شرح عمدة الأحكام [52]
جاءت الشريعة بجلب المصالح ودفع المفاسد، ومن قواعدها أن الضرر يزال، ومن الأمثلة على هذه القاعدة الشفعة، فإذا اشترك اثنان في شيء ثم باع أحدهما نصيبه من غير أن يعلم الآخر فإن له أن يشفع، فيشتري نصيب شريكه دفعاً للضرر عنه بالشريك الجديد، وللشفعة أحكام كثيرة بينها أهل العلم رحمهم الله.(52/1)
أحكام الشفعة
قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الصرف، فلا شفعة) أخرجه البخاري في صحيحه] .(52/2)
تعريف الشفعة
هذا الحديث يتعلق بالشفعة في الشركات، واشتقاقها من الشفع، وهو من العدد الزوج؛ لأن سهم الشريك يعتبر واحداً، فإذا ضم إليه سهم شريكه الذي باعه أصبح اثنين، أي: أصبح شفعاً بعد أن كان وتراً، وبذلك سميت شفعةً، حيث إنه يشفع سهمه بسهم شريكه.
وصورتها: أن يكون بين اثنين بيتٌ أو أرضٌ أو دكانٌ أو نحو ذلك، كلاهما يملك نصفه، فيبيع أحدهما نصفه على طرفٍ ثالث، فإذا علم الشريك فإنه أحق بذلك السهم الذي باعه شريكه، حتى يكون الشقص الذي بيع ملكاً له، وحتى يكون ذلك العقار كله ملكاً له خالصاً، ويزول عنه ضرر الشركة؛ وذلك لأن العادة أن الإنسان يتضرر بالشراكة، ويحب أن يكون الملك له خالصاً لا يزاحمه فيه أحد، بل يتصرف فيه كما يشاء دون أن يكون هناك من يضايقه في ملكه أو في تصرفه.(52/3)
شرعت الشفعة لإزالة ضرر الشراكة
عادةً أن الأرض المزروعة مثلاً أو الدكان المشترك إذا كان بين اثنين أو ثلاثة أو نحوهم، فإن التصرف لا يكون متوافقاً غالباً، بل يكون هذا له نظر، وهذا له نظرٌ، فتختلف آراؤهم، وتختلف وجهاتهم، وكل منهم يزعم أن نظره هو السديد، وأن رأيه هو الصواب، فيختلفون عند ذلك، ويتمنى كل واحد منهم أن يكون بعيداً عن هذه المشاركة، وأن يكون مستقلاً بملك يتصرف فيه التصرف التام بحيث لا يعقبه أحدٌ.
وقد ذكر الله عادة الشركاء فقال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص:24] يعني: عادةً أن الخلطاء بعضهم يعترض على البعض وينتقده لشيء من تصرفه، وهذا الانتقاد يسيء إليه؛ لأنه يحب أن تكون إشارته ونظره وتصرفه ليس فيها ما ينتقد، فلأجل ذلك شرعت الشفعة؛ لإزالة ضرر المشاركة وضرر المخالطة عن الشريك، هذا هو السبب في شرعيتها.
ومعلومٌ أن الشراكة قد يكون فيها خير، وأن الشركاء قد يعملون ما لا يعمله الأفراد، وقد يعجز الإنسان بمفرده فيحتاج إلى من يشاركه في أمر من الأمور، فإذا أراد مثلاً زرعاً ولم يستطع أن يشتري الأدوات ولا يشتري الأرض الزراعية، فيحتاج أن يشاركه فلانٌ وفلان حتى يجتمع من رأس مالهما ما يكونان قادرين معه على شراء المعدات والأدوات الزراعية التي ينتجون منها، بخلاف ما لو كان واحداً.
ثم بعد ذلك قد ينتقد بعضهم بعضاً في التصرف، فيؤدي ذلك إلى أنهم إما أن يقتسموا، وإما أن يبيع بعضهم سهمه على شركائه، وإما أن يبيع على غيرهم، فإذا باع سهمه على غيرهم فإنهم أحق به بثمنه، وهو ما يسمى بالشفعة.(52/4)
ما لا تدخله الشفعة
الشفعة لا تكون في المنقولات، وذلك لعدم الضرر فيها؛ لأن العادة أن المنقول يمكن بيعه على طرفٍ ثالث، وقسمة ثمنه.
وكذلك لا تكون فيما ينقسم بالأجزاء، وذلك لسهولة قسمه، وانفراد كلٍ منهم بنصيبه، فإذا كان بينهما أكياس برٍ أو أكياس أرز أو سكر أو نحو ذلك، فباع أحدهما نصفها، فليس للآخر أن يشفع؛ وذلك لأنها من المنقول، والمنقول يسهل قسمته؛ لأنه قبل بيع شريكه يقدر أن يقتسما وأن يقول: هذه الأكياس العشرة نقتسمها لي خمسة، ولك خمسة، أو هذا الكيس الذي فيه أربعون صاعاً نقتسمه لي عشرون، ولك عشرون، فلا شفعة في المكيل والموزون ونحو ذلك.
وإذا كان بينهم ثياب يمكن أن يقتسموها أو يبيعوها ويقتسموا ثمنها، فإذا كان بينهم شيء ينقل كسلاح، أو سيارة، أو دواب كإبل أو غنم أو نحو ذلك، فهذه لا حاجة إلى الشفعة فيها، وما ذاك إلا أنها يمكن تجزئتها ويمكن بيعها، فإن احتاجوا إلى توزيعها أمكنهم تقييمها، فيقولون: قيمة هذا البعير مائة لك أو لي، أو نبيعه ونقتسم ثمنه، قد لا يقدرون على قسمه وهو حي، فالبعير مثلاً لا يقسم إلا لحماً، وكذلك الشاة ونحوها، ولكن قد يبيعونه ويقتسمون ثمنه، فمثل هذا لا شفعة فيه، أي أن المنقولات التي يمكن نقلها لا شفعة فيها، لسهولة توزيعها، وكذلك المعدودات لا شفعة فيها، وهي التي تعد عدداً كدواب وغنم مشتركةٌ بينهما ونحوها، فيمكن توزيعها وقسمتها دون أن يحتاج إلى أن يشفع الذي لم يبع.
وبكل حال فالشفعة إنما شرعت في العقارات ونحوها؛ لإزالة الضرر؛ لأنه لا يمكن إزالة الضرر عن المشرك إلا بالشفعة.(52/5)
لزوم الشفعة
وقد ذكروا أنه إذا طلب الشريك القسمة فيما يمكن قسمه أجبر على قسمه، فإذا كانت الأرض التي بينهما يمكن أن تقسم، ولا يحصل في قسمتها ضررٌ على واحد منهما؛ أجبر الآخر على القسم، كأن تكون مزرعة كبيرة مساحتها ألف متر أو ثلاثة آلاف أو خمسة آلاف أو نحوها، فهذه تنقسم، ولا ضرر على من أخذ نصفها، ففي إمكانه أن يزرع، وفي إمكانه أن يغرس، وفي إمكانه أن يحرث، وفي إمكانه أن يبيع أو يبني، فيلزم بقسمتها.
أما إذا كانت صغيرة، كما إذا كان بينهما دكان صغير طوله مثلاً ثلاثة أمتار، وعرضه متر أو متر ونصف، وطلب أحدهما أن يقسم هذا الدكان، فلا شك أنه إذا قسم قل نفعه، فإذا قسمناه وجعلنا لكل واحد ٍمنهما سبعون سم -مثلاً- فماذا ينتفع به، فلا يقسم إلا بتراضيهما، إذا رضي كل منهما.
أما إذا لم يرض فيقال له: إما أن تبيع، وإما أن تقسم، إما أن تبيع سهمك أو تشتري سهم شريكك، أو ترضى بالقسمة ولو كان عليك فيها ضرر؛ وذلك لإزالة ضرر الشراكة، الشريك مثلاً قد يقول: أنا ما انتفعت بهذا الدكان، أريد أن أبيعه، فإما أن تشتريه مني وإما أن تتركني أبيعه على غيرك، وإما أن تأخذ سهمي وتعطيني ثمنه مثلاً، وإما أن تقسمه؛ فهذا بلا شك يلزمه، أما الشيء الذي لا ضرر عليه فيه، فإنه لا بأس بقسمته، وتلزم قسمته عند الطلب.(52/6)
ما تدخله الشفعة
الشفعة تثبت في العقار، والعقار يعم المزارع والدكاكين والمساكن والبساتين؛ كل هذه فيها الشفعة، فإذا كان البستان بين اثنين أو بين ثلاثة فباع أحدهم نصيبه فإن لصاحبه ولشريكه انتزاع ذلك الشقص من المشتري بثمنه؛ وذلك لأنه أحق به.
مثلاً: إذا كانت المزرعة بين اثنين، فباع أحدهما نصفه بخمسين ألفاً، فإن الشريك يقول: أنا أحق بها، وأنت أيها المشتري طرف ثالث، فخذ الخمسين التي دفعتها، والملك يبقى لي كله، حتى أسلم من ضرر المشاركة، قد لا تناسب أنت معي؛ قد لا يمازج طبعك طبعي.
كذلك لو كان الملك بين ثلاثة لكل منهما ثلثه، فباع أحدهم ثلثه، فالآخران لهما الخيار إما أن ينتزعا هذا الثلث الذي بيع لكل منهما نصف الثلث؛ ليكون الملك بينهما، وإما أن يأخذه أحدهما ليكون له الثلثان وللآخر الثلث، وإما أن يتركاه للمشتري ويبقيا على نصيبهما، ويدخل المشتري معهما وينزل منزلة البائع.(52/7)
الشفعة في المشاع
تكون الشفعة إذا كان الملك مشاعاً، والملك المشاع: هو أن تكون هذه البقعة مملوكة للشركاء، كل واحد يملك جزءاً منها، يقول: هذا المنزل لي نصفه، وهذا الدكان لي نصفه، وهذه البقعة لي نصفها؛ كل جزء منها لك نصفه، هذا معنى كونه مشاعاً، يعني: أن ملكه شائع فيها.
يقول: إنه صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة، يعني: بعد القسم، لو أن الشريكين اتفقا على القسم، فقسما الأرض بينهما نصفين، وحدد كل واحد نصفه بحدود، وهي الرسوم والنصب التي ينصبونها لتميز نصيب هذا من هذا، أو اتفقا على بناء جدار فاصل بينهما، ثم كل منهما عرف طريقه: هذا طريقه من هنا، وهذا طريقه من هنا، ملك هذا من هنا، وملك هذا من هنا، وفصل بينهما بفاصل، وبعد ذلك باع أحدهما، لم يقدر الآخر على الشفعة؛ لأنه لم يعد شريكاً، بل كل منهما ملكه مستقل، ولو كان شريكاً في الفاصل أو الحاجز أو الجدار فلا يعد هذا شراكة.
هذا معنى كونه حددت الطرق، أي: بينت وأظهرت وصرفت الطرق ووقعت الحدود، وعلم كل واحد نصيبه.
وكذلك لو كان بينهما داراً واسعة اتفقا على قسمتها، فاقتسماها نصفين، وجعل هذا نصفه شرقاً، وهذا نصفه غرباً، وحجزا بينهما بحائط، وجعل هذا له فتحةٌ على الطريق وهذا له فتحة، وهذا له باب من هنا، وهذا له باب من هنا، ثم باع أحدهما جزأه، لم يقدر شريكه سابقاً على أن يشفع؛ وذلك لكونه لا ضرر عليه بعد هذه القسمة.(52/8)
متى يشفع الجار؟
كل شيء قسم وتصرف كل منهما في نصيبه، لا شفعة فيه بعد ذلك، إلا إذا بقي بينهما شيء مشترك ينتفعان به جميعاً غير الطريق، فإن له أن يشفع، فإذا كان بينهما هذه الغرفة، أو اقتسما الدور الأرضي، وبقي العلوي مشتركاً بينهما، أو بقيت في الدار غرفةٌ مشتركة كالمجلس الكبير مثلاً لم يزل مشتركاً، فإن له الشفعة، وكذلك لو كانا مشتركين في مرفق من المرافق، كأن اشتركا مثلاً في بيارةٍ بينهما أو في بئر يسقيان منها جميعاً، هذا يسقي منها، وهذا يسقي منها، وباع أحدهما نصيبه منها، فإن للآخر الشفعة.
وبكل حالٍ شرعت الشفعة؛ لأجل إزالة الضرر، وذلك بأن يبيع شريكك نصيبه من هذا العقار، فتقول: أنا متضرر بشراكتك، فكيف تأتيني بشريكٍ آخر لا أعرفه، فأنا أحق بها، فتعطي المشتري قدر المال الذي اشترى به ويكون العقار كله ملكاً لك، وتكون سالماً من ضرر المشاركة.(52/9)
شرح عمدة الأحكام [53]
الوقف من محاسن الإسلام، وأجره مستمر ما بقي، فحري بأهل الأموال أن يوقفوا في حياتهم ما يكون صدقة جارية لهم، وللوقف أحكام بينها الفقهاء رحمهم الله تعالى.(53/1)
أحكام الوقف
قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: (أصاب عمر أرضاً بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله! إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟ فقال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، قال: فتصدق على أنه لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث، قال: فتصدق بها عمر للفقراء، وفي القربى، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقاً غير متمولٍ فيه -وفي لفظٍ: غير متأثل) ] .(53/2)
تعريف الوقف
هذا الحديث يتعلق بالوقف، والوقف هو: تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة، ويكون في كل عينٍ ينتفع بها مع بقاء عينها، وهو من أفضل القربات.
في هذا الحديث أن عمر رضي الله عنه ملك هذه الأرض وأعجبته؛ لكونها ذات غلة وذات منفعة، وأحب أن يقدمها لآخرته، فأشار عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يتصدق بها، ولكن صدقة لا تباع ولا تبدل ولا تنقل، بل ينتفع بها مع بقاء عينها، ولا تجري فيها سهام المواريث، ولا يتصرف فيها المالك تصرفه في ملكه المطلق، بل ينتفع بها مع بقاء أصلها ويتصدق بغلتها.
وهذا هو شأن الوقف: أن يجعل غلته في كل شيء ينفع في الآخرة، فتصدق بها على الفقراء والمستضعفين؛ لأنهم مستحقون وفيهم الأجر، لسد حاجتهم، وكذلك المساكين، وهم أخف حاجة من الفقراء، الفقراء: هم الذين يكون دخلهم أقل من نصف حاجتهم، والمساكين يكون دخلهم أكثر من النصف ودون الكل، والجميع يحتاجون إلى تمام الكفاية.
كذلك ابن السبيل، وهو المسافر المنقطع الذي لا يجد ما يوصله إلى بلده، ولو كان له في بلده مال، لكن سافر وطال سفره، فنفذ ما معه أو سرقت نفقته، أو طال سفره ولم يكن يظن أنه يطول، أو ظن أنه يجد ما يرجع به إلى أهله فلم يجد، فأصبح منقطعاً، ويقال له: ابن السبيل؛ لأن السبيل هي الطريق، فكأنه لملازمته لها ابن لها.
وكذلك الضيف الذي ينزل على أهل القرية له حق الإكرام، بأن يقروه جائزته يومه وليلته.
وهكذا أيضاً الوجوه العامة الخيرية يصرف فيها الوقف، فهذا مصرف وقف عمر جعله في هؤلاء.
وأعطى الأقارب من الفقراء والمساكين؛ لأن لهم زيادة حق، والصدقة عليهم صدقة وصلة، ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (صدقتك على المسكين صدقة، وعلى ذي القربى اثنتان صدقةٌ وصلة) ؛ فلذلك جعل عمر فيها حقاً لذوي القربى.
هذا هو الوقف، يكون في غلة الشيء الذي يمكن استغلاله مع بقاء عينه، فإذا كان الوقف أرضاً تغل، أي: تزرع مثلاً، ويحصل من زرعها ما يزيد على نفقتها، فهذا الزائد هو الذي يصرف للفقراء والأقارب والمعوزين.
وإذا كان فيها شجر؛ كنخل وعنبٍ ورمان وتينٍ، وما أشبهه مما له ثمرٌ ينتفع به فيؤكل أو يباع أو نحو ذلك؛ فثمرته تصرف -إما بعد بيعها وإما قبله- للمعوزين وللمحتاجين، ويكون لصاحبها الذي أوقفها أجرٌ بقدر ما انتفع بها.
وإذا كان الوقف -مثلاً- داراً جعلها مسكناً للمستضعفين أو غيرهم، صدقة على أنها وقف، فقد ثبت أن الزبير رضي الله عنه أوقف داراً وجعلها للمردودة من بناته، أي: المطلقة من بناته تسكن في هذه الدار، ولا تورث ولا تباع.
إذا جعل الإنسان داراً موقوفةً للمحتاج من أولاده أو أولاد أولاده، فهذا أيضاً من الوقف الذي ينتفع به مع بقاء عينه.(53/3)
فضل الوقف
للموقف أجر، والوقف هو المراد بالصدقة الجارية، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) ، فبدأ بالصدقة الجارية.
فالدار التي تؤجر ويتصدق بأجرتها صدقة جارية، والأرض التي فيها شجرٌ أو لها أجرة أو فيها ثمرةٌ أو نحو ذلك، يتصدق بثمرها وغلتها؛ فهذه صدقة جارية، وكذلك الأعيان التي ينتفع بها تعتبر أيضاً صدقةً جارية، ولو لم يكن فيها غلة، ولكن ينتفع بها، فالمساجد التي يتعبد فيها، إذا بنى الإنسان مسجداً فإنه يعتبر صدقةً جارية، وكذلك جميع المنافع التي يرتفق بها تعتبر صدقة جارية، مثل فُرُش المساجد حيث يرتفق بها المصلون، فتعتبر من الأوقاف الجارية النافعة، ومكيفاتها مثلاً ومراوحها وأدوارها ونحو ذلك من الصدقات الجارية.(53/4)
وقف المنقولات
يجوز وقف الكتب التي ينتفع بها، ووقفها من الصدقات الجارية؛ وذلك لأنها باقية ينتفع بها من يقرأ فيها أو يسمع منها أو نحو ذلك مع بقاء عينها، فلذلك اعتبرت من الأعمال الخيرية التي يجري أجرها لمن سبلها، ويقال كذلك في كل الأشياء التي يمكن أن ينتفع بها.
كانوا في قديم الزمان يوقفون الأجهزة التي ينتفع بها في المنافع العامة أو الخاصة، فيوقف مثلاً الإنسان الأسلحة التي يقاتل بها في سبيل الله، ويرجو بذلك الأجر من الله، ومنهم خالد بن الوليد رضي الله عنه، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل إنه منع الزكاة: (أما خالد فإنكم تظلمون خالداً، لقد حبّس عتاده -وفي رواية: وأعبده- وسلاحه في سبيل الله) ، كان عنده أسلحة فقالوا له: أعطنا زكاة هذه الدروع وزكاة هذه الرماح وزكاة هذه السيوف وزكاة هذه الخناجر ونحوها، فامتنع وقال: هذه في سبيل الله، إذا غزونا أعطيت كل سيفٍ أو كل رمحٍ أو كل قوسٍ من يقاتل به، فتصبح كأنها غير مملوكة له، ولو كانت في بيته، فلذلك كان يريد أجرها، فهذه مما ينتفع بها مع بقاء عينها.
كذلك أيضاً كانوا يوقفون العتاد لمن يحج إذا كان عاجزاً عن الحج، فيركبونه على الفرس أو على الراحلة من الإبل أو نحوها، ويقولون: هذه الراحلة أو هذا البعير مسبلٌ للمجاهدين أو للحجاج، وكذلك: هذه الرحال التي كانوا يجعلونها على ظهور الإبل والركائب يسبلونها أيضاً لمن ينتفع بها، وكذلك أيضاً الأشياء التي يحتاج إليها في البلد كانوا يوقفونها، ولا يزال موجوداً في هذا البلد أشياء موقوفة، وإن كان قد قل الانتفاع بها، فيوجد عند القدماء من أهل البلد قدورٌ مسبلةٌ لمن يطبخ فيها مثلاً، أو أرحية لم يطحن عليها، أو أسلحةٌ لمن يحتاج إليها، أو ما أشبه ذلك، فهذه من الأوقاف.
وتجددت أشياء وقامت مقامها، وأصبح يمكن إيقافها، ويمكن تسبيلها، فمثلاً بدل ما كانوا يوقفون القربة أصبحوا يوقفون البرادات ونحوها مما يقوم مقامها في كونها يحصل بها تبريد المياه لمن يشرب، بدل ما يشرب ماءً حاراً.
كذلك بدل ما كانوا يوقفون المراوح اليدوية أصبحوا يوقفون مراوح كهربائية أو مكيفات أو ما أشبهها مما يحصل به الكفاية، ويحصل لمن أوقفها الأجر، والأجهزة كلها فيه أجر، حتى مثلاً هذه الطاولة الذي أوقفها له عليها أجرٌ، وهذه الأجهزة المكبرة ونحوها الذي أوقفها له أجرٌ، وهذه الفرش في هذه المساجد وهذه الأدوار ونحوها الذي أوقفها يحتسب في ذلك الأجر، ويجري عليه أجرها ما دام ينتفع بها.
المدارس الخيرية التي يدرس فيها القرآن ونحوه، ويوقف فيها المصاحف والرسائل ونحوها، ولا شك أيضاً أن فيها أجراً، حيث إنه ينتفع بها، ويلحق بذلك الرسائل والأشرطة الإسلامية إذا سبلها الإنسان، فله أجرٌ ما دام ينتفع بها.(53/5)
تنجيز الوقف وخروجه من ملك الواقف
الوقف يسمى وقفاً منجزاً، أي: ليس للواقف أن يرجع فيه؛ وذلك لأنه أخرجه لله، وإذا أخرجه فإنه يخرجه من ملكيته، وفي وقف عمر قال: (لا يباع أصلها) ، فإذاً: لا يجوز الرجوع فيها متى أوقفها.
لو أن إنساناً أوقف مكيفات في مسجد، ثم إن ذلك المسجد هدم، وألغي لطريق أو لحاجة إلى توسعة أو نحو ذلك، فهذه الأدوات التي فيه، تنقل لمسجدٍ آخر، فليس له أن يرجع في مكيفاته ولا في نوافذه ولا في فرشه، ولا في أبوابه، ولا في المكبرات أو الأشياء التي تبرع بها، لا يجوز له أن يعود فيها؛ وذلك لأنه أخرجها لله، فتصرف إما للوكالة التي تتولى ذلك، وهي في هذه الأزمنة وزارة الأوقاف، فإنها هي التي تتولى غلال الأوقاف أشجاراً أو عقاراً أو ما أشبه ذلك، وإما أن ينقل إلى مسجد آخر أو مرتفق آخر ينتفع به، ولا يجوز لصاحبها أن يتملكها.
الإنسان مثلاً إذا قال: أشهدكم أن بيتي هذا وقفٌ منجز، ولكن أسكن فيه مادمت حياً، أو يسكن فيه المحتاج من ولدي، ثم بعد ذلك بدا له أن يعود فيه وأن يبيعه، نقول: لا يجوز لك أن ترجع فيه، ولا يجوز لك أن تبيعه، ولا أن تتملكه؛ لأنه وقف خرج عن ملكية الواقف، وأصبح ملكاً للمنتفعين به، أو ليس لملك لأحد، ولكن غلته لمن ينتفع به أو لمن جعل له، أو يصرف لمن يستحقه.(53/6)
ناظر الوقف
يجوز أن يجعل على الوقف ناظر، والناظر هو الوكيل، إذا كان الوقف مثلاً عقاراً احتاج إلى ناظر، فهذا الناظر هو الذي يؤجره، وهو الذي يقبض الأجرة، وهو الذي يستغله، وهو الذي يعمر منه ما وهى وما فسد ويصلحه، وهو الذي يصلحه إذا خرب، كما إذا كان جهازاً من الأجهزة يحتاج إلى إصلاح، فلابد أن يكون له ناظر.
هذا الناظر قد يلقى مشقةً وتعباً؛ فلذلك يستحق أن يجعل له جزء من الغلة، فـ عمر رضي الله عنه في هذا الأثر ذكر أن الذي يليه يجوز له أن يأكل، ويجوز له أن يطعم صديقه، أو يطعم زواره، ولكن لا يتمول منه مالاً، إنما يأكل منه بقدر نفقته أو بقدر تعبه وعمله، فإذا زاره أصدقاؤه أو نحوهم أطعمهم من ثمر هذا الشجر من فاكهة أو ما أشبهها، أما أن يتخذ منه مالاً فلا، فإذا لم يجد إلا بأجرة، جاز أن يقول مثلاً: لك من غلته (3%) ، أو (5%) ، أو ما أشبه ذلك، على أن تصلح ما وهى منه، إذا تصدعت حيطانه تصلحها مثلاً، وإذا وهى سقفه تتعاهده، وإذا خربت أدواته تصلحها، وما أشبه ذلك، فإنه: غالباً بحاجة إلى من يقوم عليه.
فالحاصل أن الذي يوقف هذه الأوقاف يريد بذلك استمرار الأجر، وأن يأتيه أجرها بعد موته، ويستمر العمل الصالح له وهو ميتٌ، حيث ينتفع بهذه الأدوات أو بهذه الغلات أو ما أشبهها، ويدعو له أيضاً الذين ينتفعون بذلك، ويترحمون عليه، فيحصل بذلك على أجر؛ ولذلك فإن أكثر الصحابة رضي الله عنهم جعلوا أوقافاً وأحباساً، وعرفت أحباسهم في مكة وفي المدينة وفي البصرة والكوفة، وفي غيرها من المدن والقرى، واستمر الانتفاع بها أزمنةً عديدة إلا أن اضمحلت المنفعة بها أو تلاشت وقلَّت؛ فعند ذلك نقلت إلى غيرها.
ولا يزال هناك أوقافٌ تعرف بأوقاف كذا وكذا، وقد تجعل في جهةٍ خاصة كأن يقال مثلاً: هذا البيت وقف على هذا المسجد، يعمر به أو نحو ذلك، أو تابعٌ له، كوقف على الإمام الذي يصلي به أو من يؤذن فيه أو ما أشبه ذلك، أو يقال: وقفٌ على الكعبة، كالذي يوقف أمواله على الكعبة، أو على المسجد الحرام، وهي أوقافٌ كثيرةٌ، أو في شيء خاصٍ، كانوا يوقفون مثلاً على الأدوات التي يحتاج إليها أهل المسجد كمياه الشرب أو مياه الطهارة والوضوء أو آبار يحفرونها أو مياه يجرونها لمن يتطهر في هذا المسجد، أو ما أشبه ذلك، وكل ذلك يلتمسون به بقاء الأجر واستمراره بعد الوفاة.(53/7)
شرح عمدة الأحكام [54]
شرعت الهدية لإزالة الشحناء وغرس المحبة، وهي إما هدية بثواب أو بغير ثواب، وإما أن تكون من الوالد لولده أو لأجنبي، وهي على كل حال تختلف عن الصدقة في مقصودها وبعض أحكامها.
وقد وجب في الشرع المساواة بين الأولاد في العطية، وذلك إذا لم يكن هناك سبب يقتضي المحاباة، فإن قام سبب المحاباة جازت.(54/1)
حكم استرداد الهبة ونحوها
يقول المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [وعن عمر رضي الله عنه قال: (حملت على فرسٍ في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه، فظننت أن يبيعه برخص، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تشتره، ولا تعد في صدقتك وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في هبته كالعائد في قيئه -وفي لفظ: فإن الذي يعود في صدقته كالكلب يعود في قيئه، يقيء ثم يعود فيه) ] .(54/2)
النهي عن الرجوع في الهبة
فهذا حديث عن عمر، ذكر فيه أنه كان عنده فرس فأراد أن يتصدق به على رجل، وقال لذلك الرجل: هذا لك تغزو عليه، وتركبه، وتنتفع به، فأعطاه إياه كصدقة وقصده من ذلك أن ينتفع به، وبالأخص في الغزو، وفي السرايا، وفي الخروج في سبيل الله وما أشبه ذلك، ولكن ذلك الرجل الذي أخذ ذلك الفرس لم يكن يعرف قدره فأضاعه وأهمله، ولم يعرف قيمته، ولم يكن من أهل هذا الصنف.
فعند ذلك علم عمر أنه سيبيعه، وأنه يبيعه رخيصاً، فأراد أن يشتريه، لكونه يعلم أهلية ذلك الفرس، ويعلم كفاءته وقوته وغلاءه وصلاحيته، فلما أراد أن يشتريه وهو يباع بثمن رخيص لم يقدم على ذلك حتى سأل النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يخافون أن يقعوا في شيء لا يجوز في الشرع، فتوقف حتى استفصل من النبي صلى الله عليه وسلم: هل يجوز لي شراؤه وأنا الذي تصدقت به؟ فسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فوجد من النبي صلى الله عليه وسلم إنكاراً شديداً لاقتنائه ولتملكه ولو بطريق الشراء، وأخبره بأنه لا يجوز ولا يحل له أن يشتريه: (ولو أعطاكه بدرهم فلا تشتره) ، فإن هذا يشبه الرجوع في الهبة؛ لأنك وهبته له، والهبة صدقة وتبرع فلا ترجع في هبتك، ولا تعد فيها، فإنك إذا رجعت فيما وهبته وأخرجته من ملكك لوجه الله تعالى، أشبهت الذي يرجع في قيئه.
وضرب مثلاً سيئاً وهو الكلب، والكلب معروف أنه من شر الحيوانات وأقذرها، فهو موصوف بهذا الوصف القذر؛ وهو أنه يقيء ثم يرجع في قيئه، ومثله أيضاً السباع أو كثير منها، فهذا مثل سيئ، بحيث إنه إذا أكل وامتلأ بطنه واشتد امتلاؤه، وخاف مثلاً أن لا يستطيع العدو، أو لا يستطيع البروك، أو الدخول في جحر أو نحوه، فإنه يخرج من بطنه كثيراً مما أكل حتى يخف عنه، وهو القيء عن طريق الفم، فإذا جاع بعد ذلك رجع إلى ذلك القيء الذي كان قد أخرجه من بطنه مع تغيره ومع نتنه فأكله، هذا مثله سيء شبّه به النبي صلى الله عليه وسلم الذي يعطي عطية ثم يرجع في عطيته، أو يهدي هدية ثم يرجع فيها، أو يهب هبة ثم يرجع فيها، أو يتصدق بصدقة ثم يرجع فيها.
والرجوع فيها معناه: إما أن يطلبها ويقول: رد لي هديتي، رد عليّ صدقتي أو هبتي، رد عليّ ما أعطيتك، أنا أعطيتك مثلاً هذا الثوب أو هذا الكيس فرده عليّ، فإنك لا تستحقه ولست أهلاً ولا كفؤاً له، يطلبه حتى يأخذه منه، كذلك إذا طلبه بشراء فإن ذلك شبيه بالرجوع.
ولأجل ذلك منع النبي صلى الله عليه وسلم عمر أن يشتري ذلك الفرس ولو كان رخيصاً؛ وذلك لأنه إذا جاء ليشتريه، فإن صاحبه قد يستحيي منه ويتغاضى عنه ويبيعه بشيء من الرخص، فيذهب على صاحبه بعض من الثمن؛ فمثلاً: إذا كان الفرس أو البعير الذي أهديته لزيد يساوي ألفاً، فإنه إذا رآك تستامه احتشم واستحيا منك وباعه بنصف الألف أو بثلث الألف؛ احتشاماً واستحياءً وقال: هذا مالكه، وهذا هو الذي أنعم عليّ وأهداه لي وتفضل به عليّ، فما دام أنه يسومه فإني أبيعه ولا أغالي فيه!! كذلك إذا طلبته منه، وقلت مثلاً: إني قد أهديتك هذا الإناء مثلاً، أو هذا الثوب، أو هذا القدح، أو هذه الآلة ونحوها، فأريد أن تردها عليّ فإني بحاجةٍ إليها، لا شك أنه بذلك يحتشم ويستحيي، ويردها عليك على استحياء مع أنه قد يكون بحاجة إليها؛ هذا كله فيما إذا كان ذلك هبةً أو هديةً أو نحو ذلك.(54/3)
لا يجوز المن بالعطية أو الصدقة
ويدخل في ذلك أيضاً المنّ بها وتذكيره إياها، فإن في ذلك شيئاً من التحقير لصاحبها وتكبير النعمة عليه، بحيث إنه يتمنى أنه ما قبل منك هذه الهدية أو هذه الصدقة؛ ولأجل ذلك نهى الله تعالى عن المن بها، وأخبر بأنه يبطل ثوابها، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى} [البقرة:262] ، فالمنّ يدخل فيه أن يذكره، فكلما لقيك أخذ يذكرك: أتتذكر أني أهديتك ثوباً؟ أما تتذكر أني أهديتك لحماً؟ أما تتذكر أني أهديتك قدحاً أو إناءً؟ أما تتذكر أني أهديتك مالاً، أو فراشاً أو ما أشبه ذلك، فلا يزال يذكرك.
وربما أيضاً يمنّ عليك فيقول: أنا الذي أركبتك وأنت منقطع أنا الذي أطعمتك وأنت جائع أنا الذي كسوتك وأنت عار أنا الذي أنقذتك وأنت هالك! فلا يزال يمنّ عليك إلى أن تتمنى أنك ما قبلت منه تلك الصدقة ونحوها، ولا شك أن هذا مما يحبط الأجر ويبطل الصدقة؛ فلأجل ذلك نهى الله تعالى عن المنّ وعن الأذى.(54/4)
فضل الصدقة وإخفائها
الصدقة: هي التي يقصد بها المتصدق وجه الله والدار الآخرة، فيجب أن يخلصها لله، بأن يتصدق على الفقير والمسكين وذي الحاجة بقصد رضا الله تعالى وثوابه.
والأولى أيضاً أن يخفيها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) ؛ لأن إخفاءها: أولاً: فيه الإخلاص والبعد عن الرياء، وثانياً: أن فيها تخفيفاً للمنة على المتصدق عليه.
إذا لم يظهرها بل أخفاها، وكان لا يريد أن يعلم أحد به، وربما لا يعلم المتصدق عليه من صاحب هذه الصدقة، كما إذا وضعها في بيته وهو لا يعلم، أو وضع النقود في جيبه أو في مخبئه وهو لا يدري؛ كان في ذلك إخلاص قوي من المتصدق.
أما الهبة والهدية، فقد يراد بها الأجر الأخروي وقد يراد بها المودة في الدنيا، وحصول الأخوة والمحبة بين المهدي والمهدى له، وفي بعض الأحاديث: (تهادوا تحابوا، فإن الهدية تسل السخيمة) يعني: تذهب الضغائن التي في القلب، فإنه إذا أهدى لك إنسان هدية، حتى لو كانت شيئاً يسيراً كفاكهة ولحم وطعام، أو أهداك كسوة فاخرة لها قيمتها، فإن قلبك يوده ويميل إليه، وتحصل بينك وبينه ألفة وصداقة، والشرع جاء بتحصيل الألفة بين المسلمين، وتثبيت المحبة والمودة، وإبعاد الضغائن والشحناء عن القلوب.
وقد يقصد بالهدية طلب المكافأة، فإنه إذا عرفت أنه أهدى إليك وأنت أكثر منه مالاً وأغنى منه، وهو من المتوسطين أو من الفقراء، عرفت أنه ما أهدى إليك إلا لتثيبه على الهدية، فلكل هدية ثواب، فقد يريد أكثر من قيمتها، فإذا كافأته عليها وأعطيته أكثر من ثمنها؛ كان ذلك من أسباب القبول، ودخل ذلك أيضاً في أسباب المحبة وثبوت المودة، بين المهدي والمهدى له.(54/5)
جواز الرجوع في هبة الثواب ما لم يثب
فهذا مما يتعلق بالهدية، فنقول: إن الهدية، وكذلك العطية والنحلة والهبة والصدقة وما أشبهها؛ كلها تمليك، والغالب أنها تمليك بدون عوض مسمى، فما دام أنها بدون عوض مسمى فإن الذي يرجع فيها؛ نفسه دنيئة ضعيفة، فلذلك شبه بالكلب يرجع في قيئه، يطلب هديته أو هبته أو صدقته حتى يعود فيها، فهو كالذي يعود في قيئه.
وقد استثنى بعض الصحابة هبة الثواب، حيث قالوا: إن الهبة تنقسم إلى قسمين: - هبة تبرر.
- وهبة ثواب.
فهبة التبرر: هي التي يقصد بها ثبوت المودة، فهي هبة بين اثنين يقصد بها ثبوت المحبة والمودة بين المهدي والمهدى له، وزوال الإحن والبغضاء ونحوها.
أما هبة الثواب فهي التي يكون قصده أن يعطى أكثر منها، فإذا أهدى الفقير للغني، فالغالب أنه يريد أن يعطيه الغني ثمنها مضاعفاً؛ لأنه يعرف أنه ليس أهلاً للصدقة، بل هو الذي يتصدق على غيره، ويعرف أن هذا الفقير ليس ممن يتصدق على هذا الغني، فهو ما أهدى له إلا لأجل أن يثيبه، فهذه هي هبة الثواب.
ذكروا أن عمر رضي الله عنه أباح رجوع المهدي هبة ثوابٍ إذا لم يثب عليها، فقال: (الرجل أحق بهبته ما لم يثب عليها) ؛ فكأن هذا يعتبر بيعاً، أي: الهبة التي هي هبة ثواب بمنزلة المبايعة بين اثنين، فالذي يبيع الشيء ولا يحصل له ثمنه يطالب باسترجاعه، فإذا باعك إنسان جملاً ولكن لم تدفع له قيمته، فإنه يطالبك بقيمته أو بجمله، فكذلك إذا أهدى لك -مثلاً- جملاً أو فرساً أو شاةً أو بقرةً، أو أهدى لك سيارةً، أو أهدى لك كيساً أو ثوباً، وعرفت من قصده أنه يطلب أضعاف ثمنها أو يطلب مثل الثمن فقط، ولكنك لم تعطه؛ فإن له أن يطالب باسترجاع ما أهداه ولا يدخل ذلك في حديث العائد في قيئه؛ لأن هذا مقصده معروف.
ومع ذلك فإن الأولى ألا يكون هذا القصد موجوداً، والأولى أيضاً ألا يحوجه إلا أن يذكره أو يطالبه ويقول: أهديت لك فلم تعطني، لماذا لم تعطني؟ أعطني ثواباً أو رد عليّ هديتي، فيندب أن لا تكون هذه هي المقاصد.
وهذا أخف من المن والأذى الذي ذمه الله سبحانه في الآية التي أشرنا إليها، وأخبر بأنه يبطل الأجر في قوله تعالى: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264] ، أي: لا تبطلوا أجرها، وفي قوله: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263] ، والقول المعروف هو: الرد الجميل، إذا جاءك إنسان يستعطيك أو يسألك وهو محتاج، ولم يكن عندك شيءٌ تعطيه، أو لست ممن يتصدق؛ فرددته رداً جميلاً واعتذرت إليه عذراً مسموعاً، وأجملت له بالكلام وقلت له: سوف يأتيك رزق من الله فاصبر وتحمل، فإن الله هو الذي يعطي، ولا تدنس نفسك ولا تدسها وتذلها ولا تخضع للناس، ولا تتواضع لهم، بل اجعل ذلك لله سبحانه وتعالى، وعلق قلبك به، فإن الله تعالى يعزك ويرفع مقامك ويرزقك، ولا يحوجك إلى أحد من الناس إذا علقت قلبه بالله ونصحته بذلك، رجي بذلك أن يكون من الذين يترفعون عن التدني لغيرهم.
وحكي أن بعضهم كانوا من الذين بهم حاجة شديدة، ولكنه عز نفسه ونظم أبياتاً يتعلق فيها قلبه بربه، فرزقه الله ووسع عليه؛ قال في أبياته: يا من له الفضل محض في بريته وهو المؤمل في الضرا وفي الباس عودتني عادة أنت الكفيل بها فلا تكلني إلى خلقٍ من الناس ولا تذل لهم من باب عزته وجهي المصون ولا تخضع لهم رأسي وابعث على يد من ترضاه من بشرٍ رزقي وصني عمن قلبه قاسي وذلك دليل على ارتفاع الهمة وعلى التعلق بالله وعدم الدناءة إلى المخلوقين، وإذا كان ذلك كذلك فإن الله تعالى يرزق العبد من حيث لا يحتسب، وهو خير له من أن يتصدق عليه إنسان ثم يمن عليه، ويذكره بصدقته أو يؤذيه بسببها، أو ينتقده فيها، أو ما أشبه ذلك.(54/6)
التسوية بين الأولاد في العطية
قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [التسوية بين الأولاد في الهبة.
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: (تصدق عليّ أبي ببعض ماله، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشهده على صدقتي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفعلت هذا بولدك كلهم؟ قال: لا، قال: اتقوا الله واعدلوا في أولادكم، قال: فرجع أبي فرد تلك الصدقة) .
وفي لفظ قال: (فلا تشهدني إذاً؛ فإني لا أشهد على جور) ، وفي لفظ: (فأشهد على هذا غيري) ] .(54/7)
الفرق بين العطية والهبة
يتعلق هذا الحديث بالعطية، والعطية: هي الهبة بلا ثواب، وأكثر ما تكون عطية الرجل لأولاده أو لأقاربه يقصد بذلك نفعهم، أو يقصد بذلك مجازاتهم، أو نحو ذلك.
فالعطية: لها أحكام غير أحكام الهبة، لذلك جاز للأب أن يرجع في عطيته، وأما الواهب فلا يجوز له أن يرجع في هبته، كما تقدم في قوله صلى الله عليه وسلم لـ عمر: (لا تعد في هبتك، فإن العائد في هبته، كالعائد في قيئه) .
عرفنا أن الهبة صدقة وتبرع لمستحقها من مسكين أو فقير أو نحو ذلك، وأما العطية، فهي تبرع لا يبتغى به الأجر الأخروي غالباً، وإنما يبتغى بها نفع المهدى لهم أو المعطين، أو مجازاتهم أو نفع الولد، أو ما أشبه ذلك.
فعلى هذا يجوز أن يعطي الأب أولاده ويجوز أن يعطي إخوته، ويجوز أن يرجع في عطيته إذا لم تستلم ولم يكن هناك لها سبب، إلا الإتيان بأسباب المودة وما أشبهها.(54/8)
لا يجوز المفاضلة في العطية بين الأولاد
نعود إلى القصة: هذه القصة فيها أن النعمان بن بشير بن سعد الأنصاري ذكر أن أباه بشير بن سعد أعطاه عطية، وفي بعض الروايات: أنه نحله عبداً يعني: مملوكاً، وفي بعض الروايات أطلق وقال: نحلني نحلةً، أو: أعطاني عطية.
ولم يسمها.
وكانت أمه عمرة بنت رواحة، وهي أخت عبد الله بن رواحة؛ كانت تحب ولدها النعمان، فأحبت أن يثبت هذا العطاء، وأن لا يكون فيه إنكار، فقالت: لا أرضى حتى تشهد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: حتى يثبت إذا شهد به ويقره، ولا يمكن أن ينكر بعد ذلك.
ففعل ذلك بشير بن سعد فذهب بولده، ولما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبره بأنه نحل ابنه عطية، وأن أم الابن أرادت أن تشهد على هذه العطية، فلسان حاله يقول: أتيتك لأشهدك على نحلة ابني وعلى عطيته، ولما كان في هذا شيء من الجور وعدم التسوية، استفصل النبي صلى الله عليه وسلم وسأل بشيراً: هل لك أولاد غير النعمان؟ فأخبره بأن له أولاداً ذكوراً وإناثاً، فسأله: هل نحلتهم مثلما نحلت هذا؟ أو خصصت هذا بالعطية وحده؟ فأخبر بأنه لم ينحلهم وإنما نحل هذا، وأن هذه العطية خاصة بـ النعمان! وعند ذلك أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) ، أي: ليحملكم خوف الله وتحملكم التقوى على أن تعدلوا وتسووا بين أولادكم، ولا تجوروا فتميلوا مع واحدٍ ميلاً يفهم منه تفضيلكم له على غيره، بل عليكم أن تسووا بينهم ولا تفضلوا واحداً على واحد.
كذلك في بعض الروايات أنه قال: (أشهد على هذا غيري) ، أي: إن هذا جور وظلم، فلا أشهد على الظلم ولا أشهد على الجور، فاذهب إلى غيري، وأشهد عليه غيري، فإني لا أشهد عليه، وليس معناه إقرار الشهادة من الغير، بل معناه التحذير منه، فلأجل ذلك التزم بشير ورد تلك العطية لما نهاه النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الروايات أنه علل فقال: (أتحب أن يكونوا لك في البر سواء؟ فقال: نعم، فقال: فلا إذاً) أي: ما دمت تحب أن يبروك كلهم ويطيعوك، فلماذا لا تجعلهم كلهم سواء في برك وفي طاعتك، فسو بينهم في عطيتك، حتى يستوي كلهم في طاعتك وفي برك، هكذا علل صلى الله عليه وسلم!(54/9)
الأحكام المستفادة من الحديث
ومن هذا الحديث أخذ العلماء استحباب الإشهاد على العطايا والهدايا ونحوها، وذلك لتثبت؛ ما دام أنه ذهب ليشهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذوا منه إشهاد ذوي الفضل وذوي العلم وذوي المنزلة الرفيعة، حيث لم ترض عمرة بنت رواحة إلا بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم.
ويؤخذ منه أن العطية تثبت بالإقرار وبالإشهاد، وأخذوا منه أن عطية الوالد لولده تملك بالقبض إذا تمت شروطها، أو تملك بعد الهبة إذا تمكن من قبضها واستلامها.
وأخذوا منه: وجوب التسوية بين الأولاد لقوله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) ، ولقد كان السلف والعلماء رحمهم الله يعملون بهذا بقدر ما يستطيعون من العدل بين أولادهم، حتى كانوا يسوون بينهم في القبل، إذا قبّل هذا رحمةً به قبل البقية ذكوراً وإناثاً من باب العدل ومن باب التسوية، فضلاً عن التسوية في الأمور الظاهرة، فإذا اشترى لهذا ثوباً اشترى للثاني وللثالث مثله، وكذلك إذا اشترى لهذا طعاماً أو فاكهة أو أطعمه سوى به الآخرين وأعطاهم مثلما أعطاه.
كل ذلك حرصاً على العدل الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وحرصاً -أيضاً- على البر، وذلك لأنه علل بقوله: (أتحب أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: نعم) ، فإذاً لا شك أنه يحب أن يبره هذا ويبره الثاني ويبره الثالث، ويكونوا كلهم بارين بأبيهم، ولا يرضى أن يكون هذا براً وهذا عاقاً، وهذا مطيعاً وهذا عاصياً، بل يحب أن يكونوا كلهم بررة له، هذا هو الذي يرضى به، فهذا معنى قوله: (أتحب أن يكونوا لك في البر سواء) .
ذكر العلماء أنه لا يجوز لأحد الرجوع في عطيته إلا الأب وقالوا: لا يحل لأحد أن يرجع في هبته إلا الأب فيما وهب لأولاده أو لولده، أخذاً من هذا الحديث.(54/10)
أسباب جواز المفاضلة بين الأولاد في العطية(54/11)
اختلاف الحاجات بين الصغار والكبار والذكور والإناث
ثم هذا الحديث محمول على ما إذا لم يكن هناك أسباب لعطية بعض الأولاد وقت حاجتهم، فأما إذا كان هناك أسباب فإنها جائزة، ومعلوم مثلاً أن الوالد ينفق على أولاده بقدر حاجتهم، ويشتري لهم بقدر حاجتهم ولو تفاوتت الحاجات.
ومعلوم وجود التفاوت بين الحاجات تفاوتاً مشهوراً ظاهراً، فإذا كان له عدد من الأولاد ذكوراً وإناثا، فحاجات الذكور غير حاجات الإناث، فحاجة الذكر مثلاً أنه يمكنه من الدراسة، ويعطيه ما يحتاج إليه في الدراسة، فإذا احتاج مثلاً إلى سيارةٍ يتنقل عليها ويذهب عليها إلى مدرسته أو جامعته، أعطاه سيارة، وكذلك إذا احتاج إلى زواج زوجه ولو كان إخوته أطفالاً؛ لأن هذا من الحاجات الضرورية، فإذا احتاج مثلاً إلى سكن أسكنه في مكان أو بيت يناسبه إذا كان قادراً؛ لأن هذا من حقه عليه، والوالد عادة إنما يجمع أمواله لأولاده؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنك أن تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) .
فالولد مثلاً إذا احتاج إلى النفقة وكان فقيراً، فإن الوالد ينفق عليه ولو كان الولد قادراً على الاكتساب، فإذا عجز عن الاكتساب بأن لم يجد عملاً، أو مثلاً كان منشغلاً بدراسةٍ ونحوها، وكان الأب واجداً وذا مال ألزم بأن ينفق عليه، فإذا كان أحد أولاده مستغنياً في وظيفةٍ وعمل، والآخرون غير مستغنين أنفق على المحتاجين دون غيرهم، ولا يكون هذا جوراً.
وإذا كان هذا مضطراً إلى سيارة يتنقل عليها أعطاه ولم يعط الآخرين لصغرهم مثلاً أو لعدم حاجتهم، وإذا كان هذا مضطراً إلى الزواج زوجه، ولو لم يزوج الآخرين إما لعدم طلبهم، أو لصغرهم، وذلك لأن هذا من تمام حق الولد على أبيه وله في مال أبيه حق.
كذلك معلوم أن الذكر والأنثى يتفاوتان في الحاجة، فمثلاً هو ملزم بكسوة الذكور والإناث، ومعلوم مثلاً أنهم يتفاوتون، فقد تكون كسوة الأنثى بمائتين وكسوة الذكر مثلاً بخمسين أو نحوها، فهذا وجه التفاوت، والأنثى مثلاً بحاجة إلى الحلي وإلى الجمال، فله أن يعطيها كغيرها ما تتجمل به من الحلي ولو كان رفيع الثمن، وليس الذكر بحاجةٍ إلى ذلك.
وهكذا مثلاً إذا مرض أحد أولاده فإنه يعالجه ولو صرف عليه أموالاً طائلة، ولا يقال: أعط أولادك الآخرين مثلما أنفقت عليه؛ لأنه ما أنفق عليه إلا لحاجته أو لضرورته، فهذا من الأسباب التي تستثنى من ذلك.(54/12)
تشجيع من يستحق التشجيع
كذلك أيضاً معلوم أنه قد يحتاج إلى تشجيع بعض أولاده على أمرٍ يستحق عليه التشجيع، فإذا كان أحد أولاده عاكفاً على العلم وعلى الفهم، وعلى التفقه في الدين، والآخرون قد أعرضوا عن ذلك، وعكفوا على اللهو واللعب، وعكفوا على الباطل، وأضاعوا حياتهم وأعمالهم؛ فلا شك أن هذا الذي عكف على العلم الصحيح يستحق أن يشجع وأن يرفع من معنويته، وأن يعطى ما يشجعه وما يكون سبباً لالتفات الآخرين إلى مثله، فإذا قالوا: لماذا لم تعطنا؟ يقول: لا أعينكم على لهوكم ولعبكم، لا أعينكم على الباطل، أما هذا فقد قطع حياته في التعلم والتفقه، فهو أهل أن يشجع على ذلك.
وهكذا إذا كان بعضهم عاصياً لأبويه عاصياً لربه، خارجاً عن الطاعة، متمادياً في المعاصي عاكفاً على اللهو واللعب، عاكفاً على شرب المسكرات ونحوها، والآخر متطوعاً لله بأنواع الطاعات، عاكفاً على الطاعة والعبادة ملازماً لعبادة الله، هادياً ومهتدياً صالحاً ومصلحاً؛ لا شك أن هذا الصالح يستحق أن يشجع وأن يفضل على ذلك العاصي الذي خرج عن طاعة أبويه وخرج عن طاعة الله سبحانه، فكان مستحقاً أن يبعد وأن يحرم؛ لأنه إذا أعطاه والحال هذه، فقد أعانه على المعصية، فيعين عاصياً على عصيان.(54/13)
افتقار بعض الأولاد ونحو ذلك
ويقال كذلك فيما إذا كان هناك سبب آخر، فإذا قدر أن أحد الأولاد افتقر لكثرة عياله، وركبته الديون، والآخرون مستغنون إما لقلة العيال وإما لكثرة الكسب ولكثرة الدخل، وليس عليهم ديون ولا غيرها، فلا شك أن الأب له أن يخفف عن هذا الولد الذي تحمل هذا الدين، فله أن يساعده، ولا يقال: أعط البقية كما أعطيت هذا؛ لأنه ما أعطاه إلا لسبب وهو كثرة عياله، أعطاه لفقره وفاقته، فهو في حاجة للنفقة.
فمعنى (يساوي بينهم في النفقة) : أن يعطي هذا قدر ما يكفيه هو وعياله، وهذا قدر ما يكفيه وزوجته، وهذا قدر ما يكفيه وحده إذا كان أعزب، وهكذا.(54/14)
انقطاع بعض الأولاد لعمل أبيه
وهناك سبب آخر: وهو إذا أعطاه مجازاة له أو استحقاقاً له؛ وذلك أنه في هذه الأزمنة يجلس بعض من الأولاد عند أبيه في خدمته، وفي العمل بما يأمره به أبوه، فيكون قد قصر نفسه على حاجة أبيه، فتارة يشتغل مع أبيه في تجارته إذا كان أبوه تاجراً، أو في معمله، والبقية يكتسبون لأنفسهم، قد انفردوا وقد استقلوا وصاروا يكتسبون لوحدهم.
أو هذا قد اشتغل بحرفة أبيه إذا كان أبوه ذا حرفة، فإذا كان أبوه يعمل خياطاً أو خرازاً أو غسالاً أو بناءً، أو كذلك إذا كان له بستان للزراعة أو غراس أو نحو ذلك، فهو يعمل في تنمية مال أبيه، أو يرعى ماشيته إذا كان له إبلٌ أو بقرٌ أو غنمٌ أو نحوها، أو يكون قد قصر نفسه على تجارة أبيه، ينقل له مثلاً إذا كان له ناقلات في سيارةٍ ونحوها، أو يبيع له الناتج من ثمره.
فالحاصل أنه قد قضى مع أبيه عشر سنين أو عشرين سنةً، وهو لم يتفرغ لشغل نفسه ولم يعد لنفسه مالاً، بينما إخوته الآخرون كل مستقل بماله وبعياله وبوظيفته وبحرفته، فلا يكون هذا شريكاً، أما المنقطع في عمل أبيه فلا شك أنه يستحق أن يشركه أبوه فيجعل له نصيباً من هذا المال الذي يكون هو السبب فيه، وقد يكون له مرتب فيدخله مع مال أبيه.
فنقول: لا بد أن يجعل له شركةً فلا يقول: إن له أخوات وأخواته لم يعلمن مثل عمله، أو له إخوةٌ أطفال، الأطفال هؤلاء لم يعلموا مثل عمله، وله إخوةٌ مستقلون، فالإخوة الآخرون مستقلون لم يعملوا مثل عمله.
فعلى هذا يجوز أن يفضله وأن يعطيه ما يكون مقابلاً لتعبه، فيجعله كشريك أو كأجير أو كعامل عمل عنده، فيعطيه قدر ما يستحقه، ولا يكون ذلك من الظلم إن شاء الله.(54/15)
شرح عمدة الأحكام [55]
قد يملك المرء أرضاً زراعية واسعة، لكنه لا يتمكن من زراعتها واستغلالها، وقد يوجد شخص يحب أن يزرع ويستغل الأرض، لكنه لا يملكها، فلأجل مصلحة الطرفين شرعت المساقاة والمزارعة والمغارسة، كما شرع كراء الأرض بجزء مما يخرج منها أو على أجرة مقدرة، وكل هذه الأمور لها أحكام وضوابط استخرجها العلماء من الأحاديث، فينبغي للمسلم تعلم هذه الأحكام فلعله يصبح في حاجة إليها.(55/1)
أحكام المساقاة
يقول المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع) ] .(55/2)
فتح خيبر ومساقاة أهلها
يستدلون بهذا الحديث على المزارعة والمغارسة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما افتتح خيبر في سنة سبع من الهجرة، دخلها بالقوة وفتحها عنوة، وملكها بهذا الفتح، إلا حصناً أو حصنين فإنه دخلهما بالصلح، أما بقية أماكن خيبر فإنه فتحها بالقوة.
ومعلوم أنه إذا فتحها بالقوة أصبحت للمسلمين، أرضها وأشجارها ومنازلها وبقاعها، لأن المسلمين تغلبوا عليها، وبتغلبهم عليها ملكوها، فلما ملكوها كان فيها قطع زراعية وأراض واسعة، فتلك القطع قسمها بين الغزاة الذين فتحوها معه، فأعطاهم سهاماً بقدرها، وذلك لسعة الأرض، فجعل هذه البقعة لواحد، وهذه لاثنين ونحو ذلك، وبقيت المزارع والأشجار والنخيل فكانت تحتاج إلى من يحرثها، ومن يزرعها، ومن ينتجها ويعمل فيها حتى تنتج، وكان الصحابة رضوان الله عنهم منشغلين عنها بالجهاد وغيره من الأعمال والتجارات، ولم يكونوا ليتفرغوا للعمل في هذا النخيل ونحوه.
وعند ذلك اتفق مع أهلها الذين هم اليهود على أن يبقوا فيها، فقالوا: دعنا لنعمل فيها ولكم نصف الثمر ولنا نصفها، فتركهم فيها عمالاً، أي: عاملين بأجرة، وبقوا على ذلك إلى خلافة عمر رضي الله عنه.
وفي أثناء خلافة عمر حدث منهم ضرر على بعض أولاده، ذلك أنه أتي أحد أولاده وهو مسافر، أتاه قومٌ في الليل، فضربوه حتى فتوا في عضده أو أعابوه وهربوا، ولم يدر من هم؟ فعرف عمر أنه ليس لنا عدوٌ إلا هؤلاء اليهود، فعند ذلك أجلاهم، وطردهم إلى أذرعات الشام وقال: لا حق لكم! فقالوا: أتطردنا من مكانٍ أقرنا فيه محمد وصاحبك، الذي هو أبو بكر، فاستدل عمر رضي الله عنه بقول النبي صلى الله عليه وسلم لهم: (نقركم فيها ما شئنا) ، وبأنه لم يقرهم إلا لحاجة، وذلك لما كان بالمسلمين قلة عن القيام بهذا الحرث ونحو ذلك، فلما كان في زمن عمر رضي الله عنه كان في المسلمين كثرة، وكان عندهم قوة وقدرة أن يعملوا في هذه المزارع وفي هذه الأشجار، وأصبحت ملكاً للمسلمين، فعند ذلك طردهم.(55/3)
تقويم ابن رواحة لثمر خيبر خرصاً
في العهد النبوي، وكذلك في عهد أبي بكر كانوا يحرثون فيها ويزرعون، فإذا زرعوا البقعة فلهم نصف الزرع، وإذا عملوا على النخيل فلهم نصف الثمر وللمسلمين نصفه، وكان يرسل إليهم من يخرص ذلك النخل، فأرسل إليهم عبد الله بن رواحة، فخرصها وقدرها بثمن من الأثمان؛ قدرها مثلاً بعشرة آلاف، قال: هذا النخل يقدر بعشرة آلاف صاع، أو نحو ذلك، فقالوا: إنك قد ظلمتنا يعني: أكثرت علينا.
فقال لهم: إذا كنت أكثرت عليكم فادفعوا فنأخذها نحن وندفع لكم النصف، أي: إذا قدرناها بعشرة آلاف نعطيكم خمسة آلاف ولنا الباقي حتى ولو كان ألفاً أو ألفين، أو خذوها وأعطونا النصف الذي هو خمسة آلاف، وقال ما معناه: (إنكم لأبغض الناس إليّ، ولكن بغضي لا يحملني على أن أظلمكم، وإن محمداً صلى الله عليه وسلم أحب الناس إليّ، ولا تحملني محبته على أن أجور ولا أن آخذ له ما لا يستحقه) ، أو كما قال، فعرفوا أن هذا هو العدل، وأنه بهذا قامت السماوات والأرض.
فعند ذلك استسلموا لذلك؛ فكانوا إذا خرصت عليهم مثلاً بخمسة آلاف دفعوا ألفين ونصفاً ولهم الباقي، وقد يكون الباقي أكثر من ألفين ونصف، ولكن يسمح لهم المسلمون بالزائد؛ وذلك لأنهم في العادة يحتاجون إلى أن يأكلوا منها رطباً قبل أن تجذ، فإذا حدد الذي عليهم عرفوه ودفعوه كاملا.
هكذا كانت الحال في خيبر، ولا شك أن هذا دليل على جواز المزارعة، وعلى جواز المغارسة، وعلى جواز المساقاة التي هي مما تدعو إليها الحاجة.(55/4)
معنى المزارعة وحكمها
أما المزارعة فصورتها: أن يكون لك أرض لا تقدر على الزرع فيها، وهناك رجلٌ لا يملك أرضاً ولكنه متفرغ يحسن أن يزرعها، فتتفقان على أن منك الأرض ومنه الزرع، وأن لك نسبة من هذا الزرع؛ إما الثلث أو الربع أو النصف، بقدر ما تتفقان عليه، فلا بأس بذلك.
ويجوز أن تدفع شيئاً ويدفع هو شيئاً، فمثلاً: إذا دفعت أنت البذر وزدت في نصيبك جاز ذلك، ولا يجوز أن تقول: أدفع البذر مثلاً مائة صاع وإذا حصد الزرع أخذت المائة مقدماً والباقي بيننا نصفين، لماذا لا يجوز؟ مخافة أن يقل الزرع وأن يقل البر الذي يحصد منه بسبب مصيبة أو برد أو جراد أو نحو ذلك، فلا يغل إلا قدر البذر ونحوها، فيذهب سعيه وتعبه خسارة، فلذلك قالوا: لابد أن يكون للعامل نسبة كنصف أو ثلث أو نحو ذلك.
وهذا يسمى المزارعة، وتصح المزارعة بأجرة معينة محددة وتكون كأنك أجرت أرضك بدراهم معينه، وقلت: ازرع هذه السنة وأعطني أجرتها ألف ريال أو ألفين، فيجوز ذلك إن شاء الله.
فالحاصل أن المزارعة تصح حسب ما يتفق عليه الطرفان، ولابد أن يكون بينهما شروط، والمسلمون على شروطهم، فإذا شرط العامل مثلاً أن النفقة على رب الأرض، يعني: الماكنة مثلاً، أو الرشاش الجديد، أو عليه البترول والوقود الذي توقد به الماكينة، والزيوت التي تحتاجها، فله شرطه؛ فإن شرطها صاحب الأرض على العامل فله شرطه، ويقوم العامل بقسط من المال الذي تحتاجه هذه المزرعة، أو بالمال الذي تحتاجه.
وبكل حال فالمزارعة من المرافق التي جاء الإسلام بالحث عليها أو إباحتها، وذلك لأن هذه الأرض لو بقيت معطلة فلن يحصل الانتفاع بها، وليس كل من ملك أرضاً يقدر على استغلالها، فلأجل ذلك جاز أن يتفق الطرفان على استغلالها.
وليس كل إنسان له القدرة على العمل وعلى الحرث يجد أرضاً، فإذا تساعدا فكان من هذا الأرض والوقود والنفقة، ومن هذا العمل، وكان الناتج بينهما على حسب ما يتفقان عليه، انتفع كل واحد منهما وحصل له مصلحة.
هذا بالنسبة إلى المزارعة؛ وذلك لأن خيبر كانت فيها أرض تزرع فكانوا يزرعونها بالنصف، ولم يذكر أن المسلمين يدفعون البذر، ولم يكونوا يدفعون شيئاً من النفقة في إخراج الماء، وذلك لأن أرض خيبر في ذلك الزمان كان فيها عيون تنبع من الأرض، ثم يفجرونها ويسقون بها الزرع ويسقون بها النخيل، أما في هذه الأزمنة فقد غارت تلك العيون، وإن كان بقي منها قليل إذا حفر نبع، ولكنها نزلت كثيراً، وإذا كثرت السيول زادت ونفعت، فمع ذلك كان المسلمون لهم النصف من الزرع؛ لأن النفقة يسيرة، وإنما كانوا يفجرون هذا النهر ثم يسقون به هذا الزرع.
كان منهم البذر والحرث والحصاد والتصفية، ومن المسلمين الماء، لأن هذا النبع ملك للمسلمين، والأرض ملك للمسلمين، ومع ذلك صار لهؤلاء النصف لعملهم ولبذرهم، ولهؤلاء النصف لملكيتهم الأرض والماء.
أما النخل فبلا شك أنه كان فيها نخل كثير، وكان لها ثمر كثير، بل يضرب المثل بخيبر حتى قال بعض الصحابة: (ما شبعنا من التمر حتى فتحت خيبر) ، أي: حتى فتحوها وصار لهم النصف، فكان يأتيهم من التمور الشيء الذي يأكلون منه ويشبعون ويبيعون ويتصدقون، ويبقى النصف لأهل خيبر الذين هم اليهود.
فالنخيل فيها منافع كثيرة ومتنوعة بأنواع كثيرة، وكلما سقطت نخلة غرس بدلها أخرى في مكانها أو قريباً منها، فهذا بالنسبة للنخل.
كذلك النخل يحتاج إلى سقي وإن كان الماء نابعاً، ويحتاج إلى زبر وهو قطع الشوك، ويحتاج إلى تلقيح كما هو معروف، وإلى تركيب بأن يركب القنو على سعف النخل وجريده، حتى لا يسقط، ويحتاج أيضاً إٍلى تصفية فهو يحتاج إلى عمل، فلليهود النصف مقابل عملهم، وللمسلمين النصف مقابل مالهم وملكيتهم.
فأخذوا من ذلك أنه يجوز أن يؤجر صاحب النخل نخله لمن يحرثه، ولمن يسقيه، وله قسط من ثمرته، حسب ما يتفقان عليه، فإن دفع المالك نفقة السقي والماكنة -مثلاً- وإصلاحها ونحو ذلك، ولم يبق على العامل إلا العمل، فله ما يعادل عمله أو يقاربه، وإن لم يدفع له شيئاً وقال: أسقها وعليك مئونة السقي، جاز ذلك أيضاً.
فالحاصل أن هذا جائز، وإذا كان فيها شجر غير النخل كالعنب مثلاً والتين والزيتون والخضار، والفواكه الأخرى كالليمون والبرتقال وما أشبهه؛ فإن ثمارها أيضاً تقسم بينهما حسب ما يتفقان عليه؛ وذلك لأن ذلك كله مما يحتاج إلى سقي، ويحتاج إلى إصلاح ويحتاج إلى عمل، فالعامل يريد قسطاً من ثمره، وإنما ينتفع بالثمر غالباً ولا ينتفع بالأعواد ولا بالأوراق، هذا بالنسبة إلى المساقاة.(55/5)
معنى المغارسة وحكمها
أما المغارسة، فصورتها: أن يملك أرضاً ولا يقدر على زرع الغرس فيها، فيتفق مع آخر على أن يغرس فيها وله بعض من الغراس، فيقول: هذه أرضٌ تصلح لأن يغرس فيها وأنا لا أقدر على ذلك، وأنت تقدر فلك -مثلاً- نصفها على أن تغرس فيها من النخل كذا وكذا، ومن العنب كذا، ومن الزيتون كذا، ومن الرمان كذا، وما أشبه ذلك.
فإذا أثمرت وأينعت وحصل أنها انتهت وما بقي إلا الاستغلال فأعطني نصفها ولك نصفها، أو ثلثها ولك ثلثاها، أو ما أشبه ذلك، بحسب ما يتفقان عليه، فيكون من هذا الأرض، ومن هذا الشجر والغرس والسقي ونحو ذلك، إلى أن تثمر، ثم بعد ذلك يقتسمانها.
ولا شك أن هذه الأشياء مما يحتاج إليها، ومما يحصل فيها مصالح عامة، أعني أن المزارعة وكذلك المساقاة وكذلك المغارسة، يحصل فيها مصالح للمسلمين، فتستغل هذه الأرض -بدل ما كنت بوراً قاحلةً لا ينتفع فيها- بغراسٍ مثلاً أو سقيٍ أو نحو ذلك، وتسقى هذه النخيل، لأنها لو أهملت لماتت، فيسقيها عامل بجزء من ثمرها، وكذلك تزرع هذه الأرض ويأخذ من زرعها وغلتها ما يمكن أن ينتفع به، فيكون بذلك مصلحةٌ أولى من إهمالها وإماتتها، وذهاب منفعتها على مالكها.
وذلك يدل على أن الشرع جاء بكل المصالح التي فيها نفع للعباد، ويقاس على ذلك من المصالح أنواع كثيرة، مثل المضاربة، التي هي الاتجار بالمال، وصورة ذلك: أن يكون عندك مال ولكنك لا تحسن الاتجار به، ويكون هناك رجل ليس عنده مال، ولكنه قادر على أن يتجر، ويعرف كيفية استغلال الأموال وكيف يربح في البضائع، فتعطيه المال وهو الذي يعمل فيه وينميه، فمنه العمل ومنك المال، فتتفقان على جزء من الربح، فإذا ربح مقداراً من الربح أعطاك نصيبك من الربح وأخذ نصيبه، فهو شبيهٌ بالمزارعة التي هي استغلال أرضك بجزء من غلتها، وشبيه بسقي شجرك بجزء من ثمره، وكل ذلك مما فيه المصلحة للعباد وبقاء هذه الأموال ينتفع بها حتى لا تتعطل وتذهب منفعتها.(55/6)
أحكام كراء الأرض
قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن رافع بن خديج قال: (كنا أكثر الأنصار حقلاً، وكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهانا عن ذلك، فأما الورق فلم ينهنا) .
ولـ مسلم عن حنظله بن قيس قال: (سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق؟ فقال: لا بأس به، إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات وأقبال الجداول وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، ولم يكن للناس كراء إلا هذا، ولذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به) .
الماذيانات: الأنهار الكبار، والجدول: النهر الصغير] .(55/7)
النهي عن كراء الأرض ببعض ما يخرج منها في بقعة معينة
هذا الحديث يتعلق بكراء الأرض، ذكر فيه أنهم كانوا في الجاهلية وفي أول الإسلام يكرون الأرض بزرع بقعة معينة، فيقول صاحب الأرض: ازرع أرضي هذه، ولي زرع هذه البقعة ولك زرع هذه، فإذا نبتت ربما كانت هذه لا تنبت، أو لا يكون فيها إلا قليل، وهذه فيها كثير، فيحصل بذلك ضرر على بعضهم وغبن له، والإسلام ينهى عن كل شيء فيه مضرة على أحد الطرفين؛ فلأجل ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا.
الأحاديث أو الروايات الكثيرة التي في النهي عن المحاقلة محمولة على المحاقلة الجاهلية التي هي كراء الأرض بزرع بقعة معينة.
وكانوا يؤجرون الأرض بما على الماذيانات وأقبال الجداول، وفسر الماذيانات بأنها الأنهار الكبيرة، والجداول بأنها الأنهار الصغيرة، والأقبال بأنها حافات الجدول.
والجدول: هو الساقية التي يجري فيها الماء، فإذا كانت صغيرة سميت جدولاً، وفي هذه الأزمنة قد اكتفى بإجراء الماء في المواسير، وكانوا قديماً يحفرون حفراً كذراعٍ أو نحوه وعرضه كشبر يجري معه الماء من البئر أو إلى منتهى الزرع، ثم يفرق من هنا ومن هنا، فهذا المجرى يسمى جدولاً، وإذا كان المجرى كبيراً يسمى ماذياناً، يعني: نهراً كبيراً يجري معه الماء.
ولا شك أن حافات الجداول تشرب دائماً، فيكون الزرع الذي ينبت عليها له أفضلية، ويكون أكثر سنبلاً وأكثر نباتاً، فإذا أخذ ذلك هذا المالك غبن الزارع، فيقول: أنا الذي زرعته وسقيته وبذرته ثم أخذه مني وما بقي لي إلا الأطراف التي يكون نباتها قليلاً، ويكون سنبلها صغيراً أو ما أشبه ذلك.
فهذا لا شك أنه غرر، وعليه يحمل النهي الذي جاء في هذه الأحاديث.(55/8)
جواز كراء الأرض بقدر معين مما يخرج منها أو بالنقود
أما إذا كان الأجرة بشيءٍ معين أو بنقود فلا مانع من ذلك، وذلك مثل أن يقول: أجرتك أرضي لتزرعها ولي ربع الزرع، أو عشر الزرع، أو نصف العشر، أو ما أشبه ذلك، يتفقان على شيء للمالك مقابل كراء أرضه، والبقية للعامل.
كذلك أيضاً: إذا كانت الأجرة بنقود، كأن يقول: أجرتك الأرض تزرعها أو تغرس فيها سنة أو سنين كل سنةٍ مثلاً بمائة ريال أو ألفٍ أو ألوف؛ لأنه كراء عقار بمنزلة كراء الدكاكين وكراء العمارات وما أشبه ذلك، ولا مانع من الكراء، وعلى المكتري أن ينتفع بها فيما اتفق عليه من الانتفاع.
أما الأحاديث التي وردت في النهي عن كراء الأرض فقد اختلف فيها واختلفت ألفاظها، فالمؤلف هنا اقتصر على الأحاديث التي فيها الإذن، وإلا فنفس الأحاديث من رواية رافع قد ورد أنه نهى عن كراء الأرض مطلقاً، وقال: (من كان له أرضٌ فليزرعها، أو ليمسكها، أو ليمنحها أخاه) ، وظاهر هذا أنه منعهم من أن يكروها بأجرةٍ أو بقسطٍ من الناتج أو نحو ذلك، وأمرهم بأن يمسكوها أو يمنحوها إخوتهم، ولكن لعل هذا كان في أول الأمر، ثم رخص لهم بعد ذلك أن يؤجروها بقسطٍ مما يخرج منها أو بالدراهم والدنانير.
أو لعل النهي كان عن العمل الجاهلي، أي: كأنه قال: إذا كانت لك أرض وأنت تؤجرها بالأجرة الجاهلية، أي: بما على أقبال الجداول أو بما على الماذيانات وما أشبه ذلك، فلا تؤجرها بهذا، بل إما أن تمسكها، وإما أن تمنحها أخاك، وإما أن تبيعها.
فهذا يحمل عليه الأحاديث التي فيها النهي الشديد عن تأجير الأرض، ولا شك أن الذي ملك الأرض وأحياها -ملكها بالإحياء أو بالشراء أو نحو ذلك- لأنه قد صار أحق بغلتها، وأحق بغرسها أو بزرعها، فما دام أنها في ملكه فهي كسائر الأملاك له أن ينتفع بها، وله أن يؤجرها، وله أن يمنحها، وله أن يعيرها، وينتفع بها ببقية أنواع الانتفاع كما ذكر في هذا الحديث وكما ذكر في أحاديث غيره.(55/9)
شرح عمدة الأحكام [56]
يكثر النزاع بين الناس على الأراضي غروراً بالدنيا وطمعاً في زخارفها، وقد جاء الشرع بتحديد الحدود التي يجب على المسلم التزامها تجاه إخوانه وجيرانه، وتوعد من ظلم قيد شبر من الأرض بالوعيد الشديد، بل أمر المسلم أن لا يمنع جاره من الانتفاع بجداره إذا احتاج إليه لوضع خشبة مالم يضره، وعلّمه إذا أعمر أحداً داراً أو عقاراً أن يحتاط فلا يفسد ماله.(56/1)
أحكام العمرى والرقبى
يقول المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرى لمن وهبت له) .
وفي لفظ: (من أعمر عمرى له ولعقبه، فإنها للذي أعطيها، لا ترجع للذي أعطاها؛ لأنه أعطى عطاءً وقعت فيها المواريث، وقال جابر: إنما العمرى التي أجازها الرسول صلى الله عليه وسلم، أن يقول: هي لك ولعقبك، أما إذا قيل: هي لك ما عشت، فإنها ترجع إلى صاحبها) .
وفي لفظٍ لـ مسلم، (أمسكوا عليكم أموالكم، ولا تفسدوها، فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها، حياً وميتاً، ولعقبه) ] .(56/2)
معنى العمرى والرقبى
يتعلق هذا الحديث برواياته بباب العطية، أو الهبة، وتسمى العمرى، وتسمى أيضاً الرقبى، وهي نوعٌ من العطية، وظاهر هذه الروايات الاختلاف، ونذكر قبل ذلك صورتها ثم نذكر الراجح فيها.
ونمثل بالسكنى في الدار: إذا كان عنده منزل زائد عن حاجته أعطاه قريباً له أو صديقاً، وقال: قد أعمرتك هذه الدار، أي: جعلتها لك حياتك ومدة عمرك، أو يقول: قد أرقبتك هذه الدار لتسكن فيها، أو مثلاً أرضاً أرقبتها لتزرعها أو نحو ذلك، تسمى عمرى ورقبى، وسميت عمرى لأنها له مدى عمره، وسميت رقبى لأن صاحبها يرتقب موته حتى تعود إليه تلك الأرض التي وهبها هبةً مؤقتة، هذا مثالها في العقار.
وتكون أيضاً في المنقول: فقد يعطيه مثلاً سيفاً ويقول: هو لك ما عشت، أو هو لك عمرك تقاتل به مثلاً، أو يعطيه إناءً يطبخ فيه، ويقول: هو لك حياتك، هو لك عمرك، أو يعطيه مثلاً دابةً يركبها ويقول: هي لك حياتك، يعني ما دمت حياً، كفرس يقاتل عليها، أو خلفةً يحلبها أو يركبها أو ما أشبه ذلك، فيعطيه إياها عطية مؤقتة، وتكون بمنزلة العارية التي لها حدٌ وهو منتهى حياته، فهذه تسمى العمرى وتسمى الرقبى، هذا اسمها قبل الإسلام.
فلما جاء الإسلام وكانت العمرى والرقبى مشهورة في تلك المجتمعات التي صارت مجتمعات إسلامية، تغيّر الحكم، فاختلفت الأحاديث: هل تكون هبةً يملكها المهدى له، أم ترجع إلى المهدي والمعطي بعد موت المهدى له؟ في ذلك خلاف.(56/3)
اختلاف الأحاديث في الرجوع في العمرى والرقبى
فكثيرٌ من الروايات التي سمعنا تفيد أنها لا ترجع بل تجري فيها المواريث، أي: هذه الدار التي قلت لصاحبك: هي لك ما عشت، أو هي لك حياتك، أو هي لك عمرك، في الرواية الأولى وفي كثير من الروايات: أنها تدخل ملكه، وتقع فيها المواريث وتقسم بين ورثته على قدر سهامهم، فتكون بمنزلة العطية المنجزة أو الهدية المملوكة، سواء كانت عقاراً أو منقولاً، وسواء نقصها الاستعمال أو لم ينقصها.
هذا مقتضى أكثر الروايات، حتى الروايات التي قال فيها: (أمسكوا عليكم أموالكم لا تفسدوها، من أعمر شيئاً فإنه للذي أعمر) ، يعني: أنه يبقى للذي أعمر.
ولكن الرواية الأخرى تقتضي أنها ترجع إلى مالكها الأول؛ لأنه وقَّت عطاءه، حيث قال: هي لك ما عشت أو هي لك حياتك، فإذا مات رجعت إلى مالكها بمنزلة العارية المحددة، هذا مقتضى الرواية الثانية التي قال: (إنها ترجع إلى صاحبها) .
وذلك بمنزلة العواري: فإذا أعرت صاحبك كتاباً وقلت له: اقرأ فيه حتى تقضي حاجتك منه، فقد أردت أن تسترده، كذلك إذا حددت وقتاً وقلت مثلاً: هذا الكتاب عارية عندك تقرأ فيه، أو هذا القدر عارية عندك تطبخ فيه، أو هذه السكين عارية عندك تقطع بها، ولم تحدد، جاز لك أن تسترده ولو بعد يوم أو بعد شهر، وجاز لك أن تبقيه ما دمت مستغنياً عنه، ولكنه لا يدخل في ملك المعار، بل هو عارية مستردة ومؤداة.
وأما إذا حددت المدة فإنك لا ترجع فيه إلا بعد نهايتها، فلو قلت مثلاً: هذا البيت لك تسكنه عشر سنين، ففي هذه الحال لا ترجع قبل تمام عشر سنين، وذلك لأنك أعطيته والمسلم لا يرجع في عطيته، وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (العائد في هبته كالعائد في قيئه) .
والعطية والهبة تعم المنافع وتعم الأعيان، فأنت مثلاً إذا أعطيته عيناً ينتفع بها كقدر، وقلت: هو لك، فلا يجوز لك أن تعود فيه، أو ثوباً يلبسه وقلت: هو هدية لك أو هبة لك، لم يجز أن تسترده، أو مثلاً بقرة يحلبها لم يجز لك أن تستردها، لأنك أعطيته عطية وهبة.
فكذلك إذا حددت فقلت مثلاً: لك هذه الشاة تحلبها ما دام فيها لبن، فلا ترجع فيها بعد شهر أو بعد شهرين مادام فيها لبن، فإذا نشف لبنها فإن لك الرجوع.
أو حددت مدة، قلت مثلاً: هذا القدر لك أن تطبخ فيه لمدة سنة، فبعد السنة يحق لك أن تعود فيه وترجع.
فيقال كذلك في الأموال التي تحدد بأوقات: فإذا أعطيته هذه الدار يسكنها، وقلت: هي لك حياتك، فإذا مات فإن لك أن تستعيدها، لأن عطيتك له هو، لا للوارث، بل هي خاصة بذلك الذي أعطيته، فلا تجري فيها سهام الورثة، هذه هي العمرى التي ذكر في الأحاديث أنها ترجع إلى صاحبها.
أما إذا قال: هي لك ولعقبك، يعني: أولادك ومن جاء بعدك، أو هي لك ولذريتك، فمثل هذه نسميها عطية منجزة وهبة، فليس له أن يرجع فيها، سواء في حياة المعطى أو بعده، فإن رجوعه في هذه يسمى رجوعاً في الهبة وعوداً فيها، والعائد في هبته كالعائد في قيئه.
كذلك إذا حدد الوقت فليس له أن يرجع فيها قبل نهاية الوقت، فرجوعه قبل نهاية الوقت يكون رجوعاً في الهبة، وكأنه عائدٌ في قيئه.(56/4)
الراجح في حكم الرجوع في العمرى والرقبى
فالحاصل أن العمرى تنقسم إلى قسمين: - قسم يحدد فيه المدة بأن يقول: هي لك حياتك، أو لك عشر سنين، أو لك شهراً، فلا يرجع إذا جعلها شهراً إلا بعد نهايته، أو بعد نهاية عشر سنين، أو بعد انتهاء حياته يرجع بعد موته.
- وقسم يقول: هي لك ولعقبك، أو يقول: هي لك ويسكت، ففي هذه الحال نعتبرها هبة تدخل فيها سهام المواريث.
وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (المسلمون على شروطهم) ، ومعلوم أنه إذا شرط في الهبة أنها ترجع فإنها تعتبر مؤقتة، يعني: كالعارية، أباح لك أن تنتفع بها، وعند حاجته يرجع فيها، أو عند نهاية المدة، أو عند استغنائك، فإذا حدد المدة باستغنائك بأن قال: هي لك حتى تستغني عنها، فإذا استغنيت ووجدت ما يقوم مقامها، فإنه يملك استرجاعها، هذه هي العمرى والرقبى.(56/5)
حكم منع الجار من غرز خشبته في الجدار
قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبه في جداره) ، ثم يقول: أبو هريرة رضي الله عنه: (مالي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم) ] .(56/6)
الحث على حسن الجوار وكف الأذى عن الجار
هذا الحديث في حسن الجوار، وقد وردت أدلة وأحاديث تحث المسلم على أن يحسن إلى جاره وأن يتحمل منه ما يسمعه، وأن يكف عنه أذاه، وقد ثبت في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) ، أي: يجعله من الورثة.
كذلك أيضاً، يقول صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه) ، يعني: غوائله وخياناته، فالذي لا يأمنه جاره أن يخونه، ولا يأمن أن يغتاله، ولا يأمن أن يختلس منه جاره، هذا ليس بمؤمن كامل الإيمان.
وقد وردت الأدلة في إحسان الجوار أيضاً، بل أمر بأن تحسن إلى جارك، وأن تتحفه وتهدي إليه، وأن تطعمه إذا علمت خصاصةً به، حتى ورد قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك) .
وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن من بات شبعان وجاره جائع إلى جانبه) أو كما في الأحاديث.
وسألت عائشة: (إن لي جارين فإلى أيهما أهدي، فقال: إلى أقربهما باباً) ، ففضل القريب باباً على غيره، ولا شك أن هذا كله يحث على حسن الجور، ومن ذلك ما تضمنه هذا الحديث، يقول صلى الله عليه وسلم: (لا يمنعن جار جاره، أن يغرز خشبةً في جداره) ، وفي رواية: (أن يغرز خشبه في جداره) .(56/7)
يجب تمكين الجار من وضع خشبه على جدار الجار ما لم يضره
والعلماء ذكروا أن الجار قد يحتاج إلى أن يسقف له حجرةً أو غرفةً، ويكون بحاجةٍ إلى أن يمد خشبه أو حديده إلى جدار جاره الملاصق، والعادة أن الجيران يأتون غالباً متلاصقين، هذا ملاصق لهذا، فإذا كان جداره ملاصقاً لجدارك واحتاج إلى أن يسقف حجرةً أو غرفةً وأن يمد خشبه أو حديده، ويجعله على هذا الجدار أو هذه العمد، ويحفر لها فيه، فليس لك منعه، ولكن بشرط أن لا يضر الجدار.
فإن كان الجدار لا يتحمل، فيلزمه أن يقيم إلى جانبه جداراً؛ لأن بعض الجدر قد تكون رقيقةً دقيقه، إذا وضع عليها خشب من هنا ومن هنا، فقد لا تتحمل فتسقط، فيحتاج إلى إقامة جدار إلى جانب جدار، حتى يجتمع ويتحمل ذلك الخشب.
فأما إذا كان الجدار قوياً يمكنه أن يتحمل، فليس للجار أن يمنعه، وحيث ورد بلفظ الجمع: (أن يغرس خشبه) ، فإنه يكون على وجه العموم، فمتى احتاج إلى خشب ولو كثيرة فإنه له ذلك ولا يمنع.
فهذا معنى قوله: (لا يمنع جار جاره أن يغرز) ، والغرز: هو النحت، بأن يحفر لها ثم يغرزها في الجدار، ثم يسقف عليها بعدما يمسكها في الجدار، وإذا كان الأمر كما كانت الغرف قديماً يجعل لها سقف تعرض عليه الخشب، فاحتاج إلى أن يجعل السقف على هذا الجدار، وكان الجدار يتحمل، فله ذلك، فإن كان لا يتحمل فإنه يضع عموداً، أي: ساريةً تتحمل ذلك السقف، ثم بعده يعرض الخشب عليه.
وعلى كل حال فهذا كمثال في حاجة الجار إلى شيء مما يتصل بجاره، لأن الجار قد يحتاج إلى أحد حيطان جاره لوضع خشبه عليه، سواء كان جدار سورٍ من الأسوار التي تحيط بالمباني، أو جدار غرفةٍ أو حجرةٍ يلي هذا الجار، فإنه يمكنه من أن يسقف عليه.
لما حدث أبو هريرة هذا الحديث كأنه استثقله بعضهم وأنكره، وقال: كيف أمكنه وأنا الذي بنيت هذا الجدار وقمت به وتوليته، وينتفع به غيري؟ فـ أبو هريرة لم يبال بذلك فيقول: (مالي أراكم عنها معرضين) ، يعني: عن هذه السنة أو عن هذا الحديث، (والله لأرمين بها بين أكتافكم) أو (بين أكنافكم) ، يعني: لأحدثن بهذا الحديث ولا أبالي من كره ذلك، لأنه لما تحقق أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، لم ير بداً من أن يحدث به، ولو كره ذلك واستثقله بعضهم.
كذلك يقول بعضهم: إن الضمير يعود إلى الخشب، أي: لأرمين بالخشبة بين أكتافكم، يعني: ولو لم أجد إلا كتف أحدكم أضعه عليه -من المبالغة- يعني: عند الحاجة لأفعلن ما أمرني به الرسول وما أمر به الأمة، وما نهاهم عنه بقوله: (لا يمنع) .
ثم الأولى بالجيران أن يتعاونوا فيما بينهم، فإذا كان هناك جدار حاجز بين اثنين، فالأولى أن يشتركا في النفقة عليه، وأن يجعلاه متحملاً لخشب هذا وهذا، أو لصبة هذا وهذا، حتى لا يقع بينهما شيء من المنافسة أو من الامتنان، أو من الكراهية لانتفاع جاره به أو نحو ذلك.
لكن إذا سبق أحدهم وانفرد بإقامة هذا السور أو بإقامة هذا الجدار، ثم جاء إلى جانبه آخر وأقام منزله واحتاج إلى التسقيف على جداره؛ فليس له منعه؛ هذا مقتضى الحديث.(56/8)
النهي عن الظلم في الأرض
قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ظلم قيد شبرٍ من أرضٍ طوقه من سبع أرضين) ] .(56/9)
الطرق الشرعية لملك الأرض دون ظلم
هذا الحديث يحذر فيه النبي صلى الله عليه وسلم من الظلم، ويمثل بظلم الأرض، يعني: اقتطاع الأرض، ومعلوم أن الأرض ملك لله تعالى يورثها من يشاء، قال تعالى: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأعراف:128] ، ويقول الله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف:137] ، فأخبر بأنها لله وأنه يملكها من يشاء، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الأرض تملك بالإحياء، فقال: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له) .
وذكر العلماء أنواع الإحياء الذي تملك به الأرض، فقالوا: يحصل بحفر الآبار، فقد ورد أن من حفر بئراً حتى وصل إلى الماء، فإنه يملك تلك البئر ويملك حريمها، أي: ما حولها، قيل: إنه يملك مد رشائها، وقيل: يملك من كل جانب خمسةً وعشرين ذراعاً إن كانت بئراً منتزعة، وأما إذا كانت قديمةً فإنه يملك خمسين ذراعاً، أما إذا كانت بئراً زراعيةً حفرها للزراعة، فإنه يملك ثلاثمائة ذراع من كل جانب، وبكل حال فهذا مما تملك به الأرض.
كذلك أيضاً تملك بالسقي، فإذا جلب الماء إلى الأرض وسقاها فإنه يملكها إذا أخرج ماءً من بئرٍ فسقى به تلك الأرض، سواء كان فيها زرع أو شجر أو ليس فيها.
وكذلك إذا أجرى الماء إليها: فإذا أجرى الماء في ساقيةٍ أو مواسير أو نحوها، إلى أن وصل إلى هذه الأرض وسقاها، ملكها بذلك، ولا يملكها إذا صب الماء فيها من إناء أو نحوه.
فلو أن إنساناً ملأ سيارةً مما يسمى بالوايت، وجاء إلى أرضٍ صحراء وصب الماء عليها، لم يملكها بذلك إلا أن يكون قد غرس فيها أو زرع، فأما إذا جلب الماء إليها ولو من بعيد فإنه يملكها مع الساقية ونحوها.
كذلك أيضاً يملكها بالبناء: فإذا بنى حولها قدر ما يستر الواقف حائطاً مستديراً من كل جهاتها فإنه يملكها وتدخل في ملكه بمثل ذلك.
فعرفنا بذلك أنه إذا أحياها فقد ملكها.
(من أحيا أرضاً ميتةً فهي له) ، والميتة: هي التي ليس فيها آثار تدل على أنها قد ملكت قبله، بل لم يكن لها مالك، فهذا دليل على أنه يملكها بهذا الإحياء، فإذا ملكها فلا شك أنه أحق بها، ولا يجوز لأحد أن يعتدي عليها ولا أن يتقدم ويأخذ ويتملك منها شيئاً ولو كان قليلاً.(56/10)
الوعيد الشديد لمن أخذ من مال غيره
توعد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، بأن (من ظلم شبراً) ، أي: من اقتطع شبراً (من الأرض) يعني: أخذه من غير حقه، (طوقه من سبع أرضين) ، أي: جعل يوم القيامة طوقاً في عنقه، وفي بعض الروايات: (خسف به إلى سبع أرضين) ، فكونه طوقاً بمعنى أنه يحمله من سبع أرضين! فماذا يحمل الإنسان؟ وماذا يستطيع أن يحمل في رقبته؟ فلا شك أن هذا دليل على عظم شأن هذا الظلم.
في حديث متفق عليه عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، أن امرأة من جيرانه يقال لها: أروى، ادعت عليه عند بعض الخلفاء وقالت: إنه أخذ أرضي، أو اقتطع بعض أرضي، فترافعوا إلى الأمير؛ فقال سعيد: كيف آخذ أرضها وقد سمعت ما سمعت! فقالوا: ما سمعت؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من اقتطع شبراً من الأرض بغير حق، طوقه من سبع أرضين) فقال ذلك الأمير: لا نطلب منك بينةً بعد ذلك! ولكنه ترك ذلك ودعا عليها فأصابتها دعوته.
وقد ورد أيضاً اللعن لمن اقتطع شيئاً من الأرض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من غير منار الأرض) ، ومنار الأرض هو حدودها ورسومها، وذلك أن الذي يملك الأرض يجعل لها حدوداً وتسمى رسوماً، وهي نصب ينصبونها تميز أرض هذا عن هذا، وتبين الحد الفاصل بين الأرضين، فهذه تسمى مناراً، فالذي يأتي مثلاً ويقلع هذا النصب، ثم يقدمه في أرض جاره، ليأخذ قطعة من هذه الأرض، ويقلص من أرض جاره، فلا شك أن هذا داخل في هذا الوعيد الذي هو اللعن: (لعن الله من غير منار الأرض) ، وهذا وعيد شديد.
وإذا كان هذا في ظلم الأرض، فلا شك أن بقية أنواع الظلم داخل في ذلك، فظلم الأرض هو اقتطاع شيء من حق الغير ولو شيئاً يسيراً، هذا إذا كانت مملوكةً لأحد، أما إذا كانت حرةً غير مملوكة، فإن الأرض لمن سبق إليها، لقوله: (من سبق إلى مال فهو أحق به، أو: فهو له) .(56/11)
تحذير من يخاصم على أرض وهو يعلم أنه لا حق له فيها
ومعلومٌ ما يقع من المنازعات ومن المخاصمات في الأراضي، وكيف أن الناس يختلفون على هذه الأرض وأنهم يعرفون أو بعض منهم أنها ليست ملكاً لهم، ومع ذلك يحملهم الطمع على أن يأخذوا ما ليس لهم، وهم يعرفون هذا الوعيد الشديد! كثير من الخصومات وكثير من القضايا التي في المحاكم إنما هي حول بقاع أو قطع من الأرض، هذا يدعي أنها له، وهذا يدعي أنها له، ولو علموا أن فيها هذا الوعيد الشديد لزهدوا فيها كلها، كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ترافع إليه رجلان من الصحابة في مواريث بينهما قد اندرست، يمكن أن يكون منها أراض وعقارات وبقع قد اندرست، ولا يعلمون ما حق هذا من حق هذا، فعند ذلك وعظهم صلى الله عليه وسلم وقال: (من قضيت له بحق أخيه، فإنما أقطع له قطعة من النار، فليأخذها أو ليدعها) ، وكان أولئك الصحابة ذوي ورع وذوي مخافة، فلما سمعوا هذا الوعيد خاف كلٌّ منهم أن يأخذ شيئاً من حق أخيه فقال: أنا أتنازل عنها كلها، ولا أريدها إذا كانت عاقبة هذا الظلم أو عاقبة هذا العدوان النار، فلا حاجة لي فيها.
فعند ذلك أرشدهم صلى الله عليه وسلم إلا أن يتحروا الصواب ويقتسموها على ما يقرب من الحق، ثم بعد ذلك يستبيح كل منهم صاحبه، فنحن نقول: إذا كان بينك وبين جارك، أو بينك وبين شريكك خلاف في شيء من الأرض، أنت تقول: هذا لي وهو يقول: هذا لي؛ فاعلم أنك إذا أخذته وأنت تعلم أنه ليس من حقك، فإنك متعرض لهذا الوعيد، ومتعرض لأن تحمل هذه الأرض يوم القيامة كلها طوقاً في عنقك من سبع أرضين، أو متعرض لأن يخسف بك في هذه الأرض كلها إلى سبع أرضين، ومتعرض للَّعن الذي توعد به في هذه الأحاديث.
فإذاً نقول: عليك أن تصطلح مع جارك أو شريكك، على أن تقتسما هذه الأرض ويستبيح كل منكم صاحبه، أي: تتنازل عنها إذا كنت تعرف أنه لا حق لك فيها، وأنك ظالم ومعتد بأخذك ما ليس لك.
ومعلوم أن كثيراً من المتخاصمين يعرفون خطأهم، وأنهم في نفس الأمر ليس لهم حق في هذه البقعة، وأنهم معتدون في دعواهم، لكن ما الذي يحملهم على هذه المخاصمات وهذه المرافعات والشكايات التي قد تطول مدةً طويلة، والواحد منهم يجعل من يحامي ويجادل عنه، ويلصق الأكاذيب ويلفق الحجج، فيجمعها وهو في نفس الأمر يعرف أنه كاذب وأنه لا حق له؟ فالذي يحمله هو الطمع الذي يريد به أن يكتسب مالاً أو يكتسب بقعاً لا حق له فيها، أو إنما هي ملك الله يؤتيه من يشاء، فتكثر في ذلك المنازعات، مع أنه يعرف الحق من الباطل.(56/12)
الحذر من دعوة المظلوم
فننصح كل من عرف خطأه وعرف أنه لا حق له؛ أن يخاف من الحساب ويخاف من الظلم، ويعرف أنه ظالم لهذا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة) .
فقد تكون أنت أيها الظالم أقوى حجةً، وأمكن في الكلام وألحن، وتلصق ما تلصق، وربما تأتي بشهود كذبة، وتعطيهم على أن يشهدوا معك، وربما تجمع وثائق لا أساس لها ولا أصل لها، فينخدع القضاة ويعتقدون أنك صادق، فيقضون لك بتلك البقع أو بتلك الأراضي، وتأخذها وهي ليست لك، وتظلم أصحابها أو أهلها الذين ملكوها والذين أحيوها، فماذا تكون حالتهم؟ يدعون عليك ويطلبون من ربهم أن ينتقم لهم منك، وهذا فيه خطر كبير، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (اتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) ، بمعنى: أن المظلوم الذي ظلمه ظاهرٌ وواضح، إذا رفع يديه يدعو على من ظلمه، سيما في أوقات الإجابة؛ فإن دعوته لا تحجب، فدعوة المظلوم غير محجوبة، بل تخرق الحجب ويرفعها الله تعالى فوق السماء، ويقول: لأنصرنك ولو بعد حين.
فعلينا أن نحذر من هذا الاعتداء، وسواء كان الظلم في الأراضي أو في غيرها من الأموال، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة.(56/13)
شرح عمدة الأحكام [57]
كثيراً ما يفقد الناس أموالاً من نقود وأمتعة وبهائم فيجدها غيرهم، وقد أوجب الشرع على من وجد مالاً ضائعاً له قيمة أن يعرفه سنة، فإن لم يجد صاحبه فله أن يتملكه ويبقى في ذمته بحيث لو جاء صاحبه يوماً من الدهر أعطاه، وللفقهاء خلاف في بعض أحكام اللقطة بينها الشيخ في هذه المادة.(57/1)
اللقطة
قال المؤلف رحمه الله: [باب اللقطة: عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لقطة الذهب أو الورق، فقال: اعرف وكاءها وعفاصها، ثم عرفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعةً عندك، فإن جاء طالبها يوماً من الدهر فأدها إليه، وسأله عن ضالة الإبل، فقال: مالك ولها! دعها فإن معها حذاءها وسقاءها، ترد الماء وتأكل الشجر، حتى يجدها ربها، وسأله عن الشاة، فقال: خذها فإنما هي لك، أو لأخيك، أو للذئب) ] هذا الحديث يتعلق باللقطة، واللقطة: هي المال الذي سقط من مالكه، سواء كان متاعاً أو نقداً أو آنيةً أو نحو ذلك مما يتملك، وقد ذكر في هذا الحديث أنه يعرف، ومعنى تعريفه: أنه ينادى عليه: من له مال أو من له متاع، أو نحو ذلك.(57/2)
شرط تعريف اللقطة
اشترط الفقهاء لتعريف اللقطة: أن يكون المال المفقود مما تتبعه همة أوساط الناس، فأما الأشياء الطفيفة الرخيصة التي لا يهتمون بطلبها، فلا حاجة إلى تعريفها، فإذا وجد الإنسان مثلاً رغيفاً أو قطعة حلواء أو عصا أو حذاءً مستعملاً رخيصاً أو قلنسوة -يعني طاقية- أو ريالاً ونحوه مما لا يهتم أغلب الناس بطلبه؛ فمثل هذا لا يحتاج إلى أن يعرفه، بل يملكه آخذه؛ لكون صاحبه في الغالب قد تركه أو قد أيس منه، ولو أحس بفقده؛ ولكنه لا يرجع ويسأل عنه، ولا يهمه أن يفقده.
والناس بحسب ما يفقد منهم ثلاثة أقسام: القسم الأول: الفقراء والضعفاء ونحوهم، ولاشك أن أحدهم يهمه إذا سقط منه ريالٌ أو قرشٌ أو نحو ذلك؛ لكونه يجد له موقعاً، ويؤثر في اقتصاده وفي ماله، فمثل هؤلاء قليلٌ، ولا يعتد بطلبهم لهذه الأشياء الساقطة أو القليلة.
القسم الثاني: الأثرياء أهل الأموال الطائلة، فهؤلاء لو سقط من أحدهم مائة أو مائتان أو نحو ذلك، فالغالب أنهم لا يهتمون بطلب هذا، ولا يطلبونه؛ لكونه لا يؤثر في اقتصادهم، ولكون أموالهم طائلةً لا يحسون بفقد المائة أو المئات أو ما أشبهها.
ولكن ننظر إلى أغلب الناس، وهم الوسط الذين يهتمون للعشرة وللعشرين وللثلاثين ونحوها، وهؤلاء هم أغلب الناس، فنعد هذه لقطةً تحتاج إلى تعريف.(57/3)
أنواع اللقطة
اللقطة ثلاثة أنواع: الأول: المتاع والنقود ونحوه.
الثاني: ما لا يحوز التقاطه من بهيمة الأنعام وهي الإبل ونحوها.
الثالث: ما يجوز التقاطه من بهيمة الأنعام كالغنم ونحوها.
فإذا وجدت نقوداً من ذهبٍ أو من فضةٍ أو ما قام مقامها من الأوراق النقدية سواء كانت نقوداً سعودية، أو لدولةٍ أخرى لها قيمة، فهذه النقود لها قيمتها عند أهلها، فماذا يجب عليك أن تفعله قبلها؟(57/4)
وجوب تعريف اللقطة وكيفيته
يقول في هذا الحديث: اعرف عفاصها ووكاءها وعددها، ثم عرفها سنةً، فإن جاء صاحبها وإلا فاستنفقها، فإذا جاء صاحبها يوماً من الدهر فادفعها إليه.
عفاصها: هي الخرقة التي تكون فيها، فاكتب أو أثبت أنها موجودةٌ في غلاف لونه كذا، أو بخرقةٍ لونها كذا، أو إناء لونه كذا.
وكذلك الوكاء: وهو الخيط الذي تربط به، فاكتب ما كانت مربوطة به من خيط أو سلك أو ما قام مقامه مما تربط به النقود ونحوها.
واعرف أيضاً عددها، يعني: مقدارها من النقود، فمثلاً في بلادنا هذه اعرف ما أنواعها، هل هي من فئة خمسمائةٍ أو من فئة خمسة أو من فئة خمسين أو نحو ذلك، فاكتب عددها، وأنها فئة كذا وكذا حتى ينتبه لها صاحبها؛ وكذلك اعرف موضعها الذي سقطت فيه، أنها سقطت في المكان الفلاني.
كذلك أيضاً اعرف زمنها، أنك وجدتها في اليوم الفلاني، في الساعة الفلانية، كل ذلك تثبته، ولكن إذا عرّفتها فلا تذكر هذا كله؛ لأنه قد يدعيها من ليس بأهل لها، بل تقول: من له الدراهم التي ضلت منه في يوم كذا وكذا؟ أو تقول: وجدت في مكان كذا كذا، فإذا جاءك إنسان وقال: هي لي، فسله واستخبره كم عددها؟ فإذا ذكر عددها فاسأله: ما ألوانها؟ وما وعاؤها الذي هي فيه؟ فإذا وصفها وصفاً دقيقاً عرفت أنه صاحبها، فعند ذلك تدفعها إليه، فإذا لم يطابق وصفه لها، فاعلم أنه متقولٌ أو له لقطةٌ أخرى.
ما هي كيفية التعريف؟ يقول العلماء: إنه في الأسبوعين الأولين يعرفها في كل يوم، أما فيما بعد فيعرفها مثلاً في كل يومين، ثم في كل أسبوع كأيام الجمع والمجتمعات، ثم بعد ذلك يقتصر على تعريفها في المجتمعات كأيام الجمع في كل شهر مرتين أو ثلاث مرات أو ما أشبه ذلك.
ما هي أماكن التعريف؟ لا يجوز تعريفها في المسجد، كما لا يجوز أيضاً إنشاد الضالة في المسجد، فلا يجوز أن تقول في المساجد: من له ضالة؟ أو من فقد ضالة كذا وكذا؟ حتى ولو كانت قليلة القيمة أو كثيرة القيمة، حتى ولو كانت حذاءً مثلاً أو عمامةً أو ما أشبه ذلك، بل يكون التعريف عند أبواب المساجد، فيقف عند باب المسجد، ويقول: من له ضالة؟ من فقد ضالةً من نوع كذا وكذا حذاءً ثوباً نقوداً؟ فإذا جاءه صاحبها ووصفها أعطاه إياها.
وإذا كنت لست من الذين يجرءون على التعريف، فإنك توكل من يعرف وينادي عند أبواب المساجد وفي المجتمعات، فإذا قال: أنا لا أنادي إلا بأجرة، فإنك تعطيه أجرته منها يعني: بشيء تحدده له ولو مثلاً ثلثها أو ربعها وما أشبه ذلك، فتقول: هذا مقدارها، ولك منها كذا وكذا.(57/5)
حكم اللقطة بعد تعريفها سنة
إذا عرفتها ولم تجد صاحبها، وأنت قد قمت بهذا التعريف قياماً كاملاً، فلك أن تستنفقها أي: تدخلها في مالك، وذهب بعضهم إلى أنها تدخل في ملكه، وتصير له، وورد في بعض الروايات: (فإن جاء صاحبها وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء) ، وفي بعض الروايات: (فإن علمت وإلا فهي لك) ، ومعناه: أنها أصبحت مملوكة لك، حيث إنك الذي وجدتها، وحيث إنك الذي ناديت عليها، وصبرت على النداء لها، فأنت أحق أن تملكها وتدخل في ملكك.
ولكن لا تدخلها في مالك ألا بعد أن تعرف أوصافها، وقيمتها إذا كانت متقومة، فإذا كانت لها قيمةٌ كالمتاع، كأن تكون قدراً أو ثوباً أو كيساً أو علبةً أو ما أشبه ذلك مما له قيمة؛ فقدر قيمتها عند تمام الحول، واستنفقها وأدخلها في مالك، واكتب أوصافها في ذمتك، فربما يأتيك صاحبها في السنة الثالثة، أو في السنة الخامسة، أو بعد عشر سنين؛ لأنك لا تزال تنشدها، ولا تزال تخبر عنها في المجتمعات، وتقول: إني وجدت من الذهب كذا وكذا، أو وجدت من الفضة كذا، أو جدت كذا من الأواني أو الأمتعة أو الأطعمة أو الفواكه أو ما أشبه ذلك.
وإذا كانت مما لا يبقى سنةً فتباع، فلو وجدت مثلاً علبةً طعام لا يمكن بقاؤها، أو وجدت قطعة لحمٍ، فإنها لا تبقى في العادة، أو وجدت خضرة أو فواكه أو ما أشبه ذلك مما يفسد إذا بقي مدة، أو يحتاج إلى تجميد أو نحوه بأجرة، فهذا لا يبقى، بل تقومه في حينه وتقدر قيمته، ثم تستنفقه أو تبيعه أو تحفظ قيمته، وتعرفه حتى تتم المدة.(57/6)
حكم ضالة الإبل والبقر والخيل
قال عن ضالة الإبل: (مالك ولها! معها سقاءها وحذاءها، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها) ، الإبل تمتنع من السبع، تمتنع من الذئب، ومن الضبع، ومن السباع الصغيرة، وقد تجتمع عليها الذئاب الكثيرة وتفترسها، أو قد يسلط عليها سبعٌ كبير كالأسد والنمر، ولكن ذلك نادر، فلأجل ذلك نعمل بالأصل، فنقول: إن الأصل امتناعها.
ويلحق بها أيضاً البقر، فالبقر في الغالب تمتنع من السباع، وتقدر أن تتخلص إذا هاجمها ذئب أو نحوه.
ويلحق بها أيضاً الخيل، فهي تمتنع لعدوها أو قوتها من صغار السباع وما أشبه ذلك، فهذه الأصل لا تلتقط، فلا يجوز إذا وجدت بعيراً أو فرساً أو ثوراً كبيراً يمتنع أن تلتقطه، بل يترك إلى أن يجده صاحبه، أو يرد على صاحبه، فالغالب أنه يعرف الأماكن ويعرف الطرق، ويذهب إلى أهله، ويرد المياه التي قد اعتاد ورودها، فلا يجوز تعرضك لهذه الدواب ونحوها، لكن إذا وجدتها قد تردت، فلك أن تأخذها، إذا وجدت مثلاً بعيراً يكاد أن يموت من الظمأ، أو وجدته قد هزل وبرك ولم يكن باستطاعته أن يقوم، فأنقذته وعلفته وسقيته، ففي هذه الحال يكون لقطة، لك أن تأخذه وتملكه، وكذلك إذا وجدته قد عيي وتركه أهله لعيه ولهزاله، وعرفت أنهم لا يريدونه ولا يرغبون فيه، ففي هذه الحال أيضاً لك أن تلتقطه وتملكه لمعرفتك بأن أهله قد زهدوا فيه.
وأولاد البقر وأولاد الإبل تلتقط، ولد الإبل الصغير يسمى فصيلاً، وولد البقر يسمى عجلاً، وولد الخيل يسمى فلواً، فهذه لا تمتنع؛ فلأجل ذلك يجب التقاطه إذا خيف أن يعتدي عليه السبع، وكان في مهلكة ولم يكن مع غيره، والعادة أن البقر إذا اعتدى عليها السبع فإنها جميعاً تتحامل وتطرد السبع، وتنتصر منه، فلا يجوز التقاط مثل هذا.
أما الذي يجوز التقاطه فهو ما لا يمتنع كأولاد البقر الصغار إذا كانت وحدها، أو أولاد الإبل الصغار إذا كانت وحدها، وكذلك الغنم معروف أنها لا تمتنع، وأن السبع يعتدي عليها ويفترسها.(57/7)
حكم ضالة الغنم وصغار الإبل والبقر
إذا وجدت شاة ضالةً، وعرفت أنه ليس حولها أهلها؛ فإن لك أن تلتقطها، ولهذا قال في هذا الحديث: (خذها فإنها لك أو لأخيك أو للذئب) ؛ إما أن تحفظها لأخيك الذي هو صاحبها الذي افتقدها، وإما أن تتركها فيفترسها الذئب غالباً، وإما أن تأخذها ولا تجد صاحبها فتكون ملكاً لك، وإذا أخذها الملتقط فإنه يبقيها عنده، ويعمل فيها كما يعمل في اللقطه، بمعنى أنه يعرفها.
ومعلوم أنها تحتاج إلى نفقه، وتحتاج إلى من يرعاها، وتحتاج إلى من يسقيها إذا كانت تسقى ولا ترد الماء، وتحتاج علفاً فمثل هذه عليه أن يعلفها إن كان قادراً أو يقدر قيمتها ويدخلها في ملكه، أو يبيعها ويحفظ قيمتها بعد ما يحفظ أوصافها، فإذا لم يجد صاحبها وأدخلها مع غنمه، أو أدخل الفصيل مع إبله أو العجل مع بقره، ثم إنه تنامى وتوالد، وحصل له أولاد، فلمن هؤلاء الأولاد الذين تفرعوا عن هذه الشاة أو عن هذا العجل أو عن هذا الفصيل؟ ومن يملكهم؟ نقول: إذا جاء صاحبها بعد خمس سنين، وقد أصبحت خمساً أو عشراً فليس له إلا الأولى التي وجدت ضالةً منه، وأولادها الذين ولدوا عندك وأنت الذي ربيتهم ورعيتهم وحفظتهم وسقيتهم وعلفتهم، ولدوا في ملكك بعدما دخل في ملكك؛ فأنت أولى بها.(57/8)
حكم من وجد لقطة فأخفاها
كثير من الناس من يجد اللقطة ولكن يخفيها، وتبقى عنده سنة ويأكلها، ثم بعد ذلك يندم ويسأل ويقول: إني وجدتها ولكني لم أعرفها، هل ينفع أن أعرفها بعد سنتين أو بعد ثلاث سنين؟ نقول: لا ينفع؛ وذلك لأن أصحابها غالباً قد يئسوا منها، فلا يهتمون بطلبها، ولا يسألون عنها، وقد اعتقدوا أنها اختلست منهم أو أخذت سرقة من مكانها، فأنت غررت بهم حيث أخفيتها هذه المدة.
فحينئذ نقول له: لا تملكها والحال هذه سواء كانت من بهيمة الأنعام، وجدتها في طريق أو متأخرة من دواب أو نحو ذلك؛ فأخفيتها وجعلتها مع غنمك، أو كانت نقوداً أخفيتها وجعلتها مع مالك، أو كانت متاعاً أخفيته ككيس وجدته أو علبةً أو كرتوناً أو نحو ذلك، أخفيته إلى أن مضى عليه مدة، وأيس منه أصحابه، ففي هذه الحال نرى أنه لا يملكها، ولكن يبيعها ويقدر ثمنها ثم يتصدق به إذا أيس من أصحابها، وتكون صدقةً مضمونة، بمعنى أنه لو جاء صاحبها بعد سنة أو سنين فيخبره ويقول: أنا وجدت هذا المال، ولكني أخطأت في إخفائه ولم أعرفه في حينه، وبعدما مضت المدة أو زادت تصدقت به، فالآن أنت بالخيار: إما أن يكون أجر الصدقة لك، وإما أن يكون الأجر لي، وأعطيك قيمتها، وإذا لم يفعل أو خاف فله أن يسلمها إلى من يتصدق بها مضمونةً، أو إلى بيت المال إذا كانت ذات قيمة.
وكذلك نقول: في بهيمة الأنعام التي يجدها كثير من الناس أو الأمتعة التي توجد على الطرق ساقطةً من أصحاب السيارات أو نحوهم، فمن يأخذها ويخفيها مدة، ثم بعد ذلك يندم، وكذلك في كل الأموال المجهولة، وكثير من الناس قد يكون عنده دين لإنسان أو أمانة لإنسان أو أجرة عمل أو نحو ذلك، وتبقى عنده مدةً، ويغيب عنه صاحبها ولا يجدها، أو يشتري من بقالة ثم يأتي بعد مدةً ويجد صاحب البقالة قد تغير أو قد نقل أو أن ذلك العامل تنتهي مدة إقامته ويرحل فلا يجده، فما تصنع بالمال الذي عندك؟ نقول: عليك أن تحرص على البحث عن أصحابه، فإن وجدتهم وإلا فتصدق به مضموناً أو أعطه من يتصدق به مضموناً.(57/9)
شرح عمدة الأحكام [58]
جعل الله للإنسان عند موته ثلث ماله يتصرف فيه بالوصية، وهذه الوصية مستحبة، وقد تجب في حق من عليه حق لا يعلم إلا بوصيته، وللوصايا أحكام كثيرة فصلها أهل العلم رحمهم الله.(58/1)
الوصايا
قال المصنف رحمه الله: [باب الوصايا: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى عليه وسلم قال: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) .
زاد مسلم قال ابن عمر: (فوالله ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا وعندي وصيتي) .
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتد بي فقلت: يا رسول الله! قد بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا.
قلت: فالشطر يا رسول الله؟ قال: لا.
قلت: فالثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعله في فيّ امرأتك.
قال: قلت: يا رسول الله! أخلف بعد أصحابي؟ قال: إنك لن تخلف فتعمل عملاً تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة، ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون، اللهم أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم! لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة) .
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الثلث والثلث كثير) ] .(58/2)
تعريف الوصية والوصي
الوصايا: ما يوصي به الإنسان بعد موته، والوصي هو: الوكيل على هذه الوصايا، والإنسان قد يعرف من نفسه أنه سوف يموت، فيحتاج إلى من يخلفه في ذريته، ليكون وصياً عليهم، ويخلفه في ماله ليكون حافظاً له، ومنفقاً منه على ذريته ونحوهم، أو يخلفه في وقفه وفي صدقاته؛ ليوزعها ويعطيها لمن يستحقها وهكذا.
فلأجل ذلك شرعت الوصية، قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة:180] ، وهذا قد كان مفروضاً، والكتب هو: الإيجاب، كما في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] ، فكان الرجل عند الموت يوصي فيقول: لوالدي من المال كذا، ولأخي من المال كذا، أو لابني أو لزوجي.
ونحو ذلك، يوصي لهم بهذه الوصايا، فإذا أوصى لهم فبعد موته تنفذ تلك الوصايا، ولما نزلت آيات المواريث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصيه لوارث) فاستقرت الفرائض لأهلها، والوصية لغير الوارث.(58/3)
الحث على الوصية
على الإنسان أن يهتم بما عنده من الحقوق فيكتبه، ففي هذا الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) ، والشيء الذي حث على كتابته مثل الأمانات والديون والأوقاف وكذلك وصيته ووصايا أبويه إذا كانت على يديه، فيكتب ما يخرجه من ماله، ويكتب مصارفه الذي يصرف فيها، ويكتب الناظر عليه والوكيل، ويكتب الديون التي في ذمته، والديون التي له مثلاً، ويكتب الحقوق والأمانات التي عنده، ويكتب الأشياء التي قد يجهلها غيره وهو يعلمها من الأملاك أو نحو ذلك، حتى لو فجأة الموت لم يكن مفرطاً، بل وجد ما عنده مكملاً، أما لو فرط ومات فجأةً بقيت ذمته مشغولة، وبقيت حقوق الناس وأماناتهم عنده وديونهم في ذمته؛ لأن الورثة قد لا يعلمون شيئاً عن ذلك، فيقتسمون ما خلف من الأموال، وقد يكون بعضها أو أكثرها لغيره، فيأكلون ما لا يستحقون، وسبب ذلك تفريطه هو حيث لم يثبت ما عنده من الأمور.
فلأجل ذلك يقول ابن عمر: (ما أتت عليّ ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ووصيتي عندي) ، وبعضهم يجعلها تحت رأسه، كلما تجدد له شيء زاد فيها وغير ونقص وأضاف، حتى إذا مات يكون قد أكملها، وقد روي في الآثار عن بعض السلف أنهم كانوا يكتبون في مقدمة وصيتهم: هذا ما أوصيت به، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، فهذه وصية بمعنى الشهادة.
وكذلك يوصي أهله فيقول: أوصيكم بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب قال الله تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ} [البقرة:133] وقال تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} [البقرة:131-132] ، ووصاهم بقوله: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132] ، وويوصيهم بتقوى الله، فإنها وصية الله للأولين والآخرين كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] ، ويوصيهم بالوالدين مثلاً لقوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [العنكبوت:8] .(58/4)
الوصية في المال
في حديث سعد هذا الوصية بالمال، وقد أمره أن يقتصر على الثلث، فذكر سعد رضي الله عنه أنه مرض مرضاً شديداً في حجة الوداع في سنة عشر، فعاده النبي صلى الله عليه وسلم، وكان في ذلك الوقت ليس له أولاد إلا بنت واحده وعنده أموال، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنه خاف من الموت، وقال: إن المرض قد بلغ بي ما ترى، فأخبر بأن المرض قد اشتد به، وأنه يخشى أن يفجأه الموت، وأنه له أموال كثيرة، وليس له ورثة إلا زوجته وبنته فيكفيهم بعض ماله، وأراد أن يتصدق بالثلثين، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم منعه من ذلك، ثم انتقل إلى النصف، فأراد أن يتصدق بنصف المال، ويترك للورثة النصف، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم منعه أيضاً، فانتقل إلى الثلث، فرخص له في الثلث، ولكن قال له: (الثلث والثلث كثير) .
وابن عباس رضي الله عنه يقول: (لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع) أي: اقتصروا على الربع فإنه فيه الكفاية، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأن الثلث كثير، فالربع يكون وسطاً، ليس بقليل ولا كثير، وقد نقل عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: (أختار لنفسي ما اختاره الله، إن الله تعالى اختار الخمس أو رضي لنفسه الخمس في قوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41] ) فأوصى بالخمس، وهكذا غيره من الصحابة أوصوا الخمس من أموالهم ليكون صدقة من بعدهم؛ لأجل ذلك يقول العلماء: إن النهاية هو الثلث، فلا يزيد الموصي على الثلث إلا برضا الورثة، إلا إذا لم يكن ورثة فإن له أن يتصدق بجميع ماله؛ لأنه ما منع إلا لأجل الورثة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ سعد بن أبي وقاص: (إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) يقول: إنك إذا خلفت مالاً أغنيت ورثتك، وتركت لهم ما يتمتعون به، وما يأكلون منه وينتفعون به، وهذا أفضل لك إذا كانوا أغنياء، فينتفعون ويدعون لك بالرحمة وبالجنة، وتقر أعينهم ويرضون عنك، بخلاف ما إذا تصدقت بأموالك كلها، وتركتهم فقراء يسألون الناس، فإنهم سيمدون أكفهم، هذا معنى قوله: (عالة يتكففون الناس) أي: يسألونهم بأكفهم.(58/5)
ما يستفاد من حديث سعد
في قصة سعد رضي الله عنة أنه لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، خاف أن يموت بمكة فقال: (يا رسول الله! أخلف بعد أصحابي) يعني: هل أموت في هذا المكان أو أشفى وأخلف؟ فقال: (إنك لن تخلف -يعني: تعافى- فتنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها) ، أية نفقة تنفقها على أهلك حتى اللقمة ترفعها في في امرأتك أي: حتى ما تطعم زوجتك، فإذا ابتغيت بذلك وجه الله فلك أجر عند الله تعالى.
ويقول أيضاً في هذا الحديث: (ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام، ويضر بك آخرون) ، واستجاب الله دعوة نبيه، فشفي سعد من هذا المرض، ورزق بعد ذلك بأولاد كثير، منهم مصعب وعامر وعمر وغيرهم.
وكذلك انتفع به أقوام، فقاد جيش القادسية الذي حصل به الوقعة العظيمة، وبقي إلى أن أدرك خلافة معاوية، فانتفع به أقوام، ورويت عنه أحاديث، وتضرر به آخرون من أعداء الله الذين قتلوا بسيفه وقتلوا بقيادته، فنفع الله به من أراد الله به خيراً.
ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (اللهم أمض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم، ولكن البائس سعد بن خولة.
يرثي له النبي صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة) ، وذلك لأن الصحابة رضي الله عنهم تركوا مكة لله، هاجروا منها لما أوذوا فيها، واستبدلوا بها دار هجرتهم وهي المدينة، وكانوا يكرهون أن يموتوا في مكة التي انتقلوا عنها، فـ سعد يكره أن يموت بها؛ لأنه قد تركها لله، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم أمضي لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم) أي: لا تردهم إلى بلادهم التي تركوها لله، بل اشفهم وامض لهم هجرتهم، أما سعد بن خولة رضي الله عنه فإنه مرض في مكة ومات بها، مع كونه قد هاجر منها، فرثى له النبي صلى الله عليه وسلم بما حصل له، وسماه بائساً مع أنه معذور في ذلك؛ لأنه جاء مكة لأجل الحج فأصابه مرض فمات بها.
وبكل حال، الشاهد من هذا الحديث هو: ذكر الوصية التي اشتمل عليها هذا الحديث، وهو: أنه يستحب للإنسان أن يوصي من ماله، فيقال: إذا كان المال كثيراً، وسوف يترك للورثة ما يكفيهم ويغنيهم، جاز أن يتصدق منه بعد موته بثلثه أو بأكثر إذا لم يضر الورثة، ووافق الورثة على ما زاد عن الثلث، أما الثلث فلا خيار لهم فيه، بل يخرجه إذا أراد ولو كره الورثة، وعليهم أن ينفذوه، وقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم صدقة من الميت على نفسه رحمة من الله تعالى ورخصة له، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة في أعمالكم) أي: زيادة في حسناتكم أن تخرجوا هذا الثلث، ويكون صدقة منكم على أنفسكم، تجدون ثوابها، ولا تجوز الزيادة على الثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حدده بقوله: (الثلث والثلث كثير) .(58/6)
الحث على الصدقة في الحياة
الإنسان ما دام حياً فإن له أن يتصدق بما أرد، فقد ثبت أن أبا بكر رضي الله عنه أخرج جميع ماله صدقة لله، في حديث عمر قال: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصدقة فوافق ذلك عندي مالاً فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن كنت سابقاً له.
فأتيت بنصف مالي فقال عليه الصلاة والسلام: ما تركت لأهلك؟ فقلت: مثله، وإن أبا بكر أتى بجميع ما عنده فقال له: ما تركت لأهلك؟ فقال: تركت لهم الله ورسوله) ، هكذا في الحياة جاء أبو بكر بجميع ماله الذي عنده، ووثق بأن الله سيرزقه وسيجعل له رزقاً، وجاء عمر بنصف ما كان عنده من المال، وترك النصف ليتمتع به، ويعطي منه أهله، وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
وقد ورد الحث على الصدقة في الحياة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تمسك حتى إذا بلغت الروح الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان) فيرشد إلى أن يخرج الصدقة ويتصدق بها ما دام حياً، وما دام سليماً قوياً، وهذا يدل على أنه أنفقها لله، وابتغاء مرضاة الله؛ ليكون ذلك أجراً له في الآخرة، وهذا يدل على كونه قد وقي شح نفسه {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] .
أما الذي يمسك أمواله، وكأنه سوف يعمر مئات السنين، ثم إذا حضره الموت أخرج أو قال: تصدقوا وأعطوا وأعطوا، فنقول: لا ينفذ من عطاياه في مرض الموت إلا الثلث، وما زاد عن الثلث فإنه لا ينفذ إلا برضا الورثة، أما الثلث فإنه ينفذ ولو لم يرض الورثة، إلا إذا خص به بعض الورثة، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا وصية لوارث) ، فلا يعطي أحد أولاده في الحياة أو عند الممات أكثر من الثاني بغير مبرر، ولا يعطي لزوجته أو زوجاته ولا لإخوته إذا كانوا وارثين ولا لغيرهم من الورثة، بل يجعل المال على ما قسمه الله عليه، ويجعل الوصية لغير الوارثين.
كذلك أيضاً يجعل الوصية في العمل الصالح الذي يعود عليه بالخير وهو الوقف الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) ، فالصدقة الجارية هي الوقف الذي يخرجه في حياته ليتصدق منه بعد موته، أو الوصية التي يخرجها في حياته ليصل إليه أجرها بعد موته.(58/7)
وجوه مصارف الصدقات
وجوه المصارف كثيرة ومتعددة، وأفضلها الصدقة على الفقراء، فإذا كانت الأوقاف أو الوصايا فيها ثمرات، كبستان فيه نخيل وفيه ثمار، فيقول: هذا النخل قد تصدقت به بعد موتي، ويخرج منه الثلث، ففي هذه الحال يتصدق به على المساكين وعلى المستضعفين من قريب وبعيد، ويخص القريب ويفضله لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صدقتك على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصله) .
ومن وجوه الخير: بناء المساجد، وبناء المدارس العلمية لتحفيظ القرآن ونحوه، وطبع الكتب والمصاحف ونشرها، سيما في البلاد التي يعوزها الحصول على الكتب والرسائل ونحوها، وكذلك الأشرطة الإسلامية إذا جعل من ثلثه جزءاً تشترى به هذه الأشرطة الإسلامية وترسل إلى البلاد التي تحتاج إليها، والتي يكون لها نفع وتأثير، زيادة على الرسائل والكتب والخطب وما يشبهها.
ومن وجوه الخير: الجهاد في سبيل الله، فإذا كان هناك جهاد فإنه يشترى بهذه الوصية أسلحة وعدة للمجاهدين، يتقوون بها، ونفقة ينفقون منها على أنفسهم، ولاشك أن ذلك من القربات التي يكون تأثيرها نافعاً لكل من وفقه الله تعالى.
ووجوه الخير كثيرة، ومن جملتها الصدقات، وقد ذكر العلماء أن من الصدقات: الأضاحي التي تذبح في يوم عيد الأضحى، فإذا أوصى بها فإنها تنفذ وصيته، وإذا لم يوص بها فإنه يتصدق على المساكين بما يكون قائماً مقامها، وبالأخص في الأوقات الفاضلة، فالصدقة في رمضان أو في أوقات الجوع وفي البلاد التي يكثر فيها الجوع، ويغلب على أهلها الضرر أفضل، وما أكثرهم في هذه الأزمنة!(58/8)
واجب الوصي في الوصية
وبكل حال إذا كان الإنسان له أموال كثيرة فإن الثلث لا يضر الورثة، أما إذا كان ورثته محتاجين فالأولى له ألا يوصي، وأن يترك ماله لورثته ليستغنوا به عن التكفف، سيما إذا كانوا ذوي حاجة، وأما إذا لم يكن له ورثة من أولاد وأقارب فإن له أن يتصدق بماله كله في حياته وبعد موته.
وإذا أوصى إلى شخص فإن ذلك الشخص -الذي هو الوكيل- عليه أن يتقي الله وأن يراقبه في ذلك؛ ولهذا قال تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:181-182] يعني: قد يحيف بعض الموصين على ورثته، ويحاول أن يضرهم، فمثل هذا لا يجوز، فإذا وفقك الله أو كنت حاضراً عنده فأصلح بينهم وأرشده إلى ألا يجور في الوصية، ولا يخرج عن الحد المعتاد؛ حتى يقبل الله منه وصيته، وحتى يرضى عنه ورثته.(58/9)
شرح عمدة الأحكام [59]
لقد تكفل الله سبحانه وتعالى بقسمة الفرائض بنفسه، وفي هذا دليل على أهميتها، وذلك لأن حقوق الآدميين مبنية على المشاحة، بخلاف حقوق الله عز وجل فإنها مبنية على المسامحة.
وللمواريث شروط وأسباب وموانع فصلها الفقهاء في كتب مستقلة.
وعلم المواريث من أهم العلوم، ويحتاج في تعلمه إلى معرفة قواعد وتطبيقات وأمثلة، وفي كتاب عمدة الأحكام بيان للمعالم الرئيسة المهمة في الفرائض.(59/1)
أحكام المواريث وبيان الأنصباء
قال المؤلف رحمه الله: [باب الفرائض: عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر) ، وفي رواية: (اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله، فما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر) .
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قلت: (يا رسول الله! أتنزل غداً في دارك بمكة؟ قال: وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور، ثم قال: لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم) ] .
هذان الحديثان في قسمة المواريث بين الورثة، وهو أمر يتعلق بالأموال، ولكن له أهميته؛ وذلك لأن فيه إيصال الحقوق إلى أهلها، والمراد أن الميت إذا مات وخلف مالاً فهذا المال لا شك أن أحق من يأخذه أقارب ذلك الميت الذي جمعه والذي ملكه، فهم أولى بأن يكونوا هم الوارثين له.(59/2)
أدلة المواريث من القرآن الكريم
لقد أنزل الله تعالى خمس آيات في المواريث.
الآية الأولى مجملة: وهي قول الله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} [النساء:7] .
فهذه الآية أجمل الله فيها نصيب الرجال والنساء، إلا أنه عرف أن للرجل نصيباً من مورثه وللمرأة نصيباً.
حتى جاءت الآية الثانية التي بيّن الله فيها ميراث الأولاد ذكوراً وإناثاً، وبيّن فيها ميراث كل من الأبوين، على التفصيل، وذلك في قوله تعالى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11] يعني: الذكور والإناث، {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء:11] .
فهذه الآية ذكر الله فيها أن الميت إذا مات وله أولاد قسم ماله بين أولاده، للذكر سهمان وللأنثى سهم، فإذا لم يكن له إلا بنات، فإنهن لا يزدن على الثلثين ولو كن عشراً فيشتركن في الثلثين، أما إذا كانت واحدة فإنها تستقل بالنصف فتأخذ النصف وحدها.
كذلك ذكر ميراث الأم والأب، فإذا كان للميت أولاد فإن لكل من الأبوين السدس، والبقية للأولاد يقسم بينهم: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] .
وإذا كان هناك أبوان فقط وليس للميت ولد، فإن المال يقسم بين الأبوين، الأب له الثلثان والأم لها الثلث، أما إذا وجد للميت إخوة حجبوا الأم ومنعوها من الثلث وأنزلوها إلى السدس، هذه قسمة أنصباء الأبوين وأنصباء الأولاد.
أما الآية الثالثة فبين الله فيها أنصباء الزوجين والإخوة من الأم، وهي قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ} [النساء:12] ثم قال: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء:12] في هذا ذكر نصيب أحد الزوجين من الآخر، فبيّن الله أنه إذا كان له أولاد ذكور أو إناث؛ واحد أو عدد؛ أن زوجته لا تأخذ إلا الثمن، فإذا لم يكن له أولاد ولا أولاد ابن فإنها تأخذ الربع.
أما الزوج فيأخذ النصف إذا لم يكن للزوجة أولاد ولا أولاد ابن، فإذا كان لها ولد أو ولد ابن فإنه لا يأخذ إلا الربع.
ثم بيّن الله في نفس الآية ميراث الإخوة من الأم في قوله: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً} [النساء:12] أي: ليس له أولاد ولا والدان: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} [النساء:12] يعني: أولاد أم، {فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء:12] ، أي: للأخ أو الأخت من الأم السدس، {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء:12] أي: الإخوة من الأم لا يزيدون عن الثلث ولو كثر عددهم، فهذه الآية ذكر الله فيها ميراث الزوجين وميراث الإخوة من الأم.
أما الآية الرابعة في آخر سورة النساء وهي قوله تعالى: {إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء:176] إلى قوله: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ} [النساء:176] ثم قال: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:176] ، وفي نفس الآية ذكر ميراث الأخ بقوله: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء:176] .
فبيّن ميراث الأخوات، فإذا كانت واحدة أخذت النصف، أو اثنتين فلهما الثلثان، والجماعة ذكوراً وإناثاً يقتسمون المال كما يقتسمه الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين، والأخ الواحد يرث مال أخته كله إذا كان وحده، وكذلك إذا كانوا جماعةً، هذه الآية ذكر الله فيها ميراث الإخوة الأشقاء والإخوة من الأب.(59/3)
ميراث العصبات
أما الآية الخامسة في آخر سورة الأنفال وهي قول الله تعالى: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال:75] فذكر الله أولي الأرحام، وأن بعضهم أحق ببعض، فإذا كان بعضهم أولى ببعض فإن من أحقيتهم أن يأخذوا ما بقي من المال، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الأخذ يسمى: تعصيباً، والتعصيب: هو أن يرث المال بدون أن يحدد له جزءاً معيناً، وذلك ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بقوله: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر) ، وتأكيد وصف الرجل بقوله: (ذكر) من باب التأكيد، وإلا فمعلوم بأن الرجل اسم للذكر، فكلمة: (أولى) يراد بها الأقرب يعني: فلأقرب العصبة وأولاهم بذلك الميت، فإنه هو الذي يأخذ ما بقي، ويسمى أخذه: عصبة.
وبيّن العلماء أن العصبة هم أقارب الميت من الأصول ومن الفروع ومن الحواشي، فالأصول: هم أبوه وجده وجد أبيه، أما فروعه: فهم أبناؤه وأبناء أبنائه وأبناء أبناء أبنائه وإن بعدوا؛ لأنهم تفرعوا منه.
أما أقاربه الآخرون: فهم إخوته وبنو إخوته وبنو بنيهم، وكذلك إخوة أبيه الذين هم أعمامه، وبنو أعمامه وبنو بنيهم، ثم أعمام أبيه، ثم بنوهم، ثم أعمام جده وهكذا، ويسمون عصبة؛ لأنهم في الغالب يتعصبون لقريبهم ويحمونه ويجتمعون معه؛ فلأجل ذلك كانوا هم ذوي أرحامه، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعطوا حقهم مما بقي بعد أهل الفروض، فمعنى قوله: (ألحقوا الفرائض بأهلها) يعني: أعطوا أهلها حقهم من الفرائض وما بقي فأعطوه الأقارب من ذوي الأرحام أو من العصبة، هذا معنى الإلحاق أي: سلموها وأعطوها لهم، والباقي أعطوه من يستحقه من ذوي العصبات ونحوهم.(59/4)
ميراث أهل الفروض مع العصبات
وقوله: (ألحقوا الفرائض بأهلها) يعني: أعطوهم فروضهم على ما في كتاب الله تعالى، فإذا كان أهل الفرائض إناثاً كما لو لم يكن له إلا بنتان أو ثلاث بنات أعطيناهن الثلثين والباقي نعطيه أقرب العصبة من الورثة كالابن أو ابن الابن مثلاً، أو الأخ أو ابن الأخ أو نحوهم؛ لأنه أولى رجل وأقرب رجل بعد البنات.
وهكذا لو كان أهل الفروض زوجاً، فإن كان الزوج يأخذ النصف فالبقية للأخ أو ابن الأخ أو العم أو ابن العم إذا كان أقرب من غيره، وهكذا إذا كان صاحب الفرض أخاً لأم فإنا نعطيه السدس والبقية نعطيه لأقرب العصبة كأخ شقيق، أو أخ لأبٍ، أو ابن أخ، أو عم، فننظر أقرب الأقارب من ذوي الأرحام فيأخذ بقية المال الذي تركته الفرائض.
كذلك لو كان الميت لم يخلف إلا أمّاً من أهل الفروض أخذت نصيبها وهو الثلث، والبقية يأخذه العاصب كالعم أو ابن العم أو ابن الأخ أو نحوهم، ننظر من هو أقربهم.(59/5)
التقديم بين العصبات في الإرث
معلوم أن الأب له قرابة والابن له قرابة، لكن قرابة الابن أقوى؛ وذلك لأن الغالب أن الجامع الذي يجمع المال يحرص على أن يورثه لأولاده، وقد ورد ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم كما تقدم: (إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) فإذا كان للميت ابن وأب، فالأب يعتبر صاحب فرض وهو السدس، والبقية نعطيها للابن فهو أولى رجل ذكر، يعني: أقرب الورثة، ولا يقال: إن الأب أحق منه؛ لأن الله جعل للأب فرضاً ولم يجعل للابن فرضاً، بل جعل الابن يأخذ المال كله، أو يأخذ ما بقي من المال بعد أهل الفروض، أما إذا لم يكن هناك ابن فإن الأب يكون أقوى وأولى من غيره، فإذا كان هناك مثلاً زوجة وأب، فإن الزوجة تأخذ الربع فرضاً والأب يأخذ الباقي فهو أولى رجل ذكر.
كذلك إذا لم يكن عندنا ابن ولا أب، فأقرب الأقارب هم إخوة الميت، فننظر أقواهم فنعلم أن الأخ من الأبوين أقوى من الأخ من الأب، فإذا كان عندنا جدة وأخ شقيق وأخ من الأب أعطينا الجدة سدسها والباقي أعطيناه الشقيق؛ لأنه أقوى حيث يدلي جهتين: جهة الأبوة وجهة الأمومة، ونسقط الأخ من الأب لقوة الأخ الشقيق، فإذا لم يكن عندنا أخ شقيق فالأخ من الأب أقوى من العمومة وأقوى من بني الإخوة ونحوهم، فإذا لم يكن عندنا إخوة ولا بنوهم فلا شك أن العم الذي هو أخو الأب ينزل منزلة الأخ أو ينزل منزلة الأقرب فيعطى بقية المال، أو يعطى المال كله إذا لم يكن هناك ذوو فرض.
وهكذا فيقدم الابن ثم يقدم الأب ثم يقدم الأخ الشقيق ثم الأخ من الأب ثم ابن الأخ الشقيق ثم الأخ من الأب ثم بعد ذلك ابن العم الشقيق ثم ابن العم من الأب، ثم ينقل إلى عم الأب ثم عم الجد وما تفرع عنهما، هذا معنى قوله: (فلأولى رجل ذكر) .
وهذا العلم الذي هو علم الفرائض هو من أهم العلوم، ويحتاج في تعلمه إلى معرفة قواعد ومعرفة تطبيقات ومعرفة أمثلة، ولأجل ذلك اهتم به العلماء المتقدمون والمتأخرون، وألفوا فيه مؤلفات خاصة لا يمكن أن تذكر في مثل هذه الحلقات العامة.
لا بد أن تبدأ من أوائله وقواعده وشروطه ونحوها، تبدأ من أوله، فالذي يريد معرفته عليه أن يأخذ فكرة عن كيفية ابتدائه وكيفية تطبيقه، والشروط التي تشترط له، ولكن كتب الفقه والأحكام اقتصرت في علم الفرائض على مهمات المسائل.(59/6)
موانع الإرث
ذكروا أن للتوارث ثلاثة شروط، وأن له ثلاثة أركان، وله ثلاثة أسباب، وله ثلاثة موانع، وقد توسعوا فيها كلها، ولا نحب أن نبحث فيها لطولها، وإنما نذكر الموانع التي ذكر في الحديث بعضها.
فالموانع التي تمنع الإرث: الرق، والقتل، واختلاف الدين.(59/7)
المانع الأول: الرق
فالرق: هو العبودية، والرقيق: هو المملوك الذي ليس له تصرف في نفسه بل ملكيته لسيده الذي يملكه، فهذا لا يرث ولا يورث؛ لأنه ليس له مال، ولأنه لو ورث من أبيه الحر لأخذ ذلك المال سيده، وسيده ليس بينه وبين عصبة أبيه قرابة.(59/8)
المانع الثاني: القتل
إذا قتل إنسان قريبه حرم من ميراثه، ولو كان القتل خطأً؛ وذلك سداً للذريعة حتى لا يعمد أحد إلى قتل قريبه لأجل أن يرثه، فيتخذ القتل وسيلة لإرث قريبه حتى يأخذ المال.
ومشهور أن رجلاً من بني إسرائيل كان عمه ثرياً كثير المال، وكان له ابنةً واحدة، وليس يرثه إلا ابن أخيه وابنته، فخطب ابنة عمه فرفض عمه أن يزوجه بها فقال: سأقتل عمي وآخذ ماله وأتزوج ابنته، فعند ذلك قتله، وهو الذي نزل فيه قصة البقرة التي أمرهم الله بذبحها، فقاموا بعد تردد بذبح البقرة، فأخذ موسى عضواً من أعضائها فضرب به ذلك الميت فحيي وقال: قتلني ابن أخي، ثم عاد ميتاً، فمن ثم حرم القاتل من الميراث حتى ولو لم يكن متعمداً.
وكذلك حوادث السيارات إذا كان الذي يقودها له نسبة من الخطأ ولو قليله، ومات معه أحد أقاربه لم يرث منه، أما إذا كانت نسبة الخطأ كلها على الطرف الثاني؛ فإنه يرث ممن مات معه من أقاربه، أما لو كان متسبباً ولو بجزء قليل من الخطأ، مثل أن يكون على هذا ثمانون في المائة من الخطأ وعليه هو عشرون في المائة، فما دام أن عليه عشرين في المائة فإنه محروم من ميراث من مات معه من أقاربه، أما إذا لم يكن له نسبة، بل الخطأ على الطرف الثاني كله فلا يمنع من الإرث.(59/9)
المانع الثالث: اختلاف الدين
من المعلوم أن من موانع الإرث: اختلاف الدين، وقد جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم لما افتتح مكة سنة ثمان قال له أسامة بن زيد: (أين تنزل غداً في مكة؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من رباع، ثم قال: لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم) .
بيان ذلك أن عقيل بن أبي طالب وهو أخو علي بن أبي طالب لما مات أبو طالب لم يرثه إلا عقيل، ولم يرث منه علي ولم يرث منه جعفر؛ لأنهما مسلمان، وعقيل باق على كفره فهو الذي ورث أباه أبا طالب.
قول أسامة: (أين تنزل غداً؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من رباع) الرباع: البيوت والرحبات التي حولها، والأماكن التي كان يملكها أبو طالب، فورثها بعده عقيل بن أبي طالب واستبد بها، وأسلم وهي له ولم يرث غيره أحد من إخوته.
فدل هذا على أن الكافر لا يرث المسلم ولا المسلم يرث الكافر، فإذا مات ميت كافر فإن ميراثه لقرابته الكفار، فإذا لم يكن له قرابة من الكفار فميراثه لبيت المال ويعتبر فيئاً، وكذلك لو مات رجل مسلم وأقاربه كلهم كفار فماله لبيت المال، لا يعطى أقاربه الذي ليسوا على دينه من ماله شيئاً؛ وذلك لأن الإسلام فرق بين المسلم والكافر، وجعل كلاً منهما بعيد الصلة عن الآخر، قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] فجعل الولاية للمؤمن على المؤمن، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73] أي: لا توالوا الكفار بل اجعلوا ولايتهم فيما بينهم، لا تجعلوا ولاية لكم عليهم؛ لأنه لا ولاية ولا قرابة بين مسلم وكافر، فمن آثار قطع الولاية أنهم لا يتوارثون حتى ولو كانوا مجتمعين في بيت واحد أو في بلد واحد.
والكفر هنا هو كل عمل يخرج صاحبه من الإسلام، ولو لم يكن على ملة، فالنصراني الذي أبواه مسلمان لا يرث منهما؛ وذلك لاختلاف الدين، وكذلك لو كان بوذياً وأبواه مسلمان؛ فإنه لا يرثه أبواه ولا يرث هو من أبويه.
وهكذا الديانات أو العقائد الفاسدة مثل: النصيرية الموجودة في سوريا وغيرها، لا شك أنهم كفار فلا يتوارثون مع المسلمين ولو كانوا أقارب لهم.
والقاديانية: وهم يوجدون بكثرة في الهند وفي باكستان ونحوها، لا شك أنهم كفار، فلا يتوارثون مع أقاربهم المسلمين.
الدروز: وهم يوجدون في لبنان وسوريا، لا شك أنهم كفار، فلا يتوارثون مع أقاربهم المسلمين.
وكذلك الباطنية: والباطنية يقول فيهم العلماء: ظاهرهم الرفض وباطنهم الكفر المحض، فلا يتوارثون مع أقاربهم المسلمين.
وإذا حكمنا بكفر أهل ملة فإننا نقطع الصلة بينهم وبين أقاربهم، فإذا حكمنا مثلاً بكفر تارك الصلاة المصر على تركها المعاند فيها، الذي لا يصلي أصلاً لا وحده ولا مع جماعة قلنا: لا يرثه أقاربه ولا يرث من أقاربه بل يكون ماله لبيت المال، وإن كنا نحكم بأنه إذا كان كذلك يصير مرتداً، والمرتد لا يقر على ردته، بل يستتاب فإن رجع وإلا قتل.
وكذلك العقائد السيئة التي يكفر بها، وقد ذكر العلماء من العقائد التي يكفر بها: عقيدة الجهمية الذين يبالغون في تحريف القرآن في باب الصفات، وكذلك الذين يقولون بالجبر والإرجاء ونحوها، هؤلاء كثير من العلماء يكفرونهم ويخرجوهم من الإسلام، وعلى هذا فلا يتوارثون مع المسلمين.
وكذلك أيضاً غلاة الرافضة لا شك أنهم كفار، الذين يطعنون في القرآن، أو يطعنون في أجلاء الصحابة الذين نقلوا لنا الدين ويكفرونهم، أو كذلك الذين يشركون ويدعون غير الله تعالى في الشدائد والملمات ونحوها يكفرون، وعلى هذا فلا يتوارثون مع أقاربهم من المسلمين.
فعرفنا بذلك أن الإسلام حث أهله على أن يوالوا كل مسلم ولو كان بعيداً في النسب، ويقاطعوا كل كافر ولو كان قريباً في النسب.(59/10)
حكم بيع الولاء وهبته
قال المؤلف رحمه الله: [عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وهبته) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان في بريرة ثلاث سنن: خيرت على زوجها حين عتقت، وأهدي لها لحم، فدخل عليّ رسول صلى الله عليه وسلم والبرمة على النار، فدعا بطعام فأتي بخبز وأدم من أدم البيت، فقال: ألم أر البرمة على النار فيها لحم، قالوا: بلى يا رسول الله، ذلك لحم تصدق به على بريرة، فكرهنا أن نطعمك منه، وقال: هو عليها صدقة وهو منها لنا هدية، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها: إنما الولاء لمن أعتق) ] .
قوله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وهبته) ، الولاء هنا: ولاء العتاقة، ورد في بعض الأحاديث: (الولاء لحمة كلحمة النسب، لا يباع ولا يوهب ولا يورث) ، والمراد به أن الرجل إذا كان يملك عبداً فأعتقه، فذلك العبد العتيق يصير مولىً لذلك المعتق، وكأنه أحد أسرته وأحد أقاربه، ينتمي إلى تلك القبيلة التي هي قبيلة المعتق، وينتسب إليهم، ويكون كأحد أفرادهم، فلا يجوز أن تباع قرابته ولا أن توهب ولا أن تورث، بل تصير منة المعتق عليه أنه يلحق بنسبه ويكون كأحد أفراد النسب، هذا المراد بالولاء.
ولهذا شبه بالنسب: (لحمة كلحمة النسب) ، والنسب لا يجوز أن يباع ولا يجوز أن يوهب، فلو أن إنساناً مثلاً من قبيلة مشهورة أراد أن يخرج عن هذه القبيلة ويقول: أنا أبرأ من هذه القبيلة، وأنا أنتسب إلى قبيلة أخرى، كما لو كان مثلاً من قبيلة تميم وأراد أن ينتسب إلى غطفان، هل يجوز له ذلك؟ لا يجوز، هل يجوز لبني تميم أن يبيعوا واحداً منهم، ويقولون: نبيعكم يا غطفان، نبيعكم يا بني حنظلة، نبيعكم يا رباب هذا الرجل الذي كان منا ويكون واحداً منكم وينتسب إليكم؟ نقول: هذا أيضاً لا يجوز.
فإذا لم يجز بيع النسب فكذلك بيع الولاء.
يقول: (نهى عن بين الولاء وهبته) البيع: أخذ العوض على المبيع، والهبة: الهدية بلا عوض أو بلا عوض مسمى.
بمعنى أنه لا يجوز للمعتق أن يقول لإنسان أجنبي: بعتك قرابتي من هذا العبد الذي أعتقته بكذا وكذا، أو أهديتك قرابتي منه أو ولايتي منه، كما لا يجوز أن يبيع أولاده، فلا يجوز أن يقول: بعتك ولدي هذا، أو قرابتي من هذا الولد، أو أهديتك قرابتي من هذا الولد، أو قرابتي من هذا الأخ أو من هذا العم، أو نحو ذلك.
كما لا يجوز للرجل أن ينتسب إلى غير أبيه، ولا يتولى غير مواليه، هكذا ورد في بعض الأحاديث: (نهى أن ينتسب الرجل إلى غير أبيه، أو يتولى غير مواليه) ، مواليه: هم الذين أعتقوه، وقد أخبر الله تعالى بأن العتق نعمة، قال الله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:37] يعني: أن زيد بن حارثة أنعم الله عليه بالإسلام وأنعمت عليه بالعتق، فجعل إعتاقه وتحريره نعمة، فالسيد إذا أعتق عبده أصبح ذلك العبد يملك نفسه ويتصرف في نفسه، ولكن لسيده الذي أعتقه عليه الولاء، بحيث إنه يواليه وينتسب إليه وينصره، ويصير كأنه فرد من أفراد أسرته، هذا هو الولاء الذي هو ولاء العتاقة، وهو أيضاً من أسباب الميراث، يقول الرحبي: أسباب ميراث الورى ثلاثه كل يفيد ربه الوراثه وهي نكاح وولاء ونسب ما بعدهن للمواريث سبب فجعل الولاء سبباً من أسباب الإرث، ومعناه: أنه يرث عبده الذي أعتقه، إذا لم يكن للعتيق أحد من أقاربه من النسب، فإنه يرثه حينئذٍ معتقه أو عصبة معتقه من الرجال، فإذا مات هذا العتيق فإن كان له أولاد أو إخوة أو أعمام أو بنو عم ورثوه، فإذا لم يكن له أحد من هؤلاء فلمن يكون ماله؟ يكون لمعتقه.
المعتق: هو الذي أنعم عليه فهو أحق بتركته يرثه كما يرث بالنسب؛ لأجل أن النبي صلى الله عليه وسلم شبهه بالنسب: (الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب) .(59/11)
الولاء لمن أعتق
في الحديث الثاني: قصة بريرة وكانت أمة مملوكة ولكنها أعتقت؛ وذلك لأنها مملوكة لقوم من قريش، فاشترت نفسها منهم بثمن مؤجل، وأرادت أن تشتغل حتى تؤدي ثمنها، فجاءت إلى عائشة تطلب منها أن تعينها في دفع الثمن، وعرفت عائشة فيها الأهلية والكفاءة والحذق فاختارت أن تعينها على العتق، فقالت: أنا أدفع لك كامل الثمن لتعطيه مواليك ويكون الولاء لي، يعني: أنا أدفع لهم الثمن فكأنهم باعوكِ لي وأعطيتهم الثمن، ولكن يكون الولاء لي، الولاء الذي هو الانتساب، ولكن أولئك الذين كانوا يملكونها أصروا أو امتنعوا إلا أن يكون الولاء لهم، يريدون أن يأخذوا الثمن، ومع ذلك يكون الولاء لهم.(59/12)
حكم اشتراط الولاء لغير المعتق
فلما علم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن هذا خلاف شرع الله وخلاف حكم الله، وأن الولاء لمن أعتق، فقال: (ما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، قضاء الله أحق وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق) ، فأصبحت هذه قاعدة من القواعد الشرعية: الولاء لمن أعتق.
الولاء: هو ولاء العتاقة، يعني: العتيق يوالي من أعتقه وينتسب إليه، ولا يكون لغير من أعتق؛ وذلك لأنه مقابل هذه النعمة.(59/13)
السنن المستفادة من قصة بريرة
ذكرت في هذا الحديث أن في بريرة ثلاث سنن: السنة الأولى: أنها خيرت لما عتقت بالبقاء مع زوجها المملوك فاختارت نفسها، وقد كان لها زوج يقال له: مغيث، فلما عتقت كانت بلا شك أفضل منه؛ لأنها حرة وهو عبد، فعند ذلك خيرت، قيل لها: أتختارين البقاء مع زوجكِ، أم تختارين فراقه؟ فقالت: لا أريده، ولا رغبة لي فيه، فأصبح ذلك سنة، أن الأمة إذا كانت زوجة لمملوك فعتقت فإنها تخير، إما أن تختار البقاء تحت ذلك العبد، وإما أن تختار التحرر وعدم البقاء معه، فتطلق منه إذا اختارت.
أما إذا كان زوجها حراً فلا خيار لها؛ وذلك لأنها تصبح مثله، هو حرٌ وهي قد أصبحت حرة، قد كانت مملوكة قبل ذلك ثم أعتقت وزوجها حرٌ فليس لها اختيار، بل تبقى في عصمته، ولا تقدر على أن تخلص نفسها، بخلاف المملوك، فإنها تخلص نفسها منه، إن شاءت بقيت وإن شاءت تحررت وطلقت، يقولون: عتقها طلاق لها إذا شاءت.
أما السنة الثانية: فهي أنه صلى الله عليه وسلم دخل مرة فدعا بطعام، فأتوه بشيء من طعام البيت من خبز وإدام من خلٍ أو نحوه، وكان قد رأى على النار برمة فيها لحم، فقال: (ألم أر البرمة على النار فيها لحم؟ فقالوا: بلى، ولكنه صدقة) ، أي: وأنت لا تأكل الصدقة.
كان الطعام صدقة تصدق به على بريرة؛ لكونها مملوكة أو لكونها كانت أمة، فهذه صدقة تصدق به عليها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قربوه فهو لها صدقة ولنا هدية) ، أي هو عليها صدقة لكونها تستحق الصدقة، ولكن الصدقة قد بلغت محلها فكأنها أهدته إليه، فأكل منه عليه الصلاة والسلام.
فمعروف أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يأكل الصدقة بل يأنف منها ويقول: (إن الصدقة لا تحل لبني هاشم، وإنما هي أوساخ الناس) ، سواء كانت صدقة فرض كالزكوات أو صدقة تطوع، بل كان لا يأكل منها أحد من بني هاشم ولا من أقاربه، ولكنه كان يقبل الهدية، فهذا اللحم هدية أهدي إليه صلى الله عليه وسلم، كأنها لما تصدق به عليها لم تكن تأكل ذلك اللحم كله، فأعطته لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقبله وصار هدية فأكل منه.
السنة الثالثة: أن الولاء لمن أعتق؛ فهذه ثلاث سنن في هذه المملوكة التي تحررت وأصبحت مولاة لـ عائشة.
وبكل حال الشاهد: أن الولاء الذي هو قرابة سببه نعمة المعتق على عبده بالعتق، فإنه يرثه هو أو عصبته الذين هم الرجال دون النساء، فإذا مات العتيق ولم يكن له أقارب ورثه المعتق، فإذا لم يكن هناك معتق، ورثه أولاد المعتق أو إخوة المعتق أو أقارب المعتق ويكونون أحق به؛ لكونه منسوباً إليهم، وهكذا مثلاً لو انقطع نسب المعتق، المعتق الذي من بالعتق، وليس له وارث إلا عبده الذي أعتقه فإنه يرثه؛ وذلك لقوة الصلة بينهما، هذا هو القول الراجح الصحيح، وهذا هو مناسبة ذكر الحديث في الفرائض.(59/14)
الأسئلة(59/15)
حقيقة الرافضة وسبب انخداع كثير من الناس بهم
السؤال
يوجد مجموعة من المتكلمين في هذه الأزمنة يقولون: إنه ليس ثمة فروق بيننا وبين الرافضة، وإنما الفرق بيننا وبينهم هو بمقدار شيء ضئيل، وقد انطلى هذا القول على كثير من الناس، ومع أن الذي ندين الله به أن الفرق بيننا وبينهم كما هو الفرق بين الكفر والإسلام، فما هو رأي الشرع في ذلك، وفيما يقوله هؤلاء المتكلمون؟
الجواب
هذا قول خاطئ؛ وذلك لأنهم انخدعوا بالرافضة، انخدعوا بهم لما يرون مثلاً من سلاسة أقوالهم، ومن تحسين أخلاقهم، ومن لين كلامهم، ومن ملاطفتهم لغيرهم، ومن وفائهم مثلاً بالعهود، ومن إظهارهم للأمانة، ومن إظهار نصحهم للولاة ونحو ذلك.
وكذلك من حسن معاملتهم في البيع والشراء، وإظهارهم للأمانة فيما ائتمنوا عليه ونحو ذلك، فيقولون: هذه الأخلاق لا يمكن أن يتحلى بها الكفار، فدل على أنهم مسلمون.
نقول: هذه الأخلاق قد يتحلى بها الكفار، فالكفار قبل الإسلام فيهم من هم أهل صدق وأهل كرم وأهل وفاء وأهل عهود وأهل أمانة وأهل سخاء، فلا يستبعد أن يتخلق الرافضة بهذه الأخلاق، وقصدهم من التخلق بها أن يستميلوا أكثر الناس، وأن يخدعوا أغلب الناس بأن يقولوا: نحن نتحلى بأخلاق المسلمين ونحن نتأدب بآداب القرآن، ونحن نعمل بتعاليم الدين فنحن من أهل هذا الدين، هذا هو ما يظهرونه.
ومعلوم أنهم يظهرون لأغلب الناس أنهم معهم، وأنهم ينطقون بلا إله إلا الله، محمد رسول الله، وأنهم قد يصلون معهم إذا اضطروا إلى ذلك، وأنهم يسمعونهم قراءة القرآن وما أشبه ذلك؛ فهم يخدعون كثيراً من الناس، مع أنهم في الحقيقة منافقون.
ومعلوم أن المنافقين الذين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يغزون مع المسلمين، ويتصدقون مع المسلمين، ويصلون معهم في مسجدهم، ولكن كما قال الله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] ، فهذا معتقد الرافضة في هذه الأزمنة، كانوا قبل ثلاثين سنة أو نحوها أذلة، فلم يكونوا يظهرون شيئاً من معتقداتهم، ولكن نشطوا في الأزمنة المتأخرة فأظهروا شيئاً من معتقداتهم، والآن قد بنوا لهم مساجد خاصة يسمون الواحد حسينية، وصاروا يتعبدون فيها، وإذا دخل معهم أهل السنة يصلون فيها أخرجوهم وقالوا: هذا مسجدنا، ولا يخالطون المسلمين في مساجدهم، بل لا يعترفون بإمام من أهل السنة ولا يستبيحون أن يصلوا خلف واحد منا، ويعتقدون أن الصلاة لا تصح إلا خلف من هو معصوم، فأئمتنا وخطباؤنا وعلماؤنا عندهم لا تصح الصلاة خلفهم؛ لأنهم ليسوا من المعصومين، فهم يكفرون من ليس على طريقتهم، هذا مشهور عنهم وأمر ظاهر، ودليل ذلك أنهم حتى في غير بلادهم التي هي في الأصل الأحساء وفي القطيف، لكن الآن تمكنوا في أماكن كثيرة في الدمام وفي الخبر، بل وتمكنوا كذلك في الرياض وفي الحجاز ونحوها.
فلا جرم في أنهم صاروا يداهنون أحياناً، ولكن الغالب أنهم يظهرون ما هم عليه، فتجدهم لا يصلون في مساجد المسلمين في تلك البلاد.
على كل حال الفرق ظاهر، هذا من حيث الظاهر، أما الباطن فأمره أجل وأجل؛ وذلك لأنهم يعتقدون كفر أهل السنة، بل يتمنون أن يتمكنوا من كل سني فيقضون على حياته، وكذلك حقدهم على الصحابة وبغضهم لكل الصحابة ونيلهم منهم، وتمنيهم أن يتمكنوا من لعنهم وشتمهم علناً، وقد ذكر لنا بعض الإخوان أنهم في يوم عاشوراء هذه السنة أعلنوا بدعتهم، وصاروا يصفقون في الأسواق بشتم الصحابة وبلعن وسب أبي بكر وعمر، وأكثر الصحابة الذين خانوا في زعمهم، وأخذوا الولاية من صاحبها، أعلنوا ذلك في هذه السنة، وإن كانوا من قبل في السنوات الماضية يتسترون.
فعلى هذا لا شك أن الفرق كبير بيننا وبينهم، وقد ذكرنا أن المسائل التي يُكفّرون بها ثلاث: أولاً: طعنهم في السنة، وذلك أنهم إذا طعنوا في الصحابة فالسنة كلها مكذوبة ولو كانت في الصحيحين، لأنهم هم الذين نقلوها لنا.
ثانياً: طعنهم في القرآن، إذا كان الصحابة كفرةً فالقرآن الذي نقلوه لنا مطعونٌ فيه.
ثالثاً: غلوهم في علي حتى جعلوه مع الله إلهاً يملك الضر والنفع، وصاروا يدعونه ويدعون أولاده ويعبدونهم من دون الله.(59/16)
حكم توريث العلمانيين والحداثيين مع المسلمين
السؤال
هناك طوائف ظهرت في هذا الزمان ليست يهوداً ولا نصارى، ولكنهم علمانيون وحداثيون، فهل يورثون إذا توفي قريب لهم؟
الجواب
لا بد أن نبحث عن معتقدهم، وأن نتحقق من عملهم أنهم على معتقد مكفّر، فمثلاً عقيدة من يسمون بالبعثيين عقيدة سيئة تئول إلى الكفر، وهي التي يعتقدها ويعتنقها حاكم العراق وغيره، لاشك أنها مكفرة ولا نطيل في شرح معتقدهم.
كذلك أيضاً العلمانيون عقيدتهم أن الدين اختياري، وأن الإنسان مخير له أن يختار ما يشاء، وما يقدر عليه من أمور الدين والدنيا، ولا حرج عليه إذا ترك عبادة وفريضة وركناً من أركان الإسلام ونحو ذلك، وأن الدين ليس له علاقة بالدنيا، فمثل هذا إذا كان يعتقد اعتقاداً جازماً وصرح بذلك حكم بكفره، ولن يرث من أهله المسلمين، أما إذا كان يتهم بذلك لمجرد عمل فقد لا يكون ذلك العمل صادراً عن عقيدة، وإنما هو عن تأويل، أو عن تساهل وتكاسل.(59/17)
مدة صناعة الجيران الطعام لأهل الميت
السؤال
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد أتاهم ما يشغلهم) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، السؤال: كم عدد الأيام التي يصنع لأهل المصاب الطعام، حيث جرت العادة بثلاثة أيام، والبعض يرى يوماً، بل وقال آخرون: الحديث مطلق ولم يقيد عدد الأيام، فما رأي فضيلتكم؟
الجواب
ذكر الفقهاء أنه لا يتجاوز ثلاثة أيام؛ لأن الغالب أن الحزن يكون في هذه الأيام وأن أهل المصاب يبقى معهم الحزن والأسف على ميتهم وحر المصيبة ثلاثة أيام، وبعدها يتسلون ويخف أثر المصيبة، ففي هذه الثلاثة لا بأس أن يصنع لهم جيرانهم أو أصدقاؤهم طعاماً، حيث إنهم فيها مشغولون رجالاً ونساء عن الاهتمام بإصلاح الطعام، فلا مانع من ثلاثة أيام، أما بعدها فيتوقف.(59/18)
حكم التسمية للوضوء داخل الحمامات
السؤال
تكون المغسلة في بعض المنازل داخل الحمام -أكرمكم الله- فكيف تكون التسمية لمن أراد الوضوء؟ وهل تكون سراً، أرجو التوضيح جزاكم الله خيراً؟
الجواب
ورد في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) ومحل التسمية عندما يريد أن يغسل وجهه، يقول: باسم الله، لكن المعلوم أنه لا يجوز رفع الصوت باسم الله في ما يسمى بالمراحيض التي هي أماكن قضاء الحاجة، والتي هي أماكن النجاسات، فتنزه أسماء الله أن تذكر في تلك الأماكن المستقذرة، ولو كانت في هذه الأزمنة مبلطة ونظيفة، لكن لما كانت محلاً لإلقاء النجاسات نزّه اسم الله عن ذكره فيها.
إذاً بعض المشايخ يقولون: يكتفي بالتسمية عند الدخول، عندما يريد أن يقدم رجله اليسرى داخلاً يقول: (باسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث، ومن الرجس النجس الشيطان الرجيم) كما ورد ذلك في بعض الأحاديث، فتكفيه هذه التسمية.
وبعضهم يقول: لا تكفيه، ولكن يسمي بقلبه، إذا أراد أن يتمضمض ويستنشق ويغسل وجهه سمى، ولكن لا يجهر بل بقلبه أو سراً.
وبعضهم يقول: بل إذا استنجى وستر عورته وابتدأ الوضوء، فإنه لا بأس أن يسمي؛ وذلك لأنه مأمور بأن يذكر اسم الله في هذه الحال، ولقول عائشة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه) .
والمختار أن يستنجي في محل قضاء الحاجة ثم يخرج إلى المغسلة خارجة ويكمل وضوءه ويسمي، هذا هو الأحسن.(59/19)
حكم من أحيا أرضاً دون إذن من الدولة
السؤال
لدي أرض وأحييتها بإجراء الماء فيها، وحفرت فيها بئراً وأخرجت منه الماء، فهل يكون لي فيها حق شرعاً، مع العلم أن إحياء الأراضي في هذا الوقت ممنوع وموقف من قبل الدولة، أرجو الإفادة عن هذا الأمر وفقكم الله؟
الجواب
من العلماء من اشترط إذن الإمام في الإحياء، فقال: إن الإحياء لا بد أن يكون مأذوناً فيه من الدولة أو من رئيس الدولة؛ وذلك سداً للنزاعات وردعاً عن الخصومات، فعلى هذا لا يحصل الإحياء إلا بإذن من الدولة، وهذا هو الذي اصطلحوا عليه في هذه الدولة.
ومن العلماء من يقول: إنه يملكها بالإحياء مطلقاً، والدولة لا تمنع من ذلك إذا لم يكن هناك من ينازعه، ولم يكن فيها خصومة ولا حق لأحد يكون قد سبقه إليها؛ فإنه أحق بها؛ لعموم الأدلة (من أحيا أرضاً ميتة فهي له) .(59/20)
صفة من يدفع الله بهم البلاء عن الأمة
السؤال
سمعت طلبة العلم يقولون: إن العلماء هم الذين عصموا الناس من الهلكة، أو كانوا سبباً لعصمة الناس من الهلكة، فهل هذا صحيح؟
الجواب
ليس بصحيح مطلقاً، بل الذين يدفع الله بهم العذاب هم العباد، وكذلك الضعفاء ونحوهم، ورد في حديث مرفوع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لولا شيوخ ركع وبهائم رتع وأطفال رضع، لصب البلاء عليكم صباً) ، فجعل من جملة الذين يدفع الله بهم البلاء: الشيوخ الركع، والمراد بالشيوخ: المسنون، يعني: كبار السن الذين اشتغلوا بالعبادة، وأجل العبادة الصلاة التي يركعون فيها ويسجدون، فهؤلاء يدفع الله بهم البلاء، فلو لم يكن الشيوخ الركع والأطفال الرضع والبهم الرتع لصب من فوقنا العذاب صباً.
فنحن نقول: على المسلمين جميعاً أن يتقوا الله وأن يعبدوه وأن يخافوه وأن يشتغلوا بطاعته سبحانه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(59/21)
شرح عمدة الأحكام [60]
ركب الله تعالى في النوع الإنساني غريزة النكاح لتكون سبباً في التناسل وبقاء جنس الإنسان، ولكن هذه الغريزة قد تكون سبباً لاختلاط الأنساب وضياعها إن ترك لها العنان، فجاء الشرع الحكيم لينظم هذه الغريزة بعلاقة شرعية لها ضوابط وشروط تحقق حاجة الإنسان ومقصد الشرع من بقاء التناسل في بني آدم استمراراً للخلافة في الأرض.(60/1)
مشروعية النكاح والحث عليه
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [كتاب النكاح: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء) .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر؟ فقال بعضهم: لا أتزوج النساء.
وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش.
فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ما بال أقوام قالوا كذا وكذا؟ لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) .
التبتل: ترك النكاح، ومنه قيل لمريم: البتول.
] .
تتعلق هذه الأحاديث بالترغيب في النكاح وبأفضليته، وسبب ذلك معروف: أولاً: الله سبحانه وتعالى جعل في البشر شهوة وميلاً إلى هذا النكاح، وجعل ذلك سبباً لبقاء النوع البشري والجنس الإنساني، فجعل في الرجل شهوة تدفعه إلى المرأة، وجعل في المرأة أيضاً شهوة تدفعها إلى الرجل، وجعل بين الزوجين مودةً ورحمة، كما أخبر بذلك في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21] .
وكثيراً ما يخبر الله تعالى بأنه خلق الأزواج لنسكن إليها، فأول ما خلق الله حواء لآدم قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1] ، خلق الله زوج آدم من ضلع من أضلاعه ليسكن إليها، فلما وجد منها الأولاد بعد ذلك صاروا يتوالدون فيما بينهم، ثم بعد أن حصلت منهم هذه الولادة حرم نكاح الأخ لأخته بعد أولاد آدم، وأصبح النكاح فيما بينهم مشروعاً، فهذه سنة الله تعالى.
ولا شك -أيضاً- أن الزواج قد يكون ضرورياً وواجباً، وذكر العلماء أن الزواج قد تتعلق به أكثر الأحكام، فيجب تارةً، ويسن تارةً، ويكره تارة، ويحرم تارة، فيقولون: إذا كان الإنسان قوي الشهوة يخشى على نفسه أن يقع في الفاحشة ويقدر على مئونة النكاح فإنه يجب عليه، فإذا لم يفعل فإنه يأثم، وذلك لأنه ترك واجباً، ولأنه إذا لم يفعل فلا بد أن يقع منه الحرام الذي هو الزنا أو مقدمات الزنا، والشيء الذي يوقع في الحرام يجب أن يبتعد عنه.
فمن خاف على نفسه الزنا وكان قادراً قلنا: واجب عليك أن تتزوج، أما من لم يخف على نفسه ولكن عنده قوة وشهوة، وهو مع ذلك يملك نفسه ويقدر على إقناعها فهذا مستحب في حقه، ولكن لا يصل إلى حد الوجوب.
فالحديث الأول قوله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصيام؛ فإنه له وجاء) .
فالنداء هنا للشباب، وخصهم لأنهم غالباً أقوى شهوة، ولأن غريزة الشهوة الجنسية فيهم تدفعهم إلى فعل الفاحشة أو إلى مقدماتها، ولأنهم أقل تجربة أو أقل معرفة أو أقل تأثراً، فلأجل ذلك يؤكد على الشباب يؤكد عليهم في الزواج المبكر ويرغبهم فيه.
والشباب يكون ما بين العاشرة إلى الثلاثين سنة، أما ما قبل العاشرة فإنه صبي أو غلام، فإذا بلغ العاشرة سمي شاباً حتى سن الثلاثين، ثم من بعدها يصير كهلاً إلى الستين، ثم يبدأ بالشيخوخة بعد الستين.
ومعلوم أن هذه السن التي بين البلوغ وبين الثلاثين سنة أن الشاب فيها عنده قوة الشهوة وقوة الغلمة والشبق الذي يكون غالباً يدفعه ويندفع به، فلأجل ذلك يؤكد عليه أن يتزوج في هذه السن حتى يحفظ نفسه.
والباءة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم هي مئونة النكاح، وليست الباءة الشهوة؛ لأنه لو لم يكن له شهوة لم يحتج إلى ما يهونها أو يخففها، بل الباءة هي مئونة النكاح، يعني: من استطاع منكم مئونة النكاح كالمهر والنفقة والسكنى والحاجات التي يتطلبها إذا كان متزوجاً وما أشبه ذلك.
فهذه تسمى (باءة) من المباءة التي هي التبوء، يقال: تبوء منزلاً مباءة.
وباء بكذا بمعنى: حصل عليه.
بمعنى أن من قدر منكم على المهر وعلى التكلفة وعلى النفقة وعلى التأثيث وعلى السكنى فإن عليه أن لا يتأخر عن الزواج، سواء أكانت قدرته من نفسه أم من ولي أمره الذي يتولى أمره كأبيه أو وصيه أو نحو ذلك، فليبادر بالزواج.(60/2)
فوائد النكاح
ثم ذكر فائدتين للنكاح: الأولى: غض البصر.
والثانية: تحصين الفرج.
وغض البصر يعني خفضه عن النظر إلى النساء، وذلك لأنه إذا كان متزوجاً فإنه في الأصل يقتصر على النكاح الحلال، يقتصر على زوجته ولا ينظر إلى غيرها، وأما إذا لم يكن كذلك فإنه في الغالب يهوى أن ينظر ويقلب نظره، ومعلوم أن تقليب النظر في النساء يورث الفتنه، فكم نظرة أورثت حسرة، فلأجل ذلك أمر الله بغض البصر، قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30] .
فالزواج سبب في غض البصر، فالمرأة تغض بصرها فلا تنظر إلا إلى زوجها، والرجل يغض بصره لا ينظر إلا إلى زوجته، فيحصل بذلك مصلحة للطرفين، وأما مع عدمه فإن النظر قد يجره إلى ما وراءه، ولأجل ذلك ورد في الحديث: (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس) ، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فقال: (اصرف بصرك) يعني: إذا نظرت نظر فجأة من دون قصد فلا تتمادى بل اصرف بصرك، وقال في حديث آخر: (يا علي! لا تتبع النظرة النظرة؛ فإن لك الأولى وليست لك الآخرة) .
وقد تكاثرت الأدلة في أن النظر يسبب الوقوع في الفاحشة أو في مقدماتها، كما قال بعضهم: نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء يعني أن أولها نظرة، ثم بعد النظرة تكون هناك ابتسامة بين الناظر والمنظور، أي: بين الرجل والمرأة، ثم بعد ذلك يأتي بسلام، ثم يعقب السلامَ كلامٌ، ثم بعد ذلك يكون هناك موعد يتفقان عليه، ثم يحصل اللقاء الذي لا تحمد عاقبته.
ولا شك أن هذا مبدؤه من النظر، ولذلك يقول بعضهم: كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر فلا شك أن الكثير من الناس قد يطلقون أبصارهم وينظرون إلى النساء وإن كانوا متزوجين، ولكن لا يفكرون في العاقبة السيئة التي تورثها تلك النظرة، وذلك لأن الذي ينظر إلى النساء ويقلب أحداقه نحوهن ليس قادراً على أن يشبع نهمته، وليس قادراً أيضاً على أن يحصل على كل من نظر إليها من النساء، فإذاً الأولى أن يغض بصره كما أمره الله بقوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] .
وقد قال بعضهم: وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً عذبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر فهل تقدر على أن تتصل بكل من رأيتها من النساء، إذا رأيت هذه فأعجبتك ثم هذه ثم هذه فرأيت عشراً أو عشرين هل تستطيع أن تأتيهن كلهن وأن تتحصل عليهن كلهن بالطريق الحرام؟! لا تستطيع، إذاً فما عليك إلا أن تغض بصرك وأن لا تنظر إلا إلى ما أباح الله لك.
فقوله عليه الصلاة السلام: (فإنه أغض للبصر) فيه الحث على غض البصر.
الفائدة الثانية: تحصين الفرج، ومعناه: حفظه عن فعل الفاحشة التي هي الزنا ونحوه.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (وأحصن للفرج) فيه حث أيضاً على حفظ الفرج عن الحرام.
التحصين أصله: الحفظ، ومنه قوله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [التحريم:12] يعني: حفظته.
ومنه سميت المحصنات في قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:24] وقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة:5] أي: المحصنات اللاتي أحصن أنفسهن وحفظن فروجهن.
فلا شك أن الإنسان المؤمن إذا رزقه الله امرأة حلالاً اقتصر عليها وحفظ فرجه ولم يتعد إلى غيرها وكان معه إيمان يمنعه، أما إذا كان ضعيف الإيمان فإنه قد لا يقنع بما أباح الله له، ويشاهد في هذه الأزمنة كثير من الناس -والعياذ بالله- يكون عند أحدهم زوجة حلال ولكنه لا يقنع بزوجته، فتراه يذهب إلى الأسواق ومجتمعات النساء ويعاكس هذه ويغازل هذه ويتكلم مع تلك.
وتراه أيضاً يتصل هاتفياً بفلانة وبابنة فلان ويعقد معها موعداً، يتصل بها اتصالاً محرماً والعياذ بالله، فلم يقنع بما أباحه الله له لأنه لم يكن معه حاجز إيماني، لم يكن معه تحصين إيماني، فالتحصين الإيماني هو الذي يحفظ الإنسان ويمنعه من اقتراف الحرام، لكن إذا كان شاباً ولم يكن معه زوجة فقد يكون عذره أخف إذا أطلق بصره أو نظره وإن كان ملوماً، لكن إذا رزقه الله إيماناً ورزقه نكاحاً حلالاً حصن فرجه وحفظه ولم يطلق بصره إلى ما حرم الله عليه.
فهذا بلا شك دليل على أنه صلى الله عليه وسلم رفيق بأمته، فلما علم أن الشباب هم أقوى شهوة وميلاً إلى النكاح حثهم عليه ورغبهم فيه، ونحن كذلك نحث شباب المسلمين على أن يبادروا بالزواج وأن لا يؤخروه، نحثهم كما حثهم النبي صلى الله عليه وسلم، ونقول لهم: تزوجوا بحسب قدرتكم.
ونقول أيضاً للأولياء: لا تحبسوا النساء ولا تؤخروهن، فإذا بلغن النكاح وأتاكم من هو كفءٌ كريم فلا تردوه فتحصل المفسدة، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض) ، فهو عليه الصلاة والسلام حذر من رده إذا كان كفئاً مخافة أن تتعطل النساء إذا رد هذا الكفء، وكذلك يتعطل هذا الكفء، ويتعطل الشباب إذا رد هؤلاء وأولئك، فتحصل مفسدة عظيمة وهي انتشار الفاحشة أو مقدمات الفاحشة.(60/3)
أعذار الشباب والفتيات في التأخر عن الزواج بين القبول والرد
في هذه الأزمنة يكثر تعلل كثير من الشباب إذا عذلهم عاذل عن التأخر في الزواج، فمنهم من يعتذر بالحاجة وبالفقر، وأنه لا يجد مئونة، وهو معذور بقوله: (من استطاع منكم الباءة) ، ولكن نقول له: ابذل السبب وتزوج، والله تعالى يرزق من يشاء بغير حساب، قال الله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] أي: لا تردوه وتقولوا: هذا فقير.
أو: ابن فقير أو ليس له وظيفة.
أو: ليس له عمل.
أو: ليس عنده تجارة أو نحو ذلك.
بل ثقوا بأن الله تعالى سيرزقه وسيوسع عليه كما وعد بذلك، وهو سبحانه لا يخلف الميعاد.
وقد شاهدنا كثيراً كانوا فقراء، ولما تزوجوا ورزقوا أولاداً جاءهم الرزق من كل جهة، يسر الله لهم أسبابه، وحصل لهم الرزق الذي يقوم بكفايتهم، وقد نهى الله تعالى عن قتل الأولاد خشية الفقر، فقال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:31] ، فتكفل برزق الأولاد وبرزق الآباء، وهو لا يخلف ما وعده سبحانه، ولكن على الإنسان أن يبذل السبب.
وكذلك الذين يؤخرون الزواج بسبب الحصول على مؤهل كما يقولون، ويقولون: إن الزواج قد يمنع من مواصلة الدراسة أو نحو ذلك فالجواب أن هذا ليس بصحيح، بل في إمكانه أن يدرس ويواصل الدراسة ولو كان متزوجاً، وإذا احتاج مثلاً فله أن يعمل، فإن ذلك أيضاً يخفف عنه مئونة النكاح ونحوه.
وكذلك أيضاً لو تزوج وليس له وظيفة، فالله تعالى ييسر له أسباب الرزق، وهذا بالنسبة إلى الشباب والأزواج.
أما بالنسبة إلى أولياء النساء فلا شك أن كثيراً من النساء الشابات تمتنع من الزواج بسبب الدراسة كما تزعم، وتدعي أنها إذا تزوجت حرمت من مواصلة الدراسة، وتعد ذلك فضيلة لها وشرفاً، فتترك الزواج من الأكفياء الكرام الذين يتقدمون لها ولا تقبلهم، وتقبل على دراستها، وبعد ما تنتهي من الدراسة لا يتقدم لها من هو كفء كريم، وقد تطعن في السن فتبقى محبوسة في دارها لا يأتيها من ترغب فيه ونحو ذلك.
فنقول: لا شك أن هذا خطأ، وأن الأولى بالولي أن يزوج موليته، وأن يمنعها من الدراسة التي تكون سبباً في عنوستها وتأخر زواجها التأخر الكثير.
كذلك أيضاً قد يكون الذي يمنع من النكاح للرجل أو للولي هو المهر؛ لأن كثيراً من الآباء يشترطون مهوراً زائدة، ويكلفون الأزواج شيئاً قد لا يطيقونه، وهذا أيضاً خطأ، فعلى الأولياء أن لا يكلفوا الأزواج ما لا يطيقونه، وأن يقتصروا على ما يسر الله، وأن يقنعوا بالشيء الذي يكون مسمى في النكاح كما سيأتي، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (خير النساء أيسرهن مئونة) يعني: أيسرهن تكلفه.
فرغب في أن لا يتكلف الإنسان في النكاح، وروي أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم جاءه رجل وقد تزوج فطلب منه الإعانة فقال: (على كم تزوجت؟ فقال: باثني عشر أوقية.
فأنكر عليه وقال: كأنما تنحتون الفضة من هذا الجبل! ليس عندي ما أعينك به) واثنا عشر أوقية شيء قليل، قد تساوي -مثلاً- خمسمائة درهم أو نحوها، فهذا شيء يسير.
وثبت أيضاً أن امرأة تزوجت على نعلين، دفع لها زوجها نعلين فرضيت بذلك، وقيل لها: رضيت من نفسكِ بنعلين؟ فقالت: نعم.
وثبت أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام قال لرجل لما خطب امرأة: (التمس ولو خاتماً من حديد) يعني: لو وجده لجعله مهراً لتلك المرأة.
ولما لم يكن عنده شيء قال: هذا إزاري.
لم يكن عنده إلا إزار قد شد به على عورته، وأراد أن تجعله مهراً، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل ذلك منه وقال: (ما تصنع بإزارك إن لبسته أنت لم يكن عليها شيء، وإن لبسته هي لم يكن منه عليك شيء) ، وأمره بأن يعلمها آيات من القرآن ليكون ذلك صداقاً لها.
أليس ذلك كله حثاً على أن الإنسان يخفف المهر حتى لا يكلف غيره ولا يقتدي به غيره، وأن الأولياء عليهم أن يخففوا ذلك حتى ييسروا على الشباب، وييسروا على الشابات ولا يصيروا سبباً في حبس بعضهم عن بعض، ويكونوا سبباً في وقوع ما يحصل من المفاسد.(60/4)
ما تندفع به الشهوة لغير القادر على الزواج
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء) حث صلى الله عليه وسلم على ما يخفف الشهوة، فأمره بأن يصوم حتى يكون الصوم مخففاً للشهوة، والوجاء في الأصل: هو قطع عروق الخصيتين حتى تخف الشهوة.
فكانوا إذا أرادوا أن يخففوا من الكبش حتى لا ينزو على الضأن ونحوها قطعوا عروق خصيتيه حتى تبرد شهوته أو تقل، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصوم كأنه وجاء وخصاء، وهو قطع عروق الخصيتين من الكبش أو التيس ونحوه، أي أن الصوم يخفف الشهوة كما أن الوجاء يخفف الشهوة.
وقد ذكر لنا كثير من الشباب أنهم يكثرون الصوم ومع ذلك لم يجدوا خفة في الشهوة، بل الشهوة لا تزال عندهم قوية، والغلمة والشبق دافع قوي، ويقول أحدهم: إنه يضطر إلى الاستمناء -وهو عمل العادة السرية- حتى لا تدفعه الشهوة إلى فعل جريمة الزنا أو نحوها، ويقول: ما وجدت للصيام أثراً لتخفيف الشهوة.
نقول: سبب ذلك أولاً: قوة الشهوة في بعض الشباب، حيث تكون الشهوة عندهم قوية جداً.
ثانياً: أن هناك مقويات لها، فلا شك أن كثرة المآكل وتنوع الأطعمة وكثرة اللحوم وأكل الفواكه وما أشبهها مما يقوي الشهوة، وكان الصوم في القديم مختلفاً عن وقتنا، كان الصائم إنما يجد العلقة من الطعام، فيأكل في وقت السحر لقيمات أو تمرات قليلة، ثم هو في وسط النهار يشتغل إما في حرفته أو مع غنمه أو نحو ذلك، ثم إذا جاء الإفطار لم يجد إلا تمرات أو ماءً أو نحو ذلك، وعند العشاء إنما يأكل رغيفاً أو نصف رغيف فيكون هذا الجوع هو الذي يكسر حدة الشهوة.
فنقول: الذي يريد أن تنكسر حدة الشهوة عليه أن يقلل من الأكل عند الإفطار وفي السحور وفي الليل، وأن يتجنب المشتهيات وكثرة الفواكه واللحوم المتنوعة وأنواع المأكولات الشهية، فإنها لاشك تقوي هذه الشهوة وتمكنها، فلا يخففها الصيام الذي لا يحصل معه هذا الجوع ولا هذا التعب ولا هذه المشقه.
وعلى كل حال فهو إرشاد من النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يخفف الشهوة، إلى أن يتمكن الإنسان من النكاح الذي يعف به نفسه، فعلينا أن نحرص على أن نعف شبابنا وفتياتنا، وأن نجمع بينهم بالأسباب التي تكون ميسرة، وأن نحرص على ذلك حتى لا تحصل هذه الجريمة التي هي فاحشة الزنا، وحتى يجد الشباب ما يعفون به أنفسهم ويسلمون من العادة السرية أو نحوها، وحتى يحصل ما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إليه بقوله: (فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة) أي: من أجل تكثير النسل في الأمة التي هي أمة المسلمين، الذين يباهي بهم النبي صلى الله عليه وسلم الأمم يوم القيامة.(60/5)
فضل النكاح وأهميته
[عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء.
وقال بعضهم: لا آكل اللحم.
وقال بعضهم: لا أنام على فراش.
فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فحمد الله وأثنى عليه وقال: ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) .
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل، ولوا أذن له لاختصينا) .(60/6)
حكم الزهد في النكاح وغيره من الطيبات
هذان الحديثان في مناسبة فضل النكاح الذي هو من سنن المرسلين، وقد تضمن الحديث الأول أن هؤلاء الثلاثة من زهاد الصحابة أتوا إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته في السر، أي: عن صلاته وعن صيامه وعن ذكره وعن قراءته وعن أدعيته وعن أعماله.
فكأنهم تقالوا تلك العبادة، وقالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ونحن بحاجة إلى أن نعمل أكثر منه؟! فلأجل ذلك التزموا بهذه الأعمال.
التزموا بأعمال يريدون بها الأجر والثواب وكثرة الجزاء عليها، فالتزم أحدهم بأن يصوم أبداً ولا يفطر، وهذا بغير شك فيه كلفة ومشقة على نفسه، والتزم الثاني بأن يقوم الليل كله ولا ينام ولا يضطجع طوال الليل، بل يبيت مصلياً، والتزم الثالث بأن لا يتزوج النساء، بأن يعف عن النساء زهداً وتقشفاً.
وفي بعض الروايات أن بعضهم قال: (لا آكل اللحم) تقشفاً وزهداً في الدنيا وتركاً لملذاتها، وبعضهم حرم على نفسه أن لا ينام على فراش، وهذا من باب البعد عن الملذات وعن الشهوات ونحوها.
ولا شك أن قصد أولئك النفر الثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم هو كثرة الأجر وزيادة الثواب، فالذي التزم أن يصوم أبداً رأى أن الصيام دائماً عمل صالح مبرور، فأراد أن يحظى بأجر هذا الصيام المستمر، ولكن بين النبي صلى الله عليه وسلم أن في ذلك مشقة على النفس، وأن فيه تحريماً للمباحات ونحوها، وكذلك الذي التزم أن لا ينام بل يصلي الليل كله، أو إذا نام لا ينام على فراش لاشك أنه قد يشق على نفسه وقد يتعبها ويكلفها ما لا تطيق، فلأجل ذلك أرشده النبي صلى الله عليه وسلم وأرشد غيره إلى أن هذا فيه تكليف للنفس وإضرار بها ومشقة شديدة عليها.
وكذلك الذي حرم اللحم على نفسه أو الخبز وغيرهما من الأطعمة المباحة التي جعلها الله قوتاً ضرورياً للمسلمين، بل لجنس بني آدم، لاشك أن تحريمه تحريم للطيبات التي قال الله فيها: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة:4] ، فإذا كان الله قد أحل الطيبات ومن جملتها اللحوم، وأخبر بأنه لم يحرم الزينة ولم يحرم الطيبات فقال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف:32] أي: الطيبات التي أنزلها والتي أباحها لعباده.
فمن حرم الطيبات من الأرزاق ومن المآكل والمشارب ونحوها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنهم قد حرموا ما أحل الله.
وكذلك الذي حرم على نفسه النكاح أن لا يتزوج، فلا شك أنه إذا ترك الزواج من باب التقشف ومن باب الزهد فإنه يكون قد كلف نفسه، وما ذاك إلا أن الله تعالى ركب في جنس الإنسان هذه الشهوة التي تدفعهم إلى النكاح، وجعل ذلك سبباً لوجود جنس الإنسان وبقاء هذا النوع البشري، فالذي يمتنع من النكاح لا شك أنه يكلف نفسه ويشق عليها، حيث قد تتكلف النفس بالتصبر على رد هذه الشهوة الجنسية التي فطر الناس عليها، إذاً فتحريم النكاح وتحريم التزوج بالنساء لا شك أنه إضرار بالنفس، وكذلك مخالفة لشريعة الله سبحانه ولما أباحه.
وهناك بعض الأدلة على فضل النكاح، وكذلك أيضاً الأوامر والأدلة عليه، كقوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3] ، وقوله: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور:32] وقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:24] ، وقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} [المائدة:5] وقوله تعالى: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء:25] ، ونحو ذلك، كل ذلك دليل على أن الله تعالى أباح هذا الأمر وجعله فطرة وجعله من الدوافع إلى بقاء هذا الجنس البشري.
هؤلاء الثلاثة الذين حرموا هذه الأشياء لما سمع عنهم النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس وقال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا.
ثم قال: لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني) .
وعيد شديد (من رغب عن سنتي) أي: من زهد عن سنته عليه الصلاة والسلام.
ولا شك أن هذه الأشياء المذكورة في الحديث من سنته، من سنته أنه لا يحب أن يشق على النفس، ومن سنته مشروعية النكاح والزواج وإباحته، ومن سنته إباحة الطيبات من المآكل والمشارب، ومن جملتها اللحوم والخبز والفواكه ونحوها، ومن سنته استحباب النكاح ليعف الإنسان نفسه عن التطلع إلى الحرام ونحوه، ومن سنته أن الإنسان يصوم بحسب ما يستطيعه ولا يكلف نفسه فوق طاقتها، وأن يقوم من الليل بحسب ما يقدر عليه، ولا يكلف نفسه فوق طاقتها.(60/7)
مآل التشديد على النفس بالعبادة
وقد ثبت -أيضاً- في الصحيح قصة أخرى قصة عبد الله بن عمرو بن العاص، وكان في شبابه عابداً مجتهداً في العبادة، حتى كان يختم القرآن في كل ليلة، ويصوم النهار كله ولا يفطر، فلما زوجه أبوه مكث مدة وهو يسأل امرأته يقول: (ما فعل؟ فتقول: نعم الرجل من رجل لم يطأ لنا فراشاً ولم يفتش لنا كنفاً) أي أنه لم يطأها ولم يجامعها ولم يجلس معها ولم ينم معها.
وذلك كله بسبب اشتغاله بالعبادة اشتغاله بالصيام والقيام والاجتهاد في الطاعة حرصاً منه على أن يكون من السابقين في العبادة، ولكن استدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (كيف تصوم؟ فقال: كل يوم.
فقال: إنك لا تطيق، فصم من الشهر ثلاثة أيام وذلك يكفيك؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك كصيام الدهر.
فقال: إني أطيق أفضل من ذلك -يقول عبد الله: شددت فشدد عليّ- فقال: صم يوماً وأفطر يومين.
فقال: إني أطيق أفضل من ذلك.
فقال: صم يوماً وأفطر يوماً، وذلك صيام داود.
يقول عبد الله: فقلت: إني أطيق أفضل من ذلك.
فقال: لا أفضل من ذلك) يقول بعد أن كبر: تمنيت أني قبلت رخصة النبي صلى الله عليه وسلم في صيام ثلاثة أيام، وذلك لأنه بعد ما كبر أحس بالمشقة عليه.
كذلك في القيام أرشده إلى أن يختم كل سبعة أيام، يقرأ سبع القرآن في ليلة، ويختم كل سبعة أيام ولا يزيد، وأن يجعل لأهله حقاً فقال: (إن لنفسك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لربك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه) فقبل ذلك، وعند ذلك خفف على نفسه.
وعلى كل حال فهذا دليل على أنه لا يجوز للإنسان أن يشدد على نفسه بالعبادة، ولا أن يشدد على نفسه بترك الزينة أو ترك الشهوات المباحة، ومن جملة الشهوات المباحة النكاح الذي أباحه الله، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم رغب في النكاح وغيره من المباحات، ونهى عن التشدد فيها.(60/8)
نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التبتل
أما قصة عثمان بن مظعون فـ عثمان رضي الله عنه توفي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من المهاجرين ومن العباد ومن الزهاد، فهو لما هاجر شدد على نفسه وكلفها، واعتزل امرأته وكانت له امرأة جميلة، فبقيت معه مدة طويلة لا يسأل عنها ولا يشتغل إلا بالعبادة، فلما رآها النساء وهي متبذلة غير متجملة لباسها خشن وشعرها شعث سألنها فأخبرتهم بأن زوجها لا حاجة له في النساء، وأنه يريد أن يتبتل، أي: ينقطع إلى العبادة ويترك الشهوات ويترك النساء والتلذذ بهن، وعزم على ذلك.
لما سمع بذلك النبي صلى الله عليه وسلم نهاه عن ذلك ورده عليه، وقال: (لا يحل لك؛ فإن امرأتك لها حق عليك، ونفسك لها حق عليك) ، فليس لك أن تحرم نفسك شهوتها ولذتها، ولا أن تحرم نفسك ما ينتج عن هذا النكاح من إعفاف امرأتك، وكذلك من ذرية صالحة يكونون بعدك يذكرونك بذكر حسن ونحو ذلك.
فعند ذلك رجع إلى امرأته، ولما رجع إليها رجعت إلى جمالها وإلى زينتها، وقد كان بعض من الصحابة أرادوا أن يتبتلوا كما تبتل عثمان، ولو أذن النبي عليه الصلاة والسلام لـ عثمان بن مظعون بالتبتل لكثر المتبتلون من الصحابة، فعلموا -أيضاً- أنهم لا يمكن أن يتركوا الشهوة الجنسية التي هي غريزة في الإنسان إلا إذا قطعوا الجهاز التناسلي الذي هو السبب في هذه الشهوة، وهو معنى قوله: (ولو أذن له لاختصينا) أي: لتبتلنا.
ولا يكون التبتل إلا بالاختصاء، أي: قطع الخصيتين أو قطع عروقهما، وهو الوجاء كما تقدم.
وقد روي أيضاً أن جملة من الصحابة منهم: عثمان بن مظعون وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود وغيرهم أرادوا أن يتبتلوا وأن ينقطعوا عن الدنيا، وهموا بالاختصاء، وهموا بأن يحرموا طيبات الدنيا وملذاتها وشهواتها على أنفسهم، وأن ينقطعوا للعبادة وأن يعزموا عليها، فنزل فيهم قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:87] فعند ذلك رجعوا إلى ما أحل الله لهم، وتمتعوا بالطيبات، ولم تشغلهم تلك الطيبات وتلك المباحات عن العبادة، بل جمعوا بين اللذات المباحة وجمعوا بين العبادة وقاموا بها خير قيام.
وهكذا حال أتباعهم إلى هذا الزمان، يستطيع المسلم أن يجمع بين العبادة التي كلف بها سواء كانت فرضاً أو نفلاً، ويتناول أيضاً ما أبيح له من الشهوات المباحة ومتع هذه الحياة.(60/9)
حكم نكاح أخت الزوجة والربيبة وابنة الأخ من الرضاعة
قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه.
[عن أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنهما أنها قالت: (يا رسول الله! انكح أختي ابنة أبي سفيان.
فقال: أوتحبين ذلك؟ فقلت: نعم.
لست لك بمخلية، وأحب من شاركني في خير أختي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ذلك لا يحل لي.
قالت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة.
قال: بنت أم سلمة؟! قلت: نعم.
قال: إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي؛ إنها لابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضن عليّ بناتكن ولا أخواتكن) .
قال عروة: (وثويبة مولاة أبي لهب، كان أبو لهب أعتقها فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشر حيبة، فقال له: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم خيراً، غير أني سقيت من هذه بعتاقتي ثويبة) .
الحيبة -بكسر الحاء المهملة-: الحال.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يجمع الرجل بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها) ] .
أم حبيبة هي إحدى أمهات المؤمنين بنت أبي سفيان أخت معاوية، كانت من المسلمين الأولين، هاجرت مع المهاجرين إلى الحبشة، وتوفي زوجها هناك وبقيت في الحبشة، فرغب النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها حتى تكون من أمهات المؤمنين، مع أن أباها كان في ذلك الوقت من المحاربين للإسلام، ولكن أراد تثبيتها، وأراد تسليتها فتزوجها، فأرسل من يخطبها له، أرسل عمرو بن أمية الضمري، فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، وأصدقها عنه النجاشي ملك الحبشة أربعمائة دينار، وجاء بها عمرو بن أمية من الحبشة إلى المدينة، حيث لم يكن لها محرم بعد موت زوجها في ذلك الوقت؛ لأن أهلها لم يسلموا ولم يهتموا بأمرها، فاضطر إلى أن يرسل إليها من يأتي بها، فأصبحت من أمهات المؤمنين.
ولما كان الصلح بين المسلمين وبين أهل مكة، ونقض أهل مكة الصلح بقتالهم مع بني بكر لخزاعة، وخافوا أن يكون ذلك نقضاً للعهد والصلح في الحديبية جاء أبو سفيان إلى المدينة، وأراد أن يجدد الصلح ويزيد في المدة، فدخل على ابنته التي هي أم حبيبة، ولما دخل عليها طوت فراش النبي صلى الله عليه وسلم وأجلسته على الأرض، فقال: يا بنية هل رغبت بي عن هذا الفراش، أو رغبت به عني؟ أي: هل أنتِ قد نزهتيني عن هذا الفراش؛ لأنه لا يناسب، أو نزهتيه عني؟ فقالت: (هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت مشرك، فلا أجلسك عليه) فقال: لقد أصابك يا بنية بعدي شر.
ولكن هداه الله بعد ذلك وأسلم في سنة الفتح، ولما أسلم كان لها أخت أيضاً لم تتزوج.
ففي هذا الحديث أنها عرضت عليه أختها وقالت: ألا تتزوج أختي؟ أي: تتزوجها معي.
فسألها: لماذا ترغبين أن أتزوج أختكِ؟ فقالت: (إني لست لك بمخلية وأحب من شاركني في خير أختي) تقول: أنا لم أكن وحدي معك، بل معي شريكات، فهناك زوجاتك قد شاركنني فيك، ويمكن أن يوجد أيضاً زوجات أخرى يشاركنني، فلست بمنفردة بك ولست بمخلية لك، ولست بمخلىً لي، بل لابد من شركاء، فإذا كان لابد هناك من يشاركني فأحب من يشاركني في هذا الخير هي أختي.
هكذا اعتذرت، فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم بأن ذلك لا يحل، كما أن الله حرم الجمع بين الأختين على المؤمنين، فكذلك حرمه على النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى في آية المحرمات: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء:23] .
فلما ذكرت أختها وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يحل له الجمع بين الأختين كما لا يحل لغيره ذكرت أمراً أعجب، وقالت: (فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة.
وأبو سلمة هو من المهاجرين أيضاً، هاجر إلى الحبشة ثم رجع إلى المدينة وتوفي بالمدينة، ولما توفي كان له أطفال، وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم أمهم أم سلمة، وبنته زينب بنت أبي سلمة وأولاد غيرها تربت معهم في حجر النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبيهم، فـ زينب بنت أبي سلمة ربيبة للنبي صلى الله عليه وسلم بنت زوجته وربيبته وفي حجره، فتقول أم حبيبة: (إنك تريد أن تنكحها) فتعجب من ذلك، وأخبر بأنه لا يحل له، حتى ولو لم تكن ربيبة له ولو لم تكن في حجره ولو لم تكن بنت زوجته، فإن هناك مانعاً آخر وهو الرضاعة، يقول: (إنها ابنة أخي من الرضاعة) .
فـ أبو سلمة كان قد أرضعته ثويبة وهي جارية لـ أبي لهب يقول: (أرضعتني وأبا سلمة ثويبة) .
فإذا كانت قد أرضعت أبا سلمة وأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم فقد أصبحا أخوين؛ لأنهما رضعا من امرأة واحدة، وإن لم تكن والدة أحدهما بل امرأة أخرى، فأفاد أن الاثنين إذا ارتضعا من لبن امرأة أجنبية صارا أخوين وصارت المرضعة أماً لهما من الرضاعة، فهذه ثويبة كانت مملوكة لـ أبي لهب، ولما ولد النبي صلى الله عليه وسلم جاءت وبشرته بأنه ولد لأخيك ولد، فأعتقها بهذه البشارة، ولما أعتقها صارت حاضنة للنبي صلى الله عليه وسلم، وصارت مربية له، وأرضعته في سن الرضاعة، وأرضعت معه أيضاً أبا سلمة، وهي من الجواري اللاتي أسلمن في أول الأمر.
وفي هذه القصة أن أبا لهب لما مات رآه بعض أهله بعد موته رأوه في شر حِيبة، أي: في شر حالة، فسألوه، فقال: لم ألق بعدكم خيراً، إلا أني سقيت من هذه بعتاقي لـ ثويبة) وأشار إلى النقرة التي بين الأصبعين فقال: (سقيت من هذه بعتاقي لـ ثويبة؛ لأن الله تعالى ذكر أنه من أهل النار بقوله: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3] .
والحاصل أنه صلى الله عليه وسلم قال لـ أم حبيبة: (لا تعرضن عليّ بناتكن ولا أخواتكن) ؛ فإنهن لا يحل له نكاحهن، فلا تعرضي يا أم حبيبة أختكِ عليّ لكون الجمع بين الأختين محرماً، ولا تعرضي يا أم سلمة ابنتك -مع أن أم سلمة لم تعرض ذلك- فإنها لا تحل لي لكونها ربيبتي وبنت أخي -أيضاً- من الرضاعة، وبهذا يعرف أن المحرمات علينا محرمات على النبي صلى الله عليه وسلم، والمباح لأمته مباح له، ولأجل ذلك قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب:50] ، ثم ذكر منهن فقال: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} [الأحزاب:50] ، فهؤلاء يحل نكاحهن له وكذا لغيره، يحل لك نكاح بنت عمك وبنت عمتك، وبنت خالك وبنت خالتك، فكذلك تحل للنبي صلى الله عليه وسلم، كما تحل لك زوجة أخيك بعد طلاقه وزوجة عمك وزوجة خالك بعد طلاقه لها.
وفي حديث أم حبيبة دليل على أن الرضاع يصير سبباً في التحريم، وأن الجمع بين الأختين لا يجوز.(60/10)
حكم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها
في الحديث الآخر يقول صلى الله عليه وسلم: (لا يجمع الرجل بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها) ، فأفاد بأنه لا يجوز أن يجمع الرجل بينهما، الله تعالى نهى عن الجمع بين الأختين، والنبي صلى الله عليه وسلم أضاف إلى ذلك النهي عن الجمع بين المحارم، بحيث لو كانت إحداهما تحته لم يحل له نكاح الثانية، فلا يجوز أن يجمع بين المرأة وبنت أخيها، إذا كانت عندك امرأة لا يحل لك أن تنكح عمتها، ولا أن تنكح خالتها حتى تطلق زوجتك، ولا أن تنكح بنت أخيها، ولا بنت أختها، ما دامت زوجتك عندك يحرم عليك هؤلاء الأربع.
أما اللاتي يحرمن عليك من أقاربها ويصرن محرماً لك فهن بنتها وأمها، إذا تزوجت امرأة فإن أمها تصير محرماً لك دائماً، وبنتها بالدخول تصير محرماً لك دائماً، وأختها محرمة عليك ما دمت متزوجاً لأختها، وعمتها كذلك محرمة عليك ما دامت بنت أخيها في عصمتك، وخالتها محرمة عليك ما دامت بنت أختها في عصمتك، وكذلك بنت أخيها وبنت أختها، فهؤلاء قريبات زوجتك سبع: أمها حرام عليك أبداً وبنتها كذلك بعد الدخول، أما عمتها وخالتها وبنت أخيها وبنت أختها فهؤلاء يحل لك نكاحهن بعد فراق زوجتك، وأما معها فلا، وأختها نص الله عليها، وعمتها وخالتها وبنت أخيها وبنت أختها نص عليهن النبي صلى الله عليه وسلم، فأصبح قريبات زوجتك الخمس تحريمهن تحريماً مؤقتاً، أما بنتها وأمها فتحريمهما مؤبد.(60/11)
الحكمة من تحريم الجمع بين الأختين والمرأة وعمتها وخالتها
الحكمة في ذلك ما ورد في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم) ، وسبب ذلك معلوم أن الضرتين يصير بينهما منافسة، إذا كان للرجل زوجتان فالغالب أنه يقع بينهما منافسة، كل واحدة قد تحسد الثانية، وقد تضارها، وقد تفتخر عليها ونحو ذلك حتى تسوءها، وذلك لأنها شريكتها في هذا الرجل، فلأجل ذلك سميتا ضرتين.
فإذا كانت الأختان تحت رجل واحد فلابد أن يقع بينهما شيء من هذه المنافسة وشيء من هذا الحسد، فتحصل بذلك قطيعة الرحم، والله تعالى قد رتب على قطيعة الرحم وعيداً شديداً حيث قال: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22-23] .
فلأجل ذلك نقول: إن الحكمة في النهي عن الجمع بين هذه المحارم كونه سبباً لقطيعة الرحم، فالأم والبنت تحريمهما مؤبد، ومعلوم أنه لا يتصور الجمع بين المرأة وأمها أو بنتها، والأخت تحريمها مؤقت منصوص عليه في القرآن، ومعلوم أيضاً أنه سبب للتقاطع بين الأختين، وكذلك إذا تزوج امرأة وعمتها فإنه سيحصل بينها وبين عمتها منافسة، كذلك إذا تزوج امرأة ثم تزوج عليها بنت أخيها، حصل أيضاً بينهما منافسة؛ لأن هذه تقول: هذه بنت أخي، وهذه تقول: هذه عمتي.
فكيف يحصل الوئام والوداد وهما ضرتان تحت رجل واحد؟ لاشك أن هذا سبب للمنافسة وسبب لقطيعة الرحم.
وكذلك إذا تزوج عليها خالتها أو بنت أختها فإنه سيحصل بينهما أيضاً هذه الإثم الذي هو التقاطع، والإسلام جاء بالمودة، وجاء بالمحبة، وجاء بالصلة، ونهى عن كل شيء فيه تقاطع، فهذا هو السبب، فهذا الحكم يختص بالمحارم.(60/12)
حكم الجمع بين المرأة وابنتها وأختها أو عمتها أو خالتها من الرضاعة
ثم إن العلماء ألحقوا بذلك القرابة من الرضاع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) ، فهذه المحرمية من النسب لا شك أن لها تأثيراً، فكذلك يلحق بها المحرمية من الرضاع، فلا يجوز أن يجمع بين المرأة وبنتها من الرضاع، أو أمها من الرضاع، أو أختها من الرضاع، حتى وإن لم يكونا بنتي امرأة واحدة، إذا كان هناك ابنتان إحداهما رضعت من امرأة والثانية رضعت من تلك أيضاً وكلتاهما متباعدتان فإنه لا يحل لك أن تجمع بينهما لكونهما اختين من الرضاع، وكذلك المرأة وعمتها من الرضاع، إذا كانت مثلاً أخت أبيها من الرضاع لم تحل لك أن تنكحها مع زوجتك، وكذلك بنت أخيها من الرضاع، وكذلك خالتها، أو بنت أختها من الرضاع، كل هؤلاء لا يحل الجمع بينهن لهذه الحكمة، وهي قوله: (إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم) .(60/13)
حكم الشروط في عقود النكاح
قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج) .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح الشغار) والشغار: أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته وليس بينهما صداق.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الأهلية) ] .
قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج) المراد: الشروط التي يشترطها أحد الزوجين على الآخر، أو يشترطها الولي على الزوج له فيها مصلحة، فهذه الشروط التزامات يلتزمها الزوج أو تلتزمها الزوجة أو الولي، فيجب الوفاء بها، وإذا لم يوف بها فإن لكل منهما طلب الفسخ ونحوه.(60/14)
أقسام الشروط في النكاح
وقد توسع العلماء في تقسيم الشروط وذكروا ما يجوز منها ومالا يجوز، فذكروا في كتب الفقه باباً بعنوان: باب الشروط في النكاح، وقالوا: إنها إما أن تكون من قبل الزوجة أو من قبل الزوج أو من قبل الولي، أو نحو ذلك.(60/15)
الشروط الشرعية والأحكام المتعلقة بها
لا شك أن هناك شروطاً شرعية لا حاجة إلى ذكرها في العقود، وذلك اكتفاءٌ بما ذكر الله تعالى في كتابه، قال الله تعالى: {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] ، فهذا شرط شرطه الله على الزوج وهو أن يمسك زوجته بمعروف، ولو لم يذكر هذا الشرط عند العقد أو يسرح زوجته بإحسان.
وقال تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة:231] ، وفي آية أخرى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:2] ، فهذا شرط شرعي.
ومن الشروط الشرعية أيضاً قيام الزوج بنفقة زوجته، ولو لم يذكر في العقد، قال تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233] ، فالزوج يقوم بكسوة امرأته وكذلك بنفقتها.
ومن الشروط أيضاً السكنى، قال تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق:6] ، فهذه لاشك أنها شروط شرطها الله تعالى.
ومن الشروط أيضاً العشرة الطيبة، قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] والعلماء جعلوا باباً في كتاب النكاح بعنوان (باب العشرة بين الزوجين) ، أو (باب عشرة الزوجين) ، وقالوا: إن كلاً منهما عليه أن يحرص على هذه العشرة بالمعروف، وذلك بأن يلين جانبه لامرأته وكذلك هي، ويبسط إليها وجهه وكذلك هي، ويلين قوله وكلامه ويحسن خلقه ويصفح عن الهفوات والأخطاء التي تقع منها أو منه، وكذلك يستعمل الأخلاق الفاضلة والآداب الدينية الطيبة، وهكذا أيضاً يستعمل الصدق والوفاء، ويبتعد عن الشقاق واللعن والسب وتتبع العثرات والعورات وما أشبه ذلك، فهذا من العشرة التي أمر الله بها.(60/16)
الشروط الجائزة والممنوعة في عقد النكاح
معلوم أن الشروط التي يشترطها الزوج أو تشترطها الزوجة يكون فيها شيء من المصلحة لكل منهما، فعليه أن يفي بهذه الشروط لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج) ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم، إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً) .
وهناك شروط قد نهي عنها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشترط المرأة طلاق ضرتها لتكفأ ما في إنائها) ، ومعناه: إذا خطب رجل امرأة فلا تقل: بشرط أن تطلق امرأتك.
وكذلك لو عرضت نفسها عليه وقالت: تزوجني بشرط أن تطلق امرأتك.
لا يجوز هذا؛ لأنه تفريق بين الزوجين، وأما إذا كان فيه مصلحة فلا بأس، وقد اختلف العلماء في بعض الشروط، فمنها إذا شرطت الزوجة أن لا يتزوج عليها، فهل لها ذلك؟ بعضهم يقول: لا يصح، وذلك لأنه شرط حرم حلالاً، وبعضهم يقول: بل هو شرط لها فيه مصلحة؛ لأن عليها مشقة من وجود ضرة تضايقها؛ فإن الزوجة الثانية تسمى: ضرة، وهي لا تحرم الحلال وإنما تقول له: هذا شرطي لا أرضى بزوجة ثانية، فإن رضيت بي زوجة وإلا فطلقني وتزوج من تريد.
فعلى هذا يوفي بهذا الشرط، إذا شرطت أن لا يتزوج عليها، إذا شرطت عليه ذلك والتزم به، فهو بالخيار إذا أراد الزواج إما أن يترك الزواج وإما أن يطلقها ويتزوج.
أما إذا شرطت شيئاً لها فيه مصلحة، كأن يسكنها بقرب أبويها، أو أن لا يخرج بها من بلادها أو مدينتها التي نشأت فيها فإن لها في هذا الشرط مصلحة فيلزمه أن يوفي به لدخوله في هذا الحديث، وقد روي عن بعض الصحابة أنهم أباحوا له أن يسافر بها ولو شرطت أن لا يخرجها، وقالوا: حق الزوج أقدم.
ولكن معلوم أنها قد تلقى مضايقة إذا سافرت إلى بلد آخر أو تلقى حرجاً، أو تفقد من يؤنسها أو نحو ذلك، فلها مصلحة في ذلك.
وهناك الشرط الذي فيه ظلم وجور، كما لو اشترطت أن يقسم لها أكثر من ضرتها، أن يعطيها -مثلاً- ليلتين وللأخرى ليلة، فهذا شرط فيه جور وظلم، أو شرطت أن يزيد لها في النفقة على ضرتها أو على بني جنسها، وكذلك في الكسوة ونحوها، فإن مثل هذا أيضاً فيه مشقة، وفي هذه الأزمنة تقع شروط من الولي ونحوه ولا بأس بها، فمثلاً تكون طالبة في إحدى المدارس أو الجامعات، فإذا شرطت أن تواصل دراستها فإن هذا شرط لها فيه مصلحة، فعليه أن يفي بهذا الشرط، وكذلك إذا كانت عاملة كمدرسة وشرطت أن تبقى في وظيفتها فإن لها ذلك ويلزمه الوفاء به؛ لدخوله في هذا الحديث، وإذا شرطت أن تكفى المئونة فإن لها ذلك.
وقديماً كانت تشترط المرأة أمة تخدمها، فيشتري لها أمة تقوم بخدمتها، لكن في هذه الأزمنة انقطع الرق فلا يوجد إماء مملوكات، واعتاد الناس باستقدام الخدم من البلاد النائية، فصارت الزوجة تشترط أن يأتي لها بخادمة، وفي هذا شيء من الإحراج والمضايقة، ولكن إذا التزم بذلك فإنه يوفي لها بذلك، مع ما في ذلك من الحرج أو ما فيه من الحرام، أما شرط الزيارة لأبويها أو لأخوتها ونحو ذلك، أو شرط كفالة أولادها وحضانتهم من غيره فإن هذا أيضاً من المصالح التي فيها صلة للرحم، وفيها قيام بحقوق الأقارب، فعليه أن يفي بمثل هذه الشروط.(60/17)
حقوق الزوج على زوجته المشروطة وغير المشروطة
أما شروط الزوج فإذا كانت موافقة للشرع فإن لها أن تقوم بها، فإذا شرط عليها أن تخدمه وتقوم بخدمته في البيت فإن هذا معتاد، وقد ذكر كثير من العلماء أن خدمة البيت لا تلزمها، حتى إصلاح الطعام ونحوه، لكن الصحيح أنه يلزمها أن تخدم زوجها وتقوم بشئونه، وهذا هو المعتاد والمعروف عن الصحابة وعن نساء الصحابة، فقد ثبت في الصحيح: (أن فاطمة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشتكي المئونة والخدمة، وتذكر أنها طحنت على الرحا حتى مجلت يداها وأنها تعبت) ، ولكن مع ذلك لم يعطها النبي صلى الله عليه وسلم خدماً، بل تركها لتخدم زوجها، وكذلك أسماء بنت أبي بكر أخت عائشة وهي زوجة الزبير كانت تخدم الزبير حتى إنها كانت تدق النوى نوى التمر ثم تحمله على رأسها إلى أن تأتي به فرس الزبير في طرف الحرة مسيرة نصف ساعة لتعلف ذلك الفرس، زيادة على خدمتها لأولاده وقيامها بشئونه، لا شك أن هذا أيضاً من خدمة المرأة لزوجها، فإذا شرط أنها تخدمه فإن ذلك من حقه عليها، بل ورد أنها تطيعه في كل شيء لا يخالف الشرع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) ، وفي بعض الروايات: (لو أمرها أن تنقل جبلاً من موضعه وهي تقدر لكان عليها ذلك) .
وأخبر صلى الله عليه وسلم بعظم حق زوجها عليها وطاعتها، وأن عليها أن لا تعصيه.
ومعلوم أن الزوج إنما تزوج امرأته لأجل منفعة الاستمتاع وما يتبعها، فلأجل ذلك عليها أن تطيعه إذا دعاها إلى حاجته، حتى قال النبي عليه الصلاة والسلام في بعض الأحاديث: (إذا دعا الرجل امرأته لحاجته فلتأته ولو كانت على التنور) ، والتنور: هو الذي يخبز فيه.
يعني: ولو خشيت أن يفسد ذلك الخبز ويحترق فإن عليها أن تأتي إليه، وهذا مبالغة في الإسراع وعدم التأني، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح) ، وذلك دليل على عظم حقه عليها، فهذه حقوق الزوج على زوجته ولو لم تشترط هذه الحقوق، وذلك لأنها شروط شرعية داخلة في العشرة التي قال الله فيها: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] ، وداخلة في حق المرأة على زوجها وحق الزوج على امرأته، قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ} [النساء:34] مدحهن بهذا المدح (صالحات قانتات حافظات للغيب) .(60/18)
النشوز والإعراض من الزوجين وما يتعلق بهما من أحكام
النشوز هو نشوز المرأة، أي: عصيانها لزوجها وتبرمها بحقه وتثاقلها إذا طلب منها حاجته.
فهذا يعتبر نشوزاً، قال تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34] .
يقول العلماء: إذا رأى شيئاً من التبرم ورأى شيئاً من العصيان والتثاقل بحقه بدأ بالوعظ والتخويف والتذكير، أي: يذكرها بحقه عليها وفضل طاعتها له وثوابها وصبرها على ذلك، وكذلك يخوفها وينهاها عن المعصية، فإذا لم تقبل منه ولم تتأثر بالموعظة هجرها بالكلام ثلاثة أيام، وهجرها في الفراش بأن يوليها ظهره إذا نام، فإذا لم تتأثر بذلك انتقل إلى الضرب، ولكن لابد أن يكون ضرباً غير مبرح، أي: غير شديد؛ لكون ذلك زاجراً لها عن مثل هذا الفعل، فإذا أطاعته فقد قال تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء:34] .
وفي آية أخرى يقول تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128] والنشوز من الزوجة والإعراض من الزوج، فإذا خافت منه إعراضاً فلها أن تصطلح معه على إسقاط بعض حقها له، وإذا خاف منها نشوزاً فله أن يصطلح معها على إعطائها زيادة على حقها أو على إرضائها أو ما أشبه ذلك حتى تلتئم الزوجية وتثبت العشرة الطيبة، وذلك لأنه بقيام هذه الزوجية وبتماسكها وبتمام الألفة بين الزوجين ولوجود الولد الصالح بينهما الذي يكون مثالاً للصلاح تصلح الأسر وتأتلف ويحصل بينهما المحبة والوئام فيكون ذلك سبباً في صلاح الأمة بأسرها، فإذا كان الأبوان دائماً متآلفين متحابين كل منهما يلبي دعوة الآخر ويطيعه، وكان كل منهما حسن العشرة حسن الخلق حسن الملاطفة لين الكلام، ورأى أولادهما هذه الأخلاقيات الطيبة تعلمون منهما الأخلاق والآداب الشرعية ومحاسن الأعمال، ونشأ الأولاد على هذه النشأة الطيبة، فكانت تلك أخلاقاً وسجايا يمدحها الإسلام ويثني على أهلها، فهذا هو سبب الأمر بالعشرة الطيبة ولو لم تكن مشروطة بين الزوجين؛ لأن شرط الله كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (قضاء الله أحق وشرط الله أوثق) .(60/19)
حكم إكراه المرأة على الزواج من شخص لا تريده
قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن.
قالوا: يا رسول الله! وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت) .
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: كنت عند رفاعة القرظي فطلقني فبت طلاقي، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنما معه مثل هدبة الثوب.
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك.
قالت: وأبو بكر عنده، وخالد بن سعيد بالباب ينتظر أن يؤذن له، فنادى: يا أبا بكر! ألا تسمع إلى هذه ما تجهر به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!) ] .
الحديث الأول فيه مشروعية الاستئذان، ذكر العلماء أن من شروط النكاح تعيين الزوجين، ومن شروط النكاح رضا الزوجين، فالتعيين هو أن تسمى الزوجة بما لا تشتبه به، كقوله: زوجتك ابنتي فلانة ونحوه.
وتعيين الزوج أن لا أن يشار إليه بل يسمى فيقال: زوجتك يا فلان.
أو: زوجتك أيها الجالس.
وأما الرضا فهو ضد الإكراه، الرضا بالشيء قبوله وعدم رده، فلا بد من رضا الزوجة، فلا تكره ولا تزوج بمن لا تريده، ولا بد من رضا الزوج، فلا يكره على من لا يريدها.
والله تعالى ذكر الرضا في أمور عادية، ففي البيع يقول تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] ، بمعنى أنه لابد أن يكون البيع بعد التراضي، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما البيع عن تراض) ، فإذا كان هذا في بذل المال فلا شك أن بذل الزوجية أولى بأن يكون محل الرضا، فلابد من رضا الزوجة، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تنكح المرأة الثيب حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن.
فقالوا: وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت) فاشترط رضاها، ولم يذكر هنا اشتراط رضا الزوج؛ لأن الزوج عادة هو الذي يطلب، وهو الذي يتقدم، وهو الذي يتكلم، ولا حاجة حينئذ إلى استرضائه، وإن كان قد يلزمه وليه أحياناً إذا رأى أن في تزويجه مصلحة له.
فعلى هذا لابد من رضا كل من الزوجين، واشترط رضا الزوجة، وذلك لأنها هي التي تحبس نفسها على هذا الزوج مدة طويلة قد تكون عشرات السنين، فإذا كانت مكرهة مغصوبة لم تطمئن في معيشتها، ولم تهنأ في حياتها، ولم يستقر لها قرار، بل عيشها نكد ونومها كمد وقرارها ضرر؛ حيث إنها ترى ما تكره، لأجل ذلك لم يكن بد من رضا الزوجة، وقد ثبت (أن النبي صلى الله عليه وسلم رد نكاح امرأة أكرهها أبوها وكانت بكراً) ، وثبت أيضاً (أن امرأة جاءت وقالت: يا رسول الله! إن أبي زوجني من ابن أخيه ليرفع بي خسيسته -أي: ليرفعه بي وكنت شريفة وكان هو وضيعاً- فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم) .
فهذا دليل واضح على أن المرأة لا يجوز إكراهها، وإذا أكرهت فإن لها الخيار إن شاءت أن تستقر مع هذا الزوج وإن شاءت أن تنفصل عنه، هذا هو القول الصحيح، وذلك لأن إجبارها ضرر واضح عليها، فمعلوم أنها هي التي تعاشر الزوج، وهي التي تقيم عنده، وهي التي يستمتع بها، وهي التي يستخدمها ويستنفع بها، فإذا كانت تكرهه إذا رأته فكأنها ترى عدواً من أشد الأعداء لها، فلا قرار لها ولا استقرار، فاشترط بذلك رضاها.
ومعلوم أنها إذا لم تكن راضية لم تطمئن مع هذا الزوج.(60/20)
معرفة صفات وأخلاق كل من الزوجين
ذكر العلماء أنه لابد أن يبين صفات الزوج ويبين أخلاقه فإنها ربما تكون جاهلة به، فإذا كانت جاهلة بأخلاقه وجاهلة بمعاشرته وجاهلة بصحته وبخلقه ثم صحبته مدة ولم تكن تعرفه من قبل فإن لها بعد ذلك أن تفتدي؛ لأنها ترى مالا صبر عليه.
وكثير من النساء تتزوج الزوج وتعتقد أنه حسن الخلق دمث الأخلاق سهل الجانب لين العريكة يبش في وجهها، ولكن تجده عبوساً وتجده شديداً وتجده حقوداً غضوباً شديداً عليها كثير الضرب وكثير السباب وكثير الغضب وكثير التأثر، يقصر في حقها ويسيء بها الظن، ويعاتبها ويتتبع عثراتها، ويشدد عليها، فلا تستقر معه ولا تحيا حياة طيبة، بل تكون معذبة معه، إذاً يجب على وليها أن يبحث عن أخلاق الرجل قبل أن يزوجه وأن يعرف ما هو عليه، أن يعرف ماذا كان عليه من خلق.
كذلك أيضاً قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تنكح المرأة لأربع: لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) .
نقول: إن كثيراً من الناس يرغبون في الزوج لأنه ثري وذو مال، ولكن قد يكون ماله وبالاً عليه، قد يرغبون فيه لأنه ذو حسب من أناس لهم شرف ولهم نسب ولهم منزلة ورفعة وشهرة وإمارة وولاية فيرغبونه لذلك، ولكن قد يكون سيئ الخلق، وقد يكون شرساً حقوداً غضوباً وهم لا يعرفون، ويرغب آخرون في الإنسان لكونه من ذوي الشرف ومن ذوي النسب الرفيع، ولكن قد يخيب ظنهم فيه، إذاً فالأفضل أن يزوج من كان من أهل الدين ومن أهل الصلاح ومن أهل الاستقامة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اظفر بذات الدين تربت يداك) .
ونقول: كذلك اظفر -يا ولي المرأة- بصاحب الدين؛ فإن الدين ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه، صاحب الدين والخير إما أن يحسن إليها ويحبها ويقوم بحقوقها ويعطيها ما يلزم لها، وإما أن يفارقها بإحسان، فيعمل بقول الله تعالى: {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] يعمل بهذه الآية، فيحمله دينه على أن لا يظلمها وأن لا يسيء عشرتها، فهذا هو الواجب على الولي.
إذاً فلا يجوز أن يجبرها على سيئ الخلق.(60/21)
العيوب التي يرد بها النكاح من الزوجين
لا يجوز للزوج أن يخفي شيئاً من صفاته إذا كان فيه شيء من العيوب الظاهرة التي يرد بها كل من الزوجين، فواجب على ولي المرأة أن يخبر بما فيها من العيوب، وواجب أيضاً على الزوج أن يخبر بما فيه من العيوب، وذكر العلماء أن عيب الجنون في أحدهما يرد به النكاح، وكذلك عيب البرص، فإذا كان فيه برص فإنه مما ينفر منه الطبع.
وكذلك عيب المرض الشديد، سيما الأمراض المنتشرة المعدية كمرض الجذام وما يعرف الآن بالسرطان والسل الرئوي -نعوذ بالله- وما أشبه ذلك، فهذه بلا شك إذا كان أحد الزوجين مصاباً بمثل هذه الأمراض فلا يجوز أن يخفي هذا المرض، بل يخبر بما فيه، فإن شاؤوا قبلوا وإن شاؤوا ردوا.
كذلك أيضاً معلوم أنه إذا لم تكن فيه هذه العيوب الظاهرة وكان فيه شيء من العيوب الخفية التي قد تكون عيوباً عند بعض الناس دون بعضهم فعليه أن يبينها حتى لا يقع سوء صحبة.
وكثير من الناس الآن إذا وقع منه الطلاق يسألنا ويقول: أنا عصبي وشديد التأثر وشديد الغضب، أنا إذا غضبت فلا أدري ما أقول.
فلماذا لم تخبر بهذا العيب قبل أن يقع منك هذا الأمر؟ تعترف الآن على نفسك أنك مصاب بأعصاب، أو بهذا المرض الذي تسميه ما تسميه.
فعلى هذا لابد أن تفصل هذه الصفات والسمات حتى يقدم الأولياء وقد عرفوا من يزوجونه وحتى تحسن الصحبة الطويلة بين الزوجين، فإذا كان فيها ما يكدرها من هذه السمات لم تستقر الزوجة مع زوجها، ولم تهنأ العيشة الهنيئة في الدنيا، فعلى هذا لابد أن تستأذن ويؤخذ منها الإذن.(60/22)
الحكمة من استئذان البكر واستئمار الثيب
إذا قيل: لماذا فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين البكر والثيب فقال في البكر: (تستأذن) .
وقال في الثيب: (تستأمر؟) فإنهم يقولون: إن الثيب قد عرفت الرجال، وقد صار معها شيء من الجرأة، فهي لا تحتشم أن تقول: أريده أو: لا أريده.
تنطق بالكلام حتى لا يكون هناك شيء من الالتباس، أما البكر فالعادة أنها تستحيي، ولا تتجرأ على أن تتكلم بقولها: رضيت به.
بل تسكت وتستحيي، فإذا رأوا أنها سكتت أو ظهر منها ما يدل على الرضا كإشارة برأسها مثلاً فهذا دليل الموافقة أو ما أشبه ذلك، فنعرف بذلك أنها وافقت فيحصل بذلك تزويجها، هذا هو الفرق بينهما، فلو نطقت البكر فإن ذلك أتم وأدل على رضاها، فعلى كل حال هذا ما يسمى بالإجبار والاستئمار.(60/23)
حكم من طلقت ثلاث طلقات وأرادت زوجها الأول
ننتقل إلى الحديث الثاني قصة تميمة بنت وهب، حيث ذكرت أنها كانت تحت رفاعة فطلقها وبت طلاقها، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير وذكرت أن ما معه مثل الهدبة، وكأنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) ، والله تعالى ذكر أن الطلاق مرتان، يعني الطلاق الرجعي، فبعد المرتين يقدر أن يمسك ويقدر أن يسرح، وذكر أن بعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً، أي: بعد الطلقتين.
ثم ذكر الطلقة الثالثة بقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] .
وسبب نزول هذه الآية أن المشركين في الجاهلية لم يكن عندهم عدد للطلاق، ولما كان في أول الإسلام غضب رجل على امرأته وسبها فقال: لأعذبنك.
فقالت: كيف تعذبني؟ قال: أطلقك، فإذا قربت العدة أن تنتهي راجعتك، ثم بعد ذلك أطلقك ثم أراجعك في آخر العدة.
بهذا كانت المرأة تبقى بدون زوج عشرات السنين متألمة معذبة لا أيماً ولا ذات زوج، فساءها ذلك ورفعت أمرها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فعند ذلك أنزل الله العدد الذي يملكه الزوج، وهو طلقتان يملك بعدهما الرجعة، حتى لا يتلاعب الرجال الفسقة بأمور نسائهم، فجعل الطلاق الذي يراجع بعده مرتين، بمعنى أنه قد يطلق في حالة غضب، أو يفكر أنه لا حاجة به إلى هذه الزوجة، أو يرى منها سوء تصرف فيوقع الطلقة الأولى، فبعد ذلك يندم ثم يُمكن من مراجعتها، وتحسب عليه طلقه، ثم تجيء مرة أخرى يسوء ما بينهما من العلاقة، فعند ذلك قد يوقع بها طلقة ثانية عن غير تروٍ وعن غير تبصر، فيندم بعد ذلك كما حصل لكثير منهم، ثم إذا ندم رأى أن في الأمر سعة فعند ذلك يستردها بعد الطلقة الثانية، ثم يفكر أنه إذا أوقع الطلقة الثالثة حرمت عليه إلا بعد زوج، فإذا فكر في ذلك قال: لا أفرط في امرأتي وأم ولدي.
فيحمله ذلك على أن يمسكها ما دام راغباً فيها، لكن لو قدر أنه تسرع وطلقها الطلقة الثالثة حينئذ تحرم عليه حتى تنكح زوجاً غيره، ودليله هذه الآية، وهي قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة:230] يعني الثالثة {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] .(60/24)
شرط التزوج بالمبتوتة
اشترط في هذا الزوج الثاني أن ينكحها نكاح رغبة، بمعنى: أن يتزوجها على أنها زوجة له يحبها ويحب المقام معها، وهي كذلك تحبه وتريده كزوج وكعشير لها في حياتها، هذا هو الأصل، أنه لابد أن يكون الزوج الثاني نكاحه نكاح رغبة لا نكاح تحليل للزوج الأول، وذلك لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله المحلل والمحلل له) .
وأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن التحليل، ووصف المحلل بالتيس المستعار، أي أنه شبيه بالتيس الذي هو ذكر المعز، بمعنى أن الزوج الأول يستعيره ويدخله على زوجته ويجامعها ثم يفارقها، فأصبح كأنه تيس مستعار، هذا هو المحلل الذي ينكحها حتى يحللها للزوج الذي طلقها، يبيت معها ليلة أو ليلتين ثم يطلقها ولا رغبة له فيها.
إذاً فهذا هو الذي نهي عنه، ولا يجوز سواءٌ من الزوج أو من الزوجة أو من المطلق، فإذا طلقت امرأة وحرمت عليك بأن بتت طلاقها -أي: طلقتها آخر ثلاث طلقات- وعرفت أنها لا تحل لك إلا بعد زوج فلا يجوز لك أن تقول: يا زيد! تزوجها واجلس معها ليلة ثم فارقها.
كأنه أجير، وربما تدفع له أجرة حتى يحللها لك، فأنت -أيها الزوج المطلق- تدخل في هذا الوعيد؛ وحيث إنه قبل كلامك وتزوجها بهذا الشرط يدخل في هذا الوعيد.
وذكروا واقعة في عهد عمر بن الخطاب، وهي (أن رجلاً من أكابر قريش طلق امرأته ثم ندم عليها بعدما طلقها ثلاثاً، وفكر كيف ترجع إليه، وكانت هي أيضاً تريده، ولكن لا حيلة لها ولا حيلة له، فجاؤوا إلى رجل أعرابي فقير لا يملك إلا طمرين -أي: ثوبين خلقين- فقالوا له: ها هنا امرأة تريد زوجاً وتناسبك.
فعند ذلك تزوجها، ولما تزوجها رغبة منه أرادوا أن يفرقوا بينه وبينها، فرفع أمره إلى عمر بن الخطاب فقال: لا تطلقها.
إن طلقتها أوجعت ظهرك ولو ضربوك ولو قالوا لك أو قالوا لك.
وانظر إلى غيرة وحماسة عمر رضي الله عنه!! نقول: كذلك يستحق المحلل من يوجع ظهره كما هم بذلك عمر رضي الله عنه، وكذلك يستحقه المحلل له والزوجة إذا كانت متفقة مع الزوج على هذا التحليل.
والشاهد أن تميمة بنت وهب تزوجت بعد زوجها رفاعة زوجاً آخر وهو عبد الرحمن بن الزبير، وذكرت أنه لا يصيبها، ورمته بأنه عنين، أي أنه لا يقدر على أن يأتي النساء، وإنما ما معه مثل هدبة الثوب، ولكن في بعض الروايات أنه كذبها، وذكر أنه يصيبها.
والحاصل أنها لما قالت: إنه لم يصبها لم يأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم أن ترجع إلى رفاعة حتى يطأها الزوج الثاني ويذوق عسيلتها وتذوق عسيلته، وبذلك فسر قول الله تعالى: {حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] أن النكاح ليس هو مجرد العقد، بل هو الدخول والإصابة، فإذا طلقها بعد العقد قبل أن يدخل بها لم تحل للزوج الأول، أي: لابد أن يدخل بها ويذوق كل منهما عسيلة الآخر، بمعنى لذة الجماع، أي: أنه يطؤها الوطء الكامل.
فهذا هو النكاح الذي تحل به إذا كان عن قصد وعن رغبة لا عن تدليس وتحليل وشبهة، هذا هو ما يدل عليه هذا الحديث.(60/25)
أحكام العشرة بين الزوجين
قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعاً ثم قسم، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثاً ثم قسم) .
قال أبو قلابة: ولو شئت لقلت: إن أنساً رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله، اللهم! جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه يقدر بينهما ولدٌ في ذلك لم يضره الشيطان أبداً) .
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والدخول على النساء.
فقال رجلٌ من الأنصار: يا رسول الله! أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت) .
ولـ مسلم عن أبي الطاهر عن ابن وهب قال: سمعت الليث يقول: الحمو: أخو الزوج وما أشبهه من أقارب الزوج، ابن العم ونحوه] .
هذه الأحاديث تتعلق بالنكاح، فالحديث الأول والثاني يتعلقان بالعشرة، ويبوب الفقهاء عليها بباب (عشرة الزوجين) ، ويستدلون بقول الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] ، والعشرة بالمعروف هي أن كلاً من الزوجين يحسن صحبة الآخر، ويحرص كل منهما على أن لا يرى منه الآخر إلا ما يسره، فالزوجة تطيع زوجها، وتحسن خلقها، وتلبي طلباته ودعوته، وتريه ما يسره منها، وتتجمل أمامه، وتخدمه بما تستطيع، وكذلك تلين له الجانب، وتظهر فرحها وسرورها به، وتظهر موافقتها له فيما يطلب، وتبتعد عن مخالفته وعما يثير غضبه أو حماسه إذا علمت أنه شديد الغيرة أو أنه سريع الغضب أو ما أشبه ذلك، كذلك أيضاً تطيعه في نفسها، فلا تتمنع ولا تتبرم ولا تظهر منة، ولا تظهر أنها خيرٌ منه أو أنها أفضل أو أكثر مالاً أو أكثر نسباً أو ما أشبه ذلك.
أما بالنسبة إلى الزوج فالعشرة منه أن يلين جانبه لزوجته، وأن يتغاضى عما يراه من الأخطاء ومن الهفوات والزلات التي قد تصدر منها، وكذلك أيضاً أن يتخلق بكل خلق فاضل، ويبتعد عن الرذائل ونحوها، فلا يتعامل معها بكذب ولا بزورٍ، ويجتنب الإثم والظلم والسباب والشتائم والعيب والسبب وتتبع العثرات، ولا يتشدد عليها بمطالبه، ولا يكلفها ما لا تطيقه، ويظهر أيضاً موافقتها إذا طلبت أمراً فيه منفعة أو نحو ذلك، وهكذا أيضاً يظهر نفسه أمام زوجته مظهر جمالٍ ومظهر حسنٍ، ولا يظهر أمامها بصفة مستقذرة وموحشة بحيث تنفر منه، وهكذا أيضاً يعطيها حقها في الاستمتاع الذي هو مطلب لكل من الجهتين، وأشباه ذلك.
ولا شك أنه بهذه العشرة تدوم الصحبة وتحصل الألفة والمودة التي ذكر الله أنها بين الزوجين في قوله تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] .(60/26)
شرح حديث: (من السنة إذا تزوج البكر أقام عندها سبعاً)
في الحديث الأول يقول: (من السنة إذا تزوج البكر) يعني: وعنده زوجة قبلها (أقام عندها سبعاً ثم قسم، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثاً ثم قسم) .
ومعنى هذا الحديث أن البكر إذا تزوجها وعنده امرأة قبلها فإنها بلا شك تهواها نفسه وتميل إليها، ويكون لها مكانةً في قلبه، فيكون لها حق في أن يوالي المبيت عندها ليالي متتابعة، فصار لها حق أن يبيت عندها سبع ليال قبل أن يبدأ في القسم بين زوجاته أو بينها وبين زوجته الأخرى.
فهذا المصلحة فيه للطرفين، فهي بالنسبة إلى أنها حديثة عهد بالزواج لم تعرف زوجاً قبله فهي تحب أن يؤنسها وأن يؤلفها، وأن يحبب إليها نفسه، وأن يعاشرها العشرة الطيبة، وأن يطيل محادثتها ومؤانستها، ويبين لها مودته لها، ويكتسب أيضاً مودتها في هذه الليالي، فإذا تمت سبع ليال فتكون في ذلك قد استأنست إليه، وكذلك أيضاً هو يعرف أن نفسه مائلة إليها لبكارتها ولجدتها، فيكون في قلبه شيء من المحبة والميل إليها، ويكون هو الذي يواصل ذلك ويحبه ويوده، فالمصلحة في متابعة هذه الليالي للبكر للطرفين.
أما إذا كانت ثيباً -أي: مطلقة أو متوفى عنها- قد دخل بها غيره فتزوجها وعنده امرأة أو نساء غيرها قبلها فإن لها حقاً أن يبيت عندها ثلاث ليال متتابعة ثم يبدأ في القسم، هذه الليالي الثلاث هي أقل العدد، فإن أقل الجمع ثلاثةٌ كما هو معروف، فهذه الثلاث تحصل بها المؤانسة له ولها، ويحصل بها إشباع الغريزة من الشيء المستجد، فلهذا جاء الشرع به.
وقوله: (من السنة) يعني: من أمر النبي صلى الله عليه وسلم ومن شريعته.(60/27)
شرح حديث: (لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله)
أما الحديث بعده فيتعلق بالتسمية عند الجماع، روي عن ابن عباس في قول الله تعالى: (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة:222] إلى قوله: {وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ} [البقرة:223] يقول: التقديم هو التسمية عند الجماع.
والنبي صلى الله عليه وسلم أرشد في هذا الحديث الزوج إذا أراد مواقعه زوجته أن يبدأ باسم الله، فقال: (لو أن أحدكم إذا أرد أن يأتي أهله قال: باسم الله، اللهم! جنبنا الشيطان.
وجنب الشيطان ما رزقتنا) يقول ذلك قبل البدء أو عند البدء في الوقاع، ويقول ذلك بحيث يُسمع نفسه، وتقوله أيضاً الزوجة، فإذا قاله كل من الزوجين حصلت البركة، ولا شك إن اسم الله تعالى سببٌ للبركات وكثرة الخيرات.
وقوله: (إذا قال: باسم الله) معناه: باسم الله استعيذ، وباسم الله أتحصن، وباسم الله أتحرز من كل ضرر، وباسم الله أتبرك، وباسم الله ابتدئ أو أفعل ما أقدر عليه.
وقد ورد الأمر بالتسمية في أشياء كثيرة، كما أمر بالتسمية عند الأكل، وعند الشرب، وعند دخول المنزل، وعند الخروج منه، وعند دخول المسجد والخروج منه، وعند لبس الثوب، وعند النوم، وعند دخول الخلاء وما أشبه ذلك.
فكذلك أيضاً التسمية هنا يقصد بها التبرك بهذا الاسم والتحصن به من السوء ومن الأضرار ومن الشرور ونحوها، ثم بعد ذلك يقول: (باسم الله، اللهم! جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا) يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبداً) يعني: إذا قدر أنه خلق منهما ولد من ذلك الوقاع فإن الله يحميه ويحفظه من ضرر الشيطان، فلا يضره أو يضله.
قوله: (جنبنا) يعني: أبعده عنا وأبعدنا عنه، وأبعده عما رزقتنا وعما ترزقنا من الأولاد والذرية.
والتجنب هو الابتعاد، وهو أبلغ من الترك، فإن معناه: اجعله في جانب ونحن في جانب بعيدين عنه.
والشيطان واحد الشياطين، وهم إبليس وجنوده، ولا شك أن الشيطان عدو للإنسان، وأنه حريص على أن يضل الإنسان بما يستطيعه، وأن يخلف عليه قلبه ويفسد عليه عقله وفطرته، ويصرفه عن الهدى إلى الضلال، ويوقعه في الكفر والفسوق والعصيان.
وإن الله تعالى هو الوكيل وهو الحفيظ، فإذا حمى الإنسان وحفظه فلن يكون للشيطان عليه سلطان؛ لأنه لا سلطان له على أولياء الله، قال الله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:99-100] ، يعني: على أوليائه.
أي: أولياء الشيطان الذين قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ} [البقرة:257] .
فلا شك أن هذا دعاء مفيد إذا استعمله الإنسان عند كل مواقعة، وعندما يريد أن يواقع يقوله سراً بحيث يسمع نفسه، فإذا قال: (اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا) فقد تكفل النبي صلى الله عليه وسلم له بقوله: (فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبداً) .(60/28)
إشكال والجواب عنه
أشكل هذا الحديث على كثير من الشراح، وقالوا: إننا قد نشاهد أولاداً آباؤهم عبَّاد وصالحون وأهل تقوى، ونتحقق أنهم يعملون بهذا الحديث، وأنهم لا يتركون مثل هذا الدعاء، ومع ذلك نرى أبناءهم قد انحرفوا وقد وقع منهم شيء من الفسوق ومن المعاصي التي يدعو إليها الشيطان، فكيف أغراهم وقد استعيذ منه عند الوقاع وعند انعقاد الولد في ذلك الوقاع؟ فأجابوا بأنه قد يغفل أحدهم في بعض الأحيان، وقد تكون استعاذته استعاذة باللسان لا بالقلب، وقد يكون هناك أسباب تفسد الإنسان وإن لم تكن من الشيطان، بل من أعوان الشيطان الذين هم شياطين الإنس وما يشبه ذلك، وقد يكون الحديث محمولاً على الكفر، فيكون قوله: (لم يضره الشيطان أبداً) يعني: لم يخرجه من الإسلام ويدخله في الكفر.
وعلى كل حال نحث على العمل بهذه الأحاديث حتى يكون الإنسان باذلاً للسبب، والله تعالى هو الموفق والمعين.(60/29)
شرح حديث: (إياكم والدخول على النساء)
أما قوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والدخول على النساء! فقال رجل: أفرأيت الحمو؟ فقال: الحمو الموت) وفسر الحمو بأنه أخو الزوج أو قريبه كابن عمه ونحوه فالحديث يدل على النهي عن الخلوة بالمرأة الأجنبية والدخول عليها دخولاً في ريبة، وذلك لأنه يخاف من هذه الخلوة أن يوسوس الشيطان بينهما؛ فإن الشيطان ثالثهما، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) أي: كان الشيطان يوسوس بينهما إلى أن يقرب أحدهما إلى الأخر فيوقع بينهما شيئاً من الفاحشة أو مقاربة الفاحشة.
هذا هو الذي حث وحذر النبي صلى الله عليه وسلم على البعد عنه، أي: الخلوة بالنساء الأجنبيات.
والمراد بالنساء هنا غير المحارم؛ لأن المحارم لا مانع من الخلوة بهن، فالرجل يخلو بأمه وبابنته وبأخته وببنت أخيه وبعمته وخالته ونحوهن ولا تحدثه نفسه بالميل إليهن ولا بمقارفة فعل الفاحشة معهن، ولا يفعل ذلك إلا أفسق الناس وأفجرهم، وإن وقع من أفراد فلا يكونون عبرة، إنما المراد إذا كان أجنبياً عن هذه المرأة، حتى ولو كانت من أقاربه كابنة عم وابنة خال، وكذلك زوجة أخ أو أخت زوجة أو نحو ذلك، فهذه لها قرابة وهذه لها مصاهرة، وبعض الناس يتجرأ على أن يدخل في بيت أخيه وليس فيه إلا تلك المرأة، ويتجرأ أيضاً على دخول بيت عمه أو خاله، وكذلك بيت أخيه ويخلو بزوجة أخيه أو بأخت زوجته أو نحوهن ويدعي أنه من أهل البيت وأنه لا محذور في خلوته بها فتراه لا يستنكر أن يطرق باب أخيه فتفتح له تلك الزوجة فيدخل وقد لا يكون عندها أحد، وهذا هو المحذور.
والوقائع التي تقع فيها مفاسد مما حذر عنه في هذا الحديث كثيرة وشهيرة، ولما لم يعمل كثير من الناس بهذا الحديث صار الأخ يخرج ويترك زوجته وليس معها أحد وليس في البيت سوى أخيه وزوجته فيخلو أخوه بتلك الزوجة، وقد يوسوس بينهما الشيطان إلى أن يقرب بينهما فيوقع بينهما فعل الفاحشة أو مقاربتها، وذلك أنه قد يثق بأن أخاه لا يقرب محارمه، ويقول: هو أخي لا يمكن أن يخونني ولا يمكن أن يسيء إليّ؛ لأني أنا الذي أحسن إليه، وأنا الذي آويته في بيتي وهو لا يزال عزباً.
أو: أنا الذي أنفقت عليه وأحسنت إليه، فلا يمكن أن يخون.
فنقول: هذا وإن كان مجرباً أو معروفاً لكن لا تنبغي الثقة كل الثقة بكل أحد؛ فإنه قد لا يكون له ميل إليها، لكن هي قد تتبرج أمامه وتدفعه إلى نفسها، أو هو قد يراودها ويحاول أن يعرض عليها نفسه أو ما يشبه ذلك، فتقع الفاحشة أو مقاربتها، فالنبي صلى الله عليه وسلم حذر في هذا الحديث من الخلوة بها حتى ولو كان أخا الزوج فقال: (الحمو الموت) ، وهذه كلمه معتادة مسموعة كثيراً، يقال: هذا هو الموت.
بمعنى أنه الخطر الكبير، لماذا؟ لأن الناس لا يستنكرون خلوته، ولا يستنكرون أن يطرق باب أخيه ثم يدخل، ولا يستنكرون أن يعطيه أخوة مفتاحاً لبيته يدخل كلما جاء وكلما أراد.
ولعل هذا أيضاً فيما إذا لم يكن في البيت إلا امرأة واحدة، أما إذا كان فيه عدد من النساء فقد يكون ذلك أقرب إلى السلامة، وكذلك أيضاً إذا كان فيه أطفال أو فيه محارم له، كما إذا كان فيه زوجته أو أمه أو نحو ذلك فالأمر أسهل، ومع ذلك فإن الخلوة بالمرأة الأجنبية خطر كبير دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لرجل أن يخلو بامرأة إلا مع ذي محرم) .
فعلى المسلم أن يكون غيوراً على محارمه، وأن يهتم بمحافظته على أن لا يخلو بهن أجنبي، سواء السائق الذي يدخل بها وحدها أو يزور بها الأماكن والأسواق ونحو ذلك وهو منفرداً بها، أو غيره، ولا يجوز أن يدخل في البيت عليها وليس عندها أحد، حتى ولو كانت قريبة منه، فقد تأتي وتناوله القهوة مثلاً أو الأكل أو الشراب أو ما يشبه ذلك، فإذا دخلت إليه فلربما كلمها وألان لها القول وخضع كلاً منهما بالقول الذي نهى الله عنه بقوله: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] ، فيقرب بينهما الشيطان إلى أن يقع ما نهى الله عنه وما هو المحذور، فإذا احتاط الإنسان ولم يأذن لامرأته في إدخال أحد وهو غائب، أو جعل عندها امرأة ثانية أو ما يشبه ذلك كان ذلك أقرب إلى السلامة، والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.(60/30)
شرح عمدة الأحكام [61]
من أهم الأشياء في النكاح الصداق الذي يدفعه الزوج للمرأة مقابل استمتاعه بها، ومما يندب إليه في الصداق أن يكون يسيراً، وتكره المغالاة في المهور لما فيها من تعقيد الزواج وإثقال كاهل الزوج، وللصداق أحكام فصلها العلماء وبينوا الحق فيها.(61/1)
أحكام الصداق
قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [باب الصداق: عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها) .
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت: إني وهبت نفسي لك، فقامت طويلاً، فقال رجل: يا رسول الله! زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال: هل عندك من شيء تصدقها؟ قال: ما عندي إلا إزاري هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أعطيتها إزارك جلست ولا إزار لك، فالتمس غير هذا، قال: ما أجد، قال: فالتمس ولو خاتماً من حديد، فالتمس فلم يجد شيئاً، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل معك شيء من القرآن؟ قال: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: زوجتكها بما معك من القرآن) .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى عبد الرحمن بن عوف وعليه ردع زعفران، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مهيم؟ فقال: يا رسول الله! تزوجت امرأة، فقال: ما أصدقتها؟ قال: وزن نواة من ذهب، فقال: بارك الله لك، أولم ولو بشاة) ] .(61/2)
أسماء الصداق
من مكملات النكاح: دفع الصداق، قال الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4] سماه الله صداقاً، قيل: لأنه يدل على صدق الرغبة؛ فإنه ما بذل ماله إلا وهو صادق في رغبته في هذا النكاح، وسماه الله نحلة، والنحلة هي العطية، كما في قول النعمان: (نحلني أبي عبداً) يعني: أعطاني، فسماه الله نحلة؛ وذلك لأنه شبه عطية؛ لأنه في مقابل الاستمتاع، وهو -أي: الاستمتاع- يحصل به منفعة للطرفين، فلذلك سماه الله عطية من الزوج لامرأته، وكذلك سماه الله أجراً في قوله سبحانه وتعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24] يعني: متى تمتعتم بهن هذا الاستمتاع المباح فآتوهن أجورهن، وسماه الله فريضة لأنه يفرض، يعني: يقتطع للمرأة من مال الزوج برضاه، فقال تعالى: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [النساء:24] أي: لا جناح عليك أن تزيد المرأة زيادة على الفريضة لترغبها.
ولا جناح عليها أن تسقط شيئاً من صداقها لترغب الزوج في إمساكها.
وتطيب نفسها بشيء من مهرها، قال تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4] أي: متى طابت نفس الزوجة بشيء من الصداق لزوجها فإنه حلال له هنيء مريء مباح له أكله، ولا يلزمه أن يدفعه لها مرة ثانية إذا كانت قد سمحت به.
وسماه الله تعالى نفقة في قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] ، يعني: بما دفعوا من هذا المال، أي: المال الذي دفعه الزوج لزوجته، فبذلك صار له الفضل والرفعة على المرأة: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] ، ولأن الرجل هو الذي يقوم بالنفقة فله مزية وفضيلة عليها.
والحاصل: أن النكاح لابد فيه غالباً من الصداق.(61/3)
وجوب الصداق
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الصداق أو تسميته بالعقد شرط للصحة، فجعلوا شروط العقد أربعة أو خمسة: الأول: الرضا من كل من الزوجين.
الثاني: تسمية كل منهما بما يتميز به.
الثالث: الإيجاب والقبول من الولي ومن الزوج.
الرابع: تسمية الصداق، بأن يقال: زوجتك بصداق كذا وكذا، وذلك لأن الله أمر به في قوله: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4] ، وهذا هو سبب تسميته صداقاً.
واستحقاق المرأة لهذا الصداق لا يكون إلا بالعقد؛ كما ذكر الله تعالى أنه يجب بالعقد، وإذا طلقها قبل أن يفرض لها فليس لها إلا المتاع في قوله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة:236] ، وفي قوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:241] ، فإذا طلقها ولم يفرض لها فإنه يمتعها بكسوة، يمتعها بحلية، أو نحو ذلك.(61/4)
استحباب تخفيف المهور وكراهة المغالاة فيها
وقد وردت السنة بالأمر بتخفيف المهر، فورد في حديث: أن أفضل النكاح أيسره مهراً؛ وذلك أنه إذا كان المهر يسيراً فإن الرجل يرغب في الزوجة، ويعاملها معاملة طيبة، حيث إنها لم تكلفه ولم تحمله على دين أو على اقتراض أو على خسارة ظاهرة، فيحسن صحبتها، وهي أيضاً تحسن صحبته ومعاملته إذا رأته لبقاً لين الجانب حسن العشرة حسن الخلق.
فهذا هو السبب في الأمر بتخفيف الصداق، وأيضاً فإن في تخفيفه حملاً للكثير على الزواج، بخلاف ما إذا تشدد الناس وتشدد الأولياء وضاعفوه وأكثروه فإن التقدم من الزوج سيكون متأخراً، وربما يجلس الواحد سنوات يجمع الصداق! فيفوت عليه جزء من عمره قبل أن يتزوج، وربما لا يتزوج إلا أفراد معدودون؛ حيث إن الكثير قد يعجزون عن ذلك الصداق الذي يثقل كواهلهم.
كذلك أيضاً ورد أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: أعني؛ فإني تزوجت، فقال له: (وكم دفعت من المهر؟ فذكر له مهراً كأنه استكثره فقال: عشرين مثقالاً؟! كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل) أي: أنه يلومه على أن دفع مهراً عشرين مثالاً من فضة، مع أنها شيء يسير بالنسبة إلى زماننا.
وحصل أن امرأة تزوجت بنعلين، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أرضيت من نفسك بنعلين؟ فقالت: نعم، فأجاز نكاحها) ومنه أُخذ استحباب تخفيف الصداق وتقليله حتى لا يثقل على المتزوجين، وحتى لا يتعطل كثير من رجال ونساء.(61/5)
شرح حديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وجعل عتقها صداقها)
والأدلة من الأحاديث المذكورة واضحة، فالحديث الأول حديث أنس ذكر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها) .
وصفية هي بنت حيي بن أخطب، وهي من بني النضير من اليهود، وكان أبوها من أهل المدينة الذين أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من ديارهم المذكورون في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر:2] ولما خرج حيي نزل في خيبر، ثم فتحت خيبر، وكان قد قتل قبل ذلك، وسبيت نساء اليهود الذين استولي عليهم، وكانت صفية من جملة السبي، فكانت من نصيب بعض الصحابة، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم، قيل: إنه أخذها قبله ثابت بن قيس بن شماس.
والحاصل: أنه اصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه وأصبحت ملك يمين، ولما رأى أنه قد قتل أبوها، وقتل زوجها، وقتل أحد إخوتها، وأنها مصابة رأى أن يعتقها حتى يزول ما في نفسها، ورأى أن يتزوجها وأن يجعلها كأمهات المؤمنين، وأن يحجبها كما حجب نساءه، فكان في ذلك ما تسلت به عن هذه المصيبة، فجعل عتقها صداقاً فقال: (أعتقتكِ وجعلت عتقكِ صداقكِ) فرضيت بذلك، وأصبحت إحدى زوجاته يقسم لها كما يقسم لزوجاته، وبقيت في عصمته حتى مات عنها، وهي من أمهات المؤمنين رضي الله عنهن.
استدلوا بذلك على أنه يجوز أن يكون الصداق غير مال؛ وذلك لأنه لم يسلم لها شيئاً، إنما قيمة نفسها جعلت كصداق لها، وهذا هو مدلول هذا الحديث.(61/6)
شرح حديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت: إني وهبت نفسي لك)
أما الحديث الذي بعده ففيه هذه القصة، وكأن هذه امرأة من المهاجرات، ولم يكن لها مأوى فجاءت إما من قرية من القرى أو من بادية من البوادي، ولم يُذكر اسمها، جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: (إني قد وهبت نفسي لك) قال الله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا} [الأحزاب:50] وكأنها سمعت هذه الآية فوهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم لتصبح كزوجة من زوجاته يقسم لها كما يقسم لزوجاته.
ثم لما عرف منها هذا ونظر إليها كما في بعض الروايات: (صعد النظر فيها وصوبه) أي: وطأطأه ولما طال وقوفها جلست تنتظر، ولما طال جلوسها قام رجل من الحاضرين -وهو أيضاً من فقراء المهاجرين- وطلب أن يتزوجها إذا لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم حاجة بها، ولما كان الصداق لابد منه في النكاح طلب منه صداقاً، ولكنه فقير من فقراء المهاجرين لا يملك شيئاً، فأمره أن يصدقها شيئاً فلم يجد؛ لأنه لم يكن عنده شيء، ولم يكن له إلا إزار قد شد به عورته حتى لم يبق على ظهره منه شيء، فهو عارٍ حتى من الرداء الذي يستر به ظهره، ومن العمامة التي يستر بها رأسه، فهو إذاً من الفقراء الذين هم في شدة فقر وحاجة، هكذا حالته، فلما لم يجد عنده شيئاًَ طلب منه أن يلتمس، وردده مراراً، حتى طلب منه ولو خاتماً من حديد، والخاتم هو: الذي يوضع في إحدى الأصابع، والحديد معروف يعني: قيمته قد تساوي قرشاً أو نحو ذلك، ولكنه لم يجد حتى هذا الخاتم من حديد؛ وذلك لفقره، فجلس وانتظر، وفي بعض الروايات: (أنه ذهب مولياً) ، ولما رآه النبي صلى الله عليه وسلم مدبراً، دعاه وسأله عن الحفظ الذي يحفظه من القرآن، فعدد سوراً يحفظها: سورة كذا، وسورة كذا، فقال له: (زوجتكها بما معك من القرآن) وفي رواية قال: (فعلمها عشرين آية) فجعل تعليمه لها قائماً مقام المال الذي يُدفع لها مقابل نكاحها.
هذا هو مدلول هذا الحديث.
وقد استدل به بعض العلماء على أن تعليم القرآن يصح أخذ الأجرة عليه؛ وذلك لأنه هنا جعله مقام الأجر المطلوب في قوله تعالى: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء:24] وجعله قائماً مقام المال المطلوب في قوله تعالى: {وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] فأصبح مما يؤخذ عليه مال، ومما يصح أن يجعل صداقاً ومهراً ينتفع به، فعُرف بذلك أنه يصح أن يكون تعليم القرآن صداقاً، وبطريق الأولى تعليم غيره من العلوم التي يحتاج إليها، فإذا علمها شيئاً من الفقه، أو من الأحاديث، أو من تفسير بعض الآيات، أو علماً يحتاج إليه كعلم أدب أو علم أخلاق أو علم لغة أو غير ذلك مما يحتاج إلى تعليم صح أن يجعل هذا التعليم صداقاً.
وبذلك يُعرف أنه عليه الصلاة السلام كان يسهل في أمر الصداق؛ بحيث إنه جعل هذا التعليم صداقاً قائماً مقام الأموال التي يدفعها الزوج لزوجته مقابل أن تكون بينهما الزوجية، فإذا جاز تعليمها آيات من القرآن صداقاً أو أحاديث أو تفسير آيات أو تعليم حكمٍ أو أحكام أو مسائل فقهية أو نحو ذلك ويكون ذلك قائماً مقام المال، فبالطريق الأولى أنه يصح صداقها مالاً ولو قليلاً.
والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.(61/7)
شرح عمدة الأحكام [62]
أبغض الحلال إلى الله الطلاق، وقد أباحته الشريعة إذا احتاج الرجل إليه لئلا يبقي امرأة في عصمته وهو لا يحبها فتكثر المشاكل والمفاسد بينهما، وللطلاق أحكام وآداب وسنن ينبغي معرفتها.(62/1)
حديث النهي عن طلاق الحائض
قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [كتاب الطلاق: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أنه طلق امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتغيظ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها، فتلك العدة كما أمر الله عز وجل) ، وفي لفظ: (ثم تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيها) ، وفي لفظ: (فحسبت من طلاقها وراجعها عبد الله كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
وعن فاطمة بنت قيس: (أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب -وفي رواية: طلقها ثلاثاً- فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته فقال: والله مالكِ علينا من شيء.
فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: ليس لك عليه نفقة -وفي لفظ: ولا سكنى- فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ثم قال: تلك امرأة يغشاها أصحابي، اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك، فإذا حللت فآذنيني.
قالت: فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد، فكرهته ثم قال: انكحي أسامة، قالت: فنكحته فجعل الله فيه خيراً كثيراً واغتبطت) ] .
الطلاق: هو تخلية عصمة المرأة بعد أن ربط بينهما وثاق النكاح، فالنكاح هو: رباط بين الزوجين، والطلاق حل لذلك الرباط.
علم الله تعالى أن الزوجين قد تسوء العشرة بينهما، فلا يتلاءم الزوج مع الزوجة، وتسوء صحبتها له أو صحبته لها، ويمل كل منهما من صاحبه، فحينئذٍ جعل لهما مخرجاً بهذا الطلاق، فأباح له أن يطلقها وجعل لذلك شروطاً وجعل له صفات وأسباباً.
ومع كونه مباحاً فإنه مكروه، ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) ، فجعله حلالاً ومع ذلك ذكر أنه مكروه عند الله؛ وما ذاك إلا أنه يسبب الفرقة بين الزوجين، وقد يكون بينهما أولاد، وقد يكون بينهما صحبة طويلة، وقد يندم بعدما يطلق ولكن بعدما يفوت الأوان، فهذا ونحوه من أسباب كراهة الطلاق.
وذكر العلماء: أنه يكون مباحاً، إذا احتاج إليه بأن ملّ صحبة المرأة ولم تناسبه ففي هذه الحال هو مباح، ومع ذلك فالصبر أفضل، فينبغي له أن يصبر ويتحمل المشقة، ويعاشر زوجته بما أمر الله بقوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] فهذا أولى، ولكن إذا حصلت الأسباب التي تسيء الصحبة فإنه يكون حلالاً ومباحاً.
وأما إذا ضجرت منه الزوجة واشتد ضررها، واحتاجت إلى أن تفتدي نفسها وتبذل شيئاً من مالها حتى تفارقه وتتخلص من شره وغضبه، ففي هذه الحال يكون مستحباً؛ لما فيه من إزالة الضرر وتفريج الكربة.
مر بنا هذا الحديث عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء) يعني: قول الله تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] ، وفسرها بعضهم بقوله: في قُبُلِ عدتهن، أي: في أول العدة، بأن تطلق في مستقبل العدة؛ وذلك لأنه إذا طلقها وهي حائض فإن تلك الحيضة لا تحسب من العدة، فيكون سبباً في تطويل العدة بخلاف ما إذا طلقها وهي طاهر قبل أن يمس فإن ذلك الطهر يكون أول عدتها، أو تكون الحيضة التي بعده هي أول عدتها.(62/2)
عدم جواز الطلاق في طهر مس امرأته فيه
قوله: (فليطلقها قبل أن يمسها) أفاد أنه إذا جامعها في ذلك الطهر لا يجوز له أن يطلقها، وإذا حاضت لا يجوز أن يطلقها في ذلك الحيض، فعرف بذلك: أن الطلاق في الحيض بدعة، وأن الطلاق في طهر قد وطئها فيه بدعة، وأن من أراد أن يطلق فليطلق وهي طاهر، يعني: ليس عليها حيض ولم يمسها في ذلك الطهر، هكذا ذكروا.
ولعل ذلك لتقليل الطلاق، فإنه إذا عزم على الطلاق وملّ من صحبة زوجته قيل له: لا تطلقها وهي حائض، فإن نفسك تكون كارهة لها في تلك الحال وهي حالة الحيض، فانتظر حتى تطهر، فإذا صبر وانتظر إلى أن تطهر، فيمكن أن نفسه تندفع إليها فيطؤها؛ لأنه قد صبر وهي حائض ستة أو سبعة أيام وهو ينظر إليها، فيقول: سوف أجامعها في هذا الطهر، فإذا جامعها قيل له: لا تطلق ما دمت قد وطئتها في هذا الطهر، لا تطلق في طهر قد وطئتها فيه، فإذا انتظر إلى أن يأتي الحيض الثاني قيل له: لا تطلقها وهي حائض، فإذا طهرت من الحيضة الثانية وعزم على الطلاق فقد لا يصبر ويندفع إليها ويطؤها، فإذا وطئها عرف أنه لا يحلّ له أن يطلقها في ذلك الطهر الذي قد وطئها فيه فيمسكها، وهكذا، وبعد ذلك إما أن تتحسن الحال والعلاقة بينهما، وإما أن يخف الذي وجد في نفسه، فيعزم على إمساكها ويترك طلاقها، فهذا هو السبب في منعه من طلاقها في حيض أو في طهر قد وطئها فيه.
إذاً: متى يطلق؟ لا يطلق إلا وهي في طهر لم يمسها فيه، أو بعدما يتبين حملها، فإذا حملت وتبين حملها جاز له أن يطلق، أو إذا بلغت سن الإياس وانقطع عنها الحيض جاز له والحال هذه أن يطلقها في أية حال، فأما طلاقها في طهر وطئها فيه وهي غير آيسة أو في حيض فإنه طلاق بدعة.(62/3)
هل يقع طلاق البدعة؟
هل يقع طلاق البدعة أو لا يقع؟ ابن عمر طلقها وهي حائض، وذلك الطلاق بدعة، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يردها وقال: (مره فليراجعها) ، كلمة (يراجع) دليل على أنها طلقة؛ لأن الرجعة لا تكون إلا لمطلقة، فأفاد بأن تلك الطلقة حسبت، وسمعنا قوله في هذا الحديث: (وحسبت عليه تطليقة) ، أي: حسبت تلك الطلقة التي في الحيض، وعدت عليه من طلقاتها؛ وذلك لأن الزوج يملك ثلاث طلقات، فإذا طلق المرة الأولى ملك الرجعة ما دامت في العدة، وإذا انتهت العدة قدر على نكاحها بعقد جديد إذا تراضوا بينهم.
وإذا طلقها المرة الثانية سميت أيضاً رجعية، يقدر على أن يستردها في العدة ولو بدون رضاها وبدون عقد، فإذا انتهت العدة من الطلقة الثانية فهي بائن بينونة صغرى، له أن يخطبها، وإذا تراضوا بينهم جدد العقد ورجعت إليه.
فإذا طلقها الطلقة الثالثة بانت منه بينونة كبرى، بحيث لا يستطيع أن يردها، ولا يقدر على ردها، ولا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره نكاح رغبة لا نكاح تحليل.
فهذا هو الطلاق الشرعي: أولاً: إذا أراد الرجل أن يطلق امرأته فلا يستعجل مخافة أن يندم، كما حكي عن الفرزدق أنه لما طلق امرأته ندم ندامة شديدة وقال في شعره: ندمت ندامة الكسعي لما غدت مني مطلقة نوار كانت له زوجة اسمها نوار، طلقها وندم عليها ندامة شديدة كندامة الكسعي، فمن تسرع في الطلاق قد يندم، فعليه أن يتريث وأن يصبر.
ثانياً: إذا عزم على الطلاق فإن عليه أن يطلقها وهي طاهر في طهر لم يطأها فيه، لا يطلق في حيض ولا يطلق في طهر قد جامعها فيه إلا أن تكون حاملاً.
ثالثاً: عليه أن يطلق واحدة ولا يزيد، فالزيادة على الواحدة طلقتين أو ثلاث طلقات بدعة، وإن كان يقع عند بعضهم، بل يقتصر على طلقة واحدة.
رابعاً: إذا طلقها فليتركها تبقى في بيتها؛ لأنها في حكم الزوجة ما دامت في عدته ومحبوسة عليه، فهي كزوجة له، يجوز لها أن تتكشف أمامه، ويجوز لها أن تتجمل وأن تتطيب وأن تتعرض له، فإذا غلبته نفسه واندفع إليها ووطئها فلا تمتنع منه، ويكون وطؤه لها كرجعة، يعني: يعتبر أنه راجعها؛ فلأجل ذلك قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق:1] يعني: المطلقات {وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق:1] ، لا تخرج المطلقة إلا إذا كانت بذيئة اللسان، إذا كانت مثلاً شريرة فيها شيء من العتو ومن النفرة ومن الشر والقساوة الشديدة فهذا هو الفاحشة، فالفحش هو الفحش في القول، فإذا أتت بفاحشة مبينة فيجوز له والحال هذه أن يخرجها، فإذا لم تكن كذلك فإنه يتركها في بيتها، ويجوز أن يدخل ذلك البيت، وما دامت في العدة فلها حق أن ينفق عليها، ولها حق أن يبيت عندها، وإن بات عندها وحفظ نفسه ولم يطأها حتى انتهت عدتها فإنها تحل بعد ذلك لغيره، أي: إذا انتهت عدتها وهو لم يراجع ولم يجامع، فتحل لغيره وتحل له أيضاً إن أراد زواجها إذا كان الطلاق رجعياً كما قلنا.
فالنبي صلى الله عليه وسلم أنكر على ابن عمر أنه طلقها وهي حائض، وجعل ذلك الطلاق بدعة وقال: (مره فليراجعها) ، فأفاد أن من طلق حائضاً يقال له: راجع.
ما معنى راجع؟ يشهد لقول الله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] فيقول: اشهدا يا فلان وفلان أني قد راجعت امرأتي.
إلى متى هذه الرجعة؟ إذا راجعها أمسكها، فإذا طهرت من تلك الحيضة التي طلقت فيها فالرجعة لها آثار، فلابد من أن يجامعها في ذلك الطهر الذي يلي تلك الحيضة حتى يصدق عليه أنه راجعها؛ لأنه قال: (مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر) ، فطلاقها في الطهر الذي راجعها في الحيض قبله يعتبر أيضاً بدعة، فيقال له: إذا راجعتها وهي حائض فلا تطلقها في الطهر الذي بعده، ولو لم تمسها، بل لا تتم الرجعة إلا بأن يمسها -أي: يجامعها في ذلك الطهر- ثم يتركها، فإن تبين حملها طلقها بعد الحمل، وإن لم يتبين حملها بل حاضت الحيضة الثانية فإذا طهرت من الحيضة الثانية طلقها وهي طاهر.
فعرفنا بذلك أنه لا يجوز الطلاق في الحيض، ولكن إذا طلق فإنها تحسب عليه طلقة من الثلاث الطلقات التي يملكها، وإذا طلقها وهي حائض فإنه يؤمر أن يستردها، وإذا استردها يؤمر أن يجامعها في الطهر الذي يلي تلك الحيضة، وإذا جامعها وحاضت حيضة بعدها فيؤمر إذا كان راغباً في طلاقها أن يطلقها في الطهر الذي يلي الحيضة الثانية قبل أن يجامعها، فحينئذٍ يكون قد طلقها لعدتها.
والعدة للحائل التي تحيض ثلاثة قروء قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] أي: ثلاث حيض، فإذا طهرت من الحيضة الثالثة فإنها تحتجب عنه، وتحل لغيره إذا خطبت، وإن خطبها بعد ذلك وتراضيا حلت له، ونكحها على ما بقي له من الطلقات، فهذا هو طلاق السنة.(62/4)
حكم طلاق الثلاث
الطلاق أكثر من مرة يعتبر طلاق بدعة، والسنة أن يطلق واحدة، فإن طلق اثنتين قيل: هذا طلاق بدعة، وإن طلق ثلاثاً قيل: هذا طلاق بدعة، والطلاق في الحيض بدعة، والطلاق في طهر وطئ فيه بدعة، والجمهور على أنه يقع الطلاق البدعي ويحسب عليه عقوبة له، وقد ثبت أن رجلاً جاء إلى ابن عباس رضي الله عنه فقال: إني طلقت امرأتي مائة طلقة فقال: بانت منك بثلاث طلقات، وسبع وتسعون وبال عليك، اتخذت بها آيات الله هزواً.
فأبانها بينونة كبرى بثلاث، وجعل البقية وبالاً عليه، فهذا دليل على أنها تعد عليه ولو جمعها.
وبكل حال فالطلاق كما عرفنا تخلية نكاح المرأة وفراقها، وقد ذكرنا أنها تتعلق به الأحكام الخمسة، فيكون مباحاً إذا احتاج إلى الطلاق وضجر من الحياة معها، ويكون مندوباً إذا كانت المرأة متضررة من سوء الصحبة وبحاجة إلى أن تفتدي، فيستحب أن يطلقها ولا يحوجها إلى فدية، ويكون حراماً إذا كان الطلاق في حيض أو في طهر وطئ فيه ونحو ذلك، فيعتبر حراماً؛ لأنه طلاق بدعة، ويكون واجباً إذا آلى من زوجته ألا يطأها أكثر من أربعة أشهر، فإنه بعد الأربعة الأشهر يجب عليه أن يرجع عن يمينه أو يطلق.
إذاً: يكون واجباً للإيلاء، وحراماً للبدعة، ومكروهاً لغير الحاجة، فإذا حسنت الصحبة بين الزوجين واستقامت الحال فإنه يكره أن يطلقها؛ لأن أبغض الحلال إلى الله الطلاق، ولأنه قد يندم بعدما يقع الطلاق وقد يصعب بعد ذلك تلافيه.
وقد وردت الأدلة على الأمر بالتغاضي من الزوج عما يرى من زوجته، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج، وكسرها طلاقها) ، فأمره أن يصبر على ما يرى فيها من عوج ومن نقص، ومن عيب، ويتحمل ذلك، ويصبر على ما يسمع أو على ما يرى؛ وذلك لما يتسبب عن الطلاق من الفرقة وشتات الأولاد وندم الزوج أو الزوجة على ما وقع منهما أو من أحدهما.
وكذلك أيضاً المرأة مأمورة أن تتحمل، وذلك فيما إذا كان الزوج سيئ العشرة، سيء الصحبة، شرساً حقوداً غضوباً شديداً شرس الأخلاق، ضيق العطن، بذيء الكلام، سباباً شتاماً ضراباً، شديد الأذى على زوجته، فإنها تتحمل وتصبر وتصابر إلى أن تستقيم حاله، وأما إذا كانت حالته مستقيمة ليس عليها ضرر، فليس لها حق أن تطلب الطلاق؛ وذلك لقول صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة سألت الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة) ، والبأس هو: الضرر.
فإذا كان الزوج قد أوفى لها متطلباتها، وأرغد عليها نفقتها وكسوتها، وقام بحقها ولم تجد منه ضرراً، ولم تجد منه نقصاً ولا قصوراً في شيء من أمور الحياة؛ فلا يجوز لها أن تطلب الفراق حتى ولو تزوج غيرها اثنتين أو ثلاثاً، فليس لها أن تطلب الطلاق ما دام أنه لا ضرر عليها ولا مشقة، فمتى تحمل كل من الزوجين ما يجده من الآخر، وصبر على ذلك؛ استقامت الحال وحسنت الصحبة.(62/5)
شرح عمدة الأحكام [63]
شرع الله العدة لحق الزوج وبراءة الأرحام، وفي هذه العدد معان وحكم تختلف من عدة إلى أخرى، وهي من محاسن الشريعة في تنظيم المجتمع وحفظ الأنساب.(63/1)
أنواع العدد
قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [باب العدة.
عن سبيعة الأسلمية: (أنها كانت تحت سعد بن خولة وهو من بني عامر بن لؤي، وكان ممن شهد بدراً، فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك -رجل من بني عبد الدار- فقال لها: ما لي أراك متجملة! لعلك تريدين النكاح؟ والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر.
قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك، جمعت عليّ ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزويج إن بدا لي) ، قال ابن شهاب: ولا أرى بأساً أن تتزوج حين وضعت وإن كانت في دمها غير أنه لا يقربها زوجها حتى تطهر.
وعن زينب بنت أم سلمة قالت: (توفي حميم لـ أم حبيبة فدعت بصفرة فمسحت بذراعيها، وقالت: إنما أصنع هذا؛ لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاث إلا على زوج) ، الحميم: القرابة] .
هذا الباب يتعلق بالعدة أي: عدة المطلقة أو المفارقة أو المتوفى عنها، وقد أخبر الله تعالى بأن المطلقة لها عدة قال تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] والتربص هو الانتظار، أي: لا تتزوج حتى يمر بها ثلاثة قروء، وفسرت القروء بأنها الحيض أي: حتى تحيض ثلاث حيض، وفسرت أيضاً بأنها الأطهار، أي: حتى تطهر ثلاثة أطهار أي: طهر ثم حيضة ثم طهر ثان ثم طهر ثالث.
المرأة التي يأتيها الحيض منتظماً أو التي لم تزل في سن تحيض فيه أمثالها، عدتها ثلاثة قروء.
وإذا أراد أن يطلقها فقد تقدم أنه ينتظر حتى تطهر من حيضها ثم يطلقها بعدما تطهر قبل أن يجامعها؛ وذلك لقول الله تعالى: {يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق:1] طلقوهن لعدتهن أي: في ابتداء العدة، وأحصوا العدة أي: احفظوا العدة حتى لا تزيدوا عليها في العدة ولا تظلموها.
فهذا يبين أن المرأة المطلقة لها عدة لابد أن تتربصها، هذا إذا كانت ذات أقراء، أما إذا انقطع حيضها للكبر أو كانت لم تحض بعد كالصغيرة فبين الله عدتها في قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق:4] ، فالكبيرة التي لا تحيض إذا طلقت تربصت ثلاثة أشهر، والصغيرة التي لم تحض إذا طلقت عدتها ثلاثة أشهر أيضاً.
وذكر الله عدة الحامل في قوله تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] ، وذكر عدة المتوفى عنها في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234] ، فبين الآيتين عموم وخصوص، فقيل: إن آية سورة البقرة أعم، يعني: أن كل متوفى عنها لابد أن تمكث أربعة أشهر وعشراً بعد موت زوجها، فإن كانت حاملاً ووضعت حملها انتظرت بعد وضع الحمل حتى تتم أربعة أشهر وعشراً، وإن لم تكن حاملاً أتمتها.
وهذا قول روي عن بعض السلف، قالوا: وإن أتمت الأربعة أشهر وحملها باقٍ فإنها تنتظر حتى تضع حملها ولو بقي بعد موت زوجها تسعة أشهر، فلا تنقضي عدتها حتى تضع؛ لقوله تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] .
ولكن قصة سبيعة التي ذكرت في هذا الحديث تبين أن الحامل تنقضي عدتها ولو وضعت حملها قبل أن يوارى زوجها أو قبل أن يجهز؛ لعموم الآية: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] .
وفي هذه القصة: أن سبيعة كانت تحت سعد بن خولة وهو من بني عامر من قريش، فمات عنها في حجة الوداع في السنة العاشرة، وكانت حاملاً، فوضعت حملها بعد موته بأيام قليلة، فلما وضعت حملها اعتقدت أنها قد حلّت، فلما انتهت من نفاسها أو تعلت من نفاسها تجملت للخطّاب.
وفي هذا الحديث: أن أبا السنابل بن بعكك دخل عليها، وأخبرها بأنها لا تزال في العدة حتى تكمل الأربعة الأشهر والعشر؛ لأنه ما مضى على موت زوجها إلا أيام قليلة، فأنكرت ذلك وقالت: إن الله يقول: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] ، فكيف تبقى في العدة بعد أن وضعت الحمل؟ فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، فأقرها على ما فهمت، وأجرى آية سورة الطلاق على عمومها، وأن كل حامل متى وضعت حملها انقضت به عدتها، سواء وضعته بعد ستة أشهر أو بعد ستة أيام، أو أقل أو أكثر، فلو وضعت حملها بعد موت زوجها بدقائق انقضت عدتها، ولو وضعت حملها بعد موته بتسعة أشهر؛ بأن مات وقد علقت منه لم تنقض عدتها إلا بعد أن تضعه، ولو تعدد الحمل بأن كان في بطنها اثنان أو أكثر، لم تنقض عدتها إلا بوضع آخر ما في بطنها؛ لعموم الآية: {أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] .
وإذا أرادت أن تتزوج بعد وضع الحمل فلها ذلك، ولو كانت في دمها، حتى ولو بعد وضع الحمل بدقائق، ولكن معلوم أنه لا يحل وطؤها للزوج الجديد إلا بعد أن تطهر من نفاسها، فهذه هي المتوفى عنها.
أما إذا لم يكن بها حمل فإنها تمكث أربعة أشهر وعشرة أيام كما في الآية، وقد كان الجاهليون تمكث الزوجة بعد زوجها سنة كاملة، ونزل في ذلك آية هي قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} [البقرة:240] ثم نسخ الحول، واقتصر على أنها تمكث أربعة أشهر وعشرة أيام.(63/2)
الحكمة من العدة
الحكمة في العدة ظاهرة، فالحامل لا تتزوج حتى تضع حملها؛ لأن هذا الحمل من الزوج السابق، ولا يجوز لها أن تتزوج فيطؤها الزوج الجديد فيختلط الماءان، وقد ورد النهي الشديد عن وطء الحبلى، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماءه ولد غيره) يعني: لا يطأ الحامل التي حملها من غيره؛ وذلك لأن الوطء يكون زيادة لهذا الحمل أو تنمية له، يزيد المني في سمعه أو في حواسه أو نحو ذلك، فلأجل ذلك سماه سقيا: (لا يسقي ماءه ولد غيره) ، وفي رواية: (زرع غيره) ، حتى لا تختلط الأنساب؛ لأنها إذا تزوجت وهي حامل فربما تنسب الولد إلى الزوج الجديد، وتنكر أنه لزوجها القديم، فيحصل بذلك اختلاط الأنساب، وكون هذا الإنسان انتسب إلى غير أبيه، والأم تعرف أنه قد انعقد الحمل في رحمها، فلا يحل لها أن تتزوج وهي حامل، بل عليها أن تخبر بما في رحمها، قال تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:228] ، فلا تكتم الحمل الذي في رحمها، ولا تكتم الحبل الذي في رحمها، بل تخبر بحقيقة الأمر، وهي مصدقة ومقبولة الكلام، والأمر يرجع إليها.
أما تربص المطلقة فمعلوم أن الحكمة في ذلك الرفق بزوجها، فإذا طلقها ثلاثاً أو طلقها آخر ثلاث، أو طلقها واحدة أو اثنتين، فإنها لا تتزوج حتى تمكث ثلاث حيض، فإن كانت رجعية بأن كان الطلاق واحداً أو اثنتين أمكنه أن يراجعها في هذه المدة، قال الله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} [البقرة:228] أي: في ذلك الوقت والزمان الذي هو العدة، أي: أن الزوج إذا طلقها واحدة ومكثت ثلاثة قروء يمكن أن يستردها بأن يعيدها إلى عصمته، يقول الله تعالى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق:1] فأمره أن يطلقها لعدتها، وأن يتركها في بيتها، وأن تبقى على حالتها معه لا تحتجب عنه، فإذا بدا له في هذه المدة مراجعتها، وتغيرت نيته وراجعها، رجعت إلى عصمته، وعادت الأمور إلى ما كانت عليه، ورجعت الزوجية وحسنت الحال، فقد يحصل تأسف من أحدهما بعد وقوع الطلاق، فإذا كان الطلاق رجعياً وكانت المدة طويلة ثلاثة أشهر أو ثلاث حيض كان في الإمكان أن يتراجعا، فجعلت هذه المدة فسحة للزوج حتى يراجع نفسه.
وكذلك إذا كانت المطلقة تعتد بالأشهر كالآيسة والصغيرة، فإن عدتها ثلاثة أشهر، وفي هذه الثلاثة الأشهر أيضاً فسحة، ربما يتأسف فيعيدها، سيما إذا كانت طويلة الصحبة، وكانت أم أولاده، فإنه قد يندم بعد ذلك، وهي أيضاً قد تندم إذا حصل الطلاق بسبب من قبلها، بأن تكون هي التي طلبت الطلاق أو أساءت المعاملة أو شددت عليه الصحبة، أو في العشرة، ثم وقع الطلاق، وكان الطلاق واحدة أو اثنتين؛ فجعلت العدة لها حتى تراجع نفسها وحتى تنظر في أمرها، فربما تتأسف وتقول له: أريد الرجعة، وأحب أن تعيدني، وسوف أحسن العشرة، وأحسن الخلق، ولا أعود إلى طلب طلاق، ولا أعود إلى سباب، ولا إلى سوء معاملة، ولا إلى عصيان ونشوز ومخالفة.
فعند ذلك يعيدها إلى ما كانت عليه، فعرف أن شرعية هذه العدة سببه الرفق بالزوج، والإحسان إليه.
وأما المتوفى عنها إذا كانت حاملاً فمعلوم أن زوجها لا رجوع له عليها في الدنيا، بل قد بانت منه البينونة الكبرى التي هي الموت، فإذا مات فإنه لا جمع بينهما في الدنيا، فإذاً: تحل لغيره، ولكن بعدما تنقضي عدتها، فإن لم تكن حاملاً انتظرت أربعة أشهر مخافة أن يكون في بطنها حمل وهي لم تشعر به.
والغالب أن الأربعة الأشهر يتقلب فيها الجنين إلى أن ينفخ فيه الروح، أربعة أشهر هي أربعون يوماً نطفة ثم علقة ثم مضغة، ثم بعد الأربعة الأشهر ينفخ فيه الروح فيتحرك، فإذا مضت الأربعة الأشهر جعلت العشرة الأيام احتياطاً حتى تعرف، فإن كان فيها حمل أحست به وبحركته، فإذا لم يكن فيها حمل تبين أنها حائل، وجعلت الأربعة الأشهر وعشرة الأيام لكل مطلقة حتى ولو كان يأتيها الحيض كل شهر، وتتحقق براءة رحمها، فجعلت العدة والاحداد لكل متوفى عنها سواءً كانت حائضاً أو آيسة أو في بطنها حمل لم يتبين، فإذا تبين براءة رحمها في الأربعة الأشهر والعشرة عند ذلك تمت عدتها.
ومعلوم أنها في هذه المدة تستطيع أن تصبر عن الزواج أربعة أشهر، وقد تصبر أيضاً أكثر من ذلك، ولكن هذه المدة هي التي يخشى إذا طالت المدة فوقها أن يضر ذلك بها، فإن لها شهوة كما للرجال شهوة، فجعل الله هذه المدة لأنها مدة مستطاعة لكل من الزوجين، ولكل منهما مراجعة الآخر، والنظر في حاله في الطلاق الرجعي وفي غيره.
أما المطلقة التي طلقت ثلاثاً فمعلوم أنه لا رجعة لزوجها عليها، ومع ذلك تعتد ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر، ولعل الحكمة في ذلك الاحتياط للنكاح حتى لا تكون مثلاً قد انتهت عدتها في شهر أو في نصف شهر فتستعجل النكاح، فجعل لها ثلاث حيض أو ثلاثة أشهر احتياطاً للحمل، واحتياطاً لحفظ الأرحام، ولتكون عدة المطلقة على نمط وباب واحد.
واعلم أن باب العدد قد ذكرت أدلته في القرآن كما أشرنا إلى ذلك، فيعرف بذلك أنه من أهم المهمات، وأن أدلته واضحة في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(63/3)
شرح حديث: (لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث)
قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [وعن أم عطية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً، ولا تلبس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عصب، ولا تكتحل ولا تمس طيباً إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار) العصب: ثياب من اليمن فيها بياض وسواد.
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، مرتين أو ثلاثاً، ثم قال: إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول، فقالت زينب: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشاً ولبست شر ثيابها، ولم تمس طيباً ولا شيئاً حتى تمر عليها سنة، ثم تؤتى بدابة حمار أو طير أو شاة فتفتض به، فقلما تفتض بشيء إلا مات، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها، ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره) الحفش: البيت الصغير.
تفتض: تدلك به جسدها] .(63/4)
معنى الإحداد
هذه الأحاديث تابعة للعدة، ولكنها تختص بالإحداد، والإحداد يختص بالزوجة المتوفى عنها، ولا يحد غيرها من المتوفى عنهن، ولا يحد غير المتوفى عنها من سائر المطلقات، فإذا طلقها ثلاثاً فلا تحد، وإذا خالعها فلا إحداد عليها، سواءً كانت صغيرة أو كبيرة، ذات أقراء أو غيرها، إنما الإحداد على من مات عنها زوجها، فهذه هي التي تحد.
والإحداد ترك الزينة، وقد كانت مدته في الجاهلية سنة كاملة، وجاء ذلك في أول الإسلام قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة:240] ، ففي هذه الآية أن المتاع وعدم الإخراج من المنزل كان في أول الأمر سنةً وافية، ثم بعد ذلك خففه الله وجعله أربعة أشهر وعشرة أيام في قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234] ، وجاءت السنة بزيادة الإحداد، لأن القرآن جاء فيه التربص، أي: الانتظار، وهو انتظار المتوفى عنها أربعة أشهر وعشرة أيام، وعدم تزوجها حتى تمضي هذه المدة، والسنة جعلت عليها الإحداد في أربعة أشهر وعشر.
والإحداد يختص بوفاة الزوج، فلا تحد المرأة على أبيها ولا على أخيها ولا على ولدها ولا على عمها أو خالها، ولا على أحد من أقاربها إلا على الزوج فإنها تحد عليه هذه المدة.(63/5)
الحكمة من الإحداد
الحكمة في الإحداد: أنها تمتنع من الزواج؛ وذلك لأنه لو رخص لها في التجمل وفي التحلي ونحو ذلك، لأدى بها ذلك إلى أن تمتد أطماعها إلى الزواج، وتخبر بانقضاء العدة قبل انقضائها، وتنسى ما هي فيه أو نحو ذلك.
وقيل: إن الحكمة في الإحداد معرفة المرأة حق زوجها في الحياة، إذا كان زوجها هو الذي تحد عليه وتترك بعد موته الزينة وتترك الجمال، فإنه يجب أن تعرف له حقه في الحياة، وأن تطيعه وأن تخدمه وتقوم بخدمته، وأن تعرف له الأقدمية والمكانة، وأن تعرف له حقه عليها فتطيعه ولا تتمنع من حق له عليها.(63/6)
ترك المحتدة لثياب الزينة والكحل والطيب
والمحدة مدة إحدادها تمتنع من كل أسباب الزينة، فلا تلبس ثياب الزينة، ولا تلبس الثياب التي تتجمل بها أو تلبسها في الحفلات وعند الزيارات ونحوها.
قوله في حديث أم عطية: (ولا تلبس ثوب عصب) ثياب العصب: ثياب تنسج في اليمن، فيها خطوط مستطيلة ومعترضة، وهذه الخطوط تزيدها جمالاً وتكون لافتة للنظر بلبسها، فلا جرم نهي عن لبس هذه الثياب، ويقاس عليها كل الثياب المخططة التي فيها خطوط إما مستطيلة وإما معترضة وإما بقع للزينة أو نحوها، فتؤمر بأن تلبس الثوب الذي ليس فيه إلا لون واحد سواد كله أو حمرة كله أو صفرة كله أو خضرة أو ما أشبه ذلك.
ولا تلبس الثياب التي فيها شهرة بحيث يلتفت إليها من ينظر إليها، أو تلفت نظره بأنها متجملة وبأنها تريد الخطّاب أو نحو ذلك.
كذلك أيضاً في الحديث الذي بعده أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن تلك المرأة التي مات زوجها، واشتكت عينيها هل تكتحل أم لا تكتحل؟ فقال: (لا تكتحل) مرتين أو ثلاث مرات؛ وذلك لأن الكحل عادة يجمل العينين، ويجمل الحدقتين والأهداب والأجفان، وقد تكحل أيضا حاجبيها فيزيدها جمالاً، فنهيت عن الاكتحال مع أنها قد تحتاج إليه، ولكن يقولون: لا تمتنع من علاج عينها، فإذا رمدت عالجت عينها بإثمد مثلاً أو بمرهم أو بقطرة من القطرات التي تعالج بها العين في الرمد أو ما أشبه ذلك، فهذا مما لا بأس به، وأما الكحل فإنه في الحقيقة يعتبر جمالاً وزينة، ورخص بعضهم فيه إذا احتاجت إليه للضرورة ولم يكن فيه زينة بأن تكحل بالليل وتمسحه في النهار؛ لأن النهار هو الذي يراها فيه الناس غالباً، فتقتصر على وقت الحاجة إذا اضطرت إلى الاكتحال ولم تجد غيره يقوم مقامه، هذا بالنسبة إلى الاكتحال.
كذلك أيضاً تتجنب الطيب سواء كان له رائحة أو له لون، وسواء في بدنها أو في ثيابها، ولا شك أن الطيب يلفت الأنظار.
وفي حديث أم حبيبة لما توفي أبوها أبو سفيان، ومضى عليها ثلاثة أيام دعت بصفرة يعني: طيباً فيه صفرة كالكرمي ونحوه، ومسحت به ذراعيها وقالت: (والله! ما لي بالطيب من حاجة، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً) .
فتطيبت بعد موت أبيها بثلاثة أيام حتى لا يقال: إنها حادة على أبيها؛ لأن الإحداد لا يكون إلا على الزوج، وطيبها إنما هو بهذه الصفرة التي مسحت بها ذراعيها، فدل على أن الطيب الذي له لون ينافي الإحداد فلا تتطيب بهذا اللون، وبطريق الأولى الطيب الذي له رائحة عبقة، سواء يطيب به الثوب أو يطيب به الشعر أو يطيب به البدن، أو نحو ذلك، وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وهي حادة على زوجها فرآها قد غسلت رأسها بصبر فيه شيء من الرائحة، فسألها فأخبرته فقال: لا تستعملي هذا الصبر فإنه يشب الوجه، فسألته بأي شيء أغسل رأسي فقال: بالسدر، يعني: بورق السدر المسحوق فإنه لا رائحة له، وهو مع ذلك ينظف الشعر، وينظف البشرة، وليس فيه أثر طيب، وإذا احتاجت الحادة في هذه الأزمنة إلى أن تغسل رأسها غسلت رأسها بالسدر إن كان موجوداً أو غسلته بالصابون الذي لا رائحة له، وأما استعمال الصابون الذي فيه طيب كالممسك فلا تستعمله.
وكذلك لا تدهن رأسها بدهان فيه طيب، وإذا احتاجت إلى أن تدهن رأسها دهنته بدهن لا طيب فيه، كدهن زيت الزيتون ونحوه مما ليس فيه رائحة، بخلاف بقية الأدهان التي فيها رائحة عبقة، والحادة مأمورة أن تتجنب ما له رائحة تلفت الأنظار.
وعلى كل حال فالحادة لا تتطيب.
وفي هذا الحديث رخص النبي صلى الله عليه وسلم لها إذا طهرت من الحيض أن تغسل ما أصاب جسدها من دم الحيض، تتخذ نبذة من ظفر أو أقساط تتبع به أثر الدم، والقسط: طيب معروف ولكن ليس له رائحة عبقة، والأظفار: أيضاً نوع من الطيب يوجد عند البقالين، تخلط هذا القسط وهذه الأظفار وتسحقه، وبعد ذلك تضربه بماء وتتبع به أثر الدم على فخذيها أو على ثيابها، فتستعمله بعد طهرها من حيض إن كانت تحيض، فأما في غير الطهر فلا تستعمل القسط ولا غيره من أنواع الطيب.
وكذلك الحادة منهية أن تلبس الحلي؛ لأنه من الزينة فلا تلبسه في رقبتها كالقلادة، ولا تلبسه في أصابعها كالخواتيم، ولا تلبسه في ذراعيها كالأسورة، ولا تلبسه في آذانها كالأقراط، ولا في رجل ساقيها كالخلاخيل، ولا غير ذلك من الألبسة التي يتحلى بها، سواء كانت من الذهب أو من الفضة، ولا شك أن الحلي يلبس للزينة، وتتجمل به المرأة، وتدعو به من يرغب فيها، فإذا لم تتحل فإنه دليل على أنها حادة قد اجتنبت ما يلفت إليها الأنظار، فهذا ما تتركه الحادة.(63/7)
عادة الجاهلية في إحداد المرأة
أهل الجاهلية كان الإحداد عندهم مدة سنة، وإذا مات زوج المرأة تدخل حفشاً أي: بيتاً صغيراً، وغالباً أنه مكون من قصب أو من جريد أو من سعف أو نحو ذلك، تدخل هذا الحفش وليس عندها مكيفات ولا تهوية ولا غير ذلك، وتبقى في هذا الحفش سنة وافية، لا تغتسل فيه ولا تتنظف، ولا تغير ثيابها، ولا تغسل شعرها في هذه المدة كلها، حتى تمضي عليها سنة وهي على هذه الحال، ولا تأكل إلا القوت الضروري الذي تقوت به نفسها، تعطى خبزة كل يوم أو خبزتين أو نحو ذلك قدر كفايتها، ومن الشراب ما يسد ظمأها فقط، أما أنها تغسل رأسها أو تغسل جسدها فلا، فكانت لا تغسل شيئاً من جسدها ولا من ثيابها مدة سنة، ماذا تكون حالها بعد هذه السنة وهي في هذا الحفش -البيت الصغير- الذي ليس فيه تهوية، وكله وسخ وقذر؟ كيف تكون حالها إذا خرجت منه؟ وبعد تمام السنة تؤتى بدابة كحمار أو طير أو نحو ذلك فتفتض به قبل أن تغتسل، أي: تدلك به جسدها الذي قد تراكم عليه الغبار، وتراكمت عليه الأوساخ، وتراكمت عليه الروائح، فتدلك جسدها بجلد ذلك الحمار أو تلك الدابة أو الشاة ونحوها، حتى أن تلك الدابة قد تموت من رائحتها وقذارتها، قلما ما تفتض -يعني: تدلك- بشيء من الدواب إلا مات، ثم بعد ذلك يأتونها ببعرة، والبعرة هي بعرة الإبل أو نحوه، فترمي بهذه البعرة طوال ما تستطيعه وكأنها تقول: هذه السنة التي مضت عليّ خفيفة كما تخف عليّ هذه البعرة التي أنبذها وأطرحها، وكل ذلك محافظة على حق الزوج، ولكن جاء الإسلام بالتخفيف عنها، فأمرت أن تغتسل متى شاءت، وتغتسل إذا انتهت من الحيض أو نحو ذلك، وإذا احتاجت إلى الاغتسال فإنها تغتسل ولكن كما قلنا: لا تستعمل في غسل جسدها ما له رائحة ونحوه، وذلك من تخفيف الله تعالى، وتخفيف هذه الشريعة عليها، وذلك من سهولة الإسلام وإزالة الآصار والأغلال.(63/8)
شرح عمدة الأحكام [64]
من الأمور التي شرعها الله للخلاص من المرأة المتهمة في عرضها اللعان، وهو فرقة ناتجة عن تلاعن الزوجين، ويترتب عليها أحكام بينها العلماء.(64/1)
شرح حديث الملاعنة
قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [باب اللعان.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن فلان ابن فلان قال: (يا رسول الله! أريت أن لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة كيف يصنع؟ إن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك، قال: فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبه، فلما كان بعد ذلك أتاه فقال: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به، فأنزل الله تعالى هؤلاء الآيات في سورة النور: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور:6] فتلاهن عليه ووعظه وذكره وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقال: لا والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها.
ثم دعاها ووعظها وذكرها وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقالت: لا والذي بعثك بالحق إنه لكاذب، فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم ثنى بالمرأة، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ثم فرق بينهما ثم قال: الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ ثلاثاً -وفي لفظ: لا سبيل لك عليها قال: يا رسول الله! ما لي، قال: لا مال لك، إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها) .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن رجلاً رمى امرأته وانتفى من ولدها في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاعنا كما قال الله تعالى، ثم قضى بالولد للمرأة، وفرق بين المتلاعنين) ] .(64/2)
سبب نزول آيات اللعان
هذه الأحاديث من الأحاديث التي تشرح وتبين ما ورد في كتاب الله تعالى من آيات اللعان، ذكر العلماء أنه لما نزلت آيات القذف وحد القاذف وهي قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:4-5] ، استثقلها بعض الصحابة وقالوا: إذا رأى أحدنا رجلاً مع امرأته يفجر بها كيف يذهب ويأتي بأربعة شهداء؟ أي أنه لا يتمكن من المجيئ بأربعة شهداء حتى يقضي الفاجر حاجته ويذهب، فعند ذلك تحرجوا ووقعوا في مشكلة، فبين الله تعالى حكم ما إذا قذف الرجل امرأته في هذه الآيات، وبقيت الآيات التي فيها حد القذف خاصة لمن قذف أجنبياً أو أجنبية، فمن قذف رجلاً بفعل فاحشة لا يقبل منه إلا بأربعة شهداء، أو قذف امرأة محصنة فلا يقبل منه إلا بأربعة شهداء، قال الله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء:15] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:4] ، وقال تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:13] .
أما إذا قذف الرجل امرأته فإنه قد لا يستطيع أن يحضر أربعة شهداء، ففي هذه الحال ماذا يفعل؟ يقول هذا السائل الذي عبر عنه الراوي بقوله: فلان، وقد سمي في بعض الروايات بأنه عويمر العجلاني من بني عجلان من الأنصار، ووقعت مثل هذه القصة لرجل آخر وهو هلال بن أمية أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم في قوله {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:118] .
هذان الاثنان وقع أن كلاً منهما قذف امرأته وتلاعن معها عند النبي صلى الله عليه وسلم بعدما نزلت هذه الآيات، ويمكن أن قصة هلال وقصة عويمر وقعتا في وقت قريب في شهر أو في شهرين، فأنزل الله هذه الآيات في بيان حكم مثل هذه القصة.
دعا النبي صلى الله عليه وسلم عويمراً فقرأ عليه هذه الآيات وذكره ووعظه إذا كان كاذباً أن يعترف؛ وذلك لأنه إذا اعترف بأنه كاذب فحده ثمانون جلدة، وإذا أنكر وهو كاذب عليها فعقوبته في الآخرة أشد؛ ولأجل ذلك قال له: إن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، فعذاب الدنيا منقطع، وعذاب الآخرة أشد وأبقى، ولكنه أصر على أن يستمر على قذفه لها، وأنه رآها تزني.
فعند ذلك أمره أن يلتعن ويقول: أشهد بالله على امرأتي هذه أنها زنت، أشهد بالله على زوجتي هذه أنها زنت، أشهد بالله على هذه المرأة أنها زنت، أربع مرات ثم يقول بعد ذلك في المرة الخامسة: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، فشهد أربع شهادات أنه صادق، وقال: لقد صدقت عليها فيما قلت، ولعن نفسه في المرة الخامسة إن كان قد كذب عليها.
ولما تم لعانه دعا المرأة واستثبتها ووعظها وذكرها وأخبرها بأن عذاب الآخرة أشد من عذاب الأولى؛ رجاء أن تعترف إن كانت قد فجرت، ولكنها أصرت على الإنكار وتشددت وقالت: قد كذب عليّ، فعند ذلك استحلفها فشهدت أربع مرات، وقالت: أشهد بالله على زوجي هذا أنه من الكاذبين فيما قذفني به، أربع مرات ثم قالت في الخامسة: غضب الله عليها إن كان من الصادقين، فلما شهدت على نفسها أربع مرات، وفي الخامسة دعت على نفسها بالغضب؛ عند ذلك ذكرهما بالتوبة فقال: (الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟) .
النبي صلى الله عليه وسلم بشر لا يعلم الغيب، ولو كان يعلم الغيب لقال: أنتِ كاذبة، وأنت صادق، أو أنتِ صادقة وأنت كاذب، ولكن الله الذي يعلم فلذلك قال: (الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟) ، فلما استمر كل منهما على ما يبرر موقفه وأنكر ما يقوله الثاني، عند ذلك فرق بينهما فرقة مؤبدة، فأخذ العلماء من ذلك أن الملاعنة تحرم على الملاعن عقوبة لهما حرمة مؤبدة، حتى لو كذب نفسه بعد ذلك لم يرجع إليها، وكذلك لو كذبت نفسها وسقط عنها الحد أو كانت غير محصنة وجلدت وأقيم عليها الحد لم يتمكن من مراجعتها، لا بعقد ولا بمراجعة ولا بغير ذلك، بل الفرقة بينهما فرقة دائمة لا رجوع بعدها؛ ولأجل ذلك قال: لا سبيل لك عليها، أي: ليس لك سلطان ولا قدرة أن تستعيدها.
وفي بعض الروايات أنه طلقها، وقال: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، أي: إن كنت رضيتها فأنا كاذب عليها، فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا الطلاق لا يحتاج إليه؛ لأن الفرقة حصلت قبله، بمجرد تمام التلاعن حصلت الفرقة، ولما طلب ماله الذي دفعه كمهر قطع رجاءه من هذا المال وقال: (إن كنت كاذباً عليها فهو أبعد لك منها، وإن كنت صادقاً فهو بما استحللت من فرجها) أي: أنك قد نكحتها مدة، فهذا المال الذي قد دفعته إليها مقابل استمتاعك بها هذه المدة.(64/3)
الفوائد المستفادة من حديث الملاعنة
أخذ العلماء من هذه الواقعة ومن هذه الآيات أحكاماً ومنها: أن هذه الفاحشة لا يصبر عليها ولا يقرها في أهله إلا الديوث الذي يقر الخنا في أهله، فهذان اثنان من الصحابة هلال وعويمر، كل منها صبر على فراق زوجته وادعى أنها زانية ولاعنها ولم يقرها أن تبقى معه وهو يعلم أنها قد فجرت، ولو مرة واحدة، وذلك دليل على حماستهم وغيرتهم على نسائهم، لا يرضى أحدهم أن يشاركه في امرأته شخص أجنبي يفسد عليه فراشه، ويدخل عليه من الأولاد ما ليس له، ولا يرضى أن امرأته تخونه فتدخل في بيته من لا يرضاه، وتجلس على فراشه غيره، وتمكن من نفسها غير زوجها، فإن ذلك حرام، وفعلها يعتبر خيانة لزوجها، وإقرار الزوج على ذلك يعتبر دياثة وإقراراً للإثم والحرام، ولم يكن الصحابة يقرون شيئاً من ذلك.
وهكذا أيضاً كل غيور، وكل من عنده حماسة وغيرة على محارمه لا يقر الخنا في أهله، بل متى رأى من امرأته شيئاً من الخيانة أدبها ولو بالإشارة أو نحو ذلك، وإذا لم يستطع أن يقيمها لم يمسكها، بل صبر على فراقها ولو كان معها أولاده، يصبر على فراقها ولو قد خسر عليها مالاً كبيراً، وكذلك يحرص على أن تبرأ ساحته، حتى لا يقال: إنه ظلمها، وإنه كذب عليها؛ فلأجل ذلك يحضر الغيور الذي يغار على محارمه عند القاضي، ويحضر امرأته، ويحضر معه من يشهد عليها ويعرف أنها فلانة امرأة هذا الرجل، فعند ذلك يأمره القاضي بهذا الأمر الذي هو التلاعن.
والقرائن غالباً تكون في جانب الرجل، فهو أولى أن يكون صادقاً؛ وذلك لأنه في الغالب لا يصبر على فراق امرأته، ولا على فراق أولاده، ولا على ذهاب ماله الذي دفعه إلا وقد رأى شيئاً يسوءه، ورأى ما لا صبر له عليه من هذه الخيانة الشنيعة البشعة، فعند ذلك يقدم على قذفها ورميها؛ حتى تبرأ ساحته، وحتى يظهر عيبها وشناعتها، ويظهر خيانتها، ويعرف الناس أنها متهمة فلا يقبلها من هو ذو غيرة، وذو أنفة على نفسه؛ فإذا افتضحت هذه المرأة بأنها قد لاعنت وطلقت، وأن زوجها ليس بمتهم، وأن التهمة أقرب إليها؛ كان ذلك أقرب إلى ألا تفعل شيئاً يسوءها ولا يسوء زوجها.
وفي هذه الأزمنة كثير من الرجال يأتون إلينا ويشتكون ما يرونه من نسائهم أو يسمعون أو يطلعون على أسرار أو على خفايا أو على قرائن أو نحو ذلك، ولعلكم قد سمعتم أكثر مما سمعنا، فنشير عليه بأن يفارقها سراً إذا تحقق أنها قد اتخذت أخداناً، وأنها قد خانته في نفسها وفي فراشه، فنشير عليه أن يفارقها وألا يكشف سترها وسرها، ولكن يخبرها فيما بينه وبينها حتى يكون ذلك عذراً له عندها، فيخبرها بأنه قد اطلع على كذا وكذا، وكثير من الرجال يطلعون على شيء كثير، وفي الأخص في الزمن الأخير بسبب وجود المكالمات الهاتفية، فيسجل عليها مكالمات بينها وبين بعض أخدانها، ويجد أنها قد خرجت معهم، أو أنها قد أدخلتهم في غيبته، وهذه الأشرطة تشهد بكلامها معهم، وبما قد يحصل من ترقيق الكلام، وما أشبه ذلك مما يدل على بشاعة ما حصل منها أو تهمتها في ذلك، أو قد يجد أنها أدخلت في اليوم الفلاني شخصاً أو خرج من عندها من هو متهم، أو نحو ذلك، ولكن ليس عنده يقين، ما رأى بعيني رأسه فعلها للفاحشة ولكن رأى هذه المقدمات، ولا يستطيع أن يقذفها بمجرد هذه المقدمات، ففي هذه الحال يخبرها سراً، ويفارقها ولا يمسكها وهي على هذه الحالة حتى يسلم عرضه، وحتى يسلم نسبه، ولا يدخل في نسبه ولا في أولاده من ليس من أهله، وبذلك يستر نفسه ويستر امرأته، ولا يعرض نفسه للحلف أو للعن أو للشهادات أو ما أشبه ذلك.
أما إذا رأى بعينه وسمع بأذنه، رأى الفاحشة بأن وجد عليها رجلاً أجنبياً، فنقول له في هذه الحال: يحقق هذا الباب الذي هو اللعان، فيرميها، ويحضر معها عند الحاكم كما فعل هذان الصحابيان هلال وعويمر، ويأمره القاضي بأن يشهد هذه الشهادات، ثم بعد ذلك يكون ذلك فضيحة لها وتشهيراً لها حتى يتوب أمثالها من النساء اللاتي فيهن ميل إلى المخادنة وخيانة أزواجهن، ويعرفن أن هذه الفضيحة كما أتت عليها قد تأتي على إحداهن أو على جميعهن، فيقل بذلك الشر وينتشر الخير.(64/4)
شرح حديث: (وهذا عسى أن يكون نزعه عرق)
قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل من بني فزارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي ولدت غلاماً أسود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، هل لك إبل؟ قال: نعم.
قال: فما ألوانها؟ قال: حمر.
قال: فهل يكون فيها من أورق؟ قال: إن فيها لورقاً، قال: فأنى أتاها ذلك؟ قال: عسى أن يكون نزعه عرق، قال: وهذا عسى أن يكون نزعه عرق) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلام فقال سعد: يا رسول الله هذا ابن أخي عتبة بن أبي وقاص، عهد إليّ أنه ابنه، انظر إلى شبهه! وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله! ولد على فراش أبي من وليدته، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شبهه، فرأى شبهاً بيناً بـ عتبة، فقال: هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش، وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة، فلم تره سودة قط) .
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليّ مسروراً تبرق أسارير وجهه، فقال: ألم تري أن مجززاً نظر آنفاً إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد فقال: إن بعض هذه الأقدام لمن بعض) ، وفي لفظ: (كان مجزز قائفاً) ] .
الحديث الأول فيه بعض القذف، وهل يكون هذا قذفاً أم لا؟ هذا رجل ولد له غلام، ورأى لونه وبشرته مخالفة لبشرة أبويه وأجداده وإخوته، فشك في نسبته وفي صحة أنه منه، فأراد أن يعرّض بامرأته أنها زنت، وأن هذا الولد ليس مني، كيف يكون مني وهو أسود الجلد مع أن أبويه ليسا كذلك؟! فبيّن له النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا السواد ليس دليلاً على أنه من غيرك، وضرب له المثل بالإبل: إذا كان لك إبل، فالإبل عادة يكون أولادها مثلها، فإن كان الأبوان حمراً كان الأولاد كذلك، وإن كانوا سوداً أو بيضاً أو صفراً أو نحو ذلك كان الأولاد كذلك، إلا إذا اجتذبه عرق ولو بعيد، فأخبره بأن له إبلاً وأن ألوانها حمر، وكانوا يغالون في حمر النعم، أي: الحمر من الإبل، فسأله: (هل فيها أورق؟ يعني: أسود- فقال: إن فيها لورقاً) يعني: لمجموعة ورق، أي: سود، قال: من أين جاءت هذه الورق؟ قال: لعله نزعه عرق، فقال: وهذا الولد الأسود يمكن أنه قد نزعه عرق، فلعل أحد أجداده ولو كان بعيداً أو جداته فيه شيء من السواد أو السمرة أو نحوها، فلا تستغرب أن يكون ولدك بهذه الصفة.
ومعلوم أن الأب ينسب إليه أولاده، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان ينسب الأولاد إلى من ولدوا له كما سيأتي، ففي هذا الحديث أن الولد ينسب إلى أبيه، وأنه لا يجوز له أن يتبرأ من ولده الذي ولد من زوجته التي هي فراشه يستمتع بها، ويطؤها حلالاً، وحملت ووضعت وهي تحته فراشاً له، فلا يجوز أن ينفيه، سيما إذا عرفها بالعفة وبالنزاهة وبالبعد عن أن تمكن من نفسها غيره، أو البعد عن أن تتهم بفاحشة؛ لأن ذلك الرجل زكى زوجته، وشهد لها أنها بعيدة عن الشبهات، وبعيدة عن أن تتهم بتهمة سيئة.
ولما كان هو زوجها وكانت هي امرأته وليست متهمة، فإنه ينسب إليه أولادها مهما كانت ألوانهم، ولو كان هو أبيض وهم سود أو هو أحمر وهم بيض أو غير ذلك؛ فأولادها تبع لزوجها، ينسبون إلى زوجها، هذا هو القول الصحيح، ولا عبرة في مغايرة اللون، فالله تعالى هو الذي خلق الإنسان وغيّر ألوان الناس كما في قول الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم:22] فجعل اختلاف الألسن واختلاف الألوان من آيات الله؛ ليكون ذلك عبرة، فهؤلاء كلهم بنو آدم، وجعل الله منهم الأسود والأحمر والأبيض، وجعل الله منهم القصير والطويل، وجعل الله منهم كامل الخلق وناقص الخلق، والمشلول والمعيب ونحوهم، وكلهم خلق الله تعالى، ومع ذلك فاوت بينهم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم:22] .(64/5)
شرح حديث: (الولد للفراش وللعاهر الحجر)
قصة عبد بن زمعة هي: أن زمعة الذي هو أبو سودة أم المؤمنين وهو من أكابر قريش، كانت له أمة مملوكة، وتسمى وليدة؛ لأنه استولدها فكان يطؤها فولدت له أولاداً فسميت وليدته، يعني: أم أولاده، مع كونها مملوكة له.
وكان الإماء في الجاهلية لا يتورعن من الزنا، ثم إن عتبة بن أبي وقاص وهو أخو سعد زنى بها، ولما زنى بها كان يمكن أنها حملت من ذلك الزنا، ويمكن أنها حملت من سيدها الذي هو زمعة، ولكن عتبة اعتقد أن الحمل الذي علقت به منه، فولدت غلاماً فكان شبيهاً بـ عتبة شبهاً ظاهراً، فلما حضره الموت قال لأخيه سعد: إذا فتحتم مكة فاقبض إليك ابن وليدة زمعة فإنه مني، إنه ولد لي؛ لأني جامعت تلك الأمة في الجاهلية وحملت به، فهو ولدي، وهو مني ومخلوق من مائي، فخذه فإنه ابن أخيك.
ولما فتحت مكة، ذهب سعد إلى أولاد زمعة، وطلب منهم أن يسلموا إليه ذلك الغلام، وقال: إنه ابن أخي فقالوا: بل هو أخونا وابن أمة أبينا، فلا نسلمه لك، فهو من أولاد زمعة، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فاحتج سعد بحجتين: الحجة الأولى: أن أخاه قد عهد إليها أنه وطئ وزنى بتلك الوليدة، وأنها حملت منه.
الحجة الثانية: أن الولد شبيه بـ عتبة في الخلقة الظاهرة وفي الصورة وفي الهيئة، فحينئذٍ يكون أولى به.
وأما عبد فاحتج بالحجة الشرعية، وهو أن أمة زمعة كانت حلالاً له، وكانت أم أولاده، وكانت فراشاً له يطؤها وطأً حلالاً، وليس أحد يستنكر أنها أمته التي أبيح له وطؤها لكونها مملوكته، وأن الولد ولد منها وهي فراش له، بمعنى أنها كالفراش يفترشها لكونها حلالاً له، فهذا الولد ولد على فراش زمعة، هذه حجته.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يلتفت إلى الشبه الظاهر في ذلك الغلام، بل حكم بالظاهر، وقال: الولد لك يا عبد، هو أخوك وينسب إلى أبيك؛ لأنه ولد على فراشه، وحكم بهذا الحكم وقرر هذه القاعدة: الولد للفراش وللعاهر الحجر.
الولد سواء كان ذكراً أو أنثى ينسب إلى صاحب الفراش الذي هو الزوج أو السيد الذي يستمتع بأمته، فالولد ينسب إليه، وأخذوا من هذا أن الزاني لا ينسب إليه الولد مهما كان، ولو اعترف بأن الولد منه، ولو اعترفت الزانية بأنه فجر بها وبأنها حملت منه، وبأنه ليس له شريك في هذا الولد، فنقول: لا ينسب إليه الولد، ولا يستحقه؛ وذلك لأن نكاحه نكاح حرام، فلا ينسب إليه مهما كانت الحالة، ولو كان شبيهاً به، ولو اعترف الأبوان بأنه منه، فلا ينسب إليه بل ينسب إلى أمه، فإذا ولد بينهما ولد من زنا يقال: ابن فلانة، هذا هو النسب الصحيح، ولا يجوز له والحال هذه أن يتزوجها وهي حامل حتى ولو كان الحمل منه.(64/6)
حكم زواج الزاني بمن زنى بها وهي حامل منه
مشهور الآن أن بعض الناس يخدع فتاة، ثم يواقعها مرة أو مراراً، فإذا حملت وتبين أنها حامل وخشي فضيحتها ذهب وخطبها ووافقت عليه، وبعد ذلك يعقد عليها وهي حامل من الزنا، ويدخل بها ويقول: أريد أن أسترها، فإذا وضعت حملها فلا حاجة لي فيها فسوف أطلقها، فنقول: هذا لا يجوز؛ وذلك لأن لا يجمع بين ماء حلال وماء حرام، ولو كان الماءان له، فلا يجوز له ولا يجوز لها هذا النكاح، بل متى حملت منه أو من غيره من زنا فإنه لا يقربها أحد حتى تضع حملها.
والمرأة المزوجة لو غاب زوجها مثلاً فوطئت بشبهة أو زنت وحملت من الزنا أو من وطء الشبهة حرمت على زوجها، ولم يجز له أن يجامعها حتى تضع ذلك الحمل، وإذا لم تحمل فعليه أن يتجنبها حتى يعلم براءة رحمها، وأنها لم تعلق من ذلك الزنا أو ذلك الوطء بشبهة، فلا يجامعها حتى تحيض حيضة يعلم به براءة رحمها من الحمل.
فإذا زنى إنسان بامرأة فلا يجوز له أن ينكحها ولو كان قصده أن يسترها، بل لا حرمة لها ولا حرمة له، وإذا ثبت زناها واعترفت أقيم عليها الحد الذي هو العقوبة الشرعية، فإن كانت ثيباً أقيم عليها الرجم إلا إذا ادعت أنها مكرهة، وإن كانت بكراً أقيم عليها الجلد والتغريب، وهو الحد الشرعي الذي ثبت بالسنة، وأما هو فإذا اعترف بأن هذا الحمل منه، وأنه وطئها؛ فإن كان اغتصبها فلا عقوبة عليها لكونها مغصوبة مكرهة، وإن كان باختيارها فإن العقوبة عليهما معاً، وعقوبته هو كعقوبتها: إن كان قد تزوج زواجاً صحيحاً، ودخل بزوجته -وهو المحصن- فحده أن يرجم بالحجارة حتى يموت، وإن كان بكراً لم يسبق أن تزوج، فحده أن يجلد ويغرب كما يأتينا إن شاء الله في الحدود.
فأما أن يقول: سوف أتزوجها حتى أسترها أو حتى لا تفتضح؛ فلا يجوز، بل تترك حتى تفتضح وحتى يفتضح هو أيضاً، وإقامة الحدود والعقوبات الشرعية سبب لقلة المنكرات، وسبب لقلة الفواحش، وترك ذلك سبب لفشوها، فإذا رخص لهم في هذا كثر الزنا، وكثر الفحش، وصار كل من زنى وواقع امرأة حرص على أن يتزوجها ثم يطلقها، وطلاقه لها قد يكون الحامل له عدم ثقته بها، يقول: إذا زنت وهي غير متزوجة فيمكن أن تزني وهي متزوجة، فلا آمنها فراشاً لي.
وبكل حال فهذه القصة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) تبين أن المرأة إذا ولدت مولوداً نسب إلى زوجها الذي هو زوجها وتحل له، ولا ينسب إلى الزاني، ولا حق للزاني فيه ولا كرامة.(64/7)
شرح حديث مجزز المدلجي القائف
دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة وهو مسرور تبرق أسارير وجهه أي: يظهر عليه الفرح، فبشرها وقال لها: (ألم تري أن مجززاً المدلجي رأى آنفاً أسامة بن زيد وزيداً وقد غطيها رءوسهما وبدت أقدامها فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض) .(64/8)
فضل زيد بن حارثة
كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب زيداً، ويقال لـ زيد بن حارثة: حب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنه كان قد اعتقه، وقد ملكته خديجة في الجاهلية، ثم وهبته للنبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه وتبناه، ولما نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم صدقه، وكان هو أول من صدق النبي صلى الله عليه وسلم من الموالي، فصار محبوباً عنده صلى الله عليه وسلم، وزوجه بابنة خالته التي هي زينب بنت جحش، ولما أراد أن يطلقها قال له: (أمسك عليك زوجك واتق الله) ، ثم إن الله تعالى قدر أنه يطلقها حتى ينكحها النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب:37] فالله تعالى هو الذي زوجه زينب أي: عقد له عليها وهو ربها، وكانت تفتخر فتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات.
والحكمة في تزويجه قوله تعالى: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب:37] ، حيث كان زيد يدعى زيد ابن محمد، فأنزل الله فيه {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب:4] ، وقال تعالى في تحريم زوجة الابن: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:23] حتى لا يدخل فيها المتبنى الذي ليس هو ابناً، وإنما يسمى مولى.
والحاصل أنه صلى الله عليه وسلم كان يحبه، وقد تزوج أولاً بـ أم أيمن، وكانت أيضاً مولاة للنبي صلى الله عليه وسلم، وكانت سوداء، وزيد لونه أبيض أو أحمر، فولدت له أسامة، وكان لون أسامة أسود، فطعن الناس في نسبه وقالوا: كيف يكون الأب أبيض، والولد أسود؟ يمكن أنه ليس منه، يمكن أنه من زنا، فطعنوا في نسبه، ومعروف أنه ينسب إلى أبيه الذي هو صاحب الفراش، ومعروف أن زيداً رضي الله عنه من السابقين الأولين، وأنه لا يمكن أن يتبنى من ليس ابناً له، ومعروف أيضاً أن أم أيمن التي هي أم أسامة من السابقات، ومن المؤمنات، ومن العفيفات، فهي بعيدة عن فعل الفاحشة، ولكن كان لونها أسود فصادف أن الولد صار لونه كلونها، وهو أسامة، وقد رزق أيضاً محبة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يسمى الحب ابن الحب، كان يحبه ويحب أباه، وقال لما أمره على الجيش الذي أراد أن يبعثه إلى الشام وطعنوا في إمارته: (إنه لمن أحب الناس إليّ -يعني: زيداً - وإن هذا -يعني: ولده- لمن أحب الناس إليّ بعده) .
فلما كان يحبهما كان حريصاً على إبطال الشبهة التي يطعن بها فيهما، وفي نسب أسامة، وأنه ليس ابناً لأبيه، فجاء هذا القائف، وبنو مدلج يعرفون بالقيافة، والقيافة هي معرفة الشبه، بحيث إن أحدهم يعرف الإنسان ويعرف ولده ولو لم يكن بينهما تماثل في الألوان، فنظر إليهما مجزز وقد غطيا وجوههما، وغطيا رءوسهما في لحاف، وبدت أقدامهما، هذا أقدامه حمر وهذا أقدامه سود، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، يعني: أن هذا ولد هذا أو جده أو نحوه، ففرح النبي صلى الله عليه وسلم بهذا؛ ليكون مبطلاً لقول من طعن في نسب أسامة، حيث إن هذا القائف معروف بالصدق والذكاء وبالقيافة، ومعرفة الشبه، هو وأسرته وقبيلته، وهم في منزلة بني مرة في هذا الزمان الذين يعرفون الشبه ويعرفون الأثر، وكذلك كثير من القبائل الآن معهم قوة في الذكاء ومعرفة الشبه، بحيث يعرفون أن هذا ولد لهذا، ويعرفون أن هذا الأثر لأخوة أو نحو ذلك.(64/9)
اعتبار قول القائف
الحاصل أن في هذا دليل على اعتباراً قول القافة الذين يعرفون الشبه، وأنه إذا شهد واحد منهم مجرب الإصابة بأن هذا النسب صحيح قبل قوله.
وأخذوا من ذلك لو أن اثنين وطئا امرأة في طهر واحد، أحدهما زوجها، والآخر وطئها خطأً يعتقدها امرأته أو نحو ذلك، وعلقت بولد، واعترانا الشك هل هذا الولد لهذا أو لهذا؟ لمن يكون الولد؟ أو مثلاً كانا شريكين في أمة يملكانها، واعتقد كل منهما أنه يجوز له وطؤها، فوطئها هذا، ووطئها هذا، وعلقت بحمل، ولا ندري هل هو لهذا أو لهذا، كيف نفعل؟ وكذلك اللقيط، إذا وجدنا لقيطاً ساقطاً، ثم جاء اثنان وكل منهما يدعيه، هذا يقول: هو ولدي، وهذا يقول: هو ولدي، طرحته أمه عجزاً أو نحو ذلك، فكيف نفعل؟ نعرضه على القافة العارفين بالشبه، فإذا قالوا: إنه ابن هذا؛ ألحق به وثبت نسبه بذلك.
والشرع حريص على اتصال الأنساب؛ حتى لا يبقى مسلم بين المسلمين مجهول النسب؛ فإذا تحقق أو قارب أنه من فلان نسب إليه.
بعض العلماء يقول: لابد من اثنين من أهل القيافة يشهدان بأنه ابن فلان أو يقران بذلك، وبعضهم يكتفي بواحد لما في هذه القصة، وهو أن أسامة نسب إلى أبيه بدون شك، ولكن قد عرفنا أن أسامة ولد على فراش زيد، وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش، وللعاهر الحجر) ، فـ أسامة ولد على فراش زيد من زوجته التي هي حل له، فهو أنه ينسب إليه، وصدق ذلك كلام مجزز المدلجي: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فثبت النسب، وبطل قول من يطعن في نسبه بأنه ليس ابناً له، وأما إذا لم يكن هناك فراش، ولم تكن المرأة خاصة بأحد الرجلين أو نحو ذلك فيقول بعض العلماء ولعله القول الأرجح: لابد من قائفين معروفين بالإصابة، فيتفقان على أنه ابن هذا، فإذا اختلفا رجع إلى غيرهما، فإذا تنازع اثنان في ولد، كل منهما يقول: إنه ابني؛ لأنه وطء أمه لشبهة، عرض على القافة، فإذا عرض على اثنين، فأحدهما قال: هو ابن هذا، والثاني قال: بل هو ابن هذا، أتينا بقائفين آخرين حتى يتفقوا أو يخير بأن ينتسب إلى أيهما شاء إذا لم يعرف بيقين أنه ابن لأحدهما بسبب اختلاف القافة، فالقافة بشر ليسوا يعلمون الغيب، وإنما يحكمون بما يظهر لهم، وليس الظاهر جلياً لكل أحد، فقد يختلفان فيقول هذا قولاً، ويخالفه آخر أو آخرون، وعلى كل حال فالشريعة حريصة على صلة الأنساب، وعلى تقليل الأفعال التي يكون فيها ضياع للأنساب.(64/10)
شرح أحاديث العزل
قال المؤلف رحمه الله: [عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (ذكر العزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ولم يفعل ذلك أحدكم؟ -ولم يقل: فلا يفعل ذلك أحدكم- فإنه ليست نفس مخلوقة إلا الله خالقها) .
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كنا نعزل والقرآن ينزل، قال سفيان: لو كان شيئاً ينهى عنه لنهانا عنه القرآن) .
وعن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا حرم الله عليه الجنة، ومن ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار، ومن دعا رجلاً بالكفر أو قال عدو الله، وليس كذلك إلا حار عليه) كذا عند مسلم وللبخاري نحوه، وحار بمعنى رجع] .
سئل صلى الله عليه وسلم عن العزل، فقال: (ولم يفعل أحدكم ذلك؟ ولم يقل: فلا يفعل ذلك أحدكم، فإنه ما من نفس مخلوقة إلا الله خالقها) ، وكذلك الحديث الثاني قول جابر: (كنا نعزل والقرآن ينزل، قال سفيان: لو كان شيئاً ينهى عنه لنهانا عنه القرآن) .
هذان الحديثان يتعلقان بالعزل، وقد ورد فيه هذان الحديثان اللذان يفهم منهما إباحة العزل، والعزل يتعلق بالجماع، وذلك أن الإنسان قد يحتاج إلى الجماع ولكن لا يحب أن تحمل زوجته؛ لسبب: إما لمرض فيها، وإما لضعفها عن أن تربي أولادها، وإما لكونها مملوكة له ولا يحب أن تلد منه، بل يريد بيعها، أو لقلة ماله ولا يستطيع أن يعول الأولاد ونحوهم، أو لأن أولاده يخرجون ضعافاً مهزولين، أو نحو ذلك من المقاصد، فيحتاج إلى منع الحمل بأسباب تمنعه.(64/11)
معنى العزل وحكمه
من أسباب منع الحمل العزل: وهو الإنزال خارج الفرج، إذا أحس بالإنزال نزع وأنزل في غير الرحم حتى لا ينعقد الولد، وهذا العزل قد يحصل به مقصد الرجل وهو فتور أو قضاء وطره وشهوته، ولكن المرأة قد تتضرر؛ وذلك لأن لها حقاً ولها شهوة، فإذا نزع قبل أن تقضي وطرها تألمت وتضررت؛ لذلك ورد حديث -وإن كان في إسناده مقال- أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن العزل، فقال: (ذلك الوأد الخفي) فسماه وأداً، يعني: قاتلاً للأولاد، ولكنه قاتل خفي، وهو أن العرب كانوا يقتلون الإناث ويسمون ذلك وأداً كما في قوله: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8-9] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات) .
فهكذا ورد أن العزل يسمى الوأد الخفي، ولكن هذه الأحاديث أصح من ذلك الحديث، فـ جابر يقول: (كنا نعزل والقرآن ينزل) ، وأكثر ما كانوا يعزلون عن الإماء حتى لا تحبل الأمة فلا يتمكن من بيعها، ومع ذلك لم ينههم القرآن أي: لم ينزل في القرآن نهي عن استعمال العزل، وسواء كان القصد منه عدم إضرار المرأة، أو القصد منه عدم الحمل أو منع الحمل أو نحو ذلك، فهذا سبب من أسباب منع الحمل، يعني: الإنزال في غير الرحم، وظاهر الحديث أنه جائز، والدليل من الحديث الأول قوله: (ولم يفعل أحدكم ذلك؟ ولم يقل: لا يفعله) ، كأنه يقول: لماذا يفعله؟ (ما من نفس مخلوقة إلا الله خالقها) .
وفي بعض الروايات: أن رجلاً جاء وقال: (يا رسول الله! إن لي أمة، وإني لا أريد أن تحمل وإني أعزل عنها، فقال: ما عليك ألا تفعل -يعني: جائز لك أن تفعل وألا تفعل- فإنه إذا أراد الله أن يخلقه لم تستطع أن ترده) ، وفي رواية: (لو وضعت هذا المني على صخرة وقد قدر الله أن يخلق منه ولداً لخلقه) .
وكثيراً ما يتحفظ الإنسان فينزع وينزل في خارج الرحم، ولكن قد يسبقه ولو قطرة يسيرة ينعقد منها الولد، فيحصل الحمل وإن لم يقصده، وإن لم يرده، وقد جاء في الرواية إن ذلك الرجل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إن الأمة التي حدثتك عنها قد حملت، فقال: قد أخبرتك أنك لا تقدر أن ترد ما قدر الله) ، إذا قدر الله خلق ولد من هذا الوطء فإنك لا تستطيع أن ترده، ولكن بكل حال هناك أسباب يحصل بسببها منع الحمل، ويحصل بسببها الحمل، وقد ذكر العلماء والأطباء أسباباً كثيرة تعين على الحمل، فإذا أراد أن تحمل زوجته من ذلك الوطء، فهناك صفات وأسباب تكون سبباً غالباً في عدم الحمل من ذلك الوطء وإن لم تكن مطردة.(64/12)
حكم الحبوب التي تمنع الحمل
يكثر السؤال في هذه الأزمنة عن فعل الأسباب التي تمنع الحمل، حيث إن كثيراً من المتزوجين وهم شباب يحاولون عدم الإنجاب، فيأتون بأسباب تمنع أن يولد لأحدهم، وفي زعمه أنه لا يريد الأولاد في ذلك السن المبكر، ويريد أن يبقى مع زوجته وحيداً حتى يتفرغ أو تتفرغ هي لتنشئة الأولاد، أو حتى يجمع مالاً، أو حتى تتفرغ أو تنهي مثلاً دراستها وعملها، أو ما أشبه ذلك، فيعملون حيلاً لمنع الإنجاب، فمنها: استعمال هذه الحبوب التي تمنع انعقاد الحمل، فتبتلع المرأة هذه الحبوب فتبقى عدة سنوات لا يحصل منها أولاد.
وقد ذكر الأطباء أن هذه الحبوب مضرة، ولا شك أن لها ضرراً على المرأة، على الرحم وعلى أثر العادة؛ لأنها تغير عادتها، فالعادة الشهرية التي هي الحيض المستمر أو المعتاد تتغير بهذه الحبوب، زيادة على أن احتباس هذا الدم يؤثر عليها مرضاً، وقد ذكر الأطباء أن المرأة لا تستعمل الحبوب إلا بعد أن تعرضه على طبيب مختص فيشير عليها، إما بأن تستعمل أو لا تستعمل، ومع ذلك فإنها منتشرة وفاشية كثيراً، وبيعها في الصيدليات قد يكون أكثر من بيع كثير من الحبوب التي تستعمل للصحة أو للعلاج.
فنقول: لا شك أن هذه مصيبة، كيف أنك تضيق بالأولاد، فالواجب أن ترضى بما قدر الله، وأن تفرح إذا رزقك الله ولداً، لا تضيق بالأولاد ذرعاً فإن الله تعالى هو الذي خلقهم، وهو الذي يتكفل برزقهم، يقول الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151] {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:31] ، فهو الذي يتكفل برزقهم، وكم رأينا وكم رأيتم من إنسان كان فقيراً لما كان وحده، ولما تزوج ورزق أولاداً وسع الله عليه، ورزق بسبب أولاده، ولما انفصل عنه أولاده وبقي وحده عاد إلى فقره وحاجته، فوجود الأولاد سبب للرزق، فلا يضيق أحدنا بكثرة الأولاد مهما كثروا، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أمر بتزوج الودود الولود في قوله: (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة) ، فهو يحب أن تكثر أمته، وأن يكثر أولادهم الذين هم على سنته، متبعون لشريعته؛ حتى يباهي بهم الأمم، وإن كان الله تعالى قد قدر من سيخلقه، وعلم عدد الخلق الذين قدر وجودهم، ولكنه جعل لذلك أسباباً وجودية أو أسباباً سلبية.
فننصح هؤلاء الذين لا يريدون الإنجاب، ويملون وجود الأولاد، حتى ولو كانوا في شبابهم، حتى ولو كثر الأولاد لديهم، فلا يضيقون بذلك، فإن رزقهم على الله تعالى، كما في قوله تعالى: {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [العنكبوت:60] .(64/13)
الحالات التي يجوز منع الحمل فيها
رخص العلماء في منع الحمل في ثلاث حالات: الحالة الأولى: الزوجة قد تكون مريضة يشق عليها الحمل والوضع والحضانة والتربية، أو كانت مثلاً نحيفة ضعيفة لا تتحمل ذلك، ومتى حملت أضر بها ولقيت أوجاعاً ونحو ذلك، فلها والحال هذه أن تتعاطى ما يمنع الحمل.
الحالة الثانية: إذا كان أولادها ضعافاً، يعني: يخرجون وهم نحاف ضعاف عجاف مرضى، ويتتابعون وهم على هذا، ويكون في ذلك لمشقة عليها أن تحضنهم وأن تربيهم وأن تعالجهم وهم على هذه الحالة، فيؤدي ذلك إلى تضررهم مع كثرتهم؛ فلذلك قد يباح في هذه الحال علاجها بما يقطع أو بما يقلل الحمل.
الحالة الثالثة: لو قدر مثلاً أن الأبوين في بلاد كفر، وأنهم متى ولد بينهم أولاد تربوا على ما تربى عليه أهل تلك البلاد، درسوا دراسة الكفار، وخرجوا مع الكفار، فصار أولادهم زيادة في الكفرة، ففي هذه الحالة قد يقال: بجواز المعالجة التي تقلل الحمل أو تمنعه، وما ذاك إلا مخافة أن يرى أولاده يعتنقون الكفر ولا يستطيع أن يردهم.
وإذا عرفنا ذلك فنقول: كثير من الناس الآن يشتكون من كثرة الأولاد بحيث إن المرأة تلد في كل سنة ولداً إذا لم تتعالج بهذه العلاجات، ولم تتعاط الأسباب التي تمنع من الحمل، وهذا لم يكن معهوداً في الأزمنة المتقدمة قبل ثلاثين أو أربعين سنة.
ما كانوا على هذه الحال، ولعل السبب في ذلك أن المرأة قديماً كانت ترضع ولدها من ثدييها فكلما ولد لها ولد ألقمته ثدييها وحنت عليه وأشفقت عليه ودرت عليه، واعتقدت أن لبنها دواء وشفاء وأثر من آثار المحبة، ولا تحمل عادة ما دامت ترضع ولدها من صدرها، حيث إن الدم الذي هو دم الطمث الذي يكون غذاءً للحمل يقلبه الله لبناً، فإذا كانت ترضع فإنها في العادة لا يأتيها دم الحيض، فتبقى سنتين ما دام فيها لبن لا ترى الحيض، أين ذلك الحيض؟ ينقلب لبناً يمتصه الطفل من الثديين ويتوقف الحيض، وكانت هذا عادة كثير من النساء، فتبقى سنتين وهي ترضع الولد، ولو كان زوجها يجامعها كل ليلة فإنها لا تحمل، بل المني ينقلب أيضا لبناً، والحيض ينقلب لبناً، وكل ذلك يكون غذاءً لرضيعها، لكن بعض النساء قد تكون بنيتها قوية، وغذاؤها كثيراً، ودمها قوياً، فيؤثر أنه يصير فيها لبن ويصير أيضاً معها حيض، فينعقد الحمل ولو كانت ترضع، وأما التي لا ترضع ولدها، بل حينما تلده ترضعه من الألبان الصناعية، ويتوقف منها اللبن وتنشف، ويأتيها الحيض بعدما تخرج من الأربعين مباشرة، فالغالب أنه ينعقد حملها مباشرة بعد أول وطء، وهذا هو الواقع الآن كثيراً؛ ولذا يشتكون من كثرة الأولاد.
فنقول للزوج: لماذا لا تلزمها أن ترضع ولدها حتى يتوقف الحمل مدة سنتين أو سنة أو نحو ذلك، هذا في الأمر الأغلب؟ فهذا سبب.
السبب الثاني: يقولون: لو جامعها بعد الطهر بيوم أو يومين لا تحمل، أما بعد الطهر بثلاثة أيام أو بأربعة إلى نصف الطهر أو ثلثيه فإنها تكون قد أنزلت البويضة التي يخلق منها الحمل، فإذا جامعها في هذه الفترة انعقد الحمل بإذن الله، أما إذا جامعها في آخر الطهر أي: قبل الحيضة الثانية بعشرة أيام أو أسبوع ونحوه فإن ذلك الجماع لا ينعقد معه الحمل؛ وذلك لأنه قد انعقد أو قد اجتمع الدم الذي هو دم الطمث فلا ينعقد بذلك حمل إلا إذا قدر الله تعالى الحمل، فهذا سبب من أسباب توقف الحمل.(64/14)
حكم استخدام اللولب لمنع الحمل
من الأسباب الجديدة لمنع الحمل ما يسمى باللولب الذي تركبه المرأة في رحمها، لكن فيه مضار، وكثير من النساء يحصل بسببه مشقة عليها؛ وذلك لأنه يزيد في مدة الحيض، فبدل ما كان حيضها ستة أيام يكون عشرة؛ لأنه يقلل خروج الدم، ويكون أول الدم ووسطه وآخره على حد سواء بسبب هذا اللولب، زيادة على أنه يستلزم تكشفها أمام غيرها عند معالجتها وما أشبه ذلك.
وهناك أسباب أخرى قد تكون معروفة عند المتخصصين ولكنا ننصح الإنسان ألا يمل مما خلق الله منه، فالله تعالى شرع للإنسان هذه الشهوة التي تدفعه إلى الوطء، وجعل أيضاً في المرأة دافعاً نحو الرجل حتى يحصل من هذه الشهوة اندفاع من الرجل والمرأة، كل منهما يطلب الاتصال بالآخر؛ ليكون ذلك سبباً في هذا التوالد، وفي وجود هذا النوع الإنساني الذي قدر الله أنه يعمر هذه الأرض، ويكون مكلفاً عليها، ولو أن الناس عزفوا عن ذلك وتركوا النكاح لانقطع هذا النوع الإنساني، والله تعالى قد قدر أنه يبقى.
الله تعالى شرع هذا النكاح الحلال، وأمر الإنسان أن يبذل السبب لوجود الأولاد، وله في الأولاد مصلحة حيث إنهم ينفعونه في الدنيا، وينفعونه أيضاً بعد موته كما في قوله تعالى: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74] ، هذا دعاء حكاه الله تعالى عن عباده المؤمنين، مما يدل على أن الأولاد قرة أعين لآبائهم.
وكذلك يستفيد منهم بعد موته إذا كانوا صالحين، يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) ، فعلى الإنسان أن يحرص على أن يرزقه الله أولاداً صالحين ذكوراً وإناثاً يكونون له قرة أعين، وينفعه الله بهم في دنياه، ويزودونه بأدعية نافعة في آخرته، وألا يمل من وجودهم، وأن يثق أن ربه هو الذي خلقهم وأوجدهم، وهو الذي تكفل برزقه وبرزقهم {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء:31] ، وأن يعتقد أن الله تعالى قد يسهل له الرزق بواسطتهم أو بسببهم، فإذا فعل ذلك رزقه الله من حيث لا يحتسب.(64/15)
شرح عمدة الأحكام [65]
جعل الإسلام الرضاع رابطة تربط بين الرضيع والأسرة التي رضع منها، فيحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وذلك يعد من عظمة الإسلام في توثيق الروابط وشد الصلات.(65/1)
شرح حديث: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)
قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [كتاب الرضاع: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في بنت حمزة: (لا تحل لي، يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وهي ابنة أخي من الرضاعة) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرضاعة يحرم ما يحرم من الولادة) .
وعنها قالت: (إن أفلح أخا أبي القعيس استأذن عليّ بعدما أنزل الحجاب، فقلت: والله لا آذن له حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أخا أبي القعيس ليس أرضعني، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس، فدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا رسول الله إن الرجل ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأته، فقال: ائذني له فإنه عمك تربت يمينك) .
قال عروة: (فبذلك كانت عائشة تقول: حرموا من الرضاع ما يحرم من النسب) .
وفي لفظ: (استأذن عليّ أفلح فلم آذن له، فقال: أتحتجبين مني وأنا عمك؟ فقلت: كيف ذلك؟ قال: أرضعتك امرأة أخي بلبن أخي، قالت: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صدق أفلح ائذني له تربت يمينك) تربت يمينك أي: افتقرت، والعرب تدعو على الرجل ولا تريد وقوع الأمر به.
وعنها قال: (دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم وعندي رجل فقال: يا عائشة من هذا؟ قلت: أخي من الرضاعة، فقال: يا عائشة! انظرن من إخوانكن، فإنما الرضاعة من المجاعة) ] .(65/2)
تعريف الرضاع
يراد بالرضاعة هنا أثر الرضاع الذي ذكر في قول الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء:23] أي: ما تحرمه الرضاعة وما لا تحرمه، وليس المراد البحث في كيفية رضاع المرأة ولدها، المذكور في قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة:233] ، فإن هذا المقصود منه كيف ترضع المرأة ولدها، ومتى تفطمه ونحو ذلك، وأما هذا ففي إرضاع المرأة غير ولدها، وكيف يكون أثر هذا الرضاع.
ذكر العلماء في تعريف الرضاع المحرم أنه: امتصاص الطفل لبناً ناتجاً عن حمل وهو في الحولين.
وقوله: (امتصاص) هذا على وجه الأغلب وإلا فلو شرب اللبن شرباً دون امتصاص وهو دون الحولين لحصل منه التأثير والتحريم، وهكذا لو أدخل مع أنفه ووصل إلى جوفه، وتغذى به؛ حصل بذلك الرضاع.
ثم الجمهور على أنه لا يحرم إلا إذا كان الرضاع في الحولين، ويستدلون بما في حديث عائشة الأخير وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الرضاعة من المجاعة) ، والمجاعة هي الجوع، يعني: الرضاع المحرم هو الذي يرتفع به الجوع، ويحصل به الشبع.(65/3)
تأثير الرضاع يتعدى إلى أقارب المرضعة لا الرضيع
قوله صلى الله عليه وسلم في بنت حمزة: (لا تحل لي إنها ابنة أخي من الرضاعة) .
ابنة حمزة قتل أبوها وهي صغيرة في مكة، ثم في عمرة القضية سنة سبع أخذوها معهم إلى المدينة، وكفلها ابن عمها جعفر، وكانت زوجته خالتها، وبقيت عند خالتها، وقد عرضها على النبي صلى الله عليه وسلم وقيل له تزوجها فقال: (لا تحل لي) ، وذلك لأن حمزة رضع من ثويبة وثويبة أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك أصبح أخا حمزة من الرضاع.
فهذا دليل واضح على أنه إذا حصل الرضاع من امرأة أجنبية، وأرضعت اثنين؛ أصبحا أخوين من الرضاع، فهذه ثويبة أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم وليست أمه، وأرضعت حمزة وليست أمه، فصارا أخوين منها، فصار الرضاع من امرأة أجنبية محرماً، وبالطريق الأولى إذا كان الرضاع من أم أحدهما، فإن حليمة السعدية التي أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم أصبحت أمه، وأولادها الذين ولدتهم أو أرضعتهم يعتبرون أيضا إخوة له، وهذا التحريم يختص بالرضيع ولا يتعدى إلى إخوته، فلذلك لم يتعد إلى إخوة حمزة كـ العباس وأبي طالب، فإن كل واحد منهما ولو كان أخاً لـ حمزة بن عبد المطلب فإنه لا يعتبر أخاً للنبي عليه الصلاة والسلام، فالإخوة اختصت بالرضيع الذي هو حمزة.
وتكون الرضاعة مؤثرة في أقارب المرضعة، فيكون زوجها أباً للرضيع، وأقاربه محارم للرضيع كما في قصة عائشة، فإن امرأة أبي القعيس أرضعتها، ثم هلكت المرأة وهلك أبو القعيس، وجاء أخوه واسمه أفلح واستأذن على عائشة، فامتنعت وقالت: كيف آذن له وهو لم يرضعني، ولم ترضعني امرأته، وإنما أرضعتني امرأة أخيه؟ فأخبرها بأنه عمها وقال: أرضعتك امرأة أخي بلبن أخي، فإن اللبن تسبب من أخيه، فصار أخوه صاحب اللبن أباً لـ عائشة، وزوجة أبي القعيس المرضعة أماً لـ عائشة، وأخا أبي القعيس الذي هو أفلح عماً لـ عائشة، وأولاد أبي القعيس إخوة لـ عائشة من الرضاعة.
وهذا يبين أن الرضاعة تتعدى إلى أقارب المرضعة وإلى أقارب زوج المرضعة، ولا تتعدى كما ذكرنا إلى أقارب الرضيع، فإخوة عائشة لم يؤثر فيهم رضاعها من امرأة أبي القعيس، فأخوها عبد الرحمن لم يكن ابناً لـ أبي القعيس، وكذلك أخوها محمد وأختها أسماء ونحوهم، بل اختصت الرضاعة والتحريم والتأثير بالراضعة التي هي عائشة.
فلما استأذن عليها استغربت وقالت: كيف آذن له وهو بعيد لم يرضعني هو، ولم ترضعني امرأته، فليست امرأته هي التي أرضعتني وإنما امرأة أخيه، وليس هو الذي أرضعني؟ فلما قال لها: أرضعتك امرأة أخي بلبن أخي، أقر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وجعل ذلك مبرراً لكونها تأذن له أن يدخل عليها ويسلم عليها؛ لأنه أصبح عمها، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ائذني له فإنه عمك تربت يمينك) ، وكلمة (تربت يمينك) ذكر المؤلف أنه لا يقصد بها حقيقة الدعاء، وإنما يقصد بذلك التوبيخ لعدم الفهم، أو لعدم التذكر.(65/4)
خلاف العلماء في حكم إرضاع الكبير
قوله: (إنما الرضاعة من المجاعة) يدل على أن الرضاعة التي تحرم هي التي تكون في الصغر، وينتفع بها من الجوع، فإذا رضع الطفل من المرأة اندفع جوعه وشبع، وحصل له غذاء، ونبت بذلك الرضاع لحمه، ونشز عظمه، فيصبح قد تغذى من لبن تلك المرأة، ونبت منه لحمه، فينسب إليها، ويكون ابناً لها من الرضاع.
وقد اختلف في رضاع الكبير، فذهب بعض الصحابة كـ عائشة إلى أنه يحرم، واستدلوا بقصة سهلة امرأة أبي حذيفة، فإن أبا حذيفة كان له مولىً يقال له: سالم، فجاءت امرأة أبي حذيفة وقالت: يا رسول الله! إن سالماً بلغ مبلغ الرجال، وإنه يشق عليّ التحجب منه فقال: (أرضعيه تحرمي عليه) ، وقد كان رجلاً قد نبتت لحيته، فأرضعته خمس رضعات ليكون محرماً لها.
ولكن الجمهور على أن هذا من خصائص سهلة، وأنه لا يحل لغيرها أن ترضع كبيراً فتحرم عليه، وما ذاك إلا لضرورة حصلت لها؛ وذلك لأن رضاع الكبير لا يتغذى به بدنه، ولا ينبت منه لحمه، ولا ينبت منه عظمه، وأيضاً فإن الله تعالى قد حدد الرضاع في قوله تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:14] ، وفي قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة:233] ، فلا يمكن أن يزاد على السنتين، والزيادة عليهما زيادة في غير محلها، فالصبي إذا أتم السنتين اكتفى بما يعطى من الأكل ونحوه، واستطاع أن يمضغ الطعام ويتغذى به؛ فلذلك لا حاجة إلى الرضاع بعد الحولين، فإذا أرضع بعد الحولين أو بعد الفطام فهذا الرضاع لا يؤثر ولا يحرم، وهذا هو القول الصحيح، وقصة سالم مولى أبي حذيفة من خصوصيات سهلة، ولو خالف في ذلك من خالف.
وذهب بعضهم إلى أنه إذا اضطرت المرأة إلى رجل لا تجد بداً من الكشف له، وأن يكون محرماً لها جاز لها أن ترضعه كما حصل لهذه المرأة التي هي امرأة أبي حذيفة.
واستدل الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا رضاع إلا ما كان في الحولين) ، أو (لا رضاع إلا ما كان قبل الفطام) ، وكذلك قوله: (انظرن من إخوانكن، فإنما الرضاعة من المجاعة) ، يعني: الرضاعة المحرمة التي يكون لها تأثير هي ما كانت من المجاعة، وفي حديث آخر أنه عليه الصلاة والسلام قال: (لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء، وأنشز العظم وأنبت اللحم) ، فالرضاع الذي في الصغر هو الذي ينشز العظم، يعني: ينبت به العظم ويكبر، وإنشاز العظام نموها ونباتها، كما في قوله: {وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا} [البقرة:259] ، يعني: ننميها وننبتها، وكذلك قوله: (أنبت اللحم) يعني: نبت اللحم على العظم بذلك الرضاع، فهذا هو الذي يحرم.
الرضاع من جملة ما بحث فيه العلماء؛ لأن الله تعالى ذكره بقوله: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء:23] ، والبحث فيه مشهور وأدلته واضحة، وقد جاءت متنوعة في هذه الأحاديث، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، فقالوا: كل قريب يحرم من النسب فإنه يحرم مثله من الرضاعة، فزوج المرأة يسمى أباً من الرضاع، وأولاد المرضعة يسمون إخوة من الرضاع، وإخوان المرضعة أخوال الرضيع، وأخواتها خالات الرضيع، وكذلك أقارب الزوج، فإخوته يصيرون أعماماً للرضيع؛ لأنهم إخوة أبيه، وهكذا بقية الأقارب عملاً بهذا الحديث.(65/5)
شرح حديث: (كيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما)
قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه (أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: فأعرض عني، قال: فتنحيت فذكرت له، قال: وكيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما؟ فنهاه عنها) .
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني من مكة- فتبعته ابنة حمزة تنادي: يا عم، فتناولها علي فأخذ بيدها وقال لـ فاطمة: دونك ابنة عمك، فاحتملتها، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر، فقال علي: أنا أحق بها وهي ابنة عمي، وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال زيد: ابنة أخي، فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها، وقال: الخالة بمنزلة الأم، وقال لـ علي: أنت مني وأنا منك، وقال لـ جعفر: أشبهت خَلقي وخُلقي، وقال لـ زيد: أنت أخونا ومولانا) ] .
الحديث الأول يتعلق بالرضاعة، والشهادة فيه، والحديث الثاني يتعلق بالحضانة: وهي كفالة الطفل وتربيته.
ذكر في حديث عقبة، أنه لما تزوج هذه المرأة التي يقال لها: أم يحيى بنت أبي إهاب؛ جاءت أمة مملوكة سوداء، وادعت أنها أرضعت عقبة، وأرضعت المرأة التي تزوج بها، وأنها أصبحت أماً لهذا ولهذه، فيكونان أخوين من الرضاعة، فأنكر ذلك عقبة، ولم يكن قد سمع هذا منها، واتهمها بأنها تريد أن تفرق بينهما، فلم يجرؤ على أن يرد عليها، ولكنه ركب راحلته من مكة إلى المدينة، فقدم على النبي صلى الله عليه وسلم وسأله، وذكر له أنها تكذب، وأنه لا يعرف ذلك من قبل، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أقرها على ما تدعي، وجعل الأمر راجعاً إليها، وقال: (كيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما؟ دعها عنك) ، فعند ذلك فارقها عقبة، وتزوجت غيره، فأخذوا من هذا الحديث: أولاً: أن الرضاع يحرم ولو لم يكن من أم أحد الولدين، فإذا رضعت من امرأة ليست أمك، ورضع منها زيد وليست أمه، صرت أنت وزيد أخوين من الرضاع، لا تحل لك بنته ولا تحل له بنتك، مع أنك لست أخاً له من النسب، ولم ترضع من أمه، ولم يرضع من أمك، وإنما اجتمعتما في رضاع امرأة أجنبية أرضعتكما.
ثانياً: أن الرضاع يرجع فيه إلى المرضعة، إذا ادعت ذلك فإنها تصدق؛ وذلك لأنه يورث شبهة، فإذا ادعت أنها أرضعت فإن هذا الكلام يورث شبهة؛ فلأجل ذلك تُتجنب الشبهات؛ لقوله: (ومن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه) .
كذلك أيضاً: لا شك أن هذه المرأة لم يتهمها عقبة إلا بتهمة أنها تريد الفراق بينهما، ولم يذكر أنه جرب عليها كذباً، ولا أنها ذات حسد، فلعلها لما سمعت بأنه تزوجها خافت أن يكون بينهما شيء من العلاقة مع تحريم، فأبدت ما عندها، وأظهرت أنهما ولداها من الرضاع، فهذا رضيع منها، وهذه رضيعة منها، فقُبل قولها، وقد عرفت حد الرضاع، فلا بد أنها عرفت أن الرضاع المحرم هو خمس، ولا بد أنها عرفت أن الرضاع المحرم ما كان في الحولين، وأنها ما أقدمت على الحكم بأنهما ولداها من الرضاع إلا وقد عرفت الحكم وتيقنت، فيقبل قولها.(65/6)
قبول قول المرأة الواحدة في الرضاع
يقول العلماء: إذا ادعت امرأة أنها أرضعت هذه المرأة وزوجها، قبل قولها ولو كانت واحدة، أخذاً من هذه القصة، وإذا كانت كاذبة فكما قال تعالى: {وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} [غافر:28] ، فإذا كانت كاذبة فإنها تستحق العقوبة في الآخرة، وربما تعجل لها العقوبة في الدنيا إذا فرقت بين زوجين وهي كاذبة، فتصيبها دعوة مظلوم، وقد يعرف كذبها بقرائن، ولكن لا يُعمل بالقرائن بل يعمل بقولها اتقاءً للشبهات.
روي عن ابن عباس أنه قال: إن كانت كاذبة لا تتم السنة حتى تبيض ثدياها.
يعني: عقوبة لها يصيبها في ثدييها برص يكون سبباً في عدم قبول أحد لثدييها، وهذا وإن لم يكن مطرداً لكن قد يكون واقعاً في بعض الأحيان.(65/7)
شرح حديث: اختصام علي وجعفر وزيد في ابنة حمزة
الحديث الثاني: يتعلق بقصة ابنة حمزة، وقد تقدم أن علياً عرضها على النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها، ولكن أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها لا تحل له؛ لأن حمزة أخوه من الرضاعة، رضع هو وحمزة من ثويبة مولاة أبي لهب، فهذا حكم: وهو أنها ابنة أخيه من الرضاع، ومع ذلك لم يطالب بحضانتها.
فلما قتل حمزة رضي الله عنه سنة ثلاث من الهجرة في وقعة أحد كانت ابنته عمارة في مكة، وكانت صغيرة مع أمها، ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه في سنة سبع مكة في عمرة القضية، ثم خرجوا من مكة تبعتهم ابنة حمزة تنادي وتقول: يا عم! يا عم! وذلك لأنها قد كبرت عن سن الحضانة، تجاوزت عشر سنين أو نحوها، فأرادت أن تكون مع أهلها، وأمها وأخوالها كانوا لا يزالون مشركين.
والحاصل أنها لما تبعتهم أركبها علي رضي الله عنه مع زوجته فاطمة على بعيرها، وقال: دونك ابنة عمك، وذهبوا بها إلى المدينة، فطلب كفالتها هؤلاء الثلاثة، كل منهم يريد أن تكون تحت كفالته؛ ليأخذ أجرها لكونها يتيمة، فـ علي رضي الله عنه يقول: هي بنت عمي، فإنه حمزة عمه وهو عم جعفر وعم النبي صلى الله عليه وسلم، وفاطمة ابنة ابن عمها كأنه يقول: أدلي بقرابتي لها وقرابة امرأتي.
أما جعفر فأدلى أيضاً بحجتين وهو أنها بنت عمه، وأن زوجته خالتها أخت أمها، وزوجته هي: أسماء بنت عميس، فطلبها جعفر أيضاً، وكذلك طلبها مولاهم زيد بن حارثة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد آخى بينه وبين حمزة فقال: ابنة أخي، يعني: بالمآخاة، ولكنه صلى الله عليه وسلم جعلها تحت كفالة خالتها وكفالة ابن عمها جعفر وقال: (الخالة بمنزلة الأم) الكفالة هنا إنما هي النفقة، وإلا فالحضانة قد ذهب وقتها، الحضانة تكون قبل السبع السنين، وأما بعد سبع سنين فإنه لا يحتاج الطفل إلى حضانة، ولكن لما كانت يتيمة أراد كل من هؤلاء الثلاثة أن يحظى بكفالتها وبالنفقة عليها.
قوله صلى الله عليه وسلم لـ علي: (أنت مني وأنا منك) يعني: أنت لك الفضل ولك القرابة، القرابة لكونه ابن عم، والقرابة لكونه صهراً، والقرابة لكونه قديم الإسلام، ولكونه قديم الهجرة.
وقوله لـ جعفر: (أشبهت خَلقي وخُلقي) فيه فضل عظيم لـ جعفر رضي الله عنه.
وقال لـ زيد: (أنت أخونا ومولانا) ، فأرضى كل واحد منهم بهذا الأمر، وبكل حال فهذا دليل على تنافس الصحابة رضي الله عنهم في فعل الخير، ومسابقتهم إليه، وأن كلاً منهم يحرص على أن يكون من السابقين إلى الخيرات، وأن يكون من الذين يحظون بالأجر في كفالة اليتيم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم كهاتين) أي: في الجنة، يعني: بعضنا يكون مع بعض في الجنة فأشار بأصبعيه السبابة والتي تليها، وفرق بينهما شيئاً.
وقد أمر الله تعالى بالإحسان إلى اليتامى، وبمراعاتهم، ونهى عن إضرارهم، وقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ} [البقرة:220] .(65/8)
شرح عمدة الأحكام [66]
جاءت هذه الشريعة بالعدل وأمرت بالعدل، وأحكامها كلها عدل، ومن ذلك أنها أوجبت القصاص في النفوس والأطراف، وفي ذلك حكم عظيمة ومصالح عديدة.(66/1)
شرح حديث: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث)
قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [كتاب القصاص: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) .
وعنه أيضاً رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء) .
وعن سهل بن أبي حثمة قال: (انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود إلى خيبر وهي يومئذ صلح، فتفرقا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلاً، فدفنه ثم قدم المدينة، ثم انطلق عبد الرحمن بن سهل وحويصة بن مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب عبد الرحمن يتكلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كبر كبر، وهو أحدث القوم؛ فسكت، فتكلما، فقال: أتحلفون وتستحقون دم قاتلكم أو صاحبكم؟ قالوا: وكيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟ قال: فتبرئكم يهود بخمسين يميناً، فقالوا: كيف نأخذ بأيمان قوم كفار؟ فعقله النبي صلى الله عليه وسلم من عنده) وفي حديث حماد بن زيد: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته، فقالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف؟ قال: فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم، قالوا: يا رسول الله! كيف نأخذ بأيمان قوم كفار؟) وفي حديث ابن عبيد: (فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه، فوداه بمائة من إبل الصدقة) ] قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئٍ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) وصفه بأنه مسلم، وأنه يشهد الشهادتين، فإذا أسلم لله تعالى، واستسلم لأمره، وأقر بالشهادتين؛ عصم دمه، وعصم ماله، وحرم قتله وإراقة دمه، وحرم قطع طرفه، وحرم شجه أو جرحه، وحرم الاعتداء عليه؛ لأنه عصم دمه بهذه العقيدة، وبهذا الدين، إلا بثلاثة أشياء: الأول: إذا زنى وهو محصن، والإحصان: هو كونه قد تزوج زواجاً صحيحاً، ودخل بزوجته، ثم بعد ذلك زنى، فهذا ثيب، فيقتل إن زنى بأن يرجم حتى يموت، فهذا سبب أباح دمه، وهو زناه مع الإحصان.
الثاني: إذا قتل بريئاً قتل به، لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة:178] فمن قتل شخصاً مكافئاً له قتل به، فمن قتل رجلاً مسلماً قُتل به، وكذا لو قتل امرأة مسلمة قتل بها.
الثالث: (التارك لدينه المفارق للجماعة) فهذا يباح قتله، ويسمى مرتداً، أو مبتدعاً بدعة مكفرة تلحقه بالردة، فهذا يقتل ولو أقر بالشهادة؛ لأنه أتى بما يبطلها، فمن ترك دينه بعبادة القبور حل قتله، وكذلك من ترك الصلاة وأصر على تركها قتل، وكذلك من منع الزكاة، وكذلك من استحل شيئاً من الحرام، من استحل الزنا وجعله مباحاً، أو استحل الربا، أو استحل الخمر، أو نحو ذلك؛ أُبيح قتله؛ لأنه أتى بمبرر وهو ترك دينه.
وكذا إذا فارق جماعة المسلمين وإمامهم وسوادهم الأعظم، فارقهم وأصبح شاذاً، فإنه يقاتل إلى أن يرجع إلى معتقد المسلمين، وجماعة المسلمين هم الذين على عقيدة السلف ولو كانوا أقل من غيرهم.(66/2)
شرح حديث: (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء)
الحديث الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: (أول ما يُقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء) يوم القيامة يكون فيه الحساب، فتوزن أعمال العباد السيئات والحسنات، وتقابل هذه بهذه، ويحاسب العبد على أعماله التي تخصه، فيحاسب على صلاته، ما نقص وما أتم فيها، ويحاسب على زكواته، وعلى أذكاره، وعبادته، وجميع حسناته وسيئاته، ثم إذا انتهى من الحساب الذي بينه وبين ربه، عند ذلك ينظر فيما بينه وبين الناس من المظالم، فلا بد أن يحاسب عليها، وأن ينظر فيها، مظلمة في مال، مظلمة في عرض، مظلمة في حرمة، مظلمة في سباب، أو قذف مظلمة في إراقة دم، في إزهاق نفس، وفي قطع طرف، وفي شجة أو نحو ذلك، هذه كلها مظالم بين العباد، أول ما يُنظر في الحقوق التي بين العباد الدماء، يعني: القتل أو ما يقرب من القتل، فإذا كان بين الناس مظالم بدئ بالقتل ونحوه قبل المظلمة في المال، وإذا كان هذا الإنسان قد قتل وسرق وانتهك حرمة، فيؤخذ حق المقتول منه قبل كل شيء، قبل أن يؤخذ منه حقوق المال ونحوها، وهذا دليل على عظم شأن القتل؛ لأنه اعتداء على روح مسلم بغير حق، وإراقة لدمه بغير مبرر، فقدم على غيره.(66/3)
شرح حديث: (إن الله قد حبس عن مكة الفيل)
قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لما فتح الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة، قتلت خزاعة رجلاً من هذيل بقتيل كان لهم في الجاهلية، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله عز وجل قد حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، ألا وإنها لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وإنها ساعتي هذه حرام، لا يعضد شجرها، ولا يختلا شوكها، ولا تلتقط ساقطتها إلا لمنشد، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يقتل، وإما أن يفدى، فقام رجل من أهل اليمن يقال له: أبو شاه فقال: يا رسول الله! اكتبوا لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتبوا لـ أبي شاه، ثم قام العباس فقال: يا رسول الله! إلا الإذخر فإنا نجعله في بيوتنا وقبورنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلا الإذخر) ] .
هذا الحديث يتعلق بالقصاص، وفي هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا مكة في سنة ثمان بعد أن قواه الله تعالى ونصره، وآمن معه من آمن، فاجتمع معه عشرة آلاف، وتوجه بهم إلى مكة بسبب نقضهم العهد الذي تعاهدوا عليه في سنة ست في الحديبية، ولما غزاهم ودخل مكة، أحل الله له القتال فيها، فقاتلوا فيها من أول النهار إلى قرب العصر، ثم بعد ذلك استسلم أهل مكة وأمنهم، واستتب الأمن ولم يعد يقاتلهم.
ولما أسلم أهل مكة واطمأنوا، ودخل الناس في مكة، واجتمع بعضهم مع بعض، كان هناك بعض من الجاهليين الذين معهم شيء من حمية الجاهلية، ومن العادات القديمة التي منها الأخذ بالثأر، فكانت قبيلة خزاعة قد قُتل منهم قتيل في الجاهلية، قتلته هذيل، وقيل: إن هذيلاً هي التي كان لها قتيل، فقتلت خزاعة هذلياً، أو قتلت هذيل خزاعياً، وقالوا: ما دام أن مكة زالت حرمتها؛ فلماذا لا نأخذ بالثأر؟ واعتقدوا أن حرمة مكة إنما هي في الجاهلية، وأنها ليست بلدة محرمة، وأنه يجوز أخذ الثأر فيها، ويجوز القتال فيها، فقتلوا القتيل فأخطئوا خطأين: الخطأ الأول: الأخذ بالثأر الجاهلي.
الخطأ الثاني: استحلال القتال في البلد الحرام.
فلما فعلوا ذلك غضب النبي صلى الله عليه وسلم، وخطب هذه الخطبة في المسجد الحرام، فأخبر بأن هذا البلد حرام حرمه الله تعالى منذ خلق السماوات والأرض، وأنه لا يزال على حرمته، قال الله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:97] ، وقال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص:57] (حرماً آمناً يجبى إليه) أي: يجلب إليه الثمرات من كل البلاد، وقال تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} [النمل:91] البلدة هي مكة، أن أعبد الله حيث إنه حرم هذه البلدة، فهذه الآيات ونحوها تدل على أن هذا البلد الذي هو مكة له أهميته، وله منزلته، وأنه باق على حرمته.
والحاصل أنه صلى الله عليه وسلم أنكر على هؤلاء الذين قتلوا في مكة، وقد ثبت أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم خطب خطبة بليغة في حجة الوداع في عرفة، وكان من جملة ما ذكره أنه قال: (إن دماء الجاهلية موضوعة تحت قدمي هاتين، وأول دم أضعه دم بني هاشم) أي: رجل من بني هاشم قتلته هذيل، فوضع دماء الجاهلية، ونعرات الجاهلية، والعادات الجاهلية، فعرف بذلك أن القتل في المسجد الحرام، والقتال فيه؛ لا يجوز، وإذا قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أبيح له القتال فيها؟ ف
الجواب
أن الله أباحه لنبيه، وأذن له ولم يأذن لغيره كما في هذا الحديث، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين) لما جاء أصحاب الفيل ليستبيحوا حرمة هذا البلد؛ حبسهم الله وردهم {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} [الفيل:3-4] ، أما النبي صلى الله عليه وسلم فإن الله سلطه عليهم لما أصروا على الكفر، واستمروا عليه، واستباحوا البلد الحرام بأن جعلوه بلاد كفر وشرك، وردوا الرسالة النبوية، فأمره أن يقاتلهم، وأحل له القتال في هذا البلد هذا اليوم، ثم بعد ذلك عادت حرمة هذا البلد كما كانت، فأخبر أنه عادت حرمته اليوم كحرمته بالأمس، وأخبر أنه يحرم فيه سفك الدماء والقتال؛ وذلك لحرمة المكان، والذي يقتل فيه يعتبر قد فعل جرمين: الأول: أنه سفك دماً حراماً بغير حق، ولو كان مظلوماً.
الثاني: أنه تهاون بحرمة البيت الحرام وبحرمة البلد الحرام، فاستحل ما حرم الله.(66/4)
حكم القصاص في الحرم
أجاز العلماء القصاص في الحرم، فإذا قتل إنسان في المسجد الحرام، واستهان بحرمته فإنه يقتل {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] فجزاء قتله أن يقتل، وكذلك أجازوا أن تقام فيه الحدود، بل ويشدد فيها، فمن زنى داخل البلد الحرام جلد الحد إن كان بكراً، ورجم إن كان ثيباً، فيقام عليه الحد؛ لأنه امتهن حرمة البيت، وهكذا يقطع من سرق فيه، ويُجلد من شرب فيه خمراً، وهكذا من ارتد فيه يستحق القتل لردته، وما ذاك إلا أنه تهاون بهذا البلد الحرام، تهاون بحرمته، ولم يعرف قدره، فكان جزاؤه أن يشدد عليه في العقوبة، فيعاقب بعقوبتين، عقوبة جنايته، وعقوبة انتهاكه للبلد الحرام.(66/5)
حرمة قطع شجر الحرم وتنفير صيده
يحرم في مكة قطع الشجر، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يعضد شجرها، والمراد الشجر الذي أنبته الله، أما الذي ينبته ويغرسه الآدمي فإن له أن يقطع منه ما يريده، فإذا قدر أنه قطع منه شجرة محرمة فإن عليه فدية، إن كانت كبيرة ففيها بدنة، وإن كانت صغيرة ففيها شاة، وإن كان قطع منها أغصاناً فعليه بقدر ما نقص منها.
وكذلك لا يختلى خلاها، والخلا هو العشب الذي ينبت منبسطاً على الأرض، وترعاه الدواب، يجوز أن تترك الدواب ترعى فيه سواء من الإبل أو البقر أو الغنم، وأما أن يختلى بمعنى: يُحش؛ فلا يجوز، ومن حشه فإن عليه فديته بقدر ما أخذ منه أو بقيمته يتصدق بها على مساكين الحرم.
كذلك لا ينفّر صيدها لعموم قوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:97] ، ولعموم قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} [المائدة:95] أي: قتل الصيد، وهو كل ما يقتنص ويصاد، فلا يجوز أن ينفر، ولا يجوز أن يُصاد.
ويدخل في الصيد الطيور، ويدخل فيه الدواب المتوحشة التي تقتنص وتصاد، فإذا صاد فإن عليه جزاء.
وقد بين العلماء مقدار جزاء الصيد في الكتب الفقهية والحديثية ونحوها، وإذا كان لا يجوز أن ينفر الصيد حتى يطير ولو عصفوراً أو حمامة أو نحو ذلك؛ فبالطريق الأولى لا يجوز أن يُذبح، ويستثنى من ذلك الذي يملك ولا يقال له: الصيد، كالدجاج أو البط من الطيور، وكذلك بهيمة الأنعام من الإبل والبقر ونحوها.
واستثنى من ذلك الإذخر، وهو هذا النبات الذي يكون له أعواد دقيقة، وله رائحة طيبة، كانوا يقطعونه فيوقدون به، ويوقد به الحدادون، ويستعملونه عند سقف البيوت يسدون به الخلل، ويجعلونه بين اللبنات في القبور، فهم بحاجة إليه، فطلب العباس أن يرخص لهم في قطع وحش الإذخر، فرخص لهم في ذلك، وقال: (إلا الإذخر) .(66/6)
(من قتل له قتيل فهو بخير النظرين)
قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يقتل وإما أن يفدى) المعنى: أن الذي يُقتل ظلماً فإن أولياءه بالخيار، إما أن يأخذوا بالدية وإما أن يقتلوا القاتل، وليس لهم غير ذلك إلا إذا عفوا عفواً مطلقاً بدون دية وبدون قصاص، وهذا أفضل لقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:178] وقوله: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة:237] ، فإذا عفوا فأجرهم على الله، وإذا طلبوا الحق فلهم الخيار بين أن يقتلوا ذلك القاتل وهو القصاص الذي قال الله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178] ، وقال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] ؛ وإما أن يأخذوا الدية التي قدرت بأنها مائة من الإبل في ذلك الزمان، أو بقدرها من القيمة في هذا الزمان، وتقدر الآن بمائة ألف ريال؛ لأن كل بعير بألف ريال.
ليس لهم إلا ذلك، وليس لهم أن يقتلوا غير القاتل فإن هذا ظلم، فإذا هرب القاتل فلا يقتلوا أخاه، أو يقتلوا قريبه، فهذا ظلم، قال الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] ، فكون الجاني قريباً لهذا لا يلزم أن يكون جانياً، أو يكون مذنباً، بل الجناية تتعلق بالمعتدي، فهو الذي يؤخذ منه الحق دون غيره، وهذا هو حكم الله تعالى.
وقد شرع القصاص؛ لأجل الأمن، فتأمن البلاد ويأمن العباد؛ وذلك لأن من يريد أن يقتل إذا تذكر أنه سيقتص منه ارتدع عن القتل، ويقول: ما الفائدة من أن أقتل ما دمت سوف أقتل، ولو أنه سبني، ولو أنه قهرني؟ ما الفائدة من كوني أقتله وآخذ ماله، ثم سأُقتل بعد ذلك؟ فيحصل بذلك ارتداع عن القتل، وتخويف من هذه الفتنة الكبيرة، والذنب الكبير.(66/7)
حكم طلب أحد الورثة للدية
الخيار يكون للأولياء، فالأولياء هم الذين يختارون إما القتل وإما العفو وإما الدية، وإذا تعددوا فلكل منهم أن يختار، فإذا كان أولاده ذكوراً وإناثاً، فطلب أحدهم الدية، أجبروا بأخذها كلهم ولو طلب أكثرهم القصاص، وما ذاك إلا لأن القصاص لا يتجزأ، ولا يمكن أن يعطى هذا نصيبه ويقتص لأجل نصيب الآخرين، ولو كان الذي طلب الدية زوجة له، ولو كانت ابنة له، ولو كانت قريبة للقاتل، ما دام أن لها حقاً في الدية فإن لها طلب الدية، وعند ذلك تُعطى نصيبها من الدية، ويجبر الباقون على أن يأخذوا الدية، ويتركوا القصاص الذي لا يتجزأ.
كذلك يجوز أن يعفو بعضهم عفواً مطلقاً، ويأخذ الباقون نصيبهم من الدية، فمن أسقط نصيبه من الدية وطلب الأجر فله أجره، والبقية الذين لم يسقطوا نصيبهم يأخذوه كاملاً أو يأخذوا ما طلبوه.
والدية قدرت بمائة من الإبل، وإذا طلبوا القصاص كلهم، أو طلبوا مالاً كثيراً فإن لهم ذلك، وقد روي أن بعض الصحابة عرضوا على أولياء المقتول أربع ديات، وقالوا: له: نعطيك ديتين؟ فقال: لا أريد إلا القصاص، فقالوا: نعطيك ثلاث ديات؟ فقال: لا أريد إلا القصاص، فقالوا: نعطيك أربع ديات؟ فقال: لا أريد إلا القصاص، فلما أصر على ذلك مكنوه من القصاص وقال: لو أعطيتموني عشرين دية لما قبلت، وهذا يدل على أنه يجوز أن يزاد في الدية، ولكن هذا يسمى صلحاً عن الدم، وكأن القاتل يشتري نفسه، يقول: لا تقتلوني وأنا أعطيكم أكثر من الدية، أو يقول أهله وعصبته: نحن نشتريه منكم بما تطلبون، ولو طلبتم خمس ديات أو ست ديات أو عشر ديات أو نحو ذلك، فيجوز أن يصطلحوا على أكثر من الدية، ولكن الأولى العفو والصلح، والإنسان إذا عفا وأصلح فأجره على الله.(66/8)
شرح حديث دية الجنين
قال المصنف رحمنا الله وإياه: [عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أنه استشار الناس في إملاص المرأة، فقال المغيرة: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبد أو أمة، فقال: لتأتين بمن يشهد معك! فشهد معه محمد بن مسلمة) إملاص المرأة: أن تلقي جنينها ميتاً.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن دية جنينها غرة عبد، أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها، وورثها ولدها ومن معهم، فقام حمل بن النابغة الهذلي وقال: يا رسول الله! كيف أغرم من لا شرب، ولا أكل، ولا نطق، ولا استهل، فمثل ذلك يطل؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما هو من إخوان الكهان) من أجل سجعه الذي سجع.
وعن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه: (أن رجلاً عض يد رجل، فنزع يده من فمه فوقعت ثنيتاه، فاختصموا إلى النبي فقال: يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل! لا دية لك) ] .(66/9)
مقدار دية الجنين
تتعلق هذه الأحاديث بالديات وبالجنايات، ففيها دية الجنين إذا جني على أمه فسقط ميتاً ولم يتحرك بعد موته، أما إذا سقط حياً وتحرك حركة حي ثم مات، وكان سبب موته هو الجناية فإن فيه الدية كاملة، أي: ديته إن كان ذكراً دية رجل، وإن كان أنثى دية امرأة، وأما إذا مات في بطنها أو سقط قبل تمام مدته ومات أو سقط ميتاً فإن فيه غرة عبد أو أمة.
والغرة هي بياض الوجه كما في قول أبي هريرة (فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين) فالغرة: بياض الوجه، لكن هنا أطلق الغرة على العبد المملوك أو الأمة المملوكة، فكأنه قال: دية الجنين إذا سقط بجناية فيه عبد أو أمة، وفي هذه الأزمنة: يقلّ وجود عبد أو أمة، ولو قدر وجودهما في بعض البلاد فإن ثمنهما رفيع، بل كان ثمن العبد قبل إلغاء الرق في هذه البلاد أرفع من دية الحر، ولكن العلماء في الزمن الأول قدروا الغرة، واستمروا على تقديره، فقالوا: الغرة التي هي عبد أو أمة قيمتها خمس من الإبل، ولا تزال هذه قيمتها، فالآن إذا سقط الجنين بسبب جناية بأن ضرب رجل بطن امرأة فأسقطت، أو حصل حادث بسببه كحادث اصطدام أو انقلاب فأسقطت المرأة، وحكم عليه بالدية، فإنه يحكم عليه بخمس من الإبل، وسواء كان السقط قد تخلق أو لم يتخلق، ما دام أنه حمل، وسواء طالت مدة الحمل أم لا، فإذا مات في بطنها سواء كان في الشهر التاسع أو الرابع أو الثاني وسقط ميتاً فديته خمس من الإبل، والإبل في هذه الأزمنة تقدر الواحدة بألف، فتكون دية الجنين خمسة آلاف ريال.(66/10)
شرح حديث: (أن امرأتين من هذيل اقتتلتا)
حديث أبي هريرة: (أن امرأتين من هذيل اقتتلتا) أي: تشاجرتا وتخاصمتا (فضربت إحداهما الأخرى بحجر) وفي رواية: (بعمود فسطاط) (فقتلتها وما في بطنها) كانت المقتولة حاملاً، بعض الرواة يقول: إنها رمتها بحجر أصابت بطنها فماتت وجنينها، وبعضهم يقول: ضربتها بعمود فسطاط، والفسطاط الخيمة، وكانوا يجعلون عند مدخلها عموداً يعني: عصا أو عصاتين يرفعان المدخل حتى يدخل منه، وليس المراد العمود الذي في وسط الخيمة الذي ترتفع عليها، فإن تلك يصعب حملها، ففسروا عمود الفسطاط بالعصا التي تكون عند المدخل، وهي عصاً دقيقة يستطيع الواحد أن يحركها ويضرب بها، ولو كان بعمود خيمة كبيرة لكان القتل عمداً، لكن هذا قتل شبه العمد، وهو القتل بالشيء الذي لا يقتل غالباً، فإن الضربة الواحدة بعصا لا تقتل في الغالب إلا إذا صادفت مقتلاً، أو إذا كرر الضرب على موضع واحد، أو ضرب بشدة وبقوة وكان قوي الضرب، أو نحو ذلك، ولكن المعتاد أن العصا المحمولة التي يحملها الإنسان بيده ويتوكأ عليها إذا ضرب بها إنساناً فالغالب أن هذه الضربة لا تصل إلى القتل، ولكنها تردي، ولكن صادف أن هذه العصا قتلت المرأة، وقتلت ما في بطنها، فترافعوا وتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل هذا القتل شبه عمد، ولم يجعله عمداً حتى يقتص من القاتلة، بل جعله شبه عمد، وجعل الدية على العاقلة، والعاقلة: هم قرابة الجاني، أي: تحمل تلك الدية أقارب المرأة القاتلة.(66/11)
دية الخطأ وشبه العمد على العاقلة
اتفق العلماء على أن دية الخطأ ودية شبه العمد تكون على العاقلة؛ حتى لا يتحمل القاتل أشياء عليه فيها ضرر، فإنه قد يعجز مع عذره، ومعلوم أنه معذور حيث إنه لم يتعمد، وبالأخص إذا كان مخطئاً، وقد يحصل موت كثير بسبب الخطأ، كالانقلاب والاصطدام ونحوه، فقد يموت معه عشرة أو عشرات، ولو تحمل ديتهم وحده لعجز، فمما جاءت به الشريعة أن خففت عنه، وجعلت عليه جزءاً يسيراً من الدية أو لم يجعل عليه شيء، وجعلت على عاقلته الذين هم أقاربه.
ولما كانت الدية تحملها العاقلة، والعاقلة ما جنت، قسمت على ثلاث سنين، ويكون عليهم في كل سنة ثلثها، فتفرق على إخوة القاتل وبنيهم، وأعمامه وأبناء عمه، وأبناء عم أبيه وبنيهم، وهكذا إلى الجد الخامس أو الجد السادس، وربما إلى الجد السابع أو الثامن إذا قلوا، فتقسم الدية عليهم، هذا معنى تحمل العاقلة لدية الخطأ ودية شبه العمد.
في هذا الحديث حكم بالدية على العاقلة، وحكم بدية السقط غرة عبد أو أمة، وأن الذي يحمله نفس الجاني، العاقلة لا تحمل الصلح، ولا تحمل الإقرار، ولا تحمل العمد، ولا تحمل ما دون الثلث؛ فلذلك أنكر ولي المرأة أن يفدى هذا السقط، وتكلم بهذا الكلام، وهو قوله: كيف نفدي من لا أكل، ولا شرب ولا استهل، فمثل ذلك يطل؟ هكذا تلفظ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما هذا من إخوان الكهان) من أجل سجعه الذي سجع، ومعروف أن الكهان يتعاطون السجع في كلامهم، ويحرصون على الكلام المتوازن، وهذا فيه سجع كما سمعنا: كيف نفدي من لا أكل، ولا شرب، ولا استهل، فمثل ذلك يطل؟ يعني: الجنين ما أكل، مات قبل أن يحتاج إلى الأكل، ولا شرب، ولا استهل عندما ولد أي: ما ظهر أنه استهل، واستهلال المولود هو أن يصيح ساعة ولادته، فهذا ما استهل، فمثل ذلك يطل يعني: يهدر، ويترك، ويهمل، ولا يكون له دية، فالنبي صلى الله عليه وسلم أنكر عليه كلامه وقال: (إنه من إخوان الكهنة) .(66/12)
شرح حديث: (يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل؟)
في حديث عمران أن رجلين تقاتلا، وكان أحدهما مولى لـ يعلى بن أمية، وحصل أن أحدهما قاتل بفمه، فقبض بأسنانه وبثنيته على أصابع الآخر، وعض عليها بشدة، ولما أحس الآخر بحرارة العض وبحرارة الأسنان لم يجد بداً من أن ينتزع يده بقوة انتزاعاً شديداً، وكان من آثار انتزاعه أن سقطت ثنية العاض، ولما سقطت كانت هذه جناية، والثنية فيها دية، فترافعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وطلب دية ثنيته، مع أنه لا بد أنه جرح أصابع ذلك الذي عضه، فلما أخبره بالقصة، لم يلم الذي انتزع يده، فمعلوم أنه لا يضع يده ولا يلقيها في فم ذلك العاض، فلا بد أن ينتزعها، ولا لوم عليه إذا انتزعها وقد أحس بحرارة أثر الأسنان، وأهدر دية تلك الثنية، وقال: (لا دية لك) أي: أنت الجاني؛ حيث إنك استعملت العض بالأسنان، فأنت الذي جنيت، فلا دية لك ولا قصاص، والله تعالى قد أخبر أن في السن قصاص، قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة:45] ، فلو أن إنساناً جنى على آخر بأن ضربه في فمه حتى أسقط سناً أو أسناناً، سواء بيده أو بدبوس أو بعصاً لها رأس كبير أو ضربه بحجر؛ فكسر سناً أو قلعه؛ فإن فيها القصاص إذا كان عمداً، وفيها الدية إذا كان خطأ، القصاص السن بالسن، والدية في كل سن خمس من الإبل، أي: الأسنان المتقدمة، وفي الأسنان الوسط والمتأخرة ثلاث أو اثنتان، فأما إذا كان هو الجاني، وهو المبتدي والمعتدي؛ فإنه لا دية له، وهكذا كل من تسبب في إضرار أخ له؛ ولم يجد بداً إلا أن يدفعه؛ فإنه لا دية فيما يحصل بالدفع؛ ولهذا ورد في حديث أنه صلى الله عليه وسلم جاءه رجلٌ فقال: (إن جاءني رجل يريد أخذ مالي! قال: لا تعطه، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: أنت شهيد) لماذا أمره بقتاله؟ أمره بقتاله؛ لأنه ظالم معتد لطلبه أخذ مالك أو سفك دمك، أو الاعتداء عليك بغير حق، أو الاعتداء على محارمك، فلك أن تدفعه، فإذا رأيته يقاتل فقاتله، وإذا رأيته يخاصم فخاصمه، أو ينازع فنازعه، أو يشاجر فشاجره، فدافعه بما يندفع به، فإن لم يندفع إلا بقتله فلك قتله.
روي أن لصاً دخل إلى بيت ابن عمر رضي الله عنه، ولما رآه ابن عمر شهر سيفه، وقال: دعوني أقتله، يقول الراوي: لولا أنّا دفعناه ومنعناه لقتله، واستدل بحديث: (من قُتل دون ماله فهو شهيد) .
وبكل حال هذه القصة شبيهة بمن يدافع عن نفسه، وهي في عض الإصبع، ويلحق بذلك غيره من أنواع الاعتداء، فإذا اعتدى برمي حجر، فرد حجره عليه، ولو قاتل بعصا فلك أن ترد عصاه عليه، ولو قتل بها نفسه أو قتلته بها، وكذلك إذا قاتل بأظافره فإن لك أظافر دافعه بما يندفع به، ويسمى هذا الدفاع برد الصائل.
ومعلوم أن الخصومات التي تحدث بين اثنين ويحصل بينهما شجار ونزاع، يكون من آثارها أنهما يتشادان، ويحصل من آثار المشادة قتال، وكل منهما يقاتل أو يدفع عن نفسه ويدافع، ويحصل من آثار هذه المشادة أن أحدهما قد يكون أقوى من الآخر، فإذا انفصل هذا النزاع رجع بعد ذلك إلى المقاصة والأرش، فتتقابل الجروح بعضها ببعض، هذا السن بهذا السن مثلاً، أو هذا الجرح بهذا الجرح، هذه الشجة بهذه الشجة، هذا العضو بهذا العضو، وينظر بعد ذلك في الزائد فيكون فيه إما قصاص وإما دية حيث يقتضيه العمد.(66/13)
شرح حديث: (بادرني عبدي بنفسه، حرمت عليه الجنة)
قال المصنف رحمه الله: [عن الحسن بن أبي الحسن البصري قال: حدثنا جندب في هذا المسجد وما نسينا منه حديثاً وما نخشى أن يكون جندب كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع، فأخذ سكيناً فجز بها يده، فما رقأ الدم حتى مات، قال الله عز وجل: بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة) ] .
في هذا الحديث: أن هذا الرجل كان من الأمم السابقة، قتل نفسه؛ فعوقب بأن حُرِم ثواب الله تعالى وجنته.
ذكر أنه كان به جراح في يديه أو في قدميه، فكأنه تألم من هذه الجراح واشتد عليه الوجع، ولما اشتد عليه الألم والوجع لم يتحمل ولم يصبر، فرأى أن السلامة قطع ذلك العضو أو تلك اليد أو الرجل التي فيها الجرح يريد أن يريح نفسه من هذا الألم والوجع الشديد الذي يحس به؛ ولكنه لما قطع ذلك العضو خرج الدم واستمر في خروجه إلى أن خرجت نفسه، فمات بسبب قطع يده أو قطع ذلك العضو الذي كان يؤلمه، مات بسبب نفسه، فحرمه الله تعالى ثوابه، فقال الله تعالى: (بادرني عبدي بنفسه، حرمت عليه الجنة) أي: سابقني بنفسه، وتسبب في قتل نفسه، ولم يتحمل هذا الألم الذي أنزلته به، فصار قتله لنفسه سبباً في حرمانه ثواب الله تعالى، وفي حرمانه الجنة.
وهذا دليل على أن الإنسان لا يجوز له أن يتسبب في قتل نفسه الذي يسمى في هذه الأزمنة: الانتحار، يعني: كون الإنسان يقتل نفسه، إما لألم أو لهم أو غم أو لضيق حال أو ما أشبه ذلك، فإذا فعل ذلك تسبب في حرمان نفسه من ثواب الله تعالى، وأقدم على عقابه.
وورد أيضاً أن رجلاً في عهد الصحابة يقال له: قزمان، كان يقاتل معهم في غزوة أحد، ذُكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (إنه في النار) فشكُّوا في أمره، قاتل قتالاً شديداً في غزوة أحد، فلما كان في آخر أمره أصابته جراحة، فتألم من هذه الجراحة، فوضع سيفه في وسطه، وتحامل على السيف حتى خرق جوفه وخرق ظهره بالسيف، وقتل نفسه، فتبين صدق النبي صلى الله عليه وسلم في أنه من أهل النار؛ لأنه قتل نفسه.
فلما فعل ذلك الرجل ما فعل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة) .
الأعمال بالخواتيم، فخاتمة هذا الرجل الذي كان مع الصحابة خاتمته لَمَّا قتل نفسه أن حُكم عليه بأنه في النار، فهذا يبين أن الذي يتسبب في قتل نفسه يعذب بهذا العذاب.(66/14)
عذاب قاتل نفسه في الآخرة
ورد عذاب شديد في حديث صحيح رواه مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تردى من شاهق فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن وجأ نفسه بحديدة فقتلها فهو يجأ نفسه -يعني: يطعن نفسه- في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تحسى سُمَّاً -يعني: التهم سُمَّاً- فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً) .
فهو تسبب في قتل نفسه، ونفسه ليست ملكاً له، بل هي ملك لله، وخالف ما تقتضيه الطباع، فالعادة أن الإنسان يحب نفسه ويكره الموت، ويؤثر الحياة، كما في قوله تعالى حكاية عن اليهود: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96] ، وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن تمني الموت بقوله: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به) والمراد بالضر هنا: عموم ما يضر الإنسان، سواء كان ضرراً بدنياًأو ضرراً قلبياً، أو ضرراً مالياً، فلا يتمنى الموت، فضلاً عن أن يتعاطاه بأن يحمل على نفسه ويقتلها.
والسبب أنه قد يجزع في هذه الدنيا مما يصيبه من الألم، ويعتقد أنه إذا قتل نفسه أراحها من هذا الهم ومن هذا الغم الذي يلاقيه، وأنه لا يجد بعد ذلك شيئاً يؤلمه، وهذا خطأ كبير، وما ذاك إلا أنه ينتقل إلى ما هو أشد من هذا الألم الذي يحس به، ينتقل إلى غضب الله وعذابه، ينتقل إلى العذاب الشديد بدل العذاب السهل الخفيف الذي يمكن تحمله في الدنيا، سواءً كان هما ًأو غماً أو عذاباً بدنياً أو نحو ذلك.(66/15)
الوعيد الشديد لمن قتل نفسه
يكثر في هذه الأزمنة ما نسمعه من قصص الانتحار حيث يقتل أحدهم نفسه لأدنى سبب، إذا جاءه خبر يحزنه أو نحو ذلك قتل نفسه، أو إذا وقع به هم أو غم أو مضايقة أو نحو ذلك قتل نفسه بأي حيلة يقدر عليها، فمنهم من يطعن نفسه بحديدة، ويقطع بها مجاري الدم في حلقه إلى أن يموت، ومنهم من يقتل نفسه برصاص أو نحوه، ومنهم من يحرق نفسه، ومنهم من يسقط من عمارة على أم رأسه إلى أن يموت، لأدني شيء يؤلمه أو يحزنه أو نحو ذلك، لماذا هذا؟! يقولون عنه: إنه لا يتحمل الصبر على هذا الحزن أو على هذا الألم أو ما أشبه ذلك!! والواجب على الإنسان أن يصبر على ما يصيبه من أذىً أو على ما يصيبه من ألم أو نحو ذلك، وما ذاك إلا لأن الله تعالى يبتلي العباد في هذه الدنيا بأنواع من البلايا ابتلاءً واختباراً لهم، فمنهم من يُبتلى بالجوع والضيق والجُهد، ومنهم من يبتلى بالأمراض والعاهات في بدنه، ومنهم من يُسلط عليه بنو جنسه، ومنهم من يبتلى بالسجن والضرب والمضايقات ونحوها.
فالواجب على الإنسان أن يصبر على ذلك، وأن يتحمل، وأن يرضى بقضاء الله تعالى وقدره، ولو عُذِّب ولو أوذي ولا يقول: إنني لا أتحمل، أريد أن أريح نفسي بالانتحار حتى أسلم من هذه الآلام والعذاب ونحوه.
إنك تتعاطى ما لا يحل لك إذا انتحرت، إنك تتصرف في شيء لا تملكه، إن نفسك ملك لربك وليست ملكاً لك، إنك مأمور بالصبر والتحمل بقدر ما تستطيع، ولو أوذيت غاية الأذى، ولو وصل بك الأذى ما وصل، مأمور بأن تصبر على ذلك، وتعلم أن هذا فيه أجر كبير، فإذا صبرت عليه أثابك، فإما أن يكون هذا الذي أصابك ابتلاء بقوة الإيمان ولضعفه، فإذا صبرت صار إيمانك قوياً، وإما أن يكون عقوبة على ذنوب اقترفتها، فإذا صبرت على ذلك كُفِّرت تلك الذنوب بهذا البلاء وبهذه الأمراض والعاهات ونحو ذلك، وإما أن تكون تلك البلايا والمصائب ونحوها رفعاً لدرجاتك، ونحو ذلك من الأسباب.
إذاً: المسلم إذا ابتُلي صبر كما ورد في الآثار: (عنوان سعادة العبد أنه إذا أعطي شكر، وإذا أذنب استغفر، وإذا ابتُلي صبر) أي: تحمل وصبر على ما يصيبه.
أما هؤلاء الذين إذا حصل عليهم أدنى شيء بادر أحدهم وقتل نفسه، فمثل هؤلاء لم يتحملوا الصبر، ويزعمون أنهم يريحون أنفسهم، وما دروا أن أحدهم كالمستجير من الرمضاء بالنار، كالذي يفر من الرمضاء إذا أحرقت قدميه، ثم يقع في النار فتحرقه كله! وذلك أن عذاب الدنيا منقطع هين يمكن تحمله، أما عذاب الآخرة الذي هو سخط الله وعقوبته وعذابه الشديد فإنه دائم أبدي سرمدي.(66/16)
من أحكام قاتل نفسه
ذكروا أن من قتل نفسه فإن من عقوبته ألَّا يصلي عليه الإمام الأعظم أو الإمام العام، وما ذاك إلا للزجر عن هذا الذنب الذي اقترفه.
كذلك أيضاً: إذا تُحُقِّق إمام المسجد أن القاتل قتل نفسه فليس له أن يصلي عليه، وأما الذين لم يعرفوا فلهم أن يصلوا عليه.
أما أقاربه ومن له صلة فيصلون عليه، ويدعون له ويترحمون عليه، رجاء أن يخفف عنه هذا الذنب، ولو كان ذنباً كبيراً؛ لأن كثيراً من العلماء لم يخرجوه به من الإسلام، ولم يحكموا بكفره، وتأولوا الأحاديث التي فيها الوعيد الشديد عليه بأنها من باب الزجر والنهي عن مثل هذه الكبائر، ومن باب محافظة الإنسان على حرمة نفسه، وعلى حرمة المسلمين.
ولا شك أن المسلم له حرمة، رُوي أن ابن عمر طاف مرة بالكعبة وقال: (ما أعظمك وأعظم حرمتك! وإن حرمة المؤمن أعظم عند الله من حرمتك) فالمؤمن له حرمة، ومن حرمته ألا يُتَعدَّى عليه، فإذا كان الله تعالى توعد من قتل نفسَاً بغير حق بأشد الوعيد، فكذلك الوعيد أيضَاً ينصب على من تسبب في قتل نفسه والعياذ بالله.
فننتبه لمثل هذا، ونحذِّر هؤلاء الذين يتساهلون في الانتحار، وما أكثرهم! ولكنهم قليلون -والحمد لله- في البلاد الإسلامية، وإنما يكثرون في البلاد التي يكون الإسلام فيها ضعيفاً أو أنهم يقلدون الدول الكافرة الذين يقتل أحدهم نفسه بأدنى سبب يخالف ما يهواه.
فالأخبار تنقل أن في دولة كذا وكذا: انتحر في هذا الشهر عدد كذا وكذا، قتلوا أنفسهم سواء كانوا رجالاً أو نساء ونحو ذلك، وإذا عرّفنا للناس خطأهم، وبعدهم عن العقل وعن الدين، انتبه الناس لمثل ذلك، فلا يفعل مثل ذلك إلا من هو مسلوب العقل والمعرفة والعياذ بالله.(66/17)
شرح عمدة الأحكام [67]
جاءت الشريعة بحفظ النفوس والأموال والأعراض، وسدت كل طريق يوصل إلى انتهاكها، وقررت الأحكام الشديدة الزاجرة لكل من تسول له نفسه استباحتها، ومن أشد تلك الأحكام أحكام المحاربين الذين يفسدون في الأرض، فجزاؤهم أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض.(67/1)
أحكام الحرابة والمحاربين
قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [كتاب الحدود.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم ناس من عكل أو عرينة فاجتووا المدينة، فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح، وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها، فانطلقوا، فلما صحوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم، واستاقوا النعم، فجاء الخبر أول النهار؛ فبعث في آثارهم، فلما ارتفع النهار جيء بهم، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسمرت أعينهم، وتركوا في الحرة يستسقون فلا يسقون.
قال أبو قلابة: فهؤلاء سرقوا وقتلوا، وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله.
أخرجه الجماعة] .
هذا الحديث في حكم المحاربين والحرابة، وقد ذكر المحاربون في القرآن، قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33] قال ابن عباس رضي الله عنه: (إن قتلوا وأخذوا المال قتلوا ثم صلبوا، وإن قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإن أخذوا المال ولم يقتلوا قطع من كل واحد منهم يد من جانب ورجل من جانب، وإن أخافوا السبيل نفوا من الأرض) .
وقيل: إن نفيهم: أن يسجنوا في الحبس.
والمحاربون هم: الذين يعترضون الناس في الطرق وفي البراري، فيعترضون المسافر فيقطعون عليه سيره، فإما أن يقاتلوه لأجل أن يأخذوا ما معه من مال إن كان، وإما أن يقصدوا فعل جريمة الزنا بمحارمه إذا كان معه محارم، وهكذا، فهؤلاء هم المحاربون.
وقد دخل فيهم أهل هذه القصة، وفي هذه القصة: أن هؤلاء قوم -قيل: عددهم ثمانية من قبيلتين: قبيلة عكل، وقبيلة عرينة، وهما قبيلتان من قحطان ومن عدنان- جاءوا إلى المدينة وأظهروا أنهم أسلموا، وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم، ولما أقاموا في المدينة أياماً اصفرت ألوانهم، وتغيرت عليهم البيئة والمكان والطعام والشراب، وانتفخت بطونهم بمرض يسمى الجواء، فلما رأى تغير حالتهم رحمهم ورفق بهم، وعرف أنهم كانوا أهل دواب وأهل أغنام وأهل إبل، وقد عاشوا عليها، وأن أحسن حالهم أن يرجعوا إلى التغذي بألبان الإبل ونحوها، فأرسلهم إلى إبل الصدقة، وهي إبل كانت ترعى في طرف المدينة، وأمرهم أن يتغذوا بألبانها، ويتعالجوا بأبوالها، ويشربوا الأبوال علاجاً ودواءً، ويشربوا الألبان غذاء، ففعلوا، وذهبوا مع تلك الإبل، واستمروا في هذا العمل يشربون ويتعالجون حتى عادت إليهم صحتهم، وسمنوا وقووا.
فعند ذلك بدا لهم أن يكفروا بعد إسلامهم، وأن يستبدوا بهذه الإبل التي وجدوا منها هذه المنفعة، فقتلوا الراعي الذي كان يرعى تلك الإبل -وكان راعياً مسلماً- ومثلوا به، فجدعوا أنفه، وفقئوا عينيه، وبقروا بطنه، وقطعوا أطرافه، ثم هربوا بالإبل، وصاروا بهذا محاربين لله ولرسوله، فجاء الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بما فعلوه من هذا الجرم وكفران النعم، فبعث في آثارهم من يردهم، روي أن جرير بن عبد الله البجلي كان أميراً على السرية التي بُعثت في آثارهم، فأدركهم الطلب أثناء الطريق وهم هاربون مشتدون في الهرب، فأسروهم وجاءوا بهم، ولما جاءوا بهم -وكانت جريمتهم جريمة شنيعة- عاقبهم النبي صلى الله عليه وسلم بعقوبة شنيعة تماثل جريمتهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وترك الدم يسيل منهم، أي: لم يحسمهم حتى يتوقف الدم، وأمر بمسامير من حديد فأحميت في النار، فكحلت بها أعينهم، وهو معنى: (سمل أعينهم) ، وكان ذلك عقاباً لهم؛ لأنهم فعلوا ذلك بالراعي، وتركهم في حرة المدينة يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا، وهم على تلك الحال.
روي أن الحجاج أمير العراق المشهور لما سمع هذا الحديث أخذ يستدل به على عقوبته لبعض المجرمين، ويقول: انظروا إلى عقوبة النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الأشخاص، وما ذنبهم إلا أنهم أخذوا ذوداً من الإبل لا تساوي إلا عدة دنانير، فعاقبهم بهذه العقوبة الشنيعة، وقد لام بعض المحدثين من حدث الحجاج بهذا الحديث وبهذه القصة؛ لأنه صار يستدل بها على سفكه للدماء بأدنى شبهة، ولما اشتهر استدلاله بذلك اعتذر عن هذا الحديث أبو قلابة الذي روى هذا الحديث عن أنس فقال: هؤلاء -يعني: هؤلاء الذين أذنبوا هذا الذنب- سرقوا -أي: سرقوا الإبل- وقتلوا ذلك الراعي، وحاربوا الله ورسوله أي: نصبوا الحرب للرسول عليه الصلاة والسلام، وارتدوا بعد إسلامهم أي: كفروا؛ لأن فعلهم هذا ردة؛ حيث إنهم هربوا إلى الكفار، ففعلهم هذا ردة، أي: لم يبقوا على إسلامهم، فكانت هذه عقوبة لهم.
وبلا شك أن المحارب الذي يقطع الطريق على المسلمين، ويقتل لأجل أخذ المال، وينهب المال بالقوة، ويفعل ما يقدر عليه؛ لا شك أن رده وصده واجب على المسلمين؛ حتى لا تكثر الفوضى، وحتى لا تشتد المنكرات، وحتى لا يكون الضعيف نهبة للقوي، وحتى لا تسفك دماء المسلمين، وتنتهك أعراضهم بالزنا والفواحش وما أشبهها، فلأجل ذلك يؤخذ على أيدي هؤلاء المحاربين، ويعاقبون بما يرتدعون به.
ومن ذلك عقوبة هؤلاء المحاربين الذين في هذا الحديث، فإن من عقوبتهم: القتل؛ لأنهم قتلوا، فلما قتلوا ذلك الراعي بغير حق قتلوا، وقد اتفق جمهور العلماء على أن الجماعة إذا قتلوا واحداً قتلوا كلهم، وهؤلاء ثمانية قتلوا واحداً وهو الراعي، فقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم به قصاصاً، وإن كانوا قتلوا لأجل أنهم مرتدون، ولكن لما قتلوه قتلوا، ومثل بهم، والمثلة قد ورد النهي عنها، ولكن تجوز على وجه المقابلة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بريدة: (اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا) أي: لا تمثلوا بالقتلى يعني: لا تشوهوا منظر القتيل بقطع أنفه، أو بفك شدقيه، أو بفقأ عينيه، أو بقطع مذاكيره، أو ببقر بطنه، أو بإخراج كليته، أو نحو ذلك، فما دام أنه قتل ومات فلا تمثلوا به هذا التمثيل.
ولكن إذا رؤي أن في ذلك زجراً لأمثالهم، وأنهم إذا رأوا هذا الفعل بهم انزجر أمثالهم فلا يفعلون كفعلهم؛ جاز بقدر الحاجة، والنبي صلى الله عليه وسلم هنا مثل بهم، أي: فقأ أعينهم بهذا الحديد المحمي، وكذلك قطع أيديهم وأرجلهم، أي: قطع من كل واحد منهم يداً ورجلاً، وكذلك لم يحسمهم، والحسم هو: أن يكوى طرف اليد المقطوعة حتى يتوقف الدم، بأن يغلى زيت وإذا غلي واشتد حره غمست فيه اليد بعدما تقطع، فتقطع اليد من المفصل وتغمس في ذلك الزيت حتى يتوقف جريان الدم؛ لأنها إذا لم تحسم استمر خروج الدم إلى أن يموت الذي قطعت يده، بخلاف ما إذا حسمت، فهو عليه السلام ما حسمهم.
وكذلك تركهم في الحرة يطلبون ماءً ويطلبون طعاماً فلم يُسقوا ولم يُطعموا، وتركوا تجري دماؤهم إلى أن ماتوا، ولا شك أن هذه العقوبة البشعة الشنيعة دليل على عظم جرمهم، فهي عقوبة على خيانتهم، وعلى حربهم لله ورسوله، وعلى قتلهم إنساناً بريئاً محسناً إليهم، وعلى ردتهم وارتدادهم عن الإسلام وتبديلهم دينهم، فيدخلون في قوله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) ، وهؤلاء جمعوا بين هذه الأمور، ففعلت بهم هذه الأفعال، فجمعوا بين كونهم حاربوا الله ورسوله، وصاروا من المحاربين، فكان جزاؤهم كما قال الله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا} [المائدة:33] ، وكذلك ارتدوا عن الإسلام، وردتهم تعتبر كفراً وتبديلاً للدين، وكذلك كفروا المعروف، وكفروا العشير، وكفروا الإحسان، وكفروا الفضل والخير الذي حصل لهم، وجازوا الإحسان بالإساءة، فحصل لهم ما يستحقونه من هذه العقوبة.
ولا شك أن الجزاء من جنس العمل، وأن من فعل مثل هذه الأفعال أو قريب منها يجازى بذلك، فإذا قدر على هؤلاء القطاع الذين يقفون في الطرق، ويخدعون بعض الناس حتى ينخدع معهم، ويسرقون ما معه من المال، أو يهددونه بالسلاح ويأخذون ما معه قهراً، وما أشبه ذلك، فإذا قدر عليهم فيجوز للحاكم أن يقتلهم، لا سيما إذا قامت القرائن على خيانتهم وعلى شرهم وعلى ضررهم بالمسلمين، أو اعترفوا أو قامت قرائن على أنهم يخيفون السبل، ويخيفون الآمنين، وأنهم يحاولون الاعتداء بأخذ المال وبقتل المسلم بغير حق ليتمكنوا من ماله أو ما أشبه ذلك.
فإن كانوا أخذوا المال على وجه المغالبة وعلى وجه القهرية، بأن قالوا: أعطنا ما معك من المال من النقود أو من الذهب أو ما أشبه ذلك وإلا قتلناك، فيخرجون السلاح ويهددونه بإطلاق النار، فأعطاهم ليكف شرهم؛ فعقوبتهم إذا قدر عليهم أن يقطع من كل منهم يد ورجل، ويحسموا حتى لا يموتوا؛ لأن ذنبهم لا يصير إلى القتل، لكونهم لم يقتلوا مع استرجاع الأموال التي أخذوها بالمغالبة، أما إذا كان اعتداؤهم على الأعراض بأن فعلوا جريمة الزنا أو اللواط، وقامت البينات على ذلك منهم باعترافهم، أو بوجود العلامات الظاهرة، فيقام عليهم الحد، فحد اللواط هو القتل، لقوله عليه السلام: (اقتلوا الفاعل والمفعول به) ، يعني: المفعول به إذا كان مختاراً، وأما حد الزنا فهو الحد المعروف: جلد مائة وتغريب عام إن كان بكراً، والرجم إذا كان قد تزوج، كما دلت عليه الأحاديث.(67/2)
شرح عمدة الأحكام [68]
الزنا من أعظم الفواحش، ومفاسده كثيرة، وأضراره عديدة، ولذا فقد حرمه الله في جميع الشرائع، وحد له عقوبة في الدنيا تزجر عنه، وهي تختلف بحسب الإحصان وعدمه، والحرية وعدمها.(68/1)
حد الزنا
قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما أنهما قالا: إن رجلاً من الأعراب أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله، فقال الخصم الآخر -وهو أفقه منه-: نعم، فاقضِ بيننا بكتاب الله وائذن لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل، فقال: إن ابني كان عسيفاً على هذا فزنى بامرأته، وإني أُخبرت أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني: إنما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم ردٌّ عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس -لرجل من أسلم- على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها.
قال: فغدا عليها فاعترفت، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت) .
وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما قالا: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأمة إذا زنت ولم تحصن، فقال: إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفير) .
قال ابن شهاب: لا أدري أبعد الثالثة أو الرابعة! والضفير: الحبل] .
هذه الأحاديث تتعلق بحد الزنا، وقد عُرف أن الله تعالى حرمه وجعله فاحشة من أعظم الفواحش، قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلَاً} [الإسراء:32] ، وجعل حده الجلد فقال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2] أي: لا ترحموهما ولا ترقُّوا لهما: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] .
فهذا دليل على عظمة هذا الذنب.
والمفاسد التي تترتب عليه كثيرة ومشهورة، وقد توسع العلماء في ذكرها، وبينوا الأضرار التي تحصل في المجتمعات إذا فشت فيها فاحشة الزنا، وكذلك أيضاً ما يحصل فيها من العقوبات الأخروية أو العقوبات السماوية بسبب فُشُوِّ هذه الفاحشة.
ولأجل ذلك جعل الله حد الزنا -أي: العقوبة التي تترتب على فعله- من أبشع العقوبات وأشنعها، فإذا كان الزاني قد من الله عليه بالزواج، وقد أحصن فرجه يعني: قد نكح نكاحاً صحيحاً ثم بعد ذلك زنى فذنبه أكبر، فيستحق أن يُرجم، ولو كان قد طلق زوجته أو توفيت ما دام أنه قد تزوج زواجاً صحيحاً ودخل بزوجته، وهكذا المرأة التي تزوجت ودُخل بها ثم زنت، فإن عقوبة كل منهما أن يُرجم بالحجارة حتى يموت، وأن يجتمع عليه جماعة ويرجموه ويقذفوه بالحجارة إلى أن يموت، وذلك لأن الله تعالى عاقب قوم لوط بمثل ذلك كما في قوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ} [هود:82-83] .
(مِنْ سِجِّيْلٍ) : قيل: إنها من النار.
(مَنْضُودٍ) أي: منضَّدة مهيأة، (مُسَوَّمَةً) أي: موسومة مهيأة لمن تقع عليه وتقتله، {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83] .
وكانت فاحشتهم شنيعةً، وهي أنهم كانوا يأتون الذكران من العالمين، فكذلك كل من فعل هذه الفاحشة وهي جريمة الزنا، ومثلها أو أبشع منها جريمة الفعل في الذكور، كل ذلك يستحق أصحابه هذه العقوبة التي هي الجلد أو الرجم، فإن كان لم يسبق أن تزوج بل لا يزال بكراً رجلاً كان أو امرأة فإنه يُجلد مائة جلدة، ويُشدد عليه في الجلد لقوله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2] ، ويُشهر أمره لقوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] أي: يكون جلده على مشهد من جمع من الناس.
ويجلده الجلاد وهو إما قائم وإما مضطجع، ويفرق الجلد على جسده.
الجلد هو الذي ذكر في القرآن، وفي هذه القصة أن البكر عليه جلد مائة، وعليه مع ذلك تغريب عام، وأن الرجم يكون على المحصن.
وهذه القصة فيها أن رجلاً كان له ابن شاب فاستُخدم في أحد البيوت، وأصبح خادماً عند صاحب بيت من البيوت، وكان فيه نزعة الشباب، وفيه قوة الشهوة، فسولت له نفسه أن زنى بامرأة صاحب البيت، وكأنها لم يكن عندها من الورع ما يمنعها من هذه الفاحشة، فمكنَّته من نفسها، واعترف هو بالفعل، واعترفت أيضاً، وعرف كل منهما أنه وقع في ذنب، وأراد كل منهما التخلص والتطهير لَمَّا وقعا في هذه الفاحشة التي دفعتها إليهما الشهوة.
والعسيف هو الأجير، فوالد الأجير اعتقد أنه يكفي أن يدفع عنه هذه الفدية، فدفع عنه مائة من الغنم كفدية، ودفع عنه وليدةً أي: مملوكة أراد أن يبذلها حتى يخلص ولده من الرجم، ولما سأل أُخبر بأنه ليس عليه رجم؛ لأنه لم يُحصن، وأن الرجم يكون على المرأة، وأن عقوبته الجلد والتغريب، وأقر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الفُتيا، وأخبره بأن مائة من الغنم والوليدة ترجع إليك، ولا تُقبل الفدية عن الحدود، وأن عقوبة ولدك أن يُجلد مائة جلدة وأن يغرَّب.
والتغريب هو: أن يُنفى عن بلده إلى بلاد بعيدة ينقطع خبره عن أهله، ويكون غريباً في تلك البلاد بحيث لا يرى من يعرفه، رجاء أن تتغير حاله إلى أحسن، هذا هو التغريب، ويرى بعضهم أنه يُكتفى بالسجن إذا خيف أنه إذا غرِّب زاد شره وزاد فساده، فإن كثيراً من البلاد البعيدة قد يكون فيها فساد، وقد يكون فيها منكر، فلذلك رأوا أنه يُسجن لمدة سنة، وكل ذلك حفاظاً على الحرمات، وغَيرةً على الأنساب؛ لأن هذه الفاحشة تفسد الأخلاق، وتفسد البيوت، وتختلط الأنساب، وتُدخل المرأةُ على الرجل من ليس من أولاده؛ فيعظُم الشر والضرر، هذه عقوبة هذا الزاني.
أما المرأة فلما كانت محصنة أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليها هذا الرجل فاعترفت، فأمر بها فرُجمت، أي: قذفت بالحجارة، واجتمع عليها مَن رجَمها إلى أن ماتت، فاستقرت الشريعة على أنه يُرجم من كان محصناً، ويُجلد من لم يكن محصناً.(68/2)
حد الأمة المملوكة إذا زنت
قال الله تعالى في الإماء: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء:25] وفهم الصحابة أنها إذا كانت قد أحصنت فعقوبتها نصف عقوبة المحصنات، وظنوا أن الإحصان هو النكاح، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا رجم على الأمة، ولا رجم على العبد، وما ذاك إلا أنه مملوك لغيره، ولا يزول ملك الغير بسبب ذلك الجاني، فكانت عقوبته الجلد.
وما مقدار عقوبة العبد أو الأمة؟ مقداره: خمسون جلدة، نصف جلد الحر رجلاً كان أو امرأة، فتُجلد الأمة خمسين، ويُجلد العبد خمسين، ولو كان قد تزوج، ولا رجم عليه؛ لأن الرجم لا يمكن أن يتنصف.
ثم في هذا الحديث أنه فوَّض جلدها إلى السيد الذي يملكها، وأمره أن يقيم الحد عليها، فقال: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد، ولا يثرِّب -يعني: لا يوبخها، قال:- ثم إن زنت فليجلدها، ثم إن زنت فليجلدها، ثم إن زنت فليبعها ولو بحبل من شعر) ، يعني: أنها لا خير فيها ما دام أنها تكرر منها الزنا أربع مرات، ولم تتب بهذا الجلد وبهذا الحد.
ولا يجوز إكراهها على الزنا كما قال تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنَاً} [النور:33] .
وبكل حال فهذه الآية تدل على أن الزنا فاحشة محرمة، وأن البغي التي تزني وتمكن من نفسها إذا كانت أمة لا يجوز إمساكها، وإذا كانت زوجةً لا يجوز إبقاؤها، بل يفارقها إذا خاف أن تفسد عليه فراشه، ومعلوم أن هذا كله محافظة على الفُرُش، وأن الرجل تأخذه غَيرة شديدة أن يرى امرأته تفعل الفاحشة، وكذلك يرى أمته أو يرى أحد محارمه يفعل مثل هذه الجريمة.
ولا شك أن هذا يوجب على كل مسلم أن يكون حذراً غيوراً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته) أي: كلكم عبيد الله، وكل نسائكم إماء الله، فالله تعالى يغار، كما أن الإنسان يغار، والإنسان الذي لا يغار إذا زنت امرأته يسمى ديوثاً، وهو الذي يقر الخنا في أهله، فالذي يغار إما أن يقتلها أو يقتل ذلك الذي فعل الجريمة معها، كما رُوي أن سعدا رضي الله عنه قال: (لو وجدتُ مع امرأتي رجلاً لضربته بالسيف غير مصفِّح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتعجبون من غَيرة سعد! والله لأنا أغير منه، واللهُ أغير مني) ، وسعد بن عبادة من سادات الأنصار من الخزرج، وهذه غيرته.
وذكروا أن رجلاً من الصحابة وجد مع امرأته رجلاً، ولما وجدهما في الفراش سل سيفه وضربهما وهو لا يشعر بما حصل منه ولا يدري، وكانت ضربته قد قطعتهما نصفين، وجاء حتى وقف إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فقالوا له: ما فعلت؟ فقال: لا أدري، إلا أني رأيت شيئاً وضربته ولا أدري كيف ضربته، فذهبوا وإذا هو قد قدَّهما نصفين، ولا شك أن ذلك كله من الغَيرة على محارم الله تعالى، والإنسان تحمله هذه الغَيرة على ألَّا يأتي أية فاحشة، ولا أن يقرها في أهله؛ مخافة أن يفسد المجتمع بمثل إقرار وانتشار هذه الفواحش، ومتى أقيمت الحدود على مثل هؤلاء الزناة وقُمعوا واضطُهدوا وأُذلُّوا؛ قلت الفواحش، وذلَّ أهلها، وإذا تُسُوهل بهذه الحدود وتُرك أهلها يفعلون هذه الجرائم خُشي أن يفسد المجتمع وأن تنتشر العقوبات، وأن تنزل الآفات والأمراض والعاهات التي لم تكن في سلف من أسلاف الأمم، كما ورد ذلك في الحديث: (ما ظهر الزنا في قوم حتى أعلنوه إلا ابتلوا بالعقوبات والأمراض التي لم تكن فيمن قبلهم) .(68/3)
رجم الزاني المحصن
قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: أتى رجل من المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فناداه فقال: (يا رسول الله! إني زنيت، فأعرض عنه، فتنحى تلقاء وجهه فقال: يا رسول الله! إني زنيت، فأعرض عنه، حتى ثنى ذلك عليه أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبك جنون؟ قال: لا، قال: فهل أحصنت؟ قال: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهبوا به فارجموه) ، قال ابن شهاب: فأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول: (كنت فيمن رجمه، فرجمناه بالمصلى، فلما أذلقته الحجارة هرب، فأدركناه بالحرة فرجمناه) .
الرجل هو: ماعز بن مالك، وروى قصته جابر بن سمرة، وعبد الله بن عباس، وأبو سعيد الخدري، وبريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنهم] .
هذا الحديث في رجم الزاني، وقد ذكر الله تعالى الزنا في أول الأمر فقال تعالى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء:15] ، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) ، فهذا يعتبر إيضاحاً لهذه الآية؛ حيث أمر الله بإمساكهن بالبيوت إلى أن يجعل لهن سبيلاً، وأمر بإيذاء الرجل بقوله: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء:16] فأمر في الأول بإيذائهما إلى أن يتوبا، وبعد ذلك نزل الحد في قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] ، فذكر الله حد الزنا أنه جلد مائة، وأن هذا الجلد يكون شديداً بلا رأفة ولا رحمة، وأنه يكون معلناً أمام طائفة من المؤمنين، ثم جاءت السنة بأنه إذا كان ثيباً -يعني: قد تزوج- فإنه يرجم ولا يرحم، بل يرجم بالحجارة إلى أن يموت، فتكون الآية في البكر الذي لم يتزوج، فإنه يجلد مائة جلدة رجلاً كان أو امرأة، أما إذا كان قد تزوج فإن حده الرجم.
وهذا الرجل الذي في هذه القصة هو ماعز الأسلمي، حصل منه الزنا، وكان قد تزوج، فلما حصل منه الزنا الصريح خاف على نفسه من هذا الذنب، فقالوا له: اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه سوف يطهرك، فجاء واعترف هذا الاعتراف، فنادى: يا رسول الله! إني قد زنيت، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كرر ذلك، ثم كرره ثالثة ثم رابعة، ولما اعترف أربع مرات كان هذا بمنزلة أربعة شهود المقصودين في قوله: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء:15] فأقر على نفسه أربع مرات، فكان هذا سبباً في ثبوت الحد عليه، وثبوت الفعل هو الذي يوجب إقامة الحد، ولا شك أن هذا دليل على خوف السلف رحمهم الله من معرة الذنب، فعلم أن هذا الذنب ذنب كبير، وأنه من عظائم الإثم، لقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] ، فعرف أن هذا ذنب كبير، وخاف أن يوبقه ذنبه، وخاف أن يهلك بسبب ذلك، فعند ذلك احتاج إلى أن يطهر، فجاء واعترف هذا الاعتراف، وكرر ذلك.
ولما اعترف سأله النبي صلى الله عليه وسلم ليتثبت: (أبك جنون؟) أي: هل أنت ناقص العقل أو فاقده؟ ولكنه اعترف بأنه كامل العقل، وأنه كامل الإدراك، وليس في عقله نقص ولا خلل، فكان في ذلك ما يدل على حرصه على أن يطهر من هذا الذنب؛ لأنه كأنه قال: ماذا تريد من هذا الاعتراف؟ قال: أريد أن تطهرني، فأقيم عليه الحد وهو الرجم، بعد ما تثبت النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الروايات أنه استفصل منه وقال: (لعلك قبلت، أو لمست، أو غمزت -يعني: أنك فعلت مقدمات الزنا ولم تفعل الزنا- فقال: لا، فقال: أتدري ما الزنا؟ قال: نعم، أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من أهله حلالاً) ، فلما اعترف بذلك أمر صلى الله عليه وسلم بأن يرجم.
وذكروا أنه رجم في المصلى، والمصلى كان قرب المقابر، وهو مكان متسع كانوا يصلون فيه على الجنائز، ثم لما بدءوا يرجمونه أذلقته الحجارة وأحس بحرها فهرب، فتبعوه حتى أدركوه بالحرة الشرقية، فرجموه حتى مات.
والرواية التي فيها أنه قال لما هرب: (هلا تركتموه؟) يقال: إنها لم تثبت، وعلى تقدير ثبوتها أراد بذلك أن يتثبت منه، وبكل حال فالحق قد ثبت عليه، والحد قد وجب عليه باعترافه أربع مرات بأنه زنا، واعترافه بأنه ليس به جنون، واعترافه بأنه محصن، واعترافه بأن الزنا وقع منه حقيقة وليس مقدمات الزنا، ولما ثبت ذلك عنه لم يكن بد من إقامة الحد.(68/4)
الحكمة من شرعية الحدود
الحدود جعلها الله تعالى تطهيراً للعباد، وإقامتها فيه مصلحة كبيرة، وهذه المصلحة هي أمن الناس على محارمهم، وأمنهم على دمائهم وعلى أموالهم وعلى أعراضهم وعلى أديانهم.
والعقوبة في الزنا هي: إن كان محصناً يرجم حتى يموت، وإن كان غير محصن يجلد مائة جلدة، ويغرب سنة عن بلده، والحكمة في ذلك: أولاً: الزجر عن هذا الذنب الكبير، والتحذير من سوء مغبته، فإنه من أكبر الذنوب.
ثانياً: الحرص على حفظ أعراض الناس وحفظ أنسابهم؛ لأنه إذا فشا الزنا اختلطت الأنساب، وفسدت الأعراض، وذهبت الغيرة والحماسة، والإنسان مأمور بأن يكون غيوراً على محارمه؛ لأنه إذا لم يكن كذلك وكان يقر الخنا في أهله لقب بالديوث، وفي الحديث: (لا يدخل الجنة ديوث) ، وهو الذي يقر الخنا في أهله.
وإذا كان هناك من يقيم الحدود ومن يأخذ الحقوق أمن الناس، وأمنت البلاد واطمأنت، وأمن الناس على محارمهم، وصار المذنب أو العاصي يخاف على نفسه من مثل هذه العقوبة، ويفكر ويقول: ما فائدة من هذا الذنب الذي أقترفه؟ أصبر على نفسي وأصبر على قمع شهوتي ولا أتعرض للعذاب، ولا أتعرض للأذى، ولا أعرض نفسي لأن أقتل قتلاً شنيعاً، ونحو ذلك.
قالوا: الحكمة في شرعية الرجم أنه لما عدل عن الحلال، وتلذذ جسمه كله بهذا الحرام الذي هو فعل هذه الفاحشة ناسب أن يُرجم، وأن يُؤلم جسده كله.
وأما كيفية الرجم فقيل: إنه يحفر له حفرة قدر ذراع أو نحوه، ثم يوقف فيها، وتربط يده من خلفه، ثم يأخذون حجارة ملء الكف، ثم يقذفونه بها، ويرمونه مع رأسه ومع بطنه ومع ظهره ومع عضديه ومع فخذيه، إلى أن تذلقه الحجارة وينصرع ويموت.(68/5)
الصلاة على من رجم في الزنا
في بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم استغفر لذلك الرجل الذي هو ماعز الأسلمي، وأنه صلى عليه.(68/6)
لا رجم على العبد
العقوبة بالرجم تختص بالحر، أما العبد فإنه لا رجم عليه، وما ذاك إلا أن قتله فيه إذهاب لماليته، وماليته لسيده، فهو مملوك للسيد، والسيد لم يذنب حتى يفوّت عليه ماليته وما يملكه، فلأجل ذلك يقتصر على جلده، فيجلد خمسين جلدة، ويكون الذي يتولى إقامة الحد عليه هو سيده.(68/7)
فائدة إقامة الحدود
إقامة الحدود في البلاد سبب للأمن والطمأنينة، وقد ورد في بعض الأحاديث: (لحد يقام في الأرض خير من أن يمطروا أربعين صباحاً) ، ومعلوم انتفاعهم من المطر، لكن الفائدة قد تكون دنيوية، وأما إقامة الحد ففيه إظهار أوامر الله، وتطبيق شرعه، والعمل بسنة نبيه، وفيه عقوبة المجرم على جريمته، وزجره وزجر أمثاله عن هذه الجرائم والذنوب الشنيعة، ولا شك أنها مصلحة دينية تتعلق بالعباد، وتتعلق بالبلاد، وتتعلق بالمحارم، فكان فيها هذا الخير، فكلما أقيمت الحدود كان ذلك سبباً للأمن والطمأنينة.
وفي هذه الأزمنة كثير من البلاد التي تنتمي للإسلام عطلت فيها الحدود، بل أبيح فيها الزنا إذا كان برضا من الرجل والمرأة، فإذا تراضيا فليس عليهما جناح، ولا يقام عليهما حد، ولو كانت المرأة مزوجة، واختارت خليلاً لها وحبيباً، ولو كان لها أب لا يرضى ما دام أنها رضيت بذلك!! ولا شك أن هذا إباحة للحرام، وتغيير للفطر، ومخالفة للشرائع، وإذهاب للحماس والغيرة، وتعطيل لحدود الله تعالى، وسبب في ظهور الفواحش والمحبة لها، وقد توعد الله على ذلك بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:19] ومن أعظم الفواحش فاحشة الزنا، وفاحشة اللواط ومقدماتها؛ لأن هذه الفاحشة من أشنع الفواحش، فالذين يحبونها توعدهم الله بقوله: (لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) ، فإذا عرف المسلم حكمة الله تعالى في أوامره ونواهيه، فعليه أن يحرص على تطبيق تلك الأحكام.(68/8)
شرح حديث: (إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن امرأة منهم ورجلاً زنيا)
قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا له أن امرأة منهم ورجلاً زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم، ويجلدون، قال عبد الله بن سلام: كذبتم؛ إن فيها آية الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده فإذا فيها آية الرجم، فقال: صدق يا محمد، فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فرجما، قال: فرأيت الرجل يجنأ على المرأة يقيها الحجارة) .
يجنأ: ينحني.
الرجل الذي وضع يده على آية الرجم هو عبد الله بن صوريا.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن رجلاً -أو قال: امرأً- اطلع عليك بغير إذنك فخذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك جناح) ] .
هذا الحديث يتعلق بحد الزنا مع الإحصان كالحديث الذي قبله، وقد ذكرنا أن جريمة الزنا من أشنع الجرائم؛ وذلك لما فيها من الاعتداء على حرمات المسلمين، واستحلال ما حرم الله طواعية لشهوة قد توقع صاحبها في الإثم أو في العقوبة أو في القتل، والله سبحانه وتعالى ركب في الإنسان هذه الشهوة إلى الوطء، ثم أباح له النكاح الذي يكون فيه مصالح عديدة، ففيه إعفافه وإعفاف زوجته، وفيه تحصيل الذرية الصالحة ونحو ذلك، وحرم عليه أن يعتدي على نساء غيره، وأن يعتدي على محارم غيره اللاتي يحرمن عليه، وجعل في ذلك هذه العقوبة الزاجرة، وأنزل ذلك في الكتب السماوية، فكتاب التوراة الذي أنزل على موسى اشتمل على آية فيها ذكر أن الزاني يرجم إذا كان محصناً.
ولما كثر الزنا في اليهود وفشا فيهم ذكروا أنه زنى رجل من أشرافهم، فلم يقيموا عليه الحد الذي هو الرجم؛ وذلك لكونه شريفاً في قومه، ثم بعد أيام زنى رجل من أطرافهم لم يكن شريفاً ولم يكن له منعة فأرادوا أن يرجموه، فقال أقاربه: لا ترجموه حتى ترجموا فلاناً الذي زنى قبله، فعند ذلك تفكروا وعرفوا أنهم لا يقدرون على أن يسووا بين الشريف والطريف، فعزموا على تغيير هذا الحد أو هذه العقوبة، فاصطلحوا على عقوبة يسمونها: التحميم، وهي أنهم يسودون وجه الزاني ووجه الزانية، ويطوفون بهما على حمار منكسين، أي: ظهره ملاصق لظهرها على الحمار، ويكون هذا إشهاراً لهما وفضيحة، ويجلدونها جلداً خفيفاً أيضاً، فجعلوا ذلك مكان الرجم، وأسقطوا حكم الله به الذي أنزله في كتابه، وهو الرجم حتى يموت.
وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان في المدينة بعض من اليهود، فزنا منهم رجل بامرأة وثبت زناهما، عند ذلك قالوا: لماذا لا نأتي محمداً ونسأله، فإن أفتانا بالرجم لم نقبل منه، وإن أفتانا بالجلد والتحميم قبلنا منه، وكان ذلك حجة لنا عند الله، وقلنا: إنه قد أفتانا نبي من الأنبياء؛ فيكون ذلك عذراً لنا عند الله، ففعلوا ذلك.
وبعدما جاءوا وسألوه عن حكم من زنا لم يفتهم لأول مرة، بل أراد أن يقيم الحجة عليهم من دينهم ومن شريعتهم، فسألهم: (ماذا تجدون في كتابكم؟) وهي التوراة المنزلة على موسى، ولو كان فيها شيء من التحريف والتغيير، فعند ذلك قالوا: ليس فيها ذكر الرجم، وكان هذا بحضور رجل من اليهود قد أسلم وهو عبد الله بن سلام رضي الله عنه، وقد عرف الحق من أول يوم قدم فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قالوا ذلك وهو حاضر قال: كذبتم؛ إن فيها الرجم؛ لأنه يعرف ما فيها؛ ولأنه كان من علمائهم وأحبارهم، فعند ذلك قال: فائتوا بالتوراة إن كنتم صادقين، فجاءوا بالتوراة، وكانوا يعرفون مكانها، فلما نشرها الذي كان يقرأ -ويقال له: عبد الله بن صوريا - وضع يده على آية الرجم وقرأ ما قبلها وما بعدها، ففطن له عبد الله بن سلام فقال: ارفع يدك، واقرأ هذا الذي تحتها، فلم يكن بد من أن يقرأه، فإذا فيها آية الرجم تلوح، فعند ذلك قال: صدق يا محمد! فيها آية الرجم، ولكن كان عذرنا في تركها كذا وكذا، ولم يكن لنا بد من أن نفعل ذلك.
فأنزل الله فيهم من القرآن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنْ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} [المائدة:41] يعني: التحميم {وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} [المائدة:41] أي: إن أوتيتم الرجم فاحذروا، إلى قوله: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} [المائدة:43] ، ففضحهم، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أحييت سنة قد أماتوها) ، وأمر بهما فرجما.(68/9)
كيفية الرجم
الرجم هو: أن يوقف الزاني أو يجلس ثم يرجم بحجارة متوسطة تملأ اليد، يضرب بها جسده ورأسه ووجهه وصدره وظهره إلى أن يموت بهذا الرجم، هذا يرجمه من هنا، وهذا يرجمه من هنا إلى أن يموت، وهذا الرجم شرع لأجل أن يتألم جميع بدنه الذي تلذذ بالحرام، فعوقب بأن يتألم هذا الألم؛ وذلك لأنه آثر شهوة عاجلة على ثواب أخروي، فلو أنه قهر نفسه وقمع شهوته، وصبر عليها، وصابر نفسه، وتذكر مآل هذه الشهوة، وأنها تمتع في وقت قصير، وتلذذ في زمن يسير، ثم يكون بعدها عقوبة عاجلة أو عقوبة آجلة، لما أقدم عليها؛ ففيها فضحية نفسه؛ لأنه إذا اتضح ذلك منه فسُيفضح بين الناس، وفيها هذه العقوبة التي هي تأليم جسده حتى يموت، وفيها أيضا ًعقوبة أخروية إذا لم يتب، وهي عقوبة فيها بشاعة وشناعة، وفيها أيضاً شهرة سيئة، وانتشار سمعة سوء، وفضيحة له، وعار عليه، مع أن سبب ذلك تمتع بشهوة يسيرة، ولو تفكر في قول الشاعر: تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها من الحرام ويبقى الإثم والعار تبقى عواقب سوء لا مصير لها لا خير في لذة من بعدها النار لو تفكر في أن هذه اللذة لذة ساعة تفنى ويبقى عارها، ويبقى شنارها، ويبقى إثمها، لو تفكر في أنه يفسد فراش مسلم، ويخبب عليه زوجته، ويدخل عليه ولداً ليس له، لو تفكر أنه يسبب اختلاط أنساب، وأنه يفسد أخلاقاً، ويفرق بين زوجين قد يكون بينهما مودة ورحمة؛ لأنه إذا علم الزوج أن امرأته قد خانته سبب ذلك فراقه لها؛ لما أقدم على ذلك، ولكن هذه المفاسد كلها يغيبها عنه الشيطان في تلك اللحظة التي تغلبه فيها هذه الشهوة البهيمية.
وبكل حال هذه عقوبة الزاني إذا كان محصناً، فإنه يُرجم كما سمعنا؛ وذلك لأن الله تعالى قد منَّ عليه بالنكاح الحلال، وقد وفقه لأن تزوج زواجا ًحلالاً فعدل عن الحلال إلى الحرام أو أنه ترك ما أحل الله وهو يقدر عليه وآثر الحرام، فكان جزاؤه هذه العقوبة الشنيعة.(68/10)
حد الزاني غير المحصن
إذا لم يكن الزاني محصناً -وهو الذي لم يسبق أن تزوج- فعقوبته أخف؛ عقوبته أن يجلد مائة جلدة، ولكن يشدد عليه في الجلد، قال الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] الرأفة: الرحمة، أي: لا ترحموا الزناة، ولا تخففوا عنهم الجلد، بل شددوا عليهم، وزيدوا في شدته؛ وذلك لتأليم أجسامهم، فهذه الأجسام التي تلذذت في حرام ألجموها بهذا الألم، وبهذا الجلد، وشددوا فيه ليكون ذلك زاجراً لهم عن مقارفة هذه المعصية البشعة الشنيعة، وشددوا عليهم حتى لا يعودوا لمثلها، وحتى ينزجر أيضاً غيرهم، وأمر بأن يعلن جلد الزاني، وأن يكون على مشهد من الناس حتى يشتهر، فيقام هذا الزاني أمام جمع من الناس في المكان الذي تجتمع فيه الجموع الكثيرة، ويشهر أمامهم، ويقال: هذا زانٍ، ثم يجلد سواء كان قائماً أو مضطجعاً، ويزال ما عليه من الثياب الغليظة كفراء أو عباءة غليظة، ويترك عليه ثوب يستره، ثم يجلد هذا الجلد.
وله عقوبة أخرى، وهي: التغريب، ففي صحيح مسلم من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) ، هذا الحديث وضح فيه النبي صلى الله عليه وسلم الآية الكريمة التي في سورة النساء، وهي قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء:15] فقال: (إن الله قد جعل لهن سبيلاً) ، والسبيل هو: بيان ما يجب عليهن، فالبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، فيجلد مائة ثم ينفى سنة إلى بلاد بعيدة، ويفرق بينه وبين أسرته، بينه وبين أبويه أو إخوته أو أقاربه، ينفى إلى بلاد بعيدة ويكون غريباً حتى يبتعد عن أصدقائه وخلطائه الذين كانوا يوقعونه في هذه الفواحش أو يزينونها له، فربما إذا فارقهم هذه المدة تاب وتغيرت حاله.
وذهب بعضهم إلى أن التغريب يحصل في السجن، فيسجن لمدة سنة حتى يتوب.(68/11)
الجمع بين الجلد والرجم على الزاني المحصن
كما في حديث عبادة أنه يجمع عليه بين الجلد والرجم، وقد روي أن علياً رضي الله عنه رفعت إليه امرأة زانية يقال لها شراحة، فجلدها في يوم الخميس مائة جلدة، ثم رجمها في يوم الجمعة، وقال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله، يعني: أنه عمل بالآية: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] ، فبدأ بالجلد، ولما علم أن النبي صلى الله عليه وسلم من سنته الرجم رجمها؛ لكونها قد تزوجت، فذهب إلى هذا بعض العلماء، وهو أن يجمع بين الجلد أولاً ثم الرجم.
والمشهور والأرجح أنه يكتفى بالرجم؛ وذلك لأنه اكتفى به صلى الله عليه وسلم في رجم ماعز الأسلمي كما تقدم، وفي رجم الغامدية التي زنت بعدما وضعت حملها، وفي رجم اليهوديين الذين ذكرنا قصتهما، وفي رجم صاحبة العسيف الذي استؤجر لأجل خدمة فزنى بامرأة الرجل، فرجمت ولم تجلد قبل الرجم، فاقتصاره على الرجم يدل على أنه يكتفى بذلك دون أن يكون قبله جلد، والله أعلم.(68/12)
شرح عمدة الأحكام [69]
من قواعد الشريعة حفظ الأموال لأصحابها، ولهذا حرمت الشريعة أخذ مال المسلم بغير حق، ومن أخذ مالاً بغير حق من حرز وقد بلغ النصاب فهو سارق تقطع يده، والسرقة لها أحكام بينها العلماء.(69/1)
أحكام السرقة
قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [باب حد السرقة: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته -وفي لفظ: ثمنه- ثلاثة دراهم) .
وعن عائشة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً) ] .
هذا الباب يتعلق بحد السرقة، والسرقة هي: أخذ المال من حرزه على وجه الاختفاء، ويُسمى الآخذ له لصاً، والمتلصص هو: الذي يسرق الأموال.(69/2)
أنواع أخذ المال بغير حق
أخذ المال له عدة مسميات: الأول: الغصب، فالذي يغتصب المال ويأخذه بالقوة وبالغلبة وبالقهر يُسمى غاصباً، كأن يقول الإنسان: أعطني كذا من المال وإلا قتلتك، أو يقهره فيأخذ ما معه من نقود أو من أي مال، هذا هو الغاصب، وحده: التعزير، فإذا قُدر عليه فإنه يُعزر، فيرد المال الذي أخذه، ويُعاقب عقوبة تردعه وتردع أمثاله، سواء بجلد أو بحبس أو بتنكيل أو بأخذ مال أو نحو ذلك؛ حتى لا يجرأ أحد على أخذ المال بغير حق، وإذا تكرر ذلك منه جاز تعزيره ولو بأن يقتل، زجراً له ولأمثاله.
الثاني: الاختطاف والنهب، وهو أن يهتبل الخاطف غفلة آخر فيختطف ما معه، فإذا كان إنسان عنده مال قد نشره في الأرض ليبيعه مثلاً، فجاء آخر إنسان واختطف منه شيئاً وهرب به، فمثل هذا يُسمى: مختطفاً ومنتهباً، وهذا النهب لا شك أنه ذنب كبير، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن) ، ومتى قدر على هذا المنتهب فإنه يعاقب بما يرتدع به، فيرد المال الذي انتهبه ويُجلد أو يُحبس أو يُعزر أو يغرم مالاً، أو نحو ذلك.
الثالث: المختلس، وهو الذي يهتبل غفلة الإنسان الذي عنده مال ويأخذه وهو لا يدري، كأن يدخل إلى دكان -مثلاً- فإذا رأى صاحبه قد صد أخذ منه ثوباً أو نعلاً أو قدحاً أو نقداً أو نحو ذلك بخفية ويخرج كأنه لم يأخذ شيئاً، ولم يتفطن له صاحب المال، فهذا يُسمى: مختلساً، فإذا عُرف أو اعترف أو شُهد عليه أو رآه من شهد عليه فلابد من عقوبته، بأن يعزر بما يرتدع به هو وأمثاله، ويرد المال الذي اختلسه.
الرابع: السارق، وهو الذي تقطع يده، قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] ، وذكر في سورة يوسف في قوله تعالى: {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [يوسف:75] ، وكانت عقوبة أولاد يعقوب أنهم يسترقّون السارق، فإذا سرق السارق فإن المسروق منه يؤخذ رقيقاً يتصرف فيه كبقية المال.(69/3)
الحكمة في قطع يد السارق
جاء الشرع بقطع يد السارق حفظاً للمال أي: لأجل المحافظة على أموال المسلمين شرع قطع يد من سرق، ومعلوم أن قطعها يشين صاحبها، فإذا قطعت يده فإنه يبقى مشلولاً، ويبقى معيباً ليس له إلا يد واحدة، ولذلك لما رفع بعض السراق إلى بعض الولاة وعزم على قطع يده أنشد يقول: يدي يا أمير المؤمنين أعيذها بعدلك أن تلقى عقاباً يشينها فلا خير في الدنيا ولا في حياتها إذا ما شمال فارقتها يمينها يمثل أنه إذا عاش بلا يمين فإن في عيشته وحياته تعب وبؤس، ولكن الله تعالى شرع العقوبة هذه حفظاً للأموال؛ وذلك لأنه إذا عرف أنه مقابل هذا المال القليل ستقطع يده الثمينة انزجر وارتدع، وخاف على يده، فترك السرقة ولم يتعد، فأمن الناس عند ذلك على أموالهم، فهذا هو السبب وإلا فإن من شرف اليد أن ديتها نصف دية الإنسان، فاليد الواحدة ديتها الآن خمسون ألفاً، ومع ذلك تقطع في ثلاثة دراهم أو نحوها، وما ذاك إلا أنها لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت وصغرت وذلت.
ذكروا أن أبا العلاء المعري اعترض على الشرع فقال: كيف تقطع اليد بربع دينار، وديتها خمسمائة دينار من العسجد يعني: من الذهب؟! وأنشد قوله: يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار فردوا عليه وقالوا: عز الأمانة أغلاها وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمة الباري(69/4)
شروط قطع يد السارق
ذكروا للقطع شروطاً لابد منها حتى يلزم القطع: الشرط الأول: تكليف ذلك السارق، والتكليف هو: أن يكون بالغاً عاقلاً ملتزماً، فإذا سرق الصبي فلا قطع عليه؛ لأنه لم يتكامل عقله الذي يزجره عن السرقة، وكذلك إذا سرق المجنون فلا قطع عليه، وأما إذا سرق من مال الحربي فإن المجاهد له أن يأخذ من مال المحاربين ما يقدر عليه، فلا يقطع إذا قدر عليه، وإذا كان السارق كافراً محارباً فإنه يقتل.
الشرط الثاني: أن يكون المال محترماً، فإذا كان غير محترم أو لم يكن له قيمة فلا قطع عليه، فإذا سرق خمراً فلا قطع عليه؛ لأنه لا قيمة لها، ومثلها سائر المحرمات كالدخان والقات والنرجيل وما أشبهها مما لا قيمة لها في الشرع، فلا قطع على من سرقها.
وكذلك لو سرق آلات الملاهي كالعود والطنبور والطبول وما أشبهها، وكذلك لو سرق ما يجب إتلافه كالصور والأفلام التي فيها صور خليعة، وكتب الزندقة والإلحاد، والمجلات التي فيها خلاعة ومجون، وفيها إلحاد وزندقة، فهذه إذا سرقت فلا قطع على من سرقها؛ لأنه لا قيمة لها شرعاً، ولو أنها مقرة وتباع.
الشرط الثالث: بلوغ النصاب، فلابد أن يكون المسروق نصاباً، وقدر النصاب بأنه مقدار ربع دينار أو ثلاثة دراهم، والدينار هو: أربعة أسباع الجنية، وربعه معروف، فربع الدينار هو نصاب السرقة، ومن الدراهم الفضة ثلاثة دراهم، والدرهم: قطعة من الفضة صغيرة، فإذا بلغ المسروق نصاباً أو كانت قيمته نصاباً فإنه يقطع فيه السارق.
والمجن الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم ثمنه ثلاثة دراهم، وثلاثة درهم هي ربع دينار؛ لأن صرف الدينار في ذلك الوقت كان اثني عشر درهماً.
والمجن هو: الترس الذي يلبسه المقاتل فوق رأسه، يُسمى مجناً ويُسمى مغفراً ويُسمى ترساً؛ لأنه يستر الرأس، ويكون على الرأس وعلى الأذنين ونحوها، وهو من حديد، فله ثمن، وهذا الرجل الذي سرق هذا الترس أو هذا المجن قطع بهذه السرقة فدل على أن هذا نصاب.
ومعلوم أن آلات الملاهي ليس لها قيمة في الشرع لا ربع دينار ولا ثلاثة دراهم؛ فلأجل ذلك لا قطع في سرقتها، ولا يغرمها من أتلفها.
هكذا الحكم شرعاً.
الشرط الرابع: الحرز، فالمسروق لابد أن يكون محرزاً، فإذا أخذه من الشوارع والطرق فلا يُسمى سارقاً، وكذلك إذا وجد الباب مفتوحاً فدخل وأخذ قدحاً أو ثوباً فلا يُسمى سارقاً، وهكذا لو دخل الدكان فأخذ إناءً أو أخذ نعلاً أو شيئاً من المال قيمته نصاب فلا قطع عليه، وما ذاك إلا أنه لا يُسمى سارقاً؛ لأنه لم يسرقه من حرز، ومعلوم أن الأبواب التي تغلق تحرز ما في داخل البيت، فإذا كسر الباب ودخل فهذا قد أخذ من الحرز.
ومعلوم أن الأسوار حروز، فإذا صعد مع السور وقفز ودخل الدار فهذا قد هتك الحرز.
ومعلوم مثلاً أن الصناديق الكبيرة حروز، فإذا كسر الصندوق وأخذ ما فيه فإنه قد أخذ من الحرز، فيعتبر قد انطبق عليه اسم السارق الذي أخذ من الحرز.
وإذا وجد الغنم في زريبة ففتح الباب عليها وأخذ منها فقد أخذ من الحرز، وإذا وجدها مع الراعي فإن الراعي أيضاً هو الحرز، فإذا اهتبل غفلته وأخذ فإنه قد أخذها من الحرز.
وإذا وجد مالاً محرزاً بما يحرز به عادة كحجرة أو دار مقفلة أو نحو ذلك، فهتك ذلك الحرز وأخذ فإنه يصدق عليه أنه قد أخذ من الحرز، فيجب قطعه.
الشرط الخامس: انتفاء الشبهة: فإذا كان له شبهة في هذا المال فلا قطع عليه، فإذا ادعى أن هذا المال وقف على المساكين، وأنا من المساكين، وكان قوله صحيحاً فلا قطع عليه، وإذا سرق من مال غنيمة وهو من جملة الغانمين قبل أن يقسم فلا قطع عليه؛ وذلك لأن له شبهة، وكذلك لو كان ولده من جملة المقاتلين، وكما إذا سرق من مال له فيه حق كبيت المال، لأن له فيه حقاً، وهو من جملة المستحقين، أو سرق من وقفٍ على فئة هو منهم، كالوقف على الفقراء أو على المساكين أو على هؤلاء المسمين وهو من جملتهم، فلا قطع في مال له فيه شبهة، بل لابد أن تنتفي الشبهة.
الشرط السادس: ثبوت السرقة، وتثبت بأحد أمرين: بالبينة، وبالاعتراف، فإذا أقر واعترف بأنه الذي سرق فإنه تقطع يده.
وإذا أنكر وجحد، ولكن شهد عليه شاهدان فإنه تقطع يده، ولابد في الشاهدين من العدالة، والعدالة هي: أن يكون الشاهد ذكراً عدلاً موثوقاً مقبولاً خبره، فلا تُقبل شهادة عدو له مثلاً؛ لأنه يطعن فيه ويقول: هذا يحب الإضرار بي، وكذلك لا يشهد عليه فاسق غير مقبول الشهادة عند المسلمين وغير مقبول الشهادة عند الحاكم.(69/5)
موضع قطع اليد
إذا ثبتت السرقة وتمت الشروط فإنها تقطع يده اليمنى، وتقطع من مفصل الكف، أي: يقتصر على قطع الكف من المفصل، ولا يؤخذ شيء من الذراع.
وذكروا أيضاً أنها تعلق حتى ينتشر خبره، فقيل: تعلق في صدره مدة، وقيل: تعلق في خشبة أمام الناس حتى يشتهر أمره.
وإذا قطعت فبعد القطع تحسم، والحسم هو: أن تغمس في زيت مغلي حار حتى تنسد مجاري العروق، لئلا يجري دمه فيموت، فهذا الحسم يوقف الدم.
وإذا وجد في هذه الأزمنة علاج يوقف الدم غير الزيت المغلي استعمل لإيقاف الدم؛ لأن المطلوب قطع يده، وليس المطلوب إماتته؛ لأنه غالباً لو ترك فسال دمه ولم يتوقف لقضى على حياته، فإذا سال دمه إلى أن ينقضي فسيموت، بخلاف ما إذا حُسم فإنه يتوقف، هذا هو الأصل.
ولاشك أن القطع خاص بالسرقة التي ثبتت فيها هذه الشروط وهذه الصفات، أما بقية الأشياء التي ذكرنا فإنه لا قطع فيها، وإنما فيها عقوبة تزجر عن أمثال هذا، ولا شك أن القطع حد شرعي؛ ولأجل ذلك شرع لأجل حفظ الأموال، فإن السارق إذا عرف أن يده ستقطع هانت عليه هذه الأموال التي سيتحصل عليها، ولكن الكثير من الناس لا ينتبهون لعاقبة الأمور، فيقدم وهو يعتقد أنه سيسلم، فيفتضح وتقطع يده، ثم قد لا ينتبه فتراه مرة أخرى يعود ويسرق، فبعد ما قطعت يده الأولى يسرق بيده الأخرى.(69/6)
حكم من سرق مرة أخرى بعد أن قطعت يده
إذا سرق السارق للمرة الثانية فإنها تقطع قدمه، فتقطع نصف القدم، ويترك العرقوب وما يحاذي الساق من القدم حتى يطأ عليه.
ولو قدر أنه سرق للمرة الثالثة فالصحيح أنه لا تقطع يده؛ لأنه إذا قطعت يده بقي حسيراً لا يستطيع أن يأكل ولا أن يتناول حاجة، وهو بحاجة إلى إحدى يديه ليأكل بها، ويتنظف ويستنجي ويتطهر بها، فإذا قطعت تحسر، فإذا سرق للمرة الثالثة فإنه إما إن يُعزر وإما أن يُحبس إلى أن يتوب، وما روي من قطع يده اليسرى وقطع رجله اليمنى إذا تكرر منه فهذا لعلة عقوبة خاصة بذلك الشخص.(69/7)
الحكمة من تشريع الحدود وإقامتها
قطع يد السارق من حماية الشريعة الإسلامية لمصالح المسلمين، فإنهم بحاجة إلى من يحمي لهم مصالحهم، وهم بحاجة إلى من يحمي لهم أموالهم، فشرع القطع لحماية الأموال.
وهم بحاجة إلى من يحمي لهم دماءهم؛ فشرع القصاص حماية للدماء.
وهم بحاجة إلى من يحمي لهم أعراضهم وسمعتهم؛ فشرع الجلد الذي هو حد الفرية والقذف حماية للأعراض.
وهم بحاجة إلى من يحمي لهم الأنساب؛ فشرع رجم الزاني أو جلده حماية للأنساب؛ لأن الزنا يسبب أن تختلط الأنساب هذا بهذا، فإذا زنى هذا بامرأة هذا وحملت صار ينفق على غير ولده، فينتسب إليه غير ولده، فحماية الأنساب أمر يهتم به المسلمون.
كذلك أيضاً لحماية العقول شرع عقوبة تزجر من يتهاون بعقله، وهو حد الشرب؛ لأن الخمر تزيل العقل، فشرعت العقوبة التي تحفظ على المسلم عقله، بجلد من شرب حتى يتوب، وهذا ونحوه دليل على كمال هذه الشريعة.(69/8)
شرح حديث: (أن قريشاً أهمهم شأن المخزومية التي سرقت)
قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [وعن عائشة رضي الله عنها: (أن قريشاً أهمهم شأن المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه أسامة فقال: أتشفع في حد من حدود الله تعالى؟! ثم قام فاختطب فقال: إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) ، وفي لفظ: (كانت امرأة تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها) ] .
هذه قصة وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، امرأة من بني مخزوم سرقت وثبتت عليها السرقة.
وبنو مخزوم قبيلة من أشراف قريش، ومن أكابر قريش ومشهوريهم، كانت لهم مكانة وشهرة وشرف في قومهم، ولما ثبتت السرقة على هذه المرأة تحتم أن يقام عليها الحد، وأن يطبق عليها الشرع، وأن تقطع يدها كما تقطع يد غيرها، ولكن أكابر قريش عظم عليهم ذلك، فأهمهم شأنها، وصعب عليهم أن تقطع يدها، حتى قالوا: نفديها يا رسول الله! ولو بعشرة آلاف دينار، نفديها ولو بعشرين، حتى وصلوا إلى أربعين ألف دينار، مع أن الدية في ذلك الوقت هي ألف دينار، ولكنهم قالوا: نفديها بأربعين ألفاً، أي: بأربعين دية؛ وذلك خوفاً عليهم من العار، ومن أن تكون هذه المرأة التي هي من أشرافهم عاراً عليهم.
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يغار على حدود الله وحرماته، ولما ثبتت سرقة هذه المرأة المخزومية، وثبت عليها إقامة الحد؛ عزم على قطع يدها مهما كانت؛ ولو كانت شريفة ولو كانت كبيرة ولو كانت من ذوي قوم لهم منزلة؛ فإن حدود الله يستوي فيها الشريف والضعيف، ويستوي فيها الصغير والكبير، ويستوي فيها الغني والفقير، كلهم على حد سواء؛ وذلك لأن الله تعالى سوى بينهم في عبادته، فكذلك في سائر حقوقه.
فلما سمعوا بأنه قد عزم على إقامة الحد عليها، وقطع يدها؛ التمسوا من يشفع لهم في إعفائها وفي ترك قطع يدها وفي قبول الفدية التي هي أربعون ألفاً، فلم يجدوا إلا أسامة، وعرفوا أنه حبّ النبي صلى الله عليه وسلم وابن حبه؛ لأنه كان مولاه صلى الله عليه وسلم، ولما ولاه مرة على جيش وكان صغيراً طعنوا في ولايته وإمارته، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن تطعنوا في ولايته أو في إمارته فقد طعنتم في ولاية أبيه من قبله، وايم الله! إنه لخليق للإمارة، وإنه لمن أحب الناس إلي، وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده) ، فشهد له بأنه يحبه، فصار يقال له: حب النبي، أي: محبوب النبي صلى الله عليه وسلم، يحبه لشهامته، ويحبه لفضله، ويحبه لتقواه، ويحبه لقرابته، ولكونه مولاه، وقد كان أبوه يُسمى زيد بن محمد، ولكنه بعد ما نزل قول الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} [الأحزاب:5] قال: أنا زيد بن حارثة.
والحاصل: أنهم توسلوا بـ أسامة وقالوا له: كلّمه لعله يعفو عنها، اشفع لها لعله يسقط هذا الحد، فلما كلمه غضب صلى الله عليه وسلم حيث إن قريشاً لشرفهم أرادوا ألا يقام هذا الحد عليهم، ويكون هذا إسقاطاً لحد من حدود الله، فغضب وقال: (أتشفع في حد من حدود الله؟!) ، أتطلب تعطيل حد الله الذي أمر به وفرضه في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة:38] ؟ فأمر الله بقطع يد السارق في هذه الآية، فلابد من تنفيذ أمر الله، وإلا فالوالي يكون معطلاً لحد من حدود الله، ولا شك أن إقامة حدود الله تعالى عمارة للأرض، كما ورد في حديث: (لحد يقام في الأرض خير من أن يمطروا أربعين صباحاً) أي: أنه إذا أقيم حد في بلد فإن البلد تأمن على وطنها وعلى أنفسها، وكذلك يأمنون من عقاب الله، ويأمنون من تسليط الله الأعداء عليهم أو تسليط اللصوص ونحوهم.
إذاً: الحدود أمنة للبلاد؛ لذلك يتأكد إقامتها، ويحرم أن يتوسط أحد في تعطيلها، ولو كان الذي يحد شريفاً، أو أميراً أو وزيراً، أو قرشياً أو نسيباً، أو مهما كانت درجته؛ يسوى في الحدود بين الصغير والكبير، ولهذا ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن الشفاعة في الحدود، ويقول: (إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع) أي: إذا بلغت القاضي أو وصلت إلى الأمير فقد وجبت ووجب تنفيذها، ولا يجوز بعد ذلك الشفاعة فيها، ولا يجوز قبول شفاعة أحد أياً كان، سواء كان والداً أو كبيراً أو صغيراً، ويجب أن ترد شفاعة من شفع في إبطال هذه الحدود، وقد تُوعد بهذا الوعيد وهو اللعن: (لعن الله الشافع والمشفع) ، وهذا وعيد شديد.(69/9)
إسقاط الحد والعفو عنه قبل بلوغه إلى السلطان
يقول صلى الله عليه سلم: (تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب) ، أي: متى وصلني وجب تنفيذه؛ وذلك لأنه عرف أنه ثبت عنده هذا الحد فلم يمكنه تعطيله، بل يتحتم إقامته، هكذا أخبر عليه الصلاة والسلام، أما قبل أن يرفع إليه فإن أهل الحقوق إذا تنازلوا وأسقطوا حقهم لم يلزمه شيء.
ولهذا جاء أن صفوان بن أمية كان نائماً في المسجد، وقد توسد رداءه، فجاءه لص فأخذ الرداء من تحت رأسه، وجعل تحت رأسه لبنة، ولما أخذه شعر به صفوان فاستيقظ، ثم قبض عليه، والرداء يساوي نحو ثلاثين درهماً، أي: أقل من ثلاثة دنانير، فلما قبضه ذهب به حتى أوصله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر بقطع يده، فقال صفوان: إني قد عفوت عنه، فقال: (هلا قبل أن تأتيني به؟) أي: لماذا لم تسقط الحد عنه قبل أن تأتيني؟ ولماذا لم تعف عنه قبل أن ترفعه إلي؟ أما بعد أن رفعته إلي وعرفت أنا أنه سارق فلابد من قطع يده؛ وذلك لأنه اتصف بالسرقة، فهذا مثال في أنه يتعافى في الحدود قبل أن ترفع إلى السلطان.
مثلاً: لو قبضت على سارق في بيتك أو قد خرج بالسرقة ووجدتها عنده، ثم عفوت عنه وطلبت منه أن يرد إليك مالك، أو سرق من جيبك أو من مخبئك نقوداً ثم قبضت عليه وعرفت أنه هو الذي سرق، واعترف بذلك، وعفوت عنه فيما بينك وبينه، ولم ترفع بأمره إلى الحاكم؛ فلا حرج عليك، أما إذا رفعت بأمره فلا يفيد أن تتنازل عنه بعد ذلك؛ لأن حق الله تعالى قد وجب، والسرقة هي حق لله؛ ولأنه حد من حدوده، وفيها حق للآدمي؛ لأنه اعتدى عليك.
وأما القذف فإنه حق لآدمي فله أن يسقطه، وأما الزنا فإنه حق لله وذلك لما فيه من انتهاك الحرام، وحق للزوج، وحق للأولياء، ولكن ليس لهم أن يتسامحوا أو يتغاضوا عن مثل هذه الحقوق.(69/10)
إقامة الحدود لا يفرق فيها بين شريف ولا وضيع
النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشفاعة في الحدود، وأمرهم أن يحرصوا على إقامة الحدود: على رجم الزاني أو جلده، ورجم القاذف، وجلد الشارب للخمر، وكذلك تعزيز المنتهب والمعتدي، أو جلد كل من أتى حداً فيه جلد، فمن زنى وهو غير محصن يجلد، أو قذف يجلد، أو نحو ذلك، ولابد من إقامتها إذا وصلت السلطان، ولا تجوز الشفاعة فيها ولا التعطيل، ولا تجوز الوساطة، ولا يجوز أن يصيروا وسطاء في إبطال حق لله وحد من حدود الله.
ولهذا أنكر النبي صلى الله عليه وسلم بشدة على أسامة، ثم قام وخطب وأخبر بأن الأمم الذين قبلنا أهلكهم الله وعاقبهم بأسباب، وكان من تلك الأسباب تعطيل حدود الله، تعطيل حد الزنا، وتعطيل حد السرقة، قال عليه الصلاة والسلام: (إنه إذا سرق فيهم الضعيف قطعوا يده، وإذا سرق فيهم الشريف تركوه) أي: إذا سرق فيهم الشريف تركوه لشرفه وخوفاً من منصبه، سواءً كان ذا منصب أو كان أميراً أو كان وزيراً، أو كان ابن أمير، أو ابن ذي شرف أو نحو ذلك، فلا يقتلونه إن قتل، ولا يقطعونه إن سرق، ولا يرجمونه إن زنى ونحو ذلك، وهذا لا شك أنه تعطيل لحدود الله، فأخبر صلى الله عليه وسلم بأن الله عاقبهم بسبب تساهلهم في هذه الحدود، وإقامتها على الضعفاء دون الأشراف ونحوهم، ثم أقسم صلى الله عليه وسلم فقال: (وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) وفاطمة ابنته عليه الصلاة والسلام هي سيدة نساء أهل الجنة، وابنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهي البتول، وأم الحسن والحسين، وزوجة علي رضي الله عنه، ولا شك أن لها منزلتها، ومع ذلك -وحاشاها أن تسرق- ضرب مثالاً بها، إذ لم يكن عنده أغلى منها، ولا أقرب منها لكونها ابنته، فيقول: (لو سرقت لقطعت يدها) .
هذا هو العدل، وهذه هي المساواة والتسوية بين الناس، ألا يترك أحد لمنزلة ولا لشرف، وعدم التسوية هو الذي أهلك الأمم قبلنا.
كذلك أيضاً إقامة الحد في الزنا، ذُكر في التاريخ أنه كان من شريعة اليهود رجم الزاني إذا كان محصناً، وأنه زنى رجل من أشرافهم، ولما زنى تركوا إقامة الحد عليه ورجمه لشرفه، ولشرف قومه، أي: لأنهم أهل ثروة وأهل منصب فلم يرجموه، ولما كان بعد أيام أو بعد أشهر زنى رجل من أطراف الناس ومن ضعفائهم، فعزموا على أن يرجموه، فحال دونه قومه، وقالوا: لا نتركه يرجم حتى ترجموا فلاناً الذي هو ذو شرف، فعند ذلك عزموا على إلغاء هذا الحد الذي هو الرجم وتبديله، فاتفقوا على أنه متى زنى لا يرجم، فكانوا يسودون وجهه، ويطوفون به على حمار، يطوفون بالزاني والزانية منكسين، أي: كل منهما ظهره إلى ظهر الآخر، ولا يجلدون ولا يرجمون، وقالوا: نجعل هذا حداً يستوي فيه الشريف والطريف.
وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم زنى يهودي يهودية، فمُر عليه بهما محممين، فقال: (ما هذا؟ قالوا: قد زنيا، قال: ما تجدون في كتابكم؟ قالوا: الجلد والتحميم، وكان عبد الله بن سلام قد عرف ما في كتابهم، وكان من مرشدة اليهود، فقال: كذبتم؛ بل تجدون في كتابكم الرجم، فأمرهم أن يحضروا التوراة فأحضروها، ولما أحضروها قرأ اليهودي ما قبل آية الرجم وما بعدها، وسترها بيده، فقال عبد الله: ارفع يدك، فرفعها فإذا فيها آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد! فيها الرجم، ولكنه كثر -أي: الزنا- في أشرافنا، فخفنا ألا نسوي بين الناس فتركنا الرجم وعدلنا إلى التحميم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أول من أحيا سنة قد أماتوها) .
وفي بعض الروايات أنه لما وقع فيهم الزنا وأرادوا أن يقيموا الحد على ذينك الزانيين قالوا: اسألوا محمداً، فإن أفتاكم بالرجم فلا تقبلوا منه، وإن أفتاكم بالجلد فاقبلوا منه، فنزل في ذلك قول الله تعالى: {وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49] ، وخيره قبل ذلك في قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} [المائدة:42-43] .
وبكل حال فالرجم والقطع من حدود الله تعالى التي أمر بأن تقام على من اقترف جرماً من هذه الجرائم، حتى تأمن البلاد، وحتى يأمن الناس على أنفسهم، وعلى أموالهم، وحتى يرتدعوا عن فعل هذه الجرائم التي هي محرمة.
فإن كانت هذه الجرائم أقيمت مع توبة الفاعل وندمه فإن هذا الحد يمحو عنه أثر الذنب، وإن كان أقيم عليه كرهاً وهو لم يتب، فإنه يعاقب في الدنيا بهذا الحد، ويعاقب في الآخرة على ذلك الذنب.(69/11)
الخلاف في قطع جاحد العارية
هذه المرأة المخزومية في أكثر الروايات أنها سرقت، وفي بعض الروايات أنها كانت تستعير المتاع فتجحده، وأنها جاءت إلى قوم وقالت: إن آل فلان أرسلوني لأستعير منكم حلياً ليتجملوا به في عرس لهم، ثم لما أعطوها ذلك الحلي ذهبت به وباعته، فسألوها وقالوا: نحن أعرناك، فقالت: ما أعرتموني، وجحدت ذلك، ثم وجد الحلي عند أولئك الذين اشتروه، فقالوا: نعم اشتريناه من فلانة أي: هذه المخزومية، وكان اسمها فاطمة، فاعترفت بعد ذلك أنها أخذته من أولئك وباعته، وأنه ليس لها، فلما ثبت عليها هذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها.
فقيل: إنها ما قطعت إلا بسرقة سرقتها غير هذا المتاع أو غير هذه الحلي، وقيل: إنه سمُي الجحد للعارية سرقة؛ وذلك لأنه أخذ لمال بغير حق.
وقد اختلف العلماء في قطع جاحد العارية، فذهب الإمام أحمد إلى أنه تقطع يد من جحد العارية إذا كانت تلك العارية نصاباً أو أكثر من النصاب لهذا الحديث؛ وذلك لأنه لا يمكن التحرز منه؛ فإن جحد العارية يحمل الناس على قطع الإحسان، وعلى قطع المعروف، فإن الإعارة من فعل الخير، فإذا كان الإنسان إذا أعار إنساناً قدراً أو أعاره مشلحاً يتجمل به أو أعاره متاعاً يتمتع به؛ أدى ذلك إلى أنه يجحده، وإذا جحده سلم من الإثم، وسلم من العقوبة، وسلم من إقامة الحد، حتى ولو وجدت عنده؛ فإذا كان هذا كذلك سيتتابع الناس في جحد هذه العواري، فعند ذلك يقل من يعير، وكل من عنده متاع يقول: لا أعيرك؛ أخشى أن تجحدني كما جحد فلان، وكما جحدني فلان، فينقطع الإحسان، وينقطع المعروف، بخلاف ما إذا أقيم الحد على جاحد العارية وقطعت يده فإن الناس يرتدعون فلا يقدم أحد على جحد العارية.
هكذا ذهب الإمام أحمد إلى أنه يقطع جاحد العارية، وأما الأئمة الباقون فقالوا: لا يقطع جاحد العارية، وقالوا: إن هذه المخزومية ما قطعت إلا لأنها سرقت، ولم تقطع لجحد العارية، وقالوا: هي جمعت بين الأمرين: بين السرقة وبين جحد العارية، وقالوا: من شروط السرقة، أخذ المال خفية، وأخذه من حرز، وهو أن يكسر الأبواب -مثلاً- والصناديق، ويأتي على حين غفلة فيتسلق الحيطان ويأخذ المال المحرز المحفوظ، فهذا هو السارق حقاً، والذي يستعير لا يُسمى سارقاً، بل يُسمى مستعيراً، فإذا جحد يُسمى جاحداً، كجاحد الدين، وكما لا يقطع المنتهب ولا المختلس ولا الغاصب ونحوه فكذلك لا يقطع جاحد العارية.
والمعمول به عندنا أنه يقطع جاحد العارية، وذلك لمشقة التحفظ عنه وعن أمثاله، وبكل حال فإن قطع يد السارق كما ذكرنا حد من حدود الله تعالى يقام حتى يأمن الناس على أموالهم، وحتى لا يعتدي أحد على مال أخيه بغير حق، والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(69/12)
شرح عمدة الأحكام [70]
أكرم الله عز وجل الإنسان بالعقل، وميزه به على سائر الحيوانات، ولهذا حرم الله عز وجل الخمر والمسكرات التي تزيل العقل وتذهبه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم عقوبة على شارب الخمر، ولعن في الخمر عشرة، وما ذاك إلا لضررها وخبثها.(70/1)
أحكام شارب الخمر
قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [باب حد الخمر: عن أنس بن مالك رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدة نحو أربعين) ، قال: وفعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الناس فقال عبد الرحمن بن عوف: (أخف الحدود ثمانون) ، فأمر به عمر.
وعن أبي بردة هانئ بن نيار البلوي الأنصاري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يُجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله) ] .
هذا الباب في حد الخمر، أي: في عقوبة من شرب الخمر؛ وذلك لأنها من المحرمات، ولابد لمن فعل شيئاً محرماً مجمعاً على تحريمه أن يُعاقب، والعقوبة تكون بالزجر أو تكون بالجلد أو تكون بالحبس أو بالتغريم أو بالقتل إذا لم ينته إلا بالقتل، أو غير ذلك من أنواع العقوبات.
وقد تقدم أن عقوبة الزاني الجلد إن كان بكراً والرجم إن كان ثيباً، وعقوبة القذف به الجلد الذي هو ثمانون جلدة كما ذكر في القرآن، وعقوبة شارب الخمر لم تُذكر في القرآن، ولكنها أخذت من السنة، ولم ترد محددة تحديداً ثابتاً ولكنها أخذت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يزجر عن الشيء ويعاقب عليه، ولكنه لا يحدد له عقوبة.(70/2)
الخلاف في حد شارب الخمر
اختلف في حد الخمر، فقيل: إنه عليه الصلاة والسلام حددها بأربعين، وقيل: إنه لم يحدد، ولكن أمر بجلده نحو الأربعين، والثابت اليقيني أنه لابد من جلده، عقوبة له على ذلك.(70/3)
مراحل تحريم الخمر
معلوم أن الخمر قد حرمت بعدما كانت تشرب في أول الإسلام، وكانوا في الجاهلية يتفاخرون بشربها، حتى يقول حسان وهو يصف حاله قبل أن يسلم: ونشربها فتتركنا ملوكاً وأسداً لا ينهنهنا اللقاء ولكن أقروا عليها في أول الأمر وفي أول الإسلام لأنهم قد ألفوها، ويصعب عليهم كثيراً أن يتخلوا عنها فجأة ودفعة واحدة، فحرمت بالتدريج شيئاً فشيئاً، فأول ما نزل فيها قول الله تعالى في سورة البقرة: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219] ، وليس في هذه الآية دليل على التحريم البات، ولكن فهم بعضهم تحريمها من أنها إثم؛ والإثم محرم، كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:33] فحرم الإثم في هذه الآية، أي: كل شيء يسبب إثماً، يعني: وزراً وذنباً وحنثاً وسيئة، ووصف الله الإثم بالكبر فقال: (فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ) وقال في نفس الآية: (وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) .
لما نزلت هذه الآية تاب عنها خلق كثير، وقد دعي عمر رضي الله عنه -وكان من أشد الناس فيها- وبشر بنزول هذه الآية فقال: (اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً) ، واستمر أناس يشربونها وقالوا: ما دام أن فيها منافع فإنا سنشربها، فنزلت الآية الثانية في سورة النساء وهي قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43] ، وذلك لأن بعض الصحابة صلى وهو سكران، فخلط في صلاته، وخلط في قراءته، فكان ذلك سبباً للنهي عن أن يأتيها في حالة السكر، ولما نزلت هذه الآية دعي أيضاً عمر فتليت عليه، فقال: (اللهم بين لنا بياناً شافياً) ، ولما نزلت هذه الآية تركها خلق كثير، وبقي أناس يشربونها في الأوقات الطويلة، أي: يشربونها بعد الفجر بحيث يصحوا قبل الظهر، أو يشربونها بعد العشاء بحيث يصحوا قبل الفجر، فأما الأوقات الضيقة فلا يشربونها؛ لأن الله تعالى نهاهم أن يقربوا الصلاة وهم سكارى، وهذا نوع تقديم بين يدي تحريمها.
ولما نزلت آية النساء وفيها النهي عن قربان الصلاة حالة السكر تاب عن شربها خلق كثير؛ وذلك لأن هذا تقدمة بين يدي تحريمها، وعلموا أن في هذه مضرة، وقالوا: لا خير في شراب يمنعنا من الصلاة، لا حاجة لنا فيه، فتركوها ولو كانت مشروبة لهم من قبل ولذيذة في نفوسهم.
وبعد مدة نزل تحريمها تحريماً صريحاً في آيات في سورة المائدة، وهي قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:90-91] ، فلما نزلت قال الصحابة رضي الله عنهم: (انتهينا انتهينا) ، فتابوا عنها وأقلعوا.(70/4)
أوجه تحريم الخمر في آية المائدة
أخذ العلماء تحريم الخمر من آية المائدة من عشرة أوجه: الوجه الأول: أن الله قرنها بالأنصاب، وهي: الأصنام، ومعلوم أن الأصنام محرم اقتناؤها ومحرم عبادتها، فما قرن بها أعطي حكمها.
الوجه الثاني: أن الله جعلها رجساً، والرجس: هو النجس، وهو الشيء المستقذر، ولا شك أن كل نجس ومستقذر فإنه حرام، وإن النفوس تأباه وتبتعد عنه.
الوجه الثالث: أن الله أضافها إلى الشيطان وجعلها من أعماله، أي: مما يدعو إليه ومما يزينه، والعاقل لا يأتي شيئاً يحبه الشيطان، فالشيطان إنما يحب للإنسان هلاكه، ويتمنى للإنسان أن يهلك، وأن يضل، وأن يتعب ويبأس، ويحرم ويشقى، فشيء للشيطان فيه عمل ووسيلة علينا أن نبتعد عنه.
الوجه الرابع: الأمر في الاجتناب في قوله: (فَاجْتَنِبُوهُ) اجتنبوا يعني: ابتعدوا عنه، أي: صيروا في جانب وهو في جانب، وهذا أبلغ في الزجر؛ وذلك أبلغ من أن يقول: اتركوه، فإنهم إذا تجنبوه ابتعدوا عنه، فأخذوا من هذا أنها محرمة، وكل شيء أمرنا باجتنابه فإنه لا يجوز القرب منه، فضلا ًعن ملابسته، فضلاً عن تعاطيه وشربه.
الوجه الخامس: ترتب الفلاح على تركها في قوله: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) والمفلح: هو السعيد، ولا تحصل السعادة والفلاح إلا باجتناب الخمر والميسر ونحوهما، والفلاح هو صفة أهل الإيمان كما قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] أي: قد سعدوا، أي: أن من لم يتجنب الخمر والميسر فإنه بعيد من الفلاح، وبعيد أن يصل إلى مرتبة الفلاح، وحري أن يكون من أهل الشقاء والخسارة.
الوجه السادس: قوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ) أي: أن الشيطان هو الذي يدعو إليها، وهي من عمله، (أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ) فالشيطان يحرص على إيقاع العداوة بين المسلمين، والعداوة هي: أن يحقد كل منهم على الآخر، وأن يعاديه ويقاطعه، وما ذاك إلا أنه إذا سكر فقد يسب أخاه ويسب عمه وخاله، وقد يعتدي فيشج هذا ويضرب هذا؛ لأنه قد فقد العقل الذي يحجزه، فإذا صحا ندم على ما فعل، ولكن بعد أن فعل ما يلام عليه.
وذكر في أسباب النزول قصة حمزة رضي الله عنه، وهي: أنه شرب قبل أن تحرم الخمر وسكر، وكان لـ علي رضي الله عنه ناقتان من أشرف النوق وأفضلها، حصل عليهما من غزوة بدر، ولما عزم على أن يذهب مع بعض الطوافين ليأتي بإذخر ليبيعه ويستعين بثمنه في وليمة زواجه بـ فاطمة، وكان حمزة في بيت قريب من تلك الناقتين، فأنشدته امرأة مغنية وهو ثمل فقالت: ألا يا حمز للشرف النواء وهن معقلات بالفناء ضع السكين في اللبات منها وضرجهن حمزة بالدماء فهيجته على أن يأخذ السكين، ويذهب إلى الراحلتين ويجب أسنمتهما -وهما لم يذكيا-، ويبقر بطونهما، ويأخذ من أكبادهما، فلما أتى علي رضي الله عنه وإذا ناقتاه قد فعل بهما هذا الفعل، فهاله ذلك وأحزنه، وأُخبر بأن الذي فعله هو عمه أخو أبيه حمزة سيد الشهداء، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما فعل حمزة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ودخل على حمزة وهو ثمل لم يصح، فجعل يلومه ويوبخه، فرفع رأسه وقال: وهل أنتم إلا عبيد لأبي؟! قال ذلك لأنه فاقد العقل، وهل يقول ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم عاقل فضلاً عن حمزة؟!! لا شك أنه ما قاله إلا بعدما سكر وذهب عقله.
إذاً: فالخمر من أسباب البغضاء والعداوة، ولا شك أن علياً رضي الله عنه لولا أنه عارف أن هذا من فقد العقل لحقد على عمه، ولمقته ولأبغضه، ويحصل هذا كثيراً، فإن جماعة من الصحابة سكروا مرة فتقاتلوا وتضاربوا، فأخذ أحدهم لحي جمل فشج به وجه بعضهم، فكان يحقد عليه، فالشيطان يوقع العداوة بين المسلمين إذا سكروا وفعلوا ما فعلوه من هذه الأشياء التي توجب العداوة بينهم.
الوجه السابع: البغضاء التي ذكرها الله مع العداوة، فالشيطان هو الذي يوقعها، فيبغض الإنسان أخاه، ويبغض ابنه أو عمه أو خاله أو ابن عمه؛ لأنه قد اعتدى عليه وهو سكران، وقد ضربه أو قد أتلف ماله أو نحو ذلك.
الوجه الثامن: الصد عن ذكر الله في قوله: (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) ومعلوم أن الإنسان إذا كان ثملاً غائب الفكر لا ينشغل بذكر، ولا ينشغل بدعاء، ولا ينشغل بقراءة، ولا ينشغل بعبادة؛ لأنه فاقد لعقله الذي تميز به، فلأجل ذلك جعل هذا علة في التحريم.
الوجه التاسع: أن السكر والميسر ونحوهما مما يشغل عن الصلاة، وذلك أيضاً من أمر الشيطان لقوله تعالى: (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ) أي: يشغلكم عنها، كما قال بعض المتأخرين: إن جاءه الظهر فالوسطى يؤخرها أو مغرباً فعشاء قط لم يأتِ أي: إذا سكر وقت الظهر فإنه يؤخر العصر أو لا يصليها إلا بعد ما يصحو أو تفوته، وإن سكر بعد المغرب فلا يصحو إلا نصف الليل أو نحوه، فتفوته العشاء، وإن أتاها أتاها وهو غافل، وهو ساهٍ، وإن أتى بها لم يأت بها بقلب حاضر، ولا شك أن هذا من أسباب تحريم الخمر.
الوجه العاشر والأخير: قوله: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ) أي: وقد عرفتم أضرارها ألا فانتهوا، لذلك قالوا: (انتهينا انتهينا) فمن هذه الآيات عرف الصحابة أن الخمر قد حرمت.(70/5)
بعض الأدلة على تحريم الخمر
ورد في تحريم الخمر أدلة كثيرة، منها أنه أمر بإراقتها وإتلافها، ولما حرمت دخل النبي صلى الله عليه وسلم الأسواق ومعه بعض أصحابه معهم السكاكين، فجعلوا يشكون تلك الظروف التي فيها الخمر، ويتركون ما فيها يسيل، فجرت في سكك المدينة على أهلها، وإتلافاً لماليتها؛ لأنها لا قيمة لها ولا ثمن، ولم يراع حتى ظروفها التي هي أوعية لها، بل أتلفها على أهلها.
وأخبر أيضاً بأنها أم الخبائث، وأخذ العلماء من ذلك أنها نجسة العين؛ لأن الخبيث محرم، قال تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] ، ولا شك أنها من الخبائث، لما ذكر في الآية من الآثار التي تترتب على فعلها وعلى تعاطيها.
ومن الأدلة على تحريمها أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن في الخمر عشرة: (لعن الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومشتريها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها) ، فلعن هؤلاء العشرة لأنهم تساعدوا على الخمر، على صناعتها، وعلى ترويجها، وعلى العمل فيها، وإن كان الإثم أصلاً هو على الذي يشربها، وأما البقية فإنهم يساعدون عليها، فكما لعن في الربا أربعة: (لعن آكله وموكله وكاتبه وشاهديه) ، فكذلك لعن في الخمر عشرة من الذين يتساعدون فيها.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بعقوبة شاربها في الآخرة بقوله: (من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة) ؛ وذلك لأن في الجنة خمراً، ولكن ليست كخمر الدنيا، قال الله تعالى: {وَكَأْساً دِهَاقاً * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً} [النبأ:34-35] فخمر الدنيا فيها اللغو وفيها الكذب، وأما خمر الجنة فهي سالمة من ذلك، وقال تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:17-19] أي: لا يأتيهم صداع -وهو الغول- أو السكر وذهاب العقل، وهكذا قوله تعالى: {لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} [الطور:23] أي: فهي سالمة من اللغو ومن الغول الذي هو السكر، فهذه هي خمر الجنة، فمن شرب الخمر في الدنيا حرمها في الجنة.
وقد يكون ذلك سبباً في حرمانه من دخول الجنة إذا كان مصراً عليها أو مستحلاً لها، فإنه إذا دخل الجنة أحد لن يحرم شيئاً من ملذاتها ولا من نعيمها، فهذا الذي شربها في الدنيا يمكن أن يحرم من دخول الجنة إلا أن يشاء الله.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن من أصر على شرب المسكرات كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال، عصارة أهل النار، وهذا أيضاً يدل على أنه يدخل النار -والعياذ بالله- ويعذب فيها، ويُسقى من هذه العصارة بدل ما نعم نفسه في الدنيا بهذه اللذة وبهذه الحلاوة، فعوقب بأن يسقى من هذه العصارة، عصارة أهل النار، يعني: أوساخهم، وغسالات فروجهم، وغسالات أبدانهم ونحو ذلك، لوا شك أن هذا من أبشع العذاب، فهذا دليل واضح على أنها حرمت تحريماً مؤبداً، وأن متعاطيها متعرض لعقاب الله تعالى.
وكذلك يحرم بيعها والتجارة فيها، وعملها، قال صلى الله عليه وسلم: (من باع الخمر فليشقص الخنازير) ، ومعلوم أن الخنزير محرم لخبثه، وقد جعل الذي يبيع الخمر كأنه يشقص الخنازير، والتشقيص هو القصب، أي: فهو مثل القصاب هو الذي يقطع اللحم، يعني: أن هذا البائع للخمر مثل الذي يقطع لحم الخنزير قطعة قطعة ويبيعه، ولحم الخنزير محرم، وبيعه وتشقيصه وتقطيعه محرم أيضاً، وهو نجس نجاسة عينية مثل نجاسة الكلاب ونحوها، فكل هذا دليل على بشاعة هذه الخمرة التي هي أم الخبائث وعقوبتها.(70/6)
حد شارب الخمر ومقداره
عقوبة السكران في الدنيا الجلد؛ وذلك لأنه لما حرمت الخمر كان هناك أناس قد تعلقت نفوسهم بها، وألفوها، وصعب عليهم الانفطام عنها؛ فشربها إنسان منهم فجيء به وهو ثمل سكران، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجلده، فجلده الحاضرون بالنعال وبالعصي ونحوها نحواً من أربعين جلدة، واستمر على ذلك الحد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم نحو أربعين جلدة، وكذلك أبو بكر كان يجلد شارب الخمر أربعين جلدة.
ولما كان عهد عمر رضي الله عنه دخل في الإسلام كثير من أهل البلاد النائية الذين كانوا قد اعتادوا على شرب الخمر، واستماتوا فيها واعتادوها، وتمكنت من نفوسهم سواء كانوا من الفرس في العراق، أو من الروم ونحوهم في الشام، أو من القبط ونحوهم في مصر، أو من أشبههم ممن دخلوا في الإسلام، فكانوا قد اعتادوا هذا الشراب، ودعوا إليه أيضاً بعض العرب وزينوا لهم شربه، فلما جلدوا أربعين جلدة لم تؤثر فيهم هذه الأربعين، ولم تزجرهم عن تعاطي شربها، بل شربها آخرون، ولم يبالوا بالجلد، فاستشار عمر الصحابة لما بلغه كثرة من يشربها في الشام وفي العراق وفي مصر، وفي غيرها من البلاد التي فتحت في عهده، فرأى أن الزيادة في الحد أولى من بقائه على الأربعين؛ لأن الأربعين قد لا تكفي في زجرهم، فاستشار الصحابة رضي الله عنهم، فقال عبد الرحمن بن عوف: (إنه إذا شرب هذى، وإذا هذى افترى، وحد المفتري ثمانون) ، والمفتري: هو القاذف الذي ذكر الله أن حده ثمانون، وقال أيضاً: (أخف الحدود حد القذف ثمانون جلدة، فلا ينقص عن الثمانين) ، فأمر به عمر رضي الله عنه، فكان يجلد الشارب ثمانين جلدة، ويشددون عليه حتى ينزجر بذلك ويرتدع غيره عن أن يفعلوا كفعله، واستمر الأمر على ذلك، فاختلف العلماء: هل هذه الزيادة التي زادها عمر تعتبر حداً؛ لأنه قال: أخف الحدود ثمانون، أو تعتبر تعزيراً؟ أي: هذه الأربعون الزائدة هل تعتبر تعزيراً أم أنها حد؟ يرى كثير منهم أن الحد أربعون؛ لأنه الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الزيادة فتستعمل إذا كثر الشرب، فإذا كثر السكر في مدينة أو في بلدة ولم ينزجروا بالأربعين فيزاد فيه إلى الثمانين، وقد تجوز الزيادة إلى المائة أو إلى أكثر حتى يحصل الانزجار والارتداع؛ وذلك لأن هذا تعزير، والتعزير ليس له منتهى وليس له حد، وإنما هو بقدر الحاجة، وبقدر ما تحصل به الكفاية.
وقد تصل العقوبة إلى أشد من ذلك، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب الرابعة فاقتلوه) ، فأمر بقتله إذا تكرر منه الشرب ولم يرتدع بهذا الجلد، هذا الحديث يقول بعض العلماء: إنه منسوخ، ويقولون: إنه لم يُعمل به، ولكن صحح كثير من العلماء أنه لم ينسخ، وأنه باقٍ؛ وذلك لكثرة طرقه التي جاء بها، حتى روي عن نحو عشرة من الصحابة رضي الله عنهم رووا هذا الحديث، وبعضهم ممن تأخر في دخول الإسلام، وهو يشتمل على الأمر بقتل الشارب إذا حد ثلاث مرات، فإذا جلد مرة أربعين ثم جلد أربعين ثم جلد أربعين ولم ينزجر وعاد في المرة الرابعة فحده أن يقتل، وأن يسلب حياته هذه التي هي حياة بؤس؛ حيث إنه لم ينزجر ولم يرتدع فلا يردعه إلا القتل والإعدام.
هكذا جاء هذا الحديث مما يدل على بشاعة هذه الخمر وشناعتها وشدة العقوبة التي رتبت عليها؛ لأنها أم الخبائث، ولأن التساهل فيها قد يؤدي إلى الشرور والأضرار؛ ولأن الله تعالى ما حرم شيئاً إلا وفيه مضرة، وما حرم على العباد إلا الشيء الذي يضرهم، ولا شك أن الخمر غاية في الضرر؛ وذلك لأن الذي يشربها ويتعاطاها قد يفقد عقله يفقد إحساسه يفقد ميزته التي تميز بها وهي هذا العقل، فالعقل هو ميزة الإنسان العقل هو شرفه العقل هو فضل الله عليه الذي تميز به، فبه يكتسب، وبه يحسن التصرف، وبه يبيع ويشتري، وبه يأخذ ويعطي، وبه يعقل ما يقول، وبه يبتكر ويفكر، وبه يعرف ما ينفعه وما يضره، فالشيء الذي يزيل هذا العقل ويلحق صاحبه بالبهائم، أو أقل حالة من البهائم ينبغي أن يحارب في كل شريعة، وينبغي أن يقضى عليه، ألا وهو هذا المسكر، فإنه بلا شك يزيل ويغطي هذا العقل من الإنسان، فلذلك جاءت الشريعة الإسلامية بالقضاء عليه، وبالزجر عنه، وبالعقوبة عليه.
والعقوبة في الآخرة -كما ذكرنا- أن أهله يشربون من عصارة أهل النار، وأنهم يمنعون من لذة أهل الجنة، والعقوبة في الدنيا أنه يقتل إذا تكرر منه تعاطي الخمر أربع مرات ولم ينزجر بالجلد، ولا شك أن هذا دليل على بشاعة هذه الخمر، وشناعتها والعقوبة عليها.(70/7)
شرح حديث: (لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله)
عن أبي بردة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله) المراد: جلد التأديب، كأن يؤدب الرجل ولده أو يؤدب خادمه أو يؤدب زوجته، أو نحو ذلك، فلا يزيد على عشرة أسواط، يعني: عشر جلدات، أما حدود الله وحقوقه والعقوبة على معاصيه فإنه يجلد فيها الجلد الذي يردعه، فجلد عقوبة تارك الصلاة لا شك أنه يجلد بما ينزجر به، ولو زاد على المائة أو نحوها، وكذلك عقوبة من يبيع المحرم كالذي يتعاطى رباً مثلاً، أو يغش في معاملات أو نحوها يجلد ولو زاد على الخمسين أو السبعين أو نحو ذلك بما يرتدع به، وهكذا عقوبة الظلمة وأهل الغصب وأهل النهب وأهل السلب وقطاع الطرق وما أشبههم يعاقبون بما ينزجرون به، وبما تخف به المعاصي.(70/8)
شرح عمدة الأحكام [71]
المسلم متقيد بالشرع في كل ما يأتي وما يذر، من أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته، فللشرع في كل ذلك أحكام، ومن ذلك الأحكام الشرعية الجارية على ألفاظ لسانه ومنها اليمين، التي رتب الله عليها الكفارة، ونهى عن الكذب فيها وغير ذلك من الأحكام.(71/1)
أحكام اليمين
قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الأيمان والنذور.
عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الرحمن بن سمرة! لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير) .
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني والله -إن شاء الله- لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير منها وتحللتها) ] .
من الأحكام الكلام على الأيمان وعلى النذور، واليمين هي الحلف، ويُسمى قسماً، وسمي يميناً لأن المتحالفين في الجاهلية كانوا يتقابضون بالأيمان من باب التأكد ومن باب التقوية، فيمسك أحدهما بيمين الآخر ثم يقسم هذا القسم المؤكد، فمن ثمَّ سمي الحلف يميناً، كما ذكر في قول الله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة:225] ، وذكر باسم الحلف في قوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة:89] ، حيث ذكر الله كفارة اليمين، ثم ذكر أن هذا حلف، وذكر باسم القسم في قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام:109] ، وفي قوله: {وَقَاسَمَهُمَا} [الأعراف:21] يعني: حلف لهما.
وقد أقسم الله تعالى بالقرآن في عدة مواضع، كقوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} [التكوير:15] ، وقوله: {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} [الانشقاق:16] ، وقوله: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1] ، وقوله: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة:1] ، وكذا قوله: {وَالْفَجْرِ} [الفجر:1] ، وقوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:1] ، وقوله: {وَالضُّحَى} [الضحى:1] ، وقوله: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1] ، وقوله: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً} [العاديات:1] ، وقوله: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} [المرسلات:1] ، وقوله: {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً} [الصافات:1] ، وقوله: {وَالطُّورِ} [الطور:1] ، وقوله: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً} [الذاريات:1] وما أشبهها، فهذه تُسمى أقسام القرآن التي أقسم الله فيها.
والله تعالى له أن يقسم من خلقه بما يشاء، وأما المخلوق فليس له أن يقسم إلا بخالقه وبربه، وذلك لأن القسم تعظيم للمقسم به كما سيأتي.(71/2)
فائدة اليمين
اليمين أو القسم يعتبر مؤكداً للكلام، فإذا أقسم على شيء فمعناه تقوية ذلك الشيء وتأكيده والتحقق من وجوده وما أشبه ذلك، فإذا حلف أنه سيأتيك فإن هذا تعهد، وإذا حلف أنه ما ضرب فلاناً فهذا تأكيد لعدم فعله، وإذا حلف أن يعطيك كذا وكذا فإن هذا تقوية؛ لأنه تعهد بإعطائك، وإذا حلف أن فلاناً موجود فإن هذا أقوى من أن يقول: إنه موجود حاضر دون أن يأتي بيمين، وهكذا بقية الأمثلة، فالقسم يؤكد الكلام.
ولأجل هذا يستعمل اليمين في الحكومات وفي القضايا، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (البينة على المدعي، واليمين على من أنكر) ، وفي حديث آخر: (قضى باليمين على المدعى عليه) ، واليمين التي هي الحلف جعلها على المنكر أو على المدعى عليه، وذلك لأن فيها نفياً لما ادعي به، فهذا دليل على أن اليمين تؤكد الكلام، فإذا قال: ما عندي لك دين ثم حلف على ذلك فقد تقوى النفي وتقوت براءته من ذلك الحق الذي تتدعيه عليه.(71/3)
شرح حديث: (يا عبد الرحمن! لا تسأل الإمارة)
في هذين الحديثين أنه يجوز الحنث والكفارة إذا كان في ذلك خير، فالحديث الأول يقول صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الرحمن! لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها) ، والمراد بها الولاية على مجموعة والرئاسة عليهم، فالأمير هو الذي يكون والياً على أهل بلد أو والياً وأميراً ورئيساً على قسم أو على جهة أو على أسرة أو قبيلة أو نحو ذلك يرجعون إليه ويطيعونه، ويأمرهم بما يراه صالحاً لهم ونحو ذلك، والإمارة يُختار لها الأكفاء الذين فيهم الأهلية، ويبتعد عن اختيار من ليس كفؤاً لها، والإنسان لا يحرص عليها، وذلك لما فيها من المسئولية، ولما فيها من التعب والعمل الذي يناط بذلك الأمير، ولأن الناس يتعلقون به ويطلبون منه أن يفعل كذا وكذا، فيكون ذلك قدحاً في عدالته إذا اتهم وألصقت به التهم، أو عمل وليس من أهل العمل أو نحو ذلك، فلأجل هذا ينهى عن أن يسألها.
أما إذا عين الإنسان أميراً أو رئيساً أو مديراً أو نائباً وهو لم يسأل هذه الولاية وإنما اُختير لها واتُفق على اختياره لكونه كفؤاً فإنه يُعان عليها، يعينه الله ويسدده.(71/4)
كفارة اليمين
ما يتعلق بالإمارة في هذا الحديث ذكر استطراداً، والشاهد من الحديث قوله: (وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فائت الذي هو خير، وكفر عن يمينك) .
فالإنسان قد يحلف ويؤكد الحلف، ويكون حلفه على ترك معروف أو على فعل منكر أو نحو ذلك، ثم بعد ذلك يندم على يمينه، ويقول: ليتني ما حلفت.
لقد أوقعتني هذه اليمين في حرج.
فإذا حلف الإنسان -مثلاً- أن لا يدخل بيت أخيه، أو حلف أن لا يكلم أباه، أو حلف أن لا يعطي المساكين من الصدقات ونحوها، أو لا يعطي هذا المسكين، أو حلف أن لا يصلي بهذا المسجد كراهية لإمامه ولا ذنب له مثلاً، أو حلف أن لا يصل أرحامه، أو حلف أن يعق أباه، أو حلف أن يقطع أقاربه، أو حلف أن لا يأكل عند فلان وإن كان أكلاً عادياً أو نحو ذلك، ثم رجع إلى نفسه فهذا الحلف تارة يكون على مخالفة ومعصية وتارة يكون على أمر عادي، فالأولى له في الحالات كلها أن يفعل الذي هو خير، حتى ولو كان من الأمور العادية، وسيأتي لها أمثلة في النذور إن شاء الله تعالى.
وعلى هذا يكفر عن يمينه ويفعل الذي هو خير، وإذا حلف أن يهجر فلاناً ولا يسلم عليه فبقي على هذا الهجران شهراً، وفكر بعد ذلك وقال: أليس هذا ذنباً؟ وأجاب: بلى.
إن التهاجر ذنب، فما المخرج وأنا قد حلفت؟ فنقول: المخرج أن تكفر فتطعم عشرة مساكين من أوسط ما تطعم به أهلك، أو تكسوهم، أو تعتق رقبة، فإن لم تجد فتصوم ثلاثة أيام متتابعة، وتفعل الذي هو خير، فسلامك على أخيك خير من هجرانه، وأكلك من طعامه جبراً لنفسه خير من تركك لذلك، وصلتك لأرحامك خير من القطيعة، بل إن القطيعة ذنب.
وكذلك عند الحاجة قد يحلف الإنسان وتحمله الحاجة على المخالفة، فجعل الله له كفارة، فقال تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة:89] ، وتعقيد الأيمان يعني تأكيدها وتقويتها، وفي قراءة (عاقدتم الأيمان) يعني: عقدتم اليمين وأكدتموها.
وقد عفا الله تعالى عن اللغو، فكثيراً ما يجري على لسانك وأنت في المجلس قولك: لا والله، وبلى والله.
وأنت ما عزمت على الحلف، فهذا من اللغو الذي يُعفى عنه، وأما إذا عزمت وجزمت وحلفت أنك ما تركب هذه السيارة، أو أنك ما تعطي ولدك مفاتيحها مثلاً، أو أنه ما يقود بك سيارة، أو أنه لا يدخل عليك طوال حياتك مثلاً، أو حلفت أن تقتل هذا الرجل وأنت ظالم له، أو حلفت أن تقطع يده بغير حق، أو تقطع منه طرفاً، أو حلفت أن لا تقضيه حقه مع أنه مستحق، أو حلفت أن لا تشتري من هذا الدكان بغير ذنب وأنت ستحتاج إلى أن تشتري منه، فمثل هذه الأشياء الأولى بك أن تخالف ما حلفت عليه، وأن تكفر عن يمينك، وأن تفعل الذي هو خير.
ومن الدليل عليه أيضاً حديث أبي موسى وقصته في غزوة تبوك، فالأشعريون كانوا أربعة أو خمسة يحبون أن يغزوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهم لا يجدون ما يركبون، ولا يجدون رواحل يرحلون عليها، فأرسلوا واحداً منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون منه أن يحملهم، فعند ذلك جاؤوا إليه وهو غضبان من كثرة من ينازعه وكثرة من يطلبه، ففي حالة طلبهم له وهو غضبان قال: (ما عندي ما أحملكم، ووالله ما أحملكم) صدرت منه هذه اليمين: (والله ما أحملكم) ، فرجعوا يبكون أسفاً على أنه لم يحملهم، وبعد ساعات جاءت إليه عليه الصلاة والسلام رواحل، فقال: (أين أبو موسى الأشعري؟) ، فقيل: إنه رجع.
فأرسل إليهم بخمس من الإبل ليركبوها وليرتحلوا عليها ويغزوا معه، فلما جاءتهم قالوا: إنه قد حلف أن لا يحملنا، إنا استغفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه، والله لا يبارك لنا.
فعند ذلك رجعوا إليه وقالوا: إنك قد حلفت أن لا تحملنا ثم حملتنا! فقال: (ما أنا حملتكم، ولكن الله حملكم، إني -والله- لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وتحللتها) أي: فعلت الذي هو خير.
فجعل هذا من فعل الخير، فهو حلف أنه لا يحملهم، وكان في غزوهم مصلحة ومنفعة وخير، فحملهم بعد ما حلف أن لا يفعل، وكفر عن يمينه، فهذا ونحوه دليل على أن من حلف أن لا يفعل معروفاً فإن الأولى له أن يفعله.
ذكروا أن رجلاً كان له دين على إنسان، فأفلس ذلك المدين وكثر عليه الدين، فقالوا لصاحب الدين: لعلك تنزل وتسقط عنه شيئاً من دينك -أي: من باب التسامح- فحلف وقال: والله لا أسقط منه شيئاً.
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (حلف أن لا يفعل معروفاً) ثم أمره أن يكفر ويسقط عنه بعض الشيء) ، فهذا مثال في أن من حلف أن لا يفعل معروفاً فإن الأولى له أن يفعله ويكفر عن يمينه، ومن حلف أن يفعل منكراً فإن عليه أن يتركه، كما سيأتي.
وعلى كل حال فاليمين إذا كان الترك خيراً من الفعل فالإنسان يترك ما حلف عليه، وفي الكفارة محو لذلك الذنب الذي فعله، فإذا كفر الكفارة التامة محي عنه ذلك الحنث، وأما إصراره على ذلك فإنه مذموم، قال تعالى: {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة:46] يعني: فعل الشيء بدون كفارة.
فهناك ثلاثة أشياء: الأول: الحلف على فعل منكر ثم يفعله، فهذا منكر.
الثاني: الحلف على ترك معروف ثم يتركه، فهذا أيضاً منكر.
الثالث: أن يحلف على فعل شيء ثم يرى أن فعله منكر، فيكفر ويمحو الله عنه اليمين الذي حلف بها.(71/5)
شرح حديث: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)
قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم) ، ولـ مسلم: (فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) ، وفي رواية: قال عمر: (فوالله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنها ذاكراً ولا آثراً) يعني: حاكياً عن غيره أنه حلف بها] .
هذا الحديث يتعلق بالحلف، والحلف: هو القسم بالله أو بأسماء الله أو بصفات الله على أمر من الأمور لتأكيده وتقويته.
والإنسان إذا أراد أن يؤكد قولاً من الأقوال فإنه يقنع الحاضرين والسامعين بهذا الحلف، فيقول: والله إن الأمر كذا.
وبالله إنه لكذا.
أو: أحلف بالله لقد قال فلان كذا.
أو ما أشبه ذلك.(71/6)
حكم الحلف بغير الله عز وجل
كان أهل الجاهلية يحلفون بما يعظمونه، وكانت آلهتهم في نظرهم عظيمة، فلذلك كانوا يقولون في حلفهم: واللات والعزى.
و (اللات) : المعبد الذي في الطائف.
(والعزى) : الذي في نخلة بين مكة والطائف.
وكلاهما معظم عندهم.
فورد النهي عن ذلك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) ، وذلك لأن الحلف تعظيم للمحلوف به، فالذي تحلف به يكون قدره في قلبك عظيماً، فتعظمه بهذه اليمين.
والتعظيم لا يصلح إلا لله تعالى، فلا يجوز لأحد أن يعظم مخلوقاً، ولهذا جاء الأمر بالحلف بالله وحده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف بالله فليصدق، ومن حُلف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله) ، فأمر الذي يحلف بالله أن يحلف وهو صادق، ونهاه أن يحلف بغير الله أياً كان ذلك المحلوف به.
وكان أهل الجاهلية يحلفون بآبائهم، وبقي ذلك عند بعض من أسلم، حتى إن عمر رضي الله عنه -وهو من أذكى الناس وأفطنهم- حلف مرة بعدما أسلم بأبيه، فقال: بأبي إن الأمر كذا وكذا.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) ، ولما سمعه عمر رضي الله عنه امتثل ذلك، فتوقف عن هذا منذ أن نهاه، وذلك لأن الصحابة وقافون عند حدود الله، ومتى أمرهم الله بأمر توقفوا عنده، ومتى أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر امتثلوه ولم يتجاوزوه، فلذلك يقول عمر (والله ما حلفت بأبي بعد ذلك ذاكراً ولا آثراً.
يعني: لا ذاكراً له مبتدئاً له من نفسي، ولا آثراً ناقلاً لكلامي عن غيري.
حتى النقل، فلم يقل: إن فلاناً قال: بأبي إن الأمر كذا من شدة امتثاله وتمسكه بما سمعه من الحديث المرفوع تمسكاً زائداً، فلم ينقل عن أحد قوله: بأبي إن الأمر كذا.
وما ذاك إلا أنه علم أنه صلى الله عليه وسلم ما نهى عنه إلا وهو حرام لا يجوز.
وقد ورد أيضاً ما يدل على أنه من الشرك، قال صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) .
فذكر في هذا الحديث أن الحلف بغير الله كفر أو شرك، ولكن إذا قيل: إنه كفر فهو كفر دون كفر، إنما هو كفر جزئي، بمعنى أنه جهل لما أمرنا به من الحلف بالله تعالى، وإذا قيل: إنه شرك فإنه من الشرك الأصغر الذي هو دون الأكبر، ولا يخرج من الملة، ولكن ما دام أن اسمه شرك فإنه لا يغفر إلا بالتوبة، وهو داخل في الآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] ، فالذي يموت وهو مصر على نوع من الشرك كالحلف بغير الله يعتبر من الذين لا يغفر شركهم، بل لابد من عقوبتهم على قدر شركهم بما يقدره الله تعالى.
وعلى كل حال فإنه ما دام أنه ذنب وما دام أنه وصل إلى تسميته شركاً في هذا الحديث فإنه يدل على كبره وكونه أكبر الكبائر؛ لأن كبائر الذنوب كالزنا والربا ونحوها تحت المشيئة، إن شاء الله تعالى عفا عنها وغفرها لصاحبها، وإن شاء عذبه بقدرها، وأما الشرك ولو كان صغيراً فلابد من عذاب صاحبه في الآخرة بقدر شركه أو قدر ذنبه، فهذا دليل على عظمته.
والإنسان عليه أن يكون حذراً، عليه أن يكون تعظيمه لله، فإنه إذا حلف بغير الله فقد عظم ذلك المخلوق به، ودل على أنه أنزل في قلبه ذلك المحلوف به منزلة عظيمة يقدره بها ويرفع مقامه، وهو بهذا رفعه عن قدره، وقد جعله مستحقاً لنوع من التعظيم الذي هو حق الله تعالى.
ويدخل في ذلك الحلف الأشخاص والبقع والصفات ونحوها، كل ذلك من الحلف بغير الله.
وقد فسر ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً} [البقرة:22] فقال: الأنداد: هو الشرك، وهو أخفى في هذه الأمة من دبيب النملة السوداء على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله وحياتك يا فلان.
وحياتي.
فجعل هذا من الحلف بغير الله ومن الشرك، فمن قال: وحياتك يا فلان.
أو: بحياتك يا فلان.
أو: بحياتي فإن هذا قد حلف بغير الله، وقد أثبت ابن عباس أنه من الشرك الذي هو خفي، بمعنى أن الناس لا يفطنون له ولا ينتبهون له، وهي كلمات -كما يقولون- تجري على الألسن، فيُتساهل بها، وهي في الحقيقة من الشرك الخفي، فينتبه لها، فإذا قال قائل: وحياتك يا فلان.
أو: وحياتك يا فلانة.
أو: وحياتي.
أو قال: وشرفي.
أو: ونسبي.
أو نحو ذلك فهذا من الشرك، والذي يحلف بشرفه فإن شرفه لا يستحق أن يعظم بهذا التعظيم، وكذلك لو قال: ونسبي.
أو: ومنصبي.
أو: مفخري.
أو: ومفخر فلان أو ما أشبه ذلك، وكل هذا من الشرك.
وهكذا إذا أقسم بالتراب، كأن يقول: بتربة فلان.
أو ما أشبه ذلك، أو أقسم بالحرمة، كأن يقول: بحرمة فلان.
أو: بحرمة صاحب هذا القبر.
أو: بحرمة الولي أو بالقبر الفلاني أو بالشهيد أو بالولي الفلاني أو ما أشبه ذلك، لا شك أن هذا يعتبر تعظيماً لذلك المحلوف به، والذي يحلف به يعتبر كأنه رفعه عن مقامه، فكان بذلك مشركاً، فيتجنب الإنسان الحلف بالمخلوق، ولا يحلف إلا بالخالق سبحانه وتعالى.
وإذا قلت: إن الله تعالى أقسم بكثير من المخلوقات؟ نقول: الله تعالى يقسم من خلقه بما يشاء، كما في قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة:75-76] ، ولكن المسلم الذي يلتزم ويوحد الله يجعل إقسامه بالله، فلا يقسم إلا بربه؛ لأن القسم تعظيم، والتعظيم هو من حق الله تعالى على عباده، فحق على العباد أن يكون تعظيمهم لربهم.
ومع الأسف نسمع كثيراً لا يقنعون بالحلف بالله حتى يحلف لهم بغير الله، ففي كثير من البلاد التي تنتحل الإسلام وتدعي أن أهلها يعظمون الله ويعظمون القرآن ويؤمنون بالبعث يُحكى لنا عن بعضهم أنه كان له دين عند شخص، فأُحضر عند القاضي وحلف عشرة أيمان أنه ليس له حق لخصمه، فقال خصمه للقاضي: قل له يحلف بتربة الولي فلان.
فألزمه القاضي أن يحلف بتربته، فامتنع أن يحلف واعترف بالحق، وقال: إذا حملتوني على أن أحلف بتربة السيد فلان فإنني لا أحلف، بل أقول: إن الحق عندي إذا أكرهتموني.
فصارت تربة ذلك السيد الذي يعبدونه ويعظمونه ويسمونه ولياً وسيداً أعظم في قلبه من الخالق سبحانه وتعالى، فيا للعجب!! حلف بالله عدة أيمان وهو كاذب ولم يتجرأ أن يحلف بتربة السيد! فهذا لا شك أنه قد يصل إلى الشرك الأكبر؛ لأنه عظم ذلك السيد وصار في قلبه له وقع مع أنه مخلوق، ولو حلف به وهو صادق لأشرك وصدق عليه أنه مشرك.
فالحاصل أن المسلم عليه أن يكون تعظيمه لربه سبحانه، فلا يعظم أي مخلوق بأي نوع من أنواع التعظيم، لا بالحلف ولا غيره، ومتى عرف المسلم أنه تعالى هو المستحق للتعظيم والتوقير فإنه يعرف أنه المستحق لجميع العبادات كلها، فحينئذٍ هو المستحق أن يُدعى وحده ولا يُدعى غيره، وهو المستحق لأن يُرجى وأن يُخاف وأن يُعتمد عليه، وأن يُتوكل عليه، وأن يُستعان به، وأن يُستغاث به، وهكذا جميع أنواع العبادات التي هي خالص حق الله تعالى، فيصرفها لله، ويترك التعلق على مخلوق سوى الله.(71/7)
حكم الإكثار من الحلف
معلوم أن الحلف تأكيد للمحلوف به، ولكن قد ذكرنا أنه لا يجوز للإنسان أن يقدم على الحلف وهو شاك في الأمر، ولا وهو كاذب، وإذا حلف هو كاذب على أمر من الأمور لاسيما إذا كان يستحل بحلفه مالاً يأخذه بغير حق فإن ذلك حرام عليه، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اقطع مال امرئ مسلم بيمين هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان.
قالوا: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟! قال: وإن كان قضيباً من أراك) يعني: عود السواك الذي يستاك به، فلو اقتطع باليمين سواكاً فإنه يُعتبر قد اقتطع مالاً بغير حق بيمين هو فيها كاذب، فجمع بين الكذب وبين أخذ ما لا يستحقه من المال ولو كان يسيراً، فاستحق أن يلقى الله تعالى وهو عليه غضبان.
كذلك نقول: إن على المسلم أيضاً أن يحترم أسماء الله تعالى، فلا يكثر الحلف مخافة أن يقع في كذب وهو غير متعمد ثم يلام على ذلك، وقد كثر حلف الناس على البيع والشراء، وهو بغير شك يوقعهم في كثير من الفجور أو نحو ذلك، وقد قال الله تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ} [القلم:10] ، و (حلّاف) صيغة مبالغة، أي: كثير الحلف.
فإن الذي يكون كثير الحلف لابد أن يقع في شيء من الكذب.
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الذين لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم، وذكر منهم رجلاً حلف على سلعة بعد العصر لقد أعطي بها كذا وكذا وهو كاذب، وخص بعد العصر لأنه وقت شريف من أفضل الأزمنة، وخص الحلف مع أنه حلف بالله لأنه حلف على كذب فصدقه الذي حلف له وزاد في ثمن تلك السلعة لأنه حلف، فهذا أخذ ما لا يستحقه وحلف بالله وهو كاذب، وامتهن حرمة الزمان الذي هو وقت شريف وهو بعد العصر، فكان ذلك سبباً لعقوبته بهذه العقوبة، ولذلك نتواصى بأن نحفظ أيماننا، كما يقول الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة:89] أي: لا تكثروا الحلف فتقعوا في الحنث.
وكذلك لا نكثر الحلف بالله، كما يقول الله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} [البقرة:224] أي: لا تكثروا من الحلف الذي هو مظنة الكذب أو نحو ذلك، وعلى كل حال الكلام على الأيمان معروف، والحمد لله.(71/8)
شرح حديث: (قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة)
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تلد كل واحدة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله.
فقيل له: قل: إن شاء الله.
فلم يقل، فطاف بهن فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قال: إن شاء الله لم يحنث، وكان ذلك دركاً لحاجته) .
قوله: فقيل له: قل: إن شاء الله يعني: قال له الملك.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان، ونزلت: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} [آل عمران:77] ) إلى آخر الآية] .
الحديث الأول موضوعه في الاستثناء في اليمين، وأنه ينفع إذا كان الاستثناء متصلاً بأن يقول: إن شاء الله أو إلا ما شاء الله، أو إلا أن يشاء الله ونحو ذلك، فإذا استثنى في يمينه ثم لم يوف بها لم يحنث، وكان ذلك دركاً لحاجته.
والقصة صحيحة، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن سليمان بن داود عليه السلام قال: (لأطوفن الليلة على سبعين امرأة) وفي رواية: (على مائة امرأة) ، وذلك لأنه كان له نساء كثير، منهن زوجات ومنهن إماء سريات يملكهن، فالتزم بأنه سوف يطوف على مائة أو على سبعين، أي: يطأهن في تلك الليلة، وأن كل واحدة تلد غلاماً يقاتل في سبيل الله، فقال له الملك: قل: إن شاء الله فنسي ولم يقل، وليس ذلك عصياناً ولا استبداداً، ولكنه نسي أن يقول ذلك أو انشغل، فلما طاف بهن لم تلد منهن ولم تحمل منهن في تلك الليلة إلا واحدة ولدت شق إنسان، أي: نصف إنسان.
أي: غير كامل.
وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك سببه عدم الاستثناء بقول (إن شاء الله) ، أو (إلا ما شاء الله) .
وأثبت العلماء بهذا الحديث وبغيره أن الاستثناء يكون مبرراً لعدم الحنث، وأن من حلف وأقسم وقال: إن شاء الله فلا حنث عليه، ويسمى هذا الاستثناء، قال الله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم:17-18] ، فأهل الجنة كان لهم بستان فيه ثمار، فحلفوا في ليلتهم أنهم إذا أصبحوا سوف يصرمون ذلك النخل أو تلك الثمار، ولم يقولوا: إلا أن يشاء الله.
ولم يستثنوا، فعاقبهم الله تعالى بقوله: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم:19-20] أي: احترقت ولم يبق فيها شيء، فأصبحت كأنها مصرومة.
حتى إنهم لما رأوها قالوا: ((إِنَّا لَضَالُّونَ)) [القلم:26] أي: ليس هذا بستاننا.
ثم اعترفوا أنهم ظالمون، فقالوا: (سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [القلم:29] ، فدل على أنه إذا أقسم الإنسان على شيء أو ذكر شيئاً فإن عليه أن يقول: إلا أن يشاء الله.
أو يقول: إن شاء الله.
أو نحو ذلك.
وإذا كان الأنبياء قد عوقبوا بمثل هذا فغيرهم من باب أولى.
وكذلك أيضاً ورد أن قريشاً سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ثلاثة أشياء: عن فرقة ذهبت في الدهر وكان لهم حديث عجيب، وعن الروح، وعن رجل طاف بالمشرق والمغرب.
فقالوا: أخبرنا، فإن أخبرتنا فأنت نبي، وإلا فأنت رجل متقول.
وأخذوا هذه الأسئلة عن اليهود، فقال لهم: (أخبركم غداً) ، ونسي أن يقول: إن شاء الله.
فلم ينزل عليه الملك بالوحي إلا بعد خمسة عشر يوماً، وعاتبه الله تعالى بقوله: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23-24] .
فلما قال: (إني آتيكم بها غداً) ولم يقل: إن شاء الله تأخر عليه الوحي، فأفاد بأن على الإنسان أن يحرص على أن يستثني في كلامه، فإذا قال: سأفعل هذا الأمر فليقل: إن شاء الله.
وهكذا لو قال: سأسافر إلى البلاد الفلانية غداً.
فعليه أن يقول: إن شاء الله.
وكذا إذا قال: سأبيع هذا.
أو: سأشتري لك كذا وكذا فليقل: إن شاء الله.
وهكذا المواعيد ونحوها، فعلى المسلم أن يستثني في المواعيد، فيقول مثلاً: آتيك غداً إن شاء الله.
أو: تأتيني إن شاء الله.
أو: يأتيني فلان إن شاء الله.
وما أشبه ذلك، فهذا الاستثناء يعتبر تبركاً ويعتبر تعليقاً للأمر على مشيئة الله؛ لأنه إذا لم يشأه الله فإنه لا يحصل، قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] أي: إذا أردتم أمراً فإنه لا يحصل إلا إذا شاءه الله وأرده إرادة كونية قدرية، فعلقوا أموركم المستقبلة على مشيئة الله تعالى.(71/9)
فائدة الاستثناء في اليمين
أما الاستثناء في الحلف فإذا حلف على أمر مستقبل وقال: والله لآتينك غداً إن شاء الله ثم لم يأتك فإنه لا كفارة عليه، بخلاف ما إذا لم يقل: إن شاء الله.
فلو قال: والله لأقضينك دينك غداً.
أو: لأبيعنك.
أو: لأحضرن لك هذه السلعة غداً ثم لم يحضرها أو لم يعطك فمثل هذا عليه كفارة.
والكفارة هي التي ذكرها الله بقوله: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة:89] إلخ، فإذا استثنى فلا كفارة عليه، فهذه هي فائدة الاستثناء.
ويمكن أن يخصص بعض الأشياء، فإذا قال مثلاً: بعتك هذا إن شاء الله فقلت: قبلته إن شاء الله.
أو قال -مثلاً-: زوجتك موليتي إن شاء الله فقلت: قبلت إن شاء الله فإن ذلك ينعقد ولو كان فيه هذا الاستثناء، وكذلك إذا قال: طلقت امرأتي إن شاء الله فإنها تطلق، وذلك لأن هذا شيء ظاهر، فلا يعلق على مشيئة الله الخفية؛ لأنا لا نعلم مشيئة الله إلا بالأمر الواقع، فإذا رأينا الأمر قد وقع قلنا: هذا قد شاءه الله، شاء الله أن يولد لفلان، وشاء الله أن يموت فلان، وشاء الله أن يشفى، وشاء أن يستغني وما أشبه ذلك، فمشيئة الله تعالى ظاهرة بوقوع الأمور التي شاءها، وإذا رأينا الأمر تخلف قلنا: لم يشأ الله أن يحصل لفلان ولد، ولم يشأ الله أن يستغني فلان، أو أن ينجح في سعيه، أو يربح في بيعه.
والاستثناء يؤتى به أيضاً للترك، كما ورد في القرآن، قال الله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الفتح:27] مع أنه وعد محقق، ولكن عُلق بمشيئة الله تعالى للتبرك، وكذلك الاستثناء الذي في دعاء زيارة القبور: (وإنا -إن شاء الله- بكم لاحقون) ، فالاستثناء هنا للتبرك، أو لتخصيص البقعة أو نحو ذلك، وإلا فالموت محقق، وكل الأحياء لاحقون بالأموات.(71/10)
شرح حديث: (من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم)
أما الحديث الثاني ففيه وعيد على الذي يحلف وهو كاذب، وذلك لأنه لم يعظم أسماء الله ولم يحترمها، ولم يعرف قدر الرب تعالى، ولم يكن في قلبه قدر لربه سبحانه وتعالى، فتهاون باسم الله وحلف وهو كاذب، ومع فجوره وكذبه أخذ مالاً بغير حق، بل أخذه ظلماً بسبب هذه اليمين الكاذبة.
وقوله: (من حلف على يمين صبر) سميت يمين صبر كأنه صبر نفسه على هذا الكذب، وقوله: (ليقتطع بها مال امرئ مسلم) يقطع المال أي: يأخذه بغير حق.
(لقي الله وهو عليه غضبان) .
وذكر الأشعث بن قيس أنه تخاصم هو ورجل من كندة في أرض في حضرموت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للأشعث: (ألك بينة؟ قال: لا.
فقال: فلك يمينه -أي: ليس لك إلا أن يحلف-.
فقال: إنه رجل فاجر لا يبالي بالكذب ولا يبالي بالحلف.
عند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان) ، وفي رواية: (من اقتطع مال امرئ مسلم بيمين هو فيها كاذب لقي الله وهو عليه غضبان) ، وأنزل الله في ذلك قوله سبحانه تعالى في سورة آل عمران: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:77] (يشترون بعهد الله) أي: بميثاقه (ثمناً قليلاً) أي: عرضا ًمن الدنيا.
فتوعدهم بخمسة أشياء: الأول: (لا خلاق لهم) أي: لا حظ لهم ولا نصيب عند الله تعالى.
الثاني: (ولا يكلمهم الله) يعني كلام رضا.
الثالث: (ولا ينظر إليهم) أي: نظر رحمة.
الرابع: (ولا يزكيهم) أي: يطهرهم ويتوب عليهم.
الخامس: (ولهم عذاب أليم) خاتمة الأمر أنهم مستحقون للعذاب، وهذا يؤكد أن المسلم يبتعد عن الحلف الكاذب، أو عن الحلف المشكوك فيه، سواء حصل له به نفع كوجود مال أو نحوه، أو حصل له دفع شر أو ضرر أو ما أشبه ذلك، حتى لا يتهاون بأسماء الله، وحتى لا يأخذ ما لا يستحقه من مال أخيه المسلم بهذه اليمين الفاجرة التي عظم فيها الله تعالى ولم يحترم هذا الاسم؛ لأنه عظمه وهو كاذب فاجر.
وقد ذم الله تعالى الفجور، وجعل الفجار مقابلين للأبرار فقال تعالى: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:14] ، وقال تعالى: {إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين:7] ، فمن الفجور الفجور في الحلف، أي: أن يحلف وهو فاجر، ويدخل في ذلك أيضاً أن يحلف كاذباً عند البيع، وقد ورد أيضاً ذم الذي لا يبيع ولا يشتري إلا بيمينه، أو الذي عرض سلعة بعد العصر فحلف أنه أعطي فيها كذا وكذا وهو كاذب، فجعله النبي صلى الله عليه وسلم مع المعذبين الذين يستحقون العذاب، وما ذاك إلا أنه كذب في حلفه وفجر، ثم مع ذلك ظلم أولئك الذين عرض عليهم تلك السلعة وصدقوه في كذبه وفي حلفه، وأخذ منهم ما لا يستحقه، أي: حلف أن هذه السلعة تساوي مائة وهي لا تساوي إلا ثمانين -مثلاً-، أو حلف أنه باع جلدها بعشرة وهو كاذب، ما باعها إلا بثمانية، أو حلف أنه قد بذل له فيها مائة وهو كاذب، أو ما أشبه ذلك، فيجمع بين الاستهانة بأسماء الله تعالى والكذب وأخذ المال بغير استحقاق، فيدخل فيمن اشترى بآيات الله وبيمينه ثمناً قليلاً؛ لأن المصالح الدنيوية كلها تعتبر ثمناً قليلاً، حتى ولو أثرى، ولو كثر ماله بسبب كثرة الحلف فإن مآله إلى الخسار ومآله إلى الذل، ولو حصل له ما حصل فإن عاقبته أن يعاقبه الله تعالى فيحاسبه على هذا المال الذي اكتسبه بهذه الأيمان الكاذبة.(71/11)
شرح حديث الأشعث بن قيس: (كان بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)
قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن الأشعث بن قيس رضي الله عنه قال: كان بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شاهداك أو يمينه.
قلت: إذاً: يحلف ولا يبالي.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان) .
وعن ثابت بن الضحاك الأنصاري رضي الله عنه أنه بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذباً متعمداً فهو كما قال، ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة، وليس على رجل نذر فيما لا يملك) ، وفي رواية: (ولعنُ المؤمن كقتله) ، وفي رواية: (من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلا قلة) ] .
هذه الأحاديث تتعلق بالأيمان والنذور، فحديث الأشعث فيه هذه القصة والقضية التي حدثت، ومضمونها أنه كان له بئر في حضرموت، فاعتدى عليها حضرمي ومد يده إليها واستولى عليها، فتخاصما عند النبي صلى الله عليه وسلم، الأشعث يدعي أنها ملكه، والحضرمي يدعي أنها في يده وأنه يتصرف فيها، فـ الأشعث هو الخارج والحضرمي هو الداخل، وهو الذي بيده الأرض والبئر، والقاعدة أن على الداخل اليمين وعلى الخارج البينة، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم من الأشعث بينة، والبينة شاهدان يشهدان بأن البئر له ولأبيه من قبله، فلم يكن عنده بينة، فلم يكن إلا أن رد النبي صلى الله عليه وسلم على الحضرمي وطلب منه الحلف، فاتهمه الأشعث بأنه لا يبالي، وأنه لا يخاف من مغبة الحلف، وسوف يحلف ويقتطعها ويتملكها.
ولكن قبل أن يحلف وعظهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر عاقبة هذا الحلف الكاذب، فذكر أن الذي يحلف على يمين -أي: يحلف؛ لأن الحلف يُسمى يميناً؛ لأنهم كانوا عند التحالف يتقابضون بالأيمان، فلذلك سمي القسم يميناً- هو فيها فاجر، والحالف بالله معظم له وهو مع ذلك كاذب وفاجر في يمينه، وليس له قصد إلا أن يقتطع مال امرئ مسلم بغير حق فإنه يلقى الله تعالى وهو عليه غضبان، ويكتب الله له به غضبه حيث تهاون أولاً باسم الله، وثانياً استعمل الكذب، وثالثاً استحل المال الحرام بغير حق، وذكر أن الله تعالى أنزل في ذلك آية في كتابه في سورة آل عمران: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:77] .
وسبب ذلك أنهم اشتروا بآيات الله وبعهده وبأيمانهم ثمناً قليلاً، والثمن القليل هو عرض الدنيا، فإن الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر، أي: شيء عارض معترض من عرض الدنيا، فمن حلف يميناً كاذباً وأخذ من الدنيا شيئاً فانياً قليلاً مضمحلاً فقد بذل في ذلك دينه ويمينه وتعظيم ربه وصدقه، كل ذلك بذله، فكان في ذلك خاسراً حيث استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.(71/12)
النذر وأحكامه
أما الحديث الذي بعده فالشاهد منه مثل ما في هذا الحديث، وأن من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان، وأوجب الله له بيمينه العذاب، وفي بعض الروايات أنهم قالوا: (وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟! قال: وإن كان قضيباً من أراك) يعني: وإن كان الذي أخذه عوداً من الأراك.
يعني: سواكاً.
وماذا يفعل وماذا يستفيد من اقتطع سواكاً بيمين هو فيها كاذب؟! إنه يستحق غضب الله تعالى، ويستحق عقوبته، ويستحق العذاب الوبيل الذي ذكره الله تعالى ورتبه في هذه الآية.
كذلك في هذا الحديث أيضاً الأمر بالوفاء بالنذور، والنذر: هو أن يلزم الإنسان نفسه شيئاً لم يلزمه شرعاً.
أي: يلزم به نفسه وهو غير لازم، فيلزمه الوفاء به، إلا إذا كان النذر في شيء لا يملكه، وفي هذا الحديث يقول: (لا نذر لابن آدم فيما لا يملك) يعني: لا يجوز له أن ينذر شيئاً وهو لا يملكه، ولكن إذا نذره فإن عليه كفارة اليمين.
وعرفنا أن النذر هو إلزام الإنسان نفسه ما ليس واجباً عليه شرعاً تعظيما ًللمنذور له، فيقصد بذلك أن يعظم من نذر له، فإن كان نذراً لله تعالى فإنه تعظيم لله، وإن كان نذراً لمخلوق فإنه تعظيم لذلك المخلوق حياً أو ميتاً، وهو عبادة من العبادات وقربة من القربات.
وقلنا: إن النذر عبادة لأن الناذر يعظم من نذر له، ولأجل ذلك مدح الله بالوفاء به، قال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان:7] أي: إذا نذروا أوفوا.
وقال تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة:270] والمعنى: إن الله تعالى عالم بهذه النذور، وسوف يجازي عليها إن كانت نذر طاعة أو نذر معصية.
وأمر الله بالوفاء بها في قوله تعالى: {ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29] .
وكذلك حكى الله تعالى النذر عن الأمم السابقة، فحكى عن أم مريم أنها قالت: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي} [آل عمران:35] ، وعن مريم أنه قال لها ابنها: {فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنْ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً} [مريم:26] ، فدل على أن النذر مشهور في الأمم قبلنا.
وصفة النذر بما لا يملك ابن آدم كأن يقول: لله علي أن أعتق عبد فلان.
أو أسبل بيت فلان.
فهذا لا تملكه، وكيف تسبل بيته وأنت لا تملكه؟ لأن هذا مما يمتنع عليك، وكذلك يمتنع عليك أن تعتق عبده، فلا تتصرف إلا فيما تملك، وهكذا لو قلت: نذرت أن أضحي بشاة فلان فأنت لا تملكها، والوقف والعتق والأضحية كلها عبادات، ولكن كونك تتصرف فيما لا تملك فهذا لا تقدر عليه.
أما إذا كان الإنسان نذر بشيء وهو يملكه فإنه يلزمه الوفاء به، فإذا قال: لله علي أن أعتق عبدي.
أو: أن أوقف بيتي.
أو: أن أضحي بهذا الكبش -الذي يملكه-.
أو: أن أتصدق بهذا الكيس -الذي يملكه- فمثل هذا عبادة يملكها، فيلزمه أن يوفي بهذا النذر؛ لأنه طاعة وقربة، فالصدقات والقربات وما أشبهها من العبادات كلها قربات يتقرب بها إلى الله تعالى.
فعلى الناذر أن يوفي بما نذر به.(71/13)
حكم نذر المعصية
إذا كان نذر معصية ففيه كفارة، ولا يجوز الوفاء به، سواء أكانت المعصية من الذنوب أم من الشرك، فإذا قال -مثلاً-: إن شفى الله مريضي فعلي أن أشرب خمراً أو أن أزني بكذا فهذا حرام عليه الوفاء به، وعليه كفارة يمين؛ لحديث: (لا نذر في معصية الله، وكفارته كفارة يمين) ، وكذلك إذا كان من الشرك، كالنذور التي يفعلها القبوريون، كأن يقول أحدهم: إن ربحت تجارتي.
أو: إن قدم غائبي.
أو: إن شفي ولدي فعلي أن أذبح شاة عند قبر السيد فلان.
السيد البدوي -مثلاً- أو الحسين أو علي أو نحوهم.
والذبح لغير الله شرك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من ذبح لغير الله) ، فمن نذر به فلا يجوز الوفاء بهذا النذر.
وهكذا لو نذر أن يسرج قبراً؛ لأن إسراج القبور أيضاً شرك ومنهي عنه.
وهكذا لو نذر وقال: نذرت إن شفيت أو إن ربحت أن أهريق على ذلك القبر زيتاً أو دهناً.
أو: أن أطعم من يسدن هذا القبر ويخدمه أو يصلي عنده.
أو: أن أبني عليه قبة أو نحو ذلك، فإن هذا من الشرك، ولا يجوز الوفاء به.
فالحاصل أن النذر في قوله: (لا نذر لابن آدم فيما لا يملك) هو أن ينذر التصرف في شيء لا يملكه، فلا يصح، ويكون عليه كفارة، وكذا لا يجوز الوفاء بالنذر إذا كان في معصية أو في شرك، وفيه كفارة.(71/14)
وجوب الوفاء بالنذر إذا كان في طاعة
ويلزم الوفاء به إذا كان في طاعة وعبادة، كأن يقول: إن شفى الله مريضي فلله علي أن أصوم شهراً، أو عشراً، أو: أن أتصدق بمائة، أو بألف.
أو: أن أقوم هذا الليلة تهجداً.
أو: أن أختم في هذا الشهر ثلاث ختمات، فهذه عبادات وقربات، فيلزم الوفاء بها، وأما إذا كان النذر ليس عبادة وليس معصية وإنما هو عادة من العادات فهو مخير، إلا أن يكون فيه إسراف فإنه يكره الوفاء به وعليه الكفارة، فإذا قال: إن ربحت أو إن شفيت أو إن نجحت فعلي أن أشتري -مثلاً- ثوباً بمائتين أو بخمسمائة.
فلباس الثوب عادة ليس عبادة، أو قال -مثلاً-: عليّ أن أطعم زملائي وأصدقائي طعام كذا وكذا.
فهذا أيضاً من العادات ليس من العبادات، وهكذا إذا نذر أن: إذا شفيت أن لا آكل إلا كذا وكذا من الطعام، أو كذا من اللحم، أو أن لا آكل الطعام إلا بلحم سمك، أو بلحم طير أو نحو ذلك، فهذا أيضاً من العادات وليس من العبادات، فيخير بين الوفاء به وبين الكفارة، فإن كان عليه مشقة أو أنه يكلف نفسه ويحمله على الاستدانة، أو فيه إسراف كما لو حلف -مثلاً- أن يذبح عشرين جملاً لأهل هذا البلد أو مائة شاة مع أنه لا يجد من يأكلها وستذهب فساداً فإذا نذر أن يذبح ذلك فمثل هذا إسراف يكفر عن نذره ولا يذبحها، أو يقتصر على ذبح بعضها الذي يستفاد منه.(71/15)
حكم اللعن
في حديث ثابت بن الضحاك جمل استطرادية، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن المؤمن كقتله) ، وهذا وعيد شديد على اللعن، وذلك لأن اللعن دعاء بالإبعاد من رحمة الله، وقد وردت أدلة كثيرة في النهي عن اللعن، وعن التلاعن الذي هو الدعاء به، فقال صلى الله عليه وسلم: (ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء) يعني: لا تكون هذا الصفات من صفات المؤمن.
وورد في حديث آخر: (إن اللعانين لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة) ، وورد في حديث أن اللاعن إذا لعن ترفع اللعنة إلى السماء فتغلق دونها أبواب السماء، فتهبط إلى الأرض فتغلق دونها أبواب الأرض، فتذهب يميناً وشمالاً فلا تجد مساغاً، فتذهب إلى الذي لُعن، فإن كان مستحقاً لها وإلا رجعت إلى قائلها، فيصير اللاعن كأنه لعن نفسه.
كذلك يجب على المسلم أن لا يلعن من لا يستحق، أما لعن المستحق فقد ورد في القرآن في أدلة كثيرة، كقوله تعالى: {فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61] ، وقوله: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18] ، وقوله: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [ص:78] ، ونحو ذلك، وكذلك الأحاديث الكثيرة، كقوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله المحلِل والمحلَل له) ، وقوله: (لعن الله آكل الربا وموكله) ، وقوله: (لعن الله الراشي والمرتشي) ، وما أشبه ذلك.
والإنسان قد يستعمل اللعن ويسهل عليه فيقع في هذا الوعيد: (لعن المؤمن كقتله) .(71/16)
حكم قتل النفس
وفي هذا الحديث أيضاً جملة أخرى استطرادية أيضاً؛ لأنه حديث جامع، وهي قوله: (من قتل نفسه بشيء عذب به) وقتل النفس هو الذي يُسمى الانتحار، وقد وردت أدلة في تعذيب من قتل نفسه، منها الحديث الذي في صحيح مسلم، قال صلى الله عليه وسلم: (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالداً مخلدا ًفيها أبداً) (وجأ نفسه) أي: طعن نفسه حتى قتلها.
وكذلك قوله: (من تحسى سماً -يعني: التهمه- فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردى من شاهق -يعني: من جبل- فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً) وذلك بلا شك تهديد ووعيد؛ لأن الإنسان لا يملك نفسه؛ فنفسه ملك لربه سبحانه، فلا يجوز أن يتساهل في أن يقتل نفسه بسبب من الأسباب.
والشاهد من الحديث ذكر اليمين، وذكر النذر كما ذكرنا، والله أعلم.(71/17)
شرح عمدة الأحكام [72]
النذر أنواع، منها ما يجب الوفاء به، ومنها ما يحرم الوفاء به وفيه الكفارة، وهو في الجملة مكروه، وإنما يستخرج به من مال البخيل، وفي النذر أحكام كثيرة بينها أهل العلم رحمهم الله.(72/1)
شرح حديث: (فأوف بنذرك)
قال المؤلف رحمه الله: [باب النذر.
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قلت: (يا رسول الله! إني كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة -وفي رواية: يوماً في المسجد الحرام- فقال: فأوف بنذرك) .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه نهى عن النذر، وقال: إن النذر لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل) ] .
هذه الأحاديث تتعلق بالنذر، وهو إلزام المكلف نفسه ما لم يجب عليه شرعاً، وتارة يكون بلفظ النذر، كأن يقول: نذرت كذا وكذا.
وتارة يقول: لله علي نذر أن أفعل كذا وكذا.
وأحياناً لا يذكر كلمة النذر، ولكن يقول: علي أن أفعل كذا وكذا.
أو ألزم نفسي بأن علي كذا، أو ما أشبه ذلك.
وقد يكون معلقاً بشرط في المستقبل، كأن يقول -مثلاً-: إن رزقني الله ولداًَ ذكراً فعلي أن أحج ماشياً -مثلاً-، أو أن أتصدق بألف.
وكذلك لو قال: إن شفى الله مريضي فعلي أن أتصدق بكذا، أو أصلي لله كذا وكذا، أو أصوم كذا وكذا.
والآن عندنا مثال لذلك، وهو حديث عمر قال: (إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام.
فقال: أوف بنذرك) ، والظاهر أن عمر نذر نذراً مطلقاً بأن قال: عليّ أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام.
ويمكن أنه نذر نذراً معلقاً بقوله: إن نصر الله نبيه فعلي.
أو: إن فتح الله علينا مكة فعلي أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام أو يوماً في المسجد الحرام.
فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالوفاء، وذلك لأنه نذر طاعة، فالاعتكاف طاعة وعبادة فيوفي به من نذره، ودليل وجوب الوفاء بالنذر إذا كان طاعة قوله صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) ، وفي حديث آخر قال عليه السلام: (لا نذر في معصية الله، وكفارته كفارة يمين) ، فنذر الطاعة مثل نذر الاعتكاف، إذا نذر أن يعتكف يوماً سواءً نذراً مطلقاً كأن يقول: لله علي أن أعتكف في هذا المسجد يوماً، أو لله علي أن أعتكف في المسجد الحرام، أو في المسجد النبوي، أو في المسجد الأقصى يوماً.
أو: كان نذراً معلقاً كأن يقول: إن قدم غائبي.
إن شفي مريضي.
إن ربحت تجارتي.
إن نجح ابني أو نحو ذلك فلله عليّ أن أعتكف في المسجد الحرام أو في هذا المسجد أو نحو ذلك.
فيلزمه الوفاء إذا تحقق الشرط، فإذا وجد ما شرطه من الربح أو الشفاء أو القدوم أو ما أشبهه فيلزمه الوفاء به لهذا الحديث: (من نذر أن يطيع الله فليطعه) ، ولقوله لـ عمر: (أوف بنذرك) .(72/2)
خلاف العلماء في الوفاء بنذر الاعتكاف
إذا كان النذر اعتكافاً فقد اختلف فيه هل يجب الوفاء به أو لا؟ فالجمهور على أنه واجب، والحنفية قالوا: لا يجب وإنما يستحب.
وذلك لأنهم لا يوجبون إلا ما جنسه واجب بأصل الشرع، وليس من الاعتكاف شيء واجب في أصل الشرع، هكذا عللوا، ويقولون: إذا نذر أن يصوم فيلزمه؛ لأن هناك صياماً واجباً كرمضان، وإذا نذر أن يصلي صلاة ركعتين أو أربعاً أو نحو ذلك فإن عليه أن يوفي به؛ لأن هناك صلاة واجبة كالصلوات الخمس، وإذا نذر حجاً أو عمرة فإن عليه الوفاء به، وذلك لأن هناك حجاً وعمرة واجبة، وكذلك لو نذر صدقة أو نفقة في سبيل الله أو أي عمل صالح فإنه يوفي به، وذلك لأن هذا جنسه واجب بأصل الشرع، وأما جمهور الأمة والأئمة فإنهم يرون وجوب الوفاء بالاعتكاف لهذا الحديث: (أوف بنذرك) .(72/3)
حكم نذر المعصية
إذا كان النذر نذر معصية كفّر وترك الوفاء، ففي حديث ثابت بن الضحاك قال: نذر رجل أن ينحر إبلاً ببوانة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (هل فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا.
قال: هل فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا.
قال: أوف بنذرك؛ فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم) ، فإذا كان النذر نذر معصية لم يجز الوفاء به وكان عليه الكفارة؛ لحديث: (لا نذر في معصية الله، وكفارته كفارة يمين) ، فإذا قال مثلاً: إن نجاني الله من هذا العدو فعلي أو فإني ألزم نفسي مثلاً أن أشرب خمراً.
أو: أن أزني بفلانة مثلاً.
أو: أن أسرق أو أنتهب.
أو: أقتل فلاناً المسلم.
فهذا نذر معصية يحرم عليه الوفاء به، ويكفر كفارة يمين.
ومثله النذور التي يفعلها القبوريون، فكثيراً ما يقول أحدهم: إذا شفي مريضي فعلي للسيد الفاني صاحب القبر الفلاني أن أسرج قبرة ليلة أو ليالي.
أو: أن أهريق على قبره سمناً.
أو: أن أذبح عند قبره شاة أو بقرة.
أو: أن أعتكف عند قبره ليلة أو ليالي.
أوك أن أصلي عند القبر الفلاني كذا وكذا صلاة.
ولا شك أن هذا كله نذر معصية يحرم الوفاء به، فنذر المعصية لا يجوز الوفاء به وأما نذر الطاعة فإنه يجب الوفاء به إذا قال: أن أصلي لله.
أو: أن أنفق في سبيل الله أو ما أشبه ذلك.(72/4)
شرح حديث: (إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل
قوله صلى الله عليه وسلم في النذر: (إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل) يراد بهذا نذر النفقة بالمال أو نحوه، فالبخيل لا يخرج المال إلا إذا نذره وألزم به نفسه، وقد يعتقد أن النذر يؤثر في الأمور المستقبلة، وهذا خطأ، فالنذر لا يغير شيئاً من الأمور المستقبلة المقدرة، فالذي يعتقد أنه يؤثر فاعتقاده خاطئ، ونذكر لذلك أمثلة حتى يتضح المراد، فالذي يعتقد أن الله لا يشفي مريضة إلا إذا نذر أن يتصدق بألف فيقول: إن شفى الله مريضي فلله علي أن أتصدق بألف هل النذر سبب شفاء المريض؟ الله تعالى قدر له الشفاء، سواء نذرت أو لم تنذر، وكذلك إذا قال: إن ربحت تجارتي فلله علي أن أتصدق بألف.
كأنه بخيل، ما ينوي أن يتصدق إلا إذا أربح الله تجارته، فتجارتك قد قدر الله لها ما قدر، إما خسراناً وإما ربحاً، ليس خسرانها بسبب عدم النذر، وليس ربحها بسبب النذر، فالنذر لا يغير شيئاً من قدر الله.
وكذلك لو قال -مثلاً-: إن قدم ولدي سالماً من هذا الغزو -مثلاً- أو من هذا السفر الذي فيه خطر فلله علي أن أتصدق بألف أو نحو ذلك، أو أن أنحر شاة، أو عشرين شاة.
فهل نذرك بهذه الصدقة أو بهذه الذبائح هو الذي سبب أن ولدك يقدم سالماً؟ فالله قد قدر لك ما قدره، قدر أنه يقدم أو لا يقدم، وكتب ذلك، فليس النذر هو الذي سبب لك هذا، فالنذر لا يغير من قدر الله شيئاً، النذر لا يأتي بخير، وهذا بخيل لا يتصدق إلا بعد أن تحقق له نذره، لا يتصدق إلا إذا نجح ولده، ولا يتصدق إلا إذا شفي مريضه، ولا يتصدق إلا إذا قدم غائبه، أو إذا ربحت تجارته أو ما أشبه ذلك، فعرف بذلك أن النذر لا يغير شيئاً من أمر الله ولا من قضاء الله وقدره، وإنما يستخرج به من البخيل.
والواجب عليك أن تتصدق إذا كنت عازماً، سواء نجحت أو لم تنجح، سواء ربحت أو لم تربح، أن تعزم على الصدقات سواء شفي مريضك أو لم يشف، تعزم على الصدقة وكذلك على غير الصدقة إذا كان النذر عملاً صالحاً كصيام مثلاً، فنقول: ما يخطر لك الصيام إلا إذا نجحت مثلاً أو إذا ربحت؟! عليك أن تتقرب إلى الله بالصيام، وما تخطر لك الصلاة أو الحج أو العمرة إلا إذا حصل لك مقصودك هذا؟! هذا لا ينبغي، عليك أن تأتي بالقربات وبالأعمال الصالحة سواء حصل لك مقصدك ومطلبك أو لم يحصل، عليك أن تتقرب بالصدقات، وأن تتقرب بالحج والعمرة، وأن تتقرب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد وما أشبه ذلك، وأن تتقرب بالصلوات وما أشبهها، سواء حصل لك مقصودك أو لم يحصل، سواء ربحت أو لم تربح، سواء نجحت أو لم تنجح، سواء قدم غائبك أو لم يقدم، شفي أو لم يشف، عليك أن تشكر الله وأن تتقرب إليه بهذه العبادات، فإن ذلك هو شأن المؤمن التقي الذي يعبد الله على كل حال، في عسره وفي يسره، وفي رخائه وفي شدته، وهذه هي حقيقة العبودية لله تعالى.(72/5)
شرح حديث: (لتمش ولتركب)
قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله الحرام حافية، فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيته فقال: (لتمش ولتركب) .
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: استفتى سعد بن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه توفيت قبل أن تقضيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فاقضه عنها) .
وعن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك) ] .
هذه الأحاديث تتعلق بالنذور، والنذر هو إلزام الإنسان المكلف نفسه ما لا يلزمه شرعاً، سواء من العبادات أو من العادات أو من المحرمات، فمثال العادات أن يقول: لله علي أن أصوم شهراً، أو أتصدق بمائة.
ومثال العادات أن يقول: لله علي أن أشتري ثوباً جديداً.
أو: أن لا ألبس خلقاً.
أو: أن أسكن داراً فارهة.
أو نحو ذلك، ومثال المحرمات كأن يقول: لله عليه أن أشرب خمراً.
أو: أن أقتل مسلماً.
أو نحو ذلك.
فمن نذر طاعة فعليه الوفاء؛ لقول الله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29] ، ومن نذر معصية فعليه الكفارة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا نذر في معصية الله، وكفارته كفارة يمين) ، ومن نذر مباحاً فله الخيار إن شاء وفى به وإن شاء كفّر.(72/6)
حكم من نذر نذراً فيه مشقة عليه
من نذر نذراً فيه مشقة وليس فيه طاعة فعليه كفارة، ودليله حديث أبي إسرائيل الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم قائماً في الشمس، فسأل فقالوا: إنه نذر أن يقوم ولا يجلس، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم، ولما كان هذا ليس فيه عبادة إلا الصوم قال: (مروه أن يجلس ويستظل ويتكلم ويتم صومه) ، فالصوم عبادة فأمره أن يتمه، وأما تعذيب نفسه بالوقوف قائماً أو عدم الاستظلال أو بترك الكلام فهذا ليس فيه طاعة، فنهاه أن يفي به، والصحيح أن عليه الكفارة، لقوله في الحديث: (لا نذر في معصية الله، وكفارته كفارة يمين) .
وكذلك أخت عقبة نذرت أن تحج ماشية، وفي بعض الروايات حافية، أن تحج من المدينة إلى مكة على قدميها ولا تلبس نعلاً، ولا شك أن في هذا تعذيباً للنفس لكونها تسير هذه المدة الطويلة دون أن تركب ودون أن تنتعل فتعذب نفسها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (لتمش ولتركب) ، لكن معلوم أن المشي للطاعة عبادة، ولذلك قال تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12] فالمشي إلى المساجد عبادة، والمشي إلى أماكن الطاعات عبادة، والمشي في الجهاد عبادة، وورد أن بعضاً من الغزاة في عهد الصحابة كانوا سائرين في خراسان متوجهين إلى بعض البلاد الأفغانية غزاة، فحدث بعض الصحابة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من اغبرت قدماه في سبيل الله لم تمسه النار) ، فلما سمعوا بذلك نزلوا عن رواحلهم، وصاروا يمشون في تلك الأرض التي فيها غبار حتى يغبروا أقدامهم لكونهم غزاة في سبيل الله، وامتثلوا هذا الأمر، فأفاد بأن المشي طاعة وعبادة، لكن إذا كان فيه تعذيب للنفس فالله تعالى رحيم بعباده، وليس لأحد أن يكلف نفسه فوق طاقتها، وأن يشق عليها بعبادة يعجز عنها، ولذلك لو نذر عبادة فيها مشقة أمر بأن يفعل منها قدر ما يستطيع، أو أن يكفر إذا لم يقصد العبادة وإنما قصد الامتناع، وكثير من الناس في هذه الأزمنة ينذر أحدهم صيام شهر، ولكنه نذر معلق، ويقصد بذلك منع نفسه، أو ينذر صيام سنة، أو ينذر نحر جزور، أو نحر عشر من الإبل، ولكن لم يقصد الطاعة، وإنما قصد منع نفسه، مثل إنسان مبتلى بشرب الدخان فعاهد الله وقال: لله علي إن عدت أشربه أن أصوم سنة.
ما قصد العبادة، ومع ذلك لم يصبر ورجع إليه -والعياذ بالله-، فهل يصوم سنة؟ لا شك أن في ذلك مشقة، مع أنه ورد النهي عن صوم الدهر، فمثل هذا يكفر كفارة يمين؛ لأنه ما قصد إلا منع نفسه من هذا الدخان أو نحوه، وكذلك من نذر نذراً ليس فيه طاعة أو فيه بعض من طاعة وبعض من معصية فيفعل ما يستطيعه، فنذر أخت عقبة فيه طاعة وهو المشي، وفيه مشقة وهو عدم الانتعال، وفيه أيضاً مشقة وهو تعذيب النفس لطول المسير في عشرة أيام، وربما كانوا يسيرون في اليوم ثنتي عشرة ساعة متواصلة، فكان في ذلك تعذيب للنفس، فلذلك قال في بعض الروايات: (إن الله لا يصنع بتعذيب أختك نفسها شيئاً، مرها فلتمش ولتركب) يعني: تمشي بقدر نشاطها ثم تركب إذا تعبت وعجزت {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286] .(72/7)
شرح حديث: (فاقضه عنها)
حديث سعد ذكر فيه أن أمه ماتت وعليها نذر صيام شهر، فأمره أن يصوم عنها، وثبت أيضاً في حديث آخر أن امرأة قالت: (يا رسول الله! إن أمي ركبت البحر فنذرت إن نجاها الله أن تصوم شهراً، ثم إنها ماتت ولم تصم.
فقال صلى الله عليه وسلم: أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؛ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء) ، فأمرها بأن تصوم عنها وتقضي عنها، فمن مات وعليه صيام نذر فإنه يصام عنه، وقد تقدم في كتاب الصيام قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) ، وحمله بعض العلماء على صيام النذر؛ لأنه الذي ورد في حديث تلك المرأة الخثعمية، وقال بعضهم: إنه عام في صيام الفرض وفي صيام النذر، فصيام النذر دليله حديث سعد بن عبادة هذا، ماتت أمه وهو حي، وذكر أن عليها صيام نذر، وأنها لم تقضه، وكذلك حديث الخثعمية ماتت أمها وعليها صيام شهر نذرته، فأمرها أن تقضيه، فأفاد بأن صيام النذر يقضى عن الميت، وشبهه النبي صلى الله عليه وسلم بالدين الذي في ذمة الميت يقضيه ورثته، ولو لم يخلف مالاً يتبرعون بقضاء دين والدهم أو والدتهم، وكذلك الصيام، إن تبرع أحد أن يصومه فإنه يجزيه، ولكن إذا تعذر ذلك أو لم يكن هناك ورثة يستعدون للصيام عن ميتهم فلابد من الإطعام عن كل يوم مسكيناً نصف صاع من البر أو نحوه، ويجوز أن يقضيه أكثر من واحد، فيجوز إذا كان له -مثلاً- أربعة أولاد وعليه صيام عشرين يوماً أن يصوم كل منهم خمسة أيام، ويجزئ ذلك عنه، ويجزئ أيضاً أن يصوم الأبعد مع وجود الأقرب، مثلاً: تصوم عنه أخته مع وجود بنته أو ابنه، وتصوم عنه خالته مع وجود أمه مثلاً، فيصوم عنه البعيد ولو كان هناك من هو أقرب منه، ما دام أنه تبرع بالصيام عن متوفى، فهذا في الصوم عمن مات وعليه صيام نذر، وأما إذا كان النذر غير صيام كنذر الصلاة فلم يأت دليل على أنه يصلي عنه، لكن إن نذر اعتكافاً أو حجاً أو طوافاً فقال: لله علي أن أحج حجتين.
أو: أن أعتمر عمرة أو عمرتين ولم يقدر أن يفعل ذلك حتى مات فإن ورثته يقضون عنه أو يوكلون من يحج أو يعتمر أو يطوف عنه ولو بأجرة، وكذلك الاعتكاف يعتكف عنه أحد ورثته، وكذلك الصدقة يتصدقون عنه من ماله، فإذا نذر أن يتصدق بمائة فلم يفعل فإنها تكون ديناً في ذمته تقضى من تركته، فإن لم يكن له تركة قضاها أحد ورثته أو أحد أقاربه، وكذا لو تبرع عنه أجنبي.(72/8)
شرح حديث كعب: (أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك)
قصة كعب بن مالك قيل: إنها نذر.
وقيل: إنها ليست بنذر وإنما هي توبة.
وهو خبر أخبر به عن نفسه، وذلك لأنه لما تاب الله عليه بعد تخلفه عن غزوة تبوك ونزل قول الله تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:118] إلى قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] التزم بقوله: إن الله إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا بحديث صدق.
فالتزم بذلك وقال: ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني لأرجو أن يحفظني الله في بقية حياتي.
ثم أراد أن ينخلع من ماله ويجعله كله صدقة رجاء أن تقبل توبته، فقال: (إن من توبتي أن أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله ورسوله) وجعل هذا توبة، فبعض العلماء يقول: إن هذا نذر، نذر أن يتصدق بكل ماله.
وبعضهم يقول: هذا ليس بنذر، وإنما هو التزام أو عهد أو توبة أو نحو ذلك، فلا يكون نذراً حتى يوفي بالنذر.
وإذا قلنا: إنه نذر فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن في الوفاء به شيء من المشقة، بقوله: (أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك) قال: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر.
وكأنه كان له أملاك في المدينة فتصدق بها، تصدق بملكه الذي في المدينة من أرض ونحوها، وأمسك أرضاً له في خيبر جاءته لما قسمت أرض خيبر، فجعل هذا توبة له.
وفي بعض الروايات أنه قال: (يكفيك الثلث) ، فاستدلوا به على أن من نذر أن يتصدق بجميع ماله اكتفى بالثلث؛ فإن سعد بن أبي وقاص لما مرض في حجة الوداع قال: (يا رسول الله! إنه لا يرثني إلا ابنة، وإني ذو مال، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا.
قال: فالشطر؟ قال: لا.
قال: فالثلث؟ قال: الثلث والثلث كثير) التزم أن يتصدق بثلثيه فاكتفى بثلثه، فأفاد أنه يكفيه الثلث إن كان نذراً على ما في هذا الحديث.(72/9)
شرح عمدة الأحكام [73]
ما قامت السماوات والأرض إلا بالعدل، ولا يستقيم حال الناس إلا بالعدل، فهم في حاجة إلى قضاة يعدلون بينهم، ويفصلون في منازعاتهم، وفي القضاء أحكام وقواعد وآداب لا بد للقاضي أن يلتزمها في حكمه بين الناس.(73/1)
القضاء
قال المصنف رحمه الله: [باب القضاء: عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وفي لفظ: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل علي في ذلك من جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك) ] .(73/2)
أهمية القضاء بين الناس
بعدما أورد المؤلف الأحاديث التي تتعلق بالحدود والعقوبات والمعاصي والأيمان والنذور ذكر باب القضاء، وهو الحكم بين الناس فيما يختلفون فيه؛ وذلك لأنه من ضروريات الحياة، فالواقع أن الناس يحصل من بعضهم اعتداء وظلم وأخذ لغير ما يستحقه، وادعاءات منها ما هو حق ومنها ما هو باطل، فكان لابد أن يكون هناك من يفصل بينهم، ويحسم النزاع الذي يوجد فيما بينهم، ويكون هذا الذي يفصله هو القاضي الذي يحكم بين الناس، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يتولى القضاء في حياته، عندما يختلف اثنان ويتنازعان يترافعان إليه، فيقضي بينهما، ويخبر بمن عليه الحق، ويأمره بأداء الحق الذي عليه، وهكذا الخلفاء بعده، وكان قد أرسل عليه الصلاة والسلام إلى بعض الجهات من يقضي بين الناس، فأرسل معاذاً إلى اليمن، وأمره أن يقضي بين الناس، وأرسل علياً أيضاً إلى جهة أخرى من اليمن، وأمره أن يقضي بينهم فيما يختلفون فيه، وعلمه شيئاً مما يقضي به، فثبت عنه أنه قال: (إذا سمعت كلام الخصم فلا تقضي حتى تسمع كلام الآخر، فإنك تعرف كيف تقضي) ، قال علي: فما زلت قاضياً، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأقضاكم علي، وأفرضكم زيد) إلخ الحديث، فجعل علياً ممن له معرفة بالقضاء، وجرت له مسائل قضى فيها بين الناس، ووافقه عليها أهل زمانه.
القضاء في الأصل هو الفصل فيما يختلف فيه الناس، قال الله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص:26] والحكم بين الناس هو القضاء بينهم بالحق الذي أنزله الله.
ويقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58] أي: إذا قضيتم بينهم فالتمسوا الحق والعدل، فهذا هو المراد بالقضاء، وقد اشترطوا للقضاء شروطاً، واشترطوا في القاضي صفات لابد أن تتوافر فيه، وهي مذكورة في كتب الأحكام وكتب الفقه، لابد أن تتوافر تلك الشروط فيه حتى يتمكن من القضاء، وإذا تخلفت أو تخلف بعضها اختلت أهليته للقضاء.
وعلى كل حال الأحاديث التي فيها تعليم القضاء ليس فيها شيء متفق عليه بين البخاري ومسلم، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (البينة على المدعي، واليمين على من أنكر) ، ومثل قوله: (كيف تقضي؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي) ، وهو حديث معاذ، وغيرها من الأحاديث التي لم تثبت على شرط الشيخين، فلذلك لم يذكرها المؤلف صاحب العمدة.(73/3)
يجب على القاضي تحري السنة
في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) ، وفي رواية لـ مسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) .
هذا حديث جامع يعتمد في إثبات السنن وفي رد البدع، فيعتمد في أن القاضي عليه أن يتحرى السنة، وعليه أن يعمل بها، وعليه أن يعمل بما ورد منها، وأن يتجنب القضاء الذي يتبع فيه الهوى، ويتجنب أن يحكم بين الناس برأيه، ويتجنب أن يجور في الحكم، وأن يظلم هذا لهذا، فإن هذا كله خلاف ما أمر الله به، وخلاف ما عليه أمر الله وأمر رسوله، ولا شك أن هذا الحديث جاء في بيان الشريعة، وهو أن شريعة الله سبحانه قد بلغها النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالأحكام، وفيما يتعلق بالآداب وبالحلال والحرام، وبالسنن وبالواجبات وما أشبهها.
هذا الحديث (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) فيه إثبات السنن ورد البدع، وأن كل من عمل عملاً مضافاً إلى الشريعة لا أصل له بالدين فإنه مردود، سواء كان تغييراً في العبادة، أو بزيادة فيها، أو شرعية عبادة أخرى، ويدخل في ذلك الإضافات التي يضيفها المبتدعة سواء في أذكار أو في أدعية أو ما أشبه ذلك.(73/4)
اجتهاد القاضي بما لا يخالف الكتاب والسنة
إن القضاء من أمر الله ومن أمر رسوله، وعلى القاضي أن يتقيد بكتاب الله، فإذا جاءه أمر في كتاب الله قضى به، وإذا لم يجد فإنه يتقيد بسنة رسول الله، فإذا لم يجد اجتهد، فإذا قضى مخالفاً لأمر الله فقضاؤه مردود ولو كان من كان، كما لو أمر بمنكر أو نهى عن معروف أو قضى للظالم وظلم بعض الناس، وقضى على هذا بأنه ظالم مع أنه مظلوم، وقضى على هذا بأنه مظلوم مع أنه ظالم، وحكمه يرد إذا ثبت أنه مخالف لعين الصواب، فيقال: هذا مردود؛ لأنه عمل ليس عليه أمر الله ولا أمر رسوله، فاستدلوا بذلك على نقض حكم الحاكم الذي خالف فيه الصواب، ولو كان من كان؛ وذلك لأن الحاكم بشر، وحكمه يصدر عن اجتهاد، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه بأنه لا يعلم الغيب، وإنما يجتهد بحسب ما يصل إليه إدراكه وفهمه فقال: (إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض؛ فأقضي له بنحو مما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار فليأخذها أو ليدعها) ، يعض بذلك المتخاصمين اللذين اختلفا، هذا يقول: الحق معي، وهذا يقول: الحق معي، فإذا كان أحدهما يعلم أنه كاذب وأنه ظالم فإن حكم الحاكم لا يبرر موقفه، ولا يحل له ما كان حراماً، يقول الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة:188] يعني: إلى القضاة {لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:188] فإذا غلط القاضي وحكم لك بشيء من حق أخيك -ولو شيئاً يسيراً شبراً من الأرض أو درهماً أو جزءاً يسيراً من المال- فلا تأخذه وأنت تعلم أنك كاذب لا تستحقه، والقاضي متى تبين له خطأ نفسه فإن عليه الرجوع، والقضاة الآخرون إذا علموا جور هذا القاضي وعرفوا أنه مخطئ في حكمه؛ لم يجز إبقاؤه على هذا، بل يرد حكمه، فيقال: حكمك مردود ولو كنت من كنت.(73/5)
شرح حديث: (خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك)
من القضايا التي قضى فيها النبي صلى الله عليه وسلم هذه القصة مع امرأة أبي سفيان، فقد ذكرت له أن أبا سفيان بخيل وشحيح، لا يعطيها كامل حقها من النفقة، فاستأذنت أن تأخذ من ماله -وهو لا يدري- نفقتها ولأولادها، ما يكفيها لإطعامهم ولكسوتهم ولفرشهم وحاجاتهم، فرخص لها النبي صلى الله عليه وسلم في أن تأخذ بالمعروف، يعني: لا تأخذ زيادة على ما تستحقه، وإنما تأخذ الذي تستحقه دون الزيادة، حتى لا يكون عليها جناح فقال: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) ، واختلف العلماء: هل هذا قضاء أو فتيا؛ لأنه لم يحضر الخصم الثاني الذي هو أبو سفيان؟ فالذين قالوا: إنه قضاء قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم عرف صدقها؛ لأنه يعرف أبا سفيان واتصافه بالإمساك وقلة الإنفاق، وكأن ذلك أمر مشهور عنه، فقضى لها وقال: خذي من ماله قدر الكفاية، فجعلوا هذه القضية دعوى ادعتها هند على أبي سفيان فقضى لها، ومعروف أنه واجب عليه نفقتها ونفقة عيالها بحكم الزوجية، فهي زوجته، والمرأة ينفق عليها زوجها، لقول الله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233] ، فمعلوم أنه يلزمه نفقتها، وإذا كان يلزمه، وقد عرف بالبخل؛ فقد حكم لها بأن تأخذ حقها، هكذا قال الذين ادعوا أنه حكم وقضية.
وقال آخرون: ليس هو حكم، وإنما هو فتيا؛ وذلك لأنه في غيبة أبي سفيان، وهو عليه الصلاة والسلام قال: (إذا سمعت كلام خصم فلا تقضي له حتى تسمع كلام الخصم الثاني) أو كما قال، فنهى القاضي أن يحكم لأحد الخصمين قبل أن يحضر الخصم الثاني، فربما يكون عند الخصم الثاني حجج قوية تبرر موقفه، وتبين عذره، فلا يسمع من أحد خصميه بل يسمع منهما معاً، فقالوا: إنه فتيا، وأيضاً فقد أفتاها بقوله: (إن أعطاك ما يكفيك وإلا فخذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) فجعل هذا لها كأنه يقول: أفتي بأنه يلزمه النفقة، وأن المرأة لها الحق في أن تأخذ نفقتها من مال زوجها إذا أمسك نفقتها ونفقة ولدها، أي: بما يكفيهم، هذا دليل من يقول: إنها فتيا، وليست حكماً وقضاءً.(73/6)
وجوب نفقة الزوج على زوجته وأولاده
من الأبواب التي تذكر في كتب الفقه باب النفقة، ويذكرون أن الزوج يلزمه أن ينفق على زوجته، وأن ينفق على أولاده نفقة تكفيهم، وأنه مطالب بذلك؛ وذلك لأنه إنما يجمع المال ويكتسبه لأجل أن ينفق عليهم، فيطعمهم ويكسوهم، ويعطيهم ما يكفيهم، ويكنهم ويسكنهم، ويقضي لهم الحاجات، فكل ذلك متعلق بوالدهم، والمرأة متعلق حقها بزوجها؛ وذلك لأنه أخذها من أبويها، واستباح نكاحها، وحل له وطؤها، فأصبحت في حوزته، وفي حجره، وتحت إمرته، وتحت تصرفه، لا تقدر أن تتكسب إلا بإذنه، ولا تقدر أن تخرج من بيته إلا بإذنه، فأصبح لها حق عليه، وأصبحت هي تشتغل في بيته وتخدمه وتخدم ولده، وتربي له أولاده، فلابد أن ينفق عليها، وأن يعطيها ما يكفيها مقابل تمكينها له من الاستمتاع بها، ومن قضاء وطره، فلابد أن ينفق عليها، وأن يعطيها حقها، وهذا مجمع عليه.
وقد ذكر العلماء أن الناس ثلاثة أقسام: غني ومتوسط وفقير، وأن الغني ينفق على أهله من أفضل النفقة وأعلاها، النفقة المعتادة من البر ومن الأرز مثلاً، وكذلك من الأطعمة المعتادة من اللحوم ومن الفواكه وما أشبه ذلك على عادة أهل بلده، والتوسع في ذلك قد نهي عنه.
وأما المتوسط فإنه يقتصد في النفقة، فينفق من أوسط الطعام في البلد، فلا يتكلف شراء الغالي ورفيع الثمن، سواء من الطعام كالبر والأرز، أو من اللحوم، بل يأخذ من الوسط.
وأما الفقير فإنه يأخذ من أرخص الأطعمة؛ وذلك لفقره، ولأنه لو أنفق زيادة على ذلك لاحتاج إلى الاستدانة؛ ولذلك يؤمر بأن ينفق على أهله من أرخص الأطعمة، وألا يشتري الأشياء التي ليست ضرورية، بل يقتصر على الخبز مثلاً أو على الأرز دون أن يتكلف بشراء اللحوم، وبشراء الفواكه، وبشراء الخضار وما أشبه ذلك.
وهكذا أيضاً في الكسوة، فكسوة الغني الثري أن يشتري لأولاده ولزوجته كسوة في كل سنة مرة أو مرتين، وتكون من أرفع الأقمشة وأحسنها وأضمنها، والمتوسط من متوسطها، والفقير من أرخصها.
وهكذا في سائر الأمتعة التي يحتاج إليها، وهذا كله داخل في قوله: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) أي: لا تأخذ زيادة، فإذا كان هو من الأغنياء فالمعروف هو نفقة الأغنياء، وإذا كان من المتوسطين فالمعروف نفقة أمثاله من المتوسطين سواء في الغذاء أو في الكسوة أو في الفرش أو في الأواني أو ما أشبه ذلك.
وبهذا يعلم أن الشريعة تكلفت ببيان كل ما يحتاج إليه، فبينت أمور النفقة، وتدخل الفقهاء في أمور الناس، وذكروا كيفية إنفاق المنفق من كثير أو من قليل، ومع ذلك كله فإنهم نهوا عن الإسراف وعن الإفساد وعن التبذير الذي فيه إتلاف للمال في غير فائدة، ولو أثرى الإنسان وامتلك مئات الألوف أو ألوف الألوف فلا يجوز له أن يفسد الأموال لا في الأطعمة ولا في الأكسية ولا في الأواني ونحوها، بل يمسك المال ولا يسرف فيه ولا يفسده، ويصرفه في وجوهه التي يؤجر عليها، فإنه سوف يجد من يتقبله من الفقراء، وسوف يجد مشاريع خيرية ينفق فيها ويصرف فيها هذا الزائد الذي ليس بحاجة إليه، وبذلك يخرج من قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} [النساء:5] ، ومن قوله: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء:27] .(73/7)
شرح حديث: (إنما أنا بشر، فلعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض)
قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن أم سلمة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصم بباب حجرته، فخرج إليهم فقال: إنما أنا بشر، وإنما يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو يذرها) .
وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة رضي الله عنه قال: كتب أبي -وكتبت له إلى ابنه عبد الله بن أبي بكرة وهو قاض بسجستان- لا تحكم بين اثنين وأنت غضبان، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان) وفي رواية: (لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان) ] .
حديث أم سلمة يتعلق بقضاء القاضي بحسب ما ظهر له، وفي هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصم، أي: خصوم سمعهم يختصمون ببابه، وكانت خصومتهم في مواريث بينهم قد اندرست، واشتبه عليهم حق هذا بهذا، فاختلفوا، وكل منهم يدعي أنه أولى وأن الحق له، فترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل أن يحكم بينهم أو أن يسمع كلامهم وعظهم بهذه الموعظة: أولاً: أخبرهم أنه بشر، والله تعالى قد وصفه بذلك، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف:110] أي: أنا إنسان مثلكم، لست ملكاً، ولست خلقاً آخر، قال الله تعالى عنه: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً} [الإسراء:93] اختص بأن ينزل عليه الوحي من الله تعالى، وأما علم الغيب فلا يعلمه، كما قال الله عنه: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ} [الأعراف:188] فأخبر بأنه بشر، والبشر لا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه، فهو يأتي عليه ما يأتي على البشر، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه سها مرة في صلاته، ولما انصرف قال: (إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني) .
ثانياً: أخبرهم أنه يحكم بما يسمع، وأن بعضهم قد يكون أقوى حجة وأبلغ من الآخر، وهذا شيء مشاهد، فإن الخصمين قد يكون أحدهما قوي البيان، بليغ اللسان، كثير الكلام، كلامه يفصل الأشياء، ويبين ما لم يكن بيناً واضحاً، ويظهر الأمور، حتى يوهم من يسمعه أن الحق باطل، وأن الباطل حق، ويسحر من سمعه، ويخدعه، ولعل هذا ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن من البيان لسحراً) يعني: بعض الناس أعطاهم الله لسناً وقوة بيان، فقد يظهر الحق في صورة باطل، والباطل في صورة حق، فيتوهم من يسمعه أن الحق معه، وأنه صادق.(73/8)
على القاضي ألا يتعجل في البت في القضية
قوله: (إن بعضكم قد يكون ألحن من حجته من بعض) يعني: أقوى وأقدر على إظهار حجته، بينما يكون الآخر عيياً ضعيف اللسان، لا يقدر على بيان حجته، وقد يكون الصواب معه، فينقلب الحق عليه، وينقلب الباطل حقاً، والحق باطلاً، فيتوهم القاضي أن هذا هو الصادق، وأن هذا ليس بصادق؛ ولأجل ذلك فإن على القاضي أن يتأنى، وألا يأخذ الكلام على عواهنه، وألا يصدق من يقول بمجرد القول والكلمة، بل عليه التأني والتثبت إلى أن يتضح له الحق، ويظهر له جلياً.
وكأنه صلى الله عليه وسلم ينبه القضاة على ألا يعجلوا في البت في القضية حتى يسمعوا كل ما له صلة بهذه القضية، وألا يصدقوا من كان بليغاً في المقال، ومن كان كثير الكلام، حتى يتبين صدقه وأحقية ما قال، ويأخذ أيضاً ما لدى الطرف الثاني، ويتثبت في ذلك، فيعرف القاضي بعد ذلك كيف يقضي، وقد ذكرنا أن علياً رضي الله عنه كان أقضى الصحابة كما روي أنه قال: (وأقضاكم علي) ، وأنه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعت كلام الخصم فلا تقضي له حتى تسمع كلام الثاني، فإنك ستعرف كيف تقضي) ، قال علي: فما زلت قاضياً.(73/9)
حكم القاضي بحسب الظاهر
في هذا الحديث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحكم بما يظهر له، وأن بعض الخصمين قد يكون كاذباً، ويعلم كذب نفسه، ويعلم أنه طلب ما ليس له، وأنه اعتدى على حق غيره، إما أنه جحد حقاً عليه لخصمه، وإما أنه عرف تعديه على ملك غيره، وأخذه ما لا يستحقه، وأخذه من ملك لا حق له فيه، أو نحو ذلك، فلا شك أنه إذا عرف ذلك، ثم تقدم إلى القاضي وأراد أن يأخذ بقدر ما يدعيه، فإنه ظالم سواء أتى بشهود زور كذبوا في شهادتهم أو حلف يميناً فاجرة يعرف فجوره فيها، أو أكثر من القول ومن التظلم ومن إظهار الصدق وأنه صادق وأن الصواب معه؛ حتى يوهم من يسمعه أنه مظلوم، وأنه صادق في قوله، فيحكم له القاضي بمجرد قوله، وهو في الحقيقة ظالم وليس بمظلوم، وهو يعلم من نفسه ذلك؛ فلا يحل له ما أخذ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار، فليأخذها أو ليدعها) .
هكذا وعظ هذين الخصمين، وأخبر بأنك -أيها الخصم الذي تعرف ظلمك وتعرف عدوانك- إذا كنت عارفاً بأن هذا لا يحل لك، وكنت تعرف أنك معتدٍ بحجتك، معتدٍ في قضيتك، وأن أخاك وخصمك مظلوم معتدى عليه وعلى حقه، فكيف مع ذلك تقدم على هذا؟ إن هذا الذي أخذته ولو استمتعت به في الدنيا؛ فإنه سيكون وبالاً عليك، وستعذب به عذاباً وبيلاً، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من اقتطع مال أخيه بيمين هو فيها كاذب لقي الله وهو عليه غضبان، قيل: يا رسول الله! وإن كان شيئاً يسيراً؟ قال: وإن كان قضيباً من أراك) يعني: عود سواك قدر ما يقبضه القابض، ما قيمة هذا العود السواك؟! إذا حلف أنه له وهو ليس له لقي الله وهو عليه غضبان، والله تعالى إذا غضب على عبده فلا يقوم لغضبه شيء.(73/10)
على القضاة نصح الخصوم
من واجب القضاة أن ينصحوا الخصوم، ويجب على الخصم ألا يقدم على خصومة وهو يعلم أنه لا حق له في هذه الدعوى التي يدعيها في مال أخيه، بل يعلم أنه معتدٍ ظالم خاطئ في تقدمه بهذه الدعوى، وقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم الاعتداء على الحق، حتى قال: (من اغتصب شبراً من الأرض طوقه من سبع أراضين) شبراً من الأرض إذا أخذه بغير حقه جعل طوقاً في عنقه يوم القيامة، فماذا يفعل؟ وهل يستطيع أن يحمله من سبع أراضين؟ جاء في بعض الروايات: (خسف به إلى سبع أراضين) ، وهذا فيه التخويف من اغتصاب الأرض، وكذلك اغتصاب الأموال الأخرى، فإنه يأتي بها وهو يحملها كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى ظهره بعير له رغاء) يعني: قد أخذه بغير حقه، (يقول: يا محمد يا محمد! فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته بقرة لها خوار، لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته شاة لها يعار -يعني: ثغار- لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته رقاع تخفق -يعني: الأكسية ونحوها- قد أخذها بغير حق) ، وهكذا بقية الأموال المغصوبة يأتي بها الظالم يوم القيامة، فالقاضي عليه أن يذكر الخصوم، وأن يبين لهم قبل أن يحكم بأنك أيها الظالم تعرف ظلمك، وتعرف اعتداءك، وتعلم أنه لا حق لك في هذا، ولكن حملك عليه الجشع، وحملك عليه التعدي، فلا حق لك فيه، فترفق وارفق بنفسك، فإن هذا الذي تأخذه تأتي به يوم القيامة، وتعذب به ويكون قطعة من النار، ولو حكم به القاضي فحكم القاضي إنما هو على الظاهر؛ لأنه لا يعلم بواطن الأمور، فلا يصير الحكم حلالاً، قال الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة:188] أي: ترفعوها إلى الحكام ثم تستدلوا بحكم الحاكم أنه حلال، حكم الحاكم لا يغيرها، ولا يجعل الحرام حلالاً، بل هو حرام عليك ولو حكم به عشرون قاضياً، فهو لا يزال حراماً، فحق أخيك المسلم الذي أخذته عدواناً وظلماً لا يصيره حكم الحاكم حلالاً.(73/11)
شرح حديث: (لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان)
حديث أبي بكرة فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحكم الحاكم بين اثنين وهو غضبان) ، وهذا تأديب من النبي صلى الله عليه وسلم للقضاة، وكأنه أراد أن القاضي يحكم في حالة قد اطمأن فيها قلبه، وقد ارتاح فيها بدنه، ولا يحكم إلا بعد التروي، وبعد التعقل، وبعد تتبع الحجج، وبعد التفقه فيها، وبعد النظر، وبعد البحث، وبعد معرفة صحة أو بطلان ما يدعيه وما يقوله كل منهما، وهذا لا يحصل إذا حكم وهو غضبان، والغضب قد يكون بسبب أحدهما، فقد يتكلم عليه أحدهما ويقول له مثلاً: أنت جائر، أو أنت خصم، أو أنت تحكم بالهوى، أو نحو ذلك، فيغضب من هذه الكلمة، فإذا أغضبه فلا يحق له أن يوقع به؛ وذلك لأن الخصمين دائماً كل منهما يوجه سباباً وكلاماً بذيئاً على خصمه، فلا يستنكر هذا.
وهكذا إذا رأى أحد الخصمين من القاضي إقبالاً على أحد الخصمين؛ فقد يتهمه بأنه يميل معه، فيلقي له كلمة، فالقاضي الذي يسمع مثل هذه الكلمة لا يعيرها اهتماماً، وإذا غضب فعليه أن يتوقف عن القضاء، ولا يحكم في تلك الحال، حتى يهدأ ويذهب عنه الغضب؛ لأنه إذا حكم وهو غضبان فربما ظهر في قضائه ميل نحو الخصم الذي أغضبه أو سبه أو عابه أو قدح في عدالته، فيكون ذلك ظلماً وجوراً، وهذا لا يجوز في الشرع.(73/12)
ما يلحق بالغضب المانع من حكم القاضي
قال العلماء: إن الغضب كمثال، ويلحق به كل حالة يكون القاضي فيها ضجراً، فلا يحكم حتى يذهب عنه ذلك الضجر، فإذا جاءه أمر يغمه فلا يقضي وهو مغموم، وإذا اهتم لأمر من الأمور فلا يقضي حتى يزول عنه ذلك الهم، وإذا أتاه ما يحزنه على أمر قد فات من مرض أو موت أو نحو ذلك فلا يقضي حتى يذهب عنه ذلك الحزن، وكذلك لا يقضي في حالة جهد شديد وتعب مضني، ولا يقضي في حالة مرض شديد، ولا يقضي وهو جائع، ولا يقضي وهو ضمآن، ولا يقضي وهو ناعس أو بحاجة إلى راحة، ولا يقضي وهو مهموم بأمر من الأمور، لا يقضي في حالة شدة برد أو في حالة شدة حر أو نحو ذلك؛ لماذا؟ لأن هذه الأشياء تمنعه من التأمل في القضية، ومن التعقل في أطرافها، ومن تتبع الأطراف، وتتبع القضايا، وعرضها على فكره وعقله، فيكون في هذا التسرع ما يسبب خطأه، ويسبب وقوع الغلط في قضائه، فيندم بعد ما يفوت الأوان، فإرشاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عدم القضاء في حالة الغضب يلحق به كل ما يقلق القاضي ويضجره حتى لا يعجل في القضية، ولا يقدم عليها إلا بعد تتبع أطرافها، وهذه إرشادات نبوية لئلا يقع ظلم أو حيف أو اعتداء على بعض الخصوم، فيقع القاضي في الظلم ويتسبب في أخذ الحق من مستحقه.(73/13)
شرح حديث: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)
قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثاً؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، فقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه) ] .
هذان حديثان يتعلقان بالقضاء، فالحديث الأول يتعلق بشهادة الزور وقول الزور، والحديث الثاني يتعلق بكيفية القضاء، كيف يقضي القاضي بين اثنين إذا تنازعا؟ فأما الحديث الأول فأخبر أن شهادة الزور من أكبر الكبائر، يقول: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس وقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قالوا: ليته سكت) ! الكبائر هي الذنوب الكبيرة التي تحتاج إلى التوبة، فمنها ما لا يغفر إلا بالتوبة كالشرك، ومنها ما يكون تحت المشيئة كالكبائر التي دون الشرك.(73/14)
الشرك أكبر الكبائر
قوله: (ألا أنبئكم) يعني: ألا أخبركم بأكبر الكبائر؟ وقد عرفوا أن الذنوب فيها كبائر وفيها صغائر، وأن الكبائر منها كبير ومنها أكبر، فكأنه أراد أن يخبرهم بالأكبر من الكبائر، فلما قالوا: بلى، ابتدأ بإخبارهم فقال: (الإشراك بالله) ، ولا شك أن الشرك بالله هو أكبر الكبائر؛ وذلك لأنه يوجب الخلود في النار إن كان شركاً أكبر، أو يسبب دخولها إن كان أصغر، يقول الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة:72] وغير ذلك من الآيات، والمراد بالشرك هنا أن تجعل العبادة بين الله وبين غيره، أن يجعل أحد العبادة أو بعضها مشتركةً بين الخالق وبين بعض المخلوقين، فيشرّك المخلوق في حق الخالق، ويجعل المخلوق شريكاً لله، فيدعو الله ويدعو غيره، ويخاف الله ويخاف غيره، ويحب الله ويحب غيره، وما أشبه ذلك، وهو الذي ذكره ابن القيم في قوله: والشرك فاحذره فشرك ظاهر ذا القسم ليس بقابل الغفران وهو اتخاذ الند للرحمن أياً كان من حجر ومن إنسان يدعوه أو يرجوه ثم يخافه ويحبه كمحبة الديان فهذا الشرك أكبر الكبائر.(73/15)
عقوق الوالدين
قوله: (وعقوق الوالدين) ، الوالدان لهما حق كبير على أولادهما، فالإحسان إليهما يقرن بالتوحيد، وعقوقهما يقرن بالشرك، وكثيراً ما ذكر الله تعالى حق الوالدين بعد حقه كما في قوله: {أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14] ، وفي قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [النساء:36] ، وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [البقرة:83] (لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ) هذا التوحيد، (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) هذا هو البر، فأعظم الحسنات التوحيد ثم البر، وأعظم السيئات الشرك ثم العقوق، والعقوق مشتق من العق وهو القطع، والعاق كأنه قطع الصلة بينه وبين أبويه، فبدل الإحسان أساء إليهما، وبدل البر عقهما، وبدل أداء حقوقهما جحد فضلهما.
ولا شك أن للوالدين حقاً كبيراً على أولادهما؛ ولذلك قال تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:23-24] وهذا تعليم من الله تعالى بكيفية البر، والتأفيف أقل ما يتصور من القول السيء، فعرف بذلك أن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر، والأحاديث في ذم العقوق كثيرة معروفة.(73/16)
شهادة الزور
قوله: (وكان متكئاً فجلس) ، لما تكلم بأول الكلام كان متكئاً على جدار أو نحوه، ولأهمية ما سيذكره استوى جالساً متربعاً، وأخذ يكرر قوله: (ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور) ، ومع تكراره أشفقوا عليه، ورأوا أنه قد تأثر من الانفعال فقالوا: ليته يسكت أي: قد شق على نفسه بهذا التأثر، وتمنوا أن يسكت من شدة تكراره، ومن شده تأثره، ولا شك أنه لا يتأثر إلا من شيء له أهمية، فهو دليل على أن قول الزور وشهادة الزور من أكبر الكبائر؛ ولذا أشفق على أمته أن يقعوا في قول الزور أو في شهادة الزور.
والزور هو الكذب، والتزوير معروف وهو التدليس والكذب في أمر من الأمور، يقال: زور فلان على فلان يعني: كذب عليه، وكتب عنه أنه قال: كذا، أو قلد كتابته أو نحو ذلك؛ حتى يظلمه، ويطلق الزور على كل من كذب على غيره، ولا شك أنه يعم الكذب على الله تعالى وعلى رسله، فإنه من أكبر الكبائر، وقد قرنه الله تعالى بالشرك في آية أخرى في سورة الحج، يقول تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30] اجتنبوا الرجس أي: الشرك، والزور هو الكذب، ومدح الذين يتجنبونه بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:72] قيل: لا يحضرونه وقيل: لا يشهدون به، وبكل حال فهذا دليل على عظم الكلمة.
وشهادة الزور هي الشهادة عند القاضي كذباً وزوراً وإثماً، جعلها النبي عليه الصلاة والسلام من أكبر الكبائر، وما ذاك إلا لأنه يترتب عليها مظالم، فإن القاضي يبني على شهادة الشاهدين، فيحكم بما شهدا به، ومتى كانا كاذبين تحملا ذلك الإثم، فإذا اقتطع من هذا حقاً بموجب شاهدين كاذبين فهما الظالمان وهما الآثمان، وعليهما جرم ذلك الظلم، لا على القاضي؛ لأنه بنى على شهادة غيره، ولهذا روي عن شريح -وقد كان قاضياً لـ علي ولمن بعده- أنه أوصى بعض القضاة بقوله: إن القضاء جمرة فاجعل بينك وبينها عودين يقيانك منها، فسئل: ما هما العودان اللذان تأخذ بهما الجمرة؟ فقال: الشاهدان، فهما اللذان يقبضان هذه الجمرة، فإذا كنت تريد أن تقضي فكأنك تقطع جمرة من هذا لهذا، فلا تمسها، ولكن دع الذي يمسها غيرك، وهما الشاهدان، فإذا كانا كاذبين فهما الآثمان.
وقد وردت الأدلة في ذم شاهد الزور، حتى روي في بعض السنن: (لا تزول قدما شاهد الزور حتى يستوجب النار) ، أو (حتى يوجب الله له النار) أي: بموجب شهادته كأنه لما اقتطع بهذه الشهادة حقاً لمسلم عاقبه الله بهذا العذاب، وهو استحقاقه لعذاب النار وبئس القرار.
وقد تساهل الناس في هذه الأزمنة بشهادة الزور، فصاروا يشهدون حمية، يشهد أحدهم حمية لقريبة أو تعصباً أو نحو ذلك، ويشهد بعضهم لمصلحة كأن يبذل له المشهود له مالاً حتى يشهد له، فيأخذ مالاً دنياً دانياً مقابل أن يبيع دينه، ويستوجب عذاب الله، وشر الناس من ظلم الناس للناس، لا ينتفع بهذا بل ينفع غيره ويضر نفسه، فلو فكر في أنه يوصم بأنه كاذب، ويوصم بأنه آثم، ويوصم بأنه مزور، وهذه صمات كبيرة، وهي بعض ما يستحقه، فيشتهر بعد ذلك أنه شاهد زور، ويجب أن يشهر أمره إذا علم أنه شاهد زور، وذهب بعض العلماء إلى أنه يطاف به في الأسواق وفي الطرق، ويشهر ويقال: هذا شاهد الزور، هذا شاهد الزور؛ حتى يتجنبه الناس ويعرفون كذبه، وأنه قد تعمد الكذب، فيرتدع الناس حتى لا يشهدوا مثل شهادته مخافة الفضيحة، وكذلك يعرفونه فلا يقبلون قوله، ولا يقبلون معاملته، فيبوء بعد ذلك بالذل والهوان.
يجب أن يتثبت الإنسان فلا يشهد إلا بما استيقنه، روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل: (ترى الشمس؟ قال: نعم، قال: على مثلها فاشهد أو دع) أي: لا تشهد إلا على شيء تتيقنه كما تتيقن أن هذه هي الشمس إذا طلعت، فلا تشهد وأنت شاك أو متوهم، لا تشهد بما لا تعلم، وحكى الله عن إخوة يوسف أنهم قالوا: {وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ} [يوسف:81] ، فذكروا أن شهادتهم إنما هي بما وصلت إليه معرفتهم، وبما رأوه دون أن يعلموا حقائق الأمور، فالشاهد يشهد بما ظهر له، فإن كان متيقناً أقدم، وإلا أحجم.(73/17)
شرح حديث: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء قوم وأموالهم)
حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء قوم وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه) هذه رواية الصحيحين، ورواية أهل السنن: (البينة على المدعي، واليمين على من أنكر) ، ويعتبر هذا الحديث من جوامع الكلم حيث إنه بيّن كيف يقضي القاضي؛ وذلك لأنه كثرت الدعاوي، فيوجد من يدعي وهو كاذب ظلماً وبهتاناً، فلو أعطي بدعواه لادعى أن هذا قتل أباه، ويريد قتله، أو أن هذا انتهب ماله، أو أن هذا ظلمه، أو أن هذا ضربه وهو كاذب؛ حتى يحصل على مالٍ أو يحصل على ديةٍ أو يحصل على شفاء نفسه؛ فيكثر الظلم، ويعطى من لا يستحق غير ما يستحق.
بين عليه الصلاة والسلام أن على المدعى عليه اليمين: (اليمين على المدعى عليه) ، والمدعى عليه هو الذي إذا ترك سكت، وهو الذي يحب أنه يخلى سبيله، جاءه إنسان وقال: أنت يا هذا عندك لي حق، عندك لي دين، أو ظلمتني، أو أخذت مالي، أو اقتطعت أرضي، أو سفكت دمي، أو قطعت طرفي، أو قتلت ابني، أو هدمت جداري، أو قلعت شجرتي، أو صدمت سيارتي، أو نحو ذلك؛ فأنكر، وقال: ليس هو أنا، ما فعلت شيئاً من ذلك، لست أنا خصمك، وليس عندي لك حق، فالمدعي المطالب هو المبتدئ، والمدعى عليه يريد الهروب، ويريد السلامة، ينكر ذلك، وينكر أن يكون عنده شيء، ويحب أن يترك ويخلى سبيله، فلما كان جانبه أقوى -لأن الأصل البراءة- جعلت اليمين عليه، فإن اليمين تكون مع من جانبه أقوى، فيقال له: إما أن تثبت ببينة وشاهدي عدل أن هذا ظلمك وأخذ حقك وإما أن يحلف خصمك، وتبرأ منه، وقد وقع ذلك في حديث الأشعث بن قيس الكندي لما تخاصم هو ورجل من كندة في أرض، فقال: إنه اعتدى على أرضي، فقال الكندي الآخر: إنها أرضي ورثتها من أبي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للأشعث: (ألك بينة؟ قال: لا، قال: فلك يمينه، فقال: إذاً يحلف ويأخذ أرضي) ، وفي رواية قال: (إنه رجل فاجر لا يبالي بالكذب، فقال: ليس لك إلا يمينه) ، ثم إنه عليه السلام أخبر بشدة عذاب من حلف كاذباً، فقال: (من حلف يمين صبر وهو كاذب ليقتطع مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان) ، ونزلت في ذلك الآية الكريمة في سورة آل عمران: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} [آل عمران:77] يعني: حظاً دنيوياً عاجلاً {أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:77] انظروا كيف توعد الله من حلف وهو كاذب، فعلى الشاهد أن يتثبت في شهادته، والحالف لابد أن يتثبت في حلفه، مخافة أن يأخذ بيمينه ما لا يحل له، ومخافة أن تنزل به عقوبة إذا حلف وهو كاذب، وبالأخص إذا حلف على أمر ماضٍ وهو يعلم أنه كاذب فيه، وهذه تسمى اليمين الغموس، فإنه يوشك أن يعاقبه الله عاجلاً، وقد ورد في بعض الآثار: (إن اليمين الكاذبة تدع الديار بلاقع) يعني: من حلفوا وهم كاذبون يسلط الله عليهم الآفات والمصائب والموت، ذكر ابن عباس أن رجلاً من قريش في الجاهلية قتله رجل من العرب، فطلبوا ديته فقالوا: ما قتلناه، فقالوا: يحلف منكم خمسون، فأحد الخمسين دفع ناقتين وقال: اعفوني من اليمين، والثاني من الخمسين أعفوه لأنه صهر لقريش، وثمانية وأربعون حلفوا وقالوا: ما قتلناه، فما دارت السنة وفيهم عين تطرف، هكذا في صحيح البخاري عن ابن عباس، فلذلك يتوقى من الحلف كاذباً كما يتوقى من الشهادة كاذباً.(73/18)
شرح عمدة الأحكام [74]
الحلال بين والحرام بين، ومن جملة ذلك المطعومات من أنواع اللحوم، فمنها ما هو بين الحلية، ومنها ما هو بين الحرمة، ومنه ما هو موضع اشتباه واختلاف بين العلماء رحمهم الله، ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه.(74/1)
شرح حديث: (إن الحلال بين وإن الحرام بين)
قال المصنف رحمه الله: [كتاب الأطعمة: عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول -وأهوى النعمان بأصبعيه إلى أذنيه-: (إن الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) .
وعن أنس رضي الله عنه قال: أنفجنا أرنباً بمر الظهران، فسعى القوم فلغبوا وأدركتها فأخذتها، فأتيت بها أبا طلحة فذبحها، وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوركها أو فخذها فقبله] .
تحل الأطعمة سواء من اللحوم أو من النباتات، وقد تقدم حكم المعاملات من البيع والشراء، والتجارة، وتنمية الأموال، وبعض المكاسب، والإيجارات وما أشبهها، وتقدم متى تكون حلالاً، ومتى تحرم ويكون فيها غش أو ربا أو غرر أو خداع، أو نحو ذلك، وأما هنا فأرادوا بيان الأطعمة التي أحلها الله والتي حرمها، فيذكرون في هذا الكتاب ما يباح من المأكولات ومن الأشربة وما أشبهها.
الله تعالى أحل الأطعمة التي لا ضرر فيها، وحرم ما فيه ضرر؛ لأن الله خلق هذه الأرض وخلق ما فيها مسخراً لمنفعة البشر كما في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة:29] (لَكُمْ) أي: مسخراً لكم، لكن إذا كان فيه ضرر فإنه ينتفع به في غير الأكل.
فجميع ما على وجه الأرض كله خلق لأجل الإنسان، لكن كثيراً من هذه المخلوقات خلقها الله تعالى لتكون آية ودلالة وعبرة على قدرة الخالق تعالى، وليعتبر بها العقل، ويعتبر بها الإنسان، ولا نتوسع في هذا فالباب طويل، ولكن نعود فنقول: المأكولات التي أحلها الله تعالى هي الطيبات، قال تعالى: {كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً} [البقرة:168] ، وقال: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:57] ، وقال تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] ، وهذا النبات الذي ينبت في الأرض منه ما هو غذاء للإنسان كالحبوب والثمار التي لا ضرر فيها، ومنه ما هو غذاء للدواب، يقول تعالى: {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} [طه:54] ، ويقول تعالى: {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل:10] أي: ترعون دوابكم السائمة التي هي راعية بأفواهها (تسيمون) أي: ترعون.
ولا شك أن الطيبات معلومة بالطبع، وبفكر الإنسان، وبعقله، فيرجع فيها إلى أهل الخبرة وأهل المعرفة، فمعلوم أن أكل السموم والأشياء الضارة محرمة لكونها ليست طيبة، ولكنها ضارة وخبيثة، ومعلوم أن أكل السباع وأكل الدواب الصغيرة كالبعوض والحشرات الصغيرة من المستخبثات، فلا تدخل في الطيبات، فإذاً: يبقى ما هو من الطيبات على أصله، وهذا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (الحلال بين والحرام بين) فإن الطيبات بينة واضحة، والخبائث بينة واضحة، فالنفس تستخبث الجيف، وتستخبث النجاسات والقاذورات، وتنفر منها، ولو لم تكن عندها معرفة بتفاصيل الشريعة، وكذلك تستخبث الحشرات، يستقبح الإنسان أن يأكل الذباب أو يأكل الذر أو يأكل النمل، أو يأكل السوس من الدود، أو يأكل الحشرات الأخرى كالبعوض، والنحل، والزنابير، وكذلك العظاية وسام أبرص والوزغ والسحلية، ولا شك أن نفسه تتقزز أن يأكل من هذه الأشياء، فعرف بذلك أنها خبيثة، فهي من الحرام البين.
وكذلك يعرف أن أنواع الخبز الذي يصنع من البر أو من الأرز ونحوه من الطيبات، وأنه طعام طيب، وكذلك اللحوم الطيبة المذكاة يعرف أنها طيبة، وكذلك الصيد الذي يقتل ويصاد من الظباء وما أشبهها يعرف أنها من الطيبات؛ فلذلك قال: (الحلال بين) ، وهو هذه الطيبات التي أحلها الله (والحرام بين) ، وهي الخبائث، والخبائث هي كل شيء ضار بالبدن أو ضار بالعقل، فالضار بالبدن مثل أكل الجيف وأكل لحم الخنزير؛ لأنه يتغذى بالنجاسات والأقذار ونحوها، فهذه لا شك أنها ضارة بالبدن، وتسبب ضرراً في تغذية البدن ونحوه، ولا تؤكل إلا عند الضرورة وخوف الموت، فقد أباحها الله عند الضرورة في قوله: {فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:3] .
وأما الطيبات فإنه يعرفها بفكره، ويعرفها بعقله، ويميز بين ما هو ضار وما هو نافع.
وكذلك أيضاً يعرف أن من الطيبات الأشربة المباحة من الألبان والمياه وما حلي بعسل أو نحوه يعرف أنها من الأشربة الطيبة، وإذا كانت تضر بالعقل كالخمور ونحوها فإنها من الخبائث؛ لأنها ضارة بالعقل؛ ولأجل ذلك تسمى الخمر أم الخبائث، ومثلها ما هو ضار بالبدن كهذا الدخان الذي هو التنباك، فلا شك أنه من الخبائث؛ لأنه لا يسمن ولا يغني من جوع، ولأنه يضر بالبدن، ويعرف ذلك الذين حللوه، فهو من الحرام البين.
وهكذا كل المباحات هي بينة لمن وفقه الله ورزقه معرفة وعقلاً، أما الذين زين لهم الشيطان الحرام، فاستحسنوا القبيح واستقبحوا الحسن، فهؤلاء لا عبرة بهم، فالذين يستحسنون أكل لحم الخنازير ويقولون: إنها دواب من جملة الدواب التي على الأرض، وهي داخلة في قوله: (لَكُمْ) ، ف
الجواب
أنها لما كانت خبيثة تتغذى بالنجاسات ونحوها دخلت في الخبائث، والذين يستحسنون الخمور ويسمونها: أشربة روحية نسوا أنها تزيل العقول، وأنها تلحق أهلها بالمجانين، ولا شك أنها محرمة لأجل هذه العلة، والذين يستحسنون شرب الدخان ويقولون: لا ضرر فيه، نسوا أنه لا نفع فيه البتة، وفيه أضرار كثيرة يعرفها من قرأ في تحاليله، وإذا كان فيه ضرر وليس فيه نفع فهو خسران مبين، فيه خسارة بعض المال، وإحراق له في غير منفعة بل في مضرة.
إذاً: هناك من تنعكس فطرته، وتنقلب معرفته، فيرى الحلال حراماً، ويرى الحرام حلالاً، ويخيل إليه ما هو قبيح حسناً، فمثل هذا لا عبرة به، بل العبرة بأهل العقول الذكية، ثم يرجع في ذلك إلى ما شرعه الله، وإلى ما وضحه فيقال: إن الله تعالى قد بين ما هو حلال وما هو حرام بياناً واضحاً كافياً، فيرجع إلى بيانه، فحرم الخمر، وحرم كل ما هو ضار بالبدن، وحرم الخبائث بقوله: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] ، وحرم كل ما يضر بالدين أو يقدح فيه من الأشياء التي تضره، فحرم المعاملات الربوية والغش في المعاملات والغصب والسرقة وأخذ المال بغير حق والنهب والظلم وما أشبه ذلك؛ لأن في ذلك أخذ لما لا يستحقه المسلم، فدل ذلك كله على أن الحلال بين، وأن الحرام بين؛ ببيان الله تعالى وبيان رسله عليهم الصلاة والسلام.(74/2)
ترك المشتبهات
قوله: (وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس) ، وفي رواية: (وبينهما مشبهات) ، هذه المشبهات قد تشتبه على بعض الناس إما في وجه الكسب، وإما في وجه المدخل، وإما من حيث الأصل، فتشتبه على الناس، فتتعارض فيها الأدلة أو الأقيسة، أو لا يوجد فيها دليل، ولها شبه بهذا، ولها شبه بهذا، فتلحق بما هو أقرب لها.
فمن الدواب ما اختلف في حله وفي حرمته، فاختلفوا في لحم الخيل هل هو حلال أو حرام؟ فذهبت الحنفية إلى أنها حرام وألحقوها بالحمر، وذهب الجمهور إلى أنها حلال، واستدلوا بما ورد فيها من الأحاديث، مثل حديث أن النبي عليه الصلاة والسلام (حرم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل) .
واختلفوا في أكل الفيل هل من هو الدواب المباحة أم لا؟ والجمهور على أنه حرام لأنه ذو ناب واختلفوا في أكل الزرافة، وأكثرهم على أنها حلال لأنها أشبه ببهيمة الأنعام.
واختلفوا في أكل الضب، والجمهور على أنه حلال، وإن وردت فيه بعض الأدلة التي تدل على كراهته.
واختلفوا في أكل الجراد، والجمهور على أنه حلال؛ لأن العرب تستطيبه، ولما ورد من الأحاديث في إباحة أكله.
واختلفوا في أكل الدلدل ويسمى النيص وأكثرهم على أنه ملحق بما تستخبثه العرب، ولكن إذا غلب على الظن أن هذا الشيء مختلف فيه، وأن النفس تميل إلى النفرة منه؛ فإن الإنسان يترك الشيء المشتبة.
أما الضبع فهو ملحق بما يأكل الجيف، وله ناب، ويفترس، فلأجل ذلك قال الجمهور: هو حرام، وجعلها بعضهم من المستثنى، وأباحها لأجل ما ورد فيها من الأحاديث، ولكن الورع ترك المشتبهات.
وأما الأرنب ففيها هذا الحديث الذي في الصحيحين، يقول أنس: أنفجنا أرنباً بمر الظهران، فسعى القوم فلغبوا، يعني: تعبوا، فأدركتها فأخذتها، فأتيت بها أبا طلحة فذبحها وبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوركها فقبله، فدل على أنها من المباح؛ لأنهم سعوا في أثرها، فدل على أنها مباحة الأكل، وقال بعضهم: إنها تحيض؛ ولأجل ذلك لا تباح، ولكن لا دليل على كراهتها.
وعلى كل حال فالإنسان إذا اطمأنت نفسه إلى شيء فإنه من المباح، وإذا نفرت نفسه من هذا الشيء فيتركه حتى يقوم عنده دليل على حرمته أو على إباحته بناء على الأصل.
وأما المعاملات فقد تقدم أن الكثير من المكاسب قد يكون فيه اشتباه على الإنسان، يشتبه عليه هذا المكسب، أو هذه المعاملة هل هي من المباح أم لا؟ فيشتبه عليه هذا المال الذي جاءه من هذه الجهة هل هو حلال أو حرام؟ فيدخل في قوله: (وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس) ، وإذا اشتبه عليك هذا الأمر، وتقززت نفسك منه، فإن الأولى الصبر عنه؛ ولأجل ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك) ، وقال قبل ذلك: (استفت قلبك) يعني: انظر إلى هذا الشيء؛ هل تجد أن نفسك ترتاح لهذه المعاملة أم تجد أن نفسك تكرهها وتتوقف فيها؟ هذا من جهة، ولكن قد يكون بعض الناس معهم شيء من التساهل، فيتوسعون في المكاسب ويأخذون أموالاً بغير حق باسم أجرة أو باسم جعالة؛ وإن كانت لم تطب بها نفس الذي بذلها، أو أنه لا يستحقها لسبب من الأسباب، فإذا لم يكن لها جهة شرعية فما أحسن التورع، والبعد عنها، والسلامة من مآثمها؛ حتى يطيب مأكل الإنسان؛ لأن الأكل إذا كان طيباً كان البدن طيباً، وسلم من العذاب، وإذا تغذى البدن على حرام كان البدن آثماً أو نجساً، وفي بعض الأحاديث: (كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به) .
فعلى المسلم أن يكون متنزهاً عن الآثام، وأن يكون متحرياً للصواب، وأن يكون ورعاً عما ليس بحلال واضح الحلية، وهذا معنى قوله: (من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) ، فالشبهات هي هذه الأمور المشتبهة التي تأتيك، يأتيك هذا المال باسم مساعدة، وقد يكون قصد صاحبه أن يعطيك لأجل أن تشفع له، أو لأجل أن تقربه، أو لأجل أن تزيد له في سعر، أو أن تنقص له في ثمن، أو ما أشبه ذلك، ولا تطيب به نفس صاحبه، فيكون حراماً أو يكون مشتبهاً، فإذا توقيت هذه الأمور المشتبهة واقتصرت على ما هو حلال نجوت إن شاء الله من الحرام، واستبرأت لدينك، واستبرأت لعرضك، وأما من توسع في هذه المشتبهات فإنه يجره ذلك إلى الوقوع في الحرام؛ ولأجل ذلك قال: (من وقع في الشبهات وقع في الحرام) ؛ لأنها مع كثرتها لابد أن يكون فيها شيء حرام ولو كان قليلاً، ولو درهم من ربا أو شبيه بربا، أو شبيه برشوة، أو شبيه بغرر، أو شبيه بمال لم تطب نفس صاحبه، ولكن بذله قهرياً أو ما أشبه ذلك، فلا شك أنه والحال هذه يعتبر من المشتبه أو من الحرام.
وإذا وقع في كثير من المشتبهات وقع في الحرام ولا بد، ومثل له النبي عليه السلام بقوله: (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه) ، الحمى هي الأرض التي يحميها ملك من الملوك أو نحوه، فإذا جاء راعٍ بغنمه ورعى حولها فقد يغفل عنها فتدخل غنمه في ذلك الحمى، فيمسكه الحماة الذين يحمونها، ويعذبونه ويعاقبونه على دخوله، فهكذا الذي يقرب من الحرام لا يأمن أن يقع في الحرام.(74/3)
شرح حديث: (نحرنا على عهد رسول الله فرساً فأكلناه)
قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: (نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً فأكلناه) ، وفي رواية: (ونحن بالمدينة) .
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل) ، ولـ مسلم وحده قال: (أكلنا زمن خيبر الخيل وحمر الوحش، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحمار الأهلي) .
وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: (أصابتنا مجاعة ليالي خيبر، فلما كان يوم خيبر وقعنا في الحمر الأهلية، فانتحرناها فلما غلت بها القدور نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أكفئوا القدور، ولا تأكلوا من لحوم الحمر شيئاً) ] .
هذه الأحاديث تتعلق بالحلال والحرام من بهيمة الأنعام ومن الدواب ونحوها، وقد عرف أن الأصل في بهيمة الأنعام الحلّ وجواز الأكل، إلا ما ورد الشرع بالنهي عنه وتحريم أكله، فلا خلاف في أكل الإبل والبقر والغنم ضأناً أو معزاً؛ لأن الله سماها حلالاً، وسماها بهيمة الأنعام في قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:1] ، ويراد بها البهائم التي ذللت وسخرت للإنسان، وقال الله تعالى عن الإبل: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس:72] ، وذكر الله تعالى الغنم والبقر في قوله: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنْ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:143] ، وقال: {وَمِنْ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الأُنثَيَيْنِ} [الأنعام:144] ، وبقي هناك دواب سخرها الله تعالى أيضاً للإنسان كالخيل ذكرها في قوله: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل:8] ، وذكرها من الزينة في قوله قوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} [آل عمران:14] ، وذكرها في قوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60] ونحو ذلك.
فهذه الخيل مما سخرها الله تعالى للإنسان؛ ليركبها، وليحمل عليها، وليقاتل عليها، وللسباق ولغير ذلك، وفيها أيضاً زينة، وإذا كانت كذلك فإنها مباحة حلال الأكل؛ لأنها من جملة ما يسره الله وسخره للإنسان، فلا مانع من إباحة أكل لحمها بعد ذبحها وتذكيتها؛ لأنها من الطيبات، وتتغذى بالطيبات، والناس يتفاخرون بها ويحبونها، حتى مدحوها بقصائد كثيرة، يقول بعضهم: أحبوا الخيل واصطبروا عليها فإن العز فيها والجمال إذا ما الخيل ضيعها أناس ربطناها فأشركت العيال نقاسمها المعيشة كل يوم وتكسبنا المهابة والجمال وكانوا يفتخرون باقتنائها، فهي من الزينة التي سخرها الله وجعلها من زينة الدنيا؛ فلأجل ذلك رخص في أكلها، ففي حديث أسماء قالت: (نحرنا فرساً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه) ، ومعلوم أنه عليه الصلاة والسلام علم بذلك وأقره؛ لأن أسماء هي بنت أبي بكر، وهي أخت عائشة، وزوجها هو الزبير الذي هو ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان له خيل، فتلك الفرس يغلب على الظن أنها من خيل الزبير، ولابد أنه أطعم منها النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن أسماء أطعمت عائشة، وعائشة أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، فلا بد أنه أقر أكلها، وأنه أباحه، فهي من جملة الطيبات التي أباحها الله بقوله: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:57] ، وقوله: {كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون:51] .
وقد ذهب بعض العلماء كالحنفية إلى تحريم أكلها، وألحقوها بالحمر، وقالوا: إن الله ما ذكر فيها إلا أنها زينة في قوله: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل:8] ، فدل على أنها غير مأكولة، ولو كانت مما يؤكل لذكر النعمة بالأكل كما ذكرها في الإبل بقوله: {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس:72] ، ولو كانت مما يؤكل لشرعت في الهدي، وجاز أن تذبح في الأضاحي، وفي جبران المناسك ونحو ذلك، ولم يعملوا بهذا الحديث مع أنه في الصحيح، ومع كونها من الطيبات، ولم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن أكل لحمها، فهذه التعليلات لا تنفي الأكل؛ وذلك لأن الآية إنما ذكرت الأغلب، فالأغلب أن الناس يقتنونها للزينة وللفخر وللقتال عليها؛ ولأجل ذلك يرفعون في أثمانها، ويحبونها، ويغالون في اقتنائها، وفي اقتناء نسلها ونحو ذلك، وإذا كانت حلالاً فجميع ما ينتج منها حلال، فلبنها حلال يشرب إذا كان فيها لبن كما يشرب لبن البقر والغنم ونحوها، ولحمها حلال، وكذلك ينتفع بجلودها كما ينتفع بجلود غيرها من بهيمة الأنعام، وما أشبه ذلك.(74/4)
تحريم أكل الحمر والبغال
الحمر والبغال كانت حلالاً في أول الإسلام، ثم حرمت في سنة سبع، واستقر الأمر على تحريم هذا الحمار الأهلي، والمراد بالحمر الأهلية الحمر التي تركب وينتفع بها في الركوب وفي الحمل عليها ونحو ذلك، والحمار الأهلي ينتفع به في الركوب، وذلك لأنه يصبر على الركوب، وقد يكون سيره أسرع من سير الإبل أو قريباً منها، وإن كان لا يحمل عليه الأثقال الكبار، ولا يركب إلى البلاد البعيدة؛ لكونه لا يحمل شيئاً كثيراً غير الراكب ونحوه، ولكن هو مما سخره الله للركوب كما في قوله: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل:8] ، ولكن ورد ذم صوته: {إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19] وفي هذا ذم له من هذا الوجه، وورد أيضاً ذمه في آية أخرى في قوله: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5] فالحمار معروف أنه لا يستفيد من حمل الأسفار يعني: من حمل الكتب، فجعله مثلاً للذين {حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} [الجمعة:5] وهذا يفهم منه أنه مذموم؛ فلأجل هذا ورد تحريم أكل الحمر الأهلية، وذلك أنهم لما كانوا في غزوة خيبر في أول سنة سبع من الهجرة، وحاصروا خيبر، كأنه أصاب بعضهم جوع، فلم يجدوا أقرب من هذه الحمر فذبحوها، سواء كانت ملكاً لهم أو غنيمة مما غنموه من دواب أهل خيبر، فذبحوها ونصبوا القدور في ليلة مظلمة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: (ما هذه القدور؟ أو قال: على أي شيء توقد هذه القدور؟ قالوا: على لحم الحمر الإنسية، فقال: أهريقوها واكسروها -من باب الغضب- قالوا: أونهريقها ونغسلها؟ قال: أو ذاك) ، ومشى هو وبعض صحابته، وأخذوا يهرقون تلك اللحوم التي في القدور، وأخذ يدوسها في التراب ويتربها ونادى في تلك الليال: (إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس) ، وفي رواية: (ركس) ، وتكاثرت الأحاديث في أنه صلى الله عليه وسلم نهى في تلك الليالي عن لحوم الحمر الأهلية، ولو كانت من بهيمة الأنعام، ولو كانت مما يركب ويعلف، لكن لم يذكر العلة، ولعله قذارتها، فإنها قد تتغذى بالنجاسات، فقد تأكل العذرة والنجاسات وتتغذى بها، وإن كان ذلك ليس أغلبياً؛ لأنها في الأصل تأكل من النباتات ونحوها.
فبكل حال جاءت هذه الأحاديث صريحة بالنهي عنها، وعمل بها جمهور الأمة، وقالوا: إنها محرمة الأكل لهذه الأحاديث، فلا تؤكل وإنما ينتفع بها، واتفقوا على طهارة عرقها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يركب الحمار الأهلي، ويردف عليه، وكان يركبه بدون وقاية، ولا شك أنه قد يعرق وهو عليه، ولم يكن يغسل ثيابه من عرق الحمار، فدل على طهارة عرقه، وكذلك طهارة سؤره، فإذا شرب من ماء فلا بأس أن يشرب منه أو يتوضأ من سؤره إذا عرف أنه لم يأكل نجاسة، فهو من الطاهرات إلا أنه سمى لحمه رجساً في قوله: (فإنها رجس) ، والرجس هو النجس الذي وصف الله به بعض المحرمات كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة:90] فكذلك جعل لحوم الحمر الأهلية رجساً فعمل بذلك أغلب الأئمة، وذهب بعض الصحابة -كما روي عن ابن عباس - وبعض الأئمة -وهو رواية عن الشافعي - أنه يباح أكلها كبهيمة الأنعام، وجعلوا النهي عنها خاصاً، وقالوا: إنما نهى عنها في خيبر؛ لأنها كانت حمولة الناس، وخاف أنهم إذا ذبحوها لم يبق لهم ما يحملون عليه أو ما يركبونه، ولكن هذا لا يوافق ما ذكر من قوله: (فإنها رجس) ، وعلى هذا؛ فالقول المعتمد لأئمة المسلمين أنها محرمة الأكل، وأنه لا ينتفع بلحمها لا أكلاً ولا انتفاعاً، وأن لبنها أيضاً نجس، حيث إنها نجسة -يعني: لحمها- فكذلك لبنها، وشحمها، وما يؤخذ منها بعد موتها، كل ذلك منهي عنه بموجب هذه الأحاديث.(74/5)
شرح حديث: (لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه)
قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (دخلت مع خالد بن الوليد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة، فأتي بضب محنوذ، فأهوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فقال بعض النسوة اللاتي في بيت ميمونة: أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريد أن يأكل، فقلت: تأكله هو ضب؟ فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، فقلت: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه، قال خالد: فاجتررته فأكلته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر) قال رضي الله عنه: المحنوذ: المشوي بالرضف، وهي الحجارة المحماة.
وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد) .
وعن زهدم بن مضرب الجرمي قال: كنا عند أبي موسى فدعا بمائدة عليها لحم دجاج، فدخل رجل من بني تيم الله أحمر شبيه بالموالي فقال: هلم فلتأكل، فتلكأ، فقال له: هلم فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل منه] .
هذه الأحاديث تتعلق ببعض الأطعمة، وسياقها يدل على أنها في اللحوم التي قد يشك فيها، فالحديث الأول في حكم أكل الضب، وهو حيوان معروف، وصورته كصورة الوزغ أو السحلية أو سام أبرص أو الورل، ولكن استثني فأبيح، وقد ورد فيه أحاديث كثيرة، ومنها ما يدل على كراهته، ومنها ما يدل على إباحته، فمنها هذا الحديث، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على ميمونة وهي إحدى أمهات المؤمنين، ودخل معه خالد بن الوليد وهي خالته، فقدم إليه هذا اللحم، وإذا هو لحم ضب محنوذ، يعني: مشوي على الرضف، وهي حجارة محماة، فأهوى بيده ليأكل، فأخبروه بما يريد أن يأكل حتى يعرف حكم ذلك الطعام الذي يأكله هل هو مباح أم مكروه أم حرام؟ ولم يكن عندهم علم بحكم هذا الحيوان الذي هو الضب، فلما أخبروه بأنه الضب تورع عنه ورفع يده، فسألوه: أحرم هو؟ فقال: (لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه) ، وكأنه تورع عنه لأنه لم يتعود أكله في أول عمره، وكأنه في ذلك الوقت لم يكن كثيراً حول مكة، وإن كان يوجد بكثرة حول المدينة وحول القرى الأخرى، ولكن لأنه لم يعتاده في أول عمره كرهته نفسه فتورع عنه، فهذا هو السبب في كونه لم يأكله.
ولكن اجتذبه خالد بن الوليد فأكله والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر، واستدلوا بإقراره على أنه مباح، فإنه لا يقر على ما هو مكروه أو ما هو حرام، ودل على أن تركه له إنما هو لأن نفسه تقززت وتوقفت عن أكل شيء لم يكن اعتاده ولا تعودت نفسه على استساغته.
وبكل حال فهو دليل على إباحة لحم الضب، فهو من الطيبات؛ وذلك لأنه يأكل من الأعشاب التي تنبت في البراري، فهو من جملة الدواب التي تأكل منها كالظباء والوعول وما أشبهها التي هي من الطيبات، وهو لا يأكل الجيف، ولا يأكل الأقذار ونحوها.
وورد في بعض الروايات أنه قال: (لا أحله ولا أحرمه) يعني: لا آكله ولا تستطيبه نفسي، ولكن لا أحرمه، والصحيح الرواية التي فيها: (لا آكله ولا أحرمه) يعني: لا تقبله نفسي، ولا أنهى غيري، ومع كثرة الأحاديث التي فيه؛ فإن الذين لم يألفوه ولم يعرفوه في بلادهم ينكرون أكله، وتنفر منه نفوسهم، فكثير من أهل البلاد النائية ما عرفوه، وإذا رأوه فإن نفوسهم تتوقف عن أكله، وتكرهه، وقد كرهه بعضهم لوجود رائحة فيمن أكله، فإنه يؤثر رائحة فيمن أكله، ولكن ليست تلك الرائحة رائحة كريهة، وإنما هي رائحة واضحة تبين أنه أكل شيئاً من لحم الضب، وهذا لا يبرر كراهيته، فهو من المباحات.(74/6)
شرح حديث: (غزونا مع رسول الله سبع غزوات نأكل الجراد)
قوله: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد) ، الجراد معروف، وهو هذه الحشرات الصغيرة التي تطير، وتوجد بكثرة في بعض الأوقات، وهي شبيهة ببعض الأشياء المحرمة كالزنابير والدبر وغيره، ولكن لها خاصية في أنها تأكل الأعشاب ونحوها وتتغذى بالنبات وما أشبهه، فلا إثم في أكلها، وأيضاً فهي مما يسلطها الله على بعض الناس، فتكثر فتأكل الثمار وتتسلط على الزروع وعلى البساتين، وإذا سلطها الله تعالى على قوم تكون من جملة العذاب الذي يرسله الله، وقد ذكر الله تعالى أنها من جملة ما أرسل على آل فرعون، فقال الله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ} [الأعراف:133] يعني: سلط الله عليهم هذه الأشياء، فسلط عليهم الجراد فأكل ثمارهم، وأكل أشجارهم، عذاب من الله لا يقدرون على رده؛ وذلك لكثرته وعدم استطاعة مقاومته إذا سلط، وما يؤخذ منه أو يصاد لا ينقصه، فالناس يصطادون منه شيئاً كثيراً، ثم بعد ذلك إذا أصبحوا وذهب إلى البلاد الأخرى وجدوه كأنه لم ينقص، فيصيدون منه، ثم في الصباح يطير ويذهب إلى قرية أخرى، فيجدونه كأنه لم ينقص، وهكذا ليس له نهاية إلا إذا سلط الله عليه ما شاء.
إذاً: هذا الجراد من جملة ما يسلطه الله على عباده، ولما كان من جملة الطيبات، وأكله من الأشجار ونحوها؛ أبيح أكله، وجعل من الدواب التي لا تحتاج إلى تذكية، ففي الحديث: (أحلت لنا ميتتان ودمان: فأما الميتتان فالجراد والحوت، وأما الدمان فالكبد والطحال) ، فتباح ميتته، وإذا وجد ميتاً أبيح طبخه أو شيه، وكذلك إن صيد وهو حي فإنه لا يحتاج إلى ذبح، بل يشوى أو يطبخ وهو حي، ويحل أكله بعد ذلك، وما ذاك إلا لأنه ليس فيه دم إذا ذبح، وما يسيل منه لا يسمى دماً، وإنما يسيل منه شيء وهو حي شبه لعابه، فلا يسمى دماً، والميتة حرمت لأنها إذا ماتت تحجر الدم في عروقها وأفسد لحمها، بخلاف الجراد فإنه ليس فيه دم، فلذلك يباح أكله بعد ما يطبخ ولو لم يذبح.
المصنف ذكر هذا الحديث لأن فيه خلافاً، وكثير من أهل البلاد الإسلامية ينكرون أكله؛ وذلك لأنهم لم يتعودوه، ولم يألفوه، لأنه غريب في بلادهم، أو أنه يأتيهم أحياناً، ولم يتعودوا اصطياده وطبخه، فلذلك يكون من جملة المكروه نفسياً، ولكن لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أكله، ولما ثبت أنه أباحه وإن لم يذك، وثبت أن الصحابة أكلوه؛ دل ذلك على أنه من جملة المباحات ومن جملة الطيبات، فهو غذاء يغني عن الطعام ويغني عن اللحوم، وقد يتلذذ بأكله، ويتفكه به، فلا كراهة فيه، ولكن لا يلزم كل أحد أن يأكله، إنما يأكله من اشتهاه، ولكن لا يعيبه أحد ولا يحرمه.(74/7)
شرح حديث: (رأيت رسول الله يأكل الدجاج)
الحديث الذي بعده يتعلق بأكل لحم الدجاج، وفيه هذه القصة، وهي أن أبا موسى رضي الله عنه قدم إليه طعام وعليه لحم دجاج، وعنده رجل من بني تيم، فتلكأ لما دعي لأكله، فأخبر أبو موسى بأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يأكله، ولكن ذلك التيمي اعتذر بأنه رآه يأكل شيئاً فكرهه، وفي بعض الروايات فسر بأنه رآه يأكل النجاسات، فكرهته نفسه، وامتنع من أكله.
وبكل حال الدجاج المعروف من جملة ما ذلل للإنسان، فهو من الدواب التي لا تنفر من الناس، بل تألف الناس، وتكون في البيوت، وهي لا تطير كما يطير غيرها من الطيور؛ ولهذا يقول بعضهم: كذا دجاج البيوت لهن ريش ولكن لا يطرن مع الحمامة فهي ولو كانت لها أجنحة لكن ليست مما ينفر من الناس ويذهب، بل تألف البيوت، وتتوالد عند الناس، ثم إذا أراد أهلها الذين يملكونها أن يأكلوها أمسكوها وذبحوها، وأكلوا لحمها، وأكلوا أيضاً من بيضها، فهي من جملة ما سخر للإنسان.
وهذا الدجاج غذاء كثير من الناس، وقد لا يستغني عنه غالباً أهل بيت إلا ما شاء الله، فهو من جملة الأطعمة الحلال المباحة، لكن قد يقال: إنه أحياناً يتغذى بالنجاسة، فيأكل النجاسات، ولعله سبب كون ذلك التيمي كرهه، وهو قد يتغذى أحياناً بالنجاسات، إذا وجد العذرة أو نحوها من النجاسات يأكل منها، وحينئذ يكون له حكم الجلالة، والجلالة هي التي تأكل العذرة أي: النجاسات ورجيع الآدمي، وقد وردت أحاديث في النهي عن أكلها ما دام عرف ذلك عنها حتى تطهر، فقالوا: إذا كانت الناقة أو الجمل أو البقر جلالة -يعني: تأكل من النجاسات- فإنها تحبس، قيل: أربعين يوماً، وقيل: سبعة أيام، وتطعم طعاماً طيباً من النبات أو الشعير أو نحوه إلى أن يطيب لحمها، ويذهب عنها ذلك الغذاء الخبيث.
أما إذا كانت من الغنم فقالوا: يكفي حبسها سبعة أيام حتى ينظف بطنها، ويزول ما فيها من ذلك الغذاء النجس، وأما إذا كانت من الدجاج فإنها تحبس ثلاثة أيام، وتطعم من الحبوب التي تتقوت بها غالباً كالبر ونحوه حتى يطيب لحمها أو يطيب غذاؤها، فيكتفى بحبسها ثلاثة أيام.
وذهب كثير من العلماء إلى أنه لا يجوز أكلها حتى ينبت لها لحم غير ذلك اللحم أو يتغير، وفي هذا شيء من التشديد، وعلى كل حال يقول العلماء: إن هذا النجاسة التي أكلتها ولو أنها أثرت في بدنها وفي لحمها ولكن تأثيرها قليل، فاللحم موجود، وآثار ذلك الغذاء يرى في عروقها وفي أمعائها، ولكن بعد ما تحبس وتطعم الطعام الطيب يزول ذلك الأثر.
ومعروف أن الدجاج في هذه الأزمنة قد تطعم طعاماً نجساً، الدواجن الموجودة الآن التي يبيعها أهلها يذكرون أنهم يغذونها بأغذية مستوردة قد يكون فيها شيء من النجاسات، يأخذون الدم أو غيره ويخلطونه بأشياء، ثم يجعلونه غذاء لهذه الطيور كالحمام والأوز والدجاج وما أشبهها حتى تتغذى به، لكن ذهب بعض العلماء إلى أنه طاهر؛ وذلك لأنه تحال، وقالوا: إن النجاسة تطهر بالاستحالة، وما دام أنه عقم وأدخل في مصانع وأزيل أثر ذلك القذر الذي فيه؛ فلا مانع من التغذي به، وإن كان الأفضل أن أهل الدواجن لا يغذونه إلا من الشيء الذي يتحققون طهارته وبعده عن النجاسة.
وبكل حال هذه أحاديث تدل على بعض ما يباح من الأطعمة، والأصل فيها أنها حلال، وقد عرفنا أن الطيور والحيوانات الأصل فيها الحل إلا ما استثني، فاستثنوا الدواب والطيور التي تأكل الجيف كالسباع والرخم والنسور والغراب والعقاب وما أشبهه، واستثنوا ما له مخلب، وغالباً أن الذي له مخلب يأكل الجيف كالصقر والبازي وما أشبه ذلك، واستثنوا ما تستخبثه العرب ولا تستطيبه، واستثنوا الحشرات، واستثنوا ما أمر بقتله كالفواسق أو ما نهي عن قتله كالنملة والنحلة والهدهد والصرد، وما بقي فالأصل فيه الإباحة.(74/8)
شرح حديث: (إذا أكل أحدكم طعاماً فلا يمسح يده حتى يلعقها)
قال المصنف رحمه الله: [عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أكل أحدكم طعاماً فلا يمسح يده حتى يلعقها أو يلعقها) ] .
قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أكل أحدكم طعاماً فلا يمسح يده حتى يَلعقها أو يُلعقها) يعني: إذا أكل بيده، وكان في يده بعد الأكل بقية من ذلك الطعام فإن عليه أن يلعق يده أي: أصابعه وكفه الذي عليه بقايا ذلك الطعام، أو يُلعقها أي: يعطيها ولده أو خادمه يمصها وينظفها قبل أن يمسحها، وكانت عادتهم الأكل بالأيدي دون الأكل بملعقة ونحوها؛ وذلك لأن اليد هي التي جعلها الله آلة العمل، ومن العمل الأكل، فقد أعطى الله الإنسان هذه الجوارح، ومن جملتها الأيدي، وأمره وأباح له أن يعمل بها ما ينفعه.(74/9)
آداب الأكل
معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أمته العادات كما علمهم العبادات، وتلك العادات مع النية الصالحة يثاب العبد عليها إذا امتثل أمر الله وأمر رسوله، ولو كانت من العادات الطبعية، فقد علمهم صلى الله عليه وسلم كيفية التخلي؛ حتى عاب ذلك اليهود وقالوا: علمكم كل شيء حتى الخراءة! ولا شك أن من أهم ما يعلمهم آداب الأكل والشرب، فقد حثهم على الآداب في الأكل وفي الشرب، فقال صلى الله عليه وسلم: (إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله) ، فهذا تعليم منه صلى الله عليه وسلم بالشرب باليد اليمنى، وهي مشتقة من اليُمن الذي هو الخير والبركة، فأمرهم بأن يأكلوا ويشربوا بها حتى يبتعدوا عن مشابهة الشيطان.
وأمرهم أن يقتصدوا في الأكل ولا يسرفوا، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما ملأ ابن آدم وعاء شر من بطن، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان ولابد فاعلاً فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه) ، وهذا تعليم منه صلى الله عليه وسلم على الاقتصاد في الأكل وعدم الإسراف، وقد نهى الله تعالى عن الإسراف فقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31] لما أباح الأكل أمر أن يكون باقتصاد بلا إسراف، فهذه تعليمات من الله تعالى ورسوله.
كذلك كان صلى الله عليه وسلم يعلمهم كيفية الأكل، فكان يأمرهم إذا كانوا جماعة أن يأكلوا من أطراف الصحفة، وقال لربيبه لما رأى يده تطيش في الصحفة: (يا غلام! سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك) ، فأمره بأن يبدأ باسم الله، وأن يأكل بيده اليمنى دون اليسرى، وأن يأكل مما يليه، وامتثل ذلك الغلام فقال: فما زالت تلك طعمتي، أي: ما زلت على ذلك لا أتجاوز ما يليني، أي: يأكل مما يليه.
وكذلك أيضاً حث على حفظ الطعام، فإن الطعام له بركة وله فائدة، فقال: (كلوا من أطراف الصحفة، وذروا ذروتها) أي: إذا كانوا يأكلون من صحفة، فليأكلوا من أطرافها وليتركوا وسطها، فإن الرحمة تنزل وسطها، وهذه تعليمات بكيفية الأكل إذا كانوا مجموعة متحلقين على صحفة أو على قدح يأكلون منه، فيأكل كل منهم مما يليه، ويتركون وسطها حتى يصلوا إليه.
وكذلك أيضاً ثبت أنه أمر بأخذ اللقمة إذا سقطت، فقال صلى الله عليه وسلم: (إذا سقطت لقمة أحدكم فليأخذها وليمط ما فيها من الأذى وليأكلها، ولا يدعها للشيطان) ، وكانت عادتهم أنهم يجلسون على التراب، وقد يرفع أحدهم لقمة إلى فمه، فتسقط على التراب فيتقذرها، فأمره أن يرفع تلك اللقمة، وأن يزيل التراب الذي علق بها ويأكلها، وأخبر بأنه إذا تركها فإنه يتركها للشيطان، والشيطان معلوم أنه يحرص على تقليل بركة الطعام، وعلى نزعها منه، والإنسان لا يفرح بالشيء الذي يحبه الشيطان، ولا يكون عوناً للشيطان، بل يؤمر بمخالفته وبكل شيء يضره، فلا تدع اللقمة التي سقطت منك، بل ارفعها وكلها بعدما تنظفها، هذا وهي ساقطة على تراب، فإذا سقطت على سفرة، أو على خوان، أو على بساط، أو سماط نظيف؛ فمن المعلوم أنها لا تتلوث بتراب، ولا تتلوث بغبار غالباً، حيث إن البسط والفرش تنظف في الغالب يومياً أو نحو ذلك، وكذلك الخوان والسماط إذا سقطت عليه فمعلوم أنها لا تتلوث.
إذاً: فأنت مأمور بأن تأخذ وتأكل ما تساقط من اللقيمات أو من هذه الحبات التي تتساقط منك، ولا تدعها للشيطان كما أمرك بذلك النبي عليه الصلاة والسلام.
وهكذا أيضاً أمر بلعق الأصابع والصحفة وقال: (فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة) ، فإذا انتهيت من الأكل أو انتهيتم وأنتم مجموعة، وفرغت الصحفة أو الصحن أو القدح الذي فيه الطعام، فإن السنة أن تلعق الصحفة بالأصابع، ثم تعلق وتمتص ما علق منها بأصابعك، وعلل بذلك بقوله: (فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة) .
وفي هذا الحديث: أمر بلعق الأصابع، حتى قال: (يَلعقها أو يُلعقها) أي: يَلعقها بنفسه أو يُلعقها غيره قبل أن يمسحها، ويلعق الصحفة قبل أن يغسلها، وكانوا يقتصرون على المسح، فلا يغسلون أيديهم بعد الأكل، وإنما يقتصرون على المسح بخرقة أو منديل أو نحو ذلك، فيمسحون أثر الأكل من اليد، ومعلوم أن الغسل لاسيما بصابون أو نحوه أبلغ في إزالة أثر الأكل، ونحن نقول: لا مانع من الغسل بالصابون ونحوه لإزالة أثرها، وقد ورد الأمر بغسل اليدين قبل الطعام، والأمر أيضاً بتنظيفهما بعده، ويقول بعض الحكماء: اغسل يديك قبل تناول الطعام وبعده، فغسلها قبله أمنة من الجذام، وغسلها بعده أمنة من الهوام، أي: أنك إذا نظفتها وزال ما فيها من الدسم أمنت من أن تعلق بها الهوام التي تأتي على رائحة الدسم، فربما لسعته هامة أو نحوها، فذلك أمنة، وهي من السنة، يعني: التنظيف، وإن زال ذلك الأثر بالمسح فإنه يكتفى به.
ولاشك أن هذه التعليمات من النبي صلى الله عليه وسلم هي حث لأمته على حفظ هذا الطعام، وعلى عدم إضاعته، وذلك لأن الطعام هو قوت البدن، وهو القوت الرئيسي الذي ينمو وينبت به هذا البدن، فأمر بحفظه والمحافظة عليه وعدم إفساده، وعدم تبذيره وتبديده، وعدم إضاعته بأي نوع من أنواع الإضاعة؛ وذلك احتراماً له، لأنه فضل الله وعطاؤه، وهو الذي يسر أسبابه، يسر لك السبب الذي تحصل منه على هذا الغذاء، وتتغذى به، وتسد به جوعتك، وينمو وينبت به جسدك، وتبقى به حياتك، فالله تعالى هو الذي سهله ويسره، وهو الذي يسهل كيفية التغذية به.(74/10)
النهي عن إضاعة الطعام والإسراف فيه
على كل حال، هذا الحديث ونحوه دليل على أنه يشرع للمسلم ألا يسرف في إضاعة الطعام، ولا في إفساده بأي نوع من أنواع الإفساد؛ وذلك احتراماً لهذا الطعام، ولهذه النعمة التي أنعم الله بها على العبد؛ مخافة أن يتمناه عند فقده، وليتذكر أن هناك من يتمنى كسرة الخبز التي يلقيها الكثير من الناس أو لقمة اللحم التي لا يعبأ بها، فقد كان عليه الصلاة والسلام يحض على حفظ كل ما يتصل بالطعام، ذكر ابن القيم رحمه الله أنه صلى الله عليه وسلم رأى مرة كسرة خبز سقطت على الأرض فرفعها وقال: (يا عائشة! أحسني جوار نعم الله، فقل أن تنفر من قوم فتعود إليهم) ، ونعم الله من أجلها الطعام والمآكل ونحوها، فأمرها بأن تحسن جوار نعم الله، وأخبر أن إلقاءها على الأرض ولو كانت يابسة إهانة لها، واستهانة بقدرها، وسبب في نفورها، وعلامة على عدم شكرها، والنعم إذا شكرت قرت، وإذا كفرت فرت، فعلى المسلم أن يراعي ما أمر الله تعالى بمراعاته وأمر بحفظه.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يعيش عيشة قلة، بحيث إنه كان يبقى شهراً أو شهرين لا يوقد في بيته نار، إنما قوته الأسودان: التمر والماء، وأحياناً يأتيهم شيء من اللبن، تقول عائشة: إلا أن نؤتى باللحيم، يعني: يأتيهم أحد بقطعة لحم أو نحوه، وكان عليه الصلاة والسلام لا يدع شيئاً من آثار الطعام يفسد أبداً، بل يأكل منه ويعطي غيره، أو يأكل بقية ما أكله غيره، ولا يتحاشى مما أكل منه غيره، ذكرت عائشة أنها كانت تشرب من اللبن في القدح، ثم تناوله صلى الله عليه وسلم فيشرب منه، ويضع فمه في الموضع الذي وضعت فيه فمها، ولا يتحاشى ويقول: إناء شرب فيه غيري لا أشرب فيه، بل يشرب فيه ولو كان قد شرب فيه غيره، وذكر أبو هريرة أنه وجد عند النبي صلى الله عليه وسلم قدحاً فيه لبن، فأمره أن يأتي بأهل الصفة، فلما أتى بهم أمره أن يسقيهم واحداً بعد واحد، وكل واحد شرب من ذلك القدح حاجته، حتى انتهوا ورووا، ثم أمر أبا هريرة أن يشرب، ثم شرب صلى الله عليه وسلم الفضلة، ولم يقل: هذا القدح قد شرب من حافته عشرة، فلا أقبله إلا بعد غسله وبعد تنظيفه، بل يشرب من موضع شربهم، ولا يتحاشى شيئاً من ذلك، ولا يحتاج إلى غسله، وكان إذا أهدي لهم عظم عليه لحم ينهسه بأسنانه يعني: يتعرقه ويأخذه بأسنانه، قالت عائشة: كنت أتعرق اللحم من العظم ثم أناوله النبي صلى الله عليه وسلم بعدما آكل منه، فيضع أسنانه في مكان موضع أسنانها، ويتعرق منه ولا يتركه وعليه شيء مما يمكن أن تناله الأسنان، وكل ذلك حرص منه على عدم إفساد الطعام، وحرص منه على أن يكون المسلم محافظاً على نعم الله تعالى، وتحذير من إضاعتها، وعدم شكرها، وعدم حفظها؛ لأنه يخشى أنها تنفر أو يكون ذلك كفراً.
الكثير من الناس في هذه الأزمنة يفسدون أنواعاً من الطعام، ولا يبالي أحدهم بما أفسد منه، وربما تشاهد اللحوم وأنواع الفواكه وأنواع المأكولات تلقى في القمامات ونحوها، ولا شك أن هذا يخاف منه أن يكون كفراناً للنعم، ذكرنا هذا بمناسبة أنه صلى الله عليه وسلم أمر بلعق الأصابع، وقال: (إذا فرغ أحدكم من الطعام فلا يمسح يده حتى يَلعقها أو يُلعقها) ، مع أنه لا يعلق بالأصابع غالباً إلا دسم أو آثار قليلة من الطعام أو نحو ذلك، فإذا غسلها وعليها هذا الدسم، أو عليها هذا الطعام، ربما اختلط الطعام مع الأوساخ، وربما ذهب مع مجاري الفضلات، ومجاري الأوساخ والقاذورات، فيكون ذلك إفساداً لهذه النعمة، وعدم اعتراف بها، أما إذا أعطاها من يُلعقها حتى ولو بهيمة فإن ذلك يكون حفظاً لها، فإذا بقي على الخوان شيء من حبات الطعام، فإياك أن تلقيه في القمامات ونحوها، فستجد من يأكله ولو من الطيور ولو من القطط ونحوها التي تمتص العظام ونحوها، ولو من الدواب، ولو حتى من الذر والنمل التي تأكل ما عليها، وهذا أهون من أن تلقيها فتداس بالأرجل وتمتهن وتفسد، ويكون ذلك إفساداً لها، وعدم شكر لها، هذا في بقية الطعام الذي على العظم ونحوه، فبطريق أولى لا يجوز إفساد الأكل الكثير، وإلقاؤه وعدم إعطائه لمن يستحقه، وهناك بلا شك -كما تعرفون- بلاد كثيرة تشكو من الجوع وتشكو الفقر، يتمنون الخبزة التي نراها كثيراً في القمامات، ويتمنون التفاحة أو نحوها التي نراها تلقى وتفسد، وكذلك في هذه البلاد من يتمنى أكلة أو بعض أكلة، وهم في أطراف البلاد أو في البيوت القديمة، وهناك جمعيات يتلقون بقية الأكل وتعطى لهؤلاء حتى لا تفسد، ويفرقونها على من يعرفونه مستحقاً، فيتقبلها ويفرح بها.(74/11)
شرح عمدة الأحكام [75]
علم الله أن الإنسان يحتاج إلى اصطياد الحيوانات والطيور فأحل له منها ما هو طيب، وحرم عليه منها ما هو خبيث، والصيد جائز سواء اصطاده الإنسان بشبكة أو بسهم، أو بجارح من الجوارح المعلمة، وقد بين أهل العلم أحكام الصيد من أدلة الكتاب والسنة.(75/1)
شرح حديث: (إنا بأرض قوم أهل كتاب، أفنأكل في آنيتهم؟)
قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [باب الصيد: عن أبي ثعلبة الخشني قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! إنا بأرض قوم أهل كتاب، أفنأكل في آنيتهم؟ وفي أرض صيد، أصيد بقوسي، وبكلبي الذي ليس بمعلم، وبكلبي المعلم، فما يصلح لي؟ قال: أما ما ذكرت -يعني: من آنية أهل الكتاب- فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، فإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها، وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل) ] .
مما أحله الله تعالى الصيد الحلال، قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة:4] ، والجوارح هي التي تعلم ويصاد بها، فمن الجوارح الكلاب المعلمة، ومن الجوارح الطيور المعلمة، وقد اشترط الله تعالى فيها التعليم: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ} [المائدة:4] فيعلم الكلب أو نحوه كيفية، الإرسال وكيفية الإمساك، وكذلك الطير الذي يصاد به كالباز والشاهين والباشق والصقر ونحوها من الطيور التي تعلم وترسل فتصيد، فأباح الله تعالى هذا الاصطياد، وأباح أكل هذا الصيد.
والأمر في قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] أمر إباحة، ومنع من الصيد في حالة الإحرام فقال: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95] ، وقال: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة:96] ، فدل على أنه إذا لم يكن هناك إحرام فإن الصيد حلال، وكذلك يحرم الاصطياد داخل الحرم؛ لأن مكة وما حولها حرم لا ينفر صيدها، يعني: لا يصطاد ولا يطرد، أما بقية البلاد غير الحرمين فإنه يجوز أن يصيد فيه غير المحرم.(75/2)
حكم استعمال آنية الكفار
هذا الحديث عن أبي ثعلبة جرثوم بن ناشر الخشني رضي الله عنه، ذكر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم سؤالين: سؤال يتعلق بآنية الكفار، وسؤال يتعلق بالصيد، فأما آنية أهل الكتاب فذكر أنهم يحتاجون لها، فما حكم الطبخ والأكل والشرب فيها؟ وكأنه توقف فيها لأن أهل الكتاب الذين هم النصارى أو اليهود كانوا يستحلون الخمر، فيشربون في آنيتهم الخمور، فتكون تلك الآنية قد تلوثت بهذا الشراب المحرم، وكانوا يطبخون في قدورهم الميتة، ويطبخون فيها لحم الخنزير، وهو محرم، فتكون تلك القدور بعد الطبخ فيها شيء من آثار ذلك المطبوخ، فما حكم طبخنا فيها، أو شربنا فيها، هل ذلك جائز أم لا؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يتركها إذا وجد غيرها، يعني: إذا وجدتم آنية غير آنية الكفار فلا تأكلوا ولا تشربوا فيها؛ مخافة أن يكون فيها شيء من أثر نجاسة، وقد يكون ذلك لأجل ألا يكون لهم منة على المؤمن، فيكون ذلك سبباً لمحبتهم ومودتهم، وموالاتهم وتقريبهم، بل لا تأخذوا منهم شيئاً وأنتم تجدونه عند غيرهم، فإذا لم تجدوا غير تلك الآنية فإن لكم رخصة في أن تأكلوا أو تشربوا أو تطبخوا فيها، ولكن بعد التطهير، بعدما تغسلها بالماء وتنظفها حتى يزول ما يخاف أن يكون فيها من آثار النجاسة، هذا جواب السؤال الأول.(75/3)
حل الصيد
السؤال الثاني عن الصيد، فذكر أن الصيد يكون بالرمي، ويكون بالكلب، والكلب قد يكون معلماً وقد يكون غير معلم، ويلحق بالكلب الجوارح التي ذكرها الله تعالى في القرآن: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ} [المائدة:4] فالطيور المعلمة تسمى جوارح؛ لأنها تجرح الصيد إذا صادته، فأباح الله تعالى صيد الطيور المعلمة، وأباح أيضاً صيد الكلاب المعلمة، فقوله تعالى: {مُكَلِّبِينَ} [المائدة:4] يعني: متخذين هذه الكلاب تعلمونهن مما علمكم الله.
إذاً: الصيد بالكلب المعلم حلال، بشرط أن يكون معلماً، ومتى يكون معلَّماً؟ المعلَّم هو الذي إذا أرسل استرسل، وإذا زجر انزجر، وإذا أمسك لم يأكل، هذا حد المعلم.
علم الله أن الإنسان قد يحتاج إلى الاصطياد من هذه الدواب المباحة المنتشرة في الأرض، وهذه الدواب منها ما هو حلال، ومنها ما هو حرام، وللحرام علامات يعرف بها، ويتميز بها الحلال من الحرام، فمنها ما يكون بالغذاء، ومنها ما يكون بوصف اتصف به، والدواب المباحة قد سبق ذكر بعضها، فتقدم أن الضب أكل على مائدة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو من الصيد، وذكر أن الصحابة أنفجوا أرنباً، وأمسكها أنس وذبحها أبو طلحة، وأرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوركها وفخذها فقبله، فدل على أنها من الصيد، وتقدم في الحج ذكر حمار الوحش، وأنه من الصيد، وهو دابة أكبر من الوعل أو قريب منه، أو هو نوع من الوعول، فهو من الصيد، وكذا الظباء، والوعول، والإيل، والأروى، هذه كلها من أنواع الصيد، ومن أنواع الصيد المتوحش ما يعيش في البراري كالوبر واليربوع، وما يلحق به، فهذه من أنواع الصيود التي تعيش في البراري، وتتقوت من القوت الحلال، فترعى من الرعي الذي ينبت في الأرض، وتشرب إذا وردت ماء أو تعيش بدون ماء.
كذلك أيضاً أباح الله الكثير من الطيور المباحة، فالحمام بأنواعه من الطيور الحلال، وكذلك الحجل من الطيور المباحة، وهكذا الحبارى من الطيور المباحة؛ وذلك لأن قوتها وغذاءها حلال من الطيب، وأما الأشياء المستقذرة فإنها محرمة، حرم النبي صلى الله عليه وسلم (كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير) ، فحرم ذوات المخالب، فالصقر ولو كان مما يعلم فإنه حرام لأنه ذو مخلب، وكذلك العقاب، والغراب، والباشق، والعقاب، والرخم، والنسور التي تأكل الجيف والقاذورات، فهذه ليست من الصيد، بل هي من المحرمات؛ لأنها تتغذى بالجيف وتأكلها وتأكل الأقذار، بخلاف الصيد الذي يتغذى بالأعشاب، أو الطيور التي تتغذى بالحبوب وبالأعشاب كالحمام ونحوها فهذه من الطيبات.
فعرفنا بذلك الفرق بين ما هو حلال من الطيور وما هو حرام، وكذلك الوحوش، فذوات الأنياب حرام كالذئب والنمر والأسد والدب وما أشبهه، وأيضاً ما يأكل الجيف كالكلاب بأنواعها، فهذه كلها محرم أكلها ولو كانت أليفة، فليست من الصيد الذي أباحه الله في قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] ، وفي قوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة:96] ، وفي قوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4] ، وإنما المراد ما أمسكت من الصيد الحلال، فهذا الصيد يقتنصه المقتنصون؛ لأنه طعام لذيذ ولحم شهي كسائر اللحوم، والله تعالى أباح اللحوم الطيبة، فأباح بهيمة الأنعام، أباح لحم الإبل والبقر والغنم بأنواعها، وتقدم أن لحم الخيل أيضاً مباح؛ لأنه من الطيبات، وكذلك لحوم الأسماك ودواب البحر لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة:96] ، وتقدم أيضاً إباحة أكل الجراد، وهو من اللحوم المباحة وإن تقذره بعض من لم يألفه.
وهذه الصيود جعل الله لها ما تتحصن به، فمنها ما يتحصن عن الاصطياد بجناحيه فيطير حتى يحرز نفسه وينجو بنفسه عن أن يدركه من يطلبه، فالحمام وما أشبهه من الحجلات والعصافير بأنواعها تتحصن وتتحرز بأجنحتها بأن تطير حتى تؤمن نفسها، والظباء ونحوها جعل الله لها حصناً بشدة السعي، فهي تسعى سعياً شديداً حتى لا يدركها الإنسان ولا يدركها إلا جارح قوي سابق من الكلاب ونحوها، ولاشك أن هذه كلها جعل الله لها سلاحاً تتوقى به حتى تحصن نفسها، ولكن إذا غلبها الإنسان بأن اصطادها بشبكة أو اصطادها بجارح أو اصطادها بسهم رماها به؛ فهي من الطيبات التي أحلها الله، وجعل أكلها من نعمه التي أنعم بها على عباده، فيأكلها المصطاد سواء أكل تفكه وتلذذ وتنعم وإن لم يكن جائعاً، وإن كان اللحم موجوداً، أو أكل غذاء، فهناك من ليس لهم كسب وليس لهم غذاء إلا الاصطياد، ليس لهم حرفة ولا صنعة، وليس لهم مورد إلا أن يصطادوا، وكان إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام صياداً، ما كان له حرفة إلا أنه يذهب فيصيد بالنبل، يعني: يرمي السهام فيصيد من الطيور المباحة ومن الوحوش المباحة ونحوها، فيكون ذلك غذاء له ولأولاده، ونسمع أن كثيراً من الناس ما كان لهم غذاء إلا ما يصطادونه مما أباحه الله تعالى من هذه الصيود التي امتن الله بإحلالها في قوله تعالى: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ} [المائدة:4] .(75/4)
حكم الصيد بالكلب
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أمسك عليك الكلب فإما أن يكون الكلب معلماً وإما أن يكون غير معلم، وقد عرفت أن المعلم هو الذي إذا أرسل استرسل، وإذا زجر انزجر، وإذا أمسك لم يأكل على صاحبه، بل أمسك على صاحبه ولم يأكل من الصيد، هذا هو الكلب المعلم، وورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: (فإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أنه إنما أمسك على نفسه) يعني: لم يمسك لك، وإنما أمسك لنفسه، فعلامة المعلم أنه يمسك الأرنب -مثلاً- بأنيابه حتى يأتي إلى صاحبه فيقبضها، فإن وجدها ميتة فهي حلال وإلا ذكاها، ويذكيها بكل حال.
واختلفوا إذا قتلها الكلب، عادة أنه إذا أمسكها فإنه يمسكها بأنيابه، وقد يكون صاحبه بعيداً، فلا يدركه إلا وقد ماتت في فمه، فالأكثرون على أنها تؤكل لعموم قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4] ، ولكن بشرط أن تسمي عند الإرسال، فإذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله بأن تقول: باسم الله، والله أكبر؛ فإذا أمسك عليك فكل حتى ولو قتل بعضِّه أو بتحامله على ذلك الصيد حتى مات بثقله فالصحيح أنه يباح، وذلك لكونه داخلاً فيما أباحه الله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4] ، والحديث لم يفصل في الكلب المعلم، بل قال: (إذا أرسلت كلبك المعلم فكل) ، ولم يقل: إن وجدته حياً، بل أطلق ذلك بشرط ذكر اسم الله تعالى، فالكلب المعلم إذا قتل فإن قتله حلال بشرط التسمية عند الإرسال، ولو لم يجرح، ولكن إذا وجدت الصيد حياً فلا بد من ذبحه وتذكيته؛ حتى يخرج الدم، وإذا وجدته قد مات فلا بد من قطع رأسه وحلقومه ولو لم يخرج منه دم حتى تتحقق التذكية ظاهراً، فهذا حكم صيد الكلب المعلم.
أما الكلب غير المعلم من سائر الكلاب إذا استرسل وأمسك، ووجدت الصيد في فمه قد مات فلا تأكل؛ وذلك لأنه أمسك لنفسه، وإن وجدت الصيد حياً لم يمت وذكيته فإنه مباح، ويدخل في قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة:3] ، والتذكية هي أن تذبحه من حلقه حتى تقطع الحلقوم والمريء والوريدين، حتى يخرج الدم المتحجر في بدنه، أباح الله المذكى بقوله: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة:3] ، وأباحه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بقوله: (فأدركت ذكاته فكل) ، فأما إذا لم يكن معلماً وقتل فلا تأكل، وكذلك إذا أكل، فإذا وجدت الكلب قد أكل من الصيد سواء كان معلماً أو غير معلم فلا تأكل، فإنه أمسك على نفسه أي: اصطاد لنفسه ولم يصطد لصاحبه؛ لأن الله تعالى يقول: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4] يعني: أمسكن لكم، فأما إذا أكل فإنه لم يمسك عليك، وإنما أمسك على نفسه.(75/5)
حكم الصيد بالطيور الجارحة
الطيور الجارحة كالصقر والباز والشاهين والباشق ونحوها من الجوارح، الأصل أنها تجرح؛ وذلك لأن صيدها يكون بمخالبها، فهي تجرح الأرنب مثلاً بمخلبها حتى تفري ظهرها وتشق جلدها، وكذلك الحبارى تضربها بمخالبها في ظهرها حتى تمزق ظهرها وأجنحتها، فهذا لا شك أنه جرح، وأنه تحل به هذه الصيود، ولكن الطيور الجوارح الغالب أنها تأكل مما صادته؛ لأجل ذلك يجوز أكل ما بقي، فلو وجدت الصقر قد أكل من الصيد فلا مانع من أن تأكل ما بقي، أما إذا وجدته حياً فلابد من تذكيته، فإن وجدته قد مات فهو حلال سواء أكل منه الجارح أو لم يأكل، هذا حكم صيد الجوارح.(75/6)
حكم الصيد بالسهام والرصاص والحجر
يجوز الصيد بالسهام، فالسهم هو الذي يرمى به، وقديماً كان السهم يتخذ من الأعواد، يبرى عود من أعواد السلم ويكون محدداً، ثم يرمى به في القوس، وإذا كانت الرمية شديدة فإنه يخرق الصيد، كما في قوله: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) يعني: يضرب الظبي من جانب ويخرج من جانب، يسبق الفرث والدم، فالأصل أن هذا السهم يخرق، ويصيب غالباً بحده فيقتل، فهذا دليل على أنه حلال، فإذا وجدت السهم قد خرق الجلد وخرق اللحم وماتت الرمية فإنها حلال بشرط أن تسمي عند الرمي، ومثله الرصاص الموجود الآن في البندقية، فإنه محدد، وهو يخرق الرمية وينفذ فيها، لذلك يقول بعضهم: وما ببندق الرصاص صيد فإنه مباح فحله استفيد أفتى به والدنا الأواه وانعقد الإجماع من فتواه فالحاصل أنه يحل أكل ما صيد بهذا الرصاص ونحوه، أما ما صيد بالحجر أو صيد بالعصا أو صيد بالسهم ولكن أصابه بعرضه، فلا يؤكل، بل يدخل في الموقوذة التي ذكر الله أنها من المحرمات، وهي التي تضرب حتى تموت، ولا تنجرح بالضرب، فإذا رميت عصفوراً مثلاً بحجر، وذلك الحجر كبير فشدخه ولم يجرحه ومات فلا تأكل، فإن وجدته قد جرحه فأسال منه الدم فكل إذا سميت عند الرمي، وهكذا إذا رميته بعصا وأصابته العصا بحدها وبرأسها فنفذت فيه وجرحته فإنه حلال إذا سميت عند الرمي، وأما إذا أصابته بعرضها فمات فإنه من الموقوذة فلا يؤكل، هذا ما يتعلق بالصيد بالقوس.(75/7)
شرح حديث: (إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن همام بن الحارث عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! إني أرسل الكلاب المعلمة فيمسكن علي وأذكر اسم الله، فقال: (إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك، قلت: وإن قتلن؟ قال: وإن قتلن، ما لم يشركها كلب ليس منها، قلت له: فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب؟ فقال: إذا رميت بالمعراض فخرق فكل، وإن أصابه بعرضه فلا تأكله) ، وحديث الشعبي عن عدي نحوه، وفيه: (إلا أن يأكل الكلب، فإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه، وإن خالطها كلب من غيرها فلا تأكل، فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره) ، وفيه: (إذا أرسلت كلبك المكلب فاذكر اسم الله، فإن أمسك عليك فأدركته حياً فاذبحه، وإن أدركته قد قتله ولم يأكل منه فكله، فإن أخذ الكلب ذكاته) ، وفيه أيضاً: (إذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله عليه) ، وفيه: (وإن غاب عنك يوماً أو يومين -وفي رواية:- اليومين والثلاثة فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت، وإن وجدته غريقاً في الماء فلا تأكل، فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك) ] .
في هذا تعليم من النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن الصيد، والصيد هو اقتناص حيوان متوحش طبعاً غير مقدور عليه، واصطياده بواسطة الكلاب، أو بواسطة السهام، أو بواسطة المعراض، وقد أباح الله تعالى جنس ذلك بقوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] ، وحرم ذلك في حالة الإحرام بقوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة:96] وأفاد أنهم إذا لم يكونوا حرماً فإنه مباح لهم هذا الاصطياد، وقد عرفنا أن المراد بالصيد ما يمكن اقتناصه من الدواب المتوحشة التي يباح أكلها، وهي معروفة ومشهورة، وقد جعل الله سلاحها الذي تتوقى به مختلفاً، فمنها ما سلاحه الأجنحة بحيث يطير حتى ينجو بنفسه، وقد جعل الله بطبعها الهروب من الإنسان، فقد عرفت أنه إذا أمسكها ذبحها وأكلها، فإذا رأته هربت، فإن كانت ذات أجنحة نفرت وطارت لتنجوا بنفسها، وإن كانت من غير الطير سعت بجهدها حتى تنجو بنفسها، ومنها ما يتحصن في رءوس الجبال كالوعول ونحوها، ومنها ما يتحصن بحفر في الأرض كالضب ونحوه، فهذه الدواب وهذه الصيود أباح الله تعالى اصطيادها واقتناصها، فهي تعيش في البراري وتتوالد كما قدر الله، وتأكل من نبات الأرض، ومما تجده مما يناسبها، ويمسكها الإنسان فيأكل مما أحله الله منها، ويتجنب ما ليس بمباح مما ليس من الطيبات.
وقد ذكر الله تعالى الاصطياد بالكلاب فقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة:4] ، والجوارح تكون من الطير كالصقر أو البازي أو الشاهين أو الباشق، وغيرها من الطيور التي تجرح الصيد بمخالبها، ومن الجوارح الكلاب المعلمة، ولهذا قال: {مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ} [المائدة:4] أي: متخذين لهذه الكلاب المعلمة، فقد عرف أن الكلب لا يجوز اقتناؤه إلا إذا كان محتاجاً إليه، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اقتنى كلباً نقص من أجره كل يوم قيراط إلا كلب صيد أو حرث أو ماشية) كلب الصيد الذي يعدو ويصيد، وكلب الماشية الذي يحفظها ويحرسها من الذئاب والسباع، وكلب الحرث الذي يحرس الحرث؛ لأن أهله قد ينامون ويغيبون، فالكلب يكون حوله حتى لا تأتيه المواشي لتأكل من ذلك الزرع ونحوه، وكذلك يحرسه من اللصوص ونحوهم، فيجوز اتخاذها للحراسة لمثل هذه الأشياء، وأما ما عداها فلا يجوز اقتناؤها.
على كل حال، الكلب المعلم صيده حلال؛ لقول الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة:4] ، فاشترط أن يكون معلماً لقوله: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة:4] ، وقد ذكرنا أن المعلم هو الذي إذا أرسل استرسل، وإذا زجر انزجر، وإذا أمسك لم يأكل؛ فهذا هو الذي درب وعلم، يعلمه أهله أنهم إذا رأوا الصيد فإنهم يشيرون إليه، ويدعونه باسمه، ثم إنه يعدوا خلف ذلك الصيد، وإذا رأوه مثلاً متثاقلاً زجروه فانزجر وازداد في العدو، وإذا أمسك وأكل ضربوه فلم يعد، وليس تعبيرهم بالكلام وإنما بالفعل، فيدربونه على أنه يمسك ولا يأكل، وإذا أمسك وأكل ضربوه مرة فلم يعد يأكل، فهذا هو الكلب المعلم.(75/8)
شروط الصيد بالكلب المعلم وبالسهم ونحوه
في هذه الأحاديث تعليمات لحل الصيد بالكلب المعلم، وكذلك حل الصيد بالسهم وما أشبهه: أولاً: أنه إذا أرسله فإنه يسمي؛ لقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة:4] ، فيذكر اسم الله بقوله: باسم الله، أو باسم الله والله أكبر، على هيئة ما يقوله عند ذبح الحيوان المباح.
ثانياً: أن الكلب يمسك الصيد حتى يأتيه صاحبه، ثم يتسلمه منه، ويمسكه بفمه أو بيديه ويتثاقل عليه.
ثالثاً: يجوز الصيد لو قتله الكلب، فتسميتك وإرسالك للكلب يعتبر ذكاة، والكلب قد يعض الأرنب حتى تموت، أو يكسر أضلاعها، وقد يتأخر صاحبه فلا يأتي إليه إلا وقد مات، فيكون إمساكه لها تذكية له، وقد ذكر بعضهم خلافاً فيما إذا قتله الكلب بثقله، فـ ابن كثير رحمه الله تكلم على المسألة في أول تفسير سورة المائدة في تفسير قوله تعالى: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4] ، وهي الآية الرابعة من السورة، وكأنه يميل إلى أنه لا يؤكل إذا قتله بثقله، ولكن ظاهر الحديث أنه يؤكل؛ لقوله في هذا الحديث: (وإن قتل) يعني: وإن قتل الكلب فَكُلْ.
والدليل عليه أنه قال: (وإن وجدت مع كلبك كلباً آخر أو كلاباً فلا تأكل، فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره) ، فدل على أنه إذا سمى على كلبه وقتل فإنه يأكله، وإذا لم يسم فلا يأكل، وإذا وجد مع كلبه كلباً آخر ولم يسم وقد قتل فإنه لا يأكل؛ مخافة أن تكون الكلاب اجتمعت عليه فقتلته، ولا يدرى أيها قتله، هل المسمى عليه أو الذي لم يسم عليه؟ والدليل أيضاً أنه قال: (فأدركت ذكاته) ، فإذا وجدت الصيد لم يزل حياً، لم تزل الأرنب أو اليربوع أو الحبارى أو نحوها فيها حياة، فإنك تذبحه بالسكين؛ وذلك لأنك إذا تركته حتى يموت فقد فرطت، ومثل ذلك القتل بالسهم.(75/9)
الصيد بالوسائل المباحة
امتن الله سبحانه على عباده بالصيد، وجعله من المباحات، ولما ذكر المحرمات في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] إلخ الآية، ذكر ما أحل لهم بقوله: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة:4] أي: وصيد ما علمتم من الجوارح مكلبين {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة:4] فأفاد بأن مما أحله الله تعالى، وجعله من الطيبات، هذه الظباء والوعول -والوعل الأنثى هي الأروى، والكبير من الوعول هو التيتل- وحمر الوحش، وبقر الوحش، وغنم الوحش -وهي دواب تشبه الضأن، وهي أنواع من الوعول- وكذلك ما يشبهها مما هو حلال طيب داخل في قوله: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة:5] ، واصطيادها وإمساكها للإنسان فيه طرق ومسالك يسلكها، ويتوصل بها إلى إمساكها بأية وسيلة، لكن لابد أن تكون تلك الوسيلة مباحة، ونسمع أن كثيراً يأتون إلى الضب وهو في جحره فيوقدون عليه حتى ربما احترق في جحره من الدخان ومات في جحره، فمثل هذا تعذيب لا يجوز؛ وذلك لأن تعذيب الحيوان بالإحراق إفساد له، وتعذيب له بغير حق، أما صب الماء في جحره إلى أن يشعر بالماء ثم يخرج لئلا يغرق فهذا جائز، وكثيراً ما يحصل خروج الأضب من جحورها بواسطة نزول السيل ودخوله في جحورها، فعند ذلك تخرج، فيلحق بذلك إذا صب في جحره من الماء حتى يخرج، وأما ما يفعله بعضهم من إيقاد عليه، أو عمل من الأعمال الجديدة كإحراقه بالسيارات أو نحوها فنرى أن ذلك من التعذيب ومن الأذى.
أما الصيد بالمعراض، فالمعراض: هو العصا التي ليست بمحددة، ولكن قد يكون رأسها يخرق، فإذا رمى صيداً ولو صغيراً -كعصفور أو حمّرة أو حمامة أو نحو ذلك- بهذا المعراض فإن كان المعراض قتله بثقله فلا يحل، وهو داخل في الموقوذة التي هي من جملة المحرمات، والموقوذة: هي التي تضرب إلى أن تموت، تضرب بعصا أو بحجارة إلى أن تموت دون أن تذكى -أي: تذبح- فلو استعصت شاة أو ناقة أو ثور لم يجز قتله بالمثقل، فلا يجوز أن يضرب بالحجارة أو بالعصي إلى أن يموت، لكن يجوز رميه بالسهام إذا نفر وهرب، ففي حديث رافع بن خديج: أنهم كانوا في سفر فندّ بعير -يعني: هرب-، ولما هرب رماه رجل بسهم فأثبته، فذلك السهم الذي رماه به خرق جلده وخرق بدنه وجوفه، فسقط ذلك البعير من آثار ذلك السهم، فأباح النبي صلى الله عليه وسلم أكله، وقال: (إن لهذه الدواب أوابد كأوابد الوحش، فما ندّ منها فافعلوا به هكذا) ، أما كونه يضرب بعصي إلى أن يموت فإن هذا وقيذ، وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم ما قتل بالمعراض بالوقيذ، فإذا رميت بالعصا صيداً طائراً أو حيواناً كيربوع أو أرنب أو ضب فقتله بالثقل فلا تأكله، وكذلك لو رماه بحجر ثقيل فشدخه ولم يجرحه، فمات من آثار الحجر، فإنه يلحق بالوقيذ فلا يحل أكله، ولو سمى عليه؛ وذلك لعدم الجرح فيه، ولا يلحق بالكلاب لأن الله أباح الصيد بها بقوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4] ، فلا يدخل المعراض في إمساك الجوارح ونحوها.
والسهام هي النبال، تكون محددة رءوسها، تقطع من شجر العضاة، ثم تحدد حتى تكون كرأس السكين، فإذا رموا بالسهم توجه إلى الرمية وطعنها؛ لأنه يقع على حده، فينفذ في الرمية؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في صفة الخوارج: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) أي: من المرمي كالظبي ونحوه، فهذا السهم قد يقتل، فتأتي إلى الصيد وقد قتله ذلك السهم سواءً كان ظبياً أو حماماً أو حبارى أياً كان، فإذا وجدته قد قتله وأنت قد سميت عند الرمي فإنه مباح وحلال أكله، أما إذا أدركته حياً فلا بد من ذكاته؛ لأنك قدرت على الذكاة فلابد أن تذبحه، ولا يجوز تركه والحال هذه بدون ذكاة، ومن فعل ذلك فإنه يعتبر مفرطاً، وكذلك لا يجوز تجاوزه وهو حي، فإذا رميته وأدركته وهو حي فلا تتجاوزه وتذهب لغيره، بل عليك أن تذكيه، فإن تركته حتى مات اعتبرت مفرطاً فلا تأكل، ويذكر أن بعض الصيادين إذا طردوا الظباء ونحوها رموا واحداً وأثبتوه فسقط، ثم واصلوا السير ليرموا الثاني، فيرجعون إلى الأول وقد مات، ومن العلماء من أفتى بأكله لأنه مات من أثر السهم، ومنهم من قال: لا يؤكل ما دام أنهم قدروا على ذكاته وتجاوزوه، ولعلهم إذا عرفوا أن السهم لا يقتله في تلك الحال، بل يبقى ساعة أو نصف ساعة؛ ففرطوا ولم يذبحوه فإنه لا يؤكل، وأما إذا عرفوا أن الصيد لن يبقى إلا ثواني -كما لو أصابه السهم في رأسه أو نحره- ففي هذه الحال لهم أن يأكلوا منه وإن تجاوزوه بلا تذكية حتى مات.
وإباحة الصيد من نعم الله تعالى، حيث إن الإنسان يشتاق إلى مثل هذه الصيود التي فيها منفعة، وفيها لذة، ولو كان اللحم متوافراً.(75/10)
حكم الصيد إذا وجد ميتاً بعد يوم وفيه أثر سهم الصائد
ذكر النبي عليه الصلاة والسلام أنك إذا وجدت الصيد وقد مات من أثر سهمك، ولم تر فيه أثراً غير أثر سهمك، ولو بعد يوم أو نصف يوم؛ فلك أن تأكله، لكن إن وجدته قد أنتن فإن الأولى عدم أكله؛ وذلك لتغيره، وذكر أنك لو وجدته قد سقط في ماء فلا تأكل؛ لأنك لا تدري هل مات بسبب سهمك أو بسبب سقوطه في الماء؟ ومثل ذلك أيضاً لو سقط من شاهق، فلو رميته وهو في رأس جبل فتدحرج من رأس الجبل وسقط في الأرض، فأدركته وقد مات، فالأصل أنه ما مات من السهم، وإنما مات من تدحرجه، حيث ضربته هذه الحجارة، أو سقط من أعلى جبل، ومن شدة سقوطه على الأرض مات، فيكون موته ليس بسبب السهم، ولكن بسبب السقوط، فأفاد أنه إذا تعاون على موته مبيح وغير مبيح غلب غير المبيح احتياطاً؛ حتى لا يأكل المرء إلا ما هو حلال ليس في حله شبهة، ففي هذه التعليمات الاحتياط من النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم أمته لما يحل لهم وما لا يحل لهم، كما أمر بالاحتياط في الأمور المشتبهة بقوله: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) .(75/11)
شرح حديث: (من اقتنى كلباً إلا كلب صيد أو ماشية)
قال المصنف رحمه الله: [عن سالم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من اقتنى كلباً إلا كلب صيد أو ماشية فإنه ينقص من أجره كل يوم قيراطان) ، قال سالم: وكان أبو هريرة يقول: أو كلب حرث، وكان صاحب حرث.
وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة من تهامة، فأصاب الناس جوع، فأصابوا إبلاً وغنماً وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أخريات القوم، فعجلوا وذبحوا، ونصبوا القدور، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقدور فأكفئت، ثم قسم فعدل عشرة من الغنم ببعير، فند منها بعير، فطلبوه فأعياهم، وكان في القوم خيل يسيرة، فأهوى رجل منهم بسهم فحبسه الله، فقال: (إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا، قال: قلت: يا رسول الله! إنا لاقوا العدو غداً، وليست معنا مدىً أفنذبح بالقصب؟ قال: ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه، فكلوه ليس السن والظفر، وسأحدثكم عن ذلك، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة) ] .
أورد المؤلف الحديث الأول للدلالة على جواز اقتناء كلب الصيد الذي يقتنص به، وقد دل عليه أيضاً القرآن في قول الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة:4] مكلبين، يعني: متخذي كلاب صيد تعلمونهن مما علمكم الله، فالكلب معروف بشدة السعي، وبشدة العدو، ومن آثار اشتداده في السير وفي العدو يدرك ما يدركه من الصيد، فقد يدرك بعض الظباء، وقد يدرك الأرنب ونحوه؛ فلأجل ذلك فإن كلاب الصيد مما يجوز اقتناؤه للصيد، وهذا هو وجه الاستشهاد بهذا الحديث.(75/12)
تحريم اقتناء الكلاب التي لا يحتاج إليها
هذا الحديث فيه تحريم اقتناء الكلاب التي لا ينتفع بها ولا يحتاج إليها، وبيان أن الذي يقتنيها (ينقص من أجره كل يوم قيراطان) يعني: ينقص من ثواب عباداته، ثواب صلاته وثواب صدقاته وثواب تلاوته وثواب حسناته، ينقص منه كل يوم قيراط، والقيراط جزء من الثواب والأجر، والله أعلم بمقداره، ولا شك أن هذا دليل على تحريم اقتناء الكلاب لغير حاجة.
وقد ورد في الكلاب الأمر بقتلها أولاً؛ وذلك بسبب أن الملائكة لا تدخل البيت الذي فيه الكلب، فذكروا أن جبريل عليه السلام وعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيه، فتأخر عليه، ولما أبطأ عنه خرج النبي صلى الله عليه وسلم من البيت فنزل عليه جبريل فقال: ما منعني أن أدخل البيت إلا أن فيه جرو كلب، وكان هناك جرو كلب تحت السرير لأحد أولاد فاطمة عليها السلام، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بقتل الكلاب؛ لقول جبريل: إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب، فصاروا يقتلونها، ولكن بعد ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها، وقال: (ما لكم ولهذه الكلاب؟ فإنها أمة من الأمم) ، فهذه الكلاب تتوالد كما يشاء الله، وتعيش على ما يسقط من الناس، وتأكل جيفاً، وتأكل أنتاناً، وتأكل لحوماً، والله تعالى هو الذي تكفل برزقها وبرزق غيرها، وهي داخلة في قوله تعالى: {وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [العنكبوت:60] فلأجل ذلك لا يجوز قتلها ما لم تكن مؤذية معتدية، أما إذا كانت مؤذية كالكلب العقور فقد أذن بقتله حتى في مكة، وحتى في حالة الإحرام؛ وذلك لضرره واعتدائه بعدوه على الناس، وشق ثيابهم، وعضهم وجرحهم، وهو معنى تسميته كلباً عقوراً، وأما بقية الكلاب فلا يعتدى عليها، ولا تقتل، ولكن لا تقتنى لغير حاجة، لماذا؟ أولاً: لأن الكلب نجس العين، لو غسل ثم غسل لم يطهر، فهو نجس العين، ونجاسته لا تزول أبداً؛ ولأجل ذلك أمر بغسل الإناء الذي ولغ فيه سبعاً إحداهن بالتراب أو الثامنة كما تقدم، وهذا دليل على نجاسته.
ثانياً: أنه يمنع دخول الملائكة، فلا تدخل الملائكة البيت الذي فيه كلب، ولعل ذلك لنجاسته العينية، والملائكة إنما تدخل الأماكن النظيفة السالمة من الأقذار ومن النجاسات ومن المحرمات ونحوها.
ثالثاً: أن فيه ترويع للناس، فالذي يقتنيه ويدخله في بيته كأنه يروع من دخل بيته أو من أتى إليه؛ فلأجل ذلك باء بهذا الإثم.
رابعاً: الأصل أنه لا حاجة إليه إذا لم يكن فيه منفعة.(75/13)
ما رخص في اقتنائه من الكلاب
رخص في ثلاثة أنواع من الكلاب: الأول: كلب الصيد، وهو الذي يعدو ويصيد الصيد الحلال، وذكرنا أنه يعدو إليه ويطرده حتى يدركه، فقد أباح الله ذلك بقوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة:4] ، ومعروف أنه يعدو حتى يدرك الأرنب أو اليربوع أو الوبر، ثم يمسكه على صاحبه حتى يأتيه صاحبه ويستلمه ويذكيه إن وجده حياً.
الثاني: كلب الماشية، المواشي هي الغنم، ولا شك أنها بحاجة إلى حراستها من السباع، ومعلوم أن أهلها في الليل قد يغلبهم النوم، وقد تأتي السباع في حالة نومهم فتفترس ما تقدر عليه من أغنامهم؛ فلأجل ذلك أبيح لهم أن يتخذوا الكلاب التي تحرس أغنامهم، وتطرد عنها هذه السباع، فيعلمونهن الحراسة، والكلب فيه خفة في نومه، وكذلك الذئاب كما يقول بعضهم في الذئب: ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بأخرى الأعادي فهو يقضان نائم فالكلب أيضاً سريع الانتباه، ينتبه بأدنى حركة، فإذا أحس بأن السبع قد وصل إلى الأغنام ونحوها انتبه وطرده، وعادته أنه يخدشه ويخمشه إلى أن يطرده، وقد ينتبه الأهالي، ويجتمعون على طرده، وبكل حال أبيح أن يتخذ لحراسة الغنم وما أشبهها، فإن الغنم ليس لها القدرة على مقاومة السبع، هذا هو الذي حفظه عبد الله بن عمر، حفظ كلب الصيد وكلب الماشية، وأبو هريرة رضي الله عنه كان صاحب حرث، فحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أو كلب حرث) ، ولعله سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ لأن الإنسان يهتم بالأشياء التي له فيها مصلحة، فلما كان له حرث اهتم وبحث وسأل حتى حفظ أنه استثنى أيضاً كلب الحرث، فإذا كان عند الإنسان حرث كزرع أو نحوه يحتاج إلى ما يحرسه من الغنم التي تعيث فيه وتفسده؛ فإن له أن يتخذ كلباً، والكلب إذا أحس بأن هناك أبقاراً أو أغناماً جاءت لتأكل من هذا الزرع أو نحوه انتبه وطردها.(75/14)
شرح حديث: (إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش)
الحديث الثاني فيه مسائل: المسألة الأولى: ما فعله الصحابة رضي الله عنهم قبل أن يدركهم النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كانوا في غزوة، وأصابتهم مجاعة، فحصلوا على غنيمة غنموها من بعض المشركين، وكانت الغنيمة إبلاً وغنماً، ولما حصلوا على هذه الغنيمة -وكان قد اشتد بهم الجوع- تعجل بعضهم فذبحوا بعضاً من الغنم، ونصبوا القدور، ووضعوا فيها شيئاً من اللحم قبل أن يأتيهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولما لحق بهم -وكانت القدور تفور باللحم- أمر بها فأكفئت، وكأنه غضب عليهم لما تعجلوا؛ وذلك لأنها لا تزال مشتركة، فالذين تسرعوا قد يكونون أخذوا شيئاً من حق غيرهم، فلا يحق لهم أن يتصرفوا إلا فيما يملكونه، ويملكون التصرف فيه، وكيف أمر بتلك القدور فأكفئت؟ لعله لم يكن فيها لحم، أو كان فيها لحم ولكنه اعتبره كالنهبة، وفي بعض الروايات أنه قال: (إن النهبة ليست أحل من الميتة) ، فالميتة حرام، فاعتبر هذا نهباً، بمعنى أنه شبه نهب، حيث إن جميع الغنيمة للغانمين بعد أن يخرج منه الخمس الذي هو لبيت المال، ثم يفرق الباقي على الغانمين الذين حضروها، فلهم أربعة أخماس الغنيمة، وتسوى سهامهم فيها، إلا أنه يزاد للفارس على الراجل، للراجل سهم، وللفارس ثلاثة.
والحاصل أنه رأى أن هذا تسرع، وأخذ لما لا يملكونه، فأمر بالقدور فأكفئت، وبعضها يفور باللحم، وجعل هذا عقوبة لهم على تسرعهم، فدل على أنه لا يجوز التصرف بالغنيمة قبل أن تقسم؛ لأنها مملوكة لجميع الغانمين، ولأن كلاً منهم له حق فيها، ولأن الذي يأخذ منها يعتبر أخذه نهباً، أو يعتبر غلولاً، فكأنه غل يعني: أخذ شيئاً من غير أن يستحقه، وقد توعد الله على الغلول فقال تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161] ، فهذا هو السبب في كونه أتلف هذه اللحوم على أهلها، وأتلف ماءهم الذي كانوا يطبخون فيه لحماً ليأكلوه، فجعل ذلك عقوبة لهم على هذا التسرع، حتى لا يتسرعوا بعد ذلك، هذه المسألة الأولى.(75/15)
كيفية التسوية في قسم الإبل مع الغنم
المسألة الثانية، هي القسم: فلما وصل إليهم قسم الإبل والغنم التي غنموها، فجعل البعير عن عشر من الغنم، أي: جعل قيمة البعير الواحد من الإبل ذكراً أو أنثى يساوي عشراً من الغنم، ولعل ذلك كان في وقت كثرت فيه الغنم ورخصت، وتنافس الناس في اقتناء الإبل، وفي محبتها، وفي رفع قيمتها، ولما قسم أعطى كلاً قسمه، فحصر الصحابة الغانمين، وجعل للعشرة بعيراً بينهم، أو جعل لهم عشراً من الغنم يقتسمونها، أو نحو ذلك، والحاصل أنه قسمها، وهذا يدل على أن أمير السرية أو الجيش يقسم الغنيمة بينهم، وينظر قيمة الغنم في قيمة الإبل، فيسوي بينهم في القسم، فإن كانت الغنم رفيعة القيمة كما في هذه الأزمنة، والإبل رخيصة القيمة، فإنه يسوي بينهما فيجعل مثلاً السبع عن بعير، أو الخمس عن بعير، أو نحو ذلك بحسب اختلاف قيمة الغنم من سمن وهزال، وصغر وكبر، وكذلك قيمة الإبل، وفيه دليل على أنه لابد أن تقسم الغنيمة بالسوية بين الغانمين، فيعطى كل ما يستحقه.(75/16)
حكم حبس البعير الناد
المسألة الثالثة: أنهم لما قسموا ند بعير، يعني: هرب وشرد، فتبعوه، ولحقوه بالخيل، وعجزوا عن أن يدركوه، فرماه بعضهم بسهم فحبسه، يعني: بغته ذلك السهم فسقط، فجاءوا إليه فنحروه، وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على هذا، وأخبر أن لهذه الدواب أوابد كأوابد الوحش، فما ند منها فإنه يفعل به هكذا، والأوابد هي الأشياء الغريبة أو التي تسبب الابتعاد عن الناس والتغرب عنهم، والتوحش منهم، يعني: أن هذه الدواب التي ملكها الله للإنسان وسخرها لهم كما قال تعالى: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} [يس:72] بعض منها قد يكون شروداً يهرب من الناس وينفر منهم، فلا يدرك إلا بقوة، فهم سعوا في طلبه فعجزوا عنه حتى بالخيل، ولم يجدوا بداً إلا أن يرموه، يقول: ما ند منها وهرب فلكم أن تفعلوا به هكذا، بمعنى أن ترموه إلى أن يحتبس، هكذا ورد في هذا الحديث، وإذا رمى بعيراً أو شيئاً مما شرد، ومات بسبب ذلك السهم، فإنه يعتبر كالصيد المتوحش، وقد تقدم أن الصيد إذا مات بسبب الرمية فإنه مباح أكله.(75/17)
جواز الذبح بالقصب والحجارة الحادة ونحوهما
المسألة الرابعة: سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له: إنا لاقوا العدو غداً، وليس معنا مدى، أفنذبح بالقصب؟ المدى هي السكاكين، يعني: أخبروه بأنهم سيلقون العدو غداً، وهم بحاجة إلى أن ينحروا ويذبحوا مما غنموه من الإبل ومن الغنم للأكل، فهم غنموا ويحتاجون إلى تذكية ما يذبحونه للأكل، فكيف يذبحونه ويذكونه وليس معهم المدى؟ وهل يذبحون بغيرها؟ وكان معهم القصب، وهو قصب الزروع، قد يكون في القصبة طرف محدد، إذا شقت نصفين صار طرفها محدداً، وإذا أجري على حلق الشاة يجرحها، ويقطع الجلد واللحم، فيتخذ منه ما يقوم مقام السكاكين، فأباح ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر بأنه يجوز أن يذبح بكل ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه، أنهره يعني: أساله وأجراه، فكل آلة إذا ذبحت بها جرى الدم إلى أن يسيل فإنه يباح الذبح بها إلا ما استثني.(75/18)
شروط الذكاة
ذكر العلماء شروط الذكاة، وهي أربعة: الشرط الأول: أهلية الذابح، وهو أن يكون مسلماً، أو ذمياً متمسكاً بالكتاب الذي أنزل عليه؛ وذلك لأن من شرع أهل الكتاب أنها لا تباح الميتة، وأنه لابد من ذبحها ذبحاً شرعياً بقطع الودجين مع المريء والحلقوم، هذا من دينهم، وهو أيضاً من دين الإسلام، فإذا كان الذابح أهلاً مسلماً أو ذمياً، أبيح ذبحه الشرعي.
الشرط الثاني: قطع الودجين مع المريء والحلقوم، فلابد من قطعها في أي مذبوح، حتى ولو طيراً أو بعيراً أو شاة أو بقرة، كل ما يذكى، والحلقوم هو مجرى النفس، والمريء مجرى الطعام، والودجان عرقان إلى جانب الحلقوم يجري معهما الدم، وإذا قطعا وفي المذبوح حياة فإنه يخرج الدم منهما خروجاً مندفعاً منسفحاً، حتى يخرج الدم كله من عروق الذبيحة، فهذا شرط من شروط حلها، قطع الودجين مع الحلقوم والمريء.
الشرط الثالث: التسمية لقوله في هذا الحديث: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل) ، فلابد أن يسمي عند الذبح، وقد ذكر الله التسمية في قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة:4] فلابد أن يقول: باسم الله، أو باسم الله والله أكبر، والتكبير سنة، والتسمية واجبة، ويدعو في الأضحية بما ورد كما سيأتي، أما في التذكية فيقتصر على التسمية والتكبير، وإذا لم يذكر اسم الله تعالى، فإن كان تركها عمداً فلا تحل، قال الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام:121] أي: مما ذبح ولم يذكر عليه اسم الله تعالى، سواءً ترك التسمية عمداً أو ذكر عليه اسم المسيح أو اسم صنم أو غير ذلك.
كذلك يقول تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:118] ، {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:119] ، أما إذا ترك التسمية جاهلاً وهو من المسلمين أو تركها ناسياً فإنه معذور، والصحيح أنها تباح ذبيحة من كان مسلماً ونسي التسمية، وأما إذا تعمد تركها فلا تباح.
ونلاحظ أن كثيراً من الذين يذبحون في المجازر يكونون جهلة بالأحكام، ولكن ينبغي أن يحضرهم أهل المعرفة، فإذا وكلته أن يذبح لك شاة أو يذبح لك دجاجاً وأنت عنده، وعرفت أنه منشغل أو جاهل بالحكم؛ فعليك أن تسمي أنت عند ذبحه، أو تأمره وتكلفه بأن يسمي عند ذبح كل مذبوح ولو طيراً صغيراً أو نحوه.
الحاصل أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل) يعني: أي شيء أنهر الدم يعني: أساله، وقد ثبت أن شاة كانت مع غنم لبعض الصحابة فأدركها الموت، وكانت ترعاها جارية له، فكسرت حجراً وذبحتها بذلك الحجر، فأباح لهم النبي صلى الله عليه وسلم أكلها، مع أنها ما ذبحت بحديد، وإنما ذبحت بحجر، ولكنه مما أنهر الدم وأساله.
الشرط الرابع من شروط الذكاة: الآلة التي يذبح بها، وقد قال في هذا الحديث: (كل ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل، ليس السن والظفر، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة) فأمرهم بأن يذبحوا بكل شيء يسيل الدم إلا الظفر، فلو كان ظفر إنسان محدداً فذبح به طيراً لم يحل الذبح بهذا الظفر، وقد علل بأنه مدى الحبشة، يعني: سكاكينهم التي يذبحون بها، وكان الحبشة في ذلك الوقت نصارى، ومع ذلك كانوا يخالفون شريعتهم ويخالفون دينهم، ففيه النهي عن التشبه بهم، ويعم ذلك التشبه بهم وبالنصارى ونحوهم في كل شيء من اختصاصاتهم.
ولا يجوز أيضاً أن يذبح بسنه أو بأسنانه، فلا يجوز مثلاً أن يعض الشاة بأسنانه أو يعض الدجاجة بأسنانه حتى يقطع حنجرتها أو يقطع مريئها أو نحو ذلك، لا يجوز الذبح بالسن، وعلل النهي في هذا الحديث بأنه عظم، فكأنه يقول: العظم لا يذبح به، ولو كان محدداً، يعني: لو لم يجد إلا عظم مذكاة مثلاً، ولكن له طرف محدد، فليس له أن يذبح به، ولعل السبب أنه من جملة ما يؤخذ من هذه الدواب فكأنه يذبحها بجزء منها.
إذاً: عرفنا أن شروط الذكاة أربعة: الأول: أهلية الذابح بأن يكون مسلماً أو ذمياً عاملاً بكتابه.
الثاني: ذكر اسم الله تعالى عند الذبح.
الثالث: قطع الحلقوم والمريء والودجين.
الرابع: الآلة التي يذبح بها، وهو ألا يذبح بسن ولا بظفر.(75/19)
شرح عمدة الأحكام [76]
الأضاحي من شعائر الإسلام المشهورة، ومن أعظم القربات المبرورة، وفيها فضائل متعددة، وفوائد متكاثرة، والأضحية تكون ببهيمة الأنعام، ولها شروط لابد من توافرها لإجزائها، وقد بين الفقهاء رحمهم الله أحكامها.(76/1)
شرح حديث: (ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين)
قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [باب الأضاحي: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده وسمى وكبر، ووضع رجله على صفاحهما) ، قال رضي الله عنه: الأملح: الأغبر، وهو الذي فيه سواد وبياض] .
أكثر الفقهاء يذكرون باب الأضاحي بعد الحج؛ وذلك لأنها مناسك، فيقولون: باب الأضاحي والهدايا والعقيقة؛ لأنها ذبائح تعتبر عبادة وقربة وطاعة، فكان الأنسب أن تذكر مع المناسك، ولأن الهدي ما يتقرب به إلى الله تعالى بمكة بعد المناسك في يوم النحر، بما يذبحون لله تعالى من القرابين، ومن الهدايا، فيناسب أن تذكر مع الهدي، ولكن كثير من العلماء -متقدمين ومتأخرين- ذكروا الأضاحي مع الأطعمة؛ لأن الأطعمة غالباً تكون من بهيمة الأنعام، يعني: الأطعمة التي في أكلها خلاف أو ليس في أكلها خلاف، فيذكرون المباح من الصيد ومن الوحش وما ليس بمباح، ثم يذكرون أحكام الصيد وطريقة الاصطياد، ومتى يحل ومتى لا يحل، ثم يذكرون الذكاة، وكيف يحل المذكى ومتى لا يحل، وبيان التذكية التي يباح بها المذكى، ثم يذكرون باب الأضاحي لمناسبتها.(76/2)
فضيلة الأضحية وفوائدها
الأضاحي جمع أضحيّة أو أضحية أو ضحية، وهي الذبيحة التي تذبح في يوم عيد الأضحى، وبها سمي العيد، فالعيد الذي هو اليوم العاشر من شهر ذي الحجة يسمى عيد الأضحى، ويسمى يوم النحر؛ لأنه ينحر فيه من الهدي ومن الأضاحي ما يتيسر للمسلمين، ينحرونه ويذبحونه في ذلك اليوم قربة إلى الله تعالى، فالذين بمكة يتقربون بذبحها والصدقة بثمنها، والذين في خارج مكة يشاركونهم في هذه الذبائح، ويتصدقون منها، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذه الأضاحي؟ فقال: (سنة أبينا إبراهيم، قالوا: فما لنا فيها؟ قال: بكل شعرة حسنة) ، أو كما قال، فتبين بهذا أن فيها أجراً كبيراً، وأن الذي يقدمها ويجود بها يثاب عليها هذا الأجر، بكل شعرة حسنة، ومقدار الشعر لا يحصيه إلا الله، وكذلك ذكر أنها سنة أبينا إبراهيم، ويريد بذلك قول الله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107] وذلك أن الله تعالى ابتلاه أن يذبح ولده إسماعيل، حيث رأى في المنام أنه يذبحه، قال تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات:102] ، وهذه القصة قيل: إنها كانت بمكة؛ وذلك لأن إسماعيل قد تركه أبوه مع أمه هاجر في مكة، فترعرع إسماعيل، وكان إبراهيم يجيء إليهم كل سنة، فلما بلغ معه السعي رأى في المنام وهو في المسجد الحرام قائلاً يقول: إن الله يأمرك أن تذبح ولدك إسماعيل، فانتبه وعرف أنها من الله، وليست من وساوس الشيطان، فأخبر ولده بذلك، وتوجه إلى منى ليكون الذبح فيها، فلما أضجعه واستسلم إسماعيل للذبح، عند ذلك ناداه الله تعالى: {يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:104-105] ، ثم جاءه الملك بكبش، فذبحه فكاكاً لولده، ثم استمر إبراهيم عليه السلام على ذبح هذه الأضحية، وأحياها النبي صلى الله عليه وسلم، فكان في كل سنة يذبح أضحية مما تيسر، وفي هذا الحديث أنه كان يضحي بكبشين أملحين أقرنين، وفي رواية: موجوئين، والكبش هو ذكر الضأن، وفي بعض الروايات أنه يقول في أحدهما: (اللهم تقبل عن محمد وآل محمد، ويقول في الثاني: اللهم تقبل عن أمة محمد أو عمن لم يضح من أمة محمد) ، فيجعله قربة لله تعالى، وقد ذكر الله تعالى أن الهدي يكون من بهيمة الأنعام في قوله تعالى: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ} [المائدة:2] فالمراد بالهدي ما يهدى إلى الله تعالى من بهيمة الأنعام، وكذلك في قوله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] فالصدقة بلحم الهدي سنة، يقول علي رضي الله عنه: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه، وأن أقسم لحومها وجلودها وجلالها على المساكين، وألا أعطي في جزارتها شيئا ًمنها) ، فأخذ من هذا أن الأضحية صدقة وقربة لما يلي: أولاً: أنها إحياء لسنة أبينا إبراهيم الذي استمر على ذلك، فهي سنة إبراهيمية.
ثانياً: أنها سنة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد استمر عليها طوال ما كان بالمدينة، فكان يضحي كل سنة بكبشين أو بكبش إذا لم يتيسر غيره، فيطعمون ويتصدقون ويأكلون، فهي قربة وصدقة.
ثالثاً: أن فيها أجراً كبيراً، حيث إن فيها هذا الثواب وهذه الحسنات التي ذكرت في هذه الأحاديث.
رابعاً: ما فيها من التوسعة على المسلمين وعلى المساكين، وبالأخص في البلاد الفقيرة، فإنها تقع موقعاً، حيث إنهم يتلذذون بأكل هذا اللحم الطيب، ويكون غذاء لهم، وينتفعون به، وقد ينتفعون أيضاً بجلدها أو بصوفها أو نحو ذلك، ففيها أجر.
والأضحية سنة مؤكدة، وقد ذهب بعض العلماء إلى أنها واجبة على من كان عنده قدرة أو سعة، واستدلوا بما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا) ، ولا شك أن في هذا دليلاً على آكديتها.(76/3)
أنواع الأضاحي
الأضاحي تكون من الأنعام الثمانية التي ذكرها الله في سورة الأنعام: {مِنْ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:143] يعني: ذكر وأنثى، {وَمِنْ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:143] يعني: ذكر وأنثى، {وَمِنْ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:144] فمن الضأن الكبش والنعجة، ومن المعز التيس والعنز، ومن الإبل الناقة والجمل، ومن البقر الثور والبقرة، هذه هي الأصناف الثمانية، فلا يضحى بالدجاج، ولا يضحى بالظباء، ولا بالصيد، ولا بالسمك ونحو ذلك؛ لأنها ليست من بهيمة الأنعام التي تهدى إلى الله تعالى، وليست من البهائم التي سخرت للإنسان.(76/4)
شروط الأضحية
لابد أن تكون الضحية بما يجزئ، فلا تجزئ الصغيرة التي لم تبلغ سناً ينتفع بها، وحدد ذلك في الإبل بخمس سنين، فإذا تمت السنة الخامسة فهي ناقة أو بعير يضحى به، وتجزئ البقر إذا بلغت السنتين، والمعز إذا بلغت سنة، والضأن إذا بلغت نصف سنة، هكذا حددت أسنانها.
ولابد أن تكون سليمة من العيوب الضارة التي تنقص قيمتها، أو تفسد لحمها، فكل عيب ظاهر يختل به اللحم، يفسد أو يكره ولا يقبل؛ فإنه يتجنب ذبحها أضحية، وكذلك العيوب التي تنقص القيمة نقصاً ظاهراً، وهي معروفة.(76/5)
كيفية توزيع الأضحية
ورد في كيفية توزيعها أنهم يأكلون ويتصدقون، والأصل هو الصدقة؛ وذلك لأنها صدقة أخرجها الإنسان وتقرب بها إلى الله تعالى، فيتلمس لها من يتقبلها من المسلمين الضعفاء وذوي الحاجات، وهم موجودون بكثرة غالباً في كل بلاد، ولو أن يتكلف فيحمل لحمها في سيارته، ويطوف حتى يجد الفقراء في أماكنهم، سواء في المدن، أو في أطراف المدن، أو في القرى، أو في غيرها، فإنهم يفرحون بذلك، ويجعلونه قوتاً وغذاءً لهم، وما ذاك إلا لأنها من الصدقات، فلابد أن تعطى لأهل الصدقات الذين قال الله عنهم: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] فمصرف الصدقات أصلاً للفقراء، ومن الصدقات هذه الذبائح التي هي الأضاحي.
وإذا أكل منها فلا بأس، فله أن يأكل، وله أن يهدي لأقاربه، أو لجيرانه، أو أصدقائه، ونحو ذلك، وقد ورد في بعض الأحاديث أنهم يأكلون ويهدون ويتصدقون أثلاثاً، وإن زاد في الصدقة على الثلث أو زاد في الهدية فله ذلك، ولكن لابد من الصدقة.(76/6)
حكم بيع شيء من الأضحية وحكم الاشتراك فيها
لا يجوز بيع الأضحية، ولا بيع شيء من لحمها، ولا بيع جلدها، بل ينتفع بجلدها بعد دبغه أو يتصدق به؛ وذلك لأنها بجميع ما يتعلق بها صدقة لله تعالى، واختيار الضأن أفضل كما في هذا الحديث، فالأكثر أنه صلى الله عليه وسلم كان يضحي بالضأن، فقوله: (بكبشين) الكبش هو ذكر الضأن، وقوله: (أقرنين) يعني: لهما قرنان، أي: لكل واحد منهما قرنان في رأسه، وهذا معروف، وإن كان أصل هذا في المعز، ولكن يوجد من الضأن ما له قرون، وقوله: (أملحين) الأملح هو الذي فيه سواد وبياض، إما أن يغلب عليه أحدهما أو يكونا متساويين، ولكن لعل هذا من باب المصادفة، فيجزئ أي لون، فلو كان كله أسود، أو كله أبيض، أو فيه نقط بيضاء أو سوداء؛ أجزأ ذلك بلا كراهة.
وفي بعض الروايات: (أنهما موجوءان) واستدلوا به على أنه يجوز الأضحية بالخصي الذي رضت خصيتاه؛ وذلك لأنه يطيب لحمه كما يذكر أهل الخبرة، والوجاء هو رض عروق الخصيتين دون قطع، فيرضون عروقها حتى لا ينزوا على النعاج، وحتى يطيب لحمه، فهذا هو الأفضل.
وإذا ذبح من غير الضأن أجزأ، ومعلوم أنها تتفاوت القيم، فيسن أن يختار السمين، أو النفيس، ورفيع القيمة؛ لأن ذلك أدل على جوده، وعلى سخائه، وعلى سخاوة نفسه، وكونها طابت بهذا المال الذي بذله في سبيل الله، بدون أن يمن به أو يبخل به.
ويجوز الاشتراك في الأضحية فالشاة الواحدة -التي هي الواحدة من الغنم- تكفي عن أهل بيت إذا كان مأكلهم ومجمعهم واحداً، ومطبخهم واحداً، ولو كانوا كثيرين، فيجعلها عنه وعن أهل بيته، وأما البقرة والبدنة فإنها تجزئ عن سبعة، وفي حديث أن البدنة تجزئ عن عشرة، ولكن لعل ذلك في باب القسمة، وأما في باب الأضحية فالظاهر أنها تكون عن سبعة.(76/7)
حكم الأضحية عن الميت
الأصل في الأضحية أنها عن الأحياء، فالإنسان يضحي عنه وعن أهل بيته وعن أقاربه الأحياء، ولكنها جائزة عن الأموات؛ وذلك لأنها صدقة من الصدقات، فإذا ضحى عن أبويه شاتين، عن أبيه واحدة وعن أمة واحدة، أو عن إخوته الأموات، أو عن أعمامه أو أقاربه الذين قد ماتوا؛ نفعهم ذلك، وحصل له أجر بذلك؛ لأنها صدقة، فيصل أجرها إلى الأموات، وقد ورد في الحديث قول رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن أمي ماتت، وأظنها لو تكلمت تصدقت، أفأتصدق عنها؟ قال: نعم) ، فمن الصدقة ذبح الأضحية، فينوي أجرها لأقاربه الأموات، كما يجوز للحي أن يوصي بضحية أو أضاحي يجعل ثوابها لأقاربه، ولهم الأجر في ذلك.
وإذا قل نفعها أو قل الانتفاع بها فالأولى ألا يسرف فيها، بل يقتصر على ما يجزئ أو على ما يضحي به عامة الناس دون الإسراف، فإذا كان هناك وقف في أضاحي، وهذا الوقف مثلاً غلته عشرة آلاف كل سنة أو عشرون ألفاً فلا يقول: أشتري أضاحي بثمانية آلاف، أو بعشرة آلاف أو نحو ذلك، بل يضحي بما يضحي به الناس، فإذا اشتريت ضحية بخمسمائة أو بستمائة أو بسبعمائة كفت، والبقية تصدق بها على الفقراء والمعوزين، تصدق بها في غير وقت كثرة اللحوم، فلو أنه اشترى بالبقية لحماً في رمضان وتصدق به، أو في أي شهر من السنة؛ لأثيب على ذلك، وكذلك لو تصدق به دراهم أو طعاماً على المستضعفين والمستحقين لقبل منه ذلك إن شاء الله، فمن الإسراف أن يشتري ضحية من وصية بخمسة آلاف أو بسبعة آلاف أو نحو ذلك، ويصرفها جميعاً في هذه الأضحية، فهذه الأضحية التي بخمسة آلاف أو نحوها تقوم مقامها ضحية بخمسمائة ويكتفى بها، ويتصدق بالباقي في وجوه الخير، حتى ينتفع الميت بأجر مستمر، وذلك من أجر مؤقت منقطع.(76/8)
شرح عمدة الأحكام [77]
الخمر هي أم الخبائث ومفتاح كل شر، فمن رحمة الله بعباده أن حرمها عليهم؛ حفظاً لعقولهم وأديانهم وأموالهم وأعراضهم وأنفسهم، ومن شرب الخمر فقد وجب إقامة الحد عليه، إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع، وقد بين ذلك أهل العلم رحمهم الله.(77/1)
تحريم الخمر
[كتاب الأشربة: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن عمر قال على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما بعد: أيها الناس! إنه نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة: من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل.
ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيهن عهداً ننتهي إليه: الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا.
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن البتع فقال: (كل شراب أسكر فهو حرام) ، البتع: نبيذ العسل.
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: بلغ عمر أن فلاناً باع خمراً، فقال: قاتل الله فلاناً، ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قاتل الله اليهود! حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها) جملوها: أذابوها] .(77/2)
جناية الخمر على العقل
هذه الأحاديث تتعلق بالخمر، ذكر عمر رضي الله عنه أن الخمر ما خامر العقل، أي: غطاه وأغلقه، وأصل التخمير هو التغطية، ومنه قوله في الحديث: (خمروا الإناء وأوكوا السقاء) ، خمروه: غطوه، ومنه تسمية الخمار، وهو غطاء المرأة التي تغطي به رأسها ووجهها، وهو مذكور في قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] ، فالخمر اسم لما يغطي العقل ويخالطه ويفسده.
حرم الله تعالى الخمر، وكانت -عندما حرمت- تصنع في المدينة من خمسة أشياء كما قال عمر، يصنعها بعضهم من التمر، وبعضهم من العنب، وبعضهم من العسل، وبعضهم من الحنطة، وبعضهم من الشعير، يؤخذ من هذه الخمسة خمر، يعني: يطبخ حتى يتخمر ويشرب، ويكون له حلاوة، وتلك الحلاوة تخامر العقل فتغطيه، فيصل إلى حالة شبه غيبوبة بحيث لا يدري ما يقوله ولا ما يفعله.
حرم الله تعالى الخمر؛ لأنها تسلب العاقل عقله، وما ذاك إلا أن ميزة الإنسان عقله، الله تعالى كلف الإنسان لكونه ذا عقل يفهم ما يقول، ويعقل ما يتكلم به وما يسمعه، ويميز بين الأشياء، فيعرف النافع والضار، ويعرف المصالح والمفاسد، ويميز بين ما له وما عليه، فكان في ذلك ميزة له وفضيلة، ورفعة له وشرف، والناس يتفاوتون في هذه العقول، ولكن يجتمع البشر في أن لكل منهم عقلاً يناسبه، وإذا سلب هذا العقل فإن ذلك الذي سلب عقله تسقط عنه التكاليف، ويلحق بغير المكلفين، ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاثة: وذكر منهم: المجنون حتى يفيق) ، المجنون هو مسلوب العقل.
ولما كانت هذه هي منزلة العقل كانت الجناية عليه أعظم الجنايات، فلأجل ذلك لو ضرب إنسان فذهب عقله، فإن فيه الدية كاملة كدية القتل، وهذا دليل على أهمية هذا العقل، ولما كان كذلك حرمت هذه الخمر التي تجني على العقل فتذهبه؛ فحرمت حتى لا يتمادى الإنسان بما يجني به على نفسه، وذلك لأنه إذا سكر فإنه تقع منه المخالفات التي تنافي ما يفعله العقلاء، وللسكارى قديماً وحديثاً حكايات عجيبة في أفعالهم، حتى ذكروا أن بعضهم دخل وهو سكران فعاتبته أمه وهي تسجر تنوراً، فألقاها في التنور حتى احترقت وهو ينظر، وذلك لأنه في تلك الحال ليس معه عقل يميز به، فانظر ماذا حصل منه! وذكروا أن رجلاً استدعته امرأة ليفجر بها، وكان عفيفاً ولكنها أحضرت له كأس خمرٍ، فلما شربها وزال عقله وقع منه الزنا، ووقع منه أكثر من ذلك بسبب أنه فقد العقل الذي كان يميز به بين ما ينفعه وما يضره، فصارت الخمر مفتاحاً لهذه الشرور ولهذه المعاصي، فحرمت لأجل ذلك.(77/3)
الآيات التي نزلت في تحريم الخمر
نزل في تحريم الخمر أولاً: قول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219] ، ذهب بعضهم إلى أن هذه الآية هي التي حرمت الخمر، وذلك لأن الله وصفها بالإثم، ومعلوم أن الإثم محرم، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ} [الأعراف:33] ، أخبر بأن الإثم محرم كما أن الفواحش محرمة، الفواحش منها الزنا ومنها اللواط ومنها فعل القبائح، فكذلك الإثم محرم، ولا شك أن الخمر والميسر فيهما إثم كبير.
إذاً: هذه الآية دالة على أن الخمر محرم لما فيها من إثم كبير.
ثم نزل فيها قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43] ، ولما نزلت هذه الآية تركها كثير من الصحابة وقالوا: لا خير في شيء يحرمنا من الصلاة، وبعضهم كان يشربها في الأوقات الطويلة كبعد الفجر وبعد العشاء، بحيث يفيق قبل أن يأتي وقت الصلاة، وهذا دليل على أنهم عرفوا شناعتها وبشاعتها، ولما نزلت الآيات في سورة البقرة في الربا حرم النبي صلى الله عليه وسلم التجارة في الخمر، فكان ذلك مقدمة لتحريم الخمر تحريماً باتاً.
ثم نزل في سورة المائدة قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90] ، ذكر بعض العلماء أنها دلت على تحريم الخمر من عشرة أوجه: الأول: أن الله قرنها بالأصنام والأزلام وهي محرمة.
الثاني: أنه وصفها بأنها (رجس) ، والرجس هو النجس، وكل شيء نجس فإنه محرم.
الثالث: أنه أضافها إلى الشيطان (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) ، وكل شيء من عمل الشيطان فلا شك أنه محرم؛ لأن الشيطان لا يأتي إلا بما يفسد الإنسان، وبما يبعده عن ربه.
الرابع: أن الله أمر بالاجتناب لها (فَاجْتَنِبُوهُ) ، والاجتناب هو الابتعاد، يعني: ابتعدوا عنها بعداً شديداً، وهو أبلغ من قوله: (اتركوها) فإن الاجتناب أن تكون في جانب وهي في جانب بعيد.
الخامس: تعليق الفلاح على تركها (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) دل على أن من لم يتركها فهو بعيد من الفلاح.
ثم ذكر السادس بقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة:91] ، فالشيء الذي يوقع العداوة بين المسلمين ويوقع البغضاء لا شك أنه حرام.
العداوة هي كون بعضهم يعادي بعضاً ويقاطعه، والبغضاء وقوع البغض، ولعل سبب ذلك أنه إذا سكر فإنه قد يهلك المال، وقد يضرب من عنده، كما فعل حمزة قبل تحريم الخمر، لما اعتدى على شارفين لـ علي فنحرهما، وجب أسنمتهما وهما حيان، فكان في ذلك إفساد لهذا المال.
فالخمر توقع العداوة بين الأخوين بهذه الأسباب التي يفعلها وهو سكران ثمل، وكذلك يوقع البغضاء، فهاتان مفسدتان هما الخصلة السادسة والسابعة.
ثم ذكر الثامنة والتاسعة في قوله: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ} [المائدة:91] فهاتان خصلتان تدلان على أن الشيطان حريص على كل ما يصد عن ذكر الله عموماً، وعن الصلاة خصوصاً، وذلك لأن مجالس أهلها غالباً مجالس لهو، ومجالس فساد، ليس فيها علم ولا ذكر ولا دعاء ولا فائدة، وإنما هي قيل وقال، أو سباب وهجاء وفساد، وقمار ولعب، ونحو ذلك، ينشغلون بها عن ذكر الله تعالى.
كذلك انشغالهم عن الصلاة، لا شك أن انشغالهم عن الصلاة أعظم من انشغالهم عن غيرها؛ وذلك لأنهم إذا سكروا متى يأتون إلى الصلاة؟ إذا شربها في الظهر ضيع الصلاة الوسطى وهي العصر، وإذا شربها بعد المغرب ضيع صلاة العشاء، وإذا أتاها لم يأتها بقلب حاضر، بل يأتها وهو موسوس ثمل لا يدري ما يقول.
إذاً: لا شك أن هذا من الشيطان حيث أوقعهم فيها حتى صدهم عن الصلاة.
وختم الآية بقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:91] ، وهذه هي الخصلة العاشرة، يقول بعض السلف: لما نزلت هذه الآية قال الصحابة: انتهينا انتهينا.(77/4)
الأحاديث الواردة في تحريم الخمر
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر لما فيها من مفاسد، وشدد في النهي عنها فقال: (من شرب الخمر في الدنيا لم يشرب منها في الآخرة) ، فالله تعالى ذكر أن في الجنة خمراً لذيذاً، وهذا الشراب اللذيذ نفى الله عنه ما يكون في خمر الدنيا، فقال تعالى: {وَكَأْساً دِهَاقاً * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً} [النبأ:34-35] أي: ليس كخمر الدنيا الذي هو مملوء باللغو والكذب، وقال تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة:17-18] ، الكأس هنا هو الخمر وهو من معين، أي: صاف، سالم مما في خمر الدنيا {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:19] الغول هو ما يغتال العقل، وكذلك ينزفه، فمن شربها في الدنيا حرم شرابها في الجنة.
كذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بأن من شربها وكرر شربها كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال، وهي عصارة أهل النار، وهذا دليل على أنه لابد لمن كررها وأدمن عليها أن يدخل في النار والعياذ بالله، وأن يكون ذلك سبباً في حرمانه من الجنة.
ولما كان أمرها كذلك حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالغ في تحريمها، حتى لعنها ولعن فيها عشرة، كما ورد أنه صلى الله عليه وسلم: (لعن الخمر وبائعها ومشتريها، وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه، وآكل ثمنها) يعني: أنه لعن كل من ساهم فيها.
وبكل حال فالأدلة كثيرة في أن هذه الأشربة المحرمة إنما حرمت لضررها الذي يحصل منها: ضرر على العقول، وضرر على المجتمعات، والحكايات عن أهل الخمر في هذه الأزمنة أشهر من أن تذكر، كم حصل من الحوادث بسبب أن بعض الذين يقودون السيارات سكران، فيقع منه حوادث يذهب في ضحيتها نفوس بريئة وأموال محترمة، وما ذاك إلا لأنه تعاطى هذا الشراب فأذهب عقله، فدخل في هذه الطرق وهو على هذه الحال، ولم يشعر بما أمامه لفقد عقله الذي يميز به، فحصل منه هذا الاصطدام وهذه الحوادث الشنيعة البشعة، ولا شك أن هذا دليل على بشاعتها وشناعتها.(77/5)
كل مسكر فهو خمر
قال عمر رضي الله عنه: (الخمر كل ما خامر العقل) أي: كل ما غطاه وأزال الشعور فإنه يسمى خمراً، وليس خاصاً بما صنع من العنب، بل كل شيء يخامر العقل.
وقد: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شراب يقال له: المزر؟ فسأل: هل هو مسكر؟ فقيل: نعم، فقال: كل مسكر حرام) ، و (نهى عن كل مسكر أسكر عن الصلاة) ، وقال: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) ، وقال: (ما أسكر منه الفرق، فملء الكف منه حرام) ، فلو قدر أنه لا يسكر حتى يشرب فرقاً، والفرق ثلاثة آصع، وإن كان ذلك نادراً، فإنه لا يجوز أن يشرب من هذا ولو جرعة واحدة، ما دام أن كثيره يسكر فقليله حرام، أي: فهو خمر.
وكذلك تصريحه بقوله: (كل مسكر خمر) أي: سواء من العنب أو من التمر أو من الزبيب أو من العسل أو من الشعير أو من الحنطة، أو من الأشربة الجديدة التي تخمر إلى أن تبلغ حد الإسكار، أو نحو ذلك.
والنبيذ: أصله أن ينبذ تمر في ماء، فإذا طبخ حتى ينعقد أصبح خمراً، وكذلك الزبيب والعنب إذا طبخ حتى ينعقد أصبح خمراً، وهكذا كل ما يلحق بمثل هذا.
فإذا كانت الخمر محرمة فإن ثمنها حرام كما في أثر عمر أنه لما سمع أن رجلاً باع الخمر، فعاتبه وأخبره بأن الله حرمها وحرم ثمنها، حتى ولو باعها على يهود أو نصارى أو مشركين يستحلون شربها، فلا يحل له ثمنها، كما أنه لا يجوز ثمن الميتة وثمن الأصنام وثمن الأشياء المحرمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا حرم الله شيئاً حرم ثمنه) .(77/6)
شرح عمدة الأحكام [78]
الأصل في الألبسة الإباحة، وقد نهى الشرع عن بعض الألبسة للرجال لحكمة، وقد بين أهل العلم أحكام الألبسة وما يحرم منها وما يجوز وما يكره.(78/1)
تحريم الحرير على الرجال
قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [كتاب اللباس: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تلبسوا الحرير، فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة) .
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) ] .
هذا كتاب اللباس، وهذا الكتاب جعله في عمدة الأحكام من أحاديث خير الأنام بعد كتاب الأطعمة؛ وذلك لأن الجميع مما يحتاج إليه، ولأن اللباس من جملة ما أنعم الله به ومنّ به على المسلمين، بل على الأمة جميعاً، قال الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً} [الأعراف:26] ، فقسم اللباس إلى قسمين: قسم يستر به الإنسان العورة والسوءة، وقسم يكون رياشاً، يعني: جمالاً وزينة، وكلها مما أنعم الله به وامتن به على العباد، وإن كان ذلك من جملة ما ينسجونه ويعملونه، ولكن هو الذي أخرج لهم الأصل الذي هو مادة هذه الأكسية وهذه الألبسة، فهو الذي امتن عليهم بهذا الشجر الذي يخرج منه هذا القطن ونحوه، وامتن عليهم أيضاً بهذه الأنعام التي ينسجون منها هذه الأصواف وهذه الأكسية ونحوها، وامتن عليهم بالمواد التي يصنعون وينسجون منها هذه الأكسية.
الأصل في اللباس أنه على الإباحة، وأن الإنسان يلبس ما تيسر له، لكن وردت الشريعة بمنع اللباس لبعض الأنسجة ولبعض الأكسية، وأنها لا يجوز لبسها، وعلل ذلك بعلل، ومن جملتها لبس الحرير للرجال، وفي هذا الحديث النهي الصريح من النبي صلى الله عليه وسلم أن يلبس الرجال الحرير، ويخبر بأن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة.
الحرير معروف أنه لباس يؤخذ من نسيج دود القز، هذا الدود دود صغير يتوالد ويكون مما يتولد منه هذا النسيج الذي ينسجه حتى يجعل له أماكن يكتن بها ويختفي فيها ويخفي فيها نفسه وبيضه وبذره، ومن المعروف أن العنكبوت له أيضاً نسج، وإن كان نسيج العنكبوت ليس مثل دود القز، بل أوهى لقوله تعالى: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41] ، فكما أن العنكبوت تنسج ولها نسيج، فكذلك دود القز، فيؤخذ من نسيج دود القز هذا النسيج ويعمل منه هذا الحرير، وإذا نسج هذا الحرير فإنه لرقته ولنعومته وملوسته يكون ملبساً منعماً يفتخر به من يلبسه، وينعم به، فلذلك جاءت الأحاديث بالنهي عنه للرجال لما فيه من النعومة، وأبيح للنساء لحاجة النساء إلى الجمال، وإلى الزينة، فهذا هو السر في النهي عنه.
تكاثرت الأحاديث في نهي الرجال عن لبس الحرير، وورد الإذن فيه في بعض الأماكن والأحوال، ففي حديث آخر أن بعض الصحابة اشتكوا حكة في أجسادهم، ولم يناسبهم إلا الحرير، فرخص لهم في لبس الحرير؛ لأجل تلك الحكة، فأخذوا من ذلك أنه يجوز للعذر، كحكة وجرب ونحوه، وورد أيضاً الرخصة في الشيء اليسير منه، ومثلوا بسجف الفراء، الفرو المعروف قد تحتاج حافاته إلى أن تخاط بقطع من الحرير، وكذلك إذا كانت الرقعة التي يرقع بها الثوب يسيرة من الحرير قدر أربع أصابع أو أقل، وكذلك إذا كان الحرير ليس ظاهراً وإنما هو أسلاك خفية وهو ما يسمى بالسداء، إذا لم يكن ظاهراً.
في هذه الأزمنة يوجد بعض الأكسية تسمى حريراً، ولكنها ليست حريراً أصلياً، وإنما هي حرير صناعي كسائر الصناعات التي قلدت بها الأكسية الأصلية، فإذا وجدت هذه الأكسية ولم تكن حريراً أصلاً، وإنما هي صناعة مقلدة لذلك الحرير الأصلي؛ فالأصل فيها الإباحة، لأن النهي إنما ورد في الحرير الذي هو من نسج دود القز ونحوه.
أما بقية الحديث فذكر فيه أن من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، الله تعالى قد ذكر ثواب أهل الجنة في قوله تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج:23] ، فجعل هذا اللباس الرقيق الناعم هو لباس وكسوة أهل الجنة، ومن تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه، فمن تعجل هذا اللباس الذي هو الحرير، وأخذه في الدنيا كان من عقوبته أن يحرمه في الآخرة، وفي ذلك وعيد شديد: فقيل: إن المراد أنه يحرم دخول الجنة، وذلك لأن من دخل الجنة فإنه يتنعم بنعيمها، ولا يحرم شيء من لذاتها التي يتمتع بها أهلها، فإذا لم يلبسه دل على أنه ليس من أهل الجنة.
وقيل: إنه وإن دخل الجنة فإنه يكون في موضع لا يلبس أهله -أي: أو أهل ذلك المكان- من لباس أهل الجنة الذي أعد لهم، بل يلبسون غيره مما يتنعمون به أو يتجملون به.(78/2)
تحريم استعمال أواني الذهب والفضة
يحرم استعمال أواني الذهب والفضة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تأكلوا في آنية الذهب والفضة، ولا تشربوا في صحافهما، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) ، وأراد بذلك النهي الأكيد عن استعمال هذه الأواني التي صنعت من الذهب أو من الفضة؛ استعمالها في الطبخ فيها أو الأكل فيها.
والصحاف هي التي توضع فيها الأطعمة، الأكل فيها كصحفة أو الاستعمال لها في شرب أو طهارة أو نحو ذلك، سواء كانت مما صنع من الذهب أو مما صنع من الفضة، وذلك لأن في ذلك كسر لقلوب الفقراء، إذا رأوا هؤلاء الأثرياء يشربون ويأكلون في أوان من ذهب أو من فضة، وهم يعوزهم لقمة العيش، ويعوزهم ستر العورة، ولا يجدون ذلك إلا قليلاً، وهؤلاء قد زادوا إلى هذا الحد؛ كان في ذلك كسر لقلوب الفقراء، والمسلم مأمور بأن يساوي إخوته، ولا يستعمل ما يضرهم، ولا ما يسيء إليهم، فهذا من الأسباب.
أو أن في ذلك إسرافاً، فإنه ما دام أن هناك ما يقوم مقامها من أواني النحاس والصفر، وأواني الحديد، وأواني المعادن الأخرى، فلا حاجة إلى أن تستعمل هذه الأواني بأي نوع من أنواع الاستعمال.
ولا شك أن هذا هو الأقرب، أن العلة في ذلك ما فيها من الإسراف، والبذخ، والغرور، والمباهاة، والفخر والافتخار بأنه يتمتع بكذا وكذا، ويعم كذلك أيضاً كل إسراف في استعمال شيء من الآلات التي فيها أو في ثمنها ارتفاع زائد، وإفساد للمال؛ وذلك لأنه يوجد من هو بحاجة إلى هذا المال الزائد.
وعلى كل حال علل في هذا الحديث بقوله: (فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) أي: أن استعمال هذه الأواني لأهل فارس والروم واليهود والنصارى والمشركين ومن شابههم، يتمتعون بها في الدنيا ويحرمون منها في الآخرة، وأنتم أيها المؤمنون الذين ستدخلون الجنة، وتتنعمون بها، وتلبسون ما تشاءون من الثياب والنعيم، وتأكلون فيما تشاءون من هذه الصحاف ونحوها.
ورد في بعض الأحاديث: أن الله تعالى خلق الجنة مائة درجة، يعني: مائة دور من الأدوار، درجة منها من ذهب آنيتها وأوانيها، وأبنيتها، وبلاطها، وكل ما فيها، ودرجة أخرى من فضة آنيتها، وفرشها، وبلاطها، وأبنيتها، ودرجة ثالثة من اللؤلؤ آنيتها وكل ما فيها، وبقية الدرجات فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فالمؤمن يطلب ذلك الثواب، ويترك ما يكون سبباً في حرمانه من هذا الثواب.(78/3)
من أحكام اللباس
قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (ما رأيت من ذي لمة في حلة حمراء أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، له شعر يضرب إلى منكبيه، بعيد ما بين المنكبين، ليس بالقصير ولا بالطويل) .
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع: أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإبرار القسم أو المقسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام؛ ونهانا عن تختم بالذهب، وعن الشرب بالفضة، وعن المياثر، وعن القسّي، وعن لبس الحرير، والإستبرق، والديباج) .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اصطنع خاتماً من ذهب، فكان يجعل فصه في باطن كفه إذا لبسه، فصنع الناس كذلك، ثم إنه جلس على المنبر، فنزعه فقال: إني كنت ألبس هذا الخاتم، وأجعل فصه من داخل، فرمى به ثم قال: والله لا ألبسه أبداً، فنبذ الناس خواتيمهم) ، وفي لفظ: (جعله في يده اليمنى) ] .
هذه أحاديث تتعلق باللباس، واللباس منه ما هو كسوة تعم البدن؛ كالثياب والقمص والأردية والأكسية، ويعم ما يكون على جزء من البدن كالعمائم والقلانس، ويعم أيضاً الأحذية والخواتيم والحلي، وذلك لأن الجميع يسمى لباساً، فيقال: لبس الخاتم، وخلع الخاتم أو نزعه، ويقال: لبس النعل أو الخف أو الجورب، وخلعه، فالجميع من اللباس، فيحتاج المسلم إلى أن يعرف ما يكون منه جائزاً وما ليس بجائز.
معلوم أن الأصل في الأكسية أنها مباحة، وأن الله تعالى أباح كل ما يستر العورة أو يلبس على البدن، سواء للزينة أو للستر والتغطية، أو للجمال، لكن ورد الشرع بالتنبيه على منع بعض الأشياء لعلة فيها محددة، وتحديد ذلك البعض الذي نهي عنه ليكون المسلم على بصيرة من دينه، فلا يتعاطى الشيء الذي ورد النهي عنه، مع العلم بأن الله لا يحرم إلا ما فيه ضرر، ولا يحرم الشيء الذي فيه منفعة، أو الذي يمكن أن يكون مفيداً، فإذا كان فيه مضرة راجحة على منفعته فإن الله يحرمه، وقد تكون العلة التي حرم لأجلها خفية، فالمسلم يرضى ويسلم.(78/4)
حكم لبس اللباس الأحمر
الحديث الأول فيه صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس بالطويل ولا بالقصير، يعني: في صفة قامته، وأنه بعيد ما بين الكتفين، يعني: في صفة ذاته أو جسده، لكن الشاهد منه أنه رآه وقد ارتدى حلة حمراء، وهذا مما يستدل به على جواز اللباس الأحمر، ولكن قد وردت أدلة أخرى في النهي عن اللباس الأحمر، ففي حديث البراء الذي بعده أن من جملة المناهي السبع: المياثر، وهي أكسية وأردية حمر، فلعل تلك الحلة التي كان لبسها ليست حمراء فاقعة خالصة الحمرة، وإنما فيها خلط حمرة أو أسلاك حمراء، فالأصل أنها بيضاء أو أنها في الأصل ملونة أو حمرتها ليست خالصة، فلذلك لبسها، ولا يمكن أن ينهى عن الأردية أو الأكسية الحمر الخالصة ومع ذلك يلبس ما هو أحمر، فلا يمكن أن ينهى عن شيء ويفعله.
وبكل حال فإنه يجوز لباس الأحمر الذي ليس بخالص، ومثله في هذه الأزمنة هذه العمائم الحمر التي يرتديها الأغلب من الناس، فالأصل أنها بيضاء، ولكن فيها أخلاط مداخلة لها جعلت ظاهرها أو الغالب عليها اللون الأحمر، فيرتديها الرجال، ولا محذور في ذلك، فهي يمكن أن تكون مثل تلك الحلة التي ارتداها النبي صلى الله عليه وسلم.(78/5)
حكم لبس اللباس الأسود
ثبت: (أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه عمامة سوداء) ، والعمامة ما يعم الرأس، أي: ما يجعل على الرأس، فاستدل بذلك على أنه يجوز لباس الأسود أحياناً، سواء كان على جزء من البدن أو على أكثر البدن إذا كان ذلك لمصلحة، وهذا دليل على جواز لباس ما هو أسود؛ سواء كان سواده خالصاً أو مخلوطاً.(78/6)
حق المسلم على المسلم
حديث البراء فيه: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع) ، فالأمر فيه هل هو أمر وجوب أو أمر إرشاد أو أمر استحباب؟ الصحيح أنه أمر استحباب، يعني: أمرنا أن نفعل هذه الأشياء وأكد في أمرها وإن لم يصل إلى الوجوب؛ وذلك لأن هذه السبع هي من حقوق المسلمين بعضهم على بعض، فمثلاً: إجابة الداعي؛ إذا دعاك أخوك إلى طعام كوليمة أو نحو ذلك فحق عليك أن تجيبه، ولكن لا يكون ذلك واجباً، فقد يكون لك عذر، وقد تكون مسبوقاً بدعوة أخرى أو نحو ذلك، فهذا دليل على أن الإجابة ليست فرضاً واجباً، ولكنها من حقوق المسلمين بعضهم على بعض.
كذلك الأمر بتشميت العاطس لا شك أنه من حقوق المسلمين، وإن لم يجب على كل أحد، إنما الحاضرون إذا سمعوه يعطس ويحمد الله تعالى يشمتونه بقولهم: يرحمك الله، وهذا أيضاً من حقوق المسلمين بعضهم على بعض.
كذلك الأمر ببدء السلام أو برد السلام هو من حقوق المسلمين لقول الله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86] ، فإن هذا من الحقوق المتبادلة بين المسلمين، والتي تسبب المحبة والمودة بينهم، لقوله عليه السلام: (ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم) .
كذلك عيادة المريض هي من حقوق المسلمين؛ وذلك لأن المريض قد حبسه المرض عن إخوته وأصدقائه، وأقعده، وجلس في بيته أو على فراشه، فكان حقاً عليهم أن يعودوه ليطمئنوه وليسلوه وليحثوه على الصبر، وليعرف بذلك المحبة والمودة في قلوبهم، ويعرف من هو صادق المحبة من غيرها، فعند ذلك تثبت الأخوة بين المسلمين، وكذلك أهله وأصدقاؤه وأولاده إذا رأوا إخوته وأصدقاءه يعودونه عرفوا بذلك محبتهم ومودتهم.
كذلك اتباع الجنائز من حقوق المسلمين؛ وذلك لأن هذا الميت الذي كان أخاً لك وصديقاً أتاه أجله ووافاه الموت، ونقل إلى القبر، فكان من حقه عليك أن تشيعه، وأن تتبع جنازته، وأن تحضر الصلاة عليه، وتحضر دفنه، وتدعو له، وتسلم على أقاربه، وتسليهم، وهذا أيضاً من حقوق المسلمين بعضهم على بعض.
كذلك نصر المظلوم من حقوق المسلمين بعضهم على بعض، إذا رأيت مظلوماً عرفت أنه معتدى عليه، فمن حقه عليك أن تنصره بقدر ما تستطيع، لقوله صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) ، فالمظلوم تنصره وترد عنه الظلم، والظالم تردعه عن الظلم وتحجزه عنه، وذلك نصرك إياه.
فهذه الحقوق لا شك أنها مما يدعو إليه الإسلام ويرغب فيه، ولا شك أنه ما أمر بذلك إلا لما فيه من المصلحة، وما فيه مما يسبب الألفة بين المسلمين.(78/7)
من اللباس المنهي عنه
ولا شك أن المناهي السبع التي نهى عنها أغلبها من الأكسية ومن الألبسة، ومنها الشرب في آنية الذهب، والأكل في صحاف الذهب أو الفضة، ولا شك أنه محرم، وقد وردت أدلة تؤكد التحريم، والنهي هنا يكون للتحريم؛ لأنه ورد قوله صلى الله عليه وسلم (الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) ، فهذا الوعيد دل على أنه يحرم استعمال آنية الذهب والفضة.
وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا تأكلوا في آنية الذهب والفضة ولا تشربوا في صحافهما، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) .(78/8)
تحريم القسي والمياثر
القسّي: نوع من الحرير، وكذلك الديباج، وهو نوع من الحرير، فالقسي ما فيه خطوط ملونة.
والحرير قد ورد أنه حرام على الرجال، ومباح في حق النساء؛ لحاجة النساء إلى التجمل دون الرجال، فكان ممنوعاً أن يلبسه الرجال، والأدلة دلت على التحريم، كقوله صلى الله عليه وسلم في الذهب والحرير: (هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم) يعني: الذهب والحرير حرام على الذكور وحلال للإناث للتجمل كما قلنا، فلباس الديباج ولباس القسي واستعماله يعتبر حراماً في حق الرجال؛ لأنه من جملة الحرير.
وكذلك المياثر: وهي مثل الأقبية، أو مثل الفراء، إلا أنها مبطنة بحرير، والأغلب أنها تكون حمر، فنهى عنها لما فيها من الإسراف، ولأن فيها حريراً فلأجل ذلك دخلت في التحريم، فإن النهي عن الحرير كله لأجل أن فيه إسرافاً أو تنعماً أو تلذذاً، أو تشبهاً بالنساء، أو نحو ذلك.(78/9)
تحريم التختم بالذهب على الرجال وجوازه من الفضة
ورد في أحاديث كثيرة النهي عن التختم بالذهب في حق الرجال، فقد سمعنا هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم صنع له خاتم من ذهب، ولبسه وجعل فصه في داخل كفه، ولبسه في اليد اليمنى، ولما رأى الناس توسعوا في ذلك نزع ذلك الخاتم والناس ينظرون وقال: (والله لا ألبسه أبداً) ، فعند ذلك نزع الناس خواتيمهم، ووردت أدلة تدل على حرمة لبس الرجال خواتيم الذهب، وأبيح لهم أن يلبسوا خواتيم الفضة.
الخاتم كما هو معروف يلبس في الإصبع، والأصل أنه مباح أن يتخذ الرجل خاتماً من فضة كما ورد في بعض الأحاديث، وأنه صلى الله عليه وسلم كان له خاتم مكتوب عليه اسمه: محمد رسول الله، وأنه كان أحياناً يلبسه في البنصر من اليد اليمنى، وأحياناً في اليد اليسرى، يلبسه في هذه وفي هذه.
وأما خاتم الذهب فقد ورد ما يدل على تحريمه، وأنه صلى الله عليه وسلم رأى مرة رجلاً في يده خاتم من ذهب فنزعه، وقال: (يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيضعها في يده) ، فنزعه فألقاه، ولما قيل للرجل: خذ خاتمك فانتفع به، فقال: لا والله لا آخذه وقد ألقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا شك أن هذا دليل على المبادرة، وعلى الامتثال، وأن الصحابة إذا أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر بادروا به ولم يراجعوا فيه.
فالحاصل أنه لما نزع خاتم الذهب وقال: (والله لا ألبسه) نزع الناس خواتيمهم مبادرة، وتعهدوا بأنهم أيضاً لا يلبسون ولا يتحلون الذهب، وبقي الذهب محرماً في حق الرجال سواء الخواتيم في الأصابع، أو الحلي في غير الأصابع.
ولا يجوز ما تجدد من الذهب الذي يكون في النظارة مثلاً، يعني: ما تمسك به، وكذلك الساعة لا يجوز أن تكون من الذهب ولو بطلي بعض المواضع إلا في حق النساء، وذلك لأن فيه استعمالاً لهذا الذهب، وقد سمعنا قوله: (إنه حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم) ، فينتبه المسلم ويتجنب ما نهى الله تعالى عنه حتى يكون من المتبعين المطيعين.(78/10)
شرح عمدة الأحكام [79]
الجهاد في سبيل الله هو ذروة سنام الدين، وغايته إعلاء كلمة الله، وفضائله كثيرة، وأحكامه عديدة، وقد بينها أهل العلم رحمهم الله تعالى.(79/1)
أحكام الجهاد
قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [كتاب الجهاد: عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -في بعض أيامه التي لقي فيها العدو- انتظر حتى إذا زالت الشمس قام فيهم فقال: يا أيها الناس! لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم، وانصرنا عليهم) .
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها) ] .(79/2)
تعريف الجهاد
هذه الأحاديث تتعلق بالجهاد، والجهاد: مشتق من الجهد الذي هو بذل الوسع، وهو أقصى ما عند الإنسان، والمراد به: قتال الكفار، وقتالهم يكون لأجل كفرهم ولأجل عنادهم، وقد شرع على مراحل، إلى أن أنزل الله الآية التي تُسمى آية السيف في سورة التوبة وهي قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5] ونحوها من الآيات.(79/3)
سبب شرعية الجهاد
النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته الجهاد والقتال، وكان يقاتل كل من بلغته الدعوة، ولكنه لا يقاتلهم إلا بعد أن يدعوهم، وكان يأمر من بعثه للقتال أن يبدأ بالدعوة، ففي حديث بريدة قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لكل أمير: (إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال: ادعهم إلى الإسلام، فإن أبوا فاسألهم الجزية، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم) ، يخيرهم بين هذه الثلاث: إما أن تسلموا، وإما أن تبذلوا الجزية، وإما أن تستعدوا للقتال، ولا يبدأ بالقتال أولاً إلا إذا عرف أن الدعوة قد بلغتهم، وأنهم أصروا وعاندوا، فحينئذٍ يقاتلهم.
بعض المعاصرين ظنوا أن القتال لا يكون إلا دفاعاً، وأن المسلمين لا يقاتلون الكفار إلا لدفع شرهم، وهذا ظن خاطئ، بل الكفار يقاتلون لكفرهم، فما داموا كفاراً فإنا نقاتلهم إلا أن يبذلوا الجزية أو يسلموا، لقول الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ} [التوبة:123] ، وقوله تعالى: {جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73] ، وقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] ، والآيات كثيرة، وفيها أن الله أمر بقتال المشركين عموماً لشركهم ولكفرهم، وسمى كفرهم فتنة فقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39] هذا هو سبب شرعية القتال؛ إذ لم يكن قتال الكفار لأجل الولاية، ولا لأجل السيطرة، ولا لأجل الانتقام منهم، ولا لأجل التولي على أموالهم، ولا على نسائهم وأولادهم استعباداً واسترقاقاً، ولكن قتالهم لأجل أن يدخلوا في الإسلام، ولأجل أن يذل الكفر وأهله، وأن ينتصر الإسلام وأهله، هذا هو السبب في قتالهم؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) ، فهكذا كان المسلمون من عهد الصحابة رضي الله عنهم مع نبيهم يقاتلون لأجل إعلاء كلمة الله، ولأجل إذلال الكفر وكلمته، ولأجل أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى.
فإذا وجد هذا القتال فإنه قتال في سبيل الله، أما القتال لأجل الولاية والسلطة والسيطرة، ولأجل التغلب على من اعتدى عليه، فإن مثل هؤلاء لا يبالون بمن قاتلوا، ولذا فهم يقاتلون المسلمين، ويقاتلون الكفار، ويقاتلون النصارى، وليس لهم رغبة في نصر الإسلام، وإنما رغبتهم أن يكون لهم سلطة، وأن يكون لهم ولاية، وأن تعم ولايتهم وتكبر دولتهم، وهذا ليس قتالاً في سبيل الله، ولا يُشجع أهله، بل يقال لهم: أخلصوا نيتكم، وقاتلوا من كفر بالله، ولا تقاتلوا من آمن بالله، إنما قاتلوا الكفار لأجل كفرهم أياً كان نوع الكفر.(79/4)
شرح حديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو)
حديث عبد الله بن أبي أوفى فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتى زالت الشمس.
في هذه الفقرة الأولى أنه صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يكون القتال في آخر النهار؛ وذلك إذا هبت الرياح، وخفت الحرارة، ونزل النصر، هكذا كان يحب أن يكون ابتداء القتال بعد زوال الشمس، وفي هذا الحديث أنه أخر القتال حتى زالت الشمس، وقبل أن تزول أو قرب زوالها خطب أصحابه بهذه الخطبة، وذكر فيها هذه الجمل: أولها قوله: (لا تتمنوا لقاء العدو) ؛ وذلك لأنكم لا تثقون من أنفسكم بالقوة، ولا بالصلابة، فقد تتمنون لقاء العدو فتفشلون، وتذهب ريحكم وتتنازعون، ويحصل بينكم خلل، فينتصر العدو عليكم، فلا تتمنوا لقاء العدو؛ وذلك لأنه فتنة وضرر، هذه هي الجملة الأولى.
أما الجملة الثانية فهي قوله: (فإذا لقيتموه فاصبروا) ، هذه وصية بالصبر، وقد أوصى الله تعالى به، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال:45] (فئة) يعني: طائفة من المشركين (فاثبتوا) أي: اصبروا، ومن الصبر الاستعداد، والتأهب، وأخذ الحذر، ومقابلة العدو بقوة وبشجاعة، والاستعداد للقتال يكون بكل ما أوتي الإنسان من قوة، فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:45-46] كل هذا توجيه من الله لمقابلة العدو، وذلك بالثبات، وهو الصبر لقوله: (فَاثْبُتُوا) ، ولقوله: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} [آل عمران:200] ، وفي هذا الحديث قال: (إذا لقيتموهم فاصبروا) .
أما الجملة الثالثة فهي قوله: (واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف) ، قال ذلك ترغيباً لهم في الصبر تحت أشعة السيوف، وكان القتال في ذلك الزمان غالباً بالسيف، فكانوا إذا تقابلوا فإنهم يسلون سيوفهم، ثم يتقاتلون مع عدوهم، قال الله تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمد:4] فضرب الرقاب يعني: بالسيوف.
وكانوا حين يسلون السيوف يكون لها شعاع، ويكون لها أيضاً ظلال، والذين يقاتلون هذا في ظل سيف هذا وهذا في ظل سيف هذا، فكأنه يقول: ما دمتم في حومة الوغى، وما دمتم في هذه المعركة، وما دمتم مقابلين لهؤلاء الأعداء، فإنكم تمثلون أنفسكم أنكم قد تبوأتم منزلاً من الجنة، فالجنة تحت أقدامكم، وأنتم في ظلها، فقوله: (الجنة تحت ظلال السيوف) هذا للترغيب لهم في الصبر والثبات على القتال.
أما دعاؤه في هذا الحديث فإنه دعاء بالنصر والثبات، فتوسل إلى الله تعالى بهذه الصفات، ثم سأله ما قصده، فتوسل بقوله: (اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم) ، وكان إذا دعا بهذا الدعاء رجي قبوله، ورؤي أثره، فيسن أيضاً لمن تقابل في القتال ووقف في الجبهات أن يبدأ بهذا الدعاء: (الله منزل الكتاب) ، يعني: جنس الكتب، وآخر ما نزل هو هذا الكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (القرآن) .
(ومجري السحاب) يعني: مسير هذا السحاب، فإنه آية من آيات الله، فهو الذي خلق هذا السحاب، وهو الذي يجريه ويسيره كما يشاء، وهو من آياته العجيبة في خلقه.
(وهازم الأحزاب) الأحزاب هم: المتحزبون ضد الإسلام الذين كانوا يتحزبون ويجتمعون ليقاتلوا المسلمين، فالله تعالى هو الذي يهزمهم كما هزم الأحزاب وزلزلهم في وقعة الأحزاب كما في قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب:9] .
والحاصل: أن هذا فيه الأمر بالصبر، وفيه شرعية وسنية الدعاء في مقابلة العدو، فإذا دعا المسلم بمثل هذا وهو صادق رجي بذلك أن يستجيب الله دعوته، وأن يُهزم العدو، وأن يُمكن المسلمين من رقابهم، وأن يسير المسلمون في آثارهم حتى يتمكنوا من الاستيلاء عليهم.(79/5)
شرح حديث: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها)
قوله صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها) ، قد تكاثرت الآيات والأحاديث في فضل الرباط، منها ما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران:200] ، وفي هذا الحديث: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها) ، وفسر الرباط بأنه ملازمة السبل المخوفة التي يأتي منها العدو، وكان المرابطون عادة يقفون في الثغر الذي يُخاف أن الأعداء يأتون منه، فيبيتون المسلمين على غرة وغفلة، فهؤلاء الذين يلزمون هذا الثغر كأنهم فدائيون؛ لأنهم متعرضون للقتل؛ ومتعرضون لأن يفجأهم العدو فيحصل بينهم قتال وهم أعداد قلة، فقد يكونون أربعين أو مائة أو نحو ذلك، والعدو يأتيهم بغتة بقوات عديدة، وبجيوش متكاثرة، فيحصل أنه يتغلب عليهم، ولكن هؤلاء المرابطون كأنهم إذا أحسوا بالعدو وبحركته، وعلموا أنه قد أقبل بجيوشه أرسلوا من ينبه جيوش المسلمين التي في بقية الأمكنة بأن العدو قد جاءكم فاستعدوا له، واذهبوا وقابلوه قبل أن يقابلكم، وقبل أن يدخل في بلادكم ويتمكن، فهذه فائدة هؤلاء المرابطين.
وقد فسر الرباط الذي في هذه الآية: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران:200] بأنه ربط النفس على طاعة الله تعالى، ومن ذلك المرابطة على أداء الصلوات، والمحافظة عليها، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أدلكم على ما يرفع الله به الدرجات، ويكفر به الخطايا؟ قالوا: بلى، يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط) ، هكذا عد هذه الخصال من الرباط، وعدها مما يرفع الله به الدرجات ويكفر به الخطايا، وإذا قلت: كيف كانت هذه رباطاً؟ فنقول: لأن هذا المسلم قد ربط نفسه على طاعة الله وأوثقها، والتزم بأن يحافظ على الصلوات، ويتردد إلى المساجد، ويكثر الخطوات نحوها، ويسبغ الوضوء على شدته، وينتظر الصلوات، فكلما صلى صلاة انتظر ما بعدها، فأصبح من المرابطين، فيحظى بهذا الأجر المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم في سبيل الله) وإن كان الحديث جاء في فضل المرابطة التي هي ملازمة الثغور.
ولا شك أيضاً أن من انتظم في سلك الجهاد، وغزا في سبيل الله، وتقابل مع الأعداء، وثبت في الصفوف، وصبر عند المجابهة والمقابلة، وعرَّض نفسه لقذائف الأعداء ولسهامهم وللقتل؛ أنه يُعد من المرابطين، وأي خصلة أكبر من كونه عرض نفسه أمام سهام الأعداء، وأمام قذائفهم، وخاطر بها، ولكنه يرجو ما عند الله تعالى.
والثواب الذي رتب على هذا هو قوله: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها) ، وقد ورد أيضاً في حديث آخر أن تمام الرباط أربعون يوماً، يعني: أن الذي يرابط في الثغر إذا أتم أربعين يوماً فقد أدى ما عليه، فعلى أمير الجيش أن يبدله بغيره؛ لأنه قد أدى جزئاً كبيراً من الصبر والمصابرة.
وفي هذا الحديث يرغب صلى الله عليه وسلم في الأعمال الخيرية، فيقول: (موضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها) ، فمن حصل له من الجنة موضع السوط فذلك الموضع خير من الدنيا وما فيها، والسوط هو: العود الذي كانوا يضربون به، العصا التي يضرب بها، والسوط موضعه قدر ذراع أو ذراعين.
ثم يقول: (لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها) ، الغدوة هي: المسير أول النهار، والروحة هي: المسير آخر النهار، فكأنه يقول: الغازي إذا سار في سبيل الله من أول النهار إلى وسط النهار فالمسيرة هذه أجره فيها أكبر من أن تحصل له الدنيا وما عليها، وكذلك لو سار من وسط النهار إلى آخر النهار روحة فهي خير له من الدنيا وما عليها، فتبين بذلك فضيلة هذه الأعمال، فبمثل هذا الحديث ونحوه يرغب المسلم في أن ينتظم في الجهاد، وأن يجاهد في سبيل الله، ومعلوم أنه ما دام أن هناك عدواً كافراً، وما دام أن هناك من يقاتل المسلمين، وهناك من يفتك بالإسلام وبأهله؛ فإن الإسلام يحث الأفراد على أن يغزوا في سبيل الله؛ فيقاتلوا من كفر بالله؛ حتى يذل الكفر وأهله، وينتصر الإسلام والمسلمون.(79/6)
فضل الجهاد في سبيل الله، وبيان أجر المجاهد(79/7)
شرح حديث: (انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي)
قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (انتدب الله -ولـ مسلم: تضمن الله- لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي، وإيمان بي، وتصديق برسلي، فهو علي ضامن أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة) ، ولـ مسلم: (مَثل المجاهد في سبيل الله -والله أعلم بمن جاهد في سبيله- كمثل الصائم القائم، وتوكل الله للمجاهد في سبيل الله إن توفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالماً مع أجر أو غنيمة) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مكلوم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمى، اللون: لون الدم، والريح: ريح المسك) ] .
هذه الأحاديث في فضل الجهاد في سبيل الله، وقد ذكرنا أن الجهاد هو قتال الكفار، وأنه يستدعى غالباً خروجاً من البلاد، وسفراً طويلاً أو قصيراً، ويستدعي تزوداً بالمال، ثم يستدعي مقابلة الكفار، والتصدي لهم، ويستدعي الاستعداد للموت وللقتل؛ حيث إن المقاتل ينصب نفسه أمام العدو فإما أن يَقتل وإما أن يُقتل، فهو قادم على ذلك، وكأنه قد فدى نفسه، وكأنه قد عزم على أن يخوض هذه المعركة ليحصل ما حصل، وأغلى شيء عنده نفسه وقد بذلها لله تعالى، فلا جرم أن كان أجره كبيراً كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً} [التوبة:111] فلذلك حاز المجاهد في سبيل الله على هذا الفضل.
قوله في هذا الحديث: (انتدب الله) وفي رواية: (تضمن الله) وفي رواية: (توكل الله) أي: أنه وعد وعداً صادقاً، وهو لا يخلف وعده، فمن خرج في سبيل الله للجهاد في سبيله فإنه لا يعدم إحدى الحسنيين: إما الجنة إذا قتل شهيداً، وإما أن يرجعه إلى أهله بما نال من أجر أو غنيمة، فالأجر يحصل له مقابل ما حصل عليه من التعب والنصب.
وقد ورد أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما عليها) ، والغدوة هي: السير أول النهار، والروحة هي: السير آخر النهار، أي: من سار نصف نهار غازياً، فإن مسيره هذا خير له من أن تحصل له الدنيا بحذافيرها، وكذلك من راح، يعني: من سار آخر النهار، وهذا دليل على أنه يحصل على أجر.
وورد في حديث آخر: (من اغبرت قدماه في سبيل الله لم تمسه النار) أو كما في الحديث، ولما سمع جمع من المجاهدين هذا الحديث نزلوا عن رواحلهم، وساروا على أقدامهم يريدون أن تغبر أقدامهم؛ حيث إنهم قصدوا بذلك الغزو في سبيل الله حتى لا تمسهم النار، وهذا دليل على فضل الجهاد في سبيل الله.
وقوله: (تضمن الله لمن خرج في سبيله -والله أعلم بمن يجاهد في سبيله- إن توفاه أن يدخله الجنة، أو يرجعه إلى أهله بما نال من أجر أو غنيمة) ، لا شك أنه إذا توفي وهو خارج في هذا السبيل أن أجره كبير؛ وذلك لأنه خرج للجهاد في سبيل الله، فيكون على أجر، فإن سار كتب له مسيره، وإن قال كتب له مقيله، وإن بات كتب له مبيته، وكذلك مقابلته للأعداء ونحو ذلك تكتب له حسنات، وكذلك أيضاً قد ورد أنه يكتب له أجر على كل أوقاته التي عملها، لكن يقول في هذا الحديث: (والله أعلم بمن يجاهد في سبيله) يعني: ليس كل من خرج يصير مجاهداً، فقد ثبت في الصحيح أن رجلاً قال: (يا رسول الله! الرجل يقاتل حمية، ويقاتل رياء، ويقاتل للمغنم، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) ، فالذي يقاتل حمية لقبيلة على قبيلة، أو يقاتل عصبية لدولة على دولة، أو لفئة على فئة ولا يقاتل هؤلاء لأنهم كفار، وإنما يقاتلهم ليتغلب عليهم، أو ليستولي على بلادهم، أو يقاتلهم لأجل المغنم الذي يحصل عليه من جراء هذا القتال ومن آثاره، أو يقاتلهم ليُرى مكانه أو نحو ذلك؛ فهذا ليس من المجاهدين في سبيل الله، إنما الذي يجاهد في سبيل الله هو الذي قصده نصر الإسلام، ونصر دين الله تعالى، ويستحضر قوله تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7] ، وقوله: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة:40] فالنصر نصر لله ولرسوله ولدينه، فهذا هو الذي يجاهد في سبيل الله، لذلك قال: (والله أعلم بمن يجاهد في سبيله) .
وبكل حال ضمن الله له أنه إذا مات أن يدخله الجنة، بل قد أخبر الله تعالى أن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون.
يقول في هذا الحديث: (إن توفاه أن يدخله الجنة) ، وقد ورد في القرآن أن الذين قتلوا في سبيل الله {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تعلق في شجر الجنة، تأوي إلى قناديل معلقة في الجنة، وتبقى هكذا حتى ترد إلى أجسادها، فهذا صفة الحياة التي ذكر الله تعالى عنهم: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران:169-170] .
ولا شك أن المجاهدين في سبيل الله يتعرضون للموت، ويتعرضون للجراح، وقد يتعرضون للإذلال أو الاستيلاء أو الأسر، أو العذاب من المشركين، ولكن تحملهم كل ذلك لإظهار الإسلام ونصره، وإعلاء كلمة الله تعالى؛ فلأجل ذلك عظم أجرهم، وكثر ثوابهم على هذا القصد، وكانوا يعرضون أنفسهم لذلك.
روي أن عبد الله بن المبارك رحمه الله كان من جملة الذين يغزون في سبيل الله، وكان هناك علماء بمكة يتعبدون ويتقربون بأنواع العبادة، فأرسل ابن المبارك إلى الفضيل بن عياض أبياتاً يخبره فيها بعمل المجاهدين، يقول فيها: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب لا يستوي غبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميت لا يكذب فوصف فيه حالتهم، وكأنه يقول: أيها العباد! إنكم تتعبدون في الحرمين، وإنكم تتطيبون بأنواع الطيب، وأنواع العبير، وأما نحن فنتطيب بالغبار الذي ينالنا في سبيل الله، وإن هذا الغبار سبب مما نتطلبه، فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يجتمع غبار خيل الله ودخان نار في جوف امرئ) ، فهذا ما نطلبه، وهذا ونحوه من جملة ما يرغبهم في الجهاد في سبيل الله.(79/8)
معنى قوله: (ما من مكلوم يُكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمى)
قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من مكلوم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمى، اللون لون دم، والريح ريح المسك) الكلم هو: الجرح، والكلوم هي الجروح، يعني: أن المجاهد في سبيل الله إذا أصابه جرح، أو أصابته شجة، وخرج منه دم فإن ذلك الدم ولو التأم، وذلك الجرح ولو برئ في الدنيا، ولو سلم من آثاره؛ فإنه يوم القيامة يرى أثره عليه مثل لون الدم، ولكن ريحه ريح المسك، فيُعرف أن هذا ممن جرح في سبيل الله، ولا يحصل له ألم، فإذا كان الجرح -مثلاً- في ذراعه يُرى يثعب منه هذا اللون الذي لونه لون دم، ولكن لا يؤلمه، ولا يحس به، بل يجد رائحته رائحة عبقة طيبة، ويجدها أيضاً غيره، وهذه ميزة وعلامة له، وكذلك لو كانت الشجة في رأسه أو في وجهه، أو في موضع من مواضع جسده، وكذلك لو كثرت هذه الشجاج أو هذه الجروح فإنها كلها تأتي ولونها لون دم تثعب، بمعنى: أنها يخرج منها هذا السائل دون أن يكون له ألم، هذا من فضل الجهاد في سبيل الله، فإذا كان هذا في الجرح الواحد فكيف بمن جرح جروحاً كثيرة؟! وإذا كان هذا في جرح فكيف بمن قطع أحد أطرافه؟! فإذا قطعت يده، أو فقئت عينه، أو قطعت إصبع من أصابع يديه أو رجليه، أو نحو ذلك فإن أجره يكون أكثر، وإذا كان هذا في فقد عضو أو جرح أو نحو ذلك فأعظم من ذلك أن يفقد نفسه، يعني: أن يُستشهد في سبيل الله، فإنه والحال هذه أعظم أجراً وأكثر ثواباً.
ويدخل في ذلك أيضاً نفقته، أي: ما ينفقه الرجل في سبيل الله، ويجهز به الغزاة في سبيل الله، فإنه ورد في الحديث: (من جهز غازياً فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا) ، فأصبح هذا الغزو الذي هو جهاد في سبيل الله يكون جهاداً بالنفس، وجهاداً بالمال، وتجهيزاً للغزاة، وخلفاً لهم في أهليهم بخير، وكل ذلك دليل على سعة فضل الله تعالى، وكثرة جوده على عباده.(79/9)
شرح حديث: (غدوة في سبيل الله أو روحة خير مما طلعت عليه الشمس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غدوة في سبيل الله أو روحة خير مما طلعت عليه الشمس وغربت) أخرجه مسلم.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله ليعه وسلم: (غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها) أخرجه البخاري.
وعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين -وذكر قصة- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه، قالها ثلاثاً) .
وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم عين من المشركين -وهو في سفر- فجلس عند أصحابه يتحدث، ثم انفتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اطلبوه واقتلوه، فقتلته، فنفلني سلبه) ، وفي رواية فقال: (من قتل الرجل؟ فقالوا ابن الأكوع، فقال: له سلبه أجمع) ] .
في هذه الأحاديث فضل الخروج في سبيل الله للجهاد، وفيها بعض أحكام الجهاد التي لها صلة بالقتال في سبيل الله، فالحديث الأول: (غدوة في سبيل الله أو روحة خير مما طلعت عليه الشمس) ، وفي الحديث الثاني: (غدوة في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها) ، والمعنى واحد، والغدوة: المسير من أول النهار يعني: من طلوع الشمس إلى نصف النهار، هذا يُسمى: غدواً، كما في قوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} [آل عمران:121] ، فالغدو هو: المسير أول النهار، والروحة: المسير آخر النهار، أي: من زوال الشمس إلى غروب الشمس، هذا يُسمى رواحاً، ويُسمى المسير فيه روحة، وقد كانوا يسافرون للقتال في سبيل الله، فكانوا يقطعون ليالي وأياماً في السير على أقدامهم، أو على خيولهم، أو على إبلهم؛ لأجل الغزو، ولأجل الإتيان إلى المشركين حتى يقاتلوهم في عقر دارهم، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنكم إذا سرتم نصف يوم في سبيل الله فأجره خير لكم من أن تحصل لكم الدنيا بحذافيرها، ومن أن يحصل لكم ما تطلع عليه الشمس أو تغرب؛ وما ذاك إلا أن هذا ولو كان مسيراً وسفراً عادياً، ولكنكم سافرتموه لأجل القتال في سبيل الله، ولأجل نصرة دين الله، ولأجل قتال من كفر بالله، ولو لم تبدءوا بالقتال، ولو كنتم تسيرون من بلادكم، متوجهين إلى بلادهم، فكل يوم أو نصف يوم تسيرونه ثوابه خير لكم من أن تحصل لكم الدنيا وما فيها، ولا شك أن هذا دليل على أهمية السير في سبيل الله الذي هو الغزو.
وقد كانوا يسيرون شهراً متوجهين إلى البلاد التي فيها الكفار، فإذا ساروا -مثلاً- من المدينة إلى الشام لا يقطعونها إلا في خمسة وعشرين يوماً أو ثلاثين يوماً، حتى يصلوا إلى بلاد المشركين، فكل نهار فيه غدوة وروحة خير لهم من الدنيا وما فيها.
ومعلوم أن القصد هو وصولهم إلى البلاد الكفرية، وصمودهم أمام المشركين، وقتالهم لهم، وتوجههم نحوهم، وبدؤهم بالقتال، وصبرهم أمام العدو، هذا هو المقصود؛ إذ ليس السير إلا وسيلة من الوسائل، فإذا كان السير الذي هو وسيلة من الوسائل فيه هذا الأجر وهذا الثواب فلا شك أن ما سواه -وهو الصمود للقتال، والبدء به، والصبر عليه، وتعريض النفس للقتل، وكذلك تعريض المال للسلب وللنهب- أكثر أجراً وأعظم ثواباً، وما ذاك إلا أنه هو المقصد، فالوسيلة هذا فضلها، والمقصد هذا فضله وأجره أكثر وأعظم.(79/10)
شرح حديث: (من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه)
قصة حديث أبي قتادة كانت في غزوة حنين، وهي التي كانت بعد فتح مكة؛ وذلك لأن هوازن وثقيفاً كانوا قبائل قوية، وكان لهم منعة، وكان عندهم بأس، وكانوا مناوئين للإسلام، فلما أسلم أهل مكة امتنعت الطائف وقبائل ثقيف وهوازن عن الإسلام، واجتمعوا في حنين، واستعدوا ليقاتلوا محمداً صلى الله عليه وسلم ومن معه، فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ومعه الذين جاءوا معه لفتح مكة وهم عشرة آلاف، ومعهم ألفان من الطلقاء الذين أسلموا بمكة، فصاروا اثني عشر ألفاً، فتقابلوا مع ثقيف وهوازن في حنين، ولما تقابلوا بدأت ثقيف القتال، وكانوا رماة، وكان معهم سهام كثيرة، وكان من آثارها أن انهزم بعض المسلمين لشدة الرمي، ولشدة إصابتهم بالسهام التي أشبهت الوابل، فلما انهزموا بقي منهم بقية، فرأى أبو قتادة رجلاً من المسلمين قد استولى عليه مشرك من المشركين، وأمسكه يرد أن يقتله، فجاء أبو قتادة إلى ذلك المشرك من خلفه فطعنه حتى أرداه قتيلاً، يقول: ولكنه قبل أن يموت ضمني ضمةً شديدةً حتى وجدت رائحة الموت ثم مات.
وفي هذه القصة أنه صلى الله عليه وسلم بعدما انهزم المشركون ورجع المسلمون وقتل من قتل من هؤلاء وهؤلاء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قتل قتيلا ً له عليه بينة فله سلبه) ، ويعني بالسلب: ما كان معه من سلاحه ولباسه وما كان يحمله، حتى ولو كانت نقوداً ثمينة أو نحوها، وأبو قتادة ما أخذ سلب ذلك الكافر الذي قتله، بل تركه، وأخذه أحد المسلمين، ولما سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو قتادة: من يشهد لي؟ يعني: من يشهد لي بالقتيل الذي قتلته، ولم يشاركني في قتله أحد؟ فقال: (ما شأنك؟) قال: رجل قتلته وكان من أمره كذا وكذا، فقال أحد المسلمين: صدق وسلبه عندي، فمره يسمح لي به، فقال أبو بكر: لا يعمد إلى أَسَد من أُسْد الله يقاتل في سبيل الله فيعطيك سلبه، فأعطاه سلبه، فاشترى به مخرفاً، يعني: نخلاً، يقول: فإنه لأول مالٍ تأثلته في الإسلام.(79/11)
شرح حديث: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم عينٌ من المشركين)
قصة سلمة بن الأكوع فيها أنهم كانوا في غزوة، ولعلها غزوة حنين، فجاءهم عين من المشركين، والعين هو: الجاسوس، أي: أنه أرسل ليتجسس على المسلمين، وينظر قوتهم، وينظر مكانتهم ومجتمعهم، ثم يذهب إلى الكفار ويخبرهم بما مع المسلمين، فيقول لهم: تجدونهم في المكان الفلاني، وعندهم من القوة كذا، وأعدوا لهم كذا وكذا، فهذا الجاسوس جعل ينظر ويتأمل في أحوال المسمين، وكأنه رأى فيهم ضعفاً، ثم إنه لما عرفهم رجع وركب ناقته، ففطن له النبي صلى الله عليه وسلم، وعرف أنه أرسل من المشركين للتجسس، فأمرهم بأن يقتلوه، وكان قد ركب ناقته وأسرع السير، ولم يقدر الصحابة على أن يدركوه، وكان سلمة بن الأكوع شديد السعي، فسعى في أثره على قدميه، ثم إنه سعى حتى وصل إلى قرب رجلي الناقة، ثم اشتد بالسيف حتى وصل إلى قوائمها، ثم تقدم حتى مسك بخطامها، وتمسك به إلى أن قوي عليها، ثم بركت الناقة لما أنه اجتذبها بقوته، ولما بركت عمد إلى ذلك الجاسوس فقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قتله؟ فقالوا: ابن الأكوع، فقال: له سلبه أجمع) .(79/12)
حكم السلب
أخذ من هاتين القصتين أن من قتل أحداً من المشركين فإنه يستحق سلبه، ولا يدخل ذلك في الغنيمة، بل يكون ذلك له تشجيعاً، حيث إنه يصمد أمام المشركين، ويعرض نفسه للقتل، ويستعد للقتال، حتى إن بعض الصحابة قد قتل عدداً من المشركين، ذكروا أن أبا طلحة الأنصاري قتل في غزوة حنين نحو عشرين قتيلاً، وانفرد بأسلابهم تشجيعاً له، فيأخذ القاتل سلب القتيل، ويدخل في السلب سلاحه الذي يقاتل به، كسيف أو رمح أو نبل أو قوس أو خنجر، وغير ذلك، ويدخل في السلب درعه إذا كان عليه درع قد ارتداه ليقي به السلاح، ويدخل في ذلك الخوذة، وهي: المجن الذي يلبس على الرأس، ويدخل في ذلك بقية الألبسة التي يلبسها كجبة أو قميص أو ما أشبه ذلك، وإذا كان معه شيء من النفقة دخل أيضاً، فإذا وجدوا معه نقوداً أو نحوها فإنها تدخل في سلبه، فيأخذ القاتل ذلك كله تشجيعاً له.
وكذلك أيضاً دابته التي يقاتل عليها، فهي على الصحيح له، فإذا كان الكافر يقاتل على فرس أو على ناقة أو نحوها فإنه يأخذه ذلك المسلم الذي قتله من باب التشجيع له، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك تشجيعاً لمن يقتل مشركاً في المعركة، أما إذا قتله في غير المعركة فإن ذلك يكون في الأصل من الغنيمة التي تقسم على الغانمين.
أما بقية المغنم فإن الكفار إذا انهزموا وتركوا أمتعتهم وأزودتهم، وتركوا مكانهم الذي كانوا يجتمعون فيه، وتركوا ما فيه فإن هذا من الغنيمة التي تُغنم، وكذلك أيضاً إذا فتحوا بلاداً، وأخذوا ما فيها من الأموال، فإن هذه من الغنائم التي أباحها الله تعالى لهذه الأمة في قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} [الأنفال:69] فأباح الله لهذه الأمة غنائم المشركين، فما يأخذونه من الغنائم التي ينهزم عنها المشركون ويتركونها فإنها تُقسم بين الغانمين، لكن بعدما يخرج منها الخمس الذي ذكره الله بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال:41] يعني: أن الخمس يقسم بين هؤلاء، وأربعة الأخماس الباقية تقسم على الذين اشتركوا في الوقعة.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قسم يعطي من قاتل على فرس ثلاثة أسهم -سهماً له وسهمين لفرسه-، وأما الذي يقاتل على قدميه فليس له إلا سهم واحد، سهم للراجل وثلاثة أسهم للفارس، وما ذاك إلا أن الفارس أشد نكاية؛ حيث إنه يخوض المعركة، ويجول بفرسه، ويصمد أمام المشركين، ويدرك المنهزمين، ويجول فيهم، ويكثر فعله، ويكثر تأثيره في إضعاف قوة المشركين، فكان من تشجيعه أن أُعطي ثلاثة أسهم، ومع ذلك فإن الأصل أن المسلمين ما كانوا يقاتلون لأجل السلب، ولا يقاتلون لأجل المغنم، ولكنهم كانوا يقاتلون لوجه الله، يقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا، ودينه هو الظاهر، يقاتلون المشركين الذين يصدون عن سبيل الله، والذين يقاتلون أولياء الله، والذين يعادون المسلمين، وينصبون لهم العداوة، فالمسلمون إذا قاتلوهم يقصدون بذلك إذلال الكفر، وإهانة الكافرين، وتحقيرهم، وإعزاز الدين، ونصرة الله ورسوله، كما أمرهم الله بقوله: {كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ} [الصف:14] ، وقوله: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7] هذه هي نيتهم التي يثيبهم الله تعالى عليها، ومع ذلك فلهم هذا الأجر.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تضمن الله لمن خرج في سبيلي لا يخرجه إلا قتال في سبيلي إن مات أن أدخله الجنة، أو أرده إلى بلده بما نال من أجر أو غنيمة) ، فبشره أنه إذا قتل فإن له الجنة، وإذا رجع فإن له الأجر أو يحوز مع الأجر المغنم الذي يغنمه المسلمون من بلاد المشركين، وهذا من الترغيب في الجهاد، والترغيب فيه ترغيب دنيوي وأخروي، ولكن ينبغي أن يكون الترغيب الأخروي هو المقصد الأعلى.(79/13)
شرح حديث: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى نجد)
قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى نجد، فخرجت فيها، فأصبنا إبلاً وغنماً، فبلغت سهماننا اثني عشر بعيراً، ونفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيراً بعيراً) .
وعنه رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جمع الله الأولين والآخرين يرفع لكل غادر لواء، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان) ] .
حديث ابن عمر فيه قصة هذه السرية التي أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم إلى نجد، والتي غنمت هذه الغنائم من إبل وغنم والسرية: قطعة من الجيش، تنطلق منه إلى بعض الأعداء الذين ليسوا في طريق الجيش، فتغير عليهم وتقتل منهم وتغنم، وترجع إلى الجيش، فيمكن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة من غزواته، إما في غزوة حنين أو في غيرها من الغزوات، كان متوجهاً إلى جهة، فذُكر له أن بعض المشركين في أحد جوانب البلاد، فاختار لها سرية؛ لأنهم قليل لا يستحقون أن يذهب إليهم الجيش كله، والجيش قد يكون -مثلاً- عشرة آلاف وهم لا يحتاجون إلا إلى مائتين أو ثلاثمائة أو أربعمائة فارس أو راجل، فأرسل تلك السرية، وفيها عبد الله بن عمر، فذهب رضي الله عنه معهم فقاتلوا أولئك المشركين، وأصابوا هذه الغنائم، وهي غنائم كثيرة، كانت أغناماً وإبلاً، فجاءوا بها يسوقونها، فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين الجميع، أي: بين الجيش والسرية، ولم يجعلها للسرية وحدها؛ وذلك لأن السرية تتقوى بالجيش، والجيش يتقوى بها، فإذا غنمت السرية فإن الجيش يشاركها فيما غنمت، وإذا غنم الجيش بعد السرية شيئاً فإن السرية تشاركه فيما غنم؛ لأنهم جميعاً غزاة في جهة واحدة، فهم سواء فيما غنموه، إلا أن أصحاب السرية ينفلون؛ وذلك لأنها تتعرض للخطر، ولأنها غالباً تسير ليلها وتكمن نهارها، ويصيبها شيء من التعب والكلل والملل والمشقة، فلذلك يُحتاج إلى تنشيطها بأن تُنفل شيئاً مما غنمت.
وذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل في ذهابه الربع بعد الخمس، وفي رجعته الثلث بعد الخمس، ومعنى ذلك أنه إذا كان خارجاً في بدايته يعني: في خروجه من المدينة متوجهاً إلى العدو، وأرسل سرية يغيرون من هنا أو من هناك، قال لهم: اذهبوا إلى البئر الفلانية أو إلى البلد الفلانية، وإذا غنمتم شيئاً فأخرجوا منه الخمس، وخذوا الربع لكم، والباقي بيننا وبينكم، فهذا الربع الذي يأخذونه يُسمى نفلاً، أي: زيادة، وكذلك إذا انتهوا ورجعوا إلى بلادهم، فمعلوم أنهم في ذلك الوقت يكونون مشتاقين إلى أهليهم، وقد يكون معهم شيء من التعب والملل والكسل؛ فلأجل ذلك هم بحاجة إلى أن يُزاد لهم، فإذا بعثهم يقول لهم: أغيروا على القوم الفلانيين، على بني فلان أو على أهل البلد الفلانية، وإذا غنمتم فلكم الثلث بعد الخمس، والباقي بيننا وبينكم، هكذا كان ينفل.
فهذه السرية التي فيها ابن عمر غنموا غنائم كثيرة، ولما قسمت أخرج منها الخمس الذي هو سهم لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وبعد إخراج الخمس أخرج الربع لهذه السرية وحدها، وبعد ذلك قسم الباقي على الغانمين الذين غنموا، وعلى الجيش الذين هم قوة الغانمين، فبلغت سهمانهم اثني عشر بعيراً، هذا سهمانهم عموماً، كل منهم له اثنا عشر بعيراً.
وأما النفل فلكل واحد منهم بعير، والبعير: اسم للواحد من الإبل، فالناقة تُسمى بعيراً، والجمل يُسمى بعيراً، فأعطى كل واحد اثني عشر من الإبل من الذكور والإناث، هكذا قسمت، وذكر بعض الذين شرحوا الحديث أنها سرية لم يخرج فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أرسلهم قبل نجد، وأنهم غنموا، وأن الغنائم صارت لهم إلا الخمس، وأن هذا النفل كان من الخمس، يعني: أعطوا من الخمس بقدرهم، فكان لكل منهم بعير زيادة على سهمه.
وبكل حال: فهذا الحديث دليل على جواز النفل، ودليل على جواز إرسال السرايا.
كان النبي صلى الله عليه وسلم تارة يرسل السرايا من المدينة يقاتلون ثم يرجعون، ويُسمون سرية؛ لأنهم يسيرون ليلاً طويلاً حتى يصلوا إلى قرب العدو، فيقاتلون ثم يغنمون ويرجعون.
وتارة يفصل قطعة من الجيش ويرسلهم، ويسمون أيضاً: سرية، فالسرية تقع على قطعة من الجيش أو مجموعة يخرجون من البلد، يغيرون على الأعداء فيقاتلونهم حتى يغنموا منهم ما يغنموا، ولا شك أن هذا دليل على حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إرسال المقاتلين إلى بلاد المشركين؛ حتى يطهر البلاد وينقيها من المشركين، ويُظِهر الإسلام، وما زال كذلك حتى أظهر الله الإسلام ونصره، ودان الناس بدين الله سبحانه وتعالى، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، ومع ذلك لم يكن قصده ولا قصد صحابته ما يحصل لهم من هذا المغنم، ولكن كان قصدهم الأساسي هو القتال في سبيل الله، أي: قتال المشركين حتى يدخلوا في الإسلام؛ وذلك لأن المشركين إذا هزموا وسلبوا أموالهم وذراريهم شعروا بذل وبضعف، وشعروا بأن الإسلام هو القوي، وأن المسلمين دائماً هم المنتصرون، فيكون ذلك سبباً في إقبالهم على الإسلام، وديانتهم به، ودخولهم فيه، كما حصل ذلك لكثير من المشركين الذين هزموا، ثم بعد ذلك دخلوا في الإسلام ودانوا به، كما حصل لقبيلة هوازن الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم وهزمهم، ثم حصل أنهم بعد ذلك رجعوا إلى الإسلام.(79/14)
شرح حديث: (إذا جمع الله الأولين والآخرين يرفع لكل غادر لواء)
حديث: (يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة، ويقال: هذه غدرة فلان بن فلان) أورد المؤلف هذا الحديث لبيان أن الأمان يجب الوفاء به، وكذلك العهد، وكذلك الذمة، كل ذلك يجب الوفاء به، ويحرم الغدر والخيانة وترك الوفاء بما التزمه المسلم.
وصورة ذلك: أن يطلب بعض الكفار الأمان، فيقولون: نطلب الأمان، أو نطلب الهدنة والصلح، أو نطلب أن نتعاهد على ألا يقاتل بعضنا بعضاً مدة شهر أو سنة أو سنوات، حتى نستجم، ونريح أنفسنا، ويلتقي بعضنا ببعض، ونجول في الأرض، ونتقلب فيها لما نحتاجه، ثم بعد ذلك إذا انقضت نعود إلى ما كنا عليه من القتال حتى ينتصر من ينصره الله، وكما كان في عمرة الحديبية حين اصطلح النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش على المعاهدة، فتعاهدوا على وضع الحرب عشر سنين، فلا يقاتل بعضهم بعضاً، وقُصد بذلك أن يأمن الناس على أموالهم وعلى دمائهم، وأن يتمكن الدعاة من الدعوة إلى التوحيد، فالتزم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا العهد ووفى به، ولكن قريشاً لم يوفوا بما عاهدوا عليه، بل نقضوا العهد؛ وذلك لأن خزاعة كانوا قد دخلوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وبنو بكر دخلوا في عهد قريش، فوقع أن بني بكر غدروا، وأمدتهم قريش بالمال وبالرجال وقاتلوا خزاعة، وكان هذا هو النقض الذي نقضوا به العهد، فأرسلت خزاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبرونه بأن قريشاً قد نقضوا الميثاق ونقضوا العهد، فغزاهم النبي صلى الله عليه وسلم في سنة ثمان، وحصل فتح مكة، فكفار قريش هم الذين نقضوا العهد، أما النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون فما نقضوا العهد؛ لأنه يحث دائماً على الوفاء بالعهد، والله تعالى يحث على ذلك كقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل:91] ، وكقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} [الإسراء:34] ، وكقوله تعالى: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} [الأنعام:152] ، فإذا قال الإنسان: أعاهد الله أنني لا أخونكم، ولا أفشي أسراركم، ولا أطلع عليها أحداً من الأضداد، ولا أتكلم فيكم؛ فله ذلك، وكان لزاماً عليه الوفاء بهذا العهد وعدم نقضه.
فإذا نقضه وخان فإن هذه الخيانة وهذا النقض خصلة مذمومة، بل هي من خصال النفاق، كما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كنَّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر، وإذا حدث كذب) ، فذكر من جملتها الغدر، فقوله: (إذا عاهد) يعني: كذب في عهده ولم يوف به، فالغادر هو الذي ينقض العهد، فيؤمن إنساناً، فإذا أمنه بعد ذلك قتله، ويعتبر هذا مما يعاقب الله عليه، فيرفع للغادر لواء يوم القيامة يعرف به، يقال: هذه غدرة فلان بن فلان؛ لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يحافظ على الوفاء بالعهد، وينهى عن الكذب وعن الغدر.
وأما ما يحتج به بعضهم من أن الحرب خدعة، فإن هذا لا يصلح دليلاً؛ لأن قوله: (الحرب خدعة) بمعنى: أنك تخدعهم إذا رأيتهم مجتمعين، وأتيتهم على أنك ليس بينك وبينهم عهد ولا ذمة ولا أمان، فتأتيهم كأنك مسالم أو نحو ذلك، وأنت تقصد بذلك قتالهم، أو تأتيهم وهم غافلون ونحو ذلك، كما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون، فهذا من الحرب الذي قال فيه: (الحرب خدعة) ، ولا يصلح أن يكون فيه نقض للعهد، ولا الخيانة، ولا نقض الأمان ونحو ذلك، بل هذه الثلاثة: العهد، والأمان، والذمة، يجب الوفاء بها، ولا يجوز نقضها بحال مع كافر أو مع مسلم.(79/15)
شرح حديث: (أن امرأة وجدت في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم مقتولة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعنه رضي الله عنهما (أن امرأة وجدت في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم مقتولة فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان) .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام شكيا القمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة لهما، فرخص لهم في قميص الحرير، فرأيته عليهما) ] .
هذان الحاديثان من الأحاديث التي تتعلق بالجهاد، فالحديث الأول في النهي عن قتل النساء والصبيان في الحروب، والحديث الثاني في الرخصة في لباس الحرير في الحروب عند الحاجة إليه، وقد وردت أحاديث أخرى كثيرة في النهي عن قتل النساء والصبيان، وفي هذا الحديث: أنه وجدت امرأة مقتولة، ولما وجدها المجاهدون وقفوا عندها، كأنهم استنكروا قتلها، أو كأنهم ينظرون إلى خلقتها، فأدركهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم صافون حولها، فلما رآها أنكر قتلها، ونهى بعد ذلك أن يقتل في الحرب امرأة، لكن في بعض الروايات أنه قال: (ما كانت هذه لتقاتل) ، فعلل النهي عن قتلها بكونها ليست من المقاتلين، وهذه عادة النساء سابقاً أنهن لا يدخلن المعارك، ولا يأخذن الأسلحة، ولا يقاتلن، وإنما تبقى النساء مع الصبيان ومع الأمتعة، ويبقين خلف الرجال، أو يبقين في مساكنهن، ويغلقن على أنفسهن، هكذا كان الأمر المعتاد، فالأصل عدم قتل النساء والصبيان.
ومعلوم أيضاً أن الصبي الذي هو دون البلوغ ليس أهلاً للقتال، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا استولى على المقاتلين وعلى الذراري نظر في الصبيان: فمن وجده قد أنبت الشعر حول الفرج قتله؛ لأنه من الرجال، ومن وجده لم يحصل منه الإنبات لم يقتله، وجعله مع الذرية، فإذا استولى المسلمون على النساء فإنهن سبي يستحلونهن ويقسمونهن بينهم، يعني: كإماء يملكونهن بالاستيلاء عليهن، وكذلك الصبيان، يملكونهم أيضاً، ويكونون غنيمة للمسلمين، فيستخدمون الصبيان، ويتبادلونهم في الملكية، ويكونون عبيداً مملوكين لهم، هذا هو السبب في عدم قتل النساء والصبيان في الحروب.
لكن إذا قدر أن المرأة دخلت المعركة، وأخذت من السلاح ما تقاتل به، فإذا لم يكن بد من كف شرها إلا القتل فإنها تقتل دفعاً لضررها، ومعلوم أنه في هذه الأزمنة أصبحت نساء الكفار كرجالهم، ومما عابوا به المسلمين حرجهم على المرأة، ومنعها أن تخوض المعركة، وأن تقاتل مع أولادها وأحفادها، ومع إخوانها وأولاد إخوانها؛ فألزموها أن تتعلم القتال، وأن تتعلم استخدام الأسلحة، وإذا حصلت معركة مع عدو استوى الرجال والنساء في خوض تلك المعركة، ففي هذه الحال إذا حصل القتال بين مسلمين وكفار، ومع الكفار نساء، فإن القتال يكون عاماً لكل من يقاتل من رجل أو امرأة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علل النهي بقوله: (ما كانت هذه لتقاتل) ، فإذا وجد أنها قاتلت فلا مانع من أن تقتل، وقتلها هنا يكون كفاً لشرها؛ لتوليها من القتال ما يتولاه الرجال.
فأما إذا لم تخض المعركة، وإنما كانت مع الذراري ومع النساء في مؤخرات الجيش، أو في محل المعركة، أو في مكان القوم الذي تحجروا لأنفسهم، فإنها لا تقتل، بل تبقى على ما كانت عليه، حتى إذا استولى المسلمون عليهم أخذوها كسائر السبي، أو فادوا بها كما يفادون بالأسرى ونحوهم.
ويستثنى من ذلك إذا بيت المسلمون عدوهم في داخل دورهم، وكانت الدور -مثلاً- مظلمة، ولا يميزون صغيراً وكبيراً، ولا يميزون ذكراً وأنثى، فإنهم في هذه الحال يقتلون من تمكنوا منه، ومن وجدوه من صغير وكبير يقتلوه؛ لأنهم يريدون بذلك الاستيلاء على المشركين واستضعافهم وإذلالهم وإهانتهم، فإذا بيتوهم فإنهم يقتلون من تمكنوا منه؛ ولذلك لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن القوم يبيتون فيقتل بعض النساء والذرية قال: (هم منهم) يعني: أنهم من آبائهم، ولهم حكم آبائهم، وما ذاك إلا أن قتالهم هاهنا هو لأجل أن يُستولى عليهم، ولأجل أن يحصل من قتلهم الإذلال والإطاحة بهم، والاستيلاء على بلادهم، وذلك يحصل بأن يقتل من تمكن من قتله من ذكر أو أنثى.(79/16)
شرح حديث: (أن عبد الرحمن والزبير شكيا القمل إلى رسول الله في غزوة لهما)
الحديث الثاني يتعلق بلبس الحرير للعذر، ففي غزوة من الغزوات طال الأمر، واشتد الحر، وطالت الغيبة، وكان بعض الصحابة كـ الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف ممن اعتادوا النظافة، واعتادوا الثياب اللينة، فلما طالت غيبتهم مع ثياب خشنة وعرق، ومع طول مسافة، وبعد عهد بالاغتسال وبالنظافة؛ تولد القمل في الثياب وفي الجلد؛ فآذاهما القمل، وآذتهما حكته، فاشتكيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم القمل الذي تولد من الوسخ، والذي تولد من الثياب الدنسة الخشنة، فلما لم يكن هناك علاج يخففان به هذه الحكة، رخص لهما في ثياب الحرير، يقول الراوي: (فرأيت عليهما قميص الحرير في تلك الغزوة) .
فأخذ العلماء أنه يرخص في لبس ثياب الحرير عند شدة الحاجة إليها، ومن جملة ذلك الحكة والقمل، ويكون ذلك عند طول العهد بالنظافة ونحوه.
ومعروف أن القمل يتولد في الثياب وفي البدن بسبب بعد العهد بالنظافة، وتكاثر الأوساخ في البدن وفي الثياب خاصة، إذا بعد العهد بتنظيفها وغسلها وإزالة الأوساخ عنها، فإذا تعاهد الإنسان بدنه يومياً أو كل يومين أو كل أسبوع مرة أو مرتين بأن يغسل بدنه وأن يغسل ثيابه وينظفها فإنه والحال هذه لا يتوالد معه القمل الذي يتوالد من الوسخ كما ذكرنا، وكذلك إذا كانت ثيابه نظيفة ولينة الملمس كثياب الحرير لا يتولد فيها هذا القمل غالباً.
ورخص لهما النبي صلى الله عليه وسلم في ثياب الحرير لرقتها وليونتها ونعومتها، وكونها تكون مكافئة ومكافحة لتولد هذه الحكة وهذا القمل، هذا هو السبب، فإذا وجدت مشقة حصلت الرخصة، وإلا فإن الحرير حرام على الرجال، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة) وإنما رخص فيه للنساء، وقال في الذهب والحرير: (هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم) فصرح بأنهما محرمان على الرجال.
وقد ذكر الله أنها لباس أهل الجنة؛ يقول تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج:23] ، فإذا كان لباسهم الحرير في الجنة فإن الذي يطلب الجنة في الدنيا يتقلل من الأسباب التي تمنع من دخولها، ومن جملة ذلك ألا يفعل الأشياء التي إن فعلها منع منها في الآخرة، كما صرح في هذا الحديث، وحديث: (من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة) ، فكذلك من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، يعني: يعاقب بألا يدخل الجنة التي لباس أهلها حرير.
وسبب منع الرجال من لباس الحرير في الدنيا: أنه لباس أهل الترف، وأهل البذخ والكبر والرفاهية والتنعم، ولباس الذين يعتبرون الدنيا ملذة ونعيماً، وهذه الرتبة إذا حصلت فإن الذي تحصل له يكون من أهل الدنيا أصلاً، ولا يشتغل بالآخرة، بل يكون حظه منها هو الانكباب والإقبال على الشهوات وأسبابها، وهذا هو السبب في منع الرجال من لباس الحرير، ومن التحلي بالذهب في الدنيا.
وإذا كان كذلك فإنه يرخص فيه للعذر كما في هذه الحالة، والرخصة خاصة بالحرب، فإذا كان الإنسان غازياً، وطالت به الغيبة لطول الغزو، ولم يجد مكاناً أو بلداً يتنظف فيه، ويغير لباسه وكسوته أو ينظفه أو نحو ذلك، وحصلت له هذه الحكة من آثار هذا القمل؛ ففي هذه الحالة تحصل له الرخصة، وأما إذا وجد رخصة غير هذه بأن وجد ثياباً نظيفة أو وجد ما ينظف به بدنه ويزيل عنه الوسخ فلا تعمه الرخصة التي رخصت لهما.
وقد ذكرنا أنهما رضي الله عنهما كانا ممن اعتاد النظافة، واعتاد الثياب الرقيقة، ولما طالت بهما المدة تغيرت الحال عليهما، فكثرت الحكة فيهما، ولم يذكر أن غيرهما حصل له هذا الأمر؛ وذلك لأن غيرهما كانوا قد اعتادوا الثياب الدنسة ونحوها، ولا تؤثر الحكة على من اعتاده ذلك، والله أعلم.(79/17)
شرح حديث: (أجرى النبي صلى الله عليه وسلم ما ضمر من الخيل)
قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (أجرى النبي صلى الله عليه وسلم ما ضمر من الخيل من الحفياء إلى ثنية الوداع، وأجرى ما لم يُضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق) ، قال ابن عمر: وكنت فيمن أجرى.
قال سفيان: من الحفياء إلى ثنية الوداع خمسة أميال أو ستة، ومن ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق ميل.
وعنه رضي الله عنهما قال: (عُرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني في المقاتلة، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني) ] .
الحديث الأول يتعلق بالمسابقة، فالسباق على الخيل سنة لهذا الحديث؛ وذلك لأن فيه: أولاً: تجرأة على ركوب الخيل واعتياده، والثبات والمجاراة عليها.
ثانياً: تجربة الخيل، ومعرفة السابق منها وما ليس بسابق، وسبب ذلك: أن القتال كان على هذه الخيل؛ فالقتال الذي كانوا يقاتلون به أعداء الإسلام غالباً كانوا يركبون فيه الخيل، وقد يركبون الإبل، قال تعالى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر:6] ، فالركاب هي: الإبل، فدل على أنهم يوجفون دائماً أو كثيراً على الخيل أو على الركاب التي هي الإبل.
ثالثاً: أن الخيل تحتاج إلى تعويد وتمرين على السباق، وأنها تختلف باختلاف أحوالها، فمنها المضمر ومنها غير المضمر؛ لذلك فرق بينهما في هذه المسابقة، فأمر بأن تجري الخيل المضمرة مسافةً طويلة، والخيل غير المضمرة مسافةً قصيرة.
والمضمرة هي: خيولٌ تُعلَّف مدة ستة أشهر أو سنة ويزاد في علفها، وتعطى أنواع العلف الذي تقوى به حتى تسمن وتقوى ويكثر لحمها ويقوى عظمها، ثم إذا أرادوا السباق عليها جوعوها ثلاثة أيام أو يومين لا يعطونها شيئاً حتى تضمر ويخف ما في بطنها، فيكون عظمها قد صلب وقوي، وجسمها قوي أيضاً، وبطنها صار خفيفاً، فإذا أرادوا السباق في ذلك اليوم كانت قد ضمرت وخفت، فيطعمونها طعاماً قليلاً بقدر ما تتمسك به قوتها، ثم بعد ذلك يجرونها، فيجتمع فيها قوة البدن والسِّمن، وخفة البطون والجسم، فيكون سيرها أسرع.
وحيث إن الله تعالى ذكر الخيل بقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] ، فأمر بإعداد الخيول وبتهيئتها لتكون إرهاباً للأعداء وتخويفاً لهم؛ حتى إذا علموا أن عند المسلمين قوة ومنعة كان ذلك سبباً في هيبتهم وفي خوفهم؛ حتى لا يطمعوا في شيء من بلاد المسلمين أو من أموالهم أو ردهم عن دينهم أو نحو ذلك، بل يخافونهم، وإذا عزموا على قتالهم كان المسلمون قد استعدوا وقد تهيئوا، وقد أعدوا لهم العدة، فيكون مع المسلمين قوة ونجدة واستعداد لرد كيد الأعداء ولإذلالهم وإهانتهم.
فهذا هو السبب في الأمر بإعداد الخيل، في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60] .
ولا شك أن من جملة إعداد وتهيئة الخيول الدخول إلى الميادين؛ وذلك بمعرفة الأسبق منها، وبمعرفة السابق والقوي وغير ذلك، وهذا هو السبب في أنه صلى الله عليه وسلم أجرى هذه الخيل، أمر كل فارس أن يركب على فرسٍ، ويدخلوا المسابقة، وإذا أطلقوها فإنها تسير سيراً سريعاً، وتسعى سعياً شديداً إلى أن تصل إلى نهاية المدى الذي حُدد لها.
فجعل للخيل التي أضمرت من الحفياء إلى ثنية الوداع، وهذه أمكنة معروفة بالمدينة، وحددها الراوي بأنها خمسة أميال، وهذا يدل على أنها مسافة طويلة.
والميل يساوي قريباً من ألف وسبعمائة، وهذه مسافة طويلة، ولكن الخيول المضمرة خفيفة الجري، وسريعة العدو، وشديدة الأبدان، ولا تألم ولا تتعب، فلذلك لو سارت خمس ساعات سعياً شديداً لن تتعب في الغالب.
وأما الخيل التي لم تضمر فإنها تتعب بسرعة، لذلك جعل لها ميلاً واحداً، فجعلها تجري من الثنية إلى مسجد بني زريق نحو ميل أو قريباً من الميل، أي ألف وسبعمائة متر، وهذا لا شك أنه رفق بها؛ لكونها تتعب بسرعة؛ لأنها ممتلئة البطون، وثقيلة الجري، ولكونها لم تتعود على الجري.(79/18)
الأشياء التي يكون فيها السباق
السباق على الخيل من السنة، بل قد يستحق صاحب الفرس السابق جائزة تشجيعاً له على ذلك، فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا سبق إلا في نصلٍ أو خف أو حافر) ، والسبق هو: الجُعل الذي يبذل لمن سبق، فالجائزة التي تبذل للسابق تُسمى سبقاً، يعني: أجرةً وجائزة له تشجيعاً له على سبقه.
فجعل السبق يختص بهذه الثلاثة: السباق على الإبل، والسباق على الخيل، والسباق بالسهام التي هي الرمي، فالسباق بالرمي كأن ينصبون -مثلاً- هدفاً ثم يرمونه بسهامهم، فمن أصابه فله الجائزة، والذي يخطئ ليس له شيء، وهذا يجعلهم يعودون أنفسهم على الرمي.
وقد وردت الأحاديث في الأمر به، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] قال: (ألا إن القوة الرمي) .
ويدخل في ذلك الرمي بالأسلحة الجديدة، كالرصاص المعروف الآن، وكل ما يلحق به مما فيه تعلمٌ للقتال على هذه الأسلحة فإنه داخلٌ في قوله: (ألا إن القوة الرمي) فيدخل فيه الرمي بالرصاص المعروف، والرمي بالمدافع ونحوها، والرمي بالقاذفات وما أشبهها، ولا شك أن ذلك كله يعتبر من الرمي، فيصح السباق عليه، ويصح أن ينصب هدفٌ، وأن يرميه الذين يريدون التعلم، ومن أصابه في أول مرة أخذ الجائزة.
كذلك أيضاً السباق على الإبل؛ وذلك لأن الإبل من جملة ما يطلب عليه العدو، فيصح أن يُسابق عليها، وقد كانوا يتسابقون على الإبل، ينظر أيها أشد جرياً وعَدَواً، حتى تدرك من هرب، أو تنجو بمن هرب، أي: تدرك المطلوب، وتفوت الطالب.
وكذلك أيضاً الخيل.
فالحاصل: أن هذه الثلاثة هي التي تصح فيها الجوائز، وأما المسابقة على الأقدام فهي جائزة أيضاً، فقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سابقت النبي صلى الله عليه وسلم فسبقته، فلما غشيني اللحم سابقته فسبقني، وقال: هذه بتلك) ، فالمسابقة على الأقدام جائزة؛ وما ذاك إلا أن فيها تمريناً على شدة العدو والجري، والإنسان إذا عود نفسه سرعة السير وسرعة المشي وسرعة العدو كان ذلك مما يسبب قوته إذا هرب من عدوٍ، فقد تضطره الظروف أحياناً إلى أن يهرب إذا كان مطلوباً أو يطلب من هرب، فينجو ممن يطلبه، ويدرك من طلبه.
فيصح السباق على الأقدام، ولكن لا يصح بعوض.
كذلك يصح السباق على السفن وعلى الزوارق، ولكن إذا كان في بعض الأمور التي يسابق عليها شيءٌ من المخاطرة والمهاترة والإلقاء باليد إلى التهلكة والتعرض للأخطار فلا يجوز ذلك، كالمسابقة على السيارات أو الدبابات وما أشبهها،لما فيه من التعرض للأخطار؛ لأنه قد يكون من آثار السرعة حوادث انقلاب، أو حوادث اصطدام، أو نحو ذلك.
وبكل حالٍ فهذا الحديث دليلٌ على جواز المسابقة على هذه الأشياء، وإذا جازت المسابقة جاز جنسها، وجاز كل شيء فيه تشجيع على القتال، وفيه حث على إعداد القوة لمواجهة المشركين بكل ما يستطاع.
وعلى هذا نقول: إن على الإنسان أن يهيئ نفسه، فالنبي صلى الله عليه وسلم حث أصحابه على أن يتهيئوا لتعلم الرمي، وأن يتهيئوا لركوب الخيل، وأن يتعلموا ركوب الخيل والجري عليها، ولما شكا إليه بعض أصحابه -وهو جرير بن عبد الله البجلي - أنه لا يثبت على الخيل دعا له وقال: (اللهم ثبته) ، فكان بعد ذلك يثبت عليها، فدعا له بالثبات عليها، وحثهم على أن يتعلموا ركوبها، وأن يتعلموا الثبات والجري عليها؛ لأن في ذلك تقوية وتمريناً لهم على القتال ونحوه.
ونقول أيضاً: علينا أن نتعلم الرمي بالأسلحة الجديدة التي يُقاتَل بها العدو في هذه الأزمنة، وما ذاك إلا أن فيها استعداداً للعدو الذي قد يأتي فجأة وبغتة، فإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يقاتل، ولم يتعلم القتال والرمي ولا الجري، ولم يتعلم استخدام الأسلحة الثقيلة أو الخفيفة، ولم يتدرب على شيء من ذلك؛ أصبح كلاً على المجتمع، ولم يستفد المجتمع منه بشيء، بخلاف ما إذا كان قد درب نفسه وعودها على الثبات، وعلى الرمي، وعلى الكر والفر، وعلى الأسلحة الجديدة ونحوها، وعرف كيف تُستعمل، وعرف كيفية إصلاحها، وعرف كيف يصيب بها، فكل ذلك بلا شك من جملة ما أُمرنا به بقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [الأنفال:60] ، فكل شيءٍ تستطيعه في القضاء على الأعداء فإنك تفعله، وبذلك نستطيع أن نذل كل عدوٍ، لكن إذا أصلحنا علاقتنا مع الله تعالى، فهو الذي ينصر من استنصره، وهو الذي ينزل النصر على من ثبته، ولكن مع ذلك لابد من فعل سبب ليكون هذا السبب مقوياً أو مثبتاً للإنسان على الخير.(79/19)
شرح حديث ابن عمر: (عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد)
قال ابن عمر: (عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني) ، وفي بعض الروايات: (رآني قد بلغت فأجازني في القتال) .
وكانت غزوة أحد في آخر سنة ثلاث للهجرة، وكان سن ابن عمر حين ذلك في أول الرابعة عشرة، وأما غزوة الخندق فكانت في أول سنة خمس للهجرة، وسنه حين ذلك في آخر الخامسة عشرة، أو أنه قد بدأ في السادسة عشرة.
ففي المرة الأولى رآه صغيراً فلم يأذن له أن يدخل الميدان، ولا أن يخوض المعركة، ولا أن يقف في جبهات القتال؛ لأنه لا يزال صغيراً، والصغير قد لا يثبت، أو قد ينهزم، أو قد يسبب انهزاماً أو ضعفاً، فهذا هو السبب، والله أعلم.(79/20)
حكم حمل السلاح على المسلمين
قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [عن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حمل علينا السلاح فليس منا) .
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياءً أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) ] .
قوله صلى الله عليه وسلم: (من حمل علينا السلاح فليس منا) ، هذا من أحاديث الوعيد التي تُجرى على ظاهرها؛ ليكون ذلك أبلغ في الزجر، ولا شك أن المراد بحمل السلاح على المسلمين: حمله للقتال أي: من همَّ بقتال المسلمين أو أراد قتال المسلمين وتولى ذلك وفعله.
وقد تكاثرت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في حثه على ائتلاف المسلمين، ونهييه عن اختلافهم، ونهييه عن قتال بعضهم بعضاً، وإن كان قد أخبر بأنه سيقع في هذه الأمة قتال وشجار فيما بينهم، ولكنه مع ذلك كان دائماً ينهاهم عن هذا التقاتل، ويأمرهم بالائتلاف، ويحذرهم من أن يقاتل بعضهم بعضاً، ففي خطبته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع -التي هي آخر مجمع كبير اجتمع وتكلم فيه- حفظ عنه أنه قال فيها: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) ، فجعلهم إذا فعلوا ذلك في حكم الكفار، أي: لا تفعلوا ما هو كفر، أو ما هو من عمل الكفار من كونكم تتقاتلون ويقتل بعضكم بعضاً، ويضرب بعضكم رقاب بعض، فإن ذلك لا شك من أعمال الكفار، وإن لم نحكم بكفر من فعله مطلقاً.
وكذلك في تلك الخطبة حث صلى الله عليه وسلم على البعد عما يؤذي كل مسلم، فألقى عليهم سؤالاً، فقال: (أي شهر هذا؟ فقالوا: الشهر الحرام) وفي رواية أنه قال: (أليس شهر ذي الحجة؟ أي يوم هذا؟ فسكتوا، فقال: أليس يوم الحج الأكبر؟ أليس يوم النحر؟ أي بلدٍ هذا؟ فسكتوا، فقال: أليس بلد الله الحرام؟ ثم قال: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) .
فلا شك أن هذا كله تحريض وحث على الأخوة فيما بين المسلمين، ونهيٌ لهم عن أن يعتدي أحدٌ على المسلمين بأخذ مالٍ، أو سفك دمٍ، أو انتهاك عرض، أو نحو ذلك مما يكون ضرره على المسلمين عموماً.
وكذلك أيضاً ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ فقال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه) ، وهذا أيضاً من أحاديث الوعيد.
ومع ذلك فإن المسلمين عليهم أن يحترموا كل المسلمين، ولا يجوز لهم أن يحملوا عليهم السلاح، ولا أن يستحلوا دماءهم، ولا أن يستحلوا محارمهم، ولا أن يستحلوا أموالهم، فلا تُسفك الدماء ولا تنهب الأموال ولا تنتهك الأعراض، ولا تستحل المحارم، حتى يكونوا بذلك إخوةً مسلمين كما أمرهم الله بقوله: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103] ، وبقوله: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] ، والأحاديث التي تحث على الأخوة وتحذر من التقاطع كثيرة، ومن هذه الأحاديث التي تحذر المسلم من أن يقاطع إخوته قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تقاطعوا، لا تهاجروا، لا تدابروا، ولا تحاسدوا، ولا تنافسوا) ، وأحاديث كثيرةٌ جاءت في حث المسلمين على أن يكونوا إخوة.
ثم إذا كانوا إخوةً فإنهم يكونون يداً واحدةً على أعدائهم، ويكونون جميعاً من أولياء الله إذا فعلوا ما أُمروا به وتركوا ما نُهوا عنه، وأطاعوا الله ورسوله، وامتثلوا أمره؛ فمن كانوا كذلك فهم من المسلمين، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين.
ولا شك أن هذا يعم: حمل السلاح على أفراد المسلمين، وعلى جماعاتهم، وعلى أئمتهم وولاة أمورهم، كل ذلك يعمهم قوله: (من حمل علينا السلاح فليس منا) ، فالفرد من أفراد الناس إذا سل سيفه وأخذ يقاتل، أو أخذ بندقيته وصار يقاتل، أو همَّ بالقتال وأشهر سلاحه وأعلنه أمام الناس، وهدفه أن يقاتل هؤلاء المسلمين أو يخوفهم دخل في حكم هذا الحديث: (من حمل علينا السلاح) ، لأن هذا الحديث فيه توعد بمجرد الحمل.
كذلك أيضاً إذا أراد أن يقاتل جماعة أو فئةً أو طائفة أو دولةً أو أهل بلدةٍ، كأن اجتمعت مجموعة، وكان معهم قوةٌ، ومعهم عدةٌ وأسلحة، وأرادوا أن يقاتلوا أهل بلدة أخرى، أو يقاتلوا أهل دولة أخرى، أو يقاتلوا قبيلة أخرى، وليس ذلك إلا لإرادة التجبر والتكبر عليهم، دخلوا في ذلك؛ بسبب أنهم قد حملوا السلاح على مسلمين من أهل الإسلام الصحيح، فيكونون بذلك متوعدَين بهذا الوعيد: (فليس منا) .
وكذلك لو كان لهم منعة وقوة وعدة وذخائر ونزعوا يدهم من طاعة ولاة الأمور، وأرادوا أن يقاتلوا ولاة الأمر أو يقاتلوا من تحت ولاية الوالي ونحو ذلك؛ فيدخلون في هذا الحديث، ويصيرون ممن حمل السلاح على المسلمين، فيكونون بذلك قد توعدوا بهذا الوعيد الشديد: (من حمل علينا السلاح فليس منا) .
وهكذا إذا حملوا السلاح على المسلم، الذي هو متمسك بالإسلام وبالعقيدة وبالتوحيد وطاردوه لأجل إسلامه، أو لأجل تمسكه، أو لأجل عقيدته، أو لأجل ديانته، فإذا طاردوه، وحمل عليه السلاح وتبعه بالسلاح واحد أو عددٌ دخلوا في هذا الوعيد: (من حمل علينا السلاح فليس منا) .
وهكذا أيضاً يدخل في ذلك أفرادٌ وجماعات إذا كانوا يقطعون الطرق، ويقصدون بذلك أخذ الأموال، كأن يقفون في طرق الناس، فإذا مر بهم من يظنون أن معه مالاً أو معه محارم أشهروا السلاح عليه، وقالوا: أعطنا ما معك من المال، أو خلِ بيننا وبين محارمك لنفعل فيهن الفاحشة وإلا قتلناك، فإذا شهروا السلاح عليه فلا شك أن ذلك أيضاً داخل في هذا الحديث: (من حمل علينا السلاح فليس منا) .
وهكذا يدخل في ذلك البغاة الذين يكون لهم شبهة، ويكون لهم قوةٌ، ويخرجون عن طاعة الإمام كالحرورية الخوارج الذين يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل المعاصي والكفر، فهؤلاء داخلون في هذا الحديث؛ حيث إنهم حملوا السلاح على المسلمين فقط، وتركوا غير المسلمين.
ففي هذا وعيد شديد لكل من حمل السلاح على فرد أو على جماعة، سواء كان ذلك الحامل معه غيره أو كان وحده، وسواء كان قصده أن يستبد بالأمر أو قصده أن يذل ويهين المسلمين لأجل إسلامهم وعقيدتهم، أو قصده أن يذل كل متدين وكل عبدٍ صالح، حتى يظهر الفسق ويعلو، ويذل أهل الإيمان وينقمعوا في زعمه، ويتهمهم بما يتهمهم به من الإرهاب أو نزع يد الطاعة، أو ما أشبه ذلك، ولو سماهم بما سماهم فلا شك أن هذا داخل في هذا الوعيد.(79/21)
حكم قتال الكفار المتسمين باسم الإسلام
ولا يدخل في ذلك من ليس من المسلمين، ممن يتسمون بمسلمين، ولكن ليسوا بمسلمين، إذ ليس معهم من الإسلام إلا مجرد التسمي دون حقيقته، فإن هؤلاء لا يصلح أن يُسموا مسلمين، فالحديث ورد في الوعيد على حمل السلاح على المسلمين وحدهم، لا على من حمله على غيرهم، فإذا كان هؤلاء الذين تقاتلهم من المشركين الذين ظهر شركهم كأن كانوا ممن يعبدون القبور، أو يعبدون الصالحين، أو يعبدون غير الله، ويدعون غير الله عند الشدائد والملمات، ويهتفون بأسماء المخلوقات، ويدعونهم من دون الله تعالى، ويسمون ذلك توسلاً أو استشفاعاً، أو نحو ذلك، فهؤلاء يُقاتَلون ولو تسموا بأنهم مسلمون، كما قاتلهم الأئمة، ومنهم أئمة الدعوة، ومعهم أوائل أمراء هذه الدولة، فلقد قاتلوا في سبيل الله أناساً معهم اسم الإسلام، وليس معهم حقيقته، فلا يقال: إن محمد بن عبد الوهاب ومن معه حملوا السلاح على المسلمين، فإن هذا ليس بصحيح، وما ذُكر من أنهم فعلوا ذلك فليس له صحة، وكذلك ما ذكر من أنهم يكفرون كل من على وجه الأرض ليس له صحة، كما قال بعضهم: إن الشيخ محمداً يعم المسلمين جميعهم بالكفر، فنقول: هذا ليس بصحيح، وقد عابهم بهذا بعض أعدائهم حيث يقول في قصيدة له: وإنما تجاريك في سفك الدماء ليس بالقصد وتكفير أهل الأرض لست أقوله ولكن يقال: لم يتجار في سفك دماء المسلمين، وإنما في سفك دماء المشركين الذين شركهم صريح واضح، فإذا عُرف أن هذه الطائفة من المشركين الذين يدعون غير الله تعالى فلن ينفعهم تشهدهم، ولن ينفعهم انتسابهم إلى الإسلام ما دام أنهم يخالفونه مخالفةً صريحة.
ولا شك أنه يلحق بهم كل من حُكم بكفرهم، فإذا قُوتلوا فقتالهم قتالٌ في سبيل الله، وليس قتالاً لأجل منصب أو نحو ذلك، كقتال المحاربين وقتال البغاة، وقتال قطاع الطريق، وقتال المتعصبين ونحوهم، وإنما الذين يقاتلون المشركين لأجل شركهم فهؤلاء يقاتلون في سبيل الله.(79/22)
شرح حديث: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)
عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) ، لا شك أن الذي يقاتل لإعلاء كلمة الله، ولنشر الإسلام ولإظهار الدين، ولإظهار محاسنه، فهو في سبيل الله، وأما الذي يقاتل حميةً لقومه، كأن يقول: أقاتل حتى أحمي قومي من الذل، فهذا ليس له أجر ولو كانوا مسلمين؛ لأنه لم يقاتل لإعلاء الدين.
وكذلك الذي يقاتل تعصباً لطائفة على طائفة ليس له أجر القتال في سبيل الله، وكذلك الذي يقاتل رياءً ليُرى مكانه؛ حتى يمدحه الناس بأنه من أهل النجدة، ومن أهل الشجاعة، ومن أهل الجرأة، وأنه مقدامٌ وأنه إلخ، فهذا أيضاً ليس له أجر على قتاله؛ حيث إنه ما أراد بذلك الدار الآخرة.
وكذلك الذي يقاتل لأجل أن يحصل على جزء من الغنيمة من المال الذي يحصل عليه المجاهدون، فهذا أيضاً أجره ما يحصل له وما يظفر به من هذه الغنيمة، بخلاف الذي يقاتل لأجل أن يعلى الإسلام، ويظهر دين الله، وتعلو كلمة الله، ويذل الكفر وأهله، ويضطهد الكفر والكافرون، ويزول عن المسلمين ما هم فيه من الذل والهوان، والضعف والاضطهاد.
فمثل هؤلاء إذا قاتلوا هذا القتال فإن الله تعالى يثيبهم وينصرهم ويرفع معنوياتهم ويعزهم، وقد وعد الله تعالى بذلك بقوله: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] ، فهؤلاء حقاً هم الذين نصروا الله، وهم الذين ينصرهم الله.(79/23)
شرح عمدة الأحكام [80]
رغبت الشريعة في عتق الرقيق، وفتحت أبواباً كثيرة لتحريرهم، ومن تلك الأبواب: النذور، والكفارات، والكتابة، والترغيب في عتقهم ابتغاء وجه الله، وأحكام العتق كثيرة قد بينها الفقهاء رحمهم الله.(80/1)
أحكام الرق والعتق
قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [كتاب العتق.
عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أعتق شركاً له في عبدٍ فكان له مالٌ يبلغ ثمن العبد قُوم عليه قيمة عدلٍ فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أعتق شقصاً له من مملوك فعليه خلاصه كله من ماله، فإن لم يكن له مالٌ قوم المملوك قيمة عدل، ثم استسعي العبد غير مشقوق عليه) ] .(80/2)
تعريف الرق وبيان سببه
العتق: تحرير الرقاب، وإزالة الرق عنها، والرق: عجزٌ حكمي يقوم بالإنسان سببه الكفر، أي: أن الكفار لما خرجوا من العبودية لله تعالى، وصاروا يعبدون غيره؛ سلط الله المسلمين عليهم، فاستولوا عليهم بالقتال، فلما استولوا عليهم ملكوا رقابهم، وجعلوهم أرقاء لهم، يتصرفون فيهم كما يتصرفون في سائر أموالهم، فيكون الرقيق مملوكاً لمن استولى عليه، يملك منافعه، ويسخره فيما يريد، ويملك كسبه، ويملك أمره ونهيه، ولا يجوز له أن يتصرف إلا بإذن سيده الذي يملكه، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما عبدٍ تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر) أي: زانٍ حيث إنه ليس له أن يزوج نفسه، ولو كان آدمياً وبشراً سوياً عاقلاً؛ وذلك لأن سيده يملك عليه منافعه، فليس له أن يتصرف بشيء يشغله عن استخدام سيده له، فسيده يستخدمه سواءً في خدمة نفسه، أو في حرثه، أو في ماشيته، أو في تجارته، أو في صناعته، أو إذا استغنى عنه مكنه من التكسب وجعل كسبه له، بشرط أن يكون كسبه من حلال، فدل على أن هذا مما ملكه الإسلام لهؤلاء.
هذا هو أصل الرق، ولما كان هذا أصله؛ فإن الرقيق الذي يملكه المسلمون وهو كافر ثم يسلم بعد ذلك يبقى بعد إسلامه مملوكاً؛ لأن هذا الذي ملكه قد يكون بذل فيه واشتراه بماله، ولما اشتراه بماله وأسلم بعد ذلك، فإسلامه لا يسقط حق الآدمي؛ لأن حقوق الآدميين مبنية على المشاحاة والمضايقة، ولهذا يبقى ملكه ورقه بيد سيده بعد الإسلام.
ولكن الشرع الشريف جاء بالترغيب في الإعتاق بوجوهٍ متعددة: أولاً: جعل العتق من الكفارات؛ حيث جعل الله في كفارة القتل الخطأ تحرير رقبةٍ مؤمنة، وكذلك جعل في كفارة الظهار في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3] ، وكذلك في كفارة اليمين في قوله: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة:89] يعني: عتقها حتى تكون حرةً لتكون كفارة لهذا الذنب الذي اقترفه، وذلك دليلٌ على أن العتق فيه أجر كبير؛ حيث إنه يكفر قتل النفس، ويكفر الظهار الذي هو منكر من القول والزور، ويكفر الأيمان والنذور.
والشرع عندما جعله من المكفرات يهدف إلى تحرير الرقاب حتى يزول عنها الرق؛ وذلك لأنه إذا أصبح حراً صار مكلفاً بما يكلف به الأحرار، فيجب عليه الجهاد إذا تعين، ويجب عليه الحج، وتجب عليه صلاة الجمعة، وصلاة العيد، وقد كانت ساقطة عنه عندما كان مملوكاً؛ لأن فعلها قد يفوت على سيده بعض المنافع، ونحو ذلك مما لا يجب عليه إذا كان رقيقاً، فالشرع يتشوف إلى إزالة الرق؛ حيث جعل الكفارات بالعتق الذي هو التحرير.
ثانياً: ورد في الحديث: (من مثل بعبده فقد عتق عليه) ، (من مثل به) أي: من قطع منه إصبعاً أو جرحه في وجهه مثلاً، أو ضربه وأساء إليه، فكفارة ذلك أن يعتقه جزاءً له على اعتدائه على هذا المملوك.
وفي بعض الأحاديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً من أصحابه وهو يضرب عبداً له، فقال: اعلم أبا مسعود! أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام، فقال أبو مسعود: هو حرٌ لوجه الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو لم تفعل للفحتك النار، أو لمستك النار) أي: جعل ضربه له ذنباً، وجعل كفارته كونه حرره وأزال الرق عنه، مما يدل على أن الشرع يتشوف لإزالة الرق عن الرقاب.
ثالثاً: ورد أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أعتق شقصاً له في عبدٍ فإن عليه أن يخلص ذلك العبد) ، ولو كان لا يملك إلا سدسه أو عشره، فإذا أعتق ذلك الجزء كلف وقيل له: عليك أن تشتري بقية العبد من مالكه وتعتقه، ولا تجعله مبعضاً حتى لا يتضرر؛ لأنه إذا كان بعضه حراً وبعضه مملوكاً تضرر بذلك، فهذا دليلٌ على تشوف الشرع إلى إزالة الرق عن الرقاب، والحرص على أن تبقى محررةً حتى يتمكن الحر مما يتمكن منه سائر المكلفين.
رابعاً: ورد الثواب والأجر الكبير في فضل العتق، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل أعتق عبداً مسلماً أعتق الله بكل عضو منه عضواً منه من النار، حتى فرجه بفرجه) أي: أنك إذا أعتقت هذا العبد الذي كان مملوكاً فإنك تستحق أن يعتقك الله بسبب تحريرك له، فينجيك من النار، فيعتق الله بكل عضو من المعتق عضواً من معتقه.
وهذا تعظيم في فضل العتق، وهناك أحاديث كثيرة تدل على فضل العتق، وفضل إزالة الرق عن الرقاب وفضل أفضلها، ففي الحديثٍ أنه: (سئل صلى الله عليه وسلم عن أفضل الرقاب عتقاً؟ فقال: أنفسها وأغلاها ثمناً) أي: من أراد أن يكون الأجر له أكثر فإنه يعتق من هو أكثر ثمناً، ومن هو أكثر نفعاً.
واستحبوا العتق إذا كان ذلك العتيق يقدر على أن يغني نفسه، وأن يقوم بشأنه، وأما إذا كان لا يقوم بشأنه ولا يغني نفسه فإن الأولى له أن يبقى رقيقاً عند سيده حتى يتكفل به، وحتى يقوم بأمره وينفق عليه، ويطعمه ويكسوه، ونحو ذلك؛ لأن عتقه قد يصير وبالاً عليه؛ حيث إنه لا منفعة فيه، ولا خير فيه لنفسه.
وعلى كل حال نعرف بذلك أنه كما أن الله تعالى أباح الرق فقد رغَّب في العتق، وجعل فيه ثواباً جزيلاً؛ حتى يزول هذا الرق أو يخف أمره.
وأما سببه فهو: أن الكفار عبيدٌ للشيطان، ولما كانوا عبيداً للشيطان في حالة كفرهم استولى عليهم المسلمون، فجعلوهم عبيداً لهم، فقالوا: بدل ما أنتم عبيدٌ للشيطان عبودية معنوية نجعلكم عبيداً لنا -أرقاء- عبوديةً ظاهرةً جلية، فتصيرون في ملكيتنا، وتحت تصرفنا.(80/3)
مشروعية الرق
الأصل في الرق أنهم كانوا إذا قاتلوا المشركين واستولوا على ذراريهم، واستولوا على نسائهم، ملكوا الذراري والنساء، وسموا ذلك سبياً، فيقال: سبينا منهم كذا وكذا امرأةً، وكذا وكذا صبياً، ونحو ذلك.
ومن ذلك قصة بني قريظة، لما نقضوا العهد، وتعاونوا مع قريش وغطفان الذين جاءوا أحزاباً، فلما انصرفت الأحزاب حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم، وحكم فيهم سعد بن معاذ: أن تقتل المقاتلة، وتسبى النساء والذرية، فكانوا يقتلون الرجال البالغين، وكانوا ينظرون من أنبت الشعر منهم فهو دليل على بلوغه فيقتل، ومن لم ينبت خلي سبيله، وجعل مع السبي، فصاروا سبياً، أي: مماليك.
وكذلك لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر قتل من قتل منهم، واستولى على النساء وعلى الذرية، وأصبحوا مماليك، وكان من جملتهم صفية التي اصطفاها لنفسه وتزوجها، وجعل عتقها صداقاً لها، فأصبحت من أمهات المؤمنين.
ومن ذلك أيضاً قصة بني المصطلق لما أغار عليهم وهم غارون، فقتل من قتل منهم، وهرب رجالهم، واستولى على أموالهم وعلى نسائهم وذراريهم وأصبحوا مماليك، وكان من جملتهم جويرية بنت الحارث التي كانت في سهم بعض الأنصار، فكاتبته؛ لأنها كانت بنتاً لسيد بني المصطلق، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تستعينه بكتابتها، فدفع عنها ثمنها وتزوجها، ولما تزوجها أعتق المسلمون جميع بني المصطلق وقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعتق بسببها مائة بيتٍ.
فهذه أمثلةٌ من الكفار الذي كان صلى الله عليه وسلم يقاتلهم ويسبيهم، وهذا دليل على أنه كان يسبي حتى العرب؛ لأن بني المصطلق من العرب، ومع ذلك سباهم واستباح ذراريهم.
ومن ذلك أيضاً قصة هوازن: لما أنهم تقاتلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حنين ثم انهزموا، استولى على أموالهم وعلى ذراريهم وعلى نسائهم، فقسم صلى الله عليه وسلم الأموال، وقسم النساء والذرية بين الغانمين، ولكن بعد مدةٍ جاء أهل هوازن مسلمين وقالوا: رد علينا ما أخذت، فخيرهم وقال لهم: اختاروا إما السبي وإما المال، فاختاروا السبي -الذي هو النساء والذرية- فرده صلى الله عليه وسلم عليهم.(80/4)
بيان الوقت الذي انقطع فيه الرق وسبب ذلك
لما بدأ الصحابة في قتال فارس والروم، وفي قتال البربر والترك ونحوهم كثر السبي عند المسلمين، وكثر الرق، وصاروا يسترقون كثيراً حتى أصبح في كل بيت عددٌ من الأرقاء المملوكين، ولذلك تجد بعض الفقهاء يضربون المثل كثيراً بالرق وبشراء الرقيق وما أشبه ذلك مما يدل على كثرته، ولم يزل الرق موجوداً إلى سنة ست وثمانين من القرن الرابع عشر، ثم رأت الحكومة أن الجهاد منقطع منذ زمن طويل، وأن هؤلاء المماليك يغلب أنهم منتهبون من البلاد التي تلي بلاد العرب من أفريقيا ونحوها، فرأى الملك رحمه الله أن يُحرروا كلهم، وأن يُمنع الاسترقاق إلا أن يحصل قتالٌ شرعي فيما بعد، فإذا حصل فيه سبيٌ وكان سبياً صحيحاً فإنه يعود الرق إلى ما كان عليه.(80/5)
أحكام المبعض
حديثا الباب يظهر أن بينهما شيئاً من الاختلاف، فإن في حديث ابن عمر أن العبد يبقى مبعضاً، وفي حديث أبي هريرة أنه يستسعى.
وصورة حديث ابن عمر: إن كان العبد بين زيد وعمرو نصفين، فأعتق زيدٌ نصفه، وبقي نصف عمرو، فنقول لزيد: أنت أضررت بهذا العبد الذي جعلت نصفه حراً، ونصفه رقيقاً، ولأنك أنت السبب في ذلك فعليك أن تشتري النصف الباقي وتعتقه، وتعطي شريكك قيمة ذلك النصف، وأما قيمته فتعرض على أهل المعرفة، ويقال لهم: كم قيمة نصف هذا العبد؟ فيقومون قيمة عدل لا وكس ولا شطط، ولا زيادة ولا نقصان، فإذا قوم وعرف قدره قلنا لزيدٍ: عليك أن تدفع لعمرو نصف ثمن العبد حتى يعتق العبد، ويكون كله عتيقاً بسببك، وأنت الذي تحوز الأجر، وأنت الذي يكون لك ولاء هذا العبد؛ فإن الولاء لمن أعتق.
فإذا قال: أنا فقير وليس عندي ما أستطيع أن أشتري به النصف الثاني -سواء كان الباقي نصفاً أو أكثر من النصف أو أقل من النصف- فماذا نفعل بهذا العبد الذي أصبح بعضه حراً وبعضه عبداً؟! في حديث ابن عمر أنه يبقى مبعضاً، وعلى هذا يخدم عند عمرو يوماً، ويخدم لنفسه يوماً، ويقال له: لك يوم تتكسب فيه وتنفق به على نفسك، ولك -يا عمرو- يوم يخدمك فيه، ويشتغل عندك، ويكون كسبه لك، والمبعض مذكورٌ في كتب الفقه كثيراً، وكيف يُعامل، وكيف يُعمل معه.
هذا هو مقتضى حديث ابن عمر أنه يبقى مبعضاً، يشتغل عند هذا يوماً ويشتغل لنفسه يوماً، فإذا كان ما أعتق إلا ربعه، فيشتغل عند سيده ثلاثة أيام، واليوم الرابع يشتغل لنفسه، ويكون حر التصرف فيه، أو يتفقان على مدة، كأن يقول: تشتغل عندي شهراً، وتشتغل لنفسك ثلاثة أشهر، أو تشتغل عندي ثلاثة أشهر ولنفسك شهراً، أي: بقدر ما فيه من الحرية.
وذكروا ذلك حتى في المواريث، فقالوا: المبعض يرث ويُورث ويحجب بقدر ما فيه من الحرية، هذا ما يدل عليه حديث ابن عمر.
أما حديث أبي هريرة فذكر أنه يُستسعى العبد غير مشقوق عليه أي: إذا لم يستطع الذي أعتق نصفه أن يحرره فإنه يُستسعى، ومعنى يُستسعى يقال له: اكتسب لنفسك أعمالاً؛ واشتر نفسك بمنزلة المكاتب الذي يشتري نفسه من سيده بمالٍ مؤجلٍ، ثم يدفع كل شهرٍ أو كل سنة قسطاً حتى يحرر نفسه، ولعل هذا فيما إذا كان قادراً على أن يتكسب، ولا نلزمه بذلك، وهذا هو الجمع بينهما: أنه يستسعى إذا كان معه قدرة على التكسب حتى يخلص نفسه، فإذا لم يستطع التكسب فلا يجبر على الاستسعاء والتكسب، بل يبقى مبعضاً، والله أعلم.(80/6)
شرح عمدة الأحكام [81]
إن الشريعة الإسلامية جاءت بكل ما يحفظ للإنسان كرامته وآدميته، فبالرغم من جواز الرق في الإسلام إلا أنه قيده بقيود تضمن حق الرقيق، وعلاوة على ذلك فقد رغب في إعتاق الرقيق بصور مختلفة، ومن هذه الصور التدبير، وصفته أن يعلق عتق رقبة المملوك على موت مالكه، وفي هذا منفعة للمالك في حياته ومنفعة له بعد مماته بنيل أجر العتق، إضافة إلى المنفعة التي ينالها المملوك بنيل حريته.(81/1)
أحكام بيع المدبر
قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه: [باب بيع المُدَبَّر: وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (دَبَّر رجل من الأنصار غلاماً له) .
وفي لفظ: (بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً من أصحابه أعتق غلاماً له عن دُبُر لم يكن له مال غيره، فباعه بثمانمائة درهم، ثم أرسل بثمنه إليه) ] .
هذا باب بيع المُدَبَّر، والمدبر هو: أن يعلق العتق على الموت بأن يقول: إذا مت فهذا العبد حر بعد موتي، أو أعتقته بعد موتي، فيسمى مدبراً؛ لأن هذا المالك دبَّر حياته، يعني: انتفع بالعبد واستخدمه في حياته، وحصل له أجر العتق بعد مماته، فجمع بين كونه دبر حياته ودبر مماته.
وعليه فيبقى العبد في ملك سيده، فإذا مات السيد أعتق العبد، ويكون عتقه من رأس المال؛ وذلك لأنه جعل عتقه معلقاً، والمعلق إذا وُجد الشرط الذي عُلق عليه حصل العتق سواءً كان التعليق بأجل أو كان التعليق بصفة، فلو قال مثلاً: إذا بلغ هذا العبد ستين سنة فقد أعتقته، فإنه يعتق بمجرد بلوغه، ولو لم يقل: أنت حر، وإذا قال مثلاً: إذا وُلِد لهذا العبد ثلاثة أو عشرة أولاد فإنه حر أو فإنه عتيق، فمتى تم أولاده ذكوراً وإناثاً عشرةً أعتق، ولو لم يعتقهم وذلك لوجود الشرط، وكذلك لو قال: إذا خدمتني -مثلاً- بعمل كذا بغرس كذا وكذا نخلة، أو بخياطة كذا وكذا ثوباً، أو بعمل كذا وكذا نعلاً، أو ما أشبه ذلك فأنت حر، فيعتبر هذا أيضاً تعليقاً على صفة، فكذلك إذا قال: إذا متُّ فأنت حر، فهذا تعليق للعتق على صفة وهي موت السيد، وكذلك إذا قال: إذا جاء رمضان فأنت حر، أو إذا شفيت من المرض فعبدي حر، أو إذا قدم ولدي الغائب أو وجدت دابتي الضالة فعبدي فلان حر أو فهو عتيق، فإذا حصلت هذه الصفة حصل العتق؛ لأنه علق العتق عليها.
فعُرف بذلك أن العتق يكون له أسباب، فمن جملتها هذا السبب الذي هو تعليق العتق على الموت، الذي يسمى التدبير، ومنها الكتابة، وهي مذكورة في القرآن في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرَاً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] وذلك بأن يشتري العبد نفسه بمال مؤجل، ويقسط هذا المال على أقساط محددة شهرية أو سنوية، فإذا أداها كلها أعتق، فلو كانت قيمته -مثلاً- خمسة آلاف واشترى نفسه بعشرة آلاف يؤدي كل سنة ألفاً، فإذا أدى العشرة آلاف أعتق، ويسمى هذا مكاتباً.
كذلك أم الولد وهي التي يستولدها سيدها بأن يطأها فتلد له ولداً قد تبين فيه خلق الإنسان يعني: تلد ولداً حياً أو ميتاً، بشرط أن يكون قد تبين فيه خلق الإنسان إذا ولد ميتاً، فإنها تعتق بعد موته وتخرج من رأس المال، كالمدبر الذي يعتق أيضاً من رأس المال.(81/2)
جواز بيع المدبَّر
هذا الحديث دليل على جواز بيع المدبر، فإن هذا الرجل من الأنصار ليس له مال إلا هذا العبد، وكان قد أعتقه عن دبر، وذات يوم احتاج فعلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فدعا بالغلام وعرضه للبيع فاشتراه نعيم بن عبد الله بن النحَّام بثمانمائة درهم، فدفعها إلى ذلك الأنصاري وقال: (ابدأ بنفسك فتصدق عليها) يعني: أنت أحق بأن يُتَصَدَّق عليك، فانتفع بهذا المال، وأنفق منه على من تحت يدك من الفقراء ونحوهم من الأولاد المحتاجين، فإنهم أولى بأن تنفق عليهم.
وبهذا استدلوا على أن التدبير لا يخرج العبد من الملكية حيث يجوز بيعه، وإذا باعه بطل التدبير، والذي يشتريه يتملكه؛ لأنه اشتراه على أنه عبد، فيبقى مملوكاً له، ولا يعتق لا بموت الأول ولا بموت الثاني، أي: لا بموت المدبر الذي دبره، ولا بموت الذي اشتراه؛ لأنه انتقل من ملك ذلك الذي دبره، فزالت حريته المعلقة وبقي رقيقاً.
لكن لو قُدِّر أن الذي دبره اشتراه مرة ثانية أو وُهب له فعادت إليه ملكيته، فإن صفة التدبير تعود إليه، فلو أن هذا الأنصاري أخذ ثمنه ثمانمائة درهم وأنفق منها ما أنفق، ثم وجد عبده يُباع فاشتراه بمائة أو بمائتين فإنه يعود إليه التدبير، بمعنى: أنه إذا مات الأنصاري أعتق عبده، وكذلك لو أن نعيم بن النحام وهبه للأنصاري فقال: وهبتك هذا العبد الذي اشتريته منك -أو اشتريته بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم- ورددته عليك، فإنه يعود إليه وصف التدبير بحيث إذا مات الأنصاري أعتق العبد من رأس المال.(81/3)
عدم جواز بيع أم الولد
أم الولد لا يجوز بيعها، وهذا هو القول الصحيح؛ وذلك لأنه تعلق عتقها بوجود ذلك الولد أو أولئك الأولاد، فأصبح ولدها مالكاً لجزء منها، ومن ملك بعض أو كل قريبه عتق عليه، وهذا مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، ومما يدل على أن الشرع يتشوف للعتق.
فأم الولد مملوكة لسيدها، وقد ولدت منه ولداً واحداً أو عدداً من الأولاد، فإذا مات مالكها فإن ولدها يكون قد ملك جزءاً من أمه فتُعتق، والصحيح: أنها تعتق من مال الوالد، أي: من رأس المال، وهناك من يقول: تعتق من نصيب أولادها من الإرث، فيحررونها من نصيبهم، ولكن الصحيح أنها تعتق من رأس المال، حتى لو كان ولدها ميتاً؛ وأنه قد انعقد عتقها بوجود هذا الولد الذي ملك جزءاً من أمه.
وقد ثبت في الحديث عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه) يعني: إذا أعتق أباه أو أعتق أمه أو أعتق جده أو جدته فقد جازاهم على حضانتهم وعلى تربيتهم له.
وأخبر أيضاً في حديث آخر بقوله صلى الله عليه وسلم: (من ملك ذا رحم محرم عتق عليه) ويراد بالرحم: كل من لو كان أنثى لحرمت عليه، فإذا ملكته فإنه يعتق عليك بمجرد الشراء، أو بمجرد الملكية، كأن تكون ملكته بإرث، أو ملكته بشراء، أو بهبة، أو بغنيمة، أو نحو ذلك فإنه يعتق عليك وويدخل في ذلك الأصول: كالأم والجدات كلهن، وكذلك الأب والجد، والجد أبو الأم، والأجداد من كل جهة، ويدخل في ذلك الفروع: كالأبناء والبنات وأولادهم ذكوراً وإناثاً وإن نزلوا، ويدخل في ذلك الإخوة وبنوهم وإن نزلوا، ويدخل في ذلك الأعمام والأخوال، ولا يدخل ابن العم وابن الخال في ذلك؛ لأنهما ليسا من المحارم.(81/4)
الحض على عتق الرقبة المؤمنة من خصائص الشريعة الإسلامية
يتشوف الشرع إلى تحرير الرقاب، وإزالة الرق عنها، سيما بعد أن تؤمن وتدخل في الإيمان، ولأجل ذلك اشترط الله في عتق الرقبة من كفارة القتل أن تكون الرقبة مؤمنة، قال سبحانه: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنَاً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] واشترط الله ذلك تشجيعاً للمؤمن عندما اختار الإيمان ودخل فيه فإن الله تعالى رغب في إعتاقه وإزالة الرق عنه، فكفارة القتل نص الله فيها على أنها لابد أن تكون مؤمنة، وأُلحق بها على وجه القياس كفارة الظهار وكفارة الأيمان وكفارة الوطء في نهار رمضان، حيث يشترط العلماء فيها أن تكون الرقبة مؤمنة.
والحاصل: أن هذا ونحوه دليل على أن الشرع كما أباح الرق فإنه جعل هناك أسباباً كثيرة ترغب في تحرير هذه الرقبة التي وقع عليها الرق، حتى تتفرغ لعبادة الله، وتقوم بأداء حقوقه.
وكذلك رغَّب المملوك في العمل لله، والعمل لسيده، قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة يؤتَون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بكتابه ثم آمن بهذا القرآن فإنه يؤتى أجره مرتين، ومملوك أدى حق الله وحق سيده -حق الله هو العبادات، وحق سيده هو الخدمة- فإنه يؤتى أجره مرتين، ورجل كان له جارية فعلمها وأدبها ثم أعتقها وتزوجها يؤتى أجره مرتين) .
وهذا ونحوه دليل على أن الإسلام لما أباح الرق أمر بمعاملة الأرقاء المعاملة الحسنة، ونهى عن معاملتهم بالشدة والتضييق والأذى، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن هؤلاء المماليك إخوان لنا، وفي حديث أبي ذر أنه سابَّ رجلاً فعيَّره بأمه التي هي مملوكة وقال: يا ابن السوداء! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعيرته بأمه، إنك امرؤ فيك جاهلية، هم إخوانكم خَوَلُكم -يعني: خدم لكم- جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يطعم، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما لا يطيقون، فإن كلفتموهم فأعينوهم) فكان بعد ذلك أبو ذر رضي الله عنه يستوي في الكسوة هو وغلامه، فإذا لبس حلة ألبس غلامه حلة، وإذا لبس رداءً ألبس غلامه مثله، وكان يُجلسه إلى جانبه إذا أكل فيأكل هو وإياه سواءً، وما ذاك إلا حرصاً منه على العمل بهذا الحديث.
ولما رغَّب النبي صلى الله عليه وسلم في العتق كان من جملة ما رغَّب فيه كون الولاء لذلك المعتق لقوله: (الولاء لمن أعتق) وأخبر بأن ذلك العتيق يُلحق بقبيلة المعتِق فيصير منهم، لقوله صلى الله عليه وسلم: (مولى القوم منهم) .
وقوله: (الولاء لمن أعتق) فيه ترغيب للسيد في أن يعتق غلامه؛ لأنه إذا عرف بأنه إذا أعتقه أصبح ولياً له، وأصبح كأنه من قبيلته، وأصبح معدوداً في أسرته وفي قبيلته، كان ذلك مما يرغِّبه في إعتاقه له.
ولهذا يعرف العلماء الولاء فيقولون: الولاء عصوبة سببها نعمة المعتق على عتيقه بالعتق، فيرثه هو وعصبته المتعصبون بأنفسهم لا بغيرهم، ولا مع غيرهم.
ويعرف آخرون الولاء بأنه: لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب ولا يورث، أي: أن مولاك الذي اعتقته يصير مثل ابن عمك، فيواليك وينصرك ويؤازرك ويقوم معك فكأنه أحد أقاربك، ويصبح من الأسرة ومن القبيلة التي أنت منها، وذلك لأنك مننتَ عليه بهذا العتق، فيصبح كأنه واحد من قبيلتك، هذا معنى كون الولاء لمن أعتق.
وبكل حال فإن هذه الترغيبات دليل على أن الشرع جاء بكل ما يوافق العقول وما يناسبها، وأنه ليس فيه ما يرميه به أعداؤه من أنه يمكن الإنسان من بيع أخيه الإنسان كما تباع البهيمة، ومن تحكمه فيه، ونحو ذلك مما يقولونه ليشوهوا به صورة الإسلام ما دام أن هذا أصل الرق وهذا منتهاه.(81/5)
الأسئلة(81/6)
حكم شهادة المرء للتعريف بأشخاص لا يعرفهم
السؤال
فضيلة الشيخ، شهدت مع أحد الناس في الأحوال المدنية لإخراج هوية له وأنا لا أعرفه، فما حكم هذه الشهادة، مع العلم أنه يكثر في المحاكم شهادة أناس لآخرين من غير أن يعرف بعضهم بعضاً لاستخراج صك وكالة أو غيرها من الأمور التي لابد فيها من شاهدَين؟
الجواب
قد يُتسامح في مثل ذلك إذا عرفتَ صدقه، ورأيت -مثلاً- هويته أو بطاقة الأحوال الشخصية الخاصة به، وعرفت من سيماه أنه لا يتعمد كذباً، وعرفت أن مثل هذه الشهادات لا يترتب عليها ظلم لأحد، أو أخذ مال من هذا لهذا، وإنما هي استخراج ملكية أو بطاقة شخصية أو حفيظة نفوس أو ما أشبه ذلك، فكل ذلك لا بأس به؛ ولكن بعد أن تتثبت أنه من أهل الصدق.(81/7)
منع الأبناء من الذهاب إلى المسجد خشية اختلاطهم برفقة سيئة
السؤال
هذه امرأة تقول: إن لها صبيين صغيرين، الأول: عمره ثلاث عشرة سنة، والثاني: عمره ثمان سنوات، وهما يخرجان إلى الصلاة؛ ولكن أثناء ذهابهما وإيابهما من المسجد يختلطان ببعض أبناء الحي، فيتعلمان منهم بعض الحركات والعبارات البذيئة ونحو ذلك، تقول: فهل أدعهما يخرجان إلى المسجد أو الأولى أن أجعلهما يصليان في البيت، علماً بأن والدهما متوفى، وليس هناك من يراقبهما؟
الجواب
ما داما في هذه السن فينبغي المحافظة عليهما؛ ولكن يكون ذلك بالتربية والتنشئة والتعليم، وليس ذلك بحبسهما في المنزل، وعليها وعلى جيرانها الصالحين أن يراعوهما ويراقبوهما، وأن يحفظوهما من خلطاء السوء الذين يفسدون أو يلقنون العبارات السيئة، أو يهمزون ويعيبون أو يدعون إلى شر وفساد، أو يوقعونهما في مفسدة كشرب دخان أو ما أشبه ذلك، فإذا تحققوا من ذلك فلا يضرهما إن شاء الله الذهاب إلى المساجد.(81/8)
ترتيب آيات القرآن توقيفي وترتيب سوره اجتهادي
السؤال
هل ترتيب سور القرآن الكريم وآياته كما هو في المصحف الآن توقيفي عن النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
ترتيب السور اجتهادي، وأما ترتيب الآيات فلا شك أنه توقيفي، فمثلاً سورة البقرة من أولها إلى آخرها هكذا كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد حفظها الصحابة عنه على هذا، كما في حديث حذيفة أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ سورة البقرة، ولا شك أنها على هذا الترتيب، ثم قرأ بعدها سورة النساء، ولا شك أنها على هذا الترتيب، ثم قرأ بعدها سورة آل عمران، ولا شك أنها على هذا الترتيب، وكذلك قرأ ابن مسعود من أول سورة النساء إلى قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النساء:41] ولا شك أنها على هذا الترتيب، وهكذا بقية السور.
فالآيات ترتيبها توقيفي، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت آية قال لأصحابه: (اجعلوها في موضع كذا من سورة كذا) فتُجعل في موضعها.
وأما السور فقد رُوي أن بعض الصحابة كانوا يقدمون بعض السور على بعض؛ ولكن اتفقت كلمتهم على ترتيبها على هذا الترتيب الموجود، ولو كان عن طريق الاجتهاد.
وآخرون يقولون: إنه لابد أن يكون عندهم تعليم من النبي صلى الله عليه وسلم بترتيب السور.(81/9)
صفة الطهارة لمن يخرج منه دم يسير لإصابته بالبواسير
السؤال
رجل أصيب بمرض البواسير ويخرج منه دم يسير، هل حكمه حكم من به سلس البول؟
الجواب
نعم؛ لأنه لا يتحكم فيه ولا يقدر على إمساكه، فإذا علم أنه مستمر الخروج ولا يتوقف فهو كصاحب سلس البول، ويتوضأ لكل صلاة بعد دخول وقتها.(81/10)
حكم زواج الرجل من امرأة رضع إخوته من أمها
السؤال
امرأة أرضعت ثلاثة من أولاد أخي زوجها، ولديها بنت، ويريد أحد أولاد أخي زوجها أن يتزوجها، مع العلم بأن هذا الشخص لم ترضعه المرأة، بل هو سوى الثلاثة الذين أرضعتهم، فهل تحل هذه الفتاة لابن عمها؟
الجواب
تحل له، ولا يضره رضاع إخوته إذا كان هو لم يرضع من أم هذه الجارية، والجارية ما رضعت من أمه، إنما إخوته رضعوا من أمها، فإخوته يصيرون إخوة لها، وأما هو فلا تعمه الأخوة، وهو لم يرتضع.(81/11)
التحذير من التهاون في رفع الطعام المتساقط بين يدي آكله
السؤال
ما حكم ما يحصل عند كثير من الناس على موائدهم من إسقاط كثير من الطعام على الأرض عند الأكل، وخاصةً في الولائم؟ وهل يدخل ذلك في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن سقطت لقمته أن يُبعد الأذى منها ويأكلها ولا يدعها للشيطان؟ وهل ننكر ذلك عليهم؟
الجواب
لا شك أن هذا داخل في الوعيد، وأنه مما يُنتبه له ومما يُنكر، ومثل هذا يحصل كثيراً وبالأخص من الشباب أو الصغار الذي لا يبالون بما يقع على السماط ونحوه من اللحوم والأكل دون أن يأكلوها، فيتساقط منهم شيء كثير بحيث لو جُمع لكان غذاءً لعدة أشخاص، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سقطت لقمة أحدكم فليأخذها وليُمط ما فيها من الأذى -وظاهره أنها تقع على التراب فيعلق بها- وليأكلها ولا يدعها للشيطان) وكذلك كان يأمر بلعق الصحفة التي يكون فيها الطعام، ويأمر بلعق الأصابع، ويقول: (إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة) فيُنتبه لمثل هذا.(81/12)
حكم أكل لحوم البغال
السؤال
إذا كانت الحُمُر محرمة والخيل مباحة فما حكم البغال التي هي خليط بين الحُمُر والخيل؟
الجواب
الحكم فيها بالحرمة تغليباً لجانب التحريم؛ لأن كل شيء متولد من حلال وحرام فإنه يغلب فيه جانب التحريم لحديث: (من اتقى الشبهات) لأنه مشتبه، فالبغل متولد من الحمار والخيل، ولما كان أحد أبويه حلالاً والآخر حراماً غلَّبنا فيه جانب الحرام.(81/13)
الاعتقاد بأن الجن تخاف الذئاب، وحكم إحضاره بين يدي الراقي
السؤال
هناك بعض القراء الذي يرقون الناس، يضعون في مكان القراءة أو قريباً منه ذئباً، ويزعمون أنه يخيف الجن، ويعتقدون ذلك، فهل هذا العمل جائز شرعاً؟
الجواب
ما أذكر في ذلك شيئاً أو دليلاً واضحاً؛ ولكن إذا كان قد جُرِّب فالأمر تبع للتجربة، وأما القراء المشهورون فما أذكر أنهم جربوا شيئاً من ذلك.
وعلى كل حال فالاقتصار على قراءة القرآن وقراءة الأدعية النبوية فيه الكفاية إن شاء الله.(81/14)
أحكام الجمع والقصر في الصلاة لا تبدأ إلا بعد الشروع في السفر
السؤال
إنسان نوى السفر ودخل عليه وقت صلاة الظهر وهو ما زال داخل المدينة لم يشرع في السفر، هل يجوز له جمع الظهر والعصر معاً أم أنه ينتظر حتى يشرع في السفر؟
الجواب
ينتظر حتى يشرع؛ لأنه ما دام في البلد فلا يجوز له القصر، ولا يُشرع له القصر إلَّا إذا فارق البلاد العامرة، وما دام أنه دخل عليه وقت الظهر وهو في البلد فإنها تجب عليه كاملة، ولا يجوز له قصرها، إنما يجوز القصر بعدما يخرج، فما دام أنها وجبت عليه ودخل الوقت وسمع المؤذن فلابد أن يصليها أربعاً، سواء قبل الخروج أو بعده.(81/15)
لا استفتاح في صلاة الجنازة
السؤال
هل يستفتح لصلاة الجنازة بدعاء الاستفتاح؟
الجواب
ليس فيها استفتاح، إنما بعد الاستعاذة والبسملة يقرأ الفاتحة.(81/16)
حكم استقبال جدار الحمام إذا كان بين القبلة وبين المصلي
السؤال
ما حكم الصلاة في الغرف التي قبلتها جدار الحمام، بحيث يصلي المصلي في موضع ويكون أمامه جدار حمام؟
الجواب
إذا كان دونها حواجز منيعة فلا مانع، يعني: ما دام أن بين المصلي وبين دورات المياه حواجز من حيطان فلا مانع حتى لو كانت بينه وبين القبلة، كما أنه لا مانع من أن يصلي فوق البيَّارات التي قد صُب فوقها صبات مغطية لها ومحكمة لها، وبينه وبينها فُرُش وحواجز، فمثل هذا لا مانع من الصلاة فوقها إن شاء الله.(81/17)
حكم لبس القبعة (البرنيطة) للوقاية من الشمس
السؤال
ما حكم لبس القبعة التي تكون على هيئة (البرنيطة) وذلك للوقاية من الشمس؟ وهل لبسها يعد تشبُّهاً؟
الجواب
الظاهر أنها من العادات، وأنها من الأغطية التي تُلبس عادةً، فإذا كان فيها منفعة مثل أنها تقي من الشمس فلا مانع من لبسها، ولا يكون فيه تشبه، وإذا لم يكن له قصد في لبسها إلا التشبه أو الشهرة أو التزيّن فيُنهى عنها لهذا القصد.(81/18)
زكاة المال إذا كان عند معسر أو مماطل
السؤال
لدي بعض المال أدنته لبعض الأشخاص، ومنهم الفقير الذي لا يستطيع السداد، ومنهم الغني المماطل الذي لا أمل في رده للمال، هل تجب علي في هذه الأموال زكاة؟
الجواب
الدين الذي في ذمة من هو قادر على الوفاء يُزكَّى؛ لأنه بمنزلة الأمانة عنده، ويقدر صاحبه أن يأخذه ويتحصل عليه متى طلبه، وأما الدَّين الذي عند معسر أو مماطل ولو كان غنياً، فإن صاحبه لا يقدر على الحصول عليه ولو طالبه ثم طالبه، قد يدعي الإعسار ويدعي العُدْم ويدعي الفقر، فمثل هذا المال كالمعدوم، فلا زكاة عليه إلا إذا قبضه، واختُلف في زكاته بعد القبض، فقيل: يزكي عن السنوات كلها إلى ألَّا يبقى إلَّا أقل من النصاب؛ ولكن هذا فيه شيء من الضرر، والأقرب أنه يزكيه عن السنة الواحدة ولو بقي عشرات السنين.(81/19)
حكم الجمع والقصر في حق من فعل ذلك في مطار بلده
السؤال
شخص كان يريد السفر فذهب إلى المطار ثم بعد أن نوى في نفسه الجمع بين المغرب والعشاء وجد معه متسع من الوقت لأداء صلاة العشاء، فما الحكم؟ وهل لعقد نية الجمع أثر في صلاته؟
الجواب
نرى أن مطار الرياض تابع للرياض وأنه لا يجوز له -والحال هذه- أن يجمع بين المغرب والعشاء ولا أن يقصر حتى يفارق البلد، وما دام في المطار فإنه في حكم المقيم؛ لأنه تابع للبلد.(81/20)
حكم أكل اللحوم المستوردة التي يشك في صحة ذبحها على الطريقة الإسلامية
السؤال
يأتينا دجاج مستورد مكتوب عليه: ذُبح على الطريقة الإسلامية، وهو من بلاد كافرة، ومن هذه البلاد من لا يذبح على هذه الطريقة على الحقيقة كما نقل إلينا، فهل يجوز أكله أم لا؟
الجواب
ننصح بعدم أكله، وإن كنا لا نجزم بحرمته؛ لكن القرائن ترجح أنه لم يُذبح ذبحاً شرعياً؛ لأن القصد من الذبح قطع الحلقوم والمريء حتى يخرج الدم، وحتى يصفو اللحم إذا خرج ذلك الدم منه، والغالب أن أولئك الذين يبيعونه يحرصون على أنه لا يخرج دمه؛ لأنه يأتيهم بهذا الدم زيادة ثمن، يعني: الدجاجة إذا وُزنت ودمها فيها زاد وزنها، ولو قيراطاً أو أقل قليلاً؛ ولكن يجتمع من ذلك الشيء الكثير؛ لأنهم إذا باعوا مثلاً مائة ألف أو ألف ألف دجاجة، وكان في كل دجاجة زيادة وزن بمقدار جرامين أو نحوهما بهذا الدم، حصل لهم مبالغ كثيرة بهذا الدم، يعني: يزيد في وزنها، فهم -فيما سمعنا- يحرصون على ألَّا يخرج دمها، وسمعنا أنهم يغمسونها وهي حية في ماء حار حتى ينضج جلدها ثم بعد ذلك تموت، وإذا ماتت مرت على ماكينة تضربها حتى يتساقط الريش، وماكينة أخرى تقطع الرأس، ومثل هذا دليل على أنها ماتت ولم يقطع الرأس إلَّا بعدما ماتت.
فأنا أنصح بالاقتصار على الدجاج الوطني الذي تُحُقِّق إن شاء الله أنه قد صُفِّي دمه، وأن هؤلاء الذين يقولون: إنها ذبحت على الطريقة الإسلامية مشكوك فيهم؛ لكن بعضهم كما ذكروا أنه يرسل من يتأكد من ذبحها فيتأكدون تأكداً واضحاً كما ذكر عن (شركة المنَّجِّم) أنه يرسل إلى هناك من يذبح أو يشرف على الذبح، وإذا تؤكد ذلك فلا مانع من الأكل إن شاء الله.(81/21)
حكم القول: إن من السنة عدم أكل الضب
السؤال
هل يقال: إن من السنة عدم أكل الضب؟
الجواب
لا يقال ذلك، ما دام أن النبي صلى الله عليه وسلم أقره وأُكل على مائدته، وما دام أنه من الطيبات، إنما كرهه لأن نفسه لا تطمئن إلى شيء لم تتعود عليه.(81/22)
حكم أكل لحم اليربوع
السؤال
هل يجوز أكل الحيوان الذي يشبه شكله الفأر؛ ولكنه يأكل النباتات مثل العلف، ولعل المقصود به هو اليربوع؟
الجواب
لا مانع من أكله، فاليربوع دابة معروفة يحتفر في البر ويتوالد، وهو مما تستطيبه العرب، وقد أباحوه، وذكروا فيه فدية إذا قتله المحرم، مما يدل على أنه من الصيد، وكذلك أيضاً جعلوه من الطيبات ولو كان شبيهاً بالفأر؛ لكن الفأر ورد أنه نجس، ومفسد وجُعلت الفأرة من الخمس الفواسق، وأُمر بقتلها في الحل والحرم، فدل على تحريمها، وأما اليربوع فلا مانع من أكله.(81/23)
حكم قتل الجراد
السؤال
ورد حديث عند الطبراني وصححه الألباني قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تقتلوا الجراد فإنه جند الله الأعظم!) فما رأيكم؟
الجواب
لا أدري ما مدى صحة هذا الحديث فهو مشكوك فيه! والنبي صلى الله عليه وسلم قد أقر الصحابة على صيده وعلى أكله في الحديث الذي في الصحيحين عن أبي أوفى قال: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد) .(81/24)