخْتِلَاف فِيهَا فِي الْحَقِيقَة فَإِن الْمعَانِي الَّتِي يَدُور عَلَيْهَا الْأَمر وَالنَّهْي مُخْتَلفَة فَإِن الْعَجم كَانَ من أَمرهم أَن تقوم الخدم بَين أَيدي سادتهم والرعية بَين أَيدي مُلُوكهمْ وَهُوَ من إفراطهم فِي التَّعْظِيم حَتَّى كَاد يتاخم الشّرك فنهوا عَنهُ، وَإِلَى هَذَا وَقعت الْإِشَارَة فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " كَمَا يقوم الْأَعَاجِم ".
وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام:
" من سره أَن يتَمَثَّل " يُقَال: مثل بَين يَدَيْهِ مثولا إِذا انتصب قَائِما للْخدمَة، أما إِذا كَانَ تبشيشا لَهُ واهتزازا اليه وإكراما وتطبيبا لِقَلْبِهِ من غير أَن يتَمَثَّل بَين يَده فَلَا بَأْس فانه لَا يتاخم الشّرك.
وَقيل " يَا رَسُول الله الرجل منا يلقى أَخَاهُ أينحني لَهُ؟ قَالَ: لَا "(2/306)
وَسَببه أَنه يشبه الرُّكُوع فِي الصَّلَاة فَكَانَ بِمَنْزِلَة سَجْدَة التَّحِيَّة.
قَالَ الله تَعَالَى:
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تدْخلُوا بُيُوتًا غير بُيُوتكُمْ حَتَّى تستأنسوا وتسلموا على أَهلهَا}
وَقَالَ تَعَالَى الله:
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لِيَسْتَأْذِنكُم الَّذين ملكت أَيْمَانكُم وَالَّذين لم يبلغُوا الْحلم مِنْكُم ثَلَاث مَرَّات}
إِلَى قَوْله تَعَالَى {كَمَا اسْتَأْذن الَّذين من قبلكُمْ} فَقَوله (تستأنسوا) أَي تستأذنوا أَقُول: إِنَّمَا شرع الاسْتِئْذَان لكراهية أَن يهجم الْإِنْسَان على عورات النَّاس وان ينظر مِنْهُم مَا يكْرهُونَ، وَقَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بعض حَدِيثه: " إِنَّمَا جعل الاسْتِئْذَان لاجل الْبَصَر " فَكَانَ من حَقه أَن يخْتَلف باخْتلَاف النَّاس.
فَمنهمْ الْأَجْنَبِيّ الَّذِي لَا مُخَالطَة بَينهم وَبَينه، وَمن حَقه أَلا يدْخل حَتَّى يُصَرح بالاستئذان وَيُصَرح لَهُ بالأذن، وَلذَلِك علم النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلدة ابْن الحنبل رجلا من بني عَامر أَن يَقُول: " السَّلَام عَلَيْكُم أَأدْخل، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" الاسْتِئْذَان ثَلَاث فاذا اذن لَك وَإِلَّا فَارْجِع.
وَمِنْهُم نَاس أَحْرَار لَيْسُوا بالمحارم لَكِن بَينهم خلْطَة وصحبة فاستئذانهم دون اسْتِئْذَان الْأَوَّلين، وَلذَلِك قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعبد الله بن مَسْعُود: " إذنك على أَن ترفع الْحجاب وَأَن تستمع سوادى حَتَّى أَنهَاك "
وَمِنْهُم صبيان ومماليك لَا يجب السّتْر مِنْهُم فَلَا اسْتِئْذَان لَهُم إِلَّا فِي أَوْقَات جرت الْعَادة فِيهَا بِوَضْع الثِّيَاب، وَإِنَّمَا خص الله تَعَالَى هَذِه الْأَوْقَات الثَّلَاث لِأَنَّهَا وَقت ولوج الصّبيان والمماليك بِخِلَاف نصف اللَّيْل مثلا.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" رَسُول الرجل إِلَى الرجل إِذْنه " وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عرف بِدُخُولِهِ لما أرسل إِلَيْهِ.
وَكَانَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذا أَتَى بَاب قوم لم يسْتَقْبل الْبَاب من تِلْقَاء وَجهه لَكِن من رُكْنه الْأَيْمن أَو الْأَيْسَر، فَيَقُول: " السَّلَام عَلَيْكُم السَّلَام عليم " وَذَلِكَ لِأَن الدّور لم يكن عَلَيْهَا يَوْمئِذٍ ستور.
وَمِنْهَا آدَاب الْجُلُوس. وَالنَّوْم. وَالسّفر. وَنَحْوهَا، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يُقيم الرجل الرجل من مَجْلِسه ثمَّ يجلس فِيهِ وَلَكِن يَقُول: تَفَسَّحُوا وتوسعوا "(2/307)
أَقُول: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يصدر من كبر وَإِعْجَاب بِنَفسِهِ ويجد بِهِ الآخر وحرا وضغينة وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من قَامَ من مَجْلِسه ثمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَق بِهِ " أَقُول: سبق إِلَى مجْلِس أُبِيح لَهُ من مَسْجِد أَو رِبَاط أوبيت فقد تعلق حَقه بِهِ فَلَا يهيج حَتَّى يَسْتَغْنِي عَنهُ كالموات " وَقد مر هُنَالك.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا يحل للرجل أَن يفرق بَين اثْنَيْنِ إِلَّا بإذنهما ".
أَقُول: وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا رُبمَا يَجْتَمِعَانِ لمسارة ومناجاة فَيكون الدُّخُول بَينهمَا تنغيصا عَلَيْهِمَا، وَرُبمَا يتآنسان فَيكون الْجُلُوس بَينهمَا إيحاشا لَهما.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يستلقين أحدكُم ثمَّ يضع إِحْدَى رجلَيْهِ على الْأُخْرَى " ورؤى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِد مُسْتَلْقِيا وَاضِعا إِحْدَى
قَدَمَيْهِ على الْأُخْرَى أَقُول. كَانَ الْقَوْم يَأْتَزِرُونَ والمؤتزر إِذا رفع إِحْدَى رجلَيْهِ على الْأُخْرَى لَا يَأْمَن أَن تنكشف عَوْرَته فَإِن كَانَ لابس سَرَاوِيل أَو يَأْمَن انكشاف عَوْرَته فَلَا بَأْس فِي ذَلِك.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمضطجع على بَطْنه: " أَن هَذِه ضجعة يبغضها الله ". أَقُول وَذَلِكَ لِأَنَّهَا من الهيآت الْمُنكرَة القبيحة.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من بَات على ظهر بَيت لَيْسَ عَلَيْهِ حجاب فقد بَرِئت مِنْهُ الذِّمَّة " أَقُول. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تعرض لاهلاك نَفسه وَألقى نَفسه إِلَى التَّهْلُكَة، وَقد قَالَ الله تَعَالَى:
{وَلَا تلقوا بأيدكم إِلَى التَّهْلُكَة}
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" مَلْعُون على لِسَان مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قعد وسط الْحلقَة " قيل: المُرَاد مِنْهُ الماجن الَّذِي يُقيم نَفسه مقَام السخرية ليَكُون ضحكة وَهُوَ عمل من أَعمال الشَّيْطَان، وَيحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى أَن يدبر على طَائِفَة وَيقبل على نَاحيَة فيجد بَعضهم فِي نَفسه من ذَلِك كَرَاهِيَة.
وَاخْتَلَطَ الرِّجَال مَعَ النِّسَاء فِي الطَّرِيق، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" للنِّسَاء استأخرن فانه لَيْسَ لَكِن أَن تحققن الطَّرِيق عليكن بحافات الطَّرِيق فَكَانَت الْمَرْأَة تلصق بالجدار ".
وَنهى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن يمشي الرجل بَين امْرَأتَيْنِ.
أَقُول وَذَلِكَ خوفًا من أَن يمس الرجل امْرَأَة لَيست بِمحرم أَو ينظر إِلَيْهَا.(2/308)
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: إِذا عطس أحدكُم فَلْيقل الْحَمد لله وَليقل أَخُوهُ أَو صَاحبه يَرْحَمك الله فَلْيقل: يهديكم الله وَيصْلح بالكم " وَفِي رِوَايَة " وَإِن لم يحمد الله فَلَا تشمتوه " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" شمت أَخَاك ثَلَاثًا فَمَا زَاد فَهُوَ زكام " أَقُول: إِنَّمَا شرع الْحَمد عِنْد العطسه لمعنيين: أَحدهمَا أَنه من الشِّفَاء وَخُرُوج الأبخرة الغليظة من الدِّمَاغ، وَثَانِيهمَا أَنه سنة آدم عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ معرف لكَونه تَابعا لسنن الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام جَامع الْعَزِيمَة على ملتهم وَكَذَلِكَ وَجب التشميت وَكَانَ من حُقُوق الْإِسْلَام، وَإِنَّمَا سنّ جَوَاب التشميت لِأَنَّهُ من مُقَابلَة الْإِحْسَان بِالْإِحْسَانِ.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِنَّمَا التثاؤب من الشَّيْطَان فَإِذا تثاءب أحدكُم فليردده مَا اسْتَطَاعَ فان أحدكُم إِذا تثاءب ضحك مِنْهُ الشَّيْطَان ".
أَقُول: وَذَلِكَ لِأَن التثاؤب نَاشِئ عَن كسل الطبيعة وَغَلَبَة الملال والشيطان يجد فِي ضمن ذَلِك فرْصَة وَفتح الْفَم وَصَوت هاه يضْحك مِنْهُ الشَّيْطَان لِأَنَّهُ من الهيآت الْمُنكرَة.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِذا تثاءب أحكم فليمسك بِيَدِهِ على فَمه فَإِن الشَّيْطَان يدْخلهُ " أَقُول: الشَّيْطَان يهيج ذبابا أَو بقة فَيدْخل فِي فَمه وَرُبمَا تشنج أعصاب وَجهه وَقد راينا ذَلِك.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَو يعلم النَّاس مَا فِي الوحده مَا أعلم مَا سَار رَاكب بلَيْل وَحده " أَقُول. أَرَادَ عَلَيْهِ السَّلَام كَرَاهِيَة التهور والاقتحام فِي المهالك من غير ضَرُورَة أما بعث الزبير رَضِي الله عَنهُ وَحده طَلِيعَة فلمكان ضَرُورِيّ.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا تصْحَب الْمَلَائِكَة رفْقَة فِيهَا كلب وَلَا جرس " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
" الجرس مَزَامِير الشَّيْطَان ".
أَقُول. الصَّوْت الْحَدِيد الشَّديد يُوَافق الشَّيْطَان وَحزبه ويكرهه الْمَلَائِكَة لِمَعْنى يُعْطِيهِ مزاجهم.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذا سافرتم فِي الخصب فأعطوا الْإِبِل حَقّهَا من الأَرْض.
وَإِذا سافرتم فِي السّنة فَأَسْرعُوا عَلَيْهَا السّير. وَإِذا عرستم بِاللَّيْلِ فَاجْتَنبُوا الطَّرِيق فانها طَرِيق الدَّوَابّ ومأوى الْهَوَام فِي بِاللَّيْلِ ".
أَقُول: هَذَا كُله ظَاهر.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" السّفر قِطْعَة من الْعَذَاب يمْنَع أحدكُم نَومه وَطَعَامه وَشَرَابه فَإِذا قضى(2/309)
نهمته من وَجهه فليعجل إِلَى أَهله " أَقُول. يُرِيد عَلَيْهِ السَّلَام كَرَاهِيَة أَن يتبع محقرات الْأُمُور فيطيل مكثه لأَجلهَا.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِذا أَطَالَ أحدكُم الْغَيْبَة فَلَا يطْرق أَهله لَيْلًا ". أَقُول: كثيرا مَا يتنفر الْإِنْسَان نفرة طبيعية من أجل التشعث وَنَحْوه فَيكون سَببا لتنغيص حَالهم.
وَمِنْهَا آدَاب الْكَلَام قَالَ رَسُول الله: " أخنى الْأَسْمَاء يَوْم الْقِيَامَة عِنْد الله رجل يُسمى ملك الْأَمْلَاك " وَقَالَ: " لَا ملك إِلَّا الله " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التكنية بِأبي الحكم: " إِن الله هُوَ الحكم وَإِلَيْهِ الحكم ". أَقُول: إِنَّمَا نهى عَن ذَلِك لِأَنَّهُ إفراط فِي التَّعْظِيم يتاخم الشّرك.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا تسمين غلامك يسارا وَلَا رباحا وَلَا نجيحا وَلَا أَفْلح فَإنَّك نقُول: أَثم هُوَ؟ فَلَا يكون، فَيَقُول: لَا ".
وَقَالَ جَابر رَضِي الله عَنهُ: أَرَادَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن ينْهَى أَن يُسمى بيعلي. وببركة. وبأفلح. وبيسار. وبنافع. وَنَحْو ذَلِك، ثمَّ رَأَيْته سكت بعد أَن عَنْهَا ثمَّ قبض وَلم ينْه عَن ذَلِك أَقُول: سَبَب كَرَاهِيَة التَّسْمِيَة بِهَذِهِ الْأَسْمَاء أَنَّهَا تُفْضِي إِلَى هَيْئَة مُنكرَة هِيَ فِي الْأَقْوَال بِمَنْزِلَة الأجدع وَنَحْوه فِي الْأَفْعَال، وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام:
" الأجدع شَيْطَان ".
وَوجه الْجمع بَين الْحَدِيثين أَنه لم يعزم فِي النَّهْي وَلم يُؤَكد وَلكنه نهى نهي إرشاد بِمَنْزِلَة المشورة، أَو ظَهرت مخايل النَّهْي، فَقَالَ الرَّاوِي نهى اجْتِهَادًا مِنْهُ، وَمن حفظ حجَّة على من لم بِحِفْظ.
وَأرى أَن هَذَا الْوَجْه أوفق لفعل الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فَإِنَّهُم لم يزَالُوا يسمون بِهَذِهِ الْأَسْمَاء.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" سموا باسمي وَلَا تكنوا بكنيتي فَإِنِّي إِنَّمَا جعلت قاسما أقسم بَيْنكُم " أَقُول: لَو كَانَ أحد يُسمى باسم النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَكَانَ مَظَنَّة أَن تشتبه الْأَحْكَام وَيُدَلس فِي(2/310)
نسبتها ورفعها، فَإِذا قيل: قَالَ أَبُو الْقَاسِم ظن أَن الْآمِر هُوَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرُبمَا كَانَ المُرَاد غَيره.
وَأَيْضًا رُبمَا يسب الرجل باسمه أَو يذم بِقَلْبِه فِي الملاحاة فَإِن كَانَ مُسَمّى باسم النَّبِي كَانَ فِي ذَلِك هَيْئَة مُنكرَة.
ثمَّ هَذَا الْمَعْنى أَكثر تحققا فِي الكنية مِنْهُ فِي الْعلم لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا أَن النَّاس كَانُوا ممنوعين شرعا وممتنعين ديدنا من أَن ينادوا النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باسمه وَكَانَ الْمُسلمُونَ ينادون يَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأهل الذِّمَّة يَقُولُونَ: يَا أَبَا الْقَاسِم.
وَثَانِيهمَا أَن الْعَرَب كَانُوا لَا يقصدون بِالِاسْمِ التشريف وَلَا التحقير، وَأما الكنى فَكَانُوا يقصدون بهَا أحد الْأَمريْنِ كَأبي الحكم. وَأبي جهل وَنَحْو ذَلِك.
وَإِنَّمَا كنى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأبي الْقَاسِم لِأَنَّهُ قَاسم فَكَانَ تكنية غَيره بهَا كالتسوية مَعَه.
وَإِنَّمَا رخص النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعَلي أَن يُسَمِّي وَلَده باسمه بعده ويكنيه بكنيته لارْتِفَاع الالتباس والتدليس بانقراض الْقرن.
قَالَ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَقُولَن أحدكُم عَبدِي وَأمتِي كلكُمْ عبيد الله وكل نِسَائِكُم إِمَاء الله وَلَكِن ليقل غلامي وجاريتي وفتاي وَفَتَاتِي وَلَا يقل العَبْد رَبِّي وَلَكِن ليقل سَيِّدي ".
أَقُول: التطاول فِي الْكَلَام والازدراء بِالنَّاسِ منشؤه الْإِعْجَاب وَالْكبر وَفِيه كسر قُلُوب النَّاس، وَأَيْضًا فَلَمَّا عبر فِي الْكتب الإلهية عَن النِّسْبَة الَّتِي هِيَ لِلْخلقِ إِلَى الْخَالِق بالعبيده والربية كَانَ إِطْلَاقهَا فِيمَا بَينهم سوءأدب
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَقولُوا الْكَرم وَلَكِن قَالُوا الْعِنَب والحبلة وَلَا تَقولُوا يَا خيبة الدَّهْر فَإِن الله هُوَ الدَّهْر، وَقَالَ الله تَعَالَى: " يُؤْذِينِي ابْن آدم يسب الدَّهْر وَأَنا الدَّهْر بيَدي الْأَمر أقلب اللَّيْل وَالنَّهَار ".
أَقُول: لما نهى الله تَعَالَى عَن الْخمر وَوضع أمرهَا اقْتضى ذَلِك أَن يمْنَع عَن كل مَا يُنَوّه أمرهَا ويخيل حسنها إِلَيْهِم وَالْعِنَب مَادَّة الْخمر وَأَصلهَا، وَكَانَ الْعَرَب كثيرا مَا يسمونها بنت كرم ويروجونها بذلك.
وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة ينسبون الوقائع إِلَى الدَّهْر وَهَذَا نوع من الشّرك،
وَأَيْضًا رُبمَا يُرِيدُونَ بالدهر مُقَلِّب الدَّهْر، فالسخط رَاجع إِلَى الله وَأَن أخطأوا فِي العنوان.(2/311)
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَقُولَن أحدكُم خبثت نَفسِي وَلَكِن ليقل لقست نَفسِي " أَقُول: الْخبث كثير مَا يسْتَعْمل فِي الْكتب الإلهية بِمَعْنى خبث الْبَاطِن وَسُوء السريرة فَهَذِهِ الْكَلِمَة بِمَنْزِلَة الهيآت الشيطانية.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زَعَمُوا: " بئس مَطِيَّة الرجل " أَقُول: يُرِيد كَرَاهِيَة أَن يذكر الْأَقَاوِيل من غير تثبت.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا تَقولُوا مَا شَاءَ الله وَشاء فلَان وَقُولُوا مَا شَاءَ الله ثمَّ شَاءَ فلَان " أَقُول: التَّسْوِيَة فِي الذّكر توهم التَّسْوِيَة فِي الْمنزلَة فَكَانَ إِطْلَاق مثل هَذِه اللَّفْظَة سوء أدب.
وَاعْلَم أَن التنطع والتشدق. والتقعر فِي الْكَلَام. والإكثار من الشّعْر. والمزاح. وتزجية الْوَقْت بأسمار وَنَحْوهَا إِحْدَى المسليات الَّتِي تشغل عَن الدّين وَالدُّنْيَا وَمَا يَقع بِهِ التفاخر والمراءة فَكَانَ حَالهَا كَحال عادات الْعَجم فكرهها النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَين مَا فِي ذَلِك من الْآفَات، وَرخّص فِيمَا لَا يتَحَقَّق فِيهِ معنى الْكَرَاهِيَة وَإِن أشتبه بادى الرَّأْي.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" هلك المتنطعون قَالَهَا ثَلَاثًا " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: " الْحيَاء والعي شعبتان من الْإِيمَان، وَالْبذَاء وَالْبَيَان شعبتان من النِّفَاق " أَقُول: يُرِيد ترك الْبذاء. والتقعر. والتطاول فِي الْكَلَام.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِن أحبكم إِلَيّ وأقربكم مني يَوْم الْقِيَامَة أحاسنكم أَخْلَاقًا وَإِن أبغضكم إِلَيّ وأبعدكم مني أساوئكم أَخْلَاقًا الثرثارون المتشدقون المتفيهقون "، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" بقد رَأَيْت - أَو أمرت - أَن أتجوز فِي القَوْل وفإن الْجَوَاز هُوَ خير " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لِأَن يمتلئ جَوف أحدكُم قَيْحا يرِيه خيرا من أَن يمتلئ شعرًا " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحسان:
" إِن روح الْقُدس مَا لَا يزَال يؤيدك مَا(2/312)
نافحت عَن الله وَرَسُوله " وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " إِن الْمُؤمن يُجَاهد بِسَيْفِهِ وَلسَانه وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ فَكَأَنَّمَا ترمونهم بِهِ نضح النبل ".
وَقد ذكرنَا فِي الاحسان من أصُول آفَات اللِّسَان مَا يَتَّضِح بِهِ أَحَادِيث حفظ اللِّسَان كَقَوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَلْيقل خيرا أَو لِيَسْكُت " وَقَوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. " سباب الْمُسلم فسوق وقتاله كفر " وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" أَتَدْرُونَ مَا الْغَيْبَة؟ ذكر أَخَاك بِمَا يكره، قيل: أَفَرَأَيْت إِن كَانَ فِي أخي مَا أَقُول؟ قَالَ. إِن كَانَ فِيهِ مَا تَقول فقد اغْتَبْته وَإِن لم يكن فِيهِ فقد بَهته ".
وَقَالَ الْعلمَاء يسْتَثْنى من تَحْرِيم الْغَيْبَة أُمُور سِتَّة: التظلم لقَوْله تَعَالَى:
{لَا يحب الله الْجَهْر بالسوء من القَوْل إِلَّا من ظلم} .
والاستعانة على تَغْيِير الْمُنكر ورد العَاصِي إِلَى الصَّوَاب كاخبار زيد ابْن أَرقم بقول عبد الله بن أبي. وإخبار ابْن مَسْعُود بقول الْأَنْصَار فِي مَغَانِم حنين. والاستفتاء كَقَوْل هِنْد: إِن أَبَا سُفْيَان رجل شحيح، وتحذير الْمُسلمين من الشَّرّ كَقَوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" بئس أَخُو الْعَشِيرَة " وكجرح الْمَجْرُوحين وَكَقَوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" أما مُعَاوِيَة فصعلوك، وَأما أَبُو الجهم فَلَا يضع الْعَصَا عَن عَاتِقه " والتنفير من مجاهر بِالْفِسْقِ كَقَوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا أَظن فلَانا وَفُلَانًا يعرفان من أمرنَا شَيْئا " والتعريف كالأعمش. والأعرج.، وَقَالُوا: الْكَذِب يجوز إِذا كَانَ تَحْصِيل الْمَقْصُود لَا يُمكن إِلَّا بِهِ، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
" لَيْسَ الْكذَّاب الَّذِي يصلح بَين النَّاس فينمي خيرا أَو يَقُول خيرا ".
(وَمِمَّا يتَعَلَّق بِهَذَا المبحث أَحْكَام النذور والايمان)
وَالْجُمْلَة فِي ذَلِك أَنَّهَا من ديدن النَّاس وعادتهم عربهم وعجمهم إِلَّا تَجِد وَاحِدَة من الْأُمَم لَا تستعملها فِي مظانها فَوَجَبَ الْبَحْث عَنْهَا.(2/313)
وَلَيْسَ النّذر من أصُول الْبر وَلَا الْإِيمَان، وَلَكِن إِذا أوجب الْإِنْسَان على نَفسه وَذكر اسْم الله عَلَيْهِ وَجب أَلا يفرط فِي جنب الله وَفِيمَا ذكر عَلَيْهِ اسْم الله، وَلذَلِك قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا تنذروا فَإِن النّذر لَا يُغني من الْقدر شَيْئا وَإِنَّمَا يسْتَخْرج بِهِ من الْبَخِيل " يَعْنِي أَن الْإِنْسَان إِذا أحيط بِهِ رُبمَا يسهل عَلَيْهِ إِنْفَاق شَيْء فَإِذا أنقذه الله من تِلْكَ الْمهْلكَة كَانَ كَأَن لم يمسهُ ضرّ قطّ، فَلَا بُد من شَيْء يسْتَخْرج بِهِ مَا الْتَزمهُ على نَفسه مِمَّا يُؤَكد عزيمته وينوه نِيَّته.
وَالْحلف على أَرْبَعَة أضْرب: يَمِين منعقدة وَهِي الْيَمين على مُسْتَقْبل مُتَصَوّر عاقدا عَلَيْهِ قلبه، وفيهَا قَوْله تَعَالَى:
{وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا عقدتم الْأَيْمَان} .
ولغو الْيمن قَول الرجل: لَا وَالله. وبلى وَالله من غير قصد، وَأَن يحلف على شَيْء يَظُنّهُ كَمَا حلف متبين بِخِلَافِهِ، وفيهَا قَوْله تَعَالَى.
{لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُم} .
وَالْيَمِين الْغمُوس وَهِي الَّتِي يحلفها كَاذِبًا عَاملا ليقتطع بهَا مَال امْرِئ مُسلم وَهِي من الْكَبَائِر.
وَالْيَمِين على مُسْتَحِيل عقلا كَصَوْم أمس، وَالْجمع بَين الضدين، أَو عَادَة كإحياء الْمَيِّت وقلب الْأَعْيَان.
وَاخْتلف فِي الضربين اللَّذين لَيْسَ فيهمَا نَص هَل فيهمَا كَفَّارَة؟ قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا تحلفُوا بِآبَائِكُمْ من كَانَ حَالفا فليحلف بِاللَّه أَو ليصمت " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من حلف بِغَيْر الله فقد أشرك ".
أَقُول: الْحلف باسم شَيْء لَا يتَحَقَّق حَتَّى يعْتَقد فِيهِ عَظمَة وَفِي اسْمه بركَة، والتفريط فِي جنبه وإهمال مَا ذكر اسْمه عَلَيْهِ إِثْمًا.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من حلف فَقَالَ فِي حلفه: بِاللات والعزى، فَلْيقل: لَا إِلَه إِلَّا الله، وَمن قَالَ لصَاحبه: تعال أقامرك فليتصدق "
أَقُول: اللِّسَان ترجمان الْقلب ومقدمته وَلَا يتَحَقَّق تَهْذِيب الْقلب حَتَّى يُؤَاخذ بِحِفْظ اللِّسَان.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِذا حَلَفت على يَمِين فَرَأَيْت غَيرهَا خيرا مِنْهَا فَكفر عَن يَمِينك وأت الَّذِي هُوَ خير ".(2/314)
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لِأَن بلج: " إِن يلاج أحدكُم بِيَمِينِهِ فِي أَهله آثم لَهُ عِنْد الله من أَن يُعْطي كَفَّارَته الَّتِي افْترض الله عَلَيْهِ " أَقُول: كثيرا مَا يحلف الْإِنْسَان على شَيْء فيضيق على نَفسه وعَلى النَّاس وَلَيْسَت تِلْكَ من الْمصلحَة، وَإِنَّمَا شرعت الْكَفَّارَة منهية لما يجده الْمُكَلف على نَفسه.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَمِينك على مَا يصدقك عَلَيْهِ صَاحبك " أَقُول: قد يحتال لاقتطاع مَال امْرِئ الْمُسلم بِأَن يتَأَوَّل فِي الْيَمين فَيَقُول مثلا وَالله لَيْسَ فِي يَدي من مَالك شَيْء يُرِيد لَيْسَ فِي يَدي شَيْء وَإِن كَانَ فِي تصرفي وقبضي، وَهَذَا مَحَله الظَّالِم.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من حلف فَقَالَ: إِن شَاءَ الله لم يَحْنَث ".
أَقُول: حِينَئِذٍ لم يتَحَقَّق عقد الْقلب وَلَا جزم النِّيَّة وَهُوَ الْمَعْنى فِي الْكَفَّارَة، قَالَ الله تَعَالَى:
{لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُم وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا عقدتم الْأَيْمَان فكفارته إطْعَام عشرَة مَسَاكِين من أَوسط مَا تطْعمُونَ أهليكم أَو كسوتهم أَو تَحْرِير رَقَبَة فَمن لم يجد فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام ذَلِك كَفَّارَة أَيْمَانكُم إِذا حلفتم} .
أَقُول: قد مر سر وجوب الْكَفَّارَة من قبل فراجع.
وَالنّذر على أَقسَام: النّذر الْمُبْهم، وَفِيه قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" كَفَّارَة النّذر إِن لم يسم كَفَّارَة الْيَمين ".
وَالنّذر الْمُبَاح، وَفِيه قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أوف بِنَذْرِك " بِلَا وجوب لما يَأْتِي من قصَّة أبي إِسْرَائِيل.
وَنذر طَاعَة فِي مَوضِع بِعَيْنِه أَو بهيئة بِعَينهَا، وَفِيه قصَّة أبي إِسْرَائِيل نذر أَن يقوم وَلَا يقْعد وَلَا يستظل وَلَا يتَكَلَّم ويصوم، فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" مروه فَلْيَتَكَلَّمْ وليستظل وليقعد وليتم صَوْمه " وقصة من نذر أَن ينْحَر إبِلا ببوانة لَيْسَ بهَا وثن وَلَا عيد لأهل الْجَاهِلِيَّة. قَالَ:
" أوف بِنَذْرِك ".
وَنذر الْمعْصِيَة، وَفِيه قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من نذر نذرا فِي مَعْصِيّة فكفارته كَفَّارَة يَمِين ".
وَنذر مُسْتَحِيل، وَفِيه قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من نذر نذرا لَا يطيقه فكفارته كَفَّارَة يَمِين " وَالْأَصْل فِي هَذَا الْبَاب أَن الْكَفَّارَة شرعت منهية للاثم مزيلة لما حاك فِي صَدره فَمن نذر بِطَاعَة فَلْيفْعَل وَمن نذر غير ذَلِك وَوجد فِي صَدره حرجا وَجَبت الْكَفَّارَة، وَالله أعلم.(2/315)
(من أَبْوَاب شَتَّى)
قد فَرغْنَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين عَمَّا أردنَا إِيرَاده فِي هَذَا الْكتاب وشرطناه على أَنْفُسنَا، وَلَا استوعب الْمَذْكُور جَمِيع مَا هُوَ مَكْنُون فِي صدورنا من أسرار الشَّرِيعَة فَلَيْسَ كل وَقت يسمح الْقلب بمضمونات السرائر وينفع اللِّسَان بمكنونات الضمائر، وَلَا كل حَدِيث يثنى للعامة وَلَا كل شَيْء يحسن ذكره بِغَيْر تمهيد مقدماته، وَلَا استوعب مَا جمع الله فِي صدورنا جَمِيع مَا أنزل على قلب النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَيف يكون لمورد الْوَحْي ومنزل الْقُرْآن نِسْبَة مَعَ رجل من أمته هَيْهَات ذَلِك، وَلَا استوعب مَا جمع الله فِي صَدره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيع مَا عِنْد الله تَعَالَى من الحكم والمصالح المرعية فِي أَحْكَامه تَعَالَى، وَقد أوضح عَن ذَلِك الْخضر عَلَيْهِ السَّلَام حَيْثُ قَالَ، مَا نقص علمي وعلمك إِلَّا كَمَا نقص هَذَا العصفور من الْبَحْر. فَمن هَذَا الْوَجْه يَنْبَغِي أَن يعرف فخامة أَمر الْمصَالح المرعية فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة وَأَنَّهَا لَا مُنْتَهى لَهَا، وَأَن جَمِيع مَا يذكر فِيهَا غير واف بِوَاجِب حَقّهَا. وَلَا كَاف بِحَقِيقَة شَأْنهَا وَلَكِن مَا لَا يدْرك كُله لَا يتْرك كُله، وَنحن الْآن نشتغل بِشَيْء من الْيُسْر. والفتن. والمناقب على التَّيْسِير دون الِاسْتِيعَاب، وَالله الْمُوفق والمعين، وَإِلَيْهِ الْمرجع والمآب.
(سير النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
نَبينَا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بن عبد الله بن عبد الْمطلب بن هَاشم بن عبد منَاف بن قصي، نَشأ من أفضل الْعَرَب نسبا وَأَقْوَاهُمْ شجاعة وأوفرهم سخاوة وأفصحهم لِسَان وأذكاهم جنَانًا، وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام لَا تبْعَث إِلَّا فِي نسب قَومهَا، فَإِن النَّاس معادن كمعادن الذَّهَب وَالْفِضَّة، وجودة الْأَخْلَاق يَرِثهَا الرجل من آبَائِهِ وَلَا يسْتَحق النُّبُوَّة إِلَّا الكاملون فِي الْأَخْلَاق.(2/316)
وَقد أَرَادَ الله ببعثهم أَن يظْهر الْحق وَيُقِيم بهم الْأمة العوجاء ويجعلهم أَئِمَّة، وَالْأَقْرَب لذَلِك أهل النّسَب الرفيع واللطف مرعى فِي أَمر الله، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{الله أعلم حَيْثُ يَجْعَل رسَالَته} .
وَنَشَأ معتدلا فِي الْخلق والخلق، كَانَ ربعَة لَيْسَ بالطويل وَلَا بالقصير. وَلَا الْجَعْد القطط. وَلَا الْبسط كَانَ جَعدًا رجلا، وَلم يكن بالمطهم. وَلَا بالمكلثم، وَكَانَ فِي وَجهه تدوير، ضخم الرَّأْس واللحية شئن الْكَفَّيْنِ والقدمين مشربا حمرَة. ضخم الكراديس. قوي الْبَطْش والباءة. أصدق النَّاس لهجة
وألينهم عَرِيكَة من رَآهُ بديهة هابه، وَمن خالطه معرفَة أحبه، أَشد النَّاس تواضعا مَعَ كبر النَّفس وأرفقهم بِأَهْل بَيته وخدمه، خدمه أنس رَضِي الله عَنهُ عشر سِنِين فَمَا قَالَ لَهُ أُفٍّ وَلَا لم صنعت؟ وَلَا أَلا صنعت؟ وَإِن كَانَت الْأمة من إِمَاء أهل الْمَدِينَة لتأْخذ بِيَدِهِ فتنطلق بِهِ حَيْثُ شَاءَت.
وَكَانَ يكون فِي مهنة أَهله وَلم يكن فَاحِشا وَلَا لعانا وَلَا سبابا.
وَكَانَ يخصف نَعله ويخيط ثَوْبه ويحلب شاته مَعَ كَونه ذَا عَزِيمَة نَافِذَة قيله القيل لَا يغلبه أَمر وَلَا تفوته مصلحَة.
وَكَانَ أَجود النَّاس وأصبرهم على الْأَذَى وَأَكْثَرهم رَحْمَة بِالنَّاسِ لَا يصل إِلَى أحد مِنْهُ شَرّ لَا من يَده وَلَا من لِسَانه إِلَّا أَن يُجَاهد فِي سَبِيل الله.
وَكَانَ الزمهم باصلاح تَدْبِير الْمنزل ورعاية الْأَصْحَاب وسياسة الْمَدِينَة بِحَيْثُ لَا يتَصَوَّر فَوْقه يعرف لكل شَيْء قدره.(2/317)
وَكَانَ دَائِم النّظر إِلَى الملكوت مستهترا بِذكر الله يحس ذَلِك من فلتات لِسَانه وَجَمِيع حالاته مؤيدا من الْغَيْب مُبَارَكًا يُسْتَجَاب دعاؤه وتفتح عَلَيْهِ الْعُلُوم من حَظِيرَة الْقُدس وَيظْهر مِنْهُ المعجزات من وُجُوه استجابة الدَّعْوَات وانكشاف خبر الْمُسْتَقْبل وَظُهُور الْبركَة فِيمَا يبرك عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاء صلوَات الله عَلَيْهِم يجبلون على هَذِه الصِّفَات ويندفعون إِلَيْهَا فطْرَة فطرهم الله عَلَيْهَا.
ذكره إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فِي دُعَائِهِ وَبشر بفخامة أمره، وَبشر بِهِ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام وَسَائِر الْأَنْبِيَاء صلوَات الله عَلَيْهِم.
وَرَأَتْ أمه كَأَن نورا خرج مِنْهَا فأضاء الأَرْض فعبرت بِوُجُود ولد مبارك يظْهر دينه شرقا وغربا وهتفت الْجِنّ وأخبرت الْكُهَّان والمنجمون بِوُجُودِهِ وعلو أمره ودلت الْوَاقِعَات الجوية كانكسار شرفات كسْرَى على شرفه وأحاطت بِهِ دَلَائِل النُّبُوَّة كَمَا أخبر هِرقل قَيْصر الرّوم وَرَأَوا آثَار الْبركَة عِنْد مولده وإرضاعه وَظَهَرت الْمَلَائِكَة فشقت عَن قلبه فملأنه إِيمَانًا وَحِكْمَة، وَذَلِكَ بَين عَالم الْمِثَال وَالشَّهَادَة فَلذَلِك لم يكن الشق عَن الْقلب إهلاكا وَقد بَقِي مِنْهُ أثر الْمخيط وَكَذَلِكَ كل مَا اخْتَلَط فِيهِ عَالم الْمِثَال وَالشَّهَادَة.
وَلما خرج بِهِ أَبُو طَالب إِلَى الشَّام فَرَآهُ الراهب شهد بنبوته لآيَات رَآهَا فِيهِ، وَلما شب ظَهرت مُنَاسبَة الْمَلَائِكَة بالهتف بِهِ والتمثل لَهُ.
وسد الله خلته برغبة خَدِيجَة رَضِي الله عَنْهَا فِيهِ ومواساتها بِهِ وَكَانَت من مياسير نسَاء قُرَيْش، وَكَذَلِكَ من أحبه الله يدبر لَهُ فِي عباده.
وَلما بنى الْكَعْبَة فِيمَن بنى ألْقى إزَاره على عَاتِقه كعادة الْعَرَب فَانْكَشَفَتْ عَوْرَته فأسقط مغشيا عَلَيْهِ، وَنهى عَن كشف عَوْرَته فِي غَشيته وَذَلِكَ شُعْبَة من النُّبُوَّة وَنَوع من الْمُؤَاخَذَة فِي النَّفس.
ثمَّ حبب إِلَيْهِ الْخَلَاء فَكَانَ يَخْلُو بحراء اللَّيَالِي ذَوَات الْعدَد، ثمَّ يَأْتِي أَهله ويتزود لمثلهَا لعزوفه عَن الدُّنْيَا وتجرده إِلَى الْفطْرَة الَّتِي فطره الله عَلَيْهَا.
وَكَانَ أول مَا بُدِئَ بِهِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَة فَكَانَ لَا يرى رُؤْيا إِلَّا جَاءَت مثل فلق الصُّبْح وَهَذِه شُعْبَة من شعب النُّبُوَّة.(2/318)
ثمَّ نزل الْحق عَلَيْهِ وَهُوَ بحراء فَفَزعَ بطبيعته بِأَن تشوشت الْبَهِيمَة
من سننها لغَلَبَة الملكية فَذَهَبت بِهِ خَدِيجَة إِلَى ورقة، فَقَالَ: هُوَ الناموس الَّذِي نزل على مُوسَى، ثمَّ فتر الْوَحْي وَذَلِكَ لِأَن الْإِنْسَان يجمع جِهَتَيْنِ: جِهَة البشرية. وجهة الملكية فَيكون عِنْد الْخُرُوج من الظُّلُمَات إِلَى النُّور مزاحمات ومصادمات حَتَّى يتم أَمر الله، وَكَانَ يرى الْملك تَارَة جَالِسا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض. وَتارَة وَاقِفًا فِي الْحرم تصل حجزته إِلَى الْكَعْبَة وَنَحْو ذَلِك، وسره أَن الملكوت تلم بالنفوس المستعدة للنبوة فَكلما انفلتت برق عَلَيْهَا بارق ملكي حَسْبَمَا يَقْتَضِيهِ الْوَقْت كَمَا تَنْفَلِت نفوس الْعَامَّة فَتَطلع فِي الرُّؤْيَا على بعض الْأَمر.
قيل: " يَا رَسُول الله كَيفَ يَأْتِيك الْوَحْي؟ فَقَالَ: أَحْيَانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس وَهُوَ أشده عَليّ فَيفْصم عني وَقد وعيت مَا قَالَ: وَأَحْيَانا يتَمَثَّل لي الْملك رجلا فيكلمني فأعي مَا يَقُول ".
أَقُول: أما الصلصلة فحقيقتها أَن الْحَواس إِذا صادمها تَأْثِير قوي تشوشت، فتشويش قُوَّة الْبَصَر أَن يرى ألوانا الْحمرَة والصفرة والخضرة وَنَحْو ذَلِك، وتشويش قُوَّة السّمع أَن يسمع أصواتا مُبْهمَة كالطنين والصلصلة والهمهمة فَإِذا تمّ الْأَثر حصل الْعلم.
وَأما التَّمْثِيل فَهُوَ فِي موطن يجمع بعض أَحْكَام الْمِثَال وَالشَّهَادَة، وَلذَلِك كَانَ يرى الْملك بَعضهم دون الْبَعْض.
ثمَّ أَمر بالدعوة فاشتغل بهَا إخفاء فآمنت خَدِيجَة وَأَبُو بكر الصّديق. وبلال. وأمثالهم رَضِي الله عَنْهُم.
ثمَّ قيل لَهُ:
{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤمر} .
وَقيل:
{وأنذر عشيرتك الْأَقْرَبين} .
فجهر بالدعوة وَإِبْطَال وُجُوه الشّرك فتعصب عَلَيْهِ النَّاس وآذوه بألسنتهم وأيديهم كقصة إِلْقَاء سلى جزور والخنق وَهُوَ صابر فِي كل ذَلِك يبشر الْمُؤمنِينَ بالنصر وينذر(2/319)
الْكَافرين بالانهزام كَمَا قَالَ الله تَعَالَى:
{سَيهْزمُ الْجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} .
وَقَالَ الله تَعَالَى:
{جند مَا هُنَالك مهزوم من الْأَحْزَاب} .
ثمَّ ازدادوا فِي التعصب فتقاسموا على إِيذَاء الْمُسلمين وَمن وليهم من بني هَاشم وَبني الْمطلب فهدوا إِلَى الْهِجْرَة قبل الْحَبَشَة فوجدوا سَعَة قبل السعَة الْكُبْرَى.
وَلما مَاتَت خَدِيجَة رَضِي الله عَنْهَا وَمَات أَبُو طَالب عَمه وَتَفَرَّقَتْ كلمة بني هَاشم فزع لذَلِك وَكَانَ قد نفث فِي صَدره أَن علو كَلمته فِي الْهِجْرَة نفثا
إجماليا فَتَلقاهُ برويته وفكره فَذهب وهله إِلَى الطَّائِف. وَإِلَى هجر. وَإِلَى الْيَمَامَة. وَإِلَى كل مَذْهَب، فاستعجل وَذهب إِلَى الطَّائِف فلقي عناء شَدِيدا، ثمَّ إِلَى بني كنَانَة فَلم ير مِنْهُم مَا يسره فَعَاد إِلَى مَكَّة بِعَهْد زَمعَة وَنزل
{وَمَا أرسلنَا من قبلك من رَسُول وَلَا نَبِي إِلَّا إِذا تمنى ألْقى الشَّيْطَان فِي أمْنِيته} .
قَالَ: أمْنِيته أَن يتَمَنَّى إنجاز الْوَعْد فِيمَا يتفكره من قبل نَفسه وإلقاء الشَّيْطَان أَن يكون خلاف مَا أَرَادَ الله ونسخه كشف حَقِيقَة الْحَال وإزالته من قلبه.
وَأسرى بِهِ إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى، ثمَّ إِلَى سِدْرَة الْمُنْتَهى، وَإِلَى مَا شَاءَ الله،
وكل ذَلِك لجسده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَقَظَة وَلَكِن ذَلِك فِي موطن هُوَ برزخ بَين الْمِثَال وَالشَّهَادَة جَامع لأحكامهما فَظهر على الْجَسَد أَحْكَام الرّوح وتمثل الرّوح والمعاني الروحية أجسادا، وَلذَلِك بَان لكل وَاقعَة من تِلْكَ الوقائع تَعْبِير، وَقد ظهر لحزقيل. ومُوسَى. وَغَيرهمَا عَلَيْهِمَا السَّلَام نَحْو من تِلْكَ الوقائع وَكَذَلِكَ لأولياء الْأمة ليَكُون علو درجاتهم عِنْد الله كحالهم فِي الرُّؤْيَا وَالله أعلم.
أما شقّ الصَّدْر وملؤه إِيمَانًا فحقيقته غَلَبَة أنوار الملكية وانطفاء لَهب الطبيعة وخضوعها لما يفِيض عَلَيْهَا من حَظِيرَة الْقُدس.
وَأما ركُوبه على الْبراق فحقيقته اسْتِوَاء نَفسه النطقية على نسمته الَّتِي هِيَ الْكَمَال الحيواني فَاسْتَوَى رَاكِبًا على الْبراق كَمَا غلبت أَحْكَام نَفسه النطقية على البهيمية وتسلطت عَلَيْهَا.
وَأما إسراؤه إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى فَلِأَنَّهُ مَحل ظُهُور شَعَائِر الله ومتعلق همم الْمَلأ الْأَعْلَى ومطمح أنظار الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فَكَأَنَّهُ كوَّة إِلَى الملكوت.
وَأما ملاقاته مَعَ الْأَنْبِيَاء صلوَات الله عَلَيْهِم ومفاخرته مَعَهم فحقيقتها اجْتِمَاعهم من حَيْثُ ارتباطهم بحظيرة الْقُدس وَظُهُور مَا اخْتصَّ بِهِ من بَينهم من وُجُوه الْكَمَال.(2/320)
وَأما رقِيه إِلَى السَّمَاوَات سَمَاء بعد سَمَاء فحقيقته الانسلاخ إِلَى مستوى الرَّحْمَن منزلَة بعد منزلَة وَمَعْرِفَة حَال الْمَلَائِكَة الموكلة بهَا وَمن لحق بهم من أفاضل الْبشر وَالتَّدْبِير الَّذِي أوحاه الله فِيهَا والاختصام الَّذِي يحصل فِي ملئها
وَأما بكاء مُوسَى فَلَيْسَ بحسد وَلكنه مِثَال لفقده عُمُوم الدعْوَة وَبَقَاء كَمَال لم يحصله مِمَّا هُوَ فِي وَجهه.
وَأما سِدْرَة الْمُنْتَهى فشجرة الْكَوْن وترتب بَعْضهَا على بعض وانجماعها فِي تَدْبِير وَاحِد كانجماع الشَّجَرَة فِي الغاذية والنامية وَنَحْوهمَا وَلم تتمثل حَيَوَانا لِأَن التَّدْبِير الْجملِي الإجمالي الشبيه للسياسة الْكُلِّي أَفْرَاده، وَإِنَّمَا أشبه الْأَشْيَاء بِهِ الشَّجَرَة دون الْحَيَوَان فَإِن الْحَيَوَان فِيهِ قوى تفصيلية والإرادة فِيهِ أصرح من سنَن الطبيعة.
وَأما الْأَنْهَار فِي أَصْلهَا فرحمة فائضة فِي الملكوت حَذْو الشَّهَادَة وحياة وإنماء، فَلذَلِك تعين هُنَالك بعض الْأُمُور النافعة فِي الشَّهَادَة كالنيل والفرات.
وَأما الْأَنْوَار الَّتِي غشيتها فتدليات إلهية وتدبيرات رحمانية تلعلعت فِي الشَّهَادَة حَيْثُمَا استعدت لَهَا.
وَأما الْبَيْت الْمَعْمُور فحقيقته التجلي الإلهي الَّذِي يتَوَجَّه إِلَيْهِ سَجدَات الْبشر وتضرعاتها يتَمَثَّل بَيْتا على حَذْو مَا عِنْدهم من الْكَعْبَة وَبَيت الْمُقَدّس.
ثمَّ أُتِي بِإِنَاء من لبن. وإناء من خمر فَاخْتَارَ اللَّبن، فَقَالَ جِبْرَائِيل: هديت
للفطرة وَلَو أخذت الْخمر لغوت أمتك فَكَانَ هُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَامع أمته ومنشأ ظُهُورهمْ وَكَانَ اللَّبن اختيارهم الْفطْرَة وَالْخمر اختيارهم لذات الدُّنْيَا
وَأمر بِخمْس صلوَات بِلِسَان التَّجَوُّز لِأَنَّهَا خَمْسُونَ بِاعْتِبَار الثَّوَاب، ثمَّ أوضح الله مُرَاده تدريجا ليعلم أَن الْحَرج مَدْفُوع وَأَن النِّعْمَة كَامِلَة وتمثل هَذَا الْمَعْنى مُسْتَندا إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّهُ أَكثر الْأَنْبِيَاء معالجة للامة وَمَعْرِفَة بسياستها.
ثمَّ كَانَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستنجد من أَحيَاء الْعَرَب فوفق الْأَنْصَار لذَلِك فَبَايعُوهُ بيعَة الْعقبَة الأولى. وَالثَّانيَِة وَدخل الْإِسْلَام كل دَار من دور الْمَدِينَة.
وأوضح الله على نبيه أَن ارْتِفَاع دينه الْهِجْرَة إِلَى الْمَدِينَة فأجمع عَلَيْهَا وازداد غيظ قُرَيْش فمكروا بِهِ ليقتلوه أَو يثبتوه أَو يخرجوه فظهرت آيَات لكَونه محبوبا مُبَارَكًا مقضيا لَهُ بالغلبة فَلَمَّا دخل هُوَ وَأَبُو بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ الْغَار لدغ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ فبرك عَلَيْهِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فشفي من سَاعَته، وَلما وقف الْكفَّار على رَأس الْغَار أعمى الله(2/321)
أَبْصَارهم وَصرف عَنهُ أفكارهم وَلما أدركهما سراقَة بن مَالك دَعَا عَلَيْهِ فارتطمت فرسه إِلَى بَطنهَا فِي جلد من الأَرْض بِأَن انخسفت الأَرْض بتقريب من الله فتكفل بِالرَّدِّ عَنْهُمَا، وَلما مروا بخيمة أم معبد درت لَهُ شَاة لم تكن من شِيَاه الدّرّ.
فَلَمَّا قدما الْمَدِينَة جَاءَهُ عبد الله بن سَلام فَسَأَلَهُ عَن ثَلَاث لَا يعلمهُنَّ
إِلَّا نَبِي " فَمَا أول أَشْرَاط السَّاعَة، وَمَا أول طَعَام أهل الْجنَّة، وَمَا ينْزع الْوَلَد إِلَى أَبِيه أَو إِلَى أمه قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" أما أول أَشْرَاط السَّاعَة فَنَار تحْشر النَّاس من الْمشرق إِلَى الْمغرب، وَأما أول طَعَام يَأْكُلهُ أهل الْجنَّة فَزِيَادَة كبد حوت، وَإِذا سبق مَاء الرجل مَاء الْمَرْأَة نزع الْوَلَد، وَإِذا سبق مَاء الْمَرْأَة نزعت " فَأسلم عبد الله وَكَانَ إفحاما لأحبار الْيَهُود.
ثمَّ عَاهَدَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُود وَأمن شرهم واشتغل بِبِنَاء الْمَسْجِد وَعلم الْمُسلمين الصَّلَاة وأوقاتها وشاور فِيمَا يحصل بِهِ الْأَعْلَام بِالصَّلَاةِ. فَأرى عبد الله بن زيد فِي مَنَامه الْأَذَان وَكَانَ مطمح الافاضة الغيبية رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِن كَانَ السفير عبد الله، وحرضهم على الْجَمَاعَة. وَالْجُمُعَة. وَالصَّوْم وَأمر بِالزَّكَاةِ وعلمهم حُدُودهَا وجهر بدعوة الْخلق إِلَى الْإِسْلَام ورغبهم فِي الْهِجْرَة من أوطانهم لِأَنَّهَا يَوْمئِذٍ دَار الْكفْر وَلَا يَسْتَطِيعُونَ إِقَامَة الْإِسْلَام هُنَالك وَشد الْمُسلمين بَعضهم بِبَعْض بالمواخاة وَإِيجَاب الصِّلَة والإنفاق والتوارث بِتِلْكَ المؤاخاة لتتفق كلمتهم فيتأتى الْجِهَاد ويتمعنوا من أعدائهم، وَكَانَ الْقَوْم ألفوا التناصر بالقبائل.
ثمَّ لما رأى الله فيهم اجتماعا ونجدة أوحى إِلَى نبيه أَن يُجَاهد وَيقْعد لَهُم كل مرصد، وَلما وَقعت وَاقعَة بدر لم يَكُونُوا على مَاء فَأمْطر الله مَطَرا، وَاسْتَشَارَ النَّاس هَل يخْتَار العير أَن النفير؟ فبورك فِي رَأْيهمْ حسب رَأْيه فَأَجْمعُوا على النفير بعد مَا لم يكد يكون ذَلِك، وَلما رأى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثْرَة الْعَدو تضرع إِلَى الله فبشر بِالْفَتْح وَأوحى إِلَيْهِ مصَارِع الْقَوْم.
فَقَالَ: " هَذَا مصرع فلَان. وَهَذَا مصرع فلَان يضع يَده هَهُنَا وَهَهُنَا فَمَا مَاطَ أحدهم عَن مَوضِع يَد رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَظَهَرت
الْمَلَائِكَة يَوْمئِذٍ بِحَيْثُ يراهم النَّاس لتثبت قُلُوب الْمُوَحِّدين وترعب قُلُوب الْمُشْركين فَكَانَ ذَلِك فتحا عَظِيما أغناهم الله بِهِ وأشبعهم وَقطع حَبل الشّرك وَأهْلك أفلاذ كبد قُرَيْش، وَلذَا سمي فرقانا.(2/322)
وَكَانَ ميلهم للافتداء مُخَالفا لما أحبه من الله قطع دابر الشّرك فعوتبوا ثمَّ عفى عَنْهُم.
ثمَّ أهاج الله تَقْرِيبًا لاجلاء الْيَهُود فانه لم يكن يصفو دين الله بِالْمَدِينَةِ وهم مجاوروها فَكَانَ مِنْهُم نقض الْعَهْد فَأجلى بني النَّضِير. وَبني قينقاع، وَقتل كَعْب بن الاشرف، وَألقى الله فِي قُلُوبهم الرعب فَلم يعرجوا لمن وعدهم النَّصْر وشجع قُلُوبهم فأفاء الله أَمْوَالهم على نبيه وَكَانَ أول توسع عَلَيْهِم.
وَكَانَ أَبُو رَافع تَاجر الْحجاز يُؤْذِي الْمُسلمين فَبعث إِلَيْهِ عبد الله بن عتِيك فيسر الله لَهُ قَتله، فَلَمَّا خرج من بَيته انْكَسَرت سَاقه فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
" ابْسُطْ رجلك فمسحها فَكَأَنَّهَا لم يشتكها قطّ ".
وَلما اجْتمعت الْأَسْبَاب السماوية على هزيمَة الْمُسلمين يَوْم أحد ظَهرت رَحمَه الله ثمَّ من وُجُوه كَثِيرَة فَجعل الْوَاقِعَة استبصارا فِي دينهم وعبرة فَلم يَجْعَل سَببه إِلَّا مُخَالفَة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَمر من الْقيام على الشّعب، وَعلم الله نبيه بالانهزام إِجْمَالا فَأرَاهُ سَيْفا انْقَطع وبقرة ذبحت فَكَانَت الْهَزِيمَة وَشَهَادَة الصَّحَابَة، وَجعلهَا بِمَنْزِلَة نهر طالوت ميز الله بهَا المخلصين من غَيرهم لِئَلَّا يعْتَمد على أحد أَكثر مِمَّا يَنْبَغِي.
وَلما اسْتشْهد عَاصِم وَأَصْحَابه حمتهم الزنابير من الأعادي فَلم يبلغُوا مِنْهُم مَا أَرَادوا.
وَلما اسْتشْهد الْقُرَّاء فِي بِئْر مَعُونَة جعل النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو عَلَيْهِم فِي صلَاته وَكَانَ فِيهِ نوع من استعجال البشرية فنبه على ذَلِك ليَكُون كل أمره فِي الله وَبِاللَّهِ وَللَّه، وَنزل فِي الْقُرْآن مقالتهم - بلغُوا قَومنَا أَنا قد ليقينا رَبنَا فَرضِي عَنَّا ورضينا عَنهُ لتتسلى قُلُوبهم - ثمَّ نسخ بعد.
وَلما أحاطت بهم الْأَحْزَاب وحفر الخدق ظَهرت رَحْمَة الله بهم من وُجُوه كَثِيرَة رد الله كيدهم فِي نحورهم وَلم يضروا الْمُسلمين شَيْئا، وبورك فِي طَعَام جَابر رَضِي الله عَنهُ فَكفى صَاع من شعير وبهمة نَحْو ألف رجل، وانكشفت قُصُور كسْرَى وَقَيْصَر فِي قدحة الْحجر وَبشر بِفَتْحِهَا وهبت ريح شَدِيدَة فِي لَيْلَة مظْلمَة، وَألقى الرعب فِي قُلُوبهم فَانْهَزَمُوا، وحاصر قريضة فنزلوا على حكم سعد رَضِي الله عَنهُ فَأمر بقتل مُقَاتلَتهمْ وَسبي ذُرِّيتهمْ فَأصَاب الْحق، وَكَانَت للنَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَغْبَة طبيعية لِزَيْنَب رَضِي الله عَنْهَا فوفر الله لَهُ ذَلِك حَيْثُ كَانَت فِيهِ مصلحَة دينية ليعلموا أَن حلائل الأدعياء تحل لَهُم فَطلقهَا زَوجهَا فَأَنْكحهَا الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(2/323)
وَبينا هُوَ يخْطب يَوْم الْجُمُعَة إِذْ قَامَ أَعْرَابِي فَقَالَ: " يَا رَسُول الله هلك المَال وجاع الْعِيَال فاستسقي وَمَا فِي السَّمَاء قزعة فَمَا وضع يَده حَتَّى ثار السَّمَاء كأمثال الْجبَال فَمُطِرُوا حَتَّى خَافُوا الضَّرَر، فَقَالَ: حوالينا وَلَا علينا لَا يُشِير إِلَى نَاحيَة إِلَّا انفرجت.
وتكرر ظُهُور الْبركَة فِيمَا برك عَلَيْهِ كبيدر جَابر وأقراص أم سليم وَنَحْوهَا.
وَلما غزا بني المصطلق ظَهرت الْمَلَائِكَة متمثله فخاف الْعَدو.
واتهمت عَائِشَة فِي تِلْكَ الْغَزْوَة فظهرت رَحْمَة الله بتبرئتها وَإِقَامَة الْحَد على من أشاع الْفَاحِشَة عَلَيْهَا.
وَلما انْكَشَفَ الشَّمْس تضرع إِلَى الله فَإِنَّهُ آيَة من آيَات الله يترشح عِنْدهَا خوف فِي قُلُوب المصطفين، وَرَأى فِي ذَلِك الْجنَّة وَالنَّار بَينه وَبَين جِدَار الْقبْلَة وَهُوَ من ظُهُور حكم الْمِثَال فِي مَكَان خَاص.
وَأرَاهُ الله رُؤْيَاهُ مَا يَقع بعد الْفَتْح من دُخُولهمْ مَكَّة مُحَلِّقِينَ وَمُقَصِّرِينَ لَا يخَافُونَ فرغبوا فِي الْعمرَة وَلما يَأن وَقتهَا، وَكَانَ ذَلِك تَقْرِيبًا من الله للصلح الَّذِي هُوَ سَبَب فتوح كَثِيرَة وهم لَا يَشْعُرُونَ، نَظِير ذَلِك مَا قالته عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فِي مُعَارضَة أبي بكر، وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا عِنْد موت النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِن فِي كل قَول فَائِدَة فَرد الله الْمُنَافِقين بقول عمر رَضِي الله عَنهُ وَبَين الْحق بقول أبي بكر رَضِي الله عَنهُ فآل الْأَمر إِلَى أَن اجْتمع رَأْي هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء أَن يصطلحوا وَإِن كرهه الفئتان.
وَظَهَرت هُنَالك آيَات، عطشوا وَلم يكن عِنْدهم مَاء إِلَّا فِي ركوة فَوضع عَلَيْهِ السَّلَام يَده فِيهَا فَجعل المَاء يفور من بَين أَصَابِعه، ونزحوا مَاء الْحُدَيْبِيَة فَلم يتْركُوا فِيهَا قَطْرَة فبرك عَلَيْهَا فسقوا واستقوا، وَوَقعت بيعَة الرضْوَان معرفَة لإخلاص المخلصين، ثمَّ فتح الله عَلَيْهِم خَيْبَر فأفاء مِنْهُ على النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْمُسْلِمين مَا يتقوون بِهِ على الْجِهَاد، وَكَانَ ابْتِدَاء انتظام الْخلَافَة فَصَارَ عَلَيْهِ السَّلَام خَليفَة الله فِي الأَرْض.(2/324)
وَظَهَرت آيَات دسوا السم فِي طَعَامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنبأه الله، وأصابت سَلمَة ابْن الْأَكْوَع ضَرْبَة فنفث فِيهَا نفثات فَمَا اشتكاها بعد، وَأَرَادَ أَن يقْضِي حَاجته فَلم لَا يجد شَيْئا يستر بِهِ فَدَعَا شجرتين فانقاديا كالبعير المخشوش حَتَّى إِذا فرغ ردهما إِلَى موضعهما، وَلما أَرَادَ المحاربى أَن يَسْطُو بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألْقى الله عَلَيْهِ الرعب فَربط يَده.
ثمَّ نفث الله فِي روعه مَا انْعَقَد فِي الْمَلأ الْأَعْلَى من لعن الْجَبَابِرَة وَإِزَالَة شوكتهم وَإِبْطَال رسومهم فتقرب فِي الله بالسعي إِلَى ذَلِك فَكتب إِلَى قَيْصر وكسرى وكل جَبَّار عنيد، فأساء كسْرَى الْأَدَب فَدَعَا عَلَيْهِ فمزقه الله كل ممزق.
وَبعث صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زيدا. وجعفرا. وَابْن رَوَاحَة إِلَى مُؤْتَة فانكشف عَلَيْهِ حَالهم فنعاهم عَلَيْهِ السَّلَام قبل أَن يَأْتِي الْخَبَر.
ثمَّ بعث الله تَقْرِيبًا بِفَتْح مَكَّة بعد مَا فرغ من جِهَاد أَحيَاء الْعَرَب فنقضت قُرَيْش عهودها وتعاموا وَأَرَادَ حَاطِب أَن يُخْبِرهُمْ فنبأ الله بذلك رَسُوله وَفتح مَكَّة وَلَو كره الْكَافِرُونَ وَأدْخل عَلَيْهِم الْإِسْلَام من حَيْثُ لم يحتسبوا.
وَلما التقى الْمُسلمُونَ وَالْكفَّار يَوْم حنين وَكَانَت لَهُم جَوْلَة استقام رَسُول الله وَأهل بَيته اشد استقامة وَرَمَاهُمْ بِتُرَاب فبورك فِي رميه فَمَا خلق الله مِنْهُم إنْسَانا إِلَّا مَلأ الله عينه تُرَابا فَوَلوا مُدبرين، ثمَّ ألْقى الله سكينته على الْمُسلمين فَاجْتمعُوا واجتهدوا حَتَّى كَانَ الْفَتْح، وَقَالَ لرجل يدعى الْإِسْلَام
وَقَاتل أَشد الْقِتَال: هُوَ من أهل النَّار فكاد بعض النَّاس يرتاب ثمَّ ظهر أَنه قتل نَفسه.
وسحر النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا الله أَن يكْشف عَلَيْهِ جلية الْحَال فَجَاءَهُ فِيمَا يرَاهُ رجلَانِ وأخبراه عَن السحر والساحر.(2/325)
وَأَتَاهُ ذُو الْخوَيْصِرَة فَقَالَ: " يَا رَسُول الله اعْدِلْ فانكشف عَلَيْهِ حَاله وَحَال قومه فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُقَاتلُون خير فرقة من النَّاس آيَتهم رجل أسود أحد عضديه مثل ثدي الْمَرْأَة " فَقَاتلهُمْ عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَوجد الْوَصْف كَمَا قَالَ.
ودعا لأم أبي هُرَيْرَة فَآمن فِي يَوْمهَا.
وَقَالَ: عَلَيْهِ السَّلَام " يَوْمًا لم يبسط أحد مِنْكُم ثَوْبه حَتَّى أَقْْضِي مَقَالَتي هَذِه ثمَّ يجمعه إِلَى صَدره فينسى من مقَالَته شَيْء أبدا فَبسط أَبُو هرير فَمَا نسي مِنْهَا شَيْئا ".
وَضرب عَلَيْهِ السَّلَام بِيَدِهِ على صدر جرير، وَقَالَ: " اللَّهُمَّ ثبته فَمَا سقط عَن فرسه بعد " وَكَانَ لَا يثبت على الْخَيل.
وارتد رجل عَن دينه فَلم تقبله الأَرْض.
وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يخْطب مُسْتَندا إِلَى جزع فَلَمَّا صنع لَهُ الْمِنْبَر واستوى
عَلَيْهِ صَاح حَتَّى أَخذه وضمه، وَركب فرسا بطيئة، وَقَالَ: " وجدنَا فرسكم هَذَا بحرا " فَكَانَ بعد ذَلِك لَا يجارى.
ثمَّ أحكم الله دينه وتواردت الْوُفُود وتوارت الْفتُوح وَبعث الْعمَّال على الْقَبَائِل وَنصب الْقُضَاة فِي الْبِلَاد وتمت الْخلَافَة فنفث فِي روعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن يخرج إِلَى تَبُوك ليظْهر شوكته على الرّوم فينقاد لَهُ أهل تِلْكَ النَّاحِيَة، وَكَانَت تِلْكَ غَزْوَة فِي وَقت الْحر والعسرة فَجَعلهَا الله تمييزا بَين الْمُؤمنِينَ حَقًا وَالْمُنَافِقِينَ.
وَمر عَلَيْهِ السَّلَام على حديقة لامْرَأَة فِي وَادي الْقرى فخرصها وخرصها الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فَكَانَ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام، وَلما وصل إِلَى ديار حجر نَهَاهُم عَن مياهه تنفيرا عَن مَحل اللَّعْن، ونهاهم لَيْلَة أَن يخرج أحد فَخرج رجل فألقته الرّيح بجبلي طَيئ وضل لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعِيرًا فَقَالَ بعض الْمُنَافِقين؛ لَو كَانَ نَبيا لعلم أَيْن بعيره فنبأه الله بقول الْمُنَافِق وبمكان الْبَعِير،
وتخلف نَاس من المخلصين زلَّة مِنْهُم ثمَّ ضَاقَتْ عَلَيْهِم الأَرْض بِمَا رَحبَتْ فَعَفَا الله(2/326)
عَنْهُم.
وَأُلْقِي ملك أَيْلَة فِي أسر خَالِد من حَيْثُ لم يحْتَسب.
فَلَمَّا قوي الْإِسْلَام وَدخل النَّاس فِي دين الله أَفْوَاجًا أوحى الله إِلَى نبيه أَن ينْبذ عهد كل معاهد من الْمُشْركين، وَنزلت سُورَة بَرَاءَة.
وَأَرَادَ المباهلة من نَصَارَى نَجْرَان فعجزوا واختاروا الْجِزْيَة،
ثمَّ خرج إِلَى الْحَج وَحضر مَعَه نَحْو من مائَة ألف وَأَرْبَعَة وَعِشْرُونَ ألفا فَأَرَاهُم مَنَاسِك الْحَج ورد تحريفات الشّرك.
وَلما تمّ أَمر الْإِرْشَاد واقترب أَجله بعث الله جِبْرَائِيل فِي صُورَة رجل يرَاهُ النَّاس فَسَأَلَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام عَن الْإِيمَان. وَالْإِسْلَام. والاحسان والساعة فَبين النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصدقه جِبْرَائِيل ليَكُون ذَلِك كالفذلكة لدينِهِ،
وَلما مرض لم يزل يذكر الرفيق الْأَعْلَى ويحن إِلَيْهِم حَتَّى توفاه الله ثمَّ تكفل أَمر مِلَّته فنصب قوما لَا يخَافُونَ لومة لائم فَقَاتلُوا المتنبئين وَالروم والعجم حَتَّى تمّ أَمر الله وَوَقع وعده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعَلى آله وَأَصْحَابه وَسلم.
(الْفِتَن)
اعْلَم أَن الْفِتْنَة على أَقسَام: فتْنَة الرجل فِي نَفسه بِأَن يقسوا قلبه فَلَا يجد حلاوة الطَّاعَة وَلَا لَذَّة الْمُنَاجَاة، وَإِنَّمَا الْإِنْسَان ثَلَاث شعب.
قلب هُوَ مبدأ الْأَحْوَال كالغضب. والجراءة. وَالْحيَاء. والمحبة. وَالْخَوْف، وَالْقَبْض. والبسط وَنَحْوهَا.
وعقل هُوَ مبدأ الْعُلُوم الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ الْحَواس كالأحكام البديهية من التجربة والحدس وَنَحْوهمَا والنظرية من الْبُرْهَان والخطابية وَنَحْوهمَا.
وطبع هُوَ مبدأ اقْتِضَاء النَّفس مَا لَا بُد مِنْهُ أَو لَا بُد من جنسه فِي بَقَاء الْبَيِّنَة كالداعية المنبجسة من شَهْوَة الطَّعَام. وَالشرَاب. وَالنَّوْم. وَالْجِمَاع. وَنَحْوهَا.
فالقلب مهما غلبت عَلَيْهِ خِصَال البهيمية فَكَانَ قَبضه وَبسطه نَحْو قبض الْبَهَائِم وبسطها الحاصلين من طبيعة وَوهم كَانَ قلبا بهيميا، وَمهما قبل من الشَّيَاطِين وسوستهم فِي النّوم واليقظة يُسمى الْإِنْسَان شَيْطَان الْأنس، وَمهما غلب عَلَيْهِ خِصَال الملكية يُسمى قلبا إنسانيا فَيكون خَوفه ومحبته وَمَا يشبههما مائلة إِلَى اعتقادات حقة حصلها، وَمهما قوى صفاؤها وَعظم نوره كَانَ روحا فَيكون بسطا بِلَا قبض وألفة بِلَا قلق؛ وَكَانَت أَحْوَاله أنفاسا، وَكَانَت الْخَواص الملكية كالديدن لَهُ دون الْأُمُور المكتسبة بسعي.(2/327)
وَمهما غلبت خِصَال البهيمية على الْعقل صَار جربزة وَأَحَادِيث نفس تميل إِلَى بعض الدَّوَاعِي الطبيعية فَيحدث نَفسه بِالْجِمَاعِ إِن كَانَ فِيهِ شبق، وبأنواع الطَّعَام إِن كَانَ فِيهِ جوع وَنَحْو ذَلِك، أَو وَحي الشَّيْطَان فَيكون أَحَادِيث النَّفس تميل إِلَى فك النظامات الفاضلة وَشك فِي المعتقدات الحقة وَإِلَى الهيآت
مُنكرَة تعافها النُّفُوس السليمة، وَمهما غلبت عَلَيْهِ خِصَال الملكية فِي الْجُمْلَة كَانَ عقلا من فعله التَّصْدِيق بِمَا يجب تَصْدِيقه من الْعُلُوم الارتفاقية أَو الاحسانية بديهية أَو نظرا، وَمهما قوى نوره وصفاؤه كَانَ سر من فعله قبُول عُلُوم فائضة من الْغَيْب رُؤْيا وفراسة وكشفا وهتفا وَنَحْو ذَلِك، وَمهما مَال إِلَى المجردات الْبَريَّة من الزَّمَان وَالْمَكَان كَانَ خفِيا.
وَمهما انحدر الطَّبْع إِلَى الْخِصَال البهيمية كَانَ نفسا أَمارَة بالسوء، مهما كَانَ مترددا بَين البهيمية والملكية وَكَانَ الْأَمر سجالا ونوبا كَانَ نفسا لوامة، وَمهما تقيدت بِالشَّرْعِ وَلم تَبْغِ عَلَيْهِ وَلم تنبجس إِلَّا فِيمَا موافقه كَانَت نفسا مطمئنة.
هَذَا مَا عِنْدِي من معرفَة لطائف الْإِنْسَان وَالله أعلم.
وفتنة الرجل فِي أَهله وَهِي فَسَاد تَدْبِير الْمنزل، وإليها الْإِشَارَة فِي قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِن أبليس يضع عَرْشه - إِلَى أَن قَالَ - ثمَّ يجِئ أحدهم فَيَقُول: مَا تركته حَتَّى فرقت بَينه وَبَين امْرَأَته فيدنيه مِنْهُ وَيَقُول: نعم أَنْت ".
وفتنة تموج كموج الْبَحْر وَهِي فَسَاد تَدْبِير الْمَدِينَة وطمع النَّاس فِي الْخلَافَة من غير حق، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِن الشَّيْطَان قد أيس أَن يعبده المصلون من جَزِيرَة الْعَرَب " وَلَكِن فِي التحريش بَينهم.
وفتنة ملية وَهِي أَن يَمُوت الحواريون من أَصْحَاب النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويستند الْأَمر إِلَى غير أَهله فيتعمق رهبانهم وَأَحْبَارهمْ ويتهاون مُلُوكهمْ وجهالهم وَلَا يأمرون بِمَعْرُوف وَلَا ينهون عَن مُنكر فَيصير الزَّمَان زمَان الْجَاهِلِيَّة، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" مَا من نَبِي إِلَّا كَانَ لَهُ حواريون " الحَدِيث.
وفتنة مستطيرة وَهِي تغير النَّاس من الإنسانية ومقتضاها فأزكارهم
وأزهدهم إِلَى الانسلاخ من مقتضيات الطَّبْع رَأْسا دون إصلاحها والتشبه بالمجردات والتحنن إِلَيْهِم بِوَجْه من الْوُجُوه وَنَحْو ذَلِك، وعامتهم إِلَى البهيمية الْخَالِصَة وَيكون نَاس بَين الْفَرِيقَيْنِ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ.
وفتنة الوقائع الجوية المنذرة بالإهلاك الْعَام كالطوفانات الْعَظِيمَة من الوباء والخسف وَالنَّار المنتشرة فِي الأقطار وَنَحْو ذَلِك.
وَقد بَين النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَكثر الْفِتَن قَالَ: " لتتبعن سنَن من كَانَ قبلكُمْ شبْرًا بشبر وذراعا بِذِرَاع حَتَّى لَو دخلُوا جُحر ضَب تبعتموهم " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يذهب الصالحون الأول(2/328)
فَالْأول وَيبقى حفالة كحفالة الشّعير لَا يباليهم الله بالة ".
أَقُول: علم النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه إِذا بعد الْعَهْد من النَّبِي وانقرض الحواريون من أَصْحَابه ووسد الْأَمر إِلَى غير أَهله لَا بُد أَن تجرى الرسوم حسب الدَّوَاعِي النفسانية والشيطانية وتعمهم جَمِيعًا إِلَّا مَا شَاءَ الله مِنْهُم.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِن هَذَا الْأَمر بَدَأَ نبوة وَرَحْمَة ثمَّ يكون خلَافَة وَرَحْمَة، ثمَّ ملكا عَضُوضًا ثمَّ كَائِن جبرية وعتوا وَفَسَادًا فِي الأَرْض يسْتَحلُّونَ الْحَرِير والفروج وَالْخُمُور يرْزقُونَ على ذَلِك وينصرون حَتَّى يلْقوا الله ".
أَقُول: فالنبوة انْقَضتْ بوفاة النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والخلافة الَّتِي لَا سيف فِيهَا بمقتل عُثْمَان، والخلافة بِشَهَادَة عَليّ كرم الله وَجهه وخلع الْحسن رَضِي الله عَنهُ، وَالْملك العضوض ومشاجرات الصَّحَابَة بني أُميَّة ومظالمهم إِلَى أَن اسْتَقر أَمر مُعَاوِيَة، والجبرية، والعتو خلَافَة بني الْعَبَّاس فَإِنَّهُم مهدوها على رسوم كسْرَى وَقَيْصَر.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" تعرض الْفِتَن على الْقُلُوب والحصير عودا عودا فَأَي قلب أشربها نكتت فِيهِ نُكْتَة سَوْدَاء وَأي قلب أنكرها نكتت
فِيهِ نُكْتَة بَيْضَاء حَتَّى تصير على قلبين أَبيض مثل الصَّفَا فَلَا تضره فتْنَة مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْآخِرَة أسود مربادا كالكوز مجخيا لَا يعرف مَعْرُوفا وَلَا يُنكر مُنْكرا إِلَّا مَا أشْرب من هَوَاهُ "
أَقُول الهواجس والنفسانية الشيطانية تنبعث فِي الْقُلُوب والأعمال الْفَاسِدَة تكتنفها وَلَا تكون حِينَئِذٍ دَعْوَة حثيثة إِلَى الْحق فَلَا ينكرها إِلَّا من جهل فِي قلبه هَيْئَة مضادة للفتن، وتعم من سوى ذَلِك وَتَأْخُذ بتلابيبه
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِن الْأَمَانَة نزلت فِي جذر قلاب النَّاس ثمَّ علمُوا من الْقُرْآن ثمَّ علمُوا من السّنة وَحدث عَلَيْهِ السلامعن رَفعهَا فَقَالَ: " ينَام الرجل النومة فتقبض الْأَمَانَة من قلبه فيظل أَثَرهَا مثل أثر الوكت ثمَّ ينَام النومة فتقبض الْأَمَانَة فَيبقى أَثَرهَا مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرا "(2/329)
اقول لما أَرَادَ الله ظُهُور مِلَّة الْإِسْلَام اخْتَار قوما ومرنهم لانقياد والاذعان وَجمع الهمة على مُوَافقَة حكم الله ثمَّ كَانَت الْأَحْكَام المفصلة فِي الْكتاب وَالسّنة تَفْصِيلًا لذَلِك الاذعان الاجمالي. ثمَّ إِنَّهَا تخرج من صُدُورهمْ على غَفلَة مِنْهَا وَذُهُول شَيْئا فَشَيْئًا فَيرى الْإِنْسَان أظرف مَا يكون وأعقله وَلَيْسَ فِي قلبه مِقْدَار شَيْء من الامانة لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى دين الله وَلَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى معاملات النَّاس،
وَقَالَ حُذَيْفَة رَضِي الله عَنهُ: " قلت يَا رَسُول الله أَيكُون بعد هَذَا الْخَيْر
شَرّ كَمَا كَانَ قبله شَرّ؟ قَالَ: نعم قلت: فَمَا الْعِصْمَة؟ قَالَ: السَّيْف، قلت وَهل بعد السَّيْف بَقِيَّة؟ قَالَ: نعم يكون إِمَارَة على أقذاء وهدنة على دخن: قلت: مَاذَا؟ قَالَ: ثمَّ ينشأ دعاة الضلال فان كَانَ لله فِي الأَرْض خَليفَة جلد ظهرك وَأخذ مَالك فأطمعه وَإِلَّا فمت وَأَنت عاض على جذل شَجَرَة "
أَقُول: الْفِتْنَة الَّتِي يكون الْعِصْمَة فِيهَا السَّيْف ارتداد الْعَرَب فِي أَيَّام أبي بكر رَضِي الله عَنهُ، وَأما أَمارَة على أقذاء فالمشاجرات الَّتِي وَقعت فِي ايام عُثْمَان وَعلي رَضِي الله عَنْهُمَا، ودعاة الضلال يزِيد بِالشَّام ومختار بالعراق، وَنَحْو ذَلِك حَتَّى اسْتَقر الْأَمر على عبد الْملك.
وَذكر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتْنَة الاحلاس قيل: وَمَا فتْنَة الاحلاس؟ قَالَ: هِيَ هرب وَحرب " قَالَ: " ثمَّ فتْنَة السَّرَّاء دخنها من تَحت قدمي رجل من أهل بَيْتِي يزْعم أَنه مني وَلَيْسَ مني إِنَّمَا أوليائي المتقون، ثمَّ يصطلح النَّاس على رجل كورك على ضلع " ثمَّ فتْنَة الدهيماء لَا تدع أحدا من هَذِه الْأمة إِلَّا لطمته لطمة، فاذا قيل: انْقَضتْ تمادت.
أَقُول: يشبه وَالله أعلم أَن تكون فتْنَة الأحلاس قتال أهل الشَّام عبد الله ابْن الزبير بعد(2/330)
هربه من الْمَدِينَة، وفتنة السَّرَّاء إِمَّا تغلب الْمُخْتَار وإفراطه فِي الْقَتْل والنهب يَدْعُو ثأر أهل الْبَيْت، فَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام: " يزْعم أَنه مني " مَعْنَاهُ من حزب أهل الْبَيْت وناصريهم، ثمَّ اصْطَلحُوا على مَرْوَان وَأَوْلَاده، أَو خُرُوج أبي مُسلم الْخُرَاسَانِي لبني الْعَبَّاس يزْعم أَنه يسْعَى فِي خلَافَة أهل الْبَيْت، ثمَّ اصْطَلحُوا على السفاح، والفتنة الدهيماء تغلب الجنكيزية على الْمُسلمين ونهبهم بِلَاد الْإِسْلَام.
وَبَين النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَاط السَّاعَة وَهِي ترجع إِلَى أَنْوَاع: الْفِتَن الَّتِي مر ذكرهَا وشيوعها وَكَثْرَتهَا فَإِن التّلف من القرف، وَإِنَّمَا يَجِيء النُّقْصَان من حَيْثُ يَجِيء الْهَلَاك، وَشرح هَذَا يطول.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِن من أَشْرَاط السَّاعَة أَن يرفع الْعلم، وَيكثر الْجَهْل، وَيكثر الزِّنَا، وَيكثر شرب الْخمر. ويقل الرِّجَال. وَيكثر النِّسَاء حَتَّى يكون لخمسين امْرَأَة الْقيم الْوَاحِد ". والحشر فِي لِسَان الشَّرِيعَة مقول على مَعْنيين: حشر النَّاس إِلَى الشَّام، وَهُوَ وَاقعَة قبل الْقِيَامَة حِين يقل النَّاس على وَجه الأَرْض يحْشر بَعضهم بتقريبات وَبَعْضهمْ بِنَار تسوقهم. وَحشر هُوَ الْبَعْث بعد الْمَوْت، وَقد ذكرنَا من قبل أسرار الْمعَاد، وَالله أعلم.
الْفِتَن الْعَظِيمَة الَّتِي أخبر بهَا النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَربع: الأولى: فتْنَة أَمارَة على أقذاء، وَذَلِكَ صَادِق بمشاجرات الصَّحَابَة بعد مقتل عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ إِلَى أَن اسْتَقَرَّتْ خلَافَة مُعَاوِيَة، وَهِي الَّتِي أُشير إِلَيْهَا بقوله: " هدنة عل دخن " وَهُوَ الَّذِي يعرف أمره وينكر لِأَنَّهُ كَانَ على سيرة الْمُلُوك لَا على سيرة الْخُلَفَاء قبله.
الثَّانِيَة فتْنَة الأحلاس. وفتنة الدعاة إِلَى أَبْوَاب جَهَنَّم، وَذَلِكَ صَادِق باخْتلَاف النَّاس وخروجهم طَالِبين الْخلَافَة بعد موت مُعَاوِيَة إِلَى أَن اسْتَقَرَّتْ خلَافَة عبد الْملك.
الثَّالِثَة فتْنَة السَّرَّاء. والجبرية. والعتو، وَذَلِكَ صَادِق بِخُرُوج بني الْعَبَّاس على بني أُميَّة إِلَى أَن اسْتَقَرَّتْ خلَافَة العباسية ومهدوها على رسوم الأكاسرة وَأخذُوا بجبرية وعتو.
الرَّابِعَة فتْنَة تلطم جَمِيع النَّاس إِذا قيل: انْقَضتْ تمادت حَتَّى رَجَعَ النَّاس إِلَى فسطاطتين وَذَلِكَ صَادِق بِخُرُوج الأتراك الجنكيزية وإبطالهم خلَافَة بني الْعَبَّاس ومزقهم على وَجههَا الْفِتَن.(2/331)
وَالْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي الْفِتَن أَكْثَرهَا مرت من قبل، وَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" تَدور رحى الْإِسْلَام بِخمْس وَثَلَاثِينَ أَو سِتّ وَثَلَاثِينَ فَإِن يهْلكُوا فسبيل من هلك وَإِن يقم لَهُم دينهم يقم لَهُم سبعين عَاما قلت: أمما بَقِي أَو مِمَّا مضى؟ قَالَ: مِمَّا مضى ".
فَمَعْنَى قَوْله: " تَدور رحى الْإِسْلَام " أَي يقوم أَمر الْإِسْلَام بِإِقَامَة الْحُدُود وَالْجهَاد فِي هَذِه الْأمة وَذَلِكَ صَادِق من ابْتِدَاء وَقت الْجِهَاد وأوائل الْهِجْرَة إِلَى مقتل سيدنَا عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ، وَالشَّكّ فِي خَمْسَة وَثَلَاثِينَ وَأَخَوَاتهَا لِأَن الله تَعَالَى أوحى إِلَيْهِ مُجملا.
وَقَوله: " فَإِن يهْلكُوا بَيَان لصعوبة الْأَمر وَأَن الْأَمر يصير إِلَى حَالَة لَو نظر فِيهَا النَّاظر يشك فِي هَلَاك الْأمة وَبطلَان أُمُورهم.
قَوْله. سبعين عَاما ابْتِدَاؤُهَا من الْبعْثَة وتمامها موت مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ وَبعده قَامَت فتْنَة دعاة الضلال.
وَقَوله سبعين عَاما مَعْنَاهُ تهويل الْأَمر وَأَنه يكون تَحت بطن الْبَاطِن فِيهِ، وَأَنه لَا يكون بعد هَذِه استقامة الْأَمر، وَالله أعلم.
وَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُقَاتِلكُمْ قوم صغَار الْأَعْين - يَعْنِي التّرْك - تسوقونهم ثَلَاث مَرَّات " الحَدِيث مَعْنَاهُ أَن الْعَرَب يجاهدونهم ويغلبونهم فَيصير ذَلِك سَببا لأحقاد وضغائن حَتَّى يؤول الْأَمر إِلَى أَن يذبوا الْعَرَب من بِلَادهمْ ثمَّ لَا يقتصرون على ذَلِك بل يدْخلُونَ بِلَاد الْعَرَب، وَهَذَا هُوَ المُرَاد من قَوْله: " حَتَّى تلحقوهم بِجَزِيرَة الْعَرَب " أما فِي السِّيَاقَة الأولى فينجو من الْعَرَب من هرب من قِتَالهمْ بِأَن يفر من بَين أَيْديهم، وَذَلِكَ صَادِق بِقِتَال الجنكيزية فَهَلَك العباسية الَّذين كَانُوا بِبَغْدَاد وَنَجَا العباسية الَّذين فروا إِلَى مصر، وَأما فِي السِّيَاقَة الثَّانِيَة فينجو بعض وَيهْلك بعض، وَذَلِكَ صَادِق بِوَطْء تيمور ديار الشَّام وإهلاك أَمر العباسية " وَأما فِي الثَّالِثَة فيصطلمون " وَذَلِكَ صَادِق بِغَلَبَة العثمانية على جَمِيع الْعَمَل، وَالله أعلم.
(المناقب)
الأَصْل فِي مَنَاقِب الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أُمُور:(2/332)
مِنْهَا أَن يطلع النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هَيْئَة نفسانية تعد الْإِنْسَان لدُخُول الْجنان كَمَا اطلع على أبي بكر رَضِي الله عَنهُ أَنه لَيْسَ فِيهِ خُيَلَاء وَأَنه مِمَّن أكمل الْخِصَال الَّتِي تكون أَبْوَاب الْجنَّة تمثالا لَهَا فَقَالَ: " أَرْجُو أَن تكون مِنْهُم " يَعْنِي الَّذين يدعونَ من الْأَبْوَاب جَمِيعًا.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمر رَضِي الله عَنهُ: " مَا لقيك الشَّيْطَان سالكا فجا قطّ إِلَّا سلك فجا غير فجك ".
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِن يَك من أمتِي أحد من الْمُحدثين فَإِنَّهُ عمر ".
وَمِنْهَا: أَن يرى فِي الْمَنَام أَو ينفث فِي روعة مَا يدل على رسوخ قدمه فِي الدّين كَمَا رأى بِلَالًا رَضِي الله عَنهُ يتقدمه فِي الْجنَّة، وَرَأى قصرا لعمر رَضِي الله عَنهُ فِي الْجنَّة وَرَآهُ قمص بقميص سابغ، وَأَنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطَاهُ سؤره من اللَّبن فَعبر بِالدّينِ وَالْعلم.
وَمِنْهَا حب النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُم وتوقيرهم ومواساته مَعَهم وسوابقهم فِي الْإِسْلَام، فَذَلِك كُله ظَاهره أَنه لم يكن إِلَّا لامتلاء الْقلب من الْإِيمَان.
وَاعْلَم أَن فضل بعض الْقُرُون على بعض لَا يُمكن أَن يكون من جِهَة كل فَضِيلَة، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" مثل أمتِي مثل الْمَطَر لَا يدْرِي أَوله خير أم آخِره " وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" أَنْتُم أَصْحَابِي، وإخواني الَّذين يأْتونَ بعد "
وَذَلِكَ أَن الاعتبارات متعارضة وَالْوُجُوه متجاذبة، وَلَا يُمكن أم يكون تَفْضِيل كل أحد من الْقرن الْفَاضِل على كل أحد من الْقرن الْمَفْضُول كَيفَ وَمن الْقُرُون الفاضلة اتِّفَاقًا من هُوَ مُنَافِق أَو فَاسق وَمِنْهَا الْحجَّاج. وَيزِيد بن مُعَاوِيَة. ومختار. وغلمة من قُرَيْش الَّذين يهْلكُونَ النَّاس وَغَيرهم مِمَّن بَين النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سوء حَالهم، وَلَكِن الْحق أَن جُمْهُور الْقرن الأول أفضل من جُمْهُور الْقرن الثَّانِي وَنَحْو ذَلِك.
وَالْملَّة إِنَّمَا تثبت بِالنَّقْلِ والتوارث وَلَا توارث إِلَّا بِأَن يعظم الَّذين شاهدوا مواقع الْوَحْي وَعرفُوا تَأْوِيله وشاهدوا سيرة النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلم يخلطوا مَعهَا تعمقا وَلَا تهاونا وَلَا مِلَّة أُخْرَى.
وَقد أجمع من يعْتد بِهِ من الْأمة على أَن أفضل الْأمة أَبُو بكر الصّديق، ثمَّ عمر رَضِي الله عَنْهُمَا، وَذَلِكَ لِأَن أَمر النُّبُوَّة لَهُ جَنَاحَانِ: تلقى الْعلم عَن الله تَعَالَى. وبثه فِي النَّاس، أما التلقي عَن الله فَلَا يُشْرك النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِك أحد، وَأما بثه فَإِنَّمَا تحقق بسياسة وتأليف وَنَحْو ذَلِك، وَلَا شكّ أَن الشَّيْخَيْنِ رَضِي الله عَنْهُمَا أَكثر الْأمة فِي هَذِه الْأُمُور فِي زمَان النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبعده، وَالله أعلم.
وَليكن هَذَا آخر مَا أردنَا إِيرَاده فِي كتاب حجَّة الله الْبَالِغَة، وَالْحَمْد لله تَعَالَى أَولا وآخرا، وظاهرا وَبَاطنا، وَصلى الله على خير خلقه مُحَمَّد وَآله وَأَصْحَابه أَجْمَعِينَ.(2/333)