كل ما كان فيه جهالة لا يجوز بيعه
إذاً: النهي عن بيع ما في بطون الأنعام، والنهي عن بيع ما في الضروع من الحليب قاعدة أساسية عند الفقهاء، يندرج تحتها كل ما تجدد من أنواع السلع، فتعرض على الجهالة، فهذه صناديق -كما قلنا- لكن لا ندري عن نوع الصناعة، قد يقول: هو جلد أمريكي ممتاز، ولكن لا ندري عن نوع الخياطة والصناعة، وعن الحجم عريض المقدمة أو خفيف المقدمة وهكذا، أو هذه صناديق فنايل، صفتها كذا، صناعة المحلة الكبرى -كما يقولون- أو صناعة إنجليزية، ولكن هل نوع الغزل رفيع أو متين؟ ونحو ذلك، وكذلك في المطعومات، ما لم يكن هناك ما يسمى: الأنموذج.
فمثلاً: جاءك إنسان بمائة علبة حلاوة طحينية، وقال: العلبة هذه فيها كيلو، أبيعك المائة علبة بكذا، لكن الحلاوة الطحينية منها الناعم جداً الممتاز، ومنها الخشن، ولا أدري هذا من أي الأنواع، فقال: فك هذه وانظرها وتذوق منها، فنظرت وعرفت واقتنعت بالنوعية الموجودة أمامك، فاشتريت المائة علبة، فهل من المعقول أن تكلفه أن يفتح المائة علبة لتنظر فيها؟! قد تكون ملحومة وملصقة حتى لا يأتيها الهواء فتفسد، فيضحي بواحدة ليريك، فاشتريت المائة وذهبت وأخذت النموذج وذهبت بها إلى متجرك وبعتها على هذا النموذج، فلو تبين أن أحداً أخذ منك عشر علب وفتحها فوجد منها خمساً على غير النموذج، فهذه الخمس مغايرة للمتفق عليه في العقد، والمشتري سيرجع عليك؛ لأنك بعته على هذا النموذج، وأنت ترجع على البائع الذي باعك على هذا النموذج، إذاً: انتفى الغرر، ولكن إذا لم تر لها نموذجاً، ولم تعلم لها نوعية ولا كيفية بالوصف، فإنههم يقولون: ولو بالوصف، فإذا لم يأت بنموذج، ووصفها بصفات شاملة كاملة، كما لو أراد أن يبيع أكواب الشاي، فقال: هي صناعة كذا، طولها كذا، وقطر الدائرة كذا، والزجاج صفته كذا، وذكر الأوصاف التي تشتمل عليها الأكواب بحيث أننا لو فتحنا ونظرنا لا يختلف المنظر عن المخبر، فإذا تم ذلك صح البيع، وإن رأيت خلاف الوصف فأنت بالخيار: فإما أن تأخذ وتسترجع قيمة النقص -وهو الأرش- أو ترد السلعة وتأخذ حقك.
إذاً: النهي عن بيع ما في بطون بهيمة الأنعام، والنهي عن بيع ما في الضروع قاعدة فقهية عامة، ومن هنا نقول: ليس في الفقه طريق مسدود، وليس هناك جديد على الفقه في الإسلام؛ لأنه مهما تجددت أنواع وصور السلع ومبيعاتها ستجد لها أصلاً فيما جاء في كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قعده علماء المسلمين، وإن واجهت الإنسان مسألة فسيجد لها أصلاً وحلاً في كتب الفقه، وإن لم يجد لها حلاً في كتب الفقه، فإن مردها إلى اجتهاد الفقهاء، ولذلك فإن باب الاجتهاد مفتوح، فيجتهد أهل الخبرة والفقهاء والعلماء في مواصفات هذا الشيء الجديد، وأي الأصناف أقرب إليه في القديم فنلحقه به، فإن سعة الفقه الإسلامي بالقواعد العامة لا بالجزئيات.(194/13)
النهي عن بيع العبد الآبق
قال: (وعن شراء العبد وهو آبق) .
ننتقل إلى نوع آخر من أنواع البيوع، ليس من قبيل الغرر بالجهالة، ولكن من قبيل الغرر بالعجز عن التسليم، وهو النهي عن بيع العبد الآبق.
يقال: آبق وشارد، آبق للعبد، وشارد للبعير، تقول: شرد البعير، وأبق العبد، والآبق: هو الهارب، قال تعالى: {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الصافات:140] ، فالآبق والشارد بمعنى واحد، إلا أنه اصطلح على إطلاق الآبق في الإنسان، والشارد في البعير وغيره.
والعبد الآبق عن سيده لا يخلو من أمرين: إما أن يعلم مكانه الذي هو فيه، وإما أن لا يعلم مكانه، فإذا كان لا يعلم مكانه فهو في الجهالة أعمق وأبعد، فإنه لا يعلم أهو حي أو ميت؟ أما إذا اعلم أين هو، كأن يأبق من المدينة إلى جدة، ويعرف عنوانه ومكانه، فجاء إنسان وقال: يا أخي! عبدك هذا الذي أبق عليك وعجزت عنه بعنيه، فباعه له فاشتراه، فعند أن يذهب إليه ليأخذه فقد لا يجد أصلاً، وقد يجده هالكاً، وقد يجده ولا يستطيع أخذه؛ لشدة تمرده وقوته، فإن وجده هالكاً، فإن ذلك يكون على حساب صاحبه، لا على حساب المشتري؛ لأنه ما زال في ملكه، وإن لم يجده، أو وجده ولم يستطع أخذه؛ فإن ذلك ينقض البيع، ولذلك نهي عن بيع العبد الآبق.
إذاً: المشتري إما أن يكون جاهلاً بمكان العبد الآبق؛ فشراؤه غرر من أول لحظة، وإما أن يكون عالماً بمكانه، وطمع أن يحصل عليه، فذهب إليه ولقيه وعجز عن أخذه فسيرجع على البائع.
ومثله البعير الشارد، فإذا شرد عليك بعير، ولا تعلم أين هو، فهذا لا سبيل إلى بيعه، فجاء إنسان وقال: يا فلان! وجدت بعيراً عليه وسمك -وكانت العرب تسم الإبل، فكل قبيلة تسم إبلها على صفحة العنق، أو على لوح الكتف، أو على المؤخرة، فهذه عادة كانت عند العرب، حتى لو ذهبت في أي مكان ورآها أي إنسان عرف أنها من إبل القبيلة الفلانية فلا يمد يده إليها فقال: وجدت بعيراً من سمة إبلك في المحل الفلاني، فقال: هذا شارد عني من زمان، ثم قال: بعنيه، فباعه له، واشتراه، فذهب ليأخذ البعير فإذا بالبعير هايج، وعجز المشتري أن يخضع البعير وأن يقوده إليه، فماذا سيفعل؟ سيرجع على البائع، وكذلك إذا ذهب ليأخذه فلم يجده، فحينئذ أيضاً يكون معجوزاً عن تسليمه.
فالعبد الآبق والبعير الشارد يعجز صاحبه عن تسليمه للمشتري، وهكذا كل سلعة يعجز مالكها عن تسليمها للمشتري لا يجوز بيعها.(194/14)
حكم بيع المغصوب في حالة وجوده عند الغاصب
وهنا صورة أخرى: فإذا جاءت يد عاتية طاغية واغتصبت عبداً وصاحبه يراه صباحاً ومساء؛ لكونه موجوداً في نفس القرية ولكنه لم يستطع أن يأخذه، فلو جاء إنسان وقال: أبيع عليك هذا العبد فإن فلاناً اغتصبه مني وعجزت عنه، فإن كان المشتري يظن من نفسه أنه قادر على استخلاصه من غاصبه واشتراه فلا مانع، فإن تم له استخلاصه فذاك، وإن عجز عن استلام العبد من الغاصب رجع إلى البائع، وفي هذه الحالة يكون بيعه إياه على مظنة القدرة، فإذا لم تتحقق فلا.(194/15)
حكم بيع المغصوب على الغاصب
ولو أن الغاصب بنفسه قال: يا أخي! أنت تعبتني من توسيط الناس، ومن الذهاب والإياب، وأنا لن أعطيك العبد، فإني محتاج له في عمل مهم، وأنت بالخيار: إما أن تسكت، وإما أن تبيعه عليَّ، فإذا كان ثمنه مائة قال: أعطيك خمسين ديناراً، فإن بعته بخمسين فخمسون في اليد خير من مائة عند الغاصب، فبعته على غاصبه، فهل يجوز بيعه على غاصبه أم لا يجوز بيعه عليه؟ يجوز بيعه على الغاصب؛ لأن الغرض أن يسلمه للمشتري، وهو الآن في يد المشتري، ولا يحتاج إلى تسليم جديد، ولا يوجد مانع من صحة البيع.
إذاً: لا يجوز بيع المغصوب إلا على غاصبه، أو قادر على أخذه من غاصبه، وهذا غاصبه وفي يده، وقد دفع الثمن، ولا يحتاج إلى تسليم؛ لأنه عنده، إذاً: يجوز أن يبيعه على غاصبه؛ لأنه لا يحتاج إلى تسليم جديد يعجز عنه.
أما إذا كان المشتري شخصاً ثالثاً، والثالث هذا عجز عن استلامه، فيحتاج إلى تسليم، ولما عجز عن استلامه واستخلاصه، والبائع -أيضاً- عاجز عن تخليصه وتسليمه؛ فالبيع باطل، أما إذا باعه على الغاصب نفسه فالبيع صحيح، وكون الغاصب معتدياً، أو استغل السعر، هذا شيء آخر، وهو داخل في استحقاق العقاب، فإنه مستحق للإثم والوعيد، ولكن الفقهاء يبحثون المسألة من حيث صحة العقد وبطلانه، فالعقد صحيح، وعليه إثم الاغتصاب، وعليه إثم النقص في الثمن، فإنه يجب عليه -شرعاً- أن يسلمه لصاحبه وصاحبه يكون حراً فيه.(194/16)
النهي عن بيع المغانم قبل قسمتها واستلامها
قال: (وعن شراء المغانم حتى تقسم) .
مما يدخل تحت بيع ما لا يملك تسليمه: إذا غزا الغزاة وغنموا وأصبحت الغنيمة في جملتها للغزاة، وكانوا مائة شخص، فأصبح لكل شخص واحد في المائة من الغنيمة، ولو قدر أن الغنيمة مائة بعير، فسيكون لكل غاز بعير، فقد عرف سهم الغازي في الجملة، فهل يصح لشخص من الغزاة أن يقول لأحد الناس: أنا لي في الغنيمة بعير، وأبيعك إياه بمبلغ كذا، فهو حق ثابت في الغنيمة ولكن على سبيل الإجمال، وهل يدري أي الإبل سيكون له؟ وكم سيساوي هذا البعير الذي سيكون من نصيبه؟ وهل ندري ماذا سيقع في هذه الغنيمة؟ إذاً: لا يجوز بيع حصته من الغنيمة حتى تقسم ويستلمها، وقد كان في زمن بني أمية وكان ميناء المدينة في الجارود في جمع، وكان يؤتى بالغنائم -من الحبوب- من مصر وما وراءها، وكانوا يعطون للغزاة سندات فيها نصيب كل شخص: فلان له إردب، فلان له إردبان، فلان له نصف إردب، فلان له كذا، فيأتون بها إلى المدينة فيأخذها أصحابها ليذهبوا إلى الميناء ويستلموا حصصهم، فكان البعض منهم يأخذ السند ويبيع ما فيه على الآخرين، فقام بعض السلف وقال: يا مروان! إنك تبيح الربا، فهؤلاء يبيعون ما لا يملكون، أي: إنهم لم يستلموها ولم تصل إلى أيديهم، فمنعوا من ذلك، فهو وإن كانت حصته في الغنيمة مضمونة شرعاً، وكانت معلومة العين، فالغنيمة مائة ألف، وهم ألف نفر، فلكل واحد مائة؛ فلا يحق له أن يبيع حصته ولو كانت معلومة المقدار؛ لأنها ملك عام في الجملة، حتى تقسم ويقبض نصيبه، وحينئذ يبيع كيف شاء.(194/17)
النهي عن بيع الصدقات حتى تقبض
قال: (وعن شراء الصدقات حتى تقبض) .
وذلك مثل الصدقات التي توزع على المحتاجين بسندات، فكانوا يبيعون ما في السندات من تلك الصدقات، وأيضاً لو كان من عادة التاجر الفلاني أن يقسم صدقاته على البيوت، وصفتها كذا وكذا، وجاء بصدقة كبيرة -مثلاً- وجعل لكل بيت إردباً أو كيساً أو نحوه، وقد كان يؤتى بالصدقات وتجعل في سرسون في محطة القطار، فمعروف أن لكل إنسان مقداراً معيناً، وعنده سند في ذلك، وينتظر وقت التسليم فيذهب يستلم، فلا يجوز لإنسان أن يبيع حصته من الصدقة المعينة بسند في يده وهي لا زالت في مكانها حتى يستلمها، فإن أراد أن يبيعها فله ذلك، أما قبل أن تقسم وقبل أن يستلمها فلا يجوز بيعها، فهي مثل المغانم.(194/18)
النهي عن ضربة الغائص وما شابهها
قال: (وعن ضربة الغائص) .
يقولون: ضربة الغائص، وعمل الغوص أمر قديم، وكذلك رمية الصياد، وضربة الغائص: أن يأتي الغائص الذي يغوص في البحر ويبحث عن الصدف فقد يجد فيها لؤلؤاً وقد لا يجد فيها شيئاً، فيأتي الغواص على حافة البحر ويغوص وما يرزقه الله يجمعه ويبيعه، فيأتي إنسان ويقول: يا فلان! أشتري منك ما يحصل لك في ضربتك هذه، أي: في غوصتك إلى البحر، فسيذهب ويغوص، ولكن لا ندري ما الذي سيأتي به، فقد يجد صدفة أو صدفتين فيها لؤلؤ، وقد يجد الصدف فارغاً! فضربة الغواص أي: بيع ما يحصل عليه الغواص في ضربته، وهذا لا يجوز؛ للجهالة.
وكذلك رمية الشبكة، كأن يقول: ارم الشبكة وعلى حسابي وبعشرة ريال، فيرمي الشبكة وربما طلع فيها ما لا تحب أن تراه، وربما لم يطلع فيها شيء، وربما طلع فيها ما يغني الصياد طوال السنة، فكيف تأخذه منه بعشرة ريال! إذاً: ما ستأتي به الشبكة نظير ما ستأتي به ضربة الغواص، وكل ذلك مجهول.
وكذلك نصب الفخ، فلو قلت لصاحب الفخ: الذي يأتي به الفخ لحسابي وأنا أشتريه منك بكذا، فأنت تنتظر غزالاً، أو تنتظر نعامة، أو تنتظر بقر الوحش، فإذا به يمسك لك ذئباً؛ وكذلك إذا اشترك في شراء حمولة الباخرة، وهو لا يعلم عن كمية البضاعة، ولا عن نوعيتها، ولا كم تساوي، وهل هي مناسبة أم لا.
إلخ.
فكل ما كان مجهول النتيجة، فمنها تجددت صوره وأنواعه، فإن القاسم المشترك بين ذلك كله هو وجود الجهالة، وبه يحكم على هذه المعاملات بالتحريم.
وبالله تعالى التوفيق.(194/19)
كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [12]
إن من القواعد العامة في البيوع: النهي عن بيع كل ما فيه غرر، ويندرج تحت هذه القاعدة كل ما كان فيه جهالة، وهذه القاعدة كافية وافية، إلا أن من رحمة الله أن زاد البيان بتأكيد النهي في بعض البيوع بأعيانها ومن ذلك: النهي عن بيع السمك في الماء، ويلحق به الطير في الهواء، وما لا يقدر على تسليمه، وجاء النهي عن: بيع الثمرة حتى تطعم ويطلع النجم وتؤمن الآفة، كما جاء النهي عن بيع الصوف على الظهر، وبيع اللبن في الضرع، وألحق به بعضهم: المغيب في الأرض، ونهى عن بيع المضامين والملاقيح؛ لما تتضمنه هذه البيوع من غرر وجهالة.(195/1)
شرح حديث: (لا تشتروا السمك في الماء، فإنه غرر)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد: [وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشتروا السمك في الماء، فإنه غرر) رواه أحمد وأشار إلى أن الصواب وقفه] .
في نهاية هذا الباب الطويل باب البيوع، وهو الباب الذي تقوم عليه المعاملات، وتنبني عليه -فيما يقال- صحة العبادات، وذلك حينما يتحرى الإنسان في بيعه وشرائه الحلال، ويتغذى بالحلال، فإن الله طيب، ولا يقبل إلا ما كان طيباً، وإذا كان مطعمه بالعكس فكما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟!) ، فالمطعم الحلال من أسباب استجابة الدعوة وقبول العمل، بل جاء في الحديث: (كل لقمة ينبت منها دم ولحم وعظم، فما نبت من الحرام فالنار أولى به) ، ولهذا عظم شأن هذا الباب وهو باب البيوع لمعرفة الحلال والحرام؛ لأنه قل من يستغني عن بيع طعام أو شرائه، وبيع كساء أو شرائه، وبيع شراب أو شرائه، وكل ذلك يتوقف على معرفة أحكام البيوع.(195/2)
النهي عن بيع السمك في الماء
في نهاية أنواع الغرر يذكر لنا المؤلف رحمه الله: النهي عن بيع السمك في الماء، والفقهاء يتفقون على أن السمك في الماء والطير في الهواء لا يجوز بيعهما وإن كان مشاهداً؛ لأنه في الغالب معجوز عن تسليمه، وقد يكون للجهالة، ولكن الفقهاء يفصلون تفصيلات يمكن تطبيقها، فالسمك في الماء له حالتان: حالة يكون فيها الماء كثيراً غزيراً مستبحراً لا يستطيع صاحبه أن يسلمه، هذا إذا كان مملوكاً له في حوض، أما إذا كان في النهر، أو في البحر، فهو لا يملكه حتى يبيعه، وإنما يملكه إذا اصطاده وكان في يده، ولو قال له وهم يشاهدون الأسماك في الماء: اختر السمكة التي تريد وأنا أبيعها عليك، وأصطادها، وأعطيك إياها، فهذا لا يصح.
وجانب آخر وهو ما يقوله الشرّاح: أن الماء يغيّر الحجم؛ فإما أن يزيد في حجم العين إذا كانت في الماء، وإما أن يقلل من حجمها، وهذا مشاهد، وسبب ذلك: زاوية الضوء المسلطة على الماء، فقالوا: بيع السمك في الماء يعتريه الغرر من جهتين: جهة عدم القدرة على تقدير حجمه في رؤية العين، وجهة عدم القدرة على تسليمه.
لكن تنص كتب الحنابلة: أن الماء إذا كان قليلاً والحوض صغيراً، ويمكن أن يلتقط السمكة التي تختارها أنت، وهذا قد يكون في الإمكان، كما لو كان الحوض مثلاً مترين في مترين في عمق متر، والأسماك تتحرك فيه، إن سلم من الكبر والصغر، أو كان له الخيار وعيّن سمكة بعينها لا تختلط مع غيرها، فقد توجد أسماك -مثلاً- تأخذ اللون الأحمر، وأسماك تأخذ اللون الأصفر، وأسماك تأخذ اللون الأسود أو الأبيض وهكذا، فعيّن سمكة تختلف مع السمك الآخر، وقال: أريد هذه السمكة الحمراء، فاصطادها، وأخذها بشبكة صغيرة، أو بقفص وأحضرها إليه، فإذا أحضرها إليه وكانت على المقدار الذي قدره لها وهي في الماء فالحمد لله، وإن وجد في الأمر اختلافاً حيث أنه كان يراها في الماء كبيرة، ولما طلعت من الماء فإذا بها صغيرة، فله خيار النقض: إن شاء أمضى البيع، وإن شاء ردها إلى الماء.
إذاً: بيع السمك في الماء ممنوع لسببين: لاختلاف الحجم وفيه الغرر، وللعجز عن تسليمه ففيه أيضاً الغرر، فلا يجوز، وإذا أمكن انتفاء الغرر؛ بأن كان يمكن أخذها بسهولة، ولا تختلط مع غيرها، ويكون له الخيار إذا وجدها على خلاف ما كان يُقدِّر، وبهذا يكون البيع لا غرر فيه ولا ضرر على أحدهما، فلا بأس به.(195/3)
النهي عن بيع الطير في الهواء
وكذلك يقولون في الطير في الهواء، فهواة تربية الحمام يطلقون الحمام وفي الليل يأوي إلى مكانه، فإذا جاء إنسان ورأى حماماً لشخص ورأى فيه أنواعاً فأعجبه منها نوع، فقال: يا فلان! بكم تبيعني هذا النوع؟ -وهو في الهواء- فهل يجوز له أن يبيعه وهو في الهواء؟ قالوا: إن عرف أوصافه، وتأكد من حالاته، وباعه على أنه إذا جاء المساء يأخذه من مبيته ويسلمه للمشتري؛ فلا مانع في ذلك، أما الطير في الهواء الذي لا يملكه، كما لو كانوا جالسين ومر سرب من الطيور، فقال: أبيعك عشرة من هذه الطيور، فلا يصح هذا البيع؛ لأنه لا يملكه، ولا يستطيع أن يأخذه ويعطيه للمشتري، فهذا البيع منهي عنه قولاً واحداً، أما طير يملكه هو ويأوي إلى مبيته، ويعلم أنه يرجع في الوقت الفلاني، ويتعين بلونه وشكله في الهواء، ولا يختلط بغيره فيقع النزاع، فإذا عرفت تميز الحمامة التي يريد شراءها أو الزوج الذي يريد شراءه وتأجل التسليم إلى الليل حتى يأوي الحمام إلى المبيت، فلا مانع في ذلك.(195/4)
حكم بيع ما لا يقدر على تسليمه
وهكذا كل شيء مجهول أو معجوز عن تسليمه، وقد سبق أن أشرنا إلى المال المغصوب: كإنسان غصب من إنسان سيارة أو فرساً، ولا يقدر المغصوب منه أن ينتزع ماله من غاصبه ويسلمه للمشتري، فلا يصح بيعه، فلو جاء إنسان وقال: أنا قادر على أن آخذ المغصوب من غاصبه، فبعه عليّ، فباعه عليه، فذهب المشتري لأخذه، فإن قدر على إخراجه من يد الغاصب تم البيع، وإن عجز فإنه يرجع على المالك، ويسترجع الثمن، ولكن إذا باعه على نفس الغاصب فإنه يصح؛ لأنه لا يحتاج إلى تسليم جديد، فهو في يده ومتمكن منه.
وهكذا لو كان لإنسان -مثلاً- بضاعة في سفينة، والسفينة في البحر، ولا يدري ما هي النتيجة، فلا يحق له أن يبيع ما على ظهر هذه السفينة ولو كان ملكه؛ لأنه إلى الآن لا يستطيع أن يسلمه، ولا يتمكن من ذلك، وقد اشتراه ولم يقبضه، إلا إذا كان له هناك وكيل يستلم عنه من الشركة التي اشترى منها، ولو كان الوكيل من شركات التأمين كالتأمين البحري؛ لأن شركات التأمين التجاري البحري تقوم مقام الوكيل عن الأصيل في الشراء، فهو اشترى وبقي الاستلام والشحن والمجيء إلى ميناء بلده، فشركه التأمين التجارية تقوم عنه بالوكالة، فتستلم السلعة من الشركة التي تبيع، أو من المصنع الذي ينتج، وتتولى شحنها في أوعية تناسبها، ثم تتعاقد مع الباخرة التي توصلها إلى ميناء بلد المشتري، أي: المؤمِّن، وعليها أن تنظر الباخرة التي ستنقلها أهي صالحة للإبحار في تلك المحيطات أم لا؟ وكذلك اليوم الذي ستبحر فيه أهو يوم صالح للإبحار أم فيه عواصف وزوابع؟ فهي مسئولة عن هذا كله، ولهذا لو تلفت البضاعة بسبب تفريطها في نوعية السفينة التي تبحر بها، أو في اليوم الذي يسمح لها بالإبحار؛ كانت ضامنة لما تلف بسبب تفريطها.
فإذا كان له وكيل يستلم؛ فاستلام الوكيل كاستلام الأصيل، فإذا جاءت إلى الميناء ووضعت في مستودعات الجمارك باسمه، فله أن يبيع منها؛ لأنها في ملكه، وعلى اسمه، وفي مستودعات عامة، وليس مستودع تاجر يشتري منه، ولكن مستودعات مؤمنة لجميع التجار، وكل بضاعة وصلت هناك فهي باسم صاحبها.
فإذا عجز عن تسليم السلعة في أية حالة من الحالات فلا يجوز بيعها، وكذلك لو لم يستقر ملكه عليها، كما تقدم في قسمة المغانم، وقسمة الصدقات، فهو له حظ في الغنيمة، ولكن كم؟ لا ندري، وما نوعيته؟ لا ندري، فله حق ثابت، ولكن لا يستقر له هذا الحق إلا بامتلاكه وقبضه، وكذلك الصدقات، له سهم في الصدقة وجاءت الصدقات، وعرف له سهم كذا، ولكن لا يستقر ملكه للصدقة حتى يقبضها، وكذلك الهبة، كإنسان وهب إنساناً شيئاً ولم يستلمه؛ فلا يحق له أن يبيعه؛ لأن الهبة لا تتم إلا بالقبض.
والخلاصة: أنه إذا استوفى الشروط: بأن كان مملوكاً للبائع ملكاً تاماً، وكان يقدر على تسليمه، وكان معلوماً لا غرر فيه؛ صح البيع، وما عدا ذلك فلا.(195/5)
شرح حديث النهي عن بيع الثمرة حتى تطعم
[وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع ثمرة حتى تطعم، ولا يباع صوف على ظهر، ولا لبن في ضرع) رواه الطبراني في الأوسط، والدارقطني، وأخرجه أبو داود في المراسيل لـ عكرمة، وأخرجه أيضاً موقوفاً على ابن عباس بإسناد قوي، ورجحه البيهقي] .
هذه عدة أشياء -سواء صح السند هنا أو لم يصح- جاءت فيها أحاديث مفردة في كل نوع منها، وكلها تدور في حلقة الغرر.(195/6)
النهي عن بيع الثمرة حتى تطعم
الأول: النهي عن بيع الثمرة حتى تُطعم، ومعنى تطعم: يمكن أكلها لمتوسط الحال من الناس، فمثلاً: ثمر النخل، متى تطعم عند متوسط الناس؟ يمكن أن بعض الناس يأكل الثمر وهو أخضر، ولكن بعض الناس لا يطيق أكله ولا يقبل ذلك، فلا ينظر إلا لمتوسط الناس في حالة القبول والرفض، وكذلك ثمرة الرمان إذا كان لا يزال صغيراً وحامضاً فيمكن أن بعض الناس إذا كان جائعاً أو محتاجاً فإنه يأكله وهو فج لم ينضج بعد، وبعض الناس لا يأكله إلا في غاية منتهى النضج، إذاً لا ننظر إلى هذا ولا إلى ذاك، ولكن إلى أوسط الناس.
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم تفصيل في نوعية الثمرة يرفع هذا الخلاف، فقد جاء في الحديث: (نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع ثمرة النخل حتى تصفر أو تحمر،) وجاء: (تصفار أو تحمار) ، على وزن: تفعال، وهذا يعني أنه بدأ اللون وهو في طريق الزيادة، (ونهى عن بيع العنب حتى يتموه حلواً) ، (يتموه) أي: يجري الماء في الحبة، وقبل أن يجري الماء في حبة العنب يقال له: حصرم، فالحصرم عبارة عن جرم لا ماء فيه، مثل الليمون في أول ظهور الثمرة فإنه يكون كتلة من الخضرة ليس فيها ماء، فكذلك العنب في أول طلوعه يكون كتلة من الخضرة لا ماء فيها، فإذا بدأ الماء يجري في حبة العنب وتموه ووجد فيها الماء، وصار حلواً، وأيضاً الحلاوة على حسب متوسط الناس.(195/7)
العلة في النهي عن بيع الثمرة حتى تطعم
فهذه مسائل زراعية أجرى الله سبحانه وتعالى -في العادة- أن يكون للأنواء وللنجوم تأثير على النبات في ثمرته وإنتاجه، فإذا صادف زرع النبات نجمه ووقته كان طيباً وأثمر ثمراً حسناً، وإذا فات نوءه فإنه قد لا يثمر بالكلية، وقد يهيج ويكون خضار وتكون أعشابه أو أغصانه ممتدة وطويلة ولكن لا توجد فيه الثمرة، وقد سمعت من خبير زراعي في المدينة هنا: أن رجلاً مر على أشخاص يزرعون الدباء، فقال لهم: لو انتظرتم إلى ما بعد الزوال، فإن الشمس تنزل في البرج الفلاني بعد زوال شمس هذا اليوم، فقالوا: ما الفرق؟ الآن ضحى، وبعد قليل زوال، واليوم واحد! فقال: علِّموا ما زرعتموه قبل الزوال، وما تزرعونه بعد الزوال، وفعلاً علِّموا فكانت النتيجة أن ما زرع بعد الزوال كان إنتاجه أضعاف إنتاج ما كان قبل الزوال.
والكثيرون يعرفون أن بعض النباتات إذا زرعت في وقتها أنتجت وأخصبت وكانت ثمرتها جيدة طيبة، وإذا لم تكن في وقتها صارت شكلاً أخضر لا شيء فيها.
ويراد بالنجم هنا: الثريا، فإذا طلعت الثريا -بإذن الله- أمنت الثمار الآفة، والثمار تعتريها الآفات، والآن معروف عند وزارة الصحة العديد من الآفات التي تعتري الخضروات، وتعتري الزروع، ولها عندهم دوائر خاصة تسمى: دوائر الرش، فإذا طلع نجم الثريا فإن الآفات -بإذن الله- لا تصيب الزروع، وقبل ذلك يمكن أن تصيبها، فجاءت الأحاديث: (حتى يطلع النجم وتؤمن الآفة) .
فلا يجوز بيع الثمار حتى يمكن أن يطعم ويصلح للأكل؛ لأنك إذا اشتريته قبل أن يصلح للأكل ماذا ستصنع به؟ فإن كنت تشتريه وتجزه علفاً للدواب فلا مانع، فقد أصبح علفاً وليس بثمرة، وإن كنت تشتريه وتبقيه في أصله حتى يصلح للأكل فهذا غرر على البائع؛ لأنك عطلت شجره، وعطلت أرضه حتى تطيب الثمرة، وأنت اشتريتها فجاً بثمن ناقص، وحينما تكون ثمرة ناضجة فلها ثمن آخر، فأنت استغليت حالة البائع واستفدت منه ما لم يسمح به، فهنا لا تباع الثمرة حتى تطعم، وهذا معروف الآن في بيع الصيف، فقالوا: حتى يَتَمَوّه العنب، وحتى تصفار أو تحمار الثمرة في النخيل، وهنا هل شرط الاحمرار والاصفرار وأمن العاهة في جميع أفراد نخيل البستان، أم أنه إذا ظهر في البستان صلاح مائتين أو ثلاثمائة نخلة، باحمرار وباصفرار، وبقيت عشر أو خمس عشرة أو عشرون نخلة يجوز البيع، أم ننتظر حتى يظهر ذلك في جميع النخل؟ يتفق العلماء على أننا نكتفي بظهور ذلك في بعض النخيل، وقد تظهر في بعض النخلات عشر أو عشرون حبة في كل عشر حبات، وقد يكون بدأ ظهور الصلاح في احمرارها أو في اصفرارها، والبعض يقول: إذا وجد الصلاح في المنطقة بستان جاز بيع جميع البساتين، وهذا غير صحيح؛ لأن البساتين تختلف في سرعة نضج ثمرتها باختلاف التربة والماء، فقد تظهر باكورة الثمرة في بستان، وبعد أيام عديدة تظهر في بستان آخر مجاور له، والفرق بينهما خصوبة التربة وحلاوة الماء.
وقد كانوا إذا ظهرت الثمرة في المدينة -أياً كان نوعها- يبادرون بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، علماً منهم بأنه يفرح لما يأتيهم من الخير، وأنت الآن إذا وجدت باكورة ثمرة عندك فأين تذهب بها؟ أتأكلها؟ لا ترضى أن تأكلها؛ لأنك تحب أن تريها أحبابك وأصدقاءك كبشرى، فلذة ذلك عندك أحسن مما لو أكلتها، أو تقدمها لمن تحب، أو أعز الناس عندك، فكانوا يقدمونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وماذا كان يفعل بها؟ كان ينظر إلى أصغر موجود في الجمع من الأطفال والأولاد أو من الغلمان ويعطيه إياها، فهم أتوا بها ليفرحوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم يعطيها الصبي ليفرح بها، فكان أمراً متداولاً ومعروفاً في المدينة.
إذاً: أي ثمرة وصلت في النضج إلى حد أنها تطعم، فلا بأس ببيعها، والتعبير هنا بقوله: (تطعم) فيه إعجاز، فلم يقل: حتى تؤكل؛ لأن الأكل لا يكون إلا بعد كمال النضج، لكن المراد حتى تصلح لأن تطعم، أي: للطعم والتذوق، فمثلاً: المانجو حينما تكون خضراء فجاً لا تصلح حتى للطعم فضلاً عن الأكل، لكن إذا بدأت في النضج فيمكن للإنسان أن يطعمها وأن يأكلها، وكذلك البرتقال في أول أمره لا يمكن أن تأكل منه ولا أن تطعمه.
فقوله: (حتى تطعم) أي: حتى يبدأ فيها الصلاح ويمكن ذوق طعمها، فحينئذ يجوز البيع، ولا يختص ذلك بالنخيل والعنب، وإنما جاء ذكر النخيل والعنب في الحديث لوجوده في المدينة، وإنما ذكر اللون الأحمر والأصفر بقوله: (تحمر أو تصفر) ؛ لأن ثمرة النخلة قبل الاحمرار والاصفرار لون واحد وكله أخضر، ثم يتميز بعد ذلك بالقدرة الإلهية، وهكذا جميع الثمار في العالم دونما تحديد، وما يستجد من ثمار ملقحة أو مهجنة أو أي صفة من الصفات، فلا يجوز بيعها على الشجر كثمر إلا بعد أن تطعم، وذلك في البيع جملة، أما إذا كانت كثيرة فكما يقول الفلاحون: يخصيها أو يخففها من أجل أن تزيد الثمرة نضجاً.
ففي النخيل: إذا كانت النخلة جيدة، والتربة خصبة، والماء عذباً؛ فإنها تحمل الشيء الكثير، ولو تركت وكثرتها لأفسد بعضه بعضاً، وربما يستقيم العرق أو العرجون على البلحة الصغيرة فيفسد بعضه بعضاً، فيأتون ويخففون، إما بعض العروش، من الجنى، وإما بعض الحبات من العروش وهذا أحسن، فتكون الحبات متفرقة فتأخذ الثمرة مجالها وتكبر وتنضج وتصير ضعف ما لو تركت مع غيرها، فكانوا ينزلون هذا النوع المخفف إلى السوق ويباع كيلاً بالصاع علفاً للدواب، فلا مانع في مثل هذا أن يباع؛ لأنه ليس مقصوداً منه أن يطعم، وإنما المقصود منه أن يكون علفاً للدواب، فهو يباع على أنه علف.
إذاً: القاعدة العامة في بيع الثمار في البساتين على أصولها: لا تباع إلا إذا وصلت إلى حد النضج الذي يمكن فيه أن تطعم.(195/8)
حكم بيع الثمر قبل نضجة إذا كان تابعاً لبيع البستان
وإذا جاء إنسان إلى بستان ووجد النخل قد أُبر والثمرة قد طلعت في صربان أخضر لا احمرار ولا اصفرار، وأراد شراء البستان بكامله، أي: الأرض بالنخل بما عليها، فهل يصح هذا البيع أم لا؟ نقول: يصح؛ لأن بيع هذه الثمرة ليس بيعاً مستقلاً، ولكنه تابع للنخلة، وهو مثل بيع اللبن في الضرع، فإذا اشترى الناقة وفي ضرعها حليب، فهل نقول: لا يجوز حتى نحلبها، أم أنه يجوز بيعها بحليبها في ضرعها؟! يجوز؛ لأن الحليب في الضرع تابع للناقة، وهكذا ما نهي عن بيعه منفرداً جاز مع أصله تابعاً.
إذاً: نهى عن بيع الثمر حتى يطعم، وهذه -كما أشرنا- عامة في جميع أنواع الثمار.(195/9)
النهي عن بيع الصوف على الظهر
قال: (ولا يباع صوف على ظهر) .
والوبر والشعر على الظهر داخل في هذا؛ لأن الغرض المثال في الجنس، والغاية من النهي: الغرر، فما يوجد من غرر في صوف على ظهر الغنم موجود في وبر على ظهر الإبل؛ وشعر على ظهر الماعز، ولكن بعض العلماء نظر في موضوع الصوف وأمثاله، فإذا جئنا إلى قطيع من الغنم وعليه الصوف، فلا يجوز بيع الصوف على الظهر، فصاحب الغنم وجد الصوف قد زاد عن حده على ظهور الغنم، وبقاء الصوف الزائد عن حده على ظهر الغنم يضعف الغنم؛ لأنه يمتص غذاءها ويثقلها، فيريد أن يتخلص من هذا الصوف، فالطريقة المثلى: أن يأتي بمن يجز هذا الصوف ويجمعه في كوم أو يضعه في أكياس، ويعرضه على التجار ليشتروا هذا الصوف ويذهبوا به إلى الغزل أو إلى النسيج، فهذا طريق لا غبار عليه.
ولكن إذا قال: أنا إذا جززت الصوف وبقي عندي في أكياسه، فماذا أفعل به؟ وإذا لم يأت التاجر فماذا أفعل به؟ إذاً: سأذهب وآتي بتاجر ونقدر الصوف على ظهور الغنم ونتفق على البيع، فهل يجوز هذا؟ هناك من يقول: إذا وجد من أرباب الخبرة من يقدر الصوف على الظهر قبل جزه، ووقع البيع على هذا المرئي المشاهد فلا مانع، ويتناول الحديث من جهة السند، ويقولون: ليس هناك ما يمنع، وقاعدة البيع هي: المنع من الغرر، فإذا كان المشتري خبيراً وكذلك البائع حتى لا يخدع، وعرف الطرفان كم يجز من عشرة رءوس من الغنم، كأن يجز منها خمسون أو مائة كيلو وتبايعا على الصوف الموجود، وخلى بينه وبين الأغنام، فيجز صوفها ويأخذه.
والمانعون يقولون -لكنه تصوير عجيب-: إذا اشترى الصوف على الظهر وجاء يجزه، فمن أين سيجز الصوف؟ فهل يترك (3سم) من أسفل ويقص، أم يترك (5سم) ، أم يترك (1مم) ؟ فقالوا: في هذا غرر، ولا ندري كم سيأخذ وكم سيترك؟! وهذا ما له محل؛ لأن جز الصوف معروف عند الناس، ولهم مقص معين، وطريقة معروفة، والآن تطوروا وصاروا يجزونه بالمكينة، وهي مثل المكينة التي تقص شعر رأس الإنسان لكنها كبيرة، وعلى بطارية، وتجز شعر الغنم والماعز وغيرها.
فإذا كان سائداً ومعروفاً في العرف أن الذي يجز الصوف يجزه من الموطن الفلاني، ويترك (1سم) ، أو يترك (½سم) ، أو نحو ذلك، وهذا الأمر صار متعارفاً عليه، وبهذا ينتفي الغرر، وإن كانت هناك طرائق متفاوتة في تحديد القص، فيجب تعيين الطريقة ومقدارها، وبهذا ينتفي الغرر في مقدار الصوف الذي سيتركه.
إذاً: إذا علم المقدار، وانتفى الغرر، فهناك من يقول بجوازه، والله تعالى أعلم.(195/10)
النهي عن بيع اللبن في الضرع
قال: (ولا لبن في ضرع) .
هذا تقدم الكلام عليه، وأنه لا يجوز؛ لأننا لا نعلم كم مقدار اللبن في هذا الضرع، والضروع تختلف أحجامها، فهناك الضرع متين اللحم يظهر فيه القليل كثيراً، وهناك الضرع رقيق اللحم يظهر الكثير فيه قليلاً، إذاً: هناك غرر محقق.(195/11)
حكم بيع المغيب في الأرض
وفي هذا الحديث يتوسع الفقهاء فيما يتعلق بحالة الفلاح، والفلاح قد يحتاج في ظروف ما إلى بيع نتاجه، فإما أن نقول فيها بالتسامح، وأنه من الغرر المعروف الذي يقبله الطرفان، ويأتي ذلك في بيع ما كان مقصوده في باطن الأرض، كالجزر والبصل والثوم والقلقاس والبطاط، فإن المقصود منها يكون فيما هو في بطن الأرض.
فإذا كان عند إنسان حقل من الجزر، فلو أخذ في كل يوم حوضاً من الحقل بقدر ما يستطيع، وقلعه وغسله وذهب به إلى السوق وباعه عياناً للناس، فالحمد لله، وهذا من أحسن ما يكون، ولكنه أراد أن يبيعه مرة واحدة ويرتاح من عناء السوق والذهاب والإياب، فأتى بتاجر ونظر في الحقل -مع أنه لا يرى المقصود شراؤه؛ لأنه في بطن الأرض- فاتفقا على البيع والشراء، فهل يجوز هذا؟ الذين يمنعون بيع الصوف على الظهر واللبن في الضرع يمنعون هذا؛ لأن هذا مجهول، والذين أباحوا البيع قالوا: يباع على الأنموذج، ومعنى الأنموذج: أن يأتي التاجر إلى الحوض الذي فيه الجزر، والثمرة في الحوض الواحد قد تختلف لاختلاف قربها من الماء، فما كان قريباً من الماء وتطول مدة سقيه فإن ثمره سيكون أجود وأكثر، فالتاجر يأتي إلى مدخل الحوض ويقلع اثنين أو ثلاثة -وهذا هو النموذج- ويذهب إلى طرف الحوض الآخر ويقلع اثنين أو ثلاثة -ويكون هذا نموذجاً ثانياً- ويأتي إلى وسط الحوض ويقلع اثنين أو ثلاثة -ويكون هذا نموذجاً ثالثاً- فإذا أخذ العينة من الأماكن الثلاثة استطاع أن يعمل نسبة متوسطة بين النماذج الثلاثة، وكم سيخرج من هذا الحوض عند قلعه؟ قنطار أو قنطاران أو نصف قنطار، ويخرجه في يوم واحد أو في يومين أو في ثلاثة، بشرط ألا يخرج من الأرض ما يداخل الموجود عند العقد، وأكثر تفصيل هذا المسألة عند المالكية والحنابلة.
فإذا تم معرفة مقدار المغيب في بطن الأرض برؤية النماذج، وقد صلح أكله -أما إذا لم ينضج فلا؛ لوجود الغرر- ويكون البيع على ذلك، وقد نص بعض الفقهاء -وخاصة الحنابلة- على جواز بيع مثل هذه الصورة، وكذلك بقية ما كان غائبه مطلوباً، فمن أجازه قال: انتفى الغرر نسبياً، ومن منعه قال: لا يخلو من الغرر، ولا يمكن لأي بيع في العالم أن يسلم من الغرر.
وما هو السبب في فرق الربح والخسارة؟ التاجر يشتريها بمائة ويبيعها بمائة وعشرة، فهذه العشرة يدفعها المستهلك وهي غرر عليه، لكنه لا بد من هذا الغرر البسيط، والتسامح فيه من أجل رواج السلع، وقد أشرنا إلى مسألة الثلاثة الذين يدخلون الحمام، فواحد يستهلك خمسة لتر، وواحد يستهلك عشرة لتر، والأجرة واحدة.
وكذلك: ثلاثة يركبون الطائرة، فواحد وزنه مائة وخمسون كيلو، وواحد وزنه ستون كيلو، وسعر تذكرة كل واحد مساوٍ للآخر، وهذا فيه غرر على شركة الطيران، ولكن يتسامح في هذا.
إذاً: هناك أمور من الغرر لا بد من التسامح فيها، والله تعالى أعلم.(195/12)
شرح حديث النهي عن بيع المضامين والملاقيح
[وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المضامين والملاقيح) رواه البزار وفي إسناده ضعف] .(195/13)
معنى بيع المضامين والنهي عنه
في نهاية هذا الباب الطويل يسوق المؤلف رحمه الله تعالى هذا الحديث في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع المضامين والملاقيح، وقد فسرها العلماء بأن المضامين هي: الحمل ضمن بطن الأم، وقد تقدم النهي عن مثل هذا في النهي عن بيع ما في بطون بهيمة الأنعام حتى تضع، وكذلك هنا كل ما كان مغيباً مضمناً في غيره مجهولاً فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن بيعه، أصالة في الأجنة في البطون، وتبعاً لكل ما هو على هذا المنوال، وقد ذكرنا سابقاً: لو أن إنساناً أتى بصناديق وبعلب وقال: فيها كذا، وسأبيع ما فيها دون أن نفتح العلبة، أو نرى مضمونها، أو نفتش ما فيها، فلا يجوز هذا البيع؛ لأن فيه غرراً.(195/14)
معنى بيع الملاقيح والنهي عنه
والملاقيح، يقولون: إنها من التلقيح، والتلقيح -وهو في النخل التأبير- هو: إضافة طلع الفحل إلى النخلة، وكذلك في جميع الحيوانات: إضافة ماء الذكور إلى ماء الإناث، فتتلقح الأنثى من ماء الذكر، فالتلقيح والملاقيح من اللقاح، واللقاح يكون من جانب الذكر، فإذا كان هناك فحل نجيب يرغب الناس في نسله وسلالته، فجاء إنسان لصاحبه وقال: أشتري منك لقاح هذا الفحل، فهذا لا يجوز؛ لأنه ليس كل لقاح يكون منه إنتاج، ثم لا يدرى متى يأتي هذا اللقاح، وإذا لقح الأنثى كيف يكون هذا النتاج؟ وكل ذلك يجري في مجرى الغرر كما تقدم في أول الباب.
وهناك ناحية تدخل في هذا الباب، وهي ما إذا كان لدى إنسان أنثى من بهيمة الأنعام، وهناك فحل من فحول هذا الجنس عريق السلالة، ورغب في لقاح هذا الفحل، فذهب بالأنثى التي عنده ليلقحها من ذلك الفحل، فهل يشتري لقاح الفحل؟! نقول: نهى صلى الله عليه وسلم عن ضراب الفحل) ، ولكن إذا كان صاحب الأنثى راغباً في تحسين نسل أنثاه فإن له أن يكارم، كما قال الرجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما نهى عن ضراب الفحل: (يا رسول الله! إنا نكارم على ذلك) ، أي: يأتي صاحب الأنثى وعندنا الذكر فنطلقه عليها يلقحها، فيكارموننا على ذلك، أي: يعطوننا شيئاً مكرمة وليس مشارطة، وليس بيعاً ولا شراءً، حتى قال بعض العلماء: ربما يأتون بالعلف لهذا الفحل مقابل هذا الجهد الذي بذله وتلقحت به الأنثى، فمثل هذا العمل لا بأس به، ما دام أنه على سبيل الهدية والمكارمة، وليس على سبيل البيع والمشارطة، ولا تقل: أشتري ضراب فحلك بكذا، أو تلقيحه للأنثى عندي بكذا، ولكن اتركه عليها أو أطلقه عليها، فلا بأس.
وقد ذكر عن مالك رحمه الله: أن لصاحب الإبل أن يستأجر الجمل الجيد الذي يرغب في سلالته يومين أو ثلاثة أو أسبوعاً يسرح مع إبله، ويلقح ما تيسر له، فلا مانع في مثل ذلك.
واستنجاب النسل أمر معروف ومرغوب، وقد كان من عادات أهل الجاهلية السيئة -وقد قضي عليها والحمد لله- أن الرجل إذا أحب أن يكون له ولدا فارسا أو شاعرا أو كريما، فإنه ينظر من يتصف بذلك من قومه أو من غيرهم، فيرسل زوجته -بعد أن تطهر من حيضتها ولا يمسها- إلى ذلك الرجل، وتبقى عنده إلى أن تشعر بأنها قد حملت، فتعود إلى زوجها ويعاشرها الحياة العادية، فتنجب على فراشه، ويكون أصل الإنجاب وأصل التلقيح من ذلك الرجل، فيخرج الولد مشابهاً لأبيه في الشجاعة أو الفصاحة والبلاغة أو الحكمة أوالكرم، أو الشعر وكانوا يسمون هذا الفعل: نكاح الاستبضاع.
تقول عائشة رضي الله تعالى عنها في هذا: (كان النكاح في الجاهلية على أربعة أنحاء) أي: أربع صفات، وذكرت هذا منها، ومنها: أن تخطب المرأة من وليها فيصدقها الخاطب ويتزوجها، أي: مثل النكاح الذي عندنا اليوم، فألغى الإسلام كل تلك الأنواع وأبقى النكاح بخطبة المرأة من وليها ويمهرها صداقها ويدخل عليها وينفرد بها.(195/15)
النطف المجمدة والتلقيح الصناعي
والآن يوجد في جميع وزارات الزراعة والمؤسسات الكبرى استجلاب النطف المجمدة، وهو ما يسمى: بالتلقيح الصناعي، والتلقيح الصناعي كان يجري حتى على بني الإنسان، وكانت ترتكب فيه الجرائم، ونقابات الأطباء تجرم كل طبيب أجرى عملية تلقيح صناعي لامرأة بماء غير زوجها، ويقولون: إن هذه جناية، فالمؤسسات تأتي بلقاحات لفصائل فارهة، سواء كانت من ذات اللحم، أو من ذات الجري، أو القوة، فيأتون بها محفوظة بطريقتهم الخاصة، ثم يلقحون الإناث من تلك الأجناس بتلك اللقاحات المشهورة، أو المعروفة، أو المرغوب فيها، فيأتي النتاج مهجناً، ويأتي على حسب أصالة ورفاهة الأصل الذي أخذت منه النطف ولقحت به الإناث.
فالملاقيح لا يجوز بيعها، ولكن يجوز المكارمة عليها، ولا يجوز نقل نطفة بالنسبة للإنسان عن طريق التلقيح الصناعي، ولا بأس في الحيوان؛ لأن الحيوان ليست له محارم وليس له سلالة نسب، فإنه كلما كان فيه من إصلاح النوعية وتحسينها كان أفضل، ولا بأس بذلك، والله تعالى أعلم.(195/16)
كتاب البيوع - باب الخيار
المعاملات في الإسلام مبنية على عقود، والعقود عادة إنما تتم بالإقرار والموافقة، ومن هذه العقود عقود البيع إذ تدخل تحت هذا، إلا أنه من سماحة هذا الدين أن أجاز لمن رأى التراجع عن بيعه أن ينقضه برضا الطرف الثاني عن طريق الإقالة، وهذا مبني على التسامح.(196/1)
شرح حديث: (من أقال مسلماً بيعته أقال الله عثرته)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أقال مسلماً بيعته أقال الله عثرته) رواه أبو داود وابن ماجة وصححه ابن حبان والحاكم] .
قبل البدء في شرح هذا الحديث ننبه إلى موضوع التلقيح الاصطناعي؛ لأنه ربما يدخل في الشجر عن طريق التطعيم، كأن تكون شجرتين متجاورتين ومن فصيلة واحدة كالأملاح، فيؤخذ غصن من هذه، ويضبب ويجرح، مع غصن من هذه يضبب ويجرح، ثم تدبس الضبتان معاً ويوضع عليها الطين، وتلف بالخرق، ثم يوالى عليهما صب الماء، ثم هاذان الغصنان سينبت منهما جذور جديدة، ثم تفصل هذه الأغصان وتزرع من جديد كشتلة، فتأتي الثمرة جامعة بين خصائص الشجرتين، فمثلاً: ما يسمى بيوسف أفندي هو من برتقال وليمون، وهذا نوع من تلقيح شجرة بشجرة.
على كل: هذا باب واسع في مجاله، والذي يهمنا النهي عن بيع الملاقيح، ولكن يجوز أن يكارم صاحبه عليه.
انتقل المؤلف رحمه الله إلى حديث خاتمة الباب، وهو نعم الخاتمة، وهو يأتي على جميع صور البيع، وعلى جميع العقود اللازمة، ما عدا ما يدخل فيه المحرمات كالنكاح والطلاق، وذكر هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أقال مسلماً أقال الله عثرته) ، هنا قيد (المسلم) ، وفي رواية: (من أقال نادماً أقال الله عثرته يوم القيامة) .(196/2)
تعريف الإقالة وصورتها
الإقالة هي المسامحة والرفع، تقول: أقلني من العقد.
أي: سامحني فيه وارفعه عني.
وهذه من أحسن مكارم الأخلاق بين المتبايعين، وتدل على كرم النفس والسماحة، والتماس العذر وقبوله من الأخوة، وهي معروفة قبل الإسلام وفي الأمم الماضية، وقد جاء عن نبي الله داود عليه السلام حينما أوحى الله إليه: أن ابنِ لي بيتاً في بيت المقدس، وأراه المكان الذي يبني فيه البيت -أو المسجد- وكان الموضع ملكاً لرجل من بني إسرائيل فاستدعاه، وقال له: ثامني على هذا الحوش؛ لأبني فيه بيتاً للرب سبحانه.
قال: اشتر.
فقال: بمائة ألف.
قال: بعتك، ثم قال: يا نبي الله! أستنصحك: الأرض أحسن أم الثمن؟ قال: استنصحتني؛ الأرض أحسن.
قال: أقلني.
قال: أقلتك.
قال: اشتر.
قال: بمائتي ألف.
قال: بعتك، ثم قال: أستنصحك: الأرض أم الثمن.
قال: الأرض.
قال: أقلني.
خمس مرات.
يهمنا في هذا الخبر: أنه طلب من نبي الله أن يقيله فأقاله، وفي الخبر: النصح لله ولعامة المسلمين، وهذا نبي معصوم من الغش، فنصح للرجل بالحق، ولو كان ذلك على نفسه هو؛ حتى ارتفع السعر خمسة أضعاف، وذلك نتيجة النصح والصدق، أخيراً لما تعب داود عليه السلام من الرجل قال له: سم ما شئت أعطه لك.
قال: أو تفعل؟ قال: نعم، قال: تملأه علي إبلاً وبقراً وغنماً.
قال: قبلت.
ودعا بني إسرائيل ليجمعوا في الحوش من تلك الأنعام حتى ملئوه.
يهمنا في هذا وجود عنصر الإقالة، وصورة الإقالة كما أشارت رواية الحديث الأخرى: (من أقال نادماً) : رجل اشترى السلعة برغبة منه، ثم بعد ذلك بدا له أمر وندم على شرائها، قد يكون كطلبة العلم، يرى الكتاب في المكتبة فيعجبه، ثم يرجع إلى مكتبه ليضعه ضمن الكتب فيجده موجوداً عنده، وكثيراً ما يقع هذا، فيرجع إلى صاحب المكتبة: أنا أخذت الكتاب فوجدته موجوداً عندي في المكتبة، وندمت على شرائه، تقيلني؟ فهنا إن كان صاحب المكتبة كريم النفس، يحب لأخيه ما يحب لنفسه، يقيل عثرات الإخوان سيقول: لا عليك يا أخي، بكم أخذته مني؟ تفضل هذا ما دفعته، هذه هي الإقالة، وهي لا تتقيد بزمن.(196/3)
جواز وقوع الإقالة من البائع والمشتري
أصل المبحث في الإقالة هو حول نقطة أصولية هي: هل الإقالة بيع أم فسخ؟ إن قيل: إنها بيع فيجري فيها أحكام البيوع، وإن قيل: فسخ، فتجرى عليها أحكام الفسخ بأن يرجع الأمر إلى ما كان عليه قبل العقد: يأخذ المشتري الثمن الذي دفع، ويرد السلعة التي أخذ، أما إذا قلنا: إنها بيع، دخلتها المساومة أرد الكتاب؟ كم ستدفع؟ كم ستنزل من الثمن؟ أعطيك واحد في المائة ورد الباقي، أو البائع ندم وجاء إلى المشتري وقال: ندمت على بيعه لأنه ليس عندي غيره.
أي: أن الندم قد يكون من البائع أو من المشتري، فكلٌ منهما قد يعتريه الندم، وقد يضطر إنسان أن يقدم سلعة للبيع لضرورة نزلت به، وهذه السلعة من ألزم ما تكون عليه، ثم يندم ويستعيض عنها ويريد أن يرجعها، كرجل اضطر إلى مال وليس عنده، فجاء لزوجه -وكانت خيرة- فقالت له: خذ، بع هذا.
فأخذه على استحياء وانكسار نفس، كيف يحتاج ويمد يده إلى مال الزوجة، وهو الذي قد أعطاها إياه منحة من عنده؟ لكن للضرورات أحكام، فذهب وباع.
بعد قليل جاء الله بالفرج من جانب آخر؛ فندم على بيع ما كان لا ينبغي أن يبيعه، فجاء إلى المشتري وقال: أنا ندمت، بعتك المصاغ في حالة اضطرار، والآن فرج الله الأمر، وأريد أن أرد المصاغ لأهله.
إذاً: الندم جاء من البائع، كما أنه يأتي من المشتري، وحينئذ المشتري أيضاً يكون كريم النفس، طيب الأصل، ينظر إلى حاله، فيعذره في ندمه، ويقول: لا عليك رد القيمة، فيرد إليه كامل القيمة.
الإقالة: هي رد المبيع واسترجاع الثمن، لكن ما حكمها المترتب عليها، هل هي بيع أم فسخ؟ إن قلنا: فسخ؛ فإن الأمر يرجع إلى ما قبل العقد، ولا يترتب عليها ما يترتب على البيع، فمثلاً: شخص له شقص في بيت فباعه، وكان الشريك غير راغب في الشفعة، وترك الشفعة وسقطت شفعته؛ لأنه لم يبادر إليها، ثم علم أن البائع الذي هو شريكه استقال المشتري واسترجع الشقص لملكه، فرجع شريكاً له مرة أخرى، ولو قلنا: الإقالة بيع، فللشريك أن يأخذها بالشفعة، وإن قلنا: فسخ، فليس له حق أن يقول: أنا آخذ الحصة بالشفعة، فنقول له: هذا فسخ للعقد، ورجعت الحصة إلى ما كانت عليه لصاحبها، فليس بيعاً.
وإن كان طالب الإقالة المشتري، وجاء ليرد السلعة إلى صاحبها: بكم اشتريتها؟ بمائة، كم تسقط من الثمن؟ قال: عشرة في المائة أنت تأتي لترد والثاني والثالث يرد، ماذا أستفيد أنا؟ اشتريت بمائة أنا أقبل أن أرد لك السلعة وآخذ عشرة في المائة من قيمتها، إن قلنا: الإقالة فسخ فلا يحق له أخذ شيء، وما دفعه المشتري يأخذه كاملاً، وإن قلنا: بيع، فلا مانع من المساومة من جديد، كما لو كانت الإقالة من البائع: أنا بعتها عليك بمائة، ردها علي وأعطيك عشرة فوق المائة، فإذا قلنا: إن الإقالة بيع، جاز فيها الزيادة والنقص على سبيل المبايعات: مساومة ومزايدة ومناقصة، وإن قلنا: فسخ؛ فلا دخل للزيادة ولا للنقص فيها، وإن قلنا: إنها بيع دخل حق الشفعة للشفيع، وإن قلنا: إنها فسخ لا دخل للشريك بالشفاعة فيها.
إن قلنا: إنها بيع، ووجد عيب لم نطلع عليه من قبل؛ فللمشتري عوض الأرش في العيب على أنه بيع، وإن قلنا: هي فسخ؛ فسلعتك ترجع إليك على ما كانت هي عليه.(196/4)
شمول الإقالة لأبواب المعاملات
الرسول صلى الله عليه وسلم رَغّب في الإقالة وحث عليها؛ لبقاء الألفة والمودة والأخوة بين المتبايعين، وقد لا يخلو منها سوق من الأسواق، وكثير من الناس ربما يعرض له ما يجعله يرجع عن هذا العقد؛ فالذي ينبغي على المسلمين أن يراعوا هذا الحديث، وأن يعامل بعضهم بعضاً بهذا الإرفاق.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (أقال الله عثرته) ، الجزاء من جنس العمل، والعثرة: هي ضربة اصطدام في حجر أو نحوه، يعثر قد يسقط ويجرح، ثم عممت في كل زلة وخطأ يرتكبه الرجل، يقال: هذه عثرة من فلان.
أي: في هذا التصرف أو العمل أو الممشى، فلو أن إنساناً أخطأ عليك.
كانت هذه زلة وعثرة، ثم جاء واعتذر إليك، عندها ينبغي أن تقيل عثرته وزلته وتقبل اعتذاره، وهذا من إقالة أخيك في ما ندم عليه، مما ارتكبه في حقك، وهكذا تدخل في كل العلاقات بين الأصدقاء والإخوان؛ لتبقى أصول المودة، وليست قاصرة على البيع والشراء، ولكن أصل البحث فيها في البيع والشراء لضمان الحقوق واسترجاعها، وقد تعمم بأكثر من ذلك لما بين الناس وبعضهم من الصلات.
ومن أحسن ما ورد في باب إقالة العثرات: ما جاء عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما مع محمد ابن الحنفية أخوه لأبيه، محمد ابن الحنفية أمه من بني حنيفة، والحسن بن علي أمه بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الخبر: كانا معاً في السوق، فحدث بينهما ما يقع بين الإخوة، وذهب كل منهما إلى بيته، فلما استقر محمد ابن الحنفية في بيته أخذ ورقة وكتب فيها: من محمد ابن الحنفية إلى الحسن بن علي ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
انظروا إلى هذا الأسلوب، هو ابن علي، فلماذا لم يقل: محمد بن علي؟ هضم نفسه إلى أقصى حد وانتسب إلى الجارية، ونسب أخاه إلى أعلى حد بـ علي ابن عم رسول الله.
وابن بنت رسول الله؛ لأنه في معرض التكريم والإصلاح.
أما بعد: تعلم ما كان بيني وبينك في السوق، وقد رجعنا إلى بيوتنا، ولقد هممت بعد العودة أن آتيك وأستسمح منك، وأستقيلك ما كان مني، ولكني تذكرت مكانك من رسول الله - فهو ابن بنت رسول الله، وابن علي ابن عم رسول الله- فكرهت أن أكون بمجيئي صاحب فضل عليك، فإذا أتاك خطابي هذا فخذ ثيابك، وشد نعلك، وائتني أنت في بيتي ليكون لك الفضل علي.
انظروا إلى مكارم الأخلاق! استكثر أن يكون له الفضل على الحسن بن علي ابن بنت رسول الله بأن يأتيه في بيته، هذا يد وفضيلة ومنة، قال: لا، أنا لست كفئاً أن تكون لي عليك يد ومنة وأنت ابن بنت رسول الله، وهذه المكرمة يجب أن تكون من ابن بنت رسول الله علي أنا، لأني أنا ابن الحنفية.
إذاً: إقالة عثرات الإخوان تكون في كل الأمور.
والله سبحانه وتعالى أعلم.(196/5)
شرح حديث: (إذا تبايع الرجلان فهما بالخيار)
قال رحمه الله تعالى: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم] .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء سمع من رسول الله أو قال له رسول الله، بأي حالة من الحالات فـ ابن عمر يسند الخبر إلى رسول الله، يعني: أن هذا الخبر الذي سيأتينا به إنما هو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس من عنده ولا من عند صحابي آخر، بل مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
[ (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا تبايع الرجلان) ] .
(تبايعا) ، على وزن تفاعلا، من طرفين، مثل تشاجرا، تشاركا، تقاربا، وهي هنا صيغة من صيغ العقود، وفي علم البيان تصلح إنشاء وإخباراً، وكذلك حينما تقول: بعت الكتاب.
فهي تصلح أن تكون إخباراً عن البيع الماضي، وتصلح أن تكون إنشاءً في البيع، كما لو جاء إنسان وقال: أريد هذا الكتاب؟ يقول: بعتك.
فـ (بعتك) يمكن أن تكون إنشاء كلام وإنشاء حكم نسبي، ويمكن أن يكون إخباراً عن ماض، فإذا قال: (تبايعا) يعني تم البيع بينهما أو أخذا يتبايعان، والفرق بينهما: هو الذي سيأتي عليه مبنى الخلاف بين الأئمة رحمهم الله.
فإذا قلنا: إذا تبايعا أخذا في المبايعة، تبايع الرجلان: تفاهما على البيع، وحصل الإيجاب والقبول، وتمت عناصر البيع.
(الرجلان) هل الرجلان مفهوم صفة أم أنه مفهوم لقب؟ بمعنى يدخل فيه المرأتان أو رجل مع امرأة كذلك؟ المعنى: إذا تبايع المتبايعان رجلان، امرأتان، رجل وامرأة كل ذلك ما دام أنه في حيز التكليف والعقل والحرية وصحة التصرف والأهلية فهو داخل في: (إذا تبايع الرجلان) .
ثم قال: [ (فكل واحد منهما بالخيار) ] .
هما: ضمير مثنى، وعندنا اثنان فقط: البائع والمشتري، فكل واحد منهما بالخيار في البيع الذي أوقعاه، أي: من حق كل واحد منهما أن يقول لصاحبه: أنا رجعت عن البيع، والثاني يقول له: أنا رجعت عن الشراء، فكل واحد منهما بالخيار.(196/6)
خيار المجلس
وقوله: [ (ما لم يتفرقا وكانا جميعاً) ] .
هذا يسمى خيار المجلس، فما داما مجتمعين وكانا في مجلس في السوق أو البيت ما عدا المسجد؛ لأن المسجد لا يصح فيه البيع والشراء، فإذا كانا في سيارة، طائرة، أوتوبيس، باخرة.
في أي مكان يجمعهما وتبايعا فيه، فهما بالخيار ما لم يتفرقا، سواء كانا في الدكان، أو المعرض فتبايعا وأخذ المشتري سلعته وخرج، فقد افترقا عن مجلس العقد، فهنا لما افترقا فلا خيار، وإن كان المعرض كبيراً، وفيه عدة أصناف من السلع، وعند كل صنف بائع، فوقف عند هذا الصنف وتبايع مع المسئول فيه، وتم البيع، وأخذ سلعته، وذهب -في نفس المعرض- إلى الصنف الثاني؛ فقد افترقا عن محل عقد الصنف الأول.
وهكذا يقول أحمد رحمه الله: الافتراق بين المتعاقدين في كل صورة بحسب العرف، فإن كانا في دكان صغير وخرج أحدهما من الباب فقد افترقا، إذا جاء راجعاً وقال: أنا رجعت.
نقول له: ليس لك خيار، ثم ننظر: إن ادعيت موجباً آخر فنعم، أما لمجرد عدم الرغبة فهذا يكون ممتداً ما دمت معه في المجلس، فإذا فارقته وبعدت عنه فحينئذ افترقت، فليس لك حق الخيار في المجلس.
إذا كانا في سفينة -كما يقول أحمد - وكانت صغيرة يكون التفرق بذهاب هذا هنا أو ذهاب هذا هناك، وإن كانت كبيرة وذات أدوار، ونزل هذا إلى السفل وصعد هذا إلى العلو، إن كان وإن كان.
بحسب ما يكون العرف، فإن وقع الافتراق فلا خيار للمجلس، قال هنا: ما لم يفترقا وكانا جميعاً، أما إذا تبايعا عن بعد، بالمراسلة، بالهاتف، بالفاكس، بكذا وبكذا، فهم متفرقون أصلاً، فلا يدخل في هذا الباب، إلا إذا قلنا: وهما على السماعة، وتفاهما على البيع، وقبل أن ينهيا المحادثة قال أحدهما: يا فلان! أنا تراجعت، لم نفترق بعد، ما زلنا على السماعة، والحديث لا زال موصولاً، حينها لهما الحق في ذلك.
وهذا الخيار يفسخ العقد دون رضا الطرف الثاني، سواء كان الذي أراد الفسخ هو البائع كأن يكون تأسف على بيعها، أو ادعى غبناً أو لم يدع، أو مجرد رغبة في السلعة، وكذلك المشتري، ولو لم يدع غبناً، يقول: إن سعرها طيب ورخيص، لكن أنا عندي غيرها في البيت، وأنا في غنى عنها، ما دام في المجلس مع البائع فله حق الرد ولو بالقوة، أما إذا افترقا عنه؛ فحينئذ بطل خيار المجلس.
وسيأتي خيار الشرط وهو أوسع ما يكون وأطول وأكثر تفريعاً.(196/7)
ذكر خلاف العلماء في ثبوت خيار المجلس
هذا النوع من خيار المجلس قال به كل من أحمد والشافعي رحمهما الله ومن وافقهما أو من سبقهما من الصحابة والتابعين، أما مالك وأبو حنيفة رحمهما الله فلم يقولا به، وصار هناك تشنيع على مالك وأبي حنيفة، الحديث صحيح ولماذا لم يقولا به؟ وقد رواه مالك في الموطأ، وما كان يجهله، ولكن لماذا يرويه ولا يعمل به؟ وهذا هو الذي كثر الحديث عنه عند أهل الحديث في شأنه وفي شأن مالك، حتى قال بعض معاصري مالك فيه مقالاً، وكذلك هو مذهب ربيعة شيخ مالك، ومذهب خالد الزنجي شيخ الشافعي، وإذا جئنا إلى سبب رفض مالك العمل بهذا الحديث، يقول: هذا مما ليس عليه عمل أهل المدينة، مع أن ادعاء الإجماع في المدينة لا يتأتى؛ لأن هناك ابن أبي ذئب -وهو من قرناء مالك - قد عمل به، وأخذ بخيار المجلس، وقد ابن عبد البر من أخذ به من المدينة، وبعد إطالة النقاش قال: إن المالكية والأحناف سردوا في هذا الباب شيئاً كثيراً لا دليل لهم فيه، شبهتهم -كما نص مالك في الموطأ-: بأنه لم ير أحداً من أهل المدينة يعمل به، وهناك نصوص أخرى ساقها أبو حنيفة رحمه الله، منها: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] ، يقول: إذا كنا سنجعل خيار المجلس عند التبايع فلا يمكن وفاء بعهد ولا وفاء عقد، وكلما عقدنا عقداً اختار في المجلس فسخه.
ولكن أجابوا عن ذلك: بأن هذا عام في طريق، وهذا خاص في طريق آخر، ولا يرد هذا على ذاك.
ثم يقولون: لو قلنا بخيار المجلس بعد انعقاد العقد، وهو: إن كان لم يقع العقد فله الحق، وإن كان بعد انعقاد العقد فقد انتهى ما بينه وبين صاحبه، وقالوا: إذا تبايعا بمعنى تساوما، فإذا كانا في حالة المساومة فكل منهما بالخيار، فقال ابن عبد البر وغيره: لو حملناه على المساومة لضاعت فائدة الحديث؛ ومعلوم أنه قبل أن يأتي هذا الحديث أن المتساومين بالخيار، ولا يحتاجان إلى حديث يعطيهما حق الفصل ما داما في المساومة ولم يستقر الأمر، إذاً: كل منهما له حق.
وقالوا أيضاً: البيعان بالخيار، إذا قال البائع: بعت، والمشترى لم يقرر بقوله: اشتريت.
فهذا التبايع وجب من طرف واحد -وهو البائع- والمشتري لم يقل: اشتريت.
يعني: أن البيع وقع من طرف واحد، وبقي الطرف الثاني لم يعقد العقد، فقد عقد على نفسه -وهو البائع- الخيار قبل أن يعقد المشتري البيع بقوله: اشتريت؛ لأن البيع لم يتم بعد.
وكما قال ابن عبد البر رحمه الله: كل ما ذكروه احتجاجاً برد الحديث لا محل له، وقال أيضاً عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله: إنه عادة ما يعرض حديث الآحاد على الأصول في الكتاب والسنة، فإذا وجده مخالفاً ربما تركه.
وهذا من أشد ما يؤخذ على أبي حنيفة رحمه الله.
وهنا نحب أن ننبه الإخوة على كلام ربما وقفوا عليه لـ ابن أبي ذئب في مالك -ليعلموا ما بين الأقران- وإذا كان ابن أبي ذئب يحمل على مالك، فلماذا لا يحمل على ربيعة شيخه، وعلى أبي حنيفة وأصحابه محمد بن الحسن وأبي يوسف وزفر، وكلهم يقولون بعدم خيار المجلس؟ فإذا كانت المسألة علمية، وكان الاجتهاد موجوداً وله مجال في القضية فلا ينبغي التحامل على أحد الطرفين فيما فهمه.
ويقول ابن عبد البر اعتذاراً عن مالك: لعله قد بلغه ما ينسخ هذا الحديث، فترك العمل به.
والراجح عند جمهور العلماء: ثبوت خيار المجلس، وعليه مذهب الشافعي وأحمد رحمهما الله، وهو قول ابن عمر ومن وافقه من الصحابة من التابعين، وهذا القدر يهمنا في هذا الحديث: (إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا) .(196/8)
الرد على من تأول التفرق بتفرق الأقوال
ومما تأولوا به هذا الحديث أن قوله: (تفرقا) أي: بالكلام، كأن يتبايعا بخمسة أو بستة أو بعشرة، صفاته كذا وكذا وكذا.
في هذا المجال لهما الخيار، لكن إذا قال: قبلت اشتريت، بعت أخذت اليوم سمعنا أخبار كذا وكذا، وأخذا يتحدثان عن موضوع بعيد عن موضوع العقد، هنا افترقا في القول عن موضوع العقد، فحملوه في بعض التأويلات على الافتراق بالقول، وبعضهم يدخل دلالة اللغة في هاتين الكلمتين، والواقع أن كلاً منهما تستعمل مكان الأخرى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء:130] ، {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:4] ، ((وما تفرق)) أي: في الكلمة، ((إن يفترقا)) أي: بأبدانهما، فجاءت في كلا الأمرين تعبر عن افتراق الأبدان وافتراق الكلمة.
ولكن يرد هذا التأويل قوله: (وكانا جميعاً) بأبدانهما، فيكون الافتراق بالأبدان وليس باللسان، وهذا القدر يكفي في التنويه على هذا الحديث، ومن أخذ به، ومن رده، وبم رد من تأويلات، والله تعالى أعلم.(196/9)
جواز سقوط خيار المجلس
قوله: (إذا تبايع الرجلان؛ فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا أو يخير أحدهما صاحبه) فالتفرق يسقط خيار المجلس، وكذلك يخير أحدهما الآخر وهما في المجلس البائع قال للمشتري: ما رأيك؟ شاور، اختر، أتمضِ البيع؟ خيره في المجلس فاختار البيع، وهما في المجلس، ثم بعد فترة وهما في نفس المجلس، قال: تراجعت.
لماذا؟ قال: لا زلنا في المجلس: (ما لم يفترقا) ونحن ما افترقنا، يقول له: لا؛ لأن صاحبك خيرك فاخترت إمضاء البيع فلا خيار لك.
(أو يخير أحدهما الآخر) سواء كان الذي خير صاحبه البائع واختار المشتري الإمضاء، أو الذي خير صاحبه المشتري واختار البائع المضي في البيع، فإذا خير أحدهما صاحبه وقال: تعاقدنا، تبايعنا؟ قال: نعم.
قال: لك خيار؟ قال: لا، أنا جزمت وانتهيت، عندها يكون انتهى العقد، ولا خيار للمجلس بعد ذلك، أو يقول أحدهما: أنا من جانبي أمضيت، والبائع: أنا بعت وانتهيت، وأنت شاور وفكر، ولك الخيار إلى الغد، أما أنا فلا خيار لي.
أصبح الخيار هنا لواحد، والثاني أسقط خياره وأعطى صاحبه مهلة، فيذهب هذا صاحب الخيار ويأتي في المهلة أو قبلها ويقول: أمضيت البيع، انتهى.
فإذا جاء وقال: ما ناسبني -بشرط ألا تنتهي المهلة- فله الحق في تلك المدة أن يختار وأن يرد السلعة أو أن يمضي العقد.
إذاً: بالافتراق، أو بتخيير أحدهما الآخر ينتهي خيار المجلس.
وينبغي التنبيه أيضاً على أن هناك أنواعاً من البيوع لا يدخلها خيار المجلس.
منها: بيع السلطان؛ فإذا قام السلطان ببيع مال إنسان مدين ليسد دينه، وأعلن عنه، ورسا المال على شخص، فلا يحق للذي رسا عليه البيع وهو في المجلس أن يقول: لي خيار المجلس.
ومنها: بيع التركة بين الورثة الورثة لهم تركة وأرادوا أن يبيعوها ليتقاسموها، وسواء واحد منهم أو خارج عنهم اشترى شيئاً من التركة فليس له خيار فيما اشتراه.
ومنها إذا كان يشتري من نفسه لنفسه بأن كان ولياً أو وصياً على صبي، وأراد أن يبيع من ماله للصبي أو يشتري من مال الصبي لنفسه، فإذا تم العقد، فلا خيار له؛ لأن الخيار للنظر في المصلحة، وكذلك بين الشركاء، إن كانوا شركاء في شركة، وأرادوا أن يتفاصلوا وعرضوا الموجود للبيع، فاشترى أحد الشركاء أو جاء إنسان من الخارج واشترى من سلع الشركة، فلا خيار مجلس في ذلك.
فهذه: بيع السلطان والتركة والشركة، ومن كان متولياً طرفي العقد في صفقة، فلا خيار لواحد من هؤلاء، كما أنه هنا لا خيار بعد التفرق، ولا خيار بعد أن يخير أحدهما الآخر.
قال: [ (فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك، فقد وجب البيع) ] .
هذه صورة ثانية: تبيعني هذه السلعة؟ - لا، أنت لست مشترياً، أنت ستذهب تشاور أمك أو زوجتك أو كذا، أنا أريد بيع وشراء ليس فيه خيار، خيره قبل العقد، قال: لا مشاورة ولا خيار، نتبايع وننهي البيع الآن؛ فتبايعا.
ليس له أن يرجع ويقول: لي خيار المجلس، وإن كان بعض الحنابلة يجيز له ذلك، لكن الجمهور على أنه ما دام خيره من قبل وخشي من هذا التطويل، وقال: ما هناك خيار، ونتبايع على ألا خيار بيننا.
فقال: قبلت.
وتبايعا على ألا خيار بينهما، فقد تم البيع.
قال: [ (وإن تفرقا بعد أن تبايعا، ولم يترك واحد منهما البيع؛ فقد وجب البيع) ] .
لم يقل البائع: أنا تركت البيع ورجعت.
ولم يقل المشتري: أنا تركت البيع ورجعت بعت، اشتريت، في أمان الله، تفرقا، بعد هذا التفرق ما حصل من واحد منهما أنه رجع، أو طلب الفسخ، أو الخيار، أمضيا البيع ومضى كل في سبيله، وحينها لزم البيع.(196/10)
شرح حديث: (البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا ... )
قال رحمه الله تعالى: [وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا، إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله) ] .
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (البائع والمبتاع -بصريح العبارة- بالخيار -في عقد البيع- ما لم يتفرقا إلا أن تكون صفقةَ -أو صفقةُ- خيار) على ما تقدم في حديث ابن عمر.
أشتري منك على أن يكون لي الخيار عدة أيام، ونجد أغلبهم على أن مدة الخيار ثلاثة أيام، ومالك يقول: ليس في ذلك حد عندنا ينتهى إليه، وكل سلعة خيارها بحسبها، فإذا اشتريت ثوباً أو بعيراً، فهذه يكفي فيها ثلاثة أيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى صاحب المصراة ثلاثة أيام يحلب وينظر، وبعد الثلاثة الأيام ستظهر، قال: وأكثر من ذلك أكرهه.
إذا اشترى عبداً على الخيار: هل تكفي ثلاثة أيام لاكتشاف كل نوايا العبد أو طبائعه أو أخلاقه؟ لا تكفي، اشترى داراً، هل الثلاثة الأيام تكفي لمعرفة الدار وحسن بنائها، ومعاملة جيرانها، وتصريف مرافقها ومنافعها؟ لا، فقالوا: كل سلعة بحسب مكانها تكون مدة اختيارها.
إذاً: (إلا أن تكون صفقة خيار) ، أي: مشروط لها خيار، كم يكون؟ الجمهور يقولون: ثلاثة أيام، ومالك يقول: لا حد في ذلك عندنا؛ لاختلاف السلع فيما تحتاجه من مدة يتأملها المشتري، ويعرف محاسنها وعيوبها، والحديث يجيز وجود الخيار بين المتبايعين إلى مدة ما اتفقا عليه؛ ما لم تكن المدة حيلة لاستفادة البائع من المبيع؛ على ما سيأتي بيانه في الخيار في الأجرة على مدة لا تلي العقد.
قال: (إلا أن تكون صفقة خيار) وصفقة الخيار: أن يتفق الطرفان على وجود خيار لأحد المتعاقدين مدة معينة بعد إمضاء العقد، سواء كان الخيار للبائع أنا أبيعك لكن أريد أن تعطيني مهلة يومين، المشتري: أما أنا فقد أمضيت البيع من عندي، وأنت لك مهلة ثلاثة أيام.
أو كان الخيار للمشتري، البائع قال: بعتك.
والمشتري قال: اشتريت؛ ولكن أريد أن أشاور أخي الأكبر، أشاور صديقي، أشاور صاحب خبرة.
قال: لك ثلاثة أيام.
فوقعت الصفقة صفقة خيار، فهما على شرطهما، إن اختار إمضاء البيع في المدة فالحمد لله، وإن اختار رد المبيع وفسخ العقد فله الحق في ذلك، وإن كان دفع الثمن يسترجعه.
ثم تأتي الأحكام والتفريعات التي نص عليها ابن عبد البر وغيره: إذا كان الخيار مدة عشرة أيام، والسلعة في يد المشتري من أجل أن يختبرها، فضمانها وغرمها على من؟ وغنمها لمن؟ تقدم لنا بأن الغنم بالغرم، فهي في يد المشتري على ملكه، وإن تلفت فعلى حسابه، وإن غنمت فلحسابه، إن رد البيع أو أمضاه، أو كان عبداً يحتاج إلى مئونة، أو فرساً يحتاج إلى علف فعلى المشتري؛ لأنها في ملكه، أما إذا بقيت في يد البائع فهي أمانة عنده للمشتري.
وهذه التفريعات التي تكثر في هذا الباب لا تحصيها إلا موسوعات الفقه الموسعة.
إذاً: جاز خيار الشرط، وخيار الشرط أهم ما فيه هو: ألا يتخذ حيلة، وهذه الحيلة كنا نسمع بها في اليمن على مدى واسع في العقارات، يأتيه ويبيعه العقار ويقول له: لك الخيار إلى أن تأتيني بالثمن فأرد العقار عليك باعه البيت واستلمه وسلم الثمن، ثم ذهب البائع بالثمن، وانتقل المبيع من بيت أو أرض إلى المشتري على أن البائع له الخيار متى ما جمع الثمن جاء به إلى المشتري استرد البيت أو البستان، المحظور في هذا ما هو؟ كان يأتي ويقول: أقرضني ألفاً.
يقول: ما عندي قرض.
لكنني لست مستغنياً، أعطني البيت وخذ الألف، ويوم أن تردني الألف خذ بيتك.
(خذ بيتك) هذه ما هي؟ ظل يجمع الألف سنة سنتين والبيت بيد المشتري، وحينما يرجع البائع ويقول: لي الخيار، وقد أحضرت الثمن، فيسلم الثمن كاملاً للمشتري ويسترجع البيت.
سكنى البيت لمدة سنتين من قبل المشتري حتى جمع البائع الثمن مرة أخرى ورده لحساب المشتري الذي انتفع بها، هل كان الأصل في ذلك بيع وشراء والغرم بالغنم، أم كان البيع مبناه على أن المشتري يقرض البائع ويستفيد مقابل القرض سكنى البيت؟ فحينئذ يكون الشرط في الخيار حيلة، وربما تجدونها في كتب الحنابلة في الإجارة، (ويصح خيار الشرط في الأجرة ما لم تكن على مدة تلي العقد) .
هذه عبارة زاد المستقنع، وبيان هذا: إذا كان عندك بيت، وتريد أن تؤجره، فأجرته الآن، والمستأجر استلم البيت ودفع الأجرة، وشرط لك الخيار في رد البيت شهراً، البيت عندك شهر، والأجرة عندك، إن هو وقع له اختيار الرد سيرده بعد شهر والأجرة عندك، ترد له الأجرة ويرد لك البيت، حينما أخذ البيت عنده والخيار شهر، فرد البيع واسترد الأجرة كاملة، أجرة الشهر إن كان استفادها مقابل مجرد خيار؛ فلا بأس، لكن إذا كان الشرط والمهلة تلي عقد الإجارة؛ فهي حيلة ليستفيد المستأجر سكنى البيت شهراً، وسيرده بعد مدة الخيار ويسترجع الأجرة كاملة.
أما إذا كانت مدة الخيار لا تلي العقد فهذا صحيح.
مثلاً: نحن الآن في شهر جماد الآخر، قال: أؤجرك البيت سنة كاملة تبدأ من واحد رمضان، وبينه وبين رمضان أكثر من شهرين فقال له: لكن أنا أريد أن أشاور؟ قال: لك الخيار شهر ونصف من الآن! هل سيستلم البيت؟ استلام البيت في الأول من رمضان، والخيار يبدأ من الآن؛ لأن عقد الإيجار الآن والتسليم في واحد رمضان، فإذا جعل له خياراً شهراً كاملاً لكنه لا يلي مدة العقد؛ لأن مدة العقد من واحد رمضان، بل هو دون مدة العقد، هل سيحصل هناك حيلة أو غبن في شيء؟ لا، اختر على ما ترى، والبيت عند مالكه، وهناك وقت طويل حتى يأتي رمضان، استلم البيت وسلم الأجرة، والفترة هذه كلها لك الخيار فيها، إذاً: ما ضاع شيء على صاحب البيت.
إذاً: خيار الشرط على ما شرطاه، ولكن يكره مالك وغيره أن يكون على مدة طويلة؛ لأن فيها شبه نزاع، وألا يكون لحيلة يستفيدها أحد المتعاقدين في مدة هذا الشرط.
[ (إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله) ] .
هذا -كما يقال- استطراد وتذييل يؤكد معنى الافتراق: ما لم يفترقا، أي: بالأبدان، ولا يحل له، أي: أحد المتعاقدين أن يفارقه من المجلس خشية أن يندم أو يستقيله، هل معناها التفرق بالأبدان أم التفرق بالأقوال؟ بالأبدان، تعاقدتما وأنتما في المجلس، وتخاف أن يرجع في كلامه فتخرج من المكان قصداً خشية أن يرجع، يعني: فارقه ليضيع عليه خيار المجلس، فلا يحل له؛ لأنه فوت عليه فرصة أعطاه الشرع إياها، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما -وهو راوي الحديث الأول- إذا تعاقد مع إنسان على شيء يهمه حينما يتم العقد يفارقه ويخرج، ثم يرجع إليه، قالوا: إذاً كيف يفعل ابن عمر هذا، والرسول يقول: (ولا يحل له أن يفارقه) ؟ يذكر العلماء هذا دليلاً على أن التفرق يراد به تفرق الأبدان وليس تفرق اللسان، ويعتذرون عن ابن عمر بأن مفارقته لمن تعاقد معه بائعاً أو مشترياً أنه لم يبلغه هذا النهي، ولا يحل له أن يفارقه خشية كذا، أو أنه يتأول ذلك على سبيل الإرشاد وليس على سبيل اللزوم على كل له عذره، والله تعالى أعلم.
قال: [وفي رواية: (حتى يتفرقا عن مكانهما) ] .
هذا هو التفرق بالأبدان عن مكانهما.(196/11)
شرح حديث: (إذا بايعت فقل: لا خلابة)
قال رحمه الله تعالى: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (ذكر رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع.
فقال: إذا بايعت فقل: لا خلابة) ، متفق عليه] .
معنى هذا الحديث: أن رجلاً كان يبيع ويشتري ولكنه كان يخدع في البيع، وقيل: كان قد أصيب في رأسه، وحصل في عقله شيء في المساومة وفي إدراك قيم الأشياء، فكان يبيع ويشتري ويغبن كثيراً، فاشتكاه أهله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستدعاه وقال: دعك من البيع والشراء الذي خسرت أهلك فيه، فيقول: يا رسول الله! ما لي غنى عن البيع والشراء لا أستطيع أن أترك السوق ولا البيع والشراء، لابد لي من البيع والشراء.
فقال له صلى الله عليه وسلم: إذا بعت أو اشتريت فقل لمن تتعاقد معه: لا خلابة.
هذه الكلمة بمعنى: لا نقص، إن كنت أبيع لا نقص في الثمن، وإن كنت أشتري لا نقص من جانبك تزيده علي في السعر، فكان إذا تعاقد مع أحد يقول له: لا خلابة.
وإذا تناكر مع إنسان يأتي واحد من الصحابة يشهد له بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاه هذا الحق، والمؤلف يسوق هذا هنا لبيان جميع أنواع الخيار المتبقية، وهي تقوم على خيار الغبن.
فهذا الرجل كان يغبن في البيع والشراء، وأعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم حق النقض فيما يتعاقده إن ثبتت زيادة عليه في السعر إذا اشترى، أو ثبت عليه نقص في البيع إذا باع، فكان إذا اشترى سلعة ورجع بها إلى أهله وأخبرهم بالثمن إن أقروا ثمنها مضت، وإلا رجعوا على البائع واسترجعوا الثمن.
وهنا المبحث في هذا الحديث: هل لكل إنسان أن يقول: لا خلابة؟ فبعض العلماء يقول: لكل إنسان أن يقول ذلك؛ لأن هذا منع للغبن.
والآخرون قالوا: لم يجعل ذلك للعموم، ولكن جعلها لهذا الشخص بذاته فقط، فلا تصح إلا له ولمن كان مثله؛ بأن كان سفيهاً، أو لا يحسن المساومة.
إلخ، فإذا وجد من في مثله وفي تلك الحالة، وقال هذه الكلمة: لا خلابة، فهو على ذلك، أما عامة الناس، والذي يتعاطى البيع والشراء، والذي يتعالم ويجعل نفسه أشطر الناس، ويحصل ويحصل.
لو قالها لا يسمع منه.
والمؤلف ساق هذا الحديث هنا مع الحديثين المتقدمين -خيار المجلس وخيار الشرط- ليبين كل نوع من أنواع الخيار والتي يذكرها العلماء إلى سبعة أصناف داخلة تحت هذا الحديث، وهناك نوع يسمى باسمه: خيار الغبن، وخيار الغبن عند الأئمة تقدم بعض أفراده، ويثبت إذا تلقى الركبان، وإذا وقع النجش، وللمسترسل الذي لا يعرف الأسعار، وفيما يتعلق بنوع من البيوع: التولية والمرابحة والمواضعة، والتولية: هو أن تأتي للتجار: بكم هذه السلعة؟ فيقول: أنا لا أريد منك مكسباً، ولا أن تخسرني، أبيعها لك برأس مالها عشرة.
قلت: اشتريتُ.
فتبين أن رأس مالها ثمانية، فهذا غبن، ودلس عليك في السعر، فيرد حصة الربح.
وكذلك النقص، يقول: أنا لا أريد ربحاً ولا حتى رأس مال، أنا أتنازل لك بعشرة في المائة من رأس المال، كم قيمتها؟ مائتين، ثم تبين أن قيمتها مائة وثمانون، فيكون قد أخذ عشرون زيادة عن رأس مالها، أو قال: أنقص لك ثلاثين، وتبين أنه زاد الثلاثين في سعرها، أي: اختلف قوله في المرابحة، في المواضعة، في التولية؛ فحينئذ يأتي الخيار.
كذلك إذا باعه سلعة فوجد فيها عيباً لم يكن يعلمه؛ دلسه البائع أو أخفاه عليه، ثم اكتشف ذلك فله خيار العيب.
وكذا إن باعه موصوفاً في الذمة، والموصوف على قسمين: موصوف بعينه، مثلاً: كان في سفر على بعير له، فقال له: بعني بعيرك الذي كان معنا في السفر وكنت تركبه، ما صفاته؟ كم عمره؟ كم يحمل؟ كم يستطيع الصبر على العطش؟ وذكر أوصافاً معينة، فلما أخذت البعير المعين وجدت فيه نقصاً، عندها لك الخيار.
أما إذا قلت: أريد بعيراً صفته وصفته وصفته.
قال: عندي، ولم يعين لك بعيراً بعينه، فجاءك ببعير فوجدت فيه نقصاً من تلك الصفات، فلا خيار لك، وعليه أن يأتيك بغيره حتى يستوفي لك الصفات التي أردتها في أي بعير من إبله.
وهكذا -أيها الإخوة- أنواع الخيار ستة أو سبعة على ما تقدم، والذي ساقه المؤلف رحمه الله في هذا الباب يعتبر الأصل الذي يدور عليه، وجميع التفريعات عليه توجد في أمهات الكتب.
وبالله تعالى التوفيق.(196/12)
كتاب البيوع - باب الربا [1]
أكل الربا من أكبر الكبائر، وهو ثلاثة وسبعون باباً، أيسرها مثل أن يأتي الرجل أمه!! فيجب على المسلم أن يتعلم باب الربا ليحذر منه، وقد اهتم أهل العلم بهذا الباب اهتماماً بالغاً، وبينوا أنواعه وأحكامه بياناً شافياً.(197/1)
شرح حديث: (لعن رسول الله آكل الربا)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء) رواه مسلم، وللبخاري نحوه من حديث أبي جحيفة] .
آكل هنا: اسم فاعل يختص بالذكور، وإذا كانت امرأة تأكل الربا، فهل معفو عنها أو هي داخلة؟ هذا أيضاً من إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به المساوي له، فهي داخلة، (وموكله) وكذلك موكلته.
وآكل الربا هو الذي يأخذ الزيادة عن رأس المال، وموكله هو الذي يدفعه، فهو ما أكل، ولكن أطعم غيره، إذاً: عقد الربا فيه آكل وموكل، آخذ ودافع، وكلاهما داخل في هذا الوعيد واللعن.
قد يأتي إنسان ويقول: هناك أشياء اضطرارية، هذا أكل الربا اضطراراً، وهذا أكله بغير اضطرار، فالذنب على الذي أخذ، هذا بحث أشرنا إليه في أكل الرشوة وليس في الربا.
وقد أشرت سابقاً: أنه في مؤتمر ماليزيا الإسلامي عرض على المؤتمر طلب إباحة الربا للضرورة، وكانت قارعة، وأعان الله سبحانه وتعالى بأن قدم: أن الربا لا تدخله الضروريات البتة لا شرعاً ولا عقلاً، وكان النقاش حاداً فعلاً، حتى أعلن رئيس المؤتمر وهو رئيس الوزراء: أن نرجئ هذا القرار إلى مؤتمر آخر.
وكلكم تعلمون أنه مؤتمر عالمي، ستة وثلاثون دولة مسلمة مشتركة فيه، ويقدم قرار في لجنة ويدرس ويأتي إلى لجنة للتصويت، ثم يوقف هذا القرار بمناقشة تبطله، ويعلن رئيس المؤتمر بإرجائه، يعني ما نجح، وقام رجل مغربي رحمه الله إن مات، وجزاه الله خيراً إن كان حياً، وصاح على الجميع: أتريدون أن نحارب الله ورسوله؟! أجئنا من بلادنا لنعلن الحرب مع الله ورسوله في ماليزيا حتى تريدون أن نبيح الربا؟! إلى أمر يطول شرحه.
إذاً: الربا محرم بكل أنوعه وصنوفه، وهناك لفتة عجيبة جداً في (آكل وموكل) ، قال الله عن اليهود: {فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً * وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء:160-161] ، وقال: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ} [البقرة:275] ، وفي حق اليهود قال: (وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا) ، ما قال: وأكلهم، مما يدل على أن الربا كان في اليهود مهنة وليس من حاجة؛ لأن الذي يأكل الربا قد يكون محتاجاً، ولكن اليهود يأخذون، والأخذ أعم من مجرد الأكل، فهم يأخذونه كتجارة، يأخذونه كحرفة، وليس عن حاجة، ومن هنا -أيها الإخوة- لا تجد مرابياً فقيراً، الذين يرابون في أموال الناس هم الأغنياء، وما دمت غنياً ومغنيك الله فلماذا تنزلق في هذا الطريق الحرج؟! قال: (وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا) ولم يقل: وأكلهم، إذاً أخذهم للربا كان عن غنى، وليس عن فاقة وحاجة تدعو إلى الأكل.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (وكاتبه) ، الكاتب الذي يكتب السند، كما قال الله: {إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282] .
وقوله: (وشاهديه) ؛ لأن اثنين يشهدون على الكتابة كالعادة، كما قال الله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ} [الطلاق:2] ، وشاهده اسم جنس يشمل الواحد والاثنين والعشرة، وقيّد العلماء الشاهد والكاتب في اللعن إذا كانا عالمين بأنهما يكتبان ويشهدان على ربا.
أما إذا جاءوا إلى إنسان لا يعلم بذلك، وقالوا: اكتب: هذا له في ذمتي ألف، وما يدري ما سبب الألف، وترتبت على ماذا، فكتب: فلان له في ذمة فلان ألف، وشهد الشهود: نشهد باعتراف فلان بأن في ذمته لفلان ألفاً، فلا شيء عليه، لكن إذا كانوا يعلمون أنه أقرضه ثمانمائة والتزم له بدفع الألف، وكتب الألف على أنه أصل الدَين، وهو يعلم أن الأصل ثمانمائة، والمائتان ربا، فهو شريك.
وكما يقولون: وسامع الذم شريك لقائله إذا جلست في مجلس فيه من يغتاب إنسان وتسمعت، وتتبعت، وتسليت؛ فأنت شريك للمغتاب.
وسامع الذم شريك لقائله ومُطعم المأكول شريك للآكل لو كان طعام موجوداً في محل لزيد فجاء شخص وقال: والله! إني جائع، فإنسان فضولي رأى الأكل موجوداً فقال: خذ.
قال: هل هو حقك؟ قال: لا، ما هو حقي.
فالآكل يعلم أن الذي قدم له الطعام لا يملك هذا الطعام، والذي قدم الطعام يعلم أنه لا يملك هذا الطعام، فجاء صاحب الطعام.
فيغرم قيمة الطعام الذي أكل، والذي أعطاه ومطعم المأكول شريك الآكل؛ لأنه هو الذي سلطه عليه، وإن كان الآكل هو المتلف المباشر، لكن يضم المطعم في الغرامة؛ لأنه عن طريقه وصل إليه.
(وقال: هم سواء) أي: هم سواء في الإثم، لا نقول: الآكل الذي أخذ الربا هو الآثم وحده، بل نقول: هؤلاء شركاء وسواء في الإثم.(197/2)
شرح حديث: (الربا ثلاثة وسبعون باباً)
قال رحمه الله: [وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الربا ثلاثة وسبعون باباً، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربا الربا عرض الرجل المسلم) رواه ابن ماجة مختصراً، والحاكم بتمامه وصححه] .
هذا الحديث الثاني -يا إخوان- يدل على فظاعة الربا، وعلى شناعة أمره، وأن الغريب في هذا هو: مقابلة أبواب الربا بشعب الإيمان، والتقبيح لأيسر هذه الأبواب.
إذاً: هناك أبواب لا يعلم جرمها إلا الله، إذا كان أيسر الثلاثة والسبعين مثل هذه الصفة التي ليست في عقولنا صفة أشنع منها؟ ما نقدر أن نتصور صفة أخرى! وهذا من باب التهويل الفظيع الذي يقرع القلوب.
(وإن أربا الربا عرض الرجل المسلم) ، وهو ما يسمى بالغيبة، وهو تناول عرض المسلم في غيبته؛ لأن حرمة المسلم عند الله أعظم من حرمة الكعبة، الكعبة إذا هدمت يمكن بناؤها، فحجارتها موجودة، والأرض موجودة، لكن عرض المسلم إذا لمز وغمز، ودم المسلم إذا سفك، فمن يعيد بناءه؟ وهذا مما يعظم شأن الغيبة، وأنها أكثر ذنباً من أدنى أبواب الربا، نسأل الله العافية والسلامة! وما تقدم تمهيد وتوطئة لباب الربا، ومن يريد أن يقف على حقيقة شناعة الربا فلينظر في كتب الرقائق، وما يترتب على تفشي الربا في المجتمعات من قلة المطر، ومحق البركة، وقصر الأعمار، وأشياء كثيرة تتسبب عن الربا.
الشبهة التي قامت عند الجاهليين هي قولهم: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة:275] ، وجاء الجواب: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] ، وسيأتي إن شاء الله الفرق في المعاملة بين معاوضة البيع ومعاوضة الربا؛ لتنكشف شبهة العرب في الجاهلية، وتظهر حقيقة التشريع؛ لأن الله لم يناقشهم في العلة، ولكن أعطاهم الحكم، كأنه استصغر نفوسهم، واستحقر عقولهم؛ لأنهم شبهوا الربا بما فيه من الزيادة بالبيع بما فيه من الربح، والفرق بعيد جداً، فالله استجهلهم واعتبرهم لا يدركون الحقيقة، فقال: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) ، كأنه قال: لستم أهلاً لأن يقال لكم علة التحريم، بل اسمعوا الحكم فقط واسكتوا، وهذا قمع لهم وتجهيل، وأسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه.
وإذا نظرنا -يا إخوان- إلى النتيجة العملية إذا تعامل الإنسان بالبيع الحلال كما شرع الله: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) ، وإذا تعامل بالربا أو بما هو على شاكلته فيكون بين أحد أمرين: إما أن يأكل لقمة الحلال، أو يأكل لقمة الحرام، وكذلك من تلزمه نفقتهم، إما أن يربيهم على الحلال أو يربيهم على الحرام، وقد بين صلى الله عليه وسلم: (أيما لقمة يأكلها الإنسان ينبت منها دم ولحم وعظم، وأيما لحم نبت على الحلال فالجنة أولى به، وأيما لحم نبت على الحرام فالنار أولى به) .
وتقدم معنا في الحج، إذا قال الملبي: لبيك اللهم لبيك، وكان طعامه حلالاً، وراحلته حلالاً، ماذا يقال له؟ لبيك وسعديك، حجك مبرور، وذنبك مغفور.
وإذا كان طعامه حراماً قيل له: لا لبيك ولا سعديك، ارجع مأزوراً لا مأجوراً! إذاً: يجب التحري في لقمة العيش، وتحري المسلم طيب الكسب ينبني عليه صحة عباداته، وصحة جسمه، وسلامة مصيره يوم القيامة، فلنتحرى الحلال جميعاً بقدر المستطاع، ولنبتعد جميعاً بقدر المستطاع عن طريق الربا، وبالله تعالى التوفيق.(197/3)
شرح حديث: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل)
قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل) ] .
عقد البيع فيه مبيع وثمن، الثمن من المشتري، والمبيع من البائع، والأصل أن الذهب قيمة المشتريات، كما يقولون: المال السائل، فهو الوسيط بين صاحب السلعة ومن يحتاجها، وكان قبل الذهب وقبل النقود وقبل العملة؛ كان البيع والشراء بالمقايضة، تأخذ صاع تمر وتبيعه لصاحب البر فيعطيك بالتمر براً، أو تأخذ البر وتبيعه لصاحب السكر، فتقول له: خذ هذا الصاع من البر، وأعطني سكراً، فكانت مقايضة بالأصناف والأعيان، وتأخذ صاع الحب وتذهب للجزار وتقول له: أعطني بهذا لحماً، وإلى الآن في بعض البلدان يتعاملون بالحبوب مقايضة في دكان البقالة، إلى الآن موجود.
ثم جاءت النقود، والمعاملة بها صارت أيسر وميسرة للسفر، وتحديدها معلوم للجميع، فهنا الذهب بالذهب، أيهما ثمن؟ وأيهما مثمن؟ مع أن الذهب في أصله هو قيمة المشتريات وكذلك الفضة، لكن الذهب يخرج عن كونه قيمة المشتريات ويصبح سلعة؛ لأن الذهب له ثلاث حالات: إما تبر، مادة خام، سبيكة.
وإما مضروب، دنانير أنصاف دنانير إلى آخره، وهذه عملة.
وإما مصوغ كما يقال: منقوش، سوار، قرط في الأذن، خاتم في الأصبع، كذا كذا إلى آخره.
فهو عملة وقيمة للمثمنات حينما يضرب، ويجعل وحدة متحدة وزناً وقيمة، والذين يضربون الذهب الآن يجعلونه جنيهات ذهبية، الجنيه الجورج، الجنيه الأمريكي، الجنيه السعودي، وغيرها، وفي حد علمي أن وزن معظم الجنيهات في العالم، وهو الجنيه الصغير ثمانية جرامات، وكأنه وحدة عالمية، وهناك جنيهات تخرج عن هذا، يوجد جنيه إنجليزي أو أمريكي بقدر أربع جنيهات، وفي عهد البرامكة جعلوا الدينار البرمكي أربعة مثاقيل؛ لأنه كان ضخماً يقدم هدية.
والذي يهمنا أن الذهب بالذهب ربا، والذهب أصل قيمة المبيعات، فإذا أصبح الذهب ثمناً ومثمناً، فأين الثمن، وأين المثمن؟ إذا كان الذهب مضروباً نقداً فهذا هو الثمن، وإذا كان الذهب مصوغاً أو تبراً -مادة الخام- فهذا هو المثمن، أي: المشترى.
إذاً: يمكن بيع الذهب بالذهب نقداً بنقد، مثل: بيع الذهب بالذهب تبراً بتبر، بيع الذهب بالذهب مصوغاً بمصوغ، بيع الذهب بالذهب مضروباً نقداً بمصوغ، مضروباً نقداً بتبر، كل هذه المسميات داخلة تحت قوله: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا ... ) ، حتى قال بعض العلماء: ولو كان أحدهما مغشوشاً والثاني سليماً فلا يجوز أن تبيع ذهباً خالصاً بذهب مغشوش بالنحاس -أو ما يسمى شبه النحاس الراقي الذي يشبه الذهب في لونه- وزناً بوزن، ما يجوز ولو زدت فيه؛ لأننا لا نعلم قدر المغشوش في المغشوش، ولا نستطيع أن نحكم على الذهب الصافي بالذهب الصافي هناك، إذاً مهما كانت صورة الذهب تبراً، نقداً، صافياً، مصوغاً، خالصاً أو مغشوشاً، فجنس ذهب بذهب إذا بيع هذا بهذا لا يمكن أن تكون هناك زيادة، ولا تأخير.
فالذهب بالذهب يحرم فيه الزيادة، ويحرم فيه التأخير، يعني: يحرم فيه ربا الفضل، وربا النسيئة.
وإذا أردت أن أشتري حلياً، وعندي ذهب دنانير جنيه، فالوجه الشرعي أن توضع الحلي في كفة، وتوضع الدنانير المضروبة في كفة حتى تتعادل الكفتان، والتاجر يأخذ الدنانير الذهب، والمشتري يأخذ الحلي.
ولو قال قائل: ما عندي دنانير، لكن عندي ذهب سبائك، وأريد ذهباً مصنعاً، فالوجه الشرعي أن يوضع الحلي المصنوع المزخرف في كفة، ويوضع الذهب الخام السبائك في كفة، فإذا تعادلتا صح البيع، وإذا زاد في وزن السبائك ونقص في المصوغ وقال: من أجل الصياغة؛ بطل هذا البيع، ولا يجوز، وما المخرج من هذا إذاً؟ بع السبيكة بالفضة، واشتري الحلي بالفضة، ويجوز بيع الذهب بالفضة مع الزيادة والنقص، ولا يشترط التماثل في الوزن، الفضة كيلو، وهذا الذهب ربع كيلو، فيوجد فرق في المقدار، لكن يشترط التقابض يداً بيد.
إذاً: الجنس بالجنس من هذه المسميات يشترط فيه التماثل والتقابض، مثل بيع الذهب بالذهب تبراً، مصوغاً، مضروباً، مغشوشاً، صحيحاً، مستعملاً، مكسراً، بأي صفة من الأصناف، ما دام مادة الذال والهاء والباء موجودة، فإن بيع بجنسه وجب أن يكون وزناً بوزن، يداً بيد.(197/4)
حكم الأوراق النقدية
الفضة الآن غير موجودة نقداً، إنما عندنا الأوراق النقدية، وهي تمثل الريال، والريال فضي، إذاً: هذه الأوراق المتداولة تمثل الفضة، فإذا اشترينا ذهباً بفضة بالنيابة وهو الورق فليس هناك وزن، وليس هناك تقدير بين الثمن والمثمن على ما اتفقا عليه، فيجوز شراء الجرام الذهب بثلاثين ريالاً، بخمسين ريالاً، بمائة ريال، لا يوجد مانع، لكن يداً بيد، يقول مثلاً: أعطني هذه الأسورة، وكان وزنها خمسين جراماً -مثلاً-، فقال: قيمتها ألفان، فأعطاه ألفين إلا خمسين ريالاً نقصت، فيقول له: حطها محلها، ولا يقول له: اذهب أنت مؤتمن، ولو أنت مؤتمن ألف مرة، فإن العقد لا يتم، إلا إذا كان الثمن والمثمن يداً بيد.
وأهل الذهب ربما يعملون حيلة، يقول أحدهم: خذ هذه خمسين ريالاً قرضة حسنة مني إليك، أعطني الخمسين الباقية، وهذه الحيلة على من؟! تبغى تروج بضاعتك بالحيلة على الشرع؟ لا.
وفي الذهب مشاكل كثيرة في الأسواق، إذا بيع بغير جنسه بالدولار، بالربية، بالاسترليني، بأي عملة ما لم تكن ذهبية، بع واشتر ما شئت، ولكن لا تفارق البائع وله عندك فلس واحد.(197/5)
حكم صرف الذهب بالفضة
ويشترط التقابض في صرف الذهب بالفضة، الصراف يأخذ الذهب ويعطيه الدراهم في نفس المجلس، وينقل بعض العلماء عن مالك لو أن مصطرفاً جاء إلى الصراف، ودفع إليه الدنانير ليعطيه الدراهم، فلا يجوز أن يفارقه ولو قليلاً إلا إذا مد يده بالدنانير ليأخذها، ومد الآخر يده بالدراهم ليدفعها، في نفس المجلس، ويقول: لو أن الصراف أخذ الدنانير، ودخل دكانه ليفتح صندوقه ويأتي بالدراهم فلا يجوز! سمعتم هذا يا جماعة؟! إذا جاء المصطرف بالدنانير، والصراف قاعد عند باب الدكان، وأعطاه مثلاً مائة دينار، فقال: مرحباً، عندي صرف، وأخذ الدنانير من صاحبها، ودخل إلى مكان في آخر دكانه ليفتح الصندوق، ويضع الدنانير ويأتي بالدراهم، مالك قال: لا يجوز؛ لأنه ما حصل يد بيد، والواجب أن يترك الدنانير مع صاحبها، ويذهب يفتح صندوقه، ويأتي بالدراهم إلى صاحب الدنانير، ثم هاء وهاء، خذ وهات.
فـ مالك لا يقبل تأخير الصرف ما بين أن يذهب إلى آخر دكانه ويأتي، فما بالك إذا جاءه فقال: أروح البيت ثم أمر عليك؟! هذه معاملة ممنوعة في الذهب بالفضة أو الفضة بالذهب.
إذاً: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل) ، والمماثلة المعادلة، في الكيل بالكيل، وفي الموزون بالوزن، وفي المعدود بالعد، والذهب والفضة موزونان.
وقوله عليه الصلاة والسلام: [ (ولا تشفوا بعضها على بعض) ] .
الشف: الزيادة أو النقص، والعوام يستعملونها، تذهب إلى الجزار وتقول: أبغى لحماً مشفياً، مشفي يعني: منقوص العظم، زائد اللحم (لا تشفوا بعضها على بعض) ، لا تقل: هذا مصنوع ومصوغ ودقة صفتها وصفتها، وهذا قديم ومكسر ويبغى له صياغة من جديد، لا تشفوا الناقص المكسر القديم على وزنه بالجديد أبداً، تبغى ذهباً بذهب مثلاً بمثل، وما تبغى مثلاً بمثل فبع هذا الذهب بفضة، واشتر ذاك الذهب الثاني بفضة، وتكون الفضة هي الوسيط، وبين الذهب والفضة لا ربا في الزيادة، ولكن يداً بيد.
وقوله عليه الصلاة والسلام: [ (ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل) ] .
الورِق والورَق أو الوَرْقُ: هو النقد من الفضة خاصة {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ} [الكهف:19] سبحان الله! يا إخواني! كم استوقفتني كلمة (هذه) ، فالورِق هو عملة، فالأصل أن يقولوا: ابعثوا واحداً بالدراهم التي معكم لينظر لكم طعاماً ويشتريه، لكن التنصيص على (هَذِهِ) إعجاز القرآن أي: الموجودة معكم؛ لأنها هي مفتاح السر الذي سيكشف عنهم، فلما ذهب بتلك الورق التي معهم إلى المدينة، فالناس رءوا هذه العملة قديمة جداً، فسألوه: من أين هذه؟! فالعملة (هَذِهِ) هي التي كشفت عن سر أصحاب الكهف لأهل المدينة! إذاً: الورق هو الفضة نقداً.
وقوله عليه الصلاة والسلام: [ (ولا تشفوا بعضها على بعض) ] .
الفضة حكمها حكم الذهب في جميع التفصيلات السابقة، فإن كانت الفضة تبراً، أو مضروبة دراهماً، أو مصوغة حلياً، جديدة، قديمة، مكسرة، مغشوشة، سليمة، كله إذا كان فضة بفضة فهو مثل الذهب، وزناً بوزن يداً بيد.
وقوله عليه الصلاة والسلام: [ (ولا تبيعوا منها غائباً بناجز) ] ناجز أي: حاضر، فالصائغ عنده الحلية حاضرة، فلا يجوز لك أن تشتريها بدين لك على الصائغ، فهذا بيع حاضر بغائب، ولا يجوز التأخير، فمنع ربا الفضل في الفضة كما منع في الذهب، ومنع ربا النسيئة في الفضة كما منع في الذهب، فالذهب والفضة بنات خالة أو بنات عم.(197/6)
شرح حديث: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، ... )
قال رحمه الله: [وعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير بالشعير والتمر بالتمر) ] .
قدم المؤلف رحمه الله حديث أبي سعيد في الذهب والفضة؛ لأن أكثر ما يكون الربا، في المعاملات فيهما، ثم جاء بالحديث الثاني وفيه (البر بالبر) ، ما هو البر؟ أظنه معروفاً في العالم كله، ويسمى البر، أو الحنطة، أو القمح، وكل هذه كما يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: مترادفات على مسمى واحد، كما تقول: الأسد والغضنفر والهزبر وو الخ.
لكن بعض العلماء ينفي توارد الأسماء على مسمى واحد الذي هو الترادف، ويقول ابن تيمية رحمه الله: هناك سر، فإذا وجدت عدة أسماء لمسمى واحد؛ فكل اسم منها يختص بصفة في المسمى، إذا قلت: أسد، فهذا للجنس يشمل الصغير والكبير والمريض والمتعافي، وإذا قلت: هزبر، فمعناه أنه في حالة النشاط والقوة، وإذا قلت: غضنفر، فمعناه أنه ضخم وكبير، وهذا كله راجع لعين واحدة، ولكن روعيت صفاته، فكان لكل صفة اسم تشير إلى المعنى المنطلق منه.
فالحنطة والبر والقمح كلها أسماء لمسمى واحد، ويراعى فيها الجودة والنوعية، وربما أننا نعرف أربعة أو خمسة أصناف موجودة، إذاً: هذا الصنف من الحبوب سمه ما شئت: قمحاً، براً، حنطة، فإذا بيع بجنسه فيجب التماثل والتقابض، صاع بر مديني بصاع بر شامي، تفاوتت صفات كل منهما وخواصه، فيوجد نوع من الحنطة يسمى العرق إذا طحن وعجن صارت العجينة مثل المطاط، ونوع إذا سحبته قليلاً تقطع مثل الذرة، فالذرة ما لها عرق، والقمح له عرق، ويتفاوت، ومهما تفاوت في صنفه، أو في لونه، أو في حجمه، حبة كبيرة وحبة صغيرة، ما دام المسمى بهذه الاسم (حنطة بحنطة) ، فلا تباع الحنطة بالحنطة إلا مثلاً بمثل يداً بيد.
وأما الشعير فأعتقد أن العالم كله يعرف الشعير، ولكن كما يقول أهل الفلاحة: الشعير نوعان: شعير يسميه العامة شعير الحمير، وهو للعلف، وشعير يناسب كبار السن، يجعل لهم منه الخبز، فيكون ليناً سهل الهضم، ولا يكون معه إمساك عند كبار السن، ويدخل في الأدوية، فمهما كان صنفه شعير بشعير، أمريكي فرنسي للعلف أو للأكل، فكله شعير، ومالك رحمه الله يجعل -في الربويات والزكاة- البر والشعير صنفاً واحداً، ففي الزكاة إذا كان عنده ثلاثة أوسق براً، ووسقان شعير، فقال: يكمّل بعضهما بعضاً؛ لأنهما جنسٌ واحد ويزكي.
والجمهور يقولون: لا، ما كمل عنده النصاب، هذا بر ثلاثة أوسق، وليس فيها زكاة، وهذا شعير وسقان وليس فيها زكاة، فلا زكاة عليه فيهما؛ لأن الحديث هنا ذكر الصنفين، ولو كان صنفاً واحداً لاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر.
إذاً: (البر بالبر والشعير بالشعير مثلاً بمثل) ، لكن لو بعنا البر بالشعير صاع بر بصاعين أو بثلاثة آصع شعير يجوز بشرط أن يكون هاء وهاء، يداً بيد، فإن قال: خذ البر واذهب وأعطني الشعير، لا يجوز، بل يكون كلاهما حاضراً: (ولا تبع ناجزاً بغائب) .(197/7)
الربا في التمر
قال عليه الصلاة والسلام: (والتمر بالتمر) ، التمر تتعدد أصنافه، وبعض من كتب عن تمر المدينة قديماً أوصله إلى مائتي صنف، وسمى كل صنف ووصفه، ومن الأسماء المشهورة: الحلوة، والحلية، والبرني، والشلبي، والصفاوي، وما لم يعرف له اسم عند الناس يسمى لونة، أو الجمع المختلط من عدة أشكال، فلو باع صاع تمر صفاوي بصاع تمر حلية فيشترط التماثل والتقابض، وتمر الحلية، تمر صغير، إذا يبس صار مثل الخشب، ولكن إذا لان فهو أقوى أنواع التمر طاقة مع الحلاوة، وأقوى أنواع العلف للحيوانات، وتمر الحلية قيمته ضعف تمر الحلوة، ولا يستوي هذا مع هذا، والآن بعض أنواع التمور الكيلو بمائتين ريال، وبعض منها بعشرة ريالات أو بسبعة ريالات، فلو قال إنسان: كيف أبيع هذا بهذا مثلاً بمثل؟! يا أخي! بع تمرك الجيد بالدراهم، بع الصاع بدراهم، واشتر بقيمة الصاع الواحد عشرين صاعاً من هذا، ولا يوجد مانع، تغاير الثمن عن المثمن فجاز التفاضل.
إذاً: التمر بالتمر قضية عامة، وسيأتي حديث تمر خيبر الجنيب: (أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا، إنا نأخذ الصاع بالصاعين) ، وذلك كما يقول ابن عبد البر: كنا نرزق التمر، فنبيع الصاعين بالصاع، فنهينا عن ذلك، وسيأتي له زيادة بيان.
إذاً: التمر بالتمر أياً كان نوعه من المائتي صنف، إذا كان التمر ثمناً ومثمناً فلا بد أن يكون بالكيل سواء بسواء، وما كان يباع بالكيل عرفاً فلا يجوز بيعه بجنسه وزناً، والتمر مكيل أو موزون؟ الأصل فيه أنه مكيل، ويرجع في معرفة المكيل والموزون إلى عرف مكة والمدينة، فما كان مكيلاً في المدينة فعرفه الشرعي الكيل، وما كان موزوناً في مكة فعرفه الشرعي الوزن، فالتمر بالتمر مثلاً بمثل، وعرف التمر الكيل، فإذا أخذنا أحسن صنف من التمر في صاع ووضعناه في كفة، وأخذنا أردأ أنواع التمر في صاع ووضعناه في كفة أخرى، فهل يكون هناك زيادة في الحجم المكعب بين الصنفين أو يكونان متساويين؟ متساويين مثلاً بمثل، لكن إذا غايرنا العرف فيه، وبعنا كيلو بكيلو، فهل يتفق الحجم المكعب في كيلو تمر الصفاوي مع الشلبي الذي هو خفيف أو الحلية الذي هو أثقل؟ هل يتفق التماثل في الحجم المكعب؟ لا، ما يتفق، إذاً: هل حصلت المثلية؟ لا، والجهل بالمساواة كالعلم بالزيادة؛ ولهذا لا يجوز بيع صنف ربوي بجنسه إن كان مكيلاً إلا بعرفه الكيل، وإن كان موزوناً فبعرفه الوزن، فإذا غايرنا العرف، اختلف المقدار، ودخلنا في الجهالة بالمساواة، والجهالة بالمساواة كالعلم بالزيادة؛ لأننا نقطع بأن هناك زيادة، إذاً: التمر بالتمر مثلاً بمثل، وتعرف المثلية فيه بالكيل، ويكون الحجم واحداً، ولكن العرف يختلف، وباختلاف العرف يتفاوت الحجم، فالتمر بالتمر مثلاً بمثل بالكيل؛ لأن عرفه الكيل.
والذهب يوزن ولا يكال، فلو وضعت ذهباً مكسراً قدر نصف صاع، وقلت: أعطني ذهباً جديداً نصف صاع، هل يتعادل الذهبان؟ لا يتعادل، لو وضعت حلقات وخواتم قدر نصف صاع، ووضعت ذهباً آخر مصوغاً ومكسراً قدر نصف صاع، فهل حصلت مماثلة بالكيل أو لا؟ لا؛ لأن الذهب يتماثل بالوزن.
إذاً: لا يجوز بيع الصنف بالصنف بغير عرفه، فلا يجوز بيع الصنف الربوي المكيل بصنفه موزوناً، ولا الموزون مكيلاً؛ لأن اختلاف عرف التقدير يأتي بالزيادة، ويأتي بالربا.(197/8)
الربا في الملح
قال عليه الصلاة والسلام: [ (والملح بالملح) ] .
الملح عظيم القدر، حتى ذكر مع الذهب والفضة، ومع البر والشعير والتمر، ولا غنى لأحد عن الملح، لكن إذا زاد يفسد، والملح قسمان: ملح جبلي، وهو معدني.
وملح بحري.
وما كل بحر يخرج منه الملح، فمياه البحار فيها العديد من الأملاح، وبحيرة لوط خاصة فيها أنواع من الأملاح، وملح الطعام يؤخذ مما يسمونه الملاحة، وهي بقاع من الأرض يتجمع فيها الماء، وغالباً تكون الأرض سبخة مالحة، فإذا طفح الماء من منبعه، وامتلأت الحفرة، ترك الماء يتعرض للشمس، وتبخر الماء وترسب الملح، فيجمع ويكوّم ويجفف ويعبأ في الأكياس وينزل به إلى الأسواق، هذا ملح مائي، وليس معناه أن تذهب إلى البحر الأحمر وتستخرج ملح الطعام مباشرة، لا يوجد، وإن وجد فبمقدار قليل مع أملاح أخرى (صوديوم وفسفور وفسفات) ، وكل هذه يمكن استخراجها من المحيطات، ولكن ملح الطعام إما يستخرج من منقع ماء في أرض سبخة وإما من معدن في جبل، وفي أفريقيا بعض الجبال فيها عرق الملح، كما يوجد فيها عرق الذهب، وعرق الفضة، وعرق النحاس، كما يوجد فيها أحجار تحمل كحل الإثمد، تجد حجرة مثل الليمونة أو البرتقالة وفيها كحل العين، لا يكون فيها طين أو تراب، بل يكون فيها كحل من أجود أنواع الإثمد، مطحون وجاهز.
والملح المعدني يدق؛ لأنه حجر مثل الرخام، وكيفية استعماله: أن يكسر منه قطعاً مثل علب الكبريت مثلاً، وتضعها في الماء، وتحركها في الماء حتى يستحلب منها الملح، كما أنه إذا وضع الملح في الماء فإنه يذوب نهائياً، سواء كان ملحاً معدنياً أو ملحاً مائياً.
وهل الملح يكال أو يوزن في العرف؟ يكال، فإذا أردت أن تبيع ملحاً بملح ولو معدني بمائي فالجنس واحد، فيشترط التماثل والتقابض كما في أجناس البر وأجناس التمر، وكذلك الآن الرز أصناف، بل قالوا: فيه رز صناعي ورز نباتي، والذي يدخل في الربا الرز النباتي، لا الصناعي، ويهمنا هنا قوله: (والملح بالملح مثلاً بمثل) ، فلا يجوز فيه الزيادة، ولا يجوز فيه التأخير.
وقوله عليه الصلاة والسلام: [ (مثلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد) ] .
(سواء بسواء) أي: متعادل (يداً بيد) ، وفي بعض الروايات: (هاء وهاء) (ها وها) ، (هاك وهاك) ، وهذه اسم فعل كما يقول ابن مالك: بمعنى: خذ، هات.(197/9)
القاعدة العامة في معرفة الربا
قال عليه الصلاة والسلام: [ (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم) ] .
هذا هي القاعدة العامة، فإذا اتحدت هذه الأصناف: ذهب بذهب، فضة بفضة، بر ببر، شعير بشعير، تمر بتمر، ملح بملح، وكان الثمن والمثمن من جنس واحد، فلا تشفوا بعضها على بعض، مثلاً بمثل، ويداً بيد، وإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم.
فإذا كان الثمن جنساً، والمثمن جنساً آخر، مثلاً: باع ذهباً بفضة، فهل اتحد الجنس أو اختلف؟ اختلف، وهكذا: باع تمراً ببر اختلف، فإذا اختلفت هذه الأجناس، وأصبح المبيع يغاير الثمن، والثمن يغاير المبيع، وإن كان كلاً منهما ربوي، وإن كان كلاً منهما من الأصناف الستة؛ (فبيعوا كيف شئتم) ، بمعنى: صاع بصاعين، صاع بعشرة، لا يوجد مانع، ولكن بقيد: يداً بيد، (فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) ، فإذا كان عندك البر، وعنده التمر، واشتريت التمر ببر، ويمكن التمر يكون أحسن، والصاع فيه بصاعين بر أو بالعكس كما فعل معاوية، نصف صاع يعادل صاعاً، فهل يجوز أن تبيع البر نصف صاع بصاع تمر إلى بعد يوم؟ لا، ولا يؤخر دقيقة، ولا بد أن يكون الصنفان موجودين، خذ وهات.
إلى هنا إن شاء الله يكون قد اتضح لنا صور بيع الربويات الست بعضها ببعض إذا اختلفت أجناسها، ثم بعد ذلك تبقى عندنا مسألة: هل يقتصر الحكم على هذه الأصناف الستة أو يلحق بها غيرها؟ وإذا كان يلحق بها غيرها، فبأي علة يكون الإلحاق؟ سنتكلم على هذا في الدرس القادم.
وبالله تعالى التوفيق.(197/10)
كتاب البيوع - باب الربا [2]
اتفق أهل العلم على جريان الربا في الذهب والفضة؛ وفي البر والشعير والتمر والملح، واختلفوا في علة الربا فيها؛ ولهذا اختلفوا في الأشياء التي تلحق بهذه الأصناف الستة، ومعرفة خلافهم، ومآخذ أقوالهم، تدرب الطالب على التفقه، وتمرنه على الاجتهاد، فحري بطالب العلم أن يهتم بهذا الباب.(198/1)
شرح حديث: (الذهب وزناً بوزن ... )(198/2)
أنواع الربا
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب وزناً بوزن مثلاً بمثل، والفضة بالفضة وزناً بوزن مثلاً بمثل، فمن زاد أو استزاد فهو ربا) رواه مسلم] .
تقدم الكلام على الربا في الأصناف الستة المتقدمة: الذهب، والفضة، والبر، والشعير، والتمر، والملح، وتبين لنا أصول الربويات، وأن الربا يدور على أصله الحقيقي وهو الزيادة، وموضوعه كما قسمه الفقهاء: ربا الفضل.
وربا النسيئة.
فربا الفضل: هو الزيادة، إذا بيع جنس بجنسه وحصلت زيادة في أحد الطرفين، مثلاً: تمر بتمر صاع بصاع وزيادة درهم مع أحد الصاعين، فهذا هو ربا الفضل.
والنسيئة: صاع بصاع، لكن يقول: آخذ صاعك اليوم، وأرد إليك صاعي الذي هو الثمن غداً، هذا هو ربا النسيئة.(198/3)
هل يجري الربا في غير الأصناف الستة؟
نذكر مسألة كثر الخلاف فيها، واختلفت المذاهب في القول بها: هل الربا مقصور على هذه الأصناف الستة أم أنه يدخل في غيرها؟ أو بمعنى علمي: هل يلحق بها غيرها أم لا؟ وإذا كان غيرها يلحق بها فبأي مبدأ؟ وبأي علة؟ لأن القياس عند العلماء: هو إلحاق مسكوت عنه بمنطوق به لعلة جامعة، كما أنهم ألحقوا كل مسكوت عنه من المسكرات بالخمر، بجامع علة الإسكار، فالتحريم جاء نصاً في الخمر، ثم ألحق الفقهاء به كل مسكوت عنه، بأي اسم كان، إذا وجدت علة تحريم الخمر في ذاك المسكوت عنه، وعلة الخمر الإسكار، فإذا وجد الإسكار في العسل أو في اللبن أو في أي ثمرة ألحقت بالخمر في التحريم، وهذا أمر متفق عليه.
إذاً: إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به يحتاج إلى رابط، ويحتاج إلى قرابة، ويحتاج إلى صلة نسب بين المسكوت عنه والمنطوق به، فهل يلحق بتلك الأصناف غيرها أم لا؟ وإذا كان يلحق بها غيرها فما هي العلة؟ ذهب داود الظاهري إلى أن المنصوص عليه في الربويات لا يلحق به غيره، وأن أي نوع من الحبوب غيرها من المطعوم أو المكيل أو الموزون أو المدخر أو غيره لا يلحق بالربويات، والربا لا يكون عنده إلا في هذه الأصناف الستة المنصوص عليها فقط، وهذا قول انفرد به عن جمهور العلماء، وعامة علماء المسلمين يلحقون غير المنصوص عليه به، وما هي؟ وبأي شيء يكون الإلحاق؟ قالوا: توجد علة يلحق بها المسكوت عنه، وهذه الست الأصناف نماذج، وكأنها تنبيه بالأخص على الأعم.(198/4)
العلة الربوية في الأصناف الستة
الذهب والفضة هما المصدر بهما نصوص الربا، ما هي العلة في كونهما ربويين؟ وإذا وجدت فيهما علة فهل هي قاصرة عليهما أم تتعدى إلى غير الذهب والفضة؟ الجمهور على أن علة الذهب والفضة في الربا علة قاصرة، أي: لا تتعدى محلها؛ ولهذا لا يقاس على الذهب والفضة موزون من المعادن الأخرى، وما هي العلة القاصرة؟ قالوا: هي ثمن المبيعات، وقيمة المتلفات.
فالذهب والفضة ليسا سلعة، ولكن لها مهمة وهي الثمنية، فلكون الذهب والفضة ثمنية فلا ينبغي أن تدخل في البيع والشراء والزيادة والنقص، هذا على أنها عملة والعلة الثمنية، فلا نتحكم فيها بيعاً وشراء وتكون خالصة من الربا والزيادة.
إذاً: الذهب والفضة عنصران ربويان لا يقاس عليهما.
فإذا كان ذهبٌ ومعدن آخر: نحاس، أو قصدير، أو زنك، أو برونز أو أي نوع من أنواع المعادن، فإذا بيع ذهب بتلك المعادن وزناً بوزن فهل ينبغي فيه المساواة في الوزن؟ قالوا: لا؛ لأن الذهب ليس سلعة بل هو ثمن وقيمة؛ ولذا علة الربا فيه قاصرة عليه.
وهل يجوز أن نبيع الموزونات الأخرى غير الذهب والفضة جنسها بجنسها؟ قالوا: نعم، والعلة في الذهب والفضة هي الثمينة.
وقيل: الوزن، ومن قال بأن العلة هي الوزن قال: كل موزون يدخل فيه الربا، وإذا جعلنا الذهب والفضة علتهما قاصرة عليهما وهي الثمنية فلا ربا في الموزونات.
نأتي إلى الأربعة الأصناف الأخرى المذكورة، ما هي الصفات المشتركة بينها؟ تمر، بر، شعير، ملح، نؤخر الملح، فهذه الثلاثة: تمر، بر، شعير، ما هو الوصف الذي يشترك بينها؟ أولاً: الكيل؛ لأنها كلها تقدر كيلاً، إذاً: الكيل جزء من علة الربا.
ثانياً: الطعم.
وهل الطعم في التمر والبر والشعير كالطعم في التفاح والخوخ؟ ثالثاً: الاقتيات، إذاً: يكون مطعوماً مقتاتاً، فالتمر والبر والشعير موزون مطعوم مقتات، وهل يوجد وصف آخر أم لا؟ الادخار، ممكن أن ندخر التمر والشعير والبر سنة أو سنتين بخلاف التفاح والخوخ، فالفواكه إذا لم تكن في الثلاجة، أو وقف الكهرباء فسدت، فهي لا تدخر.
إذاً: هناك من قال: العلة في الربويات الثلاثة الموجودة مع الذهب والفضة هي الكيل، فقال: كل مكيلٍ بيع بجنسه فهو ربوي، وجماعة زادوا وقالوا: ليست العلة الكيل وحده، بل العلة كونه مكيلاً مقتاتاً، والمقتات يتضمن المطعوم، وجماعة زادوا في العلة الادخار مع الكيل والاقتيات، فاختلف اجتهاد الفقهاء في اعتبار العلة المشتركة بين الأصناف الثلاثة، فما وجدت العلة فيه مما لم يسم ألحق بها قياساً.
فمثلاً: الدخن والذرة غير منصوص عليهما، وهل توجد في الدخن والذرة علّة جامعة مع الثلاثة المذكورة؟ كلاً من الدخن والذرة مكيل وقوت ويدخر، إذاً: لا فرق بينها، فتلحق بالأصناف الستة، فبعضهم ألحق المسكوت عنه بجامع العلة، وبعضهم قال: هناك غير العلة، وهي تقارب المنفعة.
فمثلاً: الزبيب ليس من الستة الأصناف، لكن قال: إن الزبيب يشارك التمر في المعنى، فما الفرق بين التمر والزبيب؟ كلاهما حلو، ويكال، ويقتات، ويدخر، فقال: أنا لا ألحق بالقياس، بل ألحق بالاشتراك في المعنى، وتوسعوا في هذا، وأجروا الربا في اللحم باللحم، مثل: لحم الإبل بلحم الغنم؛ لأنه قريب منه في المنفعة، إذاً: من عمل بالقياس ألحق كل ما لم يذكر بما ذكر إن وجدت فيه العلة، واختلفوا في معرفة العلة ما هي؟(198/5)
مذهب الأحناف والحنابلة
قال الحنابلة: العلة هي الكيل، حتى أجروا الربا في الأشنان، والأشنان نوع من النبات ينبع على مجاري المياه، كان يغسل به الصوف دون الصابون؛ لأنه يذهب عنه الأوساخ والآكلة، ولا يوهن الصوف، فهو نوع من النبات، لكنه يباع بالكيل.
وألحقوا بالأصناف الستة الحناء، فإنه إذا دق ورق الحناء صار مثل الدقيق، والعرف فيها الكيل، فقالوا: إذا بيع حناء بحناء فالعلة الكيل، فيمنع الربا فيها بجامع الكيل، واستدلوا بما جاء عند ابن حبان: (كل ما يوزن مثلاً بمثل، وكذلك الكيل) .
وبهذا أخذ الحنابلة والأحناف.
ومن العلماء من قال: العلة هي: الطعم مع الكيل؛ لحديث: (الطعام بالطعام مثلاً بمثل) ، وكان طعامهم يومئذ الشعير، ولكن اللفظ: (الطعام بالطعام) أنتم طعامكم الشعير، وهناك في مكة طعامهم البر، وهناك في أندنوسيا طعامهم الأرز، وهناك في أفريقيا طعامهم اللوبيا، إذاً: الطعام في كل مكان بحسبه، ولفظ الطعام عام، ولا نخصصه بطعامهم يومئذٍ، هذا طعامكم أنتم، لكن طعام غيركم غير هذا.
إذاً: علة الربا، وإلحاق غير المنصوص عليه، اختلفوا فيه اختلافاً كثيراً، فمن استقرت عنده علّة الربا، ثم وجدها في غيرها ألحقه بها، فبعضهم عنده العلة الكيل والوزن فقط لحديث ابن حبان: (كل موزون مثلاً بمثل، وكذلك الكيل) يعني: وكذلك كل مكيل؛ ولهذا اقتصر الحنابلة على أن العلة الكيل فقط.(198/6)
مذهب المالكية
المالكية عندهم أن العلة هي أن يكون قوتاً مدخراً، فإذا بيع الجنس بجنسه كيلاً أو وزناً، وكلاهما قوت مدخر فيجري فيهما الربا إلا مثلاً بمثل يداً بيد.
وهناك من يقول: نلحق بالمنطوق به كل ما كان زكوياً، فما هي الحبوب التي تزكى؟ هل التفاح يزكى؟ لا، هل التفاح يكال أو يوزن؟ عرفه العدد، والآن صار الناس يوزنون كل شيء، ذكر العلماء القدماء أن مما لا يكال ولا يقتات الفواكه، وابن قدامة يقول: التفاح والفرسك والخوخ والمشمش والكمثرى والخيار ليست مكيلة، وليست مدخرة، هي مطعومة ولكن ليست مدخرة.
قيل: إن العلة هي الكيل والوزن كما جاء التنصيص عليها في بعض النصوص، وهي موجودة بالفعل في هذه المسميات الست، ومالك ألحق بالمطعوم ما يصلح المطعوم وهو الملح، فالملح ليس قوتاً لكنه مدخر ومكيل، اجتمعت فيه العلتان.
إذاً: لا تبع مكيلاً بمكيل مدخراً بمدخر إلا مثلاً بمثل، يداً بيد، والملح ولو لم يكن قوتاً فبه صلاح القوت.
الحنابلة يردون -كما يذكر ابن قدامة في المغني- على مالك في قوله: بإصلاح القوت، ويعترضون عليه بالحطب، فالإدام يصلحونه بالحطب والنار، لكن هذا ليس لإصلاح ذات الطعام، بل لإنضاجه، لكن الملح في الطعام يكون جزءاً منه، وألحقوا به التوابل التي تدخل في الطعام، إذاً: قضية الربويات فيما عدا المنصوص عليه بحرٌ لا ساحل له.
وكلٌ من الأئمة رحمهم الله ألحق من غير المسميات ما وجدت فيه العلة التي استقرت عنده، والعلة دائرة بين المقدار الذي هو الكيل والوزن، مكيل بمكيل، موزون بموزون، وبين الأوصاف الأخرى الموجودة في المنصوص عليها، أن تكون قوتاً ومدخراً، وعلى هذا فيجري الربا بلا خلاف عند الجمهور في الدخن والذرة والأرز.
والسمسم قوت، ويحكى أن جماعة أضافهم ناس، فقدموا لهم صحن عسل وصحن سمسم، وهم غير عارفين بطبيعة أهل البلد! فرءوا طفلاً صغيراً فقالوا: تعال تعال كل، فجلس الطفل الصغير، وغمس أصبعه في العسل، ثم في السمسم ولحسه، فقالوا: بس! قم، قم، كلم أمك! فهو قوت.
وبذر القطن يعصر ويخرج منه زيت، ولكن ليس قوتاً، وحينما نعصر البذرة، وأصبح عندنا زيت، فالزيت مكيل أو موزون؟ الأصل فيه الكيل، وكذا السمن وجميع السوائل الأصل فيها الكيل، فأصبح عندنا الزيت مكيلاً، وأصبح مدخراً، فيدخل في أنواع الربويات، فلو بيع زيت بذرة قطن بزيت بذرة قطن وجب الحلول والتقابض والتساوي.
وإذا بيع زيت بذرة القطن بزيت الزيتون، فهل اتحد الجنس أو اختلف؟ اختلف، (بيعوا كيف شئتم) ، فلا يلزم فيه التساوي، ويلزم التقابض؛ لأن كلاً منهما دهن، ويدخلان في علة المقدار التي هي الكيل والادخار.
والتفصيل بالجزئيات في أنواع الربويات لا يمكن حصره، ولكن الإلحاق موجود عند الأئمة الأربعة، وما امتنع من الإلحاق إلا داود الظاهري؛ لأنه لم يقل بالقياس.(198/7)
الحكمة من تحريم الربا في المطعومات
الإلحاق يكون بالعلة، كما ألحقنا كل مسكر بالخمر لوجود علة الإسكار فيه، وهنا يقول ابن رشد في البداية: وصف الطعم يدل على اشتقاق العلة، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (الطعام بالطعام) ، فوصفه بكونه طعماً يدل على أن العلة هي الطعم، كما في قوله سبحانه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] ، علة القطع هنا هي السرقة؛ لأن الحكم تعلق بوصف وهو السارق، والسارق اسم فاعل يشتق من سرق يسرق فهو سارق.
إذاً: (الطعام بالطعام) دلت كلمة الطعام على علة الربا كما أن كلمة السارق دلت على علة القطع، وكذلك قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور:2] ، فوصف الزنا في الطرفين هو علة الجلد، إذاً: الطعم علة في الربا لقوله: (الطعام بالطعام) .
والذين يقولون: ما خرج عن الأصناف الستة يلحق بها بعلة الكيل والجنس، قالوا: أصل الربا في اللغة هو الزيادة، ولما كانت زيادة الجنس على الجنس غبن، فإذا وجد في المكيل من غير المسميات -مثل الأشنان والحناء- فالعلة واحدة، والأصل حفظ الأموال وعدم الغبن، فيجب أن يكونا متساويين في الفائدة وفي النتيجة، فكيف أعطيك صاع حناء وتعطيني صاعاً إلا ربع؟! لماذا تغبني في ربع الصاع هذا؟ فما دامت متساوية في المنفعة فيجب أن تكون متساوية في المقدار؛ ولذا ذكر ابن رشد قاعدة تبين الربا، وهي أن ما خرج عن قانون الربا مما ليس بربوي، فتكون القيمة بين المبيع والمشترى، لو أن كلاً منهما سلعة بنسبة آحاد هذا الصنف في جنسه مع نسبة آحاد الجنس الثاني في جنسه، ويمثل ويقول: مثلاً: نشتري فرساً بثياب، فالثياب ليست ربوية، والفرس غير ربوي، فيصح أن نشتري الفرس بمائة ثوب، بمائتين ثوب، بعشرين ثوباً، ولكن ما الذي يقدر قيمة الفرس بعدد الثياب؟ قالوا: النسبة، أي: نسبة هذا الثوب الواحد في جنسه كنسبة الفرس الواحد في جنسه، فإذا تحققت النسبة ارتفع الغبن، هذا الفرس في جنسه كم يساوي؟ مثلاً يساوي ألف ريال، وهذا الثوب في جنسه كم يساوي؟ قالوا: عشرة ريال، إذاً: نسبة الفرس في الأفراس ألف ريال، ونسبة الثوب في الثياب عشرة ريال، فكم ثوب نقدر للفرس حتى لا يحصل غبنٌ؟ مائة، إذاً: نأخذ الفرس بمائة ثوب، ولو أخذناه بمائتين يحصل غبن، لو أخذناه بخمسين يحصل غبن، إذاً: النسبة التقديرية بين غير الربويات ترجع إلى المساواة، وترفع الغبن.
إذاً: إذا كان المبيع جنساً واحداً فما الذي يرفع الغبن؟ التساوي، كيل بكيل، وزن بوزن، فلا يحصل غبن، ستقول: هذا جنس جيد، وهذا جنس رديء، إن بعناهما متماثلين وقع الغبن فيما هو فرق بين الجودة والرداءة، فنقول: سد هذا الباب، وبع الجيد بدراهم، واشتر بالدراهم الرديء، أو العكس بع الرديء بدراهم، واشتر بالدراهم الجيد، وفي تلك البيعتين لا غبن؛ لأنك ستبيع الرديء بنسبته من جنسه بالثمن المتعادل، وتشتري بالدراهم التي عندك الجيد بنسبته من جنسه بالدراهم، وانتفى الغبن في الصفقتين.(198/8)
شرح حديث النهي عن بيع التمر بالتمر متفاضلاً
قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا؟ فقال: لا.
والله يا رسول الله! إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعلوا، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً، وقال في الميزان مثل ذلك) متفق عليه، ولـ مسلم: (وكذلك الميزان) ] .
نعلم جميعاً أن خيبر فتحت عنوة، وأنها أصبحت للمسلمين، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أبقى اليهود فيها يعملونها على جزء من الثمرة، وأصبحت معاملة عند المسلمين تسمى المخابرة، وهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر في بلدهم، وكان صلى الله عليه وسلم يرسل إليهم ابن رواحة يخرص عليهم التمر، فيلتزمون بحصة المسلمين، ويأخذون حصتهم، فالعامل بمعنى الأمير، بمعنى الوكيل، بمعنى النائب، عامل رسول الله في خيبر، يعني: نائبه في إدارتها، والحكم فيها، وما يتعلق بشئونهم دنيوياً ودينياً.
إذاً: كان صلى الله عليه وسلم قد نظّم أمور الدولة، وأقام العمّال، ونظم الجباية، ورتب الإدارات، كما قيل: التراتيب الإدارية في الدولة المسلمة الفتية، هذا العامل سواء كان أميراً أو قاضياً أو حاكماً أو غير ذلك جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر جيد، فلما نظر إليه صلى الله عليه وسلم قال: (أكُلّ تمر خيبر هكذا؟) ، وهذا مما ينبه عليه العلماء: أن ولي الأمر يجب أن يتفقد الولاة والعمال، كيف جاء العامل بهذا التمر؟ هل كل تمر خيبر هكذا أو أنه تصرف؟ فتبين أن العامل قد تصرف، فقال: لا والله! يا رسول الله! ما كل تمر خيبر هكذا، إنا لنشتري الصاع من هذا الجيد بالصاعين من دونه، أو الصاعين بالثلاثة، يعني: متفاضلاً، إذاً: نشتري الجنس بجنسه كيلاً مطعوماً مقتاتاً مدخراً مع التفاضل.
فماذا قال صلى الله عليه وسلم؟ (لا تفعل) ، لا تفعل ماذا؟ أن تشتري الجنس الواحد بجنسه متفاضلاً، هل تبغى تشتري جنساً بجنسه؟ يجب أن يكون متساوياً، وأما الجودة والرداءة فحلها آخر، وليس في الإسلام طريق مسدود أبداً، عندك السوق، بع الرديء بنقد، فيحصل في يدك النقد ثمناً للرديء، وانقطعت العلاقة بالرديء، وأصبح في يدك نقد ثمنه، فتذهب إلى السوق وتشتري جيداً بالنقد، وأصبحت الصفقة الثانية بين الجيد والنقد، ولا علاقة للصفقة الثانية بالرديء الأول، وإن كان النقد ثمناً لها؛ لأن ببيع الرديء بالدراهم انقطعت علاقة الرديء، ونستأنف علاقة جديدة بالدراهم التي بأيدينا.
إذاً: هذا خروجٌ من مأزق فوارق الجودة والرداءة.
وقوله: (وقال في الميزان مثل ذلك) ؛ يعني: لأن التمر مكيل، فكأنه قال: كل مكيل بيع بجنسه متفاضلاً لا يجوز، ماذا أفعل؟ بع بالتساوي، وإن كان فرق في الجودة والرداءة فبع بالنقد واشتر بالنقد، وكذلك افعل في كل ميزان، وليس المراد بكلمة ميزان هنا: الآلة التي نزن بها؛ لأنها آلة مصنّعة لا ربا فيها، ولكن المراد: وكذلك الموزون بالميزان.
تكلمنا على حديث التمر الجنيب إجمالاً، وهناك مباحث في هذا الحديث فيما يتعلق بالأحكام الفقهية في تلك الصفقة، وهذا الحديث يبين بصفة عامة أن الجنس بجنسه لا بد أن يكون متماثلاً متساوياً ويداً بيد، فهذا الذي استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: لا يجوز شراء التمر الجنيب صاعاً بصاعين من الجمع، والجمع يقال: إنه مجموع أصناف مجهولة الاسم، وغالباً ما تكون تلك الأصناف مجهولة الاسم قليلة الجودة عن المعروف المتعين باسمه، وكما نشاهد الآن في المدينة الشيء الفاخر الجيد معروف اسمه، يقول لك: صفاوي، شلبي، سكري، ومثله تمر الإخلاص المعروف في الإحساء، فالتمور الجيدة محافظة على اسمها ومعينة عند الناس، لكن التمور التي غير متميزة قد يكون لها اسم ولكن لا يحفظ.
فكونه اشترى صاعاً جنيباً جيداً بصاعين أو صاعين بثلاثة، لا يجوز، والرسول صلى الله عليه وسلم عاب ذلك وقال: (لا تفعل) لا تفعل في هذه الصفقة، أو لا تفعل في المستقبل، (ولكن بع الجمع بدراهم، واشتر بالدراهم جنيباً) .
إذاً: هذا منهج للتعامل بين الرديء والجيد، وإذا كنا لا نقبل أن نتبادل جيداً برديء مثلاً بمثل؛ لأنه غير معقول، عندي تمر من أجود ما يكون، وتعطيني تمراً أردأ ما يكون، وتقول: مثلاً بمثل، أعطني صاعاً بصاع! أنا غير معطيك، فكيف نفعل؟ صاحب التمر الرديء يريد أن يأكل تمراً جيداً، فليعمل بهذا المنهج، وهو أن تدخل القيمة وسيطاً بين الرديء والجيد، بع الجمع بدراهم، وبعد أن أخذت الدراهم ثمناً للجمع اشتر بالدراهم جنيباً جيداً، ويكون هناك انفكاك بين الصفقة الأولى في الجمع، وبين الصفقة الثانية في الجنيب.(198/9)
هل أبطل النبي صلى الله عليه وسلم البيع الربوي قبل العلم بالحكم الشرعي؟
سؤال يبحثه العلماء: إذا كانت تلك الصفقة الصاع بصاعين لا تجوز، فهل أبطل النبي صلى الله عليه وسلم تلك الصفقة، ورد الرجل الجنيب واسترجع الصاعين من الجمع أم سكت عن تلك الصفقة وكان التنبيه لما يستقبل؟ التحقيق في ذلك أن الأحكام قبل التشريع تمضي، والحكم بعد صدوره يكون للمستقبل، وكما يقول الأصوليون: ليس للأوامر رد فعل عكسي، إنما تكون للمستقبل، ولا ترجع على الماضي، فالماضي مضى بما كان.
والنظم والقوانين والتشريعات إنما تكون من صدورها إلى ما بعد، وهذا هو نص القرآن الكريم، وخاصة في الربويات، فتقدم لنا في دراسة الربا نص القرآن الكريم: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة:275] ، يعني الربا الذي حصل عليه قبل مجيء الموعظة له، ما طالب المرابين أن يردوا الربويات على أصحابها، ولكن تركها لهم؛ لأنه ما كان هناك تشريع، ولا كان هناك نهي، فهم أكلوها على مبدأ التعامل عندهم، ثم جاء النهي وتبين الواقع: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ} [البقرة:279] من الآن {رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة:279] .
إذاً: يحرم الربا بعد الموعظة، فما كان قبل الموعظة ترك لهم، ومما يثبت تعميم هذا الحكم أو هذه القاعدة بأن الأوامر للمستقبل أو أن ما وقع قبل الإعلام أو قبل التشريع يترك ما جاء عن عمر رضي الله عنه أنه أتي بنكاح شهد عليه رجل وامرأتان، والأصل في الشهادة شاهدا عدل ممن ترضون من الشهداء، أما قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا} [البقرة:282] فهذه لا دخل لها في النكاح والطلاق والدماء، ولكن في الأموال تجوز شهادة رجل وامرأتين، ولما كان الأمر كذلك فماذا يفعل عمر؟ قال: لو كنت سُبقت أو سَبقت؛ لرجمت.
لو كنت سُبقت على ما أعلم بالتنبيه ممن سبقني سواء كان عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه، أو لو كنت سَبقت بالإعلام بعدم صحة النكاح برجل وامرأتين، لو كنت أعلنت ذلك بين الناس، وسبق العلم بمنع هذا، ثم فعل بعد العلم؛ لرجمت؛ لأنه يكون فعل بعد العلم، وإصرار على المخالفة، لكن كانت الشبهة قائمة: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة:282] ، فهم عمموا الحكم في الأموال وفي الفروج، وربما يجعلوها حتى في الدماء، فـ عمر رضي الله تعالى عنه لما لم يكن هناك علمٌ منتشر سابق بمنع الشهادة في النكاح برجل وامرأتين -أي: بعدم إدخال النساء في الشهادة في النكاح والطلاق- عذر هؤلاء، ولم يجعل لهذا الفعل أو هذا النهي رد فعل سابق، وأمر بتجديد العقد؛ لأن العقد تبين أنه باطل، وهل عاقبهم نتيجة لبطلان العقد لأنهما كانا زانيين؟ لا، بل من الآن، فكذلك هنا، وإن كان بعض الناس يقول: الرسول أمره برد ذلك، لكن الآخرين يقولون: لم يثبت هذا، ونحن نقول: لا حاجة إلى البحث عن رد العقد الأول أو عن إبطاله، وأنه غير جائز شرعاً ونقول: إنه قد وقع قبل العلم، وما وقع قبل العلم وقبل التشريع فإنه يترك كما في كتاب الله: {فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة:275] ، ثم تكون قاعدة عامة في جميع العقود التي صدرت، وكان الجهل يحتمل فيها؛ لأن هناك أشياء لا يعذر أحدٌ بجهله، فبعد حادثة عمر لو عقد أحد بشاهدٍ وامرأتين هل نقبل منه؟ هل نقول: لم نسُبق ولا سَبق العلم، ولا نعاقبه؟ لا.
هذا ما يتعلق بحكم الصفقة الأولى، وقد وقعت مغايرة للحكم الشرعي، ومضت على ما مضت عليه ويستأنف العمل الجديد بما بعد هذا الإعلام.(198/10)
كتاب البيوع - باب الربا [3]
حرم الله أكل أموال الناس بالباطل؛ لما يترتب عليه من المفاسد الكبيرة على الفرد والمجتمع، وقد جاء الإسلام ليُتمِّم مكارم الأخلاق، وظلم الناس في أموالهم ينافي ذلك؛ ولهذا حرم الإسلام الربا وكل ما يفضي إليه من المعاملات المالية، وهي كثيرة وينبغي معرفتها للحذر والتحذير منها.(199/1)
شرح حديث: (نهى رسول الله عن بيع الصبرة من التمر…)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة من التمر التي لا يعلم مكيالها بالكيل المسمى من التمر) رواه مسلم] .
هذه صورة من صور الربا، وتقدم التنبيه على أن الربا بضع وسبعون باباً، فهو أبواب متعددة، فبيع الجمع بالجنيب نوع من الربا، ومن الربا بيع جنس بجنسه متفاضلاً كبر ببر، وهنا لا يوجد تفاضل في الجنس، فما هي الصبرة؟ الصبرة من كل شيء: المجموع المكوّم، تأتي مثلاً بكيس البر، وتفرغه في الأرض، ثم بكيس آخر، وآخر.
حتى يصبح بشكل هرمي من البر، وكذلك من التمر، فهذه هي الصبرة، والأصل في بيع الصبرة أن يكال، فنقول لصاحبها: أبغى صاعين.
أبغى ثلاثة، أبغى خمسة.
، ومالك ذكر في الصبرة أحكاماً عديدة، وقد نبهت سابقاً أن من أراد الجزئيات الدقائق جداً في الربا فليرجع إلى موطأ مالك، وإلى الباجي في شرحه.
نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع هذا الصبرة بجنسها كيلاً، مثلاً يقول الرجل: يا صاحب الصبرة! هذه الصبرة تمر أو بر؟ قال: تمر، فيقول: أشتريها منك بخمسين صاعاً، والزائد من الخمسين لي، والناقص علي؛ لأنه لا يمكن أن نحكم أن الصبرة خمسين صاعاً ما تزيد تمرة ولا تنقص، فتحتمل الزيادة والنقص، فيقول: آخذها على حظي، آخذها بخمسين صاعاً، وإن وجدتها إحدى وخمسين، أو خمسة وخمسين، أو ستين، فالزائد لي، وإن وجدتها أربعين، أو خمسة وثلاثين، فالناقص عليّ، وما أنا مطالبك بشيء.
يوجد تراض وتسامح بينهما، لكن تراضي المتعاقدين لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً؛ لأن كل المعاملات تكون عن تراضٍ، حتى الذي يكتب سنداً بأنه اقترض ألفاً، ويرده ألفاً ومائتين، ويوقع عليه؛ فهو راضٍ بذلك.
إذاً: لا كما يقول القانونيون سابقاً: العقد شرعة المتعاقدين.
ثم عدلوا في هذه القاعدة وزادوا: ما لم يخالف قانوناً، إذاً: العقد شرعة المتعادقين ما لم يخالف الشرع، ونحن بحمد الله قانوننا الشرع، فما المانع في هذه الصورة أن يصحح بيع الصبرة مجهولة الكيل بكيل معلوم محدد؟ المانع أن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل.(199/2)
الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في باب الربا
الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل، البر بالبر لا بد أن يكون مثلاً بمثل، وهل عرفنا المثلية في الصبرة؟ لا، نحن عرفناها في الخمسين لكن هل عرفناها في الصبرة؟ لا، إذاً: الجهل بالتساوي كالعلم بالزيادة، كأننا بعنا الصبرة وعرفنا أنها ستون صاعاً، وبعناها بخمسين، لو أن صاحبها كالها ستين صاعاً، وصارت معلومة عنده، ثم جاء المشتري وقال: أشتريها بخمسين، قال: بعتك، فنكون قد علمنا بالزيادة، والزيادة في الجنس الواحد تكون رباً.
إذاً: الجهل بالتساوي كالعلم بالزيادة.
لو جاء وقال: أنا عندي صبرة هناك عند ذاك الباب، وأنت عندك صبرة هناك عند ذاك الباب، وأنا محلي هناك قريب من صبرتك، وأنت محلك هناك قريب صبرتي، فأشتري صبرتك بصبرتي لتنقلها إلى محلك بسهولة، وأنقل صبرتي إلى محلي بسهولة، فما حكم بيع صبرة بصبرة، ولا يوجد تحديد بالثمن؟ لا ندري كم صبرتك، ولا كم صبرتي، إن كانت معلومة الكيل، هذه خمسون صاعاً، فيجوز، ولا توجد زيادة، حصل بيع الجنس بجنسه متساوياً يداً بيد، لكن إذا كنت أنا لا أعلم مقدار صبرتي، وأنت لا تعلم مقدار صبرتك؛ فحينئذٍ لا يجوز إلا إذا كان كيلاً بكيل حتى تتحقق المساواة والمماثلة.
ولو كانت الصبرة موجودة، وصاحب الدراهم جاء وقال: يا صاحب الصبرة! بكم تبيعها؟ قال له: بمائة ريال، قال اشتريت، فعندما جاء يعبئ الصبرة في الأكياس وجد الصبرة مكومة على صخرة، ماذا تقولون؟ تكويمها على الصخرة تدليس، فهي صبرة إلا ربع، فالصخرة زادت في حجم الصبرة، وأنا اشتريت حباً ما اشتريت صخرة، فماذا يفعل المشتري؟ ما دام أن البيع بالدراهم فهي الواسطة، والزيادة والنقصان لا دخل لها هنا، لكن وجدت صورة تدليس؛ لأن كومها على صخرة، أو كانت الأرض غير متساوية، كل الأرض معتدلة إلا عند هذا المحل يوجد محل ناتئ كوم عليه الصبرة.
إذاً: إذا كان يباع المبيع بجنسه فلا بد من معرفة المقدار في الجانبين، أما إذا كان البيع بالدراهم فالجهالة لا تضر، قال: بكم الكيس؟ قال: الكيس بعشرة، قال: كم فيه؟ قال: والله! أحياناً عشرة صاعات، وأحياناً تسعة ونصف، زاد أو نقص لا يضر؛ لأن المقابل هنا الدراهم، وليس بين الدراهم والمطعومات ربا.(199/3)
شرح حديث: (الطعام بالطعام مثلاً بمثل)
قال رحمه الله: [وعن معمر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (إني كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الطعام بالطعام مثلاً بمثل، وكان طعامنا يومئذٍ الشعير) رواه مسلم] .
رجع المؤلف رحمه الله إلى البر والشعير، وكان هذا الحديث محله هناك مع تلك الأصناف، لكن كأن المؤلف يريد أن يختم بحث الربويات المطعومة بما هو أعم؛ لأن المتقدم في حديث عبادة بن الصامت ذهب وفضة وتمر وبر وشعير وملح، وهذه أعيان مسماة مميزة معروفة، وهل نقتصر عليها كما اقتصر الظاهرية أو نلحق بها غيرها؟ نلحق بها كل ما وجدت فيه العلة التي توجد مشتركة بين تلك المسميات، وتقدم لنا بأن الكيل والوزن فقط علة عند بعض العلماء، وقالوا: كل مكيل أو كل موزونٍ يجري فيه الربا، وفي حديث الجنيب: (وكذلك الميزان) ، فإذا بيع بجنسه فلا بد من المماثلة ومن القبض، أي: الحلول والتقابض.
الذي يمنع من الإلحاق يقول: الرسول ذكر أشياء، وسكت عن الباقي، فما لنا شغل فيه، والآخرون يقولون: ما دام قد اشترك في المعنى فيدخل، كما قالوا: الزبيب والتمر، والبر والشعير، فهذه مشتركة في المعنى، وكذلك الذرة والبر، وكذلك الدخن وغيره من المكيلات، فقالوا: نلحق، وبعضهم وسعوا في العلة، وبعضهم ضيقوا فيها، وبعضهم زادوا وصفاً آخر وقالوا: قوتاً، وبعضهم قالوا: مقتاتاً ومدخراً.
إذاً: ألحقوا المسكوت عنه بالمنطوق به بالعلة، جاء المؤلف وقال: هذا نص موجود، فالطعام، (أل) هنا لاستغراق الجنس، كل طعام، ولهذا هناك من قال: العلة كل مكيل مزكى، وبعضهم قال: ذكر الطعام ولم يشترط الاقتيات، فأجرى الربا في اللوبيا الحمص الفاصوليا البزاليا الفول، وكل هذه قطنية، ومنع الربا فيها لأنها طعام تؤكل، فأخر المؤلف رحمه الله حديث الطعام بالطعام لعمومه وشموله، فهو أوسع من مدلول المسميات الأخر، فكأنه يقول: إن من ألحق المسكوت عنه بالمنطوق به عنده نص ولا مانع أن يثبت الحكم بنص وقياس وإجماع، لا مانع أن تتوافر على تشريع الشيء كل الأصول: إجماع وقياس ونص من كتاب أو سنة.
إذاً: المؤلف أتى بهذا الحديث بعد ما ذكر من الصبرة، ومن الجنيب، والجمع وغير ذلك من المسميات، وهنا جاء طعام بالطعام.
ثم كلمة الصبرة، هل بين لنا نوع هذه الصبرة التي لا يجوز بيعها بجنسها مكيلاً أو كل صبرة من طعام؟ كل صبرة من طعام، إن كانت براً إن كانت شعيراً، إن كانت تمر، إن كانت لوبيا، إن كانت فولاً، إن كانت إن كانت ما دام أنه يدخل تحت عنوان الطعام بالطعام.
وكون الراوي يقول: (وكان طعامنا يومئذٍ الشعير) لا يقصر المعنى العام في الجنس على طعامهم، فطعامهم في ذاك الوقت هو الشعير، وطعام غيرهم البر، وطعام غيرهم اللوبيا، وطعام غيرهم كذا، ونحن طعامنا اليوم الأرز، ولهذا يدخل الأرز مع التمر ومع البر في عموم طعام.
فنلحقه بالقياس كما تقدم، والعلة هي كل مكيل وقوت ومدخر، إذاً: تساوى مع البر وتساوى مع الشعير في علة الربا، فيكون الرز أيضاً ربوياً، وهذا ما يشير إليه تأخير المؤلف رحمه الله لإيراد هذا الحديث (الطعام بالطعام) .(199/4)
شرح حديث: قاعدة مد عجوة ودرهم
قال رحمه الله: [وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: (اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر ديناراً، فيها ذهب وخرز، ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر ديناراً، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تباع حتى تفصل) رواه مسلم] .
هذا من المبيعات المتداخلة، كما يوجد الآن عند الصاغة بعض الحلي مرصع بالأحجار الكريمة التي لها قيمة مستقلة، وغالباً تكون أغلى من الذهب، ولكن الذهب إذا بيع بذهب كان جنساً بجنس، والذهب يباع، وزناً بوزن، والأحجار الموجودة معه ستدخل في الميزان، فيكون ذهب بذهب وزيادة أحجار، لكن ينبغي أن نعرف مقدار الذهب الموجود في قطعة الحلي التي معها أحجار كريمة حتى نقول: إن هذه القطعة فيها ذهب عشرون جراماً، وفيها أحجار كريمة عشرة جرامات فيكون الذهب بالذهب عشرين جراماً، وقيمة الأحجار الكريمة نفصلها جانباً إن بيعت بجنسها ذهب.
وهناك من يفصل في الأحجار الكريمة مع الذهب ويقول: ننظر أيهما أصل وأيهما تبع، قد يكون الأصل هو الجوهرة من الأحجار الكريمة مثل الياقوت، والزمرد، والماس، وهو أغلى أنواع الأحجار الكريمة، وأشدها صلابة، والفيروز، فهذه الأحجار الكريمة قد تحلى بالذهب، فيجعل لها إطار من ذهب، ويجعل عليها نقوش من ذهب، ويجعل فيها حفريات وتملأ بالذهب، إذاً: يكون الحجر الكريم هو الأصل، والذهب هو تبع.
وقد يكون الذهب هو الأصل، سوار من ذهب ورصع في بعض أطرافه أو جهاته بأحجار كريمة من الماس أو من غيرها، فهناك من يقول: ننظر إذا كان الذهب تبعاً للحجر الكريم، واشترينا الحجر الكريم بذهب فلا عبرة بالذهب التابع في هذا الحجر؛ لأنه غير مقصود لذاته، وغالباً يكون طفيفاً، أما إذا كان العكس وكان السوار مثلاً ربع كيلو، والأحجار الكريمة فيه مثلاً خمسة عشر جراماً، فهذه نسبة قليلة جداً، إذاً: الأحجار تبع للذهب، فلا بد أن نعامل الذهب الموجود الذي هو الأصل في تلك السلعة معاملة الذهب بالذهب.
ومالك رحمه الله وضح متى تكون الأحجار هي الأصل، ومتى يكون الذهب هو الأصل، فقال: ما كان حده الثلث فأقل، فهو تبع، وما كان الثلثان فأكثر فهو الأصل، وهذا حد تقريبي، فمثلاً حجر كريم محلى بالذهب وزنه مائة جرام، فيه من الذهب عشرة أو عشرون جراماً، فهل بلغ الثلث؟ لا، فهنا عند مالك الذهب تبع وإذا كان العكس، قطعة الحلي وزنها خمسمائة جرام، والأحجار الكريمة التي فيها عشرة أو خمسة عشر جراماً، إذاً: مالك يحد حداً بين ما هو تبع، وما هو أصل؛ أو ما هو أكثر وما هو أقل بالثلث، فما كان الثلث فدون فهو تابع ويعتبر أقل، وما كان أكثر من الثلث فهو أكثر، وهو المقصود بالعقد في البيع والشراء، فإذا كان على سبيل التساوي، فما الحكم؟ إلى عهد قريب كانت تصاغ الدنانير في السوار، أسورة وتحاط بالجنيهات وتعلق حولها، يكون سوار ومعه عشرون أو ثلاثون ديناراً ذهبياً، فإذا كان مع تلك الدنانير أحجار كريمة، وتساوى قدر الدنانير مع الأحجار وبيعت بذهب، فهنا لا نستطيع أن نعرف مقدار الذهب الموجود في القلادة إلا إذا فصلنا ونزعنا عنه الحجارة، فحينئذٍ نستطيع أن نقول: وزناً بوزن، ولكن الآن لو تأتي إلى الصائغ وعنده القلادة أو الأسورة وفيها الأحجار الكريمة، وتقول له: أفصل هذه الأحجار، وزن الذهب بالذهب! لن يوافق؛ لأن هذا يفسد عليه الصنعة، فلا تشتر بالذهب، واشتر بالفضة، وغالب الصاغة يكون عندهم بيان أن هذه القطعة من الحلي يوجد فيها من تلك الأحجار ما وزنه كذا، ويكون قد عرف وزن تلك الأحجار قبل أن يدخلها بالصنعة في هذا السوار، وتقول: يا أخي! أنا أبغى ذهباً بذهب، مثلاً بمثل، فيقول: مرحباً، هذه وزنها خمسمائة جرام، وفيها من الأحجار مائة وخمسون جراماً، إذاً: عرفنا وزن الذهب من وزن الأحجار، فنتعامل مع الذهب الموجود في هذه القلادة على ما عرفنا من وزنه، ولا يبيع بصفة عامة ويقول: والله! ما أدري كم فيها من أحجار؟ ما أدري كم وزن الذهب الذي فيها؟ فكيف يبيع الذهب مثلاً بمثل والحجارة موجودة في القلادة؟! فخروجاً من هذا كله نشتري تلك القلادة الموجود فيها ذهب وحجارة، أو فيها ذهب وفضة، أو فيها ذهب ونحاس، أو على حسب الصنعة؛ نشتريها بالفضة؛ لأنه يجوز التفاضل بين الفضة والذهب، جرام ذهب تأخذه بعشرة جرامات فضة لا يوجد مانع، إذاً: إذا اشترينا بغير جنس الذهب -أياً كان- خرجنا من المحظور.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تباع حتى تفصل) لماذا؟ لنعرف مقدار الذهب فيها؛ لأنه اشتراها باثنى عشر ديناراً، والدينار معروف في ذلك الوقت، لم يختلف وزنه، الدينار والمثقال اسمان على مسمى واحد، المثقال وحدة وزنية، فالدينار وحدة نقدية، أما الدرهم فوحدة وزنية ونقدية، تقول: هذا وزنه درهم، وتقول: هذا قيمته درهم، وإلى الآن بعض الدول تستعمل الدينار على أنه وحدة نقدية، وكذا الدرهم، مثل الدرهم المغربي، والدرهم في الخليج، إلى غير ذلك.
إذاً: لما اشتراها بذهب وجد فيها ذهباً أكثر من الثمن الذي دفع، فيكون أخذ ذهباً بذهب متفاضلاً.
وما سبب وجود التفاضل؟ وجود الأحجار في السلعة، وما عرفنا كم وزن الذهب في تلك الحلية.
إذاً: لكي نعرف مقدار الذهب، نفصل عنها الحجارة الكريمة إذا أمكن، فإذا لم يمكن، أو كان الصانع بنفسه أو التاجر لا يوافق على الفصل، فلا نقول: افصلوا هذا من هذا، ثم ارجعوه وركبوه، بل لا نجعل الثمن ذهباً لوجود الذهب، ونجعل الثمن فضة، ومهما زادت الفضة أو نقصت عن الذهب فلا محظور في ذلك.(199/5)
شرح حديث: (نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة)
قال رحمه الله: [وعن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة) ] من المبيعات المنهي عنها، وتصنف في أبواب الربا، ما ورد في حديث سمرة الذي ساقه المؤلف رحمه الله، وهو النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، والحيوان كل ذوات الأربع، والنسيئة التأجيل والتأخير، وهذا الحديث يعتبر من المشكلات، فقد ورد ما يعارضه من حديثي أبي رافع وابن عمرو، أما حديث أبي رافع رضي الله تعالى عنه فيقول: (استسلف النبي صلى الله عليه وسلم بكراً، فرد رباعياً) ، وحديث ابن عمرو يقول: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أجهز جيشاً، فنفدت الإبل، فكنت آخذ البعير على البعيرين من إبل الصدقة) ، فحديث أبي رافع وحديث ابن عمر كلاهما فيه نسيئة، وحديث سمرة ينهى فيه عن النسيئة! وهنا وقف العلماء ما بين الجمع بين الحديثين، وما بين ادعاء النسخ، وما بين الترجيح بين سند الطرفين، أما حديث سمرة فروي عن الشافعي رحمه الله أنه جمع بينه وبين حديث أبي رافع وابن عمرو قائلاً: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة إذا كان كلاً من المبيع والثمن غائباً، أي: كلا طرفي العقد غائباً، كأن تقول: عندي جمل نجيب جيد، فقال لك الآخر: اشتريه منك بجملين أو بثلاثة، وكل من الجمل المبيع والجملين أو الثلاثة -الثمن- غائبة غير حاضرة، بأن قال لك المشتري مثلاً: أين جملك؟ تقول: إنه مع الإبل يرعى في المرعى، ويقول البائع: أين جملاك؟ أو أين الثلاثة الجمال؟ فيقول: إنها تأتيني بعد غد، فيتبايعان حيوان بحيوان كلاً منهما غائب، هكذا فسر الشافعي رحمه الله حديث سمرة في النهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، أي: أن يكون النَسَاء في كلا الطرفين.
وذهب الأحناف ورواية عن أحمد بأن هذا الحديث ناسخ لحديث أبي رافع: (تسلف بكراً فرد رباعياً) ، فـ الشافعي يجمع بين الروايات ويقول: الجمع أولى من اطراح أحد الطرفين بادعاء النسخ، والجمهور يقولون: النسخ يحتاج إلى دليل.
وهناك من يقول: إن حديث سمرة أقل إسناداً من حديث أبي رافع ومن حديث ابن عمرو، وقد ذكر الصنعاني شارح هذا الكتاب رحمه الله بأنهم اختلفوا في هذا الحديث وصلاً وإرسالاً، فبعض العلماء يقول: هو مرسل، وبعضهم يقول: موقوف على ابن عباس، ومعلوم عند الفقهاء أن المرسل: هو ما لم يذكر فيه الصحابي، كما قال الناظم: ومرسل منه الصحابي سقط وقل غريب ما روى راو فقط فعلى هذا يكون حديث سمرة إما أنه أضعف سنداً، وإما أن يجمع بينه وبين الأحاديث الأخرى بأن النسيئة تحمل على الطرفين، وبيع النسيئة من الطرفين مجمع على النهي عنه، ويسمى بيع الكالئ بالكالئ، والكالئ هو الدين، فلا يجوز بيع دين بدين، فتقول: اشتر ديني الذي علي لك بكذا، وأين ثمن الدين؟ يقول: مؤجل! إذاً: دين بدين لا يجوز، ويقولون: تفسير الشافعي رحمه الله يجمع بين الحديثين.
وبعد ذكر الخلاف في هذا الحديث، نأتي إلى ما ذكره المؤلف بقوله: رواه الخمسة، والخمسة هم السبعة ما عدا البخاري ومسلم، أي: أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد، فنأتي إلى أبي داود؛ فنجده يبوب على هذا الحديث كراهية بيعه، ثم بعده يأتي بحديث سمرة، ثم يقول: باب: الرخصة في ذلك، ويذكر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه اشترى جملاً بجملين وقدم أحد الجملين وقال: الآخر آتيك به غداً، ويعني بالرخصة: أن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة يكون رخصة.
والترمذي ذكر حديث سمرة ثم قال: وقد ترخص بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، وذكر أثر ابن عمر رضي الله تعالى عنه، وعلى هذا يكون النهي أقل ما فيه الكراهية، وهناك من حمله على المنع والتحريم، وهناك من حمله على أنه ناسخ لغيره، وهناك من رجح أن الحديث ضعيف السند، ووجدنا صنيع أبي داود وصنيع الترمذي أنهم عقبوا هذا الحديث بذكر الرخصة، فيكون الأولى ترك ذلك، اللهم إلا إذا حصل اضطرار ولا اضطرار في ذلك؛ لأن صورة بيع ابن عمر أنه اشترى بعيراً ببعيرين، ودفع بعيراً اليوم، وقال: الثاني آتيك به غداً، إذاً: أقل الدرجات أن هذا الحديث يحمل على الكراهية، والله تعالى أعلم.(199/6)
كتاب البيوع - باب الربا [4]
إذا كانت الأمة تقدم دنياها على دينها، وتمزق دينها لترقع دنياها، وتترك الجهاد في سبيل الله، وتتغافل عن فضائله وفوائده؛ فإن الله يبتلي هذه الأمة بالذل والصغار أمام الكفار حتى ترجع إلى دينها، وقد بين النبي عليه الصلاة والسلام هذا في حديثه المشهور الذي يعتبر من دلائل نبوته، فينبغي تدبره، والانتفاع به.(200/1)
شرح حديث: (إذا تبايعتم بالعينة)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم) ] .
إذا تبايعتم، يعني: حصل البيع من طرفين أو من أكثر تكراراً، وصار البيع بالعينة متداولاً، شائعاً ظاهراً فاشياً، (واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد) اتبعتم أذناب البقر فيه تقبيح، وإن كان العمل شريفاً؛ لأنه في مقابل ترك الجهاد، والجهاد هو ذروة سنام الإسلام، فما كان معطلاً لهذا السنام فإنه يقبح، واتباع أذناب البقر كناية عن الاشتغال بالزراعة والحرث، والتعامل مع البقر.
ومن النعم الزراعة، واختلف العلماء أيهما أفضل: الزراعة أم التجارة؟ قيل: إن الله أنزل مائة قيراط من البركة، تسعة وتسعون منها في التجارة، وواحد في جميع الأعمال، ومع ذلك فالزراعة أفضل من التجارة؛ لأن كسب التجارة للتاجر، وفائدة الزراعة للإنس وللحيوان وللطير، وحتى للجن، فالرسول صلى الله عليه وسلم أتاه وفد الجن ثم قالوا: (نريد الطعام يا رسول الله! فقال لهم: كل عظم ذكر اسم الله عليه؛ كساه الله لكم لحماً كأوفر ما كان) ؛ ولهذا يسن للإنسان إذا ألقى العظام أن يسمي الله ليكون طعاماً لمؤمني الجن لا لكفارهم، قالوا: (وعلف دوابنا؟ قال: كل روث حيوان يكون علفاً لدوابكم) .
إذاً: الجن إما أن يأكل من الزرع مباشرة، أو بالواسطة، وقد جاء أنه سرق الطعام من هذا المسجد، وأبو هريرة رضي الله عنه كان حارساً عليه، فأمسكه ليلة ثم ثانية ثم ثالثة، وفي كل مرة كان الجني يعتذر ويقول: أنا مسكين، أنا صاحب عيال، ويتركه، وفي المرة الثالثة قال: لأربطنك حتى تصبح بيدي رسول الله، فقال: أقول لك: اتركني هذه المرة، وأعلمك آية تحرس لك كل شيء من جميع الجن، فقال: وما هي؟ قال: آية الكرسي، إذا قرئت على شيء لا يستطيع جني أن يقربه.
فتركه، وهذه فائدة عظيمة، ولما غدا أبو هريرة على رسول الله في الصباح استقبله رسول الله وقال: (ماذا فعل أسيرك البارحة يا أبا هريرة؟! قال: والله! يا رسول الله! كذا كذا، فقال: أتدري مع من كنت تتعامل في الليالي الثلاث؟ قال: لا، قال: إنه من الجن) ، إذاً: الجني يأخذ الطعام ويأكله، فالزراعة يستفيد منها الجن مع الإنس، والزراعة هي أصل الأقوات، والتاجر لا ينبت نبات الأرض، والحبوب والألبان واللحوم كلها ليست إنتاج التاجر الذي في المعرض! بل هي بسبب الزارع الفلاح الذي يكابد الليل والنهار، ومع ذلك يكني صلى الله عليه وسلم عن هذا ويقول: (واتبعتم أذناب البقر) لماذا؟ (وتركتم الجهاد) .(200/2)
ترك الجهاد مهلكة
ترك الجهاد مهلكة، ذكروا في تفسير قوله سبحانه: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] قصة رجل من المسلمين، اصطف الفريقان، فبرز من الصف وقاتل واخترق صف الكفار حتى اخترقه إلى الجهة الأخرى، ثم جاء راجعاً أيضاً كاراً يقتل من يلاقيه حتى رجع إلى صف المسلمين.
فقال قائل: هذا يلقي بنفسه إلى التهلكة، وحده يخترق صفوف العدو! والله يقول: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] ، فقال رجلٌ من الأنصار: لا تقولوا ذلك، والله! لقد نزلت فينا معشر الأنصار، لما أتم الله الدين ونزل على رسوله الكريم: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] وانتشر الإسلام في جزيرة العرب، فقلنا: لقد انشغلنا عن أموالنا وبساتيننا ومزارعنا، وقد انتشر الإسلام، لو رجعنا إلى مزارعنا لنصلحها، فنزلت: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] ، فقال: التهلكة بترك الجهاد؛ لأننا إذا تركنا الجهاد جاءنا العدو، وما انتصر الإسلام وانتشر إلا بالاستمرار في الجهاد، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله) .(200/3)
فضل الجهاد في سبيل الله
وفضل الجهاد ليس في حاجة إلى بيان، وتكفي آية واحدة، فالمولى سبحانه وتعالى هو الممتن على الإنسان بإيجاده، والممتن عليه بما بيديه، ثم يأتي سبحانه ويتلطف مع عباده ويعقد معهم صفقة ويقول: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:111] اشترى منهم ماذا؟ {أَنفُسَهُمْ} [التوبة:111] ، هل ورثوها من آبائهم؟ هل صنعوها؟ هل أنتجوها؟ لا، بل منحهم الله إياها، وكما يقول ابن القيم وغيره من علماء الرقائق: أنفسهم هنا هي أرواحهم، والنفس تطلق ويراد بها الروح، وتطلق ويراد بها الجسم مع الروح معاً، قال الله: {لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [النساء:84] ، وقال: {أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ} [الأنعام:93] ، وقال: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي} [الفجر:27-28] ، فقد تطلق ويراد بها الروح فقط، وقد يراد بها مجموع الإنسان، فهنا اشترى من المؤمنين أنفسهم، يعني: شخصيتهم روحاً وجسماً (وَأَمْوَالَهُمْ) اشتراها، وما هو الثمن؟ (بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ) الثمن والله غالٍ، وسلعة الله غالية، (بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ) ، إذاً: يكفي هذا، وقال تعالى عن الشهداء: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] ، فلا حاجة إلى الكلام في هذا، والسكوت عنه أولى؛ لأنه بوضوحه لا يحتاج إلى بيان، فترك الجهاد في سبيل الله مهلكة، ومن يوم أن ترك الناس الجهاد في سبيل الله واشتغلوا بالزراعة وببيع العينة، سلط الله عليهم الذل.(200/4)
الحرص على ما ينفع في الدين والدنيا
هل نترك الزراعة ونموت من الجوع؟! هل نترك البيع والشراء ونعطل مصالحنا؟ لا، والله سبحانه وتعالى جعل الحياة الدنيوية أمراً مؤقتاً، وجعل الحياة الأخروية هي الدائمة، وأمرنا أن نعمر الدنيا، وفيها نعمر الآخرة، كما قال سبحانه: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15] ، وقال: (التاجر البار مع الكرام البررة) ، وتقول عائشة: (من بات كالة يده من عملٍ بات مغفوراً له) ، فالإسلام دين عمل، ودين إنتاج، لكن لا نغلب كفة على كفة، فالإنسان روحٌ وجسد، وكلا الطرفين يحتاج إلى غذاء، وكلاً منهما مغاير في التكوين للآخر، قال الله: {الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] ، وقال عن الجسم: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتاً} [نوح:17] ، تعيش كالنبات الذي ينبت، وتعيش على النبات، ومردك إلى الأرض.
فإذا نظرنا إلى الأمم الماضية: نجد أن اليهود غلبت عليهم الماديات، كمن ترك الجهاد واشتغل بالزراعة والتجارة، فما كانت النتيجة؟ احتالوا على ما حرم الله حتى جعل الله منهم القردة والخنازير.
ونجد النصارى غلبوا جانب الروح كما قال الله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] ، فكلتا الأمتين جنحت بها المسيرة أولئك فرطوا، وهؤلاء أفرطوا، وجاءت الأمة المحمدية كما وصفها الله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] ، يقول العلماء: الوسط العدل، وسطاً بمعنى: عدلاً، وسطاً بمعنى: أفضل {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران:110] وسطاً أي: اعتدالاً؛ لأن خير الأمور الوسط، وقال الله في افتتاحية المصحف في الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] .
والاستقامة: وسط بين طرفين، فالشجاعة وسط بين التهور وبين الجبن، والكرم وسطٌ بين الإسراف والتبذير وبين الشح والبخل، وهكذا في العبادات وفي المعاملات، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] هذا وسط، وذكر الطرفين النائيين المنحرفين {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] ، فالمغضوب عليهم هم اليهود؛ لأنهم تركوا العمل بما علموا، والضالون هم النصارى؛ لأنهم عملوا على جهالة وضلالة، أما المسلمون فلا، قصدوا وأخذوا الوسط {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] لماذا؟ {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143] أي: بالوسطية، وبإمكانكم الاعتدال في المسيرة والمعاملات، (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) ، أمة متوسطة بلا إفراط ولا تفريط.
وجاءت النصوص: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة:9] وليس المراد بالسعي: الجري الذي يخرج عن المروءة، ولكن خذوا في الأسباب، ارجعوا إلى بيوتكم، اغتسلوا، تطيبوا، غيروا الملابس، واذهبوا إلى أين؟ {أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ} [الأحقاف:31] {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] .
والسعي إلى ذكر الله غذاء للروح، والبيع غذاء للبدن، ولكن لكلٍ وقته (فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ) هل نقعد في الصوامع كما فعل النصارى؟ لا، {إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ} [الجمعة:9] هل نعرض عن الداعي، ونضرب في الأسواق، ونعمل في التجارة، ونغفل عن حي على الصلاة؟ لا، إذاً: الإسلام أعطى الجسم حقه بطرفيه، الروح غذاءها ومقوماتها بالعبادات، وأعطى البدن غذاءه {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15] ، الأرض ما هي مستعصية عليكم، تزرعون، وتحفرون، وتصنعون، وتخرجون المعادن، الأرض مذللة لكم، والمناكب هي الأعالي، لا تمشوا في بطون الأودية، بل على قمم الجبال! {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15] .
{فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10] (ابتغوا واذكروا) سبحان الله! (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) بالكسب والمعيشة، ومع ذلك: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) .
أيها الإخوة! الإسلام جمع بين المصلحتين، ووازن بين حاجة الإنسان روحاً وجسداً، فإذا غلبت كفة على كفة اختل التوازن، إذا غلبت كفة الروح كما كان النصارى فسدت الدنيا؛ ولذا النصراني يقول لك: إذا ضربك أحد على خدك الأيسر فأدر له خدك الأيمن، ما هذا الخنوع؟ لا والله! بل اضربه على خده.
واسأل اليهود عن القرية التي قال أهلها: نحن لا نعمل يوم السبت؛ لأنه ممنوع العمل فيه عندهم، وكانت تأتي الحيتان على وجه الماء يوم السبت، فما قدروا أن يصبروا، فاحتالوا بأن رموا الشباك يوم الجمعة، وتركوها إلى يوم السبت، وأخذوها يوم الأحد، وقالوا: ما عملنا شيئاً يوم السبت! والله! لو عجوزة عمياء تقول لها: عملنا وعملنا ستقول: والله! هذه حيلة، ما تخفى عليها.
إذاً: (إذا تبايعتم بالعينة، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد) ، أما إذا لم نترك الجهاد فلنتبع أذناب البقر والجواميس والخيل والإبل، ولنستزرع كل شبرٍ على وجه الأرض، ما دامت راية الجهاد قائمة، والإسلام عنده من ينصره ويرفع رايته، فالحمد لله، ويجب على الأمة كلها أن تعمل، والعجب كل العجب أن الشرق الأوسط بأكمله إنما لحقه ما لحقه من ضائقة الاقتصاد هو من ترك أذناب البقر؛ لأن نسبة ما هو مزروع في الشرق الأوسط كله لا يوازي 25% من أراضيهم، والعالم الأوروبي اتسع في المزارع، وصاروا يغزوننا، ويفيضون علينا بإنتاج البر، بل يتلفونه في البحر من أجل المحافظة على الأسعار في الأسواق، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وزير زراعة دولة أوروبية يقول: بإمكان دولة كذا أن تنتج غذاء للعالم كله، ولا يكلف الميزانية إلا 10% فقط! ويقول أستاذ الاجتماع علي عبد الواحد وافي: لو أن مصر زرعت نصف أرضها الصالحة للزراعة؛ لكفت العالم العربي كله، والآن تستقرض الحبوب!! والله! شيء مؤلم يا إخوان!(200/5)
حرمة بيع العينة
حذر النبي الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم من بيع العينة، وقد وقع مصداق ما قال: (إذا تبايعتم بالعينة) ، والعينة عند الفقهاء: اصطلاح لنوع من البيع مخصوص، وهي صورة واحدة عند الجمهور، وعند الحنابلة عكس العينة يأخذ حكم العينة، والعينة: هي من العين، قيل: هي الاشتغال بالنقد عندما تكثر الأموال بأيدي الناس، ومن قبل كانت المعاملات مقايضة بيع الصنف بالصنف.
والآخرون يقولون: لا، العينة هي بيع العين بذاتها بيعتين: تأتي إلى التاجر وتريد منه قرضاً ألف ريال، فيقول لك: والله! أنا ما عندي قرض، أبيع سكراً وشاهياًوأرزاً، ولكن من أجلك أنا أبيعك من السكر مائة كيس بألف ريال.
- أنا ما عندي فلوس.
- لا مانع، لك مهلة.
اشتريت المائة كيس بألف ريال وتدفعها بعد ستة أشهر! وأنت جئت تبغى أكياس سكر أو تبغى ريالات؟! تبغى الريالات، وهو يعرف هذا، وكتب: عليك ألف ريال قيمة مائة كيس سكر، تقول: هات الأكياس! فيقول: نعم، هي موجودة انظرها بعينك لكن قل لي: أين تضعها؟ وما تبغى بالمائة الكيس؟ هل ستفتح محلاً؟! - لا، ما أنا فاتح محل، سأذهب أبيعها، وآخذ ثمنها، وأقضي حاجتي، فالتاجر يقول لك وكأنه يعاملك بالرفق وبالمعروف: لا يا أخي! لا تتعب نفسك، أنا أشتريها منك بالنقد.
- اشترها مني.
- بثمانمائة!! - أنت الآن بعتها لي بألف!! - لا، ذاك مؤجل، لكن هذا أعطيك الثمانمائة الآن.
فأنت تقول: أين أبيعها؟ فتختصر الطريق وتقول له: هات ثمانمائة.
- خذ، فأخذت الثمانمائة في جيبك، ورجعت إلى بيتك، وحقيقة الأمر آلت هذه الزيادة الكريمة لهذا التاجر الرحيم الرفيق إلى الربا، فإنك أخذت ثمانمائة نقداً، وعلى ظهرك ألفٌ مؤجلة، ويبقى الفرق بينهما مائتين، هذه هي العينة، وابن عباس رضي الله تعالى عنه يقول: (.
الربا بينهما حريرة) ، كان بعض الناس يجلس في دكانه وعنده أثواب قماش حرير أو قطن أو غير ذلك، فيأتيه رجل فيقول: يا فلان! أبغى ألفين ريال قرضة.
- والله! ما عندي، خذ لك بالدين حريراً، فأخذ حريراً بالمبلغ الذي يريده إلى سنة، فيبغى يأخذه، فيقول له: أين تذهب؟! لماذا تتعب نفسك؟! أنا اشتريه منك بكذا، ويرجع الحرير إلى محله، ففي هذه الصورة تتحقق العينة، ويتحقق الربا.
ولكن يقول الفقهاء: إذا كان التبايع على بابه.
أنت بحثت عمن يقرضك ألفاً فلم تجد، فجئت إلى التاجر واشتريت منه البضاعة ديناً على نية أنك تبيعها، وتأخذ الثمن وتقضي مصلحتك، فاشتريت منه بألف ريال ديناً إلى ستة أشهر، لا ننسى النهي عن بيعتين في بيعة، ولا ننسى زيادة الثمن من أجل الأجل.
فأخذت السكر أو الرز من التاجر، وسجل عليك الثمن إلى نصف سنة، ثم جئت بالسيارة وحملت الرز أو السكر إلى بيتك، ثم أخذت تبيعه على من يأتيك، ولا علاقة للبائع في بيعك بالنقد، فالجمهور على أن هذا جائز، ويسمى التورق.
ولو ذهبت بالبضاعة من عند التاجر إلى السوق، وقلت: يا دلال! حرج لي على هذه المائة كيس من الرز، بخمسمائة بستمائة حتى وقف المزاد على ثمانمائة، من الذي يزايد؟ إذاً: الذي يزايد، ويشتري، بعيد كل البعد عن البائع، فالبيع صحيح ولا شيء فيه، أما إذا كان البائع بالأجل أرسل شخصاً وراء المشتري ليشتري منه البضاعة بنقد بكذا، فهذه عين العينة، أما إذا بيعت على غير بائعها، مؤجلاً أو بأي ثمن كانت نقداً، ولا ترجع إلى صاحبها الأول، ولا إلى من لا تجوز شهادته له من الأقارب أو الشريك أو الوكيل؛ إذا لم ترجع للأول فلا شيء عليه.
إذاً: العينة متى تكون محرمة؟ إذا رجعت السلعة المبيعة بثمن مؤجل إلى بائعها بنقدٍ أقل من ثمن التأجيل.(200/6)
حرمة الحيلة على الربا
ما هو عكس العينة؟ إنسان احتاج إلى نقد وما وجد أحداً يعطيه، فبحث عمن يبيعه أرزاً إلى آخر السنة بثمن مؤجل فما وجد أحداً يعطيه، هو غير معروف في السوق أو غير مؤتمن أو مماطل، المهم ما أحد بايعه، فذهب إلى البيت وقال لزوجته المسكينة: اعملي معروفاً، هات المصاغ الذي عندك، وأنا أبغى كذا، وأبغى أتصرف، وأفعل لك وأفعل، حيل كثيرة تحصل، فقالت: لا مانع يا ابن الحلال! تفضل، فأخذ المصاغ من المرأة، وذهب إلى الصائغ وقال: أنا عندي هذا الحلي وأريد أن أبيعه، قال: ما عندي مانع، فوزنه وقال: والله! هذا قيمته ألف ريال، فقال: بعت، أعطني الألف، الصائغ أخذ الحلي، والرجل أخذ الألف، ووضعها في جيبه، ثم قال للصائغ: يا شيخ! والله! أنا آسف، هذا حق امرأتي، وأنا قلت لها: سآتي لك به، وأخاف أن تقع مشكلة ونزاع وكذا وكذا، اعمل معي معروفاً، خلصني من هذه المشكلة، قال: ماذا تريد؟ قال: أنا أشتريه منك بثمن مؤجل بألف ومائتين.
قال له: لا مانع، اكتب لي سنداً بألف ومائتين ثمن حلي وزنه كذا، تفضل خذ الحلي، فرجع إلى بيته بحلي المرأة، وبألف ريال، وعلى ظهره للصائغ ألف ومائتان ريال، فهذا حكمه حكم بيع العينة، فالحلي دليل على الطريق، والعملية انتهت على ألف ريال نقداً، بألف ومائتين بعد سنة، وهذا عكس العينة؛ لأن المبيع ملك المشتري، بخلاف الأولى، وكلاهما مآله إلى الربا.
ما موقف العلماء من هذا العقد؟ الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، مالك، أحمد رحمهم الله على فساد البيع والتحريم.
الشافعي يقول: إن كان البائع والمشتري لأكياس الأرز مثلاً متفقان بنظرات العيون، وبقسمات الوجوه، ويعرفان بحالة الواقع، وكلاهما يعرف ماذا عند صاحبه، فكأنهما متفقان لفظاً، وكما قيل: الموجود عرفاً كالموجود حقيقة، فإذا جاء إلى رجل معروف أنه قعد في دكانه، ولا يبيع أرزاً ولا سكراً، عنده عشرون أو ثلاثون كيساً على طول السنة وهي موجودة، ويبيعها في اليوم عشرين مرة! ويسترجعها، إذاً: الذي يأتي إليه عادة هل يريد أن يشتري أو من أجل العينة؟ من أجل العينة؛ لأنه معروف بهذا، يقول الشافعي رحمه الله: إذا وقع العقد على غير اتفاق بين الطرفين فلا مانع.
والجمهور يقولون: لا يجوز أبداً، ما دامت السلعة سترجع إلى بائعها؛ فسداً للباب تمنع، ومالك خاصة عنده سد الذرائع مقدم، وهو أصل من أصول مذهبه، وسد الذرائع هو: ترك ما لا بأس به مخافة مما به بأس.
إذاً: حكم بيع العينة عند الأئمة رحمهم الله أنها ممنوعة وباطلة عند الأئمة الثلاثة، وفيها تفصيل عند الشافعي، وأجاب عليه الجمهور، وبالله تعالى التوفيق.(200/7)
معنى قوله: (واتبعتم أذناب البقر)
في قوله صلى الله عليه وسلم: (واتبعتم أذناب البقر) بعضهم يصرفه إلى شيء بعيد فيقول: إذا سخر القوي الضعيف، وساقه بذنب البقر، ففي بعض الجهات يتخذ من ذنب البقر سوط، خاصة في حالات الطغيان، وتسخير الناس في مشاريع حفر نهر، أو في بناء جسر، أو في كذا وكذا، ويسخرون المواطنين للعمل بالقوة دونما أجرة، من أجل أن يقيموا تلك المشاريع، ويسوقونهم بسياطٍ من ذنب البقر، وبعضهم يستعمل إحليل البقر سوطاً، ييبسه بالملح ويصبح كالسوط إلى غير ذلك، ولكن التفسير الصحيح هو الأول: اتبعتم أذناب البقر: أي بالزراعة، وتركتم الجهاد من أجلها، ويكون عليه هذا الوعيد: (سلط الله عليكم ذلاً) ؛ لأنكم تركتم الجهاد الذي فيه قتل النفس، وقتل النفس عزة، تطلب إحدى الحسنيين: شهادة أو نصر، والجزاء من جنس العمل، فعوملوا بنقيض قصدهم، هم تركوا الجهاد ليسلموا من القتل فجاءهم الذل، والذل موت معنوي، وانظر إلى الرقيق إذا أعتقه رجل، فله الولاء؛ لأنه بمثابة من أحياه حياة معنوية (سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه حتى ترجعوا إلى دينكم) ، هذه المصيبة الكبرى، إذاً: ما يقع في الأمم من كوارث وأحداث ومذلة للأفراد والجماعات، إنما هو بسبب، وكل شيء بقضاء الله وقدره، ولكن من قضائه إذا تركت الجهاد سلط عليك الذل، فإذا تركتم الجهاد واستعضتم عنه بالدنيا، جاء الذل بسبب ذلك، ولا يرفع هذا الذل الذي لحق بالأمة حتى ترجع إلى إلى {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] ، ولما سألوا في غزوة أحد {أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] ، لماذا من عند أنفسهم؟! الرسول يؤكد عليكم: (لا تبرحوا أماكنكم ولو رأيتم الطير تتخطفنا) ، فنزلوا إلى الغنيمة، فحصل ما قضا الله وقدره، وما شاء فعل {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران:140] .
المهم أن آخر هذا الحديث خطير؛ لأن الأمة الإسلامية إذا أرادت عزتها وأرادت مكانتها التي كانت عليها في القمة، وفي المقدمة؛ فلتجاهد في سبيل الله؛ وبهذا تحصل لها قيادة الأمم، والوسطية الكريمة، والخيرية على الناس، وإنما يحصل هذا بالدين، فإذا شغلت عنه وضيعته، ضيعت مكانتها وأفلت الزمام من يدها، فمتى ترجع إلى دينها، يرد الله عليها ما أخذ منها، وبالله تعالى التوفيق.(200/8)
كتاب البيوع - باب الربا [5]
الرشوة من أعظم الأمراض التي تفتك بالأمة، وفيها مفاسد كثيرة، وأضرار عديدة؛ على الأفراد والمجتمعات، ومن محاسن الشريعة الإسلامية أنها حرمت الرشوة، بل وحرمت ما يشبه الرشوة، وزجرت عنها زجراً شديداً، ورهبت منها ترهيباً عظيماً.(201/1)
شرح حديث: (من شفع لأخيه شفاعة ... )
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا) رواه أحمد وأبو داود] .
يسوق المؤلف رحمه الله تعالى حديثاً فيه التقبيح والتنفير من أخذ الهدايا على خدمة الإنسان وفعل الخير، وخاصة في باب الشفاعة، وأصل الشفاعة من الشفع، والأساس في هذا أن الإنسان واحد فرد، فيأتي بشخص معه فيشفعه فيكونا شفعاً، وكما يقولون: العدد إما فرد وإما شفع، فالشفع ما قبل القسمة على اثنين بدون باق، والفرد: الأعداد الفردية أو الآحاد، وهي التي لا تقبل القسمة، مثل: الثلاثة الخمسة السبعة والإنسان وحده قد لا يستطيع أن يصل إلى حاجته عند من هي عنده، فينظر أقرب الناس إلى ذاك الشخص أو من لهم عليه سلطان أدبي أو اعتباري أو حقيقي، فيأتي إليه ويقول: أريد أن تشفع لي عند فلان، أي: تذهب معي بدلاً من أن أكون وحدي، فأكون أنا وأنت، فتشفع لي عنده في كذا وكذا، والشفاعة فضلها معروف عند الجميع: (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء) .
والشفاعة يوم القيامة يعطيها الله للأنبياء وللصلحاء وللعلماء، وقد يشفع الإنسان في جيرانه وأهل بيته، والطفل يشفع في أبويه، وأعطي صلى الله عليه وسلم سبعة أقسام من الشفاعة، وأهمها الشفاعة العظمى، وهي المقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون، وذلك حينما يشتد الأمر على أهل الموقف، وتدنو الشمس من الرءوس، فيقول بعضهم لبعض: (ألا تنظرون من يشفع لنا عند ربنا ليأتي لفصل الخطاب؟) ، فيذهبون لآدم أبي البشر، فيعتذر بقوله: إني أكلت من الشجرة وقد نهيت عنها.
فيذهبون إلى إبراهيم عليه السلام ويعتذر، والله أعلم بنوع العذر، يقول: كذبت كذبة: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ} [الأنبياء:63] .
ومن اللطائف أن شيخ القراء في المدينة الشيخ حسن الشاعر كان في محفل مجيء المحمل المصري للحج، فقرأ: {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ} [الأنبياء:62-63] ، فقام بعض شيوخ القراءات فحمله وقبّله وكان غلاماً، فإنه وقف على قوله تعالى: ((قَالَ بَلْ فَعَلَهُ)) [الأنبياء:63] كأنه تصديق على قولهم: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:62] {بَلْ فَعَلَهُ} [الأنبياء:63] يعني: إبراهيم فعله، ثم استأنف كلاماً جديداً: {كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ} [الأنبياء:63] ، ويكون فيه تورية على أن الفاعل فعلاً هو إبراهيم، ولم تكن هناك كذبة، ولكن العلماء يذكرون هذه الكذبة في حديث الشفاعة، ثم يذهبون إلى موسى كليم الله ويعتذر أيضاً بقوله: إني قتلت نفساً، اذهبوا إلى عيسى، ويعتذر عن الشفاعة، اذهبوا إلى محمد، فيأتون إليه صلى الله عليه وسلم فيقول: (أنا لها، أنا لها، أنا لها، ويذهب ويسجد تحت العرش، ويلهمه الله محامد لم يكن يعلمها في الدنيا) ، وهي المنوه عنها في الحديث: (بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) ، فمن تلك الأسماء الحسنى التي استأثر الله بها في علم الغيب عنده يلهمها رسول الله في ذلك الوقت، فيحمده بها، ويسبحه بها، ويدعوه بها، حتى يستجاب له: (ارفع رأسك، واشفع تشفع) ، فيشفع في جميع الخلائق، فيغبطه على تلك الشفاعة الأولون والآخرون.
قوله: (من شفع لأخيه) يعني: مشى معه في حاجة إلى إنسان، سواء كان هذا الإنسان حاكماً أو غير حاكم، ومطلق حاجة الإنسان عند آخر لم يستطع أن يظفر بها وحده، فيبحث عن شخص له عنده وجاهة، ولا يرد له طلب، قد يكون بسبب إحسان إليه، وقد يكون مكرهاً، كما لو جاء إنسان يشفع لآخر، والشفيع هذا صاحب سلطة وقوة، والمشفوع عنده يخشاه، فإذا رد شفاعته يخشى أن يتسلط عليه، فيقضيها رغماً عنه، أو يكون الشفيع صديقاً محباً مثل زوجه أو ولده أو أبيه أو صديقه، فيكلمه فيه، ويقضي له حاجته من باب المودة والملاطفة والإحسان.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (من شفع لأخيه شفاعة، فأهدى له هدية) ، يعني: بعد الشفاعة، وتكون هذه الهدية كأنها مكافأة على شفاعته، فكأنه أتى باباً عظيماً من أبواب الربا، لماذا؟ يقولون: تلك الشفاعة لا تخلو من أحد أمرين: إما أن تكون شفاعة في حق، وإما شفاعة في باطل، والشفاعة في الحق حق، ولا ينبغي أن تأخذ على الحق أجراً، فمن حق أخيك عليك أن تساعده، ولك أجر عند الله، وإن كانت الشفاعة في باطل فهي باطل، ولا يجوز لك أن تمشي فيها، فضلاً عن أن تأخذ عليها هدية، ومشابهة الهدية بالربا أن كلاً منهما مالٌ في غير مقابل، وقدمنا أن علماء الاقتصاد يقولون: الحياة تبنى على المعاوضة، فسلعة وثمنها متعادلة، ألف ريال قرضه، وألف ريال سداد؛ متعادلة، لكن ألف ريال قرضه وألف ومائة سداد؛ فالألف مقابل الألف، والمائة مقابل ماذا؟ هي زائدة عن الحق، فكذلك الهدية في شفاعته لأخيه زائدة، لماذا تأخذ هدية مقابل مشيك مع أخيك؟! فهذا تقبيح وتنفير من أخذ شيء على الشفاعة؛ لأن هذا إما حق لأخيك فعليك أن تؤديه إليه، وأجرك على الله، وإما باطل فيجب أن تبتعد عنه، بل وتنهاه عنه، لا أن تسعى معه وتأخذ هدية.(201/2)
شرح حديث: (لعن رسول الله الراشي والمرتشي)
قال رحمه الله: [وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي) رواه أبو داود والترمذي] .
الحديث السابق فيه: شافع، ومشفوع عنده، ومشفوع إليه، وقضيت الحاجة ودفع إليه هدية.
والموضوع الثاني هنا: موضوع الرشوة، والرشوة أخطر وأضر داء في المجتمعات، يفسد الدين والدنيا، والفرد والجماعة والحاكم والمحكوم، فالرشوة في الغالب لا تكون إلا في باطل؛ لأن صاحب الحق لا يحتاج إلى رشوة في الغالب، وفي النادر يحتاجها صاحب الحق، وسميت رشوة للمحاكاة، وأما الغالب الدائم فهو أن تدفع رشوة للباطل، وأما إن كنت صاحب حق فحقك يصل إليك.
إذاً: الرشوة: ما يدفع لإحقاق باطل أو إبطال حق، والله سبحانه وتعالى أشار إلى خطر الرشوة في موطن تشريع عجيب يا إخوان! ففي سياق آيات الصيام قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] ، ويمضي المنهج والأسلوب في التشريع وفي الرخص وفي الفدية، ثم في إباحة ما كان محرماً، ثم ذكر أول الصيام وآخر الصيام، ثم التحذير من حدود الله فلا تقربوها، ثم النهي عن مباشرة النساء حال الاعتكاف، ثم في النهاية قال: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:188] ، تدلوا: من الإدلاء وهو الدلو (وَتُدْلُوا بِهَا) أي: بأموالكم، فالدلو تدلونها إلى قاع البئر لتأخذوا الماء، فكذلك الرشوة، والرشوة من الرشا، والرشا هو الحبل الذي يتدلى به الدلو إلى قاع البئر، فكأن الرشوة بمثابة هذا الحبل الذي ينزل الدلو إلى قاع البئر لأخذ الماء، فكذلك عند الحكام، فالرشوة هي الحبل الذي يتوصل به الراشي إلى المرتشي ليأخذ منه ما يريد، من إبطال حق خصمه أو إحقاق باطله عليه.
وأقول: إن هذا من عجائب التشريع والإعجاز في كتاب الله؛ لأن الآيات في صيام رمضان ولوازمه، ثم قبل الخروج منها يأتي النهي عن أكل أموال الناس بالباطل، وبعدها: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة:189] ، فأيهما ألصق بالصيام: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] أو {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ} [البقرة:189] ؟ الأهلة من تتمة أحكام الصيام (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته) ، لكن حجزها في الأخير، وجاء قبلها بتحريم الرشوة، وكأن السياق الكريم يقول لنا: صمتم رمضان، وصمتم عن الحلال، أمسكتم عن الطيبات، وتعففتم عن الزوجات طيلة الشهر، فأنتم كمن دخل مصحة وهو مريض فتعافى، فقفوا هنا فكما صمتم عن الطيب الحلال من المطعم والزوجة؛ فصوموا عن أموال الناس بقية العام، لا تأكلوا أموال الناس، وأنتم صيام ما أكلتم أموالكم الحلال، وكذلك بعد رمضان لا تأكلوا أموال الناس بالباطل.
ويقولون: بعض الدول الأوروبية تفشت فيها الرشوة، وهي من لوازم الحروب، إذا وقعت حرب في دولة لا بد أن تأتي الرشوة؛ لأن مواد الغذاء والتموين تقل، وليس كل إنسان يحصل على حقه إلا بالرشوة، والمظالم تكثر، فقيل لرئيس وزرائها: لقد تفشت الرشوة في البلد وأفسدتها، فقال: أخبروني عن القضاء، هل وصلته الرشوة أو هو سالم منها؟ قالوا: القضاء سالم منها، فقال: إذاً: البلد بخير؛ لأن القضاء سيرد كل شيء إلى أصله، فالرشوة في القضاء مفسدة كبيرة، يأتي شاهد الزور ويأخذ الرشوة من المشهود له، ويقف أمام القاضي ويشهد، والقاضي لا يعلم الغيب، بل المصطفى صلى الله عليه سلم يقول: (إنكم تختصمون إلي، وإنما أنا بشر، أقضي لكم على نحو ما أسمع، فلعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من أخيه، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن اقتطعت له من حق أخيه شيئاً فإنما أقتطع له قطعة من النار، يأتي بها أسطاماً يوم القيامة في عنقه) ، والأسطام الحديد الذي يحرك به النار، يحرك به الفحم والحطب حتى يشتعل، فلما سمع كلاً منهما ذلك تراجعا، وقالا: حقي لأخي، لا أريد شيئاً.
ويهمنا أن سيد الخلق يقول: (وإنما أنا بشر أقضي على نحو ما أسمع) ؛ لأن الوحي لن يأتيه في هذه؛ لأنه يشرع ويسن للناس، فإذا كان يأتيه الوحي سيقول: الحق عند فلان، والحق عند فلان، والقضاة الآخرون من سيأتيهم؟ وهل جبريل سينزل للقضاة بعد هذا؟! لا.
فالرشوة تفسد النظام، وتضيع المصالح، وتحق الباطل، وتبطل الحق، وإذا أُبطل الحق، وحق الباطل فليس هناك فساد أكثر من ذلك.
إذاً: من هنا يقول صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الراشي) وهو دافع الرشوة، (والمرتشي) أي: آخذها، وفي لفظٍ: (والرائش بينهما) أي: الساعي بينهما، يقول: كم تدفع لفلان ويمشي لك كذا؟ كم تأخذ من فلان وتفعل له كذا؟ ويساوم ويسعى بين الاثنين، هذا يقول: أدفع ألفاً، وهذا يقول: لا، أنا ما يكفيني إلا ألفين، ولا يزال يتوسط حتى يوصلها إلى ألف وخمسمائة، هذا هو الرائش، وقلنا: الثلاثة يلحقهم هذا الإثم: هذا بدفعه إياها، وذاك بأكلها، وهذا بالسعي فيها.
واليهود ذموا لأكلهم السحت، والسحت هو الرشوة، أو الحرام، أو الباطل، والكل يرجع إلى مصب واحد، وعلى هذا يجب على كل مسلم أن يتجنب مسلك الرشوة.(201/3)
حكم إعطاء الرشوة للضرورة؟
إذا كان هناك موقف اضطرار، فهل تدخل الضرورة في الرشوة أو لا تدخل؟ هناك من يقول: لا ضرورة في الرشوة أبداً، الراشي والمرتشي بأي حالة من الحالات كلاهما داخل في اللعن.
وهناك من يقول: ليس الراشي كالمرتشي، المرتشي داخل في اللعن مطلقاً، ولكن الراشي قد تأتيه ظروف يضطر إليها كما يضطر الجائع إلى أكل الميتة.
وقد سبق -يا إخوان- أن كتبت في هذا الموضوع بحثاً مطولاً، ونشر في مجلة الجامعة الإسلامية، ومما وقفت عليه أن ابن مسعود كان في الحبشة، وفي طريقه اعترضه قطاع الطريق، وأخذوه ورفيقاً معه، وأوثقوهما وباعوهما، فجاءا إلى الوالي ليخلصهم، يقول: ما وجدنا مخلصاً كالرشوة، دفع كل منا دينارين للوالي فأعتق سراحنا.
وفي المجموع لـ ابن تيمية رحمه الله أن الراشي إذا اضطر لإحقاق الحق الذي سيبطل أو إنقاذ الحق الذي سيموت أو مات؛ فله أن يفعل ذلك، ويحرم على المرتشي أن يأخذ، ومثل بمثالين: لو أن رجلاً كان مع زوجه، وليس هناك إلا الله، وتحت سقف غرفة النوم قال: أنت طالق بالثلاثين.
ولا يوجد ورقة، يا ابن الحلال! خف الله! - ومن الغد ذهبت لأهلها، وأخبرتهم بالطلاق الموثق والمؤكد، وجاءهم يطلبها، فقالوا: أنت طلقتها! قال: لا، أبداً هي تكذب، أنا في عمري ما تكلمت بالطلاق، ولا عمري أطلقها أبداً.
تعال -يا ابن الحلال- أنت ما قلت: طالق بالثلاثين؟ أنا قلت هذا؟! ما خرجت مني كلمة.
فأهلها قالوا لها: أنت كذابة، أنت تبغي تشردي، اذهبي مع زوجك، فرجعت مع زوجها، ودخلت بيته وقد صمت أذناها بلفظ الثلاثين، فماذا تفعل في هذه الحالة؟ هل تمكنه منها وهي مطلقة بالثلاثين، فتكون قد أتت الزنا يقيناً؟ ماذا تفعل؟ هي مغلوب على أمرها.
يا ابن الحلال! خف الله أنت مطلق! قال: تريديني أكتب لك ورقة بالطلاق، وأسرحك إلى أهلك؟ أعطيني ثلاثين ألفاً! ورجعت المسألة إلى المساومة، فهذا الذي تدفعه المرأة لهذا الزوج المنكر يعتبر رشوة، وإذا كانت تستطيع أن تدفع فهل تدفع وتبعد عن طريق الزنا المتيقن في اعتقادها أو تستمر معه على طلاق الثلاثين؟! تدفع؛ لأنها مضطرة، وليس باختيارها، وهل له حق أن يأخذ هللة واحدة؟ ليس له حق، وعليه أن يقر بالحق، وليس له أن ينكر ذلك! والصورة الثانية: سيد كان مع عبده في سفر أو في خلوة أو في أي مجال، فخدمه خدمة طيبة وقال: أنت معتق لوجه الله، جزاك الله خيراً على ما عملت، وأنت عتيق لوجه الله، ومشيا ولما رجعا إلى البلاد تأسف وقال: كيف يضيع هذا العبد؟ فقال له: يا سيدي! أعطني ورقة بالعتق، فقال: عتق ماذا؟ - أنت قد عتقتني! قال له: أنت مجنون؟ لا عتق ولا شيء! هل يظل في الرق، وهو يعلم يقيناً أن سيده قد أعتقه أو يخلص نفسه من الرق الباطل الموجود حالياً؟ يخلص نفسه، وقال: إذا أردت أن أقر لك بالعتق فأعطني مالاً، فحينئذٍ يعطيه على أنها رشوة ليثبت حريته ويخرج من الرق، والسيد لا يحل له أن يأخذ المال، فهذا يعطي لإحقاق الحق، وذاك يأخذ بالباطل.(201/4)
جواز إعطاء الظالم مالاً لكف شره أو تقليله
يذكرون في كتب الفقه لو أن ناظر وقف أو وصي أيتام ابتلي بظالم اعتدى على عين الوقف، وأخذ جزءاً منه، مثلاً جاره اعتدى على الحد، وأخذ جزءاً منه، حاول ناظر الوقف هنا وهناك في المحكمة أن يرجع الحق، وأبرز وثائق الإثبات لكن بدون فائدة، وجاء له هذا الظالم وقال: اسمع! تريد حقك؟ قال: نعم، قال: صالحني بمبلغ كذا، وأنا أرد لك الوقف، فيتفق العلماء أن للناظر أن يصالح هذا الظالم ببعض الوقف ليستخلص البعض، مثلاً: هو أخذ ألف متر، فيقول له: أترك لك مائتين متر، ويسامحه ويصالحه على مائتين متر، ويستنقذ الثمانمائة، وكذلك وصي اليتيم، وآكل مال اليتيم يأكل ناراً في بطنه، ومع ذلك إذا اغتصب ماله، ولم يستطع وصيه تخليصه إلا بجزء منه فله ذلك؛ لأنه عمل لمصلحة اليتيم باستنقاذ البعض بالبعض، وله أجر في ذلك، وذاك عليه وزرٌ فيما يأخذ.
إذاً: الرشوة من حيث هي محرمة، ملعون دافعها، وملعون آكلها، وملعون الواسطة بينهما، ولكن: إذا دعت الضرورة فنجد من العلماء من يقول: اللعن عام دون استثناء، فماذا يفعل صاحب الحق الضائع؟ قالوا: يصبر، لكن إلى متى؟ وهناك من يقول: يرتكب أخف الضررين، وينقذ البعض أو الأكثر بالأقل، والله تعالى أعلم.(201/5)
خطورة الرشوة
لو أننا تصورنا مضرة الرشوة لكان الجميع يحاربها، وأكثر ما تكون الرشوة في المسائل التي لها علاقة بالحكومات، بالدوائر الحكومية، ومن أبرز صورها -والكل يعلمها- أن تأتي الدولة، وتطرح مشروع مباني، وتعمل مواصفات في القمة، بأحسن ما يمكن لو نفذت بحذافيرها، في الأبعاد والنسب، نسبة الإسمنت مع الرمل كذا، والحديد كذا، وو وبكل ما يمكن، وتجتهد، وتأتيها المظاريف مقفلة، تفتح المظاريف وترسو على زيد بن عبيد، وزيد بن عبيد وضع أقل عطاء، لكنه يريد أن يحصل على أعلى عطاء، فماذا يفعل؟ الجهة تأتي بمهندس مشرف، والمشرف هذا يمثل جهة المشروع، ويوقع له أو يعطيه سندات على كل خطوة خطوة، أولاً: الحفريات صالحة أو غير صالحة؟ وهكذا في مراحل البناء والتصليح، ويذكرون في ذلك النوادر والحكايات، فبعضهم سحب الحديد بعد التسليح! وبعضهم سحب كذا وكذا، وتقع أشياء لا يتصورها عقل، فيأتي المشرف وينظر إلى التسليح، فيجد الحديد ناقصاً عن المواصفة، فيقول له المقاول: خذ هذا المال واسكت، فيقول: صالح، ويأتي إلى الأبعاد وهكذا ويقول بعض المهندسين: لا ولن تجد مقاولاً يصدق، ولو في العتب حق الطاقة والباب، ينقص فيها الحديد، ينقص فيها الإسمنت، يفعل ويفعل.
لكن نقول: هذا نوع من التحامل، والخير في الأمة إلى يوم القيامة، وهناك من يبرئ ذمته، ويبرئ ساحته، لكن المشكلة في عملية الإشراف، والمشرف يرى النواقص بعينه، ويتغاضى عنها مقابل رشوة يأخذها.
وهذا المقابل لا يدري المسكين أنه يذهب بسببه ضحايا، ولعلكم سمعتم ببعض المشروعات في بعض الدول التي سقطت على من فيها؛ بسبب سوء التنفيذ، وسوء التنفيذ وقع بالاشتراك بين المقاول والمشرف، والمصيبة جاءت من المشرف، فإنه لا يخضع للمقاول إلا بالرشوة.
وكذلك إذا جئنا إلى خفر السواحل والحدود الذين يحرسون البلد من الممنوع، فتقدم إليهم الرشوة فيفتحون الباب على مصراعيه، وو وما نقدر نعدد الشيء الكثير، ولا نتهم أحداً بعينه، ولكن نقول: مضار الرشوة ليست قاصرة على الذي يدفع بأنه غرم بل تحصل أضرار من ورائها أضعافاً مضاعفة، وتكون النتيجة السيئة الحتمية على المواطن.
ولو أخذنا تصوير القرآن الكريم، لوجدنا أن الراشي أدنى الناس منزلة، وأقلهم مروءة، وكأنه -كما في التصوير الموجود في كتاب الله {وَتُدْلُوا بِهَا} [البقرة:188]- كان على علياء المروءة والكرامة مع الناس، فإذا به يتدلى إلى القاع، وإلى الحضيض، وإلى أدنى مستوى في المجتمع الذي يعيش فيه، ولهذا يصنعها بالدس، ويخشى أن تظهر، ويخشى أن يقال: والله! فلان هذا يرتشي، ويفعل ويفعل.
إذاً: يا إخوان! قضية الرشوة ما هي مجرد كون الإنسان يدفع شيئاً، أو مجرد إنسان يأخذ شيئاً، لا، انظروا إلى النتائج المترتبة عليها، فإنها تعود على المجتمع كله، مدرسة تسقط على الطلاب، مستشفى يسقط على من فيه، عمارة تسقط على سكانها، أليس هذا من جناية الرشوة؟ ولو جئنا إلى الطرق إلى المطارات إلى كذا إلى كذا وهكذا السلاح وعدم ضبطه أو التحرز من مبطلاته أو فساده، أشياء كثيرة ما يستطيع الإنسان أن يعددها، ولكن ننبه على خطر الرشوة في أي بلد، وكما أشرنا أن رئيس تلك الدولة الأوروبية يقول: الرشوة إذا تفشت في القضاء أفسدت البلد، وفعلاً إذا تفشت أفسدت، والله أسأل أن يعافينا وإياكم جميعاً إن شاء الله.(201/6)
شرح حديث: (أمره أن يجهز جيشاً فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة ... )
قال رحمه الله: [وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أمره أن يجهز جيشاً فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة قال: فكنت آخذ البعير ببعيرين إلى إبل الصدقة) رواه الحاكم والبيهقي ورجاله ثقات] .
تقدم التنبيه على هذا الحديث عند الكلام على حديث سمرة: نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، والعلماء قالوا: عارضه حديث ابن عمرو أنه كان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة، يعني: ربا فضل وزيادة.
وكذلك حديث أبي رافع: (استسلف صلى الله عليه وسلم بكراً، فلما جاء صاحب البكر قال: أوفوه، قال أبو رافع: فبحثت فلم أجد بكراً في الإبل، وإنما وجدت رباعياً، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أعطه إياه، إن خيركم أحسنكم وفاءً) .
وأشرنا إلى تفسير الشافعي لبيع الحيوان بالحيوان نسيئة، وهو أن يكون كلا الطرفين نسيئة وغائباً، ومذهب أبي حنيفة وأحمد أن حديث سمرة نسخ الحديثين الآخرين، وذكرنا أن سند الحديث فيه مقال، وأنه مرسل، وهذا جزء مما تقدم الكلام عليه هناك، ويهمنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كلف عبد الله بن عمرو بن العاص أن يجهز الجيش، مثل وزير الدفاع، أو وزير المالية، أمره أن يجهز الجيش، وسيجهزه من إبل الصدقة، مما يوجد للمسلمين، فإن لم يوجد تصرف، إذاً: تسند الأمور إلى من يقوم بها، وهذا مما ذكره صاحب كتاب: التراتيب الإدارية في الحكومة الإسلامية في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر من يتولى أمر الصدقة، ومن يتولى أمر الجيوش، ومن يتولى أمر العدالة، ومن يتولى الحراسة، وهكذا، ويكون هناك بداية تخطيط لدولة قائمة، فهذا عبد الله بن عمرو يأمره صلى الله عليه وسلم أن يجهز جيشاً، فنفدت الإبل، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يأخذ من الناس، ويقولون: ولي الأمر له عند الشدة والحاجة -وخاصة عند الحروب- أن يأخذ من الأثرياء قرضاً أو هبة، فإذا وجدت حالة شدة، مثل أن يدهم العدو البلد، أو علم ولي الأمر أن جيش العدو مقبل وليس عنده في صندوقه أو بيت المال أو وزارة المالية ما يجهز ما يقابل به هذا الجيش؛ فله أن يفرض على الأغنياء من أموالهم ما يجهز به الجيش الذي يدافع عن البلد؛ لأنه يدافع عنهم أنفسهم، ومن هنا: فهناك من يأخذ ذلك قرضة، وهناك من يأخذ ذلك مصادرة؛ لأنه حماية للبلد، وحماية لأمن الدولة، وكما يقولون: الأمن القومي، أمن الدولة، وقد نص الفقهاء على أن لولي أمر المسلمين ذلك، ولكن يجب أن يكون ذلك مع حفظ الحقوق، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز الجيش، فلما نفدت الإبل أمره أن يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة، وهذا يدل على أنه لا ربا في الحيوان، وهناك نهي عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة يثبت أن ربا النسيئة يقع في الحيوان، ومالك فرق وقال: إذا كان الحيوان بجنسه فربا، وإذا كان بغير جنسه فلا، فمثلاً: لو اشترى فرساً ببعير، أو اشترى بعيرين بفرس، اختلف الجنس فلا مانع أن يكون نسيئة، والجمهور على ما قدمنا في هذا الحديث، وهو دليل على أنه لا ربا في الحيوان، لا ربا الفضل؛ لأنه يأخذ الواحد باثنين، ولا ربا النسيئة؛ لأنه يدفعها من إبل الصدقة حينما يأتي المصدق في آخر العام بالإبل، والله تعالى أعلم.(201/7)
شرح حديث: (نهى رسول الله عن المزابنة)
قال رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة، أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلاً بتمرٍ كيلاً، وإن كان كرماً أن يبيعه بزبيبٍ كيلاً، وإن كان زرعاً أن يبيعه بكيل طعام، نهى عن ذلك كله) متفق عليه] .
(نهى صلى الله عليه وسلم عن المزابنة) ، والمزابنة من الزبن، وهو الدفع، ومنه الزبانية عافانا الله وإياكم، ثم فسرها ابن عمر وقال: والمزابنة -أي: في العرف الشرعي- أن تبيع ثمرة النخل على نخلها بخرصها تمراً، فمائة نخلة فيها رطب، لو أنها تركت كم يجيء منها من التمر، يجيء منها خمسة أوسق، فيقول: أكيل لك الآن خمسة أوسق، وخل بيني وبين الثمرة.
وهكذا الكرم، وإن كان هناك من يكره تسمية العنب كرماً، فهذا العنب لو ترك حتى صار زبيباً، كم يأتي منه من قنطار؟ قال: يأتي عشرة قناطير، فيقول: أقدمها إليك الآن عشرة قناطير زبيباً، وخل بيني وبين شجر العنب، ثم أبيعه عنباً، أو أعصره، أو أتركه حتى يصير زبيباً، أنا حر فيه.
وهكذا حقل للقمح أو للشعير، يقول: كم يحصل منه لو تركناه حتى يجف الحب ويشتد، ثم يحصد ويداس ويصفى؟ قال: يحصل منه خمسون إردباً، قال: أدفع لك الآن هذا القدر، وخل بيني وبينه، وأنا سأحصده يوم الحصاد.
وسواء حصلت في ثمر النخل مقدار ما دفعت لك كيلاً أو أقل أو أزيد، فالزائد لي والناقص علي، وكذلك في العنب، سواء حصل من الزبيب بقدر ما أعطيتك زبيباً أو أقل أو أكثر، وكذلك الحب.
وكل يزبن الغبن عن نفسه، فصاحب النخل يحسب أنه حصل على كيل معلوم أحسن من الذي على الشجر، وصاحب التمر الذي كاله يظن أنه سيحصل مما على الشجر أحسن مما دفعه، ويزبن النقص عن نفسه، وهكذا كل ثمرة بجنسها، أما إذا كان بغير الجنس، مثلاً: اشتريت ثمرة البستان بالذهب والفضة، أو اشتريتها بالقمح، أو بالأرز فلا مانع؛ لأن الأرز بالتمر يجوز فيه الزيادة، ولكن بقي عندنا التسليم، ولا ربا نسيئة إذا اختلفت الأجناس والعلة، إذا كان بالنقد تساوي هذه الثمرة خمسة آلاف أو ستة آلاف، فيقول: تفضل هذا النقد، وأخذ الثمرة التي على رءوس النخيل، وعالجها، وهو ما يرزقه الله، وكذلك العنب، وكذلك الحب.
إذاً: المزابنة بيع الثمرة قبل نضجها بخرصها يابساً من جنسها، الرطب على النخل بالتمر، والعنب بالزبيب، والحب في الحقول بالكيل من طعام من جنسه، والله تعالى أعلم.(201/8)
شرح حديث النهي عن اشتراء الرطب بالتمر
قال رحمه الله: [وعن سعد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن اشتراء الرطب بالتمر، فقال: (أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم، فنهى عن ذلك) رواه الخمسة وصححه ابن المديني والترمذي وابن حبان والحاكم] .
النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع الرطب بالتمر، يعني: كيلاً بكيل أو وزناً بوزن، فسأل صلى الله عليه وسلم ليلفت الأنظار، وإلا فلا يخفى الجواب على رسول الله فقال: (أينقص الرطب إذا يبس؟) وهل يوجد أحد يجهل هذا؟! لا، حتى أطفال أصحاب البساتين يعرفون هذا؛ لأن الرطب يحمل كمية من الرطوبة، فإذا يبس نقص؛ لأنه تتبخر تلك الرطوبات، ويبقى الأصل فيخف، وينقص الرطب عما هو عليه.
فقالوا: نعم ينقص، فنهاهم عن ذلك؛ لأن التمر لن ينقص، ولكن الرطب سينقص، فنكون في النهاية بعنا تمراً بتمر مع التفاضل، وكذلك العنب بالزبيب، وجميع الربويات أخضرها بيابسها، فنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الرطب بالتمر وزناً متساوياً أو كيلاً متساوياً لعلة الربا، وهي نقص الرطب عن مثله تمراً، والتمر لن ينقص؛ لأن النقص قد تجاوزه، والرطب سينقص فيدخل على صاحب التمر نقص في الثمن، والله تعالى أعلم.(201/9)
شرح حديث النهى عن بيع الكالئ بالكالئ
قال رحمه الله: [وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع الكالئ بالكالئ، يعني: الدين بالدين) رواه إسحاق والبزار بإسناد ضعيف] .
سواء إسناده ضعيف أو إسناده قوي، هذا متلقى عند الأمة بالقبول، وهو إجماع واتفاق على أنه لا يجوز بيع الدين بالدين، الكالئ هو الدين، وصورة ذلك: لك عند زيد ألف ريال، وحل الأجل؛ لأن قبل الأجل ليس لك المطالبة، فإذا حل الأجل وجئت تطالبه، ولم تجد عنده سداداً، فعلم بذلك إنسان وقال: أنا أشتري منك ما كان لك عند فلان، إن قدرنا أن لك عنده ألف ريال، أو أن لك عنده إردباً من التمر، أو أن لك عنده قنطاراً من كذا، وجاء إنسان وقال: أنا أشتريه، فقال: بكم تشتري الألف ريال؟ قال: بثمانمائة، وبعد شهرين مثلاً: يكون له عند فلان ألف، وأنت تريد أن تأخذ ثمانمائة، وليس هناك استلام ولا قبض، وبقينا في الدين كما كنا فيه، أو لك عنده قنطار أو إردب من التمر، فقال: أنا أشتريه منك بألفين ريال، فقال: هات الألفين، قال: لا، بعد أسبوعين أو بعد شهر، فرجعنا أيضاً إلى الدين كما كان أولاً.
فكل ما كان بهذه الحالة: بأن يشتري دينك الذي عند فلان بثمن مؤجل ديناً عليه هذا لا يصح، والسبب أو العلة في هذا أننا لم نحصل على نتيجة فعلية، وما خرجنا عن نطاق الدين، ولا زال البائع دائناً لم يقبض حقه، بل جاء وارتبط بمدينٍ آخر، ولم يحصل الوفاء من هذا ولا من ذاك؛ ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الدين بالدين.
ولو أنه قال: قنطارك التمر الذي عند فلان أنا أشتريه بألف ريال بعد شهرين، فهذا لا يجوز، لك تمر عند فلان، وأنا أشتري التمر الذي لك عنده بألفين ريال بعد شهرين، لا يجوز هذا؛ لأن الألفين ما سلمها، ولو أنه جاءه وقال: أريد منك إردبين من التمر بألفي ريال بعد سنة، فهل يجوز أو لا يجوز؟ يجوز؛ لأنه بيع وشراء في عقد واحد، والثمن مؤجل، والناس يتعاملون بالدين دائماً، فليس هنا دين بدين، لكن الممنوع دين بدين مؤجل، وهو النقد، وأكدنا سابقاً بأن الأثمان لا تدخل في ربا النسيئة؛ لأنها قيم المبيعات.(201/10)
كتاب البيوع - باب الرخصة في العرايا وبيع الأصول والثمار
الإسلام دين ودنيا، وعبادات ومعاملات، وقد نظم الإسلام أحكام المعاملات تنظيماً حكيماً، ويظهر ذلك بوضوح في باب البيوع، وهو باب واسع شمل كل أنواع المعاملات المالية وبين أحكامها، ومن هذه البيوع التي بينها الشرع بيع الثمار ووضع الجوائح وبيع العرايا.(202/1)
شرح حديث: (رخص في العرايا ... )
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في العرايا أن تبيع بخرصها كيلاً) متفق عليه، ولـ مسلم: (رخص في العرية يأخذها أهل البيت بخرصها تمراً يأكلونها رطباً] .
(رخص) يعني: أعطى رخصة في شيء ممنوع.
(رخص في العرايا أن تباع) (أن) تفسيرية، تفسر معنى العرايا التي رخص فيها رسول الله.
(أن تباع -النخلة أو النخلات- بخرصها تمراً) ، تباع ثمرة النخلة والنخلتين وهي رطب بخرصها تمراً، وصورة بيع الرطب على رءوس النخيل بخرصها تمراً كيلاً معلوماً تقدم لنا في المزابنة، والمزابنة: هي بيع الرطب على رءوس النخيل بخرصه تمراً مكيلاً.
مثلاً: هذا البستان فيه مائة نخلة، فتعطيه خمسين وسقاً من التمر الآن، ويدع لك النخل، لكن عندما تأخذ رطباً، وتجفف التمر، تحصل على خمسين أو أربعين أو ستين، هذا ممنوع، وهو من المزابنة.
(رخص في العرايا) ما هي العرية؟ سيأتي بعد البيان الإجمالي (بخرصها تمراً) حالاً، ويدفع التمر لصاحب النخل، وكيف رخص في هذا وهي مزابنة؟ قال: لكي يأكلها المشتري رطباً لا أن يجففها، وموجب الترخيص فيها الرفق بالمسلمين، وهي: أن يأتي إنسان لصاحب بستان يأكل الرطب، وجيرانه ليس لديهم المال ليشتروا نخلة أو نخلتين، ويجوز أن تشتري ثمرة هذه النخلة من رطب بمبلغ كذا نقداً، تسلمه الآن أو لاحقاً، لا مانع، مثل الذين يشترون الثمر كله ويتولون أمره، ينزلون منه رطب، يجففون منه، هذا بيع وشراء طبيعي، لكن جيران البستان ليس عندهم نقد يشترون رطباً يتفكهون به كما يتفكه الناس، وعندهم تمر، جاءهم زكاة من فاعل خير، إذاً الناس يأكلون رطباً جنياً وهؤلاء يأكلون تمراً جافاً من العام الماضي، قالوا: نريد أن نأكل رطباً نحن أيضاً، فهؤلاء الناس الذين لا يستطيعون شراء رطب النخلة نقداً وعندهم تمر، رخص لهم صلى الله عليه وسلم أن يشتروا ذلك عرية، وسميت النخلة التي يباع رطبها بالتمر خرصاً عرية ليست عارية، بل عرية من عريانة؛ لأن العارية من الاستعارة ويستعير، لكن عرية عريانة عن ماذا؟ عن حكم المزابنة بمقتضى الرخصة، فخرجت عن حدود المزابنة، لماذا؟ لخصوص هؤلاء الناس ليتمكنوا من مشاركة أصحاب البساتين والنقود من أن يأكلوا رطباً مع الناس.
وهنا أحكام عديدة؛ من أهم تلك الأحكام في رخصة العرية: أن تكون في حدود التفكه، هل يجوز أن يشترى البستان كاملاً بخرصه تمراً ويقال: عرية أتفكه؟ هل كامل البستان للتفكه أو للتجارة؟ للتجارة، إذاً: في حدود التفكه.
إنسان عنده أسرة من شخصين أو ثلاثة أو أربعة هؤلاء يكفيهم نخلة نخلتين، فيأخذ بقدر ما يكفيه للتفكه.
فإذا اشترى على قدر ما يحتاج بتقديره، وبعد أن اشترى قال: ما لنا والرطب! دعنا نجففها وتصير تمراً لعلنا نحصل على أكثر مما دفعنا.
هذا لا يجوز.
إذاً: الشرط الأول: أن يكون في حدود التفكه، الشرط الثاني: ألا يتعمد ترك الرطب على الشجر حتى يثمر؛ لأنه بهذا يكون قد باع تمراً بتمر مؤجلاً، ويكون قد استغنى عن الرطب، وما دام أنه استغنى عن الرطب فترجع العرية إلى المزابنة مرة أخرى، إذاً: رخص في بيع العرية والعرية هي: النخلة أو النخلات يشتريها صاحب العيال بخرص ما فيها من رطب تمراً يدفعه حالاً عند العقد ولا يؤجله.
ثم هو يباشر أخذ الرطب للأكل، وما سبقه عن الأكل وأتمر فلا بأس؛ لأنه لم يتعمد تركه حتى يجف ويصير تمراً.
وإذا زاد من رطبه ماذا يفعل في هذا الزائد هل يتركه على الشجر حتى يجف؟ لا، له أن يبيع أو أن يهدي؛ لأنه أخذ منه في حدود طاقته.
قال رحمه الله: [ولـ مسلم (رخص في العرية يأخذها أهل البيت بخرصها تمراً يأكلونها رطباً) ] .
رخص أن يأخذها أهل البيت بخرصها تمراً، أي: يأكلها أهل البيت، إذاً العرية: هي بيع الرطب بخرصه تمراً، وهو عين المزابنة، لكن لما كانت للحاجة لأهل البيت لكي يأكلوا رطباً رخص في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.(202/2)
شرح حديث: (رخص في بيع العرايا دون خمسة أوسق)
قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا بخرصها من التمر فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق) متفق عليه] .
هذا هو القيد، قلنا بأنه لا يحق أن يشتري ثمرة البستان كله عرية، ولكن يشتري نخلة أو نخلتين في حدود ما يخرج عن ظنية الاتجار، فما كان في حدود خمسة أوسق، والوسق ستون صاعاً، في حدود ثلاثمائة صاع، وقد تكون العائلة كبيرة وذات أرحام وأقارب، وقد يكونون مختصرين، لكن في مجال الخمسة أوسق، أما لو كان الرطب على النخل يخرص بستة أوسق فلا، هذه خرجت عن كونها عرية، هذا يريد أن يتاجر، إذاً: خمسة أوسق فأقل يجوز بيعها بخرصها رطباً يأكله أهل البيت، سواء زاد وأهدوا أو باعوا، أو جف عليهم وغلبهم اشتد الحر وسبق الصيف أوانه، أحياناً تأتي بعض السنوات في منتصف المدة، وتجد البستان بعد أن كان كله رطباً فإذا به في أسبوع واحد كله صار تمراً لشدة الحر.
إذاً: المقدار الذي يكون فيه الترخيص ببيع الرطب بخرصه تمراً إذا كان الخرص خمسة أوسق فأقل، هذا ما ذكره العلماء في التمر والرطب، وهل يقاس على ذلك الرخصة على العنب بالزبيب، والمشمش بالمجفف منه؟ بصفة عامة: الفواكه تجفف، التين يجفف، والعنب يجفف، والمشمش يجفف.
يهمنا: هل يقاس على الرطب والنخلة والتمر غيرها مما يشاكلها، وأهم ذلك العنب والتين أم أنها تقف عند المنصوص؟ يقول الأصوليون: الرخص لا تتعدى محلها؛ لأنها على خلاف الأصل وخلاف القاعدة، فيكون ما عداها محظوراً، ويكون ما عداها مغايراً لها.
إذاً: لا يقاس العنب بأن يخرص ويباع بخرصه زبيباً، ولا التين بخرصه تيناً مجففاً، فالعرية خاصة بالنخلة رطباً وتمراً، وما عدا ذلك لا يدخل في الرخصة.(202/3)
شرح حديث: (نهى رسول الله عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها)
قال رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع) ، متفق عليه، وفي رواية: (وكان إذا سئل عن صلاحها قال: حتى تذهب عاهتها) .
وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهى، قيل: وما زهوها؟ قال: تحمار وتصفار) متفق عليه، واللفظ للبخاري] .
هذا نوع من أنواع البيوع الممنوعة احتياطاً من الربا؛ ومن أكل المال بالباطل.
الثمار: جمع ثمرة، ويدخل في ذلك الرطب، العنب، التفاح، الخوخ، الرمان.
كل ما يسمى ثمرة (حتى يبدو صلاحها) صلاحها في ماذا؟ في إمكانية أكلها عند متوسط الناس، لا عند الجائعين يأكلونها وهي خضراء، لكن متوسط الناس أصحاب الأذواق المعتدلة، فإذا بدا صلاح الثمرة جاز بيعها، وهل المراد بصلاح الثمرة كل حبة على حدة؟ قالوا: لا، بين صلى الله عليه وسلم ما هو صلاحها، قال: (أن تزهو) ، فما زهوها؟ قال: (تحمار أو تصفار) ما الفرق بين: تحمار وتحمر؟ تفعال: تدل على الشروع في الشيء، والمضي فيه إلى النهاية، فمعنى (تحمار) بدأت مخايل الحمرة وإن لم تكتمل حمرة الثمرة كلها، بمجرد ابتداء اللون، أو الصفرة تميزت ثمرة هذه النخلة بالاحمرار، وثمرة تلك النخلة بالاصفرار ولو لم يكتمل الاحمرار في هذه، ولا الاصفرار في تلك.
وجاء في بعض الروايات عن العنب: (حتى يتموه حلواً) ، يتموه موهاً من الماء، وأصل الماء: موهٌ، فإذا جرى الماء في العنب، بمعنى: العنب في أوله الحبة مثل قطعة لحم، فإذا بدأ في الصلاح بدأ الماء يجري داخل الحبة، ويتموه حلواً، وقد يتموه في بادئ أمره لكن على الحموضة، فحينئذ ما بدا صلاحها ولا تصلح للأكل، لكن إذا تموه وجرى فيه الماء، وكان الماء طعمه حلواً فيها فقد بدا صلاحها.
والعلة في هذا كله: ما جاء في الرواية: (حتى تؤمن العاهة) ، أي: الآفة، وفي بعض الروايات: (حتى يطلع النجم) ، أي: نجم الثريا، {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1] ، ذكر منكراً، ويفسره الجميع بأنه الثريا، أمنت العاهة على الثمار، وهذا من قدرة الله سبحانه وتعالى، وليس للثريا تأثير في الثمار، ولكن توقيت للفصول في السنة واختلاف الأجواء بما يناسب الزروع، وكل زرع له فصل معين يجود إن صادفه ويفشل إن لم يصادفه، قد يهيج ويخضر ولكن لا يثمر، وسمعت من الشيخ ابن صالح رحمة الله تعالى علينا وعليه يحكي عن شخص فلاح كبير السن، مر على جماعة يزرعون الدبا الحمراء -التي يقولون عنها: الشرقية- في الضحى، فقال: يا أولادي! لو صبرتم حتى تزول الشمس.
قالوا: وما الفرق بين الآن وزوال الشمس إلا ساعة أو ساعتين.
قال: لا، الشمس تنزل في برج كذا بعد زوال الشمس من هذا اليوم، وهو أول أوان زرع هذا النوع، فكأنهم شباب استخفوا بشيبته، قال: علموا ما زرعتموه قبل الزوال، وما زرعتموه بعد الزوال، فكانت النتيجة فارقاً بعيداً، فما زرعوه قبل الزوال ورقه كبير، وأخضر طويل، وثمرته قليلة، وما كان بعد الزوال الثمرة أكثر من الورق.
إذاً: هناك مواسم زراعية تتناسب مع الجو والهواء والحرارة والبرودة، وكلنا يعلم، والفلاح أعرف بهذا، هناك مزروعات صيفية ومزروعات شتوية، والآن جاءوا بالبيوت المحمية لإيجاد جو يتناسب طيلة السنة مع المزروعات، وأصبحت ترى مزروعات الصيف شتاءً، ومزروعات الشتاء صيفاً؛ لأن البيوت المحمية لا فرق فيها بين صيف وشتاء.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (حتى يطلع النجم) ، (حتى تؤمن العاهة) ، (حتى يحمار أو يصفار) ، (حتى يزهو) ، كل تلك أوصاف في الثمرة تدل على أنها تجاوزت مرحلة الإتلاف والآفة.
جاء في وضع الجوائح: بأنه إذا اشتراها بعد أن بدا صلاحها، ثم جاءت جائحة سماوية كبرد أسقط الثمرة -كما هو معروف عند أهل الزراعة آفة- وأتلفت الثمرة، ما حكم المشتري مع البائع؟ يرد الثمن، (علام يأكل أحدكم مال أخيه بغير حق) لأن الثمرة لا زالت في بستانك، فهي على حسابك.
يهمنا هنا: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة لتكون ثمرة.
أما إذا بيعت لتكون علفاً أو غرضاً آخر، جاء إلى النخيل، والنخيل فيه أقنية بكثرة، فالبعض منها يزال تخفيفاً على النخل لتكون علفاً للدواب، فهل باعها على أن تكون ثمرة يبدو صلاحها؟ لا، ولا ينتظر بدو صلاحها، فهكذا إذا بيعت الثمرة لا لكونها ثمرة بل لغرض آخر فإن ذلك ليس فيه نهي، النهي عن بيع الثمرة لتبقى في مكانها في أصولها ثمرة يتم نضجها ويستوفيها المشتري، عندها لا يجوز عقد البيع حتى يبدو الصلاح.(202/4)
مقياس بدو الصلاح
إذا كان البستان فيه مائة نخلة، وظهرت حبة أو حبتين زاهية، هل بحبة أو حبتين زهت يحكم ببدو صلاح ثمرة البستان؟ لا، هذه بشائر خير لا مانع، لكن إذا انتشر الاحمرار في أكثر النخيل أو في النخلة الواحدة، وبدا الصلاح في بعض نخيل البستان، وكان البستان فيه عدة أنواع، والصلاح بدا في نوع منه، وبقيت الأنواع الأخرى، أيجوز بيع جميع الأصناف على بدو صلاح صنف واحد أو لابد من بدو الصلاح في جميع الأصناف؟ جميع الأصناف، إذا بدا الصلاح في بستان زيد وجواره بستان عمرو لم يبدو فيه صلاح، فهل نقول: صلاح بستان عمرو يصلح لصلاح بستان زيد؟ لا، المنطقة واحدة والحد واحد؟ لا، التربة تختلف، والماء يختلف، والصلاح كذلك يتفاوت وهكذا.
بدو الصلاح يكون غالباً في البستان الواحد، وإذا كان هناك أصناف وأنواع فإنه يعم الأصناف، وحينئذ تباع الثمرة على بدو صلاحها بنقد لا من جنسها، وبعد ذلك له أكلها رطباً، أو باعها رطباً، أو جففها دخلت في ملكه فيصنع فيها ما بدا له.(202/5)
شرح حديث: (نهي عن بيع العنب حتى يسود)
قال رحمه الله: [وعن أنس رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العنب حتى يسود، وعن بيع الحب حتى يشتد) ، رواه الخمسة إلا النسائي وصححه ابن حبان والحاكم] .
تتمة لما تقدم: قال في حق النخيل: (حتى تحمار أو تصفار) ، (تفعال) ، هذه تدل على الشروع في الشيء والمضي فيه إلى الكمال، كما في قوله سبحانه: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ} [الحجرات:14] ، (ولما يدخل) يعني: يدخل ويستمر في دخوله إلى الكمال والتمام، فكذلك يحمار ويصفار، يعني: يبدأ اللون إلى أن يأتي في الكمال.
جاء في العنب: حتى يسود، وهل كل عنب سيسود؟ لا، هناك عنب أسود وأحمر وأبيض، وشريفي، وحجازي، ومصري، وبناتي.
العنب كثير، لماذا أسود بالذات؟ الذي أصله أسود حتى يسود، ويسواد على وزن يحمار ويصفار، ولكن العنب الأبيض الذي ليس فيه سواد! هلا تذكرتم الأسودين، حتى يسواد يعني: يجري فيه اللون الأسود كناية عن الماء، (شهرين: هلال وهلال وهلال لم يوقد في بيت محمد صلى الله عليه وسلم ناراً.
قال: فما كان طعامكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء) الماء إذا رأيته في مكان عميق رأيته أحمر أو أسود؛ لغزارة مائه، فيسود بمعنى يظهر فيه الماء، هو كان أخضر فيروزي، ثم لما وجد الماء فيه مال إلى السواد.
إذاً: حتى يسود بمعنى يجري فيه الماء، كما قال: (يتموه حلواً) .
قال: [ (وعن بيع الحب حتى يشتد) ] .
وكذلك بيع الحب في مزرعته، إنسان عنده عشرون فداناً، قمحاً، ثم جاء إنسان وقال: أريد أن أشتري منك مزرعتك هذه، فهل اشتراها ليحصدها علفاً، أو ليبقيها حتى يشتد الحب ويحصد ويذري؟ إن كان اشتراها لتكون علفاً فلا مانع، وإن كان اشترها ليبقيها في زرعها حتى يشتد الحب ويستحصد ويحصد ويدوس ويصفي ويأخذ حباً.
لا يجوز البيع حتى يشتد الحب في سنبله؛ لأنها قبل اشتداد الحب أول ما تكون الحبة فارغة، ثم يجري فيها اللبن، سبحان الله! من أين جاء هذا اللبن؟ الأرض ليس فيها لبن، الماء ما فيه لبن، عود القمح ما فيه لبن، حينما ينعقد هذا اللبن داخل غلاف الحبة ويشتد، قبل الاشتداد يسمى فريكاً فتفرك السنبلة وتأكلها، حب أخضر.
هذا لا يجوز، حتى يشتد وتريد أن تأكلها فصاحب الأسنان القوية هو الذي يستطيع أن يأكلها.
فإذا ما اشتد الحب في سنبله أمنت عليه الآفة، وإذا ما أردت أن تحصد فكيفما شئت، لكن لا يباع بقمح كيلاً، بل بالنقد، فإذا ما اشتراه نقداً بعد اشتداد حبه جاز، وقبل أن يشتد الحب لا يجوز بيعه.
وقلنا: إذا كان الشراء مراداً به التبقية حتى يحصد، أما إذا كان مراده بالشراء أخضر علف أو أي شيء آخر هذا ليس داخلاً في هذا.(202/6)
شرح حديث: (لو بعت من أخيك تمراً فأصابته جائحة ... )
قال رحمه الله: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو بعت من أخيك تمراً فأصابته جائحة؛ فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟) ، رواه مسلم، وفي رواية له: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح) ] .
يأتي المؤلف رحمه الله في نهاية باب البيوع بهذين الحديثين، الحديث الأول: (إذا باع أحدكم ثمراً لأخيه فأصابته جائحة؛ فلا يأخذ من ماله شيئاً) ، وأمر صلى الله عليه وسلم بوضع الجوائح.
صورة هذا الحديث مما تقدم لنا في بيع الثمار وحدها دون الأصول: أنها لا تباع حتى يبدو صلاحها، وبدو الصلاح: هو أن يمكن لصاحب الذوق المعتدل أن يأكله، ثم بين صلى الله عليه وسلم نوع هذا الصلاح: بأن ثمر النخل تحمار أو يصفار، وفي العنب أن يتموه حلواً؛ فإذا حصلت تلك الصفات في الثمار جاز بيعها دون أصولها، كما هو المعروف عند أهل المدينة ببيع الصيف، يعني: ثمرة النخل صيفاً، ويكون هناك العنب والرمان والتين، وكل ذلك تباع الثمرة دون الأصل -أي: دون الشجرة- بخلاف ما إذا باع الشجرة والأرض وانتقل الأصل للمشتري، فسيأتي في الحديث حكم ذلك؛ فعلى أن الثمار لا تباع حتى يبدو صلاحها، وفي بعض الروايات: (حتى يطلع النجم وتؤمن العاهة) ، والنجم هو الثريا، وبمشيئة الله سبحانه يعتدل الجو وتؤمن الآفات على الزراعة.
فإذا أمنت العاهة في غلبة الظن وأن الثمرة ستظل سليمة إلى النهاية جاز بيعها، فإذا باعها قبل بدو الصلاح كان مغايراً لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان معرضاً لإصابة الآفة، أما إذا اشترى الثمرة بعد بدو الصلاح وعلى الوجه الشرعي، ثم جاءت جائحة، والجائحة هي الحدث العام الذي يجتاح -بمعنى: يكتسح ويدفع ما أمامه- بعد أن وقع البيع بعد بدو الصلاح على الوجه المشروع، وجاءت على غير العادة، فمثلاً: اشترى الصيف بعد بدو الصلاح، وبعد أن اشتراه بشهر -أو أكثر أو أقل- جاءت ريح عاتية فأسقطت الثمار وأتلفتها، أو جاء مطر مصحوب ببرد، وأسقط البرد الثمرة وأتلفته، أو نحو من ذلك الذي هو خلاف العاهات الزراعية والآفات التي تعتري الزراعة مما هو معهود عند علماء الزراعة، فتأتي آفة عامة بحدث مفاجئ فتتلف الثمرة، هذه هي الجائحة؛ فحينئذ وقع البيع ودفع المشتري الثمن أو لم يدفع وكان في ذمته، وخلى بينه وبين الثمرة يأخذ منها ما شاء، ويستغلها كيفما شاء.
وعلى صاحب النخلة أو الشجرة أن يسقي إذا احتاجت إلى سقي، أو يمنع من سقيها إذا كان ذلك يضرها، فلو كان لصاحب النخيل زراعة تحت النخل وتحتاج إلى سقي، لكن السقي يضر بالشجر؛ فيمنع للمضرة عما هو مبيع.(202/7)
إلزام البائع بوضع الجوائح
إذا جاءت الجائحة وأتلفت الثمرة المبيعة بعد بدو الصلاح على الوجه الشرعي، فهذه الثمرة التي أتلفتها جائحة سماوية على من يكون الضمان؟ الحديث هنا يقول، للبائع: فلا يأخذ من ماله شيئاً لماذا؟ لأن ضمان الثمرة ما دامت على الشجرة على البائع.
وهنا يقع الخلاف، ونجد القلة من العلماء من يقول: البائع لا يتحمل أي شيء، وإنما عوض هذا المثال وتلفه وضمانه على المشتري؛ لأن البائع باع ما تحت يده، وخلى بينه وبين المشتري، فهو في عهدة المشتري، إن سلم سلم له، وإن تلف تلف عليه.
يمكن أن يقول إنسان: هذا مقتضى العقل والقياس، ولكن تخلية البائع للمشتري بينه وبين الثمرة ليست تخلية كاملة، بل هي متعلقة ببقائها، ومن هنا كان الحديث صريحاً صحيحاً ولا يحتمل الاجتهاد عند من يعمل اجتهاده، وكما قيل: لا اجتهاد مع النص، والحديث في آخره يقول: (بأي حق يأكل مال أخيه) ، أنت بعت الثمرة بألف ريال، والمشتري دفع الألف، وبعد لحظات، أو أيام، أو أسابيع، وبعد أن اشترى منك في أوائل بدو الصلاح، وبعد أن اكتمل الصلاح، وأراد أن يستثمر ما اشتراه، ويجني الثمرة؛ فإذا بجائحة تتلف الثمرة عليه، أين المبيع؟ لكأن البائع لم يسلم المشتري عين ما باعه عليه، إذاً: من أول بدو صلاحها إلى أن ينضج ويكتمل صلاحها، إلى أن يستنفد المشتري ثمرته هي في ضمان البائع، والحديث صريح، ولا ينبغي الاجتهاد في معارضة النص، والجمهور على أن: ضمان الثمرة هذه التي ما بيعت إلا بعد بدو الصلاح، وتلفت بآفة عامة سماوية، وليس من صنع أحد؛ فإنها من ضمان البائع.
أما إذا كان ذلك بصنع أحد بأن جاء وأطلق عليها الماء في الليل وزاد إلى أن أفسدها، أو جاء وكانت ثمرة أخرى دون النخيل، أو النخيل ليس مرتفعاً بكثرة؛ وجاء وأطلق فيها إبله أو بقره فأتلفت الثمرة، إذاً: يكون هناك متعدٍ، والمتعدي ضامن، فيكون ضمانها على من تعدى.
إذاً: الكلام في الجوائح العامة السماوية التي لا دخل لأحد فيها.(202/8)
قانون التأمين البحري وفساده
نشأ في عالم التجارة والقوانين الاقتصادية ما يسمى بالتأمين البحري، والتأمين البحري هو أول نوع من أنواع التأمين التي انتشرت الآن في العالم، كانت التجارة بحرية، وكان القراصنة يعتدون على السفن، وكانت أكثرها شراعية أو بخارية صغيرة، وكانت الأمواج تأتي عاتية، فلربما طغت الأمواج وأغرقت السفينة، ولربما سطا اللصوص والقراصنة عليها واجتاحوها، فإذا كانت هناك تجارة في عرض البحر، وجاءت الأمواج والرياح فأغرقت السفينة بما فيها من السلاح، المشتري اشترط التسليم في بلده، والمنتج البائع تعهد له بإرسال السلعة إلى محله، لكنها في الطريق ما بين محل الإنتاج ومحل الاستلام تلفت بآفة لا باعتداء، فإذا كان التلف باعتداء القراصنة فهذا تعد من إنسان؛ فهو ضامن؛ فعليهم أن يتبعوهم، أما إذا تلفت بأمر إلهي سماوي: رياح عاتية، أمواج شديدة؛ فأغرقت التجارة؛ فيكون الضمان على البائع؛ لأن المشتري لم يستلم شيئاً بعد، فقاموا وأنشأوا الضمان البحري، وتقوم الشركات تضمن السلعة من موضع إنتاجها أو مبيعها، وتتعهد بشحنها ومتابعة الجو والحالة الجوية، ثم نوع السفينة التي تحملها، وقبل ذلك نوع التعبئة، وتعبئة الزجاج غير تعبئة القماش غير تعبئة الخشب، فشركة التأمين تتولى كنائب عن المشتري استلام السلعة، وتعبئتها بما يناسبها، ثم النظر في السفن التي تحمل هل هي صالحة للإبحار إلى محل التسليم أم لا؟ ثم تسأل مصلحة الأرصاد: هل هناك احتمال رياح أو إثارة رياح أو أمواج؟ بقدر ما لديهم من معلومات يتبادلونها مركزاً عن مركز آخر، فإذا ما اطمأنت شركة التأمين على سلامة الوصول شحنت البضاعة، وأبحرت السفينة، ومضت في طريقها إلى محل التسليم.
إذا عملت كل هذا ووقع المحظور، وجاءت جائحة عارضة بعد كل هذه الاحتياطات؛ فإن شركة التأمين هنا تضمن، والإسلام يقول: توضع الجوائح، فنظام الاقتصاد يحمل شركات التأمين ضمان ما ضمنت به في سلامة وصوله إلى المشتري؛ لأنها تأخذ على ذلك التأمين جعلاً، فلما أخذت الجعل وتوثقت من الأحوال التي تتعلق بإبحار البضاعة، وجاء أمر عارض، فتتحملها، وكونها تتحمل أو لا تتحمل فإنها قد تتحمل في السنة صفقة أو صفقتين، بينما تحصل من المؤمنين على مئات الصفقات وتصل بسلامة ولا تغرم شيئاً، فنسبة ما تغرمه في تلك الحالات لا يتجاوز العشرة في المائة أو العشرين في المائة من مجموع ما يدخل عليها من الصفقات الأخرى، هذا لا يهمنا، ولكن نقول: إن هذه القضية بذاتها عالجها رجال الاقتصاد وأخطئوا فيها، وهنا الإسلام يقول: (إذا باع أحدكم ثمراً فاجتاحته جائحة، فلا يأخذ من ماله شيئاً) .(202/9)
النسبة التي بها توضع الجوائح
قوله: (أمر بوضع الجوائح) ، يعني: وضع قيمتها، والجوائح تكون على حالات نسبية، قد تجتاح الجائحة جميع الثمرة، ولا يبق منها ما يصلح، وقد تجتاح البعض، وحينما تجتاح الجميع فلا خلاف أن هذا الحديث موضوعها، أما إذا اجتاحت البعض والبعض قليل؛ فإن هذه تجري بها العادة بأن تهب رياح، أو أن يأتي مطر نوعاً ما فيسقط بعض الثمرة أو يتلفها، فإذا كان الاجتياح لشيء قليل فلا وضع، ولا يرجع المشتري على البائع بشيء؛ لأن ذلك في حدود المعتاد.
وما حد القليل من الكثير؟ يقدره البعض بالثلث، إذا وقعت الجائحة على ثلث الثمرة وضعت من قيمتها عند البائع، باع البستان بألف، وجاءت الجائحة وأتلفت ثلث الثمرة؛ فالبائع يرد ثلث ثمن الثمرة للمشتري، أما إذا كان المتلف أقل من ذلك فهذا يغتفر ويتسامح فيه؛ لأنه من عوارض البيع والشراء، ومن حالات البساتين والرياح وغير ذلك.
إذاً المبدأ الأساسي: ضمان البيع والشراء، وأن عهدة المبيع في ذمة البائع حتى يستوفيه المشتري، وتقدم لنا نظير ذلك: لو أن إنساناً اشترى من آخر مائة كيس من الحب، ودفع الثمن، ولم يستلم ذلك، ولم تزل تلك الأكياس في مستودع البائع، فتلفت الأكياس في مستودع البائع، فتكون من ضمان البائع؛ لأن المشتري لم يستلم السلعة من المبيع؛ فهي في عهدة البائع حتى يستلمها المشتري، فكذلك هنا النخيل بمثابة الأكياس في المستودع؛ فلما ضمن الشرع للبائع ما تلف في مستودعه كذلك ضمنه ما تلف على أشجاره، ثم أمر بوضع الجوائح -وهي ما يجتاح الثمار- ولكن تفصيل بعض العلماء: إذا كانت الجائحة اجتاحت الجميع فعلى هذا النص، وإذا كانت اجتاحت قليلة فهذا مما يتسامح فيه، والحد بين القلة والكثرة هو الثلث، والله تعالى أعلم.(202/10)
شرح حديث: (من ابتاع نخلاً بعد أن تؤبر ... )
قال رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ابتاع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع الذي باعها إلا أن يشترط المبتاع) ، متفق عليه] .
هذا تابع لبيع الثمرة والأصول: إذا اشترى إنسان بستاناً، والبستان قد أُبر نخله، والتأبير وضع الوبار، وهو دقيق طلع فحل النخل في إناثها، وهذه الطريقة خاصة بالنخل، ولذا قالوا: إن أميز أنواع النباتات هي النخلة، كما قالوا: إن أميز أنواع الحيوانات الخيل، فالنخلة متميزة عن بقية الأشجار بصفات هي أقرب إلى صفات الإنسان، وأرقى أنواع النباتات النخلة؛ لما فيها من الشبه بالإنسان، في حياتها إذا جززت الرأس ماتت، وجميع الأشجار تقطع أغصانها يميناً وشمالاً، وتنبت وتعود إلى ما كانت عليه إلا النخلة، إذا جززت رأس النخلة ماتت، وكذلك ما يقال في أن النخلة ليست لها أغصان في وسطها كشجرة الرمان والتوت وغيرها، بل ساق واحد كالإنسان وعمود واحد، وكذلك قالوا: جميع أجزائها يستفاد منها، ولا يلقى منها شيء، وكذلك الإنسان مفيد للمجتمع بكليته: بعينه، بأذنه، بلسانه، بيده، برجله.
كل ذلك يفيد الأمة، فكذلك النخلة: في ورقها، في جريدها، في ثمارها، في نوى ثمرها، في جذوعها، في كرانيفها.
كل ذلك يستفاد منه ولا يتلف منه شيء.
ثم قالوا أيضاً في هذه العملية -عملية التلقيح وعدم التلقيح-: الإنسان لابد في تلقيحه من لقاء الذكر بالأنثى، فيكون هناك التلقيح كما يقال له فعلاً، ويكون هناك الولد بين الذكر والأنثى، فكذلك ثمرة النخلة لابد من تأبير وبار الذكر أو فحل النخل بطلع الأنثى، يعني تلقيحها متميز ذكر وأنثى، بخلاف بقية الأشجار، سواء كانت الحمضيات من ليمون وبرتقال وأترج وسوى ذلك أو العنب أو التين أو الرمان.
جميع الفواكه فإن فيها أيضاً تأبير -فيها تلقيح- ولكن ليس هناك نوع من شجر العنب، ولا التين ولا البرتقال هذا ذكر وهذه أنثى، الكل منتج، والكل مثمر، ولابد للثمرة من لقاح.
كيف تلقح تلك الأشجار؟ أما النخلة فقد عرفنا بأن الإنسان يأتي ويأخذ أبار الفحل ويضعه في طلع الأنثى، وبقية الأشجار من الذي يلقحها؟ بين الله سبحانه ذلك فقال: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر:22] ، يقولون: إن الشجرة بذاتها تكون فيها أزهار ملقحة، وأزهار تتلقح، فالشجرة الواحدة من كل صنف تحمل النوعين: زهور فيها لقاح ولا تثمر، وزهور تأخذ اللقاح وتثمر، ما الذي ينقل اللقاح من تلك الزهور الملقحة إلى تلك الزهور المتلقحة؟ الرياح، تمر بالشجرة فتأخذ من لقاح زهرة التلقيح وتمر على الزهور الأخرى فتعلق بها لواقح الزهور الملقحة فتلقحها بإذن الله.
وعلماء الزراعة يقولون: أيضاً الفراش والنحل وبعض الحيوانات أو الحشرات تساعد في التلقيح، فالنحلة: تنزل على هذه الزهرة -وهي زهرة لقاح- لتمتص منها، فيعلق بأرجلها نوع من اللقاح، فتنتقل إلى زهرة أخرى لتأخذ منها وجبة غذائها، ويسقط ما علق بأرجلها في تلك الزهرة الأخرى فتتلقح بذلك.
ويقول أيضاً علماء الزراعة: جميع الحبوب لها لقاح، وإذا لم يأتها اللقاح فلا تجد فيها الحبوب، وربما بعض الفلاحين يعرف أن في المزرعة كاملة بعض السنابل على هيئة الدخان، أو هيئة القطن المحروق، والسنبلة الطبيعية لها -كما يقال- السَفَاة، الإبر الصغيرة الممتدة إلى أعلى، وإذا مررت عليها بإصبعك وجدتها كالمنشار مسننة، تلك الفجوات الصغيرة في تلك السفاة الطويلة هي أنابيب ونوافذ تتلقى بها اللقاح الندى، ويدخل من خلالها إلى الحبة عند أول ظهورها في السنبلة، فهناك تلقح وتمشي في نموها، ثم تصير لبناً، ثم تعقد، ثم تكون حبة، فإذا مرت الرياح على تلك السنابل الملقحة لقحتها، وهي نادرة؛ لأن الواحدة تلقح آلاف الأفدنة.
إذاً يهمنا في هذا: أن النخل له طبيعة في التأبير، فإذا أبرت النخلة بدأت في النمو، وبدأت في مسيرتها إلى النضج، من الذي وضع أساس النضج في النخلة: المشتري أم البائع؟ البائع هو الذي أبر، إذاً: مسيرة نمو الثمرة ووصولها إلى النضج من عمل البائع، لذا فهي من حقه.(202/11)
تعارف أهل المدينة على أن الثمر لمن أبّر
وقضية أن الثمرة أو الشجرة إذا أُبرت فثمرتها للبائع قضية معروفة في المدينة قبل الإسلام بسنين، كما يذكر علماء التاريخ والأدب: أن بعض التبباعة جاء من اليمن في طريقه إلى أفريقيا، فمر بالمدينة، فاستطاب جوها، فترك ولده ملكاً عليهاً ليرجع ويأتي بأهله ليسكنوها، وفي أثناء غيبة الملك في ذهابه إلى أفريقيا رجع فوجد ولده مقتولاً، لماذا؟ لأن ولده جاء إلى نخلة مثمرة، وطلع وجذ ثمارها، فجاء صاحبها وضربه بالمنجل على رأسه وقال: إنما الثمر لمن أبَّر.
ليس لإنسان لم يؤبر ولا دخل له أن يعتدي عليها، وكان من شأنه أنه لما وجد ولده مقتولاً حاصر المدينة، وأخذ يقاتلها ويقاتلونه، إلى أن طال الحصار فطال عليهم الزمن ونفد زادهم، فقال أهل المدينة فيما بينهم -لتعلموا حال أهل المدينة قديماً-: ليس من الإنصاف أن نقاتل قوماً جياعاً نفد طعامهم، ونحن نأوي إلى بيوتنا ونسائنا نستريح ونتغذى، ثم نصبحهم بالقتال وهم جياع.
قالوا: ماذا نفعل؟! هم المعتدون، ليرحلوا، ما رحلوا، قالوا: إذا لم يرحلوا نقدم لهم العشاء، فإذا بالملك يقول: واعجباً لأهل هذه القرية!! نقاتلهم نهاراً ويقروننا ليلاً! فخرج عليه حبران من أحبار اليهود بالمدينة وسألاه: ماذا تريد من هذا الحصار الطويل؟ قال: أستأصل أهلها الذين قتلوا ولدي.
قالوا: لا تتعب نفسك، لن تسلط عليها.
قال: ولماذا؟ قال: إنها مهاجر آخر نبي يأتي من الحرم.
إلى آخر القصة.
والذي يهمنا أن الثمر لمن أبر، ويأتي الحديث: (من باع نخلاً قد أُبرت، فإن الثمرة للبائع ما لم يشترط المبتاع) ، وعلى هذا: فلو أن إنساناً أبر نخله، ثم جاء بعد التأبير وباع البستان، الثمرة التي في النخل المبيع تكون للبائع، إلا إذا اشترط المشتري أن الثمرة تابعة، ولو أن إنساناً جاء يستأجر البستان سنتين أو ثلاث، ووجد النخل مؤبراً، عقد الإجارة من الآن، ويمضي العقد ثلاث سنوات، ثمرة هذه السنة التي أبرها المؤجر للمؤجر، إلا إذا اشترطها المستأجر.
صاحب البستان احتاج نقداً فرهن البستان وقد أبر نخله، الثمرة الموجودة داخلة في الرهن مع الأصول أو خارجة عنه؟ خارجة؛ لأن صاحب النخل قد أبر، فلا تدخل الثمرة ضمن الرهن، وعلى هذا فالحديث مبين بأن من أبر نخلاً فإن الثمرة له، فلو باع النخل وقد أبرت فإن الثمرة ترجع للبائع ما لم يشترطه المبتاع -المشتري- فإذا اشترط ووافق على ذلك البائع، ف (المؤمنون عند شروطهم) .(202/12)
كتاب البيوع - أبواب السلم والقرض والرهن [1]
يعتبر السلم أو السلف عقداً من عقود الإرفاق بين المسلمين؛ وقد جعل الشارع عليه الصلاة والسلام له شروطاً حتى لا يقع الغرر أو التعدي على أي من طرفي العقد؛ وفي هذه الشروط: معرفة كيل ومقدار ونوع الشيء المسلم فيه، وعلى هذا جرى الصحابة رضوان الله عليهم في معاملاتهم.(203/1)
شرح حديث: (من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [عن ابن عباس قال: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: من أسلف في ثمر فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم) ، متفق عليه، وللبخاري: (من أسلف في شيء) ] .
يقال في اللغة: السلف؛ بالفاء، والسلم؛ بالميم.
والسلف لغة أهل الحجاز كما هو في الحديث، والسلم لغة أهل العراق، وكلاهما اسم لمسمى واحد.
جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجراً، فوجدهم على منهج وطريق في التعامل في البيع والشراء، والبيع والشراء من عقود الحاجيات؛ لأن الأمور: إما ضروريات، وإما حاجيات، وإما تتميمات: فالضروريات: حفظ الجواهر الست: الأديان، والعقول، والدماء، والأعراض والأنساب، وحفظ الأموال.
فحفظ هذه المسميات ضرورية لكل مجتمع، مسلماً كان أو غير مسلم؛ لأن الحياة لا تستقيم إلا بسلامتها وحفظها.
والحاجيات: تبادل المنافع؛ مثل: البيع، والإجارة، والوكالة، والحوالات؛ فكل هذه حاجيات؛ أي: الحاجة تدعو إليها، وقد يعيش الإنسان طيلة حياته ولا يعقد صفقة واحدة؛ لأنه يجد من يكفيه في ذلك.
والتتميمات: مثل الرهن، وهو تابع لعقد في الحاجيات؛ وهي المبيع، فهو متمم لعقد القرض بضمان سداده، فالسلم من العقود التي هي من ضمن الحاجيات؛ لأن الحاجة تدعو إليها: الناس للناس من بدو وحاضرة بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً} [الزخرف:32] ؛ لمصلحة الحياة، ولو كان الناس كلهم سادة لا يعملون شيئاً لفسدت الحياة، ولو كانوا كلهم عملة وليس هناك سادة لديهم المال والعقارات ما وجدوا ما يعملون فيه، فلابد من هذه الطبقية لإعمار الكون، والنتيجة الشرعية: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] .
فقدم النبي صلى الله عليه وسلم لهم عقوداً في البيع، والسلم، والإيجارات، وقد حصل تعديل بعض تلك العقود، كالإجارة، كما في حديث جابر؛ فإنه أتى إلى أهل قباء وقال: (أتيتكم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاكم عن أمر كانت لكم فيه منفعة، ولكن طاعة الله ورسوله أنفع) ، فقد كانوا يؤاجرون الأرض للزراعة على أن لصاحب الأرض ما في رءوس الجداول وما على القناطر من زرع، وللمستأجر وسط الأحواض، أو أن لصاحب الأرض الجزء الشرقي أو الغربي -لجزء معلوم المساحة- والباقي للمستأجر، فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ لأنه قد يصاب هذا ويثمر ذاك؛ فيكون ذلك غبناً.
فأما إن كان على جزء معلوم من الثمر فلا مانع، كأن تؤجر الأرض قمحاً على جزء منه؛ إما على الربع، أو على الثمن، أو السدس، فإن صحت فللجميع، وإن نقصت فعلى الجميع، ولا يكون هناك غبن.
كذلك المبيعات التي كانت ممنوعة، عدّل فيها، وذلك مثل السلم.(203/2)
شروط السلم
لابد في العين المسلف فيها: أن تكون معلومة للطرفين، وأن يغلب على الظن وجودها عند التسليم.
أما إذا كانت نادرة ويغلب على الظن عدم وجودها؛ فيكون إحراجاً على المشتري، لذلك لابد في المسلم فيه من تحديد وبيان يمنع النزاع عند تسليم السلعة، فإذا أسلم في حبوب فيكون نوعها معروفاً، وإذا أسلم في تمور فيكون نوعها معروفاً، والمدينة كان فيها أكثر من مائتي صنف من التمر، فلابد أن يسمي الصنف الذي وقع عليه العقد، ويكون متميزاً معروفاً عند الطرفين، وإذا أسلف قمحاً فلابد أيضاً أن يحدد النوع؛ لأن القمح أنواع: البيضاء، والسمراء، والشامية، والحجازية، ولابد أن يكون المسلم فيه مسمى.
وكذلك الكيل لابد أن يكون معلوماً من جهتين: الجهة الأولى: مقدار المكيل: بالصاع، أو بالإردب، أو بالقفيز، أو بالتنكة، وتكون مشاعة عند الناس؛ فلابد أن يكون الكيل معلوماً للطرفين حجماً ومقداراً، وإذا كان بالصاع؛ فهل هو الصاع الشامي أو المدني؟ وهل هو خمسة أو عشرة؟ بحيث أنه إذا جاء الأجل يقول: هذا عقدك عشرة آصع من تمر برني، أو هذا عقدك عشرة آصع من البر الشامي حباً، حتى لا يكون هناك نزاع.
الجهة الثانية: إذا كان المسلم فيه زيت أو نحوه - كما سيأتي- لابد من تبيين نوعية الزيت؛ هل هو من الزيتون، أو السمسم، وكذلك المقدار، فإذا جاء الأجل سلمه النوع والمقدار الذي تعاقدوا عليه.
هذا المكيل والموزون، وإذا كان المسلم فيه ليس مكيلاً ولا موزوناً، فهل يصح فيه السلم أم لا يصح؟ ينص الحنابلة وغيرهم: أن غير المكيل والموزون؛ وهو المعدود، إن كان يصح أن يوصف ولو وصف استوفت الأوصاف عينه، بحيث يتميز عند التسليم، ولا تقع المشاحة؛ جاز.
والآن في الوقت الحاضر نحتاج إلى هذا، ولنفرض وقوعه في: كاسات الشاهي، أو الصحون الصيني، أو كاسات الماء، أو الفنايل، أو الشماغ، فإذا أردنا أن نشتري أو نبيع سلماً، فكيف سيكون ذلك؟ إن كان يمكنك أن تصف هذا اللباس بوصف معروف عند الناس يميزه عن غيره، بحيث أننا لو جئنا عند التسليم لا نتنازع في المعقود عليه، وذلك بذكر النوع والخامة؛ هل هو قطن أو كتان أو حرير، وهناك قاعدة في علم الغزل: كم في الـ (سم) من مدَّة خيط؛ السدى واللحمة، ويعرف عندهم بكثافة النسيج وخفته، فتأتي وتأخذ المسطرة وتنظر كم خيطاً في الـ (سم) ، وكلما كان الغزل رفيعاً كان أقوى وأكثر، وكلما كان متيناً كان أضخم وأضعف، فإذا أمكن وصفه بكل الصفات بحيث أنه لا يختلط مع غيره صح.
والآن توجد ماركات وأسماء معينة وقد تشتبك في الأسماء، ولكن المقصود: الوصف الذاتي؛ وذلك مثل الملابس الجاهزة؛ ماركة كذا، ورقم كذا، وقماش كذا، فإذا وصف الملابس وقياساتها، ونوع نسجها، ولو أمكن أن يذكر أيضاً الشركة المنتجة بحيث أنها لا تختلف مع إنتاج شركة أخرى لكان أفضل، فإذا توافرت هذه المواصفات فلا مانع.
ومثلها الصحون والملاعق، وأثاث المنازل.
يقول الحنابلة: أما الأمور التي لا تنضبط كالقماقم والأسطال؛ فلا يسلم فيها، والقمقم: عبارة عن إناء مستدير يختلف حجمه، وتختلف قاعدته، ووسطه، وعنقه، فلا نستطيع أن نحدد قدر الضيق ولا السعة، ولا أن نحدد كم بين الضيق والوسط والقاعدة.
فهذه لا تنضبط، ولكن إذا أمكن ذلك بالإنتاج المكنيكي الآن، وذلك مثل القالب الواحد الذي يصب آلاف الأسطال بمقياس واحد، وأمكن تحديد قاعدته ومحيطه، وذكر الوصف الذي يحدده ويميزه عن غيره، هل من هو من زجاج أو فضة، فإذا أمكن الوصف وأن يحدد المسلم فيه بحيث لا يختلف مع غيره فلا مانع.
إذاً: (من أسلف في شيء؛ فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم) ؛ أي: وصفات معلومة، والغرض من ذلك: منع النزاع عند التسليم، فكل ما يسبب نزاعاً عند التسليم بعدم التميز أو وصف مشترك لا يصح أن يكون سلماً.
وكل ما يقضي على النزاع عند التسليم وليس فيه وصف مشترك مع غيره صح فيه السلم.
وعلى رأي الجمهور: أن السلم يكون في كل ما يمكن وصفه، ولا يكون قاصراً على المكيل والموزون كما قال البعض؛ لأن هذا تحجير، وقد جاء النص: (من أسلف في شيء) ، و (شيء) أعم العمومات، حتى أنه يشمل المولى سبحانه، قال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص:88] .
إذاً: هذا موضوع السلف، أو موضوع السلم.(203/3)
شرط تسليم الثمن في مجلس العقد
إذا تعاقدا في المجلس فلابد من تسليم الثمن في مجلس العقد، ولو تعاقدا في مجلس وقال: سأعطيك المال فيما بعد، وعندما يأتي الأجل تأتيني بالمبيع؛ فإنه لا ينعقد سلماً، فلابد من دفع الثمن في مجلس العقد، فإن افترقا ولم يدفع الثمن لم يتم العقد، لكن إذا دفع الثمن في المجلس فلابد أن يكون معلوماً، ولا يصح أن يكون صبرة في كيس، لماذا؟ لأنه في النهاية إما أن يوفي التزامه ويأتي بالمبيع، وإما أن يعجز عن الوفاء بأن يفتقد الصنف في ذلك الوقت، فماذا يكون الحكم؟ إما أن يسترجع ما دفع.
وإما أن ينتظر حتى يوجد المسلم فيه، ولا يجوز أن يأخذ على ذلك شيئاً، فإذا دفع ألفاً وكان الأجل إلى سنة ولم يوجد الصنف وتعذر فإنه يأخذ الألف، أو ينتظر حتى يوجد الصنف ولو لسنة ثانية، ولا يجوز أن يحوله إلى صنف آخر عندما يتعذر وجود الصنف المعقود عليه، فيكون الثمن معلوماً كما أن المثمن يكون معلوماً.(203/4)
مكان تسليم المسلَم فيه
أين يسلم البائع العين التي أسلم فيها؟ إن كان مجلس العقد في مكان يصلح للتسليم فعلى حسب العادة، واستصحاباً للأصل: أن يأتي به البائع إلى محل المشتري، وإن كان العقد قد وقع في مكان لا يصلح للتسليم فعلى ما اشترطاه، فإن لم يشترط نرجع إلى الأصل وهو مجلس العقد.
متى ينعقد عقد السلم في مكان لا يصلح للوفاء؟ لو كنت في سفر على متن طائرة وجاءت المناسبة، وكنت تريد تمراً سلماً أو براً أو أثواباً من القماش، فقال صاحبك: عندي ما أبيعك، وأسلمك في العين بعد ستة أشهر، فيقول: اشتريت، خذ الثمن، فدفع الثمن في مجلس الطائرة وانعقد البيع، والمبيع أجله إلى ستة أشهر، فأين يأتي البائع بالمبيع؟ هل يأتي به في الطائرة؟ يتعذر هذا، فإن اشترطا عند العقد محل التسليم؛ فيلزم البائع أن يوفي بذلك.
وإذا فاتهم أن يشترطوا ومكان العقد لا يصلح للتسليم، فإننا نرجع إلى الأصل؛ ويوفيه إلى المشتري في المكان الذي يصلح للتسليم؛ لأن مكان العقد وهو الأصل غير صالح للتسليم، وكذلك لو كانوا في سفينة في عرض البحر.
إلى آخره.
ومباحث السلم واسعة، وأهمها ما جاء في الحديث: من ضرورة تعيين المسلم فيه مقداراً ووصفاً وجنساً، حتى لا يتأتى فيه النزاع عند التسليم، وكل ما صح وصفه، وأمكن تمييزه، وانتفى النزاع عند تسليمه، جاز فيه السلم، والله سبحانه وتعالى أعلم.(203/5)
شرح حديث: (كنا نصيب المغانم مع رسول الله ... )
قال رحمه الله: [وعن عبد الرحمن بن أبزى وعبد الله بن أبي أوفى رضي الله تعالى عنهما قالا: (كنا نصيب المغانم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يأتينا أنباط من أنباط الشام فنسلفهم في الحنطة والشعير والزبيب -وفي راوية: والزيت- إلى أجل مسمى، قيل: أكان لهم زرع؟ قالا: ما كنا نسألهم عن ذلك) ، رواه البخاري] .
هذا شرط من شروط صحة السلم.
قال: [كنا نصيب المغانم] .
والمغانم نقود وأعيان.
إلى آخره، فكانوا يستعيضون عن تلك المغانم بدراهم، فيأتي التجار من الأنباط وأمثالهم إلى المدينة فيسلفون يعطونهم الثمن سلفاً في سلع معينة كما ذكرها هنا: البر، والشعير، والزيت، والزيتون، وهذه كلها مكيلة أو موزونة، وألحق بهذه الأصناف ما أمكن انضباطه.
قوله: [إلى أجل مسمى] .
كما قال صلى الله عليه وسلم: (في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى زمن معلوم) ، وهذا الأجل يشترط فيه التأثير على الأسعار، لأن المسلم فيه تطرأ عليه تغيرات الأسواق من زيادة أو نقص، لماذا؟ لأن كلاً من المشتري والبائع إنما باع مراعياً تغير الأسعار، فالذي دفع الثمن دفعه على أن يؤتى له بالمبيع في مواعيده.
مثلاً: الناس الآن في المدينة والنخيل فارغة، فيأتي شخص إلى صاحب بستان ويسلفه ألف ريال في إردب من التمر، فالذي دفع الألف الآن يرتجي بأن الألف سيأتيه بإردب أرخص مما يكون في السوق، والذي أخذ الألف وتعهد بالإردب يستفيد من المبلغ ويرى بأن الإردب في ذلك الوقت أقل من ذلك الألف في هذه الساعة، فكل منهما يراعي المصلحة لنفسه؛ فإذا لم يكن هناك تغير لزمن الأسعار ما كانت هناك دوافع للمسلم ولا للمسلم إليه في بر أو زيت أو زبيب إلى أجل معلوم، فالأجل لابد أن يراعى فيه تغير الأسعار.
[قيل: أكان لهم زرع؟ قال: ما كنا نسألهم] .
يشترط في المبيع سلماً: ألا يقيده البائع ولا المشتري، كأن يشترط من نخل معين، أو نخلة معينة، أو زرع معين، أو تأتي إلى صاحب بستان لتشتري منه إردباً سلماً، فلا تشترط: أريد من بستانك الذي في قباء، أو الذي في العوالي، أو الذي في بير علي؛ لأن اشتراط كون المسلم فيه من مكان معين قد لا يثمر ذاك المكان، وقد لا يأتي بالكمية التي أسلمت فيها، فماذا تصنع؟ وبهذا تكون كأنك بعت معدوماً معيناً، وهذا لا يجوز، لكن أن تبيع شيئاً مستقراً في الذمة، سواء كان عندك في بستان ستأتي من ثمره، أو أرض ستأتي من زرعها، أو ليس عندك شيء، فالذي ليس عنده شيء ماذا يعمل؟ إبان الموعد يذهب ويشتري من السوق المعقود عليه، ويأتي به يسلمه للمشتري.
إذاً: من شرط صحة السلم: ألا يعين المصدر الذي منه المبيع سلماً؛ مخافة ألا يأتي من المعين، فإذا كنت عينت من بستان معين والبستان لم يأت بالمقدار الذي اشتريته، فسيقول لك صاحب البستان: أنت الذي عينت البستان، وهذا الموجود، لذلك اشترط أن يكون السلم ديناً في الذمة ليس معلقاً بمعين في الخارج.
قال: (أكانت لهم زروع؟ قال: ما كنا نسألهم) ، ولا لنا دخل، فنحن لنا المعقود عليه فقط، سواء كان مسروقاً أو زارعة أو هبة أو شراء، نحن دفعنا المال وانتظرنا السلعة، فإذا جاء وقت الأجل أخذت المسلم فيه، وليس لك أن تقول: من أين جئت به، والله تعالى أعلم.(203/6)
شرح حديث: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه)
قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله تعالى) رواه البخاري] .
أتى المؤلف رحمه الله بالحديثين الأولين في موضوع السلم، وأرجو من الإخوة أن يرجعوا في هذا الباب إلى الموسوعات الفقهية؛ لأن هناك زيادات يستفيدها الإنسان لتوفية هذا الموضوع، وما تقدم في موضوع السلف؛ في عقده وشروطه وجنسه وزمنه ومقداره.
إلى آخره، لعل فيه الكفاية على رءوس مسائله، ثم انتقل المؤلف رحمه الله إلى الموضوع الثاني؛ وهو موضوع القرض؛ فقد أتى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما فيه الوعد والوعيد لمن أخذ أموال الناس قرضاً، بدليل قوله: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه) ؛ لأنه أخذها لحاجة وبنية سليمة، وقد دفعته الحاجة إلى ذلك، وهكذا أمور الحياة، تزيد وتنقص، (ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله تعالى) ، سواء كان في حاجة نفسه أو غيرها، وأخذها تبذيراً، أو من أجل إتلافها على صاحبها ولم ينو الوفاء، وإنما احتال عليهم، وما أكثر الحيل في ذلك! والأمثلة على هذا قد ترى من الغرائب: يذكر أن رجلاً أتى إلى قرية يبيع ويشتري، فنقصت عليه ألف دينار، فطاف في تجارها فلم يجد من يدفع عنه؛ لأنه غريب، فأتى تاجراً فقال له: أدفع عنك، ولكن بشرط: أن تأتيني بكفيل، قال: الكفيل موجود، قال: أين هو؟ قال: الله، فقال التاجر: أعطيتك والله الكفيل، وكان موعد الوفاء بعد سنة، فذهب الرجل بالمال، وجاء الموعد، فانتظر المقترض سفينة يركب فيها إلى صاحب الدين من أجل أن يوفيه حقه فلم يجد، وكل أسبوع يذهب للانتظار ولكنه لا يجد سفينة، وصاحبه هناك ينتظر أن تأتي السفينة بالرجل فلا يجد شيئاً، فيئس هذا من مجيء الرجل، ويئس ذلك من مجيء سفينة، فأخذ المقترض خشبة وحفر داخلها، ووضع القرض في الخشبة وأقفل عليه، وجاء إلى البحر وقال: يا الله! اقترضت بكفالتك، وهذا ديني، فسد عني ديني وفك كفالتك، وألقى بها في البحر، ثم قدر الله أن يذهب صاحبه إلى البحر لينتظر مجيء السفينة كالعادة، فوجد خشبة في الشاطئ فأخذها، وقال: لو أني أستدفئ بها، فحملها فإذا بها ثقيلة، فقال: لعل هذا من الماء، ولما وصل إلى البيت مغضباً ألقى بها فانكسرت عن الدنانير، ومعها ورقة مكتوب فيها: هذا ديني بكفالة الله، فإن وفى إليك فالحمد لله، وإلا فهو في ذمتي، وبعد مدة وجد المقترض سفينة فذهب ليتاجر في تلك البلاد، فمر على صاحبه وفي يده الألف، وقال له: لقد طال علي الزمان، ولم أجد سفينة، ولم يذكر له أمر الخشبة، وقال له: هذا دينك، فقال له: لقد وفى الله عنك، قال: أوصلت الخشبة؟ قال: نعم، فقال: الحمد لله! (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها ليتلفها) ، وهذا أمر بيّن واضح، والجزاء من جنس العمل، وهناك نصوص أخرى جاء فيها: (كان الله في عونه حتى يؤدي) ، وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وبعض الصحابة ربما يقترض من غير حاجة، فقيل لهم في ذلك، فقالوا: (التماساً لقوله صلى الله عليه وسلم: كان الله في عونه حتى يؤدي، فأحب أن يكون الله في عوني دائماً) .
قوله: (أدى الله عنه) ، أي: بأن ييسر له بعد عسر، أو يوسع عليه بعد ضيق، أو يهيئ له من يدفع عنه، كان له عون من الله حتى يؤدي هذا الدين، كثيراً كان أو قليلاً.
ويقولون: إن الزبير كان مديناً بكثرة، وكانت عنده تركة واسعة، فقال لولده: يا ولدي! إذا أنا مت فقل: يا رب الزبير! أد عن الزبير، فأخذ يبيع من تركة أبيه حتى وفى جميع دينه، وكان لا يظن أنها توفي بالنصف، بل وزاد للورثة منها! وعلى هذا: فإن أموال الناس ودائع، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه، وماله، وعرضه) ، والأعمال بالنيات، فإذا اقترض المحتاج وهو ينوي الأداء أعانه الله في قضاء الدين، ومن كان على عكس ذلك فهو على العكس، وهذا ترغيب في حسن النية بالاقتراض: أن ينوي الأداء والله يعينه، والله سبحانه وتعالى أعلم.(203/7)
شرح حديث: (إن فلاناً قدم له بز من الشام فلو بعثت إليه ... )
قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (قلت: يا رسول الله! إن فلاناً قدم له بز من الشام، فلو بعثت إليه فأخذت منه ثوبين نسيئة إلى ميسرة؟ فبعث إليه فامتنع) ، أخرجه الحاكم والبيهقي، ورجاله ثقات] .
ماذا تقولون في هذا الذي امتنع؟ أنا أقول: جزاه الله خيراً؛ لأنه بين لنا حسن معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لمن لم يطعه، فإنه لم يلزمه صلى الله عليه وسلم بما يريد، سبحان الله العظيم! نرجع إلى موضوع الحديث، وله نظائر: [إن فلاناً قدم له بز من الشام] .
البز: نوع من القماش مثل الخز، يشترك في نسيجه القطن والكتان، والحرير، أو شيء من هذا.
[فلو بعثت إليه فأخذت منه ثوبين] .
هل كان لدى الرسول صلى الله عليه وسلم ثياباً كثيرة؟ لا.
الواحد منا كم عنده من ثوب؟ لا يقل عن أربعة أو خمسة أثواب.
قد يقال: هذا فيه نوع ترفيه وتجمل، وقد سبق ل عمر رضي الله تعالى عنه أنه رأى حلة تباع عند باب المسجد، فأتى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! اشتر هذه، تلبسها في الأعياد وعند الوفود، وهذا الذي ينبغي على المسلم وخاصة المسئول؛ فإنه لابد أن يكون في التجمعات مظهره أكمل؛ لأن في هذا إظهار فضله واعتزاز نفسه، وأكثر من هذا: في غزوة تبوك لما نزلوا منزلاً، وكانت تلك الأيام أيام حر، وكانوا إذا نزلوا منزلاً وفيه شجر، يتركون الشجر الأكثر ظلاً لرسول الله، فجاء أبو طلحة إلى رسول الله بغرارة وفيها قثاء، فقال له رسول الله: (من أين هذا؟ قال: جئت به من المدينة) ، ونعلم بأن القثاء أشد تحملاً في السفر من الخيار والخربز، والحبحب؛ لأنها صلبة، فأكل صلى الله عليه وسلم، فإذا بغلام لـ أبي طلحة مر في ثياب خلقة، فقال صلى الله عليه وسلم: (أليس عنده سوى هذا الثوب؟ قال: بلى يا رسول الله، ثوب جديد في الخريطة، فقال: مره فليلبسه، فدعاه وقال له: البس ثوبك الجديد، فلبس ثوبه الجديد، فكان بمنظر غير المنظر الأول، فقال رسول الله: ضربت عنقه! -أي: أليس هذا أحسن؟ - فقال الغلام: في سبيل الله يا رسول الله! قال: في سبيل الله) فضربت عنقه في سبيل الله، لكن المشكلة هنا: أنهم في غزوة ومقدمون على الروم، فقد كانت غزوة تبوك عن موعد مع الروم، ومن عادة الجيوش أو المتقاتلين: أن الهيئة والبزة تعود على الخصم بالتأثير، فإذا رأى الخصم خصمه مهلهل الثياب، ضعيف السلاح، مطأطئ الرأس؛ طمع فيه ولم يبال.
أما إذا رآه منتفخاً ريشه، ومرتفعاً رأسه، ويزهو بنفسه عمل له حساباً، ولهذا لما أخذ أبو دجانة السيف وأخذ يتبختر به ويمشي مشية الخيلاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها مشية يكرهها الله إلا في هذا الموطن) ؛ لأنه إذا استخف به كأنه مستخف بالعدو، كما قال: جاء شقيق عارضاً رمحه إن في بني عمك سلاح وأباح صلى الله عليه وسلم الذهب -الممنوع- أن يجعل حلية في السيف؛ لأنه يراه العدو، فيعرف بأن صاحبه صاحب نعمة، وسبق أن سمعت من والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: أن جماعة من قبيلته -وهي قبيلة تجارية حربية- كانوا في سفر للتجارة؛ فرءوا في طريقهم رجالاً يعترضونهم بالسلاح، فعرفوا أنهم قطاع طُرق، وأنهم سيتقاتلون معهم؛ فلما دنوا منهم أناخوا الإبل -وكانت عليهم ثياب للسفر عادية- ثم أخرجوا أحسن ثياب يحملونها معهم فلبسوها، وأخرجوا أفضل نعالهم فانتعلوها، ثم أثاروا الإبل، وتقدمها رجال وتأخرها رجال، واكتنفها من الجانبين رجال ومشوا بتؤدة وتأن ولا كأن أمامهم شيء، فلما رأى قطاع الطريق ذلك قالوا: هؤلاء أناس ليسوا بعاديين، فمادامت هذه حالهم فإنهم واثقون بأنفسهم، فجنبوا عن الطريق، فابتعدوا عن طريق سيرهم حتى اجتازوا فأناخوا الإبل، وأخرجوا من تجارتهم شيئاً كالهدية والطعم، ووضعوه على ظاهر الطريق، وكأنهم يقولون لهم: تعالوا خذوا بعض الشيء، ثم مضوا في سبيلهم.
وهذا كما يقال: فيه كسر لنفسية العدو، وكذلك ما حصل في تبوك، فإنهم عندما يرون الخادم بالثياب الجميلة يقولون: إذا كان هذا خادمهم وراعيهم، فما بال الآخرين؟ وعمر رضي الله تعالى عنه عندما رأى الحلة، ورأى الوفود تأتي إلى رسول الله أراد أن يكون لرسول الله ثياباً خاصة يلقى فيها الوفود، وهذا مناسب، بل يقول صلى الله عليه وسلم: (ما على أحدكم لو اتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته) ؛ فالفلاح والجزار والحداد له لباس لعمله يتحمل الأوساخ، فهل يذهب الجزار مثلاً إلى صلاة الجمعة بملابسه التي يعمل بها في المجزرة، ويدخل المسجد بين الناس في صلاة الجمعة بهذه الملابس؟! فلابد أن يكون له ثوباً خاصاً ليوم الجمعة بعيداً عن أوضار المهنة؛ ليكون في مظهر ومنظر حسن، وحسن السمت من حسن السيرة.
إذاً: لما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعترض على عمر أن يلبس حلة للوفود، ولكن لما نظر في قماش الحلة وجد أنها لا تصلح له، وقال: (إنما يلبس هذا من لا خلاق له) ، يعني: نوعية قماشها لا تصلح لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنى هذا: أنه لو كان القماش من نوعية أخرى لقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونعلم أنه كانت له بردة يخطب فيها يوم العيد ويقابل بها الوفود، وبقيت بعده إلى أن اشتراها معاوية رضي الله عنه.
إذاً: عائشة رضي الله تعالى عنها رأت من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه في حاجة إلى ثوبين من هذا البز، فعرضت عليه أن يشتري، فقالت له: (لو أرسلت إليه، فأخذت منه ثوبين نسيئة، فبعث إليه فامتنع) ، نقول: إن الرجل لا يجهل قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه حريص على المال لأي معنى من المعاني، وهذا قضاء الله الذي وقع.
وامتناع الرجل عن البيع لرسول الله صلى الله عليه وسلم نسيئة أعطانا خلفية عن معاملته عليه الصلاة والسلام مع أصحابه، فإنه لم يخاصمه ولم يعاتبه ولم يلزمه بشيء؛ لأن هذا ملكه وله حرية التصرف فيه.
ولو حدث هذا الموقف لأحدنا فسيقول للتاجر: أنت لا تقرض أحداً، ولا تأمن الناس، والتاجر معه الحق في ذلك؛ لأنه حر في ماله، فله أن يقرض من يشاء ويمنع من يشاء، فإذا كان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم الذي يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ومن أجل ثوبين ليس لديه حقهما يطلب من رجل ثوبين بقيمتها نسيئة، ومع ذلك يرفض الرجل! يقول الله عز وجل فيه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ، صلوات الله وسلامه عليه.
وقريب من هذا قضية بريرة؛ فبعد أن أعتقت واختارت نفسها، وصار زوجها يتبعها في الطرقات، وبلغ خبرها رسول الله، قال لها رسول الله: (زوجك- يعني: انظري في حاله- فقالت: يا رسول الله! أشافع أنت أم آمر؟ فقال لها: أنا شافع؟ - والشافع قد تقبل شفاعته وقد لا تقبل، والآمر إذا كان له حق الأمر فأمره مطاع- فقالت: لا حاجة لي فيه) ، وهذه كما أشرنا مراراً: جواب ملفوف في ورق ملون مكتوب فيه: لا أقبل شفاعتك، فلم يعتب عليها صلى الله عليه وسلم ولم يلزمها، ولم يأخذ في خاطره منها؛ لأنها حرة في نفسها، وقد شفع فلم تقبل الشفاعة.
إذاً: نحن أيضاً مع الناس في الشفاعة، لو شفعنا في مصلحة إنسان فردت شفاعة من شفع لا يحمل في قلبه الحقد، ولا يقول: لم يقبل شفاعتي، لماذا؟ ليس بينك وبينه عداوة، ولا أخذ لك حقاً، غاية ما في الأمر أنك طلبت منه طلباً ليس ملزماً بإجابته فرفض، لماذا تحمل في نفسك عليه؟ والمؤلف جاء بالحديث في باب القرض؛ لأنه انتهى من باب السلم، وتقدم حديث عائشة قبل ذلك: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) ، وهذا تحذير من القرض بدون حاجة، أو بنية عدم الرد والسداد.
وهنا عملياً: إذا أنت اشتريت وبقي الثمن مؤجلاً، فكأنك اقترضت الثمن من صاحبه، فيجوز البيع بتقديم السلعة وتأخير الثمن، ذكرنا سابقاً بأن البيع ثلاثة أقسام: إذا كان الثمن والمثمن حاضر خذ وهات، وإذا كان الثمن غائباً والسلعة حاضرة فخذ السلعة ثم هات الثمن، والعكس في السلم؛ الثمن مدفوع في المجلس، والمثمن مؤجل.
إذاً: أخذ السلعة نسيئة لا بأس به، ولكن إذا كان الثمن نقداً من غير جنس المبيع، فلو أنك اشتريت إردباً من التمر بإردب من البر على أن يكون نسيئة، فلا يجوز؛ لأن البر بالتمر يجب أن يكون يداً بيد، وإن جاز التفاضل فلا يجوز النساء، كما هو في السلم؛ إذا أسلمت في تمر وكان رأس المال براً فلا يجوز؛ لأنه من بيع ربوي بربوي نسيئة، فلا يجوز ذلك.
وباب القرض واسع، فقد يكون في النقد، وقد يكون في ثمن البيع، وقد يكون في أجرة الأعيان، كأن تستأجر البيت أو البستان والأجرة مؤجلة إلى كذا كل ذلك جائز.(203/8)
كتاب البيوع - أبواب السلم والقرض والرهن [2]
جعل الله عز وجل الناس بعضهم لبعض سخرياً، ومن ذلك التسخير ما يكون بينهم من المعاملات المالية، فكل إنسان مهما استغنى بنفسه إلا أنه يحتاج إلى غيره سواء كانت حاجة جسدية أو مالية، وهذا يدخله معهم في معاملات، ومن هذه المعاملات الاستدانة، وعندها فقد يحتاج بعض الدائنين إلى ما يوثقون به ديونهم وهو ما يعرف بالرهن.
وقد فرع الفقهاء عليه أحكاماً كثيرة ومسائل عديدة.(204/1)
من أحكام القرض
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الظهر يركب بنفقته) ] .
يتعلق بالقرض أبواب تجر إلى الربا، فلو كان القرض عيناً؛ كأن تكون اقترضت ألف دينار، أو إردباً من التمر، وتقدم بأنه لا يجوز لك إذا شفعت لإنسان شفاعة فأهدى إليك هدية أن تأخذها؛ لأنك بهذا تكون قد دخلت في باب الربا، وإذا أقرضت إنساناً فأهدى إليك بسبب القرض، فكل قرض جر نفعاً فهو ربا.
ويختلف الفقهاء في جواز القرض في أشياء؛ لأن القرض يكون في معين: موصوف معلوم؛ ليكون عند السداد موضع وفاق، أما إذا كان القرض في شيء غير منضبط، فلا، قالوا: كل ما صح سلماً صح قرضاً، أما الجواهر والأحجار الكريمة فلا يصح السلم فيها؛ لأنه لا يمكن انضباطها، وكذا في الفيروز والياقوت والعقيق والزمرد لو قلت: أسلمت فيما وزنها كذا جرام، فإن شكلها وصفاءها ونعومتها تختلف، ولا يمكن انضباط ذلك، ولهذا قالوا: لا يصح السلم في الأحجار الكريمة، ولا الجواهر النفيسة؛ لأنها لا تنضبط عند التسليم، فكذلك القرض؛ لأنك عند ردها نختلف؛ هل هذا الذي اقترضت أو غيره؟ إذاً: لا يجوز القرض فيها.
والحيوان: هل يجوز القرض فيه أم لا؟ يختلفون: الجمهور على الجواز؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم: (استسلف بكراً ورد خياراً رباعياً) ، قالوا: هذا من حسن الأداء، ونحن هنا في بيع وشراء، وفرق بين البيع والشراء عند مقاطع الحقوق وبين حسن الأداء مكارمة.
الإماء والعبيد هل يصح القرض فيهم؟ قالوا: هذا يرجع إلى حكم القرض، هل هو عقد تمليك على القطع أم مؤقت؟ اقترضت ألف دينار، هذه الألف التي اقترضتها امتلكتها ملكاً قاطعاً تاماً أو معلقاً؟ فمن قال: هو ملك تام مقطوع به؛ فيجوز عنده، ومن قال: هو مؤقت؛ لأنه معلق بالذمة لصاحبه، قال: لا يجوز، وقوم قالوا: يجوز في العبيد ولا يجوز في الإماء؛ لأننا إذا أقرضنا الأمة، وقلنا: هو تمليك، ربما استمتع بها وهي ليست ملكاً له على الحقيقة، لذا قالوا: يجوز قرض الأمة لمن لا يحل له وطؤها، كامرأة لا تطأ؛ أبوها، أخوها، ذو محرم منها؛ لأنه لا يتأتى المحظور.
إذاً: هناك مباحث في القرض للتوسع فيها يرجع إلى كتب الفقه، والله أعلم.(204/2)
شرح حديث: (الظهر يركب بنفقته ... )
قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة) رواه البخاري] .
هذا شروع من المؤلف في مباحث الرهن، والرهن في اللغة: الحبس، كما جاء في الحديث: (الميت مرهون في قبره بدينه) ، أي: محبوس فيه، والرهن في اصطلاح الفقهاء: توثيق دين بعين يمكن الاستيفاء منها، وقد بين سبحانه أنه عند عدم وجود الكاتب أو الكتابة يكون الرهن: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:283] ، سواء كان ذلك في السفر لتعذر الكتابة، أو كان في الحضر.
والرهن عقد جائز؛ وإذا وقع فهو لازم، وذلك: إذا كان إنسان مديناً بدين لآخر، لكنه لا يثق في المدين لوفاء الدين، فيقول له: أحضر لي رهناً توثيقاً للدين، فيقدم إليه الرهن، وكما يقولون: كل ما جاز بيعه سلماً جاز رهنه؛ لأن العين المرهونة عند نهاية أجل الدين يردها المرتهن للراهن، فإذا حصل فيها خلاف أو نزاع، لابد أن يرجع إلى ما صح سلماً؛ أي: بالوصف.(204/3)
شرط العين المرهونة
العين المرهونة لابد أن تكون معلومة للطرفين، حتى إذا ما جاء وقت السداد، ورد العين المرهونة لصاحبها لا يكون هناك نزاع.
والرهن بمجموع أمره لا يجوز للمرتهن أن يستفيد منه على حساب الدين، والدين قد يكون قرضاً حسناً، أو ثمن مبيع، أو أجرة عين متأخرة، فتأخذ رهناً عليها، أو بعته عيناً والثمن مؤخر فتأخذ رهناً منه إلى التسليم اقترضت منه ألفاً أو عشرة آلاف وطلب رهناً، فلا مانع من ذلك، وهذه كما يقولون: من العقود المكملة والمتممة لعقد البيع؛ لأنه توثيق للثمن المؤجل، وكل عين جاز الانتفاع بها جاز رهنها على ما تقدم في أوصاف السلم.
ويشترط في الراهن: أن يكون جائز التصرف؛ لأن غير جائز التصرف لا يحق له أن يرهن؛ لأن الرهن تسليط المرتهن بالعين المرهونة.(204/4)
حكم الاستفادة من العين المرهونة
إذا رهن إنسان شيئاً كان له غنمه وعليه غرمه، وبعض الناس ربما اتخذ عقد الرهن وسيلة للانتفاع مقابل القرض الذي أقرضه، طلب منه قرض عشرة آلاف وهو لا يقدر أن يقول له: على أن تردها ومعها مائة، أو ومعها إردب من التمر، أو ومعها كذا، أو تعمل لي كذا؛ لأنه ربا صريح، فيقول: ترهن لي البيت، أو السيارة، أو كذا، فيقول: أرهن لك، فحينما يقدم إليه العين المرهونة يأخذها ويستفيد منها، داراً يسكنها، سيارة يستعملها، أشياء من هذا القبيل، فما استفاده من عين الرهن لا يحق له أن يأخذه؛ لأنه بمثابة -على ما سيأتي- قرض جر نفعاً بواسطة الرهن، حتى الهدية لا يقبلها إلا إذا عاوض عنها، فإذا كان للعين المرهونة نفقة، ومنها منفعة, فلها وعليها، على ما يأتي تفصيله، وإذا كانت لا تحتاج كلفة كالدار، والأرض الزراعية، فيرهنه إياها يأخذها ويزرعها، ويستغل زراعتها، فيتعين عليه أن يحتسب كم حصل من زراعتها، كم من حصل من سكنى الدار، فيحسبها ويخصمها من الدين التي هي مرهونة فيه، فلما كان الرهن لا يجوز للمرتهن أن يستغله لحسابه زائداً عن الدين الذي له، جاء هذا التنبيه: (الرهن يركب، والضرع يحلب، وعلى الراكب وعلى الحالب - أو الشارب- النفقة) .
إذاً: حينما يكون الرهن يعطي ويأخذ، فإن ما يعطيه يحاسب به فيما يأخذه؛ أي: من النفقة، فإذا كان يعطي ولا يأخذ؛ كالدار مثلاً، تعطي سكنى ولا تأخذ شيئاً، اللهم إن كانت صيانة خفيفة أو كذا فتحسب.(204/5)
موقف العلماء في الاستفادة من الرهن
هناك من يقول: تحريك الرهن المتحرك قد يكون واجباً وقد يمتنع، إذا كانت السيارة مرهونة عندك وأنت لا تستعملها، ومدة الدين ستة أشهر، هل تظل السيارة واقفة في محلها ستة أشهر أم أنه ينبغي عليك ما بين فترة وأخرى أن تشغلها وتحركها بما يمنع مفسدتها؟ لأن طول مدة وقوفها قد تؤدي إلى الإضرار بها.
إذاً: لابد من الحركة لمصلحتها لا لمصلحتك أنت، كذلك إذا رهن عنده فرساً أو بعيراً في غنى عنه، لكن طول مكثه في مكانه الزمن الطويل قد يؤذيه، ولابد أن تحركه، سواء راكباً أو قاعداً، على ما فيه مصلحته، لكن إذا كانت لك حاجة في هذا الرهن؛ بأن تقضي حاجتك عليه، وهذا يتطلب منك نفقة؛ نأتي أولاً للراهن: أنت يا صاحب البعير، هل تتعهد بالنفقة لرهنك عند المرتهن أم أنك تتركه وتذهب؟ فإن تعهد بنفقته فلا يحق للمرتهن أن يركبه لمصلحته، لكن يمشيه لمصلحة البعير، أما إن كان الراهن ترك البعير عند المرتهن، ثم سافر، أو لم يرجع؛ هنا البعير يحتاج إلى نفقة، وإذا تركناه تلف، وهو أمانة في يد المرتهن، ماذا يفعل؟ يقول العلماء هنا: إذا كان في البلدة حاكم يعرض الأمر عليه: هذا رهن في يدي، وصاحبه تركه لي، ويحتاج إلى نفقة، وليس هناك من ينفق عليه، فيستأذن الحاكم في ركوبه بنفقته، وقيل: بدون إذن الحاكم، أنفق على البعير أو على الرهن بنية الرجوع على صاحبه، وإذا جاء صاحبه رجع عليه، أما إذا أنفق بدون نية الرجوع، على أنه متبرع، ويريد أن يخرج من عهدة حبس الحيوان وتجويعه وتعطيشه، فإن أنفق متبرعاً فلا يرجع؛ لأن: (العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه) ، وإذا أنفق بنية أن يرجع على صاحبه فله الحق في الرجوع، فإذا كان البعير صالحاً للركوب وهو في حاجة إليه، ننظر كم علف البعير في اليوم؟ إن قدرناه بعشرة ريالات، فبكم سيركب البعير في حاجته المتقطعة، بما يساوي خمسة، وعلى هذا يحسب متوسط هذا المجموع فيما يحصل له من فائدة ركوب البعير، فإذا كان ما يحصل عليه من ركوب البعير في مصلحته يتساوى مع الإنفاق عليه، فقد انتهت المسألة، أما إذا كان ما ينفقه على البعير أكثر مما يحصل عليه من مصلحة البعير، فيحتسب ويرجع بالباقي على صاحبه، وإن كان ما يحصل عليه أكثر من نفقته فلا مانع من ذلك، ويحتفظ بالزائد لصاحب البعير، ويخصمه من الدين الذي هو عليه عند الوفاء، هكذا الارتفاق والانتفاع بالرهن.
أما أن ينتفع به لمصلحته، ولا يحسب ذلك على صاحبه؛ فهذا هو النفع الذي جاء بسبب القرض وأنه هو ربا.
كذلك لو رهن عنده شاة أو بقرة فيها حليب تريد أن تأكل وتعطي حليباً، فإن تركناها دون حلبها تضررت، وإن منعنا الأكل عنها تلفت، إذاً: لابد من مراعاة المصلحة، وكما يحافظ عليها في نفقتها وسقيها يحافظ عليها أيضاً فيما تحتاجه؛ من محل مبيتها، وربطها، وتمشيتها في بعض الأحيان حتى لا تتألم أرجلها أو شيء من هذا، ثم عليه أن يعرف: كم تعطي حليباً؟ وكم تأخذ نفقة في اليوم؟ وإذا نظرنا بالمقاصة: وجدنا أنها تعطي حليباً بخمسة عشر، وتأخذ نفقة بعشرة، حينها له على صاحبها كل يوم خمسة، فإذا جاء الأجل وجاء المدين بالدين خصم من مجموع الدين مجموع الأموال التي توافرت عنده على مدار الأيام من قيمة حليبها؛ لأنه حق لصاحبها.
إذاً: الرهن لا ينتفع به أبداً لمصلحة المرتهن إلا إذا حسب ذلك من الدين الذي له، فإذا كان الرهن يعطي ويأخذ فتحصل هناك المقاصة، وإن كان يوجد حاكم استأذنه وقدر له النفقة، وإن لم يوجد عمل ذلك لمصلحة الرهن، ثم تحاصى مع صاحبه عند الوفاء، والله تعالى أعلم.(204/6)
شرح حديث: (لا يغلق الرهن من صاحبه ... )
قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه) ، رواه الدارقطني، والحاكم ورجاله ثقات، إلا أن المحفوظ عند أبي داود وغيره إرساله] .
هذه أيضاً ناحية كانت تقع ولا زالت عند كثير من الناس؛ يقترض الدين إلى أجل، ويقدم المقترض الرهن، فإذا جاء الأجل ولم يسدد امتلك المرتهن الرهن، ويجيء صاحبه بعد فترة ويقدم الدين، فيقول له: أنت لم تسدد، والرهن صار مكان الدين.
هذا لا يجوز، فمهما طال الزمن لا يغلق الرهن، ولا ينسد عليه باب تسديد الدين واسترجاع العين المرهونة، فإذا طال الزمن وجاء الموعد قال له: هذا ملكك رهن، ولي عندك الدين، فإن عندك استطاعة أن تسدد ديني وتأخذ رهنك، فنعم، وأنا ما طلبت الرهن إلا توثيقاً لحقي.
ماذا نفعل؟ يعرض المسألة على الحاكم، والحاكم يكلف من يبيعه بالمزاد العام على ملأ من الناس حتى لا يكون هناك هضم للحق، ولا تواطؤ فيه، كم دينك؟ مائة.
بكم بيع الرهن؟ مائتين، إذاً: خذ حقك ورد الباقي لصاحبه، الدين مائتان والرهن بيع بمائة، كم بقي لصاحب الدين؟ مائة، إذاً: الرهن نزلت قيمته ولم يسدد الدين، أيضاً لا نقول: إن قيمة دينك في الرهن، لا.
بل نبيع الرهن بما يساوي في يوم السداد، إن زاد عن الدين دفعنا الزيادة لصاحبه، وإن نقص عن الدين صار في ذمة صاحبه؛ إما أن يدفع أو أن يكون ديناً عليه.
هذا معنى قوله: (لا يغلق الرهن) .
أما ما ينص في بعض الكتابات والعقود: إذا لم تسدد فيكون الرهن ملكاً لي، ولا حق لك في الرجوع فيه، فكل ذلك باطل؛ لأنه يأكل مال الغير بغير حق، الرهن يساوي ألفاً، ودينك مائة، لم تأكل تسعمائة؟ ليس لك حق في هذا، لك الذي يوثق دينك، والرهن موجود لتوثيق الدين، لا ضرر ولا ضرار.
كنا نسمع في بعض الأقطار المجاورة: أنهم يتخذون طرقاً للاستفادة من الدين، وحقيقة الأمر أنه دين جر نفعاً للدائن بلا شك، وله صور مختلفة، وقوالب متنوعة، وبحجة خيار الشرط والرهن؛ يأتي إلى إنسان ويقول: أبيعك هذه الدار، ولي الخيار سنة، فيأخذ البائع ثمن الدار، ويستلم الدار المشتري، ويسكنها مدة الخيار، فإذا انقضت السنة جاء البائع وقال للمشتري: أنا اخترت أن أرد البيع.
ليس هذا خيار الشرط، أنا اخترت وفكرت واشترطت سنة، فوجدت أن البيع غير نافع لي، ففسخ البيع، خذ ما دفعت ورد علي الدار، اشتراها المشتري بألف وبعد سنة رد الألف واسترد الرجل داره، وسكنى الدار سنة استغلها المشتري بتواطئ بينهما، كأنه أقرضه ألفاً واسترجعه بعد سنة، ومع القرض سكن الدار، وكان عليه أن يقدر بكم تؤجر الدار في السنة، ويخصمها من الألف.
كذلك الرهن: أرهنك البستان، الدار، السيارة، أي شيء له دخل، ومدة وجود الدين سنة أو سنتين أو أكثر أو أقل والمرتهن يستغل العين بفوائدها.
وكنا نشاهد هذا في الأراضي الزراعية، والبيوت؛ فلان رهن بيته، أو أرضه، وإذا بقيت في يد الراهن لا مانع، لكن تكون ممنوعة من البيع والشراء.
أما إذا سلمت للمرتهن وصار يستغلها فتلك الغلة هي المنفعة التي جرها القرض، لكنهم ما جعلوها في صورة قرض جر نفعاً، لا؛ بيع ورهن وسداد الرهن، واسترجاع العين، ولفة طويلة، وكلها تصب في: (قرض جر نفعاً) .
وهناك مباحث عديدة في موضوع الرهن والقرض، وتجدون ذلك في كتب الفقه الموسعة؛ وهي: التحذير من كل ما يمكن أن يقصد به المدين نفع الدائن بسبب الدين من الهدايا، أو أن يعمل له ما يجامله به، من أن يساعده في شيء ما كان يساعده فيه من قبل، ولذا كان يقول بعض السلف: لو أقرضت إنساناً ألف دينار، وأهدى إليك حمل تبن فلا تقبله.
وكان بعض السلف إذا أقرض إنساناً قرضاً يكره أن يجلس في ظل بيته، خشية أن يكون هذا من منفعة القرض، وهل ظل البيت يبذل فيه صاحب البيت شيء؟ لكن يقولون: الشحيح لا يرضى لإنسان أن يستظل في ظل بيته، والأولاد الصغار يفعلون هذا؛ إذا تخاصموا لا يدع الآخر يجلس في ظل بيتهم، فإلى هذا الحد كانوا يتورعون من أن يستفيدوا أدنى فائدة ممن أقرضوه مخافة أن تكون تلك الفائدة -على ضآلتها- قرضاً جر نفعاً، وكل هذا كان تورعاً، من روائح الربا الكريهة.
ولكنهم يقولون: إن كان بينك وبين المقترض علاقة سابقة؛ مثلاً: كان صديق لك، وجاء يقترض منك، وكنت قبل القرض تتبادل معه الزيارة، وتتناول عنده الطعام على حسب الضيافة أو الصداقة، ثم صار القرض، هل تمتنع؟ وقد كنتم من قبل تتبادلون الهدايا في المناسبات، فأهدى إليك هدية في مناسبة، هل تمتنع عنها؟ قالوا: يأخذها بحكم الصداقة حتى لا يقطع الصلة التي بينهم أو يسيء علاقته بصديقه، ولكن لابد أن يكافئ عليها، إما بهدية تعادلها، وإما بتقديرها وحسابها من الدين الذي له عليه، والبعض يقول: إذا أقرضته لا تدخل بيته ولا تأكل طعامه، لأنه يكارمك ويوسع لك ويخجل ويعمل ويتكلف بسبب الحمل الذي على ظهره، قالوا: هذا لا يجوز، لكن إذا كان قبل القرض هناك صلة والملاطفة والمزاورة موجودة، وتبادل الهدايا والمكارمة قائمة، فلا مانع في ذلك مادام سيحسبه ويعاوضه عليه، أما أن يأخذها هكذا ويسكت، لا.
فهذا قرض جر نفعاً.(204/7)
شرح حديث: (خيار الناس أحسنهم قضاءً)
قال رحمه الله: [وعن أبي رافع رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكراً، فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فقال: لا أجد إلا خياراً رباعياً، فقال: أعطه إياه، فإن خيار الناس أحسنهم قضاء) ، رواه مسلم] .
المؤلف يأتي بعد حديث: (الرهن يركب بنفقته، والضرع يشرب بنفقته) ، وسيأتينا: (كل قرض جر نفعاً؛ فهو ربا) ؛ فالزيادة في الوفاء في الدين نفع: أقرضته ألفاً وردها ألفاً وصاعاً من تمر، هذا نفع أم لا؟ نفع.
والمؤلف هنا يعطينا صورة ليست من صور النفع الذي جره القرض، ولكن من صور مكارم الأخلاق في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، كما جاء عن عبد الله بن عمرو: (أمرني أن أجهز جيشاً؛ فكنت آخذ البعير بالبعيرين) .
وهنا: (استسلف) ، والهمز والسين والتاء للطلب، مثل: استغفر، استقدم، واستسلف: أي: طلب سلفة.
(بكراً) ، البكر: البعير الصغير، ثم جاء الرجل في الموعد يطلب بكره، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا رافع بالقضاء من إبل الصدقة، فبحثوا فيها عن مماثل للقرض، وهو البكر نظير البكر، قال: لم أجد إلا خياراً رباعياً، والخيار يزيد عن البكر، وكان من حق المقاصة لو دفع إليه الرباعي أن يأخذ منه فرق الرباعي من البكر؛ بكرك الصغير لا يوجد عندي، وعندي ما يزيد عنه، كما لو وجد أقل من البكر ودفع له النقص، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لما لم يجد النظير المعادل المطابق ووجد ما هو خير منه قال: (أعطه إياه، خيار الناس أحسنهم قضاء) ، إذاً: هذا من باب الإحسان، وليس من باب الربا، وليس مشروطاً في العقد من قبل؛ أنا أقرضك بكراً لكن بشرط أن ترد لي أحسن منها.
إن جاء الشرط في البداية بهذا بطل العقد، لكن إن جاء عن طيب نفس المقترض فالجمهور يقولون: لا بأس.
وهنا يأتي النزاع في كون المقرض يقبل زيادة في الدين أو لا يقبل؟ فنجد الجمهور يقولون: إن كانت الزيادة جاءت من المقترض بعد سداد الدين؛ بأن كان الموعد في يوم واحد رجب، فسدد الدين، ثم سافر المقترض وجاء بهدية ودفعها للمقرض، وقد انتهى من السداد من عشرين يوماً يردها أم يأخذها؟ البعض يقول: لا يأخذها؛ لأنها امتداد لخيط القرض.
والبعض يقول: خيوط القرض انتهت بالدفع والسداد، وهذا شيء دفعه إليه عن طيب نفس منه، قدمه لمن أسدى إليه معروفاً فأكرمه، فنجد النزاع في هذا.
ومن أراد التحقيق فيها فليرجع إلى نيل الأوطار للشوكاني، فقد ساق نصوصاً عديدة في هذا.
لكن الجمهور يقولون: لا يقبل الزيادة عند السداد، وهل بعد السداد يقبل المكارمات؟ هذا محل النزاع.
مالك رحمه الله يقول: نعم؛ لحديث: (خيار الناس أحسنهم وفاء) ، وإذا كان الحسن في الوفاء ذاتي وليس خارجياً، كالصورة التي معنا؛ الزيادة الموجودة في الرباع الخيار ذاتية، وكما يقولون: نماء متصل، ف مالك يقول: إن كان الحسن في ذات الدين فلا بأس، كما في قضية البكر والخيار، أما إذا أتى له ببكر ومعه عنز، العنز هذه زيادة خارجية، مالك يقول: لا، هذه خارجة عن الموضوع ولا يحق له أن يأخذها، ولو كانت الزيادة في الخيار الرباعي أكثر من العنز مرتين لا مانع؛ لأنه وصف للدين، وقد أحسن المقترض في سداد قرضه إلى من أقرضه.
وعلى هذا: من أقرض إنساناً شيئاً ففي مدة القرض لا يحق له أن يقبل منه شيئاً، كما قيل: ولا عوداً من أراك، إلا إذا كان العهد بينهما قبل القرض تبادل الهدايا، يقبلها ويعوضه عنها، سواء قبل أن يسدد القرض في مناسبات تأتي أو بعد أن يسدد، وإذا انتهى القرض وسدد المدين دينه، ثم جاء المدين في مناسبة وقدم لمن كان أقرضه هدية، يقبلها أم لا؟ هناك من يقول: إنها من توابع القرض فلا يقبل، وهذا هو التورع.
وهناك من يقول: لا.
القرض انتهى، والدين سدد، وانقطعت العلاقة، وهذا جاء متبرعاً محسناً، فلا ينبغي أن تردها.
وهذه النقطة نقول فيها: الله تعالى أعلم.
عند سداد الدين هل يقبل زيادة في القرض بعينه؟ الجمهور يقولون: لا، ومالك يقول: إن كانت الزيادة متصلة من عين المقرض أو القرض الذي قدمه فلا بأس، هذا بكر وهذا خيار رباعي، وإن كانت خارجة عنه من غير جنسه فلا يقبلها تطبيقاً للحديث في هذه القضية بالذات، والله تعالى أعلم.(204/8)
شرح حديث: (كل قرض جر منفعة فهو ربا)
قال رحمه الله: [وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل قرض جر منفعة فهو ربا) ، رواه الحارث بن أبي أسامة، وإسناده ساقط] .
هذه هي القاعدة العامة التي أخذ بها جمهور الفقهاء، وإن كان الحديث متكلم في سنده ولا ينهض للاحتجاج وحده، لكن تشهد له قرائن أخرى؛ ما هو الربا؟ الربا زيادة عن الدين، وهذا القرض إن جر نفعاً اتفق مع الربا في الصورة، ولا يحتاج هذا حتى إلى نص أو حديث في المسألة.
(نفعاً) ، نفعاً هنا: نكرة، مطلق يعني: كل ما ينتفع به الشخص، كما قال بعض العلماء: ولو عوداً من أراك، ولو أن يستظل في ظل حائطه، ولو حمل تبن، فإن له قيمة، لكن عود الأراك، أو الظل في جداره؟ كل ذلك يقول: لا يحق له أن يأخذه؛ لأنه ربا، (كل قرض) أي قرض أياً كان، وإذا كان الأمر في القرض نقداً فإنه ينجر على كل دين، مثلاً: مدين في ثمن مبيع، أو في أجرة بيت، فلا يوجد قرض، فلكون الدين موجوداً لا يجوز أن تنتفع من وجود دينك عليه لأي منفعة كانت، لك دينك فقط، أو ثمن مبيعك أو أجرة العين، أو نقد القرض الذي أقرضته أياً كان، وهذه أصبحت قاعدة عند الفقهاء معمول بها دون منازعة، أجمعوا على العمل بهذه القاعدة: (كل قرض جر نفعاً فهو ربا) ، سواء صح السند، أو كان فيه اضطراب، أو فيه ضعف، فإن العلماء تقبلوه بالقبول، ورتبوا عليه هذه الأحكام، وأصبحت معمولاً بها عند الأئمة رحمهم الله، وبالله تعالى التوفيق.(204/9)
كتاب البيوع - باب التفليس والحجر [1]
حرمت الشريعة أكل أموال الناس بالباطل، وأوجبت على المدين أن يقضي ما عليه، فإن أفلس فإنه يحجر عليه وينتزع ما في يده من المال والعقار، وفي الإفلاس والحجر أحكام كثيرة بينها أهل العلم رحمهم الله.(205/1)
شرح حديث: (من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به من غيره) متفق عليه] .
هذه صورة من معاملة أصحاب الديون في ثمن المبيعات؛ لأن الرجل قد يكون مديناً في ثمن مبيعات، أو في أجرة أعيان، أو في قرضٍ عيني نقدي، وغيرها من الالتزامات المتعددة التي يلحقه الدين فيها، فإذا أفلس رجل، وصدر الحكم من الحاكم بأن يحجر عليه، وجب أن يعلن ذلك للعامة؛ حتى لا يتعاملوا معه، ومن تعامل معه بعد الحجر عليه لا يشارك الغرماء في قسمة الموجود من ماله؛ لأنه دخل على بينة بأنه محجور عليه، وتكون المعاملة معه في الذمة غير متعلقة بماله فلا يشارك الغرماء فيما يخصه، بخلاف من له دين قبل الحجر عليه، فإذا حجر الحاكم على المفلس، ثم أراد أن يبيع موجوداته، فوجد أحد الدائنين سلعته بعينها التي باعها عليه ديناً، فهو أحق بها من الغرماء سواء كان الدين كيس رز مثلاً، أو سيارة، أو بعيراً، فإذا وجد سلعته ستباع وتقسم على الغرماء بحصص ديونهم بالنسبة المئوية، وهو من ضمنهم، لكن سلعته موجودة بعينها بخلاف الديون الأخرى التي تصرف فيها، استدان سيارة وباعها، استدان ناقة ونحرها، استدان كذا وصرفه، أو استدان كذا وصنّعه، لكن هذه السلعة بالذات ما زالت موجودة على ما هي عليه، فصاحبها أولى بها، ولكن بشروط أوصلها بعضهم إلى خمسة شروط: 1- ألا يكون أخذ من الثمن شيئاً؛ لأنه لو كان أخذ من الثمن شيئاً سيكون هناك اشتراك.
2- ألا يكون المشتري المفلس المحجور عليه باع بعضها، كما لو اشترى منه وسقاً من التمر، ثم باع منه خمسة أو ستة صيعان.
3- ألا يكون تصرف بجزء منها.
4- ألا يكون تعلق بها حق الآخرين، كما لو أدخلها في شركة مع أناس آخرين.
5- ألا تكون السلعة تغيرت بزيادة أو بنقص، زيادة في ذاتها لا في قيمة السوق، فلو اقترضها يوم اقترضها وهي تساوي ألف ريال، والآن صارت تساوي ألفين أو تساوي نصف ألف فالدائن أحق بماله، لكن لو اشتراها وهي حائل، فحملت، فهذا الحمل زيادة من حق المفلس، ولو اشتراها وهي حامل فنتجت، فإذا أبعدنا النتاج نقصت، أو إذا اشترى العبد بنسيئة، وعند الحجر كان العبد قد تعلم صنعة، أو تعلم مهنة يكتسب منها فهذه زيادة، أو اشترى الجارية البكر وعند الحجر عليه لم تعد بكراً؛ لأنه قد استمتع بها، فهذا نقص فيها، فيقولون: صاحب السلعة أحق بها من الغرماء ما لم يحدث فيها تغير، وما لم يكن قد استلم من قيمتها شيئاً، وما لم يطرأ عليها زيادة أو نقص، وما لم يتعلق بها حق الآخرين.
فقوله: (من أدرك ماله بعينه) يعني: أدرك ماله بعينه وذاته في أموال المفلس التي يراد بيعها لتوزيع القيمة على الغرماء، فأدركها بعينها فهو أحق بها، ونقول له: خذ سلعتك لكن بتلك الشروط.(205/2)
شرح حديث: (أيما رجل باع متاعاً فأفلس)
قال رحمه الله: [ورواه أبو داود ومالك من رواية أبي بكر بن عبد الرحمن مرسلاً بلفظ: (أيما رجل باع متاعاً فأفلس الذي ابتاعه ولم يقض الذي باعه من ثمنه شيئاً فهو أحق به) ] .
هذا الشرط منصوص عليه، أي: (أيما رجل باع متاعاً ثم أفلس الذي ابتاعه، ولم يكن قد تقاضى شيئاً من ثمنه فهو أحق به) وهذا أحد الشروط التي يذكرها الفقهاء رحمهم الله.
قال رحمه الله: [ (وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء) ] .
لو مات المشتري الذي أفلس، ولم يستطع السداد، والورثة عجزوا عن سداد الديون، والتركة لم تتحمل؛ لأن الورثة غير ملزمين بقضاء دين الميت من مالهم، والميت مرهون بتركته، فإن ترك وفاءً سدد منه الديون، والدين مقدم على حق الورثة، بل إن البعض يقدمه على الوصية وعلى حقوق الله، والبعض يقدم حق الله على حق العباد، وجملة ذلك أن الحقوق المتعلقة بالتركة خمسة، ومنها: مئونة تجهيز الكفن والحنوط، وإذا كان لنقله أجرة، وإذا كان لقبره ثمن، فكل ذلك يسمى مئونة تجهيزه، وهو مقدم على حق الورثة.
وهناك من يقول: لا، الدين أحق من هذا، ومئونة التجهيز تكون على بيت مال المسلمين.
وبعضهم يقول: لا، حق الله يقدم، واستدلوا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم للمرأة التي قالت: (إن أمي ماتت أينفعها إن حججت عنها؟ قال: أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان ينفعها؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق بالقضاء) ، وقال الذين قالوا دين العباد مقدم: دين الله مبني على المسامحة، ودين العباد مبني على المشاحة، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان إذا قدم له ميت ليصلي عليه يسأل: أعليه دين؟ فإن قالوا: نعم، قال: صلوا عليه أنتم، وإن قالوا: لا، صلى عليه، فقدم له ميت فسأل عن دينه: فقالوا: نعم عليه دين ديناران، فقال: صلوا عليه، فقال أبو قتادة صل عليه -يا رسول الله- والديناران عليّ، قال: حق الغريم، وبرئت منها ذمته؟ قال: نعم، فصلى عليه) .
والذي يهمنا أن من لحقه دين، فإن وجد في التركة سداد الدين فبها، وإن لم يوجد، فالورثة غير مسئولين، فنقول للدائن: خذ من تركته دينك، ثم إن بقي شيء فللورثة؛ لأن حق الورثة آخر حق في التركة.
فإذا مات المفلس وترك شيئاً لا يفي بالدين، وجاء الحاكم ليبيع الموجود ويقسمه على الغرماء، فإن أحب الورثة تطوعاً من عندهم أن يسددوا عن أبيهم فجزاهم الله خيراً، وإذا كانوا عاجزين عن سداد دينه، وجاء أحد الدائنين فوجد سلعته بعينها، فهل يأخذها كما لو كان المدين حياً؟ نجد النص هنا يقول: (وإن مات المشتري فصاحب المتاع أسوة الغرماء) .
أي: وإن مات المشتري المفلس فصاحب المتاع الذي وجده على حالته، والذي كان له الحق أن يأخذه لو كان المدين حياً، أسوة الغرماء، يعني: ماله يباع مع المال الموجود، ثم يقاسم الغرماء في مجموع ما يحصل من قيمة الذي وجد بالنسبة المئوية كما تقدم.
قال رحمه الله: [ورواه أبو داود وابن ماجة من رواية عمر بن خلدة قال: (أتينا أبا هريرة رضي الله عنه في صاحب لنا قد أفلس، فقال: لأقضين فيكم بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أفلس أو مات فوجد رجل متاعه بعينه فهو أحق به) ] .
قضاء أبي هريرة فيه أن من مات أو أفلس فهو أحق بمتاعه، ولكن الأول مقدم على هذا، ولعله الأرجح إن شاء الله.(205/3)
شرح حديث: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته)
قال رحمه الله: [وعن عمرو بن الشريد عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته) رواه أبو داود والنسائي، وعلقه البخاري، وصححه ابن حبان] .
المفلس الذي ليس عنده وفاء لمجموع الديون، تباع موجوداته، ويسدد الغرماء بحصص متساوية، وهذا حكم المفلس الذي لم يجد ما يسدد ديونه، فإذا كان غنياً ولم يسدد فهل هو مفلس؟ لا، فالمال موجود لكن صاحبه مماطل، والمطل هو التأخير والتسويف والروغان: قضى كل ذي دين فوفى غريمه وعزة ممطول معنى غريمها ويقصد الشاعر أنها لا تفي له بوعد، وتماطله وهو معنى أي: تعبان، فالمطل هو التسويف والتأخير، فالغني يجب عليه أن يسدد الدين في أجله، فإن لم يسدد فهو مماطل، وفي بعض الروايات: (مطل الغني ظلم) .
وقوله: (يحل عرضه وعقوبته) أي: يحل عرضه بشكواه وذكر حاله، فيقول: هذا فلان مماطل، وهذا لا يعتبر غيبة بالنسبة للدائن، لأنه متشك من حاله، وليست هذه من باب الغيبة، فأحل عرضه للدائن بأن يتكلم فيه، وما كان يحق له ذلك، وغير الدائن ليس له حق أن يتكلم عليه؛ لأنه ليس له حق عنده.
ومعنى قوله: (وعقوبته) أي: حبسه، ويقولون: المفلس يحجر عليه ويباع ما معه، والغني يحبس ويلزم بالدفع كرهاً، فإن لم يدفع فقال الأئمة الثلاثة: الحاكم يبيع من ماله لغرمائه، وأبو حنيفة رحمه الله يقول: أنتم لا تملكون المال فتبيعونه، ولا يجوز للإنسان أن يبيع ما لا يملك، لكن يضيق عليه في حبسه حتى يتولى هو البيع ويفك نفسه، والذي يهمنا أن الغريم قسمان: واجد يماطل، ومفلس لا يجد، فالمفلس يباع ما تحت يده، وليس للغرماء فوق ذلك، كما لو كانت موجودات المفلس لا تفي بالديون مثلاً: كانت خمسين في المائة من الديون، فماذا يفعل الغرماء في بقية حقوقهم؟ لا شيء، وكما قال سبحانه وتعالى فيما يتعلق بتصفية الربا: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] .(205/4)
سجن المفلس مفسدة
أبو هريرة رضي الله تعالى عنه رفع إليه معسر، فقال لغرمائه: أتعرفون له شيئاً؟ قالوا: لا، ولكن احبسه! فقال: لا، وما الذي يعود عليكم بحبسه؟! فحبسه ضياع له ولكم ولعياله، ولكن أتركه يسعى في الأرض.
وهذا -والله- هو الحق، بخلاف ما يجري في إنسان يدعي الإفلاس، ويأتي بشهود بأنه لا يملك شيئاً، ومع هذا يحبس إلى أن يرفع أمره إلى الحاكم، وربما يحبس السنة والسنتين، فماذا استفاد بالسجن؟ كلف الدولة مئونته، وضيع من ورائه أهله، والغرماء لم يستفيدوا شيئاً! وأول قضية عرضت علي في المحكمة هي لشخص مطالب بثلاثين ألف ريال لبعض جيرانه، وكنت أعرفهم قبل القضاء، فقلت: أتعلم أن عنده مالاً؟ قال: لا والله! إني لأصرف على أهله وهو في سجنه، فقلت: فماذا تريد من سجنه؟ يا أخي! اتركه يخرج من السجن، ويكفيك مئونة أهله، أنت لك عليه دين وتصرف على أهله شفقة منك، فاتركه يخرج ليكفيك هذه المئونة لعله يفعل شيئاً، قال: ما أدري هل يرضى بقية الغرماء؟ فجمعتهم وكلمتهم، وذكرت لهم حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، فقالوا: ماذا تريد؟ قلت: أريد منكم أن تعطوه مهلة ليعمل فيها، وكان يعمل في البيع والشراء، وكان ذلك في شعبان، وقد قرب رمضان والموسم، فقلت: أعطوه مهلة ليحاول أن يسددكم بالتقسيط، فقالوا: وإذا لم يفعل؟ قلت: إذا ما فعل فالسجن موجود! اتركونا نعملها تجربة، فقلنا للمفلس: ماذا يا فلان؟ قال: أنا لا أريد إعلان إفلاسي؛ لأن التجار لن يتعاملوا معي بالدين إذا خرجت، فأعطوني مهلة وأستعين بالله، وطلب مهلة سنة ونصف، فقلت: لك سنتان، نصف سنة من عندي حتى توفي دينك، وسبحان الله! كان مقابل المسجد عمارة تحتها معارض، وليس كل إنسان يستطيع أن يستأجرها، فأملاها بالبضائع، والزبائن والحجاج يمرون من عندها بكثرة، والحركة عنده شديدة، فما مضى ستة أشهر إلا وقد سدد نصف الدين! فهذه الطريقة لماذا تتركونها؟! الآن يمكث الغريم سنة وسنتين وثلاثاً في السجن حتى يوفي دينه، فمن أين سيوفي دينه؟ السجن ليس محل اكتساب، فلو عومل الناس المدينين بهذه الطريقة التي يراها أبو هريرة رضي الله تعالى عنه لخفت المسئولية على السجون، وحفظت الأسر التي تضيع، وكانت سبباً لسداد الديون.
إذاً: المفلس إذا لم يجد ما يسدد دينه، فإدخاله السجن مفسدة لا مصلحة فيها، وهم يريدون بسجنه أنه لو كان عنده شيء يخفيه فسيظهره، ولو كان ذلك لأظهره من قبل، والذي يهمنا هي الناحية الشرعية في حق المعسر، قال الله: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] ، أما إذا كان موسراً عنده المال، ويتأخر ويماطل؛ فهذا ظلم نفسه قبل أن يظلم الغرماء، وفعله هذا ظلم يحل عرضه بالكلام عليه وشكواه، ويحل عقوبته بحبسه، وإن لزم الأمر ضربه، وبعضهم يقول: الضرب ممنوع، ولكن الحبس إلى أن يبيع الحاكم من ماله ما يسدد حق الغرماء.
ويقولون: بعض الغرماء لا يملك حبس غريمه، كالولد لا يملك حبس أبيه في الدين لحديث: (أنت ومالك لأبيك) ، فإذا تعامل معه وأراد أن يأخذ من ماله فله الحق في ذلك لكن بشروط: 1- ألا يأخذ من مال الأكبر ويعطي الأصغر أو العكس؛ لأنه يكون قد ملك أحد الإخوة من مال أخيه بدون حق.
2- ألا يكون مال الولد تعلق به حق الآخرين؛ بأن دخل مع أناس في شراكة برأس المال، فلا يذهب للشريك ويقول له: آخذ من حق ولدي؟ لا؛ لأنه مرتبط بمال الغير.
3- ألا يكون الولد في حاجة لهذا المال في نفسه ولمن تلزمه مئونته.
4- أن يكون الوالد محتاجاً له، وحاجة الوالد هذه يفرع عليها المالكية: في الضروريات والكماليات، سواء في الأكل والشرب واللبس، أو في الزواج إذا كان محتاجاً للزواج، وهل الزواج ضرورة أو حاجة أو ترفيه؟ على حسب حالة الأب، وهذه تفصيلات في حديث: (أنت ومالك لأبيك) .
إذاً: (مطل الغني ظلم) ، وللدائن الحق أن يشتكيه ويتكلم عليه، وللحاكم الحق أن يحبسه حتى يسدد ما عليه، ما دام أنه يوجد عنده يسار.(205/5)
شرح حديث: (خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك)
قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها، فكثر دينه فأفلس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تصدقوا عليه، فتصدق الناس عليه ولم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه: خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك) رواه مسلم] .
في هذا الحديث أن رجلاً أصيب في ثمار ابتاعها، وشارح هذا المتن يربط بين هذا الحديث وبين حديث وضع الجوائح بعموم: (أصيب في ثمار ابتاعها) أي: اشتراها، والواقع أنه ليس بين الحديثين ارتباط، وليس بينهما تعارض، وموضوع ذاك الحديث أنه اشترى الثمار بعد بدو صلاحها، ولا زالت على أصولها، فأصابتها جائحة، فأمر صلى الله عليه وسلم بوضع الجوائح، وهذا الحديث أصيب في ثمار ابتاعها، أي: اشتراها فلحقته ديون، وليس في هذا الحديث ذكر الجوائح، لكن أصيب في ثمار، والإصابة في الثمار أعم من كونها جوائح وهي على رءوس النخل، وفي مثل هذا أحب من طلبة العلم أن يرجعوا في الحديث الذي فيه مثل هذا الإشكال إلى مرجعه، فإذا قال المؤلف ابن حجر مثلاً: رواه أبو داود، فنرجع إلى أبي داود لننظر كلام الشراح عليه، فيكون القول هناك أولى من قول شارح جديد على أبي داود.
موضوع هذا الحديث أن الرجل اشترى ثماراً، وأصيب في ثماره، وما نوع الإصابة؟ لم يحدد لنا الحديث نوعها، وهل هي من الجوائح أم لا؟ فأمر صلى الله عليه وسلم الناس أن يتصدقوا عليه، فتصدق الناس عليه، ولكن ما جُمِع من الصدقات لا يسدد الديون التي عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرمائه: (خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك) يعني: في الوقت الحاضر ليس لكم عليه وليس لكم عنده إلا ما وجدتم، ماذا يفعل؟ لا يوجد إلا هذا، وهل معنى هذا إسقاط بقية حقوقهم؟ لا، بل الطلب يرتفع عنه في الوقت الحاضر، وليس لهم عليه إلا هذا الموجود، فإذا أيسر فيما بعد فعليه قضاؤهم، وذمته لا زالت مشغولة، فعليه أن يوفي أصحاب الديون بقية حقوقهم، ويتفقون على هذا في المفلس وغير المفلس.
الشارح هنا يقول: إن أمر النبي صلى الله عليه وسلم للناس أن يتصدقوا عليه يتعارض مع الأمر بوضع الجوائح، وهذا لا تعارض فيه، ويقول: إن الأمر بالصدقة إنما هو جبراً لخاطره، وتخفيفاً للمصيبة عليه؛ لأنه أصيب في الثمار، لكن الإصابة المذكورة في هذا الحديث لا نعرف نوعها، وهل هي من الجوائح أم لا؟ لأن وضع الجوائح معروف مسمى، واتفقوا أن الجوائح هي الحوادث العامة مثل: ريح عاصفة، برد ينزل ويتلف الزرع، مطر شديد، آفة من آفات الزراعة، غرق، حريق، فالجائحة محددة بأحداث عامة، والخطابي في شرح السنن يقول: إن إصابته في ثماره لم يذكر فيها جائحة، فقد يكون أصيب في ثماره بعد أن اشتراها، نضجت وجذها ووضعها في الجرين ينتظر تجفيفها، وخرجت من عهدة صاحب الشجر، فأصيبت وهي في الجرين، مثلاً: جاء لص فحملها، أو باعها على إنسان ولم يدفع له الثمن، أو فاض عليها ماء فغرقت، قال: إصابة تلك الثمار لا تتعين أن تكون بجائحة على رءوس النخيل، أو على رءوس الشجر، فيحتمل أن تكون قد أصيبت بما أصابها بعد أن استوعبها، وانقطعت علاقته بصاحب أصول النخيل، وأصبحت في عهدته وفي جرينه، إذاً: لا علاقة لصاحب الأصول هنا بوضع الجوائح؛ لأن الجائحة لم تكن في زمن عهدته، بل هي بعد أن انفصل عنه بجني الثمر ونشره في الجرين، وانتظار إدخاله في مستودعاته، فلا علاقة لصاحب النخيل البائع بالجائحة.
ويكون أمره صلى الله عليه وسلم للناس بالتصدق عليه من باب الإرفاق ومن باب التخفيف عليه، ولكن كل الذي جمعوه من الصدقة لا يفي بدينه، والناس غير ملزمين بسداد دينه: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91] ، وكل تطوع بما جادت به نفسه، وكان المجموع لا يفي بالدين، إذاً: هذا الحديث لا علاقه له بوضع الجوائح، فلا حاجة لأن يربط به، وأن يتطلب الجمع بينهما؛ لأن كلاً منهما مستقل عن الآخر.
ونفهم من هذا أن من أفلس أو أعسر في دين، فإن كان عنده شيء بيع وسلم للغرماء، فإن وفى بالدين الذي عليه فبها ونعمت، وإن لم يف فليس لغرمائه عليه طريق، وأشرنا إلى قضاء أبي هريرة رضي الله تعالى عنه لما طلب الغرماء أن يحبس المدين لهم، فقال: لا، لأن حبسه ليس فيه فائدة له ولا لأهله ولا لكم أنتم، فلماذا نحبسه وليس في الحبس فائدة؟! وكذلك معاذ رضي الله تعالى عنه لما طلب غرماؤه حقوقهم، باع النبي صلى الله عليه وسلم ممتلكاته، ولم تف بالدين، فقال: (ليس لكم إلا هذا) ، وبعثه صلى الله عليه وسلم إلى اليمن لعله يصيب شيئاً.
فمن هنا نعلم أن المفلس الذي لا يجد ما يسدد دينه ننظر: ما كان زائد عن ضرورياته، مثل ثيابه، مسكنه، مركبه، مأكله ومشربه، آلات صنعته التي يتعيش منها، فهذا لا يباع في الإفلاس بالدين؛ لأنه أحق بذلك لحياته، وما زاد عن ذلك يباع، فإذا لم يف بالدين أطلق سراح المدين ليسعى ويعمل، وليس للغرماء متابعته ولا حبسه؛ لأن ذلك لا يفيد أحداً شيئاً، فإذا يسر الله عليه، وتيسر أمره نقول له: سدد ما بقي عليك في ذمتك.(205/6)
شرح حديث: (حجر على معاذ ماله)
قال رحمه الله: [وعن ابن كعب بن مالك عن أبيه رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حجر على معاذ ماله وباعه في دين كان عليه) رواه الدارقطني، وصححه الحاكم، وأخرجه أبو داود مرسلاً، ورجح إرساله] .
قضية معاذ مشهورة في عهده، وكان من خيرة شباب قومه وأكرمهم وأسخاهم يداً، فكان يستدين ليكرم الناس، وكان أكثر دائنيه من اليهود، فطالبوه بدينه فلم يستطع أن يقضيهم، ولم يواجه الناس وذهب مباشرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهم اشتكوه إليه، فقال: ما عندي ما أسدد ديونهم، فليأخذوا ما عندي، فحجر النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وباع ماله، وكان من طريقته صلى الله عليه وسلم أن يوصي الغرماء بالحط من الدين، فينبغي عند المطالبة بالدين، وكثرة الدين على المدين أن يوصى الدائن بأن يسقط من الدين شيئاً، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه كان في حجرته، فسمع لجاجاً في المسجد فخرج عليهم وقال: ما هذا؟ فقالوا: فلان يطالب فلاناً بدين عليه، فقال: يا فلان! حط من دينك، فحط من دينه الشطر، فقال للآخر: قم فاقضه) ، وهكذا ينبغي لمن حضر عند خصومة الغرماء مع غريمهم أن يتوسط بالصلح، وبإسقاط شيء من الدين، حتى في المحكمة يحق للقاضي أن يعرض على الدائن أن يسقط من الدين شيئاً.
وفي الآونة الأخيرة صارت الدولة تسدد عن بعض المعسرين، وهناك شروط يشترطونها إدارياً، والقاضي يساعد على هذا بأن يوصي الدائن أن يسقط شيئاً من دينه، والدولة تسدد الباقي، وهذا من باب التعاون فجزاهم الله خيراً.
فعلى هذا: إذا كان الدائن يرى أن المدين ليس قادراً على سداده فينبغي الإرفاق به، كما جاء أيضاً في حق المكاتب، فالمكاتب أمر الله سبحانه بأن يعطى فقال: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] ، قالوا: بأن يسقط عن المكاتب بعض الأقساط، ولو الأخير أو ما قبل الأخير، وكل ذلك مساعدة له في وفاء الدين الذي عليه.
والرسول صلى الله عليه وسلم طلب من غرماء معاذ أن يسقطوا من الدين، فقالوا: لا، وكان هذا الطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم في محله بالنسبة لـ معاذ، وبالنسبة لأصحاب الدين؛ لأن الدائن موسر يريد أن يستلم ويقبض ماله، والمدين ما عنده ما يسلم، فالدائن أحق بأن يخاطب بأن يترك شيئاً من الدين، وأن يرفق بالمدين ويخفف عنه، قالوا: إنهم لم يقبلوا طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يهود، وقد جاء فيهم حديث عائشة (أنه بلغها أن رجلاً جاء بخز من الشام فقالت: يا رسول الله! لو أرسلت إليه لتشتري منه ثوبين إلى ميسرة، فأرسل إليه فامتنع) !! امتنع أن يداين رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن قالوا: إنه يهودي، ولم يتسامح في ذلك، وهؤلاء لم يتسامحوا مع معاذ، وقال الراوي للحديث: لو أحد من اليهود أسقط شيئاً لأحد لكان أولى الناس بذلك معاذ لطلب رسول الله، فلما لم يقبلوا لم يلزمهم؛ لأن هذا حقهم، وهذا من العدل والإنصاف والمساواة في الحكم، ومن مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه لم يستعمل سلطته ولا مكانته أمام اليهود حيث أنه طلب منهم أن يسقطوا شيئاً من دين معاذ ولم يقبلوا، فهم أحرار، ولم يغصبهم.
لكنهم قالوا: بعه لنا! وبيع المدين بسبب دينه كان إلى عهد قريب في القوانين الأوروبية، كان الرجل يباع في دينه، أو يباع أحد أولاده، وكانت المزارع إذا بيعت بيع معها العمال الذين يعملون فيها، فقالوا: بعه لنا، وهذا على ما عندهم من السابق، فقال لهم: (ليس لكم طريق إليه) ، وجاء الوعيد لمن باع حراً وأكل ثمنه، وكيف يبيع الحر؟ قد يتواطأ معه ويقول له: ادعي أني ملكك، ونتقاسم المبلغ، وإذا تواطؤا على ذلك فهم من الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم، كما جاء في الحديث.
يقولون في فقه اللغة: مادة الحاء والجيم والراء تدل على القوة والصلابة واليبوسة.
وهنا الحجر: حبس وتضييق وشدة على المحجور عليه، فلا يتصرف في ماله، وقالوا: الحجرة من الحجر أيضاً؛ لأن الحجرة ما أحيطت بالجدران، وحجرت حتى امتنع خروج شيء منها كامتناع الحجر أن يخرج منه فلتة، ومنه الحجر بحفظ الولد، والحجر في الخلاء حافظ نفسه، وكذلك الحِجر: وهو الجزء الذي خرج من الكعبة ولا يدخل في عموم الكعبة.
واحجر بمعنى: ضيق، واحجر عليه يعني: شدد عليه وامنعه من التصرف في ماله، وهذا الحجر إذا تم -كما أشرنا سابقاً- يمنع صاحب المال أن يتصرف فيه تصرفاً ينقل الملك، فلا يرهن، ولا يبيع، ولا يهب.(205/7)
هل ينفذ إعتاق المفلس لعبده؟
إذا كان عند المفلس عبيد وأعتقهم، فما حكم العتق؟ الشارع يتشوف إلى عتق الرقاب، وقد يكون العتق إجبارياً على صاحبه، فمن أعتق شقصاًَ له في عبد، وكان عنده وفاء، عتق عليه العبد كله، وألزم بدفع حصة للشريك، ويصبح العبد حراً كله بالإجبار، بل قد يلزم العتق بأوهى الأسباب، كما في حديث الرجل الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إن لي جارية ترى الغنم، وجاء الذئب فأخذ منها شاة، وأنا بشر فغضبت فلطمتها، ثم تأسفت، أفأعتقها؟ قال لها: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: اعتقها فإنها مؤمنة) واللطمة التي لطمها لا يكفرها إلا أن تعتق! انظر إلى هذا الحد! والإخوة طلبة العلم قد يقرءون في بعض الدوريات: الانتقاد على الإسلام باسترقاق الأحرار، ويذكرون كلمة عمر: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!) ، ويقولون: الإسلام هو الذي ابتدع الرق، وهذه فرية، والذي يصغي إليها جاهل، فالرق كان موجوداً قبل الإسلام، والإسلام غاير جميع النظم في مبدأ الرق، في إيجاده وفي تصفيته، أما إيجاده فلا رق في الإسلام؛ إلا من أخذ أسيراً في أرض معركة بين المسلمين والكفار، وما عدا ذلك فليس هناك رق، فإذا ثبت عليه الرق انسحب عليه وعلى ذريته.
وفي الوقت الذي شرع الرق؛ فالأبواب متعددة لإخراج الرقيق من رقه إلى سعة الحرية، فجعل في الكفارات اعتاق رقبة، مثل كفارة من جامع في نهار رمضان أو أكل أو شرب متعمداً عند مالك، وبم تكون الكفارة؟ تبدأ بعتق رقبة، ثم صوم شهرين، ثم إطعام ستين مسكيناً.
وإذا ظاهر أحد من زوجه فما الذي يفك عنه هذا الظهار؟ عتق رقبة، أو صيام شهرين أو إطعام ستين مسكيناً.
ومن حلف يميناً وأراد أن يكفر عنها فكفارته العتق أو الإطعام أو الكسوة، وليس هناك ترتيب كما في غيرها.
وإذا أراد أن يتبرر ويعتق نفسه من النار أعتق رقبة كما في الحديث: (من أعتق رقبة أعتقه الله بها من النار، كل عضو بعضو منه، حتى البضع بالبضع) ، أي: والرأس بالرأس، واليد باليد، والرجل بالرجل، والبضع بالبضع، فيعتقه لوجه الله فيكون فكاكه من النار.
وإذا أساء إلى العبد أدنى إساءة بأن لطمة فليس لها كفارة إلا عتقه.
بينما نجد الذين يعيبون على الإسلام الرق يوسعون أبواب استرقاق الأحرار، ويضيقون باب إخراجهم عن ربقة الرق إلى الحرية، فتجدون في قوانينهم: إذا كان السيد مديناً بيع وصار عبداً، وإذا أفشى سر الدولة، أو أطلع على نقطة ضعف في الجيش أو إذا نظر إلى زوجة سيده بنظرة غير عادية، وغير ذلك؛ فإنها تستوجب استرقاق الحر، فوسعوا دائرة الإدخال، ومتى يتحرر الرقيق عندهم؟ لا يحق عندهم للسيد أن يحرر عبده إلا بإذن من الدولة؛ لأن تحرير العبيد يجعل ارتباك في الإنتاج والاقتصاد؛ لأن العبيد تقوم عليهم عملية الإنتاج، بينما الإسلام يعطي للإنسان الحرية في أن يعتق ما شاء.
وعلى هذا: لو أعتق المفلس عبيداً له، والشرع يتشوف إلى حرية أو تحرير العبيد، فهل يمضي عتقه أو لا يمضي؟ قالوا: لا يمضي عتقه بعد أن أعلن إفلاسه أو أعتقهم هروباً من سداد الديون التي عليه، وقد رد (النبي صلى الله عليه وسلم العتق على المدين الذي أعتق ستة أعبد عن دبر ليس له مال غيرهم، وباعهم وسدد دينه) .
إذاً: من حجر عليه لا يتصرف في ماله بما يضر الغرماء.
ومسألة البيع يتولى أمرها الحاكم، فيبيع ماله ثم يوفي الغرماء من هذا المبيع بحسب حصصهم من الدين، فالنبي صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ، وباع ما يملك، وقسمه على الغرماء، وقال لهم: (ليس لكم إلا ذلك) ، وباقي الدين يكون في الذمة وليس لهم أي مطالبة الآن، فيتركونه إلى ميسرة.
ثم بعث صلى الله عيه وسلم معاذاً إلى اليمن قاضياً ومعلماً ومرشداً وجابياً للزكاة، ولعله أن يصيب من عمالته شيئاً، وأباح له النبي صلى الله عليه وسلم الهدية على غير العادة، وقد قال عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه: الهدية كانت للنبي صلى الله عليه وسلم فعلاً مقبولة، ولكنها للعمال رشوة، وذلك لأن معاذاً رضي الله تعالى عنه من ورعه، ومن معرفته، ومن زهده لن يقبل الهدية التي هي رشوة؛ لأنه كما قال صلى الله عليه وسلم: (أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل) ، إذاً: لن يأخذ هدية تؤدي إلى حرام، والله تعالى أعلم.(205/8)
كتاب البيوع - باب التفليس والحجر [2]
جعل الله المال قياماً لمصالح الدين والدنيا، والشريعة جاءت بأحكام تحافظ على هذه الضرورة، ومن ذلك أنها تشرع الحجر على مال الصغير والسفيه المبذر لمصلحتهما، وترغب المرأة في استشارة زوجها في مالها، وبهذه الأحكام وغيرها يصلح أمر الفرد والمجتمع.(206/1)
شرح حديث: رد النبي عليه الصلاة والسلام ابن عمر يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني) متفق عليه، وفي رواية للبيهقي: (فلم يجزني ولم يرني بلغت) وصححه ابن خزيمة] .
يقول: (عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق -والخندق كان بعد أحد بسنتين؛ لأن غزوة الخندق كانت في السنة الخامسة على الصحيح- وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني) .
أتى المؤلف بهذا الحديث في باب التفليس والحجر، ليبين أن الحجر كما يكون على المال يكون أيضاً على النفس، فالصغير يحجر عليه، والمفلس الذي زاد دينه على رأس ماله يحجر عليه، بل إنه حجر على: معاذ بن جبل وهو أعلم الأمة بالحلال والحرام، فهو كامل العقلية ومتوفر العلم والأهلية ولكن حجر عليه من جهة الإفلاس في المال.(206/2)
الحجر للسفه والصغر
الحجر نوعان: حجر بإفلاس، وحجر بسفه، فلو أن إنساناً ما عليه ديون، ولا أحد يطالبه بشيء، لكنه يبذر ماله يميناً ويساراً، ويضيع ما معه، فهذا سفه، فهل نتركه يضيع المال أو نحجر عليه؟ نحجر عليه، خلافاً لـ أبي حنيفة، والأئمة على أن الموسر الذي ماله كثير ولكن عقله قليل، فهو ينذر المال ويتلفه، نحجر عليه، وكأننا نضعه في حجرة.
كان في زمن عمر رضي الله تعالى عنه رجل يدعى أسيفع، وكان هذا الرجل مغرماً بالدعاية والفخر، فإذا جاء وقت الحج اختار أسرع الإبل من أجل أن يسرع بعد الحج ويأتي إلى المدينة قبل الحجاج، فيقال: سبق أسيفع الحجاج، وكل سنة يريد شيئاً أحسن من شيء، فتكاثرت عليه الديون، فأخبر عمر رضي الله عنه بخبره، فخطب في الناس وقال: أيها الناس! إن أسيفعاً قد رضي من دينه ومروءته أن يقال: سبق أسيفع، وقد لحقه الدين، فمن كان له عليه دين فليأتنا غداً، وباع عمر رضي الله تعالى عنه الموجود من أمواله وسدد الغرماء، فهذا كان يضيع المال في غير محله، فهذا هو السفه، فإذا وجد إنسان كبير عمره ثلاثون أو أربعون سنة، أو أكثر أو أقل، لكنه لا يضع المال في محله ويبذره فإنه يمنع من التصرف في ماله لحفظه، قال الله: {إن الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء:27] .
والصبي الصغير إذا كان يمتلك مالاً ميراثاً أو هبة أو غير ذلك، لو تركناه وماله سيبذر فيه، فليس عنده كامل الأهلية في التصرف في ماله، ولا يعرف ما ينفعه وما يضره فيه، فهو قاصر الأهلية في المال، فلا نتركه يضيع المال وعندما يكبر يقول: أعطوني! لا، فمن الآن نحجر عليه، فالسفيه في التصرف بالمال والصبي الصغير يحجر عليهما.(206/3)
متى يحجر على الصغير؟
حد الصغر من الكبر سن أربعة عشر وخمسة عشر، فأربعة عشر آخر حد الصغر, وخمسة عشر في حد الكبر، ومن يحدد عمر الإنسان؟ جاء رجل عندي في شهادة، فقلت له: كم عمرك؟ فضحك، قلت له: ماذا هناك؟ قال: تريد عمري في التابعية أو على حساب أمي وأبي؟ قلت له: كلاهما، حتى أنظر الفرق بينهما؟ قال: في التابعية عمري تسعون سنة، وعلى حساب أمي وأبي فوق المائة! فإن كان هناك ضبط لتحديد السن قُبِل، والناس مؤتمنون على أعمارهم.
ومن الناحية الطبية يحدد عمر الإنسان في نقطة واحدة فقط يقيناً قطعاً، وما عداها يكون ظناً وتخميناً، وهي سن السادسة عشرة، يقول الأطباء: هناك عظمان متقابلان يسعى كل منهما إلى الآخر، فإذا بلغ الإنسان ستة عشر سنة التقا العظمان معاً، فهما متباعدان، وكل ينمو ويمتد إلى الآخر إلى نهاية سن السادسة عشرة سنة، فيلتقي العظمان، وقبلها يعلم أنه ما بلغ ست عشرة سنة، وبعدها يعلم أنه تجاوز ست عشرة سنة، لكن كم بقي عليه حتى يصل إلى ست عشرة سنة؟ تخمين، وكم مضى عليه منذ وصل إلى ست عشرة سنة؟ تخمين.
والمؤلف رحمه الله يسوق هذا الحديث هنا ليبين أن الصغير الذي يحجر عليه لعدم الأهلية المالية حده خمس عشرة سنة، فإذا كان عمره خمس عشرة سنة لا يحجر عليه، وإذا مات الرجل وترك من الأولاد من هم في سن أربع عشرة فأقل فهم في وصاية، ويقام عليهم وصي يتصرف في أموالهم بالحكمة لمصلحتهم، وإذا كان منهم من تجاوز الخمس عشرة سنة فليس عليهم وصاية، وعند أبي حنيفة سبع وعشرون سنة، وليس هناك وقت ابتداء للحجر بوصف الصغر، لكن قد يأتي الحجر بعد ذلك لوصف السفه.
والصغير لا يعطى ماله إلا بعد البلوغ والرشد، يقول المولى سبحانه: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6] ، وقبل هذا قال: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} [النساء:5] ، فالسفيه لا يتحكم في المال بل نحجر عليه، وإذا آنسنا من الصغار الرشد بعد التمرين والتدريب، بأن نعلمه البيع والشراء في الأشياء الخفيفة، فعند ذلك نعطيه ماله بعد البلوغ والرشد، وكنا نشاهد في المدينة في الستينات الطفل الصغير يبيع الجاز والكبريت والملح، وأشياء خفيفة ليس فيها غبن عليه.(206/4)
متى يفك الحجر عن الصبي؟
يفك الحجر عن الصبي إذا بلغ خمس عشرة سنة، وبعد البلوغ يجري القلم عليه في العبادات، ولكن في المعاملات يربط مع السن الرشد، وما هو الرشد؟ بعض العلماء يقولون: الرشد هو حسن التصرف في المال، وحسن التدبير في المال، والشافعي وغيره يقولون: أول صفات الرشد حفظ الدين، فينظر هل هو مستقيم في دينه أم لا؟ لأنه إذا كان مستقيماً في دينه يؤدي الصلوات ويصوم ويصدق في الحديث فسيحافظ على أمر دنياه، وهناك من يقول: لا، الدين للدين والدنيا للدنيا، فلو كان حصيفاً في ماله وسفيهاً في دينه ندفع إليه المال، والآخرون يقولون: إذا لم يكن رشيداً في دينه فسيضع المال في أي طريق كان، ولا يفرق بين حلال وحرام، ونص الشافعي على أن الصبي إذا بلغ الخامسة عشرة وهو يضيع ما بيده في اللعب فإنه سفيه لا يعطى له ماله، ومن السفه اللعب بالصواريخ النارية، فالعبرة في الحجر ليس مجرد العمر بل يشترط مع العمر وصف الرشد، وهذا نص كتاب الله: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} ، فإذا بلغ الخامسة عشرة فقد تجاوز مرحلة اليتم، وتجاوز مرحلة الصغر، لكن ننظر هل رشد أم لا؟ فإن رشد فيكون قد اكتمل من الجانبين المادي والمعنوي، وإذا لم يكن مع البلوغ رشد فنقول: لا نعطيك مالك حتى تعقل.
إذاً: المؤلف رحمه الله أتى بهذا الحديث ليبين لنا الفرق بين البلوغ وعدم البلوغ، وهل البلوغ متوقف على أربع عشرة وخمس عشرة أو أن هناك علامات أخرى؟ يوجد علامات أخرى كما في قصة بني قريظة، فمن علامة البلوغ الإنبات، فنبات الشعر في العانة علامة على البلوغ، وإذا احتلم وأمنى فهو أيضاً علامة على البلوغ، وقد يحتلم في الثانية عشرة من عمره، وكذلك الجارية إذا حاضت، وتقول عائشة رضي الله تعالى عنها: (إذا بلغت الجارية تسع سنوات فهي امرأة) فتكون قد بلغت، ولكن من حيث التكليف الشرعي والإلزام بالفرائض فحتى تبلغ خمس عشرة سنة.(206/5)
حرص شباب الصحابة على الخير
قال ابن عمر: عُرضت فرفضت ثم عُرضت فقبلت، ما هذا العرض؟ وما الذي جاء به حتى يعرض؟ غلام عمره أربع عشرة سنة ويأتي ويزامل الرجال، ليس في نزهة أو رحلة، أو حفلة، بل في قتال تتطاير فيه الرءوس! انظروا كيف كان الشباب في ذلك الوقت! والآن صار الشباب شباب الموضة، وشباب التوليتة، لا تنسوا -يا إخوان- شباب الرعيل الأول، عمره أربع عشرة سنة ويزاحم الرجال، ويحمل السيف في القتال.
ولما استعرض النبي صلى الله عليه وسلم أهل بدر، كان غلام يمشي على أطراف أصابع قدميه، فقال له أخوه: لماذا تفعل هذا يا أخي؟! قال: أخشى أن يراني رسول الله فيتصاغرني فيردني، وأنا أحب الشهادة، سبحان الله! يتطاول على أصابع قدميه لئلا يراه رسول الله صلى الله عليه وسلم قصيراً فيقول له: ارجع، أنت لا تصلح للجهاد، فيحتال للقتال، واستشهد فعلاً في غزوة بدر.
هذه النوعية -يا إخوان- من أين نأتي بها؟ هل من الشباب في هذا الوقت عشرة في المائة، أو خمسة في المائة مثل تلك النوعية؟ لا، لأنهم نشئوا أول ما نشئوا على الأخلاق الفاضلة، وعلى الفروسية، وهؤلاء نشئوا أول ما نشئو على الحضارة والمدنية.
نريد أن نغرس في نفوس أبنائنا أصالة الإسلام، وأن نوجد آثاره في حياتهم العملية، فهذا ابن عمر رضي الله تعالى عنه يعرض يوم أحد، وتعرفون كم كان عدد الكفار، والنسبة بين الطرفين، فيرد لصغره! وعرض رافع بن خديج وسمرة بن جندب في أحد، فرد أحدهما فذهب الآخر يبكي عند أبيه، قال: ماذا بك تبكي؟! قال: (أجاز النبي عليه الصلاة والسلام فلاناً وردني وأنا أصرعه، فذهب أبوه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: ولدي يقول: كذا وكذا -يا رسول الله- فأجزه، فناداهما الاثنين وتصارعا أمامه، وفعلاً صرعه فأجازه) .(206/6)
شرح حديث: (عرضنا يوم قريظة فكان من أنبت قتل ... )
قال رحمه الله: [وعن عطية القرظي رضي الله تعالى عنه قال: (عرضنا على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة، فكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلي سبيله، فكنت ممن لم ينبت فخلي سبيلي) رواه الأربعة] .
البلوغ يحصل إما ببلوغ خمس عشرة سنة، وإما بنبات الشعر في العانة، وهذه علامة بارزة ترتبط بسن البلوغ وبدء الأهلية، وعلامة الإمناء قد تكون مبكرة عن هذا الحد، فبعض الفتيات قد تحتلم، في تسع سنوات، وبعض الشباب في سن اثنتي عشر قد يحتلم ويكون بالغاً من الناحية الجنسية، وليس بالغاً من الناحية الأهلية، وبالله تعالى التوفيق.(206/7)
شرح حديث: (لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها)
قال رحمه الله: [وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجوز للمرأة عطية إلا بإذن زوجها، وفي لفظ: لا يجوز للمرأة أمر في مالها إذا ملك زوجها عصمتها) ] .
هذا الحديث يشعر أن الزوجة إذا ملك الزوج عصمتها حجر عليها أن تتصرف في مالها إلا بإذن زوجها، وهذا هو مذهب مالك رحمه الله، فعنده أن المرأة إذا تزوجت لا تتصرف في مالها إلا بإذنه، وعند غيره أن المرأة لها حق التصرف في مالها ما لم يكن هناك سفه، أو هناك تضييع، والمقصود بمالها: المملوك لها خاصة سواء كان ميراثاً عن أبيها أو أمها، أو هدية أو تجارة، بخلاف مال زوجها فإنها لا تملك فيه إلا التصرف بالمعروف كإعطاء السائل، وإعارة المتاع واسترجاعه، والجمهور على أن هذا من باب الإرشاد، واحتياطاً لقوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} [النساء:5] ، وقالوا: إن المرأة قد لا تحسن التصرف في المال، وقد جاءت النصوص المشهورة في تصرف المرأة بمالها بغير إذن زوجها؛ فمن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في يوم عيد، ثم أتى النساء فوعظهن وحثهن على الصدقة، فجعلت المرأة تتصدق بقرطها، أو بخاتمها، أو بسوارها، وتلقي من حليها الذي معها في حجر بلال رضي الله تعالى عنه، ولم تستأذن زوجها في هذا التصرف، وكان الرجال في جهة والنسوة في جهة.
وكانت خديجة رضي الله تعالى عنها تقدم المال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت تنفق عليه صلوات الله وسلامه عليه، وكون المرأة إذا تزوجت وأصبحت في عصمة رجل؛ لا تتصرف في مالها، هذا مذهب المالكية، وبعضهم يحد ذلك بسنتين إلى أن يعرف حصافتها في مالها، وحسن تدبيرها فيه، وعلى كلٍ، فهذا الحديث للإرشاد.
واتفقوا على أنه لا يحق للمرأة إذا دخلت في أشهر الحمل الأخيرة أن تتصرف في شيء من مالها، قيل: إذا أنهت الشهر السادس، وقيل: إذا أخذها المخاض، فإذا أخذها المخاض فلا يحل لها بيع ولا شراء ولا وصية؛ لأنها في حالة يخشى عليها فيها من الموت، وتكون كمن وقف في الصف في المعركة، فإنه لا يحل له أن يوصي بأكثر من الثلث؛ لأن المال معرض لأن ينتقل منه إلى الورثة، وكذلك المريض مرضاً مخوفاً فلا يحق له التبرع ولا الوصية إلا في حدود ما سمح به الشارع، وهو ثلث المال، فالمرأة إذا أخذها المخاض تمنع من التصرف في مالها مطلقاً، وإذا أنهت الشهر السادس كان ذلك على سبيل الكراهية، وإذا كانت غير حامل وكانت في عصمة رجل فإن أمرها قد انتقل من أمر أبيها إلى زوجها، وهذا مما يعظم حق الزوج على الزوجة، حتى إنه يتحكم في مالها الذي لا يخصه، وغير مالك جعل ذلك للإرشاد، ولها أن تتصرف في مالها، ولها أهلية التصرف في المال كغيره من الأمور التي لها الحق فيها، والله تعالى أعلم.(206/8)
شرح حديث: (إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة ... )
قال رحمه الله: [وعن قبيصة بن مخارق رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عيه وسلم: (إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقة فحلت له المسألة) ] .
تقدم وجوب التعفف عن المسألة وأن: (من سأل وعنده أوقية أتى يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم) ، وقد ذكرنا قصة الشاب الذي جاء يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: (أراك قوياً جلداً! قال: ليس عندي شيء وعندي عجوز في البيت، قال: ماذا عندك في البيت؟ قال: حلس نفترش نصفه، ونلتحف بنصفه، وقعب نأكل ونشرب فيه، فقال صلى الله عليه وسلم: علي بهما، فأخذهما صلى الله عليه وسلم وقال: من يشتري هذا؟ فقال رجل: بدرهم، فقال: من يزيد؟ قال رجل: بدرهمين، فباع ذلك عليه وأعطى الشاب الدرهمين وقال: اشتر طعاماً لأهلك، واشتر بدرهم فأساً وحبلاً وأتني بهما، فجاءه بالفأس والحبل، فأخذ الفأس ووضع فيها عوداً وقال: اذهب واحتطب، ولا أرينك خمسة عشر يوماً، فذهب يحتطب ويبيع ويستغني بما يعود عليه من هذا العمل، ثم جاء بعد الموعد ووقف على النبي صلى الله عليه وسلم في ثوب جديد ومعه دراهم، فقال صلى الله عليه وسلم: لأن يأخذ أحدكم فأساً وحبلاً فيحتطب فيبيع فيستغني؛ خير له من أن يتكفف الناس السؤال) وقال عليه الصلاة والسلام: (ومن يصبر يصبره الله) وقال: (ما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر) فالصبر على الحاجة أولى من مد اليد.
وهنا في باب الحجر يبين المؤلف متى يجوز للإنسان أن يسأل، والواجب أن يكف الإنسان عن المسألة، والمسألة بمعنى السؤال، والسؤال والمسألة يأتيان اصطلاحاً في سؤال استفسار كما يسأل طالب العلم أو المستفتي في مسألة نازلة به ويطلب حكمها، قال الله: {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101] ، وهذا من باب المسألة في العلم سواءً ما يتوقع أو لا يتوقع، وتكون المسألة بمعنى سؤال الحاجة، وطلب العون، سواءً كان نقداً أو متاعاً أو مساعدة كشفاعة بجاه إنسان عند إنسان آخر، وهذه المسألة هي المرادة بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تحل المسألة إلا لإحدى ثلاثة) ، والمراد بالثلاثة هنا: الجنس، وليس ثلاثة أشخاص فقط، ولكن ثلاثة أصناف من الناس هم الذين تحل لهم المسألة.(206/9)
جواز السؤال لمن تحمل حمالة
قال عليه الصلاة والسلام: (رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك) .
رجل تحمل حمالة أو امرأة، وذلك بأن تكون هناك خصومة بين الناس، أو نزاع، ويشتد الأمر بين الطرفين، ويحتاج الأمر إلى تدخل من يصلح بينهما، ويكون النزاع على مال، فيأتي إنسان خير ذو مروءة فيتحمل الشيء الذي تنازعوا عليه، وكل يدعيه لنفسه، فهذا تحمل حمالة لغير منفعته الخاصة، ولكن للإصلاح بين الناس.
وسيأتي في هذا الكتاب باب الصلح وحكم الجوار، ويبين فيه أقسام الصلح، وهذا الباب من أهم أبواب الفقه، قيل: إن جبريل عليه السلام أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الملائكة تتمنى أن تكون من أهل الأرض لكثرة ما ترى من ثواب عملين، وهما: الإصلاح بين الناس، وسقي الماء، فالذي يتحمل حمالة فهو ساع للإصلاح بين المتنازعين، وإن كان أصل النزاع على مال أو نفس تحمل الغرم، كما قيل: سعى ساعياً غيض بن مرة بعدما تبذل بين العشيرة بالدم تحمل ديات الفريقين، وأصلح بينهما، فالذي تحمل هذا لمصلحة الطرفين وجبت مساعدته، ولا نتركه يتحمل من ماله، فله أن يأخذ من الزكاة، وله أن يسأل ولو كان وفير المال؛ لأنه لم يتحمل لمصلحة شخصه، وإنما توسط مروءة وإصلاحاً، فلو تركنا كل إنسان يتدخل بالإصلاح بين الناس ويتحمل ما يدفعه للإصلاح من عين ماله، لأحجم الناس عن هذا التدخل، وتركوا هذا العمل الخير، وبقي النزاع بين الناس، ولكن ما دام أنه تحمل الغرم لمصلحة الآخرين، فعلى الآخرين أن يساعدوه، وأن يعطوه ما سأل حتى يبلغ ما تحمله، فإن كانت القضية تحتاج إلى تحمل ألف، أو مائة ألف، أو مائتين ألف ريال أو أكثر أو أقل، فإذا أصاب بمسألته ما يوفي عنه حمالته كف عن المسألة؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فما دامت الحمالة موجودة فله حق في السؤال، وما دامت قد زالت وارتفعت فليس له حق، ووجب عليه أن يكف عن المسألة.(206/10)
جواز السؤال لمن أصابته جائحة
وقوله: (ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش) .
مثلاً: إنسان صاحب تجارة، وله سفن في عرض البحار، تحمل تجارته ورأس ماله، فجاءت (أمواج عاتية، ورياح صاخبة، فأغرقت تلك السفن، فهذه جائحة أصابت ماله، وبقي لا مال عنده، فهل نتركه على هذه الحالة؟ لا، بل تحل له المسألة، وهل يسأل حتى يحصل على ما فات عليه؟ لا، فقد يكون فات عليه الشيء الكثير جداً، ولكن كما قال عليه الصلاة والسلام: (حتى يصيب قواماً من عيش) ، أي: المال الذي يقيم حياته ومعيشته على نمط أمثاله في حياتهم، ولا نقول: ينبغي أن يكتفي بأقل ما يمكن أن يعيش به إنسان، فإذا كانت له عائلة، وله أولاد، وله التزامات، فإن له أن يسأل (حتى يصيب قواماً من عيش) ، حتى يكون كأمثاله في حياتهم اليومية، لا أن يستمر في المسألة حتى يستعيض كل ما افتقده من تجارته، فقد يكون افتقد الشيء الكثير.
ومثل ذلك إذا أصيب ماله بحريق أو بغرق أو بلصوص، المهم أي جائحة عامة اجتاحت ماله، كان بالليل غنياً فأصبح فقيراً كما قيل: وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل وما يدري الفقير متى غناه، فالغني أمر بيد الله، وما يدري الغني متى يعيل: يعيل بمعنى: يفتقر: وما تدري وإن ذمرت سقباً يكون لك أم لغيرك ذا الفصيل إذا كانت لك ناقة حامل، وذمرت سقبها، فلا تدري: أيكون لك هذا الفصيل، وتعيش حتى يكبر وتستمع به أم تتركه مع عنايتك به لغيرك؟ فهذه أمور غيبية لا يعلمها إلا الله، ولا يقدر قدرها إلا الله، فإذا كان إنسان صاحب مال واجتاحت ماله جائحة، فتجب مساعدته من باب التعاون الإسلامي، أو كما يقولون: التضامن الاجتماعي، فأخوة الإسلام تجعل المسلم مع المسلم كالجسد الواحد، وأي فرد آخر أصيب بمثل ذلك فيساعده الجميع، فهو أخوهم قد أصيب بهذه الجائحة، فمن حقه عليهم أن يساعدوه، (وله أن يسأل حتى يصيب قواماً من عيش) .(206/11)
جواز السؤال لمن أصابته فاقة
وقوله: (ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقة فحلت له المسألة) .
وهذا شخص ثالث، فالأول: تحمل حمالة لغيره، فيأخذ حتى يسترد ما تحمل، ولو كان عنده مال؛ لأنه فاعل خير لغيره، فوجب تعاون المسلمين معه، والثاني: ماله موجود، ولكن اجتاحته جائحة فأصبح معدماً، وهذا من حقه على إخوانه المسلمين أن يتعاونوا معه، وإذا سأل حلت له المسألة (حتى يصيب قواماً من عيش) ولا نتركه -بعد أن كان ذا مال وفير- يتكفف الناس السؤال؛ لأن هذا أصعب ما يكون عليه، وهذا أصعب عليه من ضياع ماله واجتياحه؛ لأنه ما تعود هذا، بخلاف الشخص الذي نشأ على المسألة، فلا يهمه أن يسأل أعطوه أو طردوه، عبسوا في وجهه أو استبشروا في وجهه؛ لأنه تعوّد على ذلك فلا يضيره، بخلاف الشخص العفيف المستغني بماله الذي لم يتعود المسألة، فإنه إذا اضطر إلى قرضة من المال، توقف وأحجم أن يطلب من أحد قرضاً، مع أنه سيقترض ويرد؛ لأن القرض يشعر بالحاجة، فمن حقه على المسلمين أن يعطوه ويساندوه (حتى يصيب قواماً من عيش) .
وقد جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: لو أن رجلاً مات جوعاً في محلة قوم لألزمتهم ديته، لأنه كان يجب عليهم أن يطعموه، ومن هنا يحق للمسلم أن يعلن للعالم: أن ما تدعونه من الضمان الاجتماعي هو موجود في الإسلام بأكثر مما لديكم، ولا ننسى فريضة الزكاة، فهي ضمان إجباري: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24-25] ، فيجب أن يتميز المجتمع الإسلامي بالتعاطف والتراحم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) يعني: أحس بشكوى العضو، ولو كان في أقصى العالم، وقال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) ، فهذا الأول والثاني.
والثالث: لم يتحمل حمالة لغيره، ولم يك ذا مال فاجتاحت ماله جائحة ولكنه ضعيف الحال، فقير أصابته فاقة، ودخله بقدر حاجته، ولكنه في بعض الظروف تعطلت روافد مصرفه، مثلاً: كانت له تجارة فتعطلت، أو كانت له تجارة فخسر فيها، أو كانت له زراعة فقل دخلها، فأصابته فاقة بأي سبب، ومهما كانت الأسباب فمادام أنه قد أصابته الفاقة، وهو في حالة الحاجة والاضطرار؛ فحينئذ له الحق أن يسأل، وإلى متى؟ (حتى يصيب قواماً من عيش) .(206/12)
شهادة ثلاثة لمن أصابته فاقة وشروطهم
الثالث الذي أصابته الفاقة لابد أن يشهد له ثلاثة من ذوي الحجا بأنه قد أصابته فاقة، والأصل في الشهادة كما قال الله: {ذَوَى عَدْلٍ} [الطلاق:2] ، ولو شهد اثنان على إنسان في قتل نفس لقتل، فيقتل المسلم بشهادة رجلين، وهنا يشترط صلى الله عليه وسلم أن يقوم ثلاثة من ذوي الحجا، والحجا هو: العقل، فيشهدون بأن فلاناً هذا قد أصابته فاقة، والموجب لكون الشهادة هنا ثلاثة أشخاص، مع أنه يكتفى في الجنايات بشاهدين: أن الشاهدين في الجناية يشهدان في أمر ظاهر عياناً، فهما مثلاً رأياه يقتل بآله حادة أو يخنق، وشهدا على أمر ظاهر واضح، أما من أصابته الفاقة فهو في بيته، وهو في أمره وشأنه، فلا نعلم حقيقة مدخله وحقيقة معيشته؛ ولهذا يشترط في هؤلاء الشهود: أن يكونوا من محلته التي يسكن فيها، وأن يكونوا من ذوي الحجا ممن يدركون ويعرفون مداخل الرجل، ويقارنون بين دخله وبين نفقته؟(206/13)
الموظف قد يكون فقيراً
لو أن موظفاً له راتب شهري، ولكن لوازم حياته ومستلزماته أكثر من هذا الراتب، فهل يكون غنياً أو فقيراً؟ الفقهاء حددوا المسكين بأنه من كان دخله أقل من نفقته، والفقير من لا دخل له، كما في الآية: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79] ، كان عندهم سفينة يعملون في البحر، ويكرونها، ومع ذلك سماهم مساكين؛ لأن دخلهم من السفينة لا يكفي نفقة عوائلهم، وكذلك قد يكون حال صاحب وظيفة، صاحب معرض، صاحب سيارة، صاحب مزرعة، صاحب عمارة، صاحب أي سبب من الأسباب التي يتعاظمها الناس، وينظرون إليها نظرة إعجاب، فقد يكون الدخل مع عظم المورد لا يفي بالحاجة، وهذا أشق ما يكون في المجتمع؛ لأن من لا شيء له ظاهر: لا مزرعة، ولا معرض، ولا وظيفة، ولا شيء، فالكل يقول عنه: مسكين ليس عنده شيء، ويتعاطفون معه، لكن هذا يرون مظهره، ويرون دخله، فيرون أشياء عظيمة، ولا يعلمون بحاله! فالمورد قد لا يكفي، بل قد يكون له وقت معين، كما سئل أحمد عن رجل له مزرعة، وزرع فيها، ونبت الحب ونما وجف، ولم يبق عليه إلا الحصاد، وليس عنده ما يحصد به، وليس عنده نفقته، فهل يعطى من الزكاة؟ قال: يأخذ من الزكاة مع أنه بعد الحصاد سيكون لديه المال الوفير، لكن في هذه الساعة ليس عنده شيء.
وأجمعوا أنه إذا كان الرجل يملك منزلاً كبيراً يسعه ويسع غيره معه، وليس عنده نفقة، فله أن يأخذ من الزكاة؛ لأنه لن يأكل من هذا البيت الكبير! ولا يكلف ببيعه والسكن في بيت صغير، وهذا مستوى حياته.
فمن أصابته فاقة بأي سبب، وشهد له بالفاقة ثلاثة من ذوي الحجى، فله أن يسألها، وكان الشهود ثلاثة لأن المشهود به أمر خفي، وما كل إنسان حتى من الجيران يعلم بحقيقة أمره، ولن يقول له: كم راتبك؟ وكم مصرفك؟ وكم نفقة عيالك؟ وفي هذه الآونة الأخيرة خاصة، تنوعت وتوسعت مرافق الحياة، فالولد في المدرسة يحتاج، والمريض في المستشفى يحتاج، ونفقات المرافق العامة تحتاج، مثل فواتير كهرباء، وفواتير ماء، وفواتير هاتف، وكلها لوازم شهرية، وأنت تنظر إليه كل يوم في ثياب طيبة، ذاهب إلى الدائرة، وراجع من العمل، وتظن أنه يذهب خماصاً، ويرجع وقد ملأ جيوبه من المال! وهو راتب والله سبحانه وتعالى أعلم بحاله، ومعظم الموظفين -لا أقول: خمسون بالمائة بل الأكثر- ربما لا يأتي عليهم نهاية الشهر إلا وقد استدانوا.
إذاً: هذا الصنف من الناس يجب التنبه لهم؛ ولذا جعل الشارع ثلاثة من العقلاء الأذكياء الذين لهم بصيرة، ويعرفون حقيقة حياته وحقيقة معيشته، فيشهدون بأن فلاناً أصابته فاقة فعلاً، يعني: ليس عنده ما يكفي حاجته في هذه الحالة، ولا نقول له: يطير في السماء! ولكن نقول: له الحق أن يسأل ويأخذ حتى يسد حاجته، وفي هذا الحديث بيان وجوب التعفف، وإعطاء الفرد المسلم حقه بما يسد حاجته، وتعاون المجتمع في مثل هذه الحالات.
ومن هنا -يا إخوان- تجدون في المحاكم إذا ادعى إنسان إعساراً، وادعاء الإعسار لا يكون إلا في المدين، سواءً أعسر في نفقة شرعية، أو أعسر في نفقة سفه، أو أعسر في أمر مما يخصه هو، فيطلب منهم في المحاكم تقديم ثلاثة شهود، واثنان يزكيانهم، ويشهدان على صدقهم وأمانتهم ومعرفتهما بهم، وبالله التوفيق.(206/14)
كتاب البيوع - باب الصلح
من محاسن الشريعة الإسلامية ترغيبها فيما يدعو إلى الألفة والمحبة، وزجرها عما يؤدي إلى العداوة والبغضاء، وقد رغبت في الصلح بين المسلمين، وللصلح أحكام كثيرة بينتها الشريعة الحكيمة.(207/1)
شرح حديث: (الصلح جائز بين المسلمين)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن عمرو بن عوف المزني رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحاً حرَّم حلالاً أو أحلَّ حراماً، والمسلمون على شروطهم، إلا شرطاً حرَّم حلالاً أو أحلَّ حراماً) .
رواه الترمذي وصححه، وأنكروا عليه؛ لأن راويه كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف ضعيف، وكأنه اعتبره بكثرة طرقه، وقد صححه ابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه] .
الصلح جائز، وجاءت النصوص في كتاب الله تحث على الإصلاح في المجتمع، والإصلاح أنواع: فهناك الإصلاح بين الزوجين.
وهناك الإصلاح بين الطائفتين.
وهناك الإصلاح بين الفريقين أيَّاً كانا.
إذاً: الصلح جائز، ومُرَغَّب فيه، ومندوب إليه.
وكذلك الشرط، كما جاء في حديث بريرة: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل) ، إذاً: الشرط صحيح.
وإذا كان الشرط أحلَّ حراماً أو حرَّم حلالاً فهذا معلوم من الدين بالضرورة أنه يكون شرطاً فاسداً، وسيأتي التنبيه عليه إن شاء الله.
وضعف الحديث تجبره شواهد الكتاب أو السنة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (جائز) يعني: ليس بلازم حتماً، فمن لم يرضَ بالصلح في بادئ الأمر فلا نلزمه به.
والصلح مبناه على التنازل، مثلاً إنسان له على إنسان ألف ريال، فجاء وقال: أصالحك على تسعمائة ريال، وأتنازل لك عن مائة ريال، فهذا صلح في هذا الدين.
ويقول الفقهاء: الصلح نوعان: الصلح على إقرار، والصلح على إنكار، ففي هذا المثال صلحٌ على إقرار؛ لأنه مقر بالألف، ويقولون: إن كان موضوع الصلح من جنس المصالَح به فلا ينبغي أن يكون بلفظ الصلح، خاصةً إذا كان ربوياً، فألف ريال بتسعمائة هذه ربا، ولهذا يقولون: ينبغي في هذه الصورة أن يقول: أبرأتك من مائة ريال، وأعطني تسعمائة، فيكون هذا إبراء من الدائن، أو يقول المدين: هب لي من دينك مائة ريال، فيكون في هذه الحالة التخفيض والتقليل من الدين بلفظ الهبة أو الإبراء، يقول الدائن: أبرأتك من مائة ريال، أو وهبت لك مائة ريال من الدين، وأعطني الباقي.
فلا مانع من ذلك؛ لكن أن يقول: (صالحتك) يقولون: هذا لا يجوز؛ لأنه يكون من صورة الربا أقرب منه من صورة الهبة والعطية.
إذاً: المسألة مسألة لفظ، ومسألة اعتبار، لأن الصلح يكون في معنى البيع.
أما إذا كان المصالَح به من غير جنس المصالَح عليه مثلاً: له عليه إرْدَبٌّ من التمر، فتعذَّر تقديم الإرْدَبِّ من التمر، فنقوِّمه؛ لأنه إذا تعذَّر عين الدين تعيَّنت القيمة، فإذا كانت قيمة إرْدَبِّ التمر بألف، فقال: أنا أتنازل لك من الألف بمائة.
فلا مانع من ذلك.
أو يقول: أصالحك على الدين الذي في ذمتك من التمر بتسعمائة أو بمائتين أو بخمسمائة؛ لأن المصالَح به نقد، والمصالَح عليه تمر، فاختلف الدين مع عين الصلح، فلا مانع من ذلك.(207/2)
حكم الصلح على الإنكار
صلح الإنكار هو أن يدعي إنسانٌ على إنسان شيئاً فينكره.
وتحقيق الأمر في هذه المسألة: أن بعض العلماء نفى صلح الإنكار بالكلية كـ الشافعي رحمه الله، والبعض أجازه؛ ولكن فصل بعض العلماء وقال: لا ينبغي أن يقال: صلح الإنكار ممنوع مطلقاً، أو صلح الإنكار جائز مطلقاً.
قالوا: إذا كان المدعى عليه بالدين يعلم حقيقة الدين؛ ولكن أنكره بغية أن يصالحه الدائن على شيء منه، فصالَح مدينٌ له بإرْدَبٍّ من التمر، فقال: ليس لك عندي شيء، فذهب وجاء، وادعى عليه، وما عنده بينة، وما حصَّل شيئاً، فأراد الدائن أن يصالح على بعض حقه لينقذ بعض حقه، فقال: أصالحك على نصف الإرْدَبِّ بقيمة خمسمائة ريال.
ففي هذه الحالة الدائن له حق أن يكتفي بنصف حقه، والمدين ليس له حق أن يصالح على أقل من دينه؛ لأنه يعترف به في قرارة نفسه، وكان ينبغي أن يعترف به صراحةً، ويطلب من الدائن أن يخفف عنه أو أن يسامحه، أما أن يجحده بغية أن يصالحه صاحب الحق على جزء منه؛ فهذا لا يجوز.
وقد يدعي من ليس له شيء على رجل يستحي من المثول في مجالس القضاة، ويستحي أن يُعرض عليه اليمين، ويتورع أن يحلف يميناً ولو كان صادقاً، فذهب إلى القاضي وادعى عليه: أن لي عليه ألف ريال.
فالقاضي يستدعيه، فيقول: لا، أبداً، هذا ليس بيني وبينه معاملة، فيقول القاضي للمدعي: البينة، فيقول: ما عندي بينة، فيقول للمدعى عليه: احلف، وهذا الذي يريد المدعي أن يصل إليه، ويعلم أن المدعى عليه من مروءته وأمانته وزهده أنه لن يحلف، فحينئذٍ يضطر المدعى عليه أن يصالح المدعي، فهل صالَحه على الدين؟ لا.
بل صالحه على الدعوى ليترك دعواه، ويفك نفسه من هذا.
فحينئذٍ هذا المدعي محق أم ظالم؟ ظالم، وأخذ بصلح الإنكار مال إنسان بغير طيب نفس؛ ولهذا مالك رحمه الله يقول: لا ينبغي أن تُسمع كل دعوى، وأن تكون القضية دائماً، البينة اليمين لا.
بل يُنظر هل بين المدعي والمدعى عليه ما يشبه دعواه؟ فإن كان المدعي الذي ادعى على إنسان ليس بينه وبين المدعى عليه لقاء ولا معاملة ولا أي شيء، ولا يشبه أن يحتاج ويستدين منه؛ فلا تسمع دعواه، مثلاً: إنسانٌ رأى رجلاً ماشياً صاحب هيئة ومال وكذا؛ فمسكه وقال له: هاتِ حقي.
- وما حقك؟ - الدين الذي لي عندك.
- أيُّ دين؟! أنا ما رأيتُك، أنا ما أعرفك! - أبداً، لي عندك ألف ريال.
ورفع أمره إلى المحكمة، فـ مالك هنا يقول: من أين هذا الرجل؟ - والله! من أفريقيا من هناك من آخر الدنيا، من داكار.
- وهذا من أين؟ - هذا من الشام.
- وما الذي جمع الشامي على الأفريقي؟! فـ مالك يقول: أولاً نثبت أن هناك ما يشبه حقيقة الدعوى، فيسأله القاضي: هل لقيته قبل ذلك؟ هل سافر إلى الشام؟ هل سافرت أنت إلى داكار؟ فإذا لم يكن هناك ما يشبه الخلطة بينهما فهل يكون لهذه الدعوى محل؟ لا محل لها.
مثال آخر: إنسان فقير في المدينة ادعى على تاجر معروف صاحب استيراد وتصدير ومعارض جملة، وقدم عريضة في المحكمة بأن لي عليه عشرة آلاف ريال، والمدعي بعشرة آلاف لا يملك إلا قوت يومه، فالقاضي يجب أن ينظر، هل هناك ما يشبه أن هذا الفقير المسكين امتلك عشرة آلاف، وهذا التاجر المصدِّر المورِّد صاحب الرصيد في البنوك، هل احتاج الغني إلى هذا في عشرة آلاف؟ إذا كان هناك ما يشبه هذا سمع الدعوى، وإذا لم يكن هناك ما يشبه من ثبوت الخلطة فـ مالك يقول: تُرفض الدعوى ولا تُسمع.
فإذا القاضي ما رأى هذه الناحية، وقال: عندي مدَّعٍ، والمدعي عليه البينة، والمنكر عليه اليمين، فقال: كونك غنياً، وكون هذا فقيراً، أنا لا دخل لي بهذا، عندك بينة؟ - ما عندي.
- ماذا تقول؟ - أريد يمين المدعى عليه.
والمدعى عليه لو ادعى عليه بمليون يريد أن يدفعه، فهو متورِّع عن اليمين، وكما قدمنا عن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه امتنع أن يحلف وهو محق؛ مخافة أن يصادف قدَر من الله، فيقال: أصيب بكذا لأنه حلف.
فهذا قد لا يحلف، وبراءة لعرضه تحمَّل الدين وهو ينكره، ودفعه مفاداةً لليمين.
فالصلح على إنكار: إن كان المدعى عليه يعلم حقيقة الدين وينكره، واضطر صاحب الحق أن يصالح عليه، فالمدعى عليه آثم لإنكاره، وما سقط من الدين بسبب مصالحة المدعي الدائن لا يسقط عند الله.
وهناك بعض الصور: قد يضطر المدعي أن يصالِح إنقاذاً للبعض من الكل، وينص على هذا الفقهاء في ناظر الوقف، والوصي على الأيتام، هناك عقار وقف، وبجواره رجل ظالم معتد ذو سلطان وجاه، فتعدى على أرض الوقف، فأخذها، فالناظر مطالَب بحفظ ملك الوقف، فحاول معه، فقال له: اذهب ما لك شيء! - يا ابن الحلال، هذا وقف لله، هذا صفته، هذا فيه أيتام، هذا فيه أرامل، هذا هذا هذا - فقال: لا دخل لي، اذهب.
- فقال له: أقول لك -يا شيخ- أصالحك على النصف، ويكفيك النصف واترك لنا النصف.
أو أن المدعي قال: أنا أعطيك النصف، واترك دعواك، واصرف الموضوع.
فهل من حقه أن يقبل هذا الصلح أو يترك؟ يقبل؛ لأنه إنقاذ للبعض من الكل.
وإذا صالح ناظر الوقف على نصف العين، فهل النصف الباقي يحل للمعتدي أو أنه حرام في يده؟ حرام في يده.
إذاً: الصلح على الإنكار: إن كان المدعى عليه لا يعلم بالدعوى، وأنكر لعدم علمه أو نسي فلا مانع من ذلك، وإن كان أنكر وهو يعلم فهو جاحد، وهو آثم، وما بقي بعد الصلح فهو في ذمته.
وكذلك المدعي، إذا ادعى بشيء يعلم أنه لا حق له فيه، وصالحه عليه المدعى عليه، فأخذ شيئاً في هذا الصلح؛ فأخذه إياه غير جائز، وهو آثم بهذا الأخذ، والذي دفع مسكينٌ مضطر يريد أن يحمي ماله.(207/3)
معنى قوله: (إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً)
وقوله: (إلا صلحاً حرَّم حلالاً أو أحلَّ حراماً) هذه قاعدة يدخل تحتها كثير من الصور.
إذا تنازعوا على شيء، وقال أحدهما: أصالحك على هذه الأرض بشرط أن تعطيني كذا من الأشياء المحرمة، أو أن تؤمِّن لي كذا من الأشياء المحرمة، يعني: يكون الصلح على شيء يحرم اقتناؤه أو محرم بيعه، وطلب أن يصالَح به، فهذا الصلح لا يحل هذا الحرام، ولا يجوز له أن يأخذه في هذا الصلح.
فإذا اصطلحوا عليه فهو حرام، وهذا الصلح أدى إلى استباحة الحرام.
كما لو جاءه وصالحه على أن يعيره جاريةً وقال: أستمتع بها مدة إعارتها.
هذا لا يجوز؛ لأنه صالحه على شيء محرم، والاستمتاع بالجارية لا يجوز إلا بملك يمين أو بعقد نكاح.
فأي شيء أحلَّ حراماً أو حرَّم حلالاً، مهما كانت الصور التي تتفرع تحت هذه القاعدة فإن الصلح لا يحلها.
مثلاً: امرأة ادعى رجل أنها زوجته في سفر، أو في غربة، ومسك يدها وقال: تعالي! - ماذا بك؟ - أنتِ زوجتي.
- زوجتك؟! ثم صالَحها على أن تقر له بالزوجية، فهل هذا الصلح جائز؟ لا؛ لأنه يحلُّ حراماً.
إذاً: الصور في هذه القاعدة عديدة، ولا نطيل الوقت فيها.(207/4)
معنى قوله: (والمسلمون على شروطهم)
وقوله: (والمسلمون على شروطهم) : هذه الجملة تعتبر قاعدة تجمع بين المروءة والأمانة والديانة والصدق، وكما يقال: الإنسان يربط بكلمة من لسانه، والحيوان يُربط بالحبل، وإذا قال إنسان كلمة فيجب أن يقف عندها ويلتزمها، فإذا اشترط شرطاً الآن وأخل به فيما بعد فهذا حرام، ولو صار كل الناس يخلون بشروطهم ما انتظمت أمور الحياة، وكما يقال عن هتلر أنه حينما أراد أن يهاجم دولة قيل له: بيننا وبينهم معاهدة، فقال: المعاهدة يُعمل بها في السلم، أما في الحرب فلا معاهدات!! بينما في الإسلام قال الله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] ، وإذا كان هناك عهد بين المسلمين والمشركين فلا ينبغي أن يُخفر العهد حتى يُعلَن لهم، وكان المشركون الذين لهم عهود يأتون إلى مكة للحج فقال الله: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال:58] ، وقال: {أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:6] اتركه حتى يرجع إلى بلده.
- (والمسلمون على شروطهم) ، وجاء أيضاً بلفظ: (والمؤمنون على شروطهم) .
ويقول بعض العلماء كشارح الكتاب هذا: كلمة (على) تدل على الاستعلاء، بمعنى: أن المشترط شرطاً يتعالى عن أن ينزل ويخل بهذا الشرط، فيجب أن يوفي بالشرط، وكون المؤمنين أو المسلمين على شروطهم هذا مما يدل على قوة الإسلام وقوة المسلمين؛ لأنهم لا يخفرون بالشروط، ولا يخفرون بالذمة، بل يوفون بالشرط ولو على كُلفة منهم.
ولكن إذا كان هناك شرط يحلُّ حراماً أو يحرِّم حلالاً، فهذا الشرط باطل، كما تقدم في قضية بريرة، قال: (اشتريها واعتقيها واشترطي لهم الولاء) ؛ لأن هذا شرط أحلَّ حراماً، لماذا يكون لهم الولاء؟ ليس لكم الولاء، إنما الولاء لمن أعتق، فهذا الشرط يكون باطلاً.
والصور والأمثلة في الشرط الذي يحلُّ حراماً أو يحرِّم حلالاً كثيرة جداً، وليست مفسدات الشرط قاصرة على تحليل الحرام أو تحريم الحلال، بل كل شرط على غير شرع الله فهو باطل، وتقدم لنا قضية أبي حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة حينما سألهم السائل عن بيع وشرط، فقائل منهم يقول: البيع صحيح، والشرط صحيح.
وقائل يقول: الشرط باطل والبيع صحيح.
وقائل يقول: كلاهما باطل! فواحد يقول: كلاهما صحيح.
وواحد يقول: كلاهما باطل.
وواحد يقول: البيع صحيح، والشرط باطل؟ وذكروا النصوص الموجودة في هذا، فمنهم من يستدل بقضية بريرة، ومنهم من يستدل بجمل جابر، ومنهم من يستدل بحديث آخر.
وهكذا في نكاح الشغار، لو قال: أزوجك مولاتي على أن تزوجني مولاتك.
اشترط عليه أن يزوجه ليزوجه، وهذا هو نكاح الشغار، فهذا شرط باطل.
وأيضاً: لو اشترطت الزوجة عليه ألَّا يكون للضَّرَّة ليلة معها، فقبِل، فهذا الشرط باطل؛ لأن لها حقاً في ذلك.(207/5)
حكم اشتراط المرأة عند الزواج بها عدم الزواج عليها
هل يجوز أن تشترط المرأة عند الزواج بها -وليس بعد الزواج- على الزوج ألَّا تكون له زوجة حاضرة، وألَّا يتزوج عليها بعد أن يتزوجها؟ بعضهم يقول: هذا شرط باطل؛ لأنه حرَّم حلالاً، فهي تقول: واحدة فقط، والله يقول: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر:1] .
وبهذه المناسبة أذكر أن والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه عندما سافر إلى أفريقيا، ودخل موريتانيا ونزل في مدينة يقال لها: أبو تلميد، وهذه المدينة مدينة علمية، فيها معهد علمي، وجميع الأسر تطلب العلم، تقريباً الصغير والكبير فيهم طالب علم، والشيخ رحمه الله كان في العادة عندما يأتي بلدة يلقي محاضرة في برحة البلد، وإذا كانت هناك أسئلة أو كان هناك شيء فحسب العادة، وكان الذي يدير الندوة أو الحديث عالم أديب شاعر يقال له: أبو مدين، فسأل الشيخ: ما حكم هذا الشرط الشائع عندنا، لا سابقةً ولا لاحقةً، وما قيمة هذا الاشتراط على الزوج؟ فقال رحمه الله: هذا من حقها، وليس شرطاً أحلَّ حراماً، ولا حرَّم حلالاً؛ لأن الزوجة تقول للزوج: أنا وأنت نعلم قوله تعالى: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر:1] ، وأنا لا أمنعك من ذلك؛ ولكن أنا أريد لنفسي الانفراد بزوج، ونحن لا زلنا على البر، إن قبلت هذا -أي: تنازلتَ عن حقك في {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر:1]- فتزوجني، وإن لم تقبل فاذهب واطلب غيري، وأنا لا أمنعك، ولا أحرم عليك.
إذاً: هذا الشرط لا يحرم حلالاً، فإنما تختار لنفسك، وأنت بالخيار، إن شئتَ قبلت هذا وتركت حقك فيه؛ لأن {مَثْنَى وَثُلاثَ.
} [فاطر:1] ليس بواجب، إنما هو من باب الجائز.
وقد تشترط المرأةُ: السكنى المعينة، أو عدم المضارة، أو عدم مجاورة أهلها، أو عدم السفر بها، وهذه كلها من الشروط التي يجب الوفاء بها، فإنها لم تحل حراماً ولا حرَّمت حلالاً، ولم تدخل ضرراً على أحد الطرفين.(207/6)
صور من الشروط التي فيها غرر
يوجد الآن بعض المعاملات فيها غرر، فمثلاً نسمع في مجال المواصلات (التكسيات) شركة ليموزين، تشترط على السائق شروطاً، وتعطيه السيارة بشرط أن يأتي في اليوم بكذا، والزائد له، فهذا شرط فيه غرر، وفيه مضرة، فهل يضمن أن يأتي بهذا المبلغ؟ ليس مضموناً عنده، فيكون هذا تكليف بغير المطاق.
وكذلك إنسان يعطي إنساناً فندقاً، يهيئه بكل شيء، ويقول: أسلمك إياه لتشغِّله، وتسلمني في كل شهر كذا، والزائد لك.
هذا أيضاً غرر، لا تدري هل يحصل هذا الشيء أم لا؟! فهناك شروط فيها غرر ومضرة.
وفي معارض السيارات يقول البائع: أبيعك السيارة هذه أمامك، وإذا وجدتَ فيها أي عيب فلا تُرَد، كيف لا تُرَد بالعيب؟ هذا شرط حرَّم حلالاً؛ لأن الحلال أنه إذا وجد في السيارة عيباً فإنه يردها بالعيب أو يأخذ أرش عيبها.
وقد يضللون ويقول البائع: أبيعك كومة حديد، أو سكراً في ماء، أو ملحاً في ماء، ويموِّهون أنه لا شيء فيها، ويقطعون على المشتري طريق النظر في العيب حتى لا يردها بعيبها، أو يأخذ أرش العيب.
فكل هذه من الشروط الفاسدة، ولو لم يكن الشرط يحرِّم حلالاً أو يحلِّل حراماً، والله تعالى أعلم.
ومما ينبغي التنبيه عليه -يا إخوان- أن الحديث لم يقل: الناس على شروطهم؛ ولكن قال: (والمسلمون على شروطهم) ، وفي الرواية الأخرى: (المؤمنون على شروطهم) ، ومعنى هذا أن صفة الإيمان وصفة الإسلام يجب أن تكون مميزة للمسلم والمؤمن على غيره، فإذا تعامل مسلم مع غير مسلم، فهل كون العميل غير مسلم يجوز له أن يخفر ذمته وأن تخفر شرطه؟ لا يجوز، ومن أغرب ما سمعت في الوفاء بالكلمة، وهي أحق بالمسلمين آلاف المرات، أن شخصاً من أهل جدة معروف بالتجارة، وقبل الحرب العالمية تعاقد مع شركة في صفقة حديد، فقامت الحرب العالمية الأخيرة، وتوقفت السفن عن التجارة بسبب الغواصات والألغام وو إلخ، وانقطعت الأخبار بين المستورد الذي من جدة وبين البائع الذي في إيطاليا أو ألمانيا.
وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، وفتحت الطرق المائية والبرية والجوية إلخ، جاءه إشعار من الشركة التي عقد معها الصفقة: إن الحديد الذي اشتريتَه وتعذَّر إرساله إليك باقٍ عندنا، والآن بعد الحرب قد أصبحت قيمته كذا -بعدة أضعاف من القيمة التي اشترى بها- وأنت بالخيار، هل نرسل إليك الصفقة أو نبيعها ونرسل إليك القيمة الجديدة؟ بعد الحرب وبعد اليأس وبعد انقطاع الأمل، يعرضون عليه هذا!! لو أنهم قالوا: قيمة صفقتك موجودة لكان خيراً منهم؛ لكن يزيد السعر وتتضاعف القيمة ويربح أضعاف الثمن ولا يطمعون فيها، بل يقولون: أنت بالخيار: نرسلها إليك أو نبيعها بالثمن الجديد المضاعَف ربحه ونبعث لك بالقيمة!! هذا يدل على الأمانة.
فهم يحسنون التعامل لأجل الدنيا، فهذا الشخص ومن يسمع بتلك المعاملة هل يستبدل عنهم غيرهم؟ لا، بل الكل يسعى إلى أن يتعامل معهم لأنهم أهل صدق ووفاء، والمسلمون أحق بهذا من باب أولى.
وعلى هذا: ينبغي على المسلم أو المؤمن أن يفي بالشروط، وكما يقولون: الوصف مُشْعِرٌ بالعلة، كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة:38] : فحَدَثُ السرقة علة في القطع، وهنا قوله: (المؤمنون على ... ) : وَصْفُ الإيمان علة في أن يفي المؤمن بشرطه.
فينبغي على المؤمن أن يعلو بإيمانه على غيره، وألَّا يخفر الشرط مع غيره ولو كان غير مسلم؛ لأن الوفاء من جانب المؤمن علوٌّ واستعلاءٌ بإيمانه عن أن ينحطَّ إلى درجة من يخفر الذمة.(207/7)
شرح حديث: (لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره)
قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمنع جارٌ جارَه أن يغرز خشبةً في جداره.
ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين؟! والله لأرمينَّ بها بين أكتافكم!) .
متفق عليه] .
هذا الحديث قاله أبو هريرة رضي الله تعالى عنه حينما كان أميراً على المدينة في زمن مروان بن الحكم، فهو أمير ينتهي إليه الأمر، وكان يتولى القضاء والإمارة والفتوى إلخ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يمنع جارٌ جارَه أن يغرز خشبةً في جداره) ، وهذا الحديث يبين حق الجوار، وذكره المؤلف في باب الصلح ونبهنا أن كثيراً من العلماء يقرن الصلح وحقُّ الجوار، بجامع أن كلاً منهما فيه تنازل، وفيه تعاطف، وفيه تعاون، حق الجوار من باب مكارم الأخلاق، وكذلك الصلح من باب المروءة ونحو ذلك، فيجمعونهما معاً.
فهذا الحديث ليس من باب الصلح، إنما هو من باب بيان حق الجار على جاره، ففي هذه الجزئية يروي وهو أمير حديث: (لا يمنع جارٌ جارَه) ، والجار هنا هو المجاور الملاصق؛ لأن الجار قد يُطلق على البيت المقابل في الشارع، والجار قد يصل إلى سبعة بيوت أو إلى أربعين بيتاً أو إلخ، فالجار هنا المراد به: الملاصق في البنيان، وكانوا قديماً إذا جاء إنسانٌ يبني بجوار بيت إنسان، لا يبني جداراً بجوار جداره، بل يكتفي بجدار الجار ساتراً عليه، وقد يبنيان الجدار معاً، ويكون الجدار مشترَكاً؛ ولهذا الجدار مباحث في الفقه، فلو تنازع الجاران في هذا الجدار، قال أحدهما: هذا ملكي، وقال الآخر: لا.
ملكي، وكلٌّ ادعاه لنفسه، فيقول ابن القيم في إعمال القرينة: يُنظر إلى عقود القُمُط ويُنظر إلى الطياق، فالإنسان في جدار بيته ربما يعمل تجويفاً وهو ما يسمونه: الطاقة غير المفتوحة، والعادة أن تكون من داخل الجدار؟ فإذا تشاحَّ جاران في جدار واحد، ننظر إلى فتحة الطاقة، هل هي مفتوحة إلى هذا اليمين أو مفتوحة إلى هذا اليسار؟ فمن كانت مفتوحةً إلى جهته يكون الجدار له هو.
وكذلك القُمُط التابعة للطياق أو إلخ.
وكانوا إذا بنى الإنسان من جهة الجار، أقام ثلاثة جدران، وعند التسقيف يجعل الخشب معترضاً إلى جهة الجار والجهة الأخرى، فيقع الخشب على جدار الجار، وقد يضع الخشب معترضاً بمُسامَتَة الجار، فيكون الخشب بعيداً عن جدار الجار، ولنفرض أن الجار غربي وشرقي، والجدار بينهما في الوسط، فإذا كان امتداد الخشب من شرق إلى غرب ستكون أطراف الخشب على جدار الجار، وإذا كانت أطراف الخشب من الشمال إلى الجنوب فهي بعيدة عن جدار الجدار.(207/8)
من أحكام الحديث
استدل أبو هريرة رضي الله تعالى عنه بهذا الحديث أنه يلزم الجار الأسبق إذا أراد جاره الجديد أن يسقف ما هو بجواره معتمداً على جداره؛ ألا يمنعه.
حتى يقول الحنابلة: ولو كان الجار مسجداً، فلو بنيتَ بيتك بجوار المسجد، وأردت أن تسقف على أحد جدرانك وجدار المسجد، فإمام المسجد لا يمنعك، أو المسئول عن المساجد لا يمنعك؛ لأنه جوار.
واختلف الفقهاء رحمهم الله في هذه القضية: هل هذا على سبيل الوجوب والإلزام جبراً؟ فـ أبو هريرة يقول: (ما لي أراكم عنها معرضين؟!) يعني: لم تعجبهم هذه المسألة: (لا يمنع جارٌ جارَه أن يغرز خشبةً ... ) ، فقد يقول الجار: والله هذا اعتداء، يريد أن يستولي على جداري، ويتحكم في مالي! فقال: (ما لي أراكم عنها معرضين؟!) لا يعني هذا: أنهم ليسوا مستبشرين أو ليسوا فرحين! لا.
بل القضية ثقيلة عليهم، فقال: (والله لأرمينَّ بها ... ) ما المراد بقوله (بها) ؟ هل هذه القضية أم الخشب؟ القضية، وبعض العلماء يقولون: الخشب، يعني أنه قال: إذا ما قبلتَها على جدارك فسأرميها على كتفَيك.
ولكن أين هي الخشبة حتى يرميها بين كتفَيه؟! إذاً: معنى: (لأرمينَّ بها) أي: بهذه القضية، (بين أكتافكم!) أي: ألزمكم بها، وما دام أميراً فهو يملك الإلزام.
وهنا مباحث للفقهاء كثيرة، منها: هل هذا على الإلزام أو يملك الجار أن يمنع؟ وإذا سمح له ووَضَع الخشب أو رغماً عنه وُضِع الخشب، فتلف الجدار وسقط، فما الحكم؟ ومتى يجوز أن يضع الخشب؟ وإذا سقط الجدار هل لصاحب الخشب أن يشارك في بناء الجدار؟ وإذا أقام صاحبُ الجدار الجدار فهل يعيد خشبَه مرة أخرى أو لا يعيدها؟ هذه كلها مباحث فقهية في هذه المسألة.
نأتي أولاً إلى ما يقوله الفقهاء: يُنظر! هل جدار الجار فيه قوة التحمُّل؟! فلابد أن يُسأل المهندس، فقد يكون بناه على أنه لا يسقِّف على هذا الجدار، وأن الجدار مجرد ساتر، فكيف تأتي أنت وتضع خشبك؟! أنا لم أضع خشبي! وأنا لم أبنِه على هذا الأساس! فتأتي لتضع خشبك أنت على جداري وتهدمه؟! لذا قال الفقهاء: يتحقق هذا الحديث، ويلزم بالوضع إذا كان الجدار يتحمَّل خشب الجار.
وإذا لم يكن للجار الأول خشب عليه، فهل يتحمل خشب الجار الجديد أم لا؟ فإذا كان لا يتحمله فليس بواجب؛ لأن فيه مضرة، والمسألة مسألة إرفاق وتعاون بين الجيران.
إذاً: (لا يمنع جارٌ جارَه ... ) حينما يكون جدار الجار صالحاً لوضع خشب الجار عليه.
ولو وَضَع الخشب، وبنى الدور الثاني، فهل يكتفي بالخشب فقط في الدور الأول؟ قالوا: إذا كان له حق أن يضع خشبه فليبني، وإذا جاء الجار الأول ويريد أن يبني الدور الثاني فيكتفي بجدار الجار هذا، بشرط أن يكون الجدار قابلاً لأن يحمل جداراً آخر.(207/9)
شرح حديث: (لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه ... )
قال رحمه الله: [وعن أبي حميد الساعدي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس منه) .
رواه ابن حبان والحاكم في صحيحيهما] .
يعني: لا يجوز للإنسان أن يأخذ من مال الغير ولو العصا، وفي بعض الروايات: (.
ولو عود أراك) ، والعصا يهشون بها على الغنم أو على البعير، فإذا كان لا يحل الشيء الحقير، فما هو أكبر منه من باب أولى.
ولماذا جاء المؤلف بهذا الحديث بعد حديث: (.
لأرمينَّ بها بين أكتافكم!) ؟ هذا نأخذه من ترتيب العلماء عند إيراد الأدلة، فهي لا تأتي عشوائية، إنما تأتي لغرض ولحكمة، فكأنه يقول: لا يهولنَّكم قول أبي هريرة: (لأرمينَّ بها بين أكتافكم!) ، انظروا إلى هذا الحديث! إذا كان لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس، فهل يحق له أن يكظم على نَفَسِه بخشب جاره؟! أيهما أكثر حقاً؟! العصا التي يأخذها وليس له حق فيها أو عيدان وجذوع النخل يضعها على ظهره؟! أيهما أكثر كلفةً يا جماعة؟! الخشب، فوضع الخشب على الجدار، فيه التحكُّم في ماله.
إذاً: موضوع الحديث الأخير: لا يحق لإنسان أن يأخذ عصا، وفي بعض الروايات: (.
متاعاً ... ) ، ولا يأخذه جاداً ولا مازحاً، فإذا كان لا يجوز للإنسان أن يأخذ متاعاً قليلاً ولو وصل إلى حد عصا؛ فجريدة من النخلة أو عود من الأثل، أو عود خيزران، لا يحق له أن يأخذه من أخيه بغير طيب نفس، فكيف يستحل لنفسه أن يُلزم جاره بخشبه؟! إذاً: حديث أبي هريرة إنما يكون من باب الإرفاق والتعاون والمسامحة على قانون: (لا ضرر ولا ضرار) ، فإن كان جدارك لا يضره أن أضع عيداني عليه، وإقامتي لجدار بجوار جدارك فيه تكلفةٌ عليَّ، فما الذي يمنعك أن تسمح لي أن أحط الأعواد وأسقف، ما دام أنه لا توجد مضرة عليك، ولا يوجد إجحاف على الجدار؟! فهذا من باب الإرفاق، وليس من باب الإلزام، والله تعالى أعلم.(207/10)
كتاب البيوع - باب الحوالة والضمان
شريعة الإسلام شريعة متكاملة، جاءت بما يصلح الدين والدنيا، وكما أنها حكيمة في أمور العبادات، فهي حكيمة في أمور المعاملات، ويتبين هذا في باب الحوالة والضمان، فإن من درس هذا الباب ظهر له الأحكام الحكيمة في المعاملات المالية وغيرها.(208/1)
شرح حديث: (مطل الغني ظلم)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع) متفق عليه، وفي رواية لـ أحمد: (ومن أحيل فليحتل) .
] .
هذا باب الحوالة والضمان، والحوالة: بفتح الحاء وكسرها حَوالة وحِوالة، فَعالة وفِعالة، وهي من التحول أو التحويل، والضمان من الضم بأن ينضم شخص لشخص آخر في الوفاء بما عليه، والضمان بمعنى الكفالة.
والحوالة صورتها: إنسان دائن، وإنسان مدين له، وهذا المدين هو دائن لشخص ثالث، فشخصيات الحوالة ثلاثة: رقم واحد له دين على رقم اثنين، ورقم اثنين عليه دين لرقم واحد، وله دين عند رقم ثلاثة.(208/2)
أركان الحوالة
الحوالة أركانها خمسة: المحيل الذي هو وسط بين المحال والمحال عليه، والمحال، والمحال عليه، والدين الذي يحال به، والدين الذي يحال عليه.
فهذه أركان الحوالة الخمسة، ثلاثة منها في الأشخاص، واثنان في الحقوق.
أتى المؤلف رحمه الله تعالى بهذا الباب ليبين حكم هذه العملية إذا وقعت، وماذا يترتب عليها؟ وقوله عليه الصلاة والسلام: (مطل) المطل والمط: التطويل والتسويف، أتى أجل الدين وهو يَمطُّ فيه ويبعده ويسوف في الأداء، فإن كان الماطل غنياً فهو ظالم؛ لأن الواجب عليه أن يؤدي الدين في موعده.
والمطل مصدر، وقوله: (مطل الغني) ، هل الغني فاعل المصدر أم مفعول له؟ الصحيح أنه فاعل، والمصدر مضاف لفاعله، أي: الغني الذي يمطل الناس ظالم، وبعضهم يقول: يحتمل من حيث الصناعة اللغوية أن يكون المصدر مضافاً لمفعوله، وأن يكون الغني مفعولاً للمطل، فيكون الماطل غنياً آخر، ويقولون: إذا كان صاحب الحق غنياً فمطل المدين له ظلم، فإذا كان مطله للغني ظلماً، فما بالك إذا مطل الفقير؟! ولكن الحديث الذي معنا يُبعد هذا الاحتمال؛ لأن في آخره: (يُحل عرضه وعقوبته) ، وحلّية العرض والعقوبة تكون للمدين المطلوب الذي يمطل في سداد الدين.
إذاً: المصدر مضاف لفاعله.
قال: (مطل الغني ظلم) ، فإذا كان المدين فقيراً فهل مطله ظلم أم خارج عن الظلم؟ خارج عن الظلم؛ لأنه مسكين ما عنده شيء؛ ولذا يقول الشافعي: لا يجوز حبسه؛ فهو ليس بظالم، فهو غير واجد، وقالوا: لو كان له مال مغيّب عنه أو لا تصل يده إليه، فهو كالفقير لا يكون ظالماً.
إذاً: معنى الحديث: أن مماطلة الواجد القادر على سداد الدين في أجله ظلم، وهذا الظلم (يُحِل عرضه) : كيف يحل عرضه؟ يقول: فلان هذا مماطل فلان هذا سيء المعاملة حتى اختلف العلماء: هل يفسَّق وترد شهادته بالمماطلة، ويكون هذا ذنب يخرجه عن العدالة؟ فالبعض يقول: نعم، والبعض يقول: لا، إلا إذا تكرر، يعني: مطل دائناً مرّة فلا يفسق، لكن مرتين وثلاث، وصارت معاملته هكذا مع الناس فيُحكم عليه بالفسق، ولا تقبل شهادته لأنه ظالم، وينبغي أن يبادر الناس بسداد الديون، ولا يستحلي إنسان ويستمرئ المماطلة بالدين.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع) ، (ومن أحيل على مليء فليحتل) ، بكلا اللفظين، من الذي يحيل؟ ومن المحال؟ ومن المحال عليه؟ قلنا: الحوالة فيها ثلاثة أشخاص، رقم واحد له ألف عند رقم اثنين، ورقم اثنين معترف بالألف لرقم واحد، فجاء رقم واحد يطلب ألفه من رقم اثنين، ورقم اثنين -سواء كان واجداً أم لا- قال: اذهب وخذ ألفك التي علي من رقم ثلاثة، فيكون قد حوّله إلى شخص ثالث، هذه صورتها في الأشخاص، والذي يحال هو رقم واحد، فإذا أحلت على مليء فاحتل، وإذا أُحيل على غير مليء: أيحتل أم يرفض؟ يرفض.(208/3)
شروط الحوالة
في الحوالة شروط: فيشترط شرط في المحال، والمحيل، والمحال عليه، وشرط في الدين الذي للمحال على المحيل، والدين الذي للمحيل على المحال عليه، لأنه يوجد دينان: دين بين رقم واحد واثنين، ودين بين رقم اثنين وثلاثة.
وإذا كان المحال عليه مليئاً، فهل يلزم رضا المحال في إحالته على الثالث أو لا يلزم؟ الحنابلة والجمهور أنه لا يلزم رضاه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من أحيل على مليء فليحتل) ، والذي يشترط رضاه هو المحيل، فلو أن المحيل لم يحل هذا، وهذا عرف أن له عند الشخص الثالث ألف ريال، فذهب يقول له: أعطني ألف ريال مما لرقم اثنين عليك، فسيقول له الثالث: أهو أحالك علي؟ فيقول له: ما أحالني، إذاً: لن يعطيه.
فهل يشترط في الحوالة رضا المحيل فقط، أو يشترط رضا المحال والمحال عليه؟ لا يحق للمحال عليه أن يقول للمحيل: لم تحِل عليّ؟ فهذا حقه عليه، وله يستوفيه بنفسه أو بنائب عنه أو بغيره، والذي عليه أن يدفع الألف سواءً وضعها في يده أم في يد شخص آخر.
إذاً: المحال عليه لا يؤخذ رضاه إلا عند مالك في صورة واحدة وهي: إذا كان المحال عدواً للمحال عليه، فهو عدو له لا يتعامل معه.
فإذا كان المحال عدواً للمحال عليه فـ مالك يقول: المحال عليه لا يلزمه أن يعطيه؛ لأنه أحال عليه عدواً، وهو لا يتعامل مع عدوه، والجمهور يقولون: الحديث مطلق.
وقالوا: يشترط في الدين الذي أحيل أن يكون مساوياً للدين الذي أحيل عليه في الجنس، فإذا كان له ألف ريال سعودي أو ألف روبية أو ألف دولار؛ فيجب أن يكون الدين الذي للمحيل على المحال عليه من جنس ذلك، يعني: يحيل أبو الريالات على ريالات، ويحيل أبو الدولارات على الدولارات.
فلو كان هذا مدين لعدة أشخاص بعدة مبالغ، واحد له استرليني، وآخر له سعودي، وآخر له دولار، وهو كذلك أيضاً له ديون عند الناس بأنواع من العُمَل، فجاءه المطالبون، فيحيل كل دائن له على نوع الدين الذي له عند الآخر.
أما إذا كان هذا له ألف ريال عنده وهو له ألف دولار عند هذا، فلا يصح أن يحيل الألف الريال على الألف الدولار؛ لأن فيها مصارفة بدون تسليم.
وإذا كان الجنس واحداً، عنده ألف ريال لهذا، وله خمسة آلاف ريال على ذاك، فأحال صاحب الألف على صاحب خمسة آلاف، فتصح الحوالة.
وإذا كان العكس، هذا له خمسة آلاف على هذا، وهذا له ألف على ذاك، فهل يحيل بالخمسة على الواحد؟ لا، بل يحيل بالواحد على الواحد لتساوي الدينين.
ويشترط في الدين الذي يحال عليه شرط مهم، وهو: أن يكون ثابتاً مستقراً للمحيل، ليس قابلاً للنقض والفسخ، فلو أن هذا كان قد باع للثالث سلعة، والثالث اشترط الخيار فيها شهراً، وجاء رقم واحد يطالب بالدين، فأحاله على قيمة المبيع لذاك الثالث، فلا تصح الحوالة؛ لأن قيمة المبيع لم يستقر في ذمة المشتري، وبقي له الخيار، وإذا كان الخيار باقياً فإن الثمن معلَّق.
إذاً: لا يصح أن يحيل عليه، لأنه يمكن أن يفسخ البيع ولا يدفع الحوالة التي أحاله عليها.
والمرأة إذا كان لها ألف ريال صداق على الزوج، ولكنه لم يدخل بها، فهل لها أن تحيل بدين عليها على الزوج، ليأخذ المحال الألف من صداقها؟ لا، لأنه لم يدخل عليها، والصداق إنما يستقر بالدخول، فهذا دين ليس مستقراً.
وإذا كان رجل له دين سَلَمٍ على رجل، فهل يحيل عليه؟ لا يحيل عليه؛ لأن دين السَّلَم لا يبدَّل ولا يغيَّر ولا يُحال عليه.
إذاً: يشترط في الدين الذي يحال عليه: مماثلة الدين المحال، واستقراره في ذمة المحال عليه.
قال عليه الصلاة والسلام: (إذا أحيل أحدكم على مليء) ، المليء يكون -كما يقول الحنابلة- بالقول وبالفعل وبالجاه، مليء: عنده الوفاء بالدين.
ويشترط لصحة الحوالة حلول الدينين، هذا له ألف حل أجلها، وهذا له ألف عند ذاك وحل أجلها، لكن إذا كان دين هذا حلّ على هذا، ودين الثاني لم يحل على الثالث، فلا يحيل على مؤجل؛ لأنه سيقول المحال عليه: ما حل الأجل حتى أدفع لك، فلو جاء صاحب الدين الأصيل وقال: أعطني ديني، يقول له: ما حل الأجل، وما لك حق في المطالبة.
إذاً: يشترط لصحة الحوالة رضا المحيل، واتفاق جنس الدينين، وحلول الأجل فيهما، وبقي شروط، وهو: أن يكون المحال عليه مليئاً معروفاً بالوفاء، فيكون عنده مال، ويعطي ولا يماطل، ولا يكون معروفاً عند الناس بأنه لا يدفع الدين الذي عليه إلا بالمحاكم وبالحبس وبالإساءة، فلو كان على هذه الحالة فليس مليئاً في الحوالة، ويرفض المحال أن يحتل إلى هذا؛ لأنه رجل معروف بالمطل، وقد لا يعطيه إلا بعد سنة! ويشترط الحنابلة أيضاً أن يستطيع المحال مقاضاة المحال في المحكمة، ومفهومه لو أن مديناً أحال دائناً على والد الدائن، وقال له: عند والدك لي ألف ريال، اذهب وخذه.
فهل الابن يستطيع أن يقدم أباه للمحكمة في الدين؟ لا، وسيقال له: ارجع فأنت ومالك لأبيك.
ولو كان الرجل مديناً لأمير أو سلطان أو إنسان ظالم جبار أو إنسان يأكل حقوق الناس ولا يبالي، فحول دائنه على من لا يستطيع إحضاره إلى مجلس القضاء، فهل هذا مليء أم غير مليء؟ غير مليء؛ لأنه يحتاج إلى مقاضاة وإلى معاناة، وقد يحصل الوفاء، وقد لا يحصل.
إذاً: إذا استوى الدينان جنساً، ورضي المحيل، وكان المحال عليه مليئاً؛ تمت الحوالة، وبها تبرأ ذمة المحيل من دين المحال، ويتحول المحال إلى المحال عليه، ولا يرجع إلى المحيل بحال من الأحوال أخذ أو لم يأخذ، حتى لو قدر أن المحال توانى عن مطالبة المحال عليه حتى أصبح فقيراً، فلا يقول: هذا غير مليء؛ لأنه وقت أن حوّله المحيل كان المحال عليه مليئاً، والمحال هو الذي تأخر، ولا يحق له أن يرجع إلى المحيل.
وقد جاء عن علي رضي الله تعالى عنه أن رجلاً يمانياً كان له دين عند علي، فأحاله على إنسان مليء معروف، فذهب وبعد فترة جاء يطالبه فإذا المحال عليه مفلس، فرجع إلى علي، وطالبه بالدين، فقال له: قد أحلتك، فقال الرجل: هو مفلس، فقال له: لم ترض بنا، ورضيت بغيرنا بديلاً، اذهب ولا كرامة.
أي: أن حقك كان علينا، وأنت لم ترض أن تنتظر، وحوّلناك وتحوّلت، وإذا لم تحصل على دينك فليس لك أن ترجع علينا مرة أخرى.
ولهذا يقولون: إن الدين المحال برضا المحيل على مليء ينتقل في الحال، ولا يرجع المحال على المحيل بالدين بحالة من الأحوال، ومن يوم أن حوّله برئت ذمته، وانتقل الدين إلى المحال عليه.(208/4)
الخلاصة
الحوالة فيها ثلاثة أشخاص، وسط وطرفان، وفيها الدين مكرر: دين المحال، ودين المحيل على المحال عليه، وفي كل من الأركان الخمسة نوع من الاشتراط، والمبدأ الأساسي أن الدائن أتى يطلب المدين حقه، وقد حل الأجل، والمدين قال: أنا أحيلك على مدين لي، كما أنا مدين لك تطالبني أنا لي أيضاً مال عند مدين أطالبه، فأحيلك عليه بدينك عليّ حتى تستوفيه من المدين لي، فهذا له دين على الثاني، والثاني له دين على ثالث، والدينان قد حل الأجل بدفعهما، والدينان من جنس واحد، فجاء دائن الشخص الأول يطالب مدين الشخص الثاني بدينه؛ لأن الدائن طالب المدين بحقه، وهذا المدين الشخص الثاني هو دائن في نفس الوقت، والشخص الثالث مدين وليس دائناً، فالدائن الأول جاء لمدينه وقال: أعطني، فقال: مرحباً، وكما أنك تدينني فأنا أدين غيري، وكما أنك تطالبني، بدينك فأنا أطالب غيرك، فاذهب وخذ دينك ممن أطالبه بديني.
ويشترط أن يكون دين الدائن الأول من عين دين الدائن الثاني للشخص الثالث، فهذا دين بين (أ) و (ب) ، وذاك دين بين (ب) و (ج) ، فإذا استوى النوع صحت الحوالة بهذا الدين.
ويشترط في المحال عليه أن يكون مليئاً، ولا يشترط في المحال أن يرضى ويأذن، فصاحب الدين الأول لا يؤخذ رأيه، فيقول له المدين: حقك عندي، اذهب وخذه من هناك.
والأصل في المعاملات عين المعاملة، فلو كان إنسان مديناً، وشخص من أهل الخير علم بأنه مدين، فذهب وسدد الدين عنه من غير أن يشعره، فيكون الدين في هذه الحالة قد تم سداده، وفي الحديث: (أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم) ، وستأتي قصة أبي قتادة.
فإذا اتفق الدينان، والمحيل رضي بالإحالة، والإحالة كانت على مليء؛ فحينئذٍ انتقل دين المدين بالنسبة إلى الشخص الدائن الأول إلى الثالث وهو المدين الثاني، وليس للأول الحق أن يرجع على الثاني، حتى ولو أن الثالث لم يعطه فلساً مادام أنه مليء.
أما إذا أحاله على إنسان غير مليء مفلس، فإن كان المحال يعلم بإفلاسه ورضي بالحوالة صحت؛ لأنه رضي بالإحالة على من عرف حاله، وإذا كان لم يعلم بأفلاسه، وافق على الإحالة وقال: هذا رجل سمعته طيبه، وذهب إليه، فإذا به مفلس محجور عليه من قبل الحاكم، ففي هذه الحالة له أن يرجع على المحيل؛ لأن شرط الإحالة لم يتحقق؛ لأنه ما أحيل على مليء.
والمليء هو الذي يستطيع أن يدفع، ويستطيع المحال أن يرفعه إلى الحاكم، ويستطيع أن يأخذ حقه منه بدون مماطلة.
وإذا أحال بأكثر من حقه على المدين له، فليس عليه إلا أن يدفع دينه، فمثلاً: الأول له خمسة آلاف على الثاني، والثاني له ألف على الثالث، فالثاني حول هذا بالخمسة على الثالث، فيقول الثالث للأول: ليس له عندي إلى ألف ريال، تفضل هذه الألف، والأربعة الآلاف لا أتحملها عنه، ويرجع المحال على المحيل بالأربعة الآلاف الباقية.(208/5)
شرح حديث: (حق الغريم وبرئ منهما الميت)
قال رحمه الله: [وعن جابر رضي الله تعالى عنه قال: (توفي رجل منا، فغسلناه وحنطناه وكفناه، ثم أتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: تصلي عليه، فخطا خطىً ثم قال: أعليه دين؟ فقلنا: ديناران، فانصرف، فتحملهما أبو قتادة، فأتيناه فقال أبو قتادة: الديناران علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حق الغريم وبرئ منهما الميت؟ قال: نعم، فصلى عليه) .
رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وصححه ابن حبان والحاكم] .
هذه مسألة طويلة الذيل، ويذكر ابن شبة أنه صلى الله عليه وسلم أول ما قدم المدينة كان إذا احتضر الميت آذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم به، فيذهب إلى بيته وينتظره حتى يقضي، ثم يجهزونه ويصلي عليه، فقالوا: لقد أكثرنا على رسول الله، فلو أننا نجهز الميت ثم نأخذه إلى بيت رسول الله ليصلي عليه هناك، فكان يذهب إلى البيوت ليصلي على الجنائز في المدينة، فأشفقوا عليه صلى الله عليه وسلم، واتفقوا على أن يحملوا الجنازة من مكانها إلى بيت رسول الله، فكان يصلي بها في مصلى الجنائز، ومكان مصلى الجناز هو هذا الحوش الذي ترونه محاطاً ما بين باب جبريل إلى باب البقيع الجديد، وكانوا قديماً يسمونه: فرش الحجر، وهو مصلى الجنائز، فكانوا إذا أتوا بالميت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه سأل عن دينه، ولم يكن يسأل عن أي عمل له، وإنما يسأل أعليه دين أم لا؟ والسؤال عن الدين خاصة يدل على شدة الاهتمام بالدين؛ لأن الميت مرهون بدينه في قبره، والشهيد الذي استشهد في المعركة وعليه دين مرهون بدينه حتى يوفي الله عنه يوم القيامة.
وقوله: (فخطا خطىً ثم قال: أعليه دين؟ فقلنا: ديناران، فتأخر وقال: صلوا على صاحبكم) ، كأنه يقول: صلاتي لا تنفعه، مع أن صلاته شفاعة له، ودعاء له بالمغفرة والرحمة، وقد سمع رجل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة جنازة فقال: تمنيت أن أكون أنا هذا الميت لهذا الدعاء! فقال أبو قتادة: صل عليه -يا رسول الله- والدين في ضماني، وقد روي مثل هذا عن علي، فقال صلى الله عليه وسلم: (حق الغريم، وبرئت ذمته) أي: هل الدين تحول عليك؟ فقال: نعم صار في ذمتي، وبرئت منه ذمة الميت، فتقدم وصلى عليه.
فهذا الضمان، فـ أبو قتادة ضمن بقضاء دين الميت، قالوا: يصح الضمان عن الميت.
وفي بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم (سأل أبا قتادة من الغد فقال: ما فعل الديناران؟ فقال: يا رسول الله! إنما مات أمس، ثم من بعد الغد سأله: ماذا فعل الديناران؟ فقال: قد قضيتهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الآن بردت عليه جلدته) .
ولهذا يقال: المدين تتم براءته من وقت السداد، لا من حين الضمان، فهو ضمنه قبل أمس، لكن ما سدد عنه إلا اليوم، فالآن بردت جلدته من حر الدين.(208/6)
شرح حديث: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم)
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين، فيسأل: هل ترك لدينه من قضاء؟ فإن حدث أنه ترك وفاء صلى عليه، وإلا قال: صلوا على صاحبكم، فلما فتح الله عليه الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه) متفق عليه] .
بعد أن فتح الله على المسلمين، وأصبحت تأتيهم الغنائم، قال عليه الصلاة والسلام: (من ترك غرماً فعلي، أو كلاً فلي -يعني: من كان عاجزاً ذا عاهة فأنا ضامن له، فإن ترك ديناً فعلي دينه- قيل: يا رسول الله! وعلى الأئمة بعدك؟ قال: نعم، وعلى كل إمام بعدي) أي: أن بيت مال المسلمين المنتظم يتضمن سداد دين المعدم، ومغنم الميت يرجع إلى أهله، وهذه -والله- هي الرحمة المهداة فعلاً، إن كان الميت مفلساً معدماً ليس عنده ما يسدد به دينه سدده عنه رسول الله، وإن كان غنياً ذا مال فماله لورثته، ولا يأخذ منه عليه الصلاة والسلام شيئاً، قال: (أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم) ، فكان من مات وعليه دين لم يصل عليه، وبعد أن فتح الله عليه الفتوح صار يصلي على من مات وعليه دين، ويقضي دينه من بيت مال المسلمين.
ويسوق المؤلف هذا الحديث في باب الضمان؛ لأن دين الميت تحوّل عنه، والضامن اشتغلت ذمته بهذا الدين عن الميت.
ويؤخذ منه أنه يصح سداد الدين من وارث الميت ومن غيره أياً كان، وهل يرجع على ورثة الميت أو لا يرجع؟ إن كان ترك وفاءً، وفعل ذلك رحمة بالميت فله أن يرجع، وإن كان فعل ذلك تطوعاً أو صدقة أو هبة فليس له أن يرجع، وبالله تعالى التوفيق.(208/7)
شرح حديث: (لا كفالة في حد)
قال رحمه الله: [وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا كفالة في حد) ، رواه البيهقي بإسناد ضعيف] .
الكفالة والضمان في الدين على الميت جائزة، وكذلك تجوز في الدين الذي على الحي.
واختلف العلماء في كفالة الوجه ويسمونها: كفالة الحضور، فإن الكفالة قسمان: كفالة غرم وأداء، وكفالة حضور، فكثير من العلماء يقول: كفالة الحضور ليست صحيحة ولا تجب، والكفالة الصحيحة كفالة الدين؛ لأنه التزمه وتعهد به.
يختم المؤلف الباب بحديث: (لا كفالة في حد) ، بمعنى: لو إنسان لزم عليه حد، فلا يأتي إنسان آخر ويقول: اتركوه، وأنا كفيل به! وإذا ذهب وتغيب ماذا ستفعل؟ أنت لا يقام عليك حد لم ترتكبه، وكيف تعاقب على جرم غيرك؟ هذا لا يجوز، فلا يصح كفالة صاحب حد في إحضاره لإقامة الحد عليه؛ لأن الحدود ليس فيها شفاعة، والحدود ليس فيها نيابة، والحدود ليس فيها مصالحة، إذا بلغت السلطان لا يصح أن يصالح عليها؛ لأنها حق لله، وبالله تعالى التوفيق.(208/8)
كتاب البيوع - باب الشركة والوكالة [1]
الإسلام يحث على عمارة الأرض من أجل عبادة الله فيها، ومن ذلك أنه حث على التجارة والتعاون فيها بأنواع الشركات، وهذه الشركات أقسامها كثيرة، وأحكامها عديدة، وترتبط بها أحكام الوكالة، والعلم بهذه الأحكام يبين سماحة الشريعة ويسرها وحكمتها.(209/1)
معنى الشركة وأنواعها
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: ذكر المؤلف رحمه الله تعالى بعد باب الحوالة والضمان وأنواع المعاملات الشخصية: باب الشَرِكة والوكالة، ويقال: شَرِكة وشِرْكة، والشركة تنقسم إلى قسمين: شركة أملاك، وشركة عقود.
فشركة الأملاك: كأن يرث جماعة عن مورثهم بيتاً أو أرضاً أو دابة، فهذه الأرض أو البيت أو الدابة شراكة بين الورثة، كما بيّن سبحانه في إرث الإخوة للأم: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء:12] .
وهذا النوع من الشركات لا دخل له فيما يبوب له الفقهاء؛ لأنه ملك ثابت على حصص مشاعة، والحصص معروفة: ربع، سدس، نصف، ثلثان، فهي عين مشاعة مشتركة بينهم.
والقسم الثاني من الشركات: شركة العقود، وهي محل الدراسة في كتب الحديث وكتب الفقه وهي: أن يتعاقد اثنان أو أكثر على نوع من الاشتراك في عمل قابل للكسب والخسارة.
في شركة الأملاك العين المشتركة بينهم ثابتة على ما هي عليه، ارتفع السعر أو نزل السعر هي بعينها موجودة، ولكن شركات العقود فيها الحركة والبيع والشراء والتصرف، فهي قابلة للربح بزيادة رأس المال وقابلة للنقص والخسارة بنقصان رأس المال.(209/2)
شركة العنان
الشركة التي هي شركة العقود تفصيلها في كتب الفقه، ويقسمها العلماء رحمهم الله إلى خمسة أقسام، منها المتفق عليه، ومنها المختلف فيه.
القسم الأول: شركة العنان، وقد أجمع عليها الناس، وهي أقواها وأكثرها تداولاً، وهي: أن يتساوى الشريكان أو الشركاء، ويشترك كل واحد منهم ببدنه وبماله، فيأتي هذا بألف ريال، ويأتي هذا بألف ريال، ويشتركان معاً في تجارة -بيع وشراء- أقمشة، مواد غذائية، سيارات، مصنع، عمل منتج، ويكون الربح شراكة بينهما، والمهم في أركانها أن كل الشركاء يعمل ببدنه ويُعمل ماله.
فهذه الشركة أجمعوا على جوازها وصحتها، ولكنهم اشترطوا شروطاً تمنع النزاع عند تقاسم الأرباح، منها: أن يكون رأس المال من الجميع واحداً، بأن يأتي الجميع بدراهم، أو يأتي الجميع بدنانير، أو يأتي الجميع بريالات، أو يأتي الجميع بدولارات، لكن هذا يأتي بدنانير وهذا بدراهم أو هذا بريالات وهذا بدولارات، لا؛ لأنهم بعد نهاية العمل عندما يريدون أن يصفوا الشركة سيختلفون، هذا كان له ألف ريال وهذا كان له ألف دولار، وسعر الصرف للريال والدولار يختلف، واختلاف سعر الصرف هذا يكون لحساب من؟ فيخلتفون، لكن لما يكون رأس المال واحداً بصرف النظر عن المقدار، فلو كان هذا عنده دولارات، فصرفها ريالات وصارت خمسة آلاف ريال، والآخر عنده ألف ريال، فلا مانع، فالمجموع ستة آلاف ريال، فيعملان والربح على ما شرطاه، حتى بالمناصفة لا مانع، فقد يكون صاحب الألف بحذقه ومعرفته أفضل من صاحبه أبو خمسة آلاف، فتكون خبرته في البيع والشراء تعوض النقص في رأس ماله على ما اتفقا عليه.
إذاً: يشترط فيها اتحاد رأس المال، ولا يشترط فيه التساوي.
ويشترط أن يعمل كل منهما مع الثاني، فمثلاً فتحا محل (سوبر ماركت) ، يحتاج إلى أكثر من عامل، فهذا على المكينة في الحساب، وهذا مع الزبائن يناول، ويأتيان بصبيان أجراء، وما لهم دخل في الشركة، والمهم أن أصحاب رأس المال يعملون، فهذه شركة العنان.
ويشترط فيها أيضاً: معرفة رأس المال للكل، فلو جاء واحد وقال: خذ هذا المال شراكة، ولا ندري كم هو! فهذا لا يصلح، ولابد أن يكون رأس المال معروفاً للطرفين.
ويشترط أن يكون رأس المال منهما حاضراً، فلا يقل أحدهما: رأس مالي دين عندي أو سأعطيك فيما بعد، فيصير رأس المال كله من جهة واحدة، فهذا لا يصح.
وشركة العنان مأخوذة من عنان الفرس، ففي السباق يكون كل من المتسابقين عنان فرسه متعادلاً مع الثاني، ويكونان متساويان.
وأنواع الشركات فيها تفصيلات كثيرة جداً في كتب الفقه، لكن نحن نريد أن نأخذ الهيكل العام، ثم نأخذ ما ساقه المؤلف رحمة الله عليه.(209/3)
شركة الأبدان
القسم الثاني: شركة الأبدان، وهي اشتراك بالأبدان، وليس فيها ولا فلس، ليس فيها مال، مثل اشتراك اثنين بمجهودهما، مثل اشتراك قوي وضعيف، ارتضيا أن يكونا شريكين بما يعملانه بأيديهما، مثلاً قال أحدهما: يا فلان! أنا أعمل لحالي، وأنت تعمل لحالك، وبعض الأشياء تكون ضخمة وكبيرة وتتعبنا، فدعنا نشترك، أنت تجمع وأنا أجمع، ونكوّن انتاجاً واحداً، ونكون شركاء فيه.
مثاله: جماعة ذهبوا يحتشون الحشيش، هذا يحش ويتبع الموجود هنا، وذاك يحش من هناك، وذاك من هناك، ويجمعونه كله، وهم شركاء في هذا المحصول، ومثله أن نصطاد، أخذنا سنانير، وأخذنا شباك، وذهبنا نصطاد بأبداننا بلا مال.
وهذا النوع من الشركة يمنعه الشافعي رحمه الله، ويقول: كل منهما يعمل عملاً، فيجب أن يكون عمله لنفسه، هذا اجتهد وحصل شيئاً كثيراً، فكيف يأخذ الثاني من حصيلة هذا؟ فصاحب الجهد الكبير حقه أكثر، والثاني جهده قليل وحقه قليل، ولكن الجمهور يقولون: هذا جائز؛ لما سيأتي من حديث: اشتركنا يوم بدر.
فشركة الأبدان جائزة عند الأئمة الثلاثة رحمهم الله، والهيكل فيها الأشخاص، حتى قال الحنابلة: لو اشترك جماعة بأبدانهم.
في بناء عمارة، فأتوا بالحديد، وعملوا الصبة، واشتغلوا حتى أكملوها، فلا مانع.
ولو اشترك أربعة في الصيد، وفي يوم من الأيام أحد الشركاء مرض، فذهب ثلاثة، فما حصل عليه الثلاثة فالمريض يشاركهم؛ لأنه شريكهم وتخلف بعذر، وإذا طال مرضه وطالبوه أن يقيم مقامه شخصاً آخر وجب عليه ذلك، فإذا جعل معهم رجلاً نيابة عنه فلا مانع.
وإذا قال: والله! ما عندي أحد، ولا أملك إلا نفسي، فيقولون: إذاً فسخنا شركتك معنا، وبعد ما كانت الشركة بأربعة صارت بثلاثة.(209/4)
شركة المضاربة
القسم الثالث: شركة المضاربة: وهذه الآن موجودة بكثرة، وشركة المضاربة مأخوذة من الضرب في الأرض، وهي: أن يكون المال من جانب، والعمل من جانب آخر.
مثلاً: شخص يأتي بألف أو عشرة آلاف ريال أو أكثر أو أقل، ويعطيها لشخص متدرب يعرف ويحسن أعمال التجارة، فيقول له: خذ هذه اتجر فيها والربح بيننا، وعلى أي نسبة؟ على ما اتفقا عليه.
إن قالوا: للعامل النصف، فيبقى النصف للثاني.
وإن قالوا: للعامل الثلث، فيبقى ثلثان للثاني.
وإن قالوا: ثلثان للعامل، فيبقى الثلث لصاحب المال.
ولماذا على ما اتفقا عليه؟ قد يكون هذا الشخص العامل جيداً، ويمكن أن يفتح الله عليه، ويرزق الله الجميع على يده، ويستفيد صاحب المال وهو جالس في محله.
فهذه شركة المضاربة.
في شركة العنان الربح بينهما على ما شرطاه، والوضيعة والخسارة بينهما على قدر رأس المال، ما فيها شرط، كل دفع ألف ريال، فالخسارة بالنصف، والربح على ما شرطاه، والربح لا يتبع رأس المال، ولكن يتبع الشرط الذي يتفقون عليه، أما الخسارة فهي تبع لرأس المال، فإذا كان الأول دفع ألف ريال، والثاني دفع خمسة آلاف ريال، واتفقا على أن الربح مناصفة، فإذا حصلت خسارة فهل تكون مناصفة، الخمس وأربعة أخماس؟ تكون حسب رأس المال، فالأول دفع ألف ريال، والثاني دفع خمسة آلاف، فيكون السدس على صاحب الألف، والخمسة أسداس على صاحب الخمسة.
ولو أحدهما دفع عشرة آلاف والثاني دفع أربعة آلاف، فيبقى أربعة من عشرة، هذا عليه أربعون في المائة من الخسارة، وهذا عليه ستون في المائة من الخسارة، وأما الربح فبحسب الشرط.
وفي شركة المضاربة الربح بينهما على ما شرطاه، والخسارة كلها على صاحب رأس المال، والعامل لا يتحمل من خسارة رأس المال شيئاً، وهذا فيه عدالة، وليس فيه ظلم.
فالخسارة كلها على رأس المال، والربح بالاشتراك.
ولا يوجد في هذا غبن، إذا كان صاحب رأس المال حصلت عليه خسارة عشرة في المائة بعد سنة، فالعامل خسر جهده سنة كاملة؛ لأنه ليس له أجرة على صاحب رأس المال، إنما علاقته بهذا العمل، وما يحصل من الربح يأخذ منه حصته، وإذا ما حصل شيء من الربح فما له شيء.
فإذا وقعت خسارة فالخسارة على صاحب رأس المال، والعامل يكفيه أنه لم يحصل على شيء، فيكونان متعادلين بلا ظلم ولا غبن.
وهذه الشركة لها شروط منها: أن يسلم رأس المال، وأن يكون معلوم المقدار، وإذا شرط صاحب المال على العامل نوعاً خاصاً من التجارة فلا يصح، فقد يكون هذا النوع لا يمشي في السوق، بل اترك له الاختيار، لكن إذا نهاه عن نوع معين وجب عليه أن يمتنع، فإذا قال: لا تضع رأس مالي في ذي كبد رطب، فيحرم عليه أن يتاجر في ذلك، وإذا جعله فيه فهو ضامن.
والمراد بذي كبد رطب: الحيوان، فلو اشترى ثلاثمائة شاة، وجلبها من المنطقة الشرقية إلى الغربية، وفي نصف الطريق مات نصفها، عطش أو تعب ومات، فمن يضمن هذا؟ هو قال له: لا تحطها في ذي كبد رطب، ثم هو حطها فيها! فتكون تلك الخسارة على العامل، والعامل لا يضمن شيئاً ما لم يتعد، فإذا تعدى في رأس المال أو فرط في حفظه فهو ضامن، وإذا لم يتعد ولم يفرط، وعمل عملاً عادياً، وكانت الخسارة بحسب حركة الأسواق فلا يضمن؛ ولهذا يقول الفقهاء: إن زيادة ونقصان السعر في الأسواق لا عبرة بها شرعاً.
فهذا العامل الذي هو أحد الشريكين في المضاربة لا يتحمل من الخسارة شيئاً ما لم يفرط أو يتعدى.
وفي نهاية مدة العقد إذا أراد صاحب المال أن يصفي الشركة أو أن يتحاسب ويعرف حصيلته؛ فعلى العامل أن ينضد التجارة، بأن يصفيها نقداً حتى يعرف صاحب المال قدر الربح أو الخسارة، وينبه مالك هنا على ناحية خطيرة جداً، وهي أنه لا يجوز أبداً أن يأتي صاحب رأس المال للعامل ويقول: نحن الآن في آخر السنة فما النتيجة؟ قال: أبشر، فيه خير كثير، والربح عشرون في المائة، فيقول صاحب المال: إذاً: جددنا العقد، فـ مالك يقول: لا يصح هذا أبداً، بل لا بد للعامل أن ينضد التجارة، ويحضر رأس المال والربح، ثم يقول لصاحب رأس المال: هذا الربح بيني وبينك، ثم إن شاءا بعد ذلك جددا عقداً ثانياً أو اقتصرا على ذلك الربح.
ولماذا لا يكتفي مالك بقول العامل لصحاب رأس المال: الربح كذا؟ لأنه يخشى أن تكون المسألة بالعكس، والخسارة عشرون في المائة، والعامل يغطي هذا على صاحب رأس المال من أجل أن يجدد عقداً آخر؛ ليعمل ويعوض، فيكون فيه نوع من الربا أو نوع من إكراه العامل على تحمل خسارة موجودة، فلا بد أن يأتي برأس المال، ويخبر صاحب رأس المال بالموجود، فيعلم هل ربحت تجارته أو خسرت، ثم بعد ذلك إن شاء عقد معه مضاربة جديدة، فهذا القسم الثالث هو شركة المضاربة.(209/5)
شركة الوجوه
الرابع: شركة الوجوه: وهي ليس فيها فلوس، وليس فيها رأس مال، لكن فيها وجاهة، فيها ثقة، فيها شخصية معروفة بالسوق، فيأتي اثنان معروفان لأصحاب الأسواق الذين يبيعون بالجملة، فيقول: تعال -يا أخي- نأخذ أتعابه ونتسبب ونربح، أنا آخذ على وجهي وجاهي عند التجار، وأنت أيضاً تأخذ على وجهك وجاهك عند التجار؛ لأن العملة الصعبة الحقيقية عند التجار هي صدق الكلمة، وما يروج في سوق التجارات عند الناس مثل الصدق والكلمة الصادقة الوفية، فإذا عرف التجار من إنسان الصدق والوفاء، فلو أراد كل ما عندهم لأعطوه، أما اللف والدوران فهي عملة مزيفة، تلف وتدور قليلاً ثم تدوخ وتطيح، ولم يبق لكلمته أي معنى ولو في عشرة ريال، ولو أعطوه شيئاً فهي مجاملة أو صدقة.
فإذا كان إنسان صادق الكلمة، وفيّ الوعد، أميناً في المعاملة، فجميع التجار يرغبون في التعامل معه، ولو تأخر عليهم الثمن شيئاً ما فلا مانع، فيأتي رجلان من هذا الصنف إلى التجار ويأخذان بضاعة منهم، ثم يبيعان ما أخذاه بجاههما من التجار، ثم يأخذان مرة أخرى ويبيعانه، وهكذا تسير شراكتهما على الوجاهة، ثم بعد هذا يؤديان الحقوق لأصحابها، ويقتسمان الربح على ما شرطاه، وإذا خسر فبقدر ما جمعه كل واحد منهما، هذا أخذ على جاهه عشرة آلاف، وهذا أخذ على جاهه عشرين ألفاً، فمن أخذ على جاهه شيئاً فهو ضامن له، فتكون الخسارة على قدر ما أخذاه، وكل منهما يسمى مدين بالتضامن، فكلاهما متضامن مع شريكه في تسديد الدين، فلو علم أصحاب السوق أنهما شريكان يأخذان على جاههما، ولحقهما دين؛ فلأصحاب السوق أن يطالبوا من شاءوا منهما؛ لأنهما مشتركين، فهذا شركة الوجوه.(209/6)
شركة التفويض
القسم الخامس: شركة التفويض: ويمكن الكثير يعملها، يأتي إنسان صاحب مال لزميله أو جاره صاحب مال يقول له: يا فلان! نحن شركاء فيما عندنا، فوضتك في مالي، وفوضتني في مالك، فكل منهما يبيع ويشتري في ماله بالأصالة، وفي مال شريكه بالوكالة، وبدون تحديد: كم عندك؟ وكم عندي؟ وبعض العلماء يمنع هذه الشركة ويقول: فيها ضرر، وقد يكون المال الموجود معلوماً لدى الطرفين، والبعض يقول: تجوز ما لم يدخلا فيها كسباً نادراً أو غرامة نادرة، والكسب النادر مثل الميراث، فالأول يعلم أن عنده في دكانه بضاعة مثلاً بخمسة آلاف ريال سواء اتحدت البضاعة أو اختلفت، والثاني عنده بضاعة بعشرة آلاف، وتفاوضا مفاوضة مطلقة في كل ما يملكان، فإذا ورث أحدهما مالاً في أثناء الشراكة، فهل يدخل الميراث في هذه؟ لا، وإن دخل فيها أبطلها؛ لأن التعاقد كان على الموجود المعتاد، ولو أن أحدهما صارت عليه غرامة، وقعت حادثة ولزمته غرامة، فما دامت شركة مفاوضة فإنه يأخذ من ماله ومن مال شريكه، والشريك ما كان متوقعاً مثل هذه الغرامات النادرة فتبطل بهذا.
هذه أنواع الشراكات الخمسة، وكتب الفقه فصلتها على حسب موضوع الكتاب وسعته واختصاره، فقد تجد كتاباً من مراجع الحنابلة (كالروض المربع) مثلاً يجملها كلها في ورقتين، وتجد (المغني) مثلاً يفصلها في خمسين أو ستين صفحة، وتجد (المجموع) أيضاً توسع في جزئياتها واحتمالاتها، وذكر لها تفريعات على أصولها.
ونحن بعد هذه المقدمة لأنواع الشركات نرجع إلى الأحاديث التي في الباب، ونأخذ مدلولها وما ينطبق منها على تلك الشركات الخمسة، فما انطبق عليها فالحمد لله، وما لم ينطبق عليها فنرجع إليها في كتب الفقه.
ومهما يكن من شيء، فلا يمكن أبداً أن نفقه موضوع الشركات من كتب الحديث، ولا حتى من (فتح الباري) ولا غيره، إنما يفهم ذلك من كتب الفقه والتفريع، لأنها تخرج الجزئيات على الكليات، والفروع على القواعد، وتذكر الأمثلة الكثيرة، فرحمة الله على الفقهاء.(209/7)
شرح حديث: (أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه ... )
قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خان خرجت من بينهما) رواه أبو داود وصححه الحاكم] .
هذا الحديث صدر المؤلف رحمه الله به الباب، لا لنوع من أنواع الشركات الخمسة، وإنما لإطار الشركات كلها، ففيه حث للشركاء على الأمانة والصدق، وتحذير لهم من الخيانة والكذب، يقول المولى سبحانه: (أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خان أحدهما صاحبه خرجت من بينهما) ، فالله لا يكون مع الخائن.(209/8)
معية الله
ربما يتطلع الكثير إلى معنى: ثالث الشريكين وأقول: أرح نفسك، فهذا من مواطن العقيدة، ومواطن العقيدة ليست قواعد فقهية وإنما هي مبادئ اعتقاديه، وقد قال سبحانه وتعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} [المجادلة:7] ، وقال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] ، وقال: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] ، وقال: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] ، وهذه المعيات حيرت علماء العقيدة، وحيرت حتى السلفيين؛ لأن السلف يقولون: نحن لا نئول آيات الصفات، مثل: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] ، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، وكما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} [الفجر:22] ، ونقول كما قال الله، ونقول: هي على مراد الله، لكن المعية أولوها وقالوا: المراد بالمعية: معية علم ونصرة وتأييد كما قال تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا} [طه:46] .
ويتعين على طالب العلم أن يتضلع من علوم العربية، كما أنه يذهب إلى مكة ويتضلع من زمزم.
وينبغي أن يعلم أحكام علم الوصل والفصل، ومجيء الجمل متتالية، فإن كانت الجملة الثانية معطوفة بالواو فهي بعيدة عنها مغايرة لها، وإن كانت بدون عطف الواو فهي عينها أو جزء منها أو مفسرة لها، فقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] لم يقل بعدها: (وصراط الذين) ، بل قال: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] ، فيكون الصراط المستقيم هو {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] .
وكذا قوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] ، لم يقل بعدها: (والذين يؤمنون) ، بل قال: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] ، فيكون الذين يؤمنون بالغيب هم عين المتقين.
وكذلك هنا لم يقل: إنني معكما وأسمع وأرى، بل قال: {مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] ، فيكون قوله: (أسمع وأرى) تفسير لقوله: (معكما) ، كما أن {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] تفسير (للمتقين) .
وهكذا علم البلاغة يكشف لنا كثيراً من الغوامض في كتاب الله، ولما سئل أحمد بن حنبل رحمه الله عن قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى} [المجادلة:7] ما معناه؟ وكيف يكون؟ قال: اقرأ ما قبلها وما بعدها: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7] ، قال: بدأها بالعلم، وختمها بالعلم، فيكون المعنى: معهم بعلمه، وليس هذا من باب التأويل، وصرف الصفة عن معناها، ولكنه تحقيقها وتنزيلها على ما جاء به كتاب الله؛ لأن الله جعله قرآناً عربياً.
(أنا ثالث الشريكين) ، لا تتعب نفسك وتقول: كيف يكون ثالثهم؟ وهناك شريكان آخران فكيف يكون ثالثهم؟ وهناك شريكان أيضاً فكيف يكون هو ثالثهم؟ العلماء يقولون: (أنا ثالث الشريكين) بمعنى: من كان الله شريكه فإنه ولابد يربح، فالمعنى: وفقهما، وبارك لهما، وأربحهما في تجارتهما، والذين يخرج من بينهم رب العالمين سيكلهم لأنفسهم ويخسرون، فهذا هو المعنى الكلي، ولا تجهد نفسك في مسائل العقائد، ولا تحاول أن تتعمق فيها، ولن تحصل على شيء.
إذاً: الشركة يكون مبناها على الأمانة، وكما أسلفت أن العملة الصعبة في العالم كله في عالم التجارة هي الكلمة الصادقة، والوعد الوفي، والأمانة، فإذا وجدت هذه الثلاثة في إنسان أياً كان ولو لم يملك إلا درهماً واحداً فهو يملك السوق كله، وإذا فقدت هذه الصفات ولو كان رصيده الملايين أو المليارات فإنه لا يثق التجار بكلماته.
إذاً: هذا حث على صدق التجارة والأمانة والوفاء، وقد ذكرت لكم قضية الحديد المستورد من إيطاليا لرجل من جدة، هذا وهم كفار، ونحن أحق بهذا الوفاء منهم، وهم لم يفعلوا ذلك ديانة، ورجاء مثوبة عند الله بل من أجل الربح؛ لأن من يسمع عنهم بمثل هذا لن يستعيض عنهم أحداً أبداً، ويكون دائماً يتعامل معهم.(209/9)
شرح حديث السائب (أنه كان شريك النبي قبل البعثة ... )
قال رحمه الله: [وعن السائب المخزومي رضي الله عنه: (أنه كان شريك النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، فجاء يوم الفتح فقال: مرحباً بأخي وشريكي) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة] .
السائب كان شريكاً للرسول قبل البعثة، وجاءه في عام الفتح فقال: (مرحباً بشريكي، ما كنت تماريني ولا تداريني) .
نشرح هذا الحديث على الهدوء وعلى الراحة، وننظر إليه بمناظير بعيدة: (مرحباً بأخي وشريكي) كان شريكه في الجاهلية، فأول فائدة من هذا الحديث أن الرسول اشتغل بالتجارة، وقد اشتغل أيضاً برعي الغنم.
يقولون: النماء الاجتماعي يكون إما بالصناعة أو بالزراعة، فما جاء عن نبينا صلى الله عليه وسلم إنه اشتغل بالزراعة، فمكة أرض غير زراعية؛ ولهذا لما جاء المدينة، ورآهم يوءبرون النخل، أشار عليهم أنهم لو تركوه فلعله يثمر فتركوه فصار كله شيص! ً، فهو ما جرب زراعة، وهذه أمور دنيوية؛ ولذا قال: (أنتم أعلم بأمر دنياكم مني) .
ورعي الغنم نوع من التنمية، وفيها حكمة، فالغنم حية، وهل كلها تمشي على وتيرة واحدة مثل جهاز ميكانيكي؟ لا، بل واحدة تمشي يمين وواحدة يسار وواحدة تفر واثنتان تتناطحان، فهي أمة، ومن أحسن وأتقن سياسة الغنم فيمكن أن يحسن سياسة بني آدم، فرعي الغنم تدريب له، ويعود على الرفق والحرص على المصلحة، فإنه يبحث لها عن المرعى الخصب، ويحرص على مواعيد سقيها، ويهشها بعصا صغيرة جداً، ثم إذا ولدت وأنتجت الغنم أخذ ولدها بين يديه، وهذا بخلاف رعاة الإبل فما يسوقها إلا بعصا كبيرة، وترى الجمل رافع رأسه فوق، ولازم يرفع رأسه إلى أعلى؛ ولهذا فأهل الإبل هم أهل الكبر والخيلاء، وأهل الغنم هم أهل الوديعة والسكينة، فراعي الغنم يعلم بسياسة الإدارة للأمة، ويحرص على الجماعة، ويكتسب الرفق والرحمة، ويسعى لمصلحة الضعيف، وكل ذلك كان عند رسول الله، فهو مكتمل الأخلاف عليه الصلاة والسلام.
وأهم شيء في التجارةصدق الكلمة، والوفاء بالعهد، والأمانة، وكل ذلك ظهر منه صلى الله عليه وسلم، ولما سافر في تجارة لـ خديجة مع ميسرة، أكرمه الله بالربح الوفير، فكان ماهراً في التجارة.
وأقول: ينبغي لطالب العلم أن يكون ذا مهنة، وأن يكون ذا اتجاه منتج، إن كان عنده رأس مال فبتجارة، وإن لم يكن فبرعي غنم، وإن لم يتأت له الذهاب إلى البوادي، وصعب عليه ذلك، وبقي في المدن فينبغي أن يكون عنده صنعة، ويكون عنده طريق للرزق، ونعلم أن كثيراً من العلماء كان يتعاطى التكسب، فـ أبو حنيفة كان يتعاطى التجارة، وغيره أيضاً، وعندما يكون عند طالب العلم جانب إنتاج واستثمار؛ فإنه يكون عوناً له على القيام بنفسه، وليس بلازم أن يكون من كبار التجار، ولكن بقدر ما يكفيه، وما يسد حاجته، ونحن نعلم أن كثيراً من طلبة العلم الكبار كان يبيت طاوياً ما عنده شيء، ولكن كانوا أصحاب عفة.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم عمل في التجارة قبل البعثة، وهي من عادة قومه، وجاراهم في ذلك، وكما يقولون: البركة مائة جزء، تسعة وتسعون منها في التجارة، وواحد في بقية الأعمال.
ويهمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة كان كفرد من أفراد المجتمع في أمور حياتهم، وإن كان متميزاً بذاته وصفاته؛ لأنهم لما اختلفوا في وضع الحجر الأسود، وكادوا يقتتلون، اتفقوا على أول من يخرج عليهم، فكان الخارج عليهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة بخمس سنوات، فكلهم قال بلسان واحد: الأمين ارتضيناه، الأمين ارتضيناه، فكان متميزاً بالأمانة والإصلاح ومكارم الأخلاق.
زيد بن حارثة خطف من قومه، وبيع في مكة، ووصل إلى خديجة رضي الله تعالى عنها، فوهبته لرسول الله ليخدمه، وكان أبوه يبحث عنه في القبائل، حتى قيل له: إنه في مكة عند بني هاشم، فقدم مكة ووصل إلى الرسول قبل البعثة، وقال له: إن ابني عندك، وقد جئتك بالفداء، وجاء عمه مع أبيه، وقال: ما أحببت من الفداء نعطيك، فقال: (أوغير ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: أخيره بيني وبينك، فإن اختارني فما أنا بمفادي من يختارني، وإن اختارك فهو لك بدون فداء، قال: والله! أنصفتني، فدعاه، فقال: نعم، هذا أبي وهذا عمي، قال: اسمع منهما، فسمع منهما، فقال: والله -يا محمد- لا أختار عليك أحداً أبداً! فأبوه قال: ويحك يا زيد! أتختار العبودية والرق على الحرية؟! وتختار الغريب الأجنبي على أبيك وعمك؟ قال: نعم، والله! مدة ما صحبته ما قال لي لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: لم لم تفعله؟) يعني: وجد عند رسول الله ما لم يجده عند أبيه، فالرسول أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وكذلك كان قبل الرسالة أولى وأرأف بالشخص من أبويه، صلوات الله وسلامه عليه.
والشاهد من هذا الحديث: (مرحباً بأخي وشريكي) كلمة: (شريكي) ، إذاً: الشراكة أو الشركة كانت معاملة موجودة عند العرب قبل أن يأتي الإسلام، وجاء الإسلام وأقرها، والإسلام جاء فوجد أموراً عديدة، منها ما ألغاها كالربا ومهر البغي.
إلى أخره، ومنها ما أقره، وأنواع من الأنكحة ألغاها وأنواع من الأنكحة أقرها، فالإسلام أصلح أوضاع المجتمع.
إذاً: هذا الحديث ساقه المؤلف تحت باب (الشركة) ليبين أن الشركة كانت موجودة قبل الإسلام، وجاء الإسلام وأقرها، ويجمعون على أنها من العقود الجائزة، والله أعلم.(209/10)
شرح أثر ابن مسعود: (اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نصيب يوم بدر)
قال المصنف رحمه الله: [وعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: (اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نصيب يوم بدر) الحديث رواه النسائي] .
يسوق المؤلف رحمه الله هذا الحديث من أجل قوله: (اشتركت) ، إذاً: كما أنه صلى الله عليه وسلم كان له شريك قبل البعثة، فكذلك استمرت الشراكة في الإسلام؛ لأن شراكة الرسول صلى الله عليه وسلم مع السائب كانت قبل البعثة، والإسلام أقرها، فيأتي المؤلف بهذا الحديث: (اشتركت أنا وسعد وعمار) ، ولم يتم الحديث؛ لأنه ما له غرض في تمام الحديث، والمطلوب من إيراد هذا الحديث إثبات الشراكة بعد الإسلام في بدر.
إذاً: الشراكة كانت موجودة قبل البعثة، وأقرها الإسلام، والشراكة استمرت بعد مجيء الإسلام وأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: (اشتركت أنا وسعد وعمار يوم بدر) ، هل كان في يوم بدر بيع وشراء أو كان فيه قتال؟ كان فيه قتال، وجميع البدريين الذين اشتركوا في المعركة ثلاثمائة وأربعة عشر، ولكن اشترك هؤلاء الثلاثة فيما يحصلون عليه من الغنائم، وما ينتابهم من الفائدة، فصار الثلاثة شركاء فيما يأتي به واحد منهم، وما أتى به اثنان يرجع للثلاثة، فأصبحوا هم الثلاثة كشخص واحد، قال: فأتى سعد بأسيرين، ولم آت أنا وعمار بشيء، فهم ثلاثة اشتركوا، فواحد أتى بأسيرين، واثنان من الشركاء ما أتوا بشيء، فماذا كانت النتيجة؟ النتيجة: أن الثلاثة صاروا شركاء في الأسيرين؛ لأن في المرة الثانية قد يأتي الآخر بثلاثة أسرى، وفي المرة الثالثة يأتي آخر بأربعة أو خمسة أسرى، فما دام تم عقد الشراكة بينهم، فما يأتي من أحدهم فهو شركة بين مجموعهم، سواء كان قليلاً أو كثيراً.
وهل اشتراك هؤلاء الثلاثة فيها رأس مال؟ ليس فيها، وتقدم معنا أنواع الشراكة الخمسة، وهذ هي شراكة الأبدان، وهذا يسوقه المؤلف هنا ليبين الدليل على صحة شراكة الأبدان؛ لأن الشافعي رحمه الله يمنعها، ويقول: هؤلاء أشخاص يعملون بأبدانهم، فمن عمل شيئاً فلنفسه هو، ولماذا يشاركه غيره في عمله؟ هو اكتسب وبذل جهداً فلماذا يعطيهم من غير مقابل؟ ولماذا يأخذون ماله بغير حق؟ فـ الشافعي رحمه الله غلب جانب العمومات، ولكن لا اجتهاد مع النص، وهذا يسميه الأصوليون: فساد الاعتبار، فهنا ثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا اليوم الأغر يشتركون شراكة أبدان، وسبحان الله ما جاء كل واحد بأسير حتى نقول: كانوا متساويين، بل أحدهم أتى بأسيرين، والآخران ما أتوا بشيء، ونحن قدمنا في شركة الأبدان عن الفقهاء أنه لو أن أحد الشركاء قصر في العمل، وغاب عن المشاركة معهم بعذر، فله نصيبه فيما اكتسبه الآخرون، فإن الشركاء رضوا بغيابه، فإذا لم يرضوا وطلبوا منه إقامة بديل عنه وجب عليه أن يأتي ببديل مكانه، فإذا لم يأت ببديل ولم يرضوا بغيابه فلهم أن يفسخوا شراكته معهم، ويخرج من الشراكة، وليس في هذا مضرة على أحد.(209/11)
شرح حديث: (أتيت وكيلي بخيبر ... )
قال المصنف: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: (أردت الخروج إلى خيبر، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إذا أتيت وكيلي بخيبر فخذ منه خمسة عشر وسقاً) رواه أبو داود وصححه] .
هذا الحديث في موضوع الوكالة، وموضوع الوكالة من ضروريات الأخذ والعطاء والحركة؛ لأن كثيراً من الناس تكون له الحاجة والمصلحة التي لا يستطيع أن يؤديها، أو لا يتأتى له أن يدخل فيها، مثل إنسان له حقوق عند بعض الناس، ولا يمكن تخليصها إلا عن طريق السلطة والمحاكمة، وبعض الناس يكون بمكانة من المروءة أو من السلوك ولا يحب أن يجلس في مجلس القضاء، ولا أن يناقشه خصمه، وقد يكون دونه، وقد يتجرأ عليه بكلمة، فهو يعفي نفسه من هذه المقابلات، ويوكل شخصاً عنه في المحاكمة.
أو إنسان مقيم في بلد، وله مصالح وحقوق في بلد أخرى، ولا يستطيع أن يواصل ويباشر طلبها بنفسه، لبعد المشقة أو لاختلاف الوضع أو أو إلى أخره، فماذا يفعل؟ هل يضيع حقه؟ لا، يقيم وكيلاً عنه يتولى ذلك.
إذاً: الوكالة تقتضيها حياة الناس، وقد تكون امرأة ما تحسن الكلام، قال الله: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] ، وتوجهت عليها دعوى، ولا تستطيع أن تدافع عن نفسها أمام أخيها أو أمام عمها أو غيرهما، فماذا تفعل؟ هل تذهب عند القاضي تبكي؟ البكاء ما يعبر عن الحق، والقاضي ما تستميله العواطف، والقاضي لا يحكم بعلمه: (إنكم تختصمون إلي، وأنا بشر، فلعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من الآخر؛ فأقضي له على نحو ما أسمع) ، إذاً: هذه محتاجة إلى أن تقيم وكيلاً عنها، ويكون مستوعباً لقضيتها مع خصمها، ويقف أمامه موقف الند للند.
إذاً: الوكالة أمر تقتضية الحياة، وضرورة التعامل مع الناس سواء كان بالاختيار أو بالاضطرار، وكما يقولون: الوكيل كالأصيل، والوكيل على قسمين: وكيل مستقل، ووكيل مطلق.
ويذكر الفقهاء من شروط الوكالة وحقوق الوكيل مع الأصيل أن الوكيل يحكي الأصيل فيما ينقله عنه، وفيما يوصله إلى القاضي.
وهل للوكيل أن يوكل غيره؟ وهل للوكيل إذا وكل في عمل أن ينيب غيره فيه؟ كل هذه الجزئيات تبحث في كتب الفقه.
واتفقوا على أنه إذا وكل في أمر، ولم يعط حق توكيل الغير؛ فلا يحق له ذلك، ويجب أن يباشر ذلك بنفسه، ويجب أن يباشر العمل الذي وكل فيه إلا إذا اقتضى الأمر عملاً لا يليق بمثله، كما لو كان وكيلاً في بيع وشراء في متجر، فإنه يباشر فتح المحل، ويباشر عرض المتاع الموجود، ويباشر معاملة الزبائن بكيل أو بوزن أو بذرع أو بمثل ذلك، وهو مسئول عن هذه الأعمال بنفسه، لكن إذا كانت هناك نوعيات في المستودع لمصلحة هذا المحل، ولا يمكن أن يحملها إلا حمال مختص، ولا يمكن نقلها من المستودع إلى المحل إلا بآلة، فهل نقول له: احملها على ظهرك كالحمال؟! لا، لأنه لا يليق به، فله أن يستأجر من يؤدي هذا العمل، ولو أن المحل احتاج إلى إصلاح: ترميم البناء أو الأرض أو السقف، ومثله لا يفعل هذا، فيأتي بمن يفعل هذا على حساب موكله؛ لأنه يعمل ما فيه المصلحة، والوكالة باب واسع تتناوله كتب الفروع، ويلزم على طالب العلم أن يرجع فيها إلى تلك المراجع.
وفي هذا الحديث أن جابر بن عبد الله الصحابي الجليل، توجه إلى خيبر لمصلحته أو أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم لحاجة، وبمناسبة ذهابه كلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمهمة عند وكيل رسول الله في خيبر، فقال: (إذا أتيت وكيلي في خيبر فخذ منه خمسة عشر وسقاً) ، وهذا محل الشاهد: (إذا أتيت وكيلي في خيبر) ، يعني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان له وكيل سواء كان في خيبر أو في الطائف أو في أي مكان.(209/12)
مشروعية جعل علامة بين السلطان ووكيله
هل الوكيل الذي في خيبر يعلم أن رسول الله أرسل جابراً ليأخذ منه هذه الأوسق؟ هل عنده خبر؟ ما عنده خبر، والرسول لم يسبق أن أرسل إليه: سأرسل إليك جابراً، ولكن في بعض الروايات أنه قال لـ جابر: (فإذا طلب منك أمارة فأمسك ترقوته) ، والترقوة: العظم المحيط بالعنق، يعني: إذا كلمته فأمسكه في ترقوته، وهذه هي الشفرة، أي: كلمة السر والعلامة حتى يصدقك بأنك وكيل من عندي، ولا أحد يعرف أن هذا بيني وبينك، وما يعرفها إلا أنا، فإذا أبنتها فهي العلامة، وهي أصدق من البرقية، فالبرقية يمكن أن تزور، وهذا نوع من المعاملات مما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في معاملته مع الناس، فكان يتعامل معهم كغيره من البشر، ما قال له: سيأتيك جبريل ويقول له: كذا، لا؛ لأن التعامل مع الناس يحتاج إلى منهج بشري يستطيع كل إنسان أن يطبقه، كما قال: (إنكم تختصمون إلي، وأنا بشر أقضي على نحو ما أسمع) ، هذا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه الوحي في أبسط الأشياء، جاءه الوحي بأن يخلع نعليه؛ لأن فيهما أذى، فخلع نعليه في الصلاة بعد التكبير، فلماذا في القضاء لم يأته جبريل ويقول له: الحق مع هذا والباطل عند هذا؟ يذكرون في تاريخ القضاء -والله أعلم- يذكره صاحب معين الحكام أنه كان في زمن نبي الله داود؛ إذا أرادوا أن يحتكموا، كانت سلسلة معلقة في سقف المجلس، فإذا تقدم المدعي قال: مد يدك إلى السلسلة، فإن كان محقاً تدلت السلسلة حتى يمسكها بيده، وإن كان مبطلاً بعدت عنه، وإذا أنكر المدعى عليه، قال: مد يدك، فإن نالها عرفنا أنه صادق، وإذا لم ينلها عرفنا أنه كاذب، ويقولون: جاء رجل وادعى على رجل أنه ائتمنه أمانة، ثم طلبها منه فجحدها، فلما علم الخصم أنه تقدم إلى نبي الله داود، وأن السلسلة ستفضحه احتال، فأخذ الأمانة وهي دنانير، فنقر عصاه، ونزل فيها الدنانير حتى ملأها وكبسها، وجاء يتوكأ عليها، فتقدم المدعي الذي له ألف الدينار فطولت السلسلة، فمد يده فأمسك السلسلة، فأنكر المدعى عليه، وقال: أبداً ما له عندي شيء، فقال: أمسك السلسلة، فقال لخصمة: امسك العصا حتى أمسك السلسلة، وفي هذه اللحظة كان حق المدعي عنده، وليس عند المدعى عليه، فمد يده فأمسك السلسلة، وما يمكن أن الاثنين يكونان صادقين، كما جاء في حديث اللعان: (الله يعلم أن أحدكما كاذب) ، فلا يمكن الإثبات والنفي في وقت واحد، فأبطل السلسلة عندما وجد تحايل عليها، وفي الحديث: (البينة على المدعي، واليمين على من أنكر) .
وهذا من باب الشيء بالشيء يذكر، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يتعامل مع عامة الناس كفرد من الأفراد؛ لأن هذا منهج التعامل مع البشر، ولو أنه كان يعاملهم على منهج الرسالة والوحي، فكيف يفعل من بعده؟ فمثلاً في القضاء قال: (أقضي على نحو ما أسمع) ، فلو جاءه جبريل وقال له: هذا محق، وهذا مبطل، وبعده من سيأتي للقضاة؟ لن يأتيهم جبريل، لكن عندهم ما هو في طاقة البشر، القضاء على نحو ما يسمع، وهناك أيضاً فراسة القاضي أو إلهام ونور من الله للقاضي يساعده به على الحكم.
إذاً: كان النبي عليه الصلاة والسلام له وكيل، والوكيل كان ينوب عنه، وكان بينه وبين الوكيل مثلما يكون بين الموكل ووكيله في العالم كله، من علامات أو أمارات.
إلى آخره.(209/13)
كتاب البيوع - باب الشركة والوكالة [2]
الشريعة الإسلامية مبنية على التيسير، والحرج منفي عنها، ومن الأحكام الفقهية التي شرعت للتسهيل على العباد الوكالة، ولها صور كثيرة منها: الوكالة في البيع والشراء، والوكالة في جمع الزكاة، والوكالة في ذبح الأضاحي والبدن، والوكالة في إقامة الحدود، وغير ذلك.(210/1)
شرح حديث: (بعث رسول الله مع عروة بدينار يشتري له أضحية ... )
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن عروة البارقي رضي الله تعالى عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معه بدينار يشتري له أضحية) الحديث رواه البخاري في أثناء حديث وقد تقدم] .
لما كانت مهمة هذا الكتاب المبارك بيان أدلة الأحكام، فهو يذكر من الحديث محل الدليل، كالحديث السابق: (اشتركت أنا وعمار وفلان) الحديث؛ لأن موضع الشاهد منه: (اشتركت) ، وكذا حديث: (إذا أتيت وكيلي بخيبر فخذ منه) ولم يذكر كيف عرف أنه وكيله، وهذا له جانب آخر.
وهنا الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى البارقي ديناراً ليشتري له أضحية، والشاهد هنا أن عروة قد تصرف تصرف الوكيل، ونحتاج إلى إيراد كامل الحديث ليتبين مناط الاستدلال على الوكالة؛ لأن مجرد إعطائه ديناراً ليشتري له شاة قد لا يكون وكالة، فعندما أقول لك وأنت ذاهب إلى السوق: خذ هذا، واشتري لي كذا، فهذه مساعدة وتعاون، وليست وكالة.
والذي حصل من عروة أنه ذهب بالدينار واشترى شاتين، هو أعطاه ديناراً يشتري شاة واحدة، فهو تصرف، وهذا التصرف بحكم الوكالة.
ولما اشترى الشاتين، لقيه رجل وقال: أتبيع شاة من هاتين؟ قال: نعم، قال: بكم؟ قال: بدينار، فباع شاة من الشاتين بدينار، فهو باع ملك غيره، فالمال للرسول صلى الله عليه وسلم، واشترى الشاتين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاز له أن يبيع ملك الغير بالوكالة.
فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (خذوا شاتكم، وهذا ديناركم) ، فسأله عن خبره، فذكر له الخبر، فهل قال له: وكالتك مفسوخة؟ لا، بل قال: (بارك الله لك في بيعك وشرائك) ، فكان الناس يأتونه، ويلقون إليه أموالهم شراكة معه؛ بغية بركة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان لو أخذ حفنة من تراب ليبيعها لربح فيها! وعرف الناس أنه أصابته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
انتهينا من باب الوكالة، وهذا تصرف تصرف الوكيل، وأقره وكيله على ما تصرف، ولو لم يأمره من قبل؛ ولهذا فإن الوكيل لو تصرف لمصلحة موكله وأقره الموكل على ذلك صح التصرف، وإذا تصرف ظاناً منه أنه لمصلحة موكله ولكن موكله رفض، فالتصرف باطل، ويكون لحساب الوكيل، وهو يتحمل مسئوليته، ولهذا تفصيلات عديدة في باب الوكالة.
إذاً: الوكالة انتهت، ولكن هل نقف على هذا بهذه السرعة؟ ونحن نعلم أن الحديث بحر، ودلالته لا تنتهي، والناس يتفاوتون في الاستنتاج وفي التفقه في معنى الحديث، فمن العلماء من قال: استنتجت من حديث: (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟) أربعين مسألة!(210/2)
هل يحدد ربح البائع؟
يذكر الفقهاء في باب البيوع زيادة الثمن ونسبة الربح، فهذا الرجل كانت نسبة الربح عنده مائة في المائة، فكم نسبة الربح؟! ليست هناك نسبة في ربح البيع والشراء، ولكن ينبغي ألا يستغل البائع جهالة المشتري، وألا يستغل البائع حاجة المشتري واضطراره فيزيد عليه.
ذات مرة رأيت نسخة من كتاب (المستصفى) للغزالي، طبعة قديمة في مجلد ممتاز، فقلت لصاحب المكتبة: بكم هذا؟ قال: هذا غالي الثمن، ولعل هذا من باب التحريض، فقلت: بكم؟ قال: بخمسين ريالاً.
وكان في ذلك الوقت راتب الجندي الشهري ستين ريالاً، فكم تكون نسبة قيمة هذا الكتاب؟ وكم قدر الخمسين ريالاً لطالب العلم في ذلك الوقت؟ المهم اشتريت الكتاب، وحمداً لله وشكراً له على ما كنت عليه في ذلك الوقت، فرآه معي بعض الإخوان فأعجب به، وقال: من أين؟ فقلت: من فلان، قال: أوه! عسى ما أكلك، قلت: كيف أكلني؟ قال: هذا إذا عرف أن المشتري طالب علم، وله حاجة ماسة إلى الكتاب، يضاعف عليه القيمة، فمرة ثانية إذا أردت أن تشتري منه أرسل شخصاً عامياً عادياً ليشتري لك، بكم اشتريت؟ قلت: بخمسين ريالاً، قال: أوه! رده، قلت: لا والله! لو قال لي بمائة لاشتريته، فالفلوس تذهب وتنتهي، لكن هذا يبقى، ولا زال عندي بحمد الله إلى الآن منذ خمسين سنة في مكتبتي.
المهم أن مثل هذا كان المفروض عليه أن يخفف على طالب العلم.
ومرة أخرى كنت أريد كتاب (التقرير على التحرير) ، وفتشت عنه في المدينة وفي مكة فلم أجده، فقال لي رجل: هو موجود في مكتبة باصفرين في جدة في سوق الندى، فذهبت إليه، وبعد العشاء وجدت المكتبة، وكانت صغيرة، وفيها رجلان جالسان معهما فانوس، فسلمت عليهما، وقلت: لا مؤاخذة أقطع حديثكم قليلاً، قالا: نعم، قلت: يا شيخ عندك كتاب كذا؟ قال: نعم، عندي نسختان، قلت: أبغى نسخة، قال: ليست للبيع، قلت: في المثل: مطابق وأخوه عريان، يعني: كيف تلبس ثوبين وأخوك عريان؟ فأعطه ثوباً منهما، قلت له: لماذا يا شيخ؟! قال: هذه طبعة قديمة، وأصبح الكتاب مفقوداً وأنا معتز به، قلت: جزاك الله خيراً، لكن إذا جاءك طالب علم فبعه، لعل الله ينفعه به، وأنا مضطر إليه، وهو غير موجود، وعجزت أن أحصله، وأنت رجل كبير السن، وتعرف حاجة طالب العلم للكتاب، فقال: لا، أبداً، فقال له صاحبه: يا شيخ خف الله، معك في المكتبة نسختان، وطالب علم يجيء إليك ويقول لك: أبغى واحداً وتقول له: لا.
حرام عليك، قلت: جزاك الله خيراً ساعدني.
وأخيراً قال لي: بخمسة وثلاثين ريالاً، وهو ثلاثة أجزاء، والله! لو قال لي: بثلاثة آلاف، وكانت في يدي في ذاك الوقت، لأعطيته بطول يدي، فقلت له: مرحباً بخمسة وثلاثين أو خمسة وأربعين أكثر أو أقل بسيطة، فقال الذي بجواره: هات ثلاثين فقط قلت: والله! إنك رجل خير، وفيك بركة، تفضل، وقال لي: هما في الرف، تخير إحدى النسختين وخذها، وكانت النسختان متقاربتين، فأخذت نسخة منهما، وفي أمان الله، السلام عليكم.
يهمني أنه ليس هناك تحديد للربح، ولكن نؤكد على الرفق، وعدم استغلال جهالة المشتري، وعدم استغلال شدة حاجته.(210/3)
حكم التسعير
يبحث الفقهاء في حكم التسعير وتحديد الثمن، ولقد طلب الصحابة رضوان الله تعالى عليهم من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسعر لهم فقال: (إن الله هو المسعر، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحدكم عندي مظلمة) وما هي المظلمة؟ أن تحدد عليه سعر السلعة وتمنعه من الربح، أليست هذه مظلمة؟ ولما جاءوا لـ عمر وقالوا: يا عمر! غلى اللحم فسعره لنا، فقال: لا، أرخصوه أنتم، قالوا: كيف نرخصه وليس عندنا؟! قال: اتركوه لهم، فتركوه اليوم الأول، وتركوه اليوم الثاني، فإذا بالجزارين ينادونهم: هلموا -يا جماعة- للحم، قالوا: لا، أنتم أغليتموه علينا، ثم رخصوه لهم.
إذاً: متى يكون التدخل؟ عند الاحتكار، إذا جمع تجار أو تاجر ما في السوق، ثم أغلاه بعدما نفذ ما بأيدي الناس، مثل بعض تجار التمور وقت الجذاذ يجمع ما نزل السوق من الصنف الطيب، وبعد شهر أو شهرين الناس يبحثون عن التمر لكن قد ابتلعته بالوعة التاجر الفلاني، فيقولون: بع لنا يا فلان! قال: لا، أنا لا أبيع الآن، وينتظر شدة الحاجة ليتحكم، وبعد أن كان الصاع بريال يبيعه باثنين أو بثلاثة أو بأربعة، فحينئذ يتضرر الناس، فيتدخل ولي الأمر كما ذكره الإمام ابن تيمية رحمه الله، كما يتدخل عند توقف بعض الطوائف عن أعمالهم مثل السقايين والخبازين.
فلو أن أصحاب الأفران أضربوا عن أن يخبزوا، فماذا نأكل؟ تشتري دقيقاً وتعجنه، وتشتري فرناً وتخبز، وهل كل إنسان يقدر أن يعمل هذا؟ لا، فيلزمهم الإمام بالرجوع إلى العمل.
وكذلك السقاة، كانوا من قبل يأخذون الماء على الكتف، والآن لو أن عمال مصلحة المياة توقفوا عن العمل، وأوقفوا الماء، ولم يوجد ماء في البلد، فهل لولي الأمر أن يتركهم؟ لا، بل يلزمهم على العودة إلى العمل.
وهكذا شركة الكهرباء لم يعد للناس عنها غنى، وقد نصبر عن الطعام والشراب ولكن لا نستغني عن الكهرباء، لا نقدر نمشي في الظلام، ولا نعيش في الظلام، نصبر على الجوع حتى ييسر الله، فلو أضرب عمال الكهرباء، وتوقفت المكائن أو الموتورات عن الإنتاج، فولي الأمر يلزمهم بمعاودة العمل؛ لأن مصالح الناس ترتبت عليه.
إذاً: التسعير لا يكون إلا عند الاحتكار لما يحتاجه الناس، ولا يوجد له نظير في الأسواق، فيلزم ولي الأمر المحتكرين أن يخرجوا البضاعة ويقدر لهم الربح المناسب، وذلك بالنظر إلى رأس المال، فلا هو يزيده على الناس ولا هم ينقصونه عنه، وفعلاً إن الله هو المسعر، فالسعر بيد الله سبحانه وتعالى، قد يجمع إنسان ويجمع الآخر لمناسبة معينة، لكن تأتي المناسبة والكل يخرج ما عنده، فيكثر العرض على الطلب فيرخص السعر، ونظام الاقتصاد يكون بالمعادلة بين العرض والطلب، وإذا كان الطلب كثيراً والعرض قليلاً غلا في السعر، وإذا كان العرض كثيراً والطلب قليلاً صارت البضاعة رخيصة، فالكل يعرض في تلك المناسبة التي جمع لها، فيكثر العرض ويقل الطلب فترخص السلعة عما كان يتوقعه التجار.(210/4)
شرح حديث: (بعث رسول الله عمر على الصدقة ... )(210/5)
مشروعية بعث الجباة لجمع الزكاة
قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة) الحديث متفق عليه] .
هذا من أحاديث الوكالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عمر على الصدقة، وبعث العمال من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الخلفاء الراشدين، وكان العمال يجمعون الصدقة من أرباب الأموال الظاهرة، ويوزعونها على المحتاجين، أو يأتون بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم العاملون عليها، وقد بين العلماء أن هؤلاء العاملين يذهبون إلى أصحاب الماشية وبهيمة الأنعام على مياههم، فيجمعون ما عندهم من إبل أو بقر أو غنم، ولا يفرقون بين مجتمع، ولا يجمعون بين مفترق، ويحصون على الناس ما يملكون، فمن بلغ عنده النصاب أخذوا الزكاة منه، ونصاب الغنم أربعون، وإلى مائة وعشرين ففيها شاة، ومائة وواحد وعشرون فيها شاتان إلى مائتين، وهكذا في كل مائة شاة.
ونصاب الإبل أقله خمس وفيها شاة، وعشر فيها شاتان، وإذا بلغت خمسة وعشرين فبنت مخاض، فكان هؤلاء العمال إذا أتوا إلى الناس قبضوا منهم الزكاة بحسب ما لديهم من تعليمات، وأخذوها منهم بالوكالة عن ولي الأمر.
ومن غرائب ما حدث في مثل ذلك أنه صلى الله عليه وسلم بعث عامله إلى جهة الحناكية، فوجد عند رجل خمسةً وعشرين من الإبل، فقال: (زكاة إبلك بنت مخاض) ، وبنت المخاض هي: التي لها سنة ودخلت في الثانية، يعني: أمها ماخض بأختها، فقال الرجل: بنت مخاض! ماذا تجزي هذه وليست ظهراً فيركب، وليست ضرعاً فيحلب؟! ولكن هذه ناقة كوماء خذها في سبيل الله، فقال العامل: لم تجب عليك فلا أستطيع أن آخذ أكثر من الواجب، فتشاح العامل مع صاحب الإبل، فقال العامل لصاحب الإبل: إن كنت مصراً فدونك النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فاذهب بها إليه، فإن قبلها قبضتها منك، فجاء مع العامل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره وقال: يا رسول الله! إن بنت مخاض في سبيل الله لا تجزي شيئاً، ولكن هذه ناقة كوماء (يعني: سمينة مثل كوم اللحم) خذها في سبيل الله، فقال له صلى الله عليه وسلم: (أطيبة بها نفسك؟ قال: نعم يا رسول الله! فقال للعامل: خذها، وقال له: بارك الله لك في إبلك!) فتناسلت إبله إلى زمن معاوية رضي الله تعالى عنه، حتى كان يخرج العشرات من رءوس الإبل في زكاته.
نرجع إلى تتمة الحديث: لما رجع عمر رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! إن خالد بن الوليد منع زكاته، والعباس أمسك زكاته) ، اشتكاهم عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (أما خالد فإنكم تظلمون خالداً، لقد احتبس عتاده وأدراعه في سبيل الله) يعني: وهذا مال وقف لا زكاة فيه ما دام أنه في سبيل الله.
وأخذ منه الفقهاء أن الوقف إذا كان وقفاً خيرياً للفقراء والمساكين قربة لله فلا زكاة فيه؛ لأنه كله في سبيل الله، أما إذا كان وقفاً أهلياً -وهذا اصطلاح عند الفقهاء- بمعنى وقف على أشخاص معينين يقتسمون ريعه، فهنا ينظر لكل واحد على حدة، فمن أخذ من هذا الوقف ما فيه نصاب، ومكث عنده الحول، فإنه يزكي عليه لا على أنه وقف ولكن على أنه مال اكتسبه.(210/6)
حكم تقديم إخراج الزكاة؟
وأما زكاة العباس فقال عليه الصلاة والسلام: (فإنها عليّ) ، وذكر في بعض الروايات: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان استسلف من العباس زكاة سنتين) .
ويختلف العلماء هل يجوز تقديم زكاة سنة قبل مجيء حولها أم لا؟ مالك وغيره يقول: لا يجوز؛ لأنها مؤقتة كتوقيت الصلوات، وكما أنه لا تصح صلاة قبل دخول وقتها، فكذلك لا يصح أخذ زكاة قبل مجيء موعدها، ولكن الجمهور يقولون: هذه حالة نادرة، وكان صلى الله عليه وسلم احتاج إلى هذه الزكاة من العباس فاستسلفه، أي: أخذ زكاة تلك السنة، واستسلفه زكاة السنة التي تليها.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبعث العمال وكلاء عنه.(210/7)
قصة ابن رواحة عندما خرص نخل خيبر
ترك النبي عليه الصلاة والسلام خيبر في أيدي اليهود يعملونها بالنصف، فإنه لما أراد أن يجلوهم صلى الله عليه وسلم عنها، قالوا: (نحن أعرف بالأرض وبالنخل وبالزراعة منكم، وأنتم مشغولون عنها، فدعنا فيها نقوم بها، فقال: نترككم ما شاء الله) ، يعني: بدون تحديد زمن، وبدون التزام، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث إليهم عند إبان الجذاذ من يخرص نخلهم، وأرسل إليهم يوماً عبد الله بن رواحة، فجمعوا له من حلي نسائهم وقالوا: هذا لك وخفف عنا، يعني: إن كنت تجد أن نخل خيبر ألف وسق فاجعلها ثمانمائة أو سبعمائة، لكنه كان أشد خوفاً لله منهم، وقال (والله -يا إخوة الخنازير- لقد جئتكم من عند أحب الناس إلي، ولأنتم أبغض الناس إلي، وليس حبي لرسول الله أو بغضي إياكم بحاملي على أن أحيف عليكم، أنا قاسم وإن شئتم فاقبلوا ووفوا إلينا، وإن شئتم فارفعوا أيديكم ونوفي إليكم) ، فقالوا: يا ابن رواحة! والله! بهذا قامت السماوات والأرض، أي: بالعدالة حين القدرة، فهو قال فيها: عشرة آلاف وسقاً، لكم خمسة آلاف، ولنا خمسة آلاف، فإن شئتم التزموا لنا بالخمسة الآلاف وسقاً ونكف عنكم، وإن شئتم ارفعوا أيديكم ونحن ندفع إليكم خمسة آلاف وسقاً، فهذه هي عين العدالة والمساواة.
الوكالة بابها طويل، والحاجة إليها ضرورية ولازمة، والوقت لا يتسع لأكثر من هذا، والوكيل الذي ذهب لقبض أموال الزكاة وكيل عن ولي الأمر مطلقاً، ولو ماتت بعض الأنعام في طريقه، فهل عليه شيء من هذه الأنعام؟ يده يد أمانة، لا ضمان عليه فيها إلا إن فرط أو تعدى فهو ضامن، وإن لم يفرط ولم يتعد فليس بضامن؛ لأنه مؤتمن على ذلك، ولم تجن يده جناية على ما تحت يده.
وهل له أن يتصرف فيها ويبدلها؟ فعل ذلك معاذ في اليمن، فإنه استبدل الزكاة والجزية بالثياب، وقال: هذا أرفق عليكم، وأنفع لأصحاب محمد؛ لأن مئونة النقلة من اليمن إلى المدينة كبيرة، فعندما يسوق بهيمة الأنعام من اليمن إلى المدينة، كم يأخذ عليه من زمن؟ وكم يتلف عليه منها؟ فبدلها بالوكالة عن ولي الأمر بثياب.(210/8)
شرح حديث: (نحر النبي عليه الصلاة والسلام ثلاثاً وستين بدنة ... )
قال رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثاً وستين، وأمر علياً رضي الله عنه أن يذبح الباقي) الحديث رواه مسلم] .
عندما حج الرسول صلى الله عليه وسلم، كان علي شريكاً معه في الهدي، وكان علي وأبو موسى الأشعري في اليمن، وكان علي على مخلاف، وأبو موسى على مخلاف، واجتمعا على أن يحجا، فقدم علي رضي الله تعالى عنه بعدد من الإبل هدياً، والرسول صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة ومعه هدي، فاجتمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما خرج به من المدينة وما جاء به علي من اليمن مائة بدنة، فشرك علياً معه، فلما كان يوم النحر ذهب صلى الله عليه وسلم لينحر الهدي، فنحر بيده الشريفة ثلاثاً وستين بدنة ثم وكل علياً في أن ينحر بقية المائة.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم باشر نحر عدد، ووكل علياً في نحر عدد آخر.
وتكملة الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر علياً أن يأتي بالجزارين من أجل أن يسلخوا تلك الإبل، وأن يقطعوا لحمها، ويقسموها على الحاضرين، وأمره أن يتصدق بجلالها، والجلال جمع جلالة، وهي ما تجلل به البدنة من الغطاء، كانوا يغطونها بقماش مثل الزينة؛ لأنها هدية مقدمة إلى الله سبحانه وتعالى {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] ، وكانت تلك الجلال تجمع في منى، ويأخذها بنو هاشم ويصنعون منها كسوة الكعبة، وما يفيض يتصدق به، وكان من عادتهم -كما فعل ابن عمر - أن يحللوها عند خروجها من المدينة، وإذا انفصلوا عن ذي الحليفة نزعوها عنها لئلا تمزقها الشجر، ولا تتسخ بالنوم على الأرض، وإذا قدموا إلى مكة وصعدوا بها إلى عرفات جللوها بها، ونزلوا بها إلى المنحر ثم ينزعونها عنها حتى لا تتلوث بدمائها.
ومن هديه صلى الله عليه وسلم أن أمر بأن يؤخذ له من كل بدنة بضعة لحم، وجمعت تلك القطع المائة في القدور وطبخت، وشرب صلى الله عليه وسلم من المرق وأكل من اللحم، قال الله: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} [الحج:28] ، وقالوا: إن الحكمة والسر في أن المهدي يأكل من هديه لكي يختار نوعية الدم الذي سيريقه، ولا يكون مريضاً ولا هزيلاً، بل يتخير ما سيأكل منه؛ ليطعم غيره.
والذين يبحثون وراء الرموز ووراء الحكم من أجل الاستنتاجات يقولون: في فعله صلى الله عليه وسلم هذا حكمة عظيمة وإشارة لذوي الألباب، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثاً وستين، ولم ينحر ستين، ولا سبعين، قالوا: وهذا مقصود؛ وذلك أنه صلى الله عليه وسلم توفي عن ثلاثة وستين سنة، فالسنة التي حج فيها هي تمام الثلاثة والستين، وقولنا: هي مقصودة فيه نوع من التجوز، لكن سواء كانت بالصدفة أو مقصودة فهي إشارة، فكأنه يقول للأمة: هذا عدد أعوام حياتي، أعيش ثلاثة وستين سنة، وفعلاً رجع إلى المدينة صلوات الله وسلامه عليه، ومكث زمناً غير بعيد، وانتقل إلى الرفيق الأعلى.
إذاً: نحر بيده صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين.(210/9)
لماذا أهدى النبي عليه الصلاة والسلام مائة بدنة؟
بعض طلبة العلم يفتش وينبش ويسأل: لماذا أهدى مائة؟ كان يكفيه شاة أو يشترك هو وستة في بدنة، قالوا: لا، هذا العدد أيضاً له تاريخ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: (أنا ابن الذبيحين) ، والمراد: أبوه عبد الله وإسماعيل عليه السلام.
أما إسماعيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ} [الصافات:102] إلى قوله: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] إلى قوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107] .
يقولون: إن هذا الذبح والفداء الذي نزل به جبريل هو القربان الذي كان قد قربه هابيل: {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ} [المائدة:27] ، هابيل قدم كبشاً كبيراً طيباً، وقابيل قدم حزمة زرع، وكان صاحب زراعة، وهابيل كان صاحب ماشية، فذاك الكبش من ذاك الوقت يرعى في الجنة، حتى نزل فداء لإسماعيل، والله أعلم، لكن هكذا يقول بعض العلماء.
وعبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً أخذ للذبح، وذلك حينما رأى أبوه عبد المطلب في المنام قائلاً يقول له: أحيي برة، وبرة هي: زمزم، وكانت جرهم لما جلت عن البيت ردمت زمزم، وهذا كالحروب العسكرية يدمرون المنشآت حتى لا يستفيد عدوهم منها، فطمسوها وبقيت مطموسة، فأتي فقيل له: أحيي برة، يعني: يحيها بنبشها، قال: وأين هي؟ قالوا: حيث ترى الغراب ينكت في الأرض، في المكان الفلاني، أي: حول الكعبة، فخرج فإذا بالغراب ينكت في محل، فبدأ بالحفر، وكلما مر عليه بنو هاشم وأهل مكة، سألوه: ماذا تفعل يا عبد المطلب؟ قال: أحفر زمزم، قالوا: كيف تبحث عن زمزم، وزمزم مطموسة، ولا أحد يعرف مكانها؟! قال: أنا عرفت مكانها، فكانوا يسخرون منه، فلما نزل بالحفر رأى طي البئر، فقالوا: زمزم ليست لك وحدك، نحن شركاء معك في زمزم، ومنعوه من إتمام الحفر حتى يشتركوا معه، وتكون زمزم للجميع، فما استطاع أن يقاومهم، فنذر لله إن رزق بعشرة بنين، وعاشوا حتى يحملوا السلاح ليذبحن واحداً منهم لله، دار الزمن واكتمل عنده عشرة من البنين، فاجتمعوا فأخبرهم بنذره، فقالوا: وف بالنذر، قال: من أذبح؟ قالوا: اختر، فاستهموا، فكان السهم على عبد الله، فأخذه ومضى ليذبحه، فقامت قائمة قريش، وكان عبد الله أحب أبنائه لأهل مكة، فقالوا: لا والله! لن تذبحه، قال هذا الذي وقع عليه السهم، قالوا: لا، أبداً، فاحتكموا إلى عدة أشخاص، وأخيراً احتكموا إلى كاهنة كانت في جهة الحنكية شرقي المدينة، فقالت لهم: كم دية الرجل عندكم؟ قالوا: كذا، قالت: استهموا على ولدكم مع عشرة من الإبل، فإن طلعت السهام على الإبل فانحروها وتكون فداءً له، وإن طلعت السهام على ولدكم فزيدوا الإبل عشراً وأعيدوا القرعة، فما زالوا يقترعون ويطلع السهم على عبد الله، ويزيدون حتى وصلت الإبل مائة، وحينئذ طلع السهم على الإبل، ففرحت قريش وقالوا: سلم عبد الله اذبح الإبل، قال: لا، عشر مرات وأنا أعيد القرعة ويطلع السهم على ولدي، سأعيد القرعة، فأعادها فطلعت على الإبل، ثم أعادها فطلعت على الإبل، ثلاث مرات، فذبحت الإبل فداء لـ عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا كان يقول: (أنا ابن الذبيحين) ، وقوله هذا: يرد على من يقول: إن الذبيح هو إسحاق، وكثير من الناس يقول هذا، ولكن التحقيق في هذه المسألة أن الذبيح حقيقة هو إسماعيل عليه السلام، واليهود هم الذين صرفوا كلمة الذبيح لإسحاق ليذهبوا بها فخراً لهم، ففدي عبد الله بمائة من الإبل، وعاش عبد الله حتى أودع الأمانة التي كان يحملها في مقرها، وذهب إلى حال سبيله، وجاءت تلك الأمانة إلى الوجود، وهي النبي صلى الله عليه وسلم، ومضى عليه من العمر أربعون سنة، ثم كانت الرسالة، وعاش ثلاث عشرة سنة بمكة، وعشر سنوات بالمدينة، وكل ذلك عمر الرسالة، فلما حج أهدى مائة من الإبل، وكأنه يقول: لئن فدي أبي بمائة من الإبل أن تذبح للأصنام، فأنا أذبح مائة من الإبل لوجه الله تعالى، وهكذا يربطون بين هذا وبين ذاك، وكما ربطوا بين نزوله في المحصب وهي المعلاة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل من منى بات هناك، وتجدون في كتب الفقه والحديث خلافاً في هذا: هل كان هذا النزول من النسك أو كان على سبيل الإرفاق بالناس حيث يبيت في أول مكة بدلاً من أن يدخل في الليل مكة ويتعب أصحابه، وهذا أخف عليهم عند خروجه إلى المدينة؟ قالوا: لا، لقد كان هذا النزول متعلقاً بحدث وقع في أول الأمر وهو: أنه صلى الله عليه وسلم لما دعاهم إلى التوحيد كتبوا الصحيفة الظالمة على مقاطعة بني هاشم، وألجئوهم للدخول إلى الشعب، وتلك الصحيفة كتبت بظلم في ذلك المكان، في خيف بني كنانة، فكأنه صلى الله عليه وسلم يقول: لئن شهد هذا الخيف كتابة صحيفة ظالمة فليشهدن نزول الأمة الإسلامية بعد نزولها من الحج، وتكون ليلة مباركة تمحو آثار تلك الليلة الظالمة.(210/10)
شرح حديث: (واغد -يا أُنيس- على امرأة هذا ... )
قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه في قصة العسيف، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واغد -يا أُنيس - على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) الحديث.
متفق عليه] .
هذا الحديث -يا إخوان- مباحثه كثيرة، ومواضيعه هامة وخطيرة؛ لأنه يتعلق بعدة أمور، وأول هذا الحديث، أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه رجل آخر، فقال: يا رسول الله إن ابني هذا كان عسيفاً عند هذا -والعسيف: الأجير- فزنى بامرأته، فقالوا: على ولدك مائة شاة، فافتديت ولدي بمائة شاة فاقض بيننا -يا رسول الله- بكتاب الله، فقال صلى الله عليه وسلم: (نعم، سأقضي بينكما بكتاب الله، على ابنك جلد مائة وتغريب عام، وغنمك رد عليك، واغد -يا أُنيس - على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) .
إذاً: القضية قضية حد من حدود الله، ومجيء والد العسيف مع زوج المرأة إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام له شأن، ولو أن الرجل جاء بولده فقط ولم يسم أحداً؛ ما طلب رسول الله المرأة؛ لأن الحد يقام على من أقر على نفسه، ولو أقر على امرأة بعينها لا يقبل منه؛ لأنه إقرار الغير على الغير، والرسول صلى الله عليه وسلم كما يقال: (يلم ولا يتبع) .
فـ الغامدية لما جاءت هل سألها: زنيت بمن؟ لا لم يسألها، وهكذا ماعز لما اعترف بأنه زنى، هل قال له: زنيت بمن؟ ما سأل، ولو قالت الغامدية: زنيت بفلان، وجاء فلان وقال: هي تكذب، فهل يمكن أن يقام عليه الحد بمجرد قولها؟ لا، وكذلك ماعز لو قال: زنيت بفلانة، وجيء بها وقالت: لا، هو يكذب، هل يقام عليها الحد لمجرد دعوى؟ لا، فلابد من أربعة شهود صفتهم كذا وكذا أو الإقرار من الشخص نفسه.
لكن هنا اجتمع الطرفان: الرجل يقر على ولده، وولده يسمع، وهذا يقوم بمثابة إقرار الولد، وزوج المرأة يسمع، وهذا لا يكون بمثابة إقراره عليها، لأنها لم تؤاخذ بإقرار زوجها بل قال: (اغد) ليسمع منها شخصياً.
فمن أهم مباحث الحديث: مجيء هذين طائعين طالبين إقامة الحد، وقد أفتي والد العسيف بفتوى خطأ، فقيل له: عليك أن تفدي ولدك بمائة شاة، وهذا حكم غير صحيح، وإذا رفع الحكم الباطل إلى ولي الأمر فإنه يلغيه، فقال: (غنمك رد عليك) ؛ لأن هذا باطل.(210/11)
رجم الزاني المحصن
قال والد العسيف: اقضي بيننا، بكتاب الله، فقضى بينهما بكتاب الله وقال: (على ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد -يا أُنيس - إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها) ، فقضى بينهما بكتاب الله، الطرف الأول عليه جلد مائة؛ لقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] ، والجلد بكتاب الله، والطرف الثاني قال: (واغد -يا أُنيس - إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) ، خذ المصحف! هل في المصحف رجم الزاني؟ هل تقرءون الآن في المصحف رجم الزاني؟ لا، لكن قال الأصوليون ومدققوا علماء الحديث: إن الرجم من كتاب الله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (سأقضي بينكما بكتاب الله) وحكم في امرأة هذا بالرجم؛ لأنها محصنة، والعسيف ما هو محصن، بل هو أعزب بكر، والبكر عليه الجلد، وهذا في نص كتاب الله، وأين الرجم في كتاب الله؟ الرسول يقول: (سأقضي بينكما بكتاب الله) ، وقضى على المحصنة بالرجم، ونحن لا نجد الرجم في كتاب الله! وهل كتاب الله فيه ظاهر وباطن؟! لا، ولكن قضاء رسول الله من قضاء الله، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] ، وقال العلماء: بالإجماع كانت آية الرجم ثابتة في كتاب الله، ونصها: (والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله) ، ثم نسخ لفظها وبقي حكمها، وقد خطب عمر الناس يوم الجمعة وقال: (آية الرجم ليست في المصحف، ولكننا قرأناها ووعيناها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا معه) .
فهي ثابتة في كتاب الله أو غير ثابتة؟ غير ثابتة الآن، وما الذي حصل؟ حصل نسخ اللفظ، وبقي الحكم.
وهنا يتساءل علماء الشريعة ما دام الحكم باقٍ فلماذا ينسخ اللفظ؟ قالوا: تكريماً لهذه الأمة، حتى لا يسجل على شيوخها أنهم زناة، فإذا بقيت تقرأ: (الشيخ والشيخة إذا زنيا) ، ففيه أن من شيوخ هذه الأمة زناة، لكن من دواعي الستر من المولى سبحانه على ضعاف هذه الأمة نسخ اللفظ وبقي الحكم، وها هو صلى الله عليه وسلم يقرر هنا أن الرجم في كتاب الله، فحكم بينهما بكتاب الله، وحكم على المرأة بالرجم، إذاً: الرجم في كتاب الله.(210/12)
صحة الوكالة في إقامة الحدود
تصح الوكالة والنيابة من ولي الأمر إلى إنسان لينفذ الحكم أو ليسمع الإقرار ويقوم مقامه، ففي هذا الحديث لم يدع المرأة، والمتهم بريء حتى تثبت إدانته، فلا نستدعيها وما عرفنا أنها زنت، ومجرد قول والد العسيف: إن ابني زنى بامرأة هذا؛ لا يثبت زناها؛ لأنها قد تنكر، فوكل النبي صلى الله عليه وسلم من يذهب إليها ويسألها.(210/13)
إقامة الحد بالإقرار أو الشهود
بعض العلماء يقولون: يجب تكرار الإقرار لإقامة الحد، كما يشترط في الشهادة أربعة، فقالوا: يجب أن يقر الزاني على نفسه في مجلس الحكم أربع مرات بأنه زنى، لكن هل الرسول قال له: اسمع منها الاعتراف أربع مرات وما قيمة التكرار إذا كان الإقرار صادراً من الجاني؟ وإنما احتجنا لأربعة شهود؛ لأنهم يثبتون الزنا على غيرهم.
ولماذا يجب الأربعة الشهود في الزنا مع أن البكر يجلد، وتكفي شهادة رجلين في قطع الرقبة في القصاص؟ إذا شهد شاهد واحد بأنه رأى بعينه الزنا كالمرود في المكحلة، فهل الشاهد الواحد يقام به الحد؟ إذا شهد اثنان، هل نقيم بشهادتهما حداً على طرفين؟ لا، الزنا يكون باشتراك، ولا يتأتى من جانب واحد، وإذا ثبت الزنا بالشهادة، فسنقيم الحد على الطرفين، فلما كانت إقامة الحد على طرفين احتجنا إلى أربعة شهود، حتى نكون قد أقمنا الحد على كل واحد منهما بشاهدين، ولا يكون في ذلك هضم ولا يكون في ذلك نقص.
ويقول بعض الفقهاء: إنما تشدد الشرع في إثبات الزنا لدرء المفاسد والسمعة وعدم إشاعة الفاحشة وكذا وكذا، ولذا البعض يقول: ما أقيم حد زنا بشهادة قط إلى اليوم، فهو متعذر.
إذاً: لماذا الحد؟ قالوا: هو كالسوط المعلق، فكلما هم أحد بالزنا رأى هذا السوط يسقط عليه أو رأى تلك الحجارة تقذفه، فامتنع، ففيه إرهاب وتخويف، لكن هذا تشريع، والله سبحانه وتعالى أعلم بالحكمة، بخلاف القوانين الوضعية فقد تكون خالية من الحكمة، ويهمنا أن التشريع الإسلامي حكيم ثابت، وهو أقوى من رسوخ الجبال.
وقوله: (واغد -يا أُنيس - على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) ، مفهوم المخالفة إذا لم تعترف فلا ترجم، فأتى إليها فاعترفت فرجمها، وهذه هي الوكالة في إقامة الحدود، وبالله تعالى التوفيق.
والراجح الاكتفاء في الإقرار بمرة واحدة، وليس بلازم أن يقر عدة مرات، والذين اشترطوا تكرار الإقرار، استدلوا بأن ماعزاً أقر فأعرض عنه، فجاءه من قبل وجهه فأقر فأعرض عنه، أربع مرات، قالوا: ليستخلص منه أربعة إقرارات ليثبت الحد عليه، لكن لا والله ما كان رسول الله ليحتال على ماعز حتى يستخلص منه أربعة إقرارات وهو لا يدري ذلك، ولكن كان يعرض عنه لعله يولي ويدبر، كما جاء أنه قال لرجل جاء بزان: (هلا سترته بردائك) ، والغامدية اعترفت وهي حامل، فقال: (اذهبي حتى تضعي، فرجعت ووضعته، ثم جاءت، فقال: اذهبي حتى تفطميه، فرجعت ثم جاءت به مفطوماً، وفي يده كسرة يأكل منها، فقال: اذهبي حتى تجدي من يكفله) ، فهل كان يردها هذا الرد من أجل أن تأتي بعد ذلك؟ لا، ولو أنها لم تأت ما طلبها، وبالله تعالى التوفيق.(210/14)
كتاب البيوع - باب الإقرار
الإقرار سيد الأدلة، وقد أثبتت الشريعة حجيته بضوابط وشروط معتبرة، والعمل به وإقراره يدل على كمال الشريعة وعدالتها وحكمتها.(211/1)
شرح حديث: (قل الحق ولو كان مراً)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (قل الحق ولو كان مراً) صححه ابن حبان من حديث طويل] .
قبل الدرس نقدم الشكر لله، ونحمده سبحانه أن أعادنا إلى هذا المكان، وجمعنا بالإخوان في هذا الدرس المبارك، ونسأله سبحانه أن يتم علينا وعلى كل مريض الشفاء، وأن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأن يبارك لنا في هذه الجلسات، وهذه الدروس، إنه سميع مجيب.
وأخبر الإخوان أني طيلة هذه المدة ما ذهب عني التشوق إلى لقائكم، والجلوس معكم، والتحدث إليكم، وأحمد الله سبحانه، وإن كان هناك بعض الأثر، ولكن دائماً بحمد الله ولو كنت متأثراً إذا جئت إلى الدرس وجلست وسميت الله سبحانه أحسست بكل نشاط وبكل ارتياح، فأحمده سبحانه وأشكر فضله؛ ولهذا أحث الإخوة على الحرص الدائم على طلب العلم عامة، وفي المسجد النبوي خاصة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من راح إلى مسجدي هذا لعلم يعلمه أو يتعلمه كان كمن غزى في سبيل الله) ، وقد ميّز الله سبحانه وتعالى هذا المسجد المبارك ببركات عديدة، يفتح بها على طلاب العلم، فيحصلوا على أضعاف ما يحصله طلاب الجامعات أياً كانت، ويكفي أنه إذا ذكر في الحديث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحالاً وبسرعة وقوة ورغماً عنك تتذكر مكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونسأله سبحانه أن ييسر الخير لنا ولكم، وأن يعلمنا وإياكم، ويفتح علينا وعليكم والمسلمين، إنه سميع مجيب، ونبدأ بحمد الله الدرس، وإلى الإقرار.(211/2)
معنى الإقرار
الإقرار في اللغة: قرّ، بمعنى: مكث وثبت، تقول: أقر بالمكان بمعنى: جلس وثبت فيه، ومنه قرار البئر، وقرار النهر أي: عمقه ونهايته، والإقرار يكون في الحقوق المدنية أو في الجنائية، إلا أنهم في الجنائية اصطلحوا على أن يسمى اعترافاً، يقال: اعترف بالجريمة، وفي الحقوق المالية يقال: أقر، وهو في الشرع -سواءً كان جنائياً كالحدود، أو مدنياً كالأموال ونحوها- يسمى إقراراً، ويعرفونه: بأنه إخبار عن حق في الذمة للغير، هذا أوجز التعريفات، وإن كانت قد تعددت، فالإقرار إخبار، والبعض يعتبر الإقرار إنشاءً، والصحيح الأول، والفرق في اللغة بين الإخبار والإنشاء هو: أن الإخبار إنباء عن شيء حاصل بالفعل قبل أن تخبر عنه، مثلاً تقول: أكلت تمراً، تخبر بالأكل، والأكل قد وقع قبل أن تخبر به، بخلاف الإنشاء، تقول: كل تمرة، الآن ما حصل الأكل، وأنت تنشئ القول بإيجاد الأكل، وهناك ألفاظ تحتمل الخبر والإنشاء ينصون عليها كصيغة البيع والطلاق، تقول: بعت كتابي، بعتك الكتاب، بعت واشتريت، قد تقول قبل البيع والشراء: أتبيعني كتابك؟ فيقول: بعتك، ويمكن أن تقول: بعتك كتابي العام الماضي، ولم تدفع لي ثمناً، فبعتك تحتمل إخباراً عن بيع قد سبق قبل القول، وتحتمل إنشاء البيع الآن بإيجاب وقبول.
فالإقرار من باب الإخبار عن شيء سابق، وليس إنشاءً، أقول: هذا الكتاب لك، هل هو إخبار أم إنشاء؟ إن قلت لك هذا بمعنى: أعطيتك إياه، فهو إنشاء هدية تتوقف على القبول، وإن كان إخباراً فأكون قد أعطيتك الكتاب من قبل، والآن أقرر أني قد أعطيته لك فلا أملك الرجوع، والإقرار له مباحث عديدة، وهو ركن أصيل في القضاء، وطرق الإثبات ثلاثة كما جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه في أمر الزنا: إما بينة أو حمل أو إقرار، يعني: لا يثبت حد الزنا إلا بالبينة كما ذكر سبحانه أربعة شهود، وإما أن يظهر الحمل وهي ليست ذات زوج، وإما الإقرار.
مع أن قول عمر: أو الحمل، فيه نقاش؛ لأن المرأة قد تبتلى بالحمل بدون زنا، وذلك إذا وصل إلى محلها ماء الرجل دون قصد، كما قال عمر: اعزلوا ما شئتم، فإن جاءت الأمة بولد وهي تحت سيدها لألحقت الولد به؛ لأن الماء يسري، ولذا عندما قال رجل للنبي عليه الصلاة والسلام: (لي جارية، وأحب منها ما يحب الرجل من أمته، أفأعزل عنها؟ فقال: اعزل إن شئت أو لا تعزل، إذا أراد الله خلق الولد من ماء الرجل خلقه ولو ألقيته على حجر) ، يعني: ولو ألقى الماء على حجر، وجاءت امرأة ولامسته ووصل إلى جسمها فحملت، مثل التلقيح الصناعي يكون مشروعاً إذا كان بماء الزوج، وممنوعاً إذا كان بماء رجل أجنبي، وقد يكره مطلقاً.(211/3)
الإقرار سيد الأدلة
الإقرار يقول فيه أرباب القوانين: هو سيد الأدلة، مع أنه يدخله الاحتمال؛ لأن الخبر في اللغة: ما احتمل الصدق والكذب لذاته، وكلمة (لذاته) ، تخرج غيره كإخبار الله وإخبار رسوله، فهي لا تحتمل إلا الصدق، أما قول شخص: أكلت، فهذا إخبار، قد يصح أنه أكل ولعله لم يأكل.
فالإقرار أصل في القضاء في الإثبات، وهو سيد الأدلة؛ لأن غالب الأحوال أن الشخص لا يعترف على نفسه بما فيه مضرة، فلا يقول: سرقت، وهو لم يسرق، ويعلم أنها تقطع يده، أو يقول لك: عندي ألف وما عنده شيء، فيغرم الألف!! فالغالب أن الشخص لا يقر على نفسه إلا بالحق، ولكن قد يكون الإقرار لغرض، وليس الإقرار صحيحاً، وهذا من أصعب ما يكون أمام القضاة؛ لأن القاضي إذا سمع الدعوى، وسأل المدعى عليه فأقر بصدق ما ادعى به المدعي؛ انتهينا، هذه دعوى، وهذا إقرار المدعى عليه، فلم يبق إلا الحكم، ولكن قد تكون هناك دوافع تدفع الشخص إلى أن يقر بغير الواقع، إما لدفع شيء أعظم مما ادعي به عليه، وإما لمصلحة لنفسه.(211/4)
من أخبار القضاة
يذكر وكيع في إخبار القضاة: أن شيخاً دخل ومعه شاب على القاضي، فادعى الشيخ على الشاب ألف دينار، فسأل القاضي المدعى عليه: ما تقول؟ قال: نعم، أقر بأن له عليّ ألف دينار، فتعجب القاضي! ثم قال: قوما عني وارجعا غداً، فذهبا، وكان في السابق القاضي يستصحب طلبة العلم والعلماء ويستشيرهم في مجلس القضاء بغية الوصول إلى الحق، فكان بعض أصدقاء هذا القاضي من العلماء جالساً، وسمع الدعوى، وسمع الإقرار، ورأى القاضي صرفهما، فلما انصرف قال: ما بالك؟! مدعٍ يدعي ومدعى عليه يقر بصدق الدعوى، وتقول: قوما وارجعا غداً! لماذا لم تحكم بمقتضى الإقرار؟! قال له: على رسلك، ننتظر، وفي الغد جاء شخص مع الشيخ والشاب يصيح: مولانا القاضي! إن ولدي هذا قد أفسد علي مالي، وقد طلب مني ألف دينار، فامتنعت أن أعطيه، فأتى وتواطأ مع هذا الشيخ، أن يدعي عليه بألف فيعترف، وليس عنده ما يسدد، فتحكم عليه بالحبس، فتأتي أمه وتلح عليّ أن أدفع الألف لأخرجه من الحبس، ثم يخرج ويقتسمها مع الشيخ.
فهنا التفت القاضي لصاحبه وقال: أرأيت؟! قال: ما الذي ساق نظرك لذلك؟! قال: ألم تر سرعة إقراره؟! لأنه قال فوراً: نعم.
وبهذه المناسبة أذكر أنه دخل عليّ شيخ وشاب، والشيبة أعرف اسمه له قضايا كثيرة، وكان الشاب يدعي على الشيخ أنه باعه أرضاً وقبض ثمنها منذ ثلاث سنوات، ولم يسلمها إليه، ويطلب الحكم عليه بأن يفرغ له الأرض، فإنه باعه الأرض منذ ثلاث سنوات وأخذ ثمنها، ولم يفرغ له الأرض، فطلب أن يفرغها له، وهذا حق.
فسألت الشيبة المدعى عليه، فقال: نعم، أنا بعت واستلمت! فضحكت! فالشيبة فطن فقال: لماذا تضحك؟! قلت: أضحك عليكم، قال: لماذا؟ قلت: أنت -يا فلان- شيبة، وتعرف المحاكم، وتذهب وتأتي، ما هي قضيتكم التي أنتم تختصمون فيها؟ كيف يقول: اشتريت، وأنت تقول: بعت واستملت، بلا إنكار؟ فضحك الشيخ!! فقلت: لماذا تضحك؟! قال: لأنك فهمتنا! قلت له: ما هي القصة؟ قال: أنا بعت، وجئنا لكاتب عدل ليكتب، فامتنع؛ لأن الأرض فيها مبيعات، وليس فيها حلول درعة، وقال: لازم تعملوا درعة وتأتوا، فقلت: إذاً: دعواكم عند الكاتب.
فقد يكون الإقرار مظنة التهمة، والقاضي الفطن يتنبه لدوافع الإقرار.(211/5)
لابد في الإقرار من قرينة تدل على صدق المقر
جاءت الجهنية إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وأقرت على نفسها بالزنا، وطلبت إقامة الحد، فردها صلى الله عليه وسلم، فهذا إقرار صحيح، والدافع عليه هو ما قالت: طهرني.
وكذا الرجل الذي وجد امرأة في طرف المدينة، فأصاب منها كل شيء إلا الجماع، فقال: أصبت حداً فأقمه علي وطهرني، فسأله عما فعل، فذكر كل شيء إلا الوطء، فأمره بما يطهر ذلك.
فالإقرار سيد الأدلة إذا كانت هناك قرائن تؤيده، أما إذا وجدت قرائن تدل على أن هناك عوامل أخرى حملته على الإقرار بغير الواقع فلا قيمة له.
ومن مباحث الإقرار يتناول العلماء أيضاً: من هو الذي يقبل إقراره؟ وما هو الحق الذي يقبل الإقرار به؟ ومن الشخص الذي يصح الإقرار له؟ وهناك مباحث واسعة في رجوع المقر عن إقراره، والفرق في هذا الرجوع بين شخص وشخص، وبين حق وحق، فيختلف الحكم إذا كان الذي رجع عن الإقرار معروفاً بالتهمة، أو إذا كان الحق لله سبحانه في حد من حدوده.
وهذه المسائل بحثت فيما يتعلق بالإقرار، وأعتقد أن استيفاء أحكام الإقرار لا يتأتى بما اقتصر عليه المؤلف، فإنه اقتصر بجزء من حديث، وإلا فأبواب الإقرار القضائية وأبواب الإقرار الفقهية متسعة.(211/6)
ثبوت الحق بالإقرار
قول النبي عليه الصلاة والسلام: (قل الحق ولو كان مراً) ، يدل هذا اللفظ: (قل الحق) على صحة إثبات الحق بالإقرار؛ لأنه لو لم يكن لقول الحق فائدة في الإثبات لما صح.
ويقولون: الإقرار حجة بالكتاب، والسنة، والإجماع.
في الكتاب في قضية الدين: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة:283] ؛ لأنه يملي ما عليه، ويقر بذلك في نفسه، ومن حكمة التشريع: أن الذي يملي على الكاتب هو المدين؛ لأن إملاءه عليه اعتراف بالدين، لا أن نملي عليه الدائن؛ لأنه يملي بما يريد، وإقرار الشخص لا يسري إلا على نفسه، فلا يحق للدائن أن يملي على الكاتب، فهذا من الأدلة، وأيضاً قوله تعالى: {أَأَقْرَرْتُمْ} [آل عمران:81] ، وقوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172] ، فأخذ المولى سبحانه العهد على النبيين بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81] .
وفي السنة لما جاء ماعز واعترف بالزنا، ورده عليه ثم ألزمه بإقراره، وأمر بإقامة الحد عليه، وكذلك قصة العسيف، لما جاء أبو العسيف مع رجل آخر، وقال: إن ابني كان عسيفاً عند هذا -يعني: أجيراً عنده- فزنى بامرأته، فسألت فقيل: على ابنك وليدة ومائة شاة، فاقض بيننا -يا رسول الله- بكتاب الله فقال: (سأقضي بينكما بكتاب الله: الوليدة والمائة شاة رد عليك، وعلى ابنك الجلد وتغريب عام -لأنه بكر- واغد -يا أنيس - إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) ، ثم رجمها بناءً على اعترافها.
إذاً: الإقرار بينة يعتمد عليها بنص السنة في ذلك.
وجاء رجل إلى أبي بكر فقال: إني وجدت رجلاً مع امرأتي، فقال: يا فلان! اذهب إلى امرأته فسلها، فوجدها مع نسوة فقال لها: إن زوجك يقول كذا وكذا -وإقرار الإنسان لا يكون إلا على نفسه، يعني: ما يلزمك من إقراره غيرك أي شيء- فأقرت ولم تنزع عن إقرارها، وأصرت على إقرارها واعترافها، فأمر برجمها.(211/7)
هل يشترط تكرار الإقرار؟
وهل يكون الإقرار مرة واحدة، أو مرتين بعدد الشهود في الأموال، أو أربع مرات بعدد الشهود في الزنا؟ الصحيح: أن الإقرار ما دام أنه اعتراف المرء على نفسه يكفي مرة.
والذين قالوا: يجب تكراره، استدلوا بقضية ماعز؛ لأنه أتى فاعترف فأعرض عنه، ثم جاءه عن يمينه، وجاءه من أمامه ومن خلفه أربع مرات، لكن الرسول كان يعرض عنه لعله يذهب ويترك إقراره، لا لينتزع منه تكرار الإقرار الموجب للحد؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، ولما ألح قال: (أبك جنون؟ قال: لا، لعلك فاخذت؟ لعلك قبلت؟) ، فقال: بل زنيت بها، وكل هذا من دواعي صدقه، وتلك الأسئلة كأنها إيماء له بالرجوع عن إقراره، وسأل أصحابه: (أمجنون هو؟) .
قالوا: تكرر اعتراف ماعز أمام رسول الله أربع مرات، فيجب أن يكون الإقرار في الزنا أربع مرات بدلاً من أربعة شهود.
لكن جاء رجل برجل وقال: قد سرق، وليس معه متاع، فقال: (ما إِخالك سرقت!) حتى يقول: ما سرقت، ويذهب.
وجاء عن علي أنه قال: إذا جاء المعترف بالسرقة أو بالزنا فردوه.
إذاً: ليس تكرار إقرار ماعز، وإعراض الرسول عنه؛ لإثبات الحد بل هو يريد أن يدرأه عنه، ويدل على أن الإقرار مرة يكفي قوله في حديث العسيف: (فإن اعترفت) ، وما قال: أربع مرات.
إذاً: الإقرار مرة يكفي في الحقوق، أما الرجوع عن الإقرار فهذا مبحث كبير، إذا كان الرجوع عن حد من حدود الله فيصح رجوعه، بل إن الإمام أبا حنيفة رحمه الله ذهب إلى أبعد من هذا، فقال: لو جاء إنسان وأقر على نفسه بالزنا، ولم يعين من زنى بها، أخذ بإقراره؛ لكن إذا عين المرأة التي فعل معها الفاحشة، وسئلت فنفت، فهي لا تؤاخذ بإقراره، ويسقط الحد عن هذا المعترف! لماذا؟! قالوا: لأن الزنا لابد فيه من جانيين، وهذه أنكرت، وقبلنا إنكارها، والزنا لا ينتصف، إذاً: لا يقام عليه الحد، وهذه شبهه، والجمهور على خلاف ذلك، وأنها إن أقرت أخذت بإقرارها، وإن لم تقر لا يقام عليها الحد.
والرسول صلى الله عليه وسلم لما جاءته الجهنية ما سألها: مع من زنيت؟ ولما جاءه ماعز ما سأله: مع من زنيت؟ فهو يرغب في الستر على المسلمين، فلا يبحث عن الزناة، بل يسكت عنهم.(211/8)
من وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم
ذكر المؤلف رحمه الله جزءاً من حديث طويل، وسبق أن كتبت عنه في كتاب صدر باسم: وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجمع هذا الكتاب فوق الخمسين وصية بنص الوصية، لا كما فعل بعض الناس جمع النصائح من باب الترغيب والترهيب، وجعلها وصايا، بل ذكرت ما فيه: (أوصاني خليلي) ، وهذا الحديث ذكره الشارح الصنعاني وسنشرحه جملة جملة.
[وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: (أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم) ] .
هذه الخلة نعمة كبرى، وإذا سمعت هذه الكلمة: (أوصاني خليلي) تحس برقة وتحس بشفافية، وقوة ارتباط: (خليلي) من التخلل، وأصل الخلة: مأخوذة من عيدان الخِلال، أتعرفون الخِلة؟ إن الفلاحين يعرفوها، وقبل ما تظهر المساويك هذه وفرشات الأسنان، كان كوز الخِلة في الجيب دائماً وأبداً، وهي عبارة عن ثمرة فيها أعواد رفيعة دقيقة مثل الإبر التي طرفها عادي، وليست متينة، والكوز يجمع حوالى مائة عود، فكانوا يخَللون بها الأسنان، ينظفون ما بين السن والسن، وما بين السن والسن ضيق جداً، وبعضهم يتخلل بالخيط، فالخلة هذه تدخل بين السنّين بقوة وبضغط، ولا تدع فراغاً بين السن والسن إذا تخلل بها، فكذلك الخلة محبة تتخلل القلب فلا تدع فراغاً لغير المحبوب؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (لو كنت متخذاً من أمتى خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن الله اتخذني خليلاً) ، ومنه الخليلة، شديد الحب لها، حتى تخلل حبها قلبه، فلم يبق لغيرها مكان، وهنا قال: (أوصاني خليلي) يعني: حبيبي الذي ملأ حبه قلبي، فلم يعد لأحد مكاناً فيه.
وإذا كان الموصى له بهذه الصفة يحب خليله، فسيوصيه بأعظم شيء، وبأحسن شيء؛ لأنها وصية من الخليل إلى الخليل، قال: (أوصاني خليلي) ، من هو؟ ما يحتاج أن يسميه؛ لأن الوصف إذا ذكر مطلقاً صرف إلى أعلى فرد فيه، وأعلى فرد في الخلة والمحبة للصحابة ولكل مسلم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله وولده والناس أجمعين) .
وكلمة: الوصية وأوصاني لها فقه في اللغة: وصل، وصي، قالوا: إذا اتفقت الكلمتان في المادة في حروفها، واختلفت في حرف واحد، كان بين الكلمتين ارتباط وصلة، فوصي من وصل الحبل، فكأن الموصي يصل الموصى إليه بخير من عنده، فعندما تقول: أوصيك بكذا؛ فكأنك تصله بمعروف من عندك، ومنه الوصية في المال، تقول: أوصيت لفلان بكذا، يعني: وصلته بشيء من مالي.(211/9)
النظر إلى من هو أسفل منك
قال: (أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم: أن أنظر إلى من هو أسفل مني، ولا أنظر إلى من هو فوقي) ] .
أول جملة في الوصية أن أنظر إلى من هو أسفل مني.
والناس في الدنيا قسمان بالنسبة إليك، دونك وأعلى منك، مهما كنت، وإن كنت لا تملك إلا درهماً، فهناك من هو دونك لا يملك درهماً، وهو مريض، فهو دونك.
وإن كنت تملك ملياراً، فهناك من يملك مائة ألف فهو دونك، وهناك من يملك المليارات فهو فوقك.
إذاً: دون وفوق أمور نسبية، ومهما كنت في حالة من الحالات، فهناك من هو دونك، وهناك من هو فوقك.
انظر إلى هذه الجملة! والله! ثم والله! لو أن العالم كله وقف عندها، وطبقها لاستراح، إذا نظرت إلى من هو دونك وعندك مائة ألف، أو ألف ريال، أو في يدك عشرة ريالات، وهو عنده ريال واحد، فصاحب الريال ماذا سيفعل به؟ سيأخذ له رغيفاً من الخبر، وقليلاً من ملح، أو حبتين تمر! وأنت معك عشرة ريال، ستأخذ خبزاً، وتأخذ لبناً، وتأخذ جبناً، وحلواء، فإذا نظرت إلى صاحب الريال وأنت معك عشرة، فهل تقلق وتنزعج أو ترضى؟ ترضى وتطمئن، وإذا نظرت لمن عنده ألف ريال، ستقول: أوه! والله! هذا سيأتي بذبيحة، هذا سيفعل، وتجري على يديك ورجليك من أجل أن تدركه فلا تستطيع، إنسان يمشي وهو يتوكز على عصا، وآخر يزحف على الأرض، وآخر يجري على قدميه، وأنتم في طريق واحد، وأنت تمشي برجلك وتتوكز على عصا، والآخر مر عليكم مثل الفرس، فلو نظرت إلى هذا السريع وأردت أن تجري مثله، تتعب نفسك وتسقط، لكن إذا نظرت إلى هذا الزحاف مشيت على مهلك؛ لأنه يوجد من هو أقل منك.
ولو كنت صاحب سيارة، انظر إلى من هو دونك، ولا تنظر إلى سيارة أحسن من سيارتك، لأنك إن رضيت بسيارتك استرحت، وهي ستوصلك، وإذا نظرت إلى الأخرى تألمت.
كذلك في البيوت، إذا نظرت إلى من يسكن في عشة في خيمة في صندقة، وأنت في بيت من اللبن، قلت: الحمد لله معي بيت مبني، وإذا نظرت إلى صاحب الفيلة والعمارة والحديقة ماذا تفعل؟ تبيت كمداً، والحسرة لا تفيدك شيئاً.
وفي الملابس قد تقول زوجتك: أريد فستاناً، فتشتري لها بمائتين ريال، فتقول: لا! فلانة عندها فستان بألف، فإذا نظرت إلى من فوقها أرهقت زوجها، وشقت عليه، ونكدت نفسها، وما طابت نفسها بفستان بمائتين، لكن التي ما عندها، ولا شيء، وتستعير ثوباً من جارتها إذا احتاجت، فإذا جاءها فستان بمائة ريال تقول: هذا ليوم العيد، وتفرح به؛ لأنها ما عندها شيء، فلو نظرت المرأة إلى من دونها أراحت نفسها، وأراحت زوجها.
وهكذا في الأمور الأخرى، بعضهم يقول: مهر ابنتي كذا.
لا، لازم بنتي يكون مهرها كذا، ولو نظر إلى من كان مهرها عشرة ريال أو درهمين لفرح بمهر ابنته، لكن يقول: أريد الزواج في قصر صفته كذا، حتى في مكان الأفراح قد ينظر المرء إلى من فوقه أو ينظر إلى من تحته، وفي جميع أحوال الحياة، سواء في نفسك أنت، أو في ظروف حياتك، كلما نظرت إلى من هو دونك استرحت، وإذا نظرت إلى من هو فوقك تعبت، وكما يقول الناس: الذي يمشي في الطريق مستوياً مستريح، لكن الذي يمشي ونظره إلى السماء، رقبته ورأسه يدوخ.
والمقصود من هذا -يا إخوان- القناعة بالواقع، إذا كنت تنظر إلى من دونك، ووجدت نفسك خيراً منه، قنعت بما أنت عليه، وإذا نظرت إلى من هو فوقك لا تعرف القناعة لنفسك طريقاً ودائماً تقلق، وكان والدنا الشيخ محمد الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه عندما جاء الرياض، يأتيه فلوس وهدايا من الملك عبد العزيز الله يغفر له، فقد كان يعطي العلماء في المناسبات، فكان الشيخ حالاً يقسمها على الأرامل، وعلى أسر منقطعة في المدينة من عوائل الشناقط، ويرسل لأهله أيضاً، وكان يكثر من هذا، ففي يوم كنت خالياً معه، فقال: أنا خائف على نفسي، جئت من بلادي بكنز عظيم جداً، والآن أخشى عليه الضياع، قلت له: ما هو هذا الكنز يا شيخ؟! أنا أعرف أن الشيخ في بعض الأحيان لا يجد مالاً، وهذا ليس عيباً في طالب العلم، وكان يرسلني لأقترض له من بعض الأشخاص، فقلت له: ما هو هذا الكنز وأنا اقترض لك من فلان وفلان؟ قال: هو كنز القناعة، كنت قانعاً بكل ما يكون في حياتي وجدت أو لم أجد كله عندي سواء، وفعلاً كانت الأمور عنده سواء، وهذا الكنز من القناعة من أين جاء إليه؟ من النظر إلى من هو دونه.
أيها الإخوة! هذه الجملة من الوصية تعطي الإنسان طمأنينة وقرارة نفس، وقناعة بالواقع، وأخيراً الأمر سواء، فصاحب المليارات وصاحب الريالات في النهاية هم مستوون، صاحب المليارات ليس له منها إلا ما أكل وأفنى، أو لبس فأبلى، وأنت ليس لك من دنياك إلا ما أكلت، أو لبست، وصاحب الريالات آكل ولابس، لكن الخلاف في النوعية، هذا يأكل لحماً مشوياً، وهذا يأكل جبناً وفولاً وطحينية، والمعدة ستمتلئ، والفوارق هذه لا يعادل بها طمأنينة النفس.
وهذا باب واسع، ومن أراد التوسع في هذه الوصية بالذات فليرجع إلى ذاك الكتاب: (وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم) .(211/10)
حب المساكين والدنو منهم
قال: [ (وأن أحب المساكين وأن أدنو منهم) ] .
ولماذا يحبهم؟! ولماذا لا يحب الأغنياء؟ لو قلت: صديقي الأمير فلان، وصديقي التاجر فلان، فأنت إذا صادقت من هو أكبر منك كنت معه في منزلة وضيعة، لو كنت مع كبير التجار، وأنت تاجر صغير، وجالسته في المجالس، فالناس يفضلونه عليك، ويقدمون له التشريف والتكريم دونك؛ لأنهم يرونك دونه.
وإذا كنت مع تاجر أقل منك فستكون أنت موضع التكريم.
أوصاه أن ينظر إلى من هو دونه، والآخر إلى من هو دونه، وهكذا حتى يصل إلى المساكين، فجالس المساكين، وأحب المساكين؛ لأنهم يحفظون لك دوام النظر إلى من هو أقل منك، والمساكين دائماً وأبداً حياتهم سهلة، لا يكلفونك شيئاً ليس في طاقتك، وهم أقرب الناس إلى الله بالطاعة، وبالذكر، وأقل شيء أنهم لا يظلمون الناس، ولا يعتدون عليهم، ولا يتعاملون معاملة منهياً عنها، ما عندهم شيء، فأحب المساكين، وادن منهم، لا تحبهم من بعيد! بل، أزورهم، أخالطهم، أجالسهم؛ لأكون دائماً على هذا المستوى، وكلما تطلعت نفسي إلى أعلى، أتذكر هؤلاء فيردونني.(211/11)
صلة الرحم
قال: [ (وأن أصل رحمي وإن قطعوني وجفوني) ] .
ما دام أنه يحب المساكين وهم قد يكونون غرباء وأجانب، فليصل رحمه، وليس حب المساكين محبة في القلب فقط، بل إذا أحب المساكين عطف عليهم وساعدهم، المسألة ليست بالكلام فقط، والحب هذا يكون جسراً لمنفعة المساكين والعطف عليهم، فإذا كان سيعطف على المساكين ويدنو منهم فذو رحمه أحق بذلك.
وذكرت لكم أنه إذا وجدنا صفاتاً متعددة في حديث واحد؛ فلننظر إلى العامل المشترك بينها، فصلة الرحم جاءت مع المساكين بجامع العطف والعطاء، حتى ولو كان ذوو الأرحام أغنى منك، فحقهم عليك أن تصلهم وإن قطعوك.
جاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: إن لي أقرباء أحسن إليهم ويسيئون إلي، وأصلهم ويقطعونني، قال: (لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل) ، أي: الرماد الحار، وصلة الرحم غنية عن التنبيه عليها.(211/12)
قول الحق ولو كان مراً
قال: [ (وأن أقول الحق ولو كان مراً) ] .
(وأن أقول الحق ولو كان مراً) ؛ لأن قول الحق فيه صلة لصاحب الحق، كان الحق ضائعاً خفياً لا يعرفه أحد، فإقراره بالحق كما يعطي المساكين، وكما يصل رحمه، فيعطي صاحب الحق حقه، وكيف يكون الحق مراً؟ لأن الحق ثقيل، فيه إلزام، وله توابع، والكذب ذاهب في الهواء، والحق أمر معنوي، والمرارة أمر حسي، تقول: هذا الطعام مر، وهذا الطعام حلو، والحلاوة والمرارة أمر مادي موجود ملموس؛ ولكن الحق أمر معنوي، وهذا على سبيل التشبيه؛ لأن الحق لو كان مطعوماً لكان مراً كما قال الشاعر: ولم أر كالمعروف أما طعمه فحلو وأما وجهه فجميل المعروف أمر معنوي، وهو الإحسان، لكن شبهه لو كان من الناس لكان جميل الوجه، ولو كان في الطعام لكان حلواً.(211/13)
شروط صحة الإقرار
محل الشاهد من هذا الحديث: أن الإقرار معتبر؛ لأنه إذا أقر بالحق على نفسه أخذ به، وألزم بما أقر به، وهنا تفاصيل عديدة، فما يشترط في المقر؟ ومتى يقضى عليه بإقراره؟ قالوا: يشترط أن يكون عاقلاً، سليماً، بالغاً، حراً، فيعترف بإرادته بغير إكراه، وكونه عاقلاً أخرج المجنون، والمغمى عليه، والمخدر ففاقد العقل فاقد الأهلية، وفي الحديث: (رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يصحو، والمجنون حتى يفيق، والصبي حتى يبلغ) .
فلا يعتبر الإقرار حال الجنون، والإغماء، والنوم، فبعض الناس قد يتكلم وهو نائم، وربما يعترف بشيء وهو نائم، فلا يؤاخذ بذلك؛ لأن الإقرار التزام، والالتزام مسئولية، وهذا فاقد المسئولية.
قالوا: وأن يكون بالغاً؛ لأنه يقر على نفسه بحق، والصبي ليس عليه التزام، وكذلك أن يكون اعترافه بإرادته لا بإكراه؛ لأنه إذا أكره ألغي إقراره، كما في قوله سبحانه: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] ، وهذا في أعظم شيء وهو التوحيد، تكلم بما يوهم شركاً، وأقر بما يريدونه؛ ليدفع عن نفسه التعذيب، ولكنه إقرار مكره، ويذكر ابن قدامة رحمه الله أو غيره: أن امرأة أتت عمر وقالت: إن زوجي طلقني ثلاثاً ثم أنكر، فاستدعاه، فقال: كانت دائماً تسألني الطلاق وأمتنع، فذهبت وإياها يوماً نشتار عسلاً -اشتار العسل بمعنى: جناه- في صفحة جبل، فتدليت بحبل إليه -ربط الحبل في قمة الجبل في صخرة، وتدلى بالحبل حتى نزل عند مستوى النحل- فقامت على رأسي وقالت: طلقني، قلت: لا أطلق، قالت: سأقطع عليك الحبل! وإذا قطع الحبل سيتردى ويموت، فقال: أنت طالقة ثلاثاً، قال: فطلقتها ثلاثاً، فضحك عمر رضي الله تعالى عنه وقال: اذهب لا شيء عليك، لا طلاق في إكراه.
فإذا أكره الإنسان على شيء لا يعتبر ذلك، ويبحث الفقهاء عن نوعيه الإكراه، فليس إكراه زيد كإكراه عمرو، بعض الناس يعتبر مجرد التأنيب والعتاب إكراهاً، وبعض الناس لو جلد عشرة أسواط أو عشرين سوطاً، ما يعتبر هذا شيئاً، فالإكراه بحسب الشخصيات، فهذه شروط من يؤاخذ بإقراره.
وكذلك يشترط إمكان إقراره عقلاً، فلو أن امرأة ادعت على رجل بالزنا، والشخص الذي ادعت عليه مجبوب الذكر، فجاء ليدرأ الحد عن غيره فقال: نعم زنيت بها، فكشفنا عليه فإذا به ليس عنده آلة الزنا، فهل يكون هذا الإقرار صحيحاً؟ ليس بصحيح، لو جاءت بأربعين شاهداً فواقع الحال يكذب البينة، وكذلك لو قال: هذا ولدي، ونظرنا في السن، فإذا بهذا ولد والمدعي له عمره خمس سنوات.
فهل يتأتى هذا؟ لا.
يقول المالكية: إذا كان هناك ما يشبه قبول الدعوى سمعت.
وعلى كلٍ الإقرار مباحثه طويلة، وهو سيد الأدلة، ولكن تحفه شبهات، ويجب أن يتحرى فيه، ومن أراد التوسع فكتب الفقه تفصل ذلك.(211/14)
كتاب البيوع - باب العارية
من سنن الله عز وجل في خلقه أنه جعلهم محتاجين إلى بعضهم البعض، فلا يستطيع أحد أن يعيش بمفرده دون الآخرين مهما كان، ولهذا شرع الله عز وجل للناس التعامل فيما بينهم البين، وبين لهم ما يحل من هذه المعاملات وما يحرم، ومن هذه المعاملات التي أباحها الله عز وجل للناس لحاجتهم إليها: العارية، بل إن الله عز وجل ندب إليها وتوعد من يمنع الماعون.(212/1)
حديث: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) رواه أحمد والأربعة وصححه الحاكم] .
هذا الحديث ليس فيه نص في ذكر العارية، ولكن فيه: (على اليد ما أخذت) ، سبحان الله! هل اليد هي الآخذة أو الإنسان هو الذي يأخذ بيده؟! الجواب: هو الإنسان ولكن هذا من البلاغة؛ لأن اليد هي المباشرة، فأسند الفعل إليها، وأما حقيقة فليست هي الآخذة ولكنها آلة الأخذ، وهنا (اليد) (الـ) هنا للجنس أي: كل يد (عليها ما أخذت حتى تؤديه) .
(تؤديه) يعني: ترده من حيث أخذته، ومن أين أخذته؟ أخذته من شخص جاز التصرف فيه.(212/2)
الأشياء التي تصح إعارتها
(ما أخذت) (ما) عام يخصص بما يجوز أخذه وهو الذي تجوز إعارته، وقد وسع الفقهاء فيما تجوز إعارته حتى قالوا: العبد والجارية.
لكن ينص الحنابلة في بعض كتبهم: على أنه لا تصح إعارة الجارية في موطن الفتنة، كما لو أعيرت لرجل تخدم عنده وليس عنده أحد فهو سيخلو بها، وهذا لا يجوز، لكن إعارة الجارية لامرأة لا بأس بها.(212/3)
وجوب رد العارية
(على اليد ما أخذت) أخذت ممن؟ ومن أين؟ وهل أخذت سرقة أو أخذت غصباً؟ المراد: أخذت من مالك العارية أو من ينوب عنه.
(حتى) وحتى: حرف غاية، (تؤديه) أي: ترده من حيث أخذته، واستدلوا على وجوب ردها بقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] ، والحديث عام في كل ما أخذته يد من غيرها، إذا استأجرت عيناً، أو استأجرت سيارة فعليك أن تؤديها: (على اليد ما أخذت) وهي في ضمانها حتى تؤديه، فإذا استعرت أرضاً مثلاً: فعليك هذه الأرض حتى تؤديها، أو استعرت داراً تسكنها، أو دكاناً تستخدمه، أو دابة تركبها، وكل ذلك مما تصح إعارته فعليك ضمانها، وعليك حفظها.
(على اليد ما أخذت) هنا يقولون: في الحديث محذوف مقدر يرجع تقديره إلى حكم العارية.
أي: مؤداة أو مضمونة.
فإن كانت مؤداة فعلى اليد حفظها، وإن كانت مضمونة فعليها ضمانها.
أي: على اليد ضمان ما أخذت، وعلى اليد حفظ ما أخذت، وكلا التقديرين وارد.
وعليه يأتي البحث في العارية أمضمونة هي أم مؤداة؟ والفرق بين مضمونة ومؤداة: المضمونة لو تلفت بصرف النظر عن صور الإتلاف فيما تلفت، وقلنا: عليه الضمان ضمن القيمة أو المثلية، والقيمة إن كانت مقومة، والمثل إن كانت مثلية، وأما مؤادة فالموجود منها يرده ويؤديه إلى صاحبها، والتالف لا ضمان فيه.
إذاً: العارية من حيث هي مندوب إليها في الحكم، وقد ذم الله مانعيها في عموم قوله سبحانه: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:7] ، ثم يأتي الكلام عن أنواعها وعن أحكام المعير، والمستعير، والضمان.
إذاً: (على اليد ما أخذت حتى ترده) ، هل في هذا الحديث تنصيص على ضمان أو عدم ضمان؟ يقول العلماء: ليس في الحديث تنصيص وإنما فيه تقدير نحتاج إليه: (على اليد ما أخذت حتى ترده) ماذا عليها؟ بعضهم يقول: على اليد حفظها وضمانها، وقيل: على اليد أداؤها، وعلى كلا الوجهين جاءت الأقوال والمذاهب في الضمان وفي الأداء وعدم الضمان، وكل له وجهة، وتحقيق المناط هنا في الأداء أو الضمان ما لم يوجد تعدٍ أو إفراط، فإذا تلفت في إفراط أو تعدٍ فيكون بالإجماع ضامن، وأما إذا تلفت في عين ما استعيرت له فهنا جاء الخلاف: فإذا استعار دابة ليركبها فذهب وحمل عليها الحطب فتلفت، فهو بهذا قد تعدى، وإذا استعارها ليركبها من المدينة إلى قباء فذهب وحملها خشب من البيت إلى قباء، فهو بهذا قد استعملها في غير ما استعارها له.
فهو بحمل الخشب عليها قد تعدى، فإن تلفت تحت الخشب فهو ضامن باتفاق، وكذلك إذا تلفت بتفريط، فإذا استعارها ثلاثة أو أربعة أيام ليركبها، ولما وصل إلى البيت لم يعطها ماءً ولا علفاً فتلفت فهذا فيه تفريط.
وإذا استعرت سيارة ومشيت بها من غير زيت، ولا ماء، ولا كشفت على كذا ولا على كذا، ومشيت بها في محلات وعرة فبنشرت الكفرات، وعطلت المكينة، فأنت بهذا قد حصل منك تفريط في عدم النظر فيما تحتاج إليه السيارة، وتعدٍ في مشيك بها في طريق غير معبد لا تمشي فيه السيارات، ففي هذه الحالة لا خلاف في ضمانها.
ولكن الخلاف في نقطة واحدة والبحث محصوراً عليها وهي: فيما لو استعارها ليركبها فركبها وفي أثناء الطريق قبل أن يصل إلى الغاية التي استعارها من أجلها وسماها لصاحبها تلفت تحته، فهنا يأتي الخلاف، ولكن إن استعارها للفريش فقال له: أعطني دابتك، أو أعطني سيارتك أتوصل عليها للفريش -منطقة- وآتي، فلما وصل تعداها إلى المساجيد -منطقة- والذي سافر على الجمال يعرف المساجيد، أو الطريق الأول قبل طريق الهجرة.
استعارها لمكان معين ولكنه تجاوز المكان، فتلفت في حدود المجاوزة، فهو ضامن، ضامن الأجرة؛ لأن صاحبها لم يأذن له في تلك الزيادة، وضامن عينها إن تلفت في تلك الزيادة؛ لأنها تلفت بسبب التعدي.
إذاً: أهم مباحث العارية أولاً: الندب إليها وتذكر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وتقول: إنه كان عندها ثوب قطري -نسبة إلى قطر- ثمنه خمسة دراهم وما كانت امرأة تتزين في المدينة إلا استعارته.
الآن يستأجرون من الكويفيرة أو يذهبون إلى المرأة التي تعنى بتهيئة النسوة أو العرائس فعندها أنواع من ثياب العرائس، وبعض الناس لا يقدر أن يشتري بدلة عروسة فيستأجر أو يستعير، وقد كان نساء الأنصار رضي الله تعالى عنهن ربما استعارت المرأة منهن ثوباً لتخرج إلى حاجتها إذا لم يكن عندها ثياب تخرج بها.
والذي يهمنا أن عائشة رضي الله تعالى عنها كانت تعير ثياباً كانت عندها.
إذاً: هذا من استباحة المنفعة بغير عوض؛ لأنه مأذون فيه من صاحب العين، وعليه أن يرد العين بعد استيفاء منفعتها، وهذا من أهم المرافق بين المسلمين وتعاطفهم وتعاونهم.(212/4)
الخلاف في معنى الحديث
إذاً: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) استدل به من قال: بأن العارية مضمونة، والآخرون ينازعون في الاستدلال بهذا الحديث ويقولون: الحديث محتمل تقديرين: الأول: على اليد حفظ العارية.
والثاني: على اليد ضمان العارية.
فعلى تقدير الحفظ فهو ليس بضامن، وعلى تقدير الضمان فهو ضامن، ولا نزاع فيما لو تلفت بتعدٍ أو تفريط.(212/5)
من فوائد حديث: (على اليد ما أخذت ... )
ومن فوائد هذا الحديث: أنه إذا كان للعارية مئونة رد فهي على المستعير، فإذا استعرت سيارة من المدينة لتصل بها إلى آبار علي فوصلت، فليس من حقك أن ترجع إلى صاحبها وتقول له: سيارتك في آبار علي اذهب فخذها؛ لأن على اليد ما أخذت حتى تؤديها.
إذاً: عودتها من آبار علي إلى صاحبها بالمدينة على المستعير، ولو تلفت هناك أو تعطلت فالمسئول عن إعادتها هو المستعير، ثم ننظر هل هو ضامن للعطل فعليه أن يصلحه أو ليس بضامن، وهكذا إذا استعار شيئاً آخر فإن عليه أن يرده من حيث أخذه وأجرة الرد على المستعير.(212/6)
حديث: (أدِ الأمانة إلى من ائتمنك ... )
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) رواه الترمذي وأبو داود وحسنه، وصححه الحاكم، واستنكره أبو حاتم الرازي، وأخرجه جماعة من الحفاظ.
وهو شامل للعارية] .
الحديث الثاني في هذا الباب أيضاً أعم من العارية، (أد الأمانة إلى من أئتمنك) انظر: (من ائتمنك) : يعني: لا تخلف ظنه فيك، ائتمنك واعتبرك أميناً، فأمَّنك أمانة، والأمانة والأمن مأخوذان من لفظ واحد فكأنه آمن على سلعته عندك، وهي آمنة عندك من الضياع، وأنت أمين عليها، فيجب عليك أن تحفظها.
(أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) : إذا خان: فهل خيانته إياك عيب أو مدح؟ وهل فيها إثم أو أجر؟ الجواب: فيها إثم، فإذا كنت أنت تستنكر عليه أنه خانك فكيف ترتكب ما تنكره عليه؟! قال تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] ، فعليك أن تؤدي الأمانة إلى صاحبها، والأمانة: لفظ عام شامل سواءً كان في الحقيقة أو المجاز.
أبو طلحة لما مرض ولده وكان شغوفاً به وكلما دخل سأل عنه زوجه أم سليم، وفي يوم من الأيام توفي الطفل وأبو طلحة غير موجود، فقالت لأهله: لا يكلمه أحد قبلي، فلما جاء سأل عن الولد فقالت: إنه في غاية الراحة -ما كذبت ولكن ورّت- فهيأت له عشاءه ثم تهيأت له حتى قضى حاجته.
وانظر إلى القدرة والتحمل عندها، فولدها مات ولم تنزل عليه دمعة عين، ولم يحصل منها ولولة ولا صياح ولا بكاء، واستقبلت زوجها بهذا الاستقبال، حتى في نفسها، فتجهيز الطعام أمره سهل، ولكن أن تتهيأ وتمكنه من نفسها، فأي نفس تقبل هذا الآن؟ ولكن هذا منها كان وفاءً بحق الزوج، وأين هذا الصنف يا إخوان؟! وأين هذه النوعية من النسوة؟ إنها نسوة الصدر الأول من السلف الصالح، فهذه هي الزوجة التي تعين زوجها على كل خير، وتكون فعلاً سكناً له.
لما قضى حاجته قالت: يا أبا طلحة! أرأيت لو كان لجيرانك أمانة عندك فطلبوها أتؤديها إليهم أم تمسكها عندك؟ قال: بل أؤديها.
قالت: إذاً: إن الله قد أخذ ولدك، فقم فواره، فغضب وقال: سكتِ عليَّ حتى أكلت، ودنوت مني حتى اقترفت، ثم تقولين: وار ولدك، ثم غدا في الصباح يشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فتبسم وقال: أعرستما البارحة؟ قال: نعم، قال: بارك الله لكما في ليلتكما) ، فأنجبت الولد المبارك وكان منه الخير الكثير.
إذاً: (أد الأمانة إلى من ائتمنك) أياً كان نوعها على سبيل المجاز أو على سبيل الحقيقة، والمراد هنا: الأمانة الحقيقية العينية، ائتمنك على كتاب، ائتمنك على أوراق، أئتمنك على نقد، على آلة، على أي شيء، فأي عين ائتمنك عليها فأدها إليه.(212/7)
حكم خيانة الخائن
قال: (ولا تخن من خانك) وفي هذه المسألة يقولون: لو أن الذي خانك وأخذ من مالك ولم يرده ولم تقدر على أخذه منه جهراً فظفرت له بمال سراً أو خفية أو دون علم منه، فهل تأخذ حقك مما ظفرت به من ماله أو تؤديه إليه كاملاً وتطالب بمالك الذي أخذه من قبل؟ للعلماء في هذه المسألة مباحث طويلة، وقد أطال ابن عبد البر في هذه المسألة وكذلك ابن رجب عند حديث: (لا ضرر ولا ضرار) لمناسبة عندهم فيه، وهذه المسألة تسمى عند المالكية في الفقه بالاعتصار: من العصر، أي أنه يعتصر حقه مما ظفر به من مال خصمه، ويقول ابن عبد البر: إنه إن أخذ حقه، أي: مقابل حقه لم تكن خيانة؛ لأن الخيانة هي: أخذ الشيء ظلماً، وهذا حينما أخذ هل اعتدى على صاحب المال وظلمه أو استرد حقه؟ استرد حقه.
وابن حزم يقول: يتعين عليه أن يأخذ؛ لأن في الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً قيل: يا رسول الله! أنصره إذا كان مظلوماً فكيف أنصره إذا كان ظالماً؟ قال: تردعه عن الظلم) فأنت حينما تأخذ حقك من ماله فقد ردعته عن الظلم ورفعت المظلمة التي كانت عنده لغيره، وتغيير المنكر واجب.
والجمهور يختلفون، وابن عبد البر يجيب عن هذا الحديث: (ولا تخن من خانك) ، ويستدل بجواز أخذ الحق بأدلة أخرى مع تفصيل إن كان المال الذي ظفرت به هو من عين مالك، فإذا كان قد اغتصب عليك صحوناً فضفرت بعشرة صحون له، وهو أخذ منك خمسة فخذ خمسة ورد له الخمسة، وكذلك إن كان المال الذي أخذه عليك دراهم وظفرت بدراهم له، أو دنانير فإن كان من غير عين ما خانك به فهل تأخذ مقدارها أم لا؟ إذا خانك في لباس، أو في ثياب، وظفرت له بمال فضة أو ذهباً وهذا المال من غير جنس ما أخذ منك فهل تأخذ قيمة ما خانك فيه؟ على هذا الخلاف الذي يذكرونه عند هذا الحديث: (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) ويقول ابن عبد البر: لا تخن من خانك.
أي: بعد أن أدى إليك ما كان قد خانك فيه، فإذا كان قد خانك في مال ثم أداه إليك ثم ظفرت له بمال بعد ذلك فلا تأخذ من ماله وتقول: لأنه كان قد أخذ مني، وكان قد خانني، فالمعاملة قد ارتفعت ولم يعد الآن خائناً لك؛ لأنك قد استوفيت حقك منه.
فقوله: (ولا تخن من خانك) ، أي: بعد وفائه حقك، أما قبل وفاء الحق إذا أخذت حقك من ماله فلست بخائن، واستدلوا على ذلك بحديث هند مع أبي سفيان لما قالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني ويكفي عيالي أفآخذ من ماله ما يكفيني؟ قال: خذي من ماله ما يكفيكِ ويكفي عيالكِ بالمعروف) ، فهو أمسك عنها وقصر عنها في النفقة وهذا يُعد خيانة، وهي ظفرت بماله تحت يدها فتأخذ من ماله ما يسد حاجتها، فهل هي خائنة؟ قالوا: لا؛ لأن الخيانة تنتفي إذا كانت بالمعادلة، كما جاء في عموم قوله سبحانه: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] ، وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126] ، والمجازي على السيئة ليس مسيئاً والمعاقب على قدر ما عوقب به ليس معاقباً وإنما مسترد للحق.
إذاً: (أد الأمانة إلى من ائتمنك) ، هذا صفة عامة.
و (ولا تخن من خانك) ، أي: بعد وفاء الأمانة، وأما من أخذ حقه من الخائن فهو ليس بخائن.
(لا تخن) أنا ما خنت ولكن أخذت حقي.(212/8)
حديث: (إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعاً)
قال المؤلف رحمه الله: [وعن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعاً، قلت: يا رسول الله! أعارية مضمونة أو عارية مؤداة؟ قال: بل عارية مؤداة) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان.
وعن صفوان بن أمية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه دروعاً يوم حنين فقال: (أغصب يا محمد؟! قال: بل عارية مضمونة) رواه أبو داود وأحمد والنسائي وصححه الحاكم: وأخرج له شاهداً ضعيفاً عن ابن عباس رضي الله عنهما] .
قوله: عن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعاً قلت: يا رسول الله! أعارية مضمونة أو عارية مؤداة؟ قال: بل عارية مؤداة) .
يسوق لنا ابن حجر رحمه الله في نهاية باب العارية هذين الحديثين: حديث يعلى وحديث صفوان، فـ يعلى يقول: (قال لي النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعاً) ، مبدئياً في هذا الجزء من الحديث ما يدل على أن للشخص أن يرسل رسولاً عنه في قضاء حاجته، ويكون بمثابة الوكيل في القبض، فإذا سلّم المرسل إليه الرسالة إلى هذا الرسول فكأنه سلمها إلى من أرسله.
(إذا أتتك رسلي فأعطهم ثلاثين درعاً) الدرع هو: لباس من زرد الحديد، حلق صغيرة، فراغ الحلقة أقل من الـ (سم) ينظم بعضها في بعض حتى تكون كالثياب على صورة القميص، يلبسها الفارس ليتدرع بها من وقع السهام أو الرماح أو السيف، وتختلف جودةً ورداءةً وطولاً وقصراً إلى غير ذلك، وهي من أهم آلات الحرب.
وفي هذا الحديث: الاستعانة في أداة الحرب بالعارية مع قوله سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] ، ما يدل على أن استعداد المسلمين يكون بصنعهم وبملكهم وبالاستعارة من غيرهم، ومثل الإعارة الإجارة، ومثل الإجارة الشراء ولو من غير المسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم أرسل إلى يعلى وقال له: (أعط رسلي ثلاثين درعاً) .
وهنا يستوضح يعلى: (أعارية مؤداة أم عارية مضمونة؟) ، المؤداة هي: التي تبقى بعد استعمالها على ما كانت عليه فيؤديها للمعير، والمضمونة هي: التي إذا تلفت -وتحت كلمة تلفت ضع خطين- تلفت فيما استعيرت له أو تلفت بتعدٍ أو تقصير يضمنها المستعير، فقال له صلى الله عليه وسلم: (بل عارية مؤداة) .
وقوله: (مؤادة) ، الفقهاء يتفقون ويقولون: إذا كانت العارية مؤداة فالتالف لا ضمان فيه، بخلاف العارية المضمونة، فما بقي على طبيعته رده بعينه وما تلف فيما استعير له أو بتعدٍ أو بتفريط فهو ضامن، وقوله: (مضمونة) يعني: يعوض عن التالف إن كان مثلياً فبمثله، وهذه الأدرع إذا تلفت فعليه أدرع مثلها من نوعها ومن مقاسها، وإن كان في الوقت الحاضر فهناك أواني معروفة الماركة، أو المساحة، أو المقياس، فعليه مثلها.
وهذا الحديث نص في أن العارية مؤداة.
ومعنى مؤداة: أن العين الباقية على ما هي عليه أولاً ترد، والتالفة لا ترد، ولا ضمان فيها، وفي حديث صفوان: (بل عارية مضمونة) وهذا من تعارض الأحاديث، وهي مهمة هذا الكتاب، بلوغ المرام لأدلة الأحكام.
فالفقهاء مختلفون في العارية هل هي مؤداة أو مضمونة؟ فمن قال: مؤداة استدل بحديث يعلى.
ومن قال: العارية مضمونة استدل بحديث صفوان.
إذاًَ: إذا وقع الخلاف في الحديث وأخذ كل إمام برواية أو بحديث مغاير للآخر وكلا الحديثين صحيحان فهل يمكن أن يعيب من قال بأحد القولين على من قال بالقول الآخر؟ مثلما يقول الشناقطة: (ما بال بائك تجر وبائي لا تجر) فلا تعب عليَّ وأنا آخذ بحديث صحيح، كما أني لم أعب عليك حينما أخذت بحديث صحيح، فكلانا مستدل بدليل شرعي، ولكن هناك خطوة أرقى وهي: النظر في مختلف الحديث إلى ما هو الراجح وهل المسألة اتفاقية؟ وهل كل من الطرفين متساوٍ مع الآخر؟ وهناك أشياء قال فيها ابن القيم رحمه الله: لا اعتراض على أحد إذا أخذ بأحد الأقوال فيها لصحة أسانيدها، وهي: ألفاظ الأذان، والصوم في السفر أو الفطر، والتيمم ضربتان أو ضربة واحدة، فالأذان هل يربع ويرجع فيه أم لا؟ وهل الإقامة مثل الأذان أم لا؟ ومن أخذ بتربيع التكبير أو بتثنيته وجعل الإقامة كالأذان أو أفردها فالكل صحيح، ومثل هذا أنواع المناسك في الحج: فمن أخذ بأحدها: أخذ بالإفراد، أو أخذ بالتمتع، أو أخذ بالقران فنسكه صحيح؛ لأن كل نسك فيه نصوص صحيحة، ولا ينبغي الخلاف فيها ولا الاعتراض على من خالف غيره؛ لأنه إن ذهب إلى واحد منها فبدليل صحيح والآخر إن ذهب إلى غيره فبدليل صحيح، فلا خلاف، وهذه المسألة قد أطالوا فيها القول.
ونأخذ الكلام على حديث صفوان أولاً: عن موضوعه، ثم نرجع إلى القضية من صلبها لا من خارج عنها إن شاء الله.
وصفوان يقول هذا بعد فتح مكة وكان صفوان لا زال على دين قومه، وكان هذا في غزوة حنين في عام الفتح، عند أن بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن هوازن قد جمعت له، فبادرها قبل أن تبادره؛ لأنه كان يعلم قوة هوازن، وكان قد خرج معه من المدينة عشرة آلاف مقاتل وتهيأ معه من مكة ألفان فصاروا اثني عشر ألفاً والعشرة الذين جاءوا من المدينة جاءوا بسلاحهم وبكامل عدتهم، وأما الذين جاءوا معه من مكة فالبعض منهم ينقصه شيء؛ لأن البعض خرج لإسلامه، والبعض خرج حمية لقومه، والبعض خرج للنظر وللغنيمة.
فاحتاج النبي صلى الله عليه وسلم دروعاً لهذا العدد الجديد، وهو يعلم أن صفوان عنده دروع عديدة، فأتاه وسأله، وصفوان ما زال على دين قومه لم يسلم حتى قيل: إنه هرب ثم رجع، فطلب منه مائتي درع، وقيل ثمانين، وقيل: مائة، وقال له: (وتوصلها إلينا إلى حنين) ، أي: أعرنا إياها وعليك حملها تبرعاً من عندك، وهنا سأل كما سأل يعلى: هذه العارية على أي أساس على أنها مضمونة أو على أنها مؤداة؟ فكان جواب رسول الله لـ صفوان: (بل مضمونة) .(212/9)
حكم الاستعانة بالكافر
وهنا قبل أن نأتي إلى الدروع نأتي إلى ما هو أهم من ذلك، صفوان لا زال على دين قومه مشركاً، والرسول صلى الله عليه وسلم يقاتل مشركين، فيأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويستعين بـ صفوان ويستعير منه أدرعاً وصفوان ما زال مشركاً، فهل في هذه الاستعارة استعانة أو لا؟ الجواب: نعم، فيها استعانة، وهي استعانة بمشرك.
إذاً: نقف هنا ونقول بكل وضوح إلى أنه لا مانع للمسلم إن احتاج أن يستعين بغير المسلم على عدو دينه سواءً كان العدو مشركاً أو كتابياً أو غير ذلك، وهذه المسألة كنا قد سمعنا فيها سابقاً كلاماً كثيراً وما أحببنا الخوض فيها ولا الوقوف عليها أو تناولها.
واستدل بعض الناس بحديث: (ارجع فإنا لا نستعين بمشرك) وكتبت الصحف في ذلك وتكلم الناس واستدلوا بما ذكرنا بحديث الرجل الذي أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالروحاء وقال: (خرجت أقاتل معك -حمية لقومه- وأرجو الغنيمة، فقال له: أسلمت؟ قال: لا، قال: ارجع لا نستعين بمشرك) ، ثم رجع إليه وفي المرة الثالثة (قال: نعم، أسلمت، قال: فامض إذاً) فهناك يقول: (لا نستعين بمشرك) وهنا يستعير من مشرك، والناس لهم في هذا نظران: قالوا: إن غزوة بدر كانت في السنة الثانية فقال: (لا نستعين بمشرك) من أجل ترسيخ العقيدة، ووضع خط الفصل بين الإيمان والشرك، وعزل المؤمنين عن المشركين واستقلالهم بذاتهم وتميزهم، وأما في حنين فقد تميز الإسلام بذاته، وأصبحت له خصوصيته ومكانته ودولته فلا يضره بعد ذلك مخالطة المشركين.
وبعضهم يقول: ما كان في بدر فهو في السنة الثانية وما كان في حنين فهو في السنة الثامنة والمتأخر ناسخ للمتقدم، ووالدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه بحث هذه المسألة في أضواء البيان وذكر فيها أقولاً عديدة، ورجح جواز الاستعانة بغير المسلم ما لم يكن في ذلك حيف أو مضرة على الإسلام أو المسلمين.
وفي قصة الهجرة التي هي من أخطر أحداث الإسلام كان الصديق رضي الله تعالى عنه حينما كان مع رسول الله ذاهبين ليلاً من البيت إلى الغار فكان يمشي تارةً خلفه وتارةً أمامه وتارةً عن يمينه وتارةً عن يساره فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بالك يا أبا بكر؟! قال: يا رسول الله! أتذكر الرصد فأكون أمامك، وأتذكر الطلب فأكون وراءك، قال: أوددت لو كان شيء أن يكون فيك أنت؟ قال: نعم، يا رسول الله! إن أهلك أهلك وحدي أما أنت فمعك الرسالة) ، فهذه مخاطرة في الخروج في الهجرة في كونه يشق مواقع ومنازل القبائل المعادية ويخاطر أمام فداء بمائة ناقة لمن أتى به حياً أو ميتاً، ولكن عناية الله هي التي كانت ترعاه.
فهنا حدث الهجرة من أخطر أحداث الإسلام ولهذا لما فكر عمر بنظره الثاقب ونوره الإيماني بوضع التاريخ اعتبر الهجرة هي بداية التاريخ؛ لأن بها انتقل الإسلام من المطاردة إلى المهاجمة، ومع هذه الخطر كان دليل الركب في الهجرة عبد الله بن أريقط.
وعبد الله بن أريقط كان على دين قومه ومع كونه على دين قومه كانوا يأتمنونه على أرواحهم ورواحلهم وزادهم وأسرارهم، وتواعدوا معه عند الغار بعد ثلاث؛ لأن عنده المروءة، والرجولة، والصدق، والوفاء، وهذه جعلته يتعالى فوق الماديات، فضحى بنفسه، وما ذهب يقول للمشركين: تعالوا أنا أدلكم عليهما وأعطوني المائة حتى تكون غنيمة لي طول عمري؛ ولكن هذه المائة لا قيمة لها في الغدر، ففي هذه القصة استعانة بمشرك في أخطر وقائع الإسلام.
نأتي أيضاً إلى تعامل الرسول في المدينة مع اليهود فقد كان يعاملهم ويبيع ويشري منهم، وفي نهاية الأمر كان درعه مرهوناً عندي يهودي في ثلاثين صاعاً من طعام، فبالنظر إلى قضية صفوان نهدئ ما في ثائرة نفوس بعض الإخوة في قضية (لا نستعين بمشرك) ويمكن الاستدلال أيضاً من نفس الواقعة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يوم خرج إلى بدر هل خرج لقتال جيش أو لأخذ عير؟ الجواب: خرج لأخذ عير، يعني: أنه في غنىً عن أن يستعين بمشرك، ولا توجد حاجة داعية لهذه الاستعانة، لكن إذا كانت الحاجة داعية فسيتغير الموقف ويتغير الحكم، فلو قلنا: إنه رده في بادئ الأمر ليتميز الإسلام عن غيره بخط واضح عريض فلا بأس بهذا القول، وإن قلنا إنه رده كما يقول بعض العلماء: لعلم رسول الله بما أعلمه الله أنه إذا رده يسلم فيكون رده لا لكونه مشركاً ولكن بغية أن يسلم، ولكن هذا الشيء نحن لا ندخل فيه؛ لأنه خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، والأعمال التشريعية هي للأمة وهو ما عنده علم بأنه سيسلم أو لا يسلم.
لكن إذا قلنا: بأن الواقعة التي توجه إليها صلى الله عليه وسلم في نظره وفي تقديره وفي حكم القوة والعسكرية كما يقال، تدل على أنه ليس في حاجة إلى عدد كثير؛ لأنه عند خروجه من المدينة قال: (من كان ظهره حاضراً فليركب) واستمهلوه أن يأتوا برواحلهم من العوالي، فقال: ما أنا بمنتظر، فإذا كان ما هو بمنتظر للمسلمين فهل يبقى في حاجة إلى أن يأخذ مشركاً؟! وأما هنا فالموقف مغاير؛ لأن هوازن ذات شوكة، ونحن نعلم ماذا حدث حينما بادروهم بالنبل عند نزولهم الوادي فرجعوا حتى نادى رسول الله العباس وأمره أن ينادي أصحاب الشجرة -أهل بيعة الرضوان- وأهل العقبة فناداهم فرجعوا والتفوا حوله وكان النصر، فلم تغن عنهم كثرتهم في ذلك اليوم.
إذاً: هو كان في حاجة إلى عدد أكثر، وفي حاجة إلى عتاد يوازي أو يغطي حاجة العدد الجديد الذي خرج معه من مكة.
إذاً: نحن في الوقت الحاضر قد تطرأ على المسلمين أحداث، ويكون عدوهم أكثر منهم عتاداً وعدة ورجالاً، ونجد من غير المسلمين من يمد المسلمين بالإعارة أو بالإجارة أو بالهبة أو بأي صفة كانت، فهل نتوقف عن هذه الإعارة أو الإجارة ونترك العدو يتمكن منا أو نقبل عارية المشرك أو حتى ما وراء الآلة؟ الجواب: أننا نقبل، وقد ذكرت لكم كلمة الملك فيصل رحمه الله في هيئة الأمم، عند أن استحكم المعسكر الشيوعي وبدأت المملكة في مبدأ تنويع مصادر السلاح؛ لأن وحدة مصدر السلاح خطر على الأمة؛ لأن الأمة تكون تحت رحمة مصدر سلاح واحد، وأنتم تعلمون أن في حرب العبور بعض الدول سحبت طيرانها من المعركة، فلو كان الاعتماد على جهة واحدة لوقفنا، وروسيا بالذات امتنعت أن تقدم قطع الغيار لطيرانها الموجود في مصر إلا بدفع القيمة نقداً وبالعملة الصعبة، ومصر في ذلك الوقت ليس عندها عملة صعبة ولا سهلة؛ لأنها في حرب، خرجت من ثلاثة حروب، فكيف يكون الحال؟! واعتقد أن هذا ليس بسر؛ لأنهم يقولون: أخبار الحروب بعد خمس عشر سنة لم تعد سراً، فالملك فيصل سجل أعظم موقف في الحروب وفي التاريخ، فلما أخبره السادات بالموقف استشار الملك فيصل مستشاريه الماليين فقالوا: ما عندك مال، فقال: بل عندي، فقالوا: نحن المختصين بالمال نعرف أنه ليس عندك، وأنت تقول: عندي، فمن أين؟ قال: من رصيد الريال في البنك الدولي، فالريال كان ضمانه كاد أن يصل إلى مائتين في المائة ويصير من العملة الصعبة، فأخذ من رصيده شيكاً مفتوحاً ودفع للسادات ما دفعه لروسيا قيمة قطع الغيار واستمرت الحرب.
وهنا أخذ الملك فيصل في ذاك الوقت سلاحاً من روسيا شراءً، فقالوا له: أنتم دولة إسلامية وتحاربون الشيوعيين ثم تشترون منهم سلاحاً! فقال: أنتم امتنعتم أن تبيعوا لنا ونحن اشترينا منهم حديداً مصنعاً وليس مبادئاً شيوعية، أي: أن الذي اشتريناه هو حديد مصنع ليس فيه مبادئ شيوعية، والمدفع الروسي والمدفع الأمريكي كلاهما حديد مصنع وليس بينهما فرق.
يهمنا أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم واستعارته الدروع من صفوان وهو على دين قومه مبدأ من مبادئ الحروب مع العدو إذا احتاجت الأمة من غيرها عتاداً عارية أو شراءً أو استئجاراً.(212/10)
لماذا استعار النبي صلى الله عليه وسلم من صفوان عارية مضمونة ومن يعلى عارية مؤداة؟
وهنا ننظر في جوبه صلى الله عليه وسلم وموقفه من إعارة دروع صفوان وإعارة دروع يعلى له، فهذه دروع وهذه دروع، وهذه إعارة وهذه إعارة، لكن واحداً منهم يقول له: (مؤداة) والثاني يقول له: (مضمونة) .
فهل نستطيع أن نتوسع ونقول -ما وجدت من نبه على هذه- إن الذي قال له: (مؤداة) هو مسلم صحابي جليل ومن واجبه أن يساهم في القتال والجهاد بنفسه وماله، فإذا كانت عنده دروع واحتاجها المسلمون فالواجب عليه أن يقدمها؟ وهنا يقول: هي لكم يا رسول الله! لأنه مسلم وهو مطالب بالجهاد، وقد توفرت عنده آلة قتال، وطلب منه الرسول إعارتها، فلا أقل من أن يعيرها ولكن بأخف الأمرين: (مؤداة) ؛ لأنها إذا تلف منها شيء فالرسول هو الذي استعارها، وهو استعار هذه الدروع للقتال، وهذا القتال هو في سبيل الله، فكيف يغرمهم ما أتلفوه في سبيل الله وهو مسلم، بل الواجب عليه أن يقاتل ويساهم.
إذاً: هذا واجب، ويشهد الله أن نفسي مستريحة له، لكن صفوان لو قال: لا أعيرك يا محمد! فله الحق؛ لأن هذا ماله، وهو على غير دين الإسلام، وسيقاتل بها النبي صلى الله عليه وسلم بني دينه، فلو قال: لن أعطيكم، فما بقي إلا الغصب، وما بقي إلا أن يقال: محمد يغتصب، ومحمد يسلب أموال الناس وغيرها من ألفاظ التشنيع، لكن يقابل موافقته وهو مشرك أن يعير المسلمين أدرعه ليستعينوا بها على قتال أهل دينه فهذا منه كافٍ جداً، وتلفها في الحرب ليس على صفوان منه شيء، سواء انتصروا أم انهزموا.
إذاً: من حق صفوان أن تكون عاريته مضمونة.
إذاً: على هذا لا خلاف ولا نزاع ولا ينبغي أن ينصب الخلاف في العارية هل هي مضمونة أو مؤداة، فلكل عارية ظروفها.
ولذا فإن من الفقهاء من توسط وقال: مضمونة إن اشترط ضمانها، وبعضهم يقول: ليست مضمونة ولو اشترط الضمان، وعبارة ابن قدامة في المغني: والعارية مضمونة وإن شُرط عدم ضمانها.
أي: هي بذاتها مضمونة.
ثم نرجع إلى صلب الموضوع، ما الذي جعل كلاً من الأول والثاني يتساءل هل هي مضمونة أو مؤداة؟ ألا يوحي هذا التساؤل إلى أن تعاملهم في العارية كان بحسب الشرط؟ الجواب: يوحي إلى أنه كان فيها قبل ذلك أحكام صادرة، وإلا لما سألوا، فلو كانت مؤداة قولاً واحداً والعرف عندهم فيها الأداء فليس هناك حاجة إلى أن يسألوا، وإن كانت مضمونة والعرف عندهم فيها الضمان فليس هناك حاجة إلى أن يسألوا؛ لأن العرف محكم، لكن أظن -والله تعالى أعلم- أنهم فيما بينهم كانت العارية عندهم على الأمرين، أي: بحسب الشرط، فإن اشترط ضمانها فهي مضمونة وإن لم يشترط ضمانها فهي مؤداة.
إذاًَ: نستطيع أن نجمل القول في العارية حتى ندخل في الباب الذي بعد هذا وهو باب الغصب؛ لأن مباحثه واسعة، وحتى لا يفوت علينا مثل الذي فات في موضوع العارية نقول: العارية من حيث الضمان وعدم الضمان مندوب إليها، فإذا استعرت شيئاً من حق أخيك المسلم فعليك أن ترفق به وأن ترده، والعارية هي كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: (أنها من حق المال) ، فالإبل يعار فحلها ودلوها ومنيحتها وحلبها على الماء إلى غير ذلك، ومدلول يمنعون الماعون كما فسره ابن عباس القدر والقدوم والميزان إلى آخره.
فإذا كان مندوباً إليها فلا ينبغي أن تمنع أخاك شيئاً ينتفع به ولا مضرة عليك بذلك، ولكونها مندوبة يجب ردها في أي وقت طلبها صاحبها؛ لأنها في يد المستعير أمانة، ولكن يقولون: إلا إذا كان عند طلبه إياها يترتب على ردها مضرة للمستعير، ويمثلون على ذلك بلوح خشب فيما لو استعاره ووضعه في السفينة فجاء صاحبه في نصف البحر وقال: أعطني اللوح حقي، فلو أعطاه فسيغرق وينزل إلى قاع البحر، فلا يمكن أن يرد اللوح في هذا الوقت، بل على صاحبه أن يصبر حتى يخرج المستعير إلى البر ويخلع له لوحه ويعطيه إياه، وكذلك لو استعار سيارة من إنسان من المدينة النبوية إلى جدة وفي نصف الطريق قال له: أعطني سيارتي، فقال المستعير: وأنا أين أذهب؛ لأنه مقطوع ما عنده سيارة أخرى.
إذاً: عليه أن يردها، حين طلبها المعير ما لم يكن في ردها مضرة على المستعير.(212/11)
حكم إعارة العارية وتأجيرها
وحكم رد العارية لصاحبها، فالكلام كله ينحصر في جزئية وهي: فيما إذا تلفت العين المعارة، وإذا لم تتلف، فإذا أخذها وانتفع بها ثم جاء بها وقال: جزاك الله خيراً، بارك الله لك في عين مالك، فهنا انتهت المسألة، لكن إذا تلفت في يد المستعير فهنا الخلاف، وإذا كانت في يد المستعير فليس له أن يعيرها، إلا ما جاء عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: له حق في أن يعيرها، والجمهور يقولون: ليس له حق في ذلك؛ لأن المعير ائتمن المستعير بذاته وأما غيره فلم يأذن له أن يعطيه، واتفقوا على أنه لا يؤجرها، فلو قال: أعرني إياها يومين، فقضى حاجته في يوم وأجرها في اليوم الثاني، فلا يحق له ذلك، وإن تلفت في يد المستعير الثاني أو المستأجر فصاحبها بالخيار إن شاء ضمن المستعير الثاني؛ لأنه لم يأذن له، وإن شاء ضمن المستأجر، وإذا ضمن المستأجر الذي كان قد استأجرها على أنها للمستعير ودفع له الأجرة فإنه يرجع على من أجرها عليه؛ لأنه أجر ما لا يملك.
فإن تلفت تحت يده نظرنا: هل تلفت في استعمالها فيما استعيرت له أو خارجاً عنه، وقد نبهنا على قول الفقهاء: إن تلفت فيما استعيرت له بغير تعدٍ ولا تفريط فهنا محل البحث: هل يضمن أو لا يضمن، فإن كان استعارها لشيء فتعدى حدود الشيء المستعارة له إليه أو فرط في العين حين استعمالها فتعديه وتفريطه يقتضي الضمان، ولهذا كانت القاعدة في قانون الجنايات أن المسئولية تترتب على التعدي أو التفريط، هذا مناط المسئولية في الجنايات.
فكذلك هنا، إذا استعارها إلى مسافة فتجاوزها، أو استعارها إلى نوع من العمل فتعدى إلى عمل آخر أو إلى نفس العمل ولكن تجاوز الحد.
مثلاً: استعارها لينقل عليها أسمنت وحمولتها طن فذهب وحمل عليها طنين، فهذه استعيرت له ولكنه ليس في حدود طاقتها، فهو بهذا قد تجاوز وتعدى.
وكذلك إذا تلف من العارية جزء يؤثر على المنفعة بباقيها فالحكم كما هو في تلف عين العارية فما استعملت له أو فيما استعيرت له بتعدٍ أو بتفريط فيكون الضمان في الجزء المفقود.
والله تعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(212/12)
كتاب البيوع - باب الغصب [1]
لقد عظم الشرع الوعيد لمن اغتصب أرض غيره، حتى ولو كان الجزء المغتصب شبراً أو جزاءً من شبر، وللغصب مسائل وأحكام يذكرها العلماء في كتب الفقه.(213/1)
شرح حديث: (من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً ... )
[وعن سعيد بن زيد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرضين) متفق عليه] .(213/2)
شمول الحديث لكل أرض صغرت أو كبرت
قوله: (من اغتصب شبراً) وفي بعض الروايات: (شيئاً) ؛ لأن التقدير بالشبر في الأرض شيء ليس له أهمية، كما لو كان شبراً في ذرع قماش، أو شبراً في بيت مبني، عندها تكون قيمته كبيرة، فعندما تكون أرضاً في الخلاء ويكون الفارق شبر أو شبرين أو متر أو مترين فالمسألة هينة، ولكن أقل التقديرات عندهم الأصبع والشبر، فإذا كان الوعيد الشديد في الشبر فالذراع والباع من باب أولى، ولكون الشبر ليس له مفهوم، وقد جاءت الرواية الأخرى بـ: (من اغتصب شيئاً) ، ولو قدر إصبع؛ لأنه الغرض النهي عن الغصب بصرف النظر عن القليل والكثير الأرض فلاة متسعة، لكن كونك تغتصب من حق أخيك فهذه هي الجناية.
وهذا وعيد شديد ينبغي على جميع أهل البساتين والأراضي وأصحاب المخططات، الذين يتعاطون العقارات أن يحفظوا هذا الحديث؛ ليتحروا الحق فلا يتجاوزه، ومما يروى في ذلك: أن امرأة كانت جارة لـ سعد بن أبي وقاص، فجاءت واشكته إلى الأمير وادعت أنه اغتصب شيئاً من أرضها.
فقال: معاذ الله! أنا أغتصب من أرضها وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من اغتصب من الأرض شبراً طوقه من سبع أرضين) ، فزجرت عن ذلك، ثم قال: اللهم إن كانت كاذبة فاعم بصرها، واجعل ميتتها في أرضها.
ففي آخر عمرها -عياذاً بالله- كف بصرها، ولما كانت تمشي في أرضها سقطت في بئر من آبارها وماتت فيها، ثم بعد ذلك جاءت السيول وكشفت عن الظفير الذي بينها وبين سعد، فإذا بالظفير بعيد عن أرض سعد، وإنما هي التي دخلت في أرض سعد، والظفير مدفون في أرضها هي.(213/3)
ما يقع عليه الغصب
في هذا الحديث زجر ووعيد شديد لمن تجاوز حده، واستدل به الجمهور على إمكانية غصب العقار الثابت، خلافاً للإمام أبي حنيفة رحمه الله فهو يقول: الغصب يكون في المنقولات فقط: بهيمة الأنعام، الأثاث، المطعومات، الملبوسات، الشيء الذي ينتقل من مكانه ويحوله الغاصب من مكان إلى مكان، أما العقار الثابت في محله فليس فيه غصب.
والجمهور يقولون: قوله: (شبراً من الأرض) يدل على أنه يريد الأرض وهي عقار وعقار ثابت (طوقه من سبع أرضين) .
إذاً: كل ممتلك يستولي عليه الغير بالقوة؛ فهذا يصدق عليه الغصب، وله أحكام في ضمانه، وعلى الغاصب ما يقع نتيجة لذلك من الشحناء والبغضاء والتقاطع بين المسلمين، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) ، فكيف يتولى هو الظلم بنفسه؟!(213/4)
معنى التطويق في الحديث واختلاف العلماء في كيفيته
في هذا الحديث جانب من الجوانب حير العلماء، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (طوقه) والتطويق من الطوق، وهل الطوق هو الآلة التي تجعل في العنق كسلك أو سلسلة أو شيء من هذا مادي، أو أنه الطوق من الطاقة: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطَّوقُونَهُ} [البقرة:184] ؟ وهذا على قراءة عن علي رضي الله تعالى عنه في أمر الصوم.
أي: يفعلونه مع كلفة ومشقة إلى أقصى غاية الطاقة عندهم، والطاقة: القوة.
تقول: الطاقة الحرارية التي تدفع الآلة أو الجهاز أو الأشياء.
المشكلة عند (سبع أراضين) ، فبعضهم يقول: هذا على الحقيقة: أن هذا الشبر يكلف بحمله تراباً إلى المحشر، ثم يكون في عنقه كالطوق، وفي بعض الروايات الأخرى: (خسف به إلى منتهى سبع أراضين) وحينما يخسف به إلى أسفل يكون ما حوله من الأرض كالطوق في عنقه؛ لأنه مطوق لعنقه.(213/5)
بحث في عدد طبقات الأرض
وهذا البحث من مباحث الجيولوجيا -كما يقولون- أو طبقات الأرض أو نوعيتها، وهل الأرضون سبع أو واحدة؟ والمشكلة قائمة من السابق، ويذكر بعض العلماء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنه سئل عن سبع أرضين، فقال: (لو حدثتكم بها لكفرتم) .
أي: لا تستطيعون تصديق ذلك فتنكروه فتكفرون، ولكن الأثر ضعيف.
إن الله سبحانه وتعالى ذكر السماوات سبعاً بالعدد، فذكرها بلفظ مفرد وذكر السماء بلفظ الجمع، أما الأرض فلم تأت مجموعة في كتاب الله قط، وسمعت من والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: إن الله سبحانه وتعالى جمع السماوات؛ لأن هذا الجمع سائغ، أما الأرض فجمعها شاذ، وكما يقول ابن مالك في الألفية: وأرضون شذ والسنون.
عندما تجمع الأرض وتقول: أرضون، هذا جمع شاذ، وكذلك، والسنون جمع شاذ، تقول: سنوات، سنين، أما سنون في حالة الرفع فهذا شاذ، والقرآن يتجنب الشاذ.
وقد شهدت مناظرة في هذا المسجد من شخص يدير معهداً في علوم ما مع والدنا الشيخ الأمين، وذلك حينما تعرض الشيخ لهذه القضية في الجمع والإفراد؛ فتجرأ وقال: يا شيخ! الناس ذهبت إلى الفضاء وإلى كذا وكذا في مراكب، ونحن الآن في جمع شاذ وجمع غير شاذ! فتضجر الشيخ قليلاً من هذا الكلام، واستأذنت الشيخ أن أتفاهم معه، وأذن للعشاء، وبعد العشاء كان هناك حديث طويل لا حاجة إلى إيراده في هذا الجمع الآن، لكن يهمنا أنهم كانوا ولا زالوا حتى الآن -وللأسف كل الأسف! - في هذه المسألة وفي هذا الحديث كتبهم من أغرب كتب التفسير، وعندما أقف على تفسير جديد محدث صاحبه له شهرته، وله قدرته في البلاغة واللغة، تزل قدمه في هذا الموضوع علماء الهيئة يقولون: إن السماء قبة زرقاء هوائية، وهو يعبر في تفسيره عن الكرة الهوائية، ويفسر السماوات السبع بالكواكب السيارة، وهو ما ذكره صاحبنا في قضيته مع الشيخ من حوالي عشرين سنة؛ لأنهم يتخيلون أن ليس هناك جرم سماء، وإنما الذي نراه من الزرقة من بعد المسافة، وأنها طبقات هوائية، وهذا المؤسف إذا كنا نسمعه من أشخاص درسوا الماديات على غير المسلمين، ثم تكلموا بها، فيمكن للعاقل أن يعذرهم، فهذا حدهم، ولكن عالم من علماء المسلمين، ويكتب التفسير من كذا جزء، ويقول عن السماء: الكرة الهوائية القائمة على الأثير، وكونها سبع إنما هي الكواكب السيارة السبعة! والله ذكر: {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق:12] ، فجاء العلماء وقالوا: الأرض مثلهن في ماذا؟ في ارتفاعها؟ لا.
في مساحتها؟ لا.
الأرض بالنسبة إلى السماء كنقطة حبر في قطعة ورقة مساحتها كيلو في كيلو، والسماء على الأرض كالقبة كما جاء في حديث ابن عباس، السماء الأولى على الأرض كالقبة، والثانية فوقها كالعقبة، وهكذا سبع سماوات، وسمك السماء في ذاتها مسيرة خمسمائة عام، {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ} [الذاريات:47] ، أي: بقوة، وهذا لا يقال في الهواء، وفي حديث الإسراء حينما عرج جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء الدنيا فطرق الباب، فقيل: من؟ قال: جبريل.
أمعك أحد؟ قال: معي محمد.
أو أرسل إليه؟ قال: بلى.
فيفتح الباب، هل هذا في هواء؟! نأتي إلى الأرض التي نحن نعيش فيها، فهناك من يقول: سبع أرضين كل واحدة منفصلة عن الثانية إلى سبع، وبين كل أرض وأرض فضاء، وذكروا أشياء وأخباراً، حتى أن البعض عزاها لمن سمع من الإسرائيليات، ومنهم من يقول: كل أرض فيها آدم كآدمكم، وإبراهيم كإبراهيمكم، وكعبة ككعبتكم، و.
و.
إلى شيء كثير جداً.
والتحقيق عندهم: أن عدد الأرضين سبع متلاصقة وليست منفصلة، وتجدون البحث في هذا عند قوله: {كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء:30] ، فمن يقول: {كَانَتَا رَتْقًا} ، الرتق: المرتبط، والفك الفتح، والسماء كانت رتقاً مع الأرض ففصلت السماء على حدة والأرض على حدة، وبعضهم يقول: السماء كانت رتقاً ففتقها سبعاً، والأرض كانت رتقاً ففتقها سبعاً.
والآخرون يقولون: إن فتق السماء بإنزال المطر، وفتق الأرض بتشققها للنبات، كانت الأرض رتقاً صماً، فالله سبحانه وتعالى فتقها لإنبات النبات: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا} [عبس:27-28] ، إلى آخر الآيات الكريمة.
وبعض المحققين يقول: في هذا الحديث إشعار بأن الأرض على تقدير أنها سبع أرضين متلاصقة.
وبعضهم يقول: كقشر البصل كل واحدة فوق الثانية، وبعضهم يقول: إن الأرضين السبع هي القارات اليابسة مع الماء، ونسبة اليابس مع الماء مع الأرض الربع، وثلاثة الأرباع ماء، المحيطات وهو بحر واحد، وإن كانوا يسمونها البحر الأحمر، البحر الأبيض، المحيط الأطلسي، المحيط الأطلنطي، المحيط الهادئ، ولكن عند التحقيق فكلها بحر واحد: {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} [لقمان:27] ، البحر واحد في الأرض، لكن تتغير الأسماء بموقعه.
والآن ماذا يقول السادة المشايخ بعد مجيء مراكب الفضاء، وبعد الدوران حول الأرض عدة مرات؟ هل هناك أرضين تحت الدورة هذه؟ وتعاقب الليل والنهار مع الشمس بحركة الأرض أو بحركة الشمس ليس لنا علاقة بهذه المعركة؛ فما تعامد مع الشمس فهو نهار، وما تعاقب دونها فهو ليل، فهل الأرضون السبع لها سماوات سبع ولها سبع شموس؟ أقول: إن هذه النقطة بالذات شغلت العلماء، وأوجدت تلك الأقوال والأفكار، ونحن نقول: يقول الله سبحانه: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} [الكهف:51] ، وجاء الحديث: (ولم تدرك عقولنا كنهها) .
إذاً: ما لم يشهدنا كيف خلق الأرض، نقول: آمنا بالله، وبما جاء عن الله على مراد رسول الله، وآمنا برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله، أما كونها سبع أرضين بعضها منطبق على بعض؛ فالذين درسوا قليلاً من الجغرافيا يعلمون أن جوف الأرض منصهر، وأن البراكين التي تظهر ما هي إلا من انصهار المعادن والأجرام التي في باطن الأرض وتتموج، وإذا وجدت ضعفاً في قشرة الأرض الخارجية خرج البركان حمماً يسيل مثل الماء.
إذاً: باطن الأرض الله أعلم به، ويكفي -كما يقولون- في أحاديث الوعيد أن تمرر كما جاءت، ولا يفصل فيها، وهذا اللفظ بذاته يكفي لزجر وإرعاب من تسول له نفسه بالاغتصاب.
والله تعالى أعلم.(213/6)
أحكام ومواعظ من بيت النبوة
قال المصنف رحمه الله: [وعن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم لها بقصعة فيها طعام، فضربت بيدها فكسرت القصعة، فضمها وجعل فيها الطعام، وقال: كلوا.
ودفع القصعة الصحيحة للرسول، وحبس المكسور) رواه البخاري والترمذي، وسمى الضاربة عائشة رضي الله عنها، وزاد: (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: طعام بطعام، وإناء بإناء) ] .(213/7)
حسن عشرة النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه
وهنا زيادة بيان من واقع حياة النبي صلى الله عليه وسلم في بيته، وهذا واجب؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل رسوله أباً وزوجاً ويمشي في الأسواق، ويبيع ويشتري ويرهن، وكل ما هو من حاجات البشر كان يصنعه؛ ليكون أسوة للناس، ولاسيما في بيت النبوة الطاهر حينما تقع الحوادث، وتجري الأمور على سنن البشر كيف لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعالجها؟ لقد شاهدنا من عظماء الرجال إذا كانت عنده ثلاث نسوة أو أربع يحتاج إلى إدارة معونة على سياسة تلك الأخرى، وهذا صلى الله عليه وسلم له تسع نسوة، مع الفارق في النوعية؛ لأن زوجات رسول الله أمهات المؤمنين لسن كبقية الناس، فهن يتميزن بحسن السمع والطاعة، وخالص الحب والوفاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقبل ذلك أريد التنبيه على موضوع قد التبس على بعض الإخوة من قبل، ولعلاقته بالعقائد وآيات الصفات، وأحب أن يصحح أولئك الإخوة مفاهيمهم: حينما ذكرنا موضوع السماء، وأنها سبع سماوات ومن الأرض مثلهن، وإثبات أن السماء جرم من النصوص كقوله سبحانه: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ} [الذاريات:47] ، وقلنا: (بأيد) يعني: بقوة، ولكون اللفظ (أيد) يحتمل جمع يد ويحتمل القوة، فبعض الناس يظن أن ذلك جمع يد، وأنه من الصفات لا، فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ} [ص:17] وهل كان عليه السلام عنده مجموعة من الأيدي أو يدان فقط؟ اثنان فقط.
إذاً: الأيد: أي: القوة.
القاعدة: أن كل ما جاء في كتاب الله فيما يتعلق بصفات المولى عز وجل على ما يريد، إنما يأتي مضافاً إليه، كقوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] ، فهذا يكون بالإضافة إلى الله سبحانه وتعالى، فهو من باب الصفات، ومجرى آيات الصفات على ما عليه سلف الأمة، آمنا بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وليس هذا موضوع تحقيق ما يتعلق بالعقيدة، ولكنه تصحيح لمفاهيم بعض الإخوة الذي ظن بالاشتراك باللفظ بين جمع يد وبين القوة، فهي هنا: ((بنيناها بأيد)) بقوة، وهو المناسب أيضاً لبناء السماء، هذا الجرم العظيم، مسيرة خمسمائة عام سمكها، وسقف المسجد ربما كان سمكه خمسين سنتيمتر، أقل من المتر، وهذه مسيرة خمسمائة عام! أين موقع العقل في مثل هذا؟!(213/8)
اهتمام السلف بالسيرة النبوية
إن دراسة حياة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه في شخصه، في بيته، في مجلسه، في طعامه وشرابه ولباسه واجب على كل مسلم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ} [الأحزاب:21] ، وكيف تتأسى بمن تجهل حياته وأحواله؟ إذاً: يتعين على كل مسلم أن يعلم كل الجوانب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقديماً قلت: إن شخصية رسول الله في ذاته من شعره إلى أظفاره، وحياته وسلوكه معجزة في ذاته، ولو لم تجرِ على يده المعجزات من تكثير الطعام، ونبع الماء من بين الأصابع، ومجيء الشجر إليه، ومناجاة البعير له.
إلخ، إذا لم تأت ولا آية من هذه الآيات لكانت شخصية رسول الله معجزة في ذاتها؛ لأنه بشر، نعرف أبويه ومتى ولد ونسبه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة:128] ، قال ابن عباس: أي تعرفون مولده ونشأته وحياته.
ليس بغريب عليكم، وكان يذكر ابن فرحون -في كتاب له مخطوط إلى الآن في المسجد النبوي- في القرن السابع الهجري، قال: كان العلماء في المسجد النبوي إذا دخل شهر رمضان ترك كل إنسان الدروس، صاحب التفسير ترك تفسيره، صاحب الحديث ترك حديثه، صاحب الفقه تركه، صاحب اللغة الأدب، كل معلم في المسجد يترك المادة التي كان عليها ويدرس الجميع الشمائل النبوية.
يعني: الصفات الخلقية والخُلقية؛ حتى يتعلموا ويعرفوا من هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.(213/9)
غيرة عائشة رضي الله عنها وعلاج النبي صلى الله عليه وسلم لذلك
ذكرنا بعض الصور التي وقعت في بيته صلى الله عليه وسلم ومن نسائه معه، وكيف عالج ذلك، مع أنهن تحزبن عليه، ووقفن ضده، وليس ذلك -والله- حطاً من قدرهن ولا تنقصاً من ذواتهن، بل هو إعلاء لمكانتهن؛ لأنهن فعلن ذلك محبة فيه وحرصاً عليه، وبدوافع الغيرة، ونعلم جميعاً أن المرأة لا تغار على زوجها إلا من دافع الحب؛ فهو من صفات المدح لهن، وليس من صفات الذم، وقد بين لنا تلك الحياة وصورها ليتعلم الرجل ماذا فعل رسول الله، ويتعلمن النسوة كيف فعلن زوجات رسول الله، وهكذا تؤخذ الحياة العملية تطبيقاً من بيته صلى الله عليه وسلم.
أما الدافع الأساسي -كما أشرنا- وهو الغيرة، فإن مبدأ ذلك -أو الغيرة المبسطة، لا المؤامرة- جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: أنها افتقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذات ليلة، تقول: والحجرات ليست فيها المصابيح -ظلام- إذا أطفأوا السراج وناموا لم يروا شيئاً، وكانت السرج بالزيت وفتيلة.
انظروا إلى القناديل التي كانت معلقة في المسجد، كان يوضع فيها الزيت وفتيل، وطرف الفتيل على حافة السراج ثم يشعل بالزيت.
تقول: فقمت أتحسس الحجرة فما وجدته، فتقدمت فوقع كفي على بطن قدمه وهو ساجد يقول: (سبوح، قدوس، رب الملائكة والروح) ، فقلت: والله إني لفي شأن وإنك لفي شأن.
لما وقع كفها على بطن قدمه قالت: لعله كان قد ذهب إلى بعض نسائه واغتسل هناك وجاء يصلي هنا، فلما قام من سجوده وقفت بجانبه، وأدخلت يدها في شعره -وكانت له جمة إلى منكبيه- لتتحسس أثر الغسل، كل ذلك والرسول ساكت، فلما انتهى التفت إليها وقال: (أخذتك غيرتك يا عائشة؟ -أعلمها ما هو الدافع- قالت -ويا لصدق ما قالت! وهو يبين المقدار الحقيقي للتأثر بالغيرة وإن كانت شديدة-: وما لي لا يغار مثلي على مثلك؟) .
وبعض الروايات: أنه جاء من الخارج فوضع ثيابه، ثم اضطجع، ثم سرعان ما قام.
تقول: وتظاهرت بالنوم.
فلما خرج أرسلت بريرة وراءه فأتتها وقالت لها: ذهب إلى أهل البقيع، تقول: فشددت عليّ ثيابي، وخفت أن يرجع من أهل البقيع إلى بعض زوجاته، ووقفت من بعيد، فلما رأته فرغ من السلام عليهم، وبدأ يتحرك عائداً جاءت راجعة، فشعر بها، فأسرع، تقول: فأسرع فأسرعت، إلى أن جئت البيت واضطجعت في فراشي، فلما دخل وضع يده على صدري، وقال: ما هذا يا عائشة؟! أأنت التي كنت أمامي؟ قالت: بلى يا رسول الله؟ قال: أظننت أن يحيف الله بك ورسوله؟ لا يا عائشة.
فهذه -كما أشرنا- أمور جبلية لا يمكن للمرأة أن تتخلى عنها، وكذلك الرجل، لكن فرق بين من يتحكم في دوافع النفس وانفعالاتها ويبين من يضعف أمام ذلك.
نأتي إلى موضوع القصعة والطعام وما ذكره البخاري، وأعتقد أنه لو جاء في غير صحيح البخاري لكنا وقفنا موقف التساؤل؛ لأنهن أمهات المؤمنين، ويقول الله عنهن: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33] من كل دنس وشائبة، وسوء خلق، مما ينتقص من النساء، ولابد أن يكن كذلك؛ لأنهن فراش رسول الله، وكان الرجل يتحرى صديقه بالهدية عند بعض زوجاته، وكانوا يتحرون ليلة عائشة ويهدون إلى رسول الله فيها هداياهم.(213/10)
موقف زوجات النبي صلى الله عليه وسلم في قضية التحريم
ذكر البخاري رحمه الله بأن زوجات رسول الله كن قسمين: عائشة وحفصة وسودة، وأم سلمة ومن معها، وكن بهذا التآمر يحتلن على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور ربما كان يحبها، من ذلك: أنه كان صلى الله عليه وسلم من عادته إذا صلى العصر طاف على نسائه، وكانت حجر زوجاته صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهن مطيفات بالمسجد، ابتداءً من حجرة عائشة وحجرة حفصة التي كانت مقابلة لها.
والشباك الذي في واجهة جدار المسجد القبلي كان محله باب، وكان يقال له: (باب آل عمر) ؛ لأن حفصة كانت تسكن في مقابل حجرة عائشة، وكن إذا صعدن في الطابق الثاني يتناولن الهدايا من الشباك، فكان يبدأ من بيت آل عمر في الجنوب، ويطوف بالشرق، ثم يأتي إلى الشمال.
هكذا كانت حجرات زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يطوف عليهن بعد العصر، فإذا مر بـ زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها استوقفته، وأتته بعسل، ومزجته بالماء وصنعت له شراباً، وكان يحب الحلوى والبارد، فيشرب العسل، فغرن من هذا، لماذا يخصها بالوقوف، ولماذا يشرب عندها العسل واستكثرن ذلك عليه، فبدأت مؤامرة حفصة وعائشة، كيف نمنعه من هذا الوقوف؟ وكيف نمنعه من هذا العسل الذي اختصت به زينب؟ فقلن فيما ببينهما: ليقل له من يأتيه قبل الأخرى أجد -كان ربما دنا وقبَّل- ريح مغافير، وهو نبات حلو الطعم كريه الرائحة، فيقول: لا.
أنا ما شربت هذا، أنا شربت عسلاً عند زينب، يمكن أن النحل رعى في ذاك النبات، فجاءت الرائحة في العسل، وكأنهن لا يعلمن شيئاً رضوان الله تعالى عليهن.
فلما جاء للأولى قالت له ذلك، ولما جاء للثانية قالت له ذلك، فحرمه على نفسه، ثم أصبح يمر على زينب كعابر سبيل كما يمر على غيرها، وفيما بعد عندما نجحت المؤامرة قلن فيما بينهن: والله لقد حرمناه من شيء كان يحبه.(213/11)
موقف أمهات المؤمنين من زواج النبي بأسماء بنت النعمان
نأتي إلى ما هو أخطر وهو زواجه من أسماء بنت النعمان -من كندة- وكان النعمان -وهو سيد قومه- وفد ضمن الوفود التي وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام تسع من الهجرة عام الوفود، حتى إن ابن كثير يقول: إن الذئاب قد أرسلت وفداً لها إلى رسول الله.
ويذكر في الخبر: بأنه صلى الله عليه وسلم كان جالساً مع أصحابه، فجاء ذئب يخطر من بعيد حتى دنا من القوم، فأقعى وحرك ذنبه ورأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا وافد الذئاب إليكم، ماذا تنزلون له من أغنامكم ويكون بينكم مسالمة، قالوا: والله ما نعطيه ولا شيء.
فقال: اذهب وهه! هه! يعني: اختلس ما استطعت) .
فعام الوفود كانت كل القبائل ترسل فيه وفودها، وهي: إما قبيلة لم تسلم فتعلن إسلامها كثقيف، التي جاءت في العام التاسع، ونزلوا في المسجد النبوي.
إلخ، وإما أن تبعث وفوداً تجدد العهد على الإسلام والتزامهم بذلك، فجاء وفد كندة وفيهم النعمان، وكانت ابنته -وصاحب الإصابة يذكر في قول أنها أخته- وكانت من أجمل نساء العرب وأشبهن، فزوجها رسول الله، ثم أرسل بها إليه، تقول حفصة وعائشة: فلما رأيناها قلنا فيما بيننا: لقد وضع يده في العرب، وسيصرفنه عنا، والله لن يراها رسول الله إلا وانصرف إليها، فقامت عائشة وخضبتها، وقامت حفصة ومشطتها وهيآها لرسول الله -انظر المقدمات! - ثم قلن لها: إذا أردت أن تكوني ذات حظوة عند رسول الله ويكرمكِ ويحبكِ إذا أقبل عليك فقولي له: أعوذ بالله منك -يا سبحان الله! - والمسكينة ظنت أن هذا يقربها عند رسول الله، فامتثلته بغية الوصول إلى رضا رسول الله، فأخذ بكمه على وجهه وقال: (لقد عذت بمعاذ، الحقي بأهلك) فلما رجعت كانت تقول: سموها الشقية؛ لأنها حرمت ذاك الفضل العظيم.
هل الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الحالة سألها من أمرك بذلك، من علمك هذا؟ هل عتب على حفصة وعائشة فيما فعلنه؟ لا؛ لأنه أدرك أن الدافع لهذا هو الغيرة، والغيرة ناشئة عن الحب والحرص على رسول الله.
نأتي إلى موضوع قصعة الطعام، وتحري الناس الهدية وبالطعام ليلة عائشة مرضاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان عند بعض زوجاته، فصنعت إحدى أمهات المؤمنين طعاماً، وقلنا وكان من أحسنهن في الطعام صفية وحفصة، وهي رضي الله تعالى عنها تقول: ما رأيت صناعاً للطعام كـ حفصة، ثم جاءت قصعة حفصة قبل قصعة عائشة، تقول: فصنعت له طعاماً، وصنعت حفصة طعاماً، فجاءت قصعة حفصة قبل قصعتي.
وهناك روايات متعددة، والتحقيق: أن القصة بذاتها تعددت مع حفصة، مع صفية، مع سودة.
أربع مرات.
فلما انكسرت القصعة أمسكها الرسول، وجمعها نصفين، وفي بعض الروايات (قال: كلوا، غارت أمكم) ، وفي بعضها: (وضع الطعام على النطع -السفرة الممدودة-) ، وقيل: كان من الحيس -يعني: ليس مرقاً يتدفق- ثم جاءت قصعة عائشة التي كانت متأخرة، فدفعها بما فيها من الطعام للرسول الذي جاء بالقصعة الأولى، وفي بعض الروايات: قالت عائشة لما جاءت وبيدها فهر وضربت القصعة فكسرتها فانتبهت، وأدركت ما فعلت، قالت: ما كفارة ذلك يا رسول الله؟ قال: (قصعة بقصعة وطعام بطعام) .
ونقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم تدارك الموقف بالحكمة والتأني، وهل أحد من الحاضرين أو الغائبين وقف على نص من رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك المواقف أنه عنف على إحدى زوجاته أو سبها؟ لا والله؛ لأنه أدرك الدوافع، وأن القضية قضية صافية، والقلوب طاهرة، ويكفي أن عائشة قالت في الحال: ما كفارة ذلك يا رسول الله؟ لو أنها من النساء الأخريات ما عليها انكسرت أو لا، وتصر على موقفها، ما هذه فقد تذكرت وتراجعت واعترفت وطلبت الكفارة.(213/12)
موقف النبي صلى الله عليه وسلم من طلب أزواجه زيادة النفقة عليهن
أحب أن أنبه على قضية أكبر من هذه: أعتقد أن كل إنسان، ويمكن لأول مرة يسمع أن زوجات رسول الله كن قد خاصمن رسول الله بسبب مطالبتهن بالنفقة، وشددن الطلب، فتركهن غضباناً، وخرج إلى المشربة وظاهر منهن شهراً، حتى بلغ الخبر إلى عمر محرفاً بأن زوجات رسول الله طلقن، وكان عمر له جار في العالية يتفقان على المناوبة في رعي البستان وفي النزول إلى المسجد النبوي، ينزل أحدهما إلى المسجد النبوي مع رسول الله حتى المساء، ويحفظ ما يسمع، ويرجع إلى صاحبه يمليه عليه، بينما صاحبه هناك يراعي مصلحة النخيل، ومن الغد من كان في النخيل ينزل إلى المسجد النبوي، وهكذا دواليك.
فجاءه -أي: جاء عمر صاحبُه- وبعد المغرب ينادي عليه بشدة: يا عمر يا عمر! قال: ما شأنك، أجاء الروم؟ لأنهم كانوا يتوقعون مجيء الروم، قال: لا، الأمر أشد.
قال: وما هو؟ قال: طلق رسول الله زوجاته.
ومن إحدى زوجاته حفصة بنت عمر، فأخذ رداءه وذهب؛ فوجد الدنيا واجمة، ثم جاء من الغد ودخل المسجد، فوجد الناس واجمين، فسأل: أطلق رسول الله زوجاته؟ فلم يرد عليه أحد، ثم دخل على حفصة، قال: أطلقكن رسول الله؟ فظلت تبكي وما ردت عليه، قال: أين رسول الله؟ فأشارت إلى المشربة، وكان على الحجرة حارس منعه من الدخول على رسول الله، قال: استأذن لي على رسول الله.
فرجع وقال: استأذنت فلم يتكلم.
فاشتد الأمر على عمر، فانتظر برهة ثم قال: اذهب فاستأذن لي على رسول الله.
ثم بعد فترة قال: قد أذن لك يا عمر فاصعد، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم واجماً، فقال: أطلقت زوجاتك يا رسول الله؟ قال: لا.
فكبر عمر -الله أكبر (ثلاث مرات) - يقول عمر: فعزمت في نفسي أن أقول شيئاً يضحك رسول الله، وهذا الواجب على الصديق الوفي حينما يجد صديقه في أزمة، يجب أن يفتح له باب الحديث، ويطرق القلب ليعرف الموضوع، يجب أن تكون له فعالية، كما لو جاء إلى المريض لا يكون كلٌ منهما ينظر في الآخر، يجب أن يكلمه عن العافية، عن الثواب، عن الأجر عند الله، عن الأمور التي تفسح فسحة الأمل في الحياة.
لما قال: ما طلقت.
قال: خيراً، وسكت، ثم قال: يا رسول الله! لو رأيت فلانة -يعني زوجته- وهي ناشبة في وتقول: أعطني، أعطني.
وما عندي ما أعطيها، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: هن حولي يطلبنني النفقة فيما ليس عندي.
إذاً: فتح الباب، وانحلت العقدة، فنزل إلى ابنته يطعنها: أغرك من بنت أبي بكر أن تقول على رسول الله؟! والله لولا أنا لطلقك، أتطلبين من رسول الله من النفقة ما لا يملك؟! لا تسألي رسول الله شيئاً، ما أردت من المسألة والحاجة فاسأليني أنا، ولا تكلفي رسول الله شيئاً.
وهذا موقف الصهر العاقل، ولو يدفع من عنده ويتحمل من نفقات ابنته في بيت زوجها لتظل الحياة الزوجية كريمة؛ لأنه إذا لم يفعل هذا، وضاق الأمر بزوجها ستعود إلى بيت أبيها، وستكلفه أكثر من هذا، فيكون هناك غض النظر في البذل والجود، وهناك تصلح الأمور وتستقيم الحياة الزوجية.
فهذه ناحية، الناحية الثانية هي التي ساقها البخاري: تضايقن، وكلمن سودة أن تكلم رسول الله في أن يكلم الناس بأن يوزعوا الهدايا حيثما كانت، وحصلت المناقشة والعرض، وثلاث مرات وهن يلححن عليه، حتى قال: (لا تؤذيني في عائشة) ، ولما رأوا هذه الواسطة ما نفعت ذهبوا إلى فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها، فكلمته، قال: (ألا تحبين ما أحب يا ابنتي؟ قالت: بلى.
قال: لا تؤذيني في عائشة) ، ثم جاءت زينب بنت جحش وفعلت ما فعلت، ولقيت ما لقيت، وانتهى الأمر بأنهن ما وصلن إلى شيء.(213/13)
نصرة الله لنبيه ولو على أزواجه
زوجات رسول الله تقسمن فيما بينهن على رسول الله وحن حزبين، ثم جاء حزب ثالث -إن صح هذا التعبير مع التجوز- ينضم إلى رسول الله مناصرة له، اقرءوا إن شئتم قوله سبحانه: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ} [التحريم:4] انظروا إلى الأسلوب البلاغي! {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ} [التحريم:4] ، لو كان في غير القرآن يمكن أن يقال: فإن الله مولاه، لكن يؤتى بضمير الشأن لتقوية الخطاب والبيان، وهو من تعلمون رب العزة {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4] .
نحن قلنا تجوزاً: الحزب الثالث، أو الحزب الثاني مقابل أمهات المؤمنين هو الله وجبريل وصالح المؤمنين وعموم الملائكة ظهيراً.
انظر إلى هذا التعداد: الله، وجبريل، وصالح المؤمنين، والملائكة، أمام تسع نسوة، وهل لدى النسوة من الفاعلية ما يحتاج إلى تجنيد كل هذا؟ وكان يستشهد ببيت واحد من شعرائهم، يقول: ما استعظم الإله كيدهن إلا لأنهن هن ولا يستغرب بعض الأشخاص أن يسمع أن زوجات رسول الله تحزبن عليه؛ لأن هذا من طبيعة النسوة، ومن دافع المحبة والغيرة، والله سبحانه وتعالى عاتبهن وحذرهن، وقبل كل شيء فتح لهن باب التوبة {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} [التحريم:4] وهذه القضية بين حفصة وعائشة فيما أمر ما، فقد صغت وصفت وانتهت قلوبكما {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ.
} [التحريم:4] .(213/14)
صبر أمهات المؤمنين وتعففهن
إن تلك الحياة التي مرت ببيت النبوة مع ما فيها من أحداث لها جانب آخر يحكي ما كن عليه أمهات المؤمنين من الصبر والتعفف والزهد في الدنيا، كما قالت أم المؤمنين: كان يمضي على بيت رسول الله الهلال والهلال والهلال -شهران بين ثلاثة أهلة- لا يوقد في بيت محمد صلى الله عليه وسلم ناراً: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا} [الواقعة:71-73] ، تنضج طعامك، تصنع الشاي، وتصنع وتصنع على النار، أما هنا فلا يوجد، فما كان طعامكم يا أماه؟ قالت: الأسودان: التمر والماء.
ويأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ضيف فيرسل إلى أمهات المؤمنين واحدة تلو الأخرى: من كان عندها طعام فليأت بعشاء الضيف، فكل واحدة تعتذر: ليس عندي شيء، تسعة بيوت ليس عندهن عشاء للضيف! فيتوجه صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه: من يستضيف هذا هذه الليلة وله الجنة؟ أحضروا المقاييس، أحضروا الموازين، أنت تعلم بأن الثمن يعادل المثمن، هذا قيمته ألف ريال، ولو قلت: ألفي ريال فذلك يكون زائداً عن السلعة، ولو قلت: مائتي ريال تكون ناقصة عن السلعة، فعادة يكون الثمن معادلاً للمثمن، فأي ليلة هذه التي ثمنها الجنة؟! الآن أبسط واحد منها الآن بمقدوره أن يعشي عشرة أشخاص، لكن في ذلك الوقت تسعة بيوت لرسول الله ليس فيها عشاء الضيف، كيف كانت تلك الحياة؟ والشيء إذا قل أو انعدم لا يثامنه شيء.
إذاً: (فله الجنة) ؛ لقلة الطعام وندرته، وجاء في القصة: أن الذي ذهب به إلى بيته قال لزوجه: هل عندك من طعام لضيف رسول الله؟ قالت: لا والله إلا عشاء العيال.
قال لها: علليهم حتى يناموا دون عشاء، ثم قدمي الطعام لي وللضيف، ثم اعمدي إلى السراج لتصلحيه فأطفئيه، وأنا سأحرك يدي في القصعة تلتقي مع يد الضيف، أوهمه أني آكل معه، وما أنا بآكل، ولكن أوفر له الطعام.
انظروا إلى هذه الحيلة: أولاده ينامون جوعاً بلا عشاء، وكذلك الزوجة والزوج والطعام بين أيدهما، ولو كان بعيداً لقلنا: صابر، لكنه أمامه، ولا يرفع منه شيئاً إلى فيه.
إذاً: الطعام كان متوفراً.
هذا أحسنهم حالاً الذي رضي أن يأخذ الضيف ليضيفه تلك الليلة، وإذا به ليس عنده إلا عشاء عياله، فيحتال هو وأم العيال على توفير عشاء الضيف.
والله لا أريد أن أقول: إن له الجنة؛ لأنها لو كانت قليلة في هذا أو كثيرة فالرسول قال له: (وله الجنة) .
فلما غدا بضيف رسول الله في الصباح استقبلهما صلى الله عليه وسلم متبسماً وقال: (لقد ضحك ربنا من صنيعكما البارحة) ، العملية تضحك فعلاً أن يحتالا لإشباع الضيف على جوع: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] ، وليسوا كل الناس: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] .
فقال: يا رسول الله! أويضحك ربنا؟ قال: بلى.
وهنا أحاديث الصفات، وكذلك الصحابي مر بها وقال: لا عدمنا خيراً من رب يضحك.
هذا تعليقه على صفة الضحك لله، أكثر من هذا لا يوجد، وهكذا كن في بيوت رسول الله تمضي عليهن الليالي وليس عندهن عشاء ضيف! إذاً: كانت تلك البيوت مساكن لهن، ومعاهد لما يجرى فيها من آيات الله والحكمة، وكن يعلمن الناس سواء مباشرة أو عن طريق النسوة، أو بواسطة الزوجات للأزواج، كما قالت أم المؤمنين عائشة للنسوة: مروا أزواجكن أن يستنجوا بالماء، فإني أستحيي منهم.
وهكذا -أيها الإخوة- علينا أن نجدد دراسة حالات المصطفى صلى الله عليه وسلم، وسبق أن كتبت مقدمة بحث في السيرة النبوية وأنها تنقسم إلى قسمين -في نظري-: سيرة ذاتية، وسيرة تبليغية، والسيرة الذاتية: هي ما كان يتعلق بشخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذاته وبيته وفيما يخصه، والسيرة الرسالية: ما كان فيها تبليغ الرسالة للأمة.
والحمد لله رب العالمين.(213/15)
كتاب البيوع - باب الغصب [2]
لقد حرم الإسلام الغصب وحذر منه، ورتب عليه الوعيد الشديد، وضمن لمن غصبت أرضه حقوقه، وجعل بين الغاصب والمغصوب حقه سبلاً وطرقاً للصلح، فحكم على من غرس بقلع غرسه، وعلى من زرع بأخذ نفقته.(214/1)
حكم من زرع في أرض بدون إذن مالكها
قال المصنف رحمه الله: [وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء، وله نفقته) رواه أحمد والأربعة إلا النسائي، وحسنه الترمذي، ويقال: إن البخاري ضعفه] .
بالتأمل فيما ساقه المؤلف رحمه الله في باب الغصب، وما تقدم في اغتصاب شبر أو شيء من الأرض، والتحذير والوعيد الشديد من الظلم والاغتصاب، وجاء بحديث القصعة، وبيان أن الغصب معه قيمة المتلفات، ولهذا يقول ابن رشد: البحث في الغصب من عدة جهات، منها: من جهة أن المغصوب إذا وجد بعينه رد إلى صاحبه بتمامه بلا خلاف، أما الطوارئ فبخلاف ذلك، والطوارئ: هي المتغيرات التي تحدث في المغصوب، بأن غصب غزلاً فنسجه، أو شاة فذبحها.
إلى غير ذلك مما يطرأ على المغصوب من زيادة أو نقص.
ثم جاء المؤلف رحمه الله بهذين الحديثين، ويمكن أن يقال: إن أحد الحديثين يغني عن الآخر، كحديث: (من غرس النخل حكم بالأرض لصاحبها، ولصاحب النخل أن يرفع نخله) ، ثم جاءت القضية العامة: (ليس لعرق ظالم حق) ، لكنه جاء بالحديث الذي قبله فيما يتعلق بالزرع، فكان أحد الحديثين يتعلق بالزرع، والآخر بالغرس.
وفرق بين الزرع والغرس: أن الزرع -كما يقولون- زراعة موسمية مؤقتة، وأقصى ما يكون مدته في الأرض ستة أشهر على حسب نوعية المزروع، وإن كان البعض قد يتجدد على جدات -وخاصة في الحجاز- إلى خمس سنوات، وهو نوع من البرسيم، وفي غير المدينة يسمى البرسيم الحجازي.
فالزرع مهما كان له أمد، فهو بخلاف الغرس فإنه يعمر طويلاً، فالحديث الأول: (من زرع في أرض قوم) ، ولم يقل: غرس، وللمغايرة بين الحديثين اختلف العلماء، ونحن نأخذ مدلول الحديثين كلاً على حدة، ثم نرجع بالنظر بين الحديثين، وخلاصة ما ذكره العلماء في هذه القضية المزدوجة.(214/2)
حكم استخدام العين في غير ما أجرت له
(من زرع في أرض قوم) ، والقوم للجماعة، فمن زرع في أرض غيره، وهو لا يملكها أو هي مملوكة للآخرين، فما حكم هذا الزرع الذي زرعه في ملك غيره؟ هذه هي القضية الأولى، وقد حكم فيها صلى الله عليه وسلم بقوله: (من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء) فلو استأذنهم: أعيروني الأرض أزرع فيها.
لا مانع، وإذا استأجر منفعة الأرض عين الأرض، كما يقول الفقهاء: عقد الإجارة عين على منفعة مضمونة، تستأجر الدار وتشتري الدار، فإذا اشتريتها ملكت عينها، ولك الانتفاع بها بما شئت من امتثالك بما تملك، لكن استأجرتها، فأنت اشتريت المنفعة التي يمكن أن تؤخذ من الدار.
وما المنفعة؟ كل بحسبه، إن كان هناك نص على عين المنفعة التي تستوفى فهي المعقود عليها، استأجرتها مدرسة، أو مستودعات، أو للسكنى، فعلى ما عقدت عليه، ولا يحق لك أن تستفيد من الدار بمنفعة أكثر مما استأجرتها من أجله استأجرتها لتسكن أنت فيها وعيالك، فلا يحق لك أن تجعلها مستودعات؛ لأن المستودعات تضر بالبنيان أكثر من السكنى؛ لأن فيها البضائع والمطعومات، وربما جاءت الفئران، ويكون الأخذ والرص الذي يهز الجدران، فلا يجوز ذلك.
وكذلك لا يجوز لك أن تجعلها مدرسة؛ لأن المدرسة تضم الأطفال، أو غير العابئين بالمسئوليات والقيم، فتكون مضرتها على البنيان أكثر من السكنى، أما إذا استأجرتها لمدرسة، ثم هونت من المدرسة وسكنت، فالسكنى أقل إرهاقاً على البنيان من المدرسة؛ فلا مانع، كما لو استأجرت سيارة لنقل الأحجار، ثم ما وجدت أحجاراً فنقلت أخشاباً أو برسيماً، وإذا ما وجدت برسيماً ركبت أنت، فكلما كان استيفاء المنفعة مقابل المعقود عليه كان أوفى بالعقد، وإن نقصت فلا مانع، أما إن زادت عن المعقود عليها فلا يحق لك ذلك.(214/3)
ما يلزم به صاحب الأرض إن أذن بالزرع
إن زرع الأرض بإذن أصحابها، فهذا يكون منهم بمثابة التنازل عن حقهم بالاستفادة من الأرض، وإن سمحوا له بالاستفادة منها فلا يحق لهم بعد ذلك أن يعارضوا أو يطالبوا برفع الزرع؛ لأنه وضع بالعدالة وليس بالظلم، ووضع البذر وحرث وسقى ونبت بإذنهم ورضاهم، فلا يحق لهم بعد أن وصل الزرع إلى مرحلة ما قبل الحصاد أن يطالبوا برفعه، كمن أعار سفينة لإنسان أو أجّره إياها، وجاء في عرض البحر وقال: رجعت عن الإعارة، أعطني سفينتي، الإعارة عندك مؤقتة، ولصاحبها أن يطلبها حيث شاء، ولكن هل وسط البحر موضع تسليم؟ وأين أذهب بمن فيها؟! لا يحق له ذلك؛ لأنه أعارها وهو يعلم بأنه سيعبر بها النهر.
وكذلك الأرض إذا زرع فيها بإذن أهلها، ونبت الزرع، وقارب الحصاد لا يحق له أن يرجع في هذا الإذن؛ لأن فيه مضرة على الزارع وتغرير به، ويجب عليه أن ينتظر حتى يستحصد الزرع ويأخذ زرعه، ويقول له: خذ أرضك.
أما إذا كان زرع بغير إذنهم فتلك المنفعة التي يريد أن يأخذها من الأرض فالزرع ملك لأصحابها، ولم يأذنوا لك فيها: (ولا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه) ، وهم ما طابت أنفسهم بها، فجاءوا يطالبونه.
ولو أنه اغتصب الأرض -على رأي الجمهور بأن الغصب يدخل في العقار غير المتحرك، أي: في المملوك الثابت كالأرض والبنيان، خلافاً للأحناف؛ فإنهم لا يرون الغصب في الثوابت وإنما في المتحركات المتحولات- فإذا اغتصب الأرض واحتواها، فعلم بذلك أصحابها، فجاءوا والأرض على ما هي عليه، لم تدخلها الزيادة والنقصان.
كأن يأخذ من ترابها إلى جهات أخرى؛ فتصبح الأرض مجرد حفر أو منخفضة عن جاراتها، وتصبح في هذه الحالة غير صالحة للزراعة حتى تسوى، ويرد لها ما أخذ منها، فيكون هناك نقصان، فإذا أدرك صاحب الأرض أرضه تحت يد الغاصب كما هي ردت إليه بعينها بالإجماع، وليس لهم على الغاصب شيء، وليس للغاصب عندهم شيء، بقي الحق العام -كما يقال- فكونه يتعمد الاعتداء على مال الغير، هذه فوضى، فولي الأمر له أن يعزره على تعديه.
أما إذا جاء صاحب الأرض ووجد الزرع، فماذا يكون الحكم؟ هذا يقول: أرضي، والآخر يقول: زرعي.
ماذا نفعل معهما؟ الحديث صريح: (من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء، وله نفقته) .
نسأل الزراع: الزرع هذا كم عمره؟ ومتى يحصد؟ بعد ثلاثة أشهر.
إذاً: الزرع لم يأت بالحب في الوقت الحاضر، وجاء صاحب الأرض يطالب بأرضه، فيقال لصاحب الزرع: ليس لك من زرعك شيء؛ لأنك وضعت البذرة، وسقيت الماء فقط، والنبات الذي نبت نموه من الأرض، والأرض ملك لغيرك، فيكون الزرع ملك لغيرك، وما أنفقته حتى صار الزرع إلى هذا الحد فهو حقك، وضعت بذراً فيها بعشرة، وحرثتها بخمسة، وسقيتها ماءً بخمسة، نفقتك على الزرع وصلت إلى هذا الحد فلك هذه النفقة، هذا ظاهر هذا الحديث والله أعلم.(214/4)
صورة الصلح بين المتنازعين على الأرض
في هذه المسألة الواردة في هذا الحديث وسع الفقهاء رحمهم الله التفصيل فيها، وقالوا: إذا لم يكن له من الزرع شيء فله النفقة، والزرع يرجع لصاحب الأرض فهل يلزم الزارع بأخذ النفقة فقط ويترك الزرع، وهل يلزم أصحاب الأرض بأن يدفعوا النفقة ويأخذوا الزرع؟ لو قالوا: لا نريد الزرع، ليأخذ زرعه، لن ندفع شيئاً ماذا يقال لهم؟ في هذه الحالة يخير أصحاب الأرض: في أن تحسب عليه الأرض بالإيجار إلى أن تستحصد، ويكون كالمستأجر من غيره، وبهذا نكون قد جمعنا بين المصلحتين: (لا ضرر ولا ضرار) ؛ صاحب الزرع يأخذ زرعه، وصاحب الأرض يأخذ أجرة مثلها، فنكون ضمنا لصاحب الأرض حقه وفائدته من أرضه، وحفظنا على الغاصب زرعه، وقد دفع أجرة الأرض.
وابن حزم يشنع على الفقهاء في هذه القضية، ويقول: على هذا فكل من يريد أن يغصب أرضاً ما عليه إلا أن يذهب ويزرع فيها وسوف يدفع الأجرة ويأخذ الزرع، فهذا يمكن المعتدين من زيادة الاعتداء.
ولكن الفقهاء يقولون: يجب مراعاة المصلحة، فقولنا له: خذ زرعك وهو إلى الآن لم يستحصده، ماذا سيفعل به؟ سيعدمه، ويتلفه، وإتلاف المال لا يجوز، فإذا أمكن الاستفادة من هذا المال في المستقبل نحافظ عليه، وأنت يا صاحب الأرض لما فاتت عليك مصلحة أرضك، نضمنها لك بالأجرة.(214/5)
قضاء رسول الله في الغارس بدون إذن
[وعن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال: (قال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض، غرس أحدهما فيها نخلاً والأرض للآخر، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض لصاحبها، وأمر صاحب النخلة أن يخرج نخله، وقال: ليس لعرق ظالم حق) ] .
قبل الكلام على هذا الحديث ننظر ما يقوله العلماء في شأن اختلاف الناس في أحكام الأراضي، وخاصة الإمام ابن تيمية رحمه الله: إن عمل أهل المدينة هو القدوة، وكما يذكر عن مالك أنه قال: إن العالم كله في الأراضي والمساقاة والمزارعة تبع لأهل المدينة؛ لأنهم كانوا يعملون فيما بينهم فيتفقون تارة ويختلفون أخرى، فإذا ما وقع خلاف بينهم كان مرده إلى رسول الله.
إذاً: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يشرف على الخلافات التي تقع في الأراضي، وليس هذا في قطر من أقطار الدنيا، وكل العالم يتتبع ويسأل: ماذا فعل رسول الله في مثل ذلك؟ ماذا قضى في ذلك؟ وما ينقل عن أهل المدينة في مثل هذه القضايا فهو نقل لأصل عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لو أن هذان الرجلان في الشام أو مصر أو اليمن ووقع النزاع بينهم، فإنهم سيختصمون للعلماء الذين سوف يبحثون عما فعل وقضى به رسول الله في هذه المسألة، وسيرجعون إلى عمل أهل المدينة في هذه المسألة.
رجلان اختصما كل منهما خاصم الآخر، صاحب الأرض يخاصم في أرضه، وصاحب النخل يخاصم في نخله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
شخص غرس نخلاً في أرض قوم، فجاء أصحاب الأرض يخاصمون في أرضهم ويطلبونها فقضى رسول الله بأن الأرض لصاحبها.(214/6)
تولية الرسول للقضاة من أصحابه
النص هنا: (فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض لصاحبها) .
إذاً: الرسول تولى القضاء بين الأفراد، وهذا مصداق قول الله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء:105] .
ثم قد يولي قضاة في ما بعد عنه، كما وقع لـ معاذ رضي الله تعالى عنه حين بعثه إلى اليمن، وكذلك أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، فكان معاذ قاضياً وأميراً وجابياً للزكاة والجزية، وكان هناك عمال أيضاً للزكوات في أقاليم اليمن، وكان معاذ هو المشرف عليهم، ويتنقل ما بين حضرموت إلى صنعاء، وأبو موسى في مكانه، ولذا سأله: (بم تقض يا معاذ؟ قال: بكتاب الله.
قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ -لأن كتاب الله نصوص محدودة- قال: بسنة رسول الله.
قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي) .
وهنا العلماء يزيدون بعد قول معاذ بم يقض القاضي؟ بكتاب الله، فإن لم يجد فبسنة رسول الله، فإن لم يجد هل يجتهد رأيه؟ لا؛ لأنه غير معاذ وقد تقدمه من أهل الحل والعقد، من هم أهل العلم وأدرى بالحكم، فينظر في أقضية أصحاب رسول الله، هل في هذه القضية نص عن صحابي، أو عن خليفة راشد؟ فـ معاذ يقف عند حد الكتاب والسنة، ثم يعطي لنفسه حق الاجتهاد، وغير معاذ ممن يأتي بعده أمامه جبال راسيات، فعليه أن يبحث في حكم النازلة في الكتاب، ثم السنة، ثم سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، فإذا وجد عنهم أقضية في قضيته أخذ بها، وإذا لم يجد اجتهد رأيه؛ لأنه لم يبق هناك من يرجع إليه.
قضى صلوات الله وسلامه عليه لصاحب الأرض بأرضه.
(وأمر صاحب النخل) ، والأمر والقضاء سيان؛ والقضاء ملزم أكثر من الأمر، (وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله) هذا الحد الأدنى في القضاء، ولكن لكل قضية ملابساتها وجوانبها، فلو أن صاحب الأرض قال: لا تتعب نفسك، ولا تقطع النخل وتخسره وتفسده، وبمقدار ما أنفقت عليه أعطيك نفقته واترك لي النخل، ولهذا قال: (أمر) ولم يقل: (قضى) ؛ لأن القضاء ملزم، والأمر قد يأتيه بعض عوارض فتصرفه.(214/7)
كيفية الصلح بين المتنازعين
لو اتفق صاحب الأرض مع صاحب النخل أن يتركه له، وأحياناً يمكن الاستفادة من رفع النخلة من مكان إلى مكان آخر، والاستفادة منه كغرسه، وأحياناً لا، وجاءت الروايات في هذا الحديث: (وإني لرأيتها تضرب بالفئوس وإنها لنخل عم -يعني طويلة-) يعني: لا يوجد رافعة لتنقلها في أرض أخرى، ولا يمكن رفعها إلا بتكسيرها، فحينئذ تكسر، وهنا في أول الحديث: أن الرجل غرس في أرض قوم؛ فلو أنه حينما جاء يغرس بحث فلم يجد لها معالم، وهي أرض بيضاء صالحة للزراعة، ولا يوجد فيها آثار تملك، وظنها أرض بيضاء لا ملك لأحد عليها فغرس.
هل معنى الظلم والتعدي موجود أم أنه الخطأ؟ حتى ولا الخطأ؛ لأنه رأى أرضاً بيضاء ليس فيها معالم تملك، والفقهاء ينصون في باب إحياء الموات: أن من أحيا أرضاً ميتة ملكها، وإذا استمر في إحيائها عشر سنوات، ثم مات وجاء أولاده فلم يستطيعوا الاستمرار في الإحياء فتركوها حتى اندثرت معالم الإحياء، وعادت مواتاً كما كانت قبل أبيهم، فهل يجوز لأحد أن يعيد إحياءها لنفسه لأنها صارت مواتاً أو لا يجوز ذلك؟ النزاع في هذه المسألة موجود، وعند الحنابلة لا يجوز ذلك؛ لأنه سبق عليها ملك لغيره.
هنا: إذا علم أن الأرض لقوم وغرس فيها بغير إذنهم -كما جاء في الزرع- وجاء بالوديان معتمداً وحفر الفِقَر وغرس النخل وسقى وكبر النخل وأثمر، ثم جاء صاحب الأرض - مسافراً، مسكين، مريض.
- ولم يعلم، بخلاف ما إذا علم من أول وهلة، ورآه يحفر، ولم يسأله، وتركه حتى جاء بالودي وغرسه وسقاه، وترك الأمر حتى صارت نخلاً عُماً، وأصبحت تؤبر وتثمر، وجاء يقول: أعطني أرضي ولماذا سكت حتى غرم هذا كله، وانتظرت حتى أصلحها ثم قلت له: أعطني أرضي؟! ولهذا يقول الفقهاء: هل يمكن الانتفاع من هذا النخل وهذه حاله أم لا؟ جاء الحديث بأنه ما كان يمكن في ذلك الوقت؛ لأنه صار نخلاً طوالاً، ولا يمكن رفعه وحمله وسحبه إلى أرض أخرى لكي يغرس فيها، واللفظ الآخر: (رأيتها تضرب بالفئوس) معناها: تحطم؛ لماذا؟ أليس هذا من إتلاف المال؟ نعم، ولكن قبل إتلافها الأمر صدر والحكم مضى، ولكن الحق لا يتعدى صاحب الأرض وصاحب النخل؛ فإن اتفقا فقال صاحب الأرض: اشترِ الأرض، وتبقى لك الأرض مع النخل.
فلا مانع، وإذا قال صاحب النخل: اشترِ مني النخل، واتفقا لا مانع، لكن هو ليس بمشتريه، وقد صدر فيه أمر بأن ينزع، لكن إن كان من باب الإصلاح واتفقا على ذلك فلا مانع.
لكن يأتينا هنا الأمر برفع النخل، وهناك في الزرع: (له النفقة) ، وهنا لم يقدر له نفقة، بل النخل يقطع ويرفع بعينه، إذا كان النخل المثمر هذا يقطع ويتلف فهل نبحث له عن نفقة؟ لا؛ لأنه أنفق في شيء لا يملكه، والأصل فيه التعدي.(214/8)
مناسبة تشبيه المغتصب بعرق الظالم
ثم قال: (ليس لعرق) هنا بعض العلماء يقول: يجب أن يختلف الحكم في اغتصاب الأرض بزرع، أو اغتصابها بغرس؛ لأن الزرع جعل فيه صلى الله عليه وسلم نفقة الزرع للغاصب، والنخل لم يجعل له فيه شيء، وأشاروا بأن الزرع مؤقت والغرس مستديم، وبعضهم يقول: إن قلنا: (ليس لعرقِ ظالم) .
إذاً: الظلم نسب لصاحب العرق، وإذا قلنا بالتنوين: (ليس لعرقٍ ظالم) أسندنا الظلم للعرق، وإسناد الظلم للعرق مجاز، فالأولى إسناده لصاحب العرق.
وإذا اجتث نخله؛ لأنه عرق ظالم، كانت الأرض صالحة لأنه يأتي بالحراث ويحرث ويبذر القمح، أو لتخطيط أشجار موالح، كانت وكانت.
يقول الفقهاء: إذا اجتث النخل عليه أن يجتث أصول الصنو في الأرض، ثم عليه أن يسوي الحفر التي نشأت عن قلع النخيل من أصله، ويسلم الأرض غير ناقصة المنفعة؛ لأنه إذا قطع النخلة من وجه الأرض كان الباقي تحت الأرض أكثر من الذي قطع من أعلى، ويعيق الزراعة والغرس، ويحتاج إلى مئونة وكلفة، لذا على صاحب العرق الظالم أن يرفع عرقه برفع جذور النخلة، ومن المعلوم أن جذور النخلة تمتد إلى عمق الأرض.
لا نقول له: اتبعها في باطن الأرض وأخرجها لا.
يقول علماء النبات: إن سطح الأرض هو الخط المنصف بين جذور الشجرة في باطن الأرض وبين جذعها وأغصانها، أي: أن النخلة لها جذور في باطن الأرض، لو اجتمعت لكانت مثل طول النخلة إلى رأسها، وكذلك جميع الأشجار، وأصحاب المزارع يعرفون ذلك، شجر الأثل إذا كان قريباً من البئر تمتد عروقه إلى قاع البئر، وربما أفسده، وهذه -كما يقولون- عملية توازن؛ لأن الشجرة ذات جرم كبير، وهذه السارية الموجودة عندنا الآن على سطح الأرض، هل جيء بعمود ووسد على سطح الأرض أم أن تحته قواعد عميقة يمكن أن تمسك هذه السارية، وتمسك ما يأتي فوقها؟ فكذلك عروق الشجرة، هي في باطن الأرض تعادل أعلى الشجرة حتى يمكن أن تصلبها، وإذا جاءت رياح عاتية ما الذي يمسك الشجرة ألا تذهب مع الرياح؟ إنها تلك العروق التي في بطن الأرض المتعادلة مع ظاهر الأرض من تلك الشجرة.
فلا نقول لصاحب النخل: تتبع كل عرق حتى ينتهي، لكن نقول: مجموع الصنو، وهو منتهى الشجرة ومجموع عروقها، ينتزعه، ثم بعد ذلك يسوي الأرض.(214/9)
كيفية نظر القاضي للخصومات
هنا -يا إخوان- مسألة: قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس لعرقِ ظالم حق) عممه الفقهاء في كل ظلم، فلو أنه جاء إلى أرض إنسان، وله أرض بجوارها في مخطط واحد، وجاء هذا ليبني، فتجاوز عن حده إلى أرض الجار بمتر، وبنى، فإن البنيان الذي قام على أرض الجار بزحف المتر عرق ظالم، ويحمل عليه وإن لم يكن هناك عروق، وإن كان مبانٍ فهناك قواعد، حتى وإن كان بنياناً عادياً؛ فكل عمل وقع في ملك الغير له دوام وثبوت أطلقوا عليه عرق ظالم.
ولكن هل هذا الحديث يمكن أن يطبق في كل صغيرة وكبيرة؟ قال لي والدنا الشيخ الأمين حينما كلفت بالقضاء وجئت أستشيره ماذا أفعل؟ قال: أوصيك بتقوى الله والتأني والتريث في فهم القضية، فلكل قضية ملابساتها، ولا يوجد قضية مثل الثانية، ثم تبين لي فيما بعد أن القضايا تدخل المحكمة كما يدخل الأشخاص، لا يوجد اثنان متفقان، حتى التوأم فيهم بعض المخالفات في الشكل، فكذلك القضايا، كل قضية تدخل المحكمة ففيها بعض المغايرة عن أختها ولو كانت من نوعها، هذه قضية سرقة، وهذه قضية سرقة، خمس قضايا سرقة لا يمكن أن تكون القضايا الخمس متفقة في كل الملابسات.
ومن واقع العمل: نجد أن هناك بعض الأمور قد يتمسك فيها بعض الأشخاص بهذا الحديث وهي من التوافه، كما وقع من إنسان اشترى قطعة أرض من مخطط، ثم تقدم إلى الأمانة، وعملت الذرعة والتطبيق وأعطي الرخصة وحفر وبنى إلى أربعة أدوار، ثم بعد خمس سنوات من بداية البناية جاء الجار، وقال: إن صاحب العمارة تجاوز علي بخمسة عشر سنتيمتراً، وأنا أطلب هدم العمارة وإرجاعه عن حقي وتسليم أرضي كاملة.
بعد خمس سنوات وهو ساكت! ولما رأيته قلت له: هذا البيت من يسكن فيه؟ قال: أنا، قلت: ألم تره عندما حفر القواعد ورفع الأعمدة، حتى بنيت أربعة أدوار ثم تأتي وتقول: هذا حقي؟! هو يريد أن يشهر بهذا النص سلاحاً قوياً، ولكن هل يتحقق موضوع الغصب والظلم في هذه القضية؟ ثم قال المدعى عليه: والله أنا لا أعرف ذرعة، ولا أعرف أن هذه من حق غيري، أنا عندي صك فيه ذرعة محددة، وتقدمت لطلب رخصة، والأمانة جاءت بمهندس، والمهندس ذرع المخطط، ووضع للمقاول علامات، وأنا ليس لي دخل في هذا ولا أعرف هذا.
فلو طبقنا فعلاً هذا النص هل تحقق الظلم من صاحب العمارة، أم أن هذا من باب الخطأ، أو ما يسمى بالتجاوز الذي يمكن أن يعفى عنه أو يغتفر؟ هنا خمسة عشر سنتيمتراً في قطعة ضلعها ثلاثون متراً، ماذا يكون هذا؟ مسألة: رأيته يحفر ما سألت، رفع الأعمدة ما سألت، سقف الدور الأول ما سألت، لماذا سألت الآن، من الذي أدراك بأنه اغتصب من أرضك؟ قال: قال لي الناس، قال الناس ليس بصحيح، أتت الهيئة وذرعوا أرض العمارة، فما وجدوا أي تجاوز.
قال: كان هناك سور وتعداه.
تعال احفر جنب جدارك ونرى السور، فأتوا حفروا فما وجدوا شيئاً، ما ثبت الظلم هنا.
فقال: لا.
(ليس لعرق ظالم حق) ، أين تحقيق الظلم الذي وقع من هذا الشخص؟! أخيراً: طلبناً تقدير هذا الذي يدعيه، وإن كان غير ثابت عندنا، لكن من باب مصالحة، وقلنا: هذا حقك أربعمائة ريال.
قال: لا أريد.
ورفعت للتمييز وصُدق الحكم، وأتينا قلنا له: خذ حقك.
قال: لا أريده.
فحولناه إلى بيت المال، وبعد أربعة أو خمسة أشهر جاء وقال: أعطني حقي.
قلت له: حقك عند بيت المال، اذهب وارفع دعوى عليه وخذ حقك منه.
إذاً: تطبيق النصوص لابد أن يراعى فيه المبادئ الأساسية.
فقوله: (غرس في أرض قوم) يعني: عمداً؛ لأنه يعلم أنها أرض قوم، فإذا لم يكن هناك العمد، ولم يكن هناك تعريف الغصب بالقوة والقهر، فتطبيق النص ليس متأتياً.(214/10)
احتياط القاضي في القضايا المالية والتعويضات
إن مما هو جار على ألسنة الكثيرين: ما يقع من النزاع بين الزوجين، وتطلب الزوجة المخالعة، وقد عرضت عليّ قضية كان الوكيل فيها من طلبة العلم الأخيار، والموكل عنها أيضاً من أسرة أبو طالب علم من الأخيار، فعرض الخلع، فقال وكيل الزوجة: نعطيه ما دفع، وهذه عند الناس جارية.
متى كان الزواج؟ قالوا: منذ اثنتي عشرة سنة.
لابد أن يوجد هناك رأي خاص، وهل ما دفعه من اثني عشرة سنة هو بعينه اليوم في القيمة الشرائية، ثم جلست في لجنة وفيها من قادة وأخيار أهل المدينة، أربعة أشخاص، وجاء في هذه القضية، فقال رجل منهم: والدي تزوج أمي بريال، فجاءت المناسبة: لو أرادت أن تخالع بعد أن صرت أنت رجلاً كبيراً تدفع ريال؟! فقلت له: إن القيمة الشرائية تختلف من اثني عشرة سنة إلى اليوم.
قال: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتردين عليه حديقته) ؟ هذا المعنى الملتحق في أذهان طلبة العلم، نعم قال ذلك، ولكن هل الحديقة في عينها كالنقد بالريال؟ لا، من عشرين سنة كان الريال الفضة مستعمل، ثم جاءت الريالات الورق، وكان الريال الورق محبب ومقدم عند الناس على الفضة، وكان من أراد الحج والسفر جاء بمائة ريال فضة ومعها ريالين للصراف ليأخذ ورقة بمائة ريال، حتى تكون خفيفة في الحمل، الآن الريال الفضة صار سلعة وهدايا عند الزواج، فتغيرت الأوضاع.
فقلت: يا فلان! أنت تعلم أن القيمة الشرائية للمال تختلف بحسب الزمن، ولكن الحديقة هي بعينها، إن ارتفعت الأسعار ارتفعت معها، وإن نزلت الأسعار نزلت معها، فهي بعينها لم تنقص ولم تزدد، فإذا كان الصداق حديقة نعم تردين الحديقة عليه، لكن إذا كانت نقداً، والنقد في ذلك الوقت يختلف عما هو عليه الآن إذاً: القيمة الشرائية للصداق الذي دفعه الرجل من اثني عشرة سنة تعادل القيمة الشرائية لنفس المبلغ الآن بنصف القيمة، فيكون خاسراً لو أنه أخذ ما دفع.
إذاً: هذه النصوص بعمومها يجب أن تؤخذ بالموازنة، وبملابساتها، ويراعى حديث: (لا ضرر ولا ضرار) .(214/11)
مبحث فيما يطرأ على العين المغصوبة
لقد فرع الفقهاء رحمهم الله على مسألة النخل -ولا يزال في كل ما يمكن أن يقال فيه: إنه غصب وطرأت عليه الطوارئ- مسألة ما يطرأ على المغصوب كما يقول ابن رشد في بداية المجتهد: البحث في أصل الغصب وعين المغصوبة، والبحث في الطوارئ التي تطرأ على المغصوب.
مثلاً: إنسان اغتصب سيارة، ثم مكثت عنده شهراً، ثم رأى إطاراتها قديمة، فذهب وغير لها الإطارات الأربعة، وجاء صاحبها يطلبها، هذه السيارة حصل فيها زيادة.
إذاً: هناك طوارئ، ولنقل: لم يغير الإطارات ولكن أحد الإطارات تلف وتركه مركوناً بجانب الباب، فجاء صاحبها يطلبها.
فهل بقيت على ما كانت عليه وقت الغصب أو نقصت؟ نقصت.
إذاً: ينظر في هذه العين مع نقصها.
وهناك من يقول: إذا حصلت هناك زيادة بفعل الغاصب دون مادة يضيفها؛ فلا شيء له في فعله، ويردها كما هي، وإذا حصل هناك نقص فهو ضامن لهذا النقص في تلك العين التي اغتصبها؛ لأنه مكلف بأن يردها كما هي.
وتقدير هذا النقص يكون بحسب قيمتها يوم أن اغتصبها أو يوم أن يردها؟ نجد هناك الخلاف: من يراعي أصل السلعة يوم اغتصابها؛ قال: يرد قيمة الناقص يوم اغتصبها، والنقص؟ كأن يكون اغتصبها قبل ستة أشهر، والنقص حصل بالأمس، فيقدر هذا النقص من يوم اغتصبها.
والآخرون يقولون: يقدر حين يردها؛ لأنها تحت يده إلى أن تؤخذ منه.
وهذا الخلاف موجود حتى في بعض المذاهب فيما بينهم، كما هو منصوص عند بعض المالكية، والباب -كما يقال- فروعه متعددة، وما وجدت تفريعات أكثر منها في المغني لـ ابن قدامة، وكشاف القناع للحنابلة أيضاً.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(214/12)
كتاب البيوع - باب الغصب [3]
جمع النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته التي خطبها يوم الحج الأكبر أبرز معالم الإسلام وأصوله التي اشتملت عليه؛ إذ بها تقوم حياة الأمم وتستقيم، وكان من ضمن تلك الأصول: تذكيره للناس بحرمة أكل أموالهم بينهم بالباطل، وأكدّ عظمة تلك الحرمة بجعلها كحرمة البلد الحرام في الشهر واليوم الحرام.(215/1)
شرح حديث: (إن أموالكم عليكم حرام ... )
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي بكرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم النحر بمنى: (إن أموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) متفق عليه] .(215/2)
مجمل خطبة الوداع في الحج
هذا جزء من حديث طويل، ومن خطبة بليغة جامعة خطبها النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وقد اشتملت في مجموعها على مهام تعاليم الإسلام؛ فتناول صلى الله عليه وسلم الحث على التمسك بالكتاب والسنة، وحذر من الفرقة: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) ، ثم تناول المرأة بحقوقها، وأنها عوان بأيديكم، واستوصوا بها خيراً.
ولم يقل: أوصيكم بها خيراً، بل قال: استوصوا؛ لأنه لو قال: (أوصيكم) تكون وصية واحدة من مصدر واحد، وهو كاف؛ لأنها وصية رسول الله، ولكن قال: (استوصوا) ؛ لتستمر الوصية على مدى الأجيال، كل يوصي الآخر بالمرأة، والعوان: الخدم، (استحللتموهن بكلمة الله) ، ليس بالصداق، ولا بالمغالاة في المهور، ولا بالأثاث ومتاع الدنيا، ولكن بكلمة الله: زوجتك قبلت.
ثم تناول صلى الله عليه وسلم أركان الإسلام، ثم جاء إلى هذه الجملة، وهي من جوامع الكلم، وجعل لها مقدمة، وهذا من بلاغة الأسلوب النبوي حتى يسترعي الانتباه، ويوحي بخطر ما سيأتي بعده، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (أي يوم هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم الحج الأكبر؟ قلنا: بلى.
وقال: أي شهر هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس شهر الله المحرم -أي: الأشهر الحرم-؟ قلنا: بلى.
قال: أي بلد هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس بالبلد الحرام؟ قلنا: بلى) كل هذه المقدمات تثير تعظيم حرمات الله، اليوم الحرام، الحج الأكبر، الشهر الحرام: ذو الحجة، في البلد الحرام: مكة المكرمة، ثم قال: (ألا -وهي أداة تنبيه تسترعي انتباه الغافل، وقد أثار فيهم الشعور من قبل بالحرمات الثلاث- إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) .
لو تأملنا هذا التحريم بالربط مع هذه المحرمات الثلاث لو جدناه كما يقوله الرياضيون: تحريم أس ثلاثة.
يعني: تكرار التحريم ثلاث مرات، والمتأمل في ذلك يجد أن أمن الدنيا وأمانها في سائر العالم لا في بلد دون بلد، ولا قطر دون قطر، ولا مع دين دون دين، جميع أنحاء العالم لا يمكن أن تستقر فيها حياة، ولا يستتب فيها أمن إلا إذا أمنت هذه الأمور الثلاثة؛ لأن البلد الذي لا يأمن فيه الناس على دمائهم قلق مضطرب، ونحن نشاهد ونسمع في بعض البلاد التي تزعزعها السياسة، وتثيرها الأحداث كيف يعيشون، لا يأمن الإنسان على نفسه في بيته ولا الطريق ولا الأسواق، ولا يدري متى يصاب، وهكذا الأعراض تنتهك بدون مبالاة، والأموال تنتهب علانية وتغتصب قسراً، ولا يستطيع أحد أن يرد تلك المظالم، بل أصبحت أموال الدول تغتصب الدولة تغتصب في ممتلكاتها وإنتاجها وذخائرها وموردها الخام، وقد تغتصب عياناً، أو من وراء الستار.(215/3)
حقوق الإنسان من منظور إسلامي
الأصوليون يقولون: إن جميع الأديان، وجميع نظم العالم اتفقت على ضرورة حفظ الضروريات الخمس التي لا قوام لمجتمع بدونها: الأديان، والأبدان، والأنساب، والأعراض، والأموال، وبعضهم يجعلها ستاً بإضافة العقول، والبعض يعد الأنساب والأعراض اثنين، وبعضهم يجعلها واحدة تلك الأمور الست مشتملة ضمناً في مسميات خطبة الوداع، دماؤكم هي حفظ الأبدان، أعراضكم، ويدخل تحتها الأنساب؛ لأن الأنساب لا تتدنس ولا تختلط إلا بعد انتهاك الأعراض، فإذا صينت الأعراض صينت الأجساد، وبقي العقل والدين؛ فالخطاب مع أهل الدين؛ لأنهم في الحج، ومن احترم ذلك احترم الدين، وكذلك العقل؛ لأنه يخاطب العقلاء.
وعلى هذا: فتلك الجملة في هذه الخطبة تعتبر أماناً وضماناً للمجتمعات بأسرها، وإذا أردنا أن نوسع في مدلول هذه المسميات: (دماءكم) سواء كان باعتداء أو خطأ، أو في النفس أو الأعضاء، كل ذلك محرم، وقد حمى الله الدماء، وجعل في الاعتداء عليها القصاص {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة:178] ، ثم جعل الجروح قصاص، ثم سد باب الاعتداء، ووضع الحواجز دون سفك الدماء؛ لعدم الاستهزاء والسخرية، والسباب، والدخول في المناقشات الحادة حتى لا تصل إلى سفك الدماء، وتأملوا ذلك في سورة الحجرات.
والأموال حرمها الله سبحانه وتعالى: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه) ، وطيب النفس إما بعوض وإما بهبة، أما بغير ذلك فليس هناك طيب نفس، وما جاء في الصداق: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4] ، وإذا لم يطبن؟ {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء:20] ثم يبين: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء:21] ؛ فهو حق ثبت بالإفضاء، فإن طابت نفس المرأة بصداقها ولو قناطير مقنطرة فـ: {هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء:4] ، وإن لم تطب نفسها ولو بدرهم فلا يجوز أخذه، وهذا تنبيه للذين يؤذون النساء ويسيئون عشرتهن لتفتدي منه بالمال، فهذا أخذ ماله بغير رضاها، والتعدي على حقوقها واضطرارها للافتداء منه.
وكذلك لو ذهبنا إلى الأسواق ونظرنا فيما يتعلق بالغش والتدليس، وبتطفيف الكيل والوزن، وبكل أمور المبيعات والوصول إلى أموال الناس بغير حق، فهي داخلة في هذا ضمناً، ثم لما حرم الله المال ما حرمه إلا بحق، وجعل في سرقته القطع، وفي اغتصابه التعزير، وفرق بين الاختلاس والاغتصاب والسرقة، بفوارق مذكورة في كتب الفقه.
فالسرقة: أخذ المال بالخفية من حرزه.
والاختلاس: أن يخون المؤتمن على ما اؤتمن عليه.
والغصب: أخذ المال قهراً بدون حق.
فهذه كلها طرق حرمها الله ليسلم المال لصاحبه.
ثم في التحايل عليه، وطرق الغش فيه، والرشوة قال الله: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ} [البقرة:188] ، أو العموم في أول السياق: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] ، وقوله: (بالباطل) راجعة إلى أموالكم بينكم، إلى مال الشخص في ذاته بأن ينفق ماله في باطل محرم: مخدرات، مضرات، سرف وتلف، وأموال أخيه إليه، و (أموالكم) تعم الطرفين: الشخص في ذاته في إنفاقه فيما حرم الله، والآخر في أخذه بدون رضاه: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:188] ، بخلاف الذي لا يعلم بأن ذلك خطأ، أو جاء سهواً، فلما نبه عليه رد المال إلى أهله.(215/4)
حفظ الإسلام للأنساب
نجد أن جميع الحقوق في الإسلام قد صينت، وأما الأنساب فقد حرم الله الزنا؛ لأن به اختلاط النسل، وجعل فيه الحد الجلد أو الرجم، وجعل له حمى كما جعل للمال حمى تحريم الاختلاس والغش والتدليس، وفي الزنا حرم الخلوة بالأجنبية، وسفر المرأة بغير محرم معها، والنظرة تلو النظرة، وحرم كل ما لا يجوز للإنسان فعله {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا} [النور:30] ، {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ} [النور:31] ، فكل ذلك حرمه حماية للأنساب، وسداً لباب الشيطان.
بل قد سد الشرع كل منافذ القلب، فالعين والأذن والأنف كلها منافذ توصل إلى القلب، فالعين بالنظر: (لك الأولى وعليك الثانية) ، والأذن: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ} [الأحزاب:32] ، وبالأنف: (لا تخرج المرأة من بيتها متعطرة) ، كما جاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنه مرت به امرأة فشم ريح العطر منها، فقال: يا هذه! ارجعي فاغتسلي غسل الجنابة فإنك زانية.
وأين الزنا؟ الحديث الآخر يبين ذلك؛ لأن الزنا نسبي، (فالعين تزني وزناها النظر، والأذن تزني وزناها السمع، والأنف.
والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) ، وكذلك السمع: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] ، كن يلبسن الخلاخل في الرجل، فإذا ضربت الأرض برجلها تصادم الخلخالان -من الفضة مجوفان- وأحدثا صوتاً يسترعي الانتباه، وهكذا كل ما يلفت النظر إلى المرأة: لباسها، زينتها، لا تبدي زينتها فتسترعي الأنظار إليها.
إذاً: حفظ الأنساب، وجعل في التعدي بالزنا الحد، وجعل له حمى حتى لا يصل الاثنان إلى ما حرم الله.
وكذلك الأعراض: وهو السباب، والقذف بالمحرمات.
كل ذلك صيانة للمجتمع، فإذا ما سلّم المجتمع الإنساني ولا أقول الإسلامي بل الإنساني لأن لهذا لكل الإنسانية حفظ له دينه.(215/5)
حفظ الإسلام للدين والمال والأسرة
ويقول علماء الاجتماع: الدين ضرورة اجتماعية، يمكن أن تجد مدينة بلا ملعب ولا ملهى ولا مسبح، ولكن لا تجد مدينة بدون معبد -على عبادتهم صالحة أو طالحة- لأن الداخل لابد من إعماره وإلا كان خواءً، فيملأ الداخل بعبادة.
كيف تكون؟ هذا أمر مختلف فيه، وكما قيل سابقاً: الشرق الأوسط فيه خلاء لابد من شغله -أي: خلاء سياسي- وكذلك الداخل في الإنسان خواء ما لم يشغله بتعبد، وأهل الجاهلية كانوا يعبدون الأصنام وهي حجارة وهم من ينحتونها، وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا} [الزمر:3] .
إذاً: أمر بحفظ الأديان والأبدان وعدم الاعتداء عليها، وهذه مشاكل العالم كله، وقد عجزت هيئة الأمم، ومجلس الأمن، والجامعة العربية، وهيئة الإسعاف والإغاثة وكل تلك الدوائر والمؤسسات عن كف وحقن الدماء في تلك البلاد التي تسفك فيها الدماء ونحن نسمع ذلك ليل نهار، سواء كان بين مسلمين وغير مسلمين، أو شحناء وعصبية قبلية كما يوجد الآن في بعض دول أفريقيا، فلو حفظت الدماء، وأمن الناس، واستقرت الحياة، ليسعدوا بالأمنين {أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:4] .
وكذلك الأموال؛ لأن الإنسان يسعى لكسب المال، وهذه غريزة، وهذا دفع للشيوعية كما كانت؛ لأنه لولا المال وحق تملكه والميراث من بعده ما سعى إنسان لجمع أكثر من قسط يومه؛ ولكن يجمعه لمستقبله ولذريته ولما شاء الله، وهكذا الأنساب، لو ضاعت ضاعت المجتمعات، وكما كان يوجد في (نظام الكبتس) ، وهو معسكرات أو مستوطنات يجتمع فيها الأخلاط من رجال ونساء، ليس عليهم كسب للعيش، يطعمون ويسخرون في عمل الدولة، وعليه أن يعمل حيث ما وجه الرجل أو المرأة، ويضمن له طعامه وشرابه، والرجال مع النساء سواء، وما جاء من الذرية يعيش في تلك الحياة، وينشأ على ذلك الحال، ولا يعلم من أبوه ولا من أمه! وهكذا ضاعت المجتمعات.
إن النظام غير الأسري نظام منهار؛ لأن كل فرد بذاته، ولو أخذنا منهم جيشاً وواجهوا العدو فكل إنسان يراعي حياة نفسه، أما المجتمع الأسري الذي يعيش على الأسرة، والترابط وذوي الأرحام؛ فإننا إذا أخذنا جيشاً من هذا المجتمع وقف أمام العدو.
إن هذا النظام الأسري لا ينظر إلى شخصه ونفسه، بل ينظر إلى أمه وخالته وعمته وأبيه وعمه، ويكون سداً منيعاً أمام من وراءه من ذوي رحمه وقرابته، فالمجتمع الأسري مترابط كالبنيان يحمي بعضه بعضاً، والمجتمع غير الأسري لا حياة له لعلكم سمعتم سابقاً في أول قيام إسرائيل، من المجيء بالفرق الأجنبية المستأجرة من هذا النوع، ليس لها أسر، وكانوا يربطون في المصفحات بالسلاسل؛ لأنهم إذا واجهوا العدو شردوا، فليس عندهم من يدافعون عنه، والقضية ليست قضيتهم إنما هي قضية غيرهم، فلا يبيع حياته بأجرة يأخذها.
هكذا نجد الفرق بين المجتمع الذي يحافظ على أنسابه، ويقوم على كيان الأسرة، وبين المجتمع الذي لا نظام للأسرة فيه ويكونون كقطعان الغنم، أو كالسمك في الماء، لا يلوي فرد على فرد، ولا أحد على أحد.
إذاً: تحريم الأنساب هو قاعدة البناء للمجتمع الإنساني الصحيح، وهكذا الأعراض؛ لأن من حفظ عرضه وحفظ كيانه، ووجد نفسه طاهراً نقياً حافظ على ذلك الطهر.
ومناسبة هذا الحديث الذي من أجلها جاء به المؤلف قوله: (ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) ، ومناسبته لباب الغصب إنما هو لذكره تحريم المال والعرض؛ لأن العرض يغتصب، والمرأة إذا اغتصبت لا حد عليها؛ لأنها مكرهة، وهكذا الرجل إن صح ذلك كما يقول ابن تيمية رحمه الله.
وهكذا -أيها الإخوة- نجد النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبة يجمع أطراف الإسلام وتعاليمه كلها في تلك الخطبة، وأنا أسميها: (مجمل الإسلام) ، فلو أن إنساناً تأمل كل ما جاء فيها لعلم قدرها، وهي ولم تجمع حتى اليوم، ولو أن طلاب علم -ليس بطالب علم- تعاونوا على جمع جملها وفقراتها من كتب السنة والتاريخ لخرجوا لنا بدستور ومنهج قويم من السنة النبوية، يعتبر الإجمال لكل تفصيلات التشريع منذ ثلاث وعشرين سنة، فكل باب من أبواب الإسلام تطرق له النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الخطبة العقائد، والعشرة في البيوت، والضرب في الأسواق، حفظ الكيان الإنساني في نسبه وعرضه.
إلى غير ذلك.
وإذا كان مدلول هذا الحديث ومناسبته لباب الغصب فإننا بهذه المناسبة نرجع قليلاً إلى تلك الخطبة ومثارها، حيث قال صلى الله عليه وسلم في تلك الحجة مطلقاً: (خذوا عني) ، وجاء مقيداً: (خذوا عني مناسككم) فالأول أعم؛ (خذوا عني) كل شيء مما يقوله، ويفعله، ويقرره، خذوا عنه في شأن الحج مناسككم، خذوا عنه في شأن المرأة، والمال، والبيع والشراء، والمعاهدات، والمجتمعات، خذوا عنه كل شيء رأيتموه سواء كان سماعاً أو رؤية أو تقريراً.
ثم الجملة التي جاءت مع هذه المقدمات: (خذوا عني لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) ، وفعلاً فإنه ما حج بعدها، ولا أدرك الحج، ولا عُمِّر طويلاً، وانتقل إلى الرفيق الأعلى.(215/6)
إرهاصات وفاته عليه الصلاة والسلام
إن انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى كانت له إرهاصات، وكان فيها تنبيهات كما جاءت إرهاصات عام مولده صلى الله عليه وسلم، فكان لمولده إرهاصات أشارت إلى مجيئه، ولوفاته إرهاصات أشارت إلى قرب أجله وانتقاله.
نعلم جميعاً أن هناك من يجعل من إرهاصات المولد هلاك جيش أبرهة بطير أبابيل، كما قال الله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:5] {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ} [قريش:1-2] ، أي: فعل ذلك من أجل قريش، وقالوا: إرهاصاً بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك انصداع إيوان كسرى وسقوط شرفاته، وجفاف بحيرة ساوة.
ومن العجب -أيها الإخوة- حينما جئنا إلى المدائن، وإلى الإيوان رأيناه مبنىاً في ارتفاع فوق الثلاثين متراً تقريباً، وعرضه ثلاثون متراً، وعمقه أربعون متراً، وسقفه عقود كالقبة، ليس بخشب ولا مسلح! فقلت: أين الصدع؟ فإذا به فوق الجدار في الوسط بين الأرض والسقف جدار الإيوان عرضه من أسفله أربعة أمتار، وينتهي في أعلاه على بعد النظر في العين حوالي نصف المتر، والصدع آخذ شكل -كما يقال-: (سنبوسك) من أعلى ينتهي بصفر، ومن أسفل ينتهي بصفر، ومن الوسط انفراج حوالي ما بين المترين أو الثلاثة في نظر العين، فقالوا: هذا هو الانصداع من ذاك التاريخ إلى اليوم.
فسألت: أين القبلة؟ فكان معنا الملحق الثقافي، وبحضور الشيخ ابن صالح رحمه الله، قال: ما شأنك في هذا؟ قلت: لي حاجة.
قالوا: هنا.
إلى جهة الصدع، قلت: الله أكبر! قال: ماذا؟ قلت: على اتجاه الكعبة مباشرة، لكأن أشعة جاءت من مكة إلى الأيوان فصدعته، ما صدع من الشرق ولا من الغرب، والصدع إلى مسامتة مكة تماماً، ما صدع من يمين ولا يسار، ولكنه مقابل لها، وهذا يؤيد صدق الخبر.
ومن العلامات التي وجدت عند مولده صلى الله عليه وسلم: أن الشياطين حبست عن السماء.
وكذلك عند انتقاله إلى الرفيق الأعلى، كانت هناك إرهاصات أو علامات، صريحة الدلالة على النقل، ولكن ربما كان في دلالتها بعض الكنايات، أوائل ذلك: قبل حجة الوداع في سفره صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك، وذهب يقضي حاجته ويتوضأ، فتأخر على القوم، فقالوا: أمره عنده، ونحن أمرنا بالصلاة في وقتها، ونخشى إن انتظرنا أكثر ربما يخرج الوقت، وقدموا رجلاً يصلي بهم وهو ابن عوف، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان معه المغيرة بن شعبة، فهم المغيرة أن ينبه الإمام ليتأخر ويتقدم رسول الله؛ لأنه من حقه، فهو الإمام الراتب، فأشار إليه رسول أن دعه، وصف في الصف خلف إمامهم، وكان قد سبق بركعة، فصلى مع الجماعة ركعة، ثم أتم صلاته بعد سلام الإمام، فلما نظر الناس ما وقع لرسول الله حدث عندهم شيء، فقال: (لا عليكم، ما قبض الله روح نبي إلا بعد أن صلى وراء رجل من أمته) .
إذاً: الدلالة هنا دلالة عظمى، يدركها حتى الصغار.
إذاً: جاء النبي إلى أمة أعرابية حفاة عراة جهلة، يأكل قويهم ضعيفهم، فساسهم سياسة الإبل الصعاب حتى سخرهم الله وقادهم إليه، وانتقلوا من البداوة إلى الحضارة، ومن التبعية إلى الإمامة، وأصبح الواحد منهم صالحاً لأن يكون إماماً وقدوة يقتدى به.
تربية ناجحة، وتخريج ناجح، وأصبحت الأمة الإسلامية بجميع أفرادها صالحين للإمامة وللقدوة، ولهذا سادوا العالم، ونشروا الإسلام، وانطلقوا بالدعوة شرقاً وغرباً حتى امتلأ العالم كله بتلاميذ رسول الله، وممن اقتدى يعلمون الناس الخير، فهذا إرهاص بأنه تمت مهمته، ونجح في رسالته، وأخرج هذه الأجيال.
من ذلك أيضاً: ما كان في حجة الوداع: لما نزل عليه قوله سبحانه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:1-3] ، عمر رضي الله تعالى عنه لما رأى شيوخ قريش يستكثرون مجيء ابن عباس في مجلسهم أراد أن يبين لهم فضله وهو غلام، فسألهم ذات يوم: ما تقولون في: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] ؟ قالوا: هذه بشرى من الله لرسوله بالنصرة والفتح ودخول الإنسان في الإسلام بلا قتال، وابن عباس لم يتكلم، فالتفت إليه عمر وقال: ما تقول أنت يا ابن عباس؟ قال: والله لقد نعت إلينا رسول الله وهو بين أظهرنا.
قالوا: وكيف ذلك؟ قال: إن الله أرسله بالرسالة لكي يبلغها، وقد بلغها للناس، وأصبح الناس يدخلون في الدين الذي جاء به أفواجاً بغير قتال.
إذاً: مهمته قد انتهت وقد فرغ منها، ولم يبق له إلا أن يتهيأ ويتزود لملاقاة ربه ليلقى.
فقال عمر: وأنا أرى ذلك.
كذلك قال: أحضروا المنبر.
فصعد فخطب الناس بعد صلاة الظهر، ولم ينزل حتى أذن العصر، فنزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطب الناس حتى أذن المغرب، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطب الناس حتى أذن العشاء، فقال قائل: (والله ما ترك لنا شيئاً ولا طائراً يطير بجناحيه في الهواء إلا وذكر لنا منه خبراً، حفظ من حفظ ونسي من نسي) .
وعن العرباض بن سارية، قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: زدنا يا رسول الله لكأنها موعظة مودع) ، نعم موعظة مودع، أدركوا ذلك، وقال وهو على المنبر: (عبد خيره الله فيما بينه والدنيا، فاختار ما عند الله) ، فبكى أبو بكر في أصل المنبر، قال: قلنا: ما بال هذا الشيخ! ما الذي يبكيك؟ وما شأنه في ذلك؟ أبو بكر رضي الله تعالى عنه عرف من العبد الذي خُير، وقد جاء صريحاً في مرض وفاته صلوات الله وسلامه عليه، لما ألحوا عليه أن يكتب لهم، قالوا: (دعوني فما عند الله خير لي منكم) .
بعد هذه العلامات والإرهاصات جاء مرضه صلى الله عليه وسلم وقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) هنا جاء الاستخلاف.
ثم لما قال: (ائتوني بقلم وقرطاس أكتب لكم.
فقال علي رضي الله تعالى عنه: قلت في نفسي: خفت أن أذهب فيفوتني، قلت: قل يا رسول الله فإني حاضر -يعني: أحفظ ما تقول عن الكتابة، مخافة أن أذهب فيفوتني ما تريد أن تقول- فقال: الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم!) ، إلى نحو ذلك، ما خرج من الدنيا صلوات الله وسلامه عليه بغتة، ولكن أعطى تعليمات وإشارات ليتهيأ الناس لذلك الحدث العظيم، كما جاء: (من أصيب في مصيبة فليتذكر مصيبته في) ، وعن أنس قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فاستنارت وأنار منها كل شيء، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فأظلمت المدينة وأظلم منها كل شيء) .
ويقول ابن مسعود: (والله لقد أنكرنا قلوبنا ولما نقبر رسول الله بعد) .
كانوا في حياته في إشعاع، أنوار، هداية، وبعد وفاته تغيرت القلوب.
ثم في وصيته ما ترك الناس همجاً، ما ترك الدنيا بعد هذه التوجيهات إلا وقد رسم لهم منهج السعادة والحياة الكريمة، وإبقاءً على دعوة الإسلام وامتدادها إلى ما شاء الله: (تركت فيكم -أي: بعدي- ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله وسنتي) .
وهكذا أصبحت الأمة الإسلامية تسير على محورين متقابلين، كل منهما يبين الآخر، ويفصل مجمله: كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فالسعيد من رزقه الله فهم كتاب الله، وفهم سنة رسول الله، وإقام حياته على مقتضاهما، ولقد جرب العالم منذ ذاك التاريخ حينما يقام كتاب الله، ويعمل بسنة رسول الله حين كانت الأمة الإسلامية هي أسعد الأمم في العالم، حينما كانت دول الغرب -كما قيل- قناصين في البحر، أو صيادين للأسماك، أو بادية في صحرائهم وغير ذلك، كان العرب سادة وقادة، وأخذ الغرب عن المسلمين -دون أن يعلموا- ذخائر العلم وردوها عليهم.
وهكذا نحن في هذا العصر وبعد قرن ونصف يجد العالم كله أن التجربة الإسلامية هي الحقة، الدولة التي قامت على كتاب الله وعلى سنة رسول الله على ما في أهلها من قصور، لكنها أمثل العالم أمناً واستقراراً وطمأنينة وإخاءً، فعلى هذا كان صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع حينما قال هذا الحديث النبوي الشريف: (ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) ، وإني لأتمنى وأرجو من الإخوة طلبة العلم أن يتعاون الخمسة أو العشرة على النظر في كتب السنة والمسانيد ليجمعوا كل ما قيل في تلك الخطبة، ثم ينسقوها لنا، ويقدموها لنا منهجاً وبرنامجاً.
وبالله تعالى التوفيق.
والحمد لله رب العالمين.(215/7)
كتاب البيوع - باب الشفعة [1]
من القواعد العظيمة في الشريعة أنه لا ضرر ولا ضرار، فرفع الشرع الضرر عن المسلم وحرم عليه الضرار، ولذلك جاءت أحكام كثيرة في الشرع تدل على هذه القاعدة، ومنها: الشفعة، فالشفعة شرعت لرفع الضرر عن الشريك أو الجار ممن قد يأتي ويحصل منه الضرر والأذى.(216/1)
شرح حديث: (قضى رسول الله بالشفعة في كل ما لم يقسم ... )
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين، أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة) متفق عليه واللفظ للبخاري، وفي رواية لـ مسلم: (الشفعة في كل شِرك: في أرض، أو ربع، أو حائط، لا يصلح -وفي لفظ: لا يحل- أن يبيع حتى يعرض على شريكه) ، وفي رواية الطحاوي: (قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شيء) ورجاله ثقات] .(216/2)
مناسبة ذكر باب الشفعة بعد باب الغصب
مناسبة ذكر باب الشفعة بعد باب الغصب؛ لأن بينهما شبهاً وهو انتزاع ملك الغير بغير إذنه؛ لأن الغاصب يستولي على ملك الغير قهراً وبغير إذنه، وكذلك الشفعة، فالشفيع ينتزع حصة المشفوع عليه قهراً.
أي: بالقوة أو بدون رضاه؛ فبينهما شبه ما.(216/3)
تعريف الشفعة وصورتها وسبب مشروعيتها
والشفعة لغة: من الشفع ضد الوتر، فالوتر واحد، والشفع اثنان فأكثر مما يقبل القسمة على اثنين بدون باقٍ، كالأربعة والستة والثمانية والعشرة إلخ، فهذه أعداد شفع، والواحد والثلاثة والخمسة والسبعة أعداد وتر؛ لأنها لا تقبل القسمة على اثنين بدون باق.
والشفعة قيل: أخذت من معنى الشفع بمعنى: الزيادة، وبمعنى: الضم، وبمعنى: النصرة.
والشفعة عند الفقهاء رحمهم الله هي: أن يأخذ الشريك حصة شريكه ممن اشتراها عن طريق الحاكم.
وقال بعض العلماء: إن الشفعة غايرت القاعدة العامة في احترام أموال الناس؛ لأن بها انتزع حق المالك بغير رضاه، والقاعدة هي قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه) فقالوا: غايرت القاعدة العامة، ولكن استندت إلى قاعدة أخرى وهي: (لا ضرر ولا ضرار) ؛ ولهذا يقولون: شرعت الشفعة لرفع الضرر عن الشريك.
وصورتها على سبيل الإجمال: أن يكون العقار -ربع أو دار، أي: أرض أو بيت أو بستان- مملوكاً لاثنين هما شريكان فيه، وتلك الشركة على الإشاعة، كل له النصف أو الربع أو ثلاثة أرباع، أو الثلث أو الثلثان، بدون قسمة ولا تمييز، أو له ثلاثون أو ستون في المائة من عين العقار، فيبيع أحد الشريكين حصته إلى شخص ثالث، فيأتي الشريك الذي لم يبع ويخشى مضرة الذي اشترى بأن يسيء معه الشراكة أو يكون رجل سوء؛ فيشفع عليه وينتزع منه الحصة التي اشتراها من شريكه ويضمها إلى حصته هو، فيكون قد شفع حصة شريكه إلى حصته بضمها إليه.
هذا هو هيكل الشفعة، وذكر بعض العلماء: أن الشفعة في الجملة كانت موجودة في الجاهلية وإن لم تكن على النظام المشروع والموجود في الإسلام، وذكروا: أن الرجل كان إذا أراد أن يبيع بيته -وليس فيه شركة لأحد- فإذا علم رجل بذلك، وأتاه وقال: أنا أحب أن أشتري البيت، قدمه على غيره، فاعتبروا ذلك من الشفعة.
ومن القواعد العامة في الإسلام: احترام الأموال، ومن القواعد العامة: رفع الضرر، فالشفعة يجتمع فيها الأمران؛ يجتمع فيها احترام المال والتعدي عليه، ويجتمع فيها وجود المضرة.
أما أخذ المال؛ فلأن الشفيع يأخذ حصة المشتري بدون رضاه، والمال محترم وهذا فيه مضرة على المشتري أن ينتزع ماله بغير رضاه، وفيها أيضاً رفع الضرر عن الشريك الذي لم يبع؛ لأن المشتري أجنبي عنه، وقد يعلم من سلوك المشتري الذي سيدخل شريكاً معه ما يتضرر به.
إذاً: هناك مضرة على الذي اشترى بانتزاعه منه، وهناك مضرة على الذي لم يبع بدخول شخص ثالث عليه، فاجتمعت المضرتان.
والقاعدة عند الأصوليين: (إذا وجدت مضرتان؛ فيرتكب أخفهما ضرراً) .
فقالوا: إن المضرة التي تكون على المشتري بأخذ الحصة منه وردها إلى الشريك أخف من المضرة التي ستكون على الشريك من المشتري الجديد سيئ الخلق أو سيئ الشراكة أو العشرة.
إذاً: يرتكب أخف الضررين؛ فيلغى شراء المشتري الجديد وترجع الحصة إلى صاحب الشراكة القديمة، والمشتري سيأخذ ما دفع، وليس عليه مضرة مالية، فإذا اشترى بألف فسيرد إليه الألف الذي دفع، وانتهت المشكلة، بخلاف ما لو ألغينا الشفعة، فسيأتي شخص آخر -وبحكم التملك- ربما طالب بالقسمة في المشاع، وربما زاحم صاحب الشراكة الأول فتكون المضرة مستمرة.
ويقولون: ما خالف في الشفعة من السلف إلا عالم واحد يقال له: الأصم، فإنه قال: هذا اشترى وتملك، فكيف ننزع منه ملكه بغير رضاه؟ وأجاب الجمهور: بأن هذا من باب ارتكاب أخف الضررين.
والعالم كله على سبيل الإجمال يقرر الشفعة في القضاء المدني ما عدا بلداً واحداً عربياً ألغى الحكم بالشفعة في عهد قريب حوالي في الخمسينات بينما القضاء الفرنسي إلى اليوم يعمل بالشفعة، والقوانين الأوربية كلها تقر العمل بالشفعة.
إذاً: كما يقول العلماء: الشفعة ثابتة بالكتاب، وبالسنة وبالإجماع.
أما الكتاب فبالعمومات، وأما السنة فبنصوص تفصيلية كما ذكر المؤلف رحمه الله هنا.
وأما الإجماع: فالعمل بها ماض من زمن النبي صلى الله عليه وسلم على مر العصور الإسلامية، وهلم جرا.
إذاً: الشفعة مشروعة بلا نزاع، ولا عبرة بالأصم في مخالفته، ولا عبرة بإلغاء بعض الدول العربية المتأخرة للشفعة، فقد كانت موجودة عندها قبل الإلغاء، وهو حجة عليها.(216/4)
أركان الشفعة وفي أي شيء تكون
وهذه النصوص التي جاءت وسمعناها في الشفعة كما يقول ابن رشد رحمه الله تعالى: تبحث من عدة جوانب: أولاً: أركان الشفعة، وأركانها: شافع، ومشفوع عليه، ومشفوع فيه.
أما الشافع: فهو الشريك الأول، وأما المشفوع عليه فهو المشتري، وأما المشفوع فيه، فهو موضع البحث عند العلماء.
ثانياً: في أي شيء تكون؟ عندنا الحديث الأول وفيه: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا جرت القسمة، وصرفت الطرق، وضربت الحدود؛ فلا شفعة) يؤخذ من هذا الحديث: أن الذي تقع فيه الشفعة هو الملك المشاع مثل عقار يمكن أن يقسم وتميز الحصص الشائعة، كما يقال: قسمة إفراز، فإذا كان هناك اثنان يمتلكان بيتاً أو أرضاً، واحد منهما له الثلث والآخر له الثلثان فهو مشاع، فلكل واحد منهما حصته في كل شبر منها، كل شبر من الأرض لأحدهما فيه الثلث والآخر له الثلثان؛ لأن هذا حق مشاع داخل في جميع جزئيات الأرض المشتركة، وهذا خلاف ما يقال عند المتأخرين والمتقدمين: ما كانت الشراكة فيه على التعيين، بمعنى: هذه الأرض ألف متر، له خمسون متراً ولشريكه الباقي، فهنا هذه شركة على التعيين بالأمتار وليست مشاعة بنسبة مئوية، وهذا النوع من الشراكة، الجمهور على أنه لا شفعة فيه، وعند بعض المالكية أنها تساوي الشراكة المشاعة بدون تعيين وتحديد مقدار.
فإذا كان الحديث: (الشفعة فيما لم يقسم) .
إذاً: يكون قابل القسمة فإذا كان العقار من حيث الصغر أو من حيث موضوع عمله لا يقبل قسمة فلا شفعة فيه، فلو أن هناك مصنعاً لتجميع سيارات، أو منجرة فيها آلات يساعد بعضها بعضاً؛ فمنها المنشار الذي يشق الخشب والذي يمسحه ومنها ما يثقبه، وكلها يكمل بعضها بعضاً، فلا يمكن قسمتها، فلا يمكن قسمة المنشار، ولا يمكن قسمة الآلة التي تنعم الخشب، فإذا قسمت وأخذ واحد منشاراً، وأخذ الثاني قطعة من خشب فالمنشار بدون تلك القطعة لا يعمل شيئاً، أو كان العقار صغيراً، كدكان مساحته متر في متر ونصف، وقد شاهدنا سابقاً بعض الدكاكين لا يزيد عن متر في مترين، متر واجهة ومترين عمق، فكيف يقسم؟ وإذا قسم لا يستفاد من قسمته، فهذا لا شفعة فيه.
وقالوا: ما أبطلت الشفعة المنفعة المقصودة منه فلا شفعة فيه، ومثلوا بالحمام، والحمام هو: مبنى كبير فيه مرافق لجلوس الناس وراحتهم بعد الاستحمام، وفيه مغطس فيه ماء حار، وفيه موضع للتدليك، فلو قسمنا هذا الحمام لبطل كونه حماماً؛ لأن كل شقص منه لا يؤدي وظيفته كحمام بكامله.
إذاً: لا تصح فيه شفعة.
وكذلك الرحى على ما كانت قديماً، كانت تدار بالماء وتدار بالهواء، وهي تقبل القسمة؛ لأنها حجر فوق وحجر تحت، ولكن أحد الحجرين لا يعمل بدون الآخر، كما يقول المثل العامي: (يد واحدة لا تصفق) ، أي: لابد من ضم اليد الثانية إليها، وكذلك الرحى، وهكذا البيت الصغير، إذا لم يقبل القسمة وإذا قسم عطلت منافعه، فلا يصلح لسكنى أحد.
إذاً: قوله: (ما لم يقسم) يفيد أنه لا شفعة إلا فيما يقبل القسمة؛ لأن نفي القسمة لا يكون عن شيء من شأنه أن يقبل القسمة، وهذه قاعدة عند علماء المنطق يسمونها: (العدم والملكة) ، وهو أنه لا يحق لك أن تنفي صفة عن شيء إلا إذا كان قابلاً للاتصاف بها، فلا تقول: هذا الكرسي لا يطير؛ لأنه ليس من شأنه الطيران، ولا تقول: هذه السارية لا تسمع؛ لأنه ليس من شأنها أن تسمع، فتنفي عنها شيئاً ليس من شأنها، اللهم إلا إذا كان في العصور الحديثة حيث صارت السماعات تجعل في الجدران!! فهنا: (مالم يقسم) نفي القسمة يدل على أن المتحدث عنه قابل للقسمة.
ومن هنا خص الجمهور الشفعة في الشراكة؛ لأنه إذا ضربت الحدود، بمعنى: قسمت فلا شفعة، فإذا كان هناك ألف متر من الأررض وأردنا أن نقسمها مناصفة فهل يتعين أن كل قسم يكون خمسمائة متر أو يمكن أن يتفاوت في القسمة بحسب المواقع، فإذا كانت هناك واجهة عشرون متراً، وواجهة من الجهة الثانية عشرة أمتار، وقسمناه عرضاً، فسيكون النصف على الواجهة الأولى عشرون متراً، والنصف على الواجهة الثانية عشرة أمتار، فهل يستويان معاً وتتحد فيهما الرغبة؟ الجواب: لا، بل لابد أن ننقص من القسم الذي على الواجهة الواسعة لنعوض صاحب الواجهة الصغيرة.
إذاً: بحسب القسمة، وقعت القسمة بالمناصفة في الحقوق، لا في عين المساحة إذا قسمت ووضعت الحدود؛ لأن المشاع ليس فيه حدود، (فإذا وضعت الحدود) أي: جعل هذا حد قسمي وهذا حد قسمك، (وصرفت الطرق) كأن يكون الطريق كله في الشارع الواسع؛ لأنه مشترك مشاع، ولما قسمنا اضطررنا أن نوجد طريقاً آخر للقسم الثاني فجعلنا طريقه من الشارع الآخر سواءً شرقاً أو غرباً، فحينئذ إذا وقعت القسمة وضربت الحدود وصرفت الطرق، فقد انتفت الشراكة، وأصبح كل واحد من الشريكين جاراً للآخر، فقالوا: لا شفعة للجار بمقتضى هذا الحديث، وهو كما ذكر المؤلف رواه الشيخان البخاري ومسلم، وليس فيه أي مطعن.
إذاً: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل مالم يقسم) يعني: في كل شراكة في أي عقار قابل للقسمة ولم يقسم، فإذا ما جرت القسمة، وضربت الحدود، وصرفت الطرق انتفى معنى الشراكة وأصبحا بدل الشريكين جارين.(216/5)
شرح حديث: (الشفعة في كل شرك ... )
قال المصنف رحمه الله: [وفي رواية مسلم: (الشفعة في كل شرك: في أرض، أو ربع، أو حائط) ] .
(الشفعة في كل شِرك) والشرك بأن يكون -كما تقدم- شركاً مشاعاً، ليس شركاً محدداً بالأمتار، فهذا نص في أن الشفعة تكون في كل شرك، والمجاور ليس شريكاً إنما هو مجاز.
قوله: (الشفعة في كل شرك: في أرض، أو ربع، أو حائط) .
(في أرض -أرض بيضاء- أو في ربع) والربع: قيل: الأرض البيضاء التي لا غرس فيها، وقيل: هي التي فيها الغروس، يعني: نقول: في بستان أو في أرض بيضاء أو في بيت.(216/6)
حكم البيع إذا لم يعرض البائع على شريكه
قوله: (لا يصلح -وفي لفظ: لا يحل- أن يبيع حتى يعرض على شريكه) .
أي: لا يصلح لأحد الشريكين أن يبيع حصته في الشراكة حتى يعرضها على شريكه، فيقول له: أتأخذ نصيبي أو أبيعه؟ فإن قال: آخذ، فالحمد لله، وهو أولى من الغير، وإن قال: لا آخذ، فله أن يبيعه من غيره؛ لأنه سيأتي في شروط الأخذ بالشفعة: أن الشفيع يأخذ بعين الثمن الذي أخذه به الأجنبي، وأن يكون الثمن حالاً، وإنما الخلاف فيما إذا كان باع نصيبه مؤجلاً، فهل يأخذه الشفيع أيضاً بثمن مؤجل وكما أجل للأجنبي يؤجل لشريكه؟ قالوا: نعم، إذا كان مليئاً أو أتى بكفيل غارم.
إذاً: في بادئ الأمر إذا أراد الشريك أو أحد الشركاء -فقد يكون العقار شركة بين اثنين أو أكثر- أن يبيع، فلا يحق له إلا إذا عرض على الشركاء، فإن أجازوا فالحمد لله، وإن أبوا وقالوا: نحن نشتري فيأخذون، وكيف يأخذون إذا كانوا مجموعة؟ لو كان الشريك واحداً فسيأخذ حصة الشريك الآخر لنفسه لكن إذا كانوا ثلاثة وكل واحد قال: أنا أشتري، وكل الثلاثة قالوا: نأخذ بالشفعة، فهل نعطي واحداً من الشركاء الجزء المبيع ونترك البقية؟ أو نقول: أيها الشركاء! أنتم كلكم لكم حق الشفعة.
بأي صفة تكون الشفعة لهم كلهم؟ فإذا كان الثلاثة: واحد له السدس، والثاني له الثلث، والثالث له الربع، فهل نعطيهم من حصة الشريك الذي باع بقدر شراكتهم الشائعة فيه، فالشريك بالربع في الأرض العامة يأخذ ربع المبيع بالشفعة، والشريك بالثلث في الأرض العامة يأخذ الثلث من المبيع بالشفعة؟ قيل: إنهم يأخذون بقدر أنصبائهم في التملك في العين المشتركة، وقيل: يأخذون بعدد الرءوس.
أي: نقسم حصة الشريك الذي باع عليهم بعدد رءوسهم، وأعتقد أن الأول أضبط وأوفق تمشياً مع قواعد البيع والشراء.
فهنا لا يصح للشريك أن يبيع حصته حتى يؤذن شريكه.(216/7)
هل للشريك أن يشفع بعد البيع إذا عرض عليه قبله
وهنا إذا قال الشريك: أنا لا أشتري، فقال له: أنا سأبيع، فقال له: بع.
فقال له: ولكن هل ستشفع بعدما أبيع أم ستترك الشفعة؟ فسكت ولم يقل شيئاً، أو قال: لا أشفع، فباع الشريك حصته على ثالث، وبعد أن باع جاء الشريك وقال: سأشفع، فهل يحق له طلب الشفعة، أو أن طلبه سقط بإسقاطه إياه قبل العقد؟ المسألة خلافية، ولكن المنصوص عليه عند الحنابلة والراجح عند الجمهور: أنه إذا عرض عليه فقال: لا أشفع وسكت حتى باع، فإن أصل الشفعة لا يأتي بها إلا عقد البيع للشقص، وهل هناك شفعة قبل أن يبيع؟ الجواب: لا شفعة قبل البيع، وهو عندما قال: أسقطت حقي في الشفعة، فحقه لم يأت بعد؛ لأن الشريك لم يوقع البيع فلا محل للشفعة، فهو أسقط مالم يملك، فلما جاء عقد البيع جاء العقد معه بحق الشفعة، فقيل له: لماذا قلت: أنا لا أشفع وغررت بشريكك؟ قال: لا، هو يريد أن يتفق المشتري عليّ، وإذا باع له فسيبيع له بألف، وإذا علم بأني سأشفع فسيتفق معه على ألفين؛ لأن الشفيع لا يأخذ إلا بما وقع عليه البيع للأجنبي، فإذا قال الشريك: أنا سأشفع إذا بعت فقد يذهب شريكه الآخر ويبيع ما يساوي ألفاً بألفين، ويزيد الألف هذا إما تعجيزاً للشفيع ليترك الشفعة، وإما زيادة في الظاهر ثم يتقاسمان الألف الزائدة بينهما على حساب الشفيع، فإذا قال الشريك: أنا لن أشفع، اذهب وبعه، فهو ينفي الاتفاق على المضرة والغرر به، وكذلك إذا قال: أنا تركت ولم يقل: أشفع، حتى لا يدخلوا عليه الزيادة في الثمن لعلمهم أنه سيشفع.
إذاً: لا يبيع حتى يؤذن صاحبه فيشتري أو يترك، فإن اشترى فالحمد لله، وإن ترك حتى باع الشريك، فله الحق أن يأتي ويقول: مادام أن البيع قد وقع فأنا أشفع، وهذا أيضاً نص على أن الشفعة في الشراكة وليس فيه الجوار.
قوله: وفي رواية الطحاوي: (قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شيء) .
هناك لا شفعة إلا فيما يقسم، وإذا وقعت القسمة انتفت، الشفعة في ربع أو دار.
أي: في عقار ثابت، وهنا قال: (في كل شيء) إذا وجدت شراكة في أي شيء سواءً كانت في سيارة، أو في سفينة أو -كما يقول البعض- في سيف، أو في فرس، أو في حيوان أو متاع منقول، فكلمة: (في كل شيء) جمعت كل شيء، ولم يقل بهذا الجمهور، ولكن يروى هذا عن مالك وعن أحمد ولكن مذهب الحنابلة على خلاف ذلك، فهذا الحديث أو هذا الأثر يشعر بجواز الشفعة في كل شراكة، وإذا سألك أحد: كيف أشفع في سيارة فشريكي الأول الذي كان معي ابن حلال لا يدقق معي ولا يحاسبني -وسيأتي هذا- فإما أن يأخذ السيارة ويقول: أحاسبك، أو يأتي كل يوم إليّ ويقول: حاسبني حساب السيارة اليوم، فأنا أشفع وآخذ حقي؟ فبعضهم يقول: إذا تضرر الشريك من شركة الآخر تباع ويفض النزاع بين الطرفين؛ ولتعذر الاستفادة من الشراكة أو الشفعة في المنقول كالثياب، فكيف يشفع في الثوب؟ وإذا باع عباءته أو باع مشلحه، فقال: شريكه أنا أشفع فيه، فإن لي النصف فيه، فقد اشتريناه شركة، أو ورثناه سوية من أبينا، وهذا يصح التملك فيه، يقولون: إن الأثر الذي عند الطحاوي لا يمكن أن يناهض ما جاء في الصحيحين، فقد جاء بصريح النطق: (لا شفعة إلا في ربع أو دار) (قضى بالشفعة في كل مالم يقسم) والسيارة والثوب ونحو ذلك، هذه لا تقسم ولا يمكن الانتفاع بحصة منها.
إذاً: ما يمكن إلا أن نبيع؛ ولهذا حتى الروايات التي جاءت عن بعض الأئمة أصحابهم لم يعملوا بها.(216/8)
شرح حديث: (جار الدار أحق بالدار)
قال المصنف رحمه الله: [وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جار الدار أحق بالدار) روه النسائي، وصحح ابن حبان، وله علة] .
قوله: (جار الدار أحق بالدار) هذا نص صريح في أن الجار أحق بدار الجار.
ونحن في خصوص الشفعة، والحديث لم يتعرض لمعنى الشفعة.
إذاً: أحق بها بماذا؟ هل هو حق بالإجارة أو بالارتفاق أو بالانتفاع أو أحق بالشفعة؟ كل هذه احتمالات، وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال، ولكن هناك من يقول بهذا الحديث في إثبات الشفعة في الجوار، وهو مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله، ويتفق الأحناف مع الجمهور في أن الشفعة أولاً للشريك في الأشياء الشائعة مالم تقسم.
ثم يقول أبو يوسف: إذا لم يوجد شريك شائع يطالب بالشفعة فللجار المطالبة.(216/9)
مراتب الشفعة عند الأحناف
ولذا يقولون: الشفعة على ثلاث مراتب: الشفعة في الشراكة الشائعة للشريك، والشفعة في الجوار إذا وجدت شراكة في مرافق العقارين، والشفعة في الجوار بلا مشاركة في المرافق.
والمشاركة في المرافق قالوا: في الطريق؛ بأن يكون البيتان يقعان على طريق أو شارع واحد بشرط أن يكون غير نافذ أي: أن هذا الطريق مشترك بين الجار هذا والجار هذا؛ لأن الجار إذا باع على شخص آخر فسيأتي من يزاحمه في هذا الطريق وقد يكون شرساً أو سيئاً، فيؤذي الجار في الطريق، فقالوا: يوجد هنا معنى الشراكة، ويحتمل معنى المضرة؛ فيعطى الجار الحق في الشفعة إذا لم يوجد الشريك الشائع صاحب الحصة؛ فإن وجد -كما يقول أبو يوسف - حجب الشفعة عن غيره، فإذا لم يوجد شريك أو وجد ولم يطالب بالشفعة فللجار الذي له الشراكة في مرافق الجوار حق الشفعة.
وكذلك الأرض، هذا له أرض بحدودها وجاره له أرض بحدودها، إذا كان بينهما اشتراك في الماء الذي يسقي الأرضين، ولكن ينص أبو يوسف أيضاً بأن يكون على نهر صغير لا تجري فيه سفن، وأن يكون النهر محدوداً يسقي مزارع معينة وليس عاماً يمشي إلى ما شاء الله، وعلى هذا: مراتب الشفعة عند الأحناف: أولاً: تكون للشريك شراكة شائعة كالجمهور.
ثانياً: للجار الذي له شراكة في مرافق العقار.
ثالثاً: للجار الذي لا شراكة له في هذا العقار ولا شراكة له في مرافقه.
وحجتهم هذا الحديث: (جار الدار أحق بالدار) ، ولكن كما قالوا: هذا الحديث له علة، وقد تكلم عليه العلماء، فسنده لا يقاوم ما تقدم.
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي رافع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الجار أحق بصقبه) أخرجه البخاري والحاكم وفيه قصة] .
وهي: أن أبا رافع قال للمسور بن مخرمة: ألا تأمر هذا -يعني: سعد بن أبي وقاص - أن يشتري مني داري -وهي قرب سعد - فقال سعد: والله ما أزيدك على أربعة آلاف، فقال أبو رافع: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الجار أحق بصقبه) ما بعتك بأربعة آلاف.
الواقع أن هذا الحديث له عدة جوانب، وفيه عدة شبه، والوقت لا يكفي لعرض أو لبيان نقاط المغايرة لأحكام الشفعة؛ لأنه كان له بيوت داخل الدار وليس بينهما شراكة مشاعة، وإنما هي جوار، وفي هذا الحديث قصة وهي تحتاج إلى زيادة إيضاح، ولعلنا نرجئه إن شاء الله إلى درس قادم، وبالله تعالى التوفيق.
ونحب أن ننبه الإخوة إلى أن مباحث الشفعة في جزئياتها متسعة جداً، وقد كُتبت فيها رسائل تصل إلى الثمانمائة صفحة، والتفصيل في كل جزئياتها إنما هو عند المذاهب، وقد تناولوا الشفعة في الإجارة؛ كأن يكون هناك شركاء وواحد أجر حصته، وكذلك الشفعة بالنسبة للغائب والصغير والمجنون والمولى عليه والمتراخي في طلبها، وأيسر ما يؤخذ في هذا: (المغني) لـ ابن قدامة، و (المجموع) للنووي، وقد تناولها ابن قدامة في (المقنع) ولكن بشيء من التعقيد.
وننصح الإخوة بأن يراجعوا موضوع الشفعة إذا أرادوا التوسع في الجزئيات والتصور لبعض مواضيعها فيما يتعلق بنوع الثمن وكيف ينتقل الشقص، وكل هذا سيأتي إن شاء الله لكن على سبيل الإجمال، وأما التوضيح الوافي فهو كما أشرت إما في الرسائل المتخصصة، وإما في (المغني) لـ ابن قدامة وهو أقل تفريعاً من النووي في (المجموع) ، فيرجع إلى تلك المراجع الأصيلة.
وبالله تعالى التوفيق.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(216/10)
كتاب البيوع - باب الشفعة [2]
جاءت الشريعة الإسلامية بحفظ الحقوق وأداء الواجبات، ومن هذه الحقوق والواجبات حقوق الجار، فقد أمر الشرع بالإحسان إلى الجار وحرم إيذاءه، ولذا أذن له بالشفعة من جاره الآخر لما قد يحصل عليه من الضرر ممن سيحل محله.(217/1)
شرح حديث: (الجار أحق بصقبه)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن أبي رافع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الجار أحق بصقبه) أخرجه البخاري والحاكم وفيه قصة] والقصة هي: أن أبا رافع قال للمسور بن مخرمة: ألا تأمر هذا -يعني: سعد بن أبي وقاص - أن يشتري مني داري -وهي قرب سعد - فقال سعد: والله! ما أزيدك على أربعة آلاف، وقال أبو رافع: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الجار أحق بصقبه) ما بعتك بأربعة آلاف.
هذا الحديث بقصته في صحيح البخاري، وفي القصة أن عمرو بن الشريد قال: وقفت على سعد بن أبي وقاص، فأتى أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتى المسور بن مخرمة، فقال أبو رافع للمسور: ألا تكلم هذا -يعني: سعد بن أبي وقاص - أن يشتري بيتي اللذين هما في داره، فقال سعد: والله! لا أشتريهما أبداً، فقال المسور مساعدة لـ أبي رافع: والله! لتشترينهما، فقال: والله! لا أعطيك فيهما إلا أربع مائة -وفي لفظ: أربعة آلاف- وأربعمائة على أنها مثاقيل؛ لأن المثقال يصرف بعشرة دراهم، وأربعمائة في عشرة تكون أربعة آلاف منجمة أو مقطعة - والله لا أشتريهما إلا بأربعمائة منجمة -أي: مقسطة- فقال أبو رافع: وكيف أبيعك إياها وقد منعتها من خمسمائة دينار؟ -يعني: خمسة آلاف درهماً، بمعنى: أن سعداً نقص من قيمتها إما ألف درهم فضة ومائة دينار ذهباً -كيف أبيعك إياها بأربعة آلاف وقد منعتها من خمسة آلاف؟ والله! لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الجار أحق بصقبه) ما بعتك إياها، فباعها عليه بالأربعمائة دينار.
هذا الحديث بنصه في صحيح البخاري على هذا العرض، وهنا دار سعد كما تقول آثار المدينة كانت بالبلاط، والبلاط ما بين المسجد النبوي ومسجد المصلى -مسجد الغمامة-، وكان سعد حريصاً على تلك الدار مع أنه كان له قصر؛ لأنه جاء في بعض الأحاديث عن الروضة: (ما بين بيتي والمصلى روضة من رياض الجنة) فحمل البعض كلمة: (المصلى) على صلاة العيد، وحملها الجمهور على أن المراد بالمصلى: المكان الذي كان يقوم فيه صلى الله عليه وسلم للصلاة جماعة وهو على ميسرة المنبر، وهذا هو الصحيح؛ لأن الرواية الأخرى في الروضة: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على ترعة من ترع الجنة) .
إذاً: الروضة مرتبطة بالمنبر وليست مرتبطة بمسجد المصلى الذي هو موضع مصلى العيد الذي هو الآن معروف بمسجد الغمامة.(217/2)
وضعية الدور في السابق
فـ سعد كانت له دار، ولـ أبي رافع فيه بيتان، ومعنى بيتين: حجرتين، والدور في السابق كانت عدة حجرات شبه الدائرة وبينها فراغ يسمى الصحن أو الحوش في العرف الحاضر، يطوف عليها البنيان ولها باب واحد يدخل منه، وقد تكون الدار فيها عدة بيوت لعدة أشخاص، وكل يسكن في بيته على حدة، ويبحث الفقهاء ذلك في باب الحرز في القطع؛ لأن تلك البيوت هي في دار واحدة، فإذا أخرج شيئاً من تلك الدور إلى الصحن، فهل يكون قد أخرجه من حرزه؟ أو لا يتم الإخراج من الحرز حتى يخرجه إلى الصحن ومن الصحن إلى الخارج؟ وهذا كان عرفاً موجوداً في السابق كما كان العرف في المدينة وفي مكة تجزئة التملك ما بين الطابق الأرضي والطابق العلوي، فقد كان يتملك الإنسان دكاناً أو دكانين تحت بيت شخص آخر، فالبيت لشخص والدكان أو الدكانين لشخص أو لأشخاص آخرين، أي: تجزئة المبنى.
فهنا أبو رافع يقول للمسور: ساعدني على سعد، أي: كلِّمه أن يشتري مني البيتين اللذين هما لي في داره من داخل، فقال سعد: والله! لا أشتريهما أبداً، فتدخل المسور -وهو الواسطة- وقال: والله! لتشترينهما، فلما تدخل المسور وأقسم عليه، قال: إذاً: لا أعطيك بهما إلا أربعمائة مثقال.
ولو أتينا إلى المثاقيل وإلى الأسعار فإن الباحث الاجتماعي يستطيع أن يعرف القيمة الشرائية للعقار في ذلك الوقت، ويقارن بينها وبين الأثمان والعقار في الوقت الحاضر، ومن هنا تؤخذ الأحكام بمتابعة الأحوال الاجتماعية والعامة، كما جاء في قصة الرجل الذي أعطي ديناراً ليشتري شاة.
إذاً: القيمة الشرائية للشاة هي دينار، فما هي القيمة الشرائية اليوم بالنسبة للدينار؟(217/3)
الخلاف في أحقية الجار بالشفعة
وإذا جئنا إلى موضوعنا فالمؤلف وغيره كما فعل البخاري ساق هذا الحديث في باب الشفعة، ما علاقة بيتين في دار بموضوع الشفعة؟ ليس هناك شركة مشاعة، إنما بيوت محددة مميزة، وكل بيت له باب، وهو مستقل بذاته، فلا علاقة للشفعة هنا؛ لأن الشفعة لا تكون إلا في شقص مشاع باعه أحد الشركاء على شخص آخر، وهنا لم يحصل بيع، وإنما صاحب البيتين يعرض على صاحب الدار أن يشتريهما منه.
إذاً: موضوع الحديث موضوع البيع والشراء ولا علاقة له بالشفعة أبداً، ولهذا ينبه ابن حجر في فتح الباري ويقول: الحديث موضوعه البيع، ولكن الذين يقولون بالشفعة للجوار يستدلون به؛ لأنه عرض عليه أن يشتريهما، ولئن كان جاره أولى بأن يشتري منه فكذلك جاره أولى بأن يشفع عليه؛ فتكون دلالة الحديث على الشفعة من باب القياس واللزوم وليس من باب النص؛ لأنه قال هنا: (اشتر بيتي اللذين هما في دارك.
فقال: والله! لا أشتريهما) .
إذاً: لو أنه توقف عند هذا وقال: والله! لا أشتريهما، ولم يشترهما فيكون كأنه ما حصل شيء؛ لأن الغير كان ممكن أن يشتريهما؛ لأنه قال: منعتهما من خمسمائة.
إذاً: قد سيم عليهما، وقد جاءه زبون، ولكنه نظر إلى الحديث: وقال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الجار أحق بصقبه) وتقدم الكلام على كلمة: (صقب) بالصاد أو بالسين، وأما معناها فمنهم من يقول: الإحسان إلى الجار، ومنهم من يقول: المساعدة، وذكروا أموراً عديدة، حتى أن البخاري رحمه الله أتى بعد هذا الحديث في الصحيح بباب: أي الجارين أحق، وهو في باب الشفعة وما الذي نقله إلى أي الجارين أحق؟! ثم ساق حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: (قلت: يا رسول الله! يكون لي الجاران، فإلى أيهم أهدي؟ ... ) الحديث.
لأنه صلى الله عليه وسلم وصى بالجار، فقال: (وما زال جبريل يوصيني بالجار ... ) الحديث.
والجار له حالات: جار من خلف البيت وله طريق من شارع آخر، ولكنه مجاور في البنيان من الظهر، وجار عن اليمين وبابه من شارع آخر، أو بابه من شارعك أنت، وجار عن اليسار، وجار مقابل، وبينكما الطريق، فأي هؤلاء الجيران هو الأقرب؟ وكذلك يأتي هذا البحث في دعاء الوليمة: إذا أتاك الجار ودعاك إلى وليمة، وجاء الجار الآخر فأيهما تقدم؟ أي: من أحق هؤلاء في وصف الجوار؟ الآن وصف الجوار يكون من أربع جهات: جار من الخلف وبابه من طريق آخر، وجار عن اليمين وبابه من طريق آخر أو من طريقك، وجار عن اليسار وبابه من طريقك أو من شارع آخر، وجار مقابل لك، فقال لها صلى الله عليه وسلم: (إلى أقربهما منك باباً) ومن هو الذي بابه أقرب؟ الجار الملاصق للجدار من الخلف بابه من طريق آخر، وأما الجار الذي مقابل له وبينهما الشارع فهو أقرب؛ لأنه ما بينهما إلا الشارع، ولكن لماذا قدم الأقرب؟ قدمه لأن قرب الباب يعطي معنى المجاورة أكثر، فهو يعطيه من خيره، وهو أسرع لو استنجد به، فإذا استنجد الجار بجيرانه فأسرع من يأتيه هو الذي يقابله؛ لأنه أقرب، فإذا كان الذي على يمينه أو الذي على يساره بابه في طريق واحد معه وهو أقرب فيقدم، أما إذا كان بابه المسافة إليه عشرون متراً، وهذا بابه المسافة إليه خمسة أمتار فهذا أقرب، وهكذا جعل صلى الله عليه وسلم التقديم بالنسبة لقرب الباب.
وهذا يأتي بحثه مستوفى كما يقول ابن حجر في باب الآداب في حقوق الجوار، وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها في ذلك أخبار عديدة.
وهنا يقولون: سعد كان له بيتان متقابلان بينهما شارع مسافته اثنا عشر ذراعاً، وكان في بعض الدارين بيتان لـ أبي رافع، فعرض عليه أبو رافع أن يشتري البيتين فكان هذا الأمر.
إذاً: عرض أبي رافع على سعد أن يشتري منه البيتين من باب الأولوية في الشراء وليس من باب الشفعة في شيء، ولكنهم قالوا: إذا كان أبو رافع قدم سعداً في الشراء فكذلك يقدم في الشفعة، وهنا أبو رافع استدل بالأولوية لـ سعد في الشراء بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الجار أحق بصقبه) .
إذاً: هناك اشتراك بين بيع داري أبي رافع على سعد وبين أحقية الجار بصقب جاره، وإلى هنا يكون المؤلف قد أورد مع ما سيأتي بحث مسألة الشفعة في الجار، إلا أن الآتي أسانيده ضعيفة.
وقد قدمنا أن الجمهور على أن الشفعة لا تكون إلا في شركة مشاعة فيما يمكن قسمه، وأول الجمهور كلمة الجار في الشفعة بأنه الشريك، وهذا كما يقال: من التأويل البعيد لقرينة، واستدلوا بقول القائل: أجارتنا بيني فما أنت بجارة فسمى زوجته وهي شريكته في الحياة جارة، والبعض ينازع في استعمال اللغة كلمة (جارة) في معنى الزوجة، أو كلمة (الجار) بمعنى الشريك لبعد الدلالة في كلمة (جار) على الشريك، وقالوا: مما يؤيد البعد اللغوي القرينة، وهي ما جاء في الحديث الآخر: (فإذا وقعت القسمة، وضربت الحدود صرفت الطرق فلا شفعة) إذاً: وجود القسمة والحدود والطرق يؤكد بأن هذه الشفعة تكون في المقسوم قبل أن يقسم، فإذا ما قسم ووضعت الحدود وصرفت الطرق فقد أصبح الشريك جاراً وليس بمشارك.
ونهاية البحث في هذا كما يذكر ابن القيم رحمه الله وينسبه اختياراً لـ ابن تيمية رحمه الله، وهو قول الجمهور أن الأصل في الشفعة أن تكون في الشركة المشاعة في العقار الذي لم يقسم وهو قابل للقسمة، فإذا كان غير قابل للقسمة فلا شفعة، ومثلوا بالحمام وبالرحى وبالدكان الصغير وبالبئر، وقالوا: لأن هذه إذا قسمت لا يؤدى بقسميها ما كان يؤدى بمجموعهما، فالحمام إذا قسم لا يكون حمامين، وكل قسم لا يصلح أن يستعمل حماماً، فيمكن أن يستعمل للسكن، أو يستعمل مستودعاً، لكن أن يستعمل حماماً على ما كان من قبل فلا يصلح، وكذلك البئر، والرحى، وكذلك الدور الصغيرة، والدكاكين الصغيرة التي لو قسمت لم يصلح أحد القسمين على حدة فلا تصح الشفعة.
فإذا أراد الشريك أن يتخلص من الشراكة ماذا يفعل؟ قالوا: يجبر الشركاء بالبيع معه أو بشراء قسمه، فإما أن يشتروا قسمه، وإما أن يبيع الجميع وكل يأخذ حقه من الثمن، هذا رأي الجمهور.
المرتبة الثانية: الشركة في الجوار فإذا كان هناك تبعية للشراكة بأن كان هناك طريق مشترك أو مسقى ماء مشترك، فهذه بقية شراكة يمكن أن يتأذى منها الشريك الأول من الجار أو الشريك الذي سيأتي عليه فجعل له حق الشفعة.
المرتبة الثالثة: الجوار الملاصق بلا مشاركة، وهذه الترتيبات الثلاثة عند علماء العراق ما عدا أبا يوسف، فإنه يقول: إذا وجد الشريك المشاع فإن يحجب الشفعة عن كل أحد شفع أم لم يشفع.
ولكن المتأخرون يقولون: الأحناف لا يذكرون رأي أبي يوسف في هذه المسألة، ويقتصرون على رأي أبي حنيفة رحمه الله على التقسيم المتقدم: الشفعة في المرتبة الأولى للمشارك، فإذا لم يوجد فالشفعة في المرتبة الثانية للجار الذي له مشاركة في المرافق، فإذا لم يوجد فمطلق الجار المشارك، وهذا خلاصة ما جاء في النزاع في ثبوت الشفعة للجار أو عدم ثبوتها.(217/4)
شرح حديث: (الجار أحق بشفعة جاره ... )
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائباً إن كان طريقهما واحداً) رواه أحمد والأربعة ورجاله ثقات] .
يأتي المؤلف بهذا الحديث بعد حديث أبي رافع، وهذا الحديث بلفظ: (الجار أحق بشفعة جاره) فهذا نص صريح في ثبوت الشفعة بين الجارين، والذين يمنعون الشفعة في الجوار بمعنى الملاصق أو المجاور، قالوا: الجار أحق بشفعة جاره.
بمعنى: الجار المشارك، واستدلوا بقول القائل: (أجارتنا بيني فما أنت بجارة) ، فهو طلق الزوجة وسماها جارة وقالوا: إن اللغة تطلق على كل ما كان قسيماً لشيء أنه جار، فلو جئت إلى دائرة وأخذت أقطارها من المركز الذي في الوسط إلى المحيط، فكل قسم من هذا مجاور للقسم الثاني وهكذا، فهي كلها في جزء واحد مشتركة في الدائرة ولكن كل ما بين قطبين يعتبر مجاوراً للقطب الثاني أو للقسم الثاني مع أنها مشاركة له في عين الدائرة، فقالوا: كذلك كل ما كان شريكاً في شيء فهو مجاور له، وعلى كل هذا كما يقال: من التأويل والنص هنا صريح، ولذا فإن من اختيارات ابن تيمية رحمه الله: أن هذا الحديث مخصص لعموم الجار؛ لأنه قيده: (الجار أحق بشفعة جاره إذا كان طريقهما واحداً) أي: مشتركاً، فهذا يخصص الشفعة التي جاءت في: (الجار أحق بصقبه) ففي هذا الحديث عموم الجار، فقال: لكن عموم الجار قد خصص هنا؛ لأن وجود بعض شراكة في مرافق العقار تدل نوعاً ما على المشاركة، والشفعة وضعت لرفع المضرة، وقد يتضرر الجار من جار جديد، ولكن كما قدمنا أنهم يحددون الجار هنا في الطريق غير النافذ، أما إذا كان طريقاً عاماً فليس أحد أولى من أحد؛ لأن الطريق العام يمر به الجار وغير الجار، أما إذا كان الطريق غير نافذ وعليه بيتين من اليمين وبيتين من اليسار وبيت في الرأس في الآخر؛ فإن المرور من هذا الطريق محدود محصور ولا ممدوحة لأحد من هؤلاء الجيران عن أن يمر من هذا المكان، فقد يكون الشافع بالجوار في هذا المحل يؤذي بعض جيرانه الآخرين، فقالوا: ترفع المضرة عنه بالشفعة، والآخرون قالوا: مضرة الجار مع جاره أقل نسبياً من مضرة الشريك مع الشريك في الرقبة وفي عين العقار، والله أعلم.(217/5)
شرح حديث: (الشفعة كحل العقال)
قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الشفعة كحل العقال) رواه ابن ماجة والبزار وزاد: (ولا شفعة لغائب) وإسناده ضعيف] .
إسناده ضعيف لا يقاوم إسناد غيره.
وقوله: (الشفعة كحل العقال) يعني: إذا أبقيت العقال على البعير أمسكته، وإذا حللت العقال انفلت عليك، فكذلك الشفعة إن أنت طالبت بها عقلتها ولك الحق في مطالبتك بها، وإذا تركتها أو أفلت عقالها انطلقت عنك، وقد قدمنا بأن البعض يقول: يعفى في ذلك الوقت الضروري، فإذا علم وقت القائلة وشدة الحر فليس بملزم أن يكلف نفسه ويذهب إلى المشتري ويقول: شفعت عليك، وإذا بلغه الخبر وهو يتناول الطعام فليس عليه أن يترك طعامه ويذهب يطلب الشفعة بل يتم أكل طعامه، بل قال الحنابلة: ويستريح بعد الطعام إلى أن يهضم ثم يذهب ويطلب الشفعة، هذا الذي عليه الجمهور في المبادرة وإن كان الصنعاني أو غيره يقول: الأصل ثبوت الشفعة، وأما التعجل بها أو الفورية فليس هناك دليل، ولكن الآخرون يقولون: إن لم يكن في المسألة دليل شرعي ففيها دليل عقلي، وهو: إذا كنت شريكاً والمشتري قد اشترى وشريكك قد ذهب وأنت تريد أن تشفع؛ فإن لم يكن هناك توقيت للشفعة فإنك تستطيع أن تلحق ضرراً بالمشتري؛ لأنه حينما يشتري هو لا يعلم أتشفع أو لا تشفع؟ إذا أراد أن يعمر أو أن يغرس أو أراد أن ينمي ما اشتراه توقف؛ لأنه لا يدري أيثبت له ما اشتراه أم ينتزع منه بالشفعة؟ فتكون فيه مضرة أكثر، فقالوا: ليس تحديد الزمن بأولى من زمن، فتكون على الفور.
وبعضهم يقول: إن كان غائباً فيعطى مهلة ثلاثة أيام إن كان سفره قريباً، أما إذا كان بعيداً فليس بملزم أن يقطع سفره ويأتي ويعلن الشفعة، ويقول مالك رحمه الله: إذا كان مسافراً سفراً بعيداً، فإنه حينما يعلم في غيبته بالبيع يشهد أنه شافع، فإذا رجع إلى بلده تقدم بطلب الشفعة وقدم الإثبات على أنه قد طالب بالشفعة منذ علم، وحينئذ يكون له الحق ولو طال الزمن، فإذا طال الزمن والمشتري قد بنى وغرس فماذا يكون حكم البناء والغرس الجديد؟ قالوا: يأخذ الشافع الأرض بقيمتها التي اشتراها المشتري ويقدر ما عليها من البناء والغرس الذي أقامه المشتري؛ لأنه حقه فلا يظلم فيه؛ فإن استعد ودفع ثمن الأرض وما لحقها من بناء وغراس فله الحق، ونكون بهذا قد حفظنا على المشتري حقه، ورددنا عليه قيمة الأرض ورددنا عليه ما أنفق في غرس وبناء فلم يقع عليه ظلم.
وبقي هنا أبحاث في باب الشفعة لأنها كما أشرت سابقاً واسعة، منها: إذا كان الشركاء متعددين، أو كان المشترون من الشريك الواحد متعددين، فمثلاً: الدار لخمسة أولاد ورثوها من أبيهم، فكل واحد له الخمس، فجاء واحد من الخمسة وباع سهمه، فكيف يكون حظ الشفعة للأربعة؟ لو قام واحد من الأربعة ليشفع على مشتري الخمس فالطريق واضح، فله أن يأخذ بالثمن الذي بيع به ويضمه إلى خمسه الأول ويصير له خمسان، والثلاثة الإخوة الآخرون لكل واحد منهم الخمس.
لكن لو قام الأربعة يطلبون الشفعة في الخمس الذي باعه أخوهم، فلمن نعطيه منهم؟ قالوا: نعطيه للأربعة؛ لأنهم كلهم متساوون في الحق، فإذا أعطيناهم الشفعة، ورددنا الخمس إليهم وهم أربعة فكم لكل واحد منهم في هذا الخمس؟ قالوا: نقسم الخمس الذي بيع على الموجودين بحصصهم، وأصبح الملك الآن لأربعة؛ لأنهم أربعة أشخاص لكل واحد منهم ربع الخمس الذي بيع.
وإذا كان العكس: اثنان مشتركان بالنصف وباع أحد الشريكين نصيبه على أربعة أشخاص، فجاء الشفيع صاحب القسم الثاني وشفع، أيشفع على واحد من الأربعة أم على الجميع؟ الجواب: على الجميع، فلو شفع على واحد فقط فيقال له: لا، إن فيه مضرة، والمبيع جزء واحد، فاشفع في هذا المبيع كله بصرف النظر عن المشترين، فإذا قال: لا، أنا آخذ حصة واحد فقط، فيقال له: لا، إما أن تأخذ كامل الشقص الذي بيع بصرف النظر عمن اشتراه، واحد أو اثنان أو أربعة وإما أن تتركه كله، فحينئذ إن أراد بأن يشتري الشقص كاملاً من الأربعة يلزم أن تكون الشفعة عليهم جميعاً.(217/6)
حكم المطالبة بالشفعة، وهل تورث؟
وهنا السؤال: هل القيام والمطالبة بالشفعة واجب أم جائز؟ المطالبة بالشفعة جائزة؛ فإن شاء قام وطالب بها وإن شاء تركها، بل بعض العلماء يقول: الأحسن أن يتركها، لكن إن علم الشريك القديم من المشتري ما يضره في دينه بأن كان يجاهر بالمعصية وسيأتي إلى حصته في الدار ويسكن ويجاهر بما حرم الله، فهل يتركه يأتي ويدخل عليه بهذا الشر أم يتعين عليه أن يشفع ويدفع عن نفسه المضرة في دينه؟! وإذا كانت المطالبة بالشفعة على الجواز، فهل هذا الحق بالمطالبة يورث، وهل الورثة يستحقونه أو لا يورث ما دام مجرد جواز؟ وقالوا: إذا كان الشريك الأول وهو الذي يستحق المطالبة بالشفعة مات بعد أن باع شريكه حصته، فهل لأولاد الشريك الأول أن يقوموا مقام أبيهم ويطالبون بالشفعة؛ لأنهم حلوا محله في الملك أو ليس لهم ذلك؟ وبعض من يقول: إنها جائزة قالوا: هذا حق لا يملك بالميراث، وهؤلاء متملكون جدد ليس لهم الأسبقية، وآخرون يقولون: لهم الشفعة، والقول الوسط: إن كان أبوهم أو مورثهم حينما علم بالبيع في حياته سكت عن الشفعة فيكون قد أسقطها؛ لأنه هو الأصيل، فلا حق للورثة بالمطالبة بها؛ لأن صاحب الحق الأصلي قد ترك، أما إذا كان قد علم في حال حياته فطالب بالشفعة وفي أثناء المطالبة والمفاهمة توفي، فحينئذ يكون صاحب الحق الأصلي قد طالب به؛ فورثته أحق بها تبعاً لمورثهم، فيرثون مطالبة المورث بالشفعة.(217/7)
الشفعة في مدة الخيار
ويقولون: من شروط الشفعة: أن ينتقل الجزء المبتاع للشافع بنفس ثمن المبايعة، وأن يستقر البيع ويستقر الملك للمشتري، فإذا باع الشريك حصته على إنسان واشترط المشتري الخيار.
فهل للشريك القديم أن يقوم ويطالب بالشفعة قبل مضي الشهر أو ليس له ذلك؟ هنا يقولون: إن كان اشتراط الخيار للمشتري والبائع قد أسقط حقه في الخيار، فهل يكون البائع قد أمضى البيع أم لا؟ من جانبه أمضاه؛ فحينئذ يكون للشريك الحق في القيام بالمطالبة بالشفعة؛ لأنه يشفع على الشريك والشريك قد أمضى البيع وأصبح في حقه لازماً، أما إذا كان البائع هو الذي اشترط الخيار والمشتري أمضى البيع فإنه لا يحق للشريك أن يطالب بالشفعة؛ لأن الشفعة مبناها على إتمام البيع، وإتمام البيع متوقف على المالك وليس على المشتري وهنا البيع لم يتم.(217/8)
الإقالة في الشفعة
وهنا مسألة أخرى: الشريك باع والمشتري استلم، والشريك القديم لم يطالب، ثم إن المشتري وجد في نفسه أنه غبن، ووجد عيباً أو جد شيئاً ندم بسببه على الشراء، فرجع إلى البائع وقال: أقلني بيعتي، وطلب الإقالة، فقام الشريك الأول حينما تمت الإقالة ورجع الشقص لصاحبه كما كان، هل يحق له أن يشفع عقد الإقالة الجديد أو لا يحق؟ سنأتي ونقول: هل الإقالة فسخ أو بيع؟ الجمهور على أن الإقالة فسخ للعقد الأول، والمالكية يقولون: هي عقد من جديد؛ ولذا يجوز له أن يقيله بزائد على الثمن أو بأنقص؛ لأنه بيع.
والجمهور يقولون: لا.
إذا أقاله لا يأخذ منه درهماً ولا ينقصه من حقه شيئاً، فإذا اشتراها بألف وقال له البائع: أنا أقيلك وأرد لك تسعمائة فأنقص من حقك مائة فلا.
وبموجب ماذا ينقص؟ قالوا: لأنه عقد بيع ومساومة، فإذا جاء البائع وطلب الإقالة، وقال: أنا ندمت أني بعتك، أنت اشتريت مني بألف، أنا أعطيك ألف ومائة ورده عليّ، فهنا الزيادة والنقص في عقد الإقالة يجعلها بيعاً.
فإذا حكمنا بأن الإقالة فسخ للعقد الماضي، إذاً: لم ينتقل الملك انتقالاً جديداً فلا شفعة.
وإذا حكمنا على الإقالة بأنها بيع ووقعت في صورة البيع بزيادة أو بنقص، مساومة من جديد قلنا: فيه الشفعة، والله تعالى أعلم.
وأوصي الإخوان أن يراجعوا هذا الباب في تلك المراجع التي ذكرناها سابقاً، وهناك رسالة ماجستير لرجل مغربي عمل مقارنة في الشفعة بين المذاهب الأربعة وفي القوانين، فلو اطلع إنسان عليها فهي مفيدة؛ لأنه تعمق في البحث تعمقاً كبيراً.
والله تعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(217/9)
كتاب البيوع - باب القراض
لا خلاف بين المسلمين في جواز القراض، وهو عقد من عقود الشركة في الجاهلية وأقره الإسلام، ويعرف أيضاً باسم المضاربة، ويقوم هذا العقد على أن يأتي أحد الطرفين بالمال ويقوم الطرف الآخر بالعمل، وهو نوع من الإجارة، إلا أنه عفي فيها عن الجهالة في الأجر، ويحق لصاحب المال أن يشترط على العامل تجنب التعامل في أمور معينة أو مع أشخاص بعينهم، ولكنه يمنع من هذا الشرط إن كان فيه تحجير على العامل في عمله، وأما أرباح المال فعلى ما يتفق عليه الطرفان.
ومن الأحكام المجمع عليها في القراض: أن الجهالة مغتفرة فيه، وأنه لا ضمان على العامل فيما تلف من رأس المال إذا لم يتعد أو يفرط.(218/1)
شرح حديث: (ثلاث فيهن البركة ... )
[عن صهيب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث فيهن البركة: البيع إلى أجل، والمقارضة، وخلط البر بالشعير للبيت لا للبيع) رواه ابن ماجة بإسناد ضعيف] .
إن الله سبحانه وتعالى جعل البركة مائة جزء، تسعة وتسعين منها في البيع والشراء، وواحد في بقية الأسباب الأخرى كلها: صناعة زراعة هكذا يقولون.
وأعتقد أن هذه النسبة أمر نسبي وليس قطعياً، وكم من صانع يبارك الله له في صناعته، وكم من زارع يبارك الله له في زراعته، وكان بعض الصحابة يثمر بستانه في السنة مرتين ببركة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهنا الحديث: (البركة في ثلاثة) ، وفي غيرها أم فيها فقط؟ كل شيء أراد الله سبحانه وتعالى أن يبارك فيه حصلت فيه البركة، هذا صاحب الدينار والشاة قال له صلى الله عليه وسلم: (بارك الله لك في بيعك وشرائك) ، فكان لو التمس تراباً بارك الله له فيه وربح، وكان الناس يأتونه بأموالهم ليضارب بها؛ التماساً لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالبركة.
البركة: الزيادة والنماء، وحفظ الشيء والخير فيه، فهنا جعلها في ثلاث، وليس هذا من باب القصر الحقيقي، ولكنه قصر نسبي؛ لأن من أساليب البلاغة في القصر تعريف الطرفين، تقول: الشاعر زيد، مع أن أسلوب القصر: إنما الشاعر زيد؛ لأن (إنما) أداة حصر، و (ما وإلاّ) كذلك، ما الشاعر إلا زيد، ولذا نقول في كلمة الشهادة: (لا إله) نفي، (إلا الله) ، وقالوا أيضاً: تقديم ما حقه التأخير: (إياك نعبد) ، وأصل الترتيب العربي في غير القرآن: نعبدك، فكان الأولى أن كاف الخطاب تتأخر عن الفعل: (نعبدك ونستعينك ونستهديك ونستغفرك) ، كما في الحديث، لكن لما قدم المفعول وكانت الكاف المتصلة انفصلت عن الفعل جيء لها (بإي) لتقوم عليها (إياك) ، فتقديم ما حقه التأخير من أساليب الحصر، وتعريف الطرفين -أي: المبتدأ والخبر- من أدوات الحصر، فهنا (ال) أداة التعريف، (بركة) معرفة، ثم ذكر الثلاث وهي معارف كلها.
إلا أن هذا الحصر نسبي -كما يقولون- وليس قطعياً، أو حقيقياً.
يعني: إن كانت البركة في أمور فتلك الثلاث منها، أو أن الله خص هذه الثلاث ببركة زائدة عن عموم البركة في بقية الأشياء، فيكون لها فضل اختصاص.(218/2)
بركة البيع إلى أجل وصورته
[ (ثلاث فيهن البركة: البيع إلى أجل) ] .
أول هذه الثلاث: (البيع إلى أجل) أما البيع إلى أجل الواقع الآن فهو بيع آخر.
أما البيع إلى أجل الذي هو محل البركة: هو أن لا تزيد مقابل الأجل في سعر السلعة، إذا كانت بعشرة وبعتها بعشرة والثمن مؤجل إلى شهر شهرين أما هذا هو البيع إلى أجل، أما إذا كانت بعشرة وتبيعها إلى شهرين أو ثلاثة أشهر بخمسة عشر فما بعت لأجل، لأنك قبضت ثمن الأجل؛ لأن الغرض في البيع إلى أجل التخفيف والتيسير، واللطف والرفق بالمعسر، وهذا كله من باب التراحم بين المسلمين.
وتذكرون قصة الرجل من بني إسرائيل الذي كان يوصي عماله أن ييسروا على الناس ويقول لهم: يسروا على كل معسر لعل الله أن ييسر علينا، فلما لقي ربه قال له: ما عندك من عمل؟ لا لك عمل كبير، ولكنك كنت تيسر على المعسر، ونحن أحق بأن نيسر عليك، والجزاء من جنس العمل.
وعلى هذا فإن البيع إلى أجل منطلق من: الرفق الرحمة التيسير عدم التضييق على المدين الذي ليس عنده قيمة السلعة، وخاصةً إذا كانت من السلع الضرورية: طعام لباس أو ما يحتاجه المسلم في بيته، أما الكماليات فأمرها آخر كبعض الناس يسعى إلى تلفزيون ملون ودش، وفيديو، وما حاجة هذا كله؟! وفر لقمة العيش لأهلك أولاً، وهذه كماليات، أو ربما هي زائدة عن الحاجة، أو ممنوعة محرمة.
فإذا وجدت حاجة لذلك، وتدعوه الضرورة لأن يشتري السلعة وهو مسكين ليس بيده شيء، ماذا تعمل معه؟ تعسر الأمر عليه في ثمن لقمة الخبز وهو يريدها لأهله؟! تقول: أنا أبيع أربعة بريال، ما دام الثمن مؤجلاً فأبيعك اثنين بريال، إذاً: حملته عسراً فوق عسره، عسر زيادة الثمن، وعسر الذلة التي حملته إياها وأشعرته بها، ولو كنت أنت في مكانه كيف تريد أن يعاملك الناس؟! ألم يكن من مبادئ الإسلام أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، ولكن ما أصعب هذا!! وأحياناً تحدث مشاكل بسبب اختلاف تعامل الناس، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة.
هذا غير المعاملات الفاسدة في السوق، وكانوا يعطيه القرض ويوفي بحق الله وبعهده، كما ذكر ابن كثير: عن رجل تاجر جاء إلى بلد فنقصت عليه ألف دينار، فكان يذهب إلى التجار ويقول: أقرضوني أنا تاجر في بلدي، فيطالبوه بكفيل غارم، رجل غريب لا أحد يعلمه، من أين يأتي بكفيل حتى لو كان كفيلاً حاضراً، حتى جاء إلى رجل فقال: ائتني بكفيل، قال: كفيلك رب العالمين.
قال: رب العالمين؟ قال: نعم.
قال: قبلت، وأعطاه الألف دينار، ثقة بعهد الله، ومتى الموعد؟ قال: مثل هذا اليوم، في السنة القادمة.
ولما جاء الموعد حضَّر الرجل الألف وطلب سفينة ليذهب إليه فلم يجد، ومضت أيام طويلة وهو قلق، بينما صاحبه هناك ينتظر السفينة فلا يأتي أحد، وهذا ينتظر سفينة يركب أو يدفع المال أمانة ليسدد صاحبه، ولما طالت المدة رجع الرجل إلى بيته وأخذ خشبة وحفر داخلها، ووضع الدنانير في حفرتها، وأطبق عليها، وجاء بها إلى البحر، وقال: اللهم أنت كفيلي وهذه وديعتي أوصلها لصاحبها وفك عني ديني، ثم رماها في البحر، ورجع إلى بيته وأخذ يجمع ألفاً ثانية إن تيسرت له سفينة ذهب بها، وكان صاحبه هناك كل يوم يذهب إلى البحر ينتظر السفينة فلم يجد شيئاً، وفي يوم من الأيام رأى خشبة تتلاطمها الأمواج وتقذف بها، حتى جاءت بها على الساحل أمامه، فقال: بدلاً من أن أرجع بلا شيء آخذ هذه الخشبة لعلنا نتدفأ بها، فحملها إلى البيت، ومع ثقل الماء حينما وصل البيت ألقى بها قالت له زوجه: ألقيت صاحبك؟ قال: لم أجده، وجئت بهذه الخشبة، فلما ألقاها في الأرض مع ثقلها بالماء فإذا بها تنكسر وتخرج الدنانير، ومعها الكتاب: اللهم! إن هذه أمانتي وأنت وكيلي فأوصلها إلى من قبل كفالتك.
وبعد سنة جاء الرجل بألف أخرى، وأتى إلى التاجر، فحينما لقيه قال: قد وفىّ الله عنك دينك، قال: أوصلتك الرسالة؟ قال: بلى، وصلتني في الخشبة ومعها الخطاب.
إذاً كان هذا النوع في السابق: إذا استدان كان وفياً، وإذا عاهد كان أوفى، وإذا اقترض على نية السداد سدد، وكما تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها في الحديث: (ما اقترض إنسان على نية الوفاء إلا كان الله في عونه) وكانت دائماً تقترض، لغير حاجة وتقول: بركة لهذا الحديث، وأنا أريد أن يكون الله في عوني ما دمت مقترضة.
نقول: لعل هناك عوامل تمنع من القرض إلى أجل منها: تغير معاملات الناس، وصاحب الدين لا يصل إلى حقه، بل حتى إذا وصل إلى المحكمة تناكرا، ونفى حتى السند الذي وقعه بيده، ويقول: ليس بتوقيعي ولا أعرفه ولا ولا.
إلخ.
أما إنساناً وثقت فيه وبعته وزدت في الثمن من أجل الأجل وأتاك بالكفيل.
إذاً: حقك مضمون، فلماذا تزيد في الثمن من أجل الأجل؟! وهنا النزاع الطويل المتقدم في البيع والربا والصرف، ومنهم من حملها على.
حالاً بكذا ومؤجلاً بكذا إلى غير ذلك.
إذاً: البيع الأجل الذي أنيطت به البركة هو البيع إلى أجل بدون زيادة في السعر مقابل الأجل.(218/3)
بركة المقارضة وانتفاع الناس بعضهم ببعضهم
[ (ثلاث فيهن البركة: البيع إلى أجل، والمقارضة) ] .
ساق المؤلف رحمه الله هذا الحديث ليستدل به على جواز المقارضة، وأنها مشروعة وفيها البركة، وكونها فيها البركة تستلزم أنها حلال ومشروعة، ولا يوجد نص صحيح مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صحة شركة المضاربة، كما قال ابن حزم رحمه الله ونقل ذلك عنه.
وإذا فتشنا في كتب الحديث لا نجد نصاً على عين شركة المضاربة، ولكن هناك ما يعتبر أصلاً، لا حاجة إلى النص وهو: أن الإسلام جاء إلى الأمة وهناك عقود متعددة إجارة بيع أنكحة موالاة رق؛ فنظر الإسلام في تلك العقود فأقر صحيحها وألغى فاسدها، وأصلح ما كان فيها من فاسد، فنهى عن الجمع بين الأختين لأنه فاسد، ونهى عن نكاح زوجة الأب، وقال الله: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء:22] ، يعني: زيادة عن الزنا، بينما قال في الزنا: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32] ، ولكن هذا فيه: (ومقتاً) ؛ لأن فيه اعتداء على حق الوالد، فألغه.
جاء الإسلام أيضاً فوجد من هو متزوج بعشر نسوة فصحح الزواج في الجملة وألغى الزائد عن الأربعة، كما في الحديث: (اختر منهن أربعاً وطلق سائرهن) ، وهذا كان في قضية غيلان حين أسلم وتحته عشر نسوة، وأما بقية عقود الأنكحة التي جاء الإسلام وهي موجودة فلم يبحث فيها، من الذي عقد لك كيف تزوجت ما نوع الصداق.
إلخ.
وهكذا كانت الشركة موجودة، وكانت أكثر أنواع المشاركة عند العرب هي المضاربة، ونعلم أن تجارة أبي سفيان كانت مضاربة، كما جاء في الأخبار: (ما من بيت في مكة إلا وله فيها سهم) ، فكانوا يجمعون المال ويعطونه لـ أبي سفيان ليتجر به بين الشام واليمن.
إذاً: هذه شركة مضاربة، فلما جاء الإسلام ووجد شركة المضاربة قائمة والناس يتعاملون بها لم ينههم عنها وأقرهم عليها، وهذا توثيق وتشريع بالتقرير على وجودها واستمراريتها، ومع هذا الحال لا نحتاج إلى نصوص؛ لأنها مستمرة في طريقها، وقد أقرها الإسلام على ما هي عليه.(218/4)
بركة خلط البر بالشعير قوتاً لا للبيع
[ (ثلاث فيهن البركة: البيع إلى أجل، والمقارضة, وخلط البر بالشعير للبيت لا للبيع) رواه ابن ماجة بإسناد ضعيف] .
هذا قيد لابد منه: للبيت لا للبيع.
يقول بعض المشايخ: كان إنسان يأتيه كل يوم برطل حليب وهو يقول له: لا تغش الحليب بالماء، قال: والله يا شيخ! أنت كثرت وأنا كنت أخلط لكن الآن تبت، وفي يوم من الأيام كان خادم هذا الشيخ غير موجود، ومن عادته أنه يخفف الحليب بالماء لأجل الدسم الذي فيه، فلما أخذ الحليب قال له: ناولني الماء أضعه على الحليب، قال: يا شيخ! كل يوم تقول لي: لا تخلط الحليب بالماء وأنت الآن تخلطه بنفسك!! قال: أنا أخلطه لأشرب، قال: هذا حقك وأنا هذا حقي، فمثلما تخلط أنت حليبك بالماء أنا أخلط حليبي أيضاً، قال: أنت عندما تبيعه هكذا فهذا غش، قال: لا.
أبداً كله سوى.
فالقيد هنا للبيت خلط البر بالشعير لا للبيع، ولو كان هنا دكتور من علم الغذاء لشرح لنا غاية الحكمة من البر من حيث هو أصناف قد يصل إلى عشرين صنف، وهو يتفاوت قوة وضعفاً ويسميه العوام عرق، فإن عجينة القمح لو عجنت إلى أقصى وتشبعت بالماء تستطيع أن تصنع منها خيوطاً، هذا الذي يعمل (الكنافة) قال: سبحان الله! (يخلق من العجينة دبارة) ، فهذه لا تصلح تلك الخيوط لا من دقيق الشعير ولا الذرة، لكن تصلح من البر، وطبيعة دقيق البر اليبوسة والقوة.
اترك قطعة من عجين البر على شكل عمود فإذا يبست كل اليبوسة تعجز أن تكسرها، وبعضهم كان يصنع كراسي وسرائر للنوم بعجين البر، يشبعه بالماء ثم يلفه حتى التجبيس حتى يصير قوياً.
إذاً إذا أكل الإنسان من عجين البر وحده كان فيه قوة وحرارة على المعدة، ولا يصلح لكبار السن، ولا لضعيف المعدة، ولابد لهذه القوة في دقيق البر من تخفيفها، والعوام في بعض البلاد يخففونها بالذرة الشامي؛ لأن الذرة الشامي ليس لها عرق يتفتت مثل الرمل، ولو جعلت منه فطيراً لا يمكن أن تجعله مثل الرقاق، ولا يصلح منه الرقاق أبداً؛ لأنه ليس له عرق قوي، فيدخلون الذرة الشامية مع البر الجيد مناصفة، ورب الأسرة لما يخلطها يجعلها أثلاثاً، الثلثين ذرة والثلث براً، البر ليمسك الذرة، ويكون هناك عرق حتى يخبز ويحتفظ به إلى مدة ما.(218/5)
فوائد خلط الشعير بالبر
خلط الشعير بالبر لأمور: أولاً: تيسيراً على صاحب العيال؛ لأن قيمة الشعير أرخص من قيمة البر.
ثانياً: تسهيلاً على أصحاب المعدة الضعيفة.
ثالثاً: مساعدة للشيَّاب والعجائز؛ فإن لهم قدرة على خبز الشعير وليس لهم قدرة على خبز البر.
فهنا يبين النبي صلى الله عليه وسلم أن خلط البر بالشعير فيه بركة.
أولاً: زيادة في المئونة، ثانياً: قلة في الثمن والسعر في الشعير، ثالثاً: معالجة للذين من طبيعتهم الإمساك؛ فمن أكل خبز الشعير لا يحصل عنده إمساك قط، ومن داوم على خبز البر يحصل عنده الإمساك اليومين والثلاثة.
إذاً: من لطف الله ومن الحكمة النبوية والإعجاز أن يجعل البركة في خلط الشعير مع البر للبيت للأكل لا للبيع؛ لأن في خلطه للبيع تدليس، فصاع البر بعشرة، فإذا كان فيه عشرة في المائة من الشعير فقد زاد تسعة، وصار بإحدى عشر.
وعلى هذا يسوق المؤلف رحمه الله هذا الحديث في خصوص القراض؛ لأنه في باب القراض قال النبي صلى الله عليه وسلم كما يروي عن ربه: (أنا ثالث الشركاء؛ فإن صدقا وبينا كنت بينهما، وإن خان أحدهما الآخر خرجت من بينهما) ؛ وهذا عام في الشراكة، أبدان أعيان وجوه، لكن المؤلف لدقته ساق هذا الحديث وإن كان إسناده ضعيفاً، لكنه مناسب لهذا الباب، وهو من باب الحث على الإرفاق بالناس في البيع إلى أجل، وفي تيسير المعيشة في خلط البر بالشعير.
والله تعالى أعلم.(218/6)
ما يجوز أن يشترطه رب المال على العامل
قال المصنف رحمه الله: [وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه: (أنه كان يشترط على الرجل إذا أعطاه مالاً مقارضة: أن لا تجعل مالي في كبد رطبة ولا تحمله في بحر، ولا تنزل به بطن مسيل؛ فإن فعلت شيئاً من ذلك فقد ضمنت مالي) رواه الدارقطني، ورجاله ثقات] .(218/7)
عدم جعل المال فيما فيه الضرر والخسارة
هذه صور من صور معاملات الصحابة رضوان الله تعالى عليهم؛ فقد كان يشترط على العامل الذي أعطاه المال ليعمل فيه مضاربة هذه الشروط، فيقول: هذا المال الذي أعطيتك عشرة آلاف فلا تجعله في ذي كبد رطبة، ويعنى بها: هنا: الإبل، البقر، الغنم، الخيل، بهيمة الأنعام بشكل عام، فقد يكون من عشاق الطيور، فذو كبد رطب لا تجعل مالي تجارة فيه، حتى وإن كانت التجارة في ذي الكبد الرطب رابحة؛ لأن خطرها شديد؛ لأن كل ذي كبد رطب يحتاج إلى رعاية وعناية خاصة حفاظاً على حياته؛ فإذا سافرت إلى جهة ما وجئت بألف رأس من الغنم، بحسب الواقع هذه الألف كم سوف تصل؟ هل ستصل الألف هي الألف، أو تتوالد وتزيد، أم أنه يحتمل أن تنقص بموت بعضها؟ احتمال النقص فيها قوي، ولكن لو جئت بألف كيس فول سوداني: هل من المحتمل أن ينقص منها شيء؟ بطبيعة حالها: لا.
ضعها ونم فوقها على السفينة، إلى أن يقولوا لك هذه جدة، لكن ألف رأس غنم لا تقدر أن تنام عنها بل تقدم لها الماء والعلف، وتنظر التي سقطت تحت أختها، والتي ركبت عليها الثانية، والتي نطحتها.
تحتاج إلى رعاية، وإذا قصرت في هذه الرعاية عرضتها للتلف.
إذاً: يجوز له أن يشترط عليه أن لا يجعل رأس ماله في ذي كبد رطب مخافةً على رأس المال.
وهنا مسألة: لو أن العامل لم يبالِ بهذا الشرط، وقال: إن ذوات الكبد الرطب تربح خمسة أضعاف قيمتها، وأنا لا أريد أن أفوت علي هذه الفرصة، وأتى بها؛ فإن سلمت فلا كلام لأحد عليه، وفي المثل: ما كل مرة تسلم الجرة، لكن إن حصل فيها عطب ومات منها ما يلحق الخسارة، من الذي يتحمل الخسارة؟ الأصل في المضاربة أن الوضيعة من رأس المال، والعامل لا يتحمل أي شيء إلا إذا تعدى أو فرط، وهو هنا ما التزم بشرط صاحب المال وتعدى وفرط، فيكون الضمان على حسابه هو.
هذا الشرط لصاحب رأس المال مصلحةً فيه، وكذا إن اشترط شرطاً آخر، وقال: هذا مالي تعمل فيه بشرط أن لا تتعامل مع التاجر الفلاني، أو المؤسسة الفلانية، أو الشركة الفلانية، فتجاوز وتعامل، فهو ضامن، ولماذا يمنعه من شخص بعينه أو مؤسسة بعينها، بعضهم يقول: ليس له حق في ذلك؛ لأن فيه حجر له في التحرك في البيع والشراء، فعندما يحظر عليه أشخاصاً، إذاً الباقي قليل، والباقي قد لا يكون فيهم من الربح مثل هذه النواحي التي منعه منها، وإن كان هو ملتزماً بشرط صاحب رأس المال لماذا؟ لأن صاحب رأس المال يعلم من هذا الشخص الذي منعه التعامل معه أنه رجل لا يتحرى الحلال، ويتعامل بالربا أو بالمحرمات، أو يتعاطى الممنوعات، أو يعمل في الظاهر في مباحات سكر وشاهي وحليب وقشطة ولكن في الخفاء يعمل في الممنوعات، والكل يصب في صندوق واحد، فإذا كان صاحب رأس المال يعلم عن إنسان هذه الحالة فمن حقه أن يمنع شريكه من التعامل معه؛ لأن في هذا إعانة له على الباطل، وكذلك المؤسسات.
فإذا اشترط صاحب رأس المال على العامل شروطاً لا تضر بالتجارة فلا بأس؛ بخلاف ما إذا قال له: الصنف الفلاني لا تعمل فيه، وليس فيه مضرة، كأن يعمل في القماش وقال له: صنف الحرير لا تعمل فيه، فيقول: أنا آخذ الحرير وأبيعه على الحريم، وعلى الرجل ليلبسه أهله، وليس حراماً على الرجل أن يقتني الحرير ما لم يستعمله، يقتنيه ليهديه أو ليقدمه إلى زوجه إلى بناته إلى ذوي رحمه لا مانع في ذلك، كما جاء عن عمر رضي الله عنه: أنه رأى حلة تباع، فأتى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! ابتع هذه الجبة لتلبسها وتستقبل بها الوفود.
أي: زي رسمي كما يقولون.
وهذا أمر مشروع.
(ماذا على أحدكم لو اتخذ لجمعته سوى ثوبي مهنته) ، لا مانع أن يكون للإنسان لباس للمجتمعات وللهيئات ويكون ذا هيئة، كما قال البخاري في الأدب المفرد: (حسن السمت من الإيمان) ، فيتحلى بحلة جميلة عند الأجانب، وهذا فيه إظهار عظمة الإسلام، ولهذا أبيح بعض المحرم في أرض المعركة.
واتفق العلماء على جواز لبس الحرير بمقدار أربعة أصابع على حافة الجبة، وتحلية السيف بالذهب، مع أن الذهب محرم على الرجال؛ لأن في رؤية العدو لهذه الحلية إشعار بأن خصمه غني، متوافرة عنده الإمكانيات؛ فيعظم في عين الخصم.
وسمعت من والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: أن جماعة من قبيلته كان فيهم تجار وفيهم أهل مدافع وقتال، وكانوا يسيرون بقافلة للتجارة، فرأوا من بعيد قطاع طريق قد يعترضونهم، فأوقفوا الإبل، وكانوا على حالة أهل السفر، والشخص في السفر يلبس ما يلاقي به وعثاء السفر وتراب الصحراء، فأناخوا إبلهم وأخرجوا حللاً للقاء الوجهاء حينما يأتون المدن وينزلون الأسواق، فخلعوا ملابس السفر ولبسوا أفخر لباسهم، وحملوا سلاحهم ونظموا أنفسهم ومشوا، فلما دنوا منهم ورأوا عليهم الأبهة والطمأنينة وعدم المبالاة ابتعدوا عن طريقهم، فلما اجتازوهم أناخوا الإبل وأخرجوا من تجاراتهم أشياء ووضعوها على الطريق كأنها هدية لهم.
يهمنا في هذا: أن العدو حينما رأى المظهر والهيئة عظم في عينه مكان خصمه.
وفي غزوة تبوك جاء أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكيس فيه قثاء، فقال: من أين هذا؟ قال: جئت به معي من المدينة، والقثاء دون بقية الفواكه تتحمل مدة طويلة بعد قطفها، فأكل منها صلى الله عليه وسلم؛ فإذا بغلام لـ أبي طلحة يمشي وعليه ثياب مهلهلة، وهم سيلقون العدو غداً، فقال: أليس لهذا الغلام ثوباً سوى ذلك؟ قال: بلى يا رسول الله! ثوب اشتريته له عند السفر وهو في العيبة، قال: ألبسه إياه، فدعاه وألبسه الثوب فإذا به إنسان آخر، ثم قال له: أليس هذا خير من ذاك، فسمعها الغلام، فقال: هو في سبيل الله يا رسول الله! قال: هو في سبيل الله، فاستشهد في تبوك.
نقف هنا ونقول: هذا غلام، سواء لبس اللبس الحسن أو القبيح فمعروف أنه غلام، ومن عادة بعض الغلمان أنه ربما اكتفى بالإزار فقط دون الرداء، أو كما يقولون الآن: باللباس دون فنيلة، وحال السفر هذا حق، لكن ما دمنا سنقبل على العدو غداً فإذا رأى العدو حالنا نمشي مطأطئي الرءوس منحني الظهور، والغلمان كأنهم لا شيء، أو مساكين ليس لديهم ما يلبسو.
إذاً: هؤلاء القوم هم هزلاء هلكى فيظهر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين وحتى غلمانهم في الهيئة الحسنة التي تعظم في عين الخصم والعدو.
جاء عمر رضي الله تعالى عنه بحلة وجدها تباع عند المسجد، فقال: يا رسول الله! اشتر هذه والبسها لتستقبل فيها الوفود، فنظر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (إنما يلبس هذا من لا خلاق له يا عمر) .
هنا عمر اقترح أن يلبس رسول الله حلةً جميلة، ولكن التطبيق العملي وتحقيق المناط لا يصلح في هذه الحالة التي جاء بها عمر، فلو أن عمر جاء بجبة أخرى ذات قماش يلبسه ذو خلاق لكان قبلها رسول الله، وبعد فترة جاء قماش للنبي صلى الله عليه وسلم من ذلك الذي يلبسه من لا خلاق له، فأهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم منها إلى عمر، فجاء عمر إلى الرسول -وهذه قضية منطقية- كيف يلبسها من لا خلاق له والرسول يرسل مثلها إلى عمر؟ نتيجة المقدمة المنطقية اجعلها معلقة، لكن عمر فهم هذا؛ فجاء: يا رسول الله! فقال: بالأمس تقول لي: إن هذا يلبسه من لا خلاق له، واليوم تهدي إلي منها، فقال: (يا عمر ما أهديتها لك لتلبسها أنت) فأرسلها عمر إلى أخ له في مكة قبل أن يسلم.
وهكذا العامل في مال الغير لو أنه عمل في الحرير بناءً على جوازه، وأن الرجل لن يستعمله لنفسه فلا مانع في ذلك، فإذا شرط عليه رب المال أن لا يعمل في هذا النوع فقد يكون قد حجر عليه في تعاطي الربح في أنواع البيع والشراء.
إذاً: اشتراط رب المال على العامل بعض الشروط إن كانت لحفظ المال فهي جائزة كما هو الحال هنا.(218/8)
عدم وضع المال في مكان يحتمل فيه المضرة
(لا تجعله في ذي كبد رطب ولا تنزل به بطن المسيل) .
نهى الرسول صلى الله عليه وسلم المسافر بالليل أن ينزل في بطن الوادي؛ لأن هذا فيه خطر عليه؛ لأن السيول من طبيعتها أن تأتي من محلات بعيدة وتمشي في بطن الوادي إلى أن تصل إلى محلات ما جاءها قطرة مطر واحدة، ولا غابت عنها الشمس، ولا سمعوا فيها رعداً، ولا رأوا فيها سحاباً، ويكون آتٍ عن بعد ربما مائة كيلو، ويكون هؤلاء نيام فيجرفهم، ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم أن يعرس المسافر في بطن الوادي أو على قارعة الطريق المطروقة نهاراً؛ لأن الهوام في الليل تخرج وتتتبع الطريق المطروقة نهاراً، لعل إنساناً سقط منه شيء، أو ألقى بشيء وهو يمشي من فضلات الطعام، أو أي شيء يصلح لتلك الهوام تأكلها، فهي تطلب هذا في الطريق الذي يسلكه الناس نهاراً؛ لأنه مظنة أن يسقطوا أو يلقوا شيئاً ربما أكلته هوام الأرض، فينهى إذا لم يكن ذي كبد رطب وكان يابساً، جئت من ينبع مثلاً أو رابغ بفحم أو بأقط أو بشيء من اليابسات، فهذه لا تعرس بها على قارعة الطريق مخافة عليك أنت، وعلى من معك من الغلمان، بل ابتعد عن الطريق الذي يسلكه الناس نهاراً، وإن فعلت فأنت ضامن.(218/9)
نفقة عامل المضاربة
مسألة: وهنا في عمل العامل: هل لعامل المضاربة نفقة من مال المضاربة أم أن ونفقته على حسابه هو أم يأخذها من رأس مال الشركة؟ يتفقون على أن نفقته من رأس مال الشركة، ولكن بأي ميزان؟ هل بميزان الترف والسعة، ويضيع رأس المال في مصاريفه ينزل في أفخر (الفنادق) ، ويأكل أفضل الأطعمة، ويتوسع على حساب غيره؟ لا.
وكذا هل يجتزئ بالتمر والماء؟ لا.
إنما يأخذ النفقة بالمعروف، كما لو كان في سفره هذا لحسابه هو كيف سيعمل؛ سيجتزئ في الصباح بالعيش والفول، وفي الظهر بإدام وكذا ويكون مقتصداً في نفقته، وهكذا إما أن يقدر له رب المال مقداراً معيناً يومياً لنفقته، وإما أن يتركه لأمانته، فلا يسرف ويجحف برأس المال، ولا يبخل فيؤثر على نفسه؛ لأنه يجب أن يكون نشيطاً ويأخذ حقه.
وهل يتبع نفقته الكسوة؟ فيكتسي من رأس المال ما دام في سفره؟ البعض يقول: الكسوة خارجة من النفقة، والبعض يقول: الكسوة جزء من النفقة، والبعض يفصل ويقول: إذا كانت سفرته هذه من الطول والزمن بحيث تبلى ثيابه قبل الشركة، فيستعيض عنها بجديد مثلها على حساب الشركة، أما إن كانت السفرة قصيرة ومثلها لا يكون لها أن تبلي الثياب التي يلبسها؛ فليس له كسوة.
إذاً: النظر بالمعروف.
وحينما تكون البضاعة التي يعمل فيها العامل تحتاج إلى عمال؛ لأنها بالات وأكياس كبيرة والعامل لا يقوى على حملها، أو تحتاج إلى التحميل في السيارة من مكان مشتراها وتنزيل من السيارة في مستودعاتها فأجرة الحمال من عمل العامل أو من رأس المال؟ قالوا: من رأس المال، وكذا إن كانت تحتاج التجارة إلى مستودع تحفظ فيه إلى أن يصرفها؛ فأجرة المستودع هذا من المال وإن كان لرأس المال مستودعاً فيستعمله، وإن لم يكن له استأجر بالمعروف من رأس المال.
وإذا كان عند التصريف والبيع السلعة نافقة والزبائن كثر واحتاج إلى من يعمل معه لسرعة إنجاز تصريفها، فيستأجر عمالاً معه، وأجرة العامل عليه هو من حصته أو على مصلحة التجارة، ويكون من رأس المال؟ وإذا جاء العامل ورأى الربح والعمل وقال: أنت جعلت لي الربح مناصفة، ونحن الحمد لله وجدنا خيراً كثيراً، أريد أن تجعل لي شيئاً مقطوعاً خارجاً عن النصف، يعني: يومياً خمسة أو عشرة ريال أو شهرياً ألف ريال مثلاً، قال: وحصتك من الربح النصف، قال: معها.
أيجوز له ذلك أو لا يجوز؟ أجمعوا على أنه لا يجوز للعمال أن يشترطوا نقداً معيناً، فإذا اشترط العامل لنفسه نقداً معيناً دون حصته من الربح، قال: أنا ما أدري الربح كم يكون: كثير قليل.
ولكن أريد منك مبلغاً يومياً أو شهرياً كذا، فحينئذٍ لا يكون عقد شراكة بل يكون عقد إجارة، ويكون الربح كله لصاحب المال، وللعامل ما اشترطه من المبلغ المقطوع، ولا عليه ربحت أو خسرت.
هذه أهم أطراف نواحي شركة المضاربة، وما يجوز فيها من الشروط وما لا يجوز، وهنا حكيم بين لنا العلة في ذلك، وله الحق في ذلك.(218/10)
حكم ركوب البحر للتجارة في الحاضر والماضي
[ولا تحمله في بحر] .
هنا نظر للمجتهد، ويجب على العلماء اتخاذ الاجتهاد والاستنباط والنظر، هل هذا الشرط يمكن أن يعمل به في الوقت الحاضر أم لا؟ لا تتسرع وتقول: نعم أو لا، يجب على طالب العلم الآن وعلى العلماء والهيئات العلمية التي تعقد الندوات أو المؤتمرات إذا نظرت في مثل هذا أن تكون ذا بصيرة هل استخدام البحر في ذاك الوقت هو عين استخدام البحر في هذا الوقت؟ هناك نصوص سابقة لمن كان ينهى عن ركوب البحر للحج لأنه مجازفة وخطورة، ونحن نقول: إن ركوب البحر ترجع طبيعته إلى الآلة التي تركب، فإنسان يأتي من السودان إلى جدة يعبر البحر عرضاً، بواسطة لنش، أو لنش شراعي، هل هو كمثل من يأتي في باخرة تمخر العباب؟ لا، يمكن هذا اللنش الصغير يأتيه سمك القرش ويأخذه من النصف، لكن من في باخرة كبيرة ينام ويلعب، وحتى لو أراد السباحة فهناك حوض سباحة في الباخرة.
مدينة تتحرك، فهل خطورة البحر في ذاك التاريخ مع السفن الشراعية موجودة الآن مع البواخر الآلية التي تمشي بطاقة البخار أو الاحتراق الداخلي بالديزل أو غيرها، وهذا الجرم الكبير كالأعلام، أعتقد أن الخطورة ليست واحدة، والوضع يختلف، فإذا قال: لا تضع مالي في بحر، نقول: إن كنت تخاف عليه من السفينة الشراعية التي يقف عنها الهواء وتغرق، أم من القرصنة في البحار فهذا أمر انتهى.
وهذه كانت مهمة البريطانيين، بريطانيا قبل أن تصبح دولة متحضرة كانوا قراصنة في البحار يقطعون الطريق على السفن، فإذا كان الطريق فيه القراصنة يأخذون البواخر قهراً ويسلبون ما فيها.
فله حق، وإذا كانت هناك تأمينات بحرية؛ لأن الحاصل الآن: أنه لا تبحر سفينة من ميناء ببضاعة إلا وهي مؤمن عليها، وكيف يؤمن عليها؟ يقولون: أول عقود التأمين في العالم التأمين البحري، يأتي التاجر ويشتري السلعة من لندن، وتريد الجهة المصدرة تصدير البضاعة إلى جدة؛ لأن الشرط في عقد البيع: إما تسليم محلي أو تسليم إلى ميناء المشتري، فتتعهد الجهة البائعة بإيصال السلعة إلى ميناء المشتري، فإذا كان التوصيل على حساب المشتري فشركة التأمين البحري مهمتها أن تأخذ عقد الشراء وتذهب إلى المصنع الذي باع وتتابع تعبئة السلع في الصناديق، وهل هذه التعبئة سليمة أو ليست سليمة، فإن كانت البضاعة من زجاج لابد لها من تغليف ومحافظة.
فتقف وتشرف على تعبئتها تعبئةً سليمة، فإذا انتهت من التعبئة وتريد أن تشحنها في الباخرة المبحرة إلى جدة، تنظر أي البواخر التي اختارها المصنع، وهل هي جديدة قوية تعبر المحيطات أم هي مخلخلة ليست قوية معرضة للانفصال أو الانكسار أو الانشطار، فإن كانت صالحة سمحت شركة التأمين بتعبئة البضاعة المعبأة من المصنع فيها، ثم تنظر متى ستبحر؟ وتذهب شركة التأمين إلى مصلحة الأرصاد وتسأل عن هذا اليوم؛ فإن قالوا: والله عندنا أخبار عن عاصفة قادمة من الجهة الفلانية وسرعتها كذا كما هو في النشرة الإخبارية، وليس كما يظن بعض الناس أن النشرة الجوية تكهنات، لا، بل هي مبنية حقائق ونظريات علمية واقعية.
فمثلاً: المرصد الذي في جدة والذي في الهند ودونهما مراصد ما بين دلهي إلى جدة، فالمرصد الذي يلي الهند مباشرة يتلقى من المرصد الهندي أنه مرت بي عاصفة ورياح هوجاء سرعتها في الدقيقة كذا، وإذا استمرت في اتجاهها سوف تصلكم بعد كذا، فتصلهم على حسب التقدير، فيتصل هذا المركز بالذي بعده وهكذا إلى جدة مرت بنا عاصفة كذا سرعتها كذا، وإذا استمرت على هذا النحو سوف تصلكم وقت كذا، وهكذا يتناقلون الأخبار لا سلكياً، وعندما تنتهي إلى ما قبل جدة مركز جدة يعلن عنها.
إذاً: النشرة الجوية ليست تكهناً، وإنما هي عبارة تناقل للمعلومات من المراكز بعضها إلى بعض، فيكون ذلك تحذير للذين يعملون في البحر حركة البحر هائج حالة البحر هادئ والموج فيه كذا، على أي أساس هو في مكتبه من أجل الإخباريات من المراكز التي مرت بها العاصفة وهي في طريقها إليه.
فتأتي شركات التأمين إلى مصلحة الأرصاد وتسأل ماذا عندكم في طريق الإبحار من هنا إلى السعودية، فيعطونهم الأخبار، فإن وجدوا عواصف في هذا اليوم أو في ما بعده لمدة وصولها إلى جدة أوقفوا الرحلة، وإن وجدوا هدوءاً وأماناً أجازوا الرحلة، فتأتي الرحلة بسلامة الله وتأخذ شركة التأمين أجرتها، وكما يقول من كتب في عقود التأمين: أسلم وأول عقود التأمين هو التأمين البحري، كذلك تأمينها من القراصنة؟ هل هي سفينة محصنة قوية أو ضعيفة يمكن للقراصنة أن يأخذوها.
إذاً: كل هذا فيما يتعلق بركوب البحر.
فإذا قال رجل الآن لا تضع مالي في البحر، قال: البحر اليوم ليس مثل أمس مهلكة، البحر الآن أصبح مأموناً أكثر من البر؛ لأن قراصنة البحر تعجز عن السفينة الكبيرة، وقطاع الطريق في البر لا يعجزون عن القافلة بالإبل.
إذاً: لو قال: لا تضع مالي في البحر، وقالها بناءً على ما سبق نقول: النظر يختلف، ونقول: واجب العلماء أن ينظروا في الواقع الماضي والواقع الحاضر.
[ (أن لا تجعل مالي في كبد رطبة، ولا تحمله في بحر، ولا تنزل به في بطن مسيل، فإن فعلت شيئاً من ذلك فقد ضمنت مالي) رواه الدارقطني ورجاله ثقات] .
إن فعلت شيئاً من ذلك فقد أصبحت ضامناً بفعلك هذا، فإن وقعت هناك خسارة دفعتها، وإن لم تقع خسارة فأنت برضاك ضامن.(218/11)
اقتسام الشركاء مال المضاربة
قال المصنف رحمه الله: [وقال مالك في الموطأ: عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه، عن جده: (إنه عمل في مالٍ لـ عثمان على أن الربح بينهما) ، وهو موقوف صحيح] .
هذا الأثر موقوف صحيح على عثمان، وهو خبر واضح، وأوضح من هذا ما يذكره العلماء عن عبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهم.
أنهما كانا في الشام وكان أبو موسى الأشعري عامل هناك، وكانا في الثغر، فرغبا العودة إلى المدينة، فمرا بـ أبي موسى؛ ففي رواية أنه قال لهما: عندي مال أريد أن أبعثه إلى أمير المؤمنين عمر -أي: لبيت المال- أعطيكم إياه تشترون به تجارة وتبيعونها بالمدينة فتربحون وتسلموا رأس المال لـ عمر: ففعلا، فربحا وجاءا إلى عمر ودفعا إليه المال بالقدر الذي أخذوه من أبي موسى، فقال لهما: ما خبر هذا المال؟ فأخبراه بالخبر، فقال: ما الذي حمل أبو موسى على ذلك، وهل كل الجند أعطاهم مثل ما أعطاكما؟ قالا: لا.
قال: إذاً: قال في نفسه أنكما ابنا أمير المؤمنين وصانعكما، ردا المال بربحه، فسكت عبد الله وكان حيياً، وقال عبيد الله: ليس لك ذلك يا أمير المؤمنين، قال: ولم؟ قال: أرأيت لو هلك المال كنت ضمنتنا إياه أم لا؟ قال: بلى، قال: ما دمت كنت تضمننا إياه فالغرم بالغنم.
أي: ما دمنا سوف نضمنه لك عند التلف فلنا حق الربح كاملاً.
فقال أحد جلساء عمر رضي الله تعالى عنه: يا أمير المؤمنين! اجعله بينك وبينهما قراضاً، يعني: مضاربة، ففعل وأخذ نصف الربح ورد عليهم نصف الربح.
فهذا إقرار من أمير المؤمنين عمر على المضاربة في المال، والمال مع من؟ مع أفراد لبيت مال المسلمين -يعني: مع الدولة- فلو أن بيت مال المسلمين أو جانب وزارة المالية أقرضت مؤسسة أو جماعة مبلغاً من المال يعملون فيه ولهم جزء من الربح فلا مانع في ذلك.
وكما أشرنا: إن مباحث شركة المضاربة فيها نواحٍ وجزئيات عديدة، ولعل هذا القدر يكفينا فيما أوردناه وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وأقول: إن فقه المعاملات يحتاج -في نظري- كل عشر سنوات إلى ندوة علمية، لينظر في تطوراته وحاجة الناس إلى ما استجد من أنواع التعامل، فمعاملات كثيرة عديدة موجودة في الأسواق لا تأخذ طريقها السليم ولا ينبه عليها أحد، وبالله التوفيق.(218/12)
كتاب البيوع - باب المساقاة والإجارة [1]
من عقود المعاملات في الإسلام: عقد المساقاة والمزارعة، وهو عقد شبيه بعقد القراض من جهة اشتراك طرفي العقد في عمل واحد: أحدهما بماله، والآخر بجهده.
والعمدة في ذلك: حديث مساقاة الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر، حيث عاملهم على سقايتها على أن الثمرة بينهما مناصفة، وكان يخرصها عليهم عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، على أن يلتزموا هم بكل ما من شأنه إصلاح النخل من سقي وتأبير وقطع للجريد وإصلاح للقنوات وغير ذلك.(219/1)
أحكام المساقاة
[عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع) ، متفق عليه.
وفي رواية لهما: (فسألوه أن يقرهم بها على أن يكفوه عملها ولهم نصف التمر، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: نقركم بها على ذلك ما شئنا، فقروا بها حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه) .
ولـ مسلم: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعتملوها من أموالهم، ولهم شطر ثمرها) .
وعن حنظلة بن قيس رضي الله عنه قال: (سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والفضة، فقال: لا بأس به، إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الماذيانات، وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، ولم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به) ، رواه مسلم.
وفيه بيان لما أجمل في المتفق عليه من إطلاق النهي عن كراء الأرض] .
بعد كتاب القراض يأتي المؤلف رحمه الله بكتاب المساقاة؛ لما بين القراض والمساقاة من مشاكلة، وصورتهما تكاد أن تكون واحدة؛ لأن العامل في القراض يأخذ رأس المال من صاحبه، ويعمل فيه على جزء من الربح، وفي المساقاة يأخذ العامل من صاحب الغرس غرسه ويعمل فيه على جزء من الثمرة، فكلاهما مشاركة في عمل، أحدهما برأس مال، والآخر بجهده، والربح أو النتيجة بينهما.(219/2)
مشروعية المساقاة والمزارعة وما تصح فيه
المساقاة كما ذكر المؤلف عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: مأخوذة من السقي.
قالوا: لأن أرض الحجاز ماؤها قليل، والسقي ضروري في زرعها، بخلاف أهل الأمصار الأخرى، فقد تكون عندهم الأنهار والعيون، والمياه لديهم متوافرة، فلا تحتاج إلى كلفة في السقي.
أما في الحجاز فإن المياه قليلة، وتحتاج الزراعة فيها إلى جهد في سقيها، والسقي أهم كلفة الزراعة في الحجاز، فقد يعجز صاحب النخل أو الشجر أن يقوم عليها بمئونتها حتى تأتي الثمرة، ويكون هناك شخص آخر لديه خبرة واستعداد، فيقوم في هذا النخل أو غيره بالسقي وما يلزمه لإنتاج الثمرة على جزء مما يأتي به الأصل.
إذاً: هناك مناسبة قوية بين القراض والمساقاة، فالقراض ربما صاحب المال لا يحسن استثماره، ويكون هناك شخص يحسن الاستثمار وليس عنده رأس ماله، فيتعاونان معاً ويتبادلان المنفعة، وكذلك صاحب الزرع أو الغرس قد لا يكون قادراً على مواصلة العمل فيه، ويوجد شخص آخر لديه خبرة، ويستطيع أن يقوم بالعمل فيه، فيتبادلان المنفعة.
والأصل في هذه المعاملة ما ذكره عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر) ، أو هم طلبوا منه أن يقرهم عليها، والثمرة بينهما مناصفة.
وفقهاء الأمصار جميعاً يقرون هذا النوع من المعاملة على اختلاف في نوع الشجر، فهناك من يقول: لا تكون المساقاة إلا في النخل.
وهذا قول ابن حزم، وهناك من يقول: المساقاة في كل شجر له ثمر، كما قال مالك رحمه الله، كما في الكرْم والرمان والتين والفرسك -الخوخ- والمشمش، والحنابلة يقولون: يصح في كل غرس ثابت الأصل له ثمر.
ويختلفون في الشجر الذي لا ثمر له، إلا إذا كان له وسيلة انتفاع من غير الثمر كالورق، فمثلاً شجرة الحناء والتوت، فورق الحناء يستعمل خضاباً، وورق التوت يستعمل غذاء لدود القز، وهكذا إذا كانت هناك فائدة يمكن أن يستفيد منها العامل من جراء سقيه لهذا النوع من الشجر فلا بأس، أما ما لا ثمرة له بالكلية فلا تصح المساقاة فيه؛ لأن المساقاة عمل على جزء من الثمرة التي تحصل، فإذا كان الشجر لا ثمرة له؛ فحينئذ ليست هناك مساقاة.(219/3)
فتح خيبر ومعاملة الرسول لأهلها
يذكر العلماء في موضوع مساقاة خيبر: هل فتحت خيبر عنوة أم صلحاً؟ وهل كانت ملكاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه افتتحها عنوة واكتسبها، أو كانت صلحاً بينه وبين أهلها؟ يطيل ابن عبد البر رحمه الله الكلام في هذه المسألة في الاستذكار؛ لأن خيبر كانت حصوناً متعددة، فبعض الحصون فتحت عنوة وبالقوة، وبعض الحصون نزل أهلها عنها حقناً لدمائهم.
إذاً: منها ما فتح عنوة، ومنها ما فتح صلحاً، ومما فتح عنوة حصن الكتيبة، كان يقال عنه: فيه أربعون ألف عذق -أي: أربعون ألف نخلة- ولأنه فتح عنوة؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم امتلكه، حتى قالوا: أهله أصبحوا عبيداً لرسول الله، والأرض أصبحت ملكاً لرسول الله، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يبعث الخارص يخرص عليهم ليأخذ نصف الثمرة على ما صالحهم عليه أو ما أقرهم فيه.
وكان فتح خيبر عام سبعة من الهجرة بعد العودة من صلح الحديبية بليال -قيل: عشرون ليلة- ولهذا قسم رسول صلى الله عليه وسلم خيبر -عند من يقول: قسمها- على أهل الحديبية؛ لأن الله قد أعطاهم إياها في الطريق في العودة من الحديبية {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح:20] ، فقالوا: المغانم التي وعدهم الله إياها هي فتح خيبر، وعلى كلٍ فكلُ من حضر الغزوة من الصبيان أو النساء أو العبيد أو ممن ذهب في رفقة الجيش يسترزق فقد قسم له رسول الله.
حاصر النبي صلى الله عليه وسلم خيبر ليال، ثم فتحها الله عليه، فلما فتح الله عليه خيبر هنا بدت مدينة فيها أشجار، يكفي أن حصناً منها يتبعه أربعون ألف عذق، فإذاً يحتاج إلى عمل، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسوا متفرغين للفلاحة، وإنما سيوفهم بأيديهم، ففطن اليهود لذلك وقالوا: يا محمد! أبقنا فيها نعملها لك، فأنتم لستم أهل خبرة بالأرض وبطبيعتها وطريقة استثمارها، ولو كانت لكم بها خبرة فليس عندكم الوقت الكافي لزراعتها، أما المهاجرون جاءوا فليسوا أهل زراعة ولا نخيل، ولكن أهل تجارة وقتال، فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم: (نقركم فيها -هذا اللفظ متفق عليه- على ما شئنا - وفي رواية: على ما شاء الله-) ، ومشيئة رسول الله لا شك أنها من مشيئة الله، فأقرهم عليها، ومكثوا فيها بقية وجود النبي صلى الله عليه وسلم من سنة سبع وطيلة خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وفترة من خلافة عمر، حتى أجلاهم عمر عنها سنة سبعة عشر، وكان سبب إجلائهم عنها ما كان قد صدر من النبي صلى الله عليه وسلم في أخريات حياته صلوات الله وسلامه عليه: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب) ، وهذه كلمة إن قلت سياسية أو تشريعية فمدلولها واسع جداً، نأتي إليها إن شاء الله بعد الكلام على المساقاة والمزارعة.(219/4)
حكم الأرض البياض في المساقاة
لما أقر النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على أرضهم يقومون في غرسها وزرعها، أقرهم على أصولها وبياضها.
الأصول: الأشجار المغروسة، والبياض: الأرض التي بين الأصول ليس فيها غرس.
وإعطاء الأصول على جزء من الثمر هو المساقاة؛ لأن العمل الرئيسي هو سقي هذه الأصول، وإعطاء الأرض البيضاء التي لا غراس فيها على جزء مما يخرج منها يسمى المزارعة؛ لأن الذي يأخذ الأرض البيضاء يزرع من جديد.
ومالك له مباحث في البياض مع الأصول؛ فإذا كانت الأرض فيها نخيل وأشجار يساقى عليها، ويوجد بين هذه الأشجار أرض بيضاء، لمن ثمرة هذه الأرض إذا ساقى صاحب الأصول عليها؟ يقول مالك رحمه الله: إذا كان البياض الثلث فأقل فهو تابع للأصول، وللعامل أن يزرعها لنفسه، وإذا كان البياض أكثر من الثلث، بأن كان الغرس الثلث والبياض الثلثين فهو لصاحب الأرض.
وهل يزارع المزارع عليها مع الأصول فتكون مساقاة في الأصول ومزارعة في الأرض البيضاء، أم لا يكون ذلك؟ قال: على حسب الشرط، ما يتفق عليه صاحب الأرض والداخل؛ أي: الذي سوف يعمل في المساقاة أو المزارعة يسمونه الداخل.
وإذا أعطاه الأرض البيضاء يعمل فيها مع الأصول، كلفة العمل في الأرض البيضاء كالبذر والحرث وما تحتاجه على صاحب الأرض أو على العامل؟ الجمهور على أنها على العامل.
والأئمة الثلاثة رحمهم الله يجيزون المساقاة في كل شيء، وبعضهم يقتصر على النخل فقط؛ قالوا: لأنه الذي جاء فيه الرخصة؛ لأن المساقاة خرجت عن القاعدة العامة؛ لأن فيها غرر على العامل، ولا يدري ماذا سيحصل من تعبه طوال السنة، لكن تسومح فيها لأنها رخصة، والرخصة لا تتعدى محلها، والإمام أبو حنيفة رحمه الله منع المساقاة بالكلية، قال: لأنها نسخت بالمزابنة -المدافعة- كل يدفع عن نفسه الغرر.
والجمهور يقولون: هذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، واليهود قبلت بالعمل فيها بجزء مما يخرج منها.
وخالفه أبو يوسف ومحمد، أما أبو حنيفة وزفر فيقولان: لا تصح المساقاة؛ لأن فيها الغرر.
إذاً: نستطيع أن نقول بجواز المساقاة عند المذاهب الأربعة.(219/5)
مشروعية الخرص ووقته
كان رسول صلى الله عليه وسلم يرسل عبد الله بن رواحة ليخرص التمر على يهود خيبر، وهل الخرص كان للمشاركة: نصف لليهود ونصف للمسلمين، أم أن الخرص كان للزكاة؟ مالك يعارض في قسمة الثمرة على الشجر في المعاوضات، ويجيزها في الزكاة، وكذلك أبو حنيفة لا يرى الخرص في الشجر، ويقول: إن هذا مبني على التخمين وعدم اليقين، فلا حاجة إلى قسم الثمرة على الشجر، بل ينتظر بها إلى الجذاذ وتقسم بالكيل، حتى لا يكون هناك غرر.
والجمهور يردون على من يمنع الخرص قائلين: إن الخرص وإن كان تقديراً فإنكم تقرون التقدير في غير الخرص، مثل قيم المتلفات، فإذا أتلف إنسان شيئاً لآخر وليس من المثليات: سيارة، أو بعيراً، ماذا سيلزم على المتلف فيما أتلف؟ يلزمه القيمة، وهل هناك مقياس يحددها؟ لا، فالمثليات في المكيل والموزون يمكن أن يكون مقارباً للحقيقة، صاع تمر أو صاع بر، الصاع يحكم بين الاثنين، أما لو كان بعيراً فلو جئت بمائة بعير لا تجد اثنين يتساويان في كل شيء، ولهذا تجد المائة بعير تختلف قيمها لاختلاف هيكلها، لونها، بدانتها، نحافتها.
إذاً: يرجع إلى التقدير، والتقدير من الخرص والاجتهاد، وإذا كنتم تقرونها في بدل المتلفات فلم لا تقرونها في قسمة الشركات؟! ومن منع الخرص بين الشركاء قال: إن ابن رواحة رضي الله عنه إنما كان يذهب ويخرص على اليهود للزكاة -وهي حق للمساكين- وليس للقسمة بين رسول الله وبين اليهود، ولكن إذا جئنا إلى أخبار ابن رواحة نجد أنه كان يخرص للقسمة، كما ذكر مالك رحمه الله في الموطأ: أن ابن رواحة لما أتى اليهود ليخرص عليهم جمعوا له من حلي نسائهم، وقالوا له: هذا لك أنت هدية، وخفف عنا في الخرص.
يعني: إن كان المجموع ألف وسق سيلزمنا خمسمائة، فاجعله ثمانمائة ويلزمنا أربعمائة فقط، فهنا قال ابن رواحة كلمته المشهورة: والله يا إخوة الخنازير لأنتم أبغض خلق الله إلي، وقد جئتكم من أحب خلق الله عندي، وما ذلك -يعني: بغضي لكم وحبي لرسول الله- بحاملي أن أحيف بكم: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} [المائدة:8] لا ترتكبوا الجرم وتميلوا وتظلموا لا، بل اعدلوا: {عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ} [المائدة:8] ، أي: العدل {أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] ، فقالوا: يا ابن رواحة! بهذا قامت السماوات والأرض.
(بهذا) يعني: بالعدل وعدم قبول الرشوة.
وفي بعض الروايات قال لهم: وإن هذا سحت لا نأكله، ثم قال لهم وأنصفهم بكلمة الواثق من نفسه: إني خارص؛ فإن شئتم فخذوا، وإن شئتم فارفعوا أيديكم.
بمعنى: إني خارص؛ فإن قدرتُ قدراً معيناً إما أن تلتزموا بنصفه تؤدونه لرسول الله، وإما أن ترفعوا أيديكم وأنا أضمن لكم نصفه أسلمه إليكم.
هل في هذا حيف؟ لا، كأن تقول: يا فلان! أنا أقسم وأنت تختار، أو اقسم أنت وأنا أختار.
إذاً ما هناك حيف.
فلو أنه كان يخرص للزكاة ما الذي كان يحمله على هذا أو يحملهم هم على ذاك؟ إذاً: فإنما كان يخرص من باب القسمة، وبيان حق الطرفين، ولم ينتظروا جفاف التمر وأن يأتي موعد الجذاذ ليكيلوه؟ قالوا: الخرص سواء في الزكاة أو المساقاة فإنما هو عقد إرفاق بالعامل، وفي الزكاة حفظ لحق المساكين، لذ لا يكون الخرص إلا بعد بدو صلاح الثمرة، ولو تركت حتى الجذاذ ربما العامل أو صاحب النخل يسرف في الأكل أو الهدايا، وربما يبيع رطباً، ثم في النهاية نجد أن الذي وصل إلى حد الجذاذ ربع الثمرة، أين صار حق المساكين؟ فإذا خرص عليه بأن هذا البستان فيه مائة نخلة، والنخل يتفاوت كيلها ما بين كذا وكذا وسقاً أو صاعاً، والمجموع كذا، وأنه يلزمه العشر أو نصف العشر، ويتركه بينه وبينه، إن شاء أكله، وإن شاء جامل به، إن شاء باعه رطباً، يهمنا: أن يقدم لنا العشر أو نصف العشر بحسب تقدير الخارص.
والرسول صلى الله عليه وسلم راعى مصلحة الزارع، قال: (اتركوا الربع أو الثلث؛ لما يسقطه الريح، ولما تسقطه الطيور، وبما يرده الضيف ويكارم به، وبما يأكل به العامل) فالرسول سامح أصحاب البساتين في هذه النواحي الإنسانية أو في غير الطاقة، إذا كان الريح يسقط كل يوم مثلاً عشرة؛ ولأن الطيور تأتي وتنقي وتختار أحسن ثمرة وتأخذ حظها منها وتتركها، ولأن الضيف كذلك يأتي ينظر ونحن نقول له: والله هذا حق المساكين! لا، ولكن نكارم ونعطيه، لا نقلل المروءة في الناس، وهكذا أولاده، يتطلعون إلى الثمر ونحن نمنعهم حتى يأتي وقت الجذاذ من أجل الزكاة؟ لا، بل تخرص عليه، ويعرف ما يجب في زكاتها، ثم يلتزم بذلك ويؤديه في النهاية.
إذاً: كان خرص عبد الله بن رواحة رضي الله عنه على أهل خيبر للقسمة وليس للزكاة، فما دام الأمر كذلك، والرسول ترك النخل لأهل خيبر يعملونه، ثم يرسل من يخرصه عليهم ويستوفي حقه، وثلاث سنوات في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنتان في خلافة أبي بكر، ومدة من خلافة عمر رضي الله تعالى عنهم.
بعد هذا هل نقول: إن المساقاة منسوخة؟! إن النسخ لا يكون إلا في عهد رسول الله؛ لأن النسخ تشريع جديد، وليس بعد رسول الله وحي ولا تشريع، وليس لأحد بعده أن ينسخ ما شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: المساقاة ثابتة، وهي على ما اتفق عليه صاحب المال والعامل.(219/6)
حقوق العامل وواجباته في عقد المساقاة
[عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع) ، متفق عليه.
وفي رواية لهما: (فسألوه أن يقرهم بها على أن يكفوه عملها، ولهم نصف التمر، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: نقركم بها على ذلك ما شئنا.
فقروا بها حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه) .
ولـ مسلم: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعتملوها من أموالهم، ولهم شطر ثمرها) ] .
عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر عليها على شطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع، الزرع للأرض البيضاء بين الأصول، وقد تكون هناك أراض زراعية ليس فيها من الغرس أي شيء، فيزرعونها على حدة، ويسقون النخل على حدة، ويزرعون البياض بين النخل تبعاً للنخل، وكل ذلك عاملهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بجزء مما يخرج من الثمرة في الأصول، ومن الحبوب في الأرض البيضاء.(219/7)
الأصول التي تصح فيها المساقاة
أي الأصول تصح فيها المساقاة؟ قيل: لا تصح إلا في النخل خاصة.
وقيل: في كل شجر له ثمر.
وكذلك الأرض البيضاء يزرعونها تبعاً للنخل والأشجار، أو على حدة، وإن كانت البيضاء بين الأصول الثلث فأقل فهي تابعة للأصول، وإن كانت أكثر والغرس ثلث فأقل فالأرض فهي تابع مستقل بذاتها.
وأي الزروع التي تصح فيها المزارعة؟ قيل: الحبوب: البر والشعير وما يتبعه.
وقيل: كل ما يزرع حتى الخضروات، حتى نص مالك على القثاء وما شاكلها فإنها تدفع للعامل يعمل فيها بالمزارعة، ولكن في غير خيبر إذا دفع صاحب الأرض الأرضَ لمن يعمل فيها زرعاً، قال: لا تكون مزارعة على جزء مما يخرج منها إلا إذا كان صاحب الأرض قد حرث وبذر، وبدأ الزرع ينبت، وعجز صاحبه أن يوالي العمل فيه للنهاية، فله أن يزارع عليه أحد العمل، أما أن يأتيه والأرض بيضاء ويقول له: اعمل فيها على ما يخرج منها، فـ مالك يمنع من هذا، وغيره يجزيه، والذي يمنع يقول: لأنه مجهول، ولا يدري ما الذي سيحصل عليه.
فيقال لهم: المساقاة على مجهول ولا يعلم ما الذي سيحصل عليه.(219/8)
ما يجب على العامل فعله في عقد المساقاة
ويتفقون على أن العامل ملزم بكل عمل من شأنه مصلحة الثمرة، فمثلاً: إذا كان النخيل عليه جدار، فانثلم الجدار في مكان ما، فعلى العامل إصلاحه لا أن يبني جداراً جديداً لم يكن موجوداً على الأرض؛ لأن هذا ملك لصاحب الشجر، وليس لصاحب الشجر مصلحة دائمة بدوام هذا البناء الذي سيبنيه؛ لأنه إن ساقاه سنة أو سنتين فبناء السور يظل عشرات السنين، فيكون صاحب الأرض استفاد من العامل ما ليس له فيه حق.
وكذلك على العامل أن ينقي العين -القناة- كما كانت العين في أحد والخيف -خيف السيد، خيف فلان- كانت من جبل أحد إلى الغابة، هذه كلها خيوف ماء يسيل على وجه الأرض يقتسم أهل البساتين الماء بالوجبة على نظام عندهم في ذلك، فإذا احتاج مجرى هذا الخيف إلى ترميم أو إصلاح، أو انصدع الجدار من الجانب، أو نبت من الحشيش ما يسد الماء ويرده، فعلى العامل تنظيف ذلك، وليس عليه إجراء عين جديدة، وليس عليه حفر بئر من جديد، ولكن عليه إصلاح البئر القائمة.
لا مانع في ذلك كله.
وعلى العامل أن يحضر آلات السقي، إن كان بالسواني فبالسواني، وإن كان بالمكائن -كما هو الآن- فالبمكائن، وإذا كان في البستان عمال أو عبيد أو رقيق ملكاً لصاحبه، وأراد العامل أن يأخذ الرقيق مع الأصول، قالوا: إن كانت النخيل كبيرة وتحتاج إلى مساعدة أخذ، وإن كانت صغيرة لا تحتاج إلا لشخصه هو فليس له أن يأخذ.
الذي يهمنا: أن ما فيه مصلحة الثمرة فهي على العامل، فإذا كانت المساقاة سنوات فعليه في أول السنة تأبير النخل، وقطع الجريد، وإصلاح الأحواض للنخلة للماء وللشرب.
وغير ذلك، وكذلك الأشجار المثمرة: عليه تقليم شجر العنب؛ لأنه يحتاج إلى تقليم ما يبس منه كل سنة، وكذلك أشجار الفاكهة الأخرى إذا احتاجت إلى تقليم الزوائد فيها لينشط الجذع في تغذية الثمرة الجديدة.
ثم إذا جاء وقت الجذاذ فعلى العامل أن يجذ الثمرة، وينزلها البيدر حتى تجف، ثم بعد ذلك يقتسمونها.
[وفي رواية لهما: فسألوه أن يقرهم بها على أن يكفوه عملها ولهم نصف التمر] .
الرواية تدور بين كون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أقرهم ابتداءً، وبين أنهم هم الذين طلبوا منه أن يقرهم، وسواء كان ذلك ابتداء من الرسول صلى الله عليه وسلم، أو استجابة لطلبهم، فالنتيجة واحدة، وهي: أنهم عاملوه على جزء من الثمرة.(219/9)
مدة عقد المساقاة
[فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: نقركم بها على ذلك ما شئنا] .
ما هي هذه المشيئة؟ هل اليهود علموا متى تنتهي تلك المشيئة، أم أنه أجل مجهول؟ مجهول؛ لأن اليهود لا يعلمون متى تكون مشيئته بإخراجهم، وهنا قالوا: هل يتعين في المساقاة تعيين مدة العمل، أو تصح بغير تعيين؟ فمن قال: تصح بغير تعيين أخذ دليله من هذه اللفظة: (ما شئنا) إذ ليس فيها تحديد زمن معين، ولهذا مكثوا فيها إلى جزء من خلافة عمر، فمن الممكن أنهم كانوا يتوقعون كل سنة إجلاءهم، فكان العمل على غير مدة معينة.
وهناك من يقول: لابد من تعيين المدة.
والواقع أننا لا نستطيع أن نتحكم على ما جاءنا من الروايات، ولا توجد رواية -فيما أعلم- أن الرسول حدد لهم المدة: سنة أو سنتين أو أكثر أو أقل.(219/10)
ما يترتب على فسخ عقد المساقاة
يتفق العلماء على أن صاحب الزرع إذا أعطى العامل غرسه ليعمل فيه فعمل، ثم بدت الثمرة، ولما يحن وقت الخرص، وأبر النخل فقط، ثم جاء صاحب النخل وقال: فسخت عقد العمل بيني وبينك.
فمن حقه ذلك، وكذلك من حق العامل أن يأتي في وقت معين ويقول: فسخت العقد بيني وبينك.
في هذه الحالة إذا جاء الفسخ من جانب صاحب المال ماذا يكون للعامل فيما مضى من عمله في هذه السنة؟ بدأ العامل العمل من بعد الجذاذ للثمرة التي مضت، أي: من بداية سنة جديدة، فسقى النخل، وقطع الجريد، وأبر النخل ونظف القناة، وأصلح السور.
إلخ، كل هذا عمله على أنه سوف يستمر إلى آخر السنة، فجاء صاحب النخل وقطع عليه المشوار، فإذا جاء الفسخ من جانب صاحب النخيل فعليه أن يدفع أجرة العامل فيما عمل من أول السنة من بعد الجذاذ الأخير إلى يوم أن ألغى عقده؛ لأنه يعمل على وجه شرعي، وصاحب المال هو الذي ألغى العقد، إذاً: يتحمل مسئولية ذلك.
أما إذا جاء الإلغاء من جانب العامل فهو الذي أبطل حقه، ولا حق له في المطالبة بما عمل، لا حق التأبير ولا قطع الجريد ولا تنظيف النهر ولا تصليح الدولاب ولا ترميم السور كل ما عمله أسقط حقه فيه بتركه العمل اختياراً.
حدد المدة في المساقاة فيلتزم الطرفان بها، وإذا أراد أحد الطرفين أن يقطع المدة فيلتزم بالمسئولية، أو كانت المساقاة بغير أجل مسمى فكل على طريقه، فإن جاء صاحب المال وألغى العقد أو أوقف عمل العامل فيتحمل له بما يستحقه كأجير، وإذا ألغى العامل العقد فيتحمل هو مسئولية الإلغاء، ولا يكون له عند صاحب المال شيء؛ لأنه دخل معه على أن له في مقابل العمل جزءاً من الثمرة، والثمرة لم تأت بعد، إذاً: ليس له حق في المطالبة بشيء.
والله أعلم.(219/11)
ما يلزم العامل من النفقة في عقد المساقاة
[ولـ مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعتملوها من أموالهم ولهم شطر ثمرها] .
هذه الرواية الأخيرة فيها زيادة: (على أن يعتملوها) ، أي: ما تحتاجه من نفقات وكرى لعمل زائد الأرض البيضاء تحتاج إلى حراثة تحرث العين تحتاج إلى آلة تنظف الدولاب الذي يعمل عليه تعطل ويحتاج إلى تصليح على من تكون نفقة ما يحتاجه الغرس لمواصلة العمل؟ أهي على العامل أم على صاحب المال؟ فالرواية التي لـ مسلم: (أن يعتملوها من أموالهم) ، فإذا تعطل الدولاب يصلحونه، وإذا انطمست العين يحفرونها، وإذا سقط الجدار يقومونه وإذا احتاجت الأرض البيضاء إلى بذر يشترونه، إلى سماد يسمدونها، وإن احتاجت إلى عدة أشخاص يؤبرونها، وهو وحده لا يستطيع أن يؤبر النخل، ولو بقي على عمله هو فقط ربما فات بعض النخل وقت التأبير وفسد؛ لأن الكافور أول ما ينشق يجب أن يؤبر، إذاً لابد من أيدٍ عاملة تتابع ذلك حتى لا يتفتح الكافور وتظل خمسة إلى عشرة أيام ولم يوضع فيها شيء، كالمرأة إذا جاءتها البويضة ولم تجد البويضة ما يلقحها فسدت وخرجت مع الدورة الشهرية، وهكذا طلع النخلة إذا لم يجد التأبير في إبانه فسد ومضى في طريقه (شيص) .
إذاً: يعملونها من أموالهم، وأهم الأموال في عملها: البذر في الأرض البيضاء، وكل ما من شأنه إصلاح النخل، يمكن أن يقطع جريد ألف نخلة لسنة قادمة؛ لأن النخلة تزيد كل سنة دوراً من الجريد، وتنمو وهكذا، وفي علم النبات الشجرة الكبيرة والدوحة العظيمة علماء النبات يعرفون عمرها بالدوائر والحلقات التي في عين الجذع، لو قطعت الشجرة وجدت في بطنها دوائر، دائرة خلف دائرة خلف دائرة، ويقولون: كل دائرة لها زمن معين من العمر، وكلما مضى عليها زمن زادت دائرة جديدة، وهكذا يقيسون عمرها بتلك الدوائر، كذلك النخلة يقيسون عمرها بطوابق الجريد التي تظهر فيها.
والناس يختلفون في قطع الجريد للنخيل، فبعضهم يقول: ما زاد على حملها.
وبعضهم يقول: لا تقطع من النخل جريدة إلا إذا يبست، وما دامت خضراء فهي عامل من عوامل الجذب للماء من تخوم الأرض إلى أعلاها؛ لأن الجذع الذي على وجه الأرض خشب ولا تستطيع أن تكسره بالفأس، وفي رأس النخلة تجد الجمار تأكله بأسنانك، وتجد الماء، وتجد العسل في الرطبة، من أين جاء هذا؟ إنما جاء من الماء الذي في الأرض، وما الذي رفعه وضخه إلى أعلى؟ ذلك الجريد، وكذلك أوراق الشجر الخضراء التي تقوم بعملية التمثيل الضوئي (الكلوروفيل) -كما يسمونه- تجذب الماء إلى أعلى مثل (الموتور) الذي يدفع الماء إلى أعلى العمارة، ولهذا أرباب النخيل لا يقطعون الجريد الأخضر.
إلا أن بعض النخلات -كما يقولون:- يعتريها الجنون أو سن المراهقة، فيخففون من رأسها بأخذ الجريد دور أو دورين لكي تخف قليلاً وتهدأ، ولهم أحوال كثيرة في هذا، ويكتبون عن النخلة الشيء الذي يعجز الإنسان عن تصوره، يقولون: إنها تفرح وتحزن وتخاف وتطرب، وكل ذلك يثبتونه للنخلة، وبعض النخلات إذا طال الزمن وما أثمرت يأتون بالحطب حولها أو القش ويقولون: إذا لم تثمر نحرقها، ويشعلون النار في القش، هم لا يؤذون النخلة بشيء، ويقولون: في السنة القادمة تخاف وتثمر! هذه حالات الله أعلم بشأنها.
فعلى كل أرباب الخبرة كتبوا في النخيل والزراعة كتباً وأشياء عديدة، وأثبتوا النظريات التي قالوها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.(219/12)
كتاب البيوع - باب المساقاة والإجارة [2]
جعل الله الناس بعضهم لبعض سخرياً، ينتفع بعضهم من بعض، فشرع الله عز وجل المؤاجرة على الأعمال، وجعل لها شروطاً على اختلاف أنواعها، ومن أنواع الإجارة إجارة الأراضي، وقد جاء الإسلام فنهى عما فيها من الغرر الذي كان قائماً، وأجاز ما فيها من منفعة حفظاً لحقوق الطرفين، وصيانة للود بين المسلمين.(220/1)
أحكام الإجارة
[وعن حنظلة بن قيس رضي الله عنه قال: (سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والفضة، فقال: لا بأس به، إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الماذيانات، وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، ولم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به) رواه مسلم.
وفيه بيان لما أجمل في المتفق عليه من إطلاق النهي عن كراء الأرض] .(220/2)
تعريف الإجارة
انتقل المؤلف رحمه الله من بحث المساقاة والمزارعة إلى المؤاجرة، وهو القسم الثاني من عنوان المصنف في هذا الباب، والمؤاجرة تأخذ حيزاً كبيراً في كتب الفقه والموسوعات.
يعرفون الإجارة بأنها: بيع المنفعة، بخلاف البيع فهو: بيع العين، فأنت تشتري الدار وتصبح ملكاً لك، تبيعها أو تهبها أو تؤاجرها أو تغلقها أو تهدمها أو تبنيها أنت حر، أما في عقد استئجار عين الدار فأنت لا تملك العين ولكن المنفعة، وما هي المنفعة التي تأتي من الدار؟ المنفعة التي ترجى من الدار هو السكنى، ولذا يقولون: من استأجر عيناً لا يجوز له استعمالها في غير ما وضعت له وإلا كان متعدياً مفرطاً، فلو استأجر داراً للسكنى، ثم حوّلها مدرسة، فلصاحب الدار الحق في أن يلغي العقد؛ لأن مضرة المدرسة بالأطفال أكثر من مضرة الساكن رجل هو زوجته وولدان أو ثلاثة مضرتهم على البيت ليست كمائة طالب، هذا يكسر النوافذ أو يخرب أو يستهلك ماءً أو.
إلخ، وهكذا.
فإذا استأجرها للسكنى لا يحق له أن يستعملها مستودعات للتجارة؛ لأن المستودعات يضع فيها بضائع ومنها المطعومات، فتنشأ فيها الفئران وتتربع وتسمن وتحفر في الأرض وتخرب، أما إذا استأجرها لسكناه فله الحق في أن يؤاجرها لمثله في استيفاء مثل المنفعة التي استأجر عليها.(220/3)
أدلة مشروعية الإجارة
الإجارة أمر ضروري يقتضيه الشرع والعقل: أما الشرع؛ فقد جاءت النصوص بذلك في قضية نبي الله موسى {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25] ، ثم قال له: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27] ، والسنة ليس فيها إلا حجة واحدة {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص:27] ، وقبل موسى وتم العقد فقال: {أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} [القصص:28] ، وكذلك الظئر تستأجر لترضع الطفل، وأم موسى استرجعت ولدها وصارت ترضعه وتأخذ أجرتها، وهكذا يقول صلى الله عليه وسلم: (عملت في مكة على قراريط) ، وعمل لـ خديجة رضي الله تعالى عنها في مالها.
إنسان عنده أرض واسعة ولا يستطيع أن يزرعها، ماذا يفعل؟ يؤاجرها.
عنده مزرعة ولا يستطيع أن يقوم عليها؛ يساقي على شجرها، أو يؤاجرها كلها وثمرها بينه وبين المستأجر.(220/4)
أقسام الأجير عند الفقهاء
قسم الفقهاء الأجير الذي يعمل للغير إلى قسمين: أجير عام لكل الناس، وأجير خاص لهذا الشخص فقط؛ فالأجير العام: هو الذي يعمل لك ولغيرك على عين العمل دون دخل للزمن فيه، مثل الخيّاط تستأجره على خياطة الثوب، والصائغ تستأجره على صياغة الحلي، والنجار تستأجره على عمل الأبواب أو الدواليب، ويعمل لغيرك بجانبك.
والأجير الخاص: هو الذي تستأجره وتملك مدة الإجارة، استأجرته يوماً أو شهراً أو سنة على حسب الاتفاق، فمدته الزمانية ملك لك، إن نومته نام، وإن شغلته اشتغل، تستغل وقته في العقد الذي آجرته عليه.
ثم يفصل الفقهاء أحكام كل نوع من الأجراء، فالأجير العام ضامن، وأول من ضَمَّن الأجراء هو علي رضي الله تعالى عنه، فإذا أعطيته قماشاً ليخيط لك ثياباً فالأصل أن القماش عنده أمانة؛ لأنه أجير يعمل فيه لحسابك، فإن تلف هذا القماش أو ضاع أو انحرق، أو.
إلخ، فعلى حساب من؟! وكانت تضيع السلع على الناس، فـ علي ضمَّنهم ليحافظوا على سلع الناس، ويؤدون الحقوق كما استلموها.
والأجير الخاص ليس بضامن لشيء إلا إذا تعدى؛ لأنه يعمل وأجرتك عليه لجهده اليومي -زمنه- فإن تعدى أو فرط فهو ضامن بتعديه أو تفريطه، لكن إذا تلف على يده شيء بدون قصد فلا ضمان عليه.
مثلاً: وضع الشاي في الكأس وهو حار فانكسر الكأس، هو لا يعلم بأن الحرارة تسبب التمدد، والتمدد الداخلي يسبق التمدد الخارجي، فلا يتجاوبان معاً، فتمدد الداخل يكسر الخارج، وهذه نظرية في الزجاج: إذا كان الزجاج سميكاً -اثنين أو ثلاثة مليمترات- وكان بارداً، وصببت الحار فيه، فإن الحار يسبب تمدداً في الزجاج، فالقسم الداخلي يتمدد بسرعة، لكن الحرارة لم تنفذ إلى القسم الخارجي، فهو بطيء التمدد، ومن هنا يكسر من الداخل ليتيح فرصة التمدد، ومن هنا نجد أن ثلاجة الشاي إذا صببت فيها الحار قل أن تنكسر، لماذا؟ لأن التمدد الذي يحدث في الداخل حالاً يحدث في الخارج؛ لرقة سمك الزجاجة، فهي رقيقة كالورقة، فإذا بدأ التمدد في الداخل تجاوب معه الخارج، فليس هناك مضايقة وليس هناك انكسار.
المهم عندنا: أن الأجير الخاص إذا لم يتعمد إتلاف الشيء فلا ضمان عليه، وهنا وردت في إيجار الأرض فقط، ولكن سيأتي بعد ذلك ما يوحي بعموم الأجير: (ثلاثة أنا خصمهم ... ) .(220/5)
شرط الأجير والعين المؤجرة
في رأيي أن كل نساء كان في هذا الحديث، وكل اختلاف كان في هذا الباب قد انقضى أثره، وذهب تأثيره، وانعقد الإجماع على ما عليه الناس اليوم في الإجارة في الجملة، والمنع إنما يأتي لما فيه غرر على الأجير أو المستأجر، وما سلم من الغرر في عقد الإجارة فهو ماضٍ، وسيأتي التنبيه على من الذي يصح له أن يؤاجر نفسه، وفي أي شيء يكون عقد الإجارة.
ويشترطون في الأجير: أن يكون عاقلاً بالغاً، يملك أمر نفسه، بخلاف العبد المملوك لسيده والصبي، فالعبد لا يملك أن يؤاجر نفسه إلا بإذن السيد، والصغير ليس كامل الأهلية على أن يؤاجر نفسه.
ويشترطون لصحة العين المؤجرة: أن لا تكون المنفعة محرمة، فإذا كانت المنفعة المستوفاة محرمة لا يصح هذا العقد، كمن أجر داره لتكون محلاً لشرب الخمر، أو محلاً لممنوع أو محرم شرعاً، فلا يجوز ذلك، أو تستأجره على أن يعصر الخمر، هذا العمل محرم، ولا يجوز له أن يعمله، ولو كان يعمله في بيته هو؛ لأن أصل العمل محرم، فكيف يباح له أن يستأجر من يعمله؟!(220/6)
أحكام إجارة الأراضي
وعن حنظلة بن قيس رضي الله عنه قال: سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والفضة فقال: لا بأس به] .
ورافع بن خديج فيما يخبر عن نفسه: كنا أكثر أهل المدينة حقلاً -أو زرعاً أو نخلاً- فكانت لهم الأراضي الواسعة والبساتين المتعددة، وكانوا يؤاجرون ويستأجرون، فهو أدرى من غيره بهذه الأحكام؛ لأنه يخالط ويباشر ويعامل في ما يتعلق بالموضوع وهو الإجارة؛ ولهذا وجه السؤال إليه، وما وجه لـ أبي هريرة؛ لأن أبا هريرة ما كان عنده من الأراضي والنخيل في بادئ الأمر ما يجعله يكون لصيقاً بأحكامها، بخلاف ما كان فيما بعد من إمارته على البحرين، وكان له بستان مكانه الآن على طريق الهجرة ما بين قباء ومسجد أبيار علي من جهة الجبل.(220/7)
شرط تعيين الأجرة والمنفعة المطلوبة
قال: سألت رافع عن إجارة الأرض بالذهب والفضة -يعني: بالنقد-.
قال: لا بأس.
وهنا يتحقق الشرط عند الفقهاء، وهو شرط لصحة عقد الإجارة، وهو معرفة المنفعة المطلوبة، وقيمة الأجرة المطلوبة في هذه المنفعة فتكون الأجرة معروفة محددة بدينار أو بعشرة دراهم، أو بعشرين درهماً؛ فإذا كانت الأجرة معلومة والمنفعة المطلوب استيفاؤها معلومة، فلا بأس بذلك.
وهنا أيضاً يقال لمن منعوا المساقاة: الذي يدفع الذهب والفضة في أرض بيضاء، هل يعلم كم سيحصل له من زراعة الأرض؟ لا يعلم، فكيف صححتم عقد الإجارة والمستأجر يدفع المال ولا يعلم ماذا سيحصل عليه؟ كما أن المساقاة عقد غرس قائم، وبحكم العادة ومرور السنين نجد النخل كل سنة ينمو.
إذاً: عقد المساقاة أضمن من عقد الإجارة؛ لأن المساقاة في أقل الأحوال الأصول موجودة، والثمار فرع عنها، بخلاف الأرض فهي أرض بيضاء؛ ستحرث ويوضع فيها الحب ويدفن ويسقى الماء ثم على بركة الله، فصاحب النخل أضمن لأجرته من صاحب الأرض البيضاء.
فأجاز رافع إجارة الأرض بالذهب والفضة، يعني النقد.
فلو جاء بسبيكة ذهب أو فضة لا ندري كم وزنها، ولا قيمتها لم يصح العقد؛ لأنه ربما يطرأ على العقد ما يوجب فسخه، وتصبح الأرض غير مستحقة أو يمنع منها، فيأتي المؤجر ويمنع المستأجر من العمل ويفسخ العقد، مع أن الإجارة عقد لازم، فماذا يكون الحل، نرجع للسبيكة فلا ندري كم وزنها، إذاً لابد من معرفة أجرة الأرض.
ومثله لو قال: استأجرها بحفنة من الدراهم، أو بكيس من الدنانير، وهو لا يعلم كم فيه، لم تصح الإجارة.(220/8)
النهي عن الإجارة على شيء من الزرع في أماكن معينة
[سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والفضة، فقال: لا بأس به، إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الماذيانات، وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع] .
رافع يقول: لا بأس بالذهب والفضة؛ لأنه شيء معلوم، وكلا الطرفين يمكنه أن يرجع إليه، وإنما كانت الإجارة أو المؤاجرة المنهي عنها على عهد رسول الله على ما ينبت على الماذيانات وأقبال الجداول، وهي الحياض وما يليها من الزرع الذي يكون على طرف الحوض بجوار الحد الترابي، هذا متوافرة فيه كمية الغذاء والسماد للنبات، فإذا وجد كفايته من الماء يكون الزرع في تلك الجوانب والأطراف أقوى وأكثر ثمرة مما هو في داخل الأحواض؛ لأن الذي في داخل الأحواض يتزاحم بعضه مع بعض، والذي على أطراف الجداول يمر عليه الماء مدة أطول مما هو في آخر الحوض، وأقبال الجداول أيضاً ما كان مما يلي الربيع -على ما سيأتي- يأخذ من الماء أكثر مما هو في آخر الحوض.
فكانوا يكرون الأرض على شيء من الزرع في أماكن معينة، وبقية الأحواض تكون للعامل، المستأجر يأخذ الأرض وأجرتها، ما سيحصله من داخل الحوض أو مما سيحدده له المؤجر، فإذا كان الأمر كذلك يقول رافع: ربما صح هذا وهلك ذاك، وربما هلك هذا وصح ذاك، فبعض النباتات لا تحتاج إلى كثرة في الماء، وكثرة الماء قد تفسدها، ويكون داخل الحوض أحسن من خارجه أو طرفه، المهم قد يصيب الزرع بعض الآفات.
فعقد الإجارة من أوسع أبواب الفقه، من حيث كيفية المؤاجرة، والعاقدان: المؤجر والمستأجر، والعين المعقود عليها، والإجارة في الفقه: عقد على منفعة العين، أو يقولون: بيع المنفعة أو منفعة الرقبة، فبيع المنفعة لا يتناول الأصل أو العين، وتقدم بيان ذلك: بأن يوجد من يشتري الدار، وآخر يستأجرها، فالذي اشتراها اشترى عينها: بناءها وأرضها وتخومها وهواءها، يتصرف فيها تصرف الملاك، والذي استأجر المنفعة ليس له في عين البناء ولا لبنة، وليس له في العين المؤجرة شيء قط، إنما يستوفي منفعته في الغرض الذي استأجر من أجله.
استأجر سيارة للحمل والنقل، وبحسب أيضاً موضوعيتها، هناك سيارة لحمل الثقيل، وسيارة لحمل الآدمي؛ فكل يستعمل أو يستوفى في منفعته التي جعل لها.(220/9)
مشروعية مؤاجرة الإنسان نفسه
عارض بعض الناس في جواز إيجار الإنسان نفسه، مع أن الكتاب والسنة جاءت بتقرير جواز تأجير الإنسان نفسه، كما جاء في قصة نبي الله موسى عليه السلام مع والد زوجته: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27] ، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (رحم الله موسى؛ آجر نفسه على عفة فرجه وإطعام فمه) ، فهذه إجارة ثابتة في كتاب الله سبحانه وتعالى، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي إلا وقد رعى الغنم.
قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: وأنا رعيتها على قراريط لأهل مكة -أو: قراريط بمكة-) .
والناس يختلفون في كلمة (قراريط) وهي جمع قيراط، والعرف السائد في مجتمعات الناس: أن القيراط جزء من مجموع، وبعضهم يجعل هذا المجموع هو الأربعة والعشرين؛ لأنه العدد الذي يمكن أن يؤخذ منه جميع الأسهم في الفرائض الواردة في كتاب الله: ثمن وسدس وثلث ونصف وثلثين، كل هذه الكسور الاعتيادية يمكن إخراجها من الأربعة والعشرين بدون كسر، فاتفقوا على هذا حتى في الذهب وما يخلط معه من المعادن الأخرى، وهو -كما يقولون- الشبه، وهو نوع من الصِفر يشبه الذهب، يقول: هذا عيار أربعة وعشرين، عيار واحد وعشرين، فإذا كان عيار أربعة وعشرين يكون ذهباً خالصاً ليس فيه خلط، وذهب أربعة وعشرين لا يصلح للصياغة؛ لأن الذهب في أصله لين، ولابد أن يضاف إليه معدن آخر يعطيه نوع صلابة؛ ولهذا لصياغته يضاف إليه قيراطان من النحاس الصلب، فتجد من يقول: عيار واحد وعشرين، يعني: الذهب الخالص في هذا الجرم من الحلي واحد وعشرين قيراط، وباقي الأربعة والعشرين -ثلاثة قراريط- من النحاس، أو عيار اثنين وعشرين، وهي أعلى نسبة في الصياغة.
فهنا بعض العلماء يقول: معنى (على قراريط) يعني: على نسبة معينة من الدنانير أو الدراهم.
والبعض يقول: لا هذا ولا ذاك، القراريط اسم مكان في مكة.
ويجاب عن هذا بأن أهل مكة لا يعرفون بقعة فيها تسمى (قراريط) ، وقائل هذا يقول: إن العرب لم تكن تعرف النسبة بالقيراط.
وأعتقد أن هذا القول فيه نظر.
فقد جاء الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (أن الله سبحانه قال: من يعمل لي من أول النهار إلى الظهر وله قيراط.
فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل لي من الظهر إلى العصر وله قيراط.
فعملت النصارى، ثم قال لهذه الأمة: تعملون من بعد العصر إلى غروب الشمس ولكم قيراطان.
فغضبت اليهود والنصارى، قالوا: كيف يكون عملنا أكثر وأجرنا أقل؟! قال: وهل أنقصتكم من حقكم شيئاً؟ قالوا: لا.
قال: هذا فضلي أوتيه من أشاء) ، ولهذا قال العلماء: إن كل ما يحصل عليه العبد من الأجر على عمل الطاعات هو فضل من الله ليس بكسبه بذاته.
وهذه حقيقة تحتاج إلى رجوع إلى الوراء والتأمل فيها قليلاً، أنت صمت.
بم صمت وذاك مريض لا قدرة له على الصيام؟ وأنت صليت.
بم صليت وغيرك منصرف عن الصلاة أو كسلان عنها؟ أنت حججت.
بم حججت وغيرك يملك الملايين ولم يحج؟ إذاً: صومك بطاقة الصحة فضل من الله، والله الذي أعطاك الطاقة في بدنك لكي تستطيع أن تصوم، والله الذي منحك الهدى والتوفيق لتؤدي الصلاة والقدرة عليها، والله الذي جعل لك استطاعة على الحج بالمال والبدن.
فقوله هنا: (من يعمل لي) يبوب عليه البخاري رحمه الله: باب الأجرة على نصف النهار، رداً على من يقول: لا تصح إجارة الإنسان إلا يوماً كاملاً، ولكن هذا ليس بلازم، فقد تستأجر الإنسان الساعة والساعتين، ويوجد في بعض نظم العمل الأجر بالساعة، وكما يقولون في الأعمال العادية (OVER TIME) يعني: ساعات زيادة على العمل الرسمي، ويحاسب عليها.
وجاء أيضاً عنه صلى الله عليه وسلم: (من صلى على الجنازة فله قيراط، ومن شيعها حتى تدفن فله قيراطان، ومن اقتنى كلباً غير كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراط) .
إذاً: القيراط معروف كجزء من الأجر متداول عند الناس، والرسول يخاطب الناس بما يعلمون، إذاً: (على قراريط) جمع قيراط، وهو الجزء من عدد معين، وتختلف البلدان في هذا العدد من حيث هو، وعند المسلمين والعرب في حساب الفرائض هو أربعة وعشرون.
وكما قالت ابنة شعيب: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26] ، إذاً: الأجرة قديمة، وهذا نبي من أنبياء الله يؤاجر نفسه.
وعلي رضي الله تعالى عنه لما جاء المدينة مر على تراب ومعه تبن مخلوط، ثم مر عليهم في الغد فإذا هو على ما هو عليه، ومر عليه في الغد فإذا هو على ما هو عليه، فسأل: لمن هذا التراب المخلوط بالتبن؟ قالوا: لفلانة، لم تجد من يمتحُ لها الماء لتعجنه، فقال لها: أنا أمتح لك، كم تعطيني؟ قالت: على الدلو تمرة.
فمتح لها ستة دلاء وأخذ ست تمرات.
إذاً: المؤاجرة على الأطيان والمساكن والحيوانات والآدمي جائزة.(220/10)
حكم استئجار غير المسلم
هنا مسألة يعقد لها البخاري باباً: استئجار المسلم لغير المسلم.
فهل يجوز للمسلم أن يستأجر مشركاً أو يهودياً أو نصرانياً؟ يذكر ابن حجر أن هناك من يمنع من هذا كلية، ولا يجوز التعامل معهم، ويذكر للجمهور القول بالجواز، ويذكر عن مالك الجواز عند الحاجة، وما هي الحاجة؟ إذا لم يجد عنه بديلاً مسلماً في عمل من الأعمال -كما يقولون- الفنية، أو التخصصات النادرة فلا مانع، وساق قصة ابن أريقط الذي استأجره أبو بكر رضي الله تعالى عنه للدلالة على طريق الهجرة، قال: استأجراه -الرسول صلى الله عليه وسلم وأبا بكر - وكان رجلاً خريتاً من بني دؤل مشركاً على دين قومه، وهنا شرف الكلمة، وأمانة الأجير: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26] ، فهذا مشرك على دين قومه، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن ينتقل خفية من قومه، ومع ذلك يأتمنه؛ لما عرف عنه من الأمانة، فأعطاه أبو بكر راحلتين، وواعداه الغار بعد ثلاثة أيام، فجاء على الموعد، فدلهم على الطريق، ويختلف الناس بعد ذلك: هل أسلم أو لم يسلم؟ وابن حجر يرجح أنه أسلم بعد هذا.
يهمنا أنه عند العقد كان مشركاً، ولهذا يقول والدنا الشيخ الأمين -رحمة الله تعالى علينا وعليه- في تفسير قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] ، يقول: التدبر في آيات كتاب الله والعمل بها تقتضينا أن نأخذ بالصناعات وبالفنون وبالعلوم ولو من غير المسلمين ما دام في ذلك خدمة لديننا، ولا تتعارض مع الدين في شيء، وذكر الطبيب غير المسلم، والفنيين أو أرباب الصناعات أو غير ذلك مما المسلمون بحاجة إليهم.
إذاً: الاستئجار يكون للعين من الجمادات: الدور والبساتين، وللحيوانات وما استحدث الآن من السيارات والطيارات، والآن يوجد تاكسي طائرة في أوروبا لأصاحب الأعمال يستأجرونها للتنقل عليها، البواخر.
إلى غير ذلك من وسائل النقل الحديثة، وكذلك إجارة الإنسان.
والبحث عندنا الآن فيما كانت الإجارة عليه، وهو: الأراضي.
والمدينة كانت زراعية، وكانت الإجارة فيها إما مساقاة أو مزارعة أو استئجار البستان بكامله، وكذلك الأرض البيضاء يستأجرها الإنسان ليزرعها، كيف كنتم تصنعون في مزارعكم يا رافع؟ قال: إما استئجارها بقدر معلوم من ذهب وفضة فلا بأس: هذه قطعة أرض مائة في مائة متر، خمسين في خمسين، ألف في ألف، أستأجرها منك بدينار، أو بعشرة، أو بمائة، لا بأس في ذلك، وهو الذي يعنيه الفقهاء بقولهم: لابد من تعيين الأجرة لئلا يكون هناك نزاع فيما لو حصل فسخ للعقد، أو حصل ما يوقف الاستفادة من الأرض، فيكون المستأجر له حق الرجوع على المؤجر بحصته من الأجرة التي دفعها.
قال: أما بشيء معلوم ذهب وفضة فلا بأس.
إذاً: هذه قاعدة عامة عند جميع المسلمين، تستأجر بيتاً، بستاناً، أرضاً بيضاء، آلة نقل أياً كانت بنقد معين فلا بأس.(220/11)
إسناد الصحابة الحكم للعهد النبوي
يقول رافع: (أما بالذهب والفضة فلا بأس، وإنما -أداة للحصر- كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) فكلمة (على عهد رسول الله) ، كأنه يسند ذلك إلى رسول الله، وهل رسول الله حضر العقود، والمزارع؟ لا، إنما رافع يذكر الصورة الواقعة، ولماذا قال: (على عهد رسول الله) ؟ لأن هناك قاعدة: ما كان الله سبحانه وتعالى ليقر الناس على خطأ ورسول الله موجود، فكونه على عهد رسول الله يعني: أقره رسول الله، أو أقره الله في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيكون مسنداً إلى رسول الله، فإسنادهم الفعل لعهد رسول الله إشعار بأن الرسول وافق عليه، وقد تكون هناك أيضاً أشياء هو لم يطلع عليها لكن تسند إليه؛ لأنه لو كان منكراً لنُبه عليه، كما جاء في موضوع من خواص البيوت، وأعمق ما يكون اختفاءً قال: (كنا نعزل والقرآن ينزل) والعزل شيء بين الرجل وامرأته، يعزل عنها الماء حتى لا تحمل منه، فعملية العزل هذه من يحضرها؟ حتى الرجل لا يرى هذا بعينه، وإنما هي عملية تلقائية بين الرجل والمرأة، قال: (والقرآن ينزل، فلو كان شيئاً ينهى عنه لنهانا عنه القرآن) ، فعدم نهي القرآن لهم عن العزل اعتبروه تقريراً لهذا الفعل.
ويأتي بعض العلماء يناقش: وهل علم رسول الله أو لم يعلم؟ ليس بلازم أن يعلم مباشرة، المهم كونهم أقروا على ذلك والقرآن ينزل، وما قال: يا محمد! نبهم ألا يفعلوا ذلك.
فاستدلوا على هذا العمل في هذا الوقت على جواز العزل، وأغفلوا النصوص الأخرى؛ لأنه لما أخبر بأنهم يعزلون وكان هذا في بعض الغزوات، وذلك لما طالت عليهم العزوبة، فقالوا: نطأ السبايا ونعزل، قال: (أو تفعلون! إنها الموءودة الصغرى) ، وهذا نهي عن العزل، فقوله: (نعزل والقرآن ينزل) إنما هو بالمضمون والمفهوم وباللازم، ولكن هنا بصحيح العبارة (أو تفعلون! إنها الموءودة الصغرى) ، إذاً: أي الأمرين يقدم؟ احتمال أنه يعلم ولم ينههم عن ذلك، أو كون القرآن ينزل ولم يأتِ نهي، أم التصريح منه صلى الله عليه وسلم مشافهة: (أو تفعلون! إنها الموءودة الصغرى) ، والموءودة الصغرى لا يقرون عليها؟ {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} [التكوير:8] سواء كبرى كانت أو صغرى.(220/12)
منع الشرع من المؤاجرة على جزء معين من الأرض
ذكر رافع صور الإجارة التي كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وتلك الصور العقل يأباها؛ لأنها غير عادلة وفيها غرر: كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الماذيانات، وأقبال الجداول) .
يعني: يؤاجرون ويجعلون أجرة الأرض التي تزرع ما ينبت على الماذيانات وأقبال الجداول، وما معنى هذا؟ قالوا: إذا طاب الزرع جاء المستأجر وحصد ما نبت على الماذيانات وأقبال الجداول وجمعه وقدمه لصاحب الأرض أجرة على أرضه، ويبقى للمستأجر عموم ما داخل الحوض.
إذاً الزراعة انقسمت إلى قسمين: قسم لصاحب الأرض، وقسم للمستأجر.
وهل القسمان متساويان في النبات؟ وهل هما متساويان في الإنتاج والثمرة؟ لا، فيصح هذا ويهلك ذاك يصح ما على الماذيانات وأقبال الجداول، ويهلك ما بداخل الحوض، لأنه يأته ماء كافٍ، وقد يكون العكس: يصح ما بداخل الحوض، ويهلك ما على الماذيانات وأقبال الجداول لكثرة الماء، فالزرع في بعض الأحيان لا يقبل كثرة الماء، ويحتاج إلى ماء بمقدار، وأنواع الزراعات كالذرة والشام مثلاً إذا زرع بعلياً وطلع لابد أن يشرب على عدد إحدى وعشرين يوماً، أما إذا شرب على تسعة عشر أو على اثنين وعشرين ما أفاد، بل لابد أن يشرب على إحدى وعشرين يوماً من يوم أن زرعته ودفنته في التراب، ثم بعد ذلك على عدد معين يسمونها السقية الثانية؟ إذاً: قد يصح هذا ويهلك ذاك، ويهلك هذا ويصح ذاك؛ فحينئذ حينما يقع الهلاك على الماذيانات ورءوس الجداول ماذا استفاد صاحب الأرض، تكون المصلحة كلها للمستأجر، وإذا صح ما على الماذيانات وأقبال الجداول وهلك ما في داخل الأحواض فأين أجر الأجير المسكين؟ لا شيء.
لكن حينما نقول: تزرع الأرض على جزء مما يخرج منها: ماذياناتها مع جداولها مع حياضها، حصدنا الجميع دون استثناء وصفيناه، وكان العقد على ربع الثمرة أو ثمن أو ثلث أو نصف الثمرة، إن صح شيء صح للجميع، وإن هلك شيء هلك على حساب الجميع، وهكذا لا يكون في ذلك غرر ولا غبن.
[ (ولم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه) ] .
ولهذا زجر عن هذا النوع من الإجارة، فزجر عن إجارة الأرض على جزء معين محدد مما ينبت في أجزاء من الأرض، لا على نسبة مشاعة في جميع الزرع، فلما فيه من الغرر نهى عنه.(220/13)
فائدة رواية الحديث كاملاً
في بعض الروايات: (أن رافعاً أتى أهل قباء وقال: يا أهل قباء! لقد جئتكم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر كانت لكم فيه مصلحة، ولكن طاعة رسول الله أولى، نهى عن المزارعة) ، وذكر هذا الأمر.
وجاء عن زيد بن ثابت قال: (رحم الله رافعاً، والله إني لأعلم بالحديث منه، إنما جاء رجلان يختصمان في أرض استأجرها أحدهما من الآخر-وذكر الصورة، فقال: أو تفعلون ذلك! فنهى عن الإجارة حينئذ) .
وهنا يقول الصنعاني: رافع اقتصر هنا على جزء من الحديث فأخل بالمقصود، لأنه قال: نهى.
فهل نهى ابتداءً أو نهى لسبب المنازعة والخصومة؟ نهى لسبب النزاع والخصومة في تلك الصورة التي لم يكن لهم إجارة إلا هي، وهنا التنبيه على أن طالب العلم لا يأخذ جزءاً من الحديث ويترك الباقي، قد يكون في هذا الجزء ارتباط وثيق قوي بأوله، وقد يكون أول الحديث علة لآخره، أو تمهيداً له، أو سبباً فيه، فلابد من جمع أطراف الحديث كما قال علي رضي الله تعالى عنه: (لا ينبغي للمحدث أن يحدث بالحديث حتى يجمع أطرافه) .
ومن هنا كان التأليف في باب (أطراف الحديث) ، والبخاري رحمه الله قد يقطع الحديث في مواطن متعددة، ولكن يأتي بالجملة من الحديث على قدر معنى الباب، وقد يعيد الحديث بعينه ولفظه مراراً لعدة معانٍ فيه، وفي كل مرة يورد الحديث لجزء منه، كما في حديث: (من عمل لي إلى الظهر) ، قال: باب من استأجر إلى نصف النهار.
وساق الحديث، ثم عقب عليه: باب من عمل إلى العصر.
وساق عين الحديث الأول؛ لأن الحديث يشتمل عليهما.
يهمنا في هذا: أن طالب العلم عندما يحدث بجزء من حديث يتعين عليه أن يقف على تمام الحديث؛ ليربط آخره بأوله.(220/14)
معنى قوله: (فأما شيء معلوم ... )
[فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به] .
فنهى عن ذلك لأن هذا يفسد وهذا يصح، فهو غرر.
(أما شيء معلوم) ، وكلمة: (شيء) كما يقول علماء اللغة والمنطق: أعم العمومات، لا يخرج منها شيء، حتى رب العزة، كما قال الله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] ، فكلمة (شيء) أعم العمومات في اللغة.
(أما شيء معلوم) دينار ذهب درهم فضة فلوس نحاس طعام لباس.
أي شيء من هذا كله داخل في: (شيء معلوم) ، فعندما يأتي إنسان ويقول: استأجرت منك الدار عشر سنوات بنخلي.
هذا شيء، فهو يملكه النخيل على أن يستأجر منه الدار عشر سنوات، أو استأجرت منك الدار ببعير، بسيارة نوع كذا، تعال انظر واكشف عليها، بشاة.
إذاً: أقبال الجداول والماذيانات شيء ولكنه ليس معلوماً، وهنا نهى صلى الله عليه وسلم عن الإجارة بالشيء غير المعلوم، أما شيء معلوم بعينه ومقداره صاع من تمر أو بر، إلا عند مالك: فإذا كانت العين تستأجر لنوع من الطعام، فلا يجوز -عنده- أن تكون الأجرة من عين هذا الطعام.
استأجرها ليزرعها ذرة، لا يصح -عند مالك - أن تكون الأجرة ذرة؛ لأن المستأجر يكون قد اشترى ثمرة الزرع الذرة بقدر الأجر الذرة الذي دفعه، فيكون ذرة بذرة مع النسيئة والتفاضل، أما إذا كان سيزرعها قمحاً، والأجرة ذرة أو أرزاً فلا مانع.
إذاً: كلمة (شيء) من العمومات، فإذا وقعت الإجارة وليست خاصة هنا بالأرض الزراعية فقط، بل كل عين مؤجرة إذا كانت الأجرة شيئاً معلوماً معيناً فلا بأس، ولا يجوز أن يأتي ويقول: آجرني بعيرك غداً.
ويسكت عن الأجرة، بل لابد أن يعين.
وكذلك يزيد الفقهاء نوع العمل، وبعضهم يقول: تعيين العمل ليس بلازم والعرف يحدد، فشعيب لما قال لموسى عليه السلام: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص:27] ، قال: موافق.
هل عين له عين العمل الذي سيعمله؟ المدة عرفناها: ثمان أو عشر، لكن ما نوع العمل؟ سيبني، سيحرث، سيرعى الغنم، سيتجر، ماذا يفعل؟ لم يبين له؛ لكن عرف من الحال أنه لرعي الغنم، ويقوم بمهام شعيب التي كانت تقوم بها بناته، فيكفيه المئونة في ما كانت تعمله بنات شعيب، وبنات شعيب ماذا كن يعملن؟ كن يرعين الغنم: {وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} [القصص:23] ، فيأتي موسى يحل محلهما في رعي الغنم.
وقدمنا بأن الأجير على قسمين: أجير خاص لك زمنه، تشغله كيفما شئت في ما يستطيعه ويعرفه، مرة جعلته يستقبل الطلبات من السوق، ينظف البيت، يساعد البنائين في البنيان.
ما يستطيع فعله فلك فعله ولك الزمن، بخلاف الأجير العام، الآن يتعاقدون مع الشغالات في البيوت هل يكتبون لها ماذا تعمل؟ تنظيفات أو مطبخ أو كذا؟ أبداً، عمل البيت معروف بالجملة عرفاً، لكنهم لا يكلفوها بأن تخيط؛ لأن الخياطة عمل مستقل، ولا أن تصير ممرضة، فالتمريض عمل مستقل.
إذاً: هناك من يقول: تعين للعامل الذي استأجرته نوع العمل، كما تحدد له نوع الأجرة.
وبعضهم يقول: تحديد العمل ليس بلازم، إنما يحدده العرف.
[وفيه بيان لما أجمل في.
] .
يقول المؤلف تعقيباً على الحديث: وفيه بيان لما أجمل من إطلاق النهي عن كراء الأرض؛ لأن الأحاديث جاءت مطلقة تنهى عن كراء الأرض، وجاء هذا الحديث، وهل نهى مطلقاً أو عن صورة معينة؟ عن صورة معينة، وأباحها في صورة معينة، إذاً: الأحاديث الواردة المطلقة في النهي عن كراء الأراضي يخصصها هذا الحديث، ويبين بأن عموم النهي ينصب على عقد الإجارة الذي فيه غرر وجهالة، أما عقد الإجارة على شيء معلوم مضمون فلا بأس، فقد بين هذا الحديث ما أجمل في الأحاديث التي جاءت بالنهي.(220/15)
صورة المزارعة التي نهى عنها الشارع
[وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزارعة وأمر بالمؤاجرة) ، رواه مسلم أيضاً] .
هذا تأييد لما تقدم من أن إجارة الأرض -على الشرط المتقدم- بشيء معلوم مضمون لا بأس به.
أما قوله: (نهى عن المزارعة) ، فهذا مما تقدم الكلام عليه، وحمل هذا على أنهم كانوا في أول الأمر يزارعون ما لا يستطيعون القيام بزرعه، فيقولون؛ جمعاً بين المزارعة في خيبر والمساقاة: كان المراد بذاك النهي الإرفاق: (من كانت عنده أرض فليَزرعها أو يُزرعها غيره) ، لديك أرض زائدة عنك، وعاجز عن زراعتها، أعطها لغيرك يزرعها، وكان ذلك في بادئ الأمر عند مجيء المهاجرين إلى المدينة، فكان فيه حث على مشاركة المهاجرين لمن عنده أرض عاجز عن زراعتها يقول له: أعطها له يزرعها، من باب المواساة، ثم بعد ذلك لما وسع الله على المسلمين أصبحت المزارعة والمؤاجرة والمساقاة سواء.(220/16)
كتاب البيوع - باب المساقاة والإجارة [3]
ما زال هذا الشرع تبدو جوانب كماله وصلاحيته في كل زمان ومكان، ومن تلك الجوانب ما جاء في الحجامة، فهي وإن كانت مسألة طبية محضة إلا أن لها فوائد أقرها الطب الحديث، وقد احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وأكرم الحجام وأعطاه أجرته وزيادة، فهو وإن كان حجاماً إلا أن حقه يجب أن يؤدى إليه كاملاً غير منقوص، فقد حذر الشرع من مغبة أكل حقوق الأجراء، حيث جعلهم المولى جل وعلا خصوماً له يوم القيامة، وجعلهم هم ومن أعطى بالله ثم غدر، ومن باع حراً وأكل ثمنه في مرتبة واحدة؛ لاستوائهم في جرم الاعتداء على حقوق الآخرين.(221/1)
أحكام الحجامة
[وعن ابن عباس قال: (احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطى الذي حجمه أجره، ولو كان حراماً لم يعطه) ، رواه البخاري.
وعن رافع بن خديج رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كسب الحجام خبيث) ، رواه مسلم] .(221/2)
مشروعية الحجامة وخبث كسبها
يلاحظ في هذا الترتيب بين الحديث الأول: (احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وأعطى الذي حجمه أجره) إلى هنا الكلام سليم جداً، أما التعقيب عليه: (فلو كان شيئاً حراماً لم يعطه) ما الذي أتى بشبهة الحرام هنا؟ قوله: (كسب الحجام خبيث) أيهما كان أولى بالتقديم: (كسب الحجام خبيث) ثم يأتي ويرد عليه (بأن الرسول احتجم وأعطى الحجام أجرة، ولو كان حراماً لم يعطه) ؟ الأولى: (كسب الحجام ... ) ؛ لأنه يعطي الحكم على كسبه بأنه خبيث، ثم يرد هذا الفهم عندنا بأن الخبث ليس معناه الحرام؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أعطى الحجام أجره، ولكن المؤلف غاير في الإيراد.(221/3)
سبب كون كسب الحجام خبيثاً
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كسب الحجام خبيث) ، وهل خبث المال يدل على حرمته، أو يدل على استقذاره؟ ليس حراماً لأن المنافقين كانوا يتصدقون، وكانوا يتيممون الخبيث من أموالهم ينفقونه، فما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم المال الخبيث الذي يعطى لأهل الصفة حراماً، بل كان حلالاً يأكلونه، لكن عاب على المنافقين أن أحدهم يتيمم النوع الخبيث من التمر ويأتي به ويعلقه لأهل الصفة، بينما كان كرام الناس والمؤمن بالأجر وبالعوض عند الله يأتي بأحسن أنواع التمور أو الرطب أو غير ذلك ينفقه عليهم، والمنافقون يعتبرون هذه غرامة، فلا يأتي بالجيد.
إذاً: معنى قوله: (كسب الحجام خبيث) أي: غير مستطاب، يقول العلماء: لا ينبغي لحر كريم أن يعمل بهذه المهنة، وبعضهم قال: خبثه بسبب ما يتعاطى من الدم، والدم نجس، حيث كان الحجام يعمل بالقرن، فحين ينخلع القرن بطابق منه، يخرمه ويجعله على محل التشريط ويشفط بفمه ليبتز الدم، فلربما زاد في الشفط فغلبه الدم ووصل إلى حلقه دون قصد، فمن هنا كان الخبث، فلما كان الأمر كذلك، وجاء حجام وسأل، قال: (ماذا أفعل فيما أعطى؟ قال: أطعمه الدواب أو أطعمه العبيد) ، فهنا قالوا: سيطعم الدواب حراماً، أو يطعم العبيد الحرام، وهو مكلف بأن يطعمهم من الحلال! إذاً: كسب الحجام خبيث لما فيه من دناءة بالنسبة لبعض الناس.
ثم يأتي الحديث الثاني بأن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم.
وهذا أولاً يثبت مشروعية الحجامة، ثم أعطى الحجام أجره، بل هناك زيادة في حديث بني بياضة: (أنه استوصاهم به خيراً، ثم أرسل إليهم أن زوجوه) ، فقد أكرم الحجام بأجره وبالوصاية به، فليس هناك أي إهانة له أو ابتذال.(221/4)
الحجامة من الناحية الطبية
هنا بحث العلماء من جانب الطب في الحجامة، وجميع العلماء في السابق كان الطب النبوي معلوماً عندهم، وأعرف شيخاً جاء من باكستان لتدريس صحيح البخاري، وكان يحفظه عن ظهر قلب، وسأله البعض عن حديث في البخاري، قال: بهذا اللفظ الذي تذكره لا أعرفه، ولكنه فيه بلفظ كذا، فصحح له اللفظ، وكان طبيباً، وكان له مطب عربي في باكستان، فكان العلماء سابقاً أطباء، والحجامة من الطب النبوي، وكانت معروفة عند العرب، لكن يذكر ابن القيم رحمه الله في مبحث الحجامة ما ينبغي لكل إنسان أن يقرأه قبل أن يقدم عليها.
أولاً: هناك سن قبله لا تجوز الحجامة، وهو عين الموجود في الطب الحديث اليوم، بنك الدم لا يأخذ من شخص دون السابعة عشر من عمره، ولا يأخذ أيضاً من شخص جاوز الستين من عمره، وما بين هذين يمكن أن يأخذ بنك الدم دماً يحتفظ به عنده.
ويشترط في من يؤخذ منه أن يكون ما بين المرة والمرة فترة لا تقل عن ستة أشهر.
ويذكر ابن القيم تنظيماً آخر في موضوع الحجامة: فهو يمنعها في يوم من الأسبوع لعله يوم الأربعاء أو غيره، ويحث عليها في الصيف؛ لحديث: (لا يتبوغ بكم الدم) ، والحجامة هي الفصد، وتعني أخذ الدم من الجلد بعد تشريطه تشريطاً خفيفاً جداً، ثم يؤتى بآلة ماصة، أو عن طريق تفريغ الهواء أو الشفط، فيبتز الدم من الجلد، أو بالفصد من العرق مباشرة كما يعمل في أخذ الدم من صحيح إلى مريض، عندما توضع الإبرة في العرق، والدم يخرج سائلاً متدفقاً إلى الوعاء، فهذا فصد: أخذ الدم من العرق مباشرة، والحجامة: أخذ الدم من الجلد بطريق الشفط أو بتفريغ الهواء وغيره.
وهناك -كما يقال- الكاسات الجافة التي توضع لأخذ الرطوبة، كطريقة الحجامة سواء، ولكن ليس هناك تشريط، ولا خروج دم ولكن امتصاص الرطوبة من وراء الجلد من الجسم، وهذا يستعمل في علاج الرطوبة كالروماتيزم ونحوها.
وهنا احتجم صلى الله عليه وسلم، وذكر: (لو أن دواء يصل الداء لوصلته الحجامة) ، أي: أن الحجامة أهم ما تكون في الأدوية، وبحثها طبياً على حدة، والذي يهمنا هنا: أن ما قيل عن أجره: خبيث قد دفعه له، ولن يدفع صلى الله عليه وسلم شيئاً خبيثاً لإنسان.
وبعضهم يقول: خبث أجر الحجام لأنه مؤاجرة على عمل مجهول، فلا يدري كم سيأخذ من الدم، ولا كم سيستغرق من الزمن، ولا ندري ولا ندري.
إلى غير ذلك.
وعندهم: كل داء في البدن له موضع معين للحجامة، فقد يحجم عن الضرس في القفا، وعن الصداع في الجانب، وعن كذا في الظهر، وكل هذه أمور طبية تكلم عنها ابن القيم رحمه الله باستفاضة.
إذاً: الأعمال التي قد يتمنع عنها بعض الناس أجرها فيه ما فيه، ومن هنا كان العرب يأنفون من الأعمال التي فيها دناءة، ولا تجد إنساناً حراً -مثلاً- عربياً يعمل بكنس الشوارع، ولو جاع، بل قد يحمل نفسه فوق طاقتها ويبني في الشمس في الحجر والطين ولا يعمل المهن التي فيها نوع امتهان للعامل، وهذه من عادات الشعوب، بعض الشعوب ليس عندهم أي نوع من العمل عيب، ولكن العيب في مد اليد، أو الأكل بغير وجه مشروع: السرقة، السلب، النهب.
أما العرب فيقطعون الطريق ويسرقون ولا يعملون الأعمال -في نظرهم- الممتهنة.
وهذا فيه نظر.(221/5)
شرح حديث: (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة)
[وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره) ، رواه مسلم] .
يسوق المؤلف رحمه الله تعالى هذا الحديث بمناسبة الصنف الثالث، وهو ما يتعلق بالأجير وأجره، وهذا الحديث وأمثاله من الأحاديث القدسية، وللعلماء مبحث في التفريق بين الأحاديث القدسية والأحاديث النبوية، وبين الأحاديث القدسية وبين القرآن الكريم.(221/6)
سند القرآن الكريم
الحديث القدسي يأتينا عن رسول الله، فهو الذي ينقل لنا قول الله، والقرآن كلام الله؛ فالحديث القدسي والقرآن يشتركان في النسبة إلى الله تعالى، فما الفرق بين القرآن وهو كلام الله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ، وبين الحديث القدسي والرسول يقول: قال الله؟ أما الفرق بين القرآن والحديث القدسي؛ فإنه من حيث السند، ولفظه وطريقة وصوله إلينا: فالقرآن -كما يقول العلماء- قطعي الثبوت ظني الدلالة، أو مختلف في ظنيه أو قطعيه، هناك الاشتراك اللفظي وهناك الاشتراك المعنوي، وهناك الناسخ والمنسوخ.
إلى غير ذلك.
فالقرآن له طرق وحي ثابتة: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى:51] وهذا الذي كان يحدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم حينما يأتيه الوحي، ويكون في إغفاءة كالإغماء.
إذاً: القرآن قطعي الثبوت عن الله؛ لأن الله قد بين سند القرآن في قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:19-22] ((إنه لقول)) (إنه) ضمير الشأن راجع للقرآن، ((رسول)) الرسول معناها المرسل، والمرسول معناها يحمل رسالة، رسول حمل رسالة، من الذي أرسل الرسول الكريم؟ الله ((ذي قوة)) ، وما الذي نحن نستفيده من قوته، ونحن إنما نريد إبلاغ الرسالة؟ فهو ليس عامل بريد مسكين ضعيف يأتي على الدراجة ويقدم لك الرسالة، فعامل البريد ربما هجم عليه أناس وأخذوا منه الشنطة ويدفعون إليه شنطة مزيفة ويذهب يوزعها على الناس مزيفة، لكن هذا الرسول قوي، لا يستطيع أحد أن يدنو منه ويغير عليه شيء مما أرسل به: (إنه لقول رسول كريم) أولاً: كريم هو بنفسه كريم، ثم (ذي قوة عند ذي العرش مكين) ، متمكن من أداء واجبه.
والرسالة أرسلت لصاحبكم: (وما صاحبكم بمجنون) ، عاقل وافر العقل، لا يمكن أن يغير شيئاً مما أرسل إليه.
ثم هذا الرسول وإن كان ملكاً لكن قد انكشف أمره لرسول الله، ورآه على حالته الملائكية؟ في الأفق المبين: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير:23-24] ، إذاً: تعرف رسول الله على جبريل الذي يأتيه بالرسالة، وهو قوي مطاع في عالم السماء، قوي على رسالته، هذا سند القرآن الكريم.(221/7)
سند الحديث القدسي
سند الحديث القدسي ليس كالقرآن، فقد يكون من النوع الذي يكون فيه (نفث في روعي) ، كما جاء: (نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل قوتها) ، والنفث في الروع إحساس، وقد يشترك فيه عامة الناس ممن اصطفاه الله وصفت روحه؛ كقضية الرجل الذي كان مع الرهط ونزلوا على حي وطلبوا القرى، قالوا: اذهبوا، فقد أتيتم من عند هذا الصابئ فليس لكم عندنا شيء، فجلسوا، فسلط الله عقرباً على سيد الحي، فذهبوا يبحثون يمنة ويسرة عمن يداويه من لدغة العقرب فما وجدوا أحداً، ثم قالوا: هلا ذهبتم إلى هؤلاء النفر.
فأتوهم: هل فيكم من راق؛ فإن سيد الحي لدغ.
قال: لا، طلبنا منكم القرى فامتنعتم، لا أرقيه لكم حتى تجعلوا لنا جعلاً -أجراً- فآجروه على قطيع من الغنم، يقول: فأخذت أقرأ عليه وأنفث، فقام كأنه نشط من عقال، قالوا: ماذا قرأت عليه؟ قال: فاتحة الكتاب (سبع مرات) ، وجاء يسوق الغنم لأصحابه، قالوا: نقسم.
قال: لا، حتى نرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسأله: هل لنا حق في أخذ هذه الغنم أم لا؟ وهل نأخذ أجراً على قراءة القرآن؟ فلما جاءوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (وما يدريك أنها رقية؟ قال: شيء نفث في روعي) ، الحاسة السادسة كما يقولون، أحسست في نفسي وشعوري، هذا الإحساس وهذا الشعور هو اليقين ونور الإيمان، كما في الحديث: (اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه يرى بنور الله) ، فالله سبحانه وتعالى ألهمه ووجهه بأن يقرأ عليه الفاتحة.
إذاً: الحديث القدسي قد يكون شيء ينفث في الروع، وجاء لرسول الله، فكيف وصل إلينا من رسول الله؟ عن فلان عن فلان عن فلان، ومن فلان وفلان وفلان؟ بخلاف القرآن: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:19-22] ، وحينما يأتي إلى صاحبهم يقول: هلموا يا كتبة الوحي واكتبوا، فحينما ينزل القرآن على رسول الله بهذا السند القوي المتين حالاً يسطر، فحفظ القرآن بذلك، وأما الحديث القدسي فما كانوا يكتبونه، ونحتاج إلى أن ننظر من الذي نقله لنا؛ هذا الحديث أبو هريرة، ومن الذي قبله؟ فهنا الحديث القدسي يتوقف على السند، فقد يكون السند قوياً صحيحاً مهماً، وقد يكون قابلاً للنظر والبحث.
القرآن قطعي الثبوت، ومن أنكر حرفاً واحداً منه كفر، والحديث القدسي لو أنكره إنسان بكامله وقال: هذا السند لا يثبت عندي، وإن كان قدسياً.
يقال له: نبحث في السند، فإن توصلنا إلى صحة السند التزم به، وإذا لم نتوصل إليه كان إنكاره وجحوده إياه صحيحاً.
فهذا فرق بينهم.
أما من حيث الموضوع: فقد أمرنا الله أن نتعبد بكتابه تلاوة وعملاً وتطبيقاً.
أما الحديث القدسي فما تعبدنا الله بقراءته، ولو قرأت ألف حديث قدسي فإنه لا يساوي: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] ؛ لأن القرآن نزل للتعبد، ولا تصح الصلاة بالحديث القدسي وإن كان فيه (قال الله) ، وتصح الصلاة بالقرآن.
هذا جوهر الفرق ما بين القرآن والحديث القدسي.(221/8)
الفرق بين الحديث القدسي والحديث النبوي
الحديث القدسي يأتينا عن طريق السنة النبوية وإن كان مسنداً إلى رب العالمين سبحانه، فيأخذ طريق السنة في إثباتها وتشريعها، وهذا الحديث الذي معنا ما ذكره لنا رسول الله عن الله إلا للتشريع، ويأخذ طريق السنة: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7] ، سواء أتانا به من عنده أم مسنداً إلى ربه؟ وإذا كان عن رسول الله مسنداً إلى ربه يكون أقوى وأعظم وأضخم؛ فهنا هذا الحديث من النوع الذي يسميه العلماء: الأحاديث القدسية، ووزارة الأوقاف كانت قد جمعت معظم الأحاديث القدسية، وطبعتها في كتاب ضخم بأسانيدها وأوضاعها، وكثير من العلماء حاول أن يجمعها، ولكن هذا جمع لجنة مكتملة مجتمعة فيكون أقرب إلى الصواب إن شاء الله.(221/9)
إثبات خصومة الله لأناس على الحقيقة
[يقول أبو هريرة: قال رسول الله: قال الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة] .
هل المراد ثلاثة أشخاص بالعدد في الأمة كلها، أو ثلاثة أصناف؟ ثلاثة أصناف، إذ كل من اتصف بصفة من تلك الثلاث فهو واحد منهم.
(أنا خصمهم يوم القيامة) الله أكبر! مَن مِن الخلق إنس أو جن أو مَلك يقدر على أن ينصب الخصومة بينه وبين الله؟ كما جاء في الربا: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] ، من يستطيع أن يقف في أرض المعركة حرباً مع الله ورسوله؟ الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (نصرت بالرعب مسيرة شهر) وتأتي أنت في المعركة تقف أمام رسول الله ورب العالمين؟! وكما يقول العلماء: إن الله سبحانه وتعالى يوم القيامة خصم كل ظالم، وهو يحكم بالعدل ويحاسب الناس على أعمالهم بالعدالة، لكن تلك خصومة خاصة، واحذر ثم احذر أن تفتح مفتاح عقلك وتقول: كيف يكون خصماً؟ وهل الناس أعداء له؟ هل هم خصومه؟ الخصومة سببها كذا وكذا، وتدخل عقلك في إثبات خصومته وكيف تكون؟ قل لها: لا، صفات المولى لا تخضع إلى قوى العقول، صفات الله فوق مستوى الكيف {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] ، يكفينا الهيكل والتركيب العام: (أنا خصمهم يوم القيامة) ؛ فليأت أصحاب الخصوم والذين يكونون خصماء ويحكم الله بينهم.(221/10)
من أعطى بالله ثم غدر
[ (رجل أعطى بي ثم غدر) ] .
رجل كان أو امرأة، وقال: (رجل) للتغليب، وربما لأن الرجال في العادة هم أكثر الذين يغدرون، وكانت العرب تتمدح بالغدر ونقض العهد، ويقولون: إن الذي لا ينقض العهد ولا يغدر بعدوه ضعيف، ولا يستطيع أن يصنع شيئاً، ويتمدحون بالغدر، ففي قول الشاعر: قُبيلة لا يغفرن بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل لما سمع عمر هذا، وقالوا: الشاعر هجانا وقال فينا كذا.
قال: والله إنه لنعم الحال! الظلم ظلمات يوم القيامة، فإذا كانت هذه القبيلة لا تظلم الناس حبة خردل فجزاهم الله خيراً، بل قال أكثر من هذا: تعاف الكلاب الضاريات لحومهم وتأكل من لحم كعب بن نهشل قال: كفى بالأمر ضياعاً أن تأكل الكلاب لحومهم، ما عليكم أنتم؟! قالوا: لا، بل قال آخر: وما سمي العجلان إلا لقوله: خذ القعب أيها العبد واحلب واعجل فقال: خادم القوم سيدهم.
انظر إلى فطنة عمر! وعمر كان سفير قريش عند القبائل في التهنئة والتعزية.
بعض الناس يقول: عمر لا يفهم الكلام.
مجنون من قال هذا! عمر يقول: (إذا جاءتك كلمة عن صديق لها خمسون محملاً في الشر، ومحمل واحد في الخير، فاحملها على محمل الخير) .
والشناقطة يقولون: من باع صديقه بخمسين زلة فقد باعه بيعة رخيصة.
يصبر عليه حتى يكملها مائة! نحن الواحد منا إذا أخطأ صديقه أو زل بشيء مرة أو مرتين قلنا: هذا ليس فيه خير، ونقاطعه وينتهي الأمر.
وهذا لا ينبغي.
هتلر في الحرب الأخيرة لما أراد أن يقاتل الأسبان قالوا له: بيننا وبينهم معاهدة.
قال: هي حبر على ورق.
يعمل بها في السلم، أما الحرب فلا توجد عنده معاهدات.
والذي يحمله على هذا؟ ما كان لديه من قوة.
فهنا المولى سبحانه وتعالى خصم لثلاثة؛ أولهم: (رجل أعطى بي) أعطى ماذا؟ قالوا: أعطى العهد، أعاهدك بالله على كذا، فائتمنه لعهد الله.
(فغدر) : هذا الغادر هل غدر بصاحبه أو بالعهد الذي أعطاه؟ غدر بصاحب العهد، رجل أعطاك عهده وقبلته منه، وعاملك على ذلك، فأنت غدرته، كأنك لا تبالي بعهدي، ولا بحقي وأنا المنتقم الجبار! وحينما يكون يوم القيامة، ويأتي الطرفان، من الخصم في قضية نقض العهد؟ الله، ومن هنا -أيها الإخوة- وإن كنا في أحكام الفقه، لكن لابد من بيان جانب العقائد في مثل هذه الأحاديث، نقرأ في العقائد: (من حلف بغير الله فقد أشرك) ، نحن نتكاثر هذه، والشرك ظلم عظيم! ابن مسعود يقول: (لأن أحلف بالله كاذباً أهون علي من أن أحلف بغير الله صادقاً) .
لأن الحلف بالله كذباً معصية وقد أتوب منها وأستغفر وأتوقف والله يرحمني، لكنه بغير الله شرك.
وكيف يكون الحلف بغير الله شركاً؟ هذه مهمة لطالب العلم، فهي ليست مجرد عبارات تسطر لا، أين نقطة الشرك هنا؟ نحن نعلم أنه إذا رفعت القضية إلى القاضي، وأنكر المدعى عليه، طالب القاضي المدعي بالبينة.
وهذه هي العدالة، فيأتي المدعي فيقول: هذا صديقي، وأنا ائتمنته، وما ظننت أنه سوف يخونني أو ينكرني، حتى أنني ما رضيت أن آخذ عليه سنداً ولا أشهد عليه شهوداً، بيني وبينه وبين الله.
فحينئذ المدعي خلو اليدين، فهل تنتهي القضية على هذا؟ لا، ماذا يقول المدعي؟ يقول: حلفه يمين الله أن دعواي كاذبة، وأني ما أعطيته، فيقول له: تحلف يمين الله أنك ما أخذت منه المبلغ الذي يطالبك به فيقول: نعم، أحلف.
فلسفة اليمين هنا: المدعي خلو اليدين من بينة يقيمها على خصمه، ورجع إلى الله، واستشهد بمن لا تخفى عليه خافية، وقال: يا شيخ! شاهدي الوحيد المطلع على ذلك هو الله، فليحلف لي بالله أنه لم يأخذ مني.
فحينما يتوجه المدعى عليه ويقول: والله! لم آخذ منه شيئاً.
معنى هذا: أنت يا أيها المدعي عجزت عن شهود من الخلق، وجئت بشاهد واحد هو الخالق المطلع على حقيقة الأمر، وحلف بالله أنه لم يأخذ منك شيئاً هنا حكم القاضي ببراءة المدعى عليه وصرف النظر عن دعوى المدعي لعجزه عن الإثبات، وحلف المدعى عليه اليمين.
هذا جهد القاضي، ولكن حقيقة القضاء هل تنتهي هنا أم يعاد النظر فيها يوم القيامة؟ يعاد النظر فيها يوم القيامة.
وهنا كيف كان الحلف بغير الله شركاً؟ لأن الحلف بالله والله وحده هو الذي يعلم الحقيقة، والله وحده هو الذي يعاقب الكاذب ويقدر على ذلك، لكن لو حلفت بجبريل وميكائيل وإسرافيل وجميع الملائكة وجميع الرسل هل يعلمون الغيب في هذه القضية؟ هل يعلمون حقيقة الدعوى؟ لا؛ فكأنك حينما تحلف بغير الله جئت بغير الله محل الله، وادعيت أنه يعلم الغيب في القضية.
والأمر الآخر: يوم القيامة: هل هؤلاء يستطيعون أن يعاقبوا الكاذب؟ لا يملكون ذلك: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] ؛ فأنت بحلفك هذا أنزلتهم منزلة الله في عقوبة الكاذب، إذاً أشركت مرتين: في إعطائك المحلوف به علم الغيب، وفي إعطائك إياه حق الانتقام وأخذ الحق لك وهو لا يملك ذلك.(221/11)
من باع حراً فأكل ثمنه
[ (ورجل باع حراً فأكل ثمنه) ] .
قوله: (رجل) هنا إنما هي وصف طردي، وقد يكون أيضاً امرأة؛ لأن التكليف واحد.
وكيف يبيع حراً؟ هل يستطيع إنسان أن يأتي على أحد الجالسين ويقول: أنا بعتك؟! يمكن، ويصدق هذا في أحد أمرين: إما بطريق الكتمان والغدر.
وإما بطريق السلب والنهب بالقوة.
أما طريق الغدر: فيكون بينه وبين العبد أنه أعتقه لوجه الله.
فصار حراً، ثم يندم ويقول: أنا لماذا أعتقه؟ لماذا لا أبيعه وآخذ ثمنه خيراً لي؟ فبعد أن تقرر العتق وصار حراً وليس عند العبد شهود إثبات، هل تعرفون عبدي فلان؟ قالوا: نعم.
قال: أريد أن أبيعه؟ العبد يقول: أنا حر، أنت أعتقتني.
يقول: كذاب.
فباعه وأكله ثمنه.
أو يظهر قطاع الطريق على أناس يمشون، ثم يأخذونهم ويختطفونهم ويبيعونهم، وكان يقع هذا في بعض البلدان: يحتالون على الشخص حتى يدخلونه في بيت ويقيدونه، وفي الليل يخرجون به ويذهبون إلى جهات أخرى يبيعونه فيها.
زيد بن حارثة من أين جاء؟ خرجت به أمه تزاور أخواله إلى الطائف، فخرج عليهم قطاع الطريق وأخذوه، وأنزلوه إلى مكة وباعوه، ووصل إلى خديجة بالثمن، فوهبته لرسول الله يخدمه، وكان أبوه يبكي طوال الليل والنهار ويسأل ويبحث، ثم قيل له: إن ابنك في مكة عند بني هاشم.
فجاء وأتى بأخيه معه، وأتى بالمال، واستقصى حتى عرف أنه عند محمد بن عبد الله -قبل البعثة- فقال: يا محمد! سمعت أنك الوفي الأمين، وأنك وأنك.
وأن ابني عندك، وقد جئت بفدائه، فاقبل منا الفداء.
قال: أو غير ذلك؟ قالوا: وما هو؟ قال: أدعوه وأخيره بيني وبينكم، إن اختاركم فهو لكم بغير فداء، وإن اختارني فما أنا بمفادي من يختارني على أهله.
قالوا: أنصفتنا.
قال: إذا كان بعد العصر فقوموا في المسجد واطلبوا طلبكم، فجاء زيد وقال: والله لا أختار عليك أحداً أبداً.
فقال أبوه: ويحك يا زيد! أتختار الرق والعبودية على السيادة والحرية؟ قال: وكيف لا! والله مذ صحبته ما قال لي لشيء فعلته: لم فعلته، ولا لشيء لم أفعله: لم لم تفعله.
يعني: وجدت عنده من الرحمة والرفق وحسن المعاشرة ما لم أجده عندك أنت.
فحينما قال ذلك أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وطاف به حول الكعبة وقال: زيد ابني.
وصار يقال له: زيد ابن محمد، حتى جاء القرآن وفصل القضية: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب:40] حتى ولا نسائكم {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] ، {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [الأحزاب:5] .
ثم جاءت القضية الثانية: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب:37] الزواج بالإجبار، بتكليف من الله، لم؟ هل تنقصه نساء أو زوجات؟ لا، لكنه زواج للتشريع لا لإرضاء الخاطر وإشباع الرغبة كما يقول السفهاء.
وفي قوله تعالى: {زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب:37] ، ويأتي هناك سياق القضية بمقدماتها وبأدلتها: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:4] ، هذه قضية تشريعية، {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} [الأحزاب:4] ، {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة:2] {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب:4] ، تأتي المقدمة بالواقع، لا يوجد واحد عنده قال.
وإن كان بعض الصحابة كان يقال له: (أبو قلبين) ؛ لأنه كان جريئاً، لكن خلقة لا يوجد.
وكذلك ما جعل الله الزوجة أماً، أمك واحدة التي ولدتك، فيأتي بقضيتين طبيعيتين مسلمتين ليبني عليها، {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب:4] ؛ لأن الشخص له أب واحد، كيف تكون أنت أبوه وذاك أبوه؟ كما لم يكن للرجل قلبين لا يكون له أبوين، وكذلك لا يكون له أمين.(221/12)
البلاغة اللغوية في قوله: (وأكل ثمنه)
من البلاغة والنوادر في الأسلوب العربي البليغ عند قوله: (باع حراً ... ) أنه لم يقل: وقبض ثمنه، وأخذ ثمنه، مع أن كل هذا يؤدي المعنى، ولكن قال: (فأكل) ، وما خصوص الأكل؟ لماذا لم يقل: ولبس أو وركب؟ يشتري بعيراً أو ناقة أو لباساً لا؛ لأن الأكل من أخص خصائص الإنسان، وإذا لم يأكل يموت، ولكأن الحديث يشير إلى أن عملية بيع الحر ولو كانت لأشد ما يكون في الناس من مخمصة ليأكل حتى لا يموت، لكن أيضاً أنا خصمه، لست خصمه حينما يبيعه للترفيه، أو يبيعه للتمول وتخزين المال فقط، بل خصمه ولو باعه وهو في أشد الحاجة لأن يأكل حتى لا يموت، يعني وهو في حالة الاضطرار أنا أيضاً خصمه.(221/13)
بيع الحر عند العرب قديماً
بيع الحر يقال: إنه كان موجوداً عند بعض القبائل: كان يباع أبناء الرجل في الدين عليه إذا عجز عن سداده، وهو موجود في القانون اليوناني والروماني: إذا بيعت المزرعة بيع معها الغلمان، وإذا استدان الرجل وعجز عن سداد الدين بيع هو أو أولاده في سداد الدين، وكان في بعض القبائل كذلك.
وقد يحتال بعض الناس فيما بينهم على أن يبيع أحدهما الآخر، ويأخذون الثمن، ثم يهرب العبد، وجاء في بعض الأسفار عن نعيم، وكان مضحكاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان صهيب مسئولاً عن الغذاء والتموين، فذهب وقال له: أعطني؛ أنا جائع.
قال: اصبر حتى يأتي الجميع.
قال: أعطني.
فقال له: لا.
قال: فتوعده، فعندما نزلوا بمنزلة ومرت قافلة من التجار ونزلوا قريباً منهم، أتاهم وقال: لدي عبد أتعبني، وكلما بعته هرب على المشتري ويقول: أنا حر أنا حر! ويفسد علي البيعة، وأريد أن أبيعه هذا المرة آخر بيعة، هل تريدون شراءه ولا تسمعون كلامه، وتقيدونه وتريحوني منه.
قالوا: قبلنا، بكم؟ قال: بنصف القيمة.
فباعه وقال لهم: أنا سأريكم إياه من بعيد، وخذوا معكم الحبل، فإذا أتيتموه سيقول لكم: أنا حر أنا حر.
فاصنعوا به ما شئتم، ولو هرب أو رجع فلن أرد لكم الثمن.
فذهبوا ومعهم الحبل، وقيدوه فصاح: أنا لست عبداً أنا حر.
قالوا: نحن نعلم هذا! وأبو بكر رضي الله تعالى عنه كان غائباً، ثم جاء يسأل: أين فلان؟ قالوا: باعه فلان.
قال: كيف بعته؟ قال: أطلب منه الأكل فلا يعطني.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتسامح معه لأنه كان يتفكه به، فسأله: بكم بعته؟ قال: بعته بكذا.
قال: أعطني المال، فأخذ منه المال وذهب إلى هؤلاء النفر فقال لهم: هذا الرجل الذي باعه لكم إنما هو عيار يمزح، وهذا هو أخونا وهو صاحب رسول الله.
فتركوه ومضى به.
(ورجل باع حراً) لماذا يكون الله خصمه؟ لماذا لا يكون الشخص بنفسه ويطالب بحقه؟ لأن العبودية حكم من الله، والحرية حق الله أعطاه للعباد، ولا تأتي العبودية إلا في أرض المعركة عقب قتال المشركين للمسلمين، فيؤخذ باسم الدين.(221/14)
من استأجر أجيراً ولم يعطه أجره
[ (ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره) ] .
دائماً وأبداً الأجير في حالة ضعف مع المستأجر، فهو يأتي ويعمل مستوثقاً من المستأجر في دفع الأجرة، فعمل وانتهى وقت العمل واستوفى المستأجر العمل، أعطني الأجرة.
قال: ليس الآن ليس الآن ليس الآن إلى أن تذهب الأجرة، استوفى حقه في العمل ولم يعطه أجره، فهذا المسكين الضعيف ماذا يصنع؟ هو أجير، والعادة فيه أنه ضعيف، فأنت استغللت ضعف قوته وشخصيته، وهو استعان عليك بالله، فتكون الخصومة بينك وبين الله سبحانه وتعالى في حق هذا الأجير.
ونذكر هنا القصة المشهورة في النفر الثلاثة من بني إسرائيل الذين آواهم المبيت إلى الغار، ونزلت عليهم الصخرة وسدت فم الغار، قالوا: الآن لا أحد يعلم بنا -لم يكن هناك لاسلكي ولا (البيجر) ولا اتصالات، أنتم الآن في قبركم أحياء، لا يعلم بكم إلا الله، ولن ينجيكم منه إلا الله -هنا الشدة تمحص الحق- وليس لنا إلا أن نستشفع الله، ونتوسل إليه بصالح أعمالنا أن يكشف عنا.
والقصة طويلة فواحد توسل ببر الوالدين، وواحد توسل بالتعفف عن الزنا، وقال الثالث: (اللهم إنه كان لي أجير، فأعطيته أجره صاعاً من شعير فاستقله وذهب وتركه، فأخذته وبعته، واشتريت عناقاً ونميته له حتى صار مالاً في الوادي، فجاءني بعد زمن وقال: أتعرفني؟ قلت: نعم، أنت الأجير فلان.
قال: أعطني أجري.
قال: قلت: اذهب إلى الوادي وانظر ما فيه من بهيمة الأنعام فخذه، فهو أجرك.
قال: أتهزأ بي لأني مسكين؟! قال: لا -والله- إنه أجرك نميته لك حتى صار كذلك.
فذهب فأخذ جميع ما وجد، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانكشفت عنهم الصخرة جزءاً) ، وهكذا مع كل واحد توسل بصالح عمله تنكشف الصخرة جزءاً حتى انكشفت وخرجوا يمشون على وجه الأرض.
فهذا هو حسن معاملة الأجير، والله سبحانه وتعالى جعل لذلك معلماً: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) ، تنزاح الصخرة بذاتها، هم الثلاثة لم يقدروا على زعزعتها، لكن انزاحت لما توجهوا إلى الله بصالح أعمالهم.
إذاً: هؤلاء الثلاثة لهم حقهم، وواجب على الإنسان أن يعنى به، وإذا ما فرط فيه كان الله خصمه يوم القيامة.
نسأل الله السلامة والعافية.(221/15)
كتاب البيوع - باب المساقاة والإجارة [4]
كثيراً ما اختلف أهل العلم وخاضوا معترك مسائل إهداء القربات للموتى، ولكنهم أجمعوا على وصول الأعمال المالية، واختلفوا اختلافاً شديداً في وصول الأعمال البدنية خصوصاً إذا كانت بالأجرة، كما أنهم اختلفوا في أخذ الأجرة على تعليم القرآن الكريم، وكاد أن يستقر رأيهم على جواز ذلك.
وفي جانب الإجارة أيضاً حث الشرع على سرعة تسليم الأجرة للأجير، وأن يعلمه عن نوعية العمل المراد منه أن يقوم به، وأن يحدد له أجره اللائق بمثله.(222/1)
حكم أخذ الأجرة على القرآن ونحوه من القرب
[وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) ، أخرجه البخاري] .
يعنون علماء الحديث والفقهاء على هذا الحديث بعنوان (باب الأجرة على القُرَب) أي: الأعمال التي أساسها التقرب إلى الله، ويبحثون تحت هذا الحديث الأجرة لتعليم القرآن، قراءة القرآن، إمامة الصلاة، القضاء، الإفتاء، وكل ما الأصل فيه أنه قربة لله.
والبحث في هذا يتناول تلك الجوانب على أنها أعمال ينبغي أن يقوم بها صاحبها قربة لله، فقارئ القرآن لنفسه يقرأ لله، ويقرئ غيره ويعلمه لله، الإمام يؤم الناس في الصلاة لله، المعلم يعلم الناس لله، القاضي يقضي والمفتي يفتي لله إلى غير ذلك من الأعمال التي فيها قربة إلى الله باحتسابه الأجر عند الله، فهل تجوز الأجرة على هذه الأعمال التي يقصد صاحبها أجراً وثواباً من الله؟ أي: هل يأخذ أجراً من الله ومن الناس؟ قيل: يأخذ أحد الأجرين: إن اختار الأجر من الناس فلا أجر له عند الله، وإن اختار الأجر من الله فلا أجر له عند الناس، هذا مبدأ البحث، ووجهة نظري الاختلاف في هذه القضية، وأعظم مسألة فيها هو ما يتعلق بالقرآن.
(إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) أجراً في أي شيء في كتاب الله؟ في قراءته، يستأجر إنسان شخصاً يقرأ القرآن ويعطيه أجرة على قراءته كالذين يستأجرون للقراءة على الموتى، أو: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) في تعليمكم الناس كتاب الله: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) ، وهنا يأتي البحث.(222/2)
حكم إهداء ثواب القراءة للميت
يمكن أن نقول: إن ما يتعلق بالأجرة على القرآن فيه جوانب جائزة بالإجماع، وجوانب ممنوعة بالإجماع، وما بين ذلك وذلك محل البحث: فقراءة القرآن بأجرة للغير من أجل موتاه.
هذه لا أصل لها، وقالوا: كيف يهب ثواباً لا يملكه أو لم يحصل عليه؛ لأنه استبدل به الأجرة ممن استأجره، ومن قرأ القرآن على أجرة من أحد فليس له ثواب عند الله، إذاً: ماذا سيهب لميت هذا المستأجر، وليس عنده شيء؟! أما كون هذا الإنسان يقرأ بنفسه ويهب إلى موتاه، فهذا فيه الجمهور على الجواز، وما خالف في ذلك إلا أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها والشافعي رحمه الله، ودليلهم: (أو ولد صالح يدعو له) ، ومن الدعاء له قراءة القرآن، وقد بحث الإمام ابن تيمية هذه المسألة في ما يقرب من عشرين صفحة، وأتى بدلائل شرعية وعقلية، وقال: أنت حينما تصلي الصلاة لك وعد من الله بالأجر عليها، وأنت عندما تدعو الله: اللهم اغفر لي، اللهم ارحمني.
هذه المغفرة وهذه الرحمة حق لله أنت سألتها، فيعطيك إياها بدون عوض بمجرد ما سألته، وكذلك لما تقرأ القرآن يكون لك على هذه القراءة أجر عند الله، فتقول: يا رب! أنا قرأت، ووعدني رسولك الكريم بأن لي على كل حرف عشر حسنات، وأنا أطلب منك أن تجعل حسناتي من قراءتي هذه لوالدي لولدي لأخي لصاحبي فلان.
فهنا يقول ابن تيمية رحمه الله: إذا كان الله يعطيك ما لا تملك، كقولك: اللهم اغفر لفلان، اللهم ارحم فلاناً، فمغفرة الله لفلان ليست ملكاً لك، فهو يستجيب لك ويعطيها لفلان، فما بالك إذا كانت القراءة ولك بكل حرف عشر حسنات تسجل لك في كتابك وصحيفتك، فتقول: يا رب! أنا أريد تجعلها في صحيفة فلان، قال: فهذا من باب أولى.(222/3)
حكم إهداء ثواب القربات المالية
ثم إذا نظرنا في ما يتعلق بعمل الغير، نجد إجماع المسلمين على أن الميت يستفيد من عمل غيره المادي؛ فإذا مات وعليه دين وسددته استفاد به، وإذا تصدقت عنه بشيء كان أجر الصدقة له، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خصوص خديجة رضي الله تعالى عنها: كان صلى الله عليه وسلم يذبح الشاة على اسم خديجة، ويفرقها على صويحباتها، حتى غارت عائشة، وقالت: (كل شيء خديجة خديجة!) .
وكذلك كانوا في أول الأمر: من مات وقدموه للنبي صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه سأل: أعليه دين؟ إن قالوا: نعم.
قال: صلوا عليه أنتم.
وإن قالوا: لا، صلى عليه، حتى أُتي برجل، قالوا: عليه ديناران، قال: صلوا عليه.
فقام علي، وقيل المقداد -أو هما قصتان متعددتان- وقال: يا رسول الله! صل عليه ودينه علي.
وفي رواية: أن علياً رضي الله تعالى عنه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أهما في ذمتك يا علي، وبرئت منهما ذمة الميت؟ قال: بلى يا رسول الله.
فصلى عليه) ، فهنا سداد دين عن ميت من الغير جائز ويصله الأجر، وأجمعوا على أن جميع الحقوق المالية لو قام بها إنسان عن ميت أجزأه كما لو قام بها عن حي: إنسان مدين ومسجون في دينه، وذهبت ودفعت الدين الذي عليه؛ فإنه يطلق، ومثله كذلك من يطالب بنفقة لأهله فأنفقت عليه.
المهم: أن القربات المالية يجوز إهداء ثوابها بالإجماع.(222/4)
حكم إهداء ثواب القربات البدنية
الصوم والصلاة عبادة بدنية، والحج يجمع بين الأمرين، فجاء في الصوم: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه) ، وهذا متفق عليه إلا عند المالكية، فهم يقدرون معنى (صام) يعني: أطعم؛ لأن الإطعام بدل الصوم، وهذا بعيد عن صريح عبارة النص.
نجد في حج البيت: (إن أمي ماتت ولم تحج، أينفعها أن أحج عنها؟ قال: أرأيتِ لو أن على أمك دين فقضيتيه أكان ينفعها؟ قالت: بلى.
قال: كذلك دين الله أحق) ،ومن ضمن أعمال الحج ركعتي الطواف، وهي صلاة.
حينما تقدم الجنازة: الصلاة على الرجل يرحمكم الله.
فكل الموجودين يقومون ولا يعلمون من الذي يصلون عليه، إنما دعوا للميت الحاضر، هذه الصلاة وهذه الأدعية تنفعه أو لا تنفعه؟ قطعاً تنفعه؛ لأنها إذا لم تكن تنفعه كانت عبثاً، ولماذا نصلي إذا كانت لا تنفعه؟ فشرعت صلاة الجنازة من الأحياء للأموات.
كذلك -بالإجماع- الدعاء للغير: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، وكما يقولون في زيارة المقابر: من مر على مقبرة فدعا للأموات قسمت عليهم الجوائز، فيقولون: ما هذا؟ فيقال لهم: مر بكم فلان فدعا لكم.
إذاً: من الأعمال البدنية الدعاء، صلاة الجنازة، الصيام، الحج، وما اختلفوا في شيء من هذا كله إلا في قراءة القرآن.(222/5)
حكم أخذ الأجرة على تعليم القرآن
قراءة القرآن للتعليم أو ليهبها إلى غيره: إن كان من نفسه فلا بأس.
أما أن يستأجر غيره ويعطيه أجراً من أجل أن يقرأ ويهب فلا يجوز.
وهذا الحديث سيق لبيان جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، ولكن القصة في غير التعليم، القصة: أن نفراً من الصحابة نزلوا ليلاً في طريقهم بحي من أحياء العرب كانوا على شركهم، والعرب معروف أنهم يقرون الضيف، فاستضافوهم فامتنعوا من الضيافة، فتنحوا عنهم جانباً ونزلوا، فسلط الله على سيد الحي عقرباً فلدغته، فأخذوا يطلبون له العلاج بكل ما يعرفون فلم ينفعه شيء، فقال قائلهم: اذهبوا إلى هؤلاء الرهط الذين جاءوا من عند هذا -وذكروا النبي صلى الله عليه وسلم- لعلكم تجدون عندهم رقية، فأتوهم، فقالوا: هل فيكم من راقٍ؛ فإن سيد الحي قد لدغ؟ فقال رجل منهم: نعم، أنا راقٍ.
قالوا: هلم وارق سيد الحي.
فقال: قد طلبناكم القرى فأبيتم، فلا أرقيه لكم حتى تجعلوا لي جعلاً.
والجعل: هو الأجر المقطوع، مثال ذلك: من نسخ لي صحيفة كذا فله ريال، من بنى لي جداراً فله ألف ريال، أجر مقطوع على هذا العمل.
فقاطعوه على عشرين إلى ثلاثين رأساً من الغنم، قال: فذهبت، فأخذت أقرأ وأنفث عليه، فقام وكأنه نشط من عقال، فجئت بالغنم أسوقها لأصحابي، قالوا: هلم نقتسم.
قال: لا، حتى نرجع إلى المدينة ونسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تجوز لنا هذه الأغنام أو لا؟ فأمسكوا عن القسمة، ولما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك، وقال: (وما يدريك أنها رقية؟ قال: شيء نفث في روعي) ، وهذا -كما أشرنا إليه- نوع من الإحساس الصادق؛ (فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: اقتسموها واضربوا لي معكم بسهم) ، وهل كان حاضراً معهم؟ لا، هو له الحق في كل ما يكتسبه المسلم عن طريق الدين؛ لأن الفاتحة أتتهم عن رسول الله؛ فالحق الأساسي فيها لرسول الله، ولكن يقولون: هذا زيادة توثيق لهم وطمأنينة لأنفسهم؛ لأنهم تورعوا أن يقتسموها قبل أن يعلموا الحكم؛ فأراد أن يزيل آثار هذا الشك بأن يشاركهم في قسمتها، فشاركوه.
فهنا لما اقتسموا وقال للرجل: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله) ، يعني: الجعل الذي أخذته أجراً على ما فعلت بالفاتحة أحق الأجر.
وفي بعض الروايات: (لئن أكل الناس برقى باطل فقد أكلتم برقيا حق) ، هنا القصة قصة رقيا من لدغة عقرب، وهي تدخل في باب الطب، وباب تعليم القراءة، وباب قراءة القرآن للأجر؛ فقوله: (أحق ما أخذتم عليه أجراً) مطلق، لم يقل: في تعليمه قراءته في التطبب به، والمؤلف اقتصر في الباب على رواية البخاري مع وجود نصوص عديدة في هذا الموضوع؛ لأن البخاري يميل إلى جواز أخذ الأجرة على التعليم، ونسبة ذلك عند البخاري لماذا؟ قال: هذا اللديغ استفاد من الراقي أم لا؟ نعم، كأنه نشط من عقال، فيقول استنتاجاً من هذا: حينما يتعلم إنسان القرآن يكون قد استفاد، فحصلت الفائدة للمتعلم نظير ما حصلت الفائدة للديغ الذي تعافى من لدغة العقرب، فإن صحت الأجرة على منفعة المريض بالشفاء فلا مانع من أن تصح الأجرة على من استفاد بالتعليم.
وأعتقد أن هذا قياس واضح وقوي جداً.(222/6)
أدلة المانعين والمجيزين لإهداء ثواب قراءة القرآن
الناس تنقسم في هذه المسألة إلى قسمين: أم المؤمنين عائشة والشافعي يمنعون من ذلك، وهو قول لـ أبي حنيفة رحمه الله، والجمهور يجيزونه، المانعون بماذا يستدلون؟ والمجيزون بماذا يستدلون؟ أولاً: المجيزون من أقوى أدلتهم هذا الحديث؛ لأنه أقرهم على إفادة الغير بالفاتحة، وأخذوا الجعل وشاركهم في قسمتها، وأيضاً يستدلون بقضية المرأة التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! إني وهبت نفسي إليك.
فشخص بصره وصوبه فيها، ثم سكت، فجلست المرأة تنتظر، فقام رجل وفهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا توجد عنده تلك الرغبة ولا ذاك الحماس في هذه المرأة، فقام وقال: يا رسول الله! زوجنيها إن لم تكن لك فيها رغبة، قال: ما عندك من شيء تصدقها إياه؟ قال: ما عندي شيء.
قال: لابد أن تأخذ بالأسباب وتسعى، ذهب ورجع قال: ما وجدت شيئاً.
قال: (التمس ولو خاتماً من حديد) ، اذهب واقطع سلكاً واثنيه واجعله في إصبعك، فذهب ورجع فقال: ما وجدت شيئاً.
انظر إلى أي مدى وصلت الحالة، وهو يريد أن يتزوج! قال: هل معك شيء من القرآن؟ -هذه العملة الصعبة التي تمشي في كل مكان وزمان- قال: بلى.
لسور سماها، وقبل هذا لما سأله عن أي شيء يعطيها إياه، قال: أعطيها ردائي هذا.
قال: إن أعطيتها رداءك جلست ولا رداء لك، اذهب فالتمس، وأخيراً قال له: (زوجتكها على ما معك من كتاب الله) وفي الرواية الأخرى: (زوجتكها؛ فاذهب فعلمها ما عندك من كتاب الله) .
ويرد المانعون على قوله: (زوجتك على ما معك) ، بأنه يعني بهذا: أنه إكراماً لك لما معك من القرآن زوجتك، يعني: زوجتك إياها بدون صداق مكارمة لك وجائزة على ما تحفظ من القرآن، وهي ماذا يكون لها؟ وأما الرواية الأخرى: (فعلمها) ، فهي رواية صريحة في أنه صلى الله عليه وسلم جعل صداقها تعليمها ما عنده من كتاب الله، فقالوا: هذا الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى التعليم صداقاً للمرأة، وتزوجها الرجل بما عنده من كتاب الله أن يعلمه إياها.
وفي بعض الروايات: (قم فعلمها ما معك من كتاب الله) .
فالمجيزون استدلوا بحديث الرقية بجامع الانتفاع، وبحديث المرأة بجعل التعليم صداقاً لها.
أما المانعون فعارضوا في حديث الرقية وقالوا: الجعل ليس على القراءة ولكن على العلاج، ومن هنا جازت الرقية بكتاب الله أو بأحاديث رسول الله، أو بالأدعية المأثورة، وهو ما يسمونه بالطب الروحاني، يعني: عن طريق الروح: يقرأ، يدعو، يرقي بكتاب أو سنة أو دعاء مأثور، وهذا مجمع عليه.
ومالك في الموطأ أطال في هذا الباب، وذكر عدة نماذج في هذا الموضوع.
واستدلوا أيضاً بما جاء عن بعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم: (كنت أعلم رجلاً من أهل الصفة الكتاب والقرآن -الكتاب: يعني الكتابة، الإملاء والخط والحروف، والقرآن: أحفظه إياه- فأعطاني قوساً، فتقلدته وقلت: ليس مالاً أتموله، وإنما قوس أرمي به في سبيل الله، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته فقال: إن شئت أن ترمي به في النار فخذه) ، وهذا أقوى ما استدل به أبو حنيفة رحمه الله، والجمهور قالوا: هو قوس وليس مالاً، والرجل بحسن النية، قال: أرمي به في سبيل الله، ومع هذا القصد الحسن ما أباح له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذه، حتى قالوا: في الطعام، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر له أن رجلاً كبر في سنه، قال: وكنت أتردد عليه وآكل عنده من الطعام ما لم أجده في أهل المدينة قاطبة، فقال له صلى الله عليه وسلم: (إن كانوا يصنعون الطعام لأنفسهم وتأكل معهم فلا بأس، أما إن كانوا يصنعونه من أجلك فلا) ؛ لأنهم كانوا يجعلونه أجراً له على تعليمهم، فقالوا: هذا منعه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والآخرون يردون على هذا أيضاً على رجل يقول: عن عمي: أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان راجعاً -أي: إلى أهله- مر بقوم فيهم مجنون مربوط بالحديد، قالوا: سمعنا أن صاحبكم جاء بخير -يعنون النبي صلى الله عليه وسلم- فهل عندك من هذا الخير ما تعالج به هذا المجنون؟ قال: بلى.
قال: فقرأت عليه الفاتحة ثلاثة أيام، كل يوم مرتان، فقام من مرضه وانقلب معافى، فأعطوه مائتي شاة - لا عشرين كسيد الحي- يقول: فرجعت وسقتها معي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته، قال: (خذها، لئن أكل الناس برقى الباطل؛ فقد أكلت برقيا حق) ، وهي رقيا الفاتحة.
نخلص من هذا كله: أنه انقضى الخلاف سابقاً، وكاد أن ينعقد الإجماع على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن.(222/7)
قول آخر في أخذ الأجرة على تعليم القرآن
هناك من يتوسط في المسألة ويقول: لا ينبغي لمعلم القرآن أن يشارط على الأجر، أعلمك جزء عم وتعطيني كذا بل يعلمه، وما أتاه من غير مسألة أخذه، ولكن نحن الآن نقول: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، إذا كان عندنا أبناؤنا، وعندنا معلمو قرآن، وقلنا لمعلمي القرآن: علموا أولادنا ولا أجر لكم أنتم تريدون أن تعلموا أولادكم، وأنا أريد أن أطعم أولادي، فأنا أريد أن أسعى وأعمل لأولادي، وأولادكم ليسوا بأولى من أولادي.
له حق في هذا أم أنه ملزم أن يترك أولاده يضيعون ويذهب يعلم أولادهم؟! ليس بملزم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) ، فإذا انقطع لأولادهم يعلمهم، فله حق عليهم في إطعام أولاده، أنا أديت واجباً لأولادكم فعليكم أن تؤدوا واجباً لأولادي، وما الواجب الذي سيؤدونه غير الأجرة التي سيدفعونها؟ قالوا: إذاً هناك تبادل منفعة، وهناك تعليم الأولاد واجب، وما لا يتم هذا الواجب إلا به فهو واجب.
إذاً: إطعام أولاد معلم القرآن واجب، فهو يؤدي الواجب من عنده لأولادكم، وأنتم تؤدون الواجب من عندكم لأولاده.
ثم قال العلماء: هذا كان في السابق لما كان الناس يقدرون ويتعاونون، لكن الآن لو قلنا هذا لا ندري من الذي سيدفع ومن الذي لن يدفع، فإذا جاءت الدولة وجعلت أجراً للمعلمين من بيت مال المسلمين، أو من صندوق الدولة إذا لم يكن هناك بيت مال منتظم، والدولة تأخذ ضرائب من الأفراد على المصالح العامة: المستشفيات، المدارس، تعبيد الطرق، مد الجسور على الأنهار، المحاكم، إذاً: الذي تعطيه الدولة لا لبس فيه، ويدخل في هذا بقية المناصب كما قلنا: الإمام يلتزم للناس بخمس صلوات، القاضي يلتزم للناس بوقت معين ينظر فيه في قضاياهم، المفتي كذلك ينظر في أمور الناس ويفتيهم، وأصبحت جميع أعمال القرب مبنية على ذلك.
وعلى هذا: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) ، لا مانع أن يأخذ على تعليمه الأجر، ولا يمنع أن يحتسب عمله لله، كما جاء في حق الحج: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [البقرة:198] ، يحج ويتاجر، وتجارته لا تمنع حجه، ولكن هناك فرق: بين من ذهب ليتاجر والحج على الرف، ومن ذهب ليحج والتجارة وسيلة؛ فلا مانع في ذلك، كما قالوا في الذي يأخذ الأجر ليحج عن غيره، يحج بأجر أو لا؟ قالوا: إن أخذ ليحج فلا مانع، وإن حج ليأخذ فلا.
ما الفرق بينهم؟ الأول: يريد أن يحج عن الغير، لكن ليست عنده استطاعة ليذهب ويحج، فأخذ منك ما يوصله إلى الحج، فهذا جزاه الله خيراً، وله مثل أجره، لكن من ليست عنده رغبة في الحج ولا نية فيه، ولكن سمع من يقول: أريد من يحج بدلاً عني.
قال: أنا أحج، ولكن أعطني.
فهذا حج ليأخذ، فهذا أخذه فيه نظر.
والله تعالى أعلم.(222/8)
حث الشرع على المبادرة بحقوق الأجراء
[وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) ، رواه ابن ماجه.
وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي يعلى والبيهقي، وجابر عند الطبراني، وكلها ضعاف] .
كلها ضعاف ولكن ضعيفان يغلبان قوياً، إذا تعددت روايات الحديث الضعيفة يشد بعضها بعضاً، ويشهد بعضها لبعض، وهنا مشى الحديث على مقتضى العقل، بمعنى: أنه ما خرج عن الأصل (أعطِ الأجير حقه قبل أن يجف عرقه) والمراد من هذا: سرعة دفع الأجرة، وإلا فقد يجف عرقه وهو في محل العمل ويأتيني إلى البيت ليأخذ حقه، أو يأتي من الغد، الغرض في الإطار العام للحديث إنما هو الحث على المبادرة بدفع الأجرة للعامل، والإشارة هنا: (قبل أن يجف عرقه) ، إشعار بأن الأجير بذل جهداً حتى عرق جبينه وجسمه، والعرق هذا يأتي عن مجهود؛ فلا ينبغي أن تستفيد وتأخذ جهده الذي أضناه عرقاً، ثم تتركه الذي بذل هذا الجهد يريد أن يتعشى، فقد ضيع ما عنده في معدته من طعام فيحتاج إلى الأكل، وحقه عندك؛ فلا ينبغي أن يبيت طاوياً جوعاً وحقه في يدك، ليس إنصافاً أن تستوفي حقك ولا توفه حقه، وهذه هي العدالة.
أما الذين يماطلون في أجور العمال، ومن يحتال على من استقدمه، ويؤخر راتبه إلى أن يضطر إلى مد يده، أو يتركه في السوق وجد عملاً أو لم يجد، وقد يزيد الطين بلة بأن يفرض عليه إتاوة شهرية، وهل أنا وجدت عملاً! أعطني عملاً لكي أعمل وخذ الذي تريد.
يقول: هذا ليس من شأني، اذهب أنت وابحث.
هذا من الظلم بمكان، وهذا ينبغي أن ينظر فيه، ويلزم كفيله الذي استقدمه بنفقته وأجرته، وقد بحث مجلس هيئة كبار العلماء هذه المسألة، ونصوا على أن ما يأخذه الكفيل سحت، لماذا يأكل من عرق الآخر؟ اتركه يعمل ويأخذ أجره على عمله، وإن كنت تحتاجه دعه يعمل عندك.
الذي يهمنا في هذا: أن بعض المؤسسات تستقدم عمالاً لدوائر حكومية -لا حاجة إلى تسميتها- ثم يؤخرون أجورهم الشهرين والثلاثة والستة أشهر، من أين سيأكل هذا العامل؟ ينبغي أن يعلم الجميع أنه سيحتال في المؤسسة التي يعمل فيها ليحصل على طعامه إما برشوة، أو باختلاس، أو بسرقة، أو بغش.
بأي شيء، ما دام صاحب المؤسسة منعه الأجر، وفمه ليس مغلقاً، والمعدة ليست مسدودة، لابد أن يمضغ شيئاً، من أين يأتي به؟ يرجع إلى صاحب العمل في مؤسسته.
إذاً: ينبغي مراعاة هذا الموضوع، وهذا الحديث يقضي على كل من استقدم إنساناً أو تعاقد مع إنسان أو آجر إنساناً في أي عمل كان فاستوفى عمله أنه لابد أن يوفيه أجره.
وهنا ناحية شرعية في باب الفقه والعقود عند قوله: (أعط الأجير أجره -متى؟ - قبل أن يجف عرقه) ، وعرقه يأتي قبل العمل أو بعده؟ إذاً: الأجير يستحق أجره بعد أن يوفي العمل، استأجرته يبني لك بيتاً ينشر لك خشباً يفعل لك ما تريد، ليس له الحق أن يقول: أعطني أجرتي أولاً.
لا؛ لأني لم أستوفِ العمل، وما يضمن لي أنك لا تهرب وتترك عملي، وتأخذ فلوسك وتذهب؟ لكن تبقى الأجرة عند المستأجر، ويستحقها الأجير بعد إتمام عمله، فإذا أتم عمله ووفاه هناك يستحق أن يقول: أعطني.
وقدمنا قضية النفر الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار، ومنهم واحد صاحب أجير، قدم له أجره صاعاً من شعير فتنقصه وذهب مغضباً، ثم بعد مدة جاء يطلب أجره، فوجد صاع الشعير وادياً من الغنم والإبل والبقر، قال: اذهب لذاك الوادي فما وجدته فخذه فهو أجرك.
كان يحسب أنه كيس شعير أو شيء من هذا، فإذا به يجده حقاً، فرجع وقال له: أتهزأ بي لأني فقير! قال: لقد نميت لك أجرك من يوم أن ذهبت عنك فتناسل وتكاثر، فهذا أجرك.
فأخذه، وقال في الحديث: (فأخذه ولم يترك منه شيئاً، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت عنهم الصخرة) ، كل واحد من الثلاثة يدعو وتنفرج عنهم الصخرة قليلاً حتى استطاعوا أن يخرجوا.
فهكذا حرصه على أجر الأجير ولو غضب وترك أجره وذهب، لا أقول له: مع السلامة.
ثم يقول له: ليس لك عندي أي شيء، أعطيتك وما رضيت لا، ليست هذه مروءة، إنما عليه أن يحتفظ بأجر الأجير ويدفعه إليه، وإن نماه إليه كان فضلاً منه؛ لأن هذا الذي نمَّى صاع الشعير حتى أصبح وادياً من النعم كان من حقه أن يكون شريكاً له على سبيل المضاربة؛ لأنه أخذ مال الأجير الذي هو أجره وعمل فيه ونماه، وشركة المضاربة هي: أن يأخذ إنسان مالاً من إنسان وينميه على النصف من الربح، لكن هذا تعفف ولم يأخذ منه شيئاً، ودفع إليه كامل الأجر بنمائه.
والله تعالى أعلم.(222/9)
حكم الاستئجار بدون تحديد الأجرة أو العمل
[وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من استأجر أجيراً فليسمِ له أجرته) ، رواه عبد الرزاق، وفيه انقطاع، ووصله البيهقي من طريق أبي حنيفة] .
هذا الحديث وإن كان فيه انقطاع فهو يصدق الواقع: (من استأجر أجيراً فليسم له أجرته) ، وهو معنى قول الفقهاء: لابد من معرفة الأجر ونوع العمل.
تعال اشتغل عندي اليوم.
قد يظن أنه سينقل لبناً أو يكسر خشباً، وتقول له: ارفع هذا الرمل إلى السطوح وانزل.
والصعود إلى السطوح مرة واحدة يقدر بعمل أربعة أضعاف على الآخر، أو يحمله حجارة: انقل هذه الحجارة إلى المكان الفلاني، والحجر يحتاج إلى نفرين ليأخذوه، فيتكلف فيه، فيظن العمل سهلاً وإذا به صعب، فكذلك الأجرة، كم الأجرة؟ لا عليك، اعمل الآن هذا لا ينبغي.
وإن كان بعض العلماء يقول: يجوز استئجار الأجير بدون تحديد الأجرة على العمل، يقولون: فالأجرة يرجع فيها إلى العرف، كم عرف الناس أجرة العامل في اليوم؟ في السابق كانت عشرة ريالات للمعلم وللصبي أو العامل خمسة ريالات، المعلم البنا الذي يبني عشرة ريالات، وكانت تصرف في البيت عشرة أيام، لها قيمة، وقيمة النقد في العالم ليس في رصيده في البنك الدولي العام، ولكن في القيمة الشرائية في بلده، وكان القرص الخبز بقرشين، الآن بكم؟ صار بسبعة قروش، الريال بعشرين قرشاً، أين القرشين من سبعة؟! فقيمة الريال فيه كانت أُقة حمل الجمل بريال واحد.
ومن النكت مع بعض إخواننا الشناقطة: جزار ينادي يقول: يا جملٌ بريالٌ.
هل سمعتم بهذه الصيغة؟! المنادى ما يضم.
قال له: يا أخي! ما هذا اللحن، قل: بريالٍ، الباء تجر.
قال: إليك عني.
قال: النحو كسرته.
قال: لا شأن لي بنحوك، أنا أعمل بنحوي، أخشى أن يظن الزبون لما أقول: بريالٍ أني أقول: بريالين! فإعطاء الأجير حقه في وقته، وكما في الحديث: (قبل أن يجف عرقه) ، ويتعين في الأجير أن يبين له أجره، وكذلك عمله.
والذين قالوا: ليس بشرط، قالوا: إن عدم تعيين الأجرة يحددها العرف.
وعدم تحديد العمل استدلوا له بقصة موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27] ، أؤجرك على ماذا؟ ما بين له نوع العمل الذي يستأجره فيه، قال: وما الذي سيكون عندي من عمل؟ المتبادر إلى الذهن هو رعي الغنم بدل البنات، فقالوا: العرف يحدد هذا.
والله تعالى أعلم.(222/10)
كتاب البيوع - باب إحياء الموات
جعل الله عز وجل الناس خلفاء في الأرض أمرهم بعمارتها وإحيائها، وحفظ حق من أحيا أرضاً ميتة بتحريم الاعتداء عليها.
كما أن الله تعالى منع حماية الأراضي التي أحيتها مياه السيول والأمطار إلا ما كان لخيل وإبل الصدقة والجهاد في سبيل الله تعالى، حتى ولو كان الذي يحمي لنفسه سلطان المسلمين؛ لأن في ذلك إضراراً بالمسلمين.
ومن مباحث إحياء الموات: التفريق بين تحجير الأراضي للاختصاص وإحيائها للامتلاك، وكذا حكم من حفر بئراً ليحيي الأرض التي حولها، وشروط إقطاع ولي الأمر الأراضي للناس بما لا يتعارض أو يتسبب في ضرر لعامة الناس.(223/1)
تملك الأرض بالإعمار والإحياء في الإسلام
[عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله وعليه وسلم قال: (من عَمَّرَ أرضاً ليست لأحد؛ فهو أحق بها) ، قال عروة: وقضى به عمر في خلافته، رواه البخاري] .
(من عَمَّرَ أرضاً) ، أي: أحياها بالتعمير؛ لأن التعمير سواءً في السكنى بالبناء، أو في الأراضي الزراعية بالإحاطة، وهذا موجود إلى الآونة الأخيرة في المملكة، ونحمد الله سبحانه وتعالى أن هذا التشريع معمولٌ به إلى اليوم، ومن سبق إلى أرض ميتة فأحياها أصبحت اختصاصاً له ويتقدم إلى المحكمة ويثبت إحياءه لها، وتنظر قضائياً، ويعطى صك تملك عليها، وهذا من نعم الله سبحانه وتعالى.
وتعمير الأرض: هو تغيير وضعها البكر، كما يقولون عن المادة الخام: تغيرها وتطورها، فهذه الملابس التي تلبس ليست مادة خام وإنما مصنعة: أخذ الصوف عن ظهر الشاة، ثم ذهب إلى المغزل، ثم إلى المنسج ونسج، ثم إلى الخياط فهذا تطوير للمادة الخام.
وكذلك لقمة الخبز التي تأكلها ليست مادة خام، بل أصلها حبة البر، زرعت، وسقيت، وحصدت، وديست، وطحنت، وعجنت، وخبزت، ثم وصلت إليك خبزاً لتأكله، فهذه التطورات تسمى: تطوير المادة الخام، وكل حركة في هذا التطوير في مقابل؛ إذ هو عمل مشروع والأجر فيه مشروع.
وبذلك يرد علماء الاقتصاد على معاملات الربا: بأن المرابي يأخذ كسباً دون مقابل، بخلاف التاجر والصانع والزارع؛ فكل ما يحصل عليه في مقابل عمل داخل في تطوير المادة الخام، فإذا كانت الأرض ميتة {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [فصلت:39] يحييها بماذا؟ ليس فيها روح لتتكلم، ولكن لكي تعطي ما وجدت من أجله وهو الثمار، فهذه حياتها تعطي ثمارها وزروعها.
فتعمير الأرض هو بجعلها تعطي ما وجدت من أجله وهو الزراعة والسكنى إلى غير ذلك، فمن عَمَّرَ أرضاً بالسكنى -وليس بلازم أن تكون عمارة ضخمة بل أقل ما يصدق عليه أمر السكنى- أو أحاطها بحائط ونصب خيمة داخلها، أو سكن داخل الحائط بدون خيمة فهو سكنى ويأخذ عليه حق التملك.
وكذلك الأرض الزراعية: إذا حفر البئر وأتى بالماء وحرث الأرض وسقى وزرع فإنما يكون إحياء لها، ولو أنه حفر بئراً دونما زرع ولا حائط ولا غرس ولا شيء فله أربعون ذراعاً نصف قطر الدائرة، حول البئر لبهائمه ومعطناً لحيوانه يشرب ويقيل فيه.
إذاً: (من عَمَّرَ) أي: جعلها عامرة، والعامر ضد الخراب، فجعلها صالحة للاستفادة منها.
[قال عروة: وقضى به عمر في خلافته] .
وهذا منهج يسلكه مالك رحمه الله في الموطأ، وتبعه المؤلف هنا: وهل إذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل لنا حاجة في أبي بكر وعمر؟ ليس لنا حاجة، ولكن من حيث التأليف والتمكين والبيان والإيضاح ودفع الشبه يأتي بفعل الخلفاء بعد رسول الله، لأن العمل في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم قابل للنسخ والإحكام، ولكن إذا استمر العمل بهذا الأمر بعد رسول الله هل يمكن أن يدعي أحد نسخه؟ لا؛ لأن النسخ لا يكون إلا بنص متأخر يرفع حكم نص متقدم، وبعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس هناك أحد من حقه أن يورد نصاً ينسخ به حكماً حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: الحكم بتمليك الأرض بإعمارها ماض لم ينسخ، عمل به بعد رسول الله في خلافة أبي بكر وامتد العمل به إلى خلافة عمر، فهل يحق لإنسان بعد ذلك أن يقول: لا يحق لإنسان أن يتملك الأرض بالإحياء أو بالتعمير؟ لا، هذا رسول الله حكم به، وهذا العمل ماض في خلافة أبي بكر بعد رسول الله، ويمتد العمل به إلى خلافة عمر.
إذاً: انتهينا من أنه حكم مشروع ثابت لم يعتره نسخ.
[وعن سعيد بن زيد رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له) ، رواه الثلاثة، وحسنه الترمذي وقال: روي مرسلاً، وهو كما قال] .
نفس الطريق المتقدم، والمراد بميتة: لم يسبق عليها ملك لأحد.
قال: [واختلف في صحابيه، فقيل: جابر، وقيل: عائشة، وقيل: عبد الله بن عمر، والراجح الأول] .
يقول هذا تنبيهاً من ناحية السند، واصطلاح علماء الحديث: أن الحديث المرسل هو الذي لم يذكر فيه الصحابي الذي سمعه من رسول الله، وسبق أن قرأنا في البيقونية: ومرسل منه الصحابي سقط وقل غريب ما روى راوٍ فقط فالمرسل في اصطلاح علماء الحديث والسند: ما ذكر فيه الرواة إلى التابعي، وهو ولابد أن يكون قد أخذه عن صحابي، لكن من صحابي هذا الحديث الذي سقط من سنده؟ قيل: ابن عمر، قيل: عائشة، قيل: جابر، وهل يضرنا جهالة الصحابي؟ جهالة الصحابي الذي أسقط من السند لا تضر؛ لأن علم السند نتتبع به الرجال الذين أسند إليهم الحديث لننظر: أعدول هم فنقبل الحديث، أم غير عدول فنرده، والصحابة بإجماع المسلمين كلهم عدول ولا يفتش عنهم.
إذاً: ذكر الصحابي أو لم يذكر فالأمر سواء، ولكن ما ذكر فيه الصحابي أقوى إسناداً مما لم يذكر فيه، لماذا؟ قالوا: هذا التابعي الذي يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هل نضمن أن الذي أسقطه صحابي أم تابعي مثله وصحابي؛ لأن التابعي قد يروي عن قرينه تابعي آخر، ونحن الآن عرفنا هذا التابعي الذي وقف عنده الإسناد، ولا ندري التابعي الآخر؛ لأن التابعي داخل في محل البحث والنقد.
وعلى كلٍ يقولون: إن المراسيل ضعاف، إلا مراسيل سعيد بن المسيب كما يقول الشافعي رحمه الله: سعيد بن المسيب إذا أرسل الحديث لا يفتش عليه؛ ولقد بحثت في مراسيل سعيد فوجدتها كلها متصلة.
عرف الصحابة الذين أسقطهم سعيد بن المسيب في رواياته، إذاً انتهينا من هذا.(223/2)
حكم حماية الأراضي
[وعن ابن عباس: أن الصعب بن جثامة الليثي أخبره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حمى إلا لله ولرسوله) ، رواه البخاري] .
الحمى أو الحريم: حماه يحميه إذا دافع عنه، وحرمه يحرمه إذا منعه من غيره؛ لأن الحرام الممنوع.
جالت لتصرعني فقلت لها اقصري إني امرؤ صرعي عليك حرام ومن هنا كان الحرام ضد الحلال، وحريم الرجل وأهله يمنعهم عن الآخرين، وحريم البيت يمنعه عن التعدي عليه، فالحريم بمعنى الحرام والمنع.
(لا حمى) : كان بعض رؤساء القبائل والفرسان المشهورين يحمون منطقة لا يمكن لأحد أن يذهب ويرعى فيها؛ لأن فلاناً قد حماها، أي: منعها عن الآخرين، وتبقى خاصة بإبله ونعمه، فإذا جاء إنسان وتعدى كان له حق الانتقام منه.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، فمن حام حول الحمى يوشك أن يرتع فيه) .
إذاً: الله سبحانه وتعالى حمى المحرمات ومنعنا من ارتكابها، والملوك تحمي بعض الأماكن لخاصة نفسها، وكبار الشخصيات قد يحمون شيئاً لأنفسهم ولذويهم، فجاء الإسلام ومنع الأفراد أن يحموا شيئاً لأنفسهم؛ لأنه كما سيأتي في آخر هذا الباب، (الناس شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار) .
الناس شركاء معك في هذا الكلأ، فلا تحمه لنفسك وتمنعه منهم.
(لا حمى إلا لله ولرسوله) ، وأين سيحمي الله لنفسه؟ الملك كله لله، لكن بمعنى لله لأنه مالك الملك، وحمى الله عن طريق رسوله صلى الله عليه وسلم، وحمى رسول الله لله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما حمى الربذة وغيرها حماها لإبل وخيل الجهاد في سبيل الله، ولإبل الصدقة، لكي تجد المرعى الذي يتوافر لها لتؤدي واجبها على أكمل وجه، وظل الحمى إلى زمن عثمان رضي الله تعالى عنه، فكان يقول لعامله: (إياي وغنم ابن عوف وفلان، وإياك وذي الصريم -الغنمة والغنيمتين- فإنه إن تهلك غنمه يأتيني ويقول: عيالي وأولادي، والمرعى أهون علي من الذهب والفضة، أعطه إياه من بيت المال، لكن ابن عوف وفلان إذا هلكت ماشيتهم رجعوا إلى تجارة عندهم وأملاك أخرى) ، فهو يحذره أن يرعى في الحمى أحد من الأغنياء؛ لأنهم في غنى عنه، ويتساهل ويسامح في صاحب الشاة والشويهة؛ لأنها رأس ماله فإن هلكت عليه هلك، وجاء لأمير المؤمنين وقال: أعطني من بيت مال المسلمين، فإن غنمي قد هلكت لأنك حميت الأرض.
إذاً: كان هناك الحمى للإبل والخيل التي تعد للجهاد في سبيل الله، فإذا جاء إنسان بعد ذلك إلى أرض موات نبت فيها الكلأ عن طريق الأمطار أو السيول أو العيون أو غير ذلك، وحماه لنفسه أو لقبيلته فإن ذلك ممنوع؛ لأنه لا يكون الحمى إلا لله ولرسوله.
إذاً: الحق في الحمى لرسول الله، ولكن هل بصفته صاحب النبوة والرسالة أو بصفته مسئولاً عن الأمة؟ بصفته مسئولاً عن الأمة.
إذاً: من يأتي بعده ويتحمل مسئولية الأمة فله حق في هذا الحمى؛ ولذا حمى عمر وعثمان وغيرهما ممن له الحق في أن يحمي لذاك الغرض.
أما لغرضه الخاص ولتنمية دوابه أو بهيمة أنعامه ويمنع الناس منه فليس ذلك لأحد أياً كان، ولو كان ولي أمر المسلمين بنفسه لكن يحميها لدواب الجهاد وما تعد للقتال في سبيل الله، ليس لنفسه إنما لله ولرسوله، والله تعالى أعلم.(223/3)
شرح حديث: (لا ضرر ولا ضرار) وعلاقته بالإحياء
[وعنه رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) ، رواه أحمد وابن ماجة.
وله من حديث أبي سعيد مثله، وهو في الموطأ وهو مرسل] .
هذا الحديث يعتبر أحد أربعة أو خمسة أحاديث يقوم عليها التشريع الإسلامي؛ لأن الشريعة بكاملها جاءت لجلب المنافع ولدفع المضار، وأنا أقول: فيه نصف التشريع؛ لأن الشريعة جاءت بجلب بما فيه نفع للمسلمين، وبدفع الضرر عنهم، ولهذا لا تجد أمراً في الشريعة إلا ويتضمن منفعة للمجتمع فرداً أو جماعة، ولا تجد نهياً إلا وهو يدفع عن الناس ضرراً.
إذاً: هذا الحديث يختص بأحد القسمين، ونصف التشريع في هذا الحديث.
وللعلماء في هذا الحديث شروح، فمنهم من يقول: لا تضر أحداً مطلقاً ولو كان ضاراً لك؛ لأنك إذا ضررت من ضرك كان ضراراً، وكل يسابق الآخر في مضرة صاحبه، وكل عمل يتضمن ضرراً على الشخص في نفسه أو غيره فهو منفي بالحديث، وكل مضارة بين اثنين انتقاماً لحق أو ابتداءً فهو داخل فيه، إلا أن بعض العلماء يقول: يستثنى من ذلك: الانتقام من المعتدي، لقول الله: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة:194] ، مع أن الاعتداء عليه فيه إضرار به، ولكن التحقيق: أن عقوبة المتعدي ليست بضرر، بل هي منفعة له برده عن مضرة الناس، ومنفعة لمن وقع عليه الضرر بكف ضرر هذا عنه.
ولا يدخل فيه الحدود: مثل قطع اليد في السرقة، فلا يأت أحد فيقول: كيف تقطع يده وأنت تقول: (لا ضرر ولا ضرار) ، وأي ضرر أكبر من قطع اليد؟ لأن فيه مصلحة؛ لأن إقامة الحد في هذا الباب ستردع الآخرين وتحمي أموالهم، وترد أولئك الظلمة المعتدين على أموال الناس خفية وظلماً.
إذاً: فيه منفعة، لكن الضرر المطلق الذي لا حق فيه هو بسرقته الأولى؛ لأنه ضرر ليس في مقابل أي نفع، فالأخذ على يده وقطعها حداً، وإن كانت فيه مضرة تقع عليه لكن يتضمنها منفعة.
إذاً: (لا ضرر ولا ضرار) لا يستثنى منه شيء قط، وإن كان البعض يقول: يخصص بما فيه إيلام بوجه شرعي، نقول: إن ما فيه إيلام بوجه شرعي ليس محض ضرر، بل فيه منفعة.
وأبو هريرة رضي الله تعالى عنه كان يذكر مع هذا الحديث: (لا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبة على حائطه) ، ثم يقول: (ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم) ، قالوا: كيف تضع خشبك على حائط الجار، أليس هذا فيه مضرة، قالوا: لا، ما دام الحائط يحتمل ذلك، أما إن كان لا يحتمل فلا يحق له أن يضعه.
إذا جئنا بهذا الحديث إلى الأسواق والبيوت والمعاملات وكل جانب من جوانب الحياة تجده موجوداً هناك، والمؤلف يسوقه هنا ليدلل لك على أنك إذا سبقت إلى أرض موات لتحييها وكانت إمكانياتك محدودة، فأنت تحيي بالتدريج، وقد يأتي إنسان بجوارك له إمكانيات عالية، وأنت لفت نظره إلى هذه الأرض، فيأتي وينزل ويأخذ منها فهذا ضار صاحبه، ولذا في بعض روايات الحديث: (وليس لعرق ظالم حق) وفيها ضعف، وفسره ابن عباس: بأن يأتي إنسان إلى أرض الآخر فيغرس فيها ويستثمر غرسها، فيكون العرق الذي غرسه هذا الشخص قد غرسه ظلماً.
إذاً: لا يحق لإنسان أن يحيي ما فيه مضرة على أهل القرية، فلا نأتي إلى ملتقى إبلهم وبمواقف سياراتهم ونحييه، وإلى مجرى السيول وتحييه مضرة على الآخرين، ولا يأتي الإمام الذي يريد أن يحمي حمى إلى ما هو ملك للناس ويحميه، لأن هذا مضرة أيضاً؛ لأنه أخذ لملك الغير بدون حق.
إذاً: لا مضرة لا في الحمى ولا في الإحياء.
كذلك إذا وجدت أرضاً فضاءً ومواتاً وجاء إنسان وأحياها، وهذه الأرض تحتاج إلى سعة بجوارها تجعل جريناً للحب ونجعل وموضعاً للتمر وللمنافع عامة مجمع للأسمدة أو للتراب أو للخشب أو لجريد النخل، هذه مرافق للبستان، يأتي إنسان وينزل ويبني فيها، فليس له حق؛ لأنها مرافق للأرض والمرافق تبع للأصل (لا ضرر ولا ضرار) .
وهذا يأتي أيضاً في باب الجوار، أنت في ملكك وجارك في ملكه والجدار مشترك بينكما، فلا يحق لك أن تحدث في بيتك ما يتضرر به جارك، ولا أن تنصب رحى كبيرة إذا أدرتها هزت الجدران وأضرت بجارك، ولا أن تحفر بئراً في بيتك مقابل بيت جارك يسحب ماءه، أو أن تحفر البيارة مقابل بئره الذي يشرب منه فتفسد عليه ماء البئر، لا يحق لك أن تسيء إليه بدخانك، وهكذا، كل ما يمكن أن يضر به الجار جاره يأتي هذا الحديث ويخاصمه: (لا ضرر ولا ضرار) .(223/4)
الفرق بين التحجير والإحياء
[وعن سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحاط حائطاً على أرض فهي له) ، رواه أبو داود، وصححه ابن الجارود] .
يأتي المؤلف رحمه الله تعالى بهذا الحديث وما بعده ليبين مجمل ما تقدم من حديث الإحياء، وبم تكون حياة الأرض الموات، وكما في رواية مالك في الموطأ: (من عَمَّرَ مواتاًً فهو له) ، فبم تكون عمارة الموات؟ جاء هنا بشيء من التفصيل، فقال: (من أحاط) ، والإحاطة والشمول من الحائط الذي يحيط بالأرض، وهو الجدار الذي يسمى بالسور، فإذا ما أحاط إنسان أرضاً بحائط مبني فقد أحياها.
وتحت هذا الحديث يفصل العلماء بين الإحياء والتحجير؛ لأن التحجير كما يقال: بالحجرة، يقال في حجر إسماعيل: إنهم لما أرادوا بناء البيت قصرت بهم النفقة، فقصروا البناء على جهة الركنين اليماني والحجر الأسود، وما بقي من مساحة البيت حجروا عليه ببناء حجر إسماعيل حتى لا يضيع في المسجد، ويكون الطواف من وراء الحجر ليشمل شوط البيت كاملاً بناءه وما بقي من أرضه.
ولذا لما طلبت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها من الرسول صلى الله عليه وسلم أن تصلي في البيت، أخذ بيدها وأدخلها حجر إسماعيل، وقال: صلي هاهنا؛ فإنه من البيت، والتحقيق عند العلماء: أن الحجر يزيد عن مساحة البيت بأشبار، وأن ذرعة الحجر من جدار الكعبة إلى الجهة الأخرى ستة أذرع.
فالإحاطة بناء الحائط عن الأرض سواءً كان للسكنى أو للزراعة.
وفرق بين التحجير والإحياء: أن الإحياء يُمَلِّك، والتحجير يخصص، بمعنى: أن من حجر أرضاً فهو يختص بها وأحق بها من غيره، ولكن لا يملَّك بذلك، وبعضهم يقول: يعطى مهلة ثلاث سنوات؛ فإن أحيا تملك وإن لم يحي يقال له: ارفع يدك ليحييه غيرك، ثم يختلفون في نوع التحجير من الإحياء في بناء الحائط، فالبعض يعتبر بناء الحائط من الإحياء، والبعض يقول: التحجير: هو أن يحيط الأرض برصف من الحجارة.
والبادية أو أهل الخلاء بعيداً عن المدن يسمون ذلك ظفير، والظفير: هو رص الحجارة مشتبكة بدون بناء بارتفاع نصف متر إلى متر حول الأرض.
هذا الظفير يعتبرونه تحجيراً، وهذا في الأراضي التي تسقى بماء المطر، والجمهور الذين يقولون بإحياء الموات لا يعتبرون الأرض التي تسقى بماء المطر وتزرع عليه محياة؛ لأن إحياءها متوقف على نزول المطر وقد يتأخر، ولا يتأتى غرس على ذلك، إنما هي زراعة موسمية، وحينما يأتي المطر وينصرف عن الأرض تكون بعلية، وإذا تشبعت الأرض بالماء يضع البذرة فيها فتنبت على ثرى الأرض المشبعة بالماء، أو تشرب من مجرى السيول.
وفي بعض البلاد يسوق الله سبحانه وتعالى السيل للقرية فتسقي أراضيها على سبيل المناوبة، أعالي السيل يسقي ثم ينزل ويفيض على من بأسفلها، ورأيت هذا النظام متقناً في سامطة حيث التربة هناك خصبة، فبعد أن يجف الماء في الأراضي يتركه صاحبها إلى ارتفاع لا يقل عن نصف متر، ثم يفيض إلى من بعده، وهكذا إلى من بعده إلى أن يسقي الجميع، فإذا ما شربت الأرض الماء جاء وأخذ البذر ووضعه في تلك التربة المشبعة بالماء، ويسميه الفلاح زراعة بعلية، وهذا أجود ما يكون إذا كانت التربة خصبة.
وقد أخبروني هناك بأن الزراعة البعلية مثل الذرة تحصد مرتين، المرة الأولى التي وضع بذرها تأتي وتحصد، ثم ينبت الشفير وهو النبات الصغير من الجذور التي في الأرض وتؤتي محصولاً ثانياً على إثر ذلك الماء الذي أتى به السيل، هذه الأرض التي تزرع بهذه الحالة لا تُمَلَّك، ولكنهم من قديم الزمان توارثوها، وأخذ كل القطعة التي تحت يده من أب عن جد وتوارثوا على ذلك وتواطئوا عليه، فلا يعتدي أحد على أرض أحد.
فهل الحائط إحياء يستوجب التمليك أم أنه تحجير يجعل لصاحبه اختصاصاً على غيره، فلا يحق لأحد أن يعتدي عليه وإلا كان صاحب عرق ظالم، وكما جاء عن مالك فيما نقله عنه ابن عبد البر: أن العرق الظالم هو: إما حفر: يحفر بئراً، أو غرس: يغرس نخلاً أو شجراً، وإما زرع وبناء، فهذا هو الظلم الذي لا حق لعرقه فيه، ويجب عليه أن يزيل ما أنشأ.
ويقول ابن عبد البر: يفعلون ذلك ليتملكون الأرض، والحال أنها مملوكه للغير.
إذاً: من أحاط أرضاً فهي له بالتحجير أو بالتمليك، على هذا التفصيل.
أما من لم ير التحجير إحياء، فقال: هذا تحجير ويعطى المهلة حسب العرف، والبعض يقول: ثلاث سنوات، إن أحيا وزرع وغرس وحفر بئراً يكون ضامناً لسقيها.
فهذا إحياء، وإن لم يحفر بئراً ولم يغرس ولم يحي، قيل له: إما أن تحيي ما حجرت أو ترفع يدك ولا تحجر الأرض على غيرك ممن يستطيع أن يحييها.
وكما جاء عند ابن عبد البر: (من أحيا أرضاً مواتاً فله أجره) ، يؤجر على ذلك لما قيل: إن الفلاح يؤجر على غرسه وزرعه لما يحدث من ذلك من إطعام جائع ومسكين، وشرب الحيوانات، وأكل الطيور، ولذا الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (والعوادي صدقة) ، يعني: أن ما طرأ على الزرع من اعتداء غير مقصود من بني آدم، وما سقط وأكله الطير أو الوحش الطارف الذي يمر به، أو الضيف كل ذلك صدقة لصاحب الزرع.
وهكذا يكون الإحياء مصلحة دنيوية وأخروية؛ لأنه استثمار للأرض الموات، وجلب النفع له ولبني الإنسان والحيوان.(223/5)
أحكام إحياء الموات بحفر الآبار
[وعن عبد الله بن مغفل: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حفر بئراً فله أربعون ذراعاً عطناً لماشيته) رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف] .
إذا كانت إحاطة الأرض إحياء على من يقول بأن الإحاطة إحياء، أو اختصاص على قول من يرى أن التحجير اختصاص، فيأتي بنوع آخر من أنواع الإحياء، وهو: حفر البئر، وبعض الفقهاء يقول: وإجراء النهر، إذا كان هناك مسيل دائم، أو نهر، أو عين فوارة عامة، وجاء واحتفر بئراً من هذا السيل، أو أجرى عيناً إلى أرض موات يزرع عليها، فهذا إحياء؛ لأن مجيء الماء إلى الأرض الموات ليسقيها ويزرع عليه فيه دوام للحياة، بخلاف التي تزرع على الأمطار، والتي تسمى بعلية؛ لأن صاحب البعلية قد يتركها ويأتي فيما بعد ويزرع بعلية أيضاً وهكذا، أما صاحب البئر فلا يتركه.
(من حفر بئراً فله أربعون ذراعاً) الذراع قسمان: ذراع باليد، وذراع اصطلاحي، وهو الذي يسمى الذراع المعماري، والعرف عند الناس أن الذراع المعماري خمسة وسبعون سنتيمتراً، والآخر يعدل اليد من المرفق إلى آخر الأصابع، وقد يستعمل هذا في قياس القماش ونحوه، ويستعمل ذاك في قياس الأراضي والعقار إلى غير ذلك حسب العرف المتبع.
(من حفر بئراً) ، أي: واستنبط ماءه، أما إذا حفره ولم يحصل منه على ماء فليس له شيء؛ لأنه يتركه عجزاً عن الوصول إلى الماء، ولو حفر مائتي متر، وقد يوجد في بعض البقاع على بُعد مترين فقط ويحصل على الماء، وهذا بحسب اختلاف التربة، وحسب اختلاف المياه، فالبلاد ذوات الأنهار التي تجري دائماً تكون الأرض فيها مشبعة بالماء بما يتسرب من الأنهار تحت الأرض، إلى غير ذلك من أنواع التربة وقرب الماء وبعده.
(من احتفر بئراً فله أربعون ذراعاً) : الأربعون ذراعاً تكون قطر الدائرة للبئرِ.
وأحمد رحمه الله يقول: له خمسة وعشرون ذراعاً، وهو يقول بذلك مستنداً إلى رواية أخرى فيها خمسة وعشرون، وهم كلهم متفقون على أن الآبار قسمين: بئر عادية، وبئر محدثة.
والبئر العادية: أي: القديمة، نسبة إلى عاد، والعرب تنسب كل قديم إلى عاد؛ لأنها كانت قوية ومضى عليها زمن بعيد؛ فينسب كل ما كان بعيد التاريخ أنه من عاد، وهكذا كما يقولون: عبقري، نسبة إلى وادي عبقر؛ لأن العرب تزعم بأن وادي عبقر هو مسكن الجن، والجن أصحاب الأفكار أو الرؤى البعيدة، فينسبون كل ذكي إلى وادي عبقر، فيقولون: فلان عبقري، فهنا البئر العادية، أي: القديمة.
والقديمة هذه ما شأنها؟ تكون موجودة من قديم، ثم إن السيل والهوام وعوامل التعرية طمستها واختفى ماؤها، فيأتي إنسان ويجدد حفرها ويخرج منها الفضلات حتى يصل إلى مائها، فهو أحياها بذلك، فهذه العادية لها خمسون ذراعاً، أما الجديدة المستحدثة -كما يقال: البئر الإسلامية- التي احتفرها أهل الإسلام فهذا الحديث يقول: لها أربعون ذراعاً، لماذا تكون دائرة قطرها أربعون ذراعاً؟ حتى تكون معطناً لإبله، تسرح وتطلب المرعى وتبعد اليوم واليومين وترجع بعد الثلاث والأربعة الأيام ما شربت ثم يوردها صاحبها على بئره هذا، فلابد لها من مكان يجمعها وبروكها وعطنها إلى أن تشرب وتنزح عن البئر.
فمن حفر بئراً أحياها، وأعطي أربعون ذراعاً كحريم للأرض، وإن كانت قديمة وجدد إحياءها فلها خمسون ذراعاً؛ لأن العادة في القديمة أن يكون ورادها أكثر، وعلى هذا من حفر بئراً استحق ملكها وملك حريمها معها.
أما إذا كان في وسط قرية والأملاك متواصلة ومتحادة ويفصل بعضها عن بعض بما لا يزيد عن ذراع أو نصف ذراع، فحفر بئراً في ملكه فلا يتعدى ملكه شبراً واحداً؛ لأن ما حوله هو أملاك سابقة، فلا يتملك ملك الغير بحفر بئر في أرضه، حتى لو وجدت أرضاً فارغة وسط أراضي القرية وكانت مساحتها عشرة أذرع فقط فليست لك إلا هذه المساحة، ولا يتجاوز الأرض الفضاء ويتعدى بحفر البئر إلى أراضي الآخرين.
ومن أنواع الإحياء أيضاً: أن يجري الماء ببئر أو نهر أو عين ثم يغرس على هذا الماء، والغرس الثابت من عوامل الإحياء، يغرس نخلاً أو ليموناً أو عنباً أو أي شجر مثمر فهو إحياء، وهنا في الغرس لا تحديد عليه، لا يقال: أربعون أو خمسون بل بقدر ما يستطيع من غرس الأرض ما لم يتعد ملك الغير، فإذا كانت هناك أراضي محياة ويمتلكها أشخاص آخرون وجاء إنسان ليحيي أرضاً بجوارهم فليس له أن يتعدى عليهم، كما تقدم: (وليس لعرق ظالم حق) ، بأن يجد إنساناً كان متحجراً أرضاً، فبدأ يحيي فأحيا جانباً وبقي جانب آخر، فجاء إنسان ليحيي بجواره، لا يحق له أن يتجاوز أرضه إلى الجزء الباقي في التحجير لغيره؛ لأنه من اختصاص الغير، وهكذا الغرس والزراعة ونحو ذلك ليس فيها تحديد، فإذا عجز عن إحياء ما حجره فعلى الإمام أو ولي الأمر أن ينذره: إما أن تحيي وإما أن ترفع يدك.
إذاً: من أنواع الإحياء، بناء الحائط، حفر البئر، غرس الشجر، بناء البيت للسكنى بأقل ما يمكن أن يقال عنه سكن، فلو أنه جاء داخل هذا الحائط وبنى غرفة يمكن أن يسكنها بقدر ذلك ولو لم يوجد فيها مرافق السكن العادية من دورة مياه أو مطبخ، فلا بأس؛ لأن العرب وعامة الناس في البادية لا يألفون ذلك، بل إنهم يأنفون أن يجعلوا دورة المياه معهم في سكناهم.
وفي أول الإسلام كان النسوة يخرجن بالليل إلى الخلاء، ويستأنفون أن يجعلوا ذلك في بيوتهم استئنافاً واستقذاراً، ثم بعد أن كثر الناس وشاع أمر خروج النسوة اتخذن بيوت الخلاء في بيوتهن، وألفوا ذلك وتغير الوضع.
فإذا بنى في هذا الحائط غرفة واحدة أو ما يصلح لسكناه ويعتبر سكناً وافياً بالنسبة إليه، فيكون ذلك إحياء يتملك به.(223/6)
إقطاع السلطان للأراضي وشروط ذلك
[وعن علقمة بن وائل،عن أبيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطعه أرضاً بحضرموت) رواه أبو داود والترمذي، وصححه ابن حبان] .
هنا بجانب الإحياء يذكر الإقطاع، والإقطاع هو: أن يمنح السلطان شخصاً من الناس قطعة من الأرض، هذه القطعة التي أقطعها السلطان لفرد من الأمة، هل يكون ذلك تمليكاً أو اختصاصاً؟ الجمهور على أنه تمليك، والآخرون يقولون: اختصاص، فلا يحق له أن يبيعها؛ لأنه أقطعه إياها إرفاقاً به لينتفع بها، والإقطاع على نوعين: النوع الأول: أن يقطعه أرضاً يحييها ويغرسها ويستفيد بها، ويتملكها وتورث عنه.
النوع الثاني: يقطعه ثمرة أرض محياة، أو قرية يقطعه زكاتها، فيقول له: أقطعتك زكاة القرية الفلانية فهو لك، فيذهب ويأخذ زكاة زروعهم وأموالهم ويكون له، وهذا عارض فيه كثير من العلماء؛ لأن الزكاة لأصناف معينة؛ فلا يحق للإمام أن يخصها بشخص.
وقد وجدنا في السنة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل الفقير أو الذي لزمته كفارة أو ما شابه إلى أناس ليأخذ صدقاتهم من باب حاجته إليها، ولكن يقال: هذا في حاجة، وهذا أرسله لفقره أو للحوق الدين به، فهو من مصارف الزكاة، لكن يأتي لشريف من الأشراف، أو لأمير من الأمراء ويقطعه زكاة قرية بكاملها لينتفع بها أو يتملك أو يترفه؛ فهذا ممنوع عليه.
وقد نبه الصنعاني في شرح هذا الحديث: أنه كان هناك إقطاع في اليمن تأسف وتحسر عليه؛ لأنه مخالف للكتاب والسنة.
إذاً: للأمير أن يقطع شخصاً، ولكن أين يقطعه؟ يشترط في الأرض التي تقطع للفرد: أن تكون من الموات، ولا يحق له أن يقطعه ما كان من مصلحة المواطن، أو اختصاصه، أو منفعة القرية، وتقدم الحديث: (لا ضرر ولا ضرار) ؛ لأن السلطان إذا أراد أن ينفع إنساناً لا يكون ذلك على حساب مضرة الآخرين، ولا يملكه ملك الآخرين، إنما يقطعه مما يملك.
وهناك حديث: (موات الأرض لله، وأنتم عباد الله) ؛ فالرسول الله صلى الله عليه وسلم نبه على أن موات الأرض لله والملك كله لله، وولي الأمر يتصرف باسم الله في ملك الله مع عباد الله، فلا يظلم أحداً من أجل أحد آخر، فلا يحق لولي الأمر أن يقطع إنساناً ما يمنع إحياءه من الآخرين، ولا يحق له أن يقطع مجرى الوادي لأنه مصلحة للأمة، ولا عيناً فوارة تسقي ما حولها، ولا مرافق القرية، ولا ما فيه طريق المسلمين، وهكذا.
قاعدة: ما يمنع الفرد من إحيائه يمتنع على ولي الأمر إقطاعه.
وقد جاء في بعض الروايات: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقطع إنساناً أرضاً كانت يستخرج منها الملح الحجري، فقيل: يا رسول الله! أتدري ماذا أقطعت؟ قال: لا، قال: أقطعته ما فيه إرفاق بالمسلمين) ، فاسترجعه من صاحبه؛ لأنه لا يحق لولي الأمر أن يقطع ما فيه مصلحة أو منفعة عامة لجميع الناس فيخص بها إنساناً.
وكذلك مواضع المعادن: إذا كان هناك معدن من ذهب أو فضة أو كبريت أو ملح أو غير ذلك فهو حق للأمة، لا يجوز إقطاعه لفرد.(223/7)
سنة النبي في إقطاع الأراضي
[وعن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير حضر فرسه، فأجرى الفرس حتى قام، ثم رمى بسوطه، فقال: أعطوه حيث بلغ السوط) رواه أبو داود، وفيه ضعف] .
الرسول صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير، والزبير حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما أجلا بني قريظة أقطع النبي صلى الله عليه وسلم الزبير حضر فرسه، يعني: الفرس يأخذ شوطاً للنزهة، فلما أقام الفرس وفق ما اكتفى بهذا رمى بسوطه، (لو أن لابن آدم وادٍ من ذهب لتمنى الثاني) ، لو أن له حضر فرس لتمنى فرساً آخر، لكن حرص الإنسان سجية فطر عليها، فقال صلى الله عليه وسلم: (أعطوه حيث بلغ السوط) ، ليس عند موقف الفرس، لا؛ لأن هذا تابع لذاك.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم أقطع أرضاً معروفة إلى الآن بأرض الزبير، وهي: ما وراء بئر عثمان رضي الله تعالى عنه.
إذاً: هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وهل يجوز لأحد بعد النبي أن يقطع أحداً؟ قالوا: نعم، لولي الأمر أن يقطع من يراه صالحاً لذلك وفيه مورد للمسلمين، يعني: مساعدة إليهم، فإذا كان الأمر كذلك فعلى ما تقدم، ويكون ولي الأمر بعد رسول الله له أن يقطع بعض المسلمين بعض الأراضي، لكني ما وقفت على إقطاع لـ أبي بكر ولا لـ عمر ولا لغيره كما فعل صلى الله عليه وسلم، كما وقفنا على ما صدر من عمر أنه حمى لإبل الصدقة، واعتذر للناس وقال: (والله لولا إبل الصدقة ما حميت على الناس شبراً؛ لأنهم يرونها أرضهم كانت بأيديهم قبل الإسلام وقاتلوا عليها وأسلموا عليها، فيرونني قد اغتصبتها، ووالله لولا إبل الصدقة ما حميت عليهم شبراً واحداً) .
إذاً: الحمى لإبل الصدقة من شأن ولي الأمر، والإقطاع لبعض الأفراد من شأن ولي الأمر، والله تعالى أعلم.(223/8)
اشتراك الناس في الماء والكلأ والأرض المباحة
[وعن رجل من الصحابة رضي الله عنه قال: غدوت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: (الناس شركاء في ثلاثة: في الكلأ والماء والنار) رواه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات] .
(وعن رجل) رجل هذه نكرة، وأي الرجال؟ فإنه كما يقولون: النكرة تعم بالبدل، هذا رجل، هذا رجل، وهكذا تطلق على كل ذكر من بني الإنسان، (رجل من) خصص عموم رجل من بني الإنسان بصحابي بهذا الوصف، فهذا الوصف قيد في النكرة يخصصه عمومها.
بقي من هو من الصحابة؟ لا علينا إذا لم نعرف من هو ولا اسمه؛ لأنه ما دامت ثبتت له الصحبة فهو مأمون ولا نبحث عنه؛ لأن الصحابة ليسوا خاضعين للنقد وللتفتيش وللتجريح والتوثيق؛ فهم موثقون عدول بطبيعة الصحبة.
قال: (غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: الناس) والناس من ناس ينوس إذا تحرك، يشمل كل إنسان، (شركاء في ثلاثة) شركاء بدون تخصيص أو تمييز، وهي: (الماء، والكلأ، والنار) .
يقول بعض العلماء: هذه الثلاث هي أصل قوام الحياة؛ لأن الماء: {وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30] ، والكلأ للدواب ورعيها، والإنسان لا يستغني عن بهيمة الأنعام، والنار: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:73] ، لا تمكن حياة بدون نار، لا نضج طعام ولا حتى صناعة؛ لأن إذابة الحديد وتصنيع المعادن لابد لها من النار.
هذه الأمور الثلاثة هي قوام الحياة، ولكن أي المياه وأي الكلأ وأي النيران التي تكون فيها الشراكة.(223/9)
توضيح كيفية اشتراك الناس في الكلأ والماء والنار
أولاً: الكلأ: هل هو ما تنبته الأرض وكان رطباً، والخلاء ما كان يابساً، والعشب يجمع بين الأمرين، أو غير ذلك، وتدور بين العشب والكلأ والخلاء فيشمل الرطب واليابس؟ وما هو المراد بالنار: حقيقة النار المشتعلة أو وقود النار من حطب ونحوه؟ وما المراد بالماء: الماء في القربة، أو في المسيل أو في النهر؟ بعض الناس استغل هذا الحديث بما أساء إلى المجتمعات، وجعله دليلاً على الاشتراكية، واستدل به على تشريك من لا يملك شيئاً منها لمن يملك من ذلك، والغرض في هذا الحديث: أن التشريك إنما يكون في العام الذي لا خصوصية لأحد فيه، فالمراد بالماء هنا الماء في النهر الجاري، الماء في مجرى السيول، العين الفوارة التي لا تختص بأحد، فكل إنسان شريك فيه يأتي إلى النهر فيأخذ ما يريد، يأتي إلى مجرى السيل فيأخذ ما يحتاج، وهكذا ماء العين.
أما إذا ذهب إنسان وملأ قربته أو خزانه بالماء في الوقت الحاضر، فليس لأحد شراكة في هذا الماء الذي حازه بعض الأشخاص، أخذت الماء إلى بيتك هل يدخل جارك ويأخذ من هذا الماء ويقول: نحن شركاء فيه؟ لا، لأنك حزته.
اذهب وخذ حيث أخذت أنا وغيري، فإذا حازه إنسان إلى نفسه فقد أصبح ملكاً له وليس لأحد شراكة فيه.
وأما الكلأ فهو النبات الذي ينبت في الأرض الموات وليس في أرض مملوكة لإنسان، فما كان في أرض مملوكة لإنسان فصاحب الأرض أحق به، ولا يجوز لأحد أن يحتشه إلا بإذنه، أو يدخل ملك غيره يرعى بغنمه إلا بإذنه، أما الذي في بطون الأودية، وظهور الصحاري، والأراضي الموات، فكل مشترك فيه، يذهب الكل ويرعى بغنمه أو يحتش ويأخذ لما عنده في بيته من بهيمة الأنعام.
والنار قيل: المراد بلهبها يستضيء به كل إنسان، أو يستدفئ عليه، أو يأخذ قبساً منها ليوقد ناره، لا أن يأتي لإنسان جمع حطباً وأوقد ناراً لينضج عجينه خبزاً أو إدامه طعاماً، فيزيل قدره عنه ويأخذ قسماً من النار إلى نفسه، ويقول: أنا شريكك في النار، فيقال: لا.
وقيل: شركاء في أصل النار وهو الحطب وقوداً لها، فالناس يحتطبون الحطب من الجبال وسفوحها، ومن الخلاء والصحاري وهم شركاء، يخرج الحطابون كلاً بفأسه وحبله، ومن يسبق إلى شجر يابس فيقطع ويجمع فهو له، لكن بعد أن حزم الحطب وجمعه وذهب به إلى بيته هل يأتي جاره ويقول: أنا شريكك في هذا الحطب؟ لا.
لأنه اختص به بعمله وبجهده.(223/10)
نقض مذهب الاشتراكية
في سنة من السنوات في موسم الحج، كان شخص له ضلع كبير جداً في عمل الاشتراكية، وحصلت هناك بعض المناقشات وتساءلت من يكون؟! وكانت هناك أمور كما يقال شخصية أو سياسية، وكان الرجل فيه عنصر خير، فذهب وجاء بشيء من الخبز والملح والماء، وقال: أريد أن تأكل معي ليكون بيننا ارتباط بالعيش والملح، فقلت: كلنا إن شاء الله عندنا ارتباط بالإسلام قبل العيش والملح، ماذا عندك؟ قال: سألتك بالله -تأملوا هذا يا إخوان- الاشتراكية من الإسلام أو ليست منه؟ قلت له: ما ثقافتك أولاً وما عملك؟ فعرفت أن له ضلعاً كبيراً في عمل الاشتراكيات ودرس حقوق، قلت له: أنت رجل عاقل ومتعلم، وسترجع إلى بلدك سل جميع العلماء: كلمة (اشتراكية) هل توجد في مصدر من مصادر الشريعة، حديث فقه تفسير أم لا؟ لا، لن تجدها في كتب التفاسير، ولا في كتب شراح الحديث، ولا في كتب الفقه، فضرب صدغيه، وقال: ومن أين جاءوا بها؟ قلت: سلهم وأنت أعلم، ثم قلت له: لعلك درست التاريخ والقانون الوضعي، ومن أصول القانون الوضعي: أنه إذا لم يوجد في القانون نص على مسألة أخذ حكمها من الشريعة الإسلامية، فهل وجدت في القانون مصدراً إسلامياً عن الاشتراكية؟ قال: لا، قلت: اذهب واسأل؛ فإذا أخبرك واحد عن موضع ومرجع واحد فأخبرني، ولك ما سميت من الجائزة.
فأخذ الرجل يبكي وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ما بال العلماء يسكتون؟ قلت له: من المشانق التي نصبتموها، ثم كانت أشياء كثيرة بيني وبينه، فقال: أعاهدك، قلت: على ماذا؟ قال: أني إذا رجعت سآخذ المصحف معي من المدينة، قلت: المصاحف تأتينا من بلادكم، فخذها من هناك، قلت: ولماذا؟ قال: لأحفظ أبنائي كتاب الله، فلقد حفظتهم كتاب الميثاق، وسوف أحفظهم كتاب الله من المصحف كما حفظتهم الميثاق، وقال: جزاك الله خيراً.
ثم قلت له: أنت درست التاريخ الإسلامي كمادة، فهل كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان بن عفان جهز جيش العسرة؟ وأن عبد الرحمن بن عوف تصدق بقافلة بما تحمل من مواد التجارة وما فيها من عبيد وإبل في سبيل الله؟ وكان هناك أبو هريرة يصرع من الجوع في المسجد، وقال: كنتم تشتغلون بالصفقات والزراعة، وأتبع رسول الله على ملء بطني، فهل أخذ رسول الله من عثمان شيئاً يعطيه لـ أبي هريرة ليقيم صلبه؟ قال: لا.
بل الرسول صلى الله عليه وسلم انتقل من الدنيا بكاملها ودرعه مرهونة عند يهودي في آصع من شعير، فهل أخذ من ابن عوف أو عثمان أو غيره لنفسه ولبيته؟ قال: لا، قلت: إذاً: ما لم يكن في ذلك الصدر وفي ذلك التاريخ المبارك النير هل يكون في هذا الوقت؟! ما كان لنا أن نتكلم في هذا الموضوع وقد انتهت الشيوعية وتقوضت أركانها بحمد الله، وعرف الناس الحق، وهم يرجعون الآن عن الباطل تدريجياً إلا لمرور هذا الحديث، لأنه كان عدتهم.
ثم قلت له: أنتم تناقضون مبدأكم الآن، قال: لماذا؟ قلت: الماء الذي تدخلونه في العمارات الناس فيه شركاء، وأنتم تضعون عداداً باللتر أو المتر المكعب وتأخذونها وتبيعونها عليهم، تيار الكهرباء الذي يدخل البيوت ويشغل الأجهزة، أليست هذه نار وطاقة أو هل جعلتموهم شركاء فيها أو جعلتم عدادات تعد بالإمبير وتأخذون القيمة؟ إذاً: ناقضتم أنفسكم.
إذاً: يا إخوان نحن وللأسف تعرضنا لهذه النواحي وإن كانت قد انتهت، لكن لنبين زيف ما كانوا يتمسكون به، ولنبين لإخواننا الذين يغترون بمقالات الآخرين بأن الشركة في هذه الثلاث إنما هي حينما تكون عامة، أما بعد الاختصاص فلا دخل لأحد فيما عند الآخر، وبالله تعالى التوفيق.(223/11)
كتاب البيوع - باب الوقف
هذه الدنيا مزرعة للآخرة، وإذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من خصال بينتها الشريعة؛ ليحرص الناس عليها، ومن ذلك الوقف، وفيه أحكام كثيرة، ومسائل عديدة، ينبغي الإلمام بها.(224/1)
شرح حديث: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله ... )(224/2)
فضل العلم والعلماء
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) .
رواه مسلم] .
أنبه الإخوان إلى نماذج نعيش في كنفها وظلها، إذا نظرنا إلى السيوطي، والسخاوي وغيرهما من العلماء، نجد مؤلفاتهم بالمئات، فهم انتقلوا إلى رحمة الله، والناس يستفيدون من علومهم إلى الآن، وهذا النووي له شرح مسلم والمجموع وغيرهما، وكأنه يعيش معنا، وابن حجر ألف هذا الكتاب، ونحن نعيش معه في تأليفه خطوة خطوة، ووالدنا الشيخ الأمين له أضواء البيان، وأصبح يتداول عالمياً، ويطبع عدة مرات شرعية وغير شريعة بغير إذن أولاده ومستحقيه، وهذا يدل فعلاً على مكانة العلم وانتفاع صاحبه به إلى اليوم.
مالك رحمه الله إمام دار الهجرة أتاه أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي، وقال: يا مالك! لم يبق في الناس أعلم مني ومنك، أما أنا فشغلتني الخلافة، وأما أنت فوطئ للناس كتاباً يسيرون عليه، وتجنب عزائم ابن عمر ورخص ابن عباس، قال: فعلمني التأليف ذلك الوقت، فألف الموطأ ثم قرأه عليه، واستمعه منه، وقيل: إنه هارون الرشيد، فقال: يا مالك! ائذن لي أن أعلق الموطأ على الكعبة، وأنسخ منه نسخاً أبعثها إلى الأمصار ليأخذوا به، ويتركوا كل ما عداه، يعني: نوحد العالم الإسلامي على الموطأ.
فقال: لا تفعل يا أمير المؤمنين! قال: ولماذا؟! قال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تفرقوا في الأمصار، وأخذ كل قطر بما جاءه من الصحابة الذين وفدوا إليه، فعملوا بما وصلهم عن أولئك الصحابة الكرام، والصحابة قد يختلفون في روايات الحديث، فتحويل الناس عما هم عليه صعب، أي: ما داموا قد أخذوا عن أصحاب رسول الله، وأصحاب رسول الله أخذوا عن رسول الله، فهم على حق، وتغييرك مذهبهم ولو إلى حق مثله صعب.
ونحن نتساءل الآن: أين خلافة أبي جعفر؟ ذهبت في أدراج السياسة، أما مالك فموطأه يعمر العالم، ويتدارسه العالم، ويستفيد منه العالم، فما أعظم العلم الذي ينتفع به من الموطأ، وبالمقارنة بينه وبين خليفة المسلمين نجد الفارق عظيماً جداً، الخلافة انتهت بموت الخليفة، وقد يقتل في سبيلها عند تغير الأحداث، ولكن العالم علمه ينتشر، ويكون كالطائر الذي يحلق مدى الحياة، وكمطلع الشمس ومغربها، فبقي الموطأ في أيدي المسلمين، يستفيدون منه، ويسابقون إلى دراسته وتعلمه، ولا شك أن هذا الأثر من العلم الذي ينتفع به، فيستمر ثوابه يصل إلى مالك إلى ما شاء الله.(224/3)
معنى قوله: (ولد صالح يدعو له)
قوله: (أو ولد صالح يدعو له) ، الولد في اللغة يشمل الذكر والأنثى، والابن يختص بالذكر ويقابله البنت، قال الله سبحانه وتعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11] ، ثم بيّن الأولاد: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] ، فشمل الأولاد الذكور والإناث.
إذاً: ابن صالح أو بنت صالحة يدعوان له، وقالوا: الولد الصالح جزء من كسب الرجل، فالذين ينفون وصول عمل الغير للميت يقولون: الولد امتداد لحياة أبيه؛ لأنه جزءٌ منه، ولكن قوله: (ولد صالح) لتقرير الحال والأولوية، وإلا فكل مسلم يدعو لأي مسلم فإن دعاءه نافع له، ويشرع أن نصلي على الجنائز وإن لم نعرف أصحابها، وأُمرنا أن ندعو لهم؛ لأن صلاة الجنازة إنما هي دعاء، فقوله: (ولد صالح) هو لبيان الأقرب والأولى، ولكنه يشمل جميع المسلمين، فيشرع أن يدعو بعضهم لبعض، ومن أفضل الأعمال دعاؤك لأخيك بظهر الغيب.(224/4)
صلاح الأولاد
صلاح الولد هبة من الله، وليس بحزم أو عزم الوالد، ولكن هذا سبب، فهذا نوح عليه السلام مكث يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، ولم يهتد ولده: {يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ} [هود:43] ، فما استطاع نوح أن يهدي ولده ليكون معه في السفينة، فلا والد يهدي ولده، ولا ولد يهدي والده، هذا إبراهيم عليه السلام كم قال لأبيه: (يَا أَبَتِ) (يَا أَبَتِ) ، (يَا أَبَتِ) فقال له: {لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم:46] .
وهكذا امرأة نوح وامرأة لوط، زوجها نبي وما أغنى عن زوجته شيئاً.
فالصلاح هبة من الله، والإنسان مكلف بالتأديب والقيام بالواجب، أما خلق الهدى والتوفيق في قلب الولد فهذا بيد الله، وقد قال الله في سيد الخلق: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] ، وأما قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] ، فقالوا: إن إثبات الهدى للنبي صلى الله عليه وسلم هو هداية البيان، كقوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17] ، يعني علمناهم وبينا لهم، ولكنهم تركوا ما بينا، وذهبوا إلى غيره.
والرسول صلى الله عليه وسلم أنذر أبا جهل وأنذر عمر بن الخطاب، وكان يقول: (اللهم! أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك) فهدى الله عمر إلى الهداية القلبية والاستقامة الحقيقية، ولم يهد أبا جهل، وكلاهما كان يسمع القرآن، والرسول كان يدعو الجميع، وليس عمر بأعقل من أبي جهل، وقد كان يقال له: أبو الحكم، فعقولهما متساوية، وأفهامهما متعادلة، ولكن التوفيق بيد الله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272] {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13] ، فالأمر بيد الله، ونحن لا نملك في صلاح الأولاد إلا التأديب والرعاية إلى أن يبلغ سن التكليف، ثم ترفع يدك عنه، ولا تملك إلا خالص الدعاء، فإن استجاب الله فالحمد لله، وإن لم يستجب فهذا حكمه، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] .
والولد هبة ونعمة، قال الله: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} [الشورى:49-50] ، وكون الولد صالحاً هبة أخرى، ونجد أن الخضر عليه السلام قتل الولد حفظاً على صلاح الأبوين، {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف:80-81] .
إذاً: صلاح الأولاد هبة من الله، والأمور الظاهرية التي كلفنا بها هي الرعاية والتأديب، ويشترك في تربية الأولاد والتأثير عليهم مع الأبوين: المجتمع والمدرسة والمسجد ثم بعد ذلك السلطان؛ لأنه هو الذي له الولاية على الولد إذا دخل في سن التكليف.
فمن رزق بولد فليحمد الله، وليسأل الله أن يجعله صالحاً، فإذا صلح الولد كان نعمة في الدنيا والآخرة، قال الله سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور:21] ، وإلحاق الذرية بالآباء يوم القيامة هبة من الله، وهو مما يستدل به على استفادة الميت بعمل غيره؛ لأن الذرية ما عملت شيئاً بعد الموت، وألحقها الله بآبائهم لتقر عين الآباء، إكراماً للآباء، وليس من أجل الأبناء، {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21] ، أي: ما أنقصنا عمل الآباء مقابل مجيء الأولاد عندهم، فإلحاق الذرية بالآباء فضل من الله مع بقاء أجر الآباء كاملاً.
نسأل الله أن يصلح أولادنا وأولاد المسلمين! ونسأل الله أن يأخذ بنواصيهم إلى الحق! ونسأل الله أن يوفقهم وأن يهديهم، وأن يصلحهم في أمر الدنيا والآخرة! هذا، وإن من صلاح الولد أن يدعو لأبيه، فإذا لم يكن صالحاً فإنه لا يدعو له، بل قد يدعو عليه!(224/5)
الخلق الحسن سبب للدعاء لصاحبه بعد موته
الدعاء ينفع الميت من أخ صالح، أو من زوج صالح، أو من صديق صالح، ومن أي مسلم كان سواء كانت له صلة بالميت أو لا صلة له به إلا بالإسلام، وفي الحديث: (إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وولده من كسبه) ، فدعاء الولد لوالده من كسبه، فماذا عن الآخرين؟ إذا مات شخص فإنه كان في الدنيا مع الناس على أحد رجلين: إما أنه كان محسناً معه إليه، فإنه سيدعو له بعد موته لإحسانه إليه في الدنيا، وما الموجب الذي سيجعله يدعو له؟ إحسانه إليه، وقد يموت إنسان فيدعو عليه آخر، فما السبب؟ إساءة معاملته، كما أن الذي يدعو له إنما هو بسبب حسن معاملته.
إذاً: حسن معاملة الناس تستجلب دعاء الناس له بالخير، فحسن المعاملة للناس هي من كسبه في حياته، وقد ورّثت له دعوات صالحة ممن كان يحسن إليهم، فحسِّن معاملتك مع الناس لتستجلب منهم دعوات الخير بعد وفاتك، ولا تعاملهم بالإساءة والسوء.
إذاً: هذا الحديث يضع لنا منهجاً في السلوك، وهو أن تعامل الناس بالحسنى، وأقل ما يعود عليك من حسن معاملتك للناس أنهم يدعون لك بعد موتك، وهذا يدخل في الصدقة الجارية، وكما تنتفع من الولد الذي من صلبك وهو من كسبك، فكذلك تنتفع بدعاء الناس لك بعد موتك، وذلك بسبب حسن معاملتك لهم، وهذا من كسبك أيضاً.
إذاً: لينظر كل إنسان في معاملاته مع الناس عامة، ومع الرؤساء والمدراء خاصة، فينبغي لمن تحتهم أن يعاملهم بالحسنى، وبالكلمة الطيبة، فإذا لم ينجز له عمله فليسمعه كلمة طيبة، وليعده وعداً حسناً، لا أن يخاطبه بجفاء ويقول: مالك عندنا شيء أو لا أعرف شيئاً! فالمسألة ليست شخصية، والله سبحانه وتعالى أوصلك إلى هذا المكان لتخدم الناس، لا لتستخدمهم أو لتحجب حقوقهم عنهم، وهذا العمل ليس من شأنك ولا من رأس مالك ولا من كسبك، وإنما وليت عليه لتنفع الناس.
وهذا الحديث شغل بالي فيه سبب انتفاع الميت بدعاء عامة أفراد المسلمين، فظهر لي -والله تعالى أعلم- أن دعوات عامة المسلمين للميت إنما هي من كسب الميت في حياته، بسبب حسن التعامل مع الناس.(224/6)
شرح حديث: (إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها)
قال رحمه الله: [وعن ابن عمر قال: (أصاب عمر رضي الله عنه أرضاً بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها فقال: يا رسول الله! إني أصبت أرضاً بخيبر، لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه، قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، قال: فتصدق بها عمر أنه لا يباع أصلها ولا يورث ولا يوهب، فتصدق بها في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم صديقاً غير متمول مالاً) .
متفق عليه، واللفظ لـ مسلم، وفي رواية للبخاري: (تصدق بأصلها لا يباع ولا يوهب، ولكن ينفق ثمره) .
] .(224/7)
فضل عمر رضي الله عنه
قوله: عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه، عمر له عدة أبناء ستة أو سبعة، لكن إذا أطلق هذا اللفظ انصرف إلى عبد الله، وله أخ اسمه عبيد الله، وآخر اسمه عاصم وغيرهما، وعبد الله هو المشهور بالرواية.
قال: (أصاب عمر) ، ولماذا لم يقل: أصاب أبي؟ ليبرز لنا صاحب الحديث لو قال: أصاب أبي، فمن يكون أبوه غير عمر؟ لكن قال: أصاب عمر ليُبرز شخصية عمر، وهو من الخلفاء الراشدين، وسنته متبعة، ومنزلته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم هي هي، وكذلك عقليته وفقهه، قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام: (كان يكون في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي منهم أحد فإنه عمر) وفي بعض الروايات الضعيفة: (لو لم أرسل إليكم لأرسل عمر) .
وفي الحديث: (ان الشيطان ليفرق منك يا عمر!) ، وأنزل القرآن موافقاً لرأيه في ستة مواطن، ومع هذا كله لما أصاب أرضاً بخيبر جاء يستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الأرض، يعني: يطلب أمره، ويستأذنه، ويستشيره، وما عوّل على ما عنده من خلال الخير والفطنة والمعرفة، وهذه -والله- هي السعادة الكبرى، أن يكون صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، يسألونه في الصغيرة والكبيرة، ويصدرون عن رأيه، ويستأمرونه فيما يخصهم، ملك أرضاً وله أن يتصرف فيها كيفما يشاء، وفي المثل: من تحكّم في ماله ما ظلم، ولكن ما دام الرسول صلى الله عليه وسلم موجود فيذهب يستشيره.
وقوله: (أصاب أرضاً بخيبر) ، هل خيبر فتحت عنوة أم صلحاً؟ عنوة، فلو كانت صلحاً لم يصب منها شيئاً، فهي فتحت عنوة، وقد فتحت حصناً حصناً، ولما أظفر الله سبحانه وتعالى المسلمين بهم، عقد الصلح على أن يعمل اليهود فيها، ويكون لهم نصف الثمرة والزرع، وكانوا أشد خبرة بالغرس والزرع، وكان المسلمون مشغولين بالجهاد، فأصبحت ملكاً للمسلمين؛ لأنها فتحت عنوة.
والأرض التي تُفتح عنوة تقسم على المجاهدين، فكانت حصة عمر من خيبر كما قال: (لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه) ، أي: من هذا الجزء الذي أصبته من خيبر.(224/8)
السخاء والكرم
هذه القصة تدعو إلى سخاء النفس، والحث على التطلع إلى ما عند الله، والاستظلال بقوله سبحانه: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] ، ليس مما تكرهون أو تكونون زاهدين فيه، وما له غرض عندكم، أو ما له قيمة، بل تنفق الشيء النفيس الذي تحبه، كما قال سبحانه: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان:8] ، ويختلفون في ضمير (حبه) هل يرجع للطعام أم المعنى على حب الله؟ يقول والدنا الشيخ الأمين: أحياناً يأتي في الآية ما يدل على رجحان أحد القولين من أقوال العلماء، وهنا فيها قرينة تدل على أن ضمير (حبه) راجع للطعام، لأن ذكر الله يأتي في الآية بعدها: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان:8-9] ، فقوله: {نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} يدل على أن (حبه) يرجع للطعام، فمع حبهم للطعام يطعمونه.
جاء ضيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل صلوات الله وسلامه عليه إلى بيوت زوجاته التسع يطلبهن عشاءً للضيف فلم يجد، فقال: (من يضيف هذا الليلة رحمه الله؟!) ، فذهب صحابي به إلى أهله، وقال لها: هذا ضيف رسول الله، فأكرمي ضيف رسول الله، فقالت: ما عندي إلا عشاء الأولاد، فقال: علليهم حتى يناموا، واعمدي إلى السراج لتصلحيه فأطفئيه، وأنا سأدلي بيدي وأرفعها خالية لأوهمه أني آكل معه؛ لأوفر له الطعام الذي يشبعه.
انظر الحيل! حيلة لوجه الله، فيقابل بالبشرى العظيمة، فحينما غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصباح قال له: (قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة!) ، فعلاً حيلة تضحك! وبعض الناس يحتال على المحرم ليصل إليه، وهذا يحتال على الحلال ليصل إلى رضوان الله، وإرضاء رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذا عمر يقول: (لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه) ، وأبو طلحة لما نزلت الآية جاء إلى رسول الله وقال: (إن الله يأمرنا أن ننفق مما نحب من المال، وإن أحب مالي إلي بيرحاء) ، وبيرحاء كانت شمالي المسجد، وكانت موجودة قبل هذه العمارة الأخيرة لخادم الحرمين، وكانت بئرها موجودة، وحولها آثار بستان وبعض النخيل، ولا نقول: إنه من ذاك الوقت، لكن البيئة بيئة مزرعة، قال: (فضعه حيث شئت يا رسول الله!) فقال: (اجعله في الأقربين) ، والشاهد عندنا قوله: (أحب مالي إلي بيرحاء) ، وهكذا عمر رضي الله تعالى عنه يقول: (إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه) ، أي: هو أنفس مال عنده، فنصحه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوقفها.(224/9)
معنى قوله: (إن شئت حبست أصلها)
(إن شئت) ، يدل على أنه ليس بإلزام، بخلاف الزكاة فليس فيها مشيئة المزكي، فهي حق للسائل والمحروم، أما هنا فتبرع وصدقة، فقال: (إن شئت حبست أصلها) ، وهذه من صيغة الوقف: حبَّستُ، أوقفتُ، وقَّفتُ، سبَّلتُ، كل هذه صيغ يحصل بها الوقف، ويختلفون في كلمة تصدقت؛ لأنها تصدق على الصدقة بتمرة، وعلى الصدقة لجهة ما، وتصدق على الوقف؛ لأنه صدقة جارية، لكن إذا جاءت قرينة تدل على أنه أراد بكلمة (تصدقت) معنى أوقفت؛ فلا إشكال.
وقوله: (إن شئت حبست أصلها) ، يدل على أن الوقف لا يكون إلا لما له أصل يبقى، وتؤخذ منه منفعة، فالطعام لا يكون وقفاً بل صدقة؛ لأنه ليس له أصل يوقف، وتؤخذ منه منفعة كل سنة بل يذهب، والغرس المثمر يصح وقفه، والغرس غير المثمر لا يصح وقفه؛ لأنه لا فائدة فيه للموقوف عليهم، إلا إذا قلنا: ينتفع بها بأن يؤخذ منها حطب، ويباع وينبت غيره، كما كان الحال في المدينة، يؤخذ الخشب من شجر الطرفاء، وكانت الطرفاء وجذوع النخل هي أدوات البناء والسقف.
إذاً: يؤخذ من قوله: (حبّست أصلها، وتصدقت بها) ، أن الذي يصح وقفه ما اشتمل على الأمرين: الأصل والثمرة، فيحبِّس الأصل ويسبل الثمرة، فلا يباع ولا يورث ولا يوهب، والتصرفات التي تنقل ملكية العين لا تجوز في الوقف، وألحق الفقهاء بها الرهن؛ لأن الغرض من الرهن توثيق الدين، فإن وفّى المدين دينه فالحمد لله، وإذا لم يوف دينه بيع الرهن، والحال أنه وقف، والوقف لا يباع، إذاً: لا يرهن.
فمعنى قوله: (حبّستَ) : أن يبقى في محله محبوساً عن التصرفات التي تعتري الأملاك، فلا ينتقل إلى أحد ببيع، أو بهبة أو بميراث، وكذلك لا يرهن؛ لأن المرهون معرض للبيع وفاءً للدين.
وقوله: فتصدق بها عمر أنه لا يباع أصلها ولا يورث ولا يوهب، رد الرسول صلى الله عليه وسلم الأمر لـ عمر ليتصدق هو؛ لأنه المالك، فتصدق بها عمر على أن الأصول لا تباع ولا تورث ولا توهب.
(فتصدق بها في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف) .
الوقف ينقسم إلى قسمين: وقف التبرر لعمل البر، والوقف الأهلي الذي يوقفه على أشخاص معينين، فيقول: هذا وقف على فلان، ويسميه باسمه، ومن بعده إلى أخيه فلان، ومن بعده إلى عمه فلان، فهذا وقف أهلي.
والوقف الخيري يجري لمن عين له بالوصف، والوقف الأهلي إذا وصلت ثمرته إلى من هو موقوف عليه تعامل معها معاملة المالك، فلو وقّف هذه النخيل على ثلاثة أشخاص، فلما جاءت الثمرة قسمناها على الموقوف عليهم، وكانت حصة كل واحد منهم نصاب زكاة (خمسة أوسق فأكثر) فعليه أن يزكيها، لكن وقف التبرر على المساكين أو على ذوي القرابة أو على ابن السبيل، لو أن الصنف الموجود ناله من الوقف بقدر نصاب زكاة؛ فلا زكاة عليه؛ لأنها صدقة عليه، بخلاف الوقف الأهلي.
ونسمع عن بعض الدول أنها غيّرت وبدلت في الوقف، فألغت الوقف الخيري، وبعضها ألغى الوقف الأهلي، وكنا نسمع أن حكومة بلد من البلاد الإسلامية العربية أرادت أن تلغي الوقف الأهلي، ثم إن رئيس تلك الدولة أوقف عشرة أفدنة على ولده، فتوقف المشروع؛ لأنهم لا يستطيعون أن يبطلوا وقف رئيس الدولة، وكانت بعض الحكومات تحارب الوقف في الماضي، وكذلك في الوقت الحاضر بعض الدول ألغت الوقف فعلاً، ولم يعد هناك ما يسمى وقف، فأعادوا الأوقاف إلى أهلها، فإن كان الموقف حياً رجع إليه ملكه، وإن لم يكن موجوداً رجع إلى الورثة بحسب الميراث الشرعي.
وعمر رضي الله تعالى عنه وقّف أرضه وقف تبرر وقفاً أهلياً، وسنشرح ذلك جملة جملة.(224/10)
الوقف على الفقراء
قوله: (فتصدق بها في الفقراء) ، الفقراء ليسوا مخصوصين بأشخاصهم، ولكنهم طائفة يعرفون بصفاتهم، والفقير هو الذي لا يجد ما ينفقه، بخلاف المسكين فهو يجد أقل ما ينفق، فكسبه أقل مما يحتاجه في النفقة، فكسبه لا يكفي حاجته، وقالوا: إن المسكين أحسن حالاً من الفقير، وقالوا: إن الفقير مأخوذ من فقار الظهر، وبالعمود الفقري يتحرك الإنسان، فإذا تعطلت فقرة من فقار العمود الفقري في الإنسان فإنه لا يستطيع أن يحرك شيئاً من جسمه، ويكون ملازماً للأرض ساكناً لا حركة عنده، بخلاف المسكين فهو ساكن، وفرق بين من أخلد إلى الأرض كرهاً ومن سكن اختياراً؛ ولذا جاء في حق المساكين: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79] ، فهم مساكين ومعهم سفينة، والسفينة مال، فمن كان عنده سيارة كبيرة يعمل عليها، وما عنده غيرها، قد يكون فقيراً، وأما الفقير فليس عنده شيء، حتى ولا كرسي.
فالصنف الأول للفقراء، وإذا وقف للفقراء، وكان للموقف قرابة أو أبناء اتصفوا بالفقر، فإنهم يستحقون من الوقف مع الفقراء؛ بوصفهم بالفقر لا بكونهم أبناء الموقف، ومن استغنى منهم لا يعطى من الوقف.(224/11)
الوقف على ذوي القربى وفي الرقاب
قوله: (فتصدق بها في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب) ، القربى: ذوو الرحم، وليسوا الورثة فقط، بل مثل خاله وخالته، وابن خاله وابن خالته، وعمته، وابن عمته، فهؤلاء كلهم من ذوي الرحم، فجعل لهم نصيباً، والرقاب جمع رقبة، وما المراد بالرقاب هنا؟ هناك عبدٌ قِنٌ، أي: ليس فيه شائبة حرية، ومبعَّض، أي: بعضه حر، وبعضه مملوك، وهو من أعتق بعضه، ومدبَّر، وهو الآن مملوك، ولكن حريته مدبرة بعد وفاة مالكه، ففي اللحظة التي يموت فيها سيده يملك حريته، ومُكاتب، وهو: الذي شارط سيده على مبلغ يؤديه إليه، فلو أن السيد أراد أن يبيعه لشخص آخر، فيقول له: أنا أشتري نفسي، ويكاتبه على مبلغ يتفقان عليه، وينجمه عليه تنجيماً، ويستحب له أن يسقط القسط الأخير مساعدة له، وهذا إذا علم فيه خيراً، لا أن يكون مفسداً شريراً، فيملك نفسه، ويفسد في الأرض، لكن يكاتبه إذا آنس منه الصلاح والاستقامة والقدرة على أداء مبلغ الكتابة، فإنه إذا تحرر نفع الناس، وكان صالحاً في المجتمع.
فأي نوع من أنواع الرقاب المراد هنا؟ بعضهم يقول: الرقاب الذين يحتاجون إلى المال، وهم المكاتبون؛ لأن المكاتب عليه أن يسدد بخلاف القِن ما عليه شيء، والمبعّض ما عليه شيء، والمدبَّر ينتظر موت سيده بفارغ الصبر؛ ولهذا كره تدبير العبد كما كرهت الرُّقبى.
فيعطى المكاتب ما يتحرر به، وبعضهم يقول: (وفي الرقاب) أن تشتري المملوك القن وتعتقه.
إذاً: هي دائرة في هذا الصنف من الناس، سواءً اشتريته وأعتقته أو ساعدته على وفاء دين كتابته.
والإسلام يتشوف إلى تحرير الرقاب، وقد يكون العبد قريباً لـ عمر؛ لأن العبد هو من أُخذ أسيراً في المعركة وهو يقاتل المسلمين، لا من خطف من الطريق.
فلا يسترق مسلم أبداً إلا إذا أسلم بعد أن أخذ أسيراً، وقسم على الغانمين، وبعد ذلك يسلم فهذا فضل الله.
وقال الله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا} ، المسلمون فيهم مساكين، {وَيَتِيمًا} ، والمسلمون فيهم أيتام، ((وَأَسِيرًا)) [الإنسان:8] ، لا يكون مسلم بيد المسلمين أسيراً؛ لأنه لا يحق لمسلم أن يأسر أخاه ولو تقاتل معه، والسلف عندما تقاتلوا لم يسترق بعضهم بعضاً، ولما قال القوم لـ علي: أقسم بيننا الأسارى، قال: لا يوجد أسارى في الإسلام، أيكم يرضى أن تكون عائشة في سهمه؟! ولهذا لا يذفف على جريحهم، ولا تسلب أموالهم؛ لأن القتال غالباً لا يكون بين طوائف المسلمين إلا بسبب اختلاف وجهة نظر دينية.(224/12)
ترغيب الشرع في تحرير الرقاب
في قوله: (وفي الرقاب) ، ترغيب لتحرير الرقاب، وقد أشرنا مراراً أن الرق في الإسلام يتميز عن جميع طوائف العالم، وأشرنا أن قانون الرق في أوروبا كان ينص على منع السيد من عتق رقيقه إلا بإذن الحاكم، وكان يستوجب أسر الأفراد لأوهى الأسباب، أما الإسلام فلم يجز استرقاق الإنسان إلا في أرض المعركة حينما يحاد الله ورسوله، ويقف سداً منيعاً أمام زحف الإسلام إلى الناس فيؤخذ أسيراً، ثم باب الأسر واحد، أو كما يقال: باب الورود واحد فقط، وهو أرض المعركة، بينما أبواب الخروج متعددة، فإذا كان الورود من باب واحد والخروج من أبواب متعددة فهل يبقى في البيت أحد؟ لا يبقى أحد بخلاف العكس، لو كان أبواب الورود متعددة والخروج من باب واحد، فسيحصل زحام وأزمة، أو كما يقولون: خطر سوء التفريغ، ولذا فمن أول حساب الهندسة المعمارية عند بناء المسجد أو المعهد أو الكلية، أنه لابد أن يعمل حساب الأبواب للخروج، حتى لو حصلت أزمة مفاجئة استطاع الموجودون الخروج بسرعة، أما إذا كان هناك باب واحد، وهناك ألف نفر، فمتى يخرجون؟ سيقتل بعضهم بعضاً في الزحام، لكن لو عمل خمسون باباً فسيخلو المكان بسرعة.
فنجد جميع الكفارات فيها عتق، مثل كفارة اليمين، والظهار، والوطء في رمضان، وقتل الخطأ، وتبدأ الكفارة -سواءً كانت على الترتيب أو التخيير- بعتق رقبة.
ثم نجد الترغيب في عتق نفسه من النار، فقال عليه الصلاة والسلام: (من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منه عضواً من النار حتى فرجه بفرجه) ، بل قد يكون العتق إجبارياً على الإنسان، فقال عليه الصلاة والسلام: (من أعتق شقصاً من عبد مملوك، فخلاصه عليه في ماله، فإن لم يكن له مال قوم العبد قيمة عدل ثم استسعي العبد غير مشقوق عليه) ، يعني: قوم عليه الشقص الثاني، وقيل له: ادفعه لشريكك، ويصبح العبد حراً، فإن قال: أنا أعتقت النصف فقط، فيقال له: مادام قد أعتقت النصف فقد فتحت الباب، فأكمل، ويُجبر على عتقه كاملاً.
ومن لطم عبده فكفارته أن يعتقه، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: كانت لي جارية ترعى غنماً لي قبل أحد والجوانية، فاطلعت عليها ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة منها، وأنا من بني آدم آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكة، فعظم ذاك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أفلا أعتقها؟ قال: (ائتني بها.
قال: فجئته بها فقال: أين الله؟ قالت: في السماء.
قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله قال: اعتقها فإنها مؤمنة) .
فالشريعة تتلمس الأسباب للعتق، بخلاف القوانين الأخرى، فإنه يشمئز الإنسان أن يوردها، كانوا يبيحون لأنفسهم إطلاق السباع الجارحة المفترسة على العبد في ميدانٍ ليتفرجوا كيف يفترسه الأسد! ولا أحد يمنعهم من ذلك، والقانون يبيح لهم ذلك! وهذا لطمها في حالة غضب أسفاً على الشاة التي أكلها الذئب، فيتأسف ويسأل عن عتقها، فيقول له صلى الله عليه وسلم: (اعتقها) .
وهذا عزير بن عمير أخو مصعب بن عمير، أخذ أسيراً يوم بدر، ولما قدموا به إلى المدينة، مر عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (استوصوا بالأسارى خيراً) ، قال: فكانوا يقدمون إلي الخبز، ويجتزئون هم بالتمر، حتى كنت أستحي منهم فأردها عليهم فيردونها عليّ.
فأي إكرام؟ وأي معاملة بالحسنى إلى هذا الحد؟ ومر عليه مصعب أخوه، فقال: شدوا وثاقه فإن أمه ذات مال لعلها تفديه منكم، فنظر إليه وقال: هذه وصايتك بي يا أخي! قال: لست أخي، إنما إخوتي هؤلاء المسلمون.
والذي يهمنا أنهم كانوا يقدمون له الخبز، وهم يأكلون التمر عملاً بوصية رسول الله: (استوصوا بالأسارى خيراً) .
وعمر رضي الله تعالى عنه جعل حصة من وقفه للرقاب.(224/13)
الوقف في سبيل الله
بعض الناس يقول: إذا أطلق سبيل الله انصرف إلى الجهاد، والبعض يقول: كل عمل خير فهو في سبيل الله، ولكن الأول هو الأصح؛ لأنه لو كان معنى (في سبيل الله) أعمال الخير كلها، فلا حاجة إلى أن أقول: فقراء، رقاب، أيتام؛ لأنها كلها في سبيل الله، لكن العرف يعيِّن أن في سبيل الله هو الجهاد.
فما الذي يفعل في حصة (سبيل الله) التي أوقفها عمر؟ إذا كان هناك غاز ليس عنده جهاز ولا مئونة ولا زاد، ووجد أن له حقاً في وقف عمر، فإنه يأخذ منه، مثل إنسان يريد أن يغزو، وعنده طعامه لكن ما عنده سلاح، فيأخذ من الوقف ما يشتري له به سلاحاً؛ لأنه في سبيل الله.(224/14)
الوقف على ابن السبيل
وقوله: (وابن السبيل) ، السبيل: هو الطريق، والغريب يطلق عليه ابن السبيل، والشاب الغريب ابن كما يقولون: البنوة نسبة، فتقول: ابني وابن فلان، فينسب إلى أبيه الذي جاء منه.
فما علاقة السبيل بآدمي يمشي على وجه الأرض؟ قالوا: لأننا لا نعلم عن هذا الغريب شيئاً، ولكن السبيل هو الذي جاءنا به، فلولا السبيل أو الطريق لما رأيناه، فنحن وجدناه على الطريق، فهو ابن الطريق، كما يجد إنسان إنساناً في غابة فنقول عنه: ابن الغابة؛ لأنه وجد فيها، وهكذا.
فابن السبيل يراد به المسافر المنقطع الذي يريد ما يبلغه إلى بلده، ويبحث العلماء فيما يأخذه ابن السبيل، وفيما يأخذه الغارم الذي سعى بين الناس بالصلح، فهل ما يأخذاه تملك أو استحقاق لغاية؟ فإن كان تملك، قدرنا له ما يوصله إلى غايته، فإن أعطيناه ألفاً ثم هو قتر على نفسه، وأنفق نصف الألف فقط، فهل يرد الباقي أم يكون في ملكه؟ إن قلنا: يأخذ ما يبلغه فقط، فإنه يرد الباقي، وإن قلنا: يتملك ما قدرناه له، وما وفّره فهو ملك له؛ لأنه وفره على حظ نفسه، وقد يكون حرم نفسه من بعض الأشياء، ووفر بعض قيمتها فيكون ما أخذه ملكاً له.(224/15)
الوقف على الضيف
وقوله: (والضيف) ، المراد ضيف الوالي على الوقف، وهو الناظر، مثلاً: الناظر مقيم في النخل، فورد عليه ضيف، فللضيف حق الأكل من هذا الوقف؛ لأن الضيف مثل ابن السبيل، وقد يكون استضاف صديقه أو قريبه.
وقد حث الإسلام على إكرام الضيف والضيافة، لها أحكامها الخاصة، قال عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه،.
فليقل خيراً،.
فليكرم جاره) .
وإكرام الضيف من مكارم الأخلاق، وهو من بقايا شيم العرب، وتعرفون أخبار حاتم في الكرم، وقصة الحطيئة لما أكرم ضيفه وقال له: يا أبت اذبحني وهيئ له طعماً والقصيدة طويلة، فكان العرب يعنون بإكرام الضيف، وكانوا يتغنون بذلك، وكما قال الآخر: وبات على النار الندى والمحلق والمحلق هذا كان عنده عدة بنات، وما جاءه خاطب لهن، فقدم بعض الشعراء ونزل عنده، فما اهتم له كثيراً، فقيل له: هذا الشاعر فلان، فحالاً أكرمه بزق من الخمر، وبشاة مشوية، فقام يمتدحه بقصيدة فيها: وبات على النار الندى والمحلق والندى: يعني الكرم، فشاعت القصيدة في العرب، وبعد مدة خطبت بناته كلهن.
يهمنا الكرم وأثره، والضيف له حق، كما في الحديث، وقال بعض المتأخرين: إن الضيف له حق ثلاثة أيام، فاليوم الأول فرض، والثاني مندوب، والثالث كذا، وما عدا ذلك فهو صدقة.
وعمر رضي الله تعالى عنه لما فتح بيت المقدس شرط على الرهبان، وعلى أصحاب الصوامع: أن يضيفوا من مر عليهم من أبناء السبيل، وبعض المتأخرين يقول: انتهى أمر الضيافة؛ لأنها كانت عندما كان الغريب لا يجد ما يأكل وما يشرب، وبعضهم يقول: لا، من كان مقيماً في صحراء، وعنده سعة؛ فالضيافة عليه واجبة، وإن كان في مدينة من المدن، وفيها الفنادق، وفيها المطاعم؛ فلا تجب الضيافة على أحد؛ لأنه إن لم يستضفه أحد سيجد في الفندق والمطعم ما يسد به حاجته، وفي ذاك الوقت لم يكن هناك فنادق ولا مطاعم ولا مخابز، ولا غيرها مما يسد الغريب حاجته فيها بما في يده، وقد يكون معه الثمن لكن لا يجد من يبيعه، فتجب حينئذ ضيافته، فالأماكن التي لا يجد الغريب فيها حاجته بالثمن، فالضيافة واجبة على أهلها.
ونعلم بقصة الرهط الذين نزلوا عند حي، فأبوا أن يضيفوهم، وسلط الله العقرب على سيد ذاك الحي، وقضية الخضر عندما أقام الجدار في القرية التي أبى أهلها أن يضيفوهما، فهذا عيب عليهم من ذاك التاريخ، وهذا يدل على أن الضيافة ثابتة في الأمم جميعاً.
فإذا كان الغريب لا يجد ما يطعمه وما يأويه تعينت الضيافة، وإذا كان يجد ذلك بالنقد أو بالمروءة ما يطعم ويأوي فلا حق في الضيافة بالفرض على أحد.(224/16)
أجرة ناظر الوقف
قوله: (لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف) ، (لا جناح) أي: لا إثم ولا ذنب ولا مؤاخذة على من وليها، والذي يليها هم النظار، فللناظر أن يأكل بالمعروف، وما هو المعروف؟ قيل: ما يسد رمقه، والبعض يقول: بحسب متوسط المعيشة، والحنابلة يقول: له الأقل من أجرة المثل ونفقته الشخصية، فمثلاً هذا العمل لو استأجرنا إنساناً يقوم عليه فإنه يستحق في الشهر ألف ريال مثلاً، وهذا العامل لو كان ينفق على نفسه فإنه يكفيه ستمائة ريال، فيستحق في الوقف أقل الأمرين: نفقته الخاصة أو أجرة المثل.
ولو كانت نفقته ألف ريال، وأجرة مثله خمسمائة ريال، فإنا نعطيه أجرة المثل وهي الأقل؛ لأن هذا حماية للوقف، وكذلك الأمر فيمن ولي مال اليتيم.(224/17)
أمانة ناظر الوقف
وقوله: (ويطعم صديقاً غير متمول مالاً) ، لو مر عليه صديق، وقدّم له من الرطب أو قدم له شيئاً من الفاكهة، فلا بأس أن يطعمه، ولكن بشرط (غير متمول مالاً) .
فهذا الذي يليها يأكل بالمعروف غير متمول مالاً، وهذا الصديق يأكل بالمعروف، وهذا الضيف يضيفه بالمعروف لا أن يتمول من هذا الوقف مالاً، بأن يقتطع جزءاً من الوقف لنفسه، فهذا لا يجوز، ومرت علينا قضايا في المحكمة تضحك وتبكي من أعمال نظار الوقف، وكذلك لا يتمول بأن يجمع من ثمار الوقف ما يبيعه ويختزن ثمنه حتى يتمول مالاً من وراء الوقف.
وقد ورد الإذن لابن السبيل إذا مر على حائط، أن يسد جوعه غير متخذ خبنة، فلا يحمل معه من الثمرة ويذهب، بل كل ما يشبعك في مكانك، ولا تحمل معك شيئاً.
قال رحمه الله: [وفي رواية للبخاري: (تصدَّقَ بأصلها: لا يباع ولا يوهب، ولكن ينفق ثمره) ] ينفق ثمره على من تقدم من تلك الأصناف.
وفي قضية عمر هذه، يقولون: إنه ولاها ابنته حفصة، وكانت هي ناظرة هذا الوقف تقوم عليه، وهل يشترط في الوقف قبض الموقوف عليه أو من يليه باعتبار معنوي أم لا؟ فالذين يشترطون ذلك يقولون: عمر أخرجها من ذمته، وولى عليها حفصة، وهي تولّت القبول باسم الفقراء وباسم ابن السبيل، لأن هؤلاء الأصناف لا يتأتى منهم قبول لعدم إمكان حصرهم.
والآخرون يقولون: ليس بلازم، وهو مذهب الحنابلة.
ومباحث الوقف عديدة ومتوسعة، وما أكثر ما يكون فيها من مشاكل وإشكالات في الجهات الموقوف عليها، مثل أن يقف ويقول: على أولادي وأولاد أولادي، أو على أولاد الظهور دون أولاد البطون، وهذا من الخطأ الذي يرتكبه بعض الناس، أو أن يوقف المال مضارّة للورثة، عنده مال، فيوقف نصف المال ليحرم الورثة ميراثهم بهذا الوقف، فإذا فعل ذلك مضارّة بطل الوقف، وبعضهم يشترط فيه شروطاً لا تصح، مثل أنه يحق له أن يرجع في وقفه، ويحق له البيع والشراء، وأن يستبدل طائفة عن طائفة، والجمهور أن تلك الشروط باطلة.
ويشترط في الوقف اتصال البداية واتصال النهاية، اتصال البداية مثل أن يقول: وقفت على بني فلان وهم موجودون، ولو قال: وقفت على أولادهم وذرياتهم وأعقابهم، فلم تتصل النهاية، فيكون باطلاً، لكن يقول: وقفت على كذا وعلى كذا وعلى كذا، فإذا انقرضوا فعلى المساكين أو فعلى طلبة العلم، فطلبة العلم والمساكين لا ينقطعون؛ لأنهم موجودون دائماً.(224/18)
شرح حديث: (بعث رسول الله عمر على الصدقة ... )
قال رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة الحديث وفيه: (فأما خالد فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله) .
متفق عليه] يسوق المؤلف رحمه الله تعالى هذا الحديث ليبين أن العتاد والمحبّس في سبيل الله لا زكاة عليه، والحديث يورد في باب الزكاة؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عمر ومعه آخر على الصدقة، فلما رجع قال: يا رسول الله! منع الصدقة خالد وابن جميل والعباس، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله، وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله، وأما العباس فهي عليّ ومثلها معها.
ثم قال: يا عمر! أما شعرت أن عم الرجل صنوه أبيه؟) .
هكذا الحديث مطولاً، ويورده العلماء في باب الزكاة على هذا الأصل، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنكم تظلمون خالداً) ، أي: تنسبون إليه منع الزكاة والصدقة وحاشاه من ذلك؛ لأنه يعلم أن الزكاة فرض، ولن يمنع خالد فرضاً، وبعض العلماء يقول: إن هذه الصدقة كانت صدقة تطوع، ولكن جمهور العلماء يرد ذلك؛ لأن صدقة التطوع ما كان صلى الله عليه وسلم يبعث أحداً ليجمعها، وإنما كان يبعث لجمع الزكاة المفروضة.(224/19)
معنى قوله: (فهي عليّ ومثلها معها)
تتمة للحديث: (أما العباس فهي عليّ ومثلها معها) ، قالوا: تحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العباس زكاة ماله تلك السنة، و (مثلها) أي: السنة التي بعدها.
وبعضهم يقول: ليست هناك حمالة، بل إن العباس رضي الله تعالى عنه كان قد دفع زكاة ماله لعامين مستقبلين، قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم عرضت له حاجة فطلب من العباس أن يعجل زكاة سنته، وكان ذلك قبل أن يتم الحول، ومثلها معها.
ومن هنا يذكر العلماء هذا الحديث بعينه في موضوع جواز تقديم الزكاة قبل موعدها، أي: قبل ثبوت وجوبها ببلوغ الحول.
وقوله: (عم الرجل صنو أبيه) الصنو: معروف عند أصحاب النخيل، تكون نخلتان أصلهما في الأرض واحد، فالأصل واحد، وتتشعب كل نخلة منهما إلى جهة مقابل الأخرى، فيتفرع الأصل إلى فرعين، وهكذا العم بالنسبة إلى الأب، فإن أصلهما واحد وهو الجد، فالجد لأب هو الأصل، ثم انفصل عنه وتفرّع عنه أبو المتكلم وعمه؛ لاجتماعهما في أصل واحد وهو الجد، ويعني: أن العم والأب يتساويان.
والشاهد هنا: أن خالداً رضي الله تعالى عنه احتبس أعتاده في سبيل الله، و (احتبس) يحتمل أن يكون المعنى: أوقف، ويحتمل أن يكون أعد، أي: أعد أدراعه وأعتاده، والأعتاد أو العتاد: هي الخيل، والأدراع: نسج من الحديد يلبس وقت القتال، قالوا: هذا يدل على صحة وقف العروض كالدروع وآلات الحرب من سيوف ورماح وغير ذلك، وكذلك صحة وقف الحيوان؛ لأن الحيوان يدخل في عموم قوله: (وأعتاده) .
فمن هنا أتى المؤلف رحمه الله تعالى بهذا الحديث، وكأنه يشير إلى خلاف الفقهاء فيما يجوز وقفه وما لا يجوز؛ لأن البعض قد عارض في جواز وقف المنقولات، فعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله عدم صحة وقف المنقولات؛ لأنها تتغير وتتلف ويعتريها طوارئ الأحوال، بخلاف العقار الثابت، والوقف إنما يجعل على التأبيد، والمنقول ليس فيه ضمان للتأبيد فهو معرض للتلف، ومعرض للضياع؛ فلا يتم فيه الوقف.(224/20)
هل يزكى مال الوقف؟
خالد رضي الله تعالى عنه أوقف ما يملك، ومن هنا قالوا: إن الوقف ينقسم إلى قسمين: وقف أهلي، ووقف تبرر، فالوقف الأهلي هو: أن يوقف العين على أهله، أو على أولاده وذويهم وذرياتهم، أي: على أشخاص إما معينين بالشخص مثل: (ولدي فلان) أو معينين بوصف مثل: (أولادي من صلبي) ، فهؤلاء محصورون ومعينون، ثم قد ينقله إلى أولاد أخيه أو إلى جيرانه أو إلى جماعة معينة، أو ينقله إلى عموم مثل: إلى بني فلان وهم قبيلة عامة، وهذه لا يمكن حصر أفرادها ولكن مجموعها، أو وقف على أهل وصف مثل طلبة العلم ثم إلى وصف آخر كذا وكذا، فيكون حينئذٍ وقف على أعيان وأشخاص لهم صلاحية القبول والتملك، فهذا الوقف بالنسبة للزكاة إنما هو هبة وصدقة، فلا يطالب الموقوف عليه بالزكاة، ولكن الوقف على معيَّن ينظر: كم حصته من الوقف هذا العام؟ ويعامل معاملة من وجبت عليهم زكاة الأموال، فإن كان الوقف زرعاً أو ثمرة فجد، وكان نصيبه من الثمرة ما يجب في مثله الزكاة؛ زكّاه حالاً، ونصاب الزكاة في التمر والحبوب خمسة أوسق، فإذا أصاب أحد الموقوف عليهم خمسة أوسق فما فوق؛ زكاه عند استلامه، كما قال الله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] ، وإن نقص الفرد المستحق عن هذا المقدار فلا زكاة عليه، كما لو كان المال من نخله وبستانه وملكه.
أما إذا كان الوقف على خير وعلى بر، كأن يقول: أوقفت هذا النخيل على طلبة العلم، فهو متصدق به على أشخاص غير معيّنين، ولا يمكن حصرهم، فمن حضر منهم في بلده استحق الوقف، فحينئذٍ يأخذه الطالب باسم الصدقة، وهو أوقفه وأخرجه عن ملكه باسم الصدقة، فإذا كانت عين الثمرة بكاملها صدقة لا نطلب الصدقة من صدقة على الآخرين، فهؤلاء الذين أخذوا بوصف العلم أو بوصف الفقر والمسكنة لا زكاة عليهم فيما أخذوه.
يقول صلى الله عليه وسلم في حق خالد رضي الله تعالى عنه: (احتبس) .
وجاء في الخيل حديث: (الخيل لثلاثة: فهي لرجل أجر، وهي لرجل ستر، وهي على رجل وزر) ، وفسرها صلى الله عليه وسلم بقوله: (فأما الذي هي له أجر فالذي يحتبسها في سبيل الله) ، أي: أعدها في سبيل الله ولم يخرجها عن يده وقفاً إنما أعدها لتكون مهيأة وجاهزة للقتال في سبيل الله، فالشخص الواحد يعد ويهيئ عتاده من سيف ورمح وخوذة على رأسه أو درع يلبسه أو أو إلى آخره.
وفرساً يعده للجهاد، فهذه لم تخرج عن ماله، فإذا أراد الزكاة قومها وقدرها؛ لأنها ممتلكاته، وليست من عروض التجارة، فهي للقنية، لكن يطلق عليه أنه أعدّها في سبيل الله، فقالوا في قضية خالد: إنه حبس أدراعه، فحبس بمعنى: حبّس وأوقف فلا زكاة فيها، أو حبس بمعنى أعد؛ ولذا ليس لكم طريق إلى مطالبته، وهو يعرف ما يجب عليه من حق الله في الزكاة.
لكن المؤلف يسوق هذا الحديث هنا ليبين أمرين: الأمر الأول: صحة الوقف في المنقول.
الأمر الثاني: عدم وجوب الزكاة فيما أوقفه صاحبه تبرراً لوجه الله، والله تعالى أعلم.(224/21)
كتاب البيوع - باب الهبة العمرى والرقبى [1]
لقد أمر الشارع بالعدل بين الأولاد في العطية، وحرم المفاضلة فيها، واشترط أهل العلم في رجوع الوالد عن عطية ولده شروطاً معلومة، وهذه المسألة مستثناة من عموم النهي عن الرجوع في الهبة والعطية.(225/1)
شرح حديث النعمان بن بشير في وجوب العدل بين الأولاد في العطية
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن النعمان بن بشير أن أباه أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إني نحلت ابني هذا غلاماً كان لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ فقال: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فارجعه) ، وفي لفظ: (فانطلق أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشهده على صدقتي، فقال: أفعلت هذا بولدك كلهم؟ قال: لا، قال: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، فرجع أبي فرد تلك الصدقة) متفق عليه، وفي رواية لـ مسلم قال: (فأشهد على هذا غيري، ثم قال: أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال: بلى، قال: فلا إذن) ] .
هذا الذي ساقه المؤلف من خبر النعمان بن بشير جزء من حديث طويل، وهو: أن أباه تزوج امرأة وهي أخت عبد الله بن رواحة، ثم طلبته أن يهب لولدها منه شيئاً يخصه به، قال: فمطلها سنة، وقيل: مطلها سنتين، ثم إنه أعطاه بستاناً نخيلاً، ثم بعد فترة ارتجعه، ثم رجعت وألحت عليه أن يمنح ولدها شيئاً من ماله، فمنحه هذا الغلام، فحينئذ خشيت أن يرجع في الغلام كما رجع في البستان، فقالت: لا أقبل - أي: لا أقبل هذا العطاء في الغلام - حتى تذهب وتشهد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لتضمن عدم رجوعه فيه كما رجع سابقاً في البستان.
هكذا يذكر بعض العلماء؛ لأنه جاءت بعض الروايات أنه قال: (إن أبي قد منحني شيئاً من ماله) ، وبعض الروايات: (منحني غلاماً) ، فقالوا: يجمع بين هذا: أنها أولاً ألحت على زوجها فأعطاه بعد المماطلة بستاناً، ثم إنه رجع فيه، وهنا يأتي الكلام في الرجوع في الهبة، وسيأتي تفصيل ذلك في أحاديث متقدمة.(225/2)
العطية لا يثبت تملكها إلا بالقبض
وهنا: اتفق العلماء على أن الهبة والصدقة والعطية لا يثبت تملكها لمن وهبت إليه أو منحها إلا بعد القبض.
وبعض العلماء يقول: الهبة تصح ويقع التمليك لها بمجرد العقد، وعند الحنابلة التفصيل بين المنقول من مكيل وموزون وحيوان، وبين الثابت من عقار وغيره، فقالوا: لا تثبت الهدية في المنقولات إلا بالقبض، وما عداها تثبت بالتخلية، وقالوا: إن الصغير يقبض عنه وليه؛ لأن الصغير ليس أهلاً للقبض، وكذلك القبول، قالوا: ويشترط في صحة الهبة قبول الموهوب إليه وقبض الهبة التي وهبت له.
واستدلوا في صحة الهدية بالقبض بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، بأن أباها كان قد منحها جذاذ خمسين وسقاً، فلما لم تحزه، ومرض مرض الموت قال: (يا ابنتي! والله لا أحد أعز علي فقراً من بعدي منكِ، ولا أحد أحب إلي غنىً من بعدي منكِ، وكنت قد نحلتك جذاذ خمسين وسقاً ولو كنت حزتيه لملكتيه) ، وفي رواية: (ولو كنت حرثتيه لملكتيه) فعلى رواية: (حزتيه) يكون الفرض جذاذ خمسين وسقاً من تمر جاف بذاته، وعلى رواية: (حرثتيه) يكون قد منحها نخلاً يؤتي ثمرة مقدار خمسين وسقاً، وعلى كلا الحالتين لما لم تقبض ما منحته -سواء كان تمراً موثقاً أو نخلاً يأتي بهذا القدر من الأوسق- فإنها لا تملكه.
ثم قال: (وهو الآن مال وارث فاقتسموه أنت وأخواك وأختاك) ، أي: أسماء وبنت أخرى من امرأة كان تزوجها بالمدينة، وكان يسكن معها في السنح، قالت: (أي أختين يا أبي وليس لي إلا أخت واحدة؟ قال: ابنت زيد بن فلان، إنها حامل وأراها حامل بأنثى) فجاءت كما قال رضي الله عنه، فقالوا: لو لم يشترط القبض في الهدية والهبة لنفذت هبة أبي بكر لابنته عائشة، ولما لم تقبضها رجعت الهبة إلى مال الواهب وأصبح مال وارث.
فهنا بشير لما منح ولده أولاً البستان يقولون: الوالد لا يقبض عن ولده إلا إذا كان في النقدين، فإذا كانت الهبة من النقدين الذهب والفضة، قال مالك: لا يصح للوالد أن يقبض لولده هبة الذهب والفضة، ولو حتى عزلها وختمها وأبعدها عن ماله مميزة عنه، ولكن يشترط أن يخرجها من تحت يده، ويجعلها تحت يد رجل أمين تكون عنده؛ مخافة فيما بعد: فلو مات الواهب-والحال أنه كان قد وهب ولده جزءاً من المال وبقي المال تحت يده في صندوقه مع عموم ماله- لربما ادعى الورثة أنه مال أبيهم، وأنه في التركة، لكن عندما يخرجه إلى يد غيره لا يمكن أن يدعوا ذلك.
إذاً: لابد من اشتراط القبض في الهبة، والقبض كما يقال: إن كان مكيلاً أو موزوناً أو منقولاً فبنقله عن مكانه، وإن كان ثابتاً فبالتخلية بينه وبين الموهوب له.
وهنا عمرة بنت رواحة لما قالت: لا أقبل، سبب ذلك أنه كان قد سبق من زوجها أن منح ولدها النعمان ثم رجع في منحته، ويقولون: إنه وإن كان يقبض عن الصغير إلا أن للوالد أن يرتجع في هبته لولده، وليس هذا لغير الوالد من جد أو أخ أو عم أو غير ذلك.
واختلف في الأم هل لها أن ترجع في هبتها لولده؟ فالحنابلة عندهم رواية عن أحمد رحمه الله: أنها لها ذلك لقوله: (اتقوا الله واعدلوا بين أبنائكم) والأم والدة.
وعند المالكية أن الأم لا تملك حق الرجوع في الهبة؛ لأن الوالد له ولاية على الولد، وهذه ليست موجودة للأم عليه، وجاء النص: (أنت ومالك لأبيك) وهل تلحق الأم بذلك أم لا؟ قالوا: وإن لحقت به في الأخذ من مال ولدها لحاجتها، فلا تلحق به في حق استرجاعه مما أعطى ولده.(225/3)
حكم العطية بين الزوجين
ثم يأتون إلى العطية بين الزوجين، فقالوا: إذا أعطى الزوج زوجته عطية فلا يحق له أن يرتجعها، والقبض والإذن في ذلك حاصل لأنهما معاً في البيت.
والمرأة إذا وهبت لزوجها هبة، قالوا: من حقها أن ترجع ومن حقها أن تمضي؛ لما جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: (النسوة يهبن رغبة ورهبة) رغبة: تستجلب محبة الزوج، ورهبة: من أن يوقع بها ما يسوءها، ومخافة أن يتزوج عليها، أو أن يسيء عشرتها، أو أن يقصر معها فيما يفعل مع زوجاته الأخريات.
قالوا: لها أن ترجع؛ لأنه يتوجه إليها الرغبة والرهبة.
إذاً: الهبة بين الزوجين: فالزوج إذا وهب لا يرجع في هبته، والزوجة إذا وهبت لها أن ترجع في هبتها؛ لأن عندها علة ليست موجودة عند الزوج، وهنا عمرة طلبت من زوجها أن يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم منحته زوجها لولدها.
يقول ابن حجر نقلاً عن بعض العلماء: هذا من شؤم التشدد والتنطع، فلو أنها قبلت عطاء زوجها لولدها لمضى الغلام في عطية الوالد، لكنها تعنتت وتشددت وطلبت أن يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ألك ولد؟) هذا كما يقولون: وجوب الاستفصال من المفتي.
إذا استفتاك إنسان وكان الموقف فيه احتمالات بين جواز الأمر أو منعه، فعليك أن تستفصل، فهنا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألك ولد؟ قال: نعم، قال: أكل ولدك منحته ذلك؟ قال: لا.
قال: ارتجعه) .
وقال: (لا أشهد على جور) .
وقال: (أشهد عليه غيري) كل هذه الألفاظ جاءت.
والذين يقولون: ليس للوالد الرجوع بالكلية في أي حالة من الحالات أجابوا عن هذه الألفاظ وهذه الروايات في هذا الحديث بأجوبة: أما عن قوله صلى الله عليه وسلم: (أشهد عليه غيري) يقول الشافعي: إن الرسول لم يعلمه بأن الهدية باطلة، ولكنه قال: أنا بصفتي رسولاً لا أشهد على مثلها، ويقولون: إنه كحاكم وقاض لا يكون شاهداً، وكما جاء عن عمر رضي الله عنه جاء رجل يحتكم إليه ويشتكي خصماً له، قال: ائتني بشهود، قال: أنت أحد الشهود، قال: أنا لا أكون شاهداً وقاضياً، إن أردتني شاهداً فتقاضى إلى غيري أشهد عنده، وإن أردتني قاضياً فأتني بشهود.
أي: أن الإنسان لا يكون في وقت واحد شاهداً وقاضياً.
وبعضهم يقول: في قوله صلى الله عليه وسلم: (أشهد عليه غيري، فإني لا أشهد على جور) يبدو والله أعلم لولا مجيء قوله: (لا أشهد على جور) ، وقوله: (أشهد عليه غيري) فيكون هناك توجيه لما هو الأفضل والأكمل؛ لأنه ثبت عندنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بادئ الأمر إذا قدم إليه ميت ليصلي عليه، سأل: أعليه دين؟ فإن قالوا: لا.
صلى، وإن قالوا: نعم.
قال: صلوا أنتم، وهنا امتناعه عن الصلاة على المدين لا يكون ذلك في الحكم على الميت، ولكن في حكم الدين الذي هو عليه، ويكون حثاً على أداء الديون قبل الوفاة، فإن توفي وعليه ديون فعلى ورثته المبادرة بسداد ديونه، وهذا أيضاً فيه مفاضلة كونه يصلي على هذا ولا يصلي على ذاك، فكذلك هنا يشهد على هذا أو لا يشهد على ذاك، ليس ما يشهد عليه في الصراحة والإباحة كالذي لا يشهد عليه.
إذاً: أقل مراتبه الكراهية.
أما لما جاء فقال له: (فإني لا أشهد على جور) والجور: الظلم، فهنا اشتد الأمر، والإجابة عليه ليست وافية، فإنهم قالوا: يكون للكراهية، ولكن الأسلوب من حيث هو يدل على النهي والنفي.
وهنا عطاء أحد الأولاد بعض المال، فهل هذا يصح أم لابد من التسوية بين الأبناء؟ سيأتي للمؤلف رحمه الله بعض النصوص في ذلك ويهمنا في حديث النعمان بن بشير أنه كان صغيراً؛ جاء في بعض الروايات ذكرها ابن عبد البر، قال: (فانطلق بي أبي يحملني إلى رسول الله) وفي بعض الروايات: (يمشي بي) وجمعوا بأنه لصغره تارة يمشي وتارة يحمله كما يفعل الأب مع ولده الصغير، يحمله شيئاً ثم ينزله ويمشي معه شيئاً آخر، إذاً: أبوه كان قد استلم مكانه، وقبض الهبة من نفسه وهذا كما يقولون بالولاية.
ولو أن أجنبياً أهدى لطفل وأبوه موجود فأبوه يقبض عنه، أو كان يتيماً وله وصي فوصيه يقبض عنه؛ لأن الصغير دون البلوغ ليست له صلاحية القبض ولا القبول، فوليه يقبل الهدية ويقول: قبلتها لفلان، ويقبضها عنه ويحوزها لديه.
وتقدم الإشارة إلى كلام مالك رحمه الله تعالى بأن القبض يكون جائزاً إلا في النقدين، فلابد أن يعزل الهبة النقدية ويجعلها في يد أمين بعيدة عنه، مخافة أن يأتي الورثة فيما بعد ويقولون: هذا مال أبينا وهو تركة عنه.(225/4)
شرح حديث: (العائد في هبته كالكلب ... )
يقول المصنف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه) متفق عليه، وفي رواية للبخاري: (ليس لنا مثل السوء، الذي يعود في هبته كالكلب يقيء ثم يرجع في قيئه) ] .
هذا الحديث أيضاً يتناوله العلماء باختلاف: (العائد في هبته كالكلب يأكل ثم يقيء ثم يعود يلعق من قيئه) هذه الصورة نجد أن بعض الناس يقول: يجوز أن يعود في هبته، طيب والكلب يعود؟ قال: الكلب ما عليه لا حلال ولا حرام، فإنه لما يقيء ثم يرجع ويلعق من قيئه ليس حراماً عليه.
إذاً: لا مانع أن يعود الإنسان مع التقبيح والكراهة.
والآخرون قالوا: لا، جاء اللفظ: (ليس لنا مثل السوء) فالرسول عندما يضرب المثل بكلب يقيء.
انظر الصورة! ليس بكلب يأكل ثم يترك ثم يعود لما كان يأكله، يعود لفريسته مرة أخرى، لا، وإنما يقيء، فكأن الذي وهب ما كانت هبته خالصة ولكن كأنها استخرجت منه بشدة، كالشخص الذي يقيء رغماً عن أنفه، فيكون حينئذ أخرجها بغير اختياره، أو أخذت منه كرهاً عليه، فحينئذ يتطلع إليها، وسيأتي في قضية فرس عمر رضي الله تعالى عنه: (لا تبتعه ولو بدرهم) .
وهنا الذي يعود في هبته عام في جميع أنواع الهبات، وفي كل من يهب شيئاً، حتى الواهب يهب ولده، فإذا رجع فيها شمله هذا الحديث.
والذين يجيزون عودة الأب في هبة الولد لأنه ملكه، قالوا: عودة الأب كحديث النعمان، قال النعمان: (فرجع أبي فارتجع تلك الصدقة) ، كان قد وهبه وأعطاه، فهذا مخصص لعموم من وهب، كأنه يقول: من وهب ثم رجع إلا الوالد إذا وهب لولده فرجع عن هبته فلا مانع.
والبعض يقول: لا، بشير لم يكن أمضى الهبة، بل كان عرض على عمرة أن يهب للنعمان غلاماً، وهي إلى الآن ما قبلت ولا أمضت الهبة، بل قالت: (لا أقبل حتى تشهد رسول الله) .
إذاً: عقد الهبة إلى الآن لم ينعقد، فكون بشير يرجع في هبته لولده غلاماً فإنه رجع قبل انعقاد عقد الهبة.
إذاً: فهذا الحديث يعم، وإنه ما كان قد أنفذ الهبة ولا كان قد قبضها باسم ولده؛ لأنه من حقه أن يقبض لولده الصغير، فقالوا: رجوعه ليس كالكلب يعود في قيئه؛ لأنه لم يكن قد أتم وأمضى الهبة بدليل أن زوجه عمرة قالت: لا أقبل.
إذاً ما تم القبول، هو أعطى وتولى القبض والقبول، قالت: (لا.
حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
إذاً: إلى الآن الهبة معلقة حتى يشهد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس هناك تخصيص للحديث، ويكون هذا الحديث عاماً في كل هبة والدا ًكان أو أخاً أو أختاً (فرجع في هبته) .
وبعضهم يقول: إنما هو في الصدقة التبرر والتطوع؛ لأن المتصدق أخرجها لوجه الله رغبة في الأجر عند الله، فلا ينبغي له أن يبطل نيته تلك وأن يفسخ عقده مع الله في تلك الصدقة، بخلاف الهبة للبشر، فإن له أن يعود فيها، ويكون الحديث على رأيهم خاص بمن تصدق بصدقة لفقير أو مسكين لوجه الله.
وتقدم لنا الفرق بين الهبة والصدقة؛ فإن الصدقة تعامل مع الله، ينتظر فيها ثواب الله، والهبة تعامل مع الإنسان ينتظر مثوبتها عند الإنسان بمجاملة أو مودة بمصانعة بتمهيد لصداقة لقضاء حاجة، هذه هي الهبة التي تدور في فلك الإنسان، من إنسان إلى آخر، ولكن الصدقة تخرج من فلك الإنسان إلى رب العزة فيتعامل مع الله.(225/5)
شرح حديث: (لا يحل لمسلم يعطي العطية ثم يرجع فيها ... )
يقول المصنف رحمه الله: [وعن ابن عمر وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لرجل مسلم أن يعطي العطية ثم يرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده) رواه أحمد والأربعة وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم] .
لا يصح لأحد أن يعطي العطية، نحن قلنا: العطية والهدية والهبة والنحلة كلها أسماء لمسمى واحد، ولا يختلف ذلك إلا مع الصدقة؛ لأن الصدقة تعامل مع الله، يرجو فيها ثواب الله، ولهذا يخفيها ولا يريد أن يطلع عليها أحد، بخلاف الهبة فإنه قد يرائي فيها ويظهر المصانعة مع الآخرين.
ولا يحق لإنسان أن يعطي العطية ثم يرجع فيها، كالحديث الأول ثم قال: (إلا) وهذا نص بالاستثناء، فهو يستثني نصاً صريحاً: (إلا الوالد إذا أعطى ولده له أن يرتجع) ، يرتجع لأي شيء؟ هل يرتجع عن أصل الهدية ويقف عنها ويلغيها، أم يرتجع ليسوي بين هذا الشخص وبين بقية إخوته؟ قول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ بشير: (اتقوا الله وسووا بين أولادكم) يقول العلماء: إما أن يعطي بقية الأولاد كما أعطى هذا الولد، وإن كان لا يوجد عنده ما يكفي لعطاء جميع الأولاد كهذا الولد ارتجع مما أعطاه لهذا الولد وكمل به ما معه ليعم العطاء لجميع الأولاد.
إذاً: الوالد قد يضطر إلى الرجوع فيما أعطى الولد؛ لتتم التسوية في عطاء الأولاد، وماعدا الوالد لا حق له في ذلك حتى الجد والأم ليس لهم الرجوع في العطية.(225/6)
شروط الرجوع في عطية الولد
تقدمت الإشارة إلى أنه إذا لم يكن هناك أولاد، وكان عطاء من الوالد لولده الواحد، فإن رجوعه فيما أعطى الولد يشترط له بعض الشروط: أن تكون العين باقية في ملك الولد، ولو أن الولد وهبها أو باعها، أو عبداً أعتقه، أو جارية أولدها، فإنه في هذه الحالات لا يملك إرجاعها؛ لأنها انتقلت من ملك الولد إلى ملك الغير، وكذلك الجارية: إذا وهب ابنه جارية فاستمتع بها وحملت منه أصبحت أم ولد، وأم الولد لا يملك سيدها أن ينقل ملكها إلى غيره؛ لأنها تعتق عند موته.
وجاء الخلاف عند الحنابلة، ونص المغني شكل، ونص كشاف القناع شكل آخر، فالمغني يقول: مالم تتعلق بالعطاء رغبة الآخرين، وأشرنا إلى هذا المعنى بأنه لما أعطى ولده العطاء رغب الناس في التعامل مع الولد؛ لأنه أصبح له مال، خطب زُوج، والفتاة تخطب من أجل ما أعطاها أبوها: (تنكح لمالها) فإذا ما تزوج الولد، وتعامل مع الناس فداينوه، وتزوجت الفتاة، فإذا بالوالد يأتي فيرجع فيما أعطى ولده، كأنه أضر بالآخرين.
الطرف الثالث الذي وجد: وهو من داين الولد من أجل عطية أبيه، ومن زوج الولد من أجل عطية أبيه، ومن تزوج البنت من أجل عطية أبيها، هؤلاء يتضررون إذا رجع الوالد في عطائه لولده، والأصل: (لا ضرر ولا ضرار) .
هذا الوجه يذكره ابن قدامة في المغني قولاً واحداً، وكشاف القناع يذكر الروايتين: ولو تعلقت به رغبة الآخرين، بهذا النص.
ولو رهنه ينتظر الوالد حتى يفك الرهن؛ لأن الرهن لا ينقل ملكية العين عن مالكها، فهو حدث يمنع التصرف في المال، والراهن بنفسه لا يحق له أن يبيع الرهن، ولا يحق له أن يعتقه إن كان عبداً أو أمة؛ لأنه متعلق بالدين الذي في ذمته، فهو رهن لوفاء الدين، فإذا باعه انتفى مقصود الرهن، فإذا كان الولد قد رهن ما أعطاه أبوه في دين عليه.
قال في الكشاف في الرواية الأخرى: ينتظر الوالد فك الرهن ثم يرتجع المرهون، ولكن المغني قدم عدم الرجوع قولاً واحداً.
ثم من شروط رجوع الوالد: أن لا يزيد العطاء في يد الولد، والزيادة تنقسم إلى قسمين: زيادة منفصلة وزيادة متصلة، فالزيادة المنفصلة كأن وهبه ناقة ثم لقحت الناقة فأنتجت وأصبح لها فصيل، وأراد الأب أن يرتجعها، قالوا: له أن يرتجع الأصل والنماء للولد؛ لأنه نماء وقع في ملكه.
أما الزيادة المتصلة التي لا يمكن فصلها، بأن كانت الناقة عجفاء، فعلفها حتى سمنت، أو كان الغلام جاهلاً عامياً فعلمه القراءة والكتابة، أو علمه صنعة، فهذه زيادة متصلة بالشخص لا يمكن فصلها عنه كفصل النتاج عن الناقة؛ فحينئذ لا يحق للأب أن يرتجع هذه الهبة؛ لأن الولد صارت له شراكة في هذه العين بقدر الزيادة التي زادت واتصلت.
كذلك من شروط رجوع الوالد في حق ولده: ألا تكون العين قد تلفت، أما إذا كانت نقصت بأن كان سميناً ثم هزل عنده فهو بالخيار؛ لأنه رضي بهذا النقص، فله أن يرتجع هبته إن أحب، وهذا كله تفصيل في رجوع الوالد فيما أعطاه لولده.
أما تملك الوالد من مال الولد ابتداء فيزاد فيه شرط آخر: وهو ألا يأخذ مال الولد هذا ليعطيه للولد ذاك؛ فالحديث بين أنه فيما أخذه لنفسه: (أنت ومالك لأبيك) ما قال: لأخيك، فإذا أخذ الوالد من مال ولده ودفعه لولد آخر فيكون قد أعطى مال الولد لأخيه وهذا لا يصح له.(225/7)
شرح حديث: (كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ... )
يقول المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها) رواه البخاري.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (وهب رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة فأثابه عليها، فقال: رضيت؟ قال: لا، فزاده، فقال: رضيت؟ قال: لا، فزاده، فقال: رضيت؟ قال: نعم) رواه أحمد وصححه ابن حبان] .
قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها) .
الهدية بالثواب في حكم البيع، إن رضي المهدي لما عوض عنها مضت وإلا ارتجعها، ولهذا الأعرابي لما أعطى لرسول الله، قال له: رضيت؟ قال: لا، قال: زيدوه، لأن البيع عن تراض، وهذا ما رضي.
وقالوا: إن الهبة للثواب جائزة عند الجميع إلا من رسول الله، لا يحق لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهب هبة ينتظر ثوابها؛ لأنه في غنى عن الخلق، ولا يطمع في زيادة من أحد؛ لأن هذا ليس من مكارم الأخلاق، أما أن يقبل ويثيب هو فهذه مكارم أخلاق.
والعادة أن الواهب مع الموهوب له ثلاث حالات: إما أن يكون مساوياً له، يعني: وهب لنظير مساوياً له، أو يكون دونه وأقل منه، أو يكون وهب لمن هو أعلى وأغنى منه، وكل هذا جائز في الهبة، فإذا كان قد وهب لمساويه، إن كان يقول: هذه هبة ثواب تعينت، وعلى الموهوب له أن يثيبه عليها وإلا ارتجع هبته، وإذا لم يسم ثواباً فهي هبة للمودة وليست للثواب؛ فالقرائن هي التي تبين ذلك.
وإن كان قد وهب لمن هو دونه، فليس من المعقول أن يهب لشخص أقل منه مالاً وجاهاً وينتظر منه أن يثيبه ويعطيه.
لكن إذا وهب لمن هو أعلى منه: يأتي إنسان لأمير من الأمراء أو تاجر من التجار أو ولي أمر أو كذا أو كذا ويهدي إليه أعواداً من الأراك، السواك موجود ومتوفر، لكن هل هو أراد أن يهاديه ليتودد إليه أو يصانعه من أجل الثواب عند الله؟ لا.
إنما تطلع لما يثيبه عليه من أهدي إليه، وجرت العادة أن من كان أعلى من المهدي لا يعاوضه مثل قيمتها وإلا ما الفائدة؟ سيذهب بها عند الآخرين.
العادة من مكارم الأخلاق أن ذوي اليسار إذا أهدى إليه إنسان فقير أن يضاعف له قيمة الهدية؛ لأن هذا هو المقصود، ولما جاء الأعرابي وأهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ناقة، قال: أعطوه، فأعطوه ثلاثاً، قال: رضيت؟ قال: لا، قال: زيدوه، ثم أعطوه ثلاثة أخرى، قال: رضيت؟ قال: لا، قال: أعطوه، فزادوه ثلاثة أخرى، فأصبح عددها تسعة، قال: رضيت؟ قال: نعم، فقال صلى الله عليه وسلم: (لقد هممت ألا أقبل هدية ثواب إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي) لماذا؟ لأنهم لا يعاملونه مثل هذه المعاملة.
إذاً: الهدية للثواب حكمها حكم البيع، وتفصيل ذلك: إنسان جاء وأهدى سيارة لمن هو أعلى منه بقصد المثوبة، فجاء وأعطاه سيارة أو وناقة، الذي أخذ السيارة جاء ليشغلها فإذا بها عيب، هل يلزمه أخذها بعيبها أم له حق الرد للعيب الموجود؟ له حق الرد؛ لأنه دفع قيمتها، فهبة الثواب يجري فيها أحكام البيع، كذلك الذي وهب السيارة وجد العطل الذي مع سيارته غير صالح، له حق أن يرجع ويرده، ويقول: أنت أعطيتني شيئاً غير صالح وعليه أن يعوضه عن هذه السيارة.
ويقولون: المعاوضة في هبة الثواب أقل حد فيها القيمة، ولكن يقولون: ليست من عادة ذوي المروءة أن يعامل المهدي الأقل كمعاملة السوق، يريد قيمتها، ما هي الفائدة إذاً؟ كونه يتعنى أن يهدي إليك بالذات ويعطيك هذه الهدية، هو يريد أكثر منها، لكن يقولون: لا يجوز أن يثيبه عليها أقل من قيمتها، والشافعي رحمه الله في الجديد عنه قال: لا تصح هبة مثوبة؛ لأنها معاوضة على مجهول، والذي يهدي لا يعلم ماذا سيعطيه المهدى إليه، فكان هناك مبايعة على غير بيع؛ ولذا نفى الشافعي رحمه الله الهبة للثواب، وقال: هذا بيع فيه جهالة في الثمن، فلا تصح، والله تعالى أعلم.(225/8)
شرح حديث: (العمرى لمن وهبت له)
يقول المصنف رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العمرى لمن وهبت له) متفق عليه، ولـ مسلم: (أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها، فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حياً وميتاً ولعقبه) وفي لفظ: (إنما العمرى التي أجازها النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشت، فإنها ترجع إلى صاحبها) ولـ أبي داود والنسائي: (لا ترقبوا ولا تعمروا فمن أرقد شيئاً أو أعمر شيئاً فهو لورثته) ] .
بعدما أتى المؤلف بإجمال مواضيع الهبة والعطية والنحلة على ما تقدم في تفصيلها، وحكم الرجوع فيها، والتسوية بين الأبناء، جاء بأحكام العمرى، وقبل أن نخرج إلى العمرى، تذكرون أن سائلاً بالأمس سأل: هل يجب على الوالد أن يساوي بين أولاده بالنفقة أم لا؟ موضوع المساواة بين الأبناء إنما هو في العطاء، (أكل ولدك نحلته مثل هذا؟) أعطيتهم مثل هذا، أما النفقة فليست عطاء.
النفقة أداء واجب، وأداء الواجب يكون بقدر ما يؤدى به هذا الواجب، إذا كان عنده ولد طالب في الجامعة، وعنده ولد طالب في الابتدائي، هذا الطالب الذي في الابتدائي هل يحتاج من النفقة والمصاريف ولوازم الدراسة بقدر ما يحتاج طالب الجامعة؟ لا يحتاج.
فهل نقول: نعطي الصغير بقدر ما نعطي الكبير لأجل المساواة؟ لا، فالمساواة هنا إيفاء كل ذي حق حقه، فلا يقصر مع الطالب الجامعي لكثرة نفقته، ولا يغدق على الطالب الابتدائي لقلة مئونته، بل يعطيه، اليوم بدأت الدراسة، يريد حقيبة، يريد دفاتر، يريد كتباً، يريد مسطرة، هذه الأشياء يحضرها له، لكن طالب الجامعة يريد مواصلات، وربما احتاج إلى سكنى، وإلى ملابس فطلباته أكثر وأوفر، وكذلك البنات: البنت الصغيرة في سنة أولى والبنت الكبيرة في الجامعة، فكل من الأولاد له حق، وحقه إعطاؤه ما يفي مطالبه، فلا يقصر مع الكبير ولا يسرف مع الصغير؛ لأن الصغير في طريقه إلى ما وصل إليه الكبير، وسيأخذ كما أخذ الكبير.
بقي هنا مسألة وإن لم يأت السؤال فيها فهي تفرض نفسها، فيما إذا كان للوالد خمسة أولاد: ثلاثة ذكور وبنتان، فزوج من الأولاد ولدين وبقي ولد، وزوج من البنات بنتاً وبقيت بنت، اللذان زوجهما أبوهما بقي الثالث، هل من حقه أن يفرد هذا الولد الثالث بشيء يساعده على الزواج كما زوج الولدين؟ وهل يعطي البنت التي لم تتزوج ما يساعدها في زواجها كما زوج الأولى؟ تقدمت القاعدة العامة: هل يجوز للوالد أن يفاضل بين أولاده لوصف قائم؟ جاءت النصوص عند الحنابلة أيضاً بأن الوالد له أن يفاضل بين أولاده خاصة لوصف قائم بأحدهم، وأشرنا إلى ذلك سابقاً بأن كان ذا عائلة أو كان مريضاً زمناً لا يقوى على العمل بأن كان متفرغاً لطلب العلم، فللوالد أن يميزه عن بعض إخوانه في العطاء، إذا أعطى إخوانه عشرة يعطي واحداً من هؤلاء عشريناً.
ثم هناك من يقول: التسوية في الحالة العادية، لو أعطى الولد عطاءً زائداً ثم أراد أن يسوي بين الآخرين، على أي قياس؟ فبعضهم يقول: على قياس قسمة التركة: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] ، والبعض يقول: لا، هذا كميراث حق الله، وهذا عطاء من الوالد، فالبنت والولد في ذلك سواء، وجاء حديث عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعدلوا وسووا، ولو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء على الرجال) والآخرون يضعفون هذا الأثر ويقولون: الولد أحق بالمفاضلة من البنت؛ لأن الولد سيلحقه غرم في الزواج فسيدفع صداقاً للزوجة، وسينفق عليها وعلى أولاده منها، أما أخته -أي: البنت- فلا تطالب بشيء من ذلك، تأخذ حصتها من الميراث وتتزوج وتأخذ صداقاً، وتجد من ينفق عليها، ولا تكلف بشيء من ذلك.
إذاً: قسمة الميراث راعت حق الولد أو الذكر لما يتبعه من تبعات في الحياة.
إذاً: لو كان أحد الأولاد به صفة يحتاج بها إلى مفاضلة فإنه لا مانع في ذلك، وإن كانت الرواية الأخرى في الكشاف عند الحنابلة: مهما كان وصفه لا يفاضل به، ولكن الحاجة تعطى، حتى ذكر لو أنه زوج ابنته فجهزها فأعطاها عليه أن يعطي أولاده مثلما أعطاها، وهذا ذاهب للعروس ليس لنا دخل فيه، ولكن يعطيها لكونها انتقلت من بيته إلى بيت آخر، لكونها تبتعد عنه، فلابد أن يسوي بهذا العطاء بقية إخوانها، وبالله تعالى التوفيق.(225/9)
كتاب البيوع - باب الهبة العمرى والرقبى [2]
لقد نهى الشرع عن الرجوع في الهبة أو الهدية أو الصدقة؛ لأنها ليست من الصفات المحمودة، ولما يترتب على إنفاذ الهدية أو الهبة من مصالح محمودة، فهي تزرع المحبة والمودة وتسل السخيمة والبغضاء من النفوس.(226/1)
شرح حديث: (حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه ... )
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد فيقول: المصنف رحمه الله: [وعن عمر قال: (حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه صاحبه، فظننت أنه بائعه برخص، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال: لا تبتعه وإن أعطاكه بدرهم) الحديث متفق عليه] .
هذا الحديث أعتقد أنه كان ترتيبه الطبيعي مع أحاديث الباب قبل قضية العمرى والرقبى، ولكن له علاقة بالعمرى والرقبى التي كانت موجودة في استرجاعها، فـ عمر رضي الله عنه يقول: (حملت على فرس في سبيل الله) بمعنى: أنه وجد إنساناً رغب في الجهاد، ولم يجد ما يبلغه أو ما يركبه فيساعده على القتال، فأعطاه فرساً من عنده يحمله عليه: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَناً} [التوبة:92] ما عندهم شيء يوصلهم، ونعلم قلة الظهر في السابق في غزوة بدر كان الثلاثة والأربعة يتعاقبون على بعير واحد، فلو كانت متوفرة لكان كل واحد ببعيره، فالمسافة ما يقارب مائة وخمسين كيلو، فـ عمر رضي الله عنه فعل ذلك من باب الجهاد في سبيل الله بالنفس وبالمال، ثم نظر إلى فرسه عند من كان حمله عليه، (فأضاعه) ، وكلمة الضياع تطلق على التلاشي، تقول: ضاع الكتاب ضاع القلم ضاع الدفتر يعني: ليس عندك، فيكون في يدك وتقول: ضاع، يقولون: (ضاع) تصرف إلى معنى: أهمله كأنه ضيعه، أي: قلّت الاستفادة منه بسبب إهماله، والفرس يضيّع؟ نعم، مئونة الفرس للجهاد في سبيل الله مئونة شاقة، كما قالت أسماء رضي الله عنها عندما لحقها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه جماعة من طريق الغابة، وهي تحمل النوى على رأسها، فلما عرفها أشفق عليها وأناخ راحلته ليردفها خلفه، تقول: تذكرت غيرة الزبير، فاستحييت وامتنعت، فأخذ مني قفة النوى وحملها عني، ثم قالت: والله ما أرهقني إلا فرس الزبير.
خدمته وعلفه وسقيه، والآن نجد بعض الهواة للخيل يجعلون له خادماً وسايساً ومنظفاً.
يعني: يمكن ثلاثة أشخاص يخدمون الفرس، وهذا للعناية به، والفرس حساس نظيف، يحب النظافة والأناقة والطرب، فيحتاج إلى خدمة، فإذا ما قصر صاحبه فيه أضاعه، والفرس لا يألف المكان غير النظيف، ولا يألف على طول المدة دون أن يغتسل ويغسل، وهكذا كما يقولون: أرقى النباتات النخلة، وأرقى الحيوانات الفرس، فهو أرقى الحيوانات وأذكاها.
نأتي إلى قول عمر: (فأضاعه) لا شك أن عمر لديه الإمكانيات لعلف الفرس ولخدمته، ولما يتناسب مع مهمته، فلما حمل عليه شخصاً الأصل أنه فقير لا يجد ما يركب عليه، إذا أعطي فرساً أصيلة مخدومة ليس بإمكانياته أن يوفيها حقها.
إذاً: ضاعت فعز على عمر أن يرى فرسه المدلل، أو يرى فرسه المخدوم المعلوف المتميز مهملاً مضيعاً ولا يؤدي مهمته، والعرب كانت تعنى بالخيل قبيل المعارك بالتضمير.
أي: يضمرها، كما عندنا في السباق: (سابق بين الخيل المضمرة من ثنية الوداع إلى الحفياء، وبين الخيل غير المضمرة من الثنية إلى مسجد بني زريق) فالمضمرة شيء وغير المضمرة شيء آخر، وتضمير الخيل: هو أن يعطى العلف متى ما شاء، دائماً يأكل حتى يشبع ببطر، ثم قبل المعركة يؤخذ هذا الفرس ويجلل بالثياب المتينة الصوف، ثم يوضع في غرفة قليلة التهوية؛ ليعرق بلباسه عليه وضيق الغرفة، فيخرج من ضخامة بدنه السيولة، كما يقولون: الماء من داخل الجسم في العرق الذي يخرج ويفرزه، فيحتفظ بقوة عضلاته، ويتخلى عن فضلات جسمه فيما يخرج من أملاح ومياه في العرق.
فهذه خيل مضمرة.
يعني: صارت ضامرة بعدما كانت سمينة متينة.
أي: صارت نحيفة مع الاحتفاظ بقوتها، فأهل الخيل يعتنون بها إلى حد بعيد، حتى في بعض ضواحي الشرقية، عندهم للفرس الحرة سجل تاريخ، كشهادة ميلاد الإنسان، متى ولدت؟ ومتى لقحت؟ ومن الذي لقحها؟ خيل من عند مِن؟ وأمها من؟ وهكذا يؤرخون للفرس تأريخهم للولد، بل الأولاد في البادية ليس عندهم شهادة ميلاد، لكن يحفظون تاريخ ميلاد أولادهم، أما الفرس فيكتبون؛ حتى إذا أرادوا بيعها ينتقل معها سجلها.
وهكذا عناية العرب بالخيل، فأراد عمر رضي الله تعالى عنه أن يتدارك فرسه الذي يعرف أصالته، ولكن هذه الخصيصة التي أكرم بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعلهم مدرسة لنا ينقلون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأحكام في الصغيرة والكبيرة، هذا عمر يريد أن يشتري فرساً، وما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا؟ قال: لا.
لابد أن أذهب فأسأل الرسول صلى الله عليه وسلم حيث أني كنت قد حملت عليها في سبيل الله، هل في شرائي إياها بعد ذلك فيه شيء؟ وهذه النعمة الكبرى التي امتن الله بها على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل قضية النعمان وأمه وأبيه بشير بن سعد في المنحة، قالت: لا.
اذهب وأشهد عليه رسول الله، وهكذا كانوا يدخلون رسول الله صلى الله عليه وسلم في المشورة في الاستئذان في الفتوى، وكان بين ظهرانيهم يجيبهم عن كل ما سألوه عنه، وتجمع ذلك كله وانتقل إلينا تشريعاً للأمة، وأصبح كل من منح ولده دون بقية الأولاد هو بعينه بشير، وأصبح كل من تصدق بشيء ثم رآه مضيعاً وأراد أن يشتريه هو عمر بن الخطاب في فرسه، وتصبح هذه قواعد عامة وتشريعات للأمة في تلك الأحداث الصغيرة.
لما سأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا قال له؟ قال: (لا.
تبتعه) وباع وابتاع وشرى واشترى، كلها ألفاظ تأتي بمعنى البيع والشراء.
(باع) بمعنى: أعطى السلعة، ابتاع بمعنى: أخذها، شرى كذلك، واشترى، كلاهما بمعنى الإعطاء والأخذ: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف:20] أي: باعوه.
اشتراه: يعني: أخذه، (لا تأخذه لا تشتره لا تسترده وإن أعطاكه بدرهم) ، وما هذا يا رسول الله؟ هل هناك من يبيع فرساً بدرهم؟ ممكن هذا؟ عمر عظم في نفسه ضياع فرسه الذي يعرف أصالته فنفسه متعلقة به.
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (وإن أعطاكه بدرهم) أي: ولو باعك إياه بأقل الأثمان، ليحط من تعلق عمر به، فيقابل شدة تعلق عمر بفرسه بقلة الثمن الذي يمكن أن يبيعه به صاحبه، وهذا أسلوب نبوي كريم يقابل المبالغة بنظيرها، (لا يفل الحديد إلا الحديد) .
وهنا لعل إنساناً يكون عنده فضول ويتساءل: هو ما قال له: أعطني الفرس الذي أعطيتك إياه فضيعته، وإنما قال: أشتريه، وذاك الذي أعطي الفرس وضيعه من حقه أن يبيعه في السوق لأي إنسان؛ لأنه ملكه، فإذا كان من حقه أن يبيعه، ومن حق أي إنسان أن يشتريه، فما الذي يمنع عمر وهو صاحبه الأول بأن يكون هو المشتري إذا جئنا إلى المعادلة العقلية؟ نجد أنه لا فرق بين عمر في كونه يشتريه ممن هو في يده وبين غيره؛ لأنه بيع وشراء، قالوا: لا، هناك فرق؛ كون عمر هو الذي أعطى هذا الشخص وحمله عليه، سيجد صاحب الفرس الجديد أن لـ عمر عليه فضل، فعندما يقول صاحب الفرس الذي بيده: بمائة، فيقول عمر: لا، بخمسين، ماذا يقول الذي بيده الفرس؟ يماكس مع عمر، أما لسان حال عمر: أنا ما برحت أعطيتك إياه، فيضطر عند البيع أن يجامل عمر، وأن يتنازل عن بعض حقه، وهذا ليس من الإنصاف، لكن لو جاء إنسان آخر وقال: بتسعة وتسعين، قال: لا.
فله الحق في ذلك؛ لأن الذي يسوم ليس له علاقة في هذه العين التي تباع.
الشيء الثاني وهو الأهم: أن هذا الشخص لو باع الفرس لزيد، وأراد عمر أن يشتريه من زيد قيل له: لا.
لأن الأصل أنه منك، والمعنى الأساسي في هذا الموضوع: ما الذي جعل عمر يتأسف على ضياع الفرس؟ ارتباطه به في الماضي.
إذاً: حينما حمل عليه، هل انقطعت علاقته حساً ومعنى ورغبة ورهبة عن الفرس أم حمله وعينه تتطلع فيه؟ حمله وكل ما مر به نظر إليه، حمل عليه وكلما تذكره تذكر ماضيه.
إذاً: تعلق نفس عمر بالفرس، وهذا يشير كونه تصدق به؛ لأن المتصدق يتصدق لوجه الله، فينبغي أن يخرج الصدقة من يده ومن قلبه وماله، ولا تكون لها أي علاقة بالمتصدق، فيكون أخرجها من ملكه، وفكره، وحسبانه.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يقطع على عمر خط الرجعة في أن يفكر أنه كان له فرس لتمضي الهبة لوجه الله خالصة، ويجب أن تنقطع العلائق كلها من هذه الصدقة التي تصدق بها لوجه الله، وبقية الحديث هو الذي جاء فيه: (لا تبتعه وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في هبته كالكلب) إلى آخر الحديث.
وهنا يسأل بعض العلماء يقول: (العائد) وهل عمر عاد في هبته أم اشتراها؟ اشتراها، ونتيجة الشراء، فإنه لو اشترى الفرس سيكون عاد إليه بأي وسيلة، حتى لو جاء يهديه إليك هدية لا تقبلها؛ لأنه خرج من ذمتك ويدك، اللهم إلا الأمور التي ليست عن طلب ولا عن رغبة، وجرت عادة الناس فيها، كما يذكرون في باب الزكاة والصدقات، جاء رمضان وجاء وقت زكاة الفطرة وأخرجت زكاة فطرتك لجارك، ثم جئت يوم العيد تزور جارك، فقدم لك حسب العادة وحسب ما يقدم للآخرين (الدلة) والتمر، فجئت أنت وصب لك القهوة وقدم إليك التمر، فإذا به تمر زكاتك الذي أعطيته بالأمس، هل تأكل منه بحكم الضيافة أو تقول: لا، العائد في هبته؟ تأكل منه، وهل عندما تأكل منه يكون هذا عود في صدقتك أم قبول إكرام جارك إليك، سواء كان بتمرك أم بتمر غيرك، فحينئذ لا تكون عائداً في صدقتك.(226/2)
شرح حديث: (تهادوا تحابوا)
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تهادوا تحابوا) رواه البخاري في الأدب المفرد وأبو يعلى بإسناد حسن] .
الأدب المفرد هو للبخاري، وهو من أنفس الكتب في الآداب، يورد أحاديث بر الوالدين وحكم الجوار، والرفق بالضعيف، وأشياء كثيرة في الآداب والأخلاق، كما فعل مالك رحمه الله في الكتاب الجامع في آخر الموطأ، وهكذا بعض العلماء إذا انتهى من تأليفه في باب الفقه والأحكام -حلال وحرام- يأتي بمجموعة من الآداب والذكر، حتى في كتابنا هذا بلوغ المرام، في آخره يأتي باب الذكر والدعاء، ليرقق النفس ويهذبها، ويربط الإنسان بربه في دعائه وفي حاجته، وكذلك البخاري رحمه الله جعل هذا الكتاب في مكارم الأخلاق والآداب، الذي هو الأدب المفرد.(226/3)
الهدية سبب في زرع المودة
وفي هذا الحديث: (تهادوا تحابوا) الهدية من حيث هي سلاح المودة، ومراسيل التعاطف والتقارب والتآلف، وأعتقد أن كلنا يعلم ما فعلت بلقيس مع نبينا سليمان: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} [النمل:35] جماعتها يقولون: {نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل:33] فنحن مستعدون! قالت: لا، هذا السلاح للمعركة، في وقت الشدة، ولكن الهدية سلاح الحرب الباردة، وسلاح التعاطف والمودة -نجس النبض- وكانت الأمم قديماً في العادات والتقاليد، إذا أرادت أسرة أن تناسب أسرة أخرى وتخطب منها قبل ما تتقدم بالخطبة ويعتذرون بالدراسة، لكنها أعذار جحا كما يقال، ويتعللون بعلل! كانوا قبل ما يقدمون على ذلك ويرسلون المراسيل لخطبة الفتاة يرسلون أولاً بهدية إليهم، يقول الكاتب: ولو حزمة ثوم، فهي مجرد هدية، وهم يعلمون أنه ما في هدايا فيما بينهم، فإن قبلوا هديتهم ولو على قلتها معناها تفضلوا أهلاً وسهلاً، فيتقدمون للخطبة، وإذا ردوها وقالوا: نحن عندنا ما نحتاج معناه: كونوا بعيداً لا تقتربوا.
فكانت الهدية هي عنوان التقارب.(226/4)
الهدية إلى الكافر وقبولها منه
الرسول صلى الله عليه وسلم لما أرسل الرسل بالكتب، وجاء حاطب إلى المقوقس بالإسكندرية رحب به وحصل معه محادثة لطيفة، من ضمن ما كلمه، قال: ألست تقول أن محمداً رسول الله وهو في عنايته وكذا وكذا؟ قال: بلى، قال: كيف يكون حبيب الله ورسول الله ويتركه لأهل مكة يخرجونه هارباً ليلاً؟ يعني: لماذا لم يحمه ولم يدافع عنه؟ قال له: أيها الملك! ألست تؤمن بالنصرانية؟ قال: بلى، قال: ألست تقول بأن عيسى ابن الله؟ قال: بلى، قال: كيف أن أباه تركه لليهود يصلبونه ولم يدافع عنه؟ فقال: حكيم جاء من عند حكيم، وهذه الأجوبة المسكتة، والعامة يقولون: إذا أرسلت فأرسل حكيماً.
فـ المقوقس أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم جاريتين وحللٍ للبس، وخفاف، وشيئاً من الطيب، وبغلة، وقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا تجد الفقهاء يعتنون بمسألة: الإهداء إلى ومن الكافر: أتهدي إلى الكافر؟ نعم، أتقبل هدية الكافر؟ نعم.
وقد جاء في الإهداء إلى الكافر: عمر رضي الله عنه لما رأى حلة تباع وأعجبته وجاء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: اشترها لتلبسها للوفود، فنظر فيها وردها ثم قال: (إنما يلبس هذا من لا خلاق له) يعني: قماشها فيه شيء من الحرير، ثم بعد فترة أرسل رسول الله إلى عمر حلة من نفس ذلك القماش، فجاء عمر يجري، فيقول: قلت يا رسول الله: (إنما يلبس هذا من لا خلاق له) وترسل لي بها! معناه: أنا لا خلاق لي، قال: لا يا عمر، أنت أخطأت في المقدمات، ليس معنى إرسالي إياها إليك لتلبسها، ولكن لتتملكها، وألبسها من شئت، فأرسل بها إلى أخيه بمكة وهو على دين قومه.
وهكذا في بعض سفراته صلى الله عليه وسلم، نزل منزلاً وجاء أعرابي يسوق غنماً، فقال له صلى الله عليه وسلم: هدية أم بيعاً؟ قال: لا.
بل بيع، فاشترى منه شاة، وسأل أصحابه من عنده طعام، وكذا وكذا، وصنعوا طعاماً وأكلوا جميعاً وبقي الباقي في القصعة.
يهمنا قبول الهدية من المشرك والإهداء إليه ما لم يكن حربياً؛ لعموم قوله سبحانه: {لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8] وخاصة إذا كان ذا رحم فلا مانع.
فالهدية من قديم موجودة متداولة بين الملوك وبين الأشخاص العاديين، وهنا يبين لنا صلى الله عليه وسلم مهمة الهدية بين الناس، وإذا تأملنا جميع التشريعات في الإسلام كالعبادات والتبرعات نجد أن لكل عمل مهمة، مثل الفيتمينات، كل فيتمين له غرض خاص , كذلك هنا الصلاة تنهى عن الفحشاء، والزكاة تطهر وتزكي العبد والمال، والصيام يزيد من التقوى، والحج فيه منافع لهم، وكل هذه العبادات فيها منافع للأمة، وكذلك الهدية.
وعلمنا بأن قانون الحياة معاوضة، والهدية عوضها إما أن ينتظر مصانعةً، والرسول بين لنا فقال: (تهادوا تحابوا) فالهدية تورث المحبة؛ وجبلت النفوس على حب من يحسن إليها، والهدية من الإحسان، وهذا جزء من حديث: (والله لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا) ثم بين صلى الله عليه وسلم فقال: (ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) .
والهدية -كما يقولون- تكون بمناسبة وبغير مناسبة، والعامة يقولون: الهدية على قدر مهديها، غترة تلبسها، زميلك في الدراسة سافر في العطلة، وعندما أتى أهدى لك غترة، أو مدير الجامعة سر بنشاطك، وأعجب باستقامتك ومثاليتك في الطلاب، فقدم إليك غترة، فهل غترة زميلك التي جاء بها كغترة مدير الجامعة؟ هي هي! نفس القيمة والمقاس! لكن هذه حق مدير الجامعة! هذه والله أنا ما اشتريتها، بل أهداها لي مدير الجامعة!! إذاً: على قدر مهديها؛ لأنه عندما تذكرك في غيبتك وفكر في أن يهدي إليك.
إذاً: أنت حاضر في خاطره، ما غبت عنه، ذكرك بالخير في الغيبة.
إذاً: هذا يورث المحبة (تهادوا تحابو) .(226/5)
شرح حديث: (تهادوا فإن الهدية تسل السخيمة ... )
قال المصنف رحمه الله: [وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تهادوا فإن الهدية تسل السخيمة) رواه البزار بإسناد ضعيف] .
الهدية تسل السخيمة، والضغينة كلها وحر في الصدر، حقد حسد كراهية نفرة، موجودة بين إنسان وإنسان، فإذا فوجئت بهدية من شخص تكرهه وفي صدرك منه شيء، فوجئت به يقدم لك عود الأراك، ويقول: تفضل هذا سواك جديد، تجد أن هذا العود اليابس الذي تنظف فيه فاك له أثر في نفسك، يخفف من غليان الصدر وحقده، فإذا به غداً يعطيك قارورة عطر، والله هذه مسحت الماضي وعطرت المكان، وهكذا كلما تداول الناس الهدايا فيما بينهم كانت أدعى لسلامة الصدر، والبادئ هو الأكرم.(226/6)
شرح حديث: (لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة)
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا نساء المسلمات! لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة) متفق عليه] .
: (يا نساء المؤمنات! لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة) الفرسن: ما بين الظلفين، والبعض يقول: رجل الغنمة، والآن هي تباع في السوق الواحدة بريالين أو بريال لكنها مستوية كاملة، فإذا كنت تريدين الإهداء إلى جارتك وما عندك شيء إلا فرسن شاة فلا تحتقرينه، وفي بعض الروايات: (ولو ظلفأً محرقاً) الذي هو مقدم الشاة تحرقه من أجل الصوف الذي فيه أو الظلف الغروي الموجود على الحافر ينزل ويبقى اللحم، وهذه من محقرات الأمور، يبين صلى الله عليه وسلم أن على الجارة أن لا تحتقر شيئاً تقدمه لجارتها.
معناه: أنت أيها الإنسان! إذا أردت أن تهدي لا تحتقر ما عندك، وقدم ما بيدك فإن الكل صغيراً كان أو كبيراً داخل في جنس الهدية.
ونحن نعلم قصة عائشة في حبة العنب، مرت امرأة مسكينة وهي تأكل حبات عنب، فأعطتها حبة، فأخذتها وظلت تطالع فيها تتعجب من الموازين المادية، فقالت: أتعجبين من هذا! كم فيها من ذرة، والله تعالى يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه} [الزلزلة:7] وكذلك التمرة التي شقتها الأم وأعطتها لطفلتيها، ويقول صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) لا أحد يتصدق بتمرة إلا إذا كان ما عنده شيء.
إذاً: لا يحتقر الإنسان شيئاً يقدمه لصديقه، وبالتالي لا يحتقرن الصديق شيئاً أهدي إليه من صديقه، طالت غيبته ثم جاء على عود أراك، فلا تنظر إلى هذا العود، بل انظر إلى الدوافع، حينما أتى إلى بائع الأراك واشترى باسمك أليست هذه تكفيك؟! كونه عود صغير أو كبير، هذا شيء آخر.
إذاً: لا تحقرن جارة لجارتها، ولا جارة من جارتها، ولذا جاء في الحديث: (إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك) تطبخين دجاجة أو وصلة لحم املئي القدر ووزعي على الجيران مرقاً.
على كل: كلما كانت الحياة مبسطة كانت أمورها بسيطة، وكنا نحن من قبل نقدم صحناً أو صحنين ويأكل الإنسان ويشبع والحمد لله، واليوم الحمد لله من أصناف الطعام لا يعلمها إلا الله، نسأل الله أن يرزقنا شكر النعمة، وأن يحفظها علينا، الموالح أصناف والحمضيات أصناف، والخضروات أصناف، وكل هذا، أصبح الإنسان يقدم فخذاً من حيوان أو شاة أو غيرها، ويستقلها! ولكن حينما كانوا يبحثون عن التمرة فلا يجدونها، لو أهدي لأحدهم فرسن شاة لفرح به، وليس المقصود فرسن الشاة بعينه، ولكنه ضرب المثل فلا تحتقر من المعروف شيئاً بأن تقدمه لأخيك.
يقولون: إن بعض الأمراء أرسل إلى بعض التجار لكي يستلف منه مبلغاً، فذهب إليه الرسول، فقال: نعم، لنذهب إلى البيت فهذا التاجر المطلوب منه مشى ووجد جلدة شاة مرمية في الأرض على طريقه، فأخذها ونتف منها الصوف وهو ماشٍ ثم أخذ الجلد في جيبه، فجعل يغزل هذا الصوف الذي نتفه حتى صنع منه خيطاً طويلاً ووضعه في جيبه، والرسول يتعجب، هذا الذي بعثني إليه الأمير بكذا كذا دينار وهو يلتقط هذه الأشياء في الطريق؟! فلما وصلا البيت قال: أمعك كيس؟ قال: بلى، قال: هاته، فنظر فإذا الكيس مخروق، فأخذ تلك الجلدة ووضعها على هذا الخرق، وأخذ ذلك الصوف الذي غزله وأتى بالمسلة وخيطها، فعجبت حينئذ كيف جمع المال، استفاد منها.
فهكذا الإنسان لا يحتقر الشيء، والنبي صلى الله عليه وسلم لما وجد شاة ميمونة يجرونها قال: (هلا انتفعتم بإهابها) فلابد من الاستفادة من كل ما يمكن الاستفادة منه.
وفي خلافة عمر رضي الله عنه أقام مأدبة للناس في المسجد بطعام من عنده، وأثناء تناولهم للطعام، جاء مرسول من كردستان أو كذا، فجاء وقال: أين أمير المؤمنين عمر؟ قالوا: هذا هو، جاءه فسأله عن البلاد، قال: أرضهم وعرة وليست بسهلة، ماؤها وشل، وعدوها بطل، قال: أنا أسألك أم تسجع لي؟ قال: أخبرني عنها، قال له بأن الله فتحها على المسلمين وأرسلوني بصفاياها إليك - الصفي والمرباع يكون لرئيس القبيلة أو لقائد الجيش، أو له أن يصطفي من عموم الغنيمة ما طاب له دون القسمة، فأرسلوا له ببعض التحف من الغنائم، فقال: أمسكه معك، وبعد العصر نلتقي، ثم قال له: اجلس كل مع الناس، قال: أكلت، ووالله لطعامي الذي في مزودتي للسفر خير مما أمامهم، ثم قال: هلم إلى البيت، فذهب ونادى زوجه أن تأتيه بغدائه، ما كان أكل مع الناس، فجاءته بطعام، فقال له: اجلس فكل، فقال: والله لطعامي الذي في مزودتي للسفر خير مما قدم إليك.
ماذا نقول في هذا المستوى؟ إنسان مسافر، والزاد الذي في المزودة للسفر أفضل من الطعام الذي يقدم في بيت أمير المؤمنين، وهو صانع مأدبة للناس في المسجد.
إذاً: تفاوت في الحياة في هذه الأمور، قد تجعل في النظرة للهدية فوارق، ولكن ينبغي ألا يكون ذلك مدعاة لعدم تقدير الهدية، ولا يكون مدعاة لردها لحقارتها، بل يجب أن تكون النفس عالية، والنظر إلى مهديها وظروف الإهداء، وأن يكون لها وقع عند صاحبها.
ويذكر مالك في الموطأ: أنه كانت امرأة في ذي الحليفة، كل يوم أربعاء تأخذ السُلت وتطبخه في قدر وتأتي بالشعير وتخبزه لطلبة العلم.
يقول: كنا نعد لذلك اليوم، تعد لماذا؟ أهي وليمة الملك؟ السُلت أقل من الشعير، وخبز من الشعير، يوضع عليه قليل من هذا السلت، ويقول: كنا نعد لهذا اليوم، ولكنهم كانوا راضين بحياتهم ومقتنعين.
فهذه بعض نماذج وأمثلة لما كان عليه بعض السلف، وفي بعض الحالات لعلنا نخفف من هذا التغالي والتنافس في أنواع الموائد والأطعمة، ونسأل الله أن يرزقنا شكر النعمة، وأن يحفظها علينا، وأن يديمها لنا، إنه سميع مجيب!(226/7)
شرح حديث: (من وهب هبة فهو أحق بها ... )
قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من وهب هبة فهو أحق بها مالم يثب عليها) رواه الحاكم وصححه، والمحفوظ من رواية ابن عمر عن عمر قوله] .(226/8)
الهدية المقرونة بالعوض والثواب
هذه هبة الثواب: (من وهب هبة) عامة في كل ما تقدم (ما لم يثب) خصصت نوع الهبة (فهو أحق بها مالم يثب عليها) .
إذا قدمها لمن هو أعلى منه وينتظر منه المثوبة عليها، فإذا خاب ظنه ما أعطاه شيئاً، يقول: أرجعها وهو أحق بها؛ لأنه قدمها كسلعة تثمن وكسلعة يعوض عليها أكثر من قيمتها، وهذا هو مبدؤه، وعلى هذا دفعها برضاه، فإذا لم يحصل على الثواب، تكون أخذت منه بغير طيب نفس، والإسلام حرم مال الأخ على أخيه إلا بطيب نفس.
(والمحفوظ من رواية ابن عمر عن عمر قوله) .
إما من كلام عمر أو من قوله صلى الله عليه وسلم، كل ذلك من باب التشريع، وعمر ممن أمرنا أن نأخذ عنهم رضوان الله تعالى عليه.
وبالله تعالى التوفيق.(226/9)
كتاب البيوع - باب اللقطة
لقد عالج الشرع الكثير من الجوانب الاجتماعية بين الناس، ومن تلك الجوانب: اللقطة التي تضيع من الإنسان بسبب الزحام أو الذهول عنها لأمر ما، وقد قنن الشرع لتلك الحوادث أحكاماً، منها: جواز أخذ الحقير منها، وما لا تتبعه همة من أضاعه، وأما في الأمور العظيمة فقد ألزم الملتقط بأمور منها: أن يعرف أماراتها من عفاص ووكاء ونحوه، ثم يعرفها سنة، ويشهد ذوي عدل على أماراتها، وأما في ضالة الحيوان فقد قسمها إلى قسمين: قسم يعتدي عليها الذئاب فأجاز أخذها، وقسم تدافع عن نفسها، وتصبر على جوعها وعطشها فأمر بتركها، ومن أهم ما ينهى عنه من اللقطة: لقطة الحاج والمعاهد، فهي سواء في حكمها مع لقطة المسافر، ولا يجوز أخذها.(227/1)
شرح حديث: (مر النبي صلى الله عليه وسلم بتمرة في الطريق ... )
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن أنس قال: (مر النبي الله صلى الله عليه وسلم بتمرة في الطريق فقال: لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها) متفق عليه] .(227/2)
حكم لقطة الأشياء المحتقرة
المؤلف رحمه الله صدَّر هذا الباب بحديث التمرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد تمرة في الطريق) .
أي: الطريق المعهود، وليست في خلاء ولا خراب، وقولنا: (في الطريق المعهود) .
أي: مظنة أنها وقعت من إنسان مر بهذا الطريق، فقال صلى الله عليه وسلم: (لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها) .
بدأ المؤلف بهذا الحديث ليبين: أن الشيء التافه لا يدخل في حكم اللقطة في تعريفها وتملكها وغير ذلك، وأن التمرة لو سقطت من إنسان لن يعود ليبحث عنها، فهي تمرة من ضمن التمر، وهذا أمر بسيط؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يقول معللاً ذلك بأمر خارجي: (لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها) ، لماذا؟ لأن الصدقة محرمة عليه، فتورعاً وتخفظاً من المحرم عليه امتنع من أكلها، ولو علم أنها ليست صدقة لأكلها.
وكيف يأكلها وهي ملك للغير؟ قالوا: يلتقطها؛ لأنها أمر تافه.
إذاً: التافه ليس من باب اللقطة، ولا يحتاج إلى تعريف.
ويذكرون عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها: أنها وجدت تمرة في الطريق، فأخذتها فأكلتها وقالت: (إن الله لا يحب الفساد) ، يعني: لو تركتها لفسدت، ووطئها الناس، وجاء عليها الغبار وتلفت ولم يُستفد منها أحد، وهي لا تحرم عليها الصدقة.
ومن ناحية أخرى: كونه صلى الله عليه وسلم يلتقط تمرة ويمتنع من أن يأكلها، فأين يذهب بها؟ قالوا: كما جرت العادة في أصغر طفل أو إنسان يواجهه -ممن لا تحرم عليه الصدقة- يعطيه إياها، كما كانوا في المدينة من عادتهم إذا جاءت باكورة الثمرة في أول مجيء الصيف ظهرت كالتين؛ والحماط نضجت حبة منه، يأتون بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحاً بوجودها، علماً منهم أنه يفرح بفرحهم، وليدعو لهم، وحينما يعطوه إياها هل يستأثر بها لنفسه؟ لا.
أو يردها على من أتى بها؟ لا.
بل ينظر إلى أصغر الموجودين في المجلس فيقدمها إليه.
وكنت قد وقفت منذ زمن على خبر مثل هذا: (أن الحسن رضي الله تعالى عنه كان يمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى تمرة في الأرض فالتقطها ليأكلها) .
وهذا شيء طبيعي؛ لأن الطفل لا يعرف إلا ما ألقت يده إلى فمه، سواء كان نافعاً أو غير نافع، (فأدخل صلى الله عليه وسلم إصبعه في فيه، وهو يقول: كخ كخ- لأن هذه لغة الطفل- ويخرج التمرة من فيه ويقول: أخشى أن تكون من تمر الصدقة) .
إذاً: الصغير لا يقره وليه على التقاط ما لا يجوز أكله، أو على أكل ما لا يجوز له في حكمه شرعاً، وإن كان صغيراً ليس عليه تكليف، لأن وليه مسئول عنه.
ومن هنا قالوا: من وجد شيئاً تافهاً لا تتبعه همة أصحابه فأخذه فلا مانع، وجاءت روايات بعض الأحاديث: (لقد أذن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصا، وفي الحبل، وفي الشسع) ، شسع النعل: هو الخيط الذي يأتي في مقدمة النعل، ويأتي في القدم بين أصبع الإبهام والتي تليها، ويربط على وسط الرجل، فهذا الشسع من التوافه، ومما لا يلتفت إليه.
وكل زمن له مقاييسه، فإذا وجدنا من مستحدثات الأمور وتوابع الحياة أشياء لا يتبعها صاحبها ويرجع إذا افتقدها ليبحث عنها، اعتبرناها لقطة؛ مثلاً: الطلاب في المدارس يخرجون، يسقط منهم مرسام، يسقط منه ورقة، المساحة، فهو لا يرجع يبحث عنها؛ لأن أباه سوف يشتري له غيرها بدون عناء، فمثل هذه في عرف الطلاب لا يبحث عليها، لكن لو ضاع منه قلم (باركل) سيرجع إلى المدرسة ليفتش عنه؛ لأن قيمته غير المرسام، وكذلك لو سقط منه كشكول كبير؛ بخلاف ما إذا كانت ورقة عادية.
إذاً: الأمور بالعادات وبحسب الوقت والعرف؛ فننظر في أي زمان ومكان وجد هذا الشيء، وما قيمته؛ فإن كان مما لا تتبعه همة الناس فيأخذه، وإن كان مما له قيمته وتتبعه همة الناس وتبحث عنه فهو في حكم اللقطة، والله تعالى أعلم.(227/3)
شرح حديث: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن اللقطة ... )
قال المصنف رحمه الله: [وعن زيد بن خالد الجهني قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن اللقطة؟ فقال: اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها سنة) ] .
[ (جاء رجل) ] .(227/4)
أحكام اللقطة
من هذا الرجل؟ مجهول، ولكن من هذا المجهول؟ صحابي؛ لأنه يسأل رسول الله.
إذاً: ثبتت له الصحبة وثبتت له تبعاً الثقة والأمانة، فلا نحتاج إلى أن نعرف عينه ما دمنا قد عرفنا جنسه، والصحابة كلهم عدول، ولسنا في حاجة إلى أن نبحث عن اسم هذا الرجل، كما يقول بعض العلماء: بحثت عن اسمه فلم أجده، ويجيء الثاني ويقول: ظفرت باسمه بحمد الله في موضع كذا وكذا.
[ (جاء رجل) ] .
كان السائل رجلاً، وهذا كما يقال: قضية عين؛ ووصف طردي، ليس له أي أثر.
[قال الرجل: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن اللقطة) ] .
كلمة اللقطة معناها شيء يلتقط منقول وليس من بهيمة الأنعام.(227/5)
وجوب معرفة وكاءها وعفاصها
[ (قال: اعرف عفاصها) ] .
العفاص هو كما هو معروف عند بعض الناس ممن يهتمون بالغترة والمكوى، يمسكها شخص يقول: عفصتها، يعني: ثنيتها، فكذلك العفاص: هو الوعاء الذي ينثني على ما بداخله، فالعفاص مقابل الكيس والخرقة، ولكن سمي بوصفه الذي يئول إليه؛ لأنه إن عفص على ما فيه حفظه، فعفاصها: كيسها، خرقتها، نوع قماشها ولونه وحجمه.
[ (ووكاءها) ] .
الوكاء: هو الرباط؛ كما جاء في الحديث: (إن البلاء لينزل ليلة في السنة، فأوكئوا السقاء، وأطفئوا السراج، وخمروا الإناء، ولو لم يجد أحدكم إلا عوداً يجعله بعرضه عليه ويسمي الله كفاه، وأطفئوا السراج؛ فإن الفويسقة تضرم على الناس بيوتهم) .
الفويسقة: الفأر، ذكراً كان أو أنثى.
وكيف تضرم -أي: تحرق- على الناس بيوتهم؟ كانوا يستضيئون بالزيت، مثل القناديل التي كانت معلقة في المسجد كان يوضع فيها القنديل بالزيت، وهو إناء مثل الكأس يوضع فيه الزيت، ويوضع فيه فتيل من القطن؛ يسمى: السحيل، فيوضع هذا الإناء في الكأس، ويجعل طرفه على حافة الكأس من خارج، ويشعل بالكبريت، فالشعلة التي تجيء في هذا الفتيل تضيء، وكلما كان الزيت نقياً كان الضوء أصفى، قال الله: {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور:35] فتأتي الفأرة من أجل أن تشرب هذا الزيت، وتخاف من الشعلة فتجيء بذنبها وترفع الشعلة عن الكأس بالكلية، ولما تطرحه تطرحه على أرض الغرفة على الفراش، فتضرم على الناس بيوتهم.
قوله: (أوكئوا السقاء) ، لماذا؟ لأنك إذا تركت القربة مفتوحة الفم -خاصة في المناطق الحارة- فإن هوام الأرض تتتبع الرطوبات، فقد تأتي إلى القربة وتدور وتبحث فتجد هذا المأوى في فمها لرطوبته، فتدخل فتؤذي أصحابها، ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم أن يشرب الإنسان من فم القربة، ولكن يصب الماء في إناء ويشرب منه؛ لأنه لو كان في فم القربة شيء من تلك الهوام سينزل في الإناء وتراه، وإذا كان سليماً، فالحمد لله.
فالوكاء هو الخيط أو الحبل أو السلك الذي يربط به العفاص، وقد تكون مخيطة وليس عليها وكاء، لكن أيضاً خيطها الذي خيطت به قد يكون متميزاً.
وفي بعض الروايات: (وعددها) كيف (وعددها) وهي مربوطة بخيط وأنا ما فككتها؟! ولذا بعض العلماء يسقط كلمة العدد، والذين يثبتونها قالوا: أتى بصفات العفاص والوكاء فككناها وعددنا، هل اتحد العدد مع ما يقول أم لا؟ وبعضهم يقول: الإنسان قد ينسى عدد الدراهم التي في العفاص.
لو قلت لك الآن: أخرج محفظتك، وكم فيها من ريال فقد لا تضبط ذلك الضبط الكافي، لكن يمكنك أن تعرف ما فيها من حيث الجملة.
إذاً: قالوا: العدد ليس بشرط، وكونه يعرف عفاصها ووكاءها عبارة عن أمارات وشواهد على أن اللقطة له هو؛ لأنها لو لم تكن له ما عرفها.
إذاً: (اعرف عفاصها ووكاءها) لتكون علامات وأمارات لمن يأتي ويصف، ويكون هذا الوصف قرينة وبينة على أنها له، وهل يأتي ببينة على أنها له؟ وهل يحلف اليمين بأنها له؟ كل هذا وارد، ولكن سيأتي تفصيل ذلك فيما بعد إن شاء الله.(227/6)
وجوب تعريف الضالة سنة
[ (اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة) ] .
إذا لم تكن في صرة، كشنطة أو خُرج، أو شيء من هذه الأشياء التي جرت العادة أن توضع فيها الأمتعة، فالحجم قد يكون متفقاً، أو حتى أنهم في بعض حوادث الإجرام يأتون بشنطة مثل الشنطة ويحصل تبادل في الزحام، ويذهبون بالشنطة الحقيقة ويورطونه في شنطة أخرى، والشكل واحد، ممكن أن يقال في هذا: ما دام أن الشنطة لها أرقام، يقال له: بأي رقم تفتح؟ وهذه لا تكون بالتخمين، ولا يذكره إلا من هو عارف وحافظ، حتى إذا عرف أن أحداً عرف هذا الرقم قد يغيره.
إذاً: الغرض من هذا: التأكد من معرفة اللقطة بأوصافها، بحيث لو جاء إنسان وادعاها، صار هنا مدع، وهناك من يقول: عليه البينة، وهناك من يقول: وصف العفاص والوكاء هو بينة، ويؤكد هذا ابن القيم في الطرق الحكمية، فيقول: ليست البينة معناها شاهدي عدل، بل البينة فيعلة من البيان، وكل ما بين الحقيقة فهو بينة، ويستشهد لهذا: بما كان في السابق من بعض أصحاب البيوت التي تكون متجاورة، فصاحب البيت يجعل في جداره من الداخل طاقة في نفس الجدار، يعني: أن البناء كان على طوبة، وعند الطابق الأعلى على نصف الطوبة، ونصف الطوبة صار طاقة- المشكاة- فيأتي جاره ويبني بجواره ويكتفي بجدار جاره عن أن يقيم جداراً خاصاً له، وأن تطاول الزمان جاء الأولاد، وهدم بيت الجار الثاني، فادعى في الجدار القائم أنه له، قال الآخر: لا.
هذا لي،؛ فينظر الطاقة في جهة من؟ من المعروف أن الباني يجعل الطاقة في جهته من داخل الغرفة لا يجعلها من الخارج، فإذا كانت الطاقة جهة اليمين داخل الغرفة فهي لمن هي في جهته، ويكون الثاني ليس له في الجدار شيء، فتكون قرينة ودلالة وبينة على أن الجدار للجار الذي تفتح الطاقة إلى جهته، ويذكرون أمثلة عديدة في هذا.
فالغرض من تعريف العفاص والوكاء، وإذا قيل العدد، والشكل واللون كل ذلك من باب التأكيد على أن من جاء وادعاها فهذه البينة دليل على أنه صاحبها.
[ (اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة) ] .
جاء في بعض الروايات: (سنتين، ثلاث، خمس) ، وفي حديث أُبي: أنه لما وجد كيساً فيه مائة دينار، فقال له: (عرفها حولاً، قال: عرفت حولاً فما جاءني أحد؟ فأتيت الرسول فقال: عرفها حولاً) إذاً: (عرفها سنة) هذا الحد الأدنى، وهو المعمول به عند الجميع، فقالوا: إن قضية أبي أو غيره سنتين أو ثلاث أو خمس لها حكم شيء آخر.
وبعضهم يقول في المحقرات: إذا أردت أن تعرفها فتعريفها يكون ثلاثة أيام.
وكيفية تعريفها بماذا تحصل؟ قالوا: أولاً: يعرفها في المكان الذي وجدها فيه إن كان آهلاً بالناس؛ كمن وجدها في السوق، فعليه أن يعرفها في محل ما وجدها، ويذكر لأصحاب المحلات التي حول المكان أنه وجد لقطة هنا، ومن سألكم عن شيء ضائع له فهو عندي، ولا تقل: لقطة فيها كذا أو صفتها كذا، بل تذكر فقط أنك وجدت لقطة، فإذا كانت عزيزة على صاحبها وتتبعها همته، فسيأتي ويسأل، فتسأله: ما نوعها؟ فإن ذكر الأوصاف كما تقدم، فهي له، وإن ذكر البعض، فقالوا: البعض لا يكفي؛ لأنه قد يكون من باب الصدفة.
ثانياً: في المجتمعات للناس كالأسواق، ثم على أبواب المساجد، ولا يكون داخل المسجد؛ لما ورد في الحديث: (إذا سمعتم من ينشد ضالة في المسجد فقولوا له: لا ردها الله عليك) ، يعني: يعامل بنقيض قصده؛ لأنه ينشدها من أجل أن يحصل عليها، ولأن المساجد لم تبن لذلك، إنما بنيت لذكر الله وما والاه، لكن يطوف على باب المسجد: وجدت لقطة في اليوم الفلاني، من سأل عنها فهي عندي.
ثم قالوا: عرفها مبدئياً: يومياً لأسبوع، ثم يوم في الأسبوع، ثم يوم في الشهر، ثم كل ثلاثة أشهر مرة، إلى أن تنتهي السنة.(227/7)
حكم اللقطة بعد تعريفها حولاً كاملاً
قال: (ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها) ] .
إن جاء صاحبها في السنة وعرفها واطمأننت إلى أنها ملكاً له، والأوصاف التي جاء بها مقنعة؛ دفعتها إليه، فإذا لم يأت من يعرفها في غضون السنة، فهناك من يقول: يتصدق بها باسم صاحبها، كالإمام أبي حنيفة رحمه الله.
والجمهور يقولون: شأنك بها، يعني: أصبحت ملكاً لك تفعل فيها ما تشاء.
والجمهور أيضاً يقولون: إن شئت تصدقت بها على ذمة صاحبها، فإن جاء أخبرته أنك تصدقت بها عليه؛ فإن شاء قبل وكان أجر الصدقة له، وإن شاء لم يقبل، وكان أجر الصدقة لك، وتعطيه عوضها؛ لما في بعض الروايات: (وهي أمانة عندك) أو: (أنت ضامنها) ، إلى آخر ما جاء في هذه المسألة.
مسألة: بعض الأشياء لا تحتمل أن يحتفظ بها سنة، مثلاً: حقيبة فيها طماطم ولحم وخضار، هل تحتفظ بها سنة تعرفها؟ لا؛ لأن هذه لا تحتمل المدة والبقاء، حالاً تعرفها بأوزانها وكمياتها، ثم بعد ذلك تصدقت أو أطعمت أو أخذتها أنت وأكلت، وعرفت القيمة، فإن جاء صاحبها وتعرف عليها، قلت: إن هذه تفسد إذا ما أنفقتها، لذا تصدقت بها -أو أكلتها- وهذه قيمتها.(227/8)
حكم ضالة الغنم
[ (قال: فضالة الغنم؟ قال: هي لك، أو لأخيك، أو للذئب) ] .
ما قال: (فلقطة الغنم) ، بل: (فضالة الغنم) ، إذاً: يقال في الحيوان: ضالة، وفي المال والمتاع: لقطة.
فهنا الرسول صلى الله عليه وسلم بين له مصيرها: (هي لك، أو لأخيك، أو للذئب) قدمه أولاً على غيره؛ لأن يده عليها، (أو لأخيك) ، يعني: غيرك، سواء كان صاحبها الذي ترجع إليه أو ملتقط آخر، فإذا كان ملتقط آخر فأنا أولى بها؛ لأني أنا السابق إليها.
وهذا الأسلوب نفهم منه أننا نأخذها ونعرفها، لأننا إن تركناها تركناها للذئب.
يعني: كأن الذئب له فيها، وهل نرضى أن نترك أموالنا للذئاب؟ لا.
ومما يذكر في السير عام الوفود سنة تسع: مجيء ذئب للنبي صلى الله عليه وسلم وهو وأصحابه فأخذ يحرك ذنبه إلى أن اقترب من الرسول صلى الله عليه وسلم، فأومأ بما أومأ به، فقال صلى الله عليه وسلم: (هذا وافد الذئاب إليكم، ماذا تنزلون له من أغنامكم؟ قالوا: والله ما ننزل له بشيء، فقال له: هه هه- يعني: اختلس الذي تقدر عليه-) ، هنا الذئب أيضاً جعل الرسول له حق.
وقالوا: كون الذئب ثالث ثلاثة فالأولى أن يأخذها السابق إليها، ولو كنت أضمن أن أخي سيأخذها قد أتركها له، ولكني لا أضمن؛ لأنها مترددة بين أخي والذئب.
إذاً: آخذها أولى، ويقول مالك: لا ضمان عليه، والجمهور يقولون: إن جاء صاحبها بعد أكلها ضمنها.
ومالك لم لم يضمنه؟ قال: لو أخذها الذئب؛ فلا ضمان عليه وهذا مثله؛ لأن الثلاثة سواء.
والآخرون يقولون: اللام هنا ليست للتمليك، ولكنها أمانة في يده، فإذا أكلها ضمنها، بدلالة: أن صاحبها لو جاء قبل أن يأكلها، ما ملكها الملتقط، لكن على قول مالك: اللام للتمليك، فإذا ذبحها فأكلها فلا غرامة عليه مثل الذئب، وما قول مالك إذا جاء صاحبها قبل أن يذبحها، يدفعها إليه أم يقول له: ما لك شيء عندي؟ قالوا: إذا كان يلزمه أن يدفعها إليه قبل ذبحها، فهي لا زالت في ملك صاحبها.
إذاً: إذا ذبحها ذبحها وهي في ملك صاحبها.
إذاً: رأي الجمهور في هذا أقوى وأسلم، والذئب لا يدخل معنا في التشريع.(227/9)
حكم ضالة الإبل
[ (قال: فضالة الإبل؟ قال: ما لك ولها؟) ] .
الإبل: اسم جنس يصدق على الناقة وعلى البعير.
وفي بعض الروايات: (فتمعر وجهه صلى الله عليه وسلم، وقال: ما لك ولها؟) .
[ (معها سقاؤها وحذاؤها) ] .
سقاؤها، أي: أنها تحمل الماء الذي يكفيها الأيام العديدة، وخالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه لما عزم أن يأتي من العراق إلى الشام نجدة لـ أبي عبيدة قال: من يدلنا على طريق قريب؟ فقال له شيخ كبير: إن الطريق صفته كذا وكذا، وهو نصف المسافة، ولكن ليس هناك ماء في الطريق إلا مسيرة عشرة أيام، فخاطر ومشى، ولكن ماذا فعل؟ عطش الإبل عدة أيام، ثم ورد بها إلى الماء فشربت وملأت بطونها، ثم جاء على العجاف من الإبل التي لا تحمل المتاع، ولا هي ذات لحم كثير، وربط أشفارها حتى لا تجتر، فكان كل يوم أو يومين ينحر من هذه الإبل العجاف ويتلقى الماء الذي حملته في كرشها، فيسقي الخيل، فكان كأنه اصطحب معه صهاريج من الماء تمشي، وكانت هذه الإبل انتهت عند موعد الماء الوحيد.
والرجل كبير السن هذا كان قد كف بصره، قال: انظروا في منحى الجبل، فنظروا فلا في شيء، قال: ويحكم! إن لم تجدوها هلكتم، ليس هناك ماء إلا بعد ثمانية أيام، ثم رجعوا أخرى يبحثوا، قالوا: في المنحى نجد أغصان شجرة تحت الرمل، قال: اكشفوا عنها، فكشفوا عنها، فإذا بالعين تحت تلك الشجرة، فشربوا.
(فمعها سقاؤها) في قصة خالد سقاؤها وسقاء غيرها؛ لأن الإبل تصبر على العطش وتحمل من الماء ما يكفيها ثلاثة وأربعة وخمسة أيام لا ترد الماء.
[ (وحذاؤها) ] نحن نعلم أن الحذاء لباس الإنسان، ولكن الإبل لديها أيضاً أحذية؟ وهذا من الاستعارة، أي: تشبيه الخف بالحذاء في المعنى العام، وهو وقاية القدم في الوطء، ولهذا الإبل تطأ الشوك والحجارة؛ لأن خفها أقوى من النعل في رجل الإنسان.
إذاً: معها مقومات الحياة والسلامة: إذا لم تجد ماء فمعها سقاؤها لا تعطش.
والمشي معها نعالها -حذاؤها- تمشي مكان ما تريد، وتأكل من ورق الشجر.
إذاً: لا خوف عليها من الذئب، فتركها في مكانها أقرب إلى وجود صاحبها إياها، أما أن تأخذها يتبعك صاحبها؟ فقالوا: ترك هذه واجب ولا يحق له التقاطها.(227/10)
إلحاق الفقهاء ضالة البقر ونحوها بالإبل
الفقهاء رحمهم الله ما سكتوا عندما ذكر في هذا الحديث الإبل، ولكن كما هي عادة الفقهاء: الاستنباط، وإلحاق المسكوت بالمنطوق: البقر، الخيل، البغال، الحمير، هل تلحق بالشاة أو بالإبل؟ وفي الأثر عن فلان بن جعفر: أنه كان في العراق ببقر له فنظر فإذا بقرة غير بقره، فقال: ما هذه البقرة؟ قالوا: تبعت البقر، فردها، وقال: (من آوى ضالة فهو ضال) .
إذاً: البقرة تتبع الإبل أم الغنم؟ فقالوا: كل من يحمي نفسه من صغار السباع فهو تبع للإبل؛ لأن كبار السباع الإبل لا يحمي نفسه منها، كما يذكر في أفريقيا أن الأسد إذا جاء والبعير منوخ وضربه بيده على دماغه أطاح به في الحال.
إذاً: كل حيوان يحمي نفسه من صغار الوحوش، كما قالوا: ولد الأسد، والذئب، وابن آوى، والثعلب، هذه لا يقوى على افتراس البعير والبقر.
وقالوا: مثل ذلك في الخيل والبغال، إذا وجدها فهي ملحقة بحكم الإبل، فهي تستطيع أن تمشي أو تصبر إلى أن تجد صاحبها.
[ (قال: ما لك ولها؟ معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر؛ حتى يلقاها ربها) متفق عليه] .(227/11)
قاعدة: (كل شيء يحمي نفسه لا يلتقط)
نجد الفقهاء رحمهم الله قالوا: كل شيء يحمي نفسه لا يلتقط، فقالوا: الرحى الكبيرة، أو حجر الطاحون، أو الخشبة الكبيرة الضخمة، هذه تحمي نفسها، ولا يقدر على أخذها أحد، وقد وجدنا في نجران طاحوناً أو رحى؛ حجم القاعدة: متر ونصف، والسمك ثلاثين (سم) ، فتصور قطعة حجر واحدة متر ونصف في متر ونصف بارتفاع ثلاثين (سم) ، والطبق الذي فوقه مثله ما عدا عشرة (سم) من الجهات كلها، فمن سيأخذ هذه؟ وشاهدنا (هاوند) ؛ عبارة عن قطعة حجر يمكن أن يقعد إنسان فيه، واليد التي تطحن بها فيه بسمك فخذ الرجل، بطول، وزايدة عن ارتفاعه حوالي ذراع.
إذاً: تتركها، بمعنى: لو أنك مررت على مكان كان فيه سكان رحلوا عنه، ووجدت في مكانهم متاع، لا تقل: هذه لقطة آخذها؛ لأنهم سوف يرجعون إليها، إلا إذا علم الإنسان أن صاحبها تركها رغبة عنها، فلو وجد ناقة، وعلم من حالها أن صاحبها تركها عنوة رغبة عنها؛ تعب من علفها، ومن كونها عجفاء، وغير قادرة من أن تساير الإبل، فتركها تخففاً منها ومن مئونتها، فله أن يأخذها؛ لأن صاحبها قد عافت نفسه إياها؛ وتركها قصداً، وما دام أنه تركها قصداً فأنت إذا أخذتها كأنك أحييت أرضاً مواتاً، فهي لك بأخذك إياها.
قالوا: وكذلك الأواني الكبيرة مثل القدور.
والقاعدة العامة: كل ما كان يحمي نفسه من الغير لا يكون لقطة، ولا يحق لك أن تأخذه، وما لا يحمي نفسه من صغار السباع كما ذكروا في البقر والخيل والبغال، واختلفوا في الحمير في المذهب الحنبلي، وغيرهم يلحقها بها، فإذا كان الأمر كذلك فهي تابعة لضالة الإبل.(227/12)
شرح حديث: (من آوى ضالة فهو ضال ... )
[وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من آوى ضالة فهو ضال ما لم يعرفها) رواه مسلم] .(227/13)
حكم كتمان الضالة
هذا الحديث تحذير لمن يجد ضالة فيأويها ويسكت عنها، سواء عرف مصدرها أو لم يعرف، جاءته إلى بيته كبقرة أو ناقة أو شاة، وسكت عنها ولم يعرف، يقول: أنا ما أخذتها، هي جاءتني.
[ (فهو ضال) ] .
الضلال ضد الهدى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] ، فهو ضال بإيواء الضالة، وهذا من المجانسة، وهذا كما أشرت في أثر الرجل الذي رأى بقرة في بقرة فقال: من أين هذه البقرة؟ قالوا: تبعت البقر، فطردها وأبعدها حتى غابت، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من آوى ضالة، فهو ضال) .(227/14)
شرح حديث: (من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل ... )
[وعن عياض بن حمار رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل، وليحفظ عفاصها ووكاءها، ثم لا يكتم ولا يغيب، فإن جاء ربها فهو أحق بها، وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء) رواه أحمد والأربعة إلا الترمذي، وصححه ابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان] .
تقدم الكلام على عموم اللقطة، وعلى شيء من الكلام على الضوال، ثم هنا يأتي المؤلف بهذا الحديث، وفيه عدة نقاط تستوقف الدارس عندها، نأخذ ذلك جزءاً جزءاً:(227/15)
الإشهاد: حكمه وفائدته في اللقطة
قال: [وعن عياض بن حمار رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل) ] .
النقطة الأولى: قوله صلى الله عليه وسلم: (من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل) .
كل الأحاديث التي تقدمت فيما يتعلق باللقطة أو الضوال ليس فيها تعرض للإشهاد، وهنا يأتي المؤلف رحمه الله بهذا الحديث وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وليشهد ذوي عدل) : فبعض العلماء قال: في جميع اللقط يشهد ذوي عدل، من باب حمل المطلق على المقيد.
والآخرون يقولون: لا.
إن الأمر فيه تفصيل؛ لأن ملتقط اللقطة أحد رجلين؛ إما أن يكون واثقاً من أمانة نفسه على اللقطة، فهذا لا حاجة إلى إشهاده؛ لأن أمانته ستحمله على حفظها وردها إلى صاحبها إذا جاء، وإذا كان يخشى أن تضعف نفسه أمام اللقطة، وتراوده على أن يمتلكها دونما تعريف، أو يتصرف في بعضها أو شيء من ذلك، فليشهد؛ ليكون إشهاده عليها ذوي عدل مانعاً له من أن يضعف أمام نوازع نفسه في اللقطة، وهذا ضمان للقطة فيما لو مات هذا الملتقط قبل مضي الحول، فإذا التقطها وأخذ يعرفها إلى تمام الحول وفي أثناء الحول مات، من فربما لا يعلم عنها أحد، لكن حينما يشهد ويأتي إنسان ينشد ضالة أو لقطة، سيجد من يشهد بأن فلاناً أشهدنا على أنه التقط لقطة.
إذاً: الإشهاد على اللقطة يرجع إلى حال الملتقط، ما بين الأمانة والضعف أمام نوازع النفس فيها.
[وليحفظ عفاصها ووكاءها] .
بعض العلماء يزيد ويقول: يدخل تحت الإشهاد إذا كان الملتقط فاسقاً، يخشى عليه من اللقطة، ولكن الفاسق لن يشهد، وسيكتمها، ولذا جاء في آخر الحديث: (ولا يكتم) ، فالأمران متقابلان؛ لأن من يطمع في اللقطة يكتمها، فإذا ما أوقع الشهادة عليها سلم من ذلك وامتنع.
[ (وليحفظ عفاصها ووكاءها) ] .
هذا لفظ مشترك في الأحاديث المتقدمة.(227/16)
النهي عن كتمان اللقطة
[ (ثم لا يكتم ولا يغيب) ] .
لا يكتم من صفاتها التي يعرفها، ولا يغيبها عمن جاء ينشدها، فإذا التزم بهذين الأمرين، ثم أتي منشد ينشد فسيذكر عفاصها ووكاءها.
فإن قال: لا.
هذا ليس عفاصها ولا وكاؤها؛ لأنه ما اطلع أحد عليها، فلو جاء صاحبها الحقيقي ووصف صفاتها الكاملة كتمها.
إذاً: أولاً ألزمه أن يشهد، ثم نهاه أن يكتم، أو يغيب، يغيب اللقطة مرة واحدة ويجحد، يغيب من صفاتها شيئاً فيدخل في (يكتم) .
إذاً: هذا تحذير للملتقط من أن يقصر في تعريفها، أو يطمع في أخذها لضعف أمانته وائتمانه عليها، بأي حالة من الحالات التي تحول بين اللقطة وصاحبها.
[فإن جاء ربها فهو أحق بها] .
أولاً: يشهد حفظاً لها، ولا يكتم ولا يغيب، ضماناً لها عنده، فإذا جاء صاحبها فهو أحق بها، ولا تطمع فيها، فهو أحق بها منك وإن كنت أنت لقطتها بعد سقوطها أو ضياعها منه.
وهنا قالوا: اللقطة في يد الملتقط على ملك صاحبها؛ لأنه إذا جاء فهو أحق بها، بالملك السابق قبل الالتقاط.(227/17)
معنى قوله: (وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء)
[ (وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء) ] .
(وإلا) أي: بعد التعريف، فلم يأته أحد ولم يكتم، وانتظر سنة فلم يأت أحد فهي مال الله.
جميع المال لله! {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] ، كل ما في يد الإنسان مسلم أو كافر فهو من مال الله، ولكن هنا إذا أطلق بصفة عامة يكون مال الله ما ليس بأيدي الناس، وفي الحقيقة المبدئية: الملك كله لله، ونفس اللاقط والملقوط له أنه أيضاً عبد لله، والمال في يد الناس عوارٍ مسترجعة، لكن حينما يقول: هو مال الله؛ يعني: رجع إلى الأصل، ليست هناك يد مخصصة من خلق الله لها عليه تملك، فيرجع إلى الأصل وهو لله سبحانه وتعالى.
[ (مال الله يؤتيه من يشاء) ] أي: مال الله يؤتيه من يشاء بعمل وكسب، بهبة، بلقطة، بأي وجه من وجوه التمليك التي تئول إلى عبد من عباد الله، فهو مال الله يؤتيه من يشاء.(227/18)
شرح حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لقطة الحاج)
قال المصنف رحمه الله: [وعن عبد الرحمن بن عثمان التيمي رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لقطة الحاج) رواه مسلم](227/19)
أحكام لقطة الحرم المكي
هذا جزء في باب اللقطة، وهو في الواقع محير.
(نهى صلى الله عليه وسلم عن لقطة الحاج) ، وفي بعض الروايات: (عن لقطة الحرم) والمعني بذلك: حرم مكة، فبعضهم يقول: لقطة الحرم تشمل الحاج والمكي المقيم، وقد توجد بعض العلامات على اللقطة تميزها، إن كانت لحاج أو لمكي، فإن تبين أنها لمكي فحكمها حكم لقطة أي بلد كان، وإن كانت أماراتها وعلاماتها تدل على أنها لقطة حاج فهي محل السؤال.
وبعض العلماء يعمم لقطة الحاج في جميع مواطن الحجاج، فيشمل لقطة عرفة، ومزدلفة، ومنى.
وبعضهم يقول: والمدينة؛ لأنها المواطن التي يتواجد فيها الحاج.
ولكن النص هنا: (نهى عن لقطة الحاج) .
وفي بعض الأحاديث في فتح مكة وحرمتها: (لا يختلى خلاؤها، ولا تلقط لقطتها، إلا لمنشدها) فكذلك في هذا الحديث: (نهى عن لقطة الحاج) ، إلا لمنشدها.
جميع اللقط ستنشد، فما الذي خص مكة بهذا؟ لم كانت لها خصوصية في هذا زيادة عن لقطة جدة أو الطائف أو الرياض؟ قالوا: الغرض من هذا هو: المبالغة في الإنشاد عليها أو تعريفها، ولا تحدد ملكيتها بسنة أو سنتين أو أكثر، ولكن إن عجز وغلب الظن.
وخصت لقطة الحاج؛ لأن من يريد أن يعرف اللقطة يتوقع مجيء صاحبها ويعرفها، والحاج قد سقطت منه اللقطة، وربما سافر إلى بلاده، فهو لا يدري عن تعريفها، ولا يدري متى سيعود.
فقالوا: يعرفها عند أهل قطرها إن كانت معروفة، لأن اللقطة تميز أحياناً إن كانت لبعض الحجاج في بعض الأقطار؛ فهذه سلعة لحجاج هنود، أو شاميين أو مصريين، إن كانت متميزة تعمد تعريفها عند الوفود القادمة من تلك البلاد، لربما يكون صاحبها قد أوصى الوافدين أن ينشدوا عنها.
إذاً: (نهى عن لقطة الحاج إلا لمنشدها) ، ومعلوم أن كل لقطة سينشدها لاقطها، ولكن قالوا: هذا زيادة في تعريفها وإنشادها.
ثم قالوا: كل لقطة في أي قرية أو في أي مكان يلتقطها الملتقط، فقد يلتقطها على نية التملك إن لم يجد صاحبها بعد الحول، لكن لقطة الحاج لا يلتقطها على نية أنه سيتملكها بعد تعريفها الحول، ولكن يلتقطها على نية التعريف المؤبد.
وإذا لم يوجد لها من يعرفها، والبعض يقول: يسلمها للسلطان، والبعض يقول: هي مال الله، كما تقدم.
هل هذه المكاتب المقامة لأخذ لقطة الحاج تجزئ؟ نقول: إنه ينبغي ترتيب وتنظيم ما يقال له: محل الضائعات، نعلم أن مكة بعض المراكز المخصصة محل للضائعات أو الضائعين عن مخيماتهم أو حجاجهم، والعاملين في الحكومة جزاهم الله خيراً يجعلون لهم مخيماً ويقومون عليهم حتى يوصلونهم إلى عرفات، والمناسك، ثم يقولون: ثم ينادى على رءوس الأشهاد: يوجد حاج صفته كذا وكذا، من عرفه يأتي يأخذه، هذا الحاج الضائع ليس بلقطة.
فكذلك بعض الأماكن للضائعات؛ إنسان ضاعت له شنطة، أو كيس، أو أي شيء يروح في محل الضائعات، ويبحث، إن وجد ضالته أو ساقطته أخذها، وتنظيم مثل هذا المحل للضائعات يريح اللاقط.
وبعضهم يقول: لا يلتقطها، ويتركها.
والآخرون كما يؤكد ابن عبد البر: وإن لم يتعرض لقطة الحاج، إلا أنه قال في عموم أخذ اللقطة أو تركها: الأولى أخذها، حفظاً لمال أخيه المسلم.
إذاً: لقطة الحاج تتميز عن لقطة غير الحاج: بأنه مظنة السفر عنها، ولربما في عام مقبل يأتي من جانبه من ينشد عنها، فإذا لم يأت هذه السنة يأت السنة التي بعدها.
وتقدم بأن يكون في حالة ما إذا كانت مما يقبل البقاء كدراهم ودنانير، أو ملابس أو شيء من هذا.
أما إذا كان طعاماً أو شراباً أو مما يسري إليه التلف فلا ينبغي أن يبقيها حتى تتلف في محلها، بل يستنفدها، أو يتصدق بها، ويحتفظ بقيمتها، إن أكلها قدّرها واحتفظ بالقيمة وعرّف، ومن جاء أخذ القيمة، وإن تصدق عرف قيمتها قبل أن يتصدق بها، فإذا جاء صاحبها أخبره، فإن شاء نزل على الصدقة، وتكون باسمه، وإن شاء لم ينزل عليها، وطلب حقها يعطيه إياها.(227/20)
شرح حديث: (ألا لا يحل ذو ناب.
ولا اللقطة من مال معاهد ... )
قال المصنف رحمه الله: [وعن المقدام بن معد كرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا لا يحل ذو ناب من السباع، ولا الحمار الأهلي، ولا اللقطة من مال معاهد إلا أن يستغني عنها) رواه أبو داود] .(227/21)
حكم لقطة الذمي والمعاهد
يأتي المؤلف رحمه الله بهذا الحديث ليبين: أن لقطة المعاهد ولقطة المسلم سواء، لا تتملك بلقطتها، بل عليه أن يعرفها كما يعرف لقطة المسلم.
والمعاهد بخلاف الحربي فلو وجدت لقطة حربي تملكتها في الحال، بل الحربي بذاته لو وجد وقدر عليه أن استؤسر وكان أسيراً؛ لأنه حرباً على المسلمين، فإذا كان معاهِداً أو مُعاهَداً -أي: له عهد عند ولي أمر المسلمين- فماله وعرضه وكل ما يمتلكه حرام، ولا يجوز لمسلم أن يخفر ذمة ولي الأمر فيه، ولهذا قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله وإن كان انفرد بهذا القول: (من قتل معاهداً قتل به) .
والجمهور يقولون: لا يقتل مسلم بكافر.
ولكنه يقول: هو أصبح في الأحكام الذاتية والمالية كحكم المسلم؛ لأن ولي أمر المسلمين أعطاه أماناً، وعاهده على الأمن والحفظ، فأصبح في ذمة ولي أمر المسلمين، فمن اعتدى على معاهد يكون قد خفر ذمة ولي أمر المسلمين.
وأعتقد أننا في هذه الآونة ليس عندنا حربي ومعاهد، والعرف العام عند جميع الدول: من دخل دولة بتصريح من ولي أمرها فهو معاهد.
والمسلم الآن يذهب إلى بلاد غير المسلمين، ولا يمكن أن يدخل في مطار أو ميناء إلا بتأشيرة من سفارة تلك البلدة أنه مأذون له في الدخول، وبالإذن له بالدخول لزم أمران: الأول: لزم عليه أن يلتزم بنظم تلك الدولة؛ لأنه دخل إليها ملتزماً بنظمها، ولهذا مدة وجوده فيها تسري عليه أحكام قوانينها.
الثاني: هو مؤمن بتلك التأشيرة على ماله ونفسه وعرضه؛ لأنه دخل بإذن، فهذا الإذن يعتبر بمثابة المعاهدة، فكذلك الحال في البلاد الإسلامية، أي: شخص أوروبي أو آسيوي حصل على تأشيرة لدخوله بلدة إسلامية عريبة، فتلك التأشيرة بمثابة العهد، وأصبح في ذمة المسلمين عن طريق ولي الأمر عهد بالبقاء مدة هذا الإذن في تلك التأشيرة.
إذاً: يعامل في بيعه وشرائه وهبته والهدية منه وإليه، يعامل في اللقطة كما يعامل المسلم، وما ذكر مع هذا إنما جاء طردياً مع ذكر المعاهد؛ (لا يحل ذو ناب من السباع، ولا الحمار الأهلي) وفي الحديث الآخر: (ولا ذو مخلب من الطير) ، وكل هذه أكلها من المحرمات، ووالدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه توسع في بحث هذه المحرمات عند قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً.
} [الأنعام:145] ، وقال: لا أجد وقت نزول تلك الآية، ولا يمنع أن يتجدد فيجد أحكام أشياء أخرى؛ منها: تحريم كل ذي ناب، وتحريم كل ذي ظفر -أي: من الطيور الجوارح-، والحمر الأهلية حرمت عام خيبر كما جاء في بعض النصوص، والبحث في تحريم الحمر الأهلية دون الحمر الوحشية بحث مطول، وإن كان جنس الحمار واحد، ولكن هذا يعيش عالة على الآدميين مستأنساً عندهم، وذاك يعيش مستقلاً بذاته مع الوحوش يدفع عن نفسه، وكل منهما له خصائص ذاتية.
والحمد لله رب العالمين.(227/22)
كتاب البيوع - باب الفرائض [1]
قسم الله تعالى المواريث بين أقارب الميت قسمة عادلة تناسب الأعباء التي يتحملها الوارث، وتتوقف على مقدار القرابة من الميت، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث تبين بعض أحكام الفرائض والعصبات، وقد شرحها العلماء شرحاً منهجياً يساعد المسلم على فهم أحكام الميراث.(228/1)
شرح حديث: (ألحقوا الفرائض بأهلها)
قال المصنف رحمه الله: [عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر) ، متفق عليه] .
هذا الحديث مبدأ أساسي في علم الفرائض والمواريث، ولا يمكن أن يخلو باب من أبواب المواريث عن هذا الحديث؛ إذ هو القاعدة الأساسية، وهو مشتمل على ثلاث نقاط: الأولى: (ألحقوا) ، من الذي سيلحق: العامي أم المتعلم؟ المتعلم، فطالب العلم هو الذي يلحق.
الثانية: الملحوق، وهو (الفرائض) .
الثالثة: هذه الفرائض التي نريد أن نلحقها هل يتعين معرفتها أو تلحق جزافاً؟ يتعين معرفتها.
إذاً عندنا ملُحِق: وهو طالب العلم، وفرائض: يجب أن يعرفها الملحق مع أهلها وأصحابها و (الفرائض) ، وهي جمع فريضة، (بأهلها) أي: بأصحابها المستحقين لها كل بحسبه.(228/2)
أنواع الفروض وأقسامها
وهل الفرائض في الميراث محدودة ومحصورة أم مطلقة لكل جماعة؟ محصورة، وكما في متن الرحبية: واعلم بأن الإرث نوعان هما فرض وتعصيب على ما قسما فالفرض في نص الكتاب ستة لا فرض في الإرث سواها البتة إذاً: الفرائض في علم الميراث ستة أنصبة لا سابع لها، ولا أحد يستطيع أن ينقص واحداً، والفروض في كتاب الله هي حسب قاعدة تنازلية أو تصاعدية، إن أردت قاعدة تنازلية: تأخذ الثلثين ونصفهما ونصف نصفهما، والنصف ونصفه ونصف نصفه، وإن أردت تصاعدياً قلت: السدس، وضعفه، وضعف ضعفه.
والثمن، وضعفه، وضعف ضعفه فالتنازلية تكون: الثلثان، ونصف الثلثين ثلث، ونصف الثلث السدس.
هذه ثلاثة جاءت عن طريق الفرض، وتأتي إلى النصف، ونصف النصف ربع، ونصف الربع ثمن، فصارت ستة فروض، وهي الفروض الموجودة في علم الميراث، ويتعين على كل مسلم معرفتها؛ لأنه في وقت من الأوقات سيكون وارثاً أو موروثاً، فإذا كان وارثاً يعلم ما له، وإذا كان موروثاً علم ما عليه.
إذاً: الفرائض في كتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين ست، وبعضهم يحاول أن يضيف ثلث الباقي.
وثلث الباقي هذا تغطية أتوا بها على الأم وضحكوا عليها ومشت، وما خرجت عن كلمة ثلث، سواء كان ثلث الباقي أو ثلث رأس المال كله، لا يوجد مسمى سبع، ولا تسع، ولا عشر هذه هي مسميات الفرائض.
(ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر) دع قوله: (رجل ذكر) ، فلا يوجد رجل أنثى، والحديث يعطينا قاعدة في تقسيم هذه الفرائض، فالفرائض تلحق بأهلها، والباقي لأولى رجل؛ لكن على أي أساس؟ عرفنا بأن الفرائض أنصبة محدودة، لا يوجد فيها زيادة ولا نقص {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء:11] ، إذاً كما قال صاحب الرحبية: واعلم بأن الإرث نوعان هما فرض وتعصيب على ما قسما.(228/3)
توريث العصبات مع أصحاب الفروض
إذاً: (ألحقوا الفرائض بأهلها) خاص بالفروض الستة، والتعصيب: (فما بقي فلأولى رجل ذكر) ، وعلى هذا يكون تقسيم الفرائض على قسمين؛ فإذا جاء الورثة قيل لهم: أنتم من أي الأصناف؟ قالوا: نحن من أصحاب الفروض.
فيقال: فما هي فروضكم؟ فتحدد فروضهم ثم يقال: خذوا فروضكم، فإن استغرق فروض الموجودين من الورثة تركة الميت أخرجنا العصبة.
وإن لم تستغرق الفروض كل التركة وبقي شيء، فإنا نعطي الباقي للعصبة.
ومثال ذلك: إذا وجدت بنت وبنت ابن فقط، قلنا: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس لأنها ليست كابنة الصلب، فتعطى السدس تكملة الثلثين، بقي من التركة الثلث فأين نذهب به؟ إن وجدت عصبة فذلك الثلث لها، لقوله: (فما بقي فلأولى رجل ذكر) .(228/4)
توريث ذوي العصبات إذا اجتمعوا
قوله: (فما بقي فلأولى رجل ذكر) ، فإذا وجد عدة أشخاص كلهم عصبة، فهل ينفرد أحدهم أو تقسم عليهم، فالابن عصبة، وابن الابن عصبة، والأب عصبة وصاحب فرض، والجد صاحب فرض وعصبة، والعم، وابن العم، والأخ، وابن الأخ؛ كل هؤلاء عصبة، فلو وجد إخوة أشقاء ذكور في المسألة السابقة، فالبنت مع بنت الابن أخذتا الثلثين، وبقي الثلث، فإن كان هناك إخوة أشقاء أو لأب متساوين في الدرجة قسم عليهم، وإذا وجد أخ شقيق وأخ لأب، فإننا ننظر: فهما في الأخوة سواء، ولكن في القوة ليسا سواء، فالأخ الشقيق أقوى من الأخ لأب، فيأخذ الثلث الباقي دون الأخ الأب.
ويدخل أيضاً باب الحجب والتعصيب تحت هذا الحديث.
إذاً: هذا الحديث هو القاعدة الأساسية لعلم الفرائض، وما وجد منه فألحقوه بأهلها الموجودين، وإذا لم يوجد صاحب فرض ووجد العصبة فالعصبة لهم ما أبقت الفرائض، وإذا لم توجد فرائض فلهم جميع المال.
إذاً: هذا الحديث كما يشير العلماء بأنه الأصل والمبدأ في علم الفرائض بقسميه: أصحاب الأنصبة المفروضة أو العصبة، والعصبة قد تتساوى في الجهة وتتفاوت في القوة، فإذا كان إخوة أشقاء وإخوة لأب، وأعمام أشقاء وأعمام لأب، فالجهة واحدة وهي الأخوة، لكن يختلفون في القوة فالأشقاء أقوى.
وقد تتفاوت الدرجة: كالأولاد وأولاد الأولاد، فأولاد الأولاد عصبة، لكن الأولاد أقرب منهم، فيقدمون عليهم في العصوبة لقربهم من الميت وإن اتحدت الجهة.
والجهات كما يقولون بنوة فأبوة فأخوة فعمومة، وعلى هذا فإن أقرب الجهات إلى الميت هي البنوة، فإذا وجد ابن وعشرون أخ، فإن الابن يحجب الإخوة بكاملهم، وولد الولد تابع في جهة الولد، فابن ابن وعشرون أخ شقيق يحجبهم، لأن الجهة الأقرب للميت هي جهة البنوه، إذاً: ابن الابن يطرد العشرين الأخ الشقيق.
إذاً: جهات العصبة إذا تفاوتت قرباً وبعداً قدمنا الأقرب والأولى.
أولاد الأولاد في حالة عدم وجود الأولاد عصبة، وجهة البنوة تشملهم، وجهة البنوة تشمل الابن وابن الابن مهما نزل، فابن عشرين بطن ابن، وإذا وجد فهو أولى من الأخ الشقيق؛ لأن جهة البنوة مقدمة على جهة الأخوة، وكذا إن وجد أخ شقيق وعشرون عم، أي الجهتين أقرب: الأخوة أو العمومة؟ الأخوة.
إذاً: الأخ الواحد يحجب الأعمام، فإذا وجد من كان من جهة قربى وآخر من بعدى كانت القربى أحق.
وقفنا عند الجهة: هل الجهة متعادلة في القوة من حيث الصلة بالميت أو متفاوتة؟ جهة البنوة ليس فيها تفاوت، فكلهم أبناؤه، لكن جهة الأخوة تتفاوت قوة وضعفاً، فمن يدلي بالأب والأم معاً أقوى ممن يدلي بواحد منهما، أي: بالأب وحده أو يدلي بالأم وحدها، ولضعف الأخ لأم جعل له فرض مقطوع، فإذا وجدت جهة الأخوة نظرنا في هذه الجهة: هل كلهم متساوون في القوة بالإدلاء إلى الميت أو متفاوتون، فإن كانوا متفاوتين في القوة قدمنا الأقوى.
وإذا اجتمع إخوة وأعمام، أي الجهتين أقرب؟ الإخوة.(228/5)
معنى قوله: (فلأولى رجل ذكر)
قوله: (فلأولى رجل ذكر) يخرج أولى أنثى، فبنت الابن هي وارثة، ولكن أنثى، لو أعطينا أصحاب الفروض فروضهم، هل ما بقي نعطيه لبنت الابن؟ لا؛ لأنها ليست برجل.
وهكذا لو وجد أبناء الأخ مع بنات الأخ، فالجهة واحدة وهي جهة الأخوة، وبنت الأخ تساوي ابن الأخ في الدرجة مستوية، ولكنها ليست رجلاً ذكراً، فلا تدخل في الأولوية فيما بقي بعد أصحاب الفرائض.
والمناقشة الطويلة التي تجدونها في المطولات وخاصة فتح الباري وغيره لقوله: (أولى رجل ذكر) يقولون: ما حاجة كلمة: (ذكر) ، مع (رجل) ؟ لأنه إن كان (ذكر) نعتاً لرجل، فماذا زادتنا وماذا أعطتنا من فائدة؟ يقول صاحب سبل السلام: وقد تكلموا فيها، وذكر بعض كلامهم، ولكن بفائدة قليلة، وابن حجر في فتح الباري يورد آراءً عديدة، ثم يفند بعضها ويترك بعضها بلا تفنيد، وأنا في نظري -والله تعالى أعلم- أنه لا حاجة لهذا كله، وليس هناك إشكال في وصف الرجل بكونه ذكراً، فكلمة (الذكر) ليست نعتاً لرجل، ولكنه وصف كاشف لعلة استحقاق الرجل لما بقي.
ولو مات عن زوجة وولد، فالزوجة لها الثمن والسبعة الأثمان للولد، فيأتي قائل ويقول: لماذا يأخذ الولد سبعة أثمان، ولماذا لا يزاد في نصيب الزوجة قليلاً؟ فيقال له: لأنه ذكر.
قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11] ، لِمَ لم يقل: للولد؟ السياق (في أولادكم) والمادة معنا ولد، ولماذا لم يقل: (يوصيكم لله في أولادكم للولد مثل حظ البنتين) ، لو تأملنا أساليب اللغة العربية لوجدنا هذا الوصف مستعملاً في القرآن الكريم، فهنا أبرز الرجل بصفة الذكورة لأنها مناط الحكم والمسئولية، وأبرز البنت بوصف الأنثى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] .
ومن حيث البلاغة والإعجاز والمعنى في غير كلام الله نقول: هما متساويان، ولكن نحن في كلام الله لا نستطيع أن نتحكم أو نعترض، لكن في أداء المعنى يوجد التساوي.
إذاً: أبرز معنى الذكورة في الرجل؛ لأنه ميزه على البنت، ونقص البنت بوصف الأنوثة: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] .
والأنثى نقصت هنا في ماذا؟ قال: لأن الذكر يبحث له عن أنثى، والأنثى يأتيها ذكر يأخذها، فالذكر تحمل مسئولية أنثى تعيش بجانبه، وعليه نفقتها وصداقها، والأنثى محجبة مكرمة معززة في بيت أبيها، فيأتي الذكر ويدفع صداقها ويأخذها، فما غرمت درهماً واحداً، فنصيب الذكر وزع على الإناث، ونصيب الأنثى توفر لها كاملاً.
إذاً: وصف الرجل بكونه ذكراً نعت للرجل وبيان لحقيقته، فنصف العاقل وربع المجنون يعرف بأن الرجل ذكر، ولكن لماذا تبرز وصف الذكورة؟ ونحن نجد نظير ذلك في كتاب الله {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف:5] ، وهل ستخرج الكلمة من غير الفم؛ من العين أو من الأذن؟ لا، لكن أبرز موطن خروجها لأنها كلمة جوفاء لا قيمة لها، وما تجاوزت في مدلولها غير الفم، فهي ليست عن عقل أو عن تفكير، أو عن تردد الفكر والاستذكار، أو تأمل حقائق الواقع، إنما هي كلمة طائشة، كما أنك تأتي لغرسه على وجه الأرض فترفعها بإصبعيك فتقلعها، لكن الشجرة المتمكنة عروقها من تخوم الأرض لا تستطيع أن تنتزعها.
إذاً: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف:5] ، ونحن نعرف بأن الكلمة لن تخرج إلا من الأفواه، فلماذا ذكر الأفواه مع أن الكلمة ومدلولها ولازمها أنها من الأفواه؟ ليبين أنها لا أصل لها تعتمد عليه.
كذلك: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام:38] ، معلوم أن الطائر في الجو لن يطير بأرجله بل سيطير بجناحيه، فلماذا أبرز جناحيه؟ ليبين -والله تعالى أعلم- أن هذا الطائر مهما حلق في الجو فليس ذلك بقوة الجناحين {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} [الملك:19] ، والحدأة خاصة تمد جناحيها وتتقلب يميناً ويساراً وتحوم دون أن تحرك جناحها مرة، وهل امتداد الجناح عنده القوة في أن يمسكها إلى هذا الحد؟ لا، ولذلك قال: (ويقبضن) قد نقول: حينما تمد جناحيها تعلقت بالجناحين في الهواء؛ لأن حركة الطيران قبض وانتشار، فحينما تقبض جناحيها من الذي يمسكها؟ ولماذا لا تسقط؟ إنه يريد أن يبين أن الجناحين عبارة عن وسيلة وأخذ بسبب، وحقيقة طيرانها بقدرة الله سبحانه.
وبعضهم يقول: وصف الرجل بالذكورة لبيان القوة، وهناك من يقول: ذلك احتياط من أن يذهب الذهن إلى امرأة كما قالوا: (مزقتم ثياب فتاة الحي والرجلة) .
قد تطلق كلمة (الرجلة) على الأنثى، ولكن هذا نادر وشاذ، والعرب لا تعتمد عليه.
فجاء الوصف بالذكورية ليبين موجب العلة والحكم، ومناط الحكم في هذه القضية كما جاء هناك {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] ، فهو يبين موجب استحقاق تمييز الرجل عن المرأة بذكورته، وأنه بذكوريته سيصبح أباً وجداً وينفق على عياله.(228/6)
أحكام الميراث بين المسلمين وغيرهم
قال المصنف رحمه الله: [وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم) متفق عليه] .
هذا مما يتفق عليه الجمهور، إلا في صورة تستثنى، الكفار معروفون في ذلك الوقت، لكن هناك طوائف أخرى لم تدخل في دين سماوي كالبوذية وأمثالهم.
وهل هناك توارث بين الصابئة واليهود والنصارى؟ وإذا قيل: لا يرث الكافر المسلم أو المسلم الكافر.
فما حكم الكفار فيما بينهم؟ فالحكم ظاهر بين المسلم وبين كل من اليهود والنصارى والمشركين الوثنيين، ولكن اليهودي والنصراني، كلاهما كافر، واختلفت ملتاهما: هذه يهودية وهذه نصرانية، ولذا فحديث: (لا توارث بين أهل ملتين) يجمع الجميع.
هناك ناحية ربما استثناها الحنابلة ومن وافقهم، وهي حينما يموت الوالد وله أولاد، منهم المسلم ومنهم الكافر، على مقتضى هذا الحديث أن الميراث كله لأولاده المسلمين، فلو أن الولد الكافر أسلم بعد موت أبيه قبل قسمة التركة، استحق الميراث، مع أنه كان في لحظة موت أبيه كافراً.
قال الناظم: ويمنع الشخص من الميراث واحدة من علل ثلاث رق وقتل واختلاف دين فافهم فليس الشك كاليقين فهو عند موت مورثه لا يستحق الميراث.
التركة موجودة ولم يقتسمها الأولاد المسلمون، وهو قد أسلم؛ فهل نتجاوز عن الفترة التي سبقت ونورثه مع إخوته أو نقول: أنت لم تكن عند موت المورث مستحقاً للميراث؟ من نظر إلى تأليف القلوب، ومساعدة الآخرين على الإسلام في مثل هذه الحالة -أي: قبل أن تقسم التركة- قالوا: نشركه مع إخوانه بإسلامه، ونتجاوز عن فترة ما بين موته وإسلامه، ونجعله كأنه أسلم في حياة أبيه.
نحن في باب الميراث نكتفي بهذا، وهذا الذي يهمنا في هذا العلم، ولكن لا توجد زاوية من الزوايا نقف عليها: هذا ولده، وذاك ابن عمه، فلما كان ولده كافراً لا يرثه، وابن ابن ابن ابن عم لأب لكنه مسلم يأتي ويرث؛ لماذا؟ من الحكم الإلهية أن تقوم الأمة الإسلامية على مبدأ غير الدم والعصب، والرحم والنسب، ولكن على الأخوة الإسلامية، ولهذا كان أول عمل عمله النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس لما قدم المدينة هو المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.
ومن العجب! أنني قرأت أنه كان هناك ثلاثة أبناء عمومة للنبي صلى الله عليه وسلم، أبناء المطلب بن عبد مناف بن قصي، ولما قدموا وهاجروا آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين كل واحد منهم وواحد من الأنصار فهؤلاء ثلاثة إخوة جاءوا جميعاً، فلماذا لا يؤاخي فيما بينهم؟ لأن أخوة النسب موجودة، وستكون عبارة عن تحصيل حاصل، وهو يريد توثيق الروابط بوصف الإيمان؛ ولنعلم أن رابطة الإيمان أقوى من رابطة النسب والدم.
ومن هنا كان المسلم أحق بالمسلم ولو كان بعيد النسب عنه، والكافر بعيد عن نسبه الأساسي بسبب الكفر، ومثال ذلك أيضاً: مصعب بن عمير في عودته من بدر وجد أخاه أسيراً في أيدي بعض الأنصار، فقال لهم: شدوا وثاقه؛ فإن أمه ذات مال لعلها تفديه منكم بمال.
فنظر إليه وقال: أهذه وصيتك بي يا أخي؟ قال: لست أخاً لي، هؤلاء إخواني أما أنت فلا.
هو أخوه من أم وأب، وهؤلاء من الأنصار بعيدون كل البعد عنه، لكن الإسلام قرب البعيد، والكفر أبعد القريب، وعلى هذا كان لا توارث بين المسلمين والكفار ليوجد العزلة لتتميز الأمة الإسلامية عمن عداها؛ لتكون بذاتها ذات كيان خالص إسلامي، ولهذا نهى أن يساكن المسلم غير المسلمين ويخالطهم إلا للضرورة، حتى قال: (لا يتراءى نار كل منهما للآخر) .
ولما سئل في حديث أبي ثعلبة الخشني: (إنا بأرض قوم أهل كتاب، أفنأكل في آنيتهم -وفي رواية: وهم يطبخون الخنزير، ويشربون الخمر-؟ قال: لا، إلا ألا تجدوا غيرها، فارحضوها غسلاً وكلوا فيها) ، فقوله: (لا) ، لئلا يكون هناك تبادل الإعارة، يعقب ذلك التعاطف والتواد والهدايا فتخلط العادات بالسنة.
إذاً: لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر، ويتبع ذلك أنه لا توارث بين ملتين؛ فاليهودي لا يرث النصراني، والنصراني لا يرث اليهودي، وكلاهما لا يرث البوذي وأمثاله.
والله تعالى أعلم.(228/7)
قضاء النبي في البنت مع ابنة الابن والأخت
قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (في بنت وبنت ابن وأخت، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم: للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت) ، رواه البخاري] .
في هذه المسألة ثلاثة مناهج: منهج أهل الحديث، أو منهاج الرحبية، أو منهج الفقهاء، وأيسرها وأوضحها عند طالب العلم منهج الرحبية، وقد تقدم بحمد الله المرور عليها فيما قبل، ولكن نحن الآن سنأخذ ما يورده المؤلف، والرحبية أشرطة مسجلة في مكتبة الحرم.
فمنهج الرحبية هو الإتيان بالفروض متتابعة: إذا قلنا بأن النصف هو الفرض، فإننا ننظر من الذي يرث النصف؛ ثم نأتي بالورثة من الرجال، والوارثات من النساء، ويحدد بحيث لا تستطيع أن تدخل واحداً أو تخرج آخر، لأنهم عدد محصور محدود، والمؤلف هنا جاءنا بمسائل فردية وصورة وقعت.
هذه صورة يسوقها لنا بهذا الشكل، وتقدم بحثها في غير هذا الموضع، ابن مسعود يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أُتي بمسألة فرضية: بنت، وبنت ابن، وأخت.
هنا لم يذكر لنا أي أنواع الأخوات كانت، نحن نعرف جهة الأخوة، ولكن نعلم بأن جهة الأخوة تتفاوت، هل هي أخت شقيقة، أو لأب، أو لأم؟ لكن التقسيم يدلنا على أنها ليست لأم، إما شقيقة أو أخت لأب، فالرسول صلى الله عليه وسلم أعطى البنت نصف التركة، وأعطى بنت الابن السدس مع البنت، وإذا ضممنا السدس إلى النصف كان الثلثين، والباقي أعطاه للأخت، إذاً هذه الأخت ليست لأم؛ لأن الأخت لأم نصيبها السدس، وهذا ثلث، فهو ضعف ما تستحقه التي لأم، إذاً: هي إما شقيقة وإما لأب.
وكون بنت الابن تأخذ السدس؛ لأن البنات إذا كانتا اثنتين فأكثر يكون لهن الثلثان، فإذا وجد ثلاث بنات وبنت ابن سيكون البنات لهن الثلثان، وبنت الابن لا شيء لها؛ لاستغراق البنات للثلثين.
وهذا فيه تنصيص على أن الأخت مع البنت عاصبة لها: والأخوات إن تكن بنات فهن معهن معصبات الأخوات إن كن بنات، أي: إذا وجد بنات للميت وأخوات، فالبنات من أصحاب الفروض، والأخوات ينتقلن من الفروض إلى التعصيب مع الغير -مع البنات- فيأخذن ما بقي.
لو كانت بنت صلبية وأخت شقيقة فللبنت النصف، وبقي النصف للأخت الشقيقة تعصيباً؛ لأنها عصبة مع البنت، فإذا وجد بنات وأخذن الثلثين فإن الباقي للشقائق، ولو وجد مع البنات أم وزوجة، فالأم تأخذ السدس، والزوجة الثمن والبنات الثلثين، وما بقي من التركة فهو للأخت.
وأنصح الإخوة مرة أخرى أن يرجعوا إلى كتب الفرائض التي اختصت بهذا الفن، والأصل في هذا الرحبية وأمثالها، والشروح القديمة عليها ميسرة وسهلة، ويستطيع أن يتعاون مع بعض إخوانه الذين درسوها سابقاً، أو الذين يستطيعون أن يحللوا ألفاظ الكتاب ويستفيدون منه؛ لأن الفرائض في كتب الحديث لا تكفي، إنما هي أصول كما أشرنا: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر) ، إذ كل مباحث الفرائض جاءت في هذا الحديث، لكن ما كل العقول تستطيع أن تستوعبها أو تستنتجها، فيجد في كتب الفرائض الشرح المبسط لهذا الباب.(228/8)
اختلاف العلماء في كون الكفر ملة واحدة
قال المصنف رحمه الله: [وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يتوارث أهل ملتين) رواه أحمد والأربعة إلا الترمذي، وأخرجه الحاكم بلفظ أسامة، وروى النسائي حديث أسامة بهذا اللفظ] .
تقدم في الحديث السابق: (لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم) ، وهذا فيه نوع من الإجمال، وكان حري بالمؤلف أن يأتي بهذا الحديث بجواره، ولكنه جاءنا بحديث بيان ميراث البنت وبنت الابن والأخت معهما، وهنا: (لا يتوارث أهل ملتين) ، الملة: هي المعتقد والدين، وإذا نظرنا إلى ملتين وجئنا إلى كلام العلماء: هل الكفر كله ملة واحدة أو ملل شتى.
إن كان الكفر كله ملة واحدة؛ فهذا بمعنى الحديث الأول: (لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم) ، أياً كان نوع كفره، وإذا كان الكفر مللاً شتى فيكون هناك جانبان: علاقة المسلم بغيره، وعلاقة أصحاب الملل بعضهم ببعض.
وهنا نجد من العلماء من يقول: الكفر كله ملة واحدة.
وهناك من يقول: الكفر ملل.
ويستدل كل بما لديه.
ومن أدلة كون الكفر مللاً شتى أن هناك اليهود والنصارى، وكل منهما يحارب الأخرى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة:113] ، فكل منهما يحارب الأخرى في ملتها وعقيدتها.
مالك رحمه الله يقول: الكفر ثلاث ملل: يهودية، ونصرانية بنص الكتاب (وقالت اليهود) (وقالت النصارى) وما عدا اليهود والنصارى يجتمعون تحت مسمى ملة واحدة، فالمجوس والصابئة وعبدة الأوثان.
كل هؤلاء عند مالك ملة واحدة.
وهناك من يقول: كل مسمى من هذه المسميات ملة مستقلة.
وهناك من يقول: كل هذه الأصناف ملة واحدة.
وعلى هذا فالمسلم لا يرث اليهودي ولا النصراني، ولا أجناس الملل الأخرى، وعند مالك: اليهودي لا يرث النصراني، والنصراني لا يرث اليهودي، وكل منهما لا يرث الملل الأخرى من الصابئة والمجوس وعبدة النجوم.
إلخ.
إذاً: (لا يتوارث أهل ملتين) ، أي: مختلفتين في المعتقد والمنهج، والبعض يقول: إن المجوس ملة مستقلة، وكان لها كتاب ثم نسخ، والذي يهمنا الخلاف في ميراث المسلم من غيره، سواء كان غير الإسلام ملة واحدة فلا ميراث أو مللاً شتى أيضاً فلا ميراث بينها وبين المسلمين، أما هم فيما بينهم فسيرجع إلى التفصيل المتقدم، إن قلنا: بملل شتى فلا يهودي يرث نصرانياً، ولا نصراني يرث يهودياً، ولا واحد منهما يرث مجوسياً ولا بوذياً ولا وثنياً.(228/9)
ميراث الجد مع الإخوة
قال المصنف رحمه الله: [وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابن ابني مات، فما لي من ميراثه؟ فقال: لك السدس.
فلما ولى دعاه، فقال: لك سدس آخر، فلما ولى دعاه، فقال: إن السدس الآخر طعمة) رواه أحمد والأربعة، وصححه الترمذي، وهو من رواية الحسن البصري عن عمران، وقيل: إنه لم يسمع منه] .
هذا شروع أو بيان لما جاء في ميراث الجد، والجد -كما قال بعض السلف- لا حياه الله ولا بياه، أي: اضطربت الروايات في حقه، فهناك من يجعله كالوالد سواء لقوله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78] ، وقوله: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82] ، فقالوا: الجد من جهة الأب كالأب، ويجمعون على أن الجد من جهة الأم لا مدخل له في الميراث، وكل جد من أدلى إلى الميت بواسطة أنثى فلا ميراث له، والجد الصحيح عندهم: هو الذي أدلى إلى الميت بمحض طريق الذكورة أبوه، أبو أبيه، أبو أبي أبيه، أبو أبي أبي.
أبيه، فهؤلاء كلهم جدود للميت، وكلهم له حق في الميراث ما لم يكن هناك من يحجبه، فهذا الجد الذي جاء وقال: (إن ابن ابني) هو جد لأب، والجد لأم لا يخطر على بالنا، إلا إن كان من ذوي الأرحام، وذوو الأرحام لهم منهج مستقل.
قال: (إن ابن ابني مات، فماذا لي من ميراثه) ، هنا القضية الواقعية بالفعل أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لك السدس.
ثم ولى فدعاه، قال: لك سدس آخر.
فلما أخذ السدس الآخر ولى فدعاه، قال: السدس الآخر طعمة) يعني: ليس بفرض، وهنا الحكمة في التعليم وعدم اللبس؛ لأنه لو قال: لك الثلث -وهو مجموع السدسين- لربما ظن الجد أن فرضه من ولد ولده الثلث، ولكن الحال ليس كذلك، فالجد له السدس فرضاً، والباقي تعصيباً، فنجد من هذا حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والإرشاد، وعدم إيجاد اللبس على السائل، فأعطاه حقاً أولاً بالفريضة حتى ولى وانفصل بهذا الحق وانقطعت علاقته، فدعاه، وقال: لك سدس آخر، فأخذه وذهب، ثم دعاه وقال: السدس الثاني هذا ليس كالأول، الأول فريضة والثاني طعمة.
على هذا التفصيل يأتي الكلام في الجد، وكما قال الشوكاني: وللعلماء في الجد أقوال كثيرة، من أراد التفصيل فيها رجع إلى كتب المواريث.
ومما ذكر عن ميراث الجد في عهد الصحابة ما يقال: إن عمر رضي الله تعالى عنه مر بـ عثمان وهو جالس في الطريق، فسلم عليه فلم يرد عليه السلام، فأخذ في نفسه، وأتى أبا بكر رضي الله تعالى عنه فقال: يا أبا بكر! سل عثمان ما لي أسلم عليه فلا يرد علي السلام؟! دخلنا في الخصومة، ودخلنا في الظنيات والتقديرات، ونبني على الحبة قبة، فلم ينته عمر من كلامه إلا ودخل عثمان فقال: السلام عليكم.
فقال له أبو بكر: ما لك يا عثمان لا ترد السلام على عمر؟ وهذا هو الموقف الصحيح؛ أن نسأله ما عنده؟ قال: ومتى سلمت يا عمر؟ قال: حينما كنت جالساً في المكان الفلاني.
قال: والله ما شعرت به ماراً ولا سمعته حين سلم.
إذاً: قد كان عنده عذر، هناك فتش عمر عما يشغل بال أخيه عثمان عنه؛ لأن مثل هذه الحالة لا تكون إلا في إنسان لا يشعر بمن حوله، وهذه قد تحدث.
قال عمر: فيم كنت تفكر؟ قال: كنت أفكر في ميراث الجد، وكنت أقول: ليتنا سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطانا فيه علماً شافياً، فقال عمر: والله ما أخرجني من بيتي الآن إلا قضية الجد.
إذاً عمر كان في بيته يفكر في الجد، وعثمان كان مشغول البال في الجد، إذاً: الجد شغلهم؛ لأنه لم يأت فيه نص صريح في حكمه في الميراث.
هذا الحديث على ما في سنده، إلا أنه لا بأس به، وهو يعطينا: أن الجد له حالتان -هذا مبدئياً-: حالة يرث بالفرض فله السدس، فلو أن الفروض استغرقت جميع التركة وعالت وفيها جد، فإننا نعطيه السدس ليأخذ حقه فرضاً، وتارة يرث بالتعصيب، كهذا السدس الثاني الذي هو طعمة، فإذا أخذ أصحاب الفروض فروضهم، وبقي شيء زيادة عن السدس أخذه تعصيباً.
أي أنه إذا بقي السدس أخذه فرضاً، وإذا بقي أقل من السدس يفرض له السدس ويكمل له وتعول المسألة من أجله.
والفقهاء رحمهم الله لما اختلفوا في الجد منهم من قال: الجد أب.
وهو مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله، والمعمول به حتى الآن، فيحجب الإخوة، وغير الأحناف يقولون: الجد والإخوة يرثون جميعاً لكونهم معه سواء في مدى قرب الجد والإخوة من الميت.
كم بين الجد والميت من واسطة؟ واحد وهو الأب، وكم بين الأخ لأب وبين الميت؟ واحد وهو الأب، إذاً قرب الجد من الميت كقرب الأخ من الميت، فقالوا: الجد يقاسم الإخوة.
وإذا لم تبق الفروض شيئاً ماذا يفعل؟ قالوا: إذا لم تبق الفروض شيئاً للجد فيفرض له السدس، وتعول له المسألة، ويسقط الإخوة.
الخلاصة: الجد مع غير الإخوة له ثلاث حالات، فيرث: إما فرضاً وإما تعصيباً، وإما فرضاً وتعصيباً معاً كهذا الحديث.
فإذا وجد الإخوة فهو بالأحظ من ثلاث حالات؛ الحالة الأولى: يفرض له السدس إن لم تبق الفروض شيئاً، فبدلاً من أن نقول: هو عاصب، والعاصب ليس له شيء.
نقول: يدخل الجد في خط أصحاب الفروض، فنفرض له السدس.
وإذا كانت الفروض أخذت نصف التركة، وبقي النصف، فهنا الباقي يقتسمه الجد مع الإخوة بحسب الأحض من ثلاث حالات: إما أن يأخذ ثلث الباقي إذا كان ثلث الباقي أحظ له من سدس الجميع، أو يقاسم الإخوة كواحد منهم، أو يأخذ سدس المال إذا كان أحظ له من المقاسمة وثلث الباقي.
هذا مذهب الجمهور على أنه مع الإخوة يخير، ويعامل بما هو الأحظ من أمور ثلاثة كما تقدم ولو كانوا خمسة إخوة وهو السادس فأيهما أحسن: أن يأخذ ثلث الباقي أو يقاسم ويأخذ سدس الباقي؟ إذا قاسم سيكون نصيبه واحداً من ستة مما أبقت الفروض، وإذا قال: لا أريد مقاسمة وآخذ ثلث الباقي فهو أحسن له، وإذا كان الباقي سدس المال، كأن تكون الفروض استغرقت التركة وما بقي إلا السدس فهل يأتي الإخوة ويقاسمونه في هذا السدس؟ لا، بل يقال: هذا السدس فرضه وليس للإخوة شيء.
ونرجع ونقول كما قال الشوكاني: وللعلماء في الجد أقوال كثيرة، من أراد الاستيعاب والتوسع فليرجع إلى كتب الفن.
وأحسن ما بين أيدينا من الكتب كتاب العذب الفائض، وهو من الكتب القديمة، أما الكتب الجديدة فهي -كما يقال- قطرة من بحر، لن يأتوا بشيء من صناديقهم، ولكن أخذوا من تلك الموسوعات القديمة الموجودة عن سلف الأمة.
وبالله تعالى التوفيق.(228/10)
كتاب البيوع - باب الفرائض [2]
اتفق الفقهاء على توريث أصحاب الفروض، إلا أنهم اختلفوا في توريث الجدة على ثلاثة أقوال، ثم اختلفوا في ميراث الخال، وكذلك ميراث القاتل عمداً، وكذلك ميراث الحمل، وما يتخرج عليه من مسائل عصرية كأطفال الأنابيب، وللعلماء تفصيلات وأدلة يبينون فيها سبب اختيارهم لما رجحوه من الأقوال.(229/1)
ميراث الجدات
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله.
وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن ابن بريدة، عن أبيه رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للجدة السدس إن لم يكن دونها أم) رواه أبو داود والنسائي، وصححه ابن خزيمة وابن الجارود، وقواه ابن عدي] .
من مشاكل الميراث ميراث الجدة، والجدة هي أم الأم أو أم الأب، يقولون: إن الجدة جاءت لـ أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فقالت: أعطني ميراثي في قضية الجد أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم السدس وتساءل العلماء: من كان مع الجد حتى أعطي السدس؟ وعمر رضي الله تعالى عنه لما أتاه سائل في الجد قال: من عنده علم فليأتنا؟ فقام رجل فقال: يا أمير المؤمنين! إن رجلاً أتى النبي فأعطاه السدس، ثم دعاه فأعطاه السدس طعمة.
فقال عمر: مع من ورثه؟ قال: لا أدري.
قال: لا حياك ولا بياك، ما أغنيت شيئاً.
العلماء يتساءلون مَن مِن الورثة أصحاب الفروض الذين يبقى بعدهم الثلث حتى يحصل الجد على سدسين؟ فقالوا: المتوقع في هذا: أن يكون الميت ترك بنتين، فالبنتان لهما الثلثان، فبقي الثلث فأخذه الجد فرضاً وطعمة، أو ترك بنتاً وبنت ابن، فالبنت لها النصف، وبنت الابن لها السدس تكملة الثلثين، وبقي الثلث بعدهما للجد فرضاً وطعمة، هذا تتمة لمن كان مع الجد حينما أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم ما أعطاه فيما تقدم.
هنا الجدة أعطاها النبي صلى الله عليه وسلم السدس، هل الجدة من ذوي الفرائض في كتاب الله؟ ليست مذكورة، إذاً: هذا عطاء من النبي صلى الله عليه وسلم للجدة، بشرط ألا تكون الأم موجودة، فالرسول إنما أعطى الجدة سدس الأم، إذاً: أصل السدس الذي تأخذه الجدة هو للأم، فإذا لم توجد الأم انتقل إلى أمها، وعلى هذا كان عطاء من النبي صلى الله عليه وسلم.
ومبحث العلماء في الجدة والجدات من جهتين: جهة الجهات التي ترث منها الجدة والجدات، وجهة توريث المجتمعات من الجدات.
فـ مالك رحمه الله يورث من جهتين: أم الأم وأم الأب فقط.
وأحمد رحمه الله يزيد جدة ثالثة، وهي: أم أب الأب، يعني جدة الأب.
وأبو حنيفة والشافعي رحمهما الله يورثان كل جدات وجدن متساويات قال في الرحبية: وإن تساوى نسب الجدات وكن وارثات فالسدس بينهن بالسوية.
وكن كلهن وارثات، أي: ولا توجد واحدة محجوبة بمن قبلها.
وعلى هذا: فإن السدس ميراث الجدة إن انفردت من جهة الأم أو من جهة الأب إن لم توجد الأم.
ومالك يورث اثنتين، وأحمد يزيد واحدة، والشافعي وأبو حنيفة: يورثان كل من وجد من الجدات متساويات سواء كن أربعاً أو خمساً أو أكثر أو أقل.
ولنعلم بأن الجدة لا تكون من جهة الأم إلا واحدة: أم الأم، وأم أم الأم، وهكذا، فخط الأم هذا كله جدة واحدة، لكن أم أب الأم ساقطة؛ لأنها أدلت إلى الوارث بذكر وهو أب الأم، إذاً الجدة الوارثة من جهة الأم لا توجد إلا من طريق واحد.
ومن جهة الأب عند مالك أم الأب، وهي أم الأب الأدنى وأمهاتها، وسلسلتها تتعادل مع أم الأم.
ويزيد أحمد أم أب الأب يعني: جدة أبي الميت أم أبي أبيه، وأمهاتها، وإذا توسعنا أكثر من هذا فأم أبي أبي الأب لا تدخل عند أحمد ولا عند مالك، ولكن تدخل عند الشافعي وأبي حنيفة.
لم تكن الأم موجودة؛ لأن الأم تحجب الجدة لأن الأصل لها، سواء كانت من جدة من جهة الأب أو الأم.
ومتى يتساوى ثلاث جدات أو أربع أو خمس؟ هذه مشكلة، ولا عمر نوح عليه السلام! إذا قلنا: أم الأم وأم الأب متساويات وقريبات، فيمكن أن توجد هذه الجدة وتلك معاً، لكن إذا صعدنا درجة أم أم الأم وأم أم الأب فهن متساويات، في الدرجة التي تأتي عند أحمد: أم الجد، فصار بينها وبين الميت الأب والجد وصارت هي في الدرجة الثالثة، فإذا تساوى الجدات الثلاث في الدرجة، فعند أحمد الثلاث يرثن، وعند مالك لا يرث إلا اثنتان، وعند الشافعي وأبو حنيفة ترث ولو كانت أم أبي أبي أبي الأب، وجدة جدة جدة جد الجد، ولن يعيشوا إلى هذا الوقت! وهذه مسألة نظرية، وفي اعتقادي أنها ما وقعت ولن تقع، إذا قلنا: الجدة في الطبقة الخامسة، فبينها وبين المائة شيء يسير، ستعيش إلى ذلك الوقت، وهل هذا كما يقولون: من التصوير الفقهي، والمسائل المفترضة؛ لأنه متمش مع القاعدة الفقهية في الميراث؟ هنا ناحية بعد هذا (وكن كلهن وارثات) ، إذا وجدت أم الأم، وأم أم الأم، فهناك قربى وبعدى، فأم الأم هي القريبة، أما أم أمها فبعيدة، إذاً: السدس يكون للقريبة، فكل من كانت أقرب للميت سواء من جهة واحدة أو من جهات أخرى، فإن القربى المنفردة في طريقها تحجب البعدى على التحقيق، وإذا كان الطريق متعدداً، وعندنا أم أم أم أم أم أم، يعني: جدة رقم ستة للأم، وعندنا جدة رقم سبعة للأب، تفاوت القرب والبعد، فالذي يرث منهما القربى، ولو عكسنا وجعلنا السادسة من جهة الأب، والسابعة من جهة الأم، فهناك من يقول: القربى تحجب البعدى ولو كانت البعدى من جهة الأم، فالجدة رقم ستة من جهة الأب تحجب الجدة رقم سبعة من جهة الأم، وهذا قول للإمام أبي حنيفة رحمه الله.
والآخرون يقولون: إذا كان أصل السدس للأم، فجدة الأم هي الأصل، فإن بعدت ووجد معها أقرب منها من جهة الأب، فإن قوة الأصل في كون السدس للجدة للأم يدنيها؛ لأنها هي الأصل، فتشارك الجدة من الأب وإن كانت التي لأم بعدى، فتنزل وتشارك التي لأب وإن كانت التي لأب قربى؛ لأن الأصل مع التي لأم، فيقوي ضعف بعدها.
وإذا كان العكس: القربى للأم، والبعدي للأب؟ فالتي للأب لا تنزل وتشارك التي لأم، بل تسقط؛ لأن التي لأم جمعت قوتين: قوة القرب وقوة الأصالة.
فاختصت عند قربها بالسدس، ولعل في هذا القدر كفاية من جهة الجدات.(229/2)
اختلاف العلماء في ميراث الخال
قال المصنف رحمه الله: [وعن المقداد بن معدي كرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الخال وارث من لا وارث له) أخرجه أحمد والأربعة سوى الترمذي، وحسنه أبو زرعة الرازي، وصححه الحاكم وابن حبان] .
الخال أخو الأم، والعم أخو الأب، فهذا العم -أخو الأب- وارث، والخال -أخو الأم- أيضاً لابد أن يرث، والعجيب: أن الجمهور لا يقولون بهذا، يقولون: الخال ليس بوارث، لأنه إن كان وارثاً بفرض فأين فرضه، وإن كان بتعصيب فهناك حديث: (ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر) ، وإذا ورثتم الخال فلماذا لا تورثون الخالة، والعمة مع العم؟ إذاً: أوقفوا العمل بهذا الحديث إلا بعض من هو خارج عن المذاهب الأربعة، ونحن لا نستطيع أن نتتبع هذه الشواذ، إلا أن المعروف عن طوائف من الشيعة أنهم يورثون الخال، ويجعلون له ميراثاً لا على الحديث فقط، فقوله: (الخال وارث من لا وارث له) معناه: إذا وجد وراثٌ للميت مع وجود الخال فإن الخال لا شيء له؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (الخال وارث من لا وارث له) .
قال بعضهم: الخال هنا بمعنى بيت المال.
وهذه بعيدة جداً، وردوا عليهم وقالوا: لو كان يريد ذلك لقال: (أنا وارث من لا وارث له) .
يهمنا في قضية الخال: أن الجمهور تركوا العمل بهذا الحديث للحديث المتقدم: (ألحقوا الفرائض بأهلها) ، وليس الخال صاحب فرض لا في الثمن ولا الربع ولا النصف ولا الثلثين ولا الثلث ولا السدس، إذاً: ليس له فرض.
قوله: (من لا وارث له) ، ما حكم العصبة؟ إذا وجد أصحاب الفرائض ما هو موقف الخال، والشيعة لما ورثوه أنزلوه منزلة الأم كما ينص الحلي في كتابه الشرائع: لو مات عن خال وعم، فللخال الثلث، وللعم الثلثان؛ لأنه لو وجدت الأم مع العم يكون لها الثلث؛ لعدم الفرع الوارث ولعدم وجود جمع من الإخوة، فلها الثلث، قالوا: فيأتي الخال وينزل منزلتها، ويأخذ حقها.
إذا: هذا الحديث لم يعمل به الجمهور لمعارضته لما هو أقوى منه، ولمخالفته لمدلول قوله: (ألحقوا الفرائض بأهلها، وما بقي فلأولى رجل ذكر) .
بقي أن يقال: الخال والخالة والعمة من ذوي الأرحام، وبنت البنت وابن البنت، وكل الأقرباء الذين لا ميراث لهم فهم من ذوي الأرحام، والخلاف في توريث ذوي الأرحام موجود عند الفقهاء، فمنهم من يورث، ومنهم من يقول: بيت المال أولى منهم إن انتظم، أي: إن كان موجوداً ويتقبل ميراث من ليس له وارث، ويتولى الإنفاق على مصالح المسلمين.(229/3)
ولاية رسول الله على المؤمنين
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي أمامة بن سهل رضي الله عنه قال: كتب عمر إلى أبي عبيدة رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الله ورسوله مولى من لا مولى له، والخال وارث من لا وارث له) رواه أحمد والأربعة سوى أبي داود، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان] .
هذا الخبر عن عمر رضي الله عنه يؤيد الخبر الذي قبله، إذاً: عمر يرى ميراث الخال، لكن على أي حالة؟ وما نصيبه في الميراث؟ لا ندري ما نعطيه، وليس عندنا فيه شيء.
قوله: (الله ورسوله مولى من لا مولى له) .
هذه واضحة بأن من مات ولا وارث له ولا مولى له يواليه، والمولى هنا عام لغةً، وليس المولى الخاص بالعبد الذي أعتقه ومولاه.
فالرسول صلى الله عليه وسلم ولي من لا ولي له، والقاضي ولي من لا ولي له نيابة عن ولي الأمر، فإذا كانت امرأة وليس لها عاصب أو ولي أمر يزوجها فالقاضي وليها يزوجها، وهكذا ولي الأمر له هذه الولاية، ولذا تجدون الفقهاء يقولون في بعض القضايا: هل حكم فيها الرسول بالولاية أو بالتشريع؟! فهنا الولاية عامة، وقد جاء ما يوضح هذا في أول الإسلام؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدمت إليه جنازة للصلاة عليها سأل: هل عليه دين؟ إن قالوا: نعم.
قال: صلوا عليه أنتم.
وإن قالوا: لا.
صلى عليه، ثم بعد أن فتح الله الفتوح، وصار عند المسلمين المال قال: (من ترك غنماً فغنمه لورثته، ومن ترك غرماً فغرمه علي) ، وكلمة: (علي) ، يعني: علي ولي الأمر، وولي الأمر لا يدفع من عنده شخصياً، ولكن من بيت مال المسلمين.
وهذا تحقيق -كما يقال- لكفالة الإسلام للمعدمين، وهذا له طرقه، ويكون التصرف مع بيت مال المسلمين عن طريق الحاكم، حتى لا ينتحل كل إنسان استحقاقاً بأي وجه من الوجوه فينفد مال المسلمين ويأخذ ومن لا يستحق الأخذ.
وعلى هذا إذا انتظم بيت مال المسلمين، وكان فرد من أفراد الأمة الإسلامية عليه حقوق نظر فيها: إن كانت هذه الحقوق ثابتة بوجه شرعي، ولحقته من جانب مشروع؛ تولى وليه وهو صاحب الأمر من بيت مال المسلمين أمر دينه وقضاه، وإن كان غير ذلك فالله تعالى أعلم: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6] .
بمعنى أعم: يقضي صلى الله عليه وسلم في أمر المسلمين بما يراه بالولاية، فيحجر على السفيه ويحفظ ماله، ويطالب بحقه إذا لم يكن له قدرة على المطالبة، فلو قتل أبو قاصر صغير من الذي يتولى حقوق هذا الطفل في المطالبة وحفظ حقوقه؟ ولي أمر المسلمين، إما بنفسه أو يقيم عليه قيماً أو وصياً يتولى ذلك، فإن كان يستحق الدية طالب بها وحفظها حتى يكبر ويرشد، وإن كان يستحق دماً قصاصاً، فهناك من يقول: بنظر الولي ينفذ، وهناك من يقول: المطالبة بالدم من حق صاحب الدم العاصب، فينتظر بهذا الصغير حتى يبلغ ويرشد ويطالب بالقصاص، فيعطى طلبه.
المرأة التي لا ولي لها، يزوجها الوالي بالولاية، القاصر المعتوه يقيم عليه قيماً نيابة عنه يرعى شئونه ومصالحه، وعلى هذا {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [الأحزاب:36] ؛ لأن ولاية رسول الله على المسلمين ولاية جازمة ومنفذة وقائمة، وهو أولى بهم من أنفسهم.(229/4)
ميراث الحمل
قال المصنف رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استهل المولود ورث) ، رواه أبو داود، وصححه ابن حبان] .
هذا الحديث فيما يتعلق بصحة ميراث الحمل إذا وُلد، ويتفرع عليه بعض المسائل في الرق وأم الولد.
يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا استهل) الاستهلال والإهلال والتهليل مأخوذ من الهلال، أصل وضع الكلمة للهلال حينما يظهر في أول الشهر؛ لأن الناس يترقبونه، فإذا رآه أحدهم هلل، أي: رفع صوته وقال: هذا الهلال.
ثم استعملت الكلمة بعد ذلك في كل تهليل، أي: في كل رفع الصوت، وتستعمل من باب النحت التهليل قول القائل: لا إله إلا الله.
كما قيل: التسبيح من قول القائل: سبحان الله.
الحوقلة من قوله: لا حول ولا قوة إلا بالله.
واستهلال الصبي إنما هو ظهور الصوت بالبكاء والصراخ عند ولادته؛ لأن هذه الحالة هي أصدق علامة على حياتها؛ لأن الميراث لا يكون إلا للحي، فإذا لم يستهل ولم يصرخ ولم تثبت حياته فلا ميراث له، والأصل في باب الحمل في الميراث أنه واسع؛ وذلك أن الميت إذا مات وترك ورثة أحياء، وترك زوجه حاملاً، هذا الحمل إن ثبت وجوده في الرحم كائناً حياً فهو من أهل الورثة، ويستحق الميراث باستهلاله صارخاً.
أما إذا جاء وقت الولادة فنزل ميتاً فلا ميراث له، وإن كان الأصل فيه عند موت مورثه الحياة، لكنه لما جاء إلى الدنيا جاء إليها ميتاً، والميت لا يرث شيئاً.(229/5)
اختلاف الفقهاء في التوريث التقديري وتوقيف القسمة عند وجود حمل
والفرضيون حينما يعملون المسألة الفرضية التي فيها الحمل ينقسمون إلى قسمين: هناك من يوقف التركة فلا يقسم منها شيئاً، ويقول: ننتظر حتى يأتي الحمل لننظر أهو ذكر أم أنثى أو توأم ذكور أو إناث، أو ذكر وأنثى؟ هذا على أقل التقدير في التوأم، وقد يكون التوأم أربعة وخمسة وستة وسبعة، وقد سمعت قصص كثيرة في الآونة الأخيرة عن المرأة التي ولدت سبعة في المستشفى، وكانوا يأخذونهم واحداً واحداً للتطعيم أو للتطهير أوكذا، وكانت نائمة، فاستيقظت فوجدت ستة، فصرخت فأفزعت المستشفى كله، قالوا: ما بك؟ قالت: أين السابع؟ قالوا: هل يكفيك الستة؟ قالت: واحد مثل الستة.
والقصة التي يذكرها الشافعي رحمه الله: عن المرأة التي ألقت كيساً في صنعاء فظنته ديدان، فألقته في الشمس، فجاءهم الدفء فتحركوا فإذا هم أولاد صغار، أربعون طفلاً في كيس، وأخبار تذكر ويذكرها السلف، سواء كانت الحقيقة أو قريباً من الحقيقة، لقد لامسنا أو شاهدنا أو سمعنا وقرأنا عن الستة والسبعة، فماذا يفعل قاسم التركة في نصيب الحمل؟ الشافعي رحمه الله ليس عنده ميراث بالتقدير، فيوقف التركة حتى يتبين الوارث: فالخنثى المشكل يوقف التركة حتى نعرف هل هو ذكر أو أنثى، وفي الغرقى والهدمى نوقف التركة حتى نعرف من الأسبق، وفي الحمل نوقف حتى يأتي ونتبين كم هو.
والأئمة الثلاثة رحمهم الله يعملون بالتقدير، فمثلاً تركة فيها خنثى مشكل، فيقولون: نقدر المسألة مرتين، مرة على أنه ذكر، ومرة على أنه أنثى، ثم نعطي الورثة الأقل من أنصبتهم في التقديرين، ونحفظ له الأكثر، فإذا جاء على أكثر التقدير أخذه، وإذا جاء أقل من التقدير رددناه على بقية الورثة، وكذلك الحمل، إلا أنهم في الحمل يقدرون المسألة خمس مرات، ويعمل له خمسة جداول لتقسيم تركة، ويؤتى بالجامعة للمسائل الخمس، ويعرف جزء السهم، ويعطى الموجودون الأقل من حصتهم في الجداول الخمسة، ويوقف الباقي لحساب الحمل.(229/6)
يشترط في توريث الحمل وجوده عند موت مورثه
يشترط في الحمل أن يكون عند موت مورثه موجوداً بالفعل، وكيف نعرف؟ ما عندنا أشعة، قالوا: نعمل بالحساب.
فإذا جاء بعد موت مورثه لأقل من ستة أشهر عرفنا أنه استوفى كامل الستة موجوداً في رحم أمه قبل موت مورثه؛ لأن أقل مدة الحمل ستة أشهر، فلو أنه ولد بعد مورثه بخمسة أشهر، فهو موجود في الرحم، إذاً: ثبت وجوده في الرحم عند موت مورثه.
فإذا مات المورث واعتدت الزوجة للوفاة، وبعد ستة أشهر قالت: أحس بحمل.
فننتظر حتى كمال تسعة أشهر حسب العادة عشرة أشهر، سنة وسنتين وثلاث، ماذا تقولين؟ قالت: الحمل موجود، أنا أحس به.
إلى أربع سنوات، فإذا جاء لأربع سنوات فأقل بأسبوع واحد قلنا: هو من الميت، واستكمل الأسبوع الناقص في حياة مورثه، هذا ما لم تتزوج.
فعلى كل: الفقهاء والفرضيون لهم حساب في إثبات الحمل عند موت مورثه.
وفي إثبات حياته ليستحق ما جعل له.(229/7)
علامات حياة الحمل عند الولادة
وكون الاستهلال هو علامة على الحياة هو العلامة الفارقة الأولى الواضحة التي يفهمها الجميع.
الفقهاء يزيدون على ذلك ما يسمى: بتحقيق المناط، وهو كل علامة تحقق أن المولود ولد حياً، فلو نزل ساكتاً وما صاح ولا شيء، لكنه أعطي الثدي فامتصه، فهل هو حي أو ميت؟ حي.
وضعناه في إناء فيه ماء، فإذا به يغطس بيديه ورجليه، فهل هو حي أو ميت؟ حي؛ لكن -كما يقول الفقهاء- لا حركة المضغوط، لو أنه حينما نزل من أمه تحركت يد أو رجل وسكن بعد ذلك، فهل تلك الحركة التي حصلت عند الولادة تدل على الحياة؟ قالوا: لا؛ لأنه كان مضغوطاً في الرحم، وخرج من مكان ضيق، واليد والرجل إذا كانت مضغوطة إذا ذهب عنها الضغط حصلت لهما حركة؛ فهذه حركة المضغوط.
لو أخذت هذا الثياب وضغطته بقوة ثم تركته فإنه سيتحرك، هل هذه حركة حياة أو حركة المضغوط؟ فإذا تحرك حركة تثبت حياته فالحمد لله، أما حركة المضغوط فلا.
ما تحرك، ولا مص الثدي، ولا صاح، لكن عطس، فالعطاس يدل على حياة، وهكذا بما يسمى تحقيق المناط في أنه نزل حياً.
لو مات بعد عشر دقائق أو خمس دقائق، فإذاً: هذا موت جديد حادث يثبت له ميراثه، وينتقل عنه إلى من يرثه من إخوانه وأمه.
إلى آخره.
فهنا: متى يستحق الحمل ميراثه، سواء أوقفنا قسمة التركة أو قسمنا الأقل على الحاضرين حتى لا يتضرروا، والذي أوقفناه لحسابه موجود، إن جاء ما يثبت حياته قلنا: تفضل هذا حقك إن كان يستحقه كله أو بعضه على حسب التقديرات، فهذا الحديث يدل على إثبات الحياة للوارث قبل موت مورثه أو إثبات وجوده.
وهنا أم الولد إذا كان الأصل فيها الرق، متى تتحرر في حياته أو بعد مماته؟ نقطة الصفر التي يموت فيها سيدها هي نقطة الصفر التي تتحرر فيها، إذاً: لم تجتمع مع سيدها في الحياة بحرية؛ لأن الحرية جاءتها بوفاة سيدها، إذاً: لا ترث؛ لأنها لم تشارك سيدها في الحياة بالحرية ولو لحظة.(229/8)
توريث أطفال الأنابيب
نحن عندنا مشاكل اليوم: طفل الأنابيب، كيف نثبت حياته عند موت مورثه ونثبت له حكم الحياة في النهاية؟ مهما كانت ظروفه وأوضاعه؛ لأنهم -على ما سمعنا من المختصين- يأخذون البويضة من الزوجة، ويأخذون الماء من الزوج، ويلقحون البويضة بماء زوجها، ثم يضعونها في أنبوب فيه سائل يتعادل مع حرارة الرحم، أو أن الزوجة بعد أن تلقح البويضة في رحمها -أو أنبوب فالوب كما يسمونه- وثبت تلقيح البويضة في داخل رحم الأم، لكن الأم لا يستطيع رحمها أن يواصل بالحمل وحينها تسقط، فيلجئون إلى إخراج البويضة الملقحة من المرأة، ويضعونها في جهاز يسمونه الأنبوب أو غير ذلك، فيواصل نموه داخل هذا الوعاء، فهو من الناحية القانونية والعرفية والشرعية ابن لهذين الزوجين، بخلاف ما يقع في بعض الجرائم حيث تلقح بويضات بعض النسوة بماء غير الزوج، فإذا كانت البويضة قد لقحت في حياة الزوج، وأخذت في النمو إلى أن تشكل هيئة إنسان، لا إن كان دماً جامداً مضغة أو علقة، بل ظهر فيه تخطيط الإنسان تأكيداً؛ لأن النمو مستمر في حياة الجنين، فإذا ظهر في خلقة الإنسان فإنه حينئذ ثبتت حياته في الأنبوب حين حياة أبيه، بعد هذا مات أبوه والجنين في الأنبوب حي على هيئة الإنسان، أي: ظهر فيه تخطيط الإنسان، وجزمنا بأنه طفل ماض في نموه إلى حالة الولادة.
إذاً: جاء الشرط الأول وهو ثبوت حياة الجنين في حال حياة أبيه، فأخذ طفل الأنبوب في طريقه إلى أن استكمل ستة وثلاثين أسبوعاً -التسعة الأشهر- فأخرج من الأنبوب إنساناً يصيح ويطلب الثدي، فإذا جاء مولود مكتمل، فحينئذ له ميراثه؛ لأنه ثبتت حياته عند استكمال مدة التلقيح أو الحضانة في هذا الجهاز.(229/9)
أحكام قتل الوارث لمورثه
قال المصنف رحمه الله: [وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس للقاتل من الميراث شيء) رواه النسائي والدارقطني، وقواه ابن عبد البر، وأعله النسائي، والصواب: وقفه على عمرو] .
يقولون في هذه القضية: إن القاتل يعامل بنقيض قصده؛ لأن غالب حالات قتل الوارث مورثه استعجالاً للميراث، ويلحق به قتل الموصي لمن أوصى إليه، كأن أوصى رجل لإنسان بعد موته ببيت، فطالت حياة الموصي، والموصى إليه ينتظر وفاته ليأخذ البيت، فلما استطال المدة قتله ليأخذ البيت، فمادام أن قصده بالقتل الحصول على الوصية فليحرم عليه أخذها.
ولا يرث من قتل من أجل الميراث لماذا؟ لأنه يعلم إذا قتل أنه لا يرث، فهو حريص على الميراث، إذاً سيحافظ عليه، ويبعد كل تهمة أو شبهة عنه في قتله حتى يصح له الميراث؛ لأنه حريص عليه، وكذلك الموصى إليه يبعد كل البعد عن قتل الموصي حتى تسلم له الوصية، فالمعاملة بنقيض القصد في القاتل وفي الموصي.
ولكن الفقهاء فصلوا في القتل، فقالوا: هو عمد، وخطأ، وشبه عمد، وشبه خطأ، فالعمد وشبهه يتفق الجمهور على أنه لا يرث؛ لأنه متعمد، إلا إذا كان متعمداً بحق بأن كان له عليه قصاص لابن عمه، بأن كان قد قتل أباه فجاء وهو العاصب فقتل قاتل أبيه والحال أنه عاصبه، فالأئمة الثلاثة يقولون: يرث؛ لأنه لم يقتل متعمداً من أجل ميراث، لكن قتله بحق ألا وهو القصاص.
والشافعي يقول: لا يرث، ولو كان قتله بحق.
الخطأ الشافعي يقول: إذا شارك في قتل الخطأ ولو بالشهادة عليه التي تثبت القصاص فلا ميراث له، ولو كان قاضياً وحكم بمقتضى البينة بقتله، وكان القاضي وارثاً لهذا فلا يرث منه مع أنه نفذ حكم الله بالقصاص! قال: لأنه شارك؛ فيحرم من الميراث سداً للباب بالكلية.
وما عدا الشافعي رحمه الله فإن مالكاً يقول: القاتل خطأ يرث من رأس المال قبل القتل، ولا يرث من الدية.
والخلاف في هذا موجود عند الأئمة رحمهم الله، والقصد فيه حرمان القاتل من الميراث لئلا يتعجل قتل مورثه من أجل أن يأخذ الميراث، ونظير ذلك من تزوج امرأة في عدتها، وهو يعلم أنها لا زالت في العدة، فإنه يفرق بينهما إلى الأبد، ولا يتزوجها بعد ذلك قط، حتى ولو تزوجت بعده برجل آخر؛ لأنه تعجل زواجها قبل انقضاء العدة؛ فيعامل بنقيض قصده، أي: حرصك عليها ضيعها منك، وكان الواجب الانتظار حتى تنتهي العدة وتصبح خاطباً من الخطاب، أو أن تحصل لك وعداً، أما أن تتزوجها وأنت تعلم فهذا يمنع منها إلى الأبد.
وهل يقام عليه الحد؟ منهم من يدرأ عنه الحد لشبهة العقد، ومنهم من يقول: يستحق الحد ويقام عليه.(229/10)
أحكام ميراث الولاء
قال المصنف رحمه الله: [وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما أحرز الوالد أو الولد فهو لعصبته من كان) رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وصححه ابن المديني، وابن عبد البر] .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الولاء لحمة كلحمة النسب، لا يباع ولا يوهب) رواه الحاكم من طريق الشافعي، عن محمد بن الحسن، عن أبي يوسف، وصححه ابن حبان وأعله البيهقي] .
هذان الحديثان يكمل بعضهما بعضاً، الأول: (ما أحرز الولد فهو لعصبته من كان) وأين أصحاب الفروض؟ قالوا: هذا ليس له دخل في الفروض، هذا جزء من الحديث الذي بعده، هذا فيما يتعلق بغير المال والميراث، مثل الحقوق العامة، والشفعة، ورد العيب، وبالأخص هنا في باب الميراث، فلعصبته ما كانوا.
الذي يختص بالعصبة في الميراث، ولا يدخل فيه صاحب فرض هو الولاء، فالولاء لحمة لا يوهب ولا يورث، إذاً ما أحرز الوالد والولد في الولاء فهو لعصبته من كان، ولا دخل لأصحاب الفروض في الولاء، والولاء لحمة كلحمة النسب لا يوهب ولا يورث ولا يباع، لا ينقل بعوض، ولا يتحكم فيه وارث.
وقوله في الحديث الأول: (لعصبته من كان) ، فيه قضية يذكرها الفرضيون، وأثناء الطلب أتعبتنا جداً، ولا ميراث لعصبة عصبة المعتق إلا إذا كانا عصبة للمعتق، وهو محل هذا الحديث.
يمثل له الفرضيون بصورتين: صورة يتحقق فيها عصبة المعتق، وصورة تنتفي فيها عصبة المعتق.
وذكر صاحب العذب الفائض في بعض فروعها يقول: غلط فيها من القضاة (ت) والتاء في حساب حروف الجمل أربعمائة (أبجد هوز) أربعمائة قاض غلطوا فيها، عصبة عصبة المعتق: رجل تزوج بامرأة من قبيلة تميم، والمرأة ليس لها عاصب في قبيلتها وقد أنجبت ولداً، وأعتقت عبداً، ثم توفيت فولاء العبد الذي أعتقته لابنها؛ لأنه عاصبها وأقرب عصبة لها، وإذا كان هذا الولد بعد أن حاز الولاء إليه توفي، وترك عمه أو ابن عمه وهم عصبة له، لكن هل هم عصبة للمرأة؟ لا، وعندئذ إذا حاز الولد الولاء بعصبته لأمه فعصبة عصبة المعتقة لا يرثون الولاء؛ لأنهم ليسوا عصبة للمعتقة الأساسية.
نعيد القضية بطريقة أخرى: مصري تزوج سودانية، فكان لهما ولد، والسودانية أعتقت عبداً، ثم ماتت عن ولاء العبد وعندها ولدها، فولاء من أعتقت لولدها من زوجها المصري.
فإذا مات الولد وفي حوزته الولاء الذي ورثه عن أمه، ويوجد عم للولد -مصري بلا شك- وابن عم عمه، فعمه وابن عمه عصبة له يرثان عنه المال، لكن هل يرثان عنه الولاء بالعصبة؟ لا، لماذا؟ لأنهما ليسا عصبة للسودانية.
مثال حينما يكون عصبة عصبة الميت عصبة للمعتق: امرأة تزوجت بابن عمها، هناك صلة؛ فالأسرة واحدة والجد واحد، وهذه المرأة أعتقت عبداً، وكان لها ولاؤه، ثم جاءت بولد حاز الولاء عن أمه، ثم مات الولد، وورثته أخته أو بنته أو عمه ممن هم عصبة له، أما ميراث المال فمستحق، وكذا العم عاصب في المال أيضاً.
بقي الولاء.
فعم الولد هل هو عاصب للمرأة التي أعتقت أم لا؟ عاصب؛ لأنها متزوجة بابن عمها، وعم الولد ابن عمها أيضاً، فهو عاصب لها في الأصل، إذاً: يحق له أن يرث الولاء.
هذا معنى قوله: (ما أحرز الوالد أو الولد فهو لعصبته من كان) .
أما الحديث الآخر: (الولاء لحمة كلحمة النسب، لا يباع، لا يوهب) ، ولا يورث.
إلخ.
هنا مسألة: فالولاء وصف معنوي يستحقه المعتق على من أعتقه؛ لأنه بمثابة من أخرجه من العدم إلى الحياة، كان ميتاً معنوياً، تحت حكم سيده لا يتولى المناصب الشرعية كالقضاء والولايات وغيرها، فلما أعتق صار كبقية الأحرار في حقوقهم الخاصة، فإذا مات المعتَق فولاؤه للمعتِق، ماذا ينفعه هذا الولاء للمعتق؟ يرث به ميراث العصبة، ولكن متى؟ قالوا: درجات انتقال التركة إلى الغير تبدأ بالفروض لقوله: (ألحقوا الفرائض بأهلها) ، فأول شيء نعطي أصحاب الفروض فروضهم.
المرتبة الثانية: العصبة لقوله: (فما بقي فلأولى رجل ذكر) .
فإذا بقيت سهام ولم يوجد عاصب نرد على الورثة بنسبة ميراثهم، وهو نظام ما يسمى بنظام الرد، أو أننا ندخل ذوي الأرحام بعد العصبة النسبية، وهم يختلفون أيهما يقدم: الرد، أم إدخال ذوي الرحم ليأخذوا الباقي على نظام توريث ذوي الرحم بالتنزيل أو القرابة، ثم بعد ذلك العصبة بالسبب، والعصبة بالسبب هي الولاء، فالولاء هو آخر من يأتي إلى الميراث.
مسألة: عتق إنسان عبداً، وأصبح له الولاء عليه، فبالولاء إذا مات العبد وكان له أولاد أو ذوي فروض أعطينا ورثة العبد مما يملك على الترتيب السابق: ذوي الفروض، ثم العصبات، ثم الرد أو ذوي الرحم، ثم المعتق بالولاء.
مسألة: أعتق عبداً ومات السيد قبل العبد، ولم يكن للسيد من يرثه، أو عنده أصحاب فروض، فما بقي بعد الفروض هل العبد الأدنى -يسمى العبد الأدنى أو الولاء الأدنى والولاء الأعلى، أو المولى الأدنى أو المولى الأعلى- يرث سيده؟ لا يرث، ويصير حقه إلى بيت المال، فأيها أقرب وأولى بالمنفعة: هذا العبد الذي كان يخدم طوال عمره في حياة سيده، أو بيت المال الذي كل إنسان يأخذ منه خمسه؟ هو أقرب.
ويذكرون عن عثمان رضي الله عنه -ورواية عن أحمد - أن الولاء يورث به من الطرفين كالزوجية، أي كما أن كلاً من الزوجين يرث الآخر، فهو سبب مزدوج.
ولكن الجمهور على أن الولاء لطرف واحد، وهو للمولى الأعلى يرث بولائه عتيقه.
والله تعالى أعلم.(229/11)
تخصصات الصحابة في العلوم الشرعية
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي قلابة، عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفرضكم زيد بن ثابت) أخرجه أحمد والأربعة سوى أبي داود، وصححه الترمذي، وابن حبان، والحاكم، وأعل بالإرسال] .
لو جئنا إلى العرف الحاضر في الدراسة كان لدينا ثانوية عامة، وقد يكون فيها نوع تخصص: أدبي، علمي، إذا جئنا إلى شهادة البكالوريوس وجدنا الكليات المتعددة ما بين طب وهندسة وزراعة وميكانيكا وأشياء ومتعددة، ثم بعد البكالوريوس تأتي شهادة الماجستير، ثم بعد هذا يختار بحثاً آخر في الدكتوراه، وبهذا بلغ القمة في منهج الدراسة النظامي، وهو في حياته العملية يستفيد من تجاربه ربما أكثر من دراسته، فإذا جئنا الآن إلى الطب بصفة عامة، تخرج من كلية الطب، انصرف إلى الماجستير، ما موضوعه؟ اختار جهازاً في الجسم، وتخصص فيه بشهادة ماجستير، نفس القسم الذي اختاره فيه جزئيات، فعمل شهادة دكتوراه في جزئية من تلك الجزئيات؛ مثلاً: جراح، تخرج بكالوريوس جراحة، ثم في الجراحة هناك جراحة المخ، والعظام، والغضروف.
إلخ، فتخصص في نوع من أنواع الجراحة، حينما نعمل (كونسلت) طبي على مريض في عملية جراحية، هل نأتي بطبيب العيون والأسنان والجلد ليكتبوا تقريراً على هذا المريض؟ أم نأتي بالمختصين في موضوعه الجراحي المطلوب؟ نأتي بالمختصين، ولا دخل لطبيب الأسنان ولا العيون ولا لطب الجلديات ولا المسالك البولية في عملية جراحية للمخ مثلاً؛ لأن المختصين في هذه المادة أعرف، ويتعاونون فيما بينهم.
إذا كان الشخص مريضاً بالقلب ومر عليه طبيب أسنان وأعطى تقريراً عنه، هل يسمع منه؟ ليس له دخل في هذا، نعم يحترم ولكن لا يعمل به في شيء، فإذا جاء المتخصص في القلب اعتبرنا قوله.
وهكذا أيها الإخوة كان التخصص العلمي موجوداً في عهده صلى الله عليه وسلم، فقوله: (أفرضكم) ، أصبح زيد هنا من خاصة العلماء، فإذا كان جميع العلماء من سلف الأمة وخلفها يعرفون الفرائض، يدرسونها، ويقسمون التركات، والقضاة يحكمون فيها، ولكن عند النزاع في مسألة لا نأخذ فيها رأي شخص عادي حتى لو كان أبا بكر وعمر، ولكن رأي زيد؛ لأن الرسول خصه بأنه أفرض -أفعل تفضيل- وما استثنى أبا بكر ولا عمر، فعلى هذا: إذا اختلف السلف أو الخلف في قضية فرضية وظهر رأي لـ زيد، كان هذا ترجيحاً لهذه المسألة.
وجاء عن ابن عباس: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) ، فإذا تنازعوا في تأويل آية، وكان لـ ابن عباس رأي فيها كان رأي ابن عباس مقدماً على غيره.
(أعرفكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل) ، إذا اختلفوا في مسألة أحلال أم حرام، وكان هناك رأي لـ معاذ كان رأي معاذ هو الأرجح، وكذلك (أمين هذه الأمة أبو عبيدة) .
وعلى هذا: فالجمهور يعتبرون رأي زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه مرجحاً في مسائل الخلاف في موضوع الفرائض.
والله سبحانه وتعالى أعلم، ونوصي الإخوة -مرة أخرى- بالعناية بالفرائض؛ لأنها كما قيل فيها في الصحيح: (أول علم يفقد في الأرض) .
والفرائض قسمان: هذا القسم الذي درسناه فقه الفرائض، بقي: الحساب في الفرائض، والحساب كما يقولون رياضة عقلية لا تخطئ، والعقل هو الذي يخطئ فيها، فبأي طريقة أو منهج استطعت أن توصل حق كل ذي حق اتخذها، سواء كان بالنسب الأربع عند الفرضيين: تداخل، توافق، تباين، تماثل، أو بالحساب العصري الحديث العوامل الأربعة، أو بالجبر -كما يقولون- أو بأي صفة استطعت أن تقسم التركة على أهلها.
وبالله تعالى التوفيق.(229/12)
كتاب البيوع - باب الوصايا
جعل الله عز وجل للإنسان قبل موته أموراً يستطيع أن يستدرك بها ما فرط فيه وما فاته في حياته، ومن هذه الأمور: الوصية، والوصية تشملها الأحكام الخمسة، ولهذا على المرء أن يوصي بما عليه من حقوق للآخرين، وعليه أيضاً أن يوصي بصدقة في حدود ما أذن له الشرع حتى ينتفع بأجرها بعد موته.(230/1)
شرح حديث: (ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي به ... )
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) متفق عليه] .
(ما حق امرئ مسلم) كذلك ولا امرأة؛ لأن المرأة مثل الرجل في التكاليف، إلا ما اختص به الرجل دونها، (ما حق) أي: لا يجوز، ولا يجب، (ما حق) ما نافيه، وحق اسمها وخبرها يأتي فيما بعد، (امرئ) مذكر امرأة، وامرأة مؤنث امرئٍ.
(له شيء) أي: حق والحق هنا يكون مالي واعتباري: كحق في الشفعة، أو حق في القصاص، أو حق في الدية، أو حق من حقوق الجوار، فكل تلك الحقوق داخلة في عموم (له شيء) .(230/2)
الوصية وأحكامها
قوله: (يبيت ليلة أو ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) أو حق يريد أن يوصي، (حق يريد) رد كتابة الوصية لإرادة الموصي، ومن هنا قال الجمهور: الوصية جائزة وليست واجبة؛ لأنه قال: (يريد أن يوصي) وإذا لم يرد أن يوصي فلا شيء عليه.
والبعض قال: الوصية واجبة، وهذا المبحث هو مبحث حكم الوصية.
الوصية تعتريها الأحكام الخمسة.
وقوله: (ما حق امرئ له شيء يريد أن يوصي فيه ويبيت ليلة أو ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) ما هو الحق الذي يريد أن يوصي به؟ قالوا: يوصي بما كان عنده من حقوق للناس ولا يعلمها الناس، ولا يعلمها إلا هو صاحب الحق فقط، كإنسان أتى إلى صديقه، أو إلى جاره وقال: يا جاري! أو يا صديقي! هذا الكيس فيه ألف ريال أمانة عندك حتى أطلبه، ولم يشهد على ذلك، فأخذ جاره أو صديقه الكيس ووضعه عنده، ولم يكتب عليه ما يعرّفه وأصبح في صندوقه مع أكياس ماله، فلو مات غداً هذا المال الذي في ذمته ما حكمه؟ ولو جاء صاحبه وطالب الأولاد فقالوا: ما أخبرنا، وما قال لنا، فهل عندك بينه؟ فقال: لا، والله! ما عندي، فأنا ائتمنه لأنه صديقي أو جاري؟ قالوا: مثل هذا تتعين الوصية في حقه؛ لأنه لا يدري هل يأتيه الموت بعد ليلة أو بعد ليلتين، أو يأتيه الموت قبل الليلة أو الليلتين، فحيث أن ذمته قد تحملت بحقٍ للآخرين وهو لا يضمن الموت فلا يحق له أن يبيت الليلة أو الليلتين إلا ووصيته مكتوبة بهذا الحق.
ومثل هذا لو كان هناك قضية بين اثنين ولم يشهدها إلا هو، وحينما يتنازع هذان الشخصان لا إثبات لهما إلا عنده، فهو لن يأتي بالشهادة قبل أن يستشهد، ولكن إذا مات وتنازعا فمن الذي يثبت الحق لأحدهما؟ ليس هناك إلا هو، فيجب عليه أن يكتب: (عندي شهادة في موضوع كذا وكذا) ويدعها ورثته.
وقد تكون الوصية تارةً واجبة، كما إذا كان مديناً بدين، أو اشترى سلعة وبقي في ذمته من قيمتها شيء، ولم يعلم أولاده، وصاحب السلعة لم يوثق البيع بكتابة، فإذا خشي أن يأتيه الموت ولم يخبر الورثة بالدين الذي في ذمته، فيتعين عليه أن يوصي ويكتب ما عليه من دين، حتى إذا جاء أصحاب هذا الدين أو ذاك دفعوا إليهم دينهم.
إذاً: (ما حق امرئ مسلم عنده شيء يريد) هذه الإرادة قد تكون بحكم الوجوب وقد تكون بحكم الندب، فإذا كان عنده مال وأولاده في غنى عنه، وأراد أن يجري على نفسه صدقة بعد موته عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع) ، فلا يسوّف حتى يفاجئه الموت وهو لم يوص فقد تفوت عليه الصدقة ويحرم من هذا الخير.
إذاً: تندب الوصية هنا؛ لأن عمل الصدقة له بعد موته ليس للوجوب إنما هو للندب والاستحباب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادةً لكم في أجوركم) .
وإذا كان عنده مال محدود وعنده عيال كثير وهم في حاجة إلى العشر من تركته، فذهب وأوصى بثلث ماله، فهل الورثة في حاجة إلى هذا الثلث أو هم في غنى عنه؟ الجواب: هم في حاجة إليه.
فإذا كان ورثتك هم أولى من الآخرين، فلماذا توصي بالثلث للفقراء والمساكين المشتتين في العالم، أو في بلدك، وعيالك وأولادك في حاجة إلى هذه الوصية؟! فإذا أنفقت على زوجك فلك أجر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى اللقمة تضعها في فيِّ امرأتك فلك بها أجر) وكذلك اللقمة التي تضعها في فيِّ ولدك أو بنتك، كما سيأتي في حديث سعد قال صلى الله عليه وسلم: (لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس) فدع الثلث لعيالك، وهنا الوصية تكره، ولهذا كانت المضارة في الوصية من أكبر الكبائر.
وقد جاء حديث: (إن الرجل أو المرأة يعيش أحدهما ستين سنةً يعمل الخير، فإذا جاء عند الموت ضار بوصيته -عياله في حاجة وأوصى وصية مضارة لهم- فيختم له بعمله هذا فيكون من أهل النار، والرجل والمرأة يعمل أحدهما بالشر ستين سنةً ويعدل عند الموت في وصيته فيختم له بالخير فيدخل الجنة) .
إذاً: الوصية تعتريها الأحكام الخمسة بحسب حالات الموصي وما يوصي به، ومن يُوصى إليه، والمضارة في الوصية سيأتي الحديث عنها في محلها إن شاء الله.
إذاً: (ما حق امرئ مسلم عنده شيء يريد) هذه الإرادة تحتمل الأحكام الخمسة: (يريد) لأنها متعينة عليه في دين خفي، (يريد) لأنه يحب فعل الخير من بعده.
(يريد) لأنه يريد أن يفعل شيئاً مطلقاً.
أي: في جانب الخير، فتكون مباحة ومندوبة وواجبة.(230/3)
فضل القراءة والكتابة وبيان لماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أمياً
قال: (إلا ووصيته مكتوبة عنده) فلو قيل: إن رسول الله صلى الله عليك وسلم قد قال: (نحن أمة أمية لا نقرأ ولا نكتب) فمن أين جاءت الكتابة الآن؟ وهل في قوله: (إلا ووصيته مكتوبة) تقرير للكتابة أو إهمال لها؟ الجواب: فيه تقرير لها.
إذاً: ما كان لا يقرأ ولا يكتب عجزاً ولا كراهية، ولا نقصاً في العلم والتعليم، فقد افتتحت رسالته العظمى بقوله سبحانه: {اقْرَأْ} [العلق:1] ، سبحان الله! وقد جاءت الوصية بالكتابة في آية الدين: فيملي الذي أخذ، وإذا كان عاجزاً يملي عنه وليه مع وجود شاهدين وكاتب.
فإقرار الكتابة عند رسول الله أقوى من عند أي شخص آخر.
إذاً: هو يكرم ويقدر القراءة والكتابة، وكذلك الشعر، قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69] فلماذا منعه من الشعر، وقد كان النابهون عند العرب الشعراء؟ علماء الأدب يذهبون في هذا مذاهب عديدة وقد سبق أن كتبت رسالة في الأدب في الصدر الإسلامي، وكانت مقررة في الجامعة.
وإنما منع الله رسوله من الشعر تكريماً له، كما قال سبحانه: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69] أي: ليس هو من أهلة، ولماذا؟ قال سبحانه: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس:69] ، فهذا هو شغله، وهذه هي ميزته، فهو لا يتميز على الرجال بالشعر والنبوغ فيه وإنما بالنبوة: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس:69] ، ولو جئنا وقلنا: وما الذي يمنع من أن يكون شاعراً، وعنده ذكر وقرآن؟ قلنا: يمنع من هذا أن العرب في الجاهلية عند أن دعاهم إلى الإسلام قالوا عنه: شاعر، وكاهن، ومجنون.
فإذا كانوا قد اتهموه بالشعر وهو لم يقل شعراً ولم يعرف به فكيف لو اشتهر قبل الرسالة بالشعر؟! فلو كان شاعراً وجاء بمثل قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق:1] ، فسيقولون عنه: هذا شعر من ضمن الشعر الذي كان يقوله، ولكن ليس بشاعر.
وكذلك لما قالوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل:103] ، قال الله رداً عليهم: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103] أي: فليس بينهما صلة.
إذاً: في عدم تعليمه صلى الله عليه وسلم القراءة والكتابة معجزة؛ لأنه أصبح معلماً للناس القراءة والكتابة، وأول قضايا العناية بالتعليم هي تعليم الصبية الصغار بعد غزوة بدر، فقد كان من لم يجد فداءً لنفسه من المشركين وهو يعرف القراءة والكتابة، يفادي نفسه بتعليم عشرة من صبية الأنصار القراءة والكتابة، فكان الذين يفادون بالتعليم مثل الذين يفادون بأربعمائة أوقية، أو بخمسمائة، أو بألف، أو بأكثر، أو بأقل.
إذاً: (إلا ووصيته مكتوبة) : الكتابة لها اعتبار في الشرع، في المعاملات وفي تحقيق المناط في الكتابة من حيث معرفة الخط، ولهذا يقول العلماء: هذا مبدأ من مبادئ علم الحديث وهو الرواية بالوجادة؛ لأنهم يقولون: إذا كان هناك طالب علم يقرأ على شيخ، ومات الشيخ ووجد في كتبه ما لم يسمعه منه، فيجوز له أن يقول عن فلان بالوجادة؛ لأنه وجد بخطه أحاديث بأسانيدها مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنه أخذها بالسماع إلا أن السماع أعلى رتبةً؛ لأنه مواجهة ومشافهة، فإذا وجدت الوصية بخط الموصي ولو لم يكن عليها إشهاد فخطه شاهد عليها، ويعمل بها.
واستدلوا أيضاً: بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث بكتبه إلى الملوك ولم يشهد عليها، وبمجرد ما يصل الرسول برسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى من أرسل بها إليه يصدقها، فإن كان متأدباً وأراد الله له الخير عظم هذه الرسالة واحترمها وتأدب في الجواب عليها، كما فعل المقوقس مع حاطب فإنه لما رأى الرسالة أكبرها وحفظها وتآنس معه، حتى روي أنه قال: ألستم تقولون: إن محمداً حبيب الله، ورسوله، وأنه يدافع عنه ويحبه؟! قال: بلى، قال: فلمَ تركه لأهل مكة يخرجونه ليلاً، ويختفي في الغار -هذه كما يقولون: حجج قوية-؟ فقال له: وأنت أيها الملك! ألا تؤمن بأن عيسى رسول الله؟ قال: بلى.
قال: ألا تؤمن في اعتقادك أنه ابن الله؟ قال: بلى، قال: فلمَ تركه أبوه لليهود يصلبونه؟! فقال: حكيم جاء من عند حكيم، ولهذا العامة يقولون: إذا أرسلت فأرسل حكيماً ولا توصه.
يقولون في حكاية عن بعض أصحاب الملك ابن عبد العزيز: أنه أرسله إلى جهة وقال له: قبل أن تذهب غداً ائتني، فلما جاء قدم له رسالة فقرأها إلى آخرها ثم قال: ما هذا؟ قال: أن تعمل بما فيها، فقطعها ورماها أمامه!! فقال له: ما هذا؟! قال: الحاضر يرى مالا يرى الغائب، فأنت هنا قاعد في محلك لا ترى ما يكون هناك، وأنا هناك أشاهد ما يطرأ من الأمور وأنظر أشياء مستجدة أنت لا تدري عنها، فلن أتقيد بكتابتك، ولكن سأعمل بما أرى، وهكذا.
فقالوا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث الرسائل إلى الملوك ولم يوقع عليها أحد من الصحابة.(230/4)
حكم كتابة الوصية والإشهاد عليها
يقولون: لا يشترط في كتابة الوصية التي يبيت وهي مكتوبة تحت رأسه إشهاد الشهود.
وقوله: (إلا ووصيته مكتوبة تحت رأسه) ، تحت رأسه، هل يتركه للأولاد يلعبون بها؟ وهل يتركها تذهب وتجيء مع الفراش وتضيع؟ الجواب: لا.
وإنما الغرض شدة الحرص على كتابة الوصية قبل أن يصبح، وقالوا: ليس الغرض بالليلة أو الليلتين التحديد ولا مفهوم لها، فتصح ولو بعد أسبوع ولكن الحديث جاء للحث والتأكيد على الإسراع بالوصية.
ويلحق العلماء هنا حكم الأمر بكتابة الوصية، فلو أنه أشهد جماعة من الناس في مكان من العادة أنهم يجتمعون فيه، في ناديهم، أو في مسجدهم، أو في مجلسهم الذي هو محل اجتماعهم فقال: أشهدكم أن فلاناً له عندي دين قدره كذا، أو أشهدكم أن فلاناً له عندي أمانة بكذا، أو أشهدكم أني أوصي بالنخل الفلاني صدقة جارية بعد موتي، فيصح، يعني: أنه يجزئ عن الكتابة إعلانه بما يريد أن يكتبه على جماعته أو على أحد من رهطه الذين في محلته، حتى إذا فاجأه الموت وجاء صاحب الأمانة يطلبها وجد من يشهد له بها، أو جاء صاحب الدين يطلبه جاء من سمعه المدين فشهد له بدينه وهكذا، والغرض من ذلك حفظ الحقوق.
وبهذا يبين لنا المصنف رحمه الله تعالى حكم الوصية في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما حق امرأ مسلم ... ) الحديث، ويؤيد هذا قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة:180] .
وقد أشرنا إلى الأحكام التي تعتري الوصية من الوجوب إلى الندب إلى الكراهية إلى الإباحة إلى التحريم، فلو أوصى لكنسية أو لكتب بدعة فهي وصية محرمة ولا تنفذ.(230/5)
حكم الرجوع عن الوصية أو تبديلها
ومن أحكام الوصية: أن له أن يرجع فيها قبل الموت، وله أن يغير فيها ويبدل؛ لأن العبرة في نفاذها إنما هو بعد موته ولهذا يقال: ثلث المال الذي تتعلق به الوصية هل يكون عند كتابتها ولو طال به الأجل عشر سنوات، أم يكون عند موته؟ فلو كتبها وعنده مليون وعند الموت كان عنده مائة ألف فقط، فهل العبرة بوقت الكتابة أم بوقت الموت؟ الجمهور على أنها بوقت الموت.(230/6)
شرح حديث: (إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير ... )
قال المصنف رحمه الله: [وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال: (قلت: يا رسول الله! أنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة أفاتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قلت: أفأتصدق بشطره قال: لا.
قلت: أفأتصدق بثلثه، قال: الثلث والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) ، متفق عليه] .
حديث سعد رضي الله تعالى عنه هذا هو أصل في مقدار الوصية.
قوله: (مرض سعد) قيل في عام الفتح، وقيل في حجة الوداع، (فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده) ، وهذا من مكارم أخلاقه صلوات الله وسلامه عليه أنه كان يعود أصحابه إذا مرضوا، ويشيعهم إذا ماتوا، (فلما دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله! قد بلغ بي من الوجع ما تراه، وعندي مال كثير وليس يرثني إلا ابنة واحدة أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قال: بنصفه؟ قال: لا، قال: بثلثه؟ قال: نعم، والثلث كثير) ، وفي رواية عند مسلم: (كبير) ، (لأن تذر) تذر -كما يقولون- فعل الأمر فيها ذر (لأن تذر ورثتك) وهو يقول: ما عندي ورثة إلا بنت، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول له: ورثتك، فهل ورثتك جمع أم فرد؟ الجواب: جمع، وهو يقول: عندي بنت واحدة، فقال له صلى الله عليه وسلم: (لأن تذر أو تدع ورثتك أغنياء -بمالك- خير من أن تدعهم يتكففون الناس السؤال) .
إذا أوصيت بثلثي المال وبقي الثلث، وبطريق الإيحاء والإلهام سيكون لك ورثة ولهذا قال: (لأن تذر ورثتك أغنياء) ، ولم يقل: وريثتك هذه البنت، بل قال: ورثتك، وفي بعض الروايات: (أخلف بعد أصحابي يا رسول الله! قال:.
ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضربك آخرون ... ) إلى آخره.
وقالوا: قد ولد له بعد ذلك فمنهم من قال: أربعة، ومنهم من قال: ستة، ومنهم من قال: ثمانية من الأولاد ذكوراً وإناثاً، ومنهم من قال: أقل، ومنهم من قال: أكثر من ذلك، وهنا كون سعد يقول: أوصي بثلثي مالي، وجاءت رواية أخرى: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه فقال: أوصيت؟ قال: نعم، قال: بكم؟ قال: بجميع مالي فقال: (لأن تدع ورثتك ... ) إلى أخره، فقال: بكم أوصي؟ قال: بالعشر، ولا زال يقول وأقول: يعني هو يزيد قليلاً وأنا أنقص قليلاً حتى قال: (الثلث والثلث كثير) .
والثلث كثير.
يعني: انقص منه، والثلث كثير فيه الخير والبركة وفيه الكثرة التي أنت تريدها، فيكون على هذا الثلث هو الحد الأقصى فيما يمكن أن يوصى به.
وقالوا: إن هذا الحديث من معجزاته صلى الله عليه وسلم، وهو أنه أخبر سعداً وهو مريض بأنه سيعيش وسيأتي له الأولاد ويكون له الورثة العديدون، وقد كان كما قال صلى الله عليه وسلم.
إذاً: الوصية لا تجوز أن تزيد عن الثلث، وابن عباس رضي الله عنهما كان يقول: (لو غض الناس عن الثلث لكان خيراً) ، وكان يقول: (أحب إليَّ أن يكون الربع) ، والربع فيه الخير.(230/7)
حكم الوصية بأكثر من الثلث
من أوصى بأكثر من ثلث ماله نظرنا فإن كان لأجنبي سألنا الورثة: أتجيزون الزائد عن الثلث أم تسترجعونه؟ فإن قالوا: أجزنا وصية ميتنا، قلنا: على بركة الله، وإن قالوا: لا نجيزها، رد الزائد عن الثلث، وإن قال البعض: نجيز والبعض قالوا: لا نجيز، رددناها في حق من لم يجز وأجزناها في حق من أجاز.
وهنا قد يحصل فعل الخير؛ لأن الإنسان عند موته يزهد في الدنيا بكاملها، حتى في أهله وأولاده، وينظر إلى ما بعد الموت، ويريد أن يقدم كل ما يمكن أن يستطيعه لآخرته، فهو تحت تأثير الرغبة والرهبة: الرهبة فيما هو مستقبل أمامه، والرغبة فيما عند الله من الأجر، فهل نتركه تحت تأثير الرغبة والرهبة أو ننصحه؟ الجواب: ننصحه، ونبين له الصواب، ونخرجه من تحت وطأة هذا التأثر، وفي قضية الشخصين الذين اختصما في مواريث بينهما قال لهما صلى الله عليه وسلم: (إنكما تحتكمان إليّ وأنا بشر فأقضي لبعضكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فإنما أقتطع له قطعه من النار) ، فكل منهما قال: حقي لصاحبي، لا أريد شيئاً، فما الدافع الذي جعله يقول: حقي لصاحبي، وهو يتخاصم معه ويقول: أريد حقي منه، والآن يقول حقي لصاحبي! ما الدافع لذلك؟ الجواب: الخوف من النار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أقطع له قطعة من النار) .
إذاً: كل واحد منهما وقع تحت تأثير الخوف من النار، فهل قال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: اذهبوا وائتوا بالمال نفرقه على المساكين؟ لم يقل لهما ذلك، وإنما قال: (أما وقد قلتما ذلك فارجعا فاقتسما وتحريا في القسمة، واستهما وليبح كل منكما صاحبه) .
وماذا بعد هذا من الاحتياطات؟! قال: (اقتسما وتحريا القسمة) ، أي: لا تتساهلا، ولا تقولا: نحن متسامحان، بل تحريا؛ لأن -كما يقولون- بعد السكر صحوة، فأنتما الآن تحت تأثير الخوف من النار قد تتسامحان، وبعد هذه المدة تنسيان النار ويطالع كل منكما في نصيبه مع الآخر، فإن كانا قد تحريا في القسمة قال: لا، مالي شيء عنده، وإن كانا قد تساهلا، قال: نعم، والله! لقد تساهلت معه، فالفرس الفلاني مقابل كذا هذا فيه غبن علي أو أو.
إلخ.
فلم يتركهما صلى الله عليه وسلم تحت تأثير مخافة النار، وإنما وجههما لما ينبغي أن يكون بينهما، عملاً للمستقبل نفسياً، وهنا إذا كان الإنسان يموت فإنه يريد أن يترك الدنيا، ولا يهمه من الذي يريد، ولا من الذي يشحت، صلى الله عليه وسلم: (أن تدع ورثتك أغنياء ... ) الحديث، وهكذا تكون التربية النفسية، والأخلاقية، والاجتماعية، ومصلحة الأولاد فيما بعد، ولئلا يضارهم في الوصية كما سيأتي إن شاء الله.
وهنا قال: (لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون -أي: يمدون أكفهم إلى الناس- الناس) والله سبحانه وتعالى أعلم.
لهذا يا إخوان! أنبه على أنه ينبغي على القضاة -كما هي السنة- أن القاضي يعظ كلاً من الخصمين بالحق، ويخوفهما من قضاء يوم القيامة، فإذا وجد إنساناً وقد وقع تحت تأثير الموعظة فلا يأخذه بذلك، بل يبين له حقيقة حقه وبيان أمره، فقد يقول: تنازلت، أو تركت الدعوى، أو أصالحه؛ لأنه قد وقع تحت تأثير ما، فلا يأخذه في تلك الحالة النفسية الاضطرارية، ولكن ينبهه على حقه ليكون على بينة، والله تعالى أعلم.(230/8)
شرح حديث: (إن أمي افتلتت نفسها ولم توص ... )
قال المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم) متفق عليه، واللفظ لـ مسلم] .
في حديث عائشة رضي الله عنها هذا عدة جوانب من المباحث الفقهية: قولها رضي الله تعالى عنها: (أن رجلاً) ورجل: نكره لم يعرف من هذا الحديث من هو؟ ومعلوم عند علماء الحديث أن النكرة غير المعرفة، ولا يؤخذ بحديث الرواي حتى يعرف من هو؟ وهل هو عدل، ثقة، ضابط أم لا؟ ولكن كون الرجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله، دل على أنه صحابي، والصحابة كلهم عدول عند أهل السنة، لا يفتش عن أحد منهم، فسواء عرف بشخصه وبذاته، أو جهلت شخصيته وذاته، فما دام أنه قد ثبتت صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد عرف هذا الرجل من روايات أخرى أنه سعد بن أبي وقاص فقد جاء: (أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم غازياً، ثم ماتت أمه في غيبته) الحديث، وجاء في رواية: (أنه قيل لها: أوصي؟ قالت: بمَ أوصي والمال مال سعد؟ أي: ليس لي) .
وهنا يقول: (إن أمي افتلتت نفسها) .
أي: ماتت فجأة دون أن تعطى فرصة للتصدق، وقال: (إنها لو تكلمت) أي: في آخر حياتها لتصدقت.
أي: لأوصت بالصدقة، وهنا النبي صلى الله عليه وسلم يقره على أنها لو أوصت لصحت وصيتها.
ثم يتساءل (وأظنها) لما يعلم من رغبتها في الخير في حياتها، (أنها لو تكلمت لتصدقت) ، بمعنى: لأوصت بالصدقة؛ لأنها في تلك الحالة ليست في حالة إخراج صدقة فعلاً؛ لأنها مريضة وقد افتلتت نفسها، فليس هناك إمكانية لإجراء الصدقة بالفعل، فأقره صلى الله عليه وسلم على أن لها ذلك وأن الوصية عند الموت جائزة، كما تقدم وكما سيأتي، وحدود ما شرع الله هو الثلث كما تقدم في قضية سعد أنه قال: (يا رسول الله! أنا ذو مال كثير ولا يرثني إلا ابنة واحدة أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، بشطر مالي؟ قال: لا، بثلث مالي، قال: نعم، والثلث كثير) ، وجاء في الروايات الأخرى: (تصدق بالعشر، فلا زال يتكلم وأتكلم حتى قلت الثلث؟ قال: والثلث كثير) وحدود وصية أو تصرف المريض مرض الموت في ماله محصورة في الثلث.
هذا جانب من جوانب الحديث.(230/9)
انتفاع الميت بعمل الحي
الجانب الثاني من هذا الحديث: بعد صحة الوصية من المريض في مرض موته، تأني قضية انتفاع الميت بعمل الحي؛ لأنه قال: (أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: نعم) ، فهذا إقرار من النبي صلى الله عليه وسلم للولد أن يتصدق عن أمه، ويؤيد هذا الحديث؛ الحديث الآخر وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: -ومنهم- ولد صالح يدعو له) ، وجاء في الحديث الآخر قال صلى الله عليه وسلم: (إن خير ما أكل الرجل من كسبه أو من عمله وإن ولد الرجل من كسبه) أي: أن كسب الولد ينسب لأبيه كما قال صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك) ، وقد تقدمت الإشارة والتنبيه إلى أن هناك بعض النصوص ظاهرها التعارض مع هذا مثل قوله سبحانه: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] ، وهذه التي افتلتت نفسها قد انتهت عند سعيها السابق قبل افتلات النفس، وهنا السؤال هل ينفعها عمل ولدها بعد أن انتقلت إلى مولاها؟ فقال: نعم، ينفعها، وجاءت أحاديث أخرى منها: أن العاص بن وائل أوصى في الجاهلية أن يعتق عنه مائة بدنة، فقام أحد أبنائه وأعتق خمسين في الجاهلية، وأسلم بعض أبنائه فسأل رسول الله: (أفأعتق عنه؟ فقال: لو كان مسلماً فأعتقت عنه لنفعه ذلك) .
إذاً: العمل من الولد للوالد بإجماع المسلمين، وقد تقدم تقسيم العلماء الأعمال الخيرة التي يرجوها الإنسان لغيره أو يعملها ويهبها لغيره وقالوا: إن أعمال القرب تنقسم إلى قسمين: قسم بدني محض: كالصلاة، والصيام، والدعاء، وتلاوة القرآن.
وقسم مالي محض: كسداد الديون، والصدقة عنه، وأداء الكفارات.
وهناك قسم ثالث يجمع بين الأمرين: كالحج ففيه نفقة، وفيه حركة البدن فهو حل وارتحال، فأجمعوا: على أن كل قربة مالية من الولد لوالده أنها تصله وينتفع بها، ثم وسعوا الدائرة وقالوا: كل صدقة مالية من أي مسلم لمسلم آخر تنفعه ولو لم يكن ولده، كما جاء في قضية شبرمة، عند أن قال رجل: لبيك اللهم! عن شبرمة فقال له صلى الله عليه وسلم: (ومن يكون؟ قال: أخ لي، أو صديق لي، قال: حججت عن نفسك؟ قال: لا.
قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة) ولم يقل له: لست بولد له، أو لا تنفعه حجتك عنه، بل أقره على ذلك، وكذلك فعله صلى الله عليه وسلم عن خديجة فقد كان يتصدق عنها بعد ما هاجر إلى المدينة، وكانت عائشة رضي الله تعالى عنها ربما أثارتها الغيرة لكثرة ما وجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتصدق عن خديجة.
وأما القسم البدني المحض، فممن ذكر هذا المبحث الإمام ابن تيمية رحمه الله وهذا المبحث موجود في عدد من صفحات كتاب المجموع، وذكر: أن الصحيح أن عمل الإنسان البدني للميت ينفعه وذكر فرداً فرداً عن الصلاة، واستدل بحديث الرجل الذي جاء وقال: (كنت أبر أبي في حياته فكيف أبره بعد موته؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: تصلي له مع صلاتك وتدعو له مع دعائك) فقال: هذه صلاة من الولد للوالد، فله أن يصلي ركعتين ويقول: أجرها وثوابها لوالدي.
ومثل هذا أيضاً: ركعتي الطواف في الحج، وإن كانت تبعاً لكنها صلاة أجزأت عن ميت، وكذلك الصوم قال صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه) ، ثم قال: بقي بعد ذلك الدعاء وتلاوة القرآن قال: والدعاء هو كما جاء في الشرع تكليف للأمة بكاملها، والدعاء للميت قد جاء في عمل من جحده فقد كفر وهو الصلاة على الجنازة، فإننا في التكبيرة الثالثة ندعو للميت بما يسر الله سبحانه وتعالى، فقال: هذا عمل مشروع وهو من حق الميت على الحي، وهو فرض كفائي، ثم بعد ذلك له أن يدعو له بظهر الغيب، وكذلك الاستغفار، ثم بحث المسألة من الجانب العقلي، وقرر ثبوت ذلك وجوازه.
وهنا قال: (وأظنها -أي: ظن يقين- لو تكلمت تصدقت أفينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: نعم) .
والغرض من إيراد هذا الحديث هنا هو بيان صحة الوصية في مرض الموت، هذا مع أن المريض مرض الموت لا يحق له أن يتصرف في ماله؛ لأن المال أصبح مال الورثة، كما قال الصديق رضي الله تعالى عنه لأم المؤمنين عائشة: (والله! يا ابنتي! ما أحد أحب إلي غناً منك، ولا أحد أعز علي فقراً منك، وقد كنت نحلتك جذاد خمسين وسقاً، فلو كنت حزتيه لأخذتيه، ولكنه الآن مال وارث) ؛ لأنه أحس في مرضه هذا الذي هو فيه أنه مرض الموت.
فإذا وصل الإنسان إلى مرض الموت وتأكد الأمر في ذلك فليس له حق التصرف في ماله، وكذلك في الحالات التي هي مظنة الوفاة كالمرأة في حالة النفاس، لا يحق لها أن تتصرف في مالها، وكذلك الرجل إذا وقف بين الصفين في القتال؛ لأن نفاس المرأة مظنة الوفاة، لما تجد من معاناة وشدة، وكذلك الإنسان إذا كان في أرض المعركة أمام العدو فإنه يحتمل إحدى الحسنيين، فهذه الأحوال أو تلك الحالات تمنع الإنسان من أن يتصرف في ماله، إلا إذا كانت وصية وفي حدود الثلث على ما تقدم وعلى ما سيأتي إن شاء الله.(230/10)
شرح حديث: (لا وصية لوارث)
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) ، رواه أحمد والأربعة إلا النسائي وحسنة أحمد والترمذي وقواه ابن خزيمة وابن الجارود، ورواه الدارقطني من حيث ابن عباس رضي الله عنهما وزاد في آخره: (إلا أن يشاء الورثة) ، وإسناده حسن] .
هذا الحديث تكلم عنه المؤلف، وتكلم عنه الشارح أيضاً، وذكر عن الشافعي رحمه الله أنه قال: لقد وصل إلى حد التواتر، وإن الأمة قاطبة تعمل به.
إذاً: إذا وصل إلى هذا الحد فلا حاجة إلى البحث في رواياته مادام أنه قد جاء عن مثل هذا الإمام الجليل رحمه الله ورضي الله تعالى عنه القول بأنه قد وصل إلى حد التواتر، والمتواتر لا يبحث في سنده، حتى لو كان فيه غير عدول لقبلت أقوالهم مع الآخرين تأييداً للواقع.
والمتواتر هو: ما جاء من طرق متعددة يرويه جمع عن جمع يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب، ويكون نهاية استنادهم الحس، وليس الظن والاجتهاد وإنما الرؤيا أو السماع، فمثلاً: لو حدثت حادثة في الحج كأن نزل مطر وفيه برد، ويقولون: قد نزل البرد في عرفات حتى تمزقت بعض الخيام وو و، فالذي هو في المدينة أو في مصر أو في الشام أو في المغرب إذا رجع الحجاج وكل على انفراده أخبر بما وقع يوم عرفات فإن هذا العدد من الناس يستحيل أن يتواطئوا وأن يجتمعوا في مكان ويقولون: لنخبر أهل المدينة أنه وقع برد، ولم يكن قد وقع، فإذا استحال اجتماعهم وتواطؤهم على الخبر وكان مستند إخبارهم الحس، فقد رأوا، وشاهدوا، وجاءهم البرد على رءوسهم، فكل هذه استنادها على شيء محسوس فيقبل، وأما مقدار هذا العدد فالأصوليون يقولون: من ثلاثة إلى خمسة، وعلماء الحديث يقولون: بعدد لا يمكن حصره، فإذا وصل الحديث إلى حد التواتر كان العمل به لازماً ما لم يعارضه شيء آخر.
وهنا في هذا الحديث: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث) ، لأن الوارث قد أخذ حقه، فلو أعطيناه زيادة على حقه الذي أعطاه الله فإننا، نكون قد غيرنا في أعطيات الله للناس في الميراث، ويكون في ذلك مضارة على غيره من الورثة، وهنا قالوا: إن هذا الحديث نسخ آية الوصية، وهي قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة:180] لمن؟ {لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة:180] .
يقولون: قبل أن تنزل آيات المواريث، كان المال للولد، والوصية للوالدين والأقربين.
أي: وصية بما جادت به نفسه، والمال من حيث هو كثر أو قل للولد، ثم أنزل الله الفرائض وجعل للذكر من الأولاد ضعف الأنثى، كما قال تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] ، وكذلك الإخوة والأخوات، وجعل للأبوين مع وجود الولد لكل واحدٍ منهما السدس، وجعل للزوجة ما بين الربع والثمن، وللزوج مابين النصف والربع، فأعطى كل ذي حق حقه.(230/11)
نسخ القرآن بالحديث
البعض يقول: إن الحديث مهما كان فرداً من الآحاد فهو لم يتحقق قطعاً أنه متواتر، ولا ينسخ القرآن بالآحاد وهذا متفق عليه، وهل ينسخ القرآن بالمتواتر؟ وقد بحث هذا والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في مذكرته وقال: من نظر الخلاف الموجود عند العلماء فإن الصحيح قول من يقول: المتواتر هو سنة -فعلية، أو قولية- جاءت عن الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، فهي وحي، كما قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] .
وإذا كان القرآن وحي وهذا المتواتر وحي فإن الوحي ينسخ بعضه بعضاً، وقال قوم: مهما كان فإن كان السنة أنزل رتبةً؛ لأن القرآن قطعي الثبوت، والسنة ظنية الثبوت ما لم تكن متواترة محققة، فلا ينسخ قرآن بسنة ولو متواترة، والآخرون قالوا: النسخ جائز، فالشيخ رحمه الله قال في ذلك: التحقيق في ذلك أنه جائز شرعاً ولم يقع فعلاً.
يقول: من حيث النظر الأصولي والتشريعي هو جائز.
أي: من حيث العقل، والقواعد العلمية، يجوز أن ينسخ الحديث المتواتر آية من كتاب الله، ولكنه لم يقع بالفعل، فلم يقع نسخ في كتاب الله بحديث متواتر.
إذاً: عملياً النسخ بالمتواتر لم يقع وأصبحت المسألة نظرية علمية، وقد أجمعوا على أن الحديث النبوي ولو كان آحاداً فإنه يخصص عموم الكتاب، كما جاء في قوله سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] ، فجاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحلت لنا ميتتان ودمان ... ) الحديث، فخصص من عموم الميتة: الجراد والحوت، ومن عموم الدم: الكبد والطحال، فهذا تخصيص لعموم آية في كتاب الله بالحديث الآحاد.
وكذلك قد تضيف السنة تشريعاً كاملاً مستقلاً إلى كتاب الله كما جاء في قوله سبحانه: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء:23] ، هذا نص في تحريم الجمع بين الأختين في النكاح، فجاءت السنة وألحقت بهذا قال صلى الله عليه وسلم: (لا تنكح المرأة على عمتها ولا بنت أخيها ولا تنكح المرأة على خالتها ولا على بنت أختها) ، فهذه زيادة على تحريم الجمع بين الأختين، وهذا مما تلقي بالقبول والإجماع أنه لا يجوز.
إذاً: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) أي: أن الوصية كانت مشروعةً لمن كانوا ورثة قبل مجيء آيات المواريث، وفي هذا الحديث بيان على أنه لا وصية لمن دخل في نطاق الورثة، وقد نبه أيضاً والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه وقال: القرآن في آيات الوصية نسخ بقرآن وهو ما جاء في آيات الفرائض، وهذا الحديث إنما هو دال على موقع النسخ وليس هو الناسخ، فقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه) ، أي: أعطاه في آيات المواريث.
إذاً: أعطى أصحاب الوصية في المواريث حقهم فلا وصية لهم، والحديث دليل على موضع النسخ والناسخ هو آيات المواريث ضمناً، فقال رحمة الله تعالى علينا وعليه: إن الحديث لم ينسخ القرآن، ولكنه دل على موضع الناسخ من القرآن للقرآن.(230/12)
حكم إجازة الورثة وصية المورث لبعض الورثة
وهنا ذكر المصنف بعض الروايات والطرق الكثيرة التي جاءت في هذا الحديث ومنها: الزيادة التي اختلف فيها: (إلا أن يشاء الورثة) اختلف في هذه الزيادة، ولكن أقرت عقلاً وشرعاً.
شرعاً بهذه الزيادة المقبولة الثابتة، وعقلاً بأن أصل الميراث هو حق للورثة، فإذا أوصى الميت لبعض الورثة ببعض المال فجاء الورثة الذين يستحقون كل المال وقالوا: لا مانع من أن ننفذ وصية مورثنا، ونحن نجيز هذا القدر الزائد علينا، تنفيذاً لوصيته، فيقولون: أصحاب الحق قد تنازلوا عن حقهم، وأقروا المورث في وصيته لواحد منهم.
إذاً: الحق لا يعدوهم، فإن أجازوا فقد أجازوا من حقهم، وإن منعوا فقد منعوا في حقهم؛ لأن لهم أن يمنعوا.
إذاً: لو أوصى الموصي لأحد الورثة بشيء زائد عن حصته فلا بأس إن أجاز الورثة، وبعضهم يناقش في هذه المسألة ويقول: ينظر لماذا نفل هذا الوارث دون بقية الورثة؟ وهل هناك موجب لذلك؟ وأكثرهم يتكلمون عما يكون من هذا بين الزوجين، فقد يوصي الزوج لزوجته بحصة من المال أو بشيء من المتاع، كما جاء عن بعض السلف أنهم كانوا يوصون: لا يكشف عما في غرفة فلانة من المال، أو لا تفتش، أو ولا تكلف، أو ولا تطالب، أو ما في غرفتها فهو لها -أي: زيادة عن ميراثها-.
والمالكية يقولون: ننظر كيف كانت المعاملة بين هذين الزوجين، فإن كان يحبها في حياته وكان يقدمها على غيرها فهذه وصية مضارة بغيرها، وتنفيل لها بدون موجب، وإن لم تكن له زوجة أخرى وكانت الحياة متبادلة فيما بينهما فلعل بينهما حقوقاً أراد أن يعوضها عن تلك الحقوق بهذا الزائد من مالها الفعلي في بيته.
وكذلك قالوا: إذا كان الوارث الذي وصي له بشيء زائد عن ميراثه في حالة فاقة، وفي حالة احتياج إلى مساعدة من إخوانه وشركائه في الميراث ولو لم يكن ميراث فإذا راعاه المورث وأوصى له بشيء، فلا مانع إذا أقرت الورثة هذه الوصية.
وهناك من يقول: لا وصية لوارث أجاز الورثة أو لم يجيزوا، وهذا مذهب الظاهرية، فإنهم منعوا الميت أن يوصي الوارث أياً كان؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا وصية لوارث) ، ولم يجيزوا تلك الزيادة حتى ولو رضي بقية الورثة، قالوا: لأن الشرع قد أنهى الموضوع: (فلا وصية لوارث) ، فلا يحق لأحد أن يوصي لوارث بشيء، ولكن مذهب الجمهور: أن الوارث إذا كان له صفة قائمة به تستدعي التعاطف معه وأجاز ذلك الورثة فإن الوصية تصح له.
والله تعالى أعلم.(230/13)
حكم رجوع بعض الورثة في إجازته لوصية مورثه لبعض الورثة
وفي هذا الموضوع يبحث العلماء مسألة دقيقة وهي: لو أن الميت عند موته جمع الورثة وقال: أنا أريد أن أوصي لأخيكم، أو لأختكم، أو لأمكم أو لزوجة أبيكم، بكذا وصية خاصة، فهل تجيزونها أو تمنعونها؟ إن قالوا جميعاً: نجيزها، أو قالوا جميعاً: لا نجيزها، فالعمل بما قالوا وهذا بالإجماع متفق عليه، وإن قال البعض: نعم نجيز، وقال البعض: لا نجيز أجيزت في حق من أجاز.
فإذا أوصى بالثلث، فيؤخذ ثلث الورثة الذين أجازوا ويعطى للموصى إليه بإجازتهم.
ولكن النقطة الحساسة في هذا هي: لو أنهم كلهم قالوا: نعم أجزنا، وبعد موت المورث وعند التنفيذ قام البعض وقال: أنا رجعت عن إجازتي، أو أنا لا أجيز تلك الوصية، فهل له حق في هذا الرجوع أو ليس له حق؟ يرى بعض المالكية أنه ليس له حق؛ لأن إجازته الأولى هي بمثابة الصدقة، والهبة، والهدية، فكأنه وهب لهذا الوارث ما أوصى به المورث، فإذا رجع في ذلك رجعنا إلى الكلام في العائد في هبته، وبعضهم قالوا: له أن يرجع؛ لأنه قد يكون إنما أجاز تكريماً لمورثهم، وبعض المالكية أيضاً قالوا: إذا كان هذا الذي رجع عن إجازته يعيش في كنف الموصي في حياته وخشي إن هو قال: لا أوافق أن تحصل عليه ضيقة في معيشته في كنف المورث، أو خشي أن يضيق عليه بسبب عدم موافقته، فوافق لتبقى حياته في كنف مورثه إلى النهاية، ولما أمن الأمر وتوفي الموصي رجع إلى حقه فقال: أنا لا أجيز، قالوا: يقبل رجوعه إن كان معللاً بهذه العلة أو بما يشبهها، والله تعالى أعلم.(230/14)
شرح حديث: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم ... )
قال المصنف رحمه الله: [وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم) رواه الدارقطني، وأخرجه أحمد والبزار من حديث أبي الدرداء، وابن ماجة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وكلها ضعيفة، لكن قد يقوي بعضها بعضاً.
والله أعلم] .(230/15)
الحث على الوصية بالخير عند الموت
قوله: (إن الله تصدق عليكم، بثلث أموالكم، عند وفاتكم، زيادة في حسناتكم، أو زيادة في أجوركم) هذا الحديث على ما فيه من ضعف في السند، يقول العلماء: في هذا تفضل من الله على العبد بأن أكرمه الله بهذا في آخر حياته، ليُعمل به بعد وفاته فيكون فيه زيادة في أجره وهو ميت.
وقوله: (إن الله تصدق) ما قال: أعطى، أو سمح، وإنما قال: (تصدق) .
والصدقة في عرف اللغة والشرع هي: تمليك الغني للفقير بدون عوض.
فما وجه الشبه بين الصدقة وبين السماح للميت بالوصية في حدود الثلث عند موته؟ الذي يظهر من الجو العام والسياق النبوي الكريم هو: أن محل الصدقة هنا أنها صدقة من الله، فهو سبحانه تصدق عليكم بأموالكم التي في أيديكم، فإن قيل: كيف يتصدق علينا بما في أيدينا؟ قلنا: نعم.
من جهتين: الجهة الأولى: أن المريض إذا وصل إلى مرض الموت منع من التصرف في ماله، وأصبح المال مال وراث، فلما لم يصبح له ملك في المال، وجاءه ثلث ماله، كان هذا الثلث بمثابة الصدقة؛ لأنه قد منع من التصرف فيه، وأصبح غير ملك له، ومنع من أن يتصرف في أي جزئية منه، لكن الله سمح له بالثلث، فكأنه تصدق عليه بالثلث بعد أن منع منه.
الجانب الثاني: المال في أيدي الناس حقيقة هو مال الله، يعطيه من يشاء، ويحرمه من يشاء، قال سبحانه وتعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] .
إذاً: حقيقة الأموال التي في أيدي الناس سواء كانت نقداً أو متاعاً أو طعاماً أو لباساً أو مساكن أو مزارع، كلها لله، فهو يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، وبيده الخير سبحانه.
إذاً: هو المالك لمالك الذي في يدك، وإنما أنت متصرف فيه بما شرع لك، فلما كفت يدك وكان المال هو مال الله، قال: خذ ثلث مالك وتصدق به عن نفسك زيادةً في أجرك الذي عملته قبل الموت.
إذاً: الثلث هذا هل هو عمل قبل الموت أم بعد الموت؟ الجواب: عمل بعد الموت؛ زيادة في أجوركم، فمهما عملت في حياتك من أعمال الخير، البدنية والمالية، والمشتركة بينهما وفعلت وفعلت فإن كل ذلك مسجل لك في صحيفتك، وعندما يأتي الموت تختم الصحيفة فيقال لك: لا.
افتح اعتماداً جديداً صدقة عليك، فيكون تصريفك لهذا الثلث زيادة في أجرك -أجر عملك الذي علمته قبل أن يأتيك الموت- ويستمر أجر هذا الثلث الذي أنفقته بعد وفاتك.
إذاً (زيادة لكم في أجوركم) هذا كما في الحديث الآخر (إذا مات الإنسان انقطع عمله.
صدقة جارية) .
والله سبحانه وتعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(230/16)
كتاب البيوع - باب الوديعة
إن من أصول الإسلام التعاون على البر والتقوى، ومما يدخل في هذا الأصل العظيم: حفظ الودائع، وهو من الأخلاق العالية والقيم النبيلة، وقد كان هذا الخلق محموداً عند الناس في الجاهلية فكان من محاسنهم التي أقرها الإسلام واستحبها لمن كان قادراً على القيام بأمر الوديعة، ولو تلفت الوديعة في يد المودع عنده فإنه غير ضامن؛ لأنه مؤتمن، ما لم يفرط أو يتعد، وللوديعة مباحث كثيرة يذكرها العلماء في كتب الفقه، وغالبها مباحث اجتهادية.(231/1)
شرح حديث: (من أودع وديعة فليس عليه ضمان)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أُودع وديعة فليس عليه ضمان) أخرجه ابن ماجة، وفي إسناده ضعف] .(231/2)
تعريف الوديعة لغة واصطلاحاً
نأتي إلى موضوع الوديعة.
الوديعة في اللغة: من ودع الشيء.
بمعنى: ترك، {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3] أي: ما تركك، يقول: دع عنك كذا، أي: اتركه عنك، وقالوا: إن الودعية متروكة عند المودع، وقيل: من الوداعة، والوداعة: السكون، (فأتوها وعليكم السكينة والوداعة والوقار) فإما أن تكون من الاستقرار والسكون عن التقليد والحركة بإيداعها عند المودع، وإما أن تكون من الترك، بأن تركها صاحبها مستقرة عند المودع، ومهما يكن أصلها في اصطلاح أهل اللغة فإن أصل الوديعة في الشرع: أن يجعل إنسان مالاً له عند غيره يحفظه له، ويقولون: إن عقد الوديعة عقد جائز، ولكل من الطرفين إنهاؤه متى شاء.(231/3)
الأدلة على مشروعية الوديعة
وقالوا: إن الوديعة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع.
أولاً: الكتاب: فقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] والوديعة أمانة.
ثانياً: السنة: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) ويدخل فيه الاستعارة والإجارة والوديعة: ثالثاً: والإجماع: أجمعت الأمة على ذلك.
وهي مشهورة عبر التاريخ في الجاهلية والإسلام، فأما في الإسلام فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان موضع إيداع أهل مكة.
يقولون: ما كان لإنسان شيء يخاف عليه إلا وأودعه عند محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم؛ لأمانته، ولما أراد الهجرة خلف علياً رضي الله تعالى عنه لأمرين: الأمر الأول: التعمية على العدو، بأن المسجى تحت البردة هو محمد صلى الله عليه وسلم عليه وسلم؛ فينتظرونه.
الثاني: الأمانات، فلما أراد الهجرة صلى الله عليه وسلم أودع تلك الودائع عند أم أيمن، وكلف علياً أن يردها لأصحابها بعد أن يخرج؛ لأنه لو ردها قبل الخروج للفت الأنظار إليه، وكان من أهم عوامل نجاح الهجرة الكتمان.
وأما في الجاهلية: ففي قصة السموءل مع امرئ القيس، حينما أتى امرؤ القيس إلى السموءل وأودعه سلاحه، وذهب يجمع رجالاً وسلاحاً لقتال أعدائه، فشعر أعداؤه بذلك، فجاءوا إلى السموءل لأخذ سلاح امرئ القيس فامتنع، وقال: إنها وديعة وأمانة ولا أخفر الأمانة والوديعة.
وكان محصناً في حصنه، فعجزوا أن يصلوا إليه، فوجدوا ولده خارج الحصن، فهددوه بقتل ولده إن لم يسلم سلاح امرئ القيس فامتنع، وقتل ولده على نظره وعينه ولم يسلم الوديعة والأمانة!(231/4)
حكم الوديعة
لعظم مكانة الأمانة قالوا: إنها تستحب، وقد تجب إذا علم المودع أنه إذا لم يقبلها ضاعت، وهو أمين عليها، أما إذا وجد من يستقبلها غيره، أو رأى من نفسه الضعف، فخشي أن يفرط فيها إما بضياع، أو طمع فيها بأن تضعف نفسه أمامها؛ فلا يحق له أن يقبلها.
إذاً: الوديعة أمانة، والوديعة: مال الغير يحفظه غيره، ويكون أميناً في ذلك.
والحديث يتكلم عن جانب واحد من جوانب الوديعة: بأن المضمَّن لا يضمن؛ لأن يده عليها يد أمانة، والأمين لا يضمن، ولأنه أمسكها لحظ صاحبها لا لحظ نفسه، فهو غير متهم.
وهناك جوانب أخرى متعددة في الوديعة، وابن قدامة رحمه الله أورد في المغني في مباحثها ما يقارب من خمس وثلاثين صفحة، كلها تدور حول تحقيق المناط في الضمانة، والضمان، وعدم الضمان، والأصل في ذلك: أن المودع لا يضمن ما لم يأتِ موجب الضمان: من تفريط أو تعدٍ، وسبق أن قلنا: إن موجبات الضمان في القوانين الوضعية وفي الأحكام الشرعية أحد الأمرين: التفريط أو التعدي، والفرق بين القتل الخطأ والعمد: أن الخطأ بسبب التفريط، والعمد بسبب التعدي العامد والعدوان، وهكذا كل من فرط في حق الغير ضمن، وكل من تعدى على حق الغير ضمن؛ لأنه فعل ما ليس له أن يفعله، فعلى الإنسان أن يحرص، وأن يأتي بالعمل على وجهه الكامل.(231/5)
تعدد مباحث الوديعة
مباحث الوديعة طال بحثها عند الفقهاء: من الذي يحق له أن يودع، ومن الذي يستحق أن يستودع ويقبل الوديعة، صفة حفظ الوديعة عند المودع بين حفظها ومستوى حرزها، وإذا كانت تحتاج إلى إنفاق والمودِع ليس موجوداً فماذا يفعل؟! وإذا أراد السفر وخشي عليها، ولم يجد صاحبها ولا وكيلها فماذا يفعل؟! أيحملها معه في السفر وهو مظنة الإتلاف؟! أم يودعها عند غيره؟! وهل يضمن بإيداعها عند غيره أم لا؟! وإذا خلطها بماله وكان من جنسها: دارهم مع دراهم، دنانير مع دنانير، تمر مع تمر، زيت مع زيت؟! وإذا خلطها مع غير جنسها: بر مع شعير، وهكذا أيضمن في هذه الحالات أو لا يضمن؟ وإذا كانت في حرز، مثل: كيس أو صندوق ونحوه ففك رباط الكيس أو الصندوق، ولو لم يخرج منها شيء أيضمن أم لا يضمن؟ وكل هذه المباحث موثقة أو مفصلة في كتب الفقه كما أشرنا ذلك عن الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى.
وأهم ما ينبغي التنبيه عليه: أن الصناع سابقاً لم يكونوا يضمنوا؛ لأن الصنعة في أيديهم أمانة، ولكن في زمن علي رضي الله تعالى عنه لما كثر ادعاء الصناعة وتلف السلع ضمنهم، وقال: سداً للباب، وسداً للذريعة، فإذا علم الصانع أن موضوع الصنعة في ذهب أو نحاس أو خشب أو خياطه أو غير ذلك إذا تلف لا يضمن فرط، وإذا علم أنه يضمن بأي حال من الأحوال أتقن.(231/6)
تلف الوديعة
لو ادعى المودع أن الوديعة تلفت بحدث عام كغرق أو حرق أو سرقة أو نحو ذلك، وادعى بأن الوديعة تلفت في هذه الأحداث! فينظر هل لديه بينة على وجود هذا الحدث من حيث هو، بصرف النظر عما تلف فيه، فإن أقام البينة على وجود ذلك الحدث برئ، فإذا قال: إن بيته قد أحرق -عياذاً بالله- وأحرقت الوديعة مع متاعه وماله، فلا يكلف البينة على أن الوديعة أحرقت بعينها، ولكن يكلف البينة على وجود الحريق في بيته؛ لأن هذه الأمور العامة لا تكاد تخفى، فيشهدها الجيران وغيرهم، وكذلك ما كان بعيداً عن الجيران، ويشيع أمرها في القرية، فإذا ادعى تلفاً بحدث عام كلف البينة على إثبات ذلك الحدث.
وإذا ادعى أن الوديعة سرقت وماله لم يسرق ضمن؛ لأنه أحد أمرين: إما لا سرقة أصلاً، أو تفريط في وضعها في غير حرزها، ولماذا لم يسرق ماله معها؟! أما إذا ادعى بأنه وضعها في حرز ماله هو، بأن كان لديه صندوق في البيت يؤمن فيه أمواله فوضعها معها، فادعى أن الصندوق قد سرق، أو كسر وأخذ ما فيه، فحينئذ يقبل قوله، ويكون لا ضمان عليه.(231/7)
جحود الوديعة
عند رد الوديعة هل يشهد على الرد أو لا يشهد؟! وإذا جاء صاحب الوديعة يطلبها فقال: لا شيء لك عندي، ولم تودعني شيئاً، ولم آخذ منك شيئاً.
فلما ضيق عليه قال: هاه! نعم صحيح، أنت أودعتني ورددتها عليك.
ضُمِّن؛ لأنه بقوله: رددتها عليك كذب نفسه في قوله: لم تودعني شيئاً.
فأصبح خائناً كذاباً، والمؤتمن ليس بكذاب.
أما إذا قال: وديعتي عندك.
فقال: ليس لك عندي شيء، ثم قال: أنا أودعتك.
قال: نعم أودعتني ولكن ليس عندي لك شيء؛ لأني رددتها عليك في الوقت الفلاني.
فكلمة (ليس لك عندي شيء) تحتمل عدم الوديعة بالكلية، وتحتمل ردها إليه بعد الإيداع، فإذا قال ابتداءً: ما أودعتني، ثم رجع واعترف يكون ضامناً.
ولو أنه أخذ الوديعة وتصرف فيها، ثم بعد زمن ردها إلى محلها، فهو ضامن إن تلفت، وتبرأ ذمته بردها إن أعادها في موضعها أو إلى صاحبها.(231/8)
سفر المودَع عنده
إذا أراد السفر ووديعته عنده ماذا يفعل؟! عليه أن يبحث عن صاحبها أو وكيل له يسلمها إليه، سواء كان هذا السفر ضرورياً أو غير ضروري؛ لأنه له حق في ذلك، فإذا لم يجد صاحبها ولا وكيله جاء إلى الحاكم، وقال: عندي وديعة كذا، وأريد السفر، ولا آمن تركها في البيت، فيردها للحاكم، والحاكم مأمون على ذلك ويضعها حيث ما يحفظها.
وإذا لم يجد الحاكم، أو كان الحاكم بعيداً عنه، فماذا يفعل؟! قالوا: إن نظر إلى أمين آخر يمكن أن يأمنه على ماله هو فأودعه إياها، فتلفت عند المودع الثاني، قالوا: لا ضمان عليه؛ لأنه في حالة ضرورة، وأودعها عند مؤتمن هو يأتمنه على ماله، فليس مفرطاً ولا متعدياً.
أما إذا أودعها عند شخص عادي ليس معروفاً بالأمانة فتلفت، فهو ضامن؛ لأن صاحبها ارتضاه هو ولم يرتضِ هذا المودع الجديد؛ لأنه لا يعرف عنه شيئاً.
إذاً: فالمباحث عديدة وواسعة في ما يتعلق بالوديعة.(231/9)
غالب مباحث الوديعة اجتهادية
النصوص في أمر الوديعة قليلة، وكل أبحاثها اجتهادية، ومردها إلى هذا الحديث وإلى غيره من العمومات كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] وحديث: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) فهذه نصوص جانبية يؤتى بها في مباحث الوديعة، في ضمانها وفي ردها إلى صاحبها.(231/10)
من دقائق مباحث الوديعة
ومن الدقائق في هذا الباب: ما يذكره الفقهاء: مِن أن مَنْ أودع وديعة فجاء صاحبها يطلبها، فقال: نعم، ولكني الآن جائع، وأريد أن آكل، فله المهلة، أو قال: نعم، ولكني الآن متعب وأريد أن أستريح؛ فله الراحة، أو قال: أنا الآن أكلت وامتلأت بطني، وأريد المهلة حتى ينهضم الطعام، وأستطيع أن أتحرك براحة، فيعطى المهلة وهكذا؛ لما له فيه مصلحة.
أما إذا طلبها منه بعيداً عن موطنها، فمثلاً: أودعه بالمدينة ولقيه بمكة، وقال: ائتني بوديعتي، فليس له حق في تكلفته في هذا الوقت، وللمودَع عنده أن يقول: وديعتك حيث أودعتني بالمدينة.
وإذا قال: إذا رجعت إلى المدينة فابعث بها إلي، فعليه أن يدفع مؤنة ردها وإرسالها؛ لأن مئونة إرسالها تابعة لها، وهي على صاحبها، ولا يكلف المودع بأجرة نقلها، قليلة كانت الأجرة أو كثيرة.
وبهذا القدر نكتفي، ومن أراد الزيادة والتفصيل فليرجع إلى كتب الفقه، وهذا الذي نبهنا عليه وننبه عليه دائماً: أن على طالب العلم أن يجمع بين مراجع الفقه ومراجع الحديث، فالحديث أصل يرجع إليه في تطبيق القواعد، والفقه تفصيل الجزئيات فيما يطرأ على الموضوع أو يظن به.
والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه.(231/11)