شرح حديث: (رخص النبي بعد في الحجامة للصائم)
قال رحمه الله: [وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم، فمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أفطر هذان، ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم، وكان أنس يحتجم وهو صائم) رواه الدارقطني وقواه] .
انظروا إلى فقه المؤلف رحمه الله! ساق لنا الأحاديث التي بينها التعارض: ذكر أولاً حديث ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم احتجم، ثم حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) ، ثم ختم البحث بحديث أنس، ماذا في حديث أنس؟ أنس ممن روى الحجامة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي سئل: (أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال: لا، إلا إبقاءً عليه) فحديث أنس هذا فصل الخطاب.
[قال: (أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم) ] .
انظروا إلى عرض أنس رضي الله تعالى عنه! لم يقل: رخص النبي بالحجامة للصائم لا، بل أتانا بتاريخ الحجامة شرعاً: (أول ما كرهت الحجامة) يعني: هو مستوعب لفقه الحجامة من أولها، ما أولها؟ (أول ما كرهت) يعني قبل قصة جعفر لم تكن مكروهة، كانت ماضية في سبيلها، وأول ما كرهت لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم جعفر يحتجم، فقال: (أفطر الحاجم والمحجوم) .
قال: [ (فمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أفطر هذان، ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم) ] .
لما أخبرنا أنس رضي الله تعالى عنه عن بداية كراهية الحجامة بسبب احتجام جعفر رضي الله تعالى عنه، ومرور النبي صلى الله عليه وسلم به وهو يحتجم بالفعل، وقوله لهما: (أفطر هذان) ؛ يأتي أنس بالحكم العملي والفقهي: (ثم رخص بعد ذلك) ثم رخص بعد ذلك في الحجامة للصائم.
إذاً: حديث أنس هذا يدلنا على أن الحجامة أول كراهيتها عند قصة جعفر، وبعد ذلك رخص في الحجامة للصائم.
إذاً: تكون الحجامة للصائم رخصة، والرخصة تستعمل عند الحاجة، فإذا كان الصائم في حاجة إلى الحجامة نهاراً فعنده رخصة باستعمالها، ولا قضاء عليه، أما إذا كان في غنىً عنها، وعنده ما ينوب عنها، أو عنده سعة ويمكن أن يؤجلها إلى الليل فليست له رخصة فيها، بل يتركها لغيرها أو يتركها لوقت آخر ليس هو فيه صائم، وأعتقد أن حديث أنس هذا هو الفصل، وتقدم لنا عن الشافعي رحمه الله أنه قال: ينظر في حالة الشخص الذي يريد أن يحتجم: إن كان يستطيع أن يتحمل أثر الحجامة من الضعف والفتور، ولا يلجأ إلى الفطر؛ فلا مانع، وإن كان لا يستطيع ذلك فيمتنع من الحجامة.
وهكذا سماها أنس رضي الله تعالى عنه رخصة للصائم، يعني: لا تستعمل إلا عند الحاجة الداعية إليها، والله تعالى أعلم.(148/9)
شرح حديث: (اكتحل في رمضان وهو صائم)
قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم اكتحل في رمضان وهو صائم) رواه ابن ماجة بإسناد ضعيف، وقال الترمذي: لا يصح في هذا الباب شيء] .
هذا مما يتعلق بما يكره للصائم وما يجوز، وقد تكلمنا عن الحجامة، وذكرنا الخلاف الخفيف فيها، وقول أنس: إنها رخصة للصائم عند الحاجة، ثم أتى المؤلف بموضوع الاكتحال، وأتى بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم اكتحل) ، و (اكتحل) : افتعل بوضع الكحل، والكحل محله العين، ومن هنا أخذ بعض العلماء أن الاكتحال لا يضر الصائم، ولكن نص بعض العلماء أن الكحل له حالتان: حالة يكون خفيفاً جداً لا يتعدى موضعه، وحالة يصل فيها إلى الحلق، فإذا كان يصل إلى الحلق فقد أفطر الصائم؛ ولذا نص الحنابلة على أن من المبطلات والمفسدات للصوم: إذا اكتحل بما يصل إلى الجوف، وهناك أشياء تسري، وهناك أشياء لا تتعدى موضعها، ولكن تمنع سداً للباب، وجاءت آثار فيها النهي عن الاكتحال بالإثمد المطيب، أو الإثمد المروح.
فمن أجاز الاكتحال للصائم قال: النهي عن نوع خاص وهو الإثمد المروح -يعني: الذي فيه رائحة طيبة-؛ لأن الصائم ممنوع من استعمال الروائح الطيبة، ولكن الإثمد مهما كان مروحاً لا يصل إلى حد أن يمنع الصائم منه من أجل الرائحة، وكراهية الروائح الطيبة للصائم إنما هي من قبيل باب القُبلة، قالوا: لأن عرقا الخصيتين في الإنسان مرتبطة بالأنف، فإذا شم رائحة زكية تحرك عليه العرقان؛ فمنعوا من الروائح الطيبة الصائم والحاج، فالحاج إذا أحرم لا يحق له أن يتطيب؛ لأنه مدعاة إلى الإثارة، إذاً: الطيب من حيث هو ليس ممنوعاً، ولكن الممنوع موجب الإثارة، ومهما يكن في الإثمد من رائحة لا تصل إلى الحد الذي يثير عند صاحبه شيئاً.
إذاً: النهي عن الاكتحال إنما هو لكونه في العين، والعين منفذ، فإذا وصل إلى الحلق -كما قال الحنابلة- فإنه حينئذ يكون قد أدخل شيئاً إلى الجوف عامداً، وحينئذ يمتنع عليه أن يكتحل.
والذين يقولون بأن الكحل يؤثر على الصوم يلحقون به كل معالجة للعين ما عدا الماء، فيمنعون الَصِبر للعين، وكذا التوتياء أو الششم أو القطرة، أو أي محلول فيه مادة كيماوية، ويجعلون كل نوع من أنواع المعالجات التي تصل إلى الحلق تابعة للإثمد.
أما علاج العين بالماء فهذا أمر جائز، والإنسان يغسل وجه في الوضوء أكثر من مرة، ومن أنواع علاج العين بالماء: إذا كانت هناك رجرجة أو كانت هناك حرارة، أن تأخذ كأساً من الماء البارد العادي، وكما يقول بعض الأطباء: يبيته في الخلاء في الليل، ثم يأخذه صباحاً، ويفتح العين فيه، ويكون الإناء مليئاً بالماء، ويضعه على بؤبؤ العين، ويحرك حاجبيه أو رمشيه، فيدخل الماء البارد تحت الحاجب هنا أو تحت الرمش -كما يقولون- ويصل إلى شحمة العين، فيستخلص الحرارة منها، هذا نوع من العلاج، وينفع من ضعف البصر في بعض الأحيان، لكن لا دخل له ولا سريان له إلى الدماغ.
إذاً: الكحل للصائم ممنوع، ويلحق به كل ما له نفوذ من العين إلى الجوف، واعتبروا العين منفذ، والأنف منفذ، والأذن عند الحنابلة أيضاً منفذ، وكل دواء لهذه الجهات أو عن طريقها يصل أثره إلى الحلق فهو مبطل للصوم، والله تعالى أعلم.(148/10)
شرح حديث: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه)
قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه) متفق عليه.
وللحاكم (من أفطر في رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة) ، وهو صحيح] .
ذكر المؤلف رحمه الله من مبطلات الصيام الحجامة، والكحل، ثم جاءنا بمن أفطر أو أكل ناسياً، وكذلك أيضاً إذا احتجم ناسياً أو اكتحل ناسياً، فما حكم من تعاطى مبطلاً للصوم ناسياً بصفة عامة؟ يأتي المؤلف رحمه الله بهذا الحديث: (من أكل أو شرب وهو صائم ناسياً فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه) .
هذا الحديث يعتبر منة من الله سبحانه وتعالى، ولطفاً من الله، فإنه لا يؤاخذ الإنسان في نسيانه: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة:286] إلخ، وقال صلى الله عليه وسلم: (رفع لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) .
فإذا نسي الإنسان صومه، وتناول الماء تلقائياً وشرب، أو تناول الأكل تلقائياً وأكل، ثم تنبه بأنه صائم، ماذا يفعل؟ الحديث يقول: (فليتم) ، تذكر أنه صائم فليمسك، ويتم صومه بقية يومه، ولا يفطر بما أكله، قال الله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] ، والذي أكل أو شرب في نهار رمضان ما أتم الصوم، بل قطعه، لكن الحديث صريح بأن الإنسان يتم صومه، وأنه فضل من الله، وقد أطعمه الله وسقاه.
وقوله: (أطعمه الله وسقاه) هنا واضح، أكل وشرب حتى ولو شبع، كما في بعض الآثار أن جارية دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وعنده ذو اليدين وهما يفطران، فقال: (هلم إلى الطعام) ، فجلست وأكلت، ولما انتهوا قالت: أوه! أنا كنت صائمة، نسيت.
فقال لها: أبعدما شبعتِ؟! فالرسول صلى الله عليه وسلم قال لها: (أتمي صومك؛ فإنما أطعمك الله وسقاك) .
إذاً: تفسير: (أطعمه الله وسقاه) واضح، أطعمه ما أكل، وسقاه ما شرب، فالإطعام والسقيا هنا حقيقة واقعية لا تحتاج إلى تأويل، بخلاف (لي طاعم يطعمني، وساق يسقيني) ، فهناك فيه الإشكال، أما هنا فلا إشكال، أطعمه الله، أي: ساق له الطعام، وعفا له عن أثره، وصحح له الصيام، فهذه منحة جاءته من حيث لا يعلم.
والأئمة الثلاثة أبو حنيفة والشافعي وأحمد رحمهم الله يقولون: من أكل أو شرب ناسياً فلا قضاء عليه، ويتم صومه ولا شيء عليه.
ومالك رحمه الله يقول: عليه قضاء يوم مكانه.
لماذا -يا مالك - فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أطعمه الله وسقاه) ؟ قال: نعم، ولكن لم يقل: وليس عليه قضاء.
بل قال له: (يتم صومه) ، وكونه يتم صومه فصومه ماض، لكن في بعض الروايات: (ولا قضاء عليه) قال: لا تصح، والله تعالى يقول: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] ، وهذا لم يتم، (أطعمه الله وسقاه) هذه نعمة من الله، وأنه لم يؤاخذه على الأكل والشرب في رمضان؛ لأنه لو أكل أو شرب عامداً لكان عليه القضاء، ومع القضاء كفارة؛ لأن مالكاً يوجب الكفارة بالأكل والشرب، خلافاً لمن لا يوجبها إلا بالجماع.
فـ مالك أخذ الحديث على الرخصة أو على العفو، وطالب من أكل ناسياً بيوم مكان اليوم، ولكن الصحيح الواضح أن من أكل أو شرب ناسياً فإنه يتم صومه، وصومه كامل، ولا قضاء عليه، والله تعالى أعلم.(148/11)
كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [8]
اختلف الفقهاء في الأفضل للمسافر في رمضان، فقيل: الصوم أفضل له، وقيل: الفطر أفضل له، وقال المحققون من العلماء: الأفضل الأيسر له، وهذا يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، ومعرفة طالب العلم لهذه المسألة بتفاصيلها، وأدلة كل قول فيها؛ تدربه على التفقه، وعلى معرفة الراجح من الأقوال، وأنه قد يمكن الجمع بين جميع الأقوال في المسألة الواحدة.(149/1)
شرح حديث: (من ذرعه القيء فلا قضاء عليه)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فعليه القضاء) رواه الخمسة، وأعله أحمد، وقواه الدارقطني] .
يسوق المؤلف رحمه الله تعالى في مباحث ما يمنع أو يباح في الصوم ما يتعلق بالقيء، والقيء: هو لفظ المعدة لما فيها من الطعام عن طريق الفم.
ومعنى: (ذرعه) أي: غلبه، تقول: ضقت بالأمر ذرعاً.
أي: غلبت عليه، فمن غلبه القيء، وخرج بدون رغبة منه ولا إرادة له وهو صائم فإن صومه صحيح، ولا قضاء عليه، سواء كان هذا القيء قليلاً أو كثيراً، تغير أو لو لم يتغير.
والقلس: هو أن تخرج المعدة عند امتلائها شيئاً من الماء ملء الفم أو دون ذلك، فهذا يسمى قلساً، ويكون حديث عهد بأكله وبتناوله، أما القيء فيكون الطعام قد تغير لمكثه في المعدة، وكما قيل: إن المعدة تعمل آلياً وكيميائياً، آلياً بمعنى: أنها تتحرك بنفسها على الطعام كالرحا تطحنه، وكيميائياً ما يأتيها من إفراز من المرارة، فإنه يساعد على هضم الطعام، كالحمضيات مثلاً تساعد على إذابة الأجرام، فإذا ما عملت المعدة في الطعام ثم طرأ عليها عدم ارتياح لهذا الطعام، وقد يكون شيء طارئ يتقدمه مثل المغص أو القلق النفسي، أو أسباب أخرى، فلا تقبل الطعام، فتتقلص وتدفعه، فهذه الحالة إذا وقعت بالصائم فهو لم يتسبب فيها، ولم يكن له عمل فيها، ولا رغبة منه، فهذا لا قضاء عليه.
وقوله: (استقاء) الهمزة والسين والتاء -كما يقولون- للطلب، كما تقول: (أستغفر الله) أي: أطلب الله الغفران، (أستعين الله) : أطلب الله العون، (أستهدي الله) : أطلب من الله الهداية، (من استقاء) يعني هو الذي طلب القيء بنفسه، وذلك حينما يحس بازدحام الطعام، وإرهاق النفس، وعدم الارتياح، فإنه لا يريحه إلا إخراج الطعام من المعدة، ويسميه الأطباء القدامى (استفراغ) أي: افراغ المعدة مما ازدحم فيها، وقد تكون بالمعدة بعض الأشياء الصفراء والسوداء، وكانوا يعالجون الجسم على حسب تلك الطبائع، فإذا كان بالمعدة شيء من ذلك، وغالباً يكون قديماً، فيأتيها شيء من الطعام لا يوافقها، إما لدهنيات، إما لقلويات، إما لأشياء أخرى، فلا تستطيع المعدة أن تهضمها، ولا يستطيع هو أن يتحمل غثاء المعدة، فلا يجد له راحة إلا استفراغ بعض ما في المعدة.
فإذا استقاء هو -أي: حاول وطلب القيء- فإنه يبطل صومه وعليه القضاء، والاستقاء أو الاستفراغ يكون بأحد أمرين: إما بتعاطي ما طبيعته أنه يثير القيء، وإما بإدخال جرم إلى الحلق ويجعل عنده قدحاً فتلقي المعدة ما فيها، وإذا كان صائماً فلا يستطيع أن يتعاطى ما يثير القيء مثل الماء الدافئ الذي فيه قليل من الملح، أو نترات النحاس، أو بعض الأشياء التي يذكر الأطباء أنها تجعل الإنسان يستفرغ حالاً، فالصائم لا يتناول شيئاً من هذا؛ لأن تناوله إياه يفطره قبل أن يستقيء.
فإذا وضع إصبعه أو أدخل جرماً إلى حلقه فأثار المعدة فخرج القيء، ففي هذه الحالة يُبطل صومه، ويمسك بقية يومه، وعليه القضاء.
وهنا يتساءل الناس: إذا ذرعه القيء فلا قضاء، وإذا استقاء هو فعليه القضاء، والقضية واحدة وهي إخراج الطعام من المعدة، ذرعه أو استقاءه! فما الفرق بينهما؟ هل الفرق أنه تسبب أو لم يتسبب؟ هل الفرق أنه ليس له سبب إذا ذرعه القيء كما يقولون -مثلاً- في إخراج المني، لو نام واحتلم فلا شيء عليه؛ لأنه لم يتسبب في إخراجه، أما إذا باشر أو تسبب في إخراج المني يقظة فهناك الكلام في القضاء والكفارة وما يتعلق بهذا الباب؟ فيقولون: ليست العلة التسبب وعدم التسبب، ولكن العلة في طبيعة إخراج هذا الطعام؛ لأنه إذا ذرعه القيء فمعناه: أن المعدة هي التي تقلصت ودفعت الطعام عنها، فيكون دفعها قوياً، وتخرج الطعام على دفعات فلا ترجع منه شيئاً إليها.
أما إذا استقاء فكأنه يسحبه من عنده، وقد يخرج البعض وقد يرجع البعض؛ فلاحتمال رجوع بعض الطعام ممن يستقيء، ورجوع الطعام بعدما يصل إلى الحلق، ورجوعه إلى الجوف مرة أخرى كأنه أدخل الطعام من جديد، فيكون ذلك مفطراً.
إذاً: حكم القيء أنه إن ذرعه القيء وغلب عليه فلا قضاء عليه، وإن تسبب هو في إخراجه فإنه يكون عليه القضاء، والفرق بينهما في إيجاب القضاء في إحدى الحالتين وعدم إيجابه في الأخرى: هو طبيعة خروج الطعام من المعدة؛ لأن خروجه في حالة غلبته على الإنسان يخرج دفعات ولا يرجع منه شيء إلى المعدة، أما في حالة استعصائه ومحاولة إخراجه فإنه يغصب المعدة على الإخراج وهي لا تريد إخراج، فقد يخرج البعض ويرجع البعض إلى ما كان عليه، فيكون في ذلك صورة من أدخل طعاماً جديداً إلى المعدة، والله تعالى أعلم.(149/2)
شرح حديث: (أفطر النبي في رمضان بعد العصر في السفر)
قال رحمه الله: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه فشرب، ثم قيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام.
فقال: أولئك العصاة، أولئك العصاة) ، وفي لفظ: (فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإنما ينتظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب) رواه مسلم] .
أيها الإخوة الكرام! يأتي المؤلف الآن إلى مسألة عملية واقعية، صحبها الخلاف من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، وسيظل فيها الخلاف، وهي: قضية الصوم في السفر أو الفطر، وهذه القضية اهتم بها العلماء كثيراً، وابن جرير الطبري في تهذيب الآثار تكلم عنها، وأورد ما يزيد على مائة أثر مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الآثار يوردها بتعدد طرقها، وابن عبد البر في الاستذكار أطال أيضاً في التفصيل فيها، وكذا في التمهيد، والشوكاني في نيل الأوطار أورد الآثار في هذه القضية إلى حد بعيد.
والناس في هذه القضية طرفان وواسطة، فهناك من يقول: لا يصح الصوم في السفر، وهناك من يقول: الصوم في السفر أفضل من الفطر مطلقاً، وهما قولان متباعدان جداً، ويقول ابن عبد البر: جمهور علماء أمصار المسلمين على أن الصوم على من لا يشق عليه أفضل.
وكان يمكن -أيها الإخوة- أن نكتفي بذلك؛ لأنها الخلاصة والنتيجة، ولكن سأتوسع فيها نظراً لما في هذه المسألة من مباحث عديدة، والخلاف فيها أكثر وأشد ما يكون بين طلبة العلم، والعامة لا يختلفون فيها اختلافاً شديداً، العامة يأخذون بما أفتاهم المفتي، ولكن النزاع والشدة إنما هي بين طلبة العلم، وموجب النزاع عندهم ليس هو حباً في المخالفة، ولكنه اختلاف في فهم النصوص الواردة.
وهذه المسألة نص الله سبحانه وتعالى عليها في كتابه، ونص عليها النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، ونص عليها الخلفاء الراشدون فيما أثر عنهم، وكذلك بقية الصحابة والتابعين.
وقد ذكرت في كتاب الله مرتين، قال الله: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة:184] ، والمرة الثانية في نفس السياق: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185] ، فهنا بين سبحانه وتعالى أن المريض -وفي حكمه المسافر والحامل و.
إلخ- يعجز عن الصوم، والمسافر مثله، فإذا شق عليه الصوم فله أن يفطر، وعليه عدة من أيام أخر.
ونجد قولاً غريباً يقول: إن الله أسقط صوم رمضان عن المسافر والمريض، ونقل فرضه إلى عدة من أيام أخر، فإذا صام وهو مسافر أو وهو مريض فلا يصح صومه؛ لأنه ليس من أهل رمضان، وإنما عليه عدة من أيام أخر! وهذا قول ابن حزم ومن وافقه.
والجمهور يقولون: قوله سبحانه وتعالى: ((فمن كان مريضاً أو على سفر)) هل هو للمرض وللسفر فقط أو يوجد كلام مقدر؟ يوجد كلام مقدر لولا تقديره لكان في الآية خلل يتنزه كتاب الله عن ذلك، قالوا: وما هو الكلام المقدر؟ قالوا: ومن كان مريضاً أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر.
وهذا عند علماء الأصول يسمى بدلالة الاقتضاء، أي: أن المقام اقتضى أن نقدر هذا القسم من القول ليلتئم الكلام ويصح، ومثل هذا ما في قصة موسى عليه السلام: {أَنِ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ} [الأعراف:160] ، هل المعنى: لما قلنا له: اضرب بعصاك الحجر انبجست أو فضرب فانبجست؟ فضرب فانبجست، إذاً: التقدير بحسب الاقتضاء أسلوب عربي، والقرآن جاء به.
فإذا كان الأمر كذلك، ووجدنا المريض تحامل على مرضه وصام، فبإجماع المسلمين بلا نزاع أن صومه هذا يجزئه ما عدا ابن حزم، وكذلك يقولون: المسافر إذا تحمل الصوم وصام أجزأه، وهذا على مقتضى دلالة الاقتضاء: فأفطر فعدة.
وابن حزم يأتي في نظيرها ويقول بدلالة الاقتضاء ولا يقول بها هنا! ففي قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة:196] ، فهو بنفسه في المحلى يقول: ليست الفدية للمرض ولا للأذى، ولكن نقدر: فحلق ففدية.
فنقول: لماذا قدرت (فحلق) ورتبت الفدية على الحلق وليس على المرض والأذى ولم تقدر (فأفطر) في آية الصوم؟ فكما أن في محل الأذى من رأسه قدرنا فحلق، والفدية مرتبطة بحلق الرأس؛ فكذلك نقدر في الصوم، مريضاً أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر مرتبة على دلالة الاقتضاء وهو (فأفطر) ، كما أنك قلت: فحلق ففدية، وهذا كلام لا غبار عليه، ولا ينبغي المكابرة فيه.
إذاً: سياق القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى جعل للمريض والمسافر أن يفطرا في رمضان، ثم بعدد أيام فطرهما يقضيان عدة من أيام أخر.
ونحن الآن في حكم المسافر فقط، فإذا سافر الإنسان وكان يستطيع الصوم، فهل عليه أن يفطر وجوباً ثم يقضي عدة من أيام أخر أم ننظر في حالة من استطاع الصوم أو لم يستطع؟ نأتي إلى أساس التشريع والتطبيق الفعلي من سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه، فهذا الحديث الذي ساقه جابر مستفيض عند علماء المسلمين، جاء عن ابن عباس وأبي هريرة و.
إلخ؛ لأن هذا كان في عام الفتح في السنة الثامنة من الهجرة، وأصحاب رسول الله حوله، ومعه منهم العدد الكثير.
إذاً: خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح سنة ثمان من الهجرة صائماً، وفي بعض الروايات: لعشر خلون من رمضان.
يعني: في يوم الحادي عشر من رمضان كان خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة للفتح، وهناك من يقول: ليال خلون.
هذا أجمل العدد، وهذا فصل العدد، والذي يهمنا أنه خرج في رمضان.
وتتفق الروايات كلها أن خروج النبي صلى الله عليه وسلم لفتح مكة سنة ثمان من الهجرة، وأنه خرج من المدينة صائماً، ويظل يصوم يومياً حتى بلغ كراع الغميم، وبعضهم يحدد إلى قديد -أي: بعد رابغ وقبل عسفان-، وتلك المنطقة تحتاج إلى سفر حوالى ستة أيام بالإبل، فمتى كانت مشروعية الصوم؟ في شعبان في السنة الثانية من الهجرة.
إذاً: قوله سبحانه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] كان قد مضى على نزولها ست سنوات، والمسلمون يحفظون ذلك، وبعد ست سنوات من نزولها يخرج صلى الله عليه وسلم في رمضان، فهل أوجب على نفسه الفطر ونقل ما وجب عليه إلى عدة من أيام أخر أو أخذ بقوله تعالى: ((فمن شهد منكم الشهر فليصمه)) ؟ أخذ بأصل المشروعية، وهذا أمر واضح، فمضى صلى الله عليه وسلم صائماً ومن معه من الصوام، يقول ابن عباس: خرج في عشرة آلاف مقاتل، وأنس رضي الله تعالى عنه يقول: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في بعض الغزوات، منا الصائم، ومنا المفطر، فلا يعيب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، إذاً: كان من أصحاب رسول الله عام الفتح من هو صائم ومن هو مفطر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصائمين، وفي مجموع الروايات التي جاءت في أحداث المسير هذا أن بعض الناس قد شق عليه الصوم، ولكن ينظر إلى فعل رسول الله، فقيل: (يا رسول الله! إن الناس قد شق عليهم الصوم، وينظرون ما تفعل، فأخذ قدحاً، ووضعه على كفه بعد العصر، ثم شرب والناس حوله ينظرون) ، وفي بعض الآثار: (فأفطروا) ، وفي بعض الروايات الأخرى أنه مر على رجل يظلل عليه تحت شجرة، فقال: (ما باله، ما مرضه؟) قالوا: ليس بمريض، ولكنه صائم، فقال: (ليس من البر الصوم في السفر) ، فأخذ البعض أنه ليس من البر الصوم في السفر مطلقاً، وأن الفطر أفضل، ومسألة الأفضلية نؤجلها قليلاً، نحن نريد الآن أن نثبت جواز الصوم والفطر، وأن الصوم والفطر متعادلان، والتفضيل يأتي من جانب آخر، فإذا ثبت صحة الصوم في السفر انتهت نصف القضية، وبقي النصف الثاني: ما هو الأفضل؟ فقوله عليه الصلاة والسلام: (ليس من البر الصوم في السفر) قال العلماء: لأنه صام إلى الحد الذي أغمي عليه فيه، وفي بعض الروايات: (كانت ناقته تطرح نفسها على الشجر) أي: لم يعد يتحكم فيها، فإذا وصل الحال بإنسان في الدوخة وفي الضعف إلى هذا الحد وعنده رخصة من الله ((عدة من أيام أخر)) ؛ فهل يكون البر بأن يلحق بنفسه هذا الأذى أو أن يأخذ برخصة الله ويكون معافى مع الناس؟ وفي بعض الروايات أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد كراع الغميم وصل إلى كديد، وكديد ماء عند قديدة -كما يقولون- قبل عسفان، فقال للناس: (لقد دنوتم من عدوكم) ، هل كانوا ذاهبين للنزهه أم حجة وعمرة أم ذاهبين للقتال؟ هم ذاهبون للقتال، وسيقاتلون أناساً في عقر دارهم، تحدٍ إلى أقصى حد، فقال: (إنكم دنوتم من عدوكم فأفطروا) ، فأصبح بعض الناس مفطراً، والبعض صائماً، ويقول أبو سعيد: لقد رأيتنا وما منا من أحد إلا ويضع الماء ويده على رأسه من شدة الحر، وليس فينا صائم إلا رسول الله وابن رواحة، فلما قال لهم: (أفطروا) أفطر البعض وظل البعض على صومه، فقيل له: (يا رسول الله! إنك أمرت بالفطر بالأمس، وأصبح البعض صائماً، فقال: أولئك العصاة، أولئك العصاة) كما في حديث جابر، والذين قالوا: لا يصح الصوم في السف(149/3)
جواز الفطر والصوم في السفر والتفضيل بينهما
إذا صح وثبت عندنا جواز الصوم في السفر، فسنرجع إلى النقطة الثانية: ما هو الأفضل؟ نجد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يختلفون في ذلك، فنجد ابن عمر رضي الله تعالى عنه ورواية عن عمر يريان بأن الفطر أفضل، ويقول ابن عمر: أرأيت لو أن إنساناً أهدى إليك هدية، فرفضتها، أكان يرضيه ذلك أم يغضبه؟ قال: يغضبه.
قال: فالفطر صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته.
ونجد الآخرين يقولون: لقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسافرون معه في رمضان، ومنهم الصائم، ومنهم المفطر، إذاً: يستويان.
ولكن في الحديث الذي جاء به المؤلف ثانياً أن رجلاً سأل رسول الله: إني كثير السفر، وكان يديم الصوم، وفي بعض الروايات أنه جاءه رجل هو أو غيره وقال: (يا رسول الله! إني صاحب ظهر أكريه) يعني: عندي من الإبل ما أكريه في نقل الأمتعة أو الأشخاص، وإني أحب أن أديم الصوم، وقد يصادفني الشهر وأنا في السفر، أأصوم في السفر؟ فقال: إن شئت صمت، وإن شئت أفطرت، وفي بعض الروايات يقول: (يا رسول الله! إنه قد يأتيني الشهر في الشتاء، وأكره أن أفطر في الشتاء وأقضي في الصيف، فقال: صم إن شئت) ، وفي بعض الروايات: (إني أكره أن أفطر والناس صيام، ثم أصوم والناس مفطرون، فقال: صم) ، فإذاً الأمر دائر بين الأمرين، ووقع نزاع بين رجل وبين عروة بن الزبير، فقال أحدهما: أنا أفطر في السفر.
وقال الثاني: أنا أصوم في السفر، وارتفعت أصواتهما، وهذا يقول: أنا أروي عن ابن عمر، والثاني يقول: أنا أروي عن عائشة؛ لأن عائشة كانت تصوم في السفر حتى أزلقها -يعني: أنحفها-، فارتفعت أصواتهما، وكان عندهما عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، فقال: أوه! تتنازعون في ذلك! أيهما أيسر لكما فخذا به.
وهذه القاعدة منطوق القرآن الكريم: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة:185] ، فإذا كان الصوم أيسر للإنسان بأن كان الصوم في شتاء، أو كان لا يحب أن يقضي وحده، أو كان لا يشق عليه؛ فالصوم أفضل، وإذا كان العكس: الحر شديد، والمشقة موجودة، والمسافة بعيدة؛ فيكون الفطر أولى، وهو منطوق قوله سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة:185] ، فمسألة: أيهما أفضل الفطر أم الصوم؟ نقول: ترجع للإنسان في حد ذاته وظروفه في سفره، فلينظر أي الأمرين أيسر عليه فليأخذ به.
وكما جاء عن أنس أنه سئل عن الصوم في السفر، فقال: الصوم أفضل عندي - وأنس من رواة حديث الفطر- فذكرت له الأحاديث والآية: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] ، فقال: كنا نسافر جياعاً، وننزل جياعاً، والآن نسافر شباعاً، وننزل شباعاً.
يعني: من قبل كان يشق علينا الصوم، والآن ليس هناك مشقة.
فإذا جئنا في الوقت الحاضر، وأراد إنسان أن يسافر السفر الذي تقصر فيه الصلاة، ويصح فيه الفطر، وركب السيارة أو الطائرة، ومن جهة الحر ومن جهة الجو فكما يقول العامة: السيارة مكيفة، والطائرة مكيفة إلى أن ينزل إلى بيته الثاني، والطعام ميسر معه أو في محل سفره حيثما نزل يجد الطعام، فليست هناك مشقة عليه تلحقه بسبب صومه، إذاً: مثل هذا نقول: الأيسر عليه الصوم.
لكن قد يكون بعض الناس مع وفرة وسائل الراحة لا يتحمل الصوم في السفر، فنقول: يفطر، ونرجع إلى مقالة عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه: أفضلهما أيسرهما، ويكون ذلك مرده إلى الإنسان في ذاته.
ونوصي طلبة العلم: ألا يجعلوا من هذه المسألة مصدر خلافيات، ويثيرون فيما بينهم الجدل والنقاش على أن هذا أفضل أو ذاك أفضل، ومن أراد أن يقف على ما لا زائد عليه فيه، فليرجع إلى مسند علي عند الطبري، فسيجد ما لا يقل عن مائة أثر في هذا الباب، وذكر آراء العلماء سواء من الصحابة أو من التابعين، ويفصل القول في الترجيح، وأن من قدر على الصوم فالصوم في حقه أفضل، ومن شق عليه فالفطر في حقه أفضل، والله تعالى أعلم.(149/4)
شرح حديث: (الفطر رخصة من الله)
قال رحمه الله: [وعن حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله! إني أجد فيّ قوة على الصيام في السفر، فهل علي جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه) رواه مسلم، وأصله في المتفق عليه من حديث عائشة أن حمزة بن عمرو سأل] .
هذا الحديث هو الفصل في المسألة السابقة، هذا الصحابي يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: أجد في نفسي قوة على الصوم، فهل علي من حرج إن أنا صمت؟ فأجابه صلى الله عليه وسلم بأنه لا حرج عليك، والذين يقولون بأن الفطر أفضل قالوا: غاية ما في هذا الحديث أنه رفع عنه الحرج، أما الفطر فلا حرج فيه، ولكن يقول العلماء: جواب النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حرج عليك) ، إنما هو مطابق لسؤال السائل؛ لأن السائل قال: فهل علي من حرج؟ فأجابه صلى الله عليه وسلم بمقتضى سؤاله: (ليس عليك من حرج) ، وكونه ليس عليه من حرج لا يمنع أن يكون فعله أفضل.
إذاً: هذا الحديث يكفي في الدلالة على صحة الصوم في السفر.
كان في حياة والدنا الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه نزاع شديد جداً بين بعض الإخوة من طلبة العلم في أنواع المناسك، بعضهم يقول: لا يصح إلا التمتع فقط، وكانت هناك مباحثات، وتوسعت، فبعض المشايخ سأل والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في الفسحة الوسطى: أيهما أفضل من الأنساك الثلاثة؟ فقال: الأفضلية أمرها هين، ولكن يجب أن نعلم جميعاً أن المناسك كلها صحيحة، وليس هناك منسوخ منها، أما الأفضلية فبحسب ما ترجح عند البعض، والأئمة رحمهم الله اختلفوا فيما هو الأفضل، فـ الشافعي ومالك فضلا الإفراد، وأبو حنيفة فضل القران، وأحمد فضل التمتع، وهذه مسألة جانبية.
فنحن كذلك هنا يهمنا في هذا الحديث الذي رواه مسلم، وله أصل في الصحيحين -أي: في البخاري ومسلم -، أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز للرجل الذي يجد في نفسه قوة أن يصوم في السفر.
ثم نحن نأتي بسؤال عام: هل فطر المسافر والمريض أصل التشريع أم رخصة بعد الشدة؟ إنما هي رخصة، إذاً: إذا كانت هناك رخصة وهناك عزيمة، والمكلف يستطيع أن يأخذ بالعزيمة، فأيهما أولى في التشريع؟ الأصل في ذلك العزيمة، وإنما ينتقل إلى الرخصة حينما يعجز عنها، فمثلاً الوضوء والتيمم، فالتيمم رخصة للمريض وعادم الماء، والأصل إنما هو الماء، وإنسان سليم معافى وعنده الماء فليستعمله، وهل يحق له أن يذهب للتيمم؟ لا؛ لأن التيمم رخصة عند انعدام الماء، فكذلك الصوم في السفر والفطر في السفر، الصوم عزيمة، والفطر في السفر رخصة إذا احتاجها، والرخص لا يعمل بها إلا عند الحاجة، والله تعالى أعلم.(149/5)
شرح حديث: (رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً)
قال رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً، ولا قضاء عليه) رواه الدارقطني والحاكم وصححاه] .
هذه القضية تتعلق بالمرضى ومن في حكمهم، والمرضى على قسمين: قسم مرضه مؤقت عارض، ينتظر زواله، وتمتعه بالصحة، ومرض لا يرجى زواله، إما أن يكون مرضاً عضالاً -عافانا الله وإياكم- وإما أن يكون مرض الشيخوخة، والشيخوخة لا علاج لها إلا الشباب، وكما قيل: ليت شباباً بوع فاشتريته، و (ليت) لا تأتي بشيء.
فإذا كان إنسان مريضاً مرضاً مزمناً، واتفق الأطباء على أنه لا شفاء له منه، وإنما يصحبه مدة حياته، وما قدر الله له أن يعيش، فهل ننتظر من هذا عدة من أيام أخر؟! لا ننتظر منه، كذلك الشيخ الكبير، وصل إلى التسعين أو المائة وتعدى إلى القرن الثاني، فهل ننتظر منه أن يعود إلى شبابه ليأتينا بعدة من أيام أخر؟ قالوا: لا، فهذان الصنفان: مريض بتلك الحالة أو كبير في السن إلى ذلك الحد؛ رخص الله لهما ابتداءً من أول الشهر، فلكل واحد منهما أن يفطر ولا قضاء عليه؛ لأنه لا ينتظر مجيء فرصة قضاء، وماذا يفعل؟ يطعم عن كل يوم مسكيناً، وهل يطعم ذلك يوم بيوم أو يؤجل ذلك كله إلى آخر الشهر أو يعجل هذا كله في أول الشهر؟ كل ذلك جائز باتفاق، وكان أنس رضي الله تعالى عنه حينما كبر، إذا دخل عليه رمضان جمع ثلاثين مسكيناً وأطعمهم، ثم قال: يا رب! هذا إطعام عن صومي طيلة الشهر.
إذاً: هذا ليس عليه صيام، ولا ينتظر منه قضاء، وإنما عليه إطعام، فيطعم عن كل يوم مسكيناً {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [البقرة:184] ، يعني: إن أطعم عن اليوم مسكينين أو ثلاثة أو أكثر فلا مانع من ذلك، لكن يعرف الحد الأدنى وهو إطعام مسكين عن كل يوم، وما زاد بعد ذلك فهو تطوع منه.
وبالله تعالى التوفيق.(149/6)
كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [9]
حديث الرجل الذي جامع أهله في نهار رمضان، من الأحاديث التي استخرج العلماء منها مئات الفوائد الفقهية، فحري بطالب العلم أن يهتم بدراسته، ومعرفة ما يؤخذ منه من المسائل والأحكام المتنوعة.(150/1)
من أحكام الصيام
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: هناك مباحث تتعلق بالصوم والفطر في السفر، وهي من متطلبات الوقت الحاضر، وفيها تتمة بيان أحكام الصيام، تلك المباحث هي: ما المسافة التي يفطر فيها الصائم؟ ومن أين يفطر الصائم؟ وإذا نزل منزلاً مؤقتاً فهل يصوم أو يفطر؟ وإذا عاد من سفره وعلم أنه سيدخل نهاراً، أيدخل مفطراً أم صائماً؟ وإذا دخل مفطراً فهل يمسك أو له أن يأكل بقية يومه؟ وإذا وجد زوجته مفطرة فهل له أن يأتي أهله؟ كل هذه النقاط من متطلبات بحث الفطر في السفر.(150/2)
السفر الذي يفطر فيه الصائم
أما مسافة السفر التي يفطر فيها الصائم فقد اتفق العلماء أنها هي المسافة التي تقصر فيها الصلاة، وهذه قد حددت بالمكان والزمان، والمكان أضبط كما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ما بين مكة وجدة، أو ما بين مكة والطائف، أو ما بين مكة وعسفان، وحددت بالمسافة أيضاً ذرعاً أربعة برد، والبريد ثلاثة فراسخ، والفرسخ أربعة أميال إلخ، وبالحساب المتعارف عليه اليوم هي حوالى الخمس والسبعين كيلو متراً، فإذا كان الصائم يسافر مسافة بهذا المقدار فإن هذه المسافة تعطيه حق الفطر، بصرف النظر عن نوعية وسيلة السفر، سافرها على الأقدام في يوم أو في عشرة، سافرها على الدواب في يوم أو في خمسة، سافرها على السيارة في يوم أو في ساعة، مطلق قطع هذه المسافة في رمضان فإنه يعطيه حق الفطر، سواء كان في السفر مشقة فعلاً أو لم يكن في السفر أدنى مشقة؛ لأن الأصوليين قالوا: الرخصة من أجل التيسير رفعاً للمشقة، ولما كانت المشقة ليست أمراً محدداً بعينه، ولكنها نسبية، فما كان مشقة في حق زيد قد لا يكون مشقة في حق عبيد، بل ما كان مشقة على زيد اليوم قد لا يكون مشقة عليه هو بنفسه غداً، فلاختلاف تحديد المشقة قالوا: إذاً: تناط بالسفر الذي هو مظنة المشقة، كما جاء: (السفر قطعة من العذاب) .
فعلى هذا، فإن هذه المسافة إذا وجدت فللمسافر الحق في أن يفطر.(150/3)
حكم من سافر في نهار رمضان
إذا أراد أن يفطر في سفره فمتى ينشئ الفطر؟ نجد -يا إخوان- أن الأقوال متعددة، فهناك من يقول: من دخل عليه رمضان في بلده فلا يحق له أن يفطر إذا سافر؛ أخذاً بعموم قوله سبحانه: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] ، وهذا -كما يقول ابن عبد البر وغيره- قول لم يلتفت إليه أحد؛ لأن السنة جاءت بغير ذلك.
وإذا حضر الشهر، وأراد أن يسافر أثناء الشهر، يوم ثلاثة أو يوم خمسة أو يوم عشرة، فمن حيث اليوم قالوا: إن كان قد طلع عليه الفجر وهو في بلده، فكما قدمنا في باب تبييت النية أن المسافر المتحقق السفر، والحائض المتحققة مجيء حيضتها غداً على كل منهما تبييت النية، فهذا المسافر سيسافر غداً، وهو حاجز، والتذكرة في جيبه، لكن عليه أن يبيت نية الصوم، فهو أصبح مبيتاً لنية الصوم، فإذا أراد ضحى النهار أن يسافر، فالجمهور -ومنهم المالكية والشافعية والأحناف- يقولون: هذا الشخص الذي أدرك جزءاً من هذا النهار مقيماً لا يحق له أن يفطر في هذا اليوم؛ لأنه بيّت النية، وصام جزءاً من النهار، فلا يبطل هذا الجزء، ويسافر ثم إذا أراد الفطر فيكون من الأيام التالية المقبلة.
وإذا لم يطلع عليه الفجر في بلده، أراد أن يسافر، فتهيأ وجمع عدة السفر، وركب، وهو في طريقه في سفره طلع الفجر وهو في أطراف البلد، فهل يفطر؟ قالوا: لا، لا يفطر حتى يغادر أطراف القرية ويخرج من حدودها، فحينئذ له أن يفطر، كما قالوا في بداية قصر الصلاة: لا يجوز لإنسان أن يبدأ قصر الصلاة من بيته، بل إنما يبدأ القصر بعد أن يغادر حدود البلد، كما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه أنه خرج من الكوفة، وواجهتهم صلاة العصر، فنزلوا في طرف البلد فصلوا أربع ركعات، فقيل لـ علي: ألسنا مسافرين؟! قال: بلى.
قالوا: لماذا تتم ونحن قد خرجنا؟! قال: لولا هذا الخصيِّص -والخصّ: مثل الحجرة من أغصان الشجر وأعواده- لقصرت الصلاة.
يعني: أن علياً رضي الله تعالى عنه اعتبر الخصيِّص هذا من توابع القرية، وأنه لم يخرج عنها كلية.
إذاً: متى يبدأ المسافر فطره في سفره؟ القول الأول لم يلتفت إليه أحد من العلماء، والراجح أنه إذا سافر في أثناء النهار، وأدرك جزءاً من النهار في بلده، فهذا اليوم الأول لا يفطره، بل يمسك ويتم صومه، وينشئ الفطر بعد ذلك اليوم من أيام سفره، وإذا كان في البلد وأراد أن يفطر في صومه، فلا يفطر حتى يغادر أطراف القرية ويخرج من حدودها.(150/4)
هل يفطر المسافر إذا أقام إقامة مؤقتة؟
ما حكم الفطر للمسافر إذا نزل في أثناء سفره منزلاً لحاجة؟ لنفرض أن إنساناً سافر من المدينة إلى مكة لعمرة، أو سافر من المدينة إلى الشام لتجارة، وهو في رمضان، وكان يفطر أثناء السير في الطريق، فوصل البلد الذي يريده مؤقتاً، فهل يظل مفطراً بحكم السفر أو بمجرد وصوله إلى البلد الذي نزل فيه انقطع عنه حكم السفر؟ الجمهور قاطبة يقولون كما قالوا في قصر الصلاة: إن كانت إقامته في تلك البلدة المؤقتة أربعة أيام فأقل فله الفطر، ولكن يكون سراً، ولا يظهر فطره للناس، وإن كان أكثر من ذلك فليصم من أول يوم وصلها، وقالوا: إن دليل ذلك من الحالة والعرف، واقتباساً من النص أو الفعل الذي جاء عنه صلى الله عليه وسلم.
وإن كانت إقامته في تلك البلدة مجهولة النهاية عنده، فيختلف الحكم عن الحالة الأولى التي عرف أنها أربعة أيام فأقل، وينقطع عنه حكم السفر، فإذا عرف أنها أربعة أيام فأكثر محددة، عشرين، شهر، أو أكثر أو أقل؛ فإنه يرتفع عنه حكم السفر ويصبح صائماً.
وإذا لم تكن المدة معلومة، هل هي يوم أو أربعة أو عشرة أو عشرين؟ ويشبهون ذلك بمن يسافر برفقة غيره، كأتباع التجار وأتباع الأمراء وأتباع القادة، لا يعلمون متى تنتهي المهمة، وعندما يرجع المسئول عنهم يرجعون معه، ولم يخبروهم متى سنرجع أو متى سنرحل، فالمدة مجهولة عندهم، فإذا كان شخص كذلك ذهب إلى الشام للتجارة، أو ذهب إلى مكة عمرة، وجاءت شواغل وهو لا يدري متى تنتهي، العمرة معروف أمدها، لكن إذا كان في سفر آخر يريد أن يلقى فلاناً، يريد أن يصنع كذا، ولا يدري متى ينتهي التصنيع؛ فحينئذ له أن يفطر ويقصر إلى عشرين يوماً، وما زاد عن ذلك وجب عليه الصوم، هكذا يقولون فيمن أقام مدة لا يعلم مداها.
والآخرون يقولون: ما دام قد وصل فعليه الصوم؛ لأن مشقة السفر قد انتهت عنه، ولكن يقولون: الثلاثة الأيام وما شابهها تتبع ما قبلها؛ لأنه لا يزال في عناء السفر، وسيواصل السفر بعدها.(150/5)
حكم من رجع من سفره وهو مفطر في نهار رمضان
إذا انتهى المسافر من حاجته، وقدم إلى بلده، وهو في العودة إلى بلده، علم بحسب طبيعة السفر ووسيلة السفر أنه سيدخل بلده غداً في النهار، فإذا علم ذلك، فعليه أن يدخل بيته صائماً، ويروى عن بعضهم أنه أراد السفر في آخر الشهر -في خمسة وعشرين منه- فقال لأصحابه: (أرى الشهر تشعشع -تششع بمعنى: تخلخل- وكاد أن ينتهي، فأرى أن نحفظ شهرنا) ، فصام وسافر صائماً ليكمل صيام الشهر، فهذا عند البداية، وكذلك في العودة يقدم صائماً، يعني: يبيت الصوم من الليل ما دام أنه يعلم أنه سيصل إلى بلده أو إلى بيته نهاراً؛ لأنه إذا وصل إلى بيته مفطراً فسيمسك لحرمة الشهر، فما دام أنه سيمسك وتلحقه حرمة شهر رمضان؛ فيبيت النية ويصوم، ويدخل صائماً، أما إذا وصل نهاراً وكان مفطراً، فهل له أن يظل مفطراً بقية نهاره؟ الجمهور على أن الأولى له أن يمسك لحرمة الشهر.
ونجد الخلاف في قضية قد تكون نادرة، ولكن الفقهاء رحمهم الله يذكرونها للتنبيه عليها: إذا قدم من سفره مفطراً، ودخل البلد مفطراً، فوجد زوجه كانت مريضة مفطرة وتعافت في نصف النهار، أو كانت فيها الدورة وارتفعت عنها ضحىً، فهي تمسك من أجل حرمة الشهر وستقضي هذا اليوم، فلو وجدها مفطرة بعد ارتفاع حيضتها وقبل مجيء الليل، فإذا واقع زوجه وهي على هذه الحالة، فهو مفطر للسفر، وهي مفطرة للدورة، فهل يكون عليه كفارة في ذلك أو ليس عليه شيء؟ المالكية والشافعية ينصون أنه لا شيء عليه، ونجد الخلاف عند غيرهم.
إذاً: هذه مسائل من أراد الفطر في سفره في بداية أمره، وفي أثناء طريقة، وفي حالة عودته.(150/6)
شرح حديث كفارة المجامع في رمضان
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت يا رسول الله! قال: وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان.
فقال: هل تجد ما تعتق رقبة؟ قال: لا.
قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا.
قال: فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا.
ثم جلس، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر، فقال: تصدق بهذا.
فقال: أعلى أفقر منا؟ ما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا.
فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: اذهب فأطعمه أهلك) رواه السبعة واللفظ لـ مسلم] .
هذا حديث من أفسد صومه في رمضان بالجماع، والصوم يكون بالإمساك عن شهوتي البطن والفرج، فإذا لم يمسك إحدى الشهوتين -شهوة البطن بأكل أو شرب، أو شهوة الفرج بوطء- فماذا يكون حكمه؟ المالكية والأحناف يقولون: من أفسد صومه بأكل أو شرب عامداً فإن عليه القضاء والكفارة، وعندهم مبحث في نوعية الأكل -أي: للتغذي- وهذا لا حاجة للخوض فيه؛ لأنهم انفردوا بذلك، كما لو ابتلع حصاة فإنها غير طعام، فعندهم خلاف في المذهب، والمقدم عندهم أنه لا كفارة عليه، ويروى عن زفر ومحمد أنه إن فعل ذلك عامداً فإن عليه القضاء والكفارة، ونحن نبحث في مسألة من أبطل صومه بأكل أو شرب عامداً، أما النسيان فقد تقدم الأمر فيه: (فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه) .
وأما الحنابلة والشافعية فعندهم أن من أبطل صومه بتعاطي الأكل أو الشرب أو ما يلحق به عامداً فإن عليه القضاء فقط، ولا كفارة عليه؛ لأنهم لا يجعلون الكفارة إلا في شهوة الفرج، وأن يكون بوطء حقيقي، وعلى هذا فمن أفسد صومه بوطء فهو الذي عليه الكفارة، وسيأتي التعليق أيضاً على ملحقات الأكل وملحقات الوطء.(150/7)
روايات حديث المجامع في نهار رمضان
روايات هذا الحديث وطرقه تختلف في الإيراد، ففي بعضها وصف حالة مجيئه: (يضرب صدره، وينتف شعره، وينادي بالويل: هلكت وأهلكت يا رسول الله! قال: وما أهلكك؟ قال: واقعت أهلي في رمضان - (واقعت أهلي) كناية عن الجماع، وهو حقيقة في الوطء، بخلاف مقدماته- فقال له صلى الله عليه وسلم: أتجد رقبة فتعتقها؟ فضرب على صفحة عنقه وقال: لا أملك إلا هذه.
قال: أتستطيع صوم شهرين متتابعين؟ قال: والله! ما أهلكني إلا الصوم -أنا ما استطعت صيام رمضان فكيف أصوم شهرين متتابعين؟! - قال: هل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ قال: لا -والله- ما عندي.
قال: اجلس.
فجلس الرجل، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر -تنطق هذه الكلمة بتسكين الراء أو فتحها (عرْق أو عرَق) ، وهو نوع من الأوعية المصنوعة من خوص النخل، ويسمى قفة أو مقطف، ليس كبير الحجم- فناداه وقال: خذ هذا وتصدق به عن نفسك.
فقال: يا رسول الله! أتصدق به؟! أعلى أفقر منا؟! والله -يا رسول الله- ما بين لابتيها أفقر مني) ، واللابتان: هما الحجارة السوداء المحيطة بالمدينة، ومعروفة بدايتها ونهايتها، فهي تأتي من الغرب من جهة سلطانة، وتدور من وراء قباء إلى قربان إلى أن تأتي إلى قريبة، وتقطع الخط إلى أن تنزل إلى المغرب مرة أخرى، وكما يقول بعض المؤرخين: اللابتان محيطتان بالمدينة كالحدوة للحصان، وليس لها إلا فتحة واحدة كالحدوة، وتلك الفتحة هي مجرى وادي العقيق، وهو المحل الذي احتفر فيه صلى الله عليه وسلم الخندق؛ لأن اللابتين حصن طبيعي للمدينة، لا تقوى الخيل ولا الإبل أن تقطعه، يعسر المشي عليه، فكان مدخل المدينة الوحيد يأتي من أبيار علي، ومع وادي العقيق إلى سلطانة، ويدخل من هناك من باب الشام، وهناك كان محل الخندق في طرف الحرة من جهة عمائر أو فلل المدني، ويمتد إلى أطم الشيخين من الجهة الأخرى.
وعلى كل فقال: (ما بين لابتيها أحد أحوج إليه منا -هذا الذي تريدني أن أتصدق به لن أجد فقراء ولا محتاجين أشد حاجة إليه منا- فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: قم فأطعمه أهلك) .
إلى هنا انتهى عرض هذه القضية، فالشافعية والأحناف أخذوا بهذا النص، وقالوا: الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الأعرابي أن يكفر للوقاع، ولم يأمر أحداً أن يكفر للأكل والشرب، ولكن مالك رحمه الله يروي في الموطأ عن عبد الله بن عمر عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أن رجلاً أفطر في رمضان فأمره صلى الله عليه وسلم أن يُكَفِّر) فهذا النص: (أفطر) ، ولكن من صنيع مالك أنه ذكر حديث أبي هريرة في أول الباب: (رجل أفطر فأمره صلى الله عليه وسلم أن يكفر) ، وجاء بعده بهذا الحديث: (أعرابي جاء وقال) ، فبعض الناس يقول: حقيقة مذهب مالك أنه حمل عموم الفطر على خصوص الوقاع؛ لأنه جاء بحديث الأعرابي ليبين نوعية الفطر الذي أمر رسول الله بالكفارة فيه.
والبعض الآخر يقول: لا، إنما ساق الحديثين ليبين أن الكفارة لمن أفطر مطلقاً، سواء أفطر بأكل أو وطء فعليه كفارة، ومن أفطر بوطء -كما هو المنصوص عليه- فعليه الكفارة، والمالكية يروون عن مالك أنه يوجب الكفارة على من أكل أو شرب متعمداً في نهار رمضان ولو لم يجامع.(150/8)
حكم من أمنى في نهار رمضان بدون جماع أو أمذى
يناقش العلماء رحمهم الله مسألة: لو أن إنساناً باشر أهله ولكن لم يواقع -بمعنى: لم يولج-، فهل عليه في تلك المباشرة من شيء؟ يختلفون إن أمنى بالمباشرة دون الفرج، فـ مالك يقول: فيه كفارة، وغيره كالحنابلة والشافعية يقولون: لا، بل عليه القضاء، ويستغفر الله، ولا كفارة إلا بالإيلاج.
وإذا باشر أهله ولم يمنِ، ولكنه أمذى، فما حكمه؟ مالك يقول: عليه قضاء يومه، وغيره يقول: المذي لا شيء فيه؛ لأن حكم المذي حكم البول.
وإذا لم تكن مباشرة، ولكن كان هناك مقدمات المباشرة كالقبلة، اللمس، دوام النظر، دوام التفكير، هل هذا يتعارض مع صومه؟ قالوا: هذه الأشياء القبلة اللمس المداعبة دوام النظر تكرار الفكر، إن أحدثت منياً فـ مالك يقول: عليه القضاء والكفارة، والآخرون يقولون: إن أمنى بسببٍ كقبلة فعليه القضاء.(150/9)
دقة الإمام مالك في الأصول
سألت والدنا الشيخ الأمين عن صنيع مالك في الباب، حيث قرن حديث أبي هريرة مع حديث قصة الأعرابي، ولم أخذ مالك الكفارة في غير الجماع مع أن النص فيه: (واقعت أهلي) ؟ فقال: مالك عنده دقة في الأصول؛ لأن حديث الأعرابي تناوله العلماء بتنقيح المناط، وتنقيح المناط وتحقيق المناط مبحثان أصوليان، فمثال تحقيق المناط: أن الله أوجب الكفارة على المحرم إن قتل صيداً {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة:95] ، فهذا حكم موجود، ولكن بقي التطبيق العملي في حق كل صيد؛ لأن الحكم عام، ففي كل الصيد جزاء مثل ما قتل، فلو قتل إنسان غزالاً، أو أرنباً، أو بقراً وحشياً، فالحكم موجود {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} [المائدة:95] ، لكن تحقيق المناط في هذه القضية بغزال، أو في هذه القضية بأرنب ما هو؟ {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ} [المائدة:95] فيحكم اثنان من ذوي المعرفة: ماذا تقولان في قتل الأرنب؟ ما هو جزاؤه؟ ماذا تقولان في قتل الغزال؟ ما الذي يماثله؟ فتحقيق المماثلة في كل صيد على حدة هو تحقيق المناط.
لكن التنقيح: هو كالرجل بعد حصد الغلة، أثناء دوسها يريد أن يصفي الحب من التبن، فيعزل الحب عن التبن، فيأخذ الحب وفيه التبن، فيأخذه في غربال وينقح، بحيث أنه يلقي الشوائب عن الحب حتى يبقى الحب صافياً، هذا هو التنقيح -يعني: التصفية-، فيقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: الجمهور نقحوا قضية الأعرابي عدة مرات، ومالك زاد تنقيحه عليهم، والتنقيح هو إسقاط الوصف الذي لا يصلح لتعلق الحكم به، وتعليق الحكم بالوصف المناسب له، فقوله: (جاء رجل -هذا محل الحكم؛ لأنه مكلف، بخلاف الصبي- يضرب صدره، ينتف شعره -هل هذه الصفات قيد وشرط فيمن جامع حتى تكون عليه الكفارة أو كونه يضرب الصدر وينتف الشعر لا علاقة له بالحكم؟ لا علاقة له، فهذه تنقيحة تسقط هذه الصفات: ضرب الصدر، ونتف الشعر، يصيح ويقول: هلك وأهلكت) ، فهل من شرط وجوب الكفارة على من جامع أن يأتي يصيح يقول: هلكت وأهلكت؟ لا، إذاً: نسقط هذه أيضاً، فلو جاء في غاية الهدوء، وفي غاية البساطة، وأسر إلى رسول الله في أذنه، هل يتعلق به الحكم أو لا؟ يتعلق به الحكم، إذاً: تلك الصفات قد نُقحت، نقحها الجمهور وقالوا: يتعلق الحكم بالكفارة على الوصف المعتبر، وهو (واقعت) ، ومالك قال: صحيح، وأنا معكم إلى هنا، ولكن عندي زيادة، ما هي الزيادة -يا مالك - على هذا؟ قال: انتهاك حرمة رمضان، وهذه تستوي فيها (واقعت) و (أكلت) .
ومن هنا، بزيادة هذه التنقيحة الأخيرة أخذ مالك من نفس هذا الحديث وهذه القضية: أن من انتهك حرمة رمضان فعليه القضاء والكفارة.(150/10)
حكم من جامع في نهار رمضان ناسياً أو مكرهاً
إذا واقع أهله ناسياً؟ تقدم في الأكل والشرب (إنما أطعمه الله وسقاه) ، فإذا جامع زوجته ناسياً وهي أيضاً ناسية أو متناسية، فهل تلحقه الكفارة للفعل أو لا تلحقه للنسيان؟ نرجع إلى تحقيق المناط: هل يمكن أن ينسى مثل هذا؟ يعني: هل يتصور أن إنساناً في رمضان ينسى بأنه صائم ويواقع أهله؟ فمن قال: يمكن ذلك، فلا شيء عليه بسبب النسيان.
ومن نفى ذلك وقال: هذا مستحيل فوقائع الحال تشهد أنه مستحيل على إنسان يكون في رمضان صائماً، ثم في ضحى النهار ينسى أنه صائم ويواقع أهله! فإذا نسي هو وزوجته أو توطآ على النسيان؟ قالوا: إن أمكن أن يقع بالنسيان فلا مانع، كما قالوا في المكره: لو أكره على وقاع أهله، هل عليه كفارة؟ أو أكره الزوج زوجته فهل عليها كفارة؟ فمن تصور إمكان وقوع ذلك بالإكراه قال: لا شيء عليه؛ لأنه مكره (وما استكرهوا عليه) ، ومن استبعد أن يكون الإكراه في هذا الفعل قال: عليه كفارة، كما قال ابن تيمية رحمه الله وغيره: هذا الفعل لا يتأتى إلا بالاختيار، فإذا كان مكرهاً فليست عنده الصلاحية لأن يباشر هذا العمل.
وقالوا: من قال: يمكن أن ينتصب ذكره ويباشر بإكراه السوط، أو إكراه القتل، أو إكراه كذا وكذا؛ فلا شيء عليه، ومن قال: لا يتأتى الإكراه، وإنما أكره في الأول ثم رغب في الحال، وباشر وهو راض راغب، فكان الإكراه في البداية، وكان الرضا في أثناء العمل، فعليه الكفارة.
إذاً: تحقيق المناط في الإكراه والنسيان يتعلق به الكفارة وعدم الكفارة، وهذه مسائل نادرة، ولكن الفقهاء -رحمهم الله وجزاهم الله عنا أحسن الجزاء- بينوا هذه الوقائع، ولو كان وقوعها نادراً.(150/11)
اختلاف العلماء في قدر الكفارة من الطعام
يبحث الفقهاء في قوله: (عرق من تمر) ، كم كان فيه؟ الأقوال كثيرة: عشرون صاعاً، خمسة وعشرون صاعاً، أكثر أو أقل، وإذا قلنا: إن عليه أن يطعم ستين مسكيناً، فهل الكفارة في هذا العمل على الترتيب المذكور أو هو بالخيار؟ الرسول صلى الله عليه وسلم سأل أولاً عن إعتاق الرقبة، إذاً: أولاً: العتق، فإن لم يجد فصيام -كما يقول الفقهاء ككفارة الظهار- إذاً: يبدأ الذي عليه الكفارة بعتق الرقبة، فإن لم يجدها أو لم يجد قيمتها فالصيام، بعض الناس الآن يقولون: لا يوجد رقاب، والمال موجود ولكن لا يوجد رقاب، وهل يوجد في بعض البلدان الإسلامية أو لا يوجد؟ هذا شيء آخر.
إذاً: بحسب الترتيب يبدأ بالعتق، فإن لم يجدها أو وجدت ولم يجد قيمتها انتقل إلى صيام شهرين متتابعين، والتتابع في الشهرين شرط، فلو قطع التتابع بغير عذر استأنف من جديد، أما إذا قطع التتابع بعذر من مرض، أو امرأة كانت تكفر وجاءتها الدورة، وقطعت من أجل الدورة فتستأنف عند رفع المانع حالاً، فإنسان كان يصوم شهرين متتابعين وفاجأه المرض، وأعجزه عن الصوم، فأول ما يتعافى من مرضه ويستطيع الصوم يستأنف حالاً وهكذا.
ثم إن لم يستطع الصوم انتقل إلى الإطعام، والستون مسكيناً كم إطعامهم؟ قدروا للمسكين نصف الصاع، يعني الصاع الذي يخرج به زكاة الفطر يكفي عن نفرين، فيكون خمسة عشر صاعاً من الطعام، سواء هيأ الطعام في بيته ودعاهم وأكلوا، أو أعطاهم إياه ليهيئوه عندهم، فإن أخرج تمراً فالتمر طعام جاهز، وإن أخرج الأرز -مثلاً- فهو طعام يصنع، وإن أخرج البر فيحتاج إلى طحن وغير ذلك، فبعض العلماء يقول: يجعل مع البر أو مع الأرز ما يصلحه، والبعض يقول: هو مقدار كافٍ.
وعدد الستين هنا هل هو مقصود لذاته، فيطعم ستين شخصاً أو هو مقدار ما يطعم الستين حتى ولو أعطاه لستة أشخاص؟ فهناك من يقول: المراد مقدار ما يطعم الستين؛ لأن الغرض المقدار، ومالك يؤكد على أنه يجب أن يكون العدد ستين مسكيناً، ويقول: حينما يأكل طعامك ستة أشخاص فأنت تستفيد من استغفار ودعاء ستة نفر فقط، أما إذا جمعت العدد في الإطعام، ووزعت الكفارة على ستين شخصاً؛ فكل واحد سيستغفر لك، وكل واحد سيدعو لك، وكل واحد سيصوم بطعامك الذي قدمت له، ويكون لك زيادة وانفساح في الأجر.(150/12)
هل على المرأة كفارة؟
الوقاع وقع من طرفين، فهل على المرأة كفارة أيضاً؟ وهل يتحملها الزوج أو لا كفارة عليها؟ هناك من يقول: لا كفارة عليها، والكفارة من الرجل تجزئ عن الوقاع، والمرأة لم تواقع، إنما هي محل العمل، والعمل للرجل.
وهناك من يقول: لا، إن كانت مكرهة فلا شيء عليها، وكفارتها عليه، وإن كانت مطاوعة فعليها كما هو عليه أيضاً، ثم إن قلنا بأنها مكرهة، وألزمنا الزوج بالكفارة، فقالوا: الرسول لم يسأل الرجل: هل المرأة مطاوعة أو غير مطاوعة؟ والرسول لم يقل: اعتق رقبتين عنك وعن زوجك، إنما أفتاه فيما يتعلق بنفسه فقط، وهو صلى الله عليه وسلم يعلم بأن الوقاع لا يكون إلا من طرفين، فلما سكت عن المرأة سكتنا.
والآخرون يقولون: على حسب قواعد الأصول أو قواعد الفقه أو القياس أنه يلزمها الكفارة، فإذا قيل: إنها مكرهة، وقلنا: كفارتها على من أكرهها وهو زوجها، ونلزمه الكفارة من أجلها، فهل كفارتها مثل كفارته أم تختلف؟ إن كانت من ذوي الأموال فإن كفارتها العتق، فعليه أن يعتق عنها، ولو عجز عن العتق لنفسه، لكن هو لم يعتق عن نفسه فكيف يعتق عن غيره؟ وإن كانت كفارتها بالصوم فالصوم لا يصوم أحد عن أحد، بل تصوم هي، وإن كانت كفارتها بالإطعام أطعم عنها كما يطعم عن نفسه.(150/13)
من عجز عن الكفارة فهل تبقى في ذمته؟
هذا الموطن من مباحث الصيام يتفرع عليه أشياء كثيرة، منها أنه صلى الله عليه وسلم: (أُتي بعرق بتمر، فقال: قم فأطعمه أهلك) ، فأطعمه أهله، فهل هذا هو مقدار الكفارة؟ بعضهم يقول: الباقي دين في عنقه، فهل الرسول قال له: كمل الباقي؟! الرسول ما قال له: أطعم هذا، وكمل ما بقي عليك من إطعام ستين مسكيناً، بل أعطاه الطعام وقال له: اذهب؛ ولذا هناك من يقول: المعدم يطعم قدر ما يستطيع، ويسقط عنه الباقي.
ولا نستطيع أن نستوعب كل جزئيات هذه المسألة، ولعل في القدر الذي أوردناه الكفاية أو التنويه عن مسائل ومباحث هذه المسألة، والله أسأل أن يوفقنا جميعاً وإياكم لما يحبه ويرضاه!(150/14)
كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [10]
ثبت عن السلف الصالح أنه كان يقع بينهم خلاف في بعض المسائل الشرعية، مثل خلافهم في حكم الرجل يصبح جنباً ثم يصوم، وكان خلافهم بأدب وسعة صدر ورجوع إلى الحق إن اتضح، وهكذا ينبغي أن يكون طلاب العلم؛ ولذا فمن الضروري معرفة آداب الخلاف، فبالتأدب بها يحصل الائتلاف.(151/1)
شرح حديث: (كان يصبح جنباً ثم يغتسل ويصوم)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن عائشة وأم سلمة رضي الله تعالى عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنباً من جماع، ثم يغتسل ويصوم) متفق عليه، وزاد مسلم في حديث أم سلمة: (ولا يقضي) ] .
هذا الحديث تتمة لمبحث من واقع في نهار رمضان، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنباً فيغتسل ويصوم ولا يقضي، وذلك في رمضان.(151/2)
خلاف الصحابة في هذه المسألة
حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها هذا، ومثله عن عائشة رضي الله تعالى عنهما، وقعت فيه قضية في هذا المسجد النبوي الشريف، وذلك كما يروي مالك في الموطأ أن العلماء في مجلس مروان بن الحكم -وهو أمير المدينة آنذاك- تذاكروا ما يكون منه الصوم والفطر، فقال قائل: إن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يقول: من أصبح جنباً فلا صوم له.
يعني: من باشر أهله ليلاً، ونام حتى طلع الفجر قبل أن يغتسل، فلا صوم له في ذلك اليوم.
والاغتسال من الجنابة يجوز في أول الليل أو أوسطه أو آخره كما جاء في سنن البيهقي رحمه الله: (أن رجلاً سأل أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وقال: يا أماه! أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل معكِ وأنت حائض؟ قالت: نعم، كنت آخذ العظم فآكل ما عليه من اللحم، وأناوله رسول الله فيعرشه من بعدي، وأشرب القدح وأناوله رسول الله فيضع فاه في موضع فمي ويشرب.
قال: قلت: الله أكبر! الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة، قلت: يا أماه! أكان صلى الله عليه وسلم يوتر من أول الليل أو من آخره؟ قالت: من كل الليل أوتر رسول الله -من أوله، من أوسطه، من آخره- قال: قلت: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة.
قلت: يا أماه! أكان صلى الله عليه وسلم يغتسل من الجنابة قبل أن ينام أو ينام ثم يغتسل؟ قالت: كل ذلك كان يفعل، أحياناً يغتسل ثم ينام، وأحياناً ينام ثم يغتسل.
فقال: قلت: الله أكبر! الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة) .
وهنا أبو هريرة رضي الله تعالى عنه نقل عنه في هذا المجلس: أن من أخّر غسل الجنابة، وطلع عليه الفجر وهو جنب، فلا يصح صومه من الغد، فلما سمع مروان هذا الكلام، واختلف العلماء الذين عنده، قال لرجل عنده اذهب إلى أم المؤمنين أم سلمة فسلها عن ذلك، فذهب وسلّم وسألها، فقالت: (كان صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً من جماع لا احتلام، فيغتسل ويصوم ولا يقضي، وسلوا عائشة) ، فذهب أيضاً إلى عائشة رضي الله تعالى عنها، فقالت للسائل: أترغب عن سنة أبي القاسم يا فلان؟! قال: لا والله! ولكن تذاكرنا وأخبرنا إنسان عن أبي هريرة أنه قال: كذا وكذا.
قالت: لا، ليس الأمر كما قال أبو هريرة (كان صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً من جماع لا احتلام، فيغتسل ويصوم ولا يقضي) ، فرجع وأخبر مراون ومن عنده بما أفادت به أم المؤمنين عائشة وأم سلمة رضي الله تعالى عنهما.
وإلى هنا يكون قد تبين الأمر، ولكن نظراً لوجود رأي مخالف، نجد منهجاً عظيماً نرجع إليه بعد نهاية هذه القضية، فقال مروان: يا عبد الرحمن! أقسمت عليك لتركبن دابتي وهي بالباب، وتذهب إلى أبي هريرة في بستانه بوادي العقيق -وبستانه هناك على طريق الهجرة -كما يقولون- وراء أرض السراني، أي: قريباً من ذي الحليفة- وتخبره بما حصل، قال: فذهب عبد الرحمن فسلم عليه، ثم تحدث معه قليلاً، ثم قال: يا أبا هريرة! لقد كنا في مجلس مروان، وتذاكرنا ما منه الصوم والفطر، فقال قائل: إنك تقول كذا، فأرسلني إلى أم المؤمنين عائشة وأم المؤمنين أم سلمة، فسألتهما، فأخبرتا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنباً من جماع لا احتلام فيغتسل ويصوم، فقال أبو هريرة: أو قالتا ذلك؟ قال: نعم، وسمعته منهما وبلغته للقوم، فقال: أما أنا فلا أدري، فقد أخبرني مخبر، وبعض الروايات تسمي هذا المخبر، وبعضها يسكت عنه، وحيث سكت أبو هريرة فنسكت عنه، والذي يهمنا أن عبد الرحمن رجع إلى مروان ومن عنده، وأخبره بما قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه.
ويذكر ابن عبد البر في الاستذكار أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه نزع عن هذا القول بعد أن بلغه خبر عائشة رضي الله تعالى عنها، وانتهت القضية برفع الخلاف، وانعقد الإجماع على صحة صوم من أصبح جنباً، وأنه يغتسل بعد الفجر ويكمل صومه.
يقول علماء الأصول: إن صحة صوم من أصبح جنباً تؤخذ من باب الإيماء والتنبيه من كتاب الله، وقد نص على ذلك ابن عبد البر وقال: إن الله سبحانه أباح للصائم المباشرة ليلاً في قوله سبحانه: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] ، فإذا أباح الله ليلاً للصائم المباشرة والأكل والشرب حتى يتبين الفجر، لم يبق وقت لإيقاع الاغتسال إلا بعد الفجر، وهذا من دقة استنتاج العلماء رحمهم الله.
إذاً: فقه الحديث، وصحة صوم من أصبح جنباً انتهينا منها، ويلحق بذلك أيضاً الحائض التي تطهر وترى القصة البيضاء قبل الفجر، ولكنها تتأخر في غسلها حتى يطلع عليها الفجر وهي طاهر لم تغتسل، فحكمها حكم الجنب الذي وقع منه سبب الجنابة ليلاً، وأدركه الفجر وهو بجنابته، فكذلك الحائضة أو النفساء إذا طهرت قبل الفجر، فإنها تغتسل بعد الفجر وتصوم ذلك اليوم.
هذه المسألة أو هذه القضية قد انتهينا من موضعها الفقهي، وهو: صحة صوم من أصبح جنباً، ويزيدون في الاستدلال أيضاً ويقولون: الجنابة لا تمنع الصوم، لو أن صائماً في منتصف النهار نام فاحتلم، فهل الاحتلام في نهار رمضان يبطل صومه؟ لا يبطل صومه، ولا يلحقه في ذلك كفارة ولا قضاء ولا شيء، يغتسل لجنابة الاحتلام، وهو كغيره في باب الصوم سواء.(151/3)
كيفية معرفة الراجح من الأقوال
في هذه الآونة نجد المسائل الخلافية لربما تناولها بعض الإخوة بشيء من الجدل، وبشيء من الشدة فيما بينهم، وكنت سابقاً قبل الاشتغال بالموطأ، والوقوف على هذه القضية، أدرس بداية المجتهد، وهو الكتاب الوحيد في بابه الذي يورد أسباب الخلاف، وعند كتاب زكاة الحلي وما فيها من خلاف وضعت منهجاً وقلت: لا يمكن لإنسان يريد أن يفهم مسألة خلافية إلا إذا تتبع خطوات أربع: الخطوة الأولى: معرفة الخلاف على ما هو عليه، فلان قال، فلان قال، فلان قال، احصِ الأقوال المختلفة.
الخطوة الثانية: قف على دليل كل صاحب قول، هذا القول ما دليله؟ دون مناقشة.
الخطوة الثالثة: إذا أحصيت الأقوال، ثم عرفت أدلتها عند أصحابها تساءلت مع الجميع عن دليل كل شخص آخر: لم لم يأخذ به؟ وبم يرد عليه؟ وهذه الخطوات الثلاث تشبه عند المناطقة التصور.
ثم تأتي الخطوة الرابعة النهائية، وهي: الترجيح والحكم، وهي ما تعادل عند المناطقة بالتصديق.
فلما وقفت على قضية مروان هذه وجدتها طبق الأصل لما ذكرته من منهج تحقيق المسائل الخلافية، وبيان ذلك: مجلس منعقد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومسألة فقهية أثيرت: هل الصائم الذي يصبح جنباً، يصح صومه أو لا يصح صومه؟ وجدنا الخلاف من طرفين: طرف يقول: لا يصح.
وطرف يقول: يصح.
ما مستند كلا القولين؟ مستند من يقول: لا يصح، ما جاء عن أبي هريرة، ومستند من يقول: يصح، ما يأتيه من أخبار أخرى، ولم يسمع بقول أبي هريرة، ومروان لم يعرف الدليل الثاني إلا بعد ذلك، فقبل أن يأخذ برأي أبي هريرة أو يرفضه احترمه ووقف عنده، ولكنه رد الأمر إلى أهله؛ لأن زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بحاله الداخلي من غيره، ولما سأل جاءه الجواب، فتبين عند المجتمعين وجود القولين ووجود الدليلين، بقي حينئذ أن نسأل أبا هريرة عن قول عائشة: ماذا يجيب عليه؟ ولم لم يأخذ به؟ وبم يرد عليه؟ فأرسل إليه بتلطف، ولم يستدعه إليهم، ولكن أرسل إليه في مكانه وسأله، فتبين أن ما قاله أبو هريرة لا يرفعه إلى رسول الله، بل يقول: أخبرني مخبر.
فحينئذ يبقى الترجيح، وكيف نعادل بين دليل يقول: أخبرني مخبر.
ودليل يقول: كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك ويصبح صائماً؟ أعتقد أن الحق اتضح، والطريقة واضحة.(151/4)
أدب الخلاف
ينبغي على طلبة العلم حينما يصادفون مسألة خلافية، أن يتأدبوا بأدب الخلاف، ولا يجوز لأصحاب الأقوال المختلفة أن يعنف أحدهم الآخر، ولا أن يسفه رأيه، ولا أن يطرح قوله، بل يعتبره إلى أن يصفي القضية، أنت قلت كذا، وأنا بلغني كذا، وهذا بلغه كذا، على ما تستندون؟ فإذا بحث كل منهم عن الحق، وكان الغرض من ذلك البحث الوصول إلى الحق، وليست نصرة الرأي، وليست شهوة الانتصار والغلبة، بل الغرض هو إصابة الحق، فالجميع يتعاونون ليصلوا معاً إلى معرفة الحق.
ونظير ذلك أيضاً في هذا المسجد النبوي الشريف: أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه جلس مع بعض أصحابه، فتذاكروا الغسل من الجنابة، فقال قائل: إذا أولج ولم ينزل فلا غسل.
وقال آخر: إذا جاوز الختانُ الختانَ وجب الغسل أنزل أو لم ينزل.
فوقع الخلاف، هناك من يقول: لا غسل إلا إذا أنزل، والثاني يقول: مجرد الإيلاج يوجب الغسل، وليس بشرط أن يُنزل.
إذاً: الخلاف من شقين، وكل من الحاضرين يبدي ما عنده، فدخل عليهم علي رضي الله تعالى عنه، فسأله عمر: القوم اختلفوا، ماذا عندك؟ فقال علي رضي الله تعالى عنه لـ عمر: ولم تسألني وتسأل غيري من هؤلاء وبجوارك أمهات المؤمنين وهن أعلم بذلك؟! أرسل إليهن وسلهن.
فقال: أحسنت، وأرسل إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، فقالت: (كان صلى الله عليه وسلم يفعله ويغتسل -يعني: يولج ولم ينزل ويغتسل- وقالت: أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا جاوز الختانُ الختانَ وجب الغسل -وهذا متفق عليه، ويزيد مسلم في روايته:- أنزل أو لم ينزل) ، وقد تقدم معنا هذا الحديث في نفس هذا الكتاب المبارك بلوغ المرام في باب الغسل.
فـ عمر رضي الله تعالى عنه لما سمع قول عائشة أن هذا فعل رسول الله، ثم يسمع بعد ذلك ما يخالف هذا قال: والله! لن أوتى بأحد يقول: لا غسل إلا من إنزال، إلا جعلته مثلة لغيره -أدبت به غيره- فقال أبي بن كعب: على رسلك يا أمير المؤمنين! أنا أخبرك -أي: لماذا كان هذا الخلاف، وهذه هي نتيجة رجوع طالب العلم للسلف وعلماء الأمة؛ لأنهم جمعوا شتات المسائل- أنا أخبرك لماذا اختلفوا وما هو السبب- كنا في بادئ الأمر لا غسل إلا من إنزال، ثم بعد ذلك عُزم علينا، وأصبح إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل، فكنا في بادئ الأمر: (إنما الماء من الماء) ، فإذا ما جامع ولم ينزل المني فلا ماء للغسل (الماء من الماء) الماء الذي هو ماء الغسل من الماء الذي هو ماء المني، ثم عزم علينا أن نغتسل.
فهذا مجلس بين يدي عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في مسألة تعم بها البلوى في كل البيوت، فالمباشرة أمر طبيعي، ويختلفون في حكم من جامع ولم ينزل: أيغتسل أو لا يغتسل؟ إذاً: كانت هناك مسائل ربما تخفى على بعض الناس، وكان عثمان رضي الله تعالى عنه طرفاً في هذه المسألة.
إذاً: لا غرو أن تخفى بعض المسائل على كبار أصحاب رسول الله، أو على صغار أصحاب رسول الله، أو على كبار التابعين، ثم بعد ذلك مع البحث والتنقيب يطلع على الراجح، ومن هنا كان السلف من التابعين ومن يأتي بعدهم أجمع لجزئيات المسائل، وانتهى الخلاف فيما يتعلق بهذه القضية، وأصبحت مطردة (إذا جاوز الختانُ الختانَ وجب الغسل) .
أمر يتعلق بالإخوة طلبة العلم في الدراسات العليا، وهو بعيد عن أحكام الصيام، ولكن له صلة بالأصل العلمي الفقهي، وهو ما نراه في الآونة الأخيرة أو المتقدمة قليلاً، حيث يقوم طالب علم مجتهد فيختار لموضوع رسالته (فقه فلان) ، مثل كتاب فقه سعيد بن المسيب في حوالى سبعة أو ثمانية مجلدات، فقه إبراهيم النخعي، فقه مجاهد، فقه ابن المبارك، وينفرد الطالب ببحث مسائل فقهية وردت عن صحابي أو تابعي.
وأقول: أيها الإخوة! هل هذا الصحابي أو هذا التابعي قد جمع جميع مسائل الفقه الاختلافية والاتفاقية؟ لا يمكن أن يدعي ذلك أحد، فإذا ما اقتصرنا على مسائله التي وردت عنه فأين بقية مسائل الفقه؟ وإذا اقتصرنا عليها هل نأخذ بها ونترك غيرها؟ وهل نتمذهب بمذهبه فتصبح عندنا عشرات المذاهب، والناس يضيقون ذرعاً بالأربعة؟ الحقيقة إنه ترف علمي، أما عملياً بالنسبة لخدمة الفقه الإسلامي فلا أعتقد ذلك، بخلاف الموسوعات العلمية، فمثلاً البخاري في صحيحه ما اقتصر على صحابي، ولا على تابعي، وإنما جمع ما صح عنده، وليس كل ما صح عنده جمعه، إنما أودع لنا في صحيحه من الصحيح فقط دون الضعيف، ولكن لا يقتصر في الباب على ذكر صحابي، بل يأتي ما حضره من الأحاديث الصحيحة في هذا الباب، فيقف طالب العلم على آراء جملة من الصحابة في الباب الواحد، وحينئذ يكون أدعى إلى استيعاب النصوص في هذه المسألة أو في هذا الباب، وتنظر -مثلاً- في فتح الباري، فتجد أنه يطوف في آفاق أوسع من البخاري عشرات المرات، ويأتينا بالنصوص عن أصحاب السنن جميعاً، وعن أصحاب رسول الله جميعاً، فيجمع لك المسألة بأطرافها، وكما قيل: لا هجرة بعد الفتح، تستغني به عن غيره، ولا تستغني بغيره عنه؛ لأنه جمع ما لم يجمعه غيره.(151/5)
سعة الصدر في مسائل الاجتهاد
المنهج العلمي في بحث المسائل الخلافية، يكون بالرفق وحسن القصد، وينبغي أن تكون الغاية عند الباحثين إنما هي الوصول إلى الحق.
ونجد جزئية هي كلية بالنسبة إلينا: فـ أبو هريرة رضي الله تعالى عنه صحابي جليل، سمع أن عائشة رضي الله تعالى عنها روت خلاف ما سمع هو، فهل تعصب لما سمع؟ هل بقي على ما كان عليه؟ بل إنه حالاً نزع عما كان عليه، ورجع إلى الحق، وهذه هي سمة طلاب العلم، والرجوع إلى الحق أحق.
فالإنصاف من سمات علماء المسلمين حقاً، وفي هذا المسجد النبوي الشريف كان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في درسه في رمضان بعد العصر كهذا الوقت، وكان يتكلم على الأشهر الحرم، ثم قال: وليعلم الإخوة أننا كنا تكلمنا عنها سابقاً، وظننا أنها قد نسخت بآيات القتال، ثم الآن تبين لنا أنها لم تنسخ، وأنها محكمة، وأن حرمتها باقية؛ ولهذا وجب التنبيه على ذلك! مسألة تكلم فيها، ومضى عليها زمن طويل، وسمع بها من سمع، ولم يسأله أحد، ولن يطالبه أحد بالتدقيق في ذلك، ولم يناقشه أحد فيما قال، ولكنها أمانة العلم، ولكنه الوفاء للحق، ولكنه الرجوع إلى الله وإلى الحق، يعلنها في المكان الذي أعلن فيه الرأي الأول! أيها الإخوة! إن أجمل ما يتحلى به طالب العلم هو سرعة الرجوع إلى الحق حينما يتبين له، ومن هنا نعلم حقيقة أن غرضه وقصده وغايته من طلب العلم إنما هو الحق، ولا شيء سوى الحق.
والله أسأل أن يوفقنا جميعاً -أيها الإخوة- إلى ما يحبه ويرضاه، وأن يجعلنا وإياكم جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.(151/6)
التشاور قبل الاجتهاد في معرفة الراجح من الأقوال
ينبغي لطالب العلم أو المسئول أو العالم إذا واجهته قضية ليس عنده فيها نص، وليس عنده فيها ما يعتمد عليه؛ أن يتوقف ويستشير، ويبحث ما استطاع ليصل إلى الحقيقة، فإن وجد من القواعد والنصوص والأصول ما يبني عليه قوله فالحمد لله، وإلا اجتهد طاقته والتوفيق من عند الله.
فهذا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه سافر إلى الشام، وفي قرية بينه وبين الشام نزل، وجاءه القواد بالشام ليستقبلوه، ثم أخبر بأن الطاعون قد نزل بالشام، فماذا يفعل؟ أيقدم بالقوم على الطاعون فيهلكهم أم يرجع عن مسيره الذي خرج إليه؟ ما استبد برأيه، مع أن عمر يسمى الملهم، إذا سار في طريق شرد الشيطان منه، وقد نزل الوحي موافقاً لرأيه في عدة مواطن، ماذا فعل؟ دعا مشيخة المهاجرين، فجيء بمشيخة المهاجرين فسألهم فاختلفوا عليه، منهم من قال: امضِ إلى ما خرجت إليه، ومنهم من قال: لا تدخل أصحاب رسول الله على هذا الوباء، قال: قوموا عني.
ثم دعا مشيخة الأنصار فسألهم، فاختلفوا عليه، منهم من قال: امض إلى ما خرجت إليه متوكلاً على الله، ومنهم من قال: لا تدخل أصحاب رسول الله على هذا الوباء.
قال: قوموا عني.
ثم طلب مشيخة قريش، فاجتمعوا عنده وسألهم، فما اختلف عليه واحد فيهم، وأجمعوا رأيهم على أن يرجع بمن معه، فلما كان الليل قال: إني مصبح على ظهر -يعني: راكب راجع- فجاء عبد الرحمن بن عوف ولم يكن حاضراً من قبل، وسمع بالذي حدث، فقال: يا أمير المؤمنين! عندي في ذلك علم -إذاً: ظهر النور- قال: وما هو؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا نزل الطاعون بأرض فلا تخرجوا منها فراراً منه، وإذا كان بأرض فلا تدخلوها) ، فحمد الله عمر وكبر، وشرح الله صدره، وفرح بأن اجتهاده بأنه مصبح على ظهر راجعاً موافق لما جاءه من هذا العلم النبوي الشريف، وهو أننا إذا سمعنا به في أرض فلا ندخلها.
أيها الإخوة! ليس هناك من يدعي علم عمر، ولا خيال علم عمر، وليس عندنا من يدعي ورع عمر، إذاً: مع فضله وجلالة قدره، وهو الخليفة، وله الحق في أن يشرع ما لم يكن فيه نص (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء) ؛ ومع ذلك يستشير، ويبذل الجهد حتى يفرغ ما في وسعه، ثم يجتهد ويستقر رأيه على جهة، ثم يأتيه العلم مطابقاً لرأيه الذي استقر عليه.
وقد سمعت والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول في مسألة: والله! لقد مكثت عشر سنوات وأنا أبحث عنها حتى وجدتها في كتاب الله! إذاً: طالب العلم إذا عرضت عليه مسألة أو واجهته مشكلة أو قضية لا يبادر، ولا يسارع، سواء كانت فتوى، أو كانت علماً، أو كان غير ذلك، بل يستشير ويبذل الوسع، ويراجع، ونحن في الوقت الحاضر أمامنا -ولله الحمد- مصادر التشريع من كتب التفسير ومن كتب الحديث.
ابن تيمية رحمه الله الذي عاش ومات وحياته كلها في العلم، ويمكن أن تقول: قد عجن بماء العلم؛ يقول: كنت أقرأ للآية مائة تفسير، وأقول: اللهم! يا معلم داود! علمني، ويا مفهم سليمان! فهمني، لم يقتصر على تفسيرين أو على عشرة أو عشرين، يقرأ مائة تفسير في الآية الواحدة؛ ليطلع على آراء العلماء؛ ليستوعب الأقوال فيها، والشيء بالشيء يذكر، اليوم نكون في جولة في هذا الموضوع.(151/7)
سبب اقتصار الشنقيطي على تدريس التفسير والأصول
سألت والدنا الشيخ الأمين -رحمة الله تعالى علينا وعليه- في هذا المسجد، في رمضان، بعدما انتهى من الدرس، وقد ذهب الناس، تقدمت إليه وقلت له: يا شيخ! أنا لي سؤال من زمان يتردد على لساني ولم أستطع أن أقوله.
قال: وما هو؟ وكان -رحمة الله تعالى علينا وعليه- يعطيني شيئاً من السعة قليلاً، قلت له: منذ أن جئتَ إلى هذه البلاد وأنت مقتصر على تدريس التفسير وأصول الفقه، ما غيرت، مع أنك بحر في علوم العربية: نحو، صرف، بلاغة، أدب، وكل ما يتعلق بها، والفقه ما أظن مسألة في مذهب مالك في تخوم وبطون الكتب إلا وهي في دماغك، والحديث ما أعتقد أنه يعجزك معرفة رواة الحديث ومعاني متون الحديث، والتوحيد نسمع منك فيه الشيء الكثير وهكذا.
فقال لي: ما الذي حملك على هذا السؤال؟! قلت: الذي حملني عليه أن هذا السؤال ورد على الإمام أبي حنيفة رحمه الله، فقرأت عنه أنه قيل له: يا أبا حنيفة! أنت في زمن تدوين الحديث، وما رأيناك تشتغل بالرواية! وأنت في زمن اشتهر فيه علم الكلام، وما رأيناك تتكلم في علم الكلام -يعني: التوحيد والعقائد، ومعلوم أنه في ذاك الوقت كانت العلوم متوافرة من فقه وحديث وفقه وتوحيد وتفسير- ورأيناك تشتغل بالفقه فقط! قال: نعم، أما رواية الحديث فإن هناك رجالاً يتتبعون الرواة، وهم علماء الرجال، فيتتبعون أحوال كل راوٍ من مولده إلى موته، فإن وجدوا عليه هفوة تركوه، وصارت سبة فيه إلى الأبد، وأنا لست في حاجة إلى هذا.
أما علم الكلام فلو أن شخصاً سمع منك هفوة بدون قصد في التوحيد رماك بالزندقة، وأنا في غنىً عن هذا.
وأما التفسير فالقرآن ميسر، وعلماء التفسير كثيرون.
أما الفقه فإني نظرت فإذا العامة والخاصة والغني والفقير والرجال والنساء في أمس الحاجة إليه؛ فاشتغلت به.
فقال رحمه الله: والله! معه الحق في هذا.
قلت: وأنت؟ قال: أقول لك: أما علم العربية الذي ذكرت فهو وسيلة وليس بغاية.
وفعلاً علوم العربية بأجمعها ليست غاية، فلا ينبغي لإنسان أن يضيع عمره كله في أن المبتدأ مرفوع، والخبر مرفوع، والجملة الفعلية والجملة الاسمية، ولكن تكون دراسة علم اللغة لمعاني كلمات القرآن، وللبلاغة، فهي وسيلة وليست بغاية.
قال: وأما علم الكلام فليس علماً يثار على الحاضرين على اختلاف طبقات عقولهم وأفهامهم؛ لأن فيه من الشبهات وفيه من المزالق ما تزل فيه أقدام الفحول، فكيف يثار على عوام الناس! فليس عملياً.
وأما علم الحديث فهو تتبع الرواة وعدالتهم وقبولهم وتصحيحهم، وتتبع المتن في فقهه ومعارضته، ومطلقه ومقيده، وعامه وخاصه، وناسخه ومنسوخه.
إلخ.
وأما الفقه فيحتاج إلى اجتهاد كثير، ولا يمكن أن تبحث مسألة؟ بجميع أطرافها هنا في المدينة، وكنا في بلادنا نقتصر على فقه مالك، وهنا في المدينة يأتيها أناس من كل المذاهب، ولا يتأتى لإنسان أن يتعرض لمسألة فقهية خلافية إلا إذا استوعب أقوال الأئمة الأربعة فيها؛ من أجل أن الحاضرين من أهل المذاهب الأربعة، وإذا جمعت أقوال مسألة وغبت عنها مدة، ثم رجعت إليها احتجت إلى تجديد البحث فيها مرة أخرى، فهو متعب.
أما التفسير -وهذا محل الشاهد عندي- فما من آية في كتاب الله إلا وعندي ما قيل فيها! ابن تيمية يقول: كنت أقرأ مائة تفسير، والشيخ الأمين يقول: ما من آية في كتاب الله إلا وعندي في حافظتي وفي ذاكرتي جميع ما قيل فيها من علماء التفسير جميعاً! قلت: إذا كان الأمر كذلك فلك الحق في اقتصارك على تدريس التفسير، والأصول ما هو السبب في تدريسه؟ قال: نعم، أما الأصول فهو ضروري لطالب العلم؛ لأن العلماء يقولون: جهلة الأصول عوام العلماء، وقال: ثم اعلم أن التفسير يأتي فيه اللغة متناً وإعراباً وصرفاً وبلاغةً، ويأتي فيه التوحيد، فآيات التوحيد في كتاب الله كثيرة، ويأتي فيه الأحكام الفقهية، فالفقه أكثره يؤخذ من كتاب الله، ويأتي.
ويأتي.
وعدد كل العلوم التي تصب في كتاب الله.
والذي يهمني من هذا أن طالب العلم إذا عرضت عليه مسألة وأشكلت عليه، فلا يستنكف عن المشاورة والسؤال، بل يبحث ويجتهد، لعل الله أن يفتح عليه، فهو يقول: ما من آية في كتاب الله إلا وعندي ما قيل فيها، يعني: لو راجعنا جميع كتب التفاسير الموجودة، والخلافات عن أئمة التفسير لوجدناه محصلاً إياها!! وهكذا أقول: ينبغي لطالب العلم إذا تعرض لمسألة أن يجمع أكثر ما قيل فيها، ليكون على بينة من أمره.
ولكن لو عمل الجميع بهذا لما وجدنا من يستطيع أن يجلس يدرس الناس، فإذا وجدنا عُشر ذلك ففيه البركة والخير.
والله أسال أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه.(151/8)
بركة طلب العلم في المسجد النبوي
أقول: يا إخوان! ما وجدنا أيسر تحصيلاً وأكثر بركة في طلب العلم من هذا المسجد النبوي الشريف، جئت إلى شيخنا الأمين مرة وقلت: يا شيخ! يطرأ لي أن أبحث عن مسألة في البيت، وأتطلبها في مظانها جميعاً، فيتعذر علي الوقوف عليها، فأصر على أني أتجاوزها، فيصادف بعض الأحيان حينما آتي إلى المسجد النبوي وأضع إحدى قدماي في المسجد، وقبل أن أدخل الثانية، إذا به يخطر على بالي حكم المسألة! فإذا به يقول: لست وحدك! قلت له: كيف لست وحدي؟! قال: وأنا يحصل هذا عندي، أستشكل الأمر، ويطول إشكاله عندي، فإذا ألقيت الدرس في المسجد النبوي ألهمني الله الجواب! ولهذا -أيها الإخوة- حث النبي صلى الله عليه وسلم على طلب العلم في هذا المسجد، فقال: (من راح أو غدا إلى مسجدي هذا لعلم يعلمه أو يتعلمه كان كمن غزا في سبيل الله) .
والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، والله! الحديث ذو شجون! وبالمناسبة أيها الإخوة: أحمل طلبة العلم بالمدينة ما حملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما روي عنه أنه قال: (يا معشر أهل المدينة! إن الناس لكم تبع، وستفتح الأمصار، ويأتي رجال يطلبون العلم -أي: هنا- فآووهم وعلموهم) ، وكان سعيد بن المسيب إذا جاء واحد من خارج المدينة لطلب العلم يقول: مرحباً بوصية رسول الله.
وهذا هو الواجب على من أكرمه الله سبحانه بطلب العلم في المسجد النبوي، فإذا جاء طالب جديد فينبغي أن يشرح له صدره، وأن يوسع له باله، وأن ييسر له طريقه، وأن يبذل ما في وسعه لمساعدته لطلب العلم.
والله الموفق.(151/9)
كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [11]
مسألة انتفاع الميت بعمل الحي، من المسائل التي يكثر فيها الخلاف والجدال، فينبغي لطالب العلم أن يعرف خلاف العلماء فيها، ودليل كل قول فيها، ولعله بهذا يتضح له الصواب، وعليه ألا ينكر على من خالفه؛ لأن مخالفته مبنية على أدلة، ومن عرف أقوال العلماء وأدلتهم اتسع صدره، وكثر علمه.(152/1)
شرح حديث: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) متفق عليه] .
موضوع هذا الحديث -وهو صيام الحي عن الميت- جزء من قضية كبرى، ألا وهي: مدى انتفاع الميت بعمل الحي.
وقوله في هذا الحديث: (من مات) ، (من) من صيغ العموم تشمل الرجل والمرأة.
وقوله: (وعليه صيام) الصيام جنس، هناك صوم الفريضة، وصوم النافلة، أما صوم النافلة فليس بداخل هنا؛ لأنه يقول صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه) ، والنافلة لا تكون ديناً على الميت؛ لأنها غير واجبة، والصوم الواجب ينقسم إلى قسمين: واجب بتكليف من الله، وهو صوم شهر رمضان، وواجب بتكليف الإنسان نفسه دون أن يكون واجباً عليه، وهذا في صوم النذر والكفارات، فالنذر جائز، ولكن الإنسان هو الذي يلزم نفسه به.
قوله: (من مات وعليه صوم) صوم هنا نكرة، وتشمل الفرض بتكليف من الله، والواجب بتكليف الإنسان نفسه به.
وقوله: (صام عنه وليه) وليه أي: من أقاربه، وولي الإنسان أول من يدخل فيه عصبته، والولي هنا ليس خاصاً بالرجال، بل يدخل فيه النسوة، فعلى القول بالصوم عن الميت، لو أن أبناء الميت وبناته وزوجاته صاموا عنه بتقسيم الأيام بينهم أجزأ، ولكن هذه المسألة لم يتفق عليها العلماء، هناك أحاديث فيها عموم انتفاع الميت بعمل الحي، وهناك نص في خصوص الصلاة والصوم، وهناك نص: (لا يصم أحد عن أحد، ولا يصلِ أحد عن أحد) ، ومن هنا وقع الخلاف فيمن مات وعليه صوم، هل يصوم عنه وليه أم لا؟ قيل: (يصوم عنه) بمعنى: يطعم؛ لأن الإطعام بدل عن الصيام.
والذين يجيزون عمل الحي عن الميت قالوا: هذا الحديث نص بأنه يصوم عنه.
والمانعون يقولون: من مات وعليه صوم المراد به: صوم النذر؛ لأنه هو الذي ألزم نفسه به، بخلاف صوم رمضان، فالله كلفه، والله أماته؛ فلا شيء عليه.(152/2)
هل ينتفع الميت بعمل الحي؟
ما مدى انتفاع الميت بعمل الحي؟ ينقسم العلماء إلى قسمين: قسم يبيح ذلك مطلقاً، فيقولون: كل عمل للإنسان الحي ينفع الميت، وقسم يقابل ذلك ويقول: لا ينتفع الميت بأي عمل من أعمال الحي، وفصل الجمهور بين هذا وذاك، وقسموا أعمال الإنسان التكليفية من العبادات إلى قسمين: عبادة مالية، وعبادة بدنية، فالعبادة البدنية هي ما ليس فيها المال: كالصلاة، الصيام، الحج، الجهاد، كل هذه من أعمال البدن، وكذلك الذكر والدعاء، وأعمال المال: كالصدقة، سداد الديون، وكل ما يبذل فيه المال فهو عبادة مالية.
نقل ابن عبد البر وابن تيمية إجماع المسلمين على أن كل عبادة مالية فإن الميت ينتفع بها من الحي، ومثلوا لذلك بسداد الديون، وبالصدقة عنه ابتداءً، وبالتكفير عنه إذا كانت عليه كفارة، وكان التكفير بالمال كإطعام ونحوه.
وقالوا: جاءت النصوص الصحيحة في هذه الأصناف عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما تسديد الديون فمنها (أن امرأة -ومرة رجلاً- أتيا النبي صلى الله عليه وسلم وسألاه، هذا يقول: إن أبي، وتلك تقول: إن أمي مات أو ماتت، وعليه الحج، أفينفعه أن أحج عنه؟ قال: أرأيت -أو أرأيتِ- لو أن على أباك -أو أن على أمكِ- ديناً فقضيتيه، أكان ينفعها ذلك؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق بالقضاء) .
فالرسول صلى الله عليه وسلم أحال السائل والسائلة في جواز وإجزاء الحج عن الميت على سداد الدين، وسداد الدين بالفطرة أنه يجزئ عن الميت، فقالوا: إذاً: من مات وهو مدين، وليس عنده ما يسدد الدين -ولو كانت عنده تركة تسدد الدين؛ سدد من تركته، ولا حاجة إلى أحد- فقام إنسان من ذويه أو أصدقائه أو أحد المسلمين فسدد الدين، فيسقط عنه الطلب، وبرئت ذمته.
وجاء في خصوص الدين بالذات أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بادئ الأمر في أول الهجرة وأول الإسلام (إذا قدم إليه ميت ليصلي عليه يسأل: أعليه دين؟ فإن قالوا: نعم، عليه دين.
قال: صلوا عليه أنتم.
وإن قالوا: ليس عليه دين يصلي عليه.
فقدم مرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ميت، وسأل وقيل: نعم، عليه ديناران.
فقال: صلوا عليه أنتم.
فقام أبو قتادة رضي الله تعالى عنه -وبعضهم يقول: علي رضي الله تعالى عنه- فقال: يا رسول الله! صل عليه ودينه علي.
قال: في ذمتك؟ قال: نعم.
قال: برئت منها ذمته؟ قال: نعم، فصلى عليه) .
ثم لما جاءت الفتوحات، وجاءت الغنائم، ووسع الله على المسلمين، قال صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه غرم فغرمه عليَّ، ومن مات وله غُنم فغنمه لذويه) ، وصار صلى الله عليه وسلم إذا أتاه ميت وعليه دين يسدد ذلك من مال الصدقات.
إذاً: الميت ينتفع من الحي بسداد دينه، وكذلك الصدقة سواء تصدق عنه بنقد أو بطعام أو اشترى شاة وذبحها وتصدق بلحمها عنه، أو نحو ذلك، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم (أنه بعد الهجرة كان يذبح الشاة، ويقسم لحمها، ويقول: صدقة عن خديجة) ، وخديجة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها توفيت بمكة، فمن كثرة ما كان يفعل ذلك كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تغار، والغيرة تلحق النسوة: خديجة خديجة حتى بعد الممات خديجة! نعم، ولم لا؟! وقد وقفت بجانبه صلى الله عليه وسلم وقفة لم يقفها أحد معه في أشد الحالات، عندما رجع من الغار ترعد فرائصه، وقال: (زملوني زملوني لقد خشيت على نفسي) ، ما جلست بجواره تبكي، ولكن بحصافة العقل قالت: أخبرني ماذا حصل؟ فأخبرها، فقالت له: والله! لن يخزيك الله أبداً، إنك لتحمل الكل، وتعين على نوائب الدهر، وتصدق الحديث، وتقري الضيف، وتفعل وتفعل.
وأخذت تعدد من مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم، واستدلت بذلك على أن الذي ألمَّ به ليس شيطاناً، وبينما هو في تلك الحالة يقول: (زملوني زملوني) قالت: قم وانهض! -لم تغطه وتجلس بجانبه- ومضت به إلى ورقة بن نوفل -وكان قريبها- فقالت: اسمع من ابن أخيك ماذا يقول، فقص عليه، فقال: يا ابن أخي! هذا الناموس الذي أنزل على موسى وعيسى والنبيين من قبلهم، ليتني كنت فيها جذعاً ليتني أكون حياً حينما يخرجك قومك فأنصرك.
فقال: (أوهم مخرجي يا عم؟!) قال: نعم، ما جاء أحد قوماً بمثل ما جئت به إلا عودي وأوذي.
فهذه هي خديجة! ولما اشتد الأمر على المسلمين، وانحازوا إلى الشعب، وكتب الكفار صحيفة المقاطعة، دخلت معه، ثم في يوم أحس وقال لها: (يا خديجة! لقد أكثرت عليك، وأسرفت في مالك على الضعفاء) ، فشق عليها ذلك، وجمعت سادة قريش، وجاءت بكل مالها وقالت: هذا مالي بين يدي محمد، والله! لا أسأله عن شيء أنفقه، ولا عن شيء تركه.
هذه هي خديجة رضي الله تعالى عنها! واختبرت جبريل، قالت للنبي عليه الصلاة والسلام: هل تستطيع أن تخبرني حينما يأتيك؟ قال: (نعم، قالت: افعل.
فلما أن جاء جبريل قال لها: لقد أتى.
قالت: قم فاجلس في حجري.
فقام فجلس في حجرها، قالت: اقعد على فخذي.
فقعد على فخذها الأيمن، ثم الأيسر، قالت: أتراه؟ قال: نعم أراه، نعم أراه، فحسرت عن رأسها -كشفت رأسها- وقالت: أتراه؟ قال: لا، قالت: اثبت، إنه ليس شيطاناً، إنه ملك، لم يرض أن ينظر إلى شعري) .
ومن الغد تخرج خديجة بطعام لرسول الله وابن عمه علي رضي الله تعالى عنه إلى جبل أجياد، وكانا يخرجان يتعبدان هناك بعيداً عن قريش، فلقيها جبريل في صورة رجل فقال: أين تذهبين يا خديجة؟! قالت: لي حاجة.
قال: أين محمد؟ قالت: لا أدري، خافت عليه منه، فلما جاء جبريل إلى رسول الله قال: يا محمد! السلام يقرئك السلام، ويقرئ خديجة السلام، ويبشرها بقصر من قصب، لا نصب فيه ولا صخب.
فكان صلى الله عليه وسلم يتصدق عنها، ولما قالت عائشة مقالتها، قال: (وما لي لا أفعل ذلك ولي منها الولد، وآمنت بي أولاً، وآزرتني بنفسها ومالها؟!) .
والذي يهمنا: أنه صلى الله عليه وسلم كان بنفسه يتصدق عن خديجة.
إذاً: الميت ينتفع من عمل الحي إذا كان العمل مالاً ينفق: سداد دين، أو أداء كفارة، أو صدقة مطلقة.(152/3)
خلاف العلماء في جواز إهداء ثواب الأعمال البدنية للموتى
يقول ابن تيمية رحمه الله: العبادات البدنية هي التي فيها النزاع.
إذاً: العبادة المالية لا نزاع فيها، والخلاف في العبادة البدنية: الصلاة، والصيام، والحج، يقول شارح الطحاوية رحمه الله -والطحاوي من علماء القرن الثالث الهجري، وشارح كتابه من علماء القرن السابع أو السادس-: إن الحج عبادة بدنية، والفقهاء يقولون: هو جامع بين البدن والمال، وهو يقول: الحقيقة أنه بدني محض، والمال مساعد له، بدليل أن القادر على المشي من أهل مكة يتعين عليه الحج ماشياً، ولا حاجة له إلى المال، ولكن الآفاقي يحتاج إلى المال للسفر وللسكنى.
إلخ.
وباتفاق علماء المسلمين أن الميت ينتفع بحج غيره عنه، كما جاء في سؤال الرجل عن أبيه والمرأة عن أمها: إن أبي مات وعليه حج، أينفعه أن أحج عنه؟ إن أمي ماتت وعليها حج، أينفعها أن أحج عنها؟ والمرأة أو الرجل الذي قال: إن أبي شيخ كبير لا يقوى على الثبات على الراحلة، وخشيت إن أنا ربطته عليها أن يهلك، أفحج عنه؟ قال: (نعم) ، فهذه الصور في الحج، وسمع الرسول صلى الله عليه وسلم رجلاً يلبي حول البيت ويقول: لبيك اللهم عن شبرمة.
فقال: (ومن شبرمة هذا؟ قال: أخ لي أو قريب.
قال: أحججت عن نفسك؟ قال: لا.
قال: حج عن نفسك أولاً ثم حج عن شبرمة) .
إذاً: بإجماع المسلمين أن الميت ينتفع بحج الحي عنه، وهناك خلاف عند المالكية إذا مات الرجل وقد وجب عليه الحج ولم يحج ولم يوصِ، قيل: لا يحج عنه، هو الذي قصر في نفسه.
والآخرون يقولون -كما يقول الشافعي -: من مات وقد وجب الحج عليه ولم يحج، وبقي في ذمته فمات، فيتعين على الورثة أن يخرجوا من تركته ما يحجج غيره عنه من بلده؛ لأنه حق في ذمته تعلق بالتركة.
فهذا الشافعي يوجبه وجوباً، ويقدمه على الوصايا الأخرى، ويقدمه على الوارث، ولا يقدم عليه إلا الدين.
إذاً: باتفاق المذاهب الأربعة أن الحج -وهو عمل بدني- يجزئ عن الميت، فمن مات ولم يحج، فيجوز أن يحج عنه غيره، وينتفع به وإن لم يكن قد وجب عليه، فيكون له أجر حج النافلة، وللحاج عنه مثل ذلك الأجر.
بقي حكم إهداء ثواب الصلاة، والصيام، وذكر اللسان من دعاء واستغفار وتلاوة القرآن للموتى.
أما الصلاة: فيحكون النزاع فيها لحديث: (لا يصلي أحد عن أحد) ، وبعضهم ينازع في ذلك؛ لأن في ضمن الحج صلاة ركعتي الطواف عن الميت، فهي ضمن عمل الحج، وأجزأت عن الميت، وجاء في الحديث: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! كان لي أبوان أبرهما، فكيف لي ببرهما بعد موتهما؟ فقال: أن تصلي لهما مع صلاتك، وتصوم لهما مع صيامك، وتبر من كانا يبرانه) يعني: تصل أصدقاءهما وأقاربهما، فقال صلى الله عليه وسلم في إرشاد الذي طلب بر أبويه بعد موتهما: (أن تصلي لهما مع صلاتك) ، فقال في هذه الكلمة (تصلي لهما) ، لكن نجد المانعين يقولون: المعنى: تدعو لهما في صلاتك، ولكن الأصوليين يقولون: لا يجوز حمل اللفظ الواحد على المعنيين المختلفين في وقت واحد، فالصلاة لها معنى لغوي وهو الدعاء، ومعنى شرعي وهو الركوع والسجود والتحية، فهؤلاء قالوا: (تصلي لهما مع صلاتك) فقوله: (صلاتك) أي: ذات الركوع والسجود الشرعي، وقوله: (تصلي لهما) أي: الدعاء! فإما أن تجعلوها الدعاء في الموطنين، وإما أن تجعلوها الصلاة الشرعية في الموطنين، وأما أن تشكلوا بهذا وبهذا فالأصوليون يمنعون ذلك.
فهذا حديث يثبت أن من بر الوالدين بعد موتهما أن تصلي لهما، وليس المراد: صلاة الفريضة، فالفريضة انقطعت (إذا مات ابن آدم انقطع عمله) ، ولكن ذلك في النافلة، أصلي ركعتين وأقول: لأبوي، أو ركعتين لأبي، وركعتين لأمي.
وقوله: (وتصوم لهما مع صومك) ، في النافلة أيضاً، فكما تصوم تطوعاً لنفسك تصوم أيضاً تطوعاً لهما.
وهذا الحديث من ضمن أدلة القائلين انتفاع الميت بأعمال الحي، (من مات وعليه صوم، صام عنه وليه) ، فهو انتفع بصوم الولي، وانقضى الدين عنه.(152/4)
حكم الدعاء للميت وقراءة القرآن له
هل ينتفع الميت بالدعاء؟ يقول ابن تيمية رحمه الله: هذه العبادة ينتفع بها الميت بإجماع المسلمين، ومن جحدها فقد كفر، يقول: نصلي صلاة الجنازة إذا مات الميت ولا نعرفه، فتشرع الصلاة عليه، وهي تشتمل على الفاتحة، والصلاة والتسليم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدعاء للميت، فإذا كان الميت لا يستفيد ولا ينتفع من دعاء الأحياء لما كان للصلاة عليه فائدة، وفي القرآن الكريم: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10] ، فهذا القرآن يسجل دعوات المسلمين الأحياء للمسلمين السابقين بالإيمان، وهذا جائز بإجماع المسلمين.
وقالوا: كذلك تلاوة القرآن؛ لأنها عبادة بدنية قولية، فإذا قرأ الإنسان قرآناً يبتغي به وجه الله، ثم جعل هذا القرآن لميته وصله، يقول ابن تيمية رحمه الله: هذا باتفاق العلماء، وإنما نازع في ذلك الشافعي رحمه الله، وبعض أتباع المذاهب الأخرى، ويلحق بالقرآن الذكر والدعاء، فإذا سبح الله كذا، استغفر الله كذا، كبر الله كذا، وقال: يا رب! هذا لميتي.
فإنه يصله، وأطال الكلام في ذلك، وروى ذلك عن كثير من سلف الأمة، وذكر نزاع الناس في مسألة التردد إلى القبر لقراءة القرآن، قال: أما في أول مرة عند دفنه فيجوز؛ لأن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أوصى أهله إذا دفنوه، أن يمكث الماكث عند قبره، ويقرأ أوائل سورة البقرة وخواتيمها وخواتيم سورة الحشر، أما أن يتردد ويتخذ ذلك عادة، فقال: هذا لم يفعله السلف، وليس بجائز.
ولو كان إنسان لا يقرأ، هل يجوز أن يستأجر من يقرأ؟ قال ابن تيمية: هذا عمل لم يعمله السلف قط.
ولكن إن كان ولي الميت أعطى من يقرأ لميته نظرنا: هل هو فقير أو غني؟ فإن كان غنياً فليس له ولا لميته شيء من ذلك؛ لأن من أخذ الأجرة من الخلق فليس له عند الخالق أجر؛ لأن الثواب مبني على الإخلاص وابتغاء وجه الله، وهو أخذ نقداً ممن أعطاه، فتعجل الأجر مسبقاً فلا أجر له عند الله، إذاً: ليس عنده ما يهديه للميت.
وأما إن كان الآخذ فقيراً، وأخذ المال ليستعين به على القراءة؛ فإن له ذلك، وأقل ما يكون أن ما دفعه ولي الميت لهذا القارئ من سبيل الصدقة؛ لأنه فقير محتاج.
نخلص من هذا كله -أيها الإخوة- أن هذه النصوص في هذه القضية تثبت استفادة الميت من عمل الحي.(152/5)
أدلة من قالوا: لا ينتفع الميت بعمل الحي
نحن قدمنا سابقاً في قضية مروان بن الحكم في مسألة صيام الجنب، أنه لابد أن نطلع على أدلة الفريق الآخر، وكيف نرد عليها، فالذين منعوا استفادة الميت من عمل الحي قالوا: جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به، أو صدقة جارية) ، وجاء في القرآن الكريم: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] .
ويجيب على ذلك شارح الطحاوية وابن تيمية رحمهما الله بأجوبة متعددة، وخلاصة ذلك: أن في الحديث أنه انقطع عمله المباشر، أما عمله بالواسطة الذي تسبب به في حياته، فلا نقطع، كالصدقة الجارية، مثل أن يكون بنى مسجداً، أجرى نهراً، حفر بئراً، بنى مسكناً للمساكين، فهذه صدقة جارية من بعده، وهي من عمله، فيقولان: هذا الميت حينما كان حياً، وصلته بالمسلمين عموماً كانت حسنة، وكان يتودد إليهم ويساعدهم ويتألفهم، فهو أوجد لنفسه عندهم تعاطفاً معه؛ فلما مات تصدقوا عليه، فلما مات صاموا عنه، فلما مات قرءوا له، فهذه القراءة التي جاءت من الغير لهذا الميت هي من عمله، وما هو عمله؟ هو حسن علاقته معهم في حياته، أليس عطف قلوبهم عليه، وصحبتهم له، وتذكرهم له بالدعاء والمغفرة؛ نتيجة لعمله معهم؟ بلى هو من عمله.
وأما قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] ، فسعيه وكسبه بالسعي انتهى، ولكن الآية لم تمنع أن ينتفع بسعي غيره، نعم إن صلاة غيره لمن صلى، وصدقة غيره لمن تصدق، وليس للميت شيء، فهذا الذي سعى بصلاة أو بصيام سعيه له، فبالقياس الصحيح أنه لما أصبح سعيه له فهو حر فيه: إن شاء أمسكه لنفسه، وإن شاء قدمه للميت، فإذا سعى إنسان حي لتحصيل الأجر من أي عبادة كانت، فأصبح الأجر ملكاً لهذا الساعي وهو على قيد الحياة، ولما أصبح ملكاً له، فله أن يضعه حيث شاء.
وذكر شارح الطحاوية مثالاً: الأجير يعمل ويؤدي الخدمة لمن استأجره ويأخذ الأجرة، وبعدما يأخذ الأجرة يضعها حيث شاء، يستبقيها لنفسه، يعطيها لوالده، يعطيها لولده، وله أن يعطيها للميت كما يعطي الآخرين.
قالا: لا تعارض بين قوله: (تصوم لهما مع صومك، وتصلي لهما مع صلاتك) ، وقوله: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه) ، وبين حديث: (انقطع عمله) ، فهذا عمله الشخصي، ولم يقل الحديث: ولم ينتفع بعمل الغير، بل قال: (انقطع عمله) هو، ولم ينفِ أن ينتفع بعمل الغير، إذاً: عمله انقطع، وجاءته المنفعة من عمل الغير، والحديث لم يمنع ذلك، وكذلك الآية الكريمة.
قالوا: وقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] ، تدل على أن العقاب لا يتحمله إنسان عن ذنب إنسان آخر، وهذا لا دخل له في ذلك.
أيها الإخوة! نكون في الجملة قد عرجنا على الجانب الأول، وهو: أن الميت ينتفع بعمل الحي، سواء كان الانتفاع مالياً أو بدنياً، وذكرنا القول المخالف وما استدلوا به، وجواب العلماء عنها، وبالله تعالى التوفيق.
ونأتي لفقه الحديث: مذهب مالك والشافعي وقول عن أبي حنيفة رحمهم الله أنه لا صيام عن الميت، ولكن يطعم عن كل يوم مسكيناً، ومذهب أحمد رحمه الله وبعض أصحاب الشافعي وبعض أصحاب مالك أنه إن صام عنه أجزأ عنه، وبرئت ذمته من ذلك، والله تعالى أعلم.(152/6)
كتاب الصيام - باب صوم التطوع وما نهي عنه [1]
الوقوف بعرفة هو الركن الأعظم من الحج كما في الحديث (الحج عرفة) ، وهو اليوم الذي أكمل الله فيه الدين وأتم به النعمة، وهو أفضل أيام السنة، ولذا ندب الشرع من لم يحج في سنته من العباد إلى صيامه، وجعل صيامه مكفراً لسنتين: سنة ماضية وسنة باقية.(153/1)
فضل صوم يوم عرفة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه، أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله تعالى عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم عرفة، فقال: يكفر السنة الماضية والباقية، وسئل عن صوم يوم عاشوراء، فقال: يكفر السنة الماضية، وسئل عن صوم يوم الإثنين، فقال: ذاك يوم ولدت فيه، وبعثت فيه، وأنزل علي فيه) رواه مسلم] .
بدأ المؤلف رحمه الله بالحديث عن صوم يوم عرفة، وغيره من المؤلفين ربما بدءوا بحديث صوم يوم عاشوراء؛ لأنه أسبق، والنصوص فيه أكثر، وهو بالترتيب الزمني في محرم وهو أول أشهر السنة، ثم يأتي بعده رجب، ويأتي بعده شعبان، وبعده رمضان، وبعده شوال وهكذا إلى العشر من ذي الحجة، إلى التاسع وهو يوم عرفات، ثم الأيام المنهي عنها: يوم العيد، وأيام التشريق.
ساق المؤلف رحمه الله حديث أبي قتادة رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل) ، وكونه سئل أي: أنه لم يأتِ الأمر منه صلى الله عليه وسلم ابتداءً كأن يقول: (صوموا يوم عرفة، فإن فرضه كذا وكذا) ، ولكنه في هذا الحديث سئل فأجاب، ومن هنا يقول بعض العلماء: ما كان جواباً عن سؤال قد يكون قضية عين، ولكن قضية العين تتعلق بشخص أو جماعة محدودة بأعيانهم، وأما السؤال هنا فهو عن اليوم.(153/2)
الفرق بين عرفة وعرفات وسبب هذه التسمية
(سئل صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة) ، يقال: عرفة وعرفات بالتاء يقول علماء اللغة: عرفة اسم للزمان ولليوم، وعرفات بالتاء: اسم للمكان، وهو موضع بمكة، كأذرعات موضع بالشام.
يوم عرفة -كما يقولون- في تاريخ المناسك: أنه سمي عرفة؛ لأن أبانا آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما نزل من السماء إلى الأرض، واختلف هو وحواء، ساح في الأرض ما شاء الله ثم لقيها في ذلك المكان فتعارفا فسمي عرفة، هذا القول الأول، وأعتقد أن هذا بعيد، فما هو الذي فرق بينهما لما نزلا من الجنة وهما نزلا معاً؟! القول الثاني: في سبب تسميته بعرفة أن إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما بنى البيت وأُمر أن يؤذن في الناس بالحج، قال: {رَبَّنَا وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا} [البقرة:128] ، فأرسل الله له جبريل وخرج معه إلى منى، وبيّن له مواقع الجمرات، وذهب معه إلى المشعر الحرام، وأخيراً ذهب معه إلى عرفات، وبيّن له الموقف، ثم قال له: (أعرفت المناسك؟ قال: عرفت) فسميت عرفات؛ لأنه استعرفه على ما عرّفه عليه من المناسك.
وهناك قول ثالث وهو: أنه سمي عرفات؛ لأن العالم الإسلامي يأتي من كل فج عميق فيتعارفون في ذلك المكان، ومهما يكن من سبب التسمية فقد أصبحت الآن كلمة عرفة مشهورة، وعرفات علم وتنوسي فيه الوصف، كما تقول: العباس والضحاك، فالعباس: قد يكون بشوش الوجه، فتنوسي وصف العبوسة فيه، وأصبح علماً، والضحاك: قد يكون عابس الوجه كئيباً، فتنوسي وصف الضحك فيه وأصبح علماً.
وهكذا في عرفة لا علاقة للتسمية بعمل النسك.
وصوم هذا اليوم يقول عنه صلى الله عليه وسلم: (يكفر سنتين: سنة قبله، وسنة بعده) ، سنة قبله أي: قبل السنة التي هو فيها؛ لأنه في آخر أشهرها، وهو شهر ذي الحجة، والسنة التي فاتت، قد يحمل الإنسان فيها بعض ما قدر عليه من الأخطاء والذنوب؛ لأنه ليس معصوماً، وصوم يوم عرفة يكفرها ولكن السنة التي بعده ماذا يكفر فيها وهو لم يرتكب فيها شيئاً بعد؛ لأنه ما عاصرها ولا عاشها، فكيف يُكفر شيء لم يوجد؟! استشكل العلماء هذا، وأجابوا عنه بأجوبة: منها: أن الله يسدد هذا الشخص لفعل الخير ويبعده عن ارتكاب الآثام، ومنعه من ارتكاب الآثام بمثابة تكفيرها.
ومنها: أنه إذا ارتكب شيئاً من الذنوب وفق للعودة إلى الله وسرعة التوبة، فيكون ذلك تكفيراً لها.
ومهما يكن من شيء فإن بعض العلماء يقولون: لا ينبغي أن تفسر أحاديث الوعد والوعيد، بل تترك على ما هي عليه بنصها ومدلولها العام، كي يكون وقعها في قلب المؤمن أكثر.
ونحن نقول: الحمد لله، قبلنا البشرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم.(153/3)
حكم صوم يوم عرفة بعرفة
ولكن بقي حكم صوم يوم عرفة بعرفة، حج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وقال: (خذوا عني مناسككم) ، فيا ترى! هل صام صلى الله عليه وسلم أو أفطر؟ جاء في الحديث أن الصحابة اختلفوا هل هو صلى الله عليه وسلم صائم أو مفطر؟ ولم يجرءوا أن يسألوه هل أنت صائم أو مفطر؟ وكانت أم الفضل رضي الله تعالى عنها حكيمة، فقالت: أنا أخبركم، فأرسلت إليه صلى الله عليه وسلم بقدح من لبن، وهي تعلم أنه لا يرد اللبن، وذلك ضمن ثلاث لا ينبغي للضيف أن يردها على مضيفه وهي: اللبن والريحان والوسادة.
فإذا دخلت ضيفاً على إنسان وقدَّم لك اللبن فلا تقل: أنا لا أريده؛ لأنه كما قال الله عنه: {لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل:66] ، ومثله الريحان، والعطور: كنعناع أو ريحان أو ورد أو فل، لا ينبغي أن تردها لأنها طيبة الريح.
ومثل ذلك الوسادة إذا أعطاكها، لترتفق بها فلا تردها؛ لأنه يريد إكرامك، والإحسان إليك، وكما قالوا: ينبغي للضيف أن يجلس حيث أجلسه المضيف؛ لأنه أدرى بعورات البيت.
فلما علمت رضي الله عنها أنه صلوات الله وسلامه عليه لا يرد اللبن أرسلت إليه بقدح من اللبن، لأنها تعرف أنه إن كان صائماً فسيرده للصوم لا لكونه لبناً، وإن لم يكن صائماً فسيشربه فلما أرسلت إليه باللبن بعد العصر أخذ القدح فرفعه والناس ينظرون فشرب، فعلموا أنه مفطر.
فإذا قيل: صوم يوم عرفة يكفر سنتين، فهل الرسول زاهد في هذا الخير، وهو الذي أمرنا به؟ الجواب: لا.
ولهذا قال العلماء: صوم يوم عرفة يكفر سنتين لمن ليس بعرفات، فإذا أنت لم تحج وجلست في بلدك فصم، أما إذا حججت فعليك أن تفطر، والسبب أنك متلبس بأنساك وبعبادات والفطر أولى وأقرب لفعل الطاعة.
فإذا كان إنسان جالساً في بيته فنقول له صم، وإما إذا كان في الحج والمناسك والقربان إلى الله، والله يتجلى لأهل الموقف في يوم عرفات، فنقول له: لا تصم، ويقولون هنا: انظر إلى الأعمال التي يعملها الحاج في يوم عرفة وقبله، فهو يصعد من مكة إلى منى في يوم الثامن من ذي الحجة، ثم يبيت في منى ليلة، وبعد أن تطلع الشمس يذهب إلى عرفات، والمسافة بين المسجد الحرام وأرض عرفات واحد وعشرون كيلو متراً، منها سبعة إلى منى، ويكون الباقي إلى عرفات أربعة عشر، فأمامه مشي أربعة عشر كيلو متراً، فإذا جاء إلى عرفات فأمامه الصلاة، وسماع الخطبة، ثم الذهاب إلى الموقف، وقد بقي صلى الله عليه وسلم في الموقف على ظهر راحلته من بعد أن صلى الظهر والعصر جمعاً إلى أن غربت الشمس، فيبقى الحاج على هذا في عمل وجهاد واجتهاد في الدعاء، ثم بعد غروب الشمس ينزل إلى مزدلفة وفي هذا زحام، فإذا صلى العشاء نام، وعند طلوع الفجر يصلي ويجتهد في ذكر الله عند المشعر الحرام، إلى قبيل أن تطلع الشمس، ثم ينزل إلى وادي محسر، ويسرع في المشي، ثم يأتي إلى منى، ويرمي ويحلق وينحر، ثم ينزل إلى مكة، ليطوف طواف الإفاضة، ويرجع إلى منى ليقيم فيها، فأي حركة بعد هذا؟! الشاب القوي الفتي، يكل من أعمال ذلك اليوم وما بعده، فهذا الجهد وهو عمل في الفرض، وتكملة له، لا يحتاج إلى صيام، بل يحتاج إلى أكل وفيتمينات وإلى كل المقويات؛ لأنه إذا صام فسيكون في يوم عرفة ضعيفاً وكأنه مغمى عليه، ولا يجتهد في دعاء، ولا يجتهد في مناجاة لله، وإذا نزل إلى مزدلفة فسيكون متعباً لأنه كان بالأمس صائماً.
إذاً: من هنا قال العلماء رحمهم الله: صوم يوم عرفة يكفر سنتين لمن ليس بعرفة، أما من كان حاضراً عرفة فهو في نسك، وهذا بخلاف الذي يحضر إلى عرفة للخدمة، وللبيع والشراء، فهذا يصوم إن شاء، يقول بعض العلماء: إن بعض الصحابة كان صائماً يوم عرفة في حجة الوداع، وبعض السلف كان يصوم يوم عرفة في عرفات، فقيل لهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أفطر فيه، فقالوا: كانت السنة الفطر فيه إبقاءً على الضعيف، وأما القوي الذي يجد من نفسه القوة والنشاط، ويستطيع أداء الواجب مع الصيام، فهو خير إلى خير، ولكن الجمهور ردوا وقالوا: أي إنسان لن يكون أقوى من رسول الله، فأجاب الآخرون وقالوا: رسول الله فعل ذلك للتشريع، فيقال لهم: ولكنه قال: (خذوا عني مناسككم) .
ومع وجود هذا الخلاف عن بعض السلف في الأولى لمن حضر عرفات في نسك الحج هل يكون صائماً أو مفطراً؟ نقول: الأولى أن يكون مفطراً لفعله صلى الله عليه وسلم ولقوله: (خذوا عني مناسككم) .(153/4)
فضل صوم يوم عاشوراء
قوله: [: (وسئل صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عاشوراء فقال: يكفر السنة الماضية) .
](153/5)
سبب تقديم وتفضيل يوم عرفة على يوم عاشوراء
سئل صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة وعاشوراء، وقدم عرفة عليه؛ لأن عرفة يكفر سنتين، وعاشوراء يكفر سنة واحدة، وسنتان أولى من سنة، ويوم عاشوراء جمهور العلماء من أهل اللغة والفقه على أنه هو اليوم العاشر من شهر محرم.
وقال صلى الله عليه وسلم في صيامه: (إنه يكفر سنة) ، فإذا قيل: هذا يوم وهذا يوم، فلم كان هذا بسنة وهذا بسنتين، والصوم هو إمساك عن الطعام والشراب، والصوم في يوم عرفات هو كالصوم في يوم عاشوراء، وهو كالصوم في رمضان -إمساك الدورة الزمنية للشمس- فما الفرق بينهما؟ يقول بعض العلماء جواباً على هذا: إن صوم يوم عاشوراء تابع لموسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وصوم يوم عرفات تابع للنبي صلى الله عليه وسلم، وما كان تابعاً لنبينا محمد يكون أفضل مما هو تابع لغيره، كفضله على سائر الأنبياء، هكذا يقولون، والله أعلم.(153/6)
سبب الصيام في يوم عاشوراء
صوم يوم عاشوراء له تاريخ طويل، فقد جاء في حديث عائشة قالت: (يوم عاشوراء كانت العرب تصومه في الجاهلية، وكان صلى الله عليه وسلم يصومه -أي: قبل البعثة- فلما قدم المدينة وجد اليهود يصومونه فسألهم عن سبب صومهم؟ فقالوا: هذا يوم مبارك، نجى الله فيه موسى وأهلك فرعون، فصامه موسى شكراً لله وصمناه) .
إذاً: اتفق أهل مكة الوثنيون وأهل المدينة اليهود الكتابيون على صومه، فصام اليهود هذا اليوم؛ لأنه يوم مبارك نصر الله فيه الحق على الباطل، وهناك تاريخ مسبق يذكره بعض العلماء -والله تعالى أعلم بحقائق التاريخ- يذكرون أن يوم عاشوراء هو اليوم الذي رست فيه سفينة نوح واستوت على الجودي، وأنه هو اليوم الذي أطفأ الله فيه نار النمرود التي أوقدها على إبراهيم، وأنه كذلك هو اليوم الذي أهلك الله فيه فرعون ونجى فيه موسى، فيذكرون في التاريخ أن هذه الأحداث وقعت في يوم عاشوراء، ويذكرونها إما متسلسلة وإما متباعدة.
والله تعالى أعلم.
والذي عندنا من النقل الصحيح هو من بداية موسى مع فرعون، فلما أُخبر صلى الله عليه وسلم من اليهود عن سبب صومهم لهذا اليوم، قال: (نحن، وفي رواية: أنا أحق بموسى منكم) سبحان الله! بعد آلاف السنين يكون صلى الله عليه وسلم أحق منهم بموسى مع أنهم أمته الذين بعث فيهم؛ لأنهم غيروا ما كان عليه موسى أما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يغير كما قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285] .
فآمن النبي صلى الله عليه وسلم وآمنت الأمة بموسى وبجميع الأنبياء وبما جاءوا به من عند الله، أما اليهود فمعلوم أنهم غيروا وبدلوا واشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً.
قال صلى الله عليه وسلم: (نحن أحق بموسى منكم) ، فصامه وأمر الناس بصيامه وفي بعض الروايات: (نحن أبناء علات ديننا واحد) ، والعلات جمع علة وهي: المرأة تأتي بعد المرأة تحت الرجل الواحد أي: أن أممنا متفاوتة ولكن الأصل لنا جميعاً واحد وهو الوحي من عند الله، فصام هذا اليوم وأمر بصيامه.
ويأتي هنا سؤال: هل صومه صلى الله عليه وسلم كان تبعاً لليهود؟ الجواب: لا؛ لأن عائشة رضي الله تعالى عنها تقول: (كانوا يصومونه في الجاهلية، وكان صلى الله عليه وسلم يصومه) أي: قبل البعثة.
إذاً: صومه كان معروفاً ولكن السؤال جاء عن سبب صوم اليهود، وقريش كانت تصوم يوم عاشوراء، وتجدد فيه كسوة الكعبة، وهذا يعني: أنه كان معروفاً لهم، ولكنه هنا سأل فوجد سبباً جديداً، وهو تجدد نعمة من الله على عباده، وهي نصرة الحق على الباطل، وهذه نعمة متجددة تقابل بالشكر، وسيأتي في حق النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الاثنين أنه ولد وبعث فيه، وهذه كذلك نعمٌ متجددة تقابل بالشكر.(153/7)
استحباب صوم يوم تاسوعاء مع عاشوراء مخالفة لليهود
كان سؤاله صلى الله عليه وسلم اليهود عن صومهم لبيان السبب، ثم بعد ذلك قيل: (يا رسول الله! إن اليهود يصومون يوم عاشوراء ونحن نصوم يوم عاشوراء فوافقناهم، فقال: لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع مع العاشر) ، ولكنه قبض صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي العام الجديد، واقتصر على ما كان عليه.(153/8)
بيان أن صوم يوم عاشوراء كان واجباً في أول الإسلام
وقد كان صوم يوم عاشوراء في بادئ الأمر فرضاً؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بعث رجالاً إلى مياه القبائل ينادون: (إن اليوم يوم عاشوراء فمن أصبح صائماً فليتم، ومن أكل فليمسك بقية يومه) ، فلو لم يكن فرضاً ما أمرهم أن يمسكوا بقية يومهم، وقد كان فرضاً حتى فرض رمضان، فنسخت فرضية عاشوراء وبقيت نافليته، وظل صلى الله عليه وسلم يصوم يوم عاشوراء كل سنة، وكان فرض رمضان في شعبان في السنة الثانية من قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة فنسخ فرض صوم يوم عاشوراء وبقيت سنيته إلى اليوم.
وذكر ابن عبد البر آثاراً عن التابعين في يوم عاشوراء وذكر حديثاً يقول عنه المنذري: إن سنده ضعيف وهو: (من وسع على عياله فيه وسع الله عليه طيلة العام) ، ويذكر ابن عبد البر عن بعض السلف أنه قال: قد جربناه وكان صحيحاً، وبعضهم يذكر هذا في يوم النصف من شعبان، والله تعالى أعلم.
يهمنا أن صوم يوم عاشوراء يكفر سنة، وقد جاء عن ابن عمر أنه لم يكن يصومه إلا إذا صادف صوماً له، وقال: كان فرضاً فنسخ، فمن شاء صامه، ومن شاء لم يصمه، وعلى هذا فصوم يوم عاشوراء باتفاق الجميع سنة، وليس بواجب، فمن شاء صامه، ومن شاء لم يصمه، وإذا صامه فإنه يكفر سنة، والله تعالى أعلم.(153/9)
فضل صوم يوم الإثنين
قوله: [ (وسئل صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الإثنين؟ فقال: ذلك يوم ولدت فيه وبعثت فيه وأنزل عليّ فيه) رواه مسلم] .(153/10)
سبب تخصيص يوم الإثنين بالصيام
كان صلوات الله وسلامه عليه يكثر من صوم يومي الإثنين والخميس، فسئل عن تخصيصه يوم الإثنين فقال: (ذلك يوم ولدت فيه، وبعثت فيه، وأنزل عليّ فيه) ، ويذكر العلماء من أحداث الواقع التاريخي أنه أتى المدينة في الهجرة يوم الاثنين، وتوفي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، ولذا قالوا: يوم الاثنين لمحمد صلى الله عليه وسلم، ويوم الجمعة لآدم، كما قال صلى الله عليه وسلم في فضل يوم الجمعة: (فيه خلق آدم، وفيه أسكن الجنة، وفيه أهبط منها، وفيه تاب الله عليه، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مؤمن قائم يصلي يسأل الله حاجة إلا أعطاه إياها) .
وقول مالك في الموطأ: (فيه تقوم الساعة وما من دابة في الأرض إلا وتصيخ بسمعها يوم الجمعة بعد الفجر إلى طلوع الشمس شفقاً من الساعة) .
قوله: (ما من دابة) فيه أن الدواب كلها تعرف أيام الأسبوع، فإذا كان يوم الجمعة أصاخت من بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، تنظر هل تأتي النفخة أي: النفخة ليوم القيامة إلى أن تطلع الشمس ثم تنصرف، يا سبحان الله العظيم! هذه الدواب العجماء، وهذه الحيوانات العجماوات تعلم يوم الجمعة، وتخشى قيام الساعة، وتتسمع من أجله.
فقالوا: يوم الجمعة أحداثه مرتبطة بآدم، وبمناسبة كون الساعة تقوم فيه، نجد الفقهاء يستحبون في صلاة فجر يوم الجمعة قراءة سورة السجدة؛ لأن فيها قصة آدم، وفيها البعث، وفيها الجزاء، وكذلك قراءة سورة الدهر {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ} [الإنسان:1] إلى آخر السورة؛ لأن فيها أحوال يوم القيامة، فقالوا: في قراءة هاتين السورتين في هذه الفريضة يتناسب اجتماع الذكر مع التاريخ فيكون أدعى لأن يتذكر الإنسان مبدأه، وحياته، ومصيره، ليأخذ من حياته إلى ما بعد مماته.
إذاً: سئل صلى الله عليه وسلم عن سبب صوم يوم الإثنين؟ فعدد نعماً، وهذه النعم هي التي يقول عنها العلماء: لا كسب للعبد فيها وهي ثلاث نعم، ليس للعبد فيها كسب أو تسبب، وليس له فيها عمل، وليس له سعي في الحصول عليها، بل هي محض نعمة من الله عليه، أو محض إنعام من الله بها عليه، وهذه النعم هي: إيجاده من العدم، وإسلامه، ودخوله الجنة، وهنا يقول صلى الله عليه وسلم: (ولدت فيه) وهو الإيجاد من العدم، وإذا فتشنا أنا وأنت حينما جئنا إلى الدنيا ماذا فعلنا لكي نأتي إلى الدنيا؟! ما عملنا شيئاً، فقد كنا في العدم، وغاية ما يمكن أن يقول القائل: إن الأبوين تسببا، فنقول: هما قضيا حاجتهما ولا يملكان بتلك الحاجة أن يأتيا بالولد؛ لأن الولد هبة من الله، كما قال سبحانه: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الشورى:49] ، وهذا الملك ليس مثل ملك الملوك في الدنيا، {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الشورى:49] ، وفي هذا القدرة والعظمة، {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً} [الشورى:49-50] ، فمن جعله الله عقيماً، والله! لن يخصب ولن ينجب أبداً.
إذاً: الولد هبة، وإن تسبب الأبوان في وجوده، فتسببهما ليس بلازم أن يأتي بالولد.
ونعمة الإسلام، فالإنسان في عالم العدم كما يقول علماء الجدل: جائز الوجود، بمعنى جائز أن يوجد وجائز أن يبقى في العدم، وهما نظريتان متعادلتان، فكون واحدة ترجح على الأخرى فلابد من مرجح والمرجح هو الله، فإذا رجح وجود الإنسان على بقائه في العدم فمن أين وجد؟ كان من الممكن أن يوجد من أبوين بوذيين، أو أبوين وثنيين، أو أبوين يهوديين، أو نصرانيين أو غير ذلك، ولكن كون الله أختار له أبوين مسلمين وولد بين أبوين مسلمين فسينشأ مسلماً، وهل كان له اختيار أو جهد أو كسب في أن يوجد من أبوين مسلمين؟ ليس له فيه كسب بل هو فضل من الله عليه، وهو ما قاله صلى الله عليه وسلم: (وأنزل علي فيه) .
والإسلام أساساً ما أنزله الله على رسوله إلا بالرسالة، والرسالة إلى رسول الله محض فضل من الله، فقد اصطفاه الله لذلك قبل أن يوجد، وقد بحث العلماء هذا عند قوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:219] فقالوا: اصطفاه وهو في أصلاب آبائه، وآباء آبائه إلى آدم، واختاره نبياً قبل أن توجد الدنيا، وكل شيء قد سجل في اللوح المحفوظ، والرسل مصطفون عند الله من قبل أن يوجدوا، فهذه رعاية من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، فقد رعاه الله سبحانه وتعالى في أصلاب آبائه، وصانه من دنس الجاهلية، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ولدت من نكاح لا من سفاح) ، وكانت أنواع الولادات في الجاهلية متعددة، كما ذكرت عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان الزواج أو النكاح في الجاهلية على أربعة أنحاء: تخطب المرأة من وليها فيزوجها كما تفعلون اليوم، وتؤخذ المرأة بالسيف، وتنصب المرأة الراية، وتتخذ الأخدان) فولد صلى الله عليه وسلم من النكاح الذي تخطب فيه المرأة من وليها فيزوجها، كما في القصة التي ذكرها ابن هشام في السيرة وفيها أمر يذهل العقل، لما أراد عبد المطلب أن يذبح ابنه عبد الله في قضية زمزم فلما وقع السهم عليه، وذهب ليذبحه منعته قريش، وتحاكموا إلى الكاهنة، وقالت: فادوه بعشر من الإبل واستهموا عليه بالقرعة، فإذا طلعت القرعة عليه فزيدوا الإبل عشراً، فاستهموا وفعلوا إلى أن كملت الإبل مائة فخرجت القرعة على الإبل، ثم نحرت، وفي عودته مع أبيه تلقته امرأة قريبة لـ ورقة بن نوفل -وكان رجلاً يقرأ الكتب القديمة- فقالت: يا عبد الله! وهو والد محمد بن عبد الله، هل لك أن تذهب معي إلى بيتي الساعة ولك مائة من الإبل مثل التي فوديت بها اليوم؟ قال: نعم، ولكني الآن مع أبي فأنظريني حتى أصل معه إلى البيت ثم آتي إليك، ولكن أباه لم يذهب به إلى بيته، إنما ذهب به إلى بني زهرة، وخطب له آمنة فتزوجها، ودخل عليها من ليلته ثم لما كان الغد خرج فلقيته تلك المرأة فأعرضت عنه، فتعرض لها فأعرضت عنه، فتعرض لها وقال: ما لك بالأمس تتعرضين لي واليوم تعرضين عني؟! قالت: كنت بالأمس أرى نوراً أو وبيصاً بين عينيك رغبت أن أظفر به ولكن ظفرت به آمنة بنت وهب، فهذا النور يتفقون أنه نور النبوة، ولكن ما كل إنسان كان يراه.
وبعض الناس يشكك في هذه القصة، ويؤكد ذلك إخباره صلى الله عليه وسلم بأنه صين عن سفه الجاهلية وأنكحتها، وتنقل في أصلاب نكاح صحيح سليم إلى أن حملته آمنة ووضعته وأدت الأمانة ومات أبوه، وماتت أمه وبقي في كفالة ربه، فنشأ يتيماً ولكنه كفل الأيتام، وربَّى الكبار والصغار.
إذاً: رعاية الله كانت تحوطه، فهو نبي ومرسل، وقد جعل الله ذلك له ولبقية الأنبياء من أول ما أمر الله القلم: (اكتب ما يكون وما سيكون إلى يوم القيامة) .
قوله: (يوم ولدت فيه، وأنزل عليّ فيه) كان بدء الوحي في غار حراء عند أن كان يتحنث فيه، وكان في يوم الإثنين، ثم بعد ذلك واصل الدعوة ثلاث عشرة سنة في مكة، ثم خرج مهاجراً إلى المدينة، وكان وصوله إليها في يوم الإثنين، وقبض صلى الله عليه وسلم في يوم الإثنين، وبقي يوم الثلاثاء، ودفن في يوم الأربعاء؛ لاشتغال الناس بالبيعة في السقيفة وبالخلافة وما وقع فيها، ولما فرغوا من أمر الخلافة جاءوا لدفنه صلى الله عليه وسلم، فهنا يقول العلماء: تلك نعم متجددة، فقوله: (ولدت فيه) ، وهذه نعمة الإيجاد من العدم، وقوله: (أنزل عليّ فيه) وهذه نعمة الرسالة، وليس بعدها نعمة، فكان يشكر هذه النعم بأن كان يصوم يومها.
وهكذا موسى لما نجاه الله من فرعون صام ذلك اليوم.
وقد ذكرنا سابقاً ما ذكره علماء السيرة: أن أهل الهجرة الأولى إلى الحبشة استدعاهم النجاشي ذات يوم، فجاءوا إليه مذعورين، فلما دخلوا عليه إذا به جالس على أرض تراب ليس عليها فراش، حاسر الرأس، لابساً ثوباً قديماً خلقاً، مصوباً بصره إلى الأرض، فقال: أتدرون لمَ دعوتكم؟ قالوا: لا، قال: نصر الله نبيكم محمداً، أو نبينا محمداً على عدوه في هذا اليوم، فقد التقى مع قريش في وادٍ يقال له: وادي بدر فنصره الله عليهم، ذاك وادٍ يكثر فيه الأراك، وقد كنت أرعى فيه إبلاً لبني فلان، فقال له جعفر: وما هذه الصورة التي نراك عليها فقد أفزعتنا؟ قال: إن فيما أنزل الله على عيسى أنه قال له: (إني أحب إذا جددت نعمة على عبدي أن يجدد لي شكر النعمة) ، فأنا على هذه الحالة شكراً لله على نصره محمداً على أعدائه، ولهذا جزم كثير من العلماء أنه مؤمن، ويؤكد ذلك أن اليوم الذي مات فيه أخبر عنه صلى الله عليه وسلم وصلى عليه هو وأصحابه صلاة الجنازة.
قال: (يوم ولدت فيه وأنزل عليّ فيه) ، وهاتان نعمتان عظيمتان، فشكرهما صلى الله عليه وسلم بصيامهما، لا بلعب ولا بعيد، ولا بلهو ولا بنحو آخره، فصام للذي أنعم عليه مرضاة له سبحانه.(153/11)
فضل صوم ستة أيام من شوال
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر) .
رواه مسلم.
] .
هذه مسألة صيام ست من شوال، ساق فيها المؤلف رحمه الله تعالى: عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر) ، وجاء عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الحسنة بعشر أمثالها) ، ورمضان بعشرة أشهر، وستة في عشرة بستين، فتعادل هذه الست شهرين، وبذلك تكون السنة كاملة.(153/12)
الخلاف في حكم صيام الست من شوال
وهذه الأيام من العلماء من يستحب صومها، ومنهم من يكره صومها، وقد روي كراهية صومها عن مالك رحمه الله تعالى، وذكر القرطبي عن أبي يوسف أنه كره صومها، وذكر الشوكاني عن أبي حنيفة رحمه الله أنه كره ذلك، والتحقيق عند الأحناف وعند المالكية: أن الكراهية ليست في الصوم، ولكن في التتابع، كما قال مالك رحمه الله: إذا رأى الجهال إصرار العلماء على صوم ستة أيام من شوال عقب رمضان فسيظنون أنها من رمضان، ويقول القرطبي: إن ما خاف منه مالك قد وقع في بلادنا، ونحن أيضاً شاهدنا هنا أن بعض الناس إذا انتهى من رمضان وجاء العيد عيّد عيداً شكلياً، واستأنف الصيام ستة أيام ثم عيّد العيد الكامل وقال: عيد الست، فجعل للست عيداً مستقلاً، وابن عبد البر في الاستذكار يدافع عن مالك ويقول: لا أعتقد أن مالكاً يكره عبادة، ولكن لعله لم يبلغه حديث أبي أيوب، ثم يرجع ويقول: إن هذا الحديث حديث مدني، وقلّ أن يخفى على مالك حديث مدني، ثم يقول أيضاً: لقد روي هذا الحديث عن عمرو بن ثابت، عن أبي أيوب وتفرد به فلان وهو ضعيف، ولكن قد روي هذا الحديث من عدة جهات، ومن عدة طرق، وفي النهاية صحح الحديث ثم قال: بما أن الحديث لا يمكن أن يخفى على مالك؛ لأنه مدني، فيكون سبب الكراهية عنده هو خشية أن يعتقد الجهال أن ستاً من شوال تابعة لرمضان ولازمة له، ولهذا يقول المالكية جميعاً: إذا أتبع الست بعد رمضان ولم يفصل بينها إلا يوم العيد فقط فهذا محل النزاع وهذا محل الكراهية، أما إذا باعد بينها وبين رمضان بعدة أيام وفرقها فإنه يخرج عن المحذور ولا يظن ظان أنها من رمضان.
هذا مع اتفاق العلماء على أن تلك الست من شوال يصح صومها في العشر الأوائل من شوال، أو في العشر الوسطى، أو في العشر الأخيرة، أو يأخذ يومين من كل عشر سواء تابعها أو فرقها، المهم عند المالكية ألا تكون لاصقة برمضان مباشرة، لا يفصل بينها وبين رمضان إلا يوم العيد.
وهكذا علل الأحناف، وذكر ابن عقيل في حاشيته أن إطلاق الكراهية التي نقلت عن أبي حنيفة وأبي يوسف ليس صحيحاً، وإنما الكراهية التي نقلت عن أبي حنيفة، وعن أبي يوسف إنما هي طبق الكراهية وسببها هو الذي نقل عن مالك رحمه الله، ألا وهو إلصاق ست من شوال برمضان حتى يظن الجهال أنها منه، أما مطلق صومها بدون الصورة التي توهم أنها من رمضان أو من لوازمه، فهذه ليس فيها كراهية، وعامة السلف عليها، والعمل جارٍ على هذا عند الأحناف وكذلك عند المالكية.
وننبه الإخوة أننا كنا قد جمعنا عمل أهل المدينة المذكور في الموطأ بناءً على كتاب محمد بن الحسن الحجة على أهل المدينة، وكان يحتج عليهم في تمسكهم بما آثروه نقلاً عملياً عن أهل المدينة؛ لأن مالكاً ذكر في الموطأ وقال: إن الستة أيام من شوال لم أر أحداً من أهل العلم يصومها.
ولهذا علل الكراهية بما تقدم، فهي من نقل مالك عن عمل أهل المدينة، ولما قمت بجمع مسائل عمل أهل المدينة في الموطأ زادت على الثلاثمائة مسألة، ثم عرضتها على بقية المذاهب الأربعة، أي: المذاهب الثلاثة مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد، فوجدتها كلها لم ينفرد بها مالك إلا في ثلاث مسائل فقط، وكلها قال فيها: هذا ما عليه العمل ببلدنا، هذا ما أدركت عليه أهل العلم عندنا، هذه السنة القائمة عندنا، ولم يذكر حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا خبراً عن صحابي، وإنما يذكر ما شاهده من عمل أهل المدينة في زمنه أو نقل إليه.
وتلك المسائل الثلاث التي لم أجد من يوافقه عليها هي: المسألة الأولى: فيما يتعلق بصوم الستة أيام من شوال أنه كان يكرهه، والمذاهب الثلاثة -قبل أن أقف على مذهب أبي حنيفة - كلها تستحب ذلك، فظننته انفرد بها، ولكن وقفت على قول القرطبي وقول الشوكاني ينقلان عن أبي يوسف وعن أبي حنيفة رحمهما الله أنهما وافقا مالكاً في هذا، فخرج عن كونه انفرد بها.
والمسألة الثانية: قوله بصوم يوم الجمعة، وأن أهل العلم يتحرون صومه، والذي كنا نعرفه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يفرد يوم الجمعة بصوم، أو تفرد ليلة الجمعة بقيام، ثم وجدنا في الاستذكار لـ ابن عبد البر أنه ذكر نصوصاً عديدة فيما يتعلق بصوم يوم الجمعة، حتى ذكر عن ابن عباس من طريق طاوس وعطاء، أنهما لم يريا ابن عباس مفطراً يوم الجمعة قط، وذكر آثاراً أخرى، فيكون إسناد مالك صوم يوم الجمعة إلى عمل أهل المدينة قد وجد له مستند عن ابن عباس وغيره، وجاء ذلك مرفوعاً من طريق علي رضي الله تعالى عنه: (أن من صام ثلاثة أيام فليجعل فيها يوم الجمعة، أو صوموا من كل شهر ثلاثة أيام، وصوموا يوم الجمعة) إلى غير ذلك على ما سنأتي عليه إن شاء الله.
والمسألة الثالثة: عند مالك أن من قتل عمداً لا يدفع الدية وإنما عليه القصاص أو يعفو عنه أولياء الدم؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل فيه أحد أمرين: إما القصاص، وإما العفو كما قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] ، فقال مالك: ليس على القاتل عمداً أن يدفع دية، وليس لولي الدم إلا أن يقتل، أو يعفو.
وكنت قد سمعت والدنا الشيخ الأمين يقول في هذه المسألة: إن ولي الدم إذا قال: أنا لا أريد قصاصاً وأريد الدية، فإن جمهور العلماء يقولون: عليه أن يدفع الدية ويستبقي نفسه.
ولكن وجدنا في مذهب مالك ثلاث روايات عنه فيما إذا كانت الجناية في غير النفس، في اليد أو في السن أو في العين، يقول مالك: هو مخيّر بين أن يدفع أرش الجناية، وبين أن يسلم نفسه ليقتص منه، فهنا خرج عن كونه يقول: ليس لهم إلا القصاص، فكذلك إذا كان في النفس يتعين على الجاني أن يدفع الدية ليبقي نفسه.
وهذا الذي سمعته من والدنا الشيخ الأمين: أنه يلزم مالكاً أن يقول: إن من قتل عمداً وطلبت منه الدية فعليه أن يدفعها؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء:29] ، وهذا توجه إليه القتل ووجد طريق العفو بالدية فيلزمه أن يدفع الدية، ثم وجدنا هذا القول بعينه عند أبي حنيفة رحمه الله.
وبهذا أيها الإخوة! يكون كل ما سجله مالك رحمه الله في الموطأ من مسائل عمل أهل المدينة لم ينفرد ولا بواحدة منها، ويكون قد انتهى ما كنا نظنه أنه انفرد به، وقد سجلنا ذلك في الرسالة التي جمعناها وطبعناها، ولكن لزم التنبيه على أنه لم تبق مسألة انفرد بها مالك فيما ذكره من عمل أهل المدينة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر) ، وهذا على ما تقدم بيانه من أن الحسنة بعشر أمثالها؛ فالشهر بعشرة أشهر، والستة أيام بستين يوماً أي: بشهرين، فذلك تمام السنة، وهو تمام الدهر فيما إذا عاش وفعل ذلك كل سنة.
ويلتمس العلماء سبب ربط الستة الأيام من شوال برمضان فيقولون: إن من كان يصوم رمضان إيماناً واحتساباً ورغبة ومحبة فإنه لا يستكثر على نفسه أن يواصل صوم ستة أيام من شوال وكأنه يدلل على أن صومه الثابت ليس عن إكراه، وليس عن كراهية، وإنما عن رغبة وهاهو يواصل صوماً نافلةً بعد رمضان، والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(153/13)
كتاب الصيام - باب صوم التطوع وما نهي عنه [2]
الإنسان بطبيعته البشرية يقع في الذنوب والخطايا، وليس معصوماً منها إلا الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ولكن من رحمة الله عز وجل أن جعل للعبد أبواباً كثيرة يكفر بها خطاياه ويضاعف بها حسناته، ومن هذه الأبواب باب صوم النوافل، فعلى العبد أن يستغل الفرصة ويكثر من صوم النوافل ليكفر الله عنه سيئاته وخطاياه ويرفع درجاته.(154/1)
فضل الصيام في سبيل الله
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم عن وجهه النار سبعين خريفاً) .
متفق عليه واللفظ لـ مسلم.
يسوق المؤلف هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله) ، و (في سبيل الله) يرى بعض العلماء أن ذلك في الجهاد، فإذا خرج الإنسان للجهاد، وكان مرابطاً على الحدود لحفظ وصيانة حدود البلد الإسلامي، وليس هناك كر ولا فر، وليست هناك معركة، ولكنه جالس على حدود البلاد فصام يوماً فهذا اليوم في سبيل الله، ويرى آخرون أن المعنى أعم، وأن من صام يوماً في سبيل الله أي: بدون دافع، وبدون سبب معين، لا هو كعرفات يكفر سنتين، ولا هو كعاشوراء يكفر سنة، ولا هو كست من شوال يعادل مع رمضان صيام الدهر، ولا هو كثلاثة أيام من كل شهر، بل بدون أي سبب ولم يرتبط بأي موجب، ولكن في يوم من الأيام وجد نشاطاً فقال: أصوم غداً في سبيل الله، أو أصوم غداً لوجه الله، فهذا يترتب عليه ما جاء في هذا الحديث: (باعد الله به -أي: بهذا اليوم- عن وجهه النار سبعين خريفاً) ، والخريف هو عبارة عن جزء أو فصل في السنة، والسنة فيها فصل الخريف واحد، وفصل الربيع واحد، وفصل الشتاء واحد، وفصل الصيف واحد، فإذا قيل: سبعون خريفاً، أو سبعون ربيعاً، أو سبعون شتاءً فمعناه سبعون سنة؛ لأن الفصل المذكور ليس مكرراً في السنة مرتين، حتى نقسم العدد على اثنين وإنما سبعون خريفاً، أي: سبعون سنة، وهذا يدل على عظيم فضل الله سبحانه وتعالى على عباده حيث يقبل القليل، ويجازي بالكثير، فهذا صوم يوم واحد يباعد الله به بين وجهه وبين النار سبعين خريفاً، ولم يقل: سبعين يوماً، أو سبعين ساعة، أو سبعين أسبوعاً، أو سبعين شهراً، ولكن قال: سبعين خريفاً أي: سبعين سنة، وهذا من عظيم فضل الله سبحانه وتعالى، ومما يتعلق بفضل الصوم ما جاء في الحديث القدسي وهو يشهد لهذا: (كل عمل ابن آدم له والحسنة بعشر أمثلها إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) ، وكما قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] .
ورمضان يسمى شهر الصبر، وعلى هذا يكون المؤلف رحمه الله أراد أن يرغب في الصوم تطوعاً مطلقاً، ولو لم يكن في هذه الأيام نص وارد فيها بعينها.(154/2)
فضل صيام أكثر شعبان
قال المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان) ، متفق عليه واللفظ لـ مسلم.
في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها عدة قضايا: القضية الأولى أنه صلى الله عليه وسلم كان أحياناً يداوم الصوم حتى يقول أهل بيته: لا يفطر، وأحياناً يداوم الفطر حتى يقول أهل بيته: لا يريد أن يصوم، أي: أنه ليس في هذا العمل منهج مقعد مرتب منظم كالمشروع وهو رمضان كما قال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] وما عداه فهو عمل اختياري، إن شاء صام وإن شاء أفطر، فليس فيه التزام بزمن معين في صوم ولا زمن معين في فطر، وهذا هو عين التطوع أنه إنما يكون باختياره، وهذه قاعدة هامة جداً لئلا يكون للإنسان في النوافل منهج التزام كالفرائض، وأما حديث: (إن أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه) ، فنقول: نعم، هذا إذا داوم عليه رغبة، وإذا داوم عليه دون إلزام ودون التزام له حتى لا يوهم أنه مفروض عليه.
القضية الثانية في الحديث: (ما رأيته أكمل صيام شهرٍ قط إلا رمضان) .
والقضية الثالثة في الحديث: كثرة صيامه صلى الله عليه وسلم في شعبان، ولذا قالت: (أكثر ما رأيته يصوم في شعبان) ، وجاء في روايات منها: (كان يصومه كله) (كان يصومه إلا أقله) ، فأخذ العلماء من (كله) جواز صوم شهر شعبان كاملاً، ولكن قولها رضي الله تعالى عنها: (وما رأيته أكمل صيام شهر قط إلا رمضان) ، فيه أنه كان يكثر الصوم في شعبان.(154/3)
سبب إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من الصوم في شعبان
وهنا يعلل العلماء كونه صلى الله عليه وسلم يكثر الصوم في شعبان مع أنه ليس من الأشهر الحرم، وقد جاء في الحديث (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المحرم فسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام، فقال: أما عرفتني يا رسول الله! قال: لا، قال: أنا الذي جئت إليك العام الماضي في مثل هذا، قال: ما لي أرى جسمك نحيلاً؟ -أي: نحل جسمك عن العام الماضي- قال: منذ فارقتك يا رسول الله! ما طعمت طعاماً نهاراً قط، أديم الصوم، فقال صلى الله عليه وسلم: من أمرك أن تعذب نفسك؟! صم من الأشهر الحرم وأفطر) وفي بعض الروايات: (صم شهر الصبر -يعني: رمضان- ويوماً بعده، قال: إني أقوى قال: صم شهر الصبر ويومين بعده) إلى أن ذكر له خمسة أيام، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهذا الرجل: صم من الأشهر الحرم، فالصوم في الأشهر الحرم بمقتضى هذا أفضل منه في شعبان، فلماذا كان يكثر الصوم في شعبان؟ يجيب العلماء عن ذلك بجوابين: الجواب الأول: وهو جواب الجمهور قالوا: قد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (هذا شهر يغفل الناس عنه ما بين رجب ورمضان) ، يعلق على هذا بعض العلماء ويقول: أي: أن الناس كانوا يهتمون بصوم رجب، ويهملون شعبان، ويصومون رمضان، إذاً: صوم رجب مندوب إليه، وكان معلوماً لديهم، وهناك من السلف من كان يصوم شهر رجب وشعبان ورمضان، والبعض كان يكره ذلك؛ لأن فيه تشبيهاً لها برمضان، ويقول: يستحب أن يفطر من كلٍ من رجب، ومن شعبان بعض الأيام حتى لا يحاكي بهما رمضان، أما الجواب الثاني: فهو عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: كان ربما يجتمع عليه صلى الله عليه وسلم صيام الثلاثة الأيام من كل شهر؛ لأن صوم ثلاثة أيام من كل شهر من المندوبات، كما في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وألا أنام حتى أوتر) ، فصوم ثلاثة أيام تقول عائشة رضي الله تعالى عنها: ربما شغل عنها بسفر، أو بمشاغل أخرى فتتراكم عليه هذه الأيام الثلاثيات فكان يصومها في شعبان.
وهناك جواب ثالث وهو: أن زوجاته أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن كنَّ من أدركتها الدورة منهن في رمضان تفطر، ثم تؤخر قضاء أيام رمضان إلى أن يأتي شعبان، فيصمن ويقضين ما عليهن من رمضان في شعبان، فكان يصوم معهن إرفاقاً بهن، وقد جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: كنت يكون عليَّ القضاء من رمضان فلا أتمكن من قضائه إلا في شعبان لكثرة ما يصوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلعله كان يصوم أكثر شعبان حتى يعطي الفرصة لزوجاته أن يصمن ويقضين ما عليهن من عدة أيام من رمضان، والله تعالى أعلم.(154/4)
فضل صيام ثلاثة أيام من كل شهر
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصوم من الشهر ثلاثة أيام: ثلاث عشر، وأربع عشر، وخمس عشر) ، رواه الترمذي والنسائي وصححه ابن حبان.
حديث صيام ثلاثة أيام من كل شهر، جاءت فيه زيادة في حديث أبي هريرة بتعيين الأيام، وهي الثالث والرابع والخامس عشر من كل شهر، يعني: الأيام التي يكون القمر مكتملاً ضوءه فيها والناس مختلفون في ذلك، فـ مالك يرى أن الحسنة بعشر أمثالها، واليوم عن عشرة فيقول: يجعل عن كل عشرة أيام من الشهر يوماً، فيأخذ يوم واحد ويوم أحد عشر، ويوم واحد وعشرين، ففي كل عشرة أيام يصوم يوماً، وغيره يقول: يصوم ثلاثة أيام بدون تحديد كما في رواية أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، لكن هنا جاء التحديد بثلاثة عشر، وأربعة عشر، وخمسة عشر، وأما حول التعيين في هذه الأيام بالذات، فقد تقدم لنا في الحجامة أنهم يستحبونها بالنسبة لجزء النهار في الظهر، وبالنسبة لأيام الأسبوع يوم الأربعاء، وبالنسبة لأيام الشهر الخامس والسابع والتاسع عشر، وقالوا: إن الحجامة يوم الخامس والسابع والتاسع عشر أحسن، ويكرهونها في الخمسة الأوائل من الشهر والخمسة الأواخر منه، ويستحبونها من نصفه وما بعد، هكذا يقولون، والأطباء وأهل الطب النبوي والطب العربي يعللون استحباب الحجامة في منتصف الشهر فما بعد ويقولون: حينما يكتمل ضوء القمر يكون في الدم هيجان، فإذا جاءت الحجامة أخذت هيجان الدم هذا، وبعض المتأخرين يقولون: إن عملية المد والجزر في البحار مرتبطة باكتمال ضوء القمر، ويقولون: إن جسم الإنسان -كالبحر- مليء بالدم فإذا اكتمل ضوء القمر هاج الدم كما يهيج البحر بالمد والجزر، فيقولون: جاءت السنة بحكمة وهي: أن الصوم من طبيعته أن يكسر حدة الشهوة، وأن يخفف من حركة الدم في الجسم، فإذا ما صام تلك الأيام التي فيها هيجان الدم نقص الغذاء على الدم، وإذا نقص الغذاء على الدم خفت حدته ولم يكن فيه إثارة على الإنسان كما لو اكتمل طعامه وشرابه في تلك الأيام، والله تعالى أعلم.(154/5)
حكم صيام المرأة تطوعاً مع وجود زوجها
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه) ، متفق عليه واللفظ للبخاري زاد أبو داود (غير رمضان) .
لا يحل لامرأة مؤمنة ملتزمة بالكتاب والسنة وملتزمة بحق الزوج عليها أن تصوم وزوجها حاضر إلا بإذنه إلا رمضان، وصوم المرأة هو كصوم الرجل، فعندها رمضان وعندها عدة من أيام أخر، وعندها كفارة، وعندها نوافل الصوم، مثل صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وعاشوراء، والإثنين والخميس، فإذا كان صوم المرأة فرضاً معيناً فليس للزوج منعها، مثاله: نذرت أن تصوم يوم مجيء ولدها من السفر، فجاء فصامت؛ لأنها تعين عليها الصوم يوم مجيئه، كأن جاء بالليل وبيتت الصوم وأصبحت صائمة، فبمجيء ولدها أصبحت ملزمة بالنذر وهو فرض عليها لا يحق للزوج أن يمنعها؛ لأنه فرض محدد بزمن، ولو منعها فسيفوت النذر عليها، أما ما عدا ذلك، كقضاء رمضان فليس محدداً بزمن؛ لأن هناك عدة من أيام أخر، وها هي أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها كانت يكون عليها قضاء من رمضان، وتأجله إلى أن يأتي شعبان حينما يكثر صوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا قالت: لمكانة رسول الله مني؛ لأن الرسول له دورة على زوجاته، فإذا جاء دورها وجدها غير صائمة.
وكذلك رمضان لا يحق له منعها؛ لأن وقته مجدود، وهو حق لله فرضه عليها وعليه، فلا يحق له أن يمنعها؛ لأن أذنها بيدها وأمرها من عند الله، إذاً: لا يحق لامرأة أن تصوم غير رمضان، وغير ما يساوي رمضان من النذر المعين إلا بإذن زوجها، وأما غير ذلك فالأولى أن يسمح لها؛ لأن الله تعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] ، ولا ينبغي أن يضيق عليها ويمنعها.
ومن هنا ينبغي أن نعلم بناتنا وزوجاتنا حق الزوج على زوجته، فهذا الصوم وهو عبادة لله، ومن أعظم القربات عند الله، ومع هذا يمنعها الشرع أن تصوم إلا بإذن زوجها، يا سبحان الله! يشترط إذن الزوج على عبادة الله! نعم، لعظم حقه؛ لأن حق الزوج على زوجته ليس بالأمر الهين، وخاصة فيما يتعلق بالزوجين مع بعضهما؛ لأنه لا عوض عنها، ولا بديل منها، فهي أحق الناس بالوفاء بحقه.
ولذا جعل المولى سبحانه القوامة في البيت للرجال قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا} [النساء:34] ، بالفضل الذاتي للرجولة على النسوة، وبما أنفقوا، ولهذا جاءت النصوص عديدة في هذا الباب ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (لو أن امرأة طلبها زوجها ولو كانت على ظهر قتب، فامتنعت إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها) وقوله صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة باتت وزوجها ساخط عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح) .
فالرسول صلى الله عليه وسلم عظَّم حق الزوج على الزوجة، ومن ذلك ما جاء في الحديث العظيم: (لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحدٍ لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) ليس سجود عبادة وإنما سجود تحية، وكذلك الزوجة لها حق على زوجها، وعليه أن يوفيها حقها، بل ينبغي أن يوفي الزوج الحق الذي عليه أولاً، ثم يطالب بحقه ثانياً.
إذاً: الحياة الزوجية عشرة ومعاشرة، وازدواج وتبادل منافع، قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228] ، وقال سبحانه: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187] ، فلابد من المعادلة في هذه المسألة، ولكن يعظم حق الزوج على المرأة فيما يكون له من حق الإذن أو الرفض في عبادة لله سبحانه.(154/6)
حكم صيام يوم الفطر ويوم النحر
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين: يوم الفطر ويوم النحر) .
متفق عليه] .
نحن نعلم جميعاً أن أيام السنة إنما هي دورة فلكية للشمس سبتها وأحدها وخميسها وجمعتها؛ كلها دورة من شروق الشمس إلى غروبها، ولكن الله سبحانه وتعالى قد يفضل بعض هذه الأيام على بعض لما تشهده من الأحداث، وقد فضل شهر رمضان على بقية الشهور وهو أيضاً دورة زمنية وإن كان في جملته دورة قمرية فأيامه دورة شمسية، ففضله على غيره من الشهور لما شرفه به من إنزال القرآن الكريم فيه، بل أنزل فيه جميع الكتب السماوية، وكذلك شرف وفضل من أيام الأسبوع يوم الجمعة، ومن أيام السنة الفردية يوم عرفات، بل فضل من يوم الجمعة الذي هو فضيل ساعة من الساعات فيه، وفضل ليلة من شهر رمضان المبارك على غيرها، وجعلها خيراً من ألف شهر، كل ذلك لما تشهده تلك الأيام والليالي من الأحداث.
ويوما العيد في الإسلام كرمهما الله وشرفهما وجعلهما يومي مكرمة لعباده، ولكأنهم في هذين اليومين في ضيافة المولى سبحانه وتعالى، وما ذلك إلا لوفاء المسلمين بما عهد الله إليهم، وقيامهم به خير قيام، فكان هذا جزاءً لحسن عملهم وإكراماً لطاعتهم ربهم، ويوما العيدين هما: يوم الفطر ويوم الأضحى، أما يوم الفطر فكما نعلم جميعاً أنه يأتي على رأس تمام صيام شهر كامل، فالأمة تصوم شهر رمضان، وتراقب ربها فيه، وكما في الحديث القدسي: (إلا الصوم فإنه لي) ، وهذا جاء في بيان اختصاص الصوم بالمولى سبحانه مع أن كل الأعمال لله، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] ، ولكن خصوص الصوم يقول عنه المولى في الحديث القدسي: (يدع طعامه وشرابه من أجلي) ، فيكون في الخلوة بعيداً عن الناس، وأمامه شهي الطعام وبارد الشراب، وهو جائع وعطشان، لا يرده في خلوته من الفطر إلا مراقبة الله سبحانه، ومن هنا كان الصوم يعود ويورث التقوى؛ لأن التقوى هي اتخاذ الوقاية مما يغضب الله سبحانه وتعالى، فدوام هذه المشاهد يجعل عند الإنسان قوة مراقبة، ويقرب من المولى سبحانه وتعالى أكثر وأكثر، ويزيل الحجب والحواجز التي تبعده عن الله سبحانه وتعالى، فكأن المولى سبحانه يقول لعباده: أمرتكم فامتثلتم، وكلفتكم فأطعتم، وها أنتم أتممتم صيام الشهر، فهلموا إلى ضيافتي، ومن هنا نهى صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الفطر؛ لأن من صام يوم الفطر كأنه يقول: يا رب! أنت جعلت هذا اليوم مأدبة لعبادك وأنا في غنىً عنها، وإذا استغنى عن مأدبة المولى فإن هذا تكبر، وهذا تعالٍ على الرب سبحانه وتعالى، ولذا لا يقبل الله صوم هذا اليوم.
وكذلك عيد الأضحى نادى الله في الناس بالحج فجاءوا من كل فج عميق، وأدوا مناسكهم، وأدوا طاعة الله في تلك المواقف الكريمة، ثم أفاضوا من عرفات والحج عرفة، وهو ذاك المشهد الكبير الذي يتجلى المولى سبحانه فيه لأهل الموقف -كما أشرنا سابقاً- فيباهي بهم الملائكة ويقول: ماذا يريد العباد، ولماذا جاءوا إليّ؟ فيقول الملائكة: ربنا! إنك تعلم أنهم جاءوا إليك يرجون رحمتك ويخشون عذابك، فيقول متفضلاً: (أشهدكم أني قد غفرت لهم) ، وقد أشرنا مراراً إلى الحكمة في سؤال المولى للملائكة في ذلك اليوم، وكما يقول البلاغيون: ليس المراد مقتضى السؤال، ولكن المراد لازم الفائدة؛ لأن السؤال قد يراد منه فائدة الخبر، كإخبار السائل عن مجهول بتعيينه، فإذا قلت: هل جاء زيد؟ وأنت لا تعلم، فيكون الجواب: نعم جاء، وقد يكون السؤال عن لازم الخبر وليس عن الخبر، كأن يكون السائل عارفاً أن زيداً جاء، لكن المسئول مدين للسائل، ووفاء الدين يحل عند مجيء زيد، فهو يريد بسؤاله عن مجيء زيد وعدم مجيئه لازم الفائدة، ولازمها هنا أن موعد الدين قد حل؛ لأن موعد قضاء الدين مشروط بمجيء زيد وقد جاء، فالله سبحانه وتعالى في هذا السؤال لا يريد فائدة الخبر؛ لأنه يعلم بحالهم.
ويقولون: أنه كان في الأرض عوالم قبل آدم وقبل الإنس وهم الحن والبِن والجن وأمم وقد وقع بينها قتال، وإبليس كان من جند الله أولاً، فالمولى سبحانه وتعالى لما أراد أن يخلق آدم قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا} [البقرة:30] أي: مستفسرين لا معترضين: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30] أي: مثل الذين رأيناهم من أول؟ {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30] فإذا أردت أن تجعل فيها خليفة للذكر والتسبيح فنحن نسبح، {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] وأظهر الله سبحانه وتعالى شرف هذا المخلوق الجديد، إذ علمه الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال: أنبئوني؟ قالوا: سبحانك، فقال: يا آدم! أنبئهم، فكان هناك عرض على الملائكة بجعل خلافة في الأرض، والملائكة تخوفت لما شاهدت من قبل، وأشفقت على هذا المخلوق الجديد أن يفسد فيها ويسفك الدماء، فطمأنهم الله وقال: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] .
فجاء آدم وهبط إلى الأرض وتكاثرت ذريته، وعمرت الأرض، وجاء بنو آدم إلى عرفة شعثاً غبراً، وهنا كأن المولى يريد بهذا السؤال لازم الفائدة أي: أنتم كنتم تظنون أنهم سيفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، فها هم جاءوا شعثاً غبراً مجردين، تركوا أوطانهم وأولادهم وأموالهم وتحملوا في سبيل تلك الرحلة المشاق، ماذا يريدون؟ هل يريدون الإفساد في الأرض، أو يريدون سفك الدماء؟ فهذا التساؤل كأنه تنبيه للملائكة على ما كانوا تساءلوا عنه سابقاً ثم قال: (أشهدكم -والله خير الشاهدين- أني قد غفرت لهم، أفيضوا مغفوراً لكم) ، وهذه أعظم نعمة على الإنسان، فلقد كان طيلة حياته أسيراً للشيطان يحتنكه، وقد أحاط حبلاً في حنكه يقوده كيف شاء، ليثقله ويحمله ويكبله بكل الذنوب، وهاهو قد أصبح طليقاً خفيفاً، قد خرج من كل ذنوبه، وتخفف من كل أثقاله وقيوده، فيأتي إلى منى وإلى الجمرات ويعلن الحرب على الشيطان: بسم الله الله أكبر، رجماً للشيطان وإرضاءً للرحمان، وقبل هذا لم يكن يقدر، لأنه واقع في الأسر، أما الآن وقد تحرر وطلقت قيوده، ووضعت عنه أثقاله فقد أصبح نشيطاً يعلن الحرب على عدوه، فأي نعمة أعظم من هذه، فيصبحون يوم العيد في ضيافة الله، بل إن الضيافة في عيد الأضحى تمتد إلى ثلاثة أيام وهي أيام منى، فهي أيام أكل وشرب وتبعل، فإذا جاء إنسان وقال: أنا أريد أن أصوم في هذا العيد، فنقول له: أنت مدعو من عند المولى سبحانه فأجب دعوة المولى سبحانه، فلو أن وزيراً من الوزراء جاءته دعوة من الملك فإنه يشرف بهذه الدعوة، فإذا كان شخصاً عادياً جاءته دعوة خاصة ببطاقة وفيها اسمه بتوقيع الملك، فكم سيكون فرحه بهذه الدعوة، وكم سيكون شرفه بهذه البطاقة، بل إنه سيحتفظ بها، وسيعرضها على الناس كل يوم، سبحان الله! فمن المجنون الذي يعرض عن مائدة الله، ومن هنا نهى صلى الله عليه وسلم عن صوم يومي العيد، وقد اتفق العلماء بجميع مذاهبهم على تحريم صوم يومي العيدين، حتى قالوا: لو أن إنساناً نذر صوم يوم العيد فنذره لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يعينه فنذره باطل، وإما أن يعين النذر بعمل، كأن يقول: يوم يجيء فلان من غيبته سأصبح صائماً، فجاء فلان هذا يوم تسعة من ذي الحجة، فإذا جاء يوم تسعة من ذي الحجة فسيصبح يوم العيد صائماً، وهو لم يعين يوم العيد، وإنما عين وصفاً فصادف وفاء النذر في يوم العيد، فقالوا: أيضاً لا ينعقد الصوم ولا يصح، فسواء عين يوم العيد باسمه، أو علقه على وصف فتحقق في يومه فلا يصح الصوم فيه، وهذا مذهب الجمهور، وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه إذا عقد النذر وصادف يوم العيد، قال: انعقد نذره وحرم تنفيذه ويصوم يوماً آخر مكانه؛ لأن النذر لازم، ويوم العيد ممنوع صومه، فنأخذه باللازم وننقله إلى يومٍ آخر، وهذا فقه المسألة في صوم يومي العيدين.(154/7)
المقارنة بين عيدي الإسلام وبقية الأعياد
وبهذه المناسبة يا إخوان! في ذكر يومي العيدين، جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قدم المدينة وجد عند الأوس والخزرج أعياداً يحتفلون بها، وهذه عادة الأمم أنهم يجعلون أيام الخير أو المناسبات أعياداً، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: (لقد أبدلكم الله بهذه الأعياد يومين خيراً منها: يوم الفطر، ويوم الأضحى) ، وأبطل بقية الأعياد، وإن سميت اجتماعية أو شعبية أو غير ذلك، ولو تأملنا أيها الإخوة! في جميع مسميات أعياد العالم عند جميع الأمم لوجدناها تخيلاً وليست حقيقية، وسنجدها أعياداً في الذاكرة وليس في الواقع، بخلاف عيدي الإسلام، ومن هذه الأعياد التي يختلفون بها: عيد رأس السنة، وعيد الجلاء، وعيد الاستقلال، وهذه أعياد عند أهلها؛ لأنهم نالوا فيها الحرية من سلطة المستعمر، ونالوا خلاء بلادهم ممن كان جاثماً عليها، ولأمور أخرى سواء كانت دينية أو كانت دنيوية، ونقول: إن هذا الحدث الذي وقع عند الأمم لا يتكرر، ولم يقع إلا مرة واحدة يوم أن حدث، فمثلاً: عيد الاستقلال، الدولة التي نالت استقلالها نالته مرة واحدة، فيوم أن استقلوا احتفلوا به وصار ذلك اليوم عيداً عندهم، وموعده من السنة الآتية عيد الاستقلال مع أنه قد ذهب وانتهى، إذاً: فهو عيد للذكرى الماضية، وهكذا جميع الأعياد، أما في الإسلام فعيد الفطر يتكرر؛ لأنّا في كل سنة نصوم ونفطر، كل سنة نصوم ونعيّد، فعيد الفطر على هذا واقع فعلي وليس مجرد ذكرى وخيال، وكذلك عيد الأضحى، ففي كل سنة من الأمة من يحجون ويفيضون من عرفات مغفوراً لهم، فيكرمهم الله بعيد الأضحى.
إذاً: لم يأتِ عيد الفطر ولا عيد أضحى خيالاً أبداً، إنما هو واقع، فعيد المسلمين عملي، يصومون ويعيدون، ويحجون ويعيدون، أما بقية أعياد العالم كله، لا تتكرر على حقيقتها، ولكن على ذكرياتها، مناسبة العيد أنه هو اليوم السعيد الذي عاد على الأمة بخير جديد.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم أبطل أعياداً متعددة متكررة لأنها باطلة وقد انتهى مفعولها، وأصبحت على الذاكرة والخيال، وأبقى عيدي الإسلام لأنها عملية، يأتي موجبهما في كل سنة فتتجدد النعمة بمجيئهما، إذاً: من الناحية التشريعية إبطال الرسول صلى الله عليه وسلم لتلك الأعياد التي كانت عندهم أمر واقعي، والنهي عن صوم يومي العيدين أيضاً كذلك أمر واقعي وعملي، ولا ينبغي لعبد أن يعرض عن ضيافة المولى وإكرامه لعباده في هذين اليومين.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(154/8)
كتاب الصيام - باب صوم التطوع وما نهي عنه [3]
دين الإسلام وسط بين الغلو والجفاء وبين الإفراط والتفريط، فهو ألزم المسلم بحقوق لله جل وعلا، وحقوق لنفسه ولأهله، فأمره بعبادات وحرم عليه الغلو فيها حتى لا يؤدي به ذلك الغلو إلى التقصير في أمور أخرى في حقه وفي حق من يعول، ومن أمثلة ذلك أن الشرع أمر بالصيام وندب إليه، ولكنه حرم المبالغة فيه؛ فحرم صيام الدهر، وحرم صوم العيدين، بل وأباح الفطر في الصوم الواجب إذا كان فيه مشقة كمشقة السفر والمرض والعجز.(155/1)
حكم صيام أيام التشريق
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن نبيشة الهذلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيام التشريق أيام أكل وشرب، وذكر الله عز وجل) رواه مسلم] .(155/2)
سبب تسمية أيام التشريق بهذا الاسم
(أيام التشريق) التشريق: تفعيل من الشروق، من قولك: أشرقت الشمس، وسميت أيام التشريق تشريقاً؛ لأنهم كانوا في الإسلام وقبل الإسلام، تكثر لحوم الأضاحي والهدايا عن حاجتهم في يومهم، فيدخرون لحومها، فكانوا يشرحونها شرائح رقيقة وينشرونها على الصخور، أو على الحبال، حتى تتعرض إلى أشعة الشمس فتذهب عنها الرطوبة التي هي سببٌ في إفسادها، فيبقى اللحم على أليافه وخلاياه -كما يقال- وتركيبه الطبيعي، واللحم إذا تخلص من رطوبته يبقى لفترات طويلة، ويسمى (القديد) وكانت العرب تأكل ذلك، فكانوا يتزودون ويدخرون لحوم الأضاحي والهدي الزائد عن حاجتهم، سواء في ذلك من كان غنياً أو فقيراً، وسواءً مما زاد عنده مما ذبحه أو مما وجده زائداً عند غيره ومن هنا كانت تسمى أيام التشريق.
وبعضهم يقول: سميت أيام التشريق؛ لأنهم كانوا ينتظرون بالذبح حتى تشرق الشمس، أي: لا يذبحون في الليل وإنما بعدما تطلع الشمس ويطلع النهار.
ولكن التسمية الأولى هي الصحيحة العملية.
كم هي أيام التشريق؟ الجواب: بعضهم يقول: هي يومان لقوله سبحانه: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:203] .
والآخرون يقولون: هي ثلاثة أيام، وهذا هو المشهور، وعلى هذا فإن أيام التشريق ثلاثة.(155/3)
سبب النهي عن صيام أيام التشريق
نهى صلى الله عليه وسلم عن صيام أيام التشريق، وسيأتي بيان الاستثناء في حالات خاصة.
وقد بين علة النهي فقال: (أيام التشريق -أيام منى- أيام أكل وشرب وتبعل) ، لاحظوا يا إخوان هذا التنبيه! متى بدأ المحرم إحرامه؟ أقل ما يكون أنه قبل أسبوع، أو عشرة أيام؛ وقد جاء أن عمر رضي الله تعالى عنه قال لأهل مكة: (يا أهل مكة! ما لي أرى الآفاقيين يأتون شعثاً غبراً) أي: مسافرين من بعيد، جائين من الشرق والغرب، رجالاً وعلى كل ضامر، (وأنتم في بيوتكم إلى أن يأتي اليوم الثامن وتحرمون) يعني: أنكم لم تشاركوا الحجاج في وعثاء السفر، ولم تشاركوهم في تفث الإحرام، فأنت أيها المكي! تخرج من بيتك ومن حمامك إلى منى، وغيرك يأتي وله شهر أو أقل أو أكثر، وهو يحل ويرتحل في إحرامه، وقد وجد العناء ووجد وعثاء السفر والتفث، وهو تعبان في هذه المدة كلها، (أحرموا إذا هلّ هلال ذي الحجة) يعني: جعل عليهم بعض صعوبة الإحرام حتى يشاركوا الناس في بعض مشاق الحج.
فإذا كان أقل مدة سيحرم فيها الحاج هي عشرة أيام، وهناك من له في الإحرام شهر كامل، فمتوسط مدة الإحرام عشرون يوماً، فإذا كان إنسان معه زوجته، في سيارة واحدة، على هودج واحد، يحل ويرتحل وهي أمامه، وهو لا يقربها، فإذا ما أدى النسك، فلا نضيق عليه أيام منى كذلك، وإنما نقول له: قد انتهى المحظور وحلت لك زوجتك.
وقوله: (أيام أكل وشرب) هل معنى هذا أن الأيام الماضية ليس فيها أكل وشرب؟ الجواب: لا، ولكن زاد المسافر ليس كزاد المقيم، فالمسافر يجتزئ بالذي يحصل، فإذا كان في منى ليس عنده شيء، وقد ذبح الهدي، وذبح الأضحية فما بقي إلا أن يأكل.
فإذا أكل وشبع وزوجته عنده وله عنها مدة عشرين يوماً في متوسط الزمان، فهو في حاجة إليها أكثر، ولهذا قال: (أيام أكل وشرب وتبعلٍ) ، تبعل: من البعل، والبعل هو الزوج، ويقال: هذا البطيخ بعلي، وتسمعون من أصحاب الحبحب قولهم: هذا حبحب بعلي، يعني: أنه وضع الحب وجاء المطر مرة واحدة وشبعت الأرض بالماء فتبعلت البذرة ونبتت واجتزأت برطوبة الأرض إلى أن أثمرت، إذاً: كذلك الرجل يبعل.
ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم عن صيام أيام التشريق، وهي من الأيام التي نهي عن الصيام فيها كل عام.
وأما يوم الشك فليس معيناً بذاته في كل سنة، فممكن أن تكون هناك شك وممكن أن لا يكون، وأما يوم عرفة فالذي هو قاعد في بيته يصوم وإنما منع صيام يوم عرفة بعرفة.
إذاً: الأيام الممنوع صومها في الحالات العادية يوما العيد ولا عذر لأحد في صومها ولا استثناء فيها مطلقاً، وأما أيام التشريق فسيأتي الاستثناء فيها، وعلى هذا تكون الأيام المنهي عن الصوم فيها طيلة العام بصفة رسمية، وبتشريع عمومي هي خمسة أيام: يوما العيدين، وأيام التشريق.
والله تعالى أعلم.(155/4)
الرخصة في صيام أيام التشريق للحاج الذي لم يسق الهدي
قال المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة وابن عمر رضي الله عنهم قالا: (لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي) ، رواه البخاري.
] .
لما قدم المؤلف رحمه الله أن الأصل هو المنع من الصوم في أيام التشريق، جاء بالحديث الذي فيه استثناء، والاستثناء يكون حادث بعد المستثنى منه، تقول أم المؤمنين عائشة وابن عمر رضي الله عنهم: (لم يرخص) والرخصة مأخوذة من الرخص وهو اللين كما يقولون: السعر الرخيص فالرخص هو: اللين كما قال الشاعر: ومخضب رخص البنان كأن أطرافه علم (ومخضب) أي: كف مخضوب بالحناء، (علم) والعلم هو: نوع من النبات لين يلف بعضه على بعض، يقول: كأن أصابعها نبات العلم لينة ليس فيها عظام، وهذا أجمل ما يكون في وصف الأطراف، فهنا الرخصة هي: اللين بعد الشدة، كما قال سبحانه وتعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائةٌ يَغْلِبُوا مِائتَيْن} [الأنفال:66] ، كان في البدء الواحد يغالب عشرة، ولما علم الله أن فيهم ضعفاً خفف عنهم وجعل الواحد يغالب اثنين، ومغالبة الاثنين أهون من مغالبة العشرة، وقال سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ.
} [المائدة:3] الآية، ثم قال: {فَمَنِ اضْطُرَّ} [المائدة:3] ، التحريم هو بالمنع وقد يجد الإنسان الشدة ويصل إلى حد الموت، والميتة عنده، والعزيمة والشدة تمنعه من أكلها، لكن جاءت الرخصة وخففت عليه، فإذا اضطر إليها فيأخذ منها ما يسد الرمق، فجاء اللين بعد الشدة.
إذاً: الرخصة هي: الإباحة بعد المنع مع قيام دليل المنع، فلما أباح الميتة للمضطر، لم يرفع حكم التحريم عن الميتة، لكن هذا لظروفه الخاصة خفف عنه، وأبيح له المحرم مع قيام تحريمه فعلاً، فلا نقول: إنها أصبحت حلالاً له وقد انتفى عنها حكم التحريم، بل هي محرمة، ولكن لظروفه ولاضطراره رخص الله له فيها.
إذاً: فإذا رخص الله في صوم أيام التشريق فمعنى هذا أن الأصل فيها عدم الرخصة، وعدم الصيام.
فلمن تكون الرخصة في صوم أيام التشريق؟ الجواب: تكون رخصة لمن لم يجد الهدي؛ لأن الله تعالى يقول: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة:196] .
هنا يقولون: (ثلاثة أيام) جاءت بقيد (في الحج) ، وأشهر الحج هي شوال وذو القعدة، يقول البعض: وعشرة أيام من ذي الحجة، وبعضهم يقول: وخمسة عشر من ذي الحجة، ويقول آخرون: وذو الحجة كله، لكن هذا بحسب الأعمال التي يمكن أن تقع في ذي الحجة، فهم يتفقون على أن أعمال الحج ما عدا طواف الإفاضة، يجب أن تنتهي عند أيام التشريق، فإذا تأخر إنسان في رمي الجمار حتى خرجت أيام التشريق فلا قضاء، فلو ترك رمي الجمار الثلاث في اليوم الأول الأولى والوسطى والعقبة، وترك الجمار في يوم الحادي عشر من ذي الحجة الصغرى والوسطى والكبرى، وترك أيضاً رمي الجمار الثلاث الصغرى والوسطى والكبرى في الثاني عشر، وجاء يوم الثالث عشر وهو آخر أيام التشريق وقضى كل ما كان قد تركه من رمي الجمار، فقد أجزأه ذلك ولا شيء عليه، لكن إذا ترك الكل إلى يوم الرابع عشر فقد خرج يوم الرمي وفات عليه الوقت؛ لأن أيام الحج العملية قد انتهت، ولذا فإن أيام التشريق هي آخر فرصة للحاج أن يكمل حجه فيها، ولذا يقول الفقهاء: إن الشخص الذي يريد أن يتمتع ولا يستطيع أن يأتي بهدي التمتع فلابد عليه من إيقاع صوم الثلاثة الأيام في الحج متلبساً بالحج، وأول خطوة يتلبس فيها للحج هي إحرامه بالحج، فالذي جاء بالعمرة وليس عنده قيمة الهدي ينتظر إلى يوم ثمانية وهو يوم التروية، فيستأنف الإحرام للحج من جديد ثم يذهب إلى منى، ويبيت هناك ومن غد في يوم تسعة يذهب إلى عرفات، يقول الفقهاء: فمادام هذا الحاج يعلم من نفسه أنه لا يملك قيمة الهدي فعليه أن يحرم يوم خمسة، أو يوم ستة من ذي الحجة ويصوم ليوقع الصوم في الحج بإحرامه، فيصوم يوم ستة ويوم سبعة ويوم ثمانية، ثم يأتي إلى عرفات مفطراً، ثم يكون في منى مفطراً، فإذا فوت على نفسه تقديم الإحرام وإيقاع صوم الثلاثة الأيام في حجه لم يبق له إلا أن يتداركها في أيام التشريق؛ لأنها من أيام الحج، فهي الأيام التي تذبح فيها الضحايا، ويذبح فيها الهدي، وترمى فيها الجمار، فيصوم فيها إذا لم يستطع الهدي، وعلى هذا لم يرخص في صوم أيام التشريق إلا لمن لم يجد هدي التمتع، فيصوم الثلاثة الأيام الواجبة عليه في الحج فيها، ويصوم السبعة إذا رجع إلى بلده.
إذاً: الأصل منع الصوم في هذه الأيام ولكن رخص به تخفيفاً على الحاج، وتداركاً لأمره.
والأصل في أيام منى هو الأكل والشرب، ولم يرخص في صومها إلا لحاجة وضرورة لمن لم يجد الهدي، ونجد للعلماء رحمهم الله مباحث فقهية تفريعية في هذا الباب يقولون: الحديث جاء في هدي التمتع، فلو أن إنساناً عليه دم غير التمتع كأن يكون قارناً، وكثير من العلماء يقول: القران تمتع، أو كان عليه دم آخر كأن كان محصراً ولزمه دم، فهل يصوم هنا في أيام التشريق، بعضهم يقول: لا؛ لأن هذه الرخصة خاصة بدم التمتع، وإذا كان حلق رأسه ولزمته فدية، فهل يصوم عنها هنا؟ قالوا أيضاً: لا، وكثير من العلماء يقول: يجزئه أن يصوم في أيام التشريق للتمتع أو للقران أو للإحصار، والله سبحانه وتعالى أعلم.(155/5)
حكم صيام يوم الجمعة
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صومٍ يصومه أحدكم) ، رواه مسلم] هذه الأحاديث الآتية هي نهاية ما ذكره المؤلف في كتاب الصيام، في باب صوم التطوع وما نهي عن صيامه، وقد ذكر لنا ما يستحب صومه وهي ستة أيام من شوال مع رمضان، وعرفة وعاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر، والإثنين والخميس، وذكر لنا مما لا يصح صومه يوم العيدين، وأيام الشريق، إلا لمن لم يجد هدياً في التمتع، ثم جاء إلى يوم الجمعة، فجاء فيه بالنهي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
منطوق هذا الحديث هو النهي عن أن يخصص الإنسان ليلة الجمعة بقيام، أو بتلاوة، أي: بإحيائها بعبادة دون سائر ليالي الأسبوع، وكذلك النهي عن تخصيص صوم يوم الجمعة وحده بصيام دون بقية أيام الأسبوع، إلا إذا صادف يوم الجمعة يوم صوم أحدكم، مثلاً: إنسان متعود أن يصوم كل أول يوم في الشهر، أو كل أحد عشر في الشهر، أو كل واحد وعشرين في الشهر، كما كان يرى مالك رحمه الله: أن صوم ثلاثة أيام من كل شهر يكون على قسمين: قسم يوزع على عشرات أيام الشهر من كل عشرة أيام يصوم يوماً، والقسم الثاني: أن يصوم ثلاثة أيام في هذا الشهر من أول الأسبوع ويصوم ثلاثة أيام في الشهر الثاني من آخر الأسبوع، يعني: في الشهر الأول يصوم السبت والأحد والاثنين، وفي الشهر الذي يليه يصوم الثلاثاء والأربعاء والخميس ويقول: لا يهجر شيئاً من الأيام عن الصوم، فإذا كان يصوم يوم واحد ويوم أحد عشر، ويوم واحد وعشرين، وهذه أيام منفردة فهو متعود أن يصوم هذه الأيام الثلاثة على انفراد، فصادف في بعض الأشهر أن يوم واحد هو يوم جمعة، أو يوم أحد عشر، أو يوم واحد وعشرين أنه يوم جمعة، فحينئذٍ لا بأس أن يصومه ولو كان منفرداً؛ لأنه ما صامه لكونه يوم الجمعة، وإنما صامه للوعد الذي قطعه على نفسه والعمل الذي داوم عليه، هذا منطوق هذا الحديث، وسبق أن أشرنا إلى أن مالكاً رحمه الله يقول: إنه لا بأس بصوم يوم الجمعة، ويقول: ولقد رأيت أهل العلم ببلدنا يتحرون صيامه، فقول مالك يدل على استحباب صوم يوم الجمعة مفرداً، وهذا الحديث يدل على النهي عن صومه مفرداً، وسيأتي هنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم (نهى عن صوم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوماً قبله، أو يوماً بعده) يعني: حتى لا تحصل الخصوصية.
والمسألة فيها بحث كما يقولون، قال ابن عبد البر رحمه الله في الاستذكار: وقد اختلفت الآثار الواردة في إفراد صوم يوم الجمعة، وساق النصوص التي جاءت بالحث على صومه وإباحة صومه وحده، قال: وروى أبو سعيد رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وما رأيته يوم الجمعة قط إلا صائماً) ، وكذلك روى عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما رأيت رسول الله يوم الجمعة إلا صائماً) ، وذكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يديم صوم يوم الجمعة، وذكر عن ابن عمر مثل ذلك، ثم جاء بالنصوص الأخرى التي فيها أنه لا يفرد صوم يوم الجمعة، وإنما يصام معه يوم قبله أو يوم بعده، من ذلك: أن امرأة دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يفطر، وكان في يوم الجمعة فقال: (هلمي إلى الفطار فقالت: إني صائمة، قال: أصمت بالأمس؟ قالت: لا، قال: أتصومين غداً؟ قالت: لا، قال: فأفطري) .
فهذا تعليم منه صلى الله عليه وسلم في قضية عينية بالذات، وجاء عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه سئل وهو بمكة: هل سمعت رسول الله ينهى عن إفراد يوم الجمعة بصوم؟ قال: إي ورب هذه البنية! أي: الكعبة.
وكذلك جاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (ما أنا نهيت عن صوم يوم الجمعة وإنما نهى عنه محمد صلى الله عليه وسلم) .
فهذه هي النصوص الموجودة من جانب في عدم إفراده، ومن جانب في صحة بل واستحباب إفراده، ويقول ابن عبد البر: إن بعض الآثار التي جاءت بالحث على صوم يومٍ قبله وصوم يومٍ بعده، في أسانيدها مقالات، وأما ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصوم يوم الجمعة، فأجاب المانعون عن حديث أبي سعيد: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة مفطراً قط) ، قالوا: لعله كان يصوم يوماً قبله، أو يصوم يوماً بعده جمعاً بين النصوص، وكذلك الآثار، والذين يجيزون قالوا: هذا تأويل لم يأت في الحديث، ومظنة ليس عليها دليل.
إذاً: المسألة خلافية، والأولى في ذلك ألا يفرد وإن كان مالك رحمه الله ذكر أن أهل العلم في عصره كانوا يتحرون صومه، ويجعلون ذلك لفضيلة هذا اليوم، ولكن المانعون من صوم يوم الجمعة جاءوا بعلة وبسبب منع صوم يوم الجمعة فقالوا: لأنه يضعف الإنسان عن واجبات يوم الجمعة، فيقال لهم: فأنتم تجيزون صومه إذا صام معه غيره، وهذا يكون أشد ضعفاً؛ لأنه سيصوم يومين: يوم الخميس ويوم الجمعة، وسيصير في يوم الجمعة أشد ضعفاً مما قبله، إذاً: هذه علة غير صحيحة، والأولى والأقرب في ذلك -والله تعالى أعلم- أن إفراد يوم الجمعة، فيه -كما يقولون- غلو في اليوم، والدين الإسلامي بعيد عن الغلو في الزمان وفي المكان، إلا ما جاء النص صريحاً فيه، فقد جاء تكريم مكة، وجاء تكريم بعض الأماكن، وجاء تكريم بعض الأزمنة كبعض الساعات والأيام والشهور، كل ذلك جاء بنص من الله أو من رسوله صلى الله عليه وسلم، فالذين قالوا: لا ينبغي إفراده قالوا: حتى لا يغالي بعض الناس فيه فيصبح يوم الجمعة كيوم السبت عند اليهود، لأن اليهود حرموا على أنفسهم العمل يوم السبت، فامتحنهم الله بالحيتان كما قال تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} [الأعراف:163] ، فيوم السبت كانت تأتيهم الحيتان شرعاً على وجه الماء، تتلاعب معهم، وفي غير السبت تختفي لا يرونها، فلم يقدروا أن يصبروا على هذا، فاخذوا الشباك يوم الجمعة، وألقوها في الماء وتركوها، وذهبوا إلى بيوتهم يوم السبت، وقالوا: نحن لا نشتغل، فلما كان يوم الأحد ذهبوا وسحبوا الشباك بما علق بها من حيتان يوم السبت وأكلوها، ولما نهاهم الأحبار قالوا: نحن لا نعمل يوم السبت، بل نحن في البيوت، وما عملنا شيئاً، فكانت هذه فتنة عليهم، فالله سبحانه وتعالى انتقم منهم، وجعل منهم القردة والخنازير.
إذاً: الذين نهوا عن إفراد يوم الجمعة خافوا من الغلو الذي وقع فيه اليهود في يوم السبت، وهذا أقرب ما يمكن أن يعلل به، أما إذا صام يوماً قبله أو يوماً بعده فلم يكن مفرداً، إنما يكون كبقية الأيام صام في هذا اليوم كما صام في غيره، والذين ينهون عن إفراده بالصوم قالوا: لأنه يوم عيد، وقد جاءت الآثار عنه صلى الله عليه وسلم أن يوم الجمعة عيد، والذي يؤيد وجهة النظر الأولى: أن الله سبحانه وتعالى بين لنا: أن الإسلام لا رهبانية فيه، وأنه دين دنيا وآخرة، فهناك اليهود فرطوا في جانب الدين، وأفرطوا في جانب الدنيا، حتى احتالوا على ما حرم الله ليصلوا إليه كقضيتهم في يوم السبت مع الحيتان، بينما النصارى بالعكس، فرطوا في أمر الدنيا وبالغوا وغالوا في أمر الدين حتى تجاوزوا الحد، وكل منهما لم يفلح ولم يستطع أن يواصل السير بدينه إلى النهاية، وكانت من حكمة الله سبحانه أن ينقل الرسالة من أرض النبوات بالشام إلى الجزيرة العربية إلى العرب عن طريق إسماعيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ونشأ الرسول من ذرية إسماعيل، وجاء الإسلام وتلقته الأمة وكان من أمره ما كان، فهنا جاء التشريع الإسلامي مبعداً كل ما يمكن أن يؤدي إلى الغلو في أحد الجانبين، فمنع ما كان غلواً في أمر الدنيا، وما كان غلواً في أمر الدين، وأمر بالاعتدال قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] ، وسطاً في أعمالها، ووسطاً في أفكارها، ووسطاً في دعوتها، وقال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] ، فهذه الأمة الوسط المعتدلة المستقيمة هي بعيدة عن الإفراط والتفريط في الدين وفي الدنيا، وأعظم تطبيق عملي لهذه الوسطية ما جاء في سورة الجمعة، في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة:9] ماذا يكون الحال؟ {فَاسْعَوْا} [الجمعة:9] وليس المراد بالسعي الجري ولكن المراد تأهبوا، وخذوا العدة، وتهيئوا {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] ، ((فاسعوا إلى ذكر الله)) وهذا دين، ((ذروا البيع)) وهذه دنيا، فلكلٍ مكانه ولكلٍ وقته، {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة:9] ، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة:10] فهل قال: اعتكفوا في المساجد، واجلسوا لذكر الله إلى آخر اليوم! وامتنعوا عن العمل؟ الجواب: لا، نحن قبل الصلاة كنا في الأسواق نبيع ونشتري، فلما جاء وقت الدين تركنا الدنيا وذهبنا إلى الصلاة، فإذا قضيت الصلاة وأدينا حق الله قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا} [الجمعة:10] ولم يقل: ارجعوا، أو عودوا إلى أسواقكم، ولكن قال: {فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَ(155/6)
الترخيص في صيام يوم الجمعة إذا صام يوماً قبله أو يوماً بعده
قال المؤلف رحمه الله: [وعنه أيضاً رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوماً قبله، أو يوماً بعده) ، متفق عليه.
] .
هذا أصح النصوص الواردة سنداً فيما يتعلق بصوم يوم الجمعة، وفيه النهي عن صوم يوم الجمعة وفيه استثناء جواز صوم يوم الجمعة إذا صام يوماً قبله، أو صام يوماً بعده، واليوم الذي قبل يوم الجمعة هو يوم الخميس، ويوم الخميس قد جاء النص في صومه بذاته، فقد سئل صلى الله عليه وسلم عن صوم يومي الاثنين والخميس؟ فقال: (أما يوم الاثنين فولدت فيه، وأنزل علي فيه) ولما سئل عن صومه يوم الخميس قال: (هذا يوم تعرض فيه الأعمال على الله، وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم) وأما يوم السبت فقد جاءت فيه الأخبار مختلفة أيضاً، فقد جاء النهي عن صوم يوم السبت في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولو لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب أو عود شجرة فليمضغها) وجاء النص: (أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم السبت والأحد) ، وسيأتي إيراد ذلك وبيانه، إذاً: لما كان السبت قد جاء نهي عن صومه، فإذا ضم إليه الجمعة فقد انتهى النهي.
وجاءه في بعض الروايات: (أن السبت والأحد يوما عيد لليهود والنصارى، وأنا أحب أن أخالفهما فأصومهما) ، وعلى كلٍ يهمنا أن هذا الحديث المتفق عليه فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوماً قبله وهو يوم الخميس أو يوماً بعده وهو يوم السبت، وبهذا ينتهي الإشكال وهذا خير ما يقال في هذه المسألة.(155/7)
حكم الصيام بعد النصف من شعبان
قال المؤلف رحمه الله: [وعنه أيضاً رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) ، رواه الخمسة واستنكره أحمد] .
عوداً على صوم شعبان، تقدم في أول كتاب الصيام، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين) ، وعلمنا أن العلماء بينوا أن السبب في ذلك حتى لا يضاف إلى رمضان ما ليس منه، وأن في ذلك أيضاً تحذيراً مما وقع من الغلو من بني إسرائيل، فقد كان صوم رمضان مفروضاً عليهم، ولكنهم أخذوا بالشدة، فأضافوا لرمضان يوماً في أوله، تأكيداً واحتياطاً، وأضافوا يوماً في آخره تأكيداً واحتياطاً، فصار الصوم اثنين وثلاثين، فلما طال الزمن ظن الجيل الآخر: أن أصل الصوم اثنان وثلاثون فزادوا يوماً في أوله احتياطاً، وزادوا يوماً في آخره احتياطاً، فصار الصوم أربعة وثلاثين، ومضى زمن وجاء الجيل الذي بعدهم، فظن أن أصل الصوم أربعة وثلاثون يوماً، وهكذا خمس مرات، حتى أصبح الصوم أربعين يوماً، ورمضان شهر قمري، فجائهم في فصل الصيف، فعجزوا عن صومه، فاتفقوا على أنهم يزيدون عشرة أيام ويجعلون صومهم خمسين يوماً ويؤخرونه عن الصيف، فغيروا طبيعة الصيام وصاروا يأكلون بعض الشيء ويقولون نحن صائمون، وأخروا شهر رمضان إلى فصل الربيع، فضاعت عليهم فضيلة الشهر بعينه، والمدة المفروضة التي فرضها الله فضاع عليهم الشهر، ثم لما جاء الإسلام ولكي لا تتكرر هذه الغلطة، حفظ الله رمضان، فحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصوم قبل رمضان يوماً أو يومين حتى لا تدخل في صلب رمضان، وحرم صوم يوم الشك كما قال عمار بن ياسر: (من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصا أبا القاسم) ، ومن الذي يجرؤ على عصيان أبي القاسم، فحفظ أول الشهر، ثم جاء إلى آخر رمضان، فحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم صوم يوم العيد.
إذاً: أصبح رمضان محاطاً بسياج التحريم، فلا يقبل زيادة كما لا يقبل نقصاً، وعلى هذا حفظ لنا رمضان أكثر من ألف وأربعمائة سنة بحمد الله، ما زاد ساعة ولا نقص، وهذا بسبب عدم الغلو، وهنا يأتي المؤلف رحمه الله بهذا الحديث فقال: [وعنه أيضاً رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) ، رواه الخمسة واستنكره أحمد] .
قوله: (إذا انتصف شعبان) يعني: أن ما قبل النصف من شعبان لك أن تصومه، ولكن إذا جاء النصف من شعبان فكف عن صوم التطوع، أما صوم القضاء أو النذر، أو الكفارة، أو الصوم الذي هو مطلوب شرعاً فلا بأس؛ لأنك تصومه لطلبه، أما أن تتطوع من نفسك فلا، إذاً: نستطيع أن نقول توفيقاً بين تلك النصوص: أن أول النهي كان (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) ، ثم جاء التضييق أشد (لا تسبقوا رمضان بصوم يوم أو يومين) ويكون في هذا التدرج فنهى عن الصوم بعد منتصف شعبان حتى يمسك الناس قليلاً ويهونوا، ثم حرَّم وأكد التحريم فنهى أن يسبق رمضان بصوم يوم أو يومين؛ لأنه أشد خطراً، وبهذا يسلم لنا رمضان، وهناك من يقول: هل علي شيء إذا كنت أصوم ولا أدخل في رمضان شيئاً من غيره؟ نقول: كل هذه الاجتهادات إذا جاء فيها النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا قول لأحد، أما قضاء الفوائت فكما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (كنت يكون علي القضاء الأيام من رمضان فلا أستطيع صومها إلا في شعبان مراعاة لحق رسول الله مني) ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يكثر الصوم في شعبان، فتنتهز فرصة صومه؛ لأنه إذا كان صائماً وهي صائمة فليس له حاجة، بخلاف ما إذا كان مفطراً وكانت نوبتها فقد تكون له حاجة إليها، وقد تقدم لنا أن المرأة لا تصوم وزوجها حاضر إلا بإذنه، أي: صوم التطوع، إذاً: من كان عليه قضاء من رمضان أو نذر أو كفارة فله أن يصومه إذا انتصف شعبان، أما مجرد التطوع لله فلا، حفظاً لرمضان.(155/8)
حكم صيام يوم السبت ويوم الأحد
قال المؤلف رحمه الله: [وعن الصماء بنت بسر رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب، أو عود شجرة فليمضغها) رواه الخمسة ورجاله ثقات، إلا أنه مضطرب، وقد أنكره مالك وقال أبو داود هو منسوخ] .
هذا الحديث بصرف النظر عن اضطرابه أو نسخه، النهي فيه صريح عن صوم يوم السبت منفرداً؛ لأنه قد تقدم لنا أنه يمكن أن يصومه ردفاً للجمعة، فإذاً: النهي هنا إذا كان منفرداً؛ إلا في صوم المفروض، مثل لو كان على إنسان نذر عشرة أيام، أو كان عليه قضاء، أو كان في رمضان، فإن في رمضان أربعة أسبت.
إذاً: إفراده بالصوم منهي عنه في هذا الحديث، ثم أكد صلى الله عليه وسلم على عدم الصوم، ولو لم يكن عندك شيء فاذهب إلى شجرة العنب أو إلى غيرها وخذ منها لحاءها أي: قشرتها ومصها، مع أن شجرة العنب من أيبس الأشجار لحاءً، وغيرها من الأشجار في قشرتها ماء أكثر من قشرة العنب، ولكن المعنى: أنك تنظر نباتاً فيه ماء فتمصه حتى يصل هذا الماء إلى الحلق فيبطل الصوم، وفي هذا تشديد في النكير على صوم يوم السبت وحده، ولكن هذا الحديث استنكره مالك، واستنكره غيره، وقال غيره: إنه منسوخ بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصوم السبت والأحد، لماذا كان النهي قبل النسخ؟ يقولون: لأنه عيد للنصارى، وإذا صمناه عظمناه، وشاركنا النصارى في تعظيمه، وقد كان صلى الله عليه وسلم دائماً يخالف أهل الكتاب في عباداتهم.
إذاً: كان النهي عن صومه ابتعاداً عن محاكاة ومشابهة أهل الكتاب، وقد تقدم في عاشوراء أنهم كانوا يصومونه في الجاهلية، وكان الرسول يصومه في مكة، ولما هاجر إلى المدينة وجد اليهود يصومونه، فسألهم عن سبب صومهم له فقالوا: لأنه يوم نجى الله فيه موسى من فرعون، فصامه شكراً لله فصمناه، فقال: (نحن أحق بموسى منكم) ، فصام يوم عاشوراء، ولما قيل له: نحن شاركنا اليهود في هذا العمل، قال: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر) ، أي: حتى نغاير صورة صوم اليهود في عاشوراء.
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكثر ما يصوم من الأيام يوم السبت ويوم الأحد وكان يقول: إنهما يوما عيدٍ للمشركين، وأنا أريد أن أخالفهم) ، أخرجه النسائي وصححه ابن خزيمة، وهذا لفظه.
] الذي يهمنا أن النهي عن صوم يوم السبت منفرداً قد نسخ، وأنه يجوز صوم كل من السبت والأحد وجميع أيام الأسبوع، فيجوز صومها منفردة إلا يوم الجمعة للنهي الذي تقدم في الحديث المتفق عليه: (إلا أن يصوم يوماً قبله، أو يوماً بعده) .(155/9)
نهي النبي صلى الله عليه وسلم الحاج عن الصوم بعرفة
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة) ، رواه الخمسة غير الترمذي، وصححه ابن خزيمة والحاكم واستنكره العقيلي] قد تقدم الكلام عن صوم يوم عرفة بصفة عامة، وأنه جاء عنه صلى الله عليه وسلم أن صوم يوم عرفة يكفر سنتين: سنة ماضية وسنة آتية، أو السنة التي هو فيها، وسنة مقبلة، وكان ذلك على الإطلاق، وهنا جاء النهي عن صوم يوم عرفة لمن يكون في عرفة، وبين العلماء أن النهي عن صوم يوم عرفة للمعرف إنما هو مراعاة لظروفه، ورفقاً به؛ لأنه كما قالوا: يبدأ في يوم ثمانية -أي: قبل عرفة بيوم- فيصعد إلى منى، ويروي من الماء في البرك -وهذا كان في السابق- ثم يبيت بمنى ويذهب إلى عرفات، ثم في عرفات أعمال عديدة، فهو يصلي مع الإمام جمعاً وقصراً، ثم يأتي إلى الموقف، ومن بعد الصلاة من الزوال إلى أن تغرب الشمس وهو مشتغل بالدعاء والابتهال إلى الله في هذا اليوم العظيم، فإذا كان هذا هو شأن يوم عرفة، فهل يتأتى لإنسان صائم أن يقوم بواجب هذا اليوم، من الاجتهاد في الدعاء والمسألة والمسكنة بين يدي الله، فضلاً عن أنه إذا غربت الشمس وكان صائماً سينزل حالاً إلى المزدلفة ويبيت، ثم يصلي الصبح، ويذهب إلى المشعر الحرام فيذكر الله كما هداه، وقبل أن تشرق الشمس ينزل إلى منى، وبوادي محسر يسرع قدر رمية حجر، ويأتي إلى منى، ثم يرمي الجمرة، ثم يحلق شعره، وينحر هديه، وبعد الحلق والنحر يذهب إلى مكة ليطوف طواف الإفاضة، ثم يرجع إلى منى ليصلي الظهر، فهذا العمل الدائب لا يتأتى معه أداء مستوفى مع صوم يوم عرفة.
إذاً: كان الأولى أن يكون مفطراً في يوم عرفة ليتقوى بفطره على أداء واجبات هذا اليوم الفذ النادر في حياة المسلم، ثم وجدنا أن من هديه صلى الله عليه وسلم وهو القائل (إن صومه يكفر سنتين) ، أنه جاء إلى عرفات وهو مفطر، فقد جاء أنه قدم إليه قدح من اللبن بعد العصر فرفعه بيده والناس ينظرون فشرب.
إذاً: سيد الخلق وأقوى الناس في ذلك الوقت، كان مفطراً، وقد قال: (خذوا عني مناسككم) ، فكان يفعل الشيء وهو يحب غيره للتشريع والتخفيف على الأمة، لكن نقول: جاء في موطن آخر وقال: (خذوا عني مناسككم) ، والوقوف بعرفات أهم المناسك، كما قال صلى الله عليه وسلم (الحج عرفة) .
إذاً: الأولى للإنسان إذا كان معرفاً في النسك أن يكون مفطراً، ومع هذا وجدنا أن بعض السلف كان يحب صومه، ويتأول ذلك ويقول: النهي عن صومه إنما هو لمن كان يضعف عن أداء الواجب، فإذا كان يجد في نفسه قوة ولا يضيره الصوم، فليجمع بين الحسنيين: الصوم والنسك، ولكن نقول: القوة نسبية والتشريع عام شامل لا يستثني فرداً عن فرد، وسيد الخلق قد أفطر، وهو أقواهم، وقد كانوا في القتال إذا اشتد عليهم القتال وحمي الوطيس يحتمون به صلى الله عليه وسلم، ولما فروا يوم حنين ثبت ووقف وقال: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب وجميع القادة العسكريون حينما تشتد الأزمة يختفون؛ لأنه إذا ذهب القائد ذهبت المعركة، فيستتر ليديرها ويسترجع أنفاسه كما يقال، ولكن النبي صلى الله عليه يعلن عن نفسه! وعلى بغلته: أنا، أنا، سبحان الله! يعلن عن نفسه لمن لا يعرفه، وهذا لا يكون إلا من القوة والشجاعة والثبات وشدة اليقين بنصر الله.
إذاً: نقول: إن الأولى بدون شك لكل مسلم حضر عرفات في نسك أن يكون مفطراً كما فعل صلى الله عليه وسلم.(155/10)
حرمة صيام الدهر
قال المؤلف رحمه الله: [وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا صام من صام الأبد) ، متفق عليه، ولـ مسلم من حديث أبي قتادة بلفظ: (لا صام ولا أفطر) .
] .
يختم المؤلف رحمه الله كتاب الصيام بخاتمة خير إن شاء الله، وختمه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا صام من صام الأبد) .
هل الكلام هنا خبر أم إنشاء؟ الإنشاء يكون دعاء، والخبر يكون إبطال للعمل، فهل هو يخبر أنه لا صام أو يدعو عليه أنه لا يصوم؟ الجواب: كلا الأمرين كما قال بعض السلف: (ويل لمن أخبر عنه صلى الله عليه وسلم أنه لا صيام له، وويل لمن دعا عليه رسول الله ألا صيام له) .
وهنا يفسرون معنى صيام الأبد أو صيام الدهر، بأن الشخص يسرد الصوم ولا يفطر.(155/11)
سبب النهي عن صيام الدهر
قال بعض العلماء: سبب الدعاء عليه أو إلغاء صومه أنه يصوم جميع الأيام بما فيها المنهي عن صومها، كالأعياد، وأيام التشريق، بدون حاجة، فهذا متعد ومخطئ، فلا صيام له، وبعضهم يقول: سبب الدعاء أن الذي يواصل الصوم يضعف أمام الواجبات الأخرى وهي أولى من نوافل الصوم، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في رده على النفر الثلاثة الذين قال قائل منهم: أما أنا فسأصوم ولا أفطر، فخطب الناس وقال: (أما أنا فإني أصوم وأفطر،) ، وقال رداً على الثاني: (أقوم الليل وأنام) ، ورداً على الثالث: (وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) ، وقال للرجل الذي جاءه وسلم عليه فلم يعرفه فقال: (ألم تعرفني؟ أنا الذي جئتك العام الماضي، فقال له: وما لي أرى جسمك نحيلاً) ، أي: أنت كنت شباباً ونشيطاً، فلماذا نحلت؟ (قال: منذ فارقتك العام لم أطعم طعاماً نهاراً قط، قال: وما الذي حملك على تعذيب نفسك) ، أي: أن الله غني عن هذا، والذي نحل جسمه كهذا لا يستطيع أن يقاتل عدواً، ولا يزرع أرضاً، ولا يؤدي صناعة، ولا يؤدي حقوق الزوجة، ولا حقوق الأبوين، ولا حقوق الأولاد، ولا حقوق الجيران، وسلمان الفارسي لما جاء إلى أخيه في الإسلام أبي الدرداء وجد زوجة أبي الدرداء في لباس عادي، فقال: ما هذا يا أم الدرداء! أليس لك زوج؟ قالت: يا سلمان! أخوك أبو الدرداء لم يعد له حاجة في النساء، فنهاره صائم وليله قائم، فجلس حتى جاء أبو الدرداء فبات عنده، فلما تعشوا وناموا، قام أبو الدرداء يصلي فأمسكه سلمان وقال له: نم، فلما كان نصف الليل قام فقال له: نم، فلما كان قبيل الفجر قال له: قم الآن، فقاما فصليا جميعاً، ولما أصبحوا جاء بالفطار فقال له: كل، قال: أنا صائم، فغمس يده في الأكل وقال له: كل، فأكل، ثم قال له سلمان: إن لجسمك عليك حقاً، ولعينك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، ولزورك -أي: الزائر- عليك حقاً، فأعطِ كل ذي حق حقه، فذهب أبو الدرداء واشتكى إلى رسول الله، وطبعاً هذه هي الجهة العليا للشكوى، فقال صلى الله عليه وسلم: (صدق سلمان يا أبا الدرداء! إن لنفسك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه) ، ومثل هذا جاء في قصة كعب بن سور، مع عمر في المرأة التي جاءت تشتكي إلى عمر، فقالت: يا أمير المؤمنين! زوجي ليله قائم، ونهاره صائم، فقال لها عمر: جزاك الله خيراً، مثلك من يثني بالخير، فالمرأة استحت وقامت لتذهب، وكان عنده رجل اسمه كعب بن سور فقال: يا أمير المؤمنين! المرأة جاءت لتشتكي، لا لتمدح، جاءت تشتكي زوجها، فدعاه وقال: هذا الرجل يقول: إنك جئت تشتكي، فقالت: إي والله! يا أمير المؤمنين! جئت اشتكي، أنا امرأة شابة، وهذا رجل يقوم الليل ويصوم النهار وليس له حاجة عندي، فاستدعى الزوج وقال لـ كعب: اقضِ بينهما، فقال: اقض بينهما أنت، فأنت الأمير وأنت القاضي، قال: ما دمت أنك فهمت قضيتهما فأنت تحكم بينهما، وهذا أساس قضائي، لا يمكن لأي قاضٍ في الدنيا أن يحكم حكماً عدلاً إلا إذا فهم القضية، وبعض الخصوم يكون عنده شيطنة، يلبس على القاضي حتى لا يفهم الحقيقة، ويجره إلى بعض الجوانب وبنيات الطريق، حتى يبعده عن جوهر القضية فيضيع، فقال: يا أمير المؤمنين! أنا أرى أن يكون لها ليلة من أربع، ويوم من أربعة، وله ثلاث ليال يقوم فيها، وثلاثة أيام يصوم فيها إذا شاء، وأما اليوم الرابع فلا يصومه ولا يقوم ليلته، فقال له: لماذا قسمت ثلاثاً وواحدة؟ قال: أرى أن الله قد أعطاه حق الزواج بأربع، فلو كان متزوجاً بأربع نسوة، فحصتها واحدة من أربع، فقال عمر: والله! لا أدري مما أعجب من فهمك لقضيتها أم من حكمك فيها! اذهب فأنت قاضي أهل البصرة؛ لأن القضاء فهم.
يهمنا من هذه القصة أنها جاءت تشتكي، وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول.
وكما يقولون: إذا هجر الزوج زوجته أو قصر معها فحصل منها شيء فهو مشترك معها.
وقوله: (إن لبدنك عليك حقاً) ، هنا يقول بعض الناس أيضاً: لا بأس بصوم الدهر لمن استطاعه، وليس عليه تبعات لأحد، كإنسان معزول ومقطوع وليس عنده شيء، وحياته على نفسه، والتمسوا لذلك مفاهيم من بعض الأحاديث، فقالوا: وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر) ، وعلماء البلاغة يقولون: إن الكاف في (كأنما) أداة تشبيه والمشبه والمشبه به يشتركان في وصف واحد، ولكن الوصف يكون أقوى في المشبه به مثل زيد كالأسد أي: في الشجاعة، والشجاعة في الأسد أكثر منها في زيد.
فقالوا: إذاً: ما دام صوم رمضان وستة أيام من شوال مشبه بصوم الدهر فصوم الدهر جائز، لكن هذه تلفيقه؛ لأن هذا صوم مع صوم رمضان، وقد أفطر، ولما جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد نحل من الصيام قال له: (عليك بالأشهر الحرم صم منها وأفطر، ثم قال: صم ثلاثة أيام من كل شهر، قال: أطيق أكثر، قال: صم الإثنين والخميس مع الثلاثة، قال: أطيق أكثر، قال: صم يوماً وأفطر يوماً، قال: أطيق أكثر، قال: خير الصيام صيام أخي داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً) ، أما اليوم الذي يصوم فيه فيتذكر المساكين، وأما اليوم الذي يفطر فيه فيشكر نعمة الله عليه، فقوله صلى الله عليه وسلم: (خير) وخير من أفعل التفضيل وأصلها أخير، ولكن حذفوا الهمزة لكثرة استعمالها، (خير الصيام صيام أخي داود) ، وصيام نبي الله داود هو أنه كان يصوم يوماً ويفطر يوماً.
إذاً: صيام يوم وفطر يوم أفضل من صوم الدهر، أما تشبيه صيام رمضان وست من شوال بصيام الدهر فهذا للمبالغة ولبيان عظيم أجر هذه الصورة في الصوم، وليس معناها تقرير صوم الدهر، وإذا جاء المفهوم وجاء المنطوق يقدم المنطوق؛ لأنه نص في الموضوع، فلما نهى صلى الله عليه وسلم عن صيام الدهر كان النهي مقدماً على ما يفهم من عملية التشبيه ووجه الشبه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.(155/12)
كتاب الصيام - باب الاعتكاف وقيام رمضان [1]
فضل الله عز وجل بعض مخلوقاته على بعض، ففضل بعض الأنبياء على بعض، وفضل بعض الأماكن على بعض، وفضل بعض الأزمان على بعض، ومن تفضيل الأزمان تفضيل بعض الشهور على غيرها، وتفضيل بعض الأيام على غيرها وكذلك بعض الليالي، ومن الأزمان التي فضلها الله عز وجل شهر رمضان، فجعل صيامه واجباً على المسلمين، وأنزل فيه القرآن، وفيه العشر الأواخر وهي من الأيام والليالي المفضلة، وفيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، فمن وفقه الله لقيامها إيماناً واحتساباً نال بذلك الأجر العظيم والثواب الجزيل.(156/1)
فضل قيام رمضان
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) متفق عليه] .
قال صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً) هذا جزء من حديث طويل وفيه: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) ، فأما ما يتعلق بالصيام فقد تقدم، وبقي ما يتعلق بالقيام، وفي بعض روايات حديث أبي هريرة: (ولم يعزم علينا) .
قوله: (من قام) ، (من) هنا شرطية تفيد العموم، والمراد بهذا القيام: القيام في الصلاة، والصلاة في رمضان مختصة بالليل كما أن الصوم في رمضان مختص بالنهار، وقيام رمضان ليس بفريضة ولا بواجب ولكنه سنة مؤكدة وهو آكد من سنة الاعتكاف؛ لأن قيام رمضان أو ما يسمى التراويح في الآونة الأخيرة أصبح شعار الأمة في صيامها، ولهذا لا ينبغي تعطيل المساجد من قيام الليل في رمضان، سواء سمينا ذلك قياماً كما هو الاسم الشرعي الأساسي أو سميناه تراويحاً؛ واسم التراويح طارئ عليه، وسببه: أنهم كانوا يصلون ويطيلون القيام إلى الحد الذي يتعبون منه، فيجلسون بين كل تسليمتين من أجل أن يستريحوا، فسمي هذا الجلوس ترويحاً بدل استراحات؛ أي: أنه تراويح بين كل صلاة وصلاة، أو بين كل ركعتين وركعتين.(156/2)
حكم قيام رمضان
وقيام رمضان من حيث هو جاء في عموم قيام الليل طيلة السنة كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل الأول، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام النصف الثاني) ، فأقل درجات قيام الليل القيام المطلق أن يصلي الإنسان العشاء في جماعة، والفجر في جماعة، ثم ما زاد بعد ذلك فهو نافلة وزيادة، ثم أصبح القيام معروفاً باختصاصه برمضان، وأول من بدأ قيام رمضان هو النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاء: (أنه صلى ليلة ثلاثٍ وعشرين، فشعر بعض الناس الذين في المسجد بصلاته فصلوا معه، وفي الليلة التي بعدها علم بعض الناس فاجتمعوا، فصلى رسول الله فصلوا بصلاته أيضاً، وفي الليلة الثالثة عم الخبر المدينة، ولما صلوا العشاء جلسوا ينتظرون ولم يرجع أحد إلى بيته، فنظر صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج ليصلي كالعادة فإذا بالمسجد مليء بالناس، فقال: يا عائشة! ما بال الناس جلوس؟ ألم يصلوا العشاء؟! قالت: بلى، ولكنهم تسامعوا بمن صلى خلفك فهم ينتظرون أن تخرج لتصلي فيصلون بصلاتك، فقال: اطوي عنا حصيرك، ولم يخرج تلك الليلة، فانتظروا وحصبوا الباب بحصباء المسجد فلم يخرج إليهم حتى الصباح، ولما خرج لصلاة الصبح، قال: والله! ما خفي علي صنيعكم البارحة، وما بت بحمد الله غافلاً؛ ولكني كرهت أن أخرج إليكم فتفرض عليكم فتعجزون) ، وهذا من رحمته صلى الله عليه وسلم بالأمة، كما جاء عنه في عدة مواضع: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بكذا) .(156/3)
عمر رضي الله عنه أول من جمع الناس في صلاة التراويح على إمام واحد
بعد أن انتهى عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم كان الناس كل واحد يصلي لنفسه على ما جاء في حديث أبي هريرة مرفوعاً: (من قام رمضان ... ) فكان كل واحد يقوم بقدر استطاعته، وليس هناك تحديد عدد ولا نوعية ولا توحيد إمام، ومضى على ذلك عهد أبي بكر رضي تعالى الله عنه، وكان مشغولاً بقتال أهل الردة، وبتثبيت الدعوة، إلى غير ذلك، وكانت خلافته سنتين فقط، ولم يحدث جديداً، لكن ثبت في عهده أنهم كانوا يصلون الليل في رمضان ويطيلون القيام لأنفسهم حتى يتكئون على العصي، ويرجعون من المسجد إلى البيوت يحثون الخدم على التعجيل بالسحور خشية الفلاح، يعني: الفجر.
ثم جاء عهد عمر رضي الله تعالى عنه فرأى الناس يصلون أوزاعاً -جماعات- يصلي كل مجموعة خلف من عنده قرآن، وكانوا يتتبعون حسن الصوت ويصلون خلفه، فلما رآهم أوزاعاً متفرقين -وهذه ليست صفة المسلمين، فالإسلام جاء ليجمّع الناس ويوحدهم، وهؤلاء تفرقوا فرقاً وأوزاعاً- قال: أرى أني لو جمعتهم على إمام واحد لكان خيراً، فجمعهم على أبي بن كعب، وصاروا جماعةً واحدة، وجعل معه شخصاً آخر حتى يتناوبا، وجعل إماماً خاصاً للنساء أعجل منهما؛ كي ترجع النسوة إلى بيوتهن بسرعة.(156/4)
عدد الركعات في صلاة التراويح
جمع عمر القراء واستمع إليهم، فمن كان سريع القراءة أمره أن يقرأ في الركعة بثلاثين آيةً، ومن كان بطيئاً أمره أن يقرأ بعشرين آيةً، ومن كان متوسطاً أمره أن يقرأ بخمس وعشرين آيةً، وأمره أن يصلي عشرين ركعةً ويوتر لهم بركعة فيكون الجميع إحدى وعشرين ركعةً، واستمر الأمر على ذلك باتفاق الصحابة الموجودين بما فيهم عثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم، فهذه الصورة التي أوجدها عمر حصلت باتفاق الخلفاء الراشدين الثلاثة، عمر، عثمان، علي رضي الله تعالى عنهم، وبمشهد وإقرار وموافقة من بقية الصحابة الموجودين بالمدينة.
واستمر الأمر على ذلك إلى أن جاء زمن عمر بن عبد العزيز، فزيد فيها ستة عشر ركعة؛ لأن أهل مكة كانوا يصلون عشرين ركعة، ولكنهم كانوا يطيلون الجلسة بين الركعتين فكان النشيط منهم يقوم ويطوف بالكعبة سبعة أشواط، ويصلي سنة الطواف ركعتين، فرأى أهل المدينة أنه ليس عندهم كعبة يطوفون بها، وأرادوا المنافسة فاستبدلوا بدل الطواف ركعتين، وصلوا مكان كل ترويحة أربع ركعات، وإذا كانت الصلاة عشرين ركعة وفي كل أربع ركعات ترويحة فسيكون مجموع الترويحات خمس ترويحات، وستكون الفجوات والاستراحات بين الخمس ترويحات أربع استراحات، فقالوا: إذاً: أهل مكة فازوا بالطواف وركعتي الطواف، فنعادل الطواف بركعتين، وسنة الطواف بركعتين، فصارت أربعاً في أربع ترويحات والمجموع ستة عشر ركعة، فأضافوها إلى العشرين وصارت ستاً وثلاثين ركعة، واستمرت على ذلك إلى القرن الخامس الهجري.
ولما كان في القرن السابع جاء الإمام أبو زهرة وهو من أئمة الحديث فتولى الإمامة في المسجد النبوي الشريف، وأراد أن يلغي ما وضعه بعض الناس من أجل السياسة فألغى الست عشرة ركعة، وقال: تبقى المدينة مثل مكة، فأراد أن يجعلها عشرين ولكن لوجود المخالفة ومن أجل أن يبقى الاتفاق أيضاً جعل العشرين في أول الليل مثل أهل مكة، وجعل الست عشرة في آخر الليل باسم القيام، وأصبحت التراويح في أول الليل عشرين ركعة، والقيام في آخر الليل ست عشرة ركعةً، إلى أن جاءت الحكومة السعودية، فألغت من الست عشرة ستاً، وجعلتها عشراً تخفيفاً على الناس، وعممتها في عموم المملكة توحيداً للعمل، واستمرت بحمد الله إلى الآن، عشرون ركعة في أول الليل وعشر ركعات في آخره.
وعمر رضي الله تعالى عنه لما جمعهم على إمام واحد جاء إلى المسجد بعد ليلة أو ليلتين ونظر فإذا الناس في جماعة واحدة، فقال: نعمت البدعة هذه والتي تنامون عنها خير منها، أي: أن صلاة المرء في بيته في جوف الليل خير من حضور تلك الجماعة؛ لأنه إذا صلى في بيته يؤنس أهله، ويجلب البركة لبيته، وتكون هناك رحمات تتنزل في البيت، وتكون صلاته بعيدة عن الرياء وعن السمعة.
ثم أجمع العلماء على أن من قام رمضان بركعتين أو بأربع أو بست أو بعشر أو بعشرين أو بأربعين فإنه يجوز له ذلك، فليس في ذلك حد محدود، ولكن يكون عمله في شخصه فلا يعترض على غيره ولا يدعوا غيره إلى ما يراه لنفسه؛ لأننا أخيراً وجدنا بعض الناس يلومون على هذا العمل ويعيبونه ويقولون: هي ثمان ركعات لا يزاد عليها لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا في غيره على ثمان ركعات) ، ولكنها رضي الله تعالى عنها تقول: (يصلي أربعاً فلا تسل عن حسنهن وطولهن) فقد كان يقرأ في الركعة البقرة وآل عمران والنساء، ثم يركع نحواً من ذلك، أما الذين يقولون: لا نزيد على الثمان ركعات، فلا يقرءون في الركعة حتى سورة تبارك التي هي ثلاثون آيةً، كما أمر عمر القارئ السريع أن يقرأ بها، فكيف نوفق بين ذلك؟ إن قلتم: لا يزيد على الثمان، فاجعلوها كصلاة رسول الله في الطول، وإذا صليتم على تلك الكيفية فيكفي أربع، وكذلك أيضاً لابد أن تداوموا على ذلك في رمضان وفي غير رمضان، لا أن تتركوا كل ذلك طيلة العام ثم تأتون إلى رمضان وتقولون: لا تصلي إلا ثمان ركعات، ثم تجعلونها ثمان ركعات شكلية لا كالثمان التي تقدمت صفتها عن النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: عمر رضي الله تعالى عنه كان يعلم الثمان، ويعلم بأن الرسول صلى في بعض الليالي ثمانياً، وفي بعضها زاد على ذلك؛ لأنه صلى في بعض الليالي إلى ثلث الليل، وفي بعضها صلى إلى نصف الليل وفي بعضها صلى إلى ثلثي الليل، حتى قيل له: (يا رسول الله! لو نفلتنا بقية ليلتنا -أي: ما دام أننا صلينا إلى الثلثين- فقال: من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له بقية ليلته) .(156/5)
الرد على من يقول: إن التراويح بدعة عمرية
فهذه الصورة الموجودة الآن على ما هي عليه لا ينكر عليها، فإذا قصرت بإنسان همته أو نشاطه أو طرأ عليه عذر ما فهذا أمر شخصي ولا ينبغي أن يجعل مقياساً للآخرين ولا أن يعترض على الآخرين، ويقول: هذه بدعة عمر -أعوذ بالله- هي بدعة لغوية وليست بدعةً شرعيةً؛ لأن البدعة في اللغة: هي الابتداع والابتكار على غير مثال سابق على حد قوله سبحانه: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:117] ، يعني: ابتدع خلقتها وهيئتها، فهذا الجرم العظيم الذي لا يحده النظر والذي يحيط بالعالم كالقبة لم يكن له مثال قبل هذا.
إذاً: لما قال: نعمت، عرفنا بأنها ممدوحة، ولما قال: البدعة، عرفنا أنها اللغوية، وكيف يقره علي وعثمان وجميع الصحابة على شيء مبتدع؟! أنا أقول: إن الذي يقول: هذا بدعة عمر يؤدب؛ لأنه ينسب إلى عمر رضي الله تعالى عنه ما هو منه براء، فـ عمر الذي كان الشيطان يفر من طريقه، ووافق القرآن في عدة مواطن هو أبعد الناس عن الابتداع في دين الله.
إذاً: هذا العمل الذي أقره عليه سلف الأمة من شاء أخذ به بحذافيره ومن شاء أخذ به بقدر طاقته، ولكن كما أشرنا لا يدعو إلى قوله ولا يعيب على غيره، ولكن بقدر طاقته وما تيسر له.(156/6)
أيهما أفضل صلاة التراويح في البيت أم جماعة في المسجد؟
إذاً: من قام رمضان، بما تيسر له، سواءً مع الإمام في المسجد، أو مع نفسه في بيته، أو مع أهله كل ذلك سواء، وبعض المالكية يقول: الذي يكون حافظاً ماهراً في القرآن وأراد أن يقوم رمضان في بيته فهو أفضل ما لم تعطل المساجد من صلاة الجماعة في رمضان؛ لأن النافلة الوحيدة في الصلوات التي تصلى جماعة هي التراويح.(156/7)
شرط الإيمان والاحتساب في قيام رمضان
قوله: (من قام رمضان) ، بهذا القيد: (إيماناً واحتساباً) ، إيماناً بالله، وإيماناً بثوابها، وإيماناً بسنيتها.
قوله: (واحتساباً) ، الاحتساب والحساب هو: العد، أي: تحتسبها عند الله، وتعدها من أعمال الخير التي استودعتها أمانة عند الله، لا أن تكون لنشاط ورياضة ولا أن يكون الشخص شبعان ويريد أن يهضم، ولا عنده مصلحة وجاء إلى المسجد من أجلها، ولا أن يكون قد اتفق مع جماعة للحضور ولا يريد أن يتخلف عنهم، فمن عمل لذلك فليس محتسباً، ولكن عليه أن يقوم رمضان إيماناً بوعد الله، وإيماناً بسنة رسول الله، واحتساب عملها وأجرها عند الله.(156/8)
الذنوب التي تغفر بقيام رمضان
وقوله: (غفر له ما تقدم من ذنبه) نجد العلماء رحمهم الله يقفون عند قوله: (غفر له ما) ، و (ما) هنا هي للعموم سواءً كانت صيغة إجمال أو كانت موصولة، غفر له الذي تقدم من ذنبه، وهذا الذي تقدم قد تكون فيه كبيرة وقد تكون فيه صغيرة، وبعض العلماء يقول: غفر له ما تقدم من ذنبه من الصغائر، وأكثرهم يقولون: غفر له ما تقدم من صغائر وكبائر؛ لأن الصغائر قد قال الله عنها: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] ، فالصغائر تكفر باجتناب الكبائر وبدون أعمال أخرى، إذاً: الحديث مطلق، وكما قال بعض العلماء: أحاديث الوعد والوعيد ينبغي ألا تفسر بل تؤخذ على منطوقها، والله تعالى أعلم.(156/9)
فضل العشر الأواخر من رمضان
قال المصنف رحمه الله: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر -إي العشر الأخيرة من رمضان- شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله) ، متفق عليه] .
هذه الصورة التي تصفها لنا عائشة رضي الله تعالى عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان: (كان إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله، وأيقظ أهله) ما معنى هذا في العشر دون العشرين الأول؟ قال العلماء: كان صلى الله عليه وسلم يجتهد في رمضان ولكن اجتهاده في العشر الأواخر من رمضان أكثر من اجتهاده في بقية رمضان.
ويعزون السبب في ذلك إلى أنه صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأوائل، ثم اعتكف العشر الوسطى، ثم اعتكف العشر الأخيرة، وبين صلى الله عليه وسلم: (أنه أول ما اعتكف إنما كان يترقب ليلة القدر أن توافيه وهو منقطع فيها إلى الله، فلما اعتكف العشر الأوائل في سنة أتي فأخبر بأن الذي ترجوه أمامك -يعني: ليس في العشر الأوائل- وفي السنة الثانية اعتكف العشر الوسطى، ثم أتي فقيل له: إن الذي ترجوه أمامك، فنظر إلى الناس من خبائه وقال: من كان اعتكف معي فليظل في معتكفه فإني معتكف العشر الأواخر) ، واعتكف العشر الأواخر وظل يعتكف في العشر الأواخر حتى قبضه الله.
فكان حينما تأتي العشر يجدد النشاط ويشتد فيه وأول شيء: (شد مئزره) ، والمئزر معروف وهو: ما يكون في وسط الرجل من السرة إلى أسفل.
وقوله: (شد مئزره) هل معناه: أنه اعتزل النساء؟ أو أن معناه أنه شد حزامه كناية عن النشاط كما تقول: يا فلان! شد حيلك وشد حزامك؟ وكما قيل أيضاً: أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا يا سعد! تورد الإبل أي: أنه أورد الإبل والشملة على كتفه وهو غير مبال بها، وإيراد الإبل يحتاج إلى شد الحزام وإلى النشاط وإلى التشمير، والمراد شمر عن ساعديك يا سعد! فما هو المراد بشد المئزر؟ قال بعضهم قولها: (شد مئزره) ، هو كناية عن العزم وتجديد القوة في العشر الأواخر، وهناك من يقول: (شد مئزره) ، أي: أنه تجنب النساء، ويؤيد هذا المعنى قولها: (وطوى فراشه) ، يعني: ليس هناك نوم في الفراش.
قولها: (وأيقظ أهله) ، إيقاظ الأهل رغبة في الخير، وكان صلى الله عليه وسلم في بادئ الأمر يوقظ أهله ليلة سبع وعشرين ويأمرهن بالاغتسال تهيئاً وتأهباً لليلة القدر على أنها في ليلة سبع وعشرين.
إذاً: تبين لنا أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في العشر الأواخر ما لم يجتهده فيما قبلها.
ونحن نقول: هي عشر ليالٍ وتنتهي فهل يعجز الواحد منا أن يجتهد في هذه العشر؟ السنة كلها (360) يوماً أيعجز فيها الإنسان عن عشرة أيام؟ لو قيل له: في كل ليلة من الليالي العشر لك عشرة آلاف ريال، فهل سينام؟ لن ينام، بل سيقف على ثلاث أصابع ويمد يديه إلى الله.
المصطفى صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل في غير رمضان حتى تتفطر قدماه، فلما يأتي إلى العشر الأواخر في رمضان يجتهد أكثر مما كان يجتهد في غيرها، فمن منا قد قام حتى تفطرت قدماه؟ من ومن منا يحيي الليل كما كان يحييه صلى الله عليه وسلم؟ منا عمل بقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79] ؟ فهو صلى الله عليه وسلم مع ما وُعد به من المولى عز وجل؛ وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يقوم الليل، ولما سئل قال: (أفلا أكون عبداً شكوراً) ، ثم يأتي إلى العشر الأواخر: (ويشد مئزره، ويطوي فراشه، ويوقظ أهله) ، ونحن طيلة السنة نحل الإزار ونمد الفراش وننام نوماً عميقاً وبعض الناس في رمضان ليلهم نهار ونهارهم ليل، فإذا جاءت هذه الفرصة في حياة الإنسان ولم ينتهزها، فإن هذا من التفريط، ولكن أقول: التوفيق بيد الله، نحن لا نملك إلا أن نتوجه إلى المولى العلي القدير أن يوفقنا وأن يعيننا وأن يسددنا وأن يرزقنا خير هذه الأيام المباركة، وإلا فالعاجز والكسلان يضيع نفسه، وكما جاء في الحديث: (من حرمها فقد حرم الخير كله) .
نسأل الله سبحانه أن يجنبنا الكسل وأن يعطينا القوة والعافية، وأن يوفقنا ويسدد خطانا، فمهما كان عند الإنسان من عمل فهو يقدر أن يؤجله، ويقدر على أن يرجع إليه مرة أخرى، ويقدر على أن يسنده إلى غيره، فلا يفوت على نفسه هذه الفضيلة.
إذاً: هذا من أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها بيان لحال النبي صلى الله عليه وسلم، فينبغي علينا وأخص طلبة العلم أن ننقطع للعبادة في هذه العشر، فنحن بخلاف طلبة الدنيا فقد يكون الواحد منهم مضطراً لأن يدير تجارته، ومضطراً لأن يوالي بضاعته، أو أن هذا عنده موسم دنيا، ولكن نقول له: أيضاً لا ينبغي أن يحرم نفسه، ولا أن يجعل كل همه في تجارته وصناعته وزراعته، بل يعطي نفسه ولو عشرة أيام في السنة كلها.(156/10)
الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان
قال المصنف رحمه الله: [وعنها رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه من بعده) ، متفق عليه] .
تخبر رضي الله تعالى عنها في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم: (كان يعتكف العشر الأواخر حتى توفاه الله) وقد اعتكف صلى الله عليه وسلم العشر الأول، ثم اعتكف العشر الوسطى ولكن لم يكررها، ثم اعتكف العشر الأخيرة وداوم عليها حتى توفاه الله، ثم تقول رضي الله تعالى عنها: (ثم اعتكف أزواجه من بعده) وسيأتي أن بعض زوجاته أردن أن يعتكفن معه ولكنه منعهن من ذلك، ثم كن يعتكفن من بعده.
إذاً: ليس الاعتكاف خاصاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس خاصاً به صلى الله عليه وسلم، بل له وللأمة كلها، ونقل عن مالك أنه قال: تأملت في هذا الأمر فما وجدت كثيراً من الصحابة يعتكفون فنظرت فإذا هو عندي كالوصال.
ولكن الذي يهمنا هنا أن الاعتكاف مسنون، وسنيته باقية ودائمة لم يعترها نسخ ولا تعطيل، واعتكاف أزاوجه رضي الله تعالى عنهن من بعده هذا عمل خير لهن؛ ولأن المسجد ليس بعيداً عنهن، وسيأتي بيان صحة اعتكاف المرأة في أي مسجد ولو في مسجد بيتها على ما قاله الإمام أبو حنيفة رحمه الله.(156/11)
متى يبدأ وقت الاعتكاف؟ ومتى يدخل المعتكف معتكفه؟
قال المصنف رحمه الله: [وعنها رضي الله تعالى عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه) ، متفق عليه] .
يسوق لنا المؤلف رحمه الله تعالى حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يعتكف إذا صلى الغداة دخل معتكفه) ، وهذا عند العلماء فيه بيان لأول وقت يدخل فيه المعتكف محل اعتكافه.
وهنا تقول: أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: إنه صلى الله عليه وسلم كان يدخل معتكفه إذا صلى الغداة، والغداة: الصبح، وفي هذا الحديث نص على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد الاعتكاف يوماً فأكثر يبدأ زمن اعتكافه من بعد صلاة الصبح، وهذا قول سفيان الثوري وغيره.
وأما الأئمة الأربعة رحمهم الله فإنهم يقولون: إذا كانت مدة الاعتكاف يوماً فأكثر فينبغي أن يدخل معتكفه قبل أن تغرب شمس ليلة اليوم الأول، فمثلاً: إذا أراد الإنسان أن يعتكف وأول اعتكافه يوم السبت، فإنه يدخل معتكفه آخر النهار من يوم الجمعة قبل أن تغرب الشمس وتدخل ليلة السبت، هذا ما عليه الأئمة الأربعة، ويذكره علماء الحديث والفقهاء وغيرهم.
وكيف يجيبون على حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يدخل معتكفه بعد صلاة الصبح) ، وهناك فرق بين الدخول بعد صلاة الصبح وبين الدخول قبل غروب الشمس؟ يجيب الأئمة رحمهم الله: بأن الليلة تابعة لليوم، فإذا نوى أو أراد أو نذر الاعتكاف في يوم السبت فعليه أن يضم الليل مع النهار، ولا يتأتى ضم الليل مع النهار إلا إذا دخل المعتكف قبل أن تغرب الشمس بقليل، ويقولون: إن حديث عائشة رضي الله تعالى عنها يفسر على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في المسجد وليس في بيته، ودخوله معتكفه بعد أن يصلي الغداة تريد المكان الذي حدده للاعتكاف فيه، فقد كان صلى الله عليه وسلم يوضع له سرير خلف اسطوانة التوبة ليعتكف ويستريح عليه، وربما ضربت له خيمة على سريره ليستتر به عن الناس، فيكون مراد أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها بدخوله معتكفه المكان المحدد المخصوص له صلى الله عليه وسلم لا عموم المسجد.
ونحن نعلم جميعاً أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد لقوله: (ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع) على خلاف سيأتي المؤلف ويشير إليه فيما بعد.
إذاً: متى يدخل المعتكف معتكفه؟ الحديث الذي عندنا فيه أنه بعد صلاة الغداة، ورأي الأئمة الأربعة باتفاقهم على: أنه قبل غروب الشمس، ولكون الأئمة رحمهم الله قد اتفقوا على ذلك فلا يمكن أن نلغي اتفاقهم، ولكن ننظر ما هو تخريجهم وتوجيههم للحديث؟ وجهوا الحديث وقالوا: إن المراد بقولها: (معتكفه) أي: المكان المعد المخصص له دون عموم المسجد، والله تعالى أعلم.(156/12)
أقل حد للاعتكاف وأكثره
وأما قول من يقول: إن الاعتكاف لا حد لأقله، ففي هذه المسألة خلاف: فهناك من يقول: لا اعتكاف أقل من عشرة أيام، وهذا القول مروي عن مالك رحمه الله.
وهناك من يقول: لا اعتكاف أقل من يوم وليلة، وهذا القول منقول عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله، وهو رواية عن أحمد.
وهناك من يقول: لا حد لأقله فيصح ولو نصف ساعة ولو ربع ساعة وهذا قول الشافعي رحمه الله، وإن كان الأفضل عنده: ألا يقل عن يوم وليلة.
وقد جاء عن بعض السلف أنه قال: كنت أدخل المسجد لا لصلاة ولا لشيء ولا لأجلس وإنما للاعتكاف، يعني: أنه كالمار، وقالوا: إن ذلك يشبه الوقوف بعرفة؛ لأن الوقوف بعرفة مكث في مكان معين، ويجزئ الحاج أن يقف بعرفة ولو ساعة، حتى بالغ البعض وقال: ولو مروراً بها من شرقها إلى غربها، وهو يعلم أنها عرفة، والبعض قال: ولو لم يعلم.
فقالوا: إن الوقوف بعرفة هو عبارة عن مكث في مكان معين في زمن محدود، فقالوا: وكذلك الاعتكاف هو عبارة عن مكث في مكان معين لعبادة فلا يتقيد بزمن كما أن الوقوف بعرفة لا يتقيد بزمن، مع أنهم يقولون في عرفة: من أمكنه الجمع بين ليل ونهار فترك ذلك فعليه دم مع صحة حجه؛ لأنه ترك واجباً، ولو أن مريضاً بالمستشفى كان محرماً بالحج فأخذوه في سيارة ووصلوا به إلى عرفات ثم ردوه إلى المستشفى في وقته فإنه يكون قد أدرك الحج وأدرك الوقوف بعرفة.
إذاً: مدة الاعتكاف يختلفون في أقلها ولا يختلفون في أكثرها، فله أن يعتكف شهراً أو شهرين أو أكثر، وسيأتي عند بحث الصوم أن الذين قالوا: لا حد لأقله، يستدلون بقصة عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: (كنت نذرت اعتكاف ليلة عند الكعبة في الجاهلية، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: أوفِ بنذرك) ، قيل: كان هذا السؤال في الجعرانة عند رجوعهم من الطائف.
فكونه يعتكف ليلة والليلة ليست يوماً كاملاً، وذكر ابن حجر في فتح الباري أن هناك من يروي (يوماً) فيقول: عمر كان نذر يوماً، ومن روى (ليلة) فأراد مع نهارها، ومن روى (يوماً) أراد النهار مع الليل، ولكن رواية: (نذرت أن أعتكف يوماً) يقول: إنها شاذة، والمحفوظ: (نذرت اعتكاف ليلة) ، فقال الشافعي رحمه الله: الليلة ليست يوماً كاملاً، والليل ليس موضع صيام فليس الصوم شرطاً في الاعتكاف.
إذاً: نحن في مبحث متى يدخل المعتكف معتكفه؟ فإن كان زمن اعتكافه يوماً فأكثر فعلى ما تقدم، فرأي الأئمة الأربعة رحمهم الله: أنه يدخل معتكفه قبل غروب شمس اليوم الذي قبله، والحديث محمول على أن المراد بمعتكفه المكان الذي كان صلى الله عليه وسلم يخصصه لجلوسه ونومه واعتكافه.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
والحمد لله رب العالمين.(156/13)
كتاب الصيام - باب الاعتكاف وقيام رمضان [2]
جعل الله عز وجل مواسم للخير في كل السنة، من أجل مضاعفة الحسنات وتكفير السيئات، وتجديد النشاط والهمة عند الإنسان، ومن تلك المواسم العشر الأواخر من رمضان، فقد حث الشرع ورغب في الاعتكاف فيها والتفرغ لعبادة الله سبحانه وتعالى، وكان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العشر التفرغ المطلق للعبادة والقيام فيها تحرياً لليلة القدر التي تأتي في إحدى ليالي هذه العشر.(157/1)
ما يجوز للمعتكف وما يحرم عليه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [وعنها رضي الله عنها قالت: (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل عليَّ رأسه وهو في المسجد فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفاً) متفق عليه، واللفظ للبخاري] .
في هذا الحديث الثاني تقول لنا رضي الله تعالى عنها: (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معتكف في المسجد ليدني -أو ليدخل- عليَّ رأسه فأرجله) ، زاد البخاري في رواية هذا الحديث: (وأنا حائض) ، وللعلماء هنا مباحث عديدة تحت هذا الحديث: (إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل عليَّ) ، فأين كانت رضي الله عنها؟ الجواب: أنها كانت في حجرتها، وبين الحجرة وبين المسجد فتحة الباب التي في الجدار، إذاً: كان صلى الله عليه وسلم يستلقي بجسده الشريف في المسجد موضع الاعتكاف ويخرج رأسه عن المسجد إلى الحجرة وتتولى أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها ترجيل شعره، والترجيل هو المسمى الآن بالتسريح وهو: تطييب الشعر وتنظيفه.
وبوب البخاري مرة أخرى على هذا الحديث (باب غسل المعتكف رأسه) ، ومن مباحث هذا الحديث: أن للمعتكف أن يرجل شعره، وقاسوا على الترجيل الطيب والزينة، وقاسوا على ذلك حاجته في غير الضرورة ما دام في المسجد.(157/2)
حكم مباشرة المعتكف لزوجته
وأخذوا من هذا الحديث أيضاً: جواز مباشرة المعتكف لزوجه حال اعتكافه، وأجابوا عن الآية الكريمة: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] ، فقالوا: المباشرة الواردة في الآية والمنهي عنها هي الجماع، أما المباشرة الجائزة فكما في فعل عائشة، والمباشرة مأخوذة من البشرة وهي الجلد لمباشرته الهواء والفضاء، والمباشرة هي: ملامسة البشرة للبشرة، ولذا سمي بنو آدم بشراً؛ لأن بشرتهم وهي الجلدة مكشوفة بخلاف الطيور والحيوانات فإنها مكسوة، إما بالريش في الطيور، وأما بالشعر والصوف في الحيوانات.
فهنا قالوا: المباشرة المنهي عنها في الآية الكريمة إنما هي الجماع، كما جاء في أول الآية: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة:187] أي: من الولد.
فالمباشرة تطلق بالمعنى الأعم وهو مجرد التقاء البشرة بالبشرة، وبالمعنى الأخص وهو الجماع، كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن ربكم حيي كريم يكني ولا يصرح، ففي قوله تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة:187] كناية، وهي كناية لطيفة، وكذلك في آخر الآية: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] يعني: إذا كان أحدكم معتكفاً وخرج إلى بيته لحاجة فلقي أهله فلا يباشرها وإن كان في البيت وليلاً؛ لأنه معتكف ومنقطع إلى الله سبحانه وتعالى.
فقال العلماء: المباشرة التي هي دون الجماع جائزة للمعتكف؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمكن عائشة من أن تباشر ترجيل شعره، ومعلوم أن مجرد ترجيل الشعر ليس خاصاً بهذه الأسلاك الناعمة التي لا تسري فيها حرارة، بل لابد أن تمس جلدة الرأس، ولابد أن تمس جانباً من الوجه، ولابد أن تمس جزءاً من الرقبة، فهذه مباشرة لا مانع للمعتكف من فعلها، وأيضاً كون المرأة حائضاً لا يمنع من أن تخدم زوجها، ولو كان متلبساً بالعبادة.(157/3)
حكم خروج المعتكف إلى بيته لحاجة
قوله: (وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة) .
في قولها: (وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة) جاء عند البخاري ومسلم زيادة وهي: (لحاجة الإنسان) ، وهذه كناية أيضاً؛ لأن حاجة الإنسان من الأمر الذي لا يستغني عنه قط، وهي حاجة الحيوان أيضاً، وقد فسرها سفيان الثوري: بالبول والغائط، فكان صلى الله عليه وسلم إذا كان في معتكفه لا يدخل البيت إلا للضرورة.
وهنا قال العلماء: إذا دعت الظروف لحاجة أخرى سوى الضرورية التي هي البول والغائط فيجوز أن يدخل المعتكف البيت، كما لو احتاج إلى التداوي، أو احتاج إلى حجامة، أو احتاج إلى فصد، والحجامة لا تتأتى في المسجد مخافة من تلويثه بالدم، وكذلك الفصد وكذلك التداوي، فإذا كانت هناك ضرورة تقتضي دخوله البيت دخل للضرورة، وإذا دخل للضرورة امتنع عليه الذي يمتنع على المعتكف من المباشرة التي هي الجماع.
قوله: (وكان لا يدخل بيته إلا لحاجة الإنسان) الرسول صلى الله عليه وسلم كان بيته في المسجد، ففرع الأئمة رحمهم الله على ذلك وقالوا: لو كان للإنسان بيتان: بيت قريب من المسجد، وبيت بعيد عنه، وكلاهما له فيه زوجة وأهل، فهل يحق له أن يعمد إلى البيت البعيد ويطيل المسافة والزمن بعداً عن معتكفه، أو يتعين عليه أن يقضي حاجته في البيت القريب؟ ومثله إذا كان له صديق وبيته بجوار المسجد وأذن له صديقه أن يقضي حاجته عنده، فهل يلزمه أن يقضي حاجته في بيت صديقه القريب لقربه أو لا؟ أما بيت صديقه فيتفقون على أنه لا يلزمه؛ لأن الإنسان قد يستحي في هذه الحالة، ولا يأخذ راحته كاملةً إلا في بيته.
أما البيت البعيد والقريب فإن الجمهور على أنهما سواء، ولكن الأولى والأفضل أن يختار الأقرب اختصاراً للوقت وتقليلاً لبعده وانقطاعه عن محل معتكفه.
وهكذا الآن في الوقت الحاضر توجد محلات المياضي حول المسجد، فإذا كانت هذه المياضي عامة، ويمكنه أن يقضي حاجته فيها بالقدر الذي يقضيه في بيته فالأولى أن يقضي حاجته فيها، فإن كان يستحي أن يقف لينتظر محلاً يخلو، أو إذا دخل يتحفظ من صوت أو ريح، فليس بلازم عليه أن يقتصر على هذه القريبة، وله الحق في أن يذهب إلى بيته ليقضي حاجته على راحته.(157/4)
حكم خروج المعتكف للأكل والشرب وغسل الجنابة
ومما تدعوا إليه الحاجة وهو من الضروريات الأكل والشرب، فهل للمعتكف أن يخرج إلى بيته وقت الطعام فيأكل ويرجع؟ يقول بعضهم: لا يخرج، ويؤتى إليه بطعامه، إلا إذا لم يكن عنده من يأتي له به فيذهب ليأكل ويرجع، وهل له أن يجلس حتى ينتهي من توابع الأكل والشرب؟ قالوا: لا، هو ممنوع عليه، كما قال بعضهم، بل يقضي حاجته في بيته ويأتي يتوضأ في المسجد؛ حتى لا يمكث في البيت كثيراً، وذلك حينما كان المسجد تراباً وماء الوضوء لا يعفن المسجد، أي: إذا أمكن ذلك ولم يضر المصلين ولم يضر المسجد.
وفترة قضاء الحاجة وفترة الوضوء أمور نسبية بسيطة فيقضي المعتكف حاجته ويتوضأ ولا شيء عليه.
ولو أنه احتلم في معتكفه -وهذا أمر يجري على الإنسان- فلا يضر اعتكافه كما لا يضر صومه، وعليه أن يذهب إلى بيته ويغتسل؛ لأن الاغتسال ضرورةً من أجل رفع الحدث لصومه ولصلاته.(157/5)
مسائل تتعلق بالمعتكف
قال المصنف رحمه الله: [وعنها قالت: (السنة على المعتكف أن لا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة، ولا يمس إمرأةً، ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لابد له منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع) ، رواه أبو داود، ولا بأس برجاله، إلا أن الراجح وقف آخره] .
هذا الأثر ساقت فيه أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها العديد من المسائل التي تتعلق بالاعتكاف، ولكن علماء الحديث والنقد يقولون: ليس كل ما جاء عنها في هذا الأثر مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في هذا الأثر قالت: من السنة.
والسنة لا تكون إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن بعض العلماء يقول: لم يأتِ في هذا الحديث في بعض الروايات كلمة من السنة، وإنما فيه: (المعتكف لا يزور مريضاً، ولا يشهد جنازةً وو إلى آخره) ، وقالوا: إن الحديث في آخره إدراج، وسنأتي عليه جملة جملة؛ لأن كل جملة لها أحكامها، وفيها مباحث إما اتفاقية وإما خلافية.
فقولها رضي الله تعالى عنها: (من السنة) ، إذا أطلق الصحابي أو التابعي كلمة من السنة فهو أراد سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الذي يملك أن يسن للناس.(157/6)
حكم عيادة المعتكف للمريض
قولها: (أن لا يعود مريضاً) .
لا يعود المعتكف مريضاً، فإذا كان جالساً في معتكفه وجاءه إنسان وقال: صديقك فلان مريض فلا يخرج من معتكفه، ولا يقطع اعتكافه لزيارة المريض، حتى بالغ بعضهم وقال: ولو كان المريض أباه.
وأما الشافعي رحمه الله فيقول: إن كان قد اشترط عند دخوله المعتكف أن يعود مريضاً، وأن يشهد جنازة فله ذلك، واعترض عليه الآخرون بأن المعتكف منقطع من هذا كله، وقد جاء عنها رضي الله عنها أنها كانت تخرج إلى بيتها وتمر بالمريض في بيته فتسأل: كيف هو؟ وهي مارة لا تقف، وكذلك تنقل لنا عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يمر بالمريض في بيته فيسأل عنه ولا يدخل لعيادته) .
إذاً: زيارة المعتكف للمريض الجمهور على منعها وقالوا: يبقى في معتكفه فإن خرج لزيارته انقطع اعتكافه، فإن كان اعتكافه نافلة وتطوعاً فلا شيء عليه، ويستأنف من جديد، وإن كان نذراً فإنه يستأنف ويعتبر هذا اليوم غير صحيح، وعليه أن يبدأ اعتكافاً آخر بدل هذا اليوم.(157/7)
حكم حضور المعتكف للجنازة
قولها: (ولا يشهد جنازة) .
وشهود الجنائز في السابق كان له وضع آخر، يقول أبو سعيد الخدري: لما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة وكان المهاجرون محصورين فكان الرجل إذا مرض في المدينة وهو من المهاجرين أو من الأنصار فإذا كان في حالة النزع، آذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم به، فيذهب معهم إلى بيته ليحضره، فإذا مات جهزوه وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وشيعوه، فلما كثر الحال كذلك والشخص قد يحتضر في الليل، في أوله أو في آخره، فاجتمعوا وقالوا: لقد أشفقنا على رسول الله في أن نؤاذنه في كل موتانا، فالأولى أننا ننتظر المريض حتى يموت فنجهزه ونحمله إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصلي عليه، واتفقوا على ذلك وأعدوا المكان لذلك وهو الموجود الآن ما بين باب جبريل وباب البقيع، هذا السور الصغير ويسمى مصلى الجنائز، والشارع الذي كان في قبلي المسجد يسمى درب الجنائز، فكانوا يأتون بالجنازة ويضعونها في هذا المكان المستطيل، ويؤذنون رسول الله صلى الله عليه وسلم به فيخرج فيصلي عليه، وربما صلى عليه أحياناً في المسجد.
فكان المعتكف لا يشهد جنازة؛ لأنه كان يصلى عليها خارج المسجد بجواره، والمعتكف معتكف في المسجد فكان لا يشهدها بمعنى: لا يحضرها ولا يشيعها ولا يصلي عليها؛ لأنه مشغول في معتكفه.(157/8)
حكم مس المعتكف للمرأة
قولها: (ولا يمس امرأة) .
كيف لا يمس المعتكف امرأة وعائشة كانت ترجل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ المراد لا يمسها لحاجة المس، أي: لا يقصد مسها.
قولها: (ولا يباشرها) .
وكذلك لا يباشرها لا بقبلة ولا بمقدمات الوطء.(157/9)
حكم تصريف المعتكف لعمله وهو في المسجد
قولها: (ولا يخرج لحاجة إلا لما لابد له منه) .
ولا يخرج من معتكفه لحاجة إلا لما لابد له منه، وهو كما يعبر عنه بقضاء حاجة الإنسان، وهنا يبحث بعض العلماء والفقهاء في مسألة وهي: إذا كان هناك إنسان له ضيعة بساتين، أو له تجارة وعنده غلمان يعملون له، وهو الذي يديرها، فهل يجوز له أن يديرها ويشير بما يراه، ويأمرهم أن افعلوا كذا وكذا وهو في معتكفه أم لا؟ الجمهور يجيزون ذلك؛ لأن فيه حفظ ماله وليس فيه طول اشتغال.
ويبحثون في مسألة أخرى وهي: إذا كان هناك إنسان معتكف وليس عنده مصدر للأكل والشرب إلا من صنعة يديه، كأن يكون خياطاً يخيط الثياب، أو وراقاً ينسخ الكتب والأوراق، أو يعمل أي شيء من العمل اليدوي، فهل يجوز له أن يعتكف ويزاول ما يمكن أن يعيش به وهو في معتكفه أو أنه لا يصح له اعتكاف مع هذا العمل.
نجد كثيراً من العلماء يقولون: إن توقفت معيشته على صنعة يده وكانت الصنعة لا تتنافى مع حرمة المسجد، كالحدادة التي فيها دق بالمطارق وأصوات ونفخ كير، ولا كالدباغة؛ لأن فيها روائح غير مقبولة، قالوا: فإن كان عمله لا يؤثر على حرمة المسجد ولا يؤذي المصلين ولا يضيق عليهم فلا مانع؛ لأنه لا يمنع من فعل الخير، فهذا لا يخرج من معتكفه إلا لحاجة الإنسان.(157/10)
حكم الاعتكاف من غير صوم، وصفة المسجد الذي يصح فيه الاعتكاف
قولها: (ولا اعتكاف إلا بصوم) .
ولا اعتكاف إلا بصوم، يقول علماء الحديث: (ولا يخرج إلى البيت إلا لما لا بد له منه) هذا نهاية ما قالت في أول الأمر: من السنة، وما بعدها إنما هو ممن أضافه بعد ذلك إلى الحديث، وهو: (ولا اعتكاف إلا بصوم) وما بعده، فكثير من علماء الحديث يقولون: هذا ليس مما جاءت به السنة؛ لأن الصوم مع الاعتكاف موضع خلاف، ولكن على هذا النص: (لا اعتكاف إلا بصوم) اختلف العلماء هل الصوم شرط في الاعتكاف أم لا؟ فـ مالك وأبو حنيفة ورواية عن أحمد المشهور عنهم أنهم يقولون: لابد للمعتكف من الصوم، وأما غيرهم فيقولون: لا يشترط لما جاء من قول النبي لـ عمر عند أن قال له الرسول: (أوف بنذرك) ونذره كان بالليل، وإذا أراد أن يوفيه فسيوفيه بالليل، والليل ليس موضع صيام، فهذا يدل على أن الصوم ليس بشرط.
والشافعي رحمه الله لا يشترط الصوم مع أنه يستحبه، قال: يستحب له أن يكون صائماً ولكن ليس بشرط في صحته، والجمهور يقولون: الرسول لم يعتكف إلا صائماً في رمضان، قالوا: اعتكف في شوال -كما في قصة الأخبية على ما سيأتي- العشر الأول، ومن العشر الأول يوم العيد ويوم العيد ليس بيوم صوم.
فقالوا: إنه لم يعتكف إلا بصوم وفي المسجد النبوي، فقال النووي رحمه الله: نعم هو اعتكف في رمضان صائماً، فهل صومه في رمضان وهو معتكف كان لرمضان أو للاعتكاف؟ فإن قلتم: كان صومه لرمضان فلا دخل للاعتكاف في صومه، وإن قلتم: كان صومه للاعتكاف ضيعتم عليه صوم رمضان.
إذاً: يتعين في هذه الحالة أن يكون الصوم لرمضان وصادف أن جمع معه الاعتكاف، ولهذا فإن الصحيح الراجح أن الاعتكاف يصح بدون صوم، ولكن كما قال الشافعي: الأفضل أن يكون المعتكف صائماً؛ لأنه أدعى إلى خلو نفسه وإلى صفاء روحه، والصوم يساعده على العبادة أكثر.
قولها: (ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع) .
ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع هذه الجملة يتفق عليها الجمهور، بمعنى: أن لا يكون الاعتكاف في بستان، ولا يكون الاعتكاف في خيمة في مكان ما، بل لابد للمعتكف أن يكون اعتكافه في مسجد، والمسجد يقول هنا: مسجد جامع يعني: أنه تصلى فيه الجمعة وتقام فيه الجماعة، فأما بالنسبة للجمعة فيقولون: إذا كانت مدة الاعتكاف تشتمل على يوم الجمعة؛ فهو إذا اعتكف في مسجد لا تقام فيه الجمعة سيكون بين أحد أمرين: إما أن يبقى في معتكفه ويترك الجمعة والجمعة أولى من الاعتكاف.
وإما أن يخرج من معتكفه إلى مسجد تقام فيه الجمعة، فيكون قد قطع اعتكافه بخروجه إلى الجمعة.
إذاً: إذا كانت مدة اعتكافه تشتمل على يوم جمعة فيشترط أن يكون اعتكافه في مسجد تقام فيه الجمعة، وأما بالنسبة لغير الجمعة وهي الصلوات الخمس في جماعة، فإذا كان هناك مسجد لا تقام فيه الصلوات الخمس جماعةً فلا يصح اعتكافه فيه؛ لأنه سيضيع الجماعة، والجماعة للصلوات الخمس أولى من اعتكافه.
إذاً: لابد أن يكون المسجد جامعاً، يشتمل على صلاة الجمعة، وعلى إقام الصلوات الخمس في جماعة.
بقي هل يشترط على المرأة إذا اعتكفت أن يكون اعتكافها في مسجد عام أو أن مسجد بيتها يجزئها؟ يقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله: للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها، ومسجد بيتها هو المكان الذي خصصته لصلاتها وتصلي دائماً فيه، وهذه هي السنة، كما جاء عن أم عطية رضي الله تعالى عنها قالت: (صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم طعاماً، فلما أتى قلت: أريد أن تصلي لنا يا رسول الله! في بيتنا لنتخذ مكانه مصلى لنا، فقمت إلى حصير قد اسود من طول ما لُبس، فنضحته بالماء وقام فصلى … الحديث) .
وهنا يستحب العلماء أنه إذا كان في البيت متسع أن يُخصص فيه مكان للصلوات؛ الفريضة للنساء، والنافلة للرجال، وهذا لما جاء في الحديث: (صلوا في بيوتكم ولا تجعلوها مقابر) ؛ لأن المقابر لا صلاة فيها، والصلاة في البيوت فيها الرحمة والخير والبركة وتعليم الجاهل وتعليم الصغير، فإذا كان للمرأة مسجد في بيتها بمعنى: مكان مخصص لصلاتها فيصح اعتكافها فيه.
ويقول بعض السلف: لولا أنه جاء اعتكاف النساء في المسجد على عهد رسول الله لقلت: ليس لها أن تعتكف في المسجد؛ لكثرة ما يراها الناس، ولكثرة تعرضها للناس.
وكلمة (مسجد) اسم جنس، ولكن هناك من يقول: لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام، ويستدل بقوله سبحانه: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125] ، وبأثر عمر: نذرت في الجاهلية أن اعتكف ليلة عند البيت.
وهناك من يقول: لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام والمسجد النبوي.
وهناك من يقول: لا اعتكاف إلا في المسجد النبوي؛ نظراً لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعتكف في أي مسجد قط إلا في مسجده، فلم يعتكف في مكة، ولا في بيت المقدس ولا في أي مسجد آخر، فقالوا: السنة أن يعتكف الإنسان حيث اعتكف صلى الله عليه وسلم.
وهناك من يقول: لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة، وسيأتي المؤلف في آخر باب الاعتكاف بحديث: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) ، يشير إلى هذا القول، ولكن الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة رحمهم الله: على صحة الاعتكاف في أي مسجد كان مادام مسجداً جامعاً.
قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه) ، رواه الدارقطني والحاكم، والراجح وقفه أيضاً] .
بعدما ساق لنا المصنف المدرج في حديث أم المؤمنين عائشة: (ولا اعتكاف إلا بصيام) ، جاءنا بأثر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه) ، بأن نذر أو اختار أن يصوم مع اعتكافه، أما من أجل الاعتكاف فـ ابن عباس يقول: ليس عليه صيام.
وهنا يقول بعض العلماء: هذا موقوف على ابن عباس، أي: أن ابن عباس لم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون: لكن هذا الموقوف له حكم الرفع؛ لأنه يتعلق بأمر تشريعي، وبصحة عبادة مشروعة؛ لأنه قال: (لا صوم على المعتكف) .
إذاًَ: ابن عباس يقول: لا صوم على المعتكف، وأم المؤمنين عائشة تقول: لا اعتكاف إلا بصوم، ووجدنا مع المناقشة أن الراجح أنه يصح الاعتكاف بدون صوم.
ولعل في هذا القدر -فيما يتعلق ببداية دخول المعتكف، وما يجوز له أن يفعله وما لا يجوز له، وصحة الاعتكاف بصوم أو بغير صوم- كفاية إن شاء الله، وبالله تعالى التوفيق.(157/11)
سبب تسمية بعض الأسطوانات التي في المسجد النبوي
في حديث عائشة: (إن كان صلى الله عليه وسلم ليدخل عليَّ رأسه فأرجله وأنا حائض) ، هذه الصورة لا تتأتى إلا إذا كان السرير مقابلاً لباب الحجرة، وباب الحجرة موجود إلى الآن مشرع على الروضة، ولا يمكن أن يكون السرير عند المنبر ويدخل رأسه إلى الحجرة؛ لأن بينهما مسافة بعيدة، ولا يمكن أيضاً أن يكون مستطيلاً شمالاً وجنوباً؛ لأنه إذا كان شمالاً وجنوباً فلا يتأتى أن يدخل رأسه، إذاًَ: السرير كان ممتداً شرقاً وغرباً ومقابلاً لباب الحجرة.
وجاء في بعض الروايات عند مالك في الموطأ أن نافعاً قال: لقد أخبرني ابن عمر وقال: إن شئت أريتك موضع اعتكافه، يعني: إذا أحببت أن أريك أين كان محل السرير أريتك.
وجاءت رواية أخرى صريحة: أن سريره كان خلف أسطوانة التوبة، وأسطوانة التوبة موجودة إلى الآن في الروضة بعد الحجرة بأسطوانة واحدة، وسميت بأسطوانة التوبة لقصة أبي لبابة حينما ربط نفسه فيها حتى نزلت توبته، وفي القصة أن بني قريظة جاءوا إليه ونادوه من بعيد: ماذا ترى أننزل على حكم محمد؟ فقال بأعلى صوته: نعم، وأشار بيده إلى رقبته، أي: نعم، وإن نزلتم فسيذبحكم، ففي هذا ما فيه من الأمر وكان أبو لبابة يقول: والله! ما زالت قدماي من موضعهما حتى أيقنت أني خنت الله ورسوله، بمعنى: أني قلت: نعم، ولكن أخفيت شيئاً خلاف ذلك، فانطلق من هناك ولم يرجع إلى رسول الله ليخبره حتى جاء إلى المسجد وربط نفسه في السارية، وأقسم ألا يفك وثاقه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أبطأ على رسول الله سأل عنه، فأخبروه، فقال: أما وقد فعل فليبق في مكانه، ولما رجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومكث ما شاء الله أن يمكث نزلت توبته ليلاً وكان صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة، فقالت: ألا أبشره يا رسول الله؟! قال: إن شئتِ، فنادت: إن الله قد تاب على أبي لبابة، فبادر الناس ليحلوه من السارية فقال: لا والله! حتى يخرج رسول الله ويفكني بيده الشريفة، فسميت هذه الأسطوانة بأسطوانة التوبة.
وتجدون في أسطوانات الروضة لوحات وعناويين: أسطوانة عائشة، أسطوانة السرير، أسطوانة الحرس، الأسطوانة المخلقة، أسطوانة التوبة أو أسطوانة أبي لبابة، كل ذلك مكتوب بلوحات في الأسطوانات الموجودة في الروضة، ولهذا يقول عنها علماء تاريخ المسجد النبوي: الأسطوانات ذات التاريخ في المسجد النبوي.
وكان بعض السلف يتحرى الصلاة عندها، وبعض الناس ينتقد على ذلك ويقول: في هذا تتبع بقاع لا حاجة لها، وجاء عن ابن الزبير وعن غيره: أنهم كانوا يسألون عن الأسطوانات، ودخل على عائشة وهي خالته فسألها، فقال أصحابه: انتظروا حتى يخرج وانظروا أين يصلي؟ فلابد أن تكون قد أخبرته بها، فلما خرج صلى عندها فعرفوها.
وهذه الأسطوانات ليس معنى إبقائها على تاريخها وأحداثها أن فيه تقديساً لجماد السارية ولا لجماد الأسطوانة، ولكنه عنوان وتذكير للعالم الإسلامي لما شهدت من تلك الأحداث، فمثلاً أسطوانة السرير إذا دخل الإنسان المسجد وهو على طوله في التوسعة الأخيرة الثانية وقد أصبح المسجد مائة ذراع في مائة ذراع فلن يعرفها إلا إذا كان مكتوباً عليها.
وقول عائشة: (وكان يدني إليَّ رأسه وأنا في حجرتي) ، أين كان السرير؟ الجواب: كان في الروضة في الصفوف الأول، ولكنه كان لا يمنع المصلين من الصلاة، وإذا كان لا يمنع المصلين من الصلاة فلا شيء في ذلك.
وأبو لبابة لما ربط نفسه ويُعرف أين مكانه الذي ربط فيه نفسه؟ وتأتي السيرة ويأتي التاريخ يذكر ذلك، عندها يتذكر الإنسان ويحذر أن يخون الله ورسوله، تأتي كذلك أسطوانة ثمامة بن أثال الذي جاء من بني حنيفة: (لما أخذ أسيراً وكان سيد قومه وربط بالمسجد وهو مشرك، وكان يؤتى كل ليلة بحلب سبع نياق أو سبع شياه فيشربها، ومكث ثلاثة أيام والنبي صلى الله عليه وسلم يمر عليه ويقول له: (كيف بك يا ثمامة؟! فيقول وهو مشدود في السارية: يا محمد! إن ترد مالاً أعطيتك فأرضيتك، وإن تمنن -بالعتق- تمنن على كريم وإن تقتل تقتل ذا دم -أي: أن قومي سيطالبون بدمي- فتركه ثلاثة أيام ثم مر عليه فقال: أطلقوا ثمامة، فلما أطلق سأل: ماذا يفعل من يريد أن يدخل في دينكم؟ قالوا: يغتسل ويجلس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وينطق بشهادة الحق، فسأل عن أقرب ماء وكان بيرحاء، فذهب واغتسل ثم جاء ودخل المسجد، وبعد أن فرغ صلى الله عليه وسلم من صلاة الظهر جلس إليه ونطق بالشهادتين، فقيل له: لماذا لم تسلم قبل وأنت في الوثاق ثلاثة أيام؟ قال: خشيت أن تقولوا: أسلم خشية السيف، ثم قال: يا رسول الله! إن خيلك أخذتني وأنا في طريقي إلى مكة معتمراً، قال: اذهب فاعتمر) ، وذهب وكانت له قصة مع أهل مكة.
والأسطوانة المخلقة وتسمى أسطوانة الوفود؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يجلس إليها ويستقبل عندها الوفود، وليس في معرفة هذه الأسطوانات ما يعاب، وليس في تتبع ذلك ابتداع، كما يظنه البعض، والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(157/12)
كتاب الصيام - باب الاعتكاف وقيام رمضان [3]
ليلة القدر هي أفضل ليالي السنة؛ لأنها هي الليلة التي أنزل الله عز وجل فيها القرآن إلى السماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك مجزأ على حسب الحوادث، ولهذا جعلها الله عز وجل خيراً من ألف شهر، وجعل العبادة فيها تعدل عبادة ألف شهر، وهو ما يساوي ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر.(158/1)
تعيين ليلة القدر والخلاف في ذلك
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر) ، متفق عليه.
وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر: (ليلة سبع وعشرين) ، رواه أبو داود والراجح وقفه، وقد اختلف في تعيينها على أربعين قولاً أوردتها في فتح الباري.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (قلت يا رسول الله: أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: قولي: اللهم! إنك عفو تحب العفو فاعف عني) ، رواه الخمسة غير أبي داود وصححه الترمذي والحاكم] .
إن هذا المبحث وهو مبحث ليلة القدر متعدد الجوانب، من ذلك تعريفها، ولماذا سميت ليلة القدر؟ ومن ذلك أيضاً تعيين وقتها ومتى تكون، هل هي في عموم السنة أو في خصوص رمضان أو في العشر الأواخر أو في الوتر منها؟ وهل هي ثابتة أو متنقلة؟ وهل هي باقية أو رفعت وماذا يقول من صادفها؟ وهل لها علامات؟ وما هو فضلها؟ كل ذلك يتناوله العلماء بتوسع.
ومما توسعوا فيه موضوع تعيينها، وهذا الموضوع يهم الجميع، وقد ذكر لنا المؤلف أنه أورد أربعين قولاً في تعيينها في فتح الباري، ونقلها عنه الشوكاني وزاد عليها أربعة أقوال، فتحصل بذلك أربعة وأربعون قولاً في تعيينها.
وفي الحديث الذي ذكره المصنف رحمه الله: (بأن رجالاً أروا في منامهم أن ليلة القدر في السبع الأواخر من رمضان -أي: السبع الأخيرة من العشر الأواخر من رمضان- وأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: أرى -أي: أظن- أن رؤياكم قد تواطأت) ، التواطؤ هو كما يقول العلماء: التطابق، كالوطي على الوطي تواطأت، تضع القدم على القدم تتابعه، فتواطأت رؤياكم أي: اتفقت رؤياكم، على أنها في السبع الأواخر من رمضان، فقال صلى الله عليه وسلم: (فالتمسوها في السبع الأواخر من رمضان) .
ففي رؤياهم إياها تقرير من النبي صلى الله عليه وسلم لهم عليها، ثم أصدر التشريع من قوله لا من رؤياهم فقال: (التمسوها) ورؤيا المؤمن قد جاء في الحديث عنها: (الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، يراها الرجل الصالح أو ترى له) وقال العلماء: هذا العدد الذي هو جزء من ستة وأربعين، ليس من خمسة وليس من أربعة ولا من سبعة قالوا: لأن رسالة محمد صلوات الله وسلامه عليه كانت مدتها ثلاثاً وعشرين سنة: منها ثلاث عشرة سنة بمكة، وعشر سنوات بالمدينة، وكانت مدة تحنثه في الغار قبل أن يأتيه الوحي بالرسالة ستة أشهر، فقالوا: إذا قسمنا الثلاث والعشرين سنة على نصف فسيكون فيها ستة وأربعون نصفاً؛ لأن الستة الأشهر نصف السنة، إذاً: نسبة مدة تحنثه صلوات الله وسلامه عليه من مدة الرسالة كاملة نسبة واحد من ستة وأربعين، وكان صلوات الله وسلامه عليه في مدة تحنثه -أي: تعبده وانقطاعه- في غار حراء يرى الرؤيا، فإذا رأى الرؤيا جاءت من الغد كفلق الصبح واقعية، فكانت الرؤيا تصدق في تلك المدة، فقال صلى الله عليه وسلم مبيناً: (إن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) .
وكان صلوات الله وسلامه عليه إذا صلى الصبح سأل أصحابه: (أيكم رأى رؤيا البارحة؟) فيقصون عليه ما رأوا ويعبرها لهم.(158/2)
أقسام الرؤيا
يقول العلماء: الرؤيا على ثلاث أقسام: القسم الأول: أن يرى الإنسان ما يسره، فيحكيه لأحب الناس إليه؛ ليفسرها بأحب الوجوه فيها، والقسم الثاني: أن يرى خلاف ذلك فليتفل عن يساره، ولينقلب على جنبه الآخر فإنها لا تضره شيئاً، والقسم الثالث من الرؤى: إنما هو تصور وتخيل أحداث عمل النهار، كما يقولون: المخيلة تختزن بعض الصور، فيبيت يحلم بما كان فيه في النهار من بيع وشراء أو خصومة أو فرح.
إلخ، وهذه هي التي يقال فيها: إنها أضغاث أحلام.
وهنا الصحابة رضي الله تعالى عنهم أُروا في المنام ليلة القدر؛ وكلنا يعلم مدى صحة الرؤيا في قضية مشروعية الأذان، لما تشاور النبي صلى الله عليه وسلم مع الصحابة في أمر إعلامهم بالوقت من أجل أن يجتمعوا للصلاة، فقد كان الواحد منهم يخرج من بيته ويمر على أخيه في بيته فينبهه: الصلاة يا فلان! الصلاة يا فلان! وكل يُعْلِم الآخر حتى يجتمعوا لصلاة الفريضة جماعةً، فتشاور صلى الله عليه وسلم معهم ليتخذوا وسيلة للإعلام، فمنهم من اقترح الناقوس -وهو الجرس- فقال: لا، هذا للنصارى، ومنهم من اقترح الطبل، فقال: لا، هذا لكذا، ومنهم من اقترح البوق، فقال: هذا لليهود، ومنهم من اقترح إشعال النار، فقال: لا، هذا للمجوس وهكذا، وانصرفوا دون أن يتفقوا على شيء، فلما كان الغد جاء عبد الله بن زيد وقال: (يا رسول الله! رأيت فيما يرى النائم أنه طاف بي رجل، عليه حلة خضراء، يحمل ناقوساً على كتفه -وفي رواية: خشبة على كتفه- فقلت: أتبيع الناقوس؟ فقال: وماذا تفعلون به؟ قلت: ننقس به للصلاة، قال: ألا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ قلت: بلى.
فوقف وأذن، وذكر ألفاظ الأذان الخمسة عشر، ثم تنحى قليلاً وذكر الإقامة، وقال: هكذا تفعلون.
فلما سمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنها لرؤيا حق، قم فألقه على بلال، فإنه أندى منك صوتاً -يعني: أليق وأبعد وألطف.
إلخ- فلما قام بلال وأذن، سمع ذلك عمر بن الخطاب، فجاء من بيته يجري ويجر الرداء، وقال: يا رسول الله! والله! لقد رأيت مثلما سمعتُ.
فقال: تواطأت رؤياكم) وجعلها ألفاظ الأذان المشروعة.
والذي يهمنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع رؤيا الصحابة، ووجدها واضحة، أقرهم عليها.
وأذكر هنا بالمناسبة أن علماء التعبير يقولون: كل من حسن طعامه ولطف، وحسن لباسه ونظف، وتعود النظافة في جسمه دائماً وغالباً تكون رؤياه صالحة صادقة، وهذا في الأول والآخر يرجع إلى صلاح العمل، وإلى شفافية الروح وطهارة القلب؛ لأن الرؤيا رؤية البصيرة وليست رؤية البصر، والذي يهمنا في هذا الحديث أنهم ذكروا ليلة القدر في السبع الأواخر.
والذي أورد على خاطرهم ترائي ليلة القدر هو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أراد أن يخبرهم بليلة القدر.(158/3)
التلاحي والتخاصم سبب في حرمان الخير والنعمة
وفي الحديث الصحيح: (خرجت لأخبركم عن ليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرفعت) أي: رفع تعيينها، ولذا قال العلماء: شؤم التلاحي والخصومة حرمهم نعمة تعيينها.
ولذا يقول ابن دقيق العيد وابن عبد البر: من اشتغل من طلبة العلم باللجاج في العلم، وتتبع الخلافات والخصومات في الشواذ حرم العلم؛ لأنه يشتغل بأشياء مختلف فيها، فيفوت على نفسه الأهم.
إذاً: في هذا الحديث النص على أن ليلة القدر في السبع الأواخر، والسبع الأواخر هي العشر الأواخر ما عدا الأولى، والثانية والثالثة من العشر، وبقي الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة، إذاً: الثالثة من أول العشر هي أول السبع، فيقولون: إن النصوص وردت في العشر الأواخر آكد منها في غيرها، وكما قال المؤلف في آخر الحديث الثاني: لقد أوردت أربعين قولاً في تعيينها، منها ما جاء عن ابن مسعود أنه قال: من قام العام كله صادف ليلة القدر.
ولما ذكر ذلك لـ أبي بن كعب قال: يرحم الله أبا عبد الرحمن، والله! لقد علم أنها في العشر الأواخر -أو في الوتر من العشر الأواخر-.(158/4)
الحكمة من عدم تعيين ليلة القدر
ويقول العلماء: أخفاها الله على الأمة كما أخفى الساعة التي في يوم الجمعة، ليجتهد الناس في عمل الخير في رمضان كله، وفي العشر كلها، وفي يوم الجمعة بكامله؛ لأنه لو عين ليلة بذاتها لتقاصرت الهمم، وتكاسل الناس، ونشطوا في تلك الليلة فقط وتركوا ما عداها.(158/5)
أرجى الليالي التي يتوقع أن تكون فيها ليلة القدر
ونأتي إلى بعض النصوص الأخرى المتفق عليها، ونترك الأربعين قولاً التي ذكرها المؤلف.
وهنا: من الليالي التي هي أرجى ليالي القدر ليلة واحد وعشرين، وذلك لما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما كان معتكفاً في العشر الوسطى، ثم خرج على الناس برأسه من خبائه وقال: (من كان معتكفاً معي فليعتكف) لأن راوي الحديث يقول: فخرجنا في صبيحة عشرين بأمتعتنا، أي: انتهينا، فخرج عليهم فقال: (من كان قد اعتكف معي فليعتكف، فقد أُتيت وأخبرت أن الذي أطلبه أمامي -يعني في العشر الأواخر- وقد رأيتني -أي: فيما يرى النائم، أو رأيتني فيما يوحى إليَّ إلهاماً، أو نفث في روعي.
كل ذلك يصدق عليه- أني في صبيحتها أسجد في ماء وطين) يقول راوي الحديث: وما كان في السماء من سحاب ولا قزعة، فأمطرت السماء ليلاً، وكان المسجد من العريش -أي: من الجريد والجذوع- وأرضه من التراب، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى الصبح في أثر الماء والطين، أي: فوكف السقف ونزل الماء من المطر، وتبللت أرض المسجد، يقول: ولقد رأيت الطين والماء على أرنبة أنف رسول الله وعلى جبهته، وكان ذلك صبيحة يوم واحد وعشرين، فهذه رواية صحيحة أنه قال: (أريت أني أسجد في صبيحتها في ماء وطين) وجاء الماء والطين صبيحة يوم واحد وعشرين، فهذا دليل على أنها في ليلة واحد وعشرين.
وفي عموم (التمسوها في الوتر من العشر الأواخر) روى مالك رحمه الله في الموطأ، وهو في صحيح البخاري وفي السنن: أن رجلاً من جهينة كبيراً في السن كان يسكن أطراف المدينة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إني رجل كبير السن، أسكن في البادية، وإني -بحمد الله- أصلي بقومي، ولا أستطيع أن أنزل كل ليلة إلى هذا المسجد، فمرني بليلة أنزل فيها إلى هذا المسجد رجاء ليلة القدر) فهذا رجل كبير السن، ساكن في ضاحية المدينة، يصلي بقومه، سأل رسول الله أن يعين له ليلة ينزل فيها إلى هذا المسجد بغية ورجاء ليلة القدر، فماذا قال له؟ قال: (انزل ليلة ثلاث وعشرين) .
ونحن نقف عند هذا الأثر، الرجل يقول: أنا رجل كبير، وأصلي -بحمد الله- بقومي، ولا أستطيع النزول كل ليلة إلى هذا المسجد، يعني أنه يرغب أن ينزل ولكن يشق عليه، ثم يقول: أريد أن أنزل ليلة، فمرني بليلة وعين لي ليلة أنزل فيها تحرياً لليلة القدر، فلم يقل له صلى الله عليه وسلم: أنت رجل كبير، وأنت تصلي بقومك، صل هناك وتحر ليلة ثلاث وعشرين، ولكن أقره على الرغبة في النزول إلى هذا المسجد النبوي الشريف، وعين له الليلة التي ينزل فيها.
إذاً: لا نعيب على الناس حينما يأتون من حيث شاءوا إلى المسجد النبوي الشريف يتحرون ليلة القدر فيه، وهم يتحرونها فيه؛ لأننا نعلم جميعاً أن الصلاة فيه بألف صلاة، فإذا صادفت ليلة القدر، وهي خير من ألف شهر، إذاً: فستكون ألف في ألف فهذا فضل عظيم! إذاً: هذا الحديث يبين لنا مدى فضل الصلاة في المسجد النبوي في رمضان وفي العشر الأواخر تحرياً لليلة القدر ولو كانت نافلة، ولا نقول: كلٌ يصلي في مكانه، فهذا صحيح ولا مانع أن يصلي الرجل في بيته، أو يصلي في باديته، أو يصلي في حاضرته حيثما كان؛ لأن هذا الرجل سأل، والرسول قرره على رغبته، وعين له الليلة التي يتحرى أو هي أحرى أن يصادف فيها ليلة القدر.
تأتي أحاديث عموم الوتر فيدخل فيها ليلة خمس وعشرين، لكن ليس فيها نصوص بذاتها كالحادية والعشرين، والثالثة والسابعة والتاسعة والعشرين، ثم نأتي إلى ليلة سبع وعشرين وهي من الوتر، فنجد فيها هذا الحديث الذي اختاره المؤلف وساقه هنا وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (أرى رؤياكم قد تواطأت على ليلة سبع وعشرين، فمن كان متحرياً فليتحرها أو تحروها ليلة سبع وعشرين) وهنا نجد أن الجمهور يرجحون أنها في ليلة سبع وعشرين؛ لأن عدداً من الصحابة رأوها في منامهم، وتواطأت رؤياهم عليها، والرسول صلى الله عليه وسلم أقرهم على ذلك، ثم نجد بعض الاجتهادات في تأييد أنها في ليلة سبع وعشرين.
فمن تلك الاجتهادات قول بعض العلماء: إنها معينة في سورة القدر في قوله تعالى: {سَلامٌ هِيَ} [القدر:5] يقولون: إذا عددت من أول قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] إلى كلمة (هي) فستجد كلمة (هي) هي الكلمة السابعة والعشرون من كلمات السورة، و (هي) ضمير مفرد مؤنث، فقالوا: إذاً: هي في ليلة سبع وعشرين.
وهذا -كما يقولون- ربما يكون من باب المصادفات، وقد ساق ابن كثير والقرطبي وكثير من المفسرين أن عمر رضي الله تعالى عنه كان كثيراً ما يدخل ابن عباس في مجلسه وهو غلام، ويرى من شيوخ الصحابة نوع استغراب أن يجالس غلام كبار الصحابة، فأراد عمر أن يبين لهم أنه ما أجلسه معهم إلا لفضله وعلمه وإن كان غلاماً، وفي بعض المجالس سأل عن سورة النصر: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] فتكلموا فيها وقالوا: هي بشرى بالفتح، وبشرى بالنصر، وبشرى بانتصار الإسلام، وابن عباس ساكت، فسأله عمر: ماذا تقول يا ابن عباس؟! قال: والله! لقد نعت إلينا رسول الله وهو حي بين أظهرنا؛ لأنه إذا جاء نصر الله، وإذا دخل الناس في دين الله أفواجاً، فمهمة الرسالة قد تمت، ولم يبق هناك حاجة للبقاء، فليتأهب، ويسبح بحمد ربه ويتزود ليلقى ربه.
فقال عمر: وأنا أقول ذلك.
ومرة أخرى سألهم عن ليلة القدر، فخاضوا في بعض الأحاديث وفي رؤى بعض الصحابة، فقال: ما تقول أنت يا ابن عباس؟! قال: إني لأعلم أي ليلة هي.
قال: وما هي؟ قال: هي لسبع بقين أو لسبع خلون، (لسبع بقين) يعني: ليلة ثلاث وعشرين؛ لأن الباقي بعدها سبع ليال، أو (لسبع خلون) يعني: ليلة سبع وعشرين؛ لأنه قد خلت ومضت قبلها سبع ليال، قال: وكيف عرفت ذلك؟ قال: لأن الله خلق السماوات سبعاً، والأراضين سبعاً، وجعل الجمرات سبعاً، والطواف سبعاً، والسعي سبعاً، والأسبوع سبعاً، والشهر يقوم على سبع، والإنسان خلق من سبع، وغذي بسبع.
وذكر أشياء من هذا كثيرة.
قال: فهذا الطواف والسعي والسماوات عرفناها، ولكن الإنسان كيف خلق وكيف غذي؟ قال: يقول تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:24-31] والأبٌّ للدواب، وهذا رزق الإنسان مبني على هذا، وأطواره سبعة: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظام، ثم كسي العظام لحماً ثم أنشى خلقاً آخر، قال: والله لقد غصت على ما لم نغص عليه، فاعترف له عمر رضي الله تعالى عنه بالفضل وبدقة الاستنتاج.
يهمنا هنا قول ابن عباس: لسبع بقين، أو لسبع مضين.
وهذا يتعين إما ليلة ثلاثٍ وعشرين وإما ليلة سبع وعشرين، هذا ما يتعلق بالتعيين.(158/6)
الجمع بين الروايات المتباينة في تعيين ليلة القدر
وهنا يقف العلماء أمام هذه النصوص الصحيحة: ليلة واحد وعشرين وفيها المطر، وليلة ثلاث وعشرين أمر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل المسن بالنزول فيها، وليلة سبع وعشرين رؤياهم تواطأت فيها، فكيف يكون هذا مع أن إحدى وعشرين تغاير ثلاثاً وعشرين وتغاير سبعاً وعشرين، فهل هذا تناقض أو تعارض؟ قالوا: ليس فيه تناقض ولا تعارض وإنما في السنة التي سألوا فيها أولاً كانت في ليلة واحد وعشرين، وفي السنة التي رأوا فيها الرؤى كانت في ليلة سبع وعشرين، وفي السنة التي سأل فيها الجهني وقد صارت معروفة عند أهل المدينة بليلة الجهني؛ لأنه كان ينزل في العصر وينيخ دابته، فيصلي العصر، ويبقى إلى أن يصلي الفجر، ودابته عند الباب فيركب ويرجع إلى مكانه، فعرفت بليلة الجهني كانت في ليلة ثلاث وعشرين فقالوا: كل حادثة كانت ليلة القدر في سنتها في ذلك التاريخ، فإذاً: هي ليست بثابتة، ومن هنا قال الشافعي وغيره: إن ليلة القدر ليست مربوطة ومعينة بليلة واحدة من الوتر من العشر الأواخر، بل هي تتنقل وتدور في الوتر من العشر الأواخر، فمرةً تكون في ليلة واحد، ومرةً تكون في ليلة ثلاث، ومرةً تكون في ليلة تسع وعشرين، ومرةً تكون في ليلة خمس، ومرةً تكون في ليلة سبع، فهي ليست مرتبطة وثابتة في ليلة من الليالي، ولكنها تتنقل في الوتر من العشر الأواخر.
وهذا أحسن ما يجمع به بين النصوص، وهو يساعد على المعنى الذي قالوه في الحكمة من إخفائها: ليجتهد الناس في كل العشر الأواخر.(158/7)
بيان أن ليلة القدر باقية لم ترفع
ثم إن هناك من يقول: إن ليلة القدر قد رفعت كما جاء في الحديث: (فتلاحى رجلان فرفعت) وهذا يقوله بعض طوائف الشيعة، ولكن الجمهور يقولون: إن معنى (رفعت) أي: رفع العلم بتعيينها؛ لأنه في نفس الحديث قال: (فالتمسوها في العشر الأواخر أو في الوتر من العشر الأواخر) فكيف تكون قد رفعت وهو يقول: (التمسوها) إذاً: هي موجودة، ولكن الذي رفع هو العلم بتعيينها بالذات في أي الليالي.(158/8)
هل ليلة القدر خاصة بهذه الأمة أم أنها كانت موجودة في الأمم الماضية؟
ثم يأتي البحث أيضاً: هل هذه الليلة خاصة بهذه الأمة أو أنها كانت موجودة في الأمم الماضية؟ فبعضهم يقول: هي خاصة بهذه الأمة، ويذكرون في ذلك ما رواه مالك رحمه الله بلاغاً، وهو من البلاغات الأربعة التي يقولون: لم يوجد لها سند، ولكن تتبعها أبو زرعة رحمه الله فوجدها مسندة بأسانيد تدور بين الحسن والضعف والصحة، هذا البلاغ الذي رواه مالك هو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أري أعمار أمته مع أعمار الأمم الماضية، فتقالها؛ لأنها ما بين الستين والسبعين، والذين قبلهم كانوا يعمرون المائة والمائتين، فلما تقالها عظم عليه أنهم لا يعملون زمناً بقدر زمن الأمم الماضية، فلا يحصلون من الجنة بقدر ما يحصل غيرهم؛ لأن الشخص الذي يعيش مائة سنةً في طاعة الله ليس كالذي يعيش ثلاثين سنةً أو أربعين سنةً كما في الحديث: (خيركم من طال عمره وحسن عمله) فأتي بليلة القدر، وجعلت لأمته تلك الليلة التي قال فيها: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) فكانت ليلة القدر تعويضاً للأمة عما نقص من أعمارها، وفي الرواية الأخرى: أنه ذكر لهذه الأمة أنه كان في من قبلنا رجل كان يقوم الليل ويجاهد في النهار صائماً ثمانين سنةً أو مائة سنة، فتقال الصحابة أعمالهم وقالوا: من يستطيع أن يظل ثمانين سنة يقوم الليل، وثمانين سنة يجاهد العدو وهو صائم؟! فلما قارنوا أنفسهم بالنسبة لهذا النوع من البشر المتقدم عظم عليهم ذلك، فأنزل الله سورة القدر، وفيها: أن تلك الليلة خير من الألف الشهر؛ لأن الرجل لبس السلاح ألف شهر، والألف شهر في الحساب تساوي ثلاثة وثمانين سنة وكذا شهراً، يعني فوق الثمانين سنة، فكانت ليلة القدر تعويضاً للأمة عما فاتها من القدرة والاستطاعة على عمل الخير كذاك الرجل الذي عَبَدَ الله ألف شهر قياماً لليل وجهاداً في النهار.
ومن هنا قالوا: إنها خاصة بهذه الأمة، والآخرون يقولون: بل هي موجودة في الأمم قبلنا؛ لما جاء في حديث أبي هريرة: (أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل ليلة القدر كانت تكون في الأمم مع الأنبياء، فإذا مات النبي رفعت، أو هي باقية وخاصة بهذه الأمة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بل كانت مع الأنبياء في الأمم الماضية) وسواء كانت في الأمم الأوائل، أم كانت جديدة في هذه الأمة فنحن يهمنا الاجتهاد فيها.(158/9)
العلامات التي تعرف بها ليلة القدر
بقي هل هناك علامات لها في ليلتها؟ العلامات التي وردت إنما تظهر في صبيحتها، وبعضهم يقول: من أكرمه الله فقد يرى بعض العلامات، وليست علاماتها عامة كالشمس والقمر، ولكن ربما يجد إنسانٌ شيئاً ما دون أن يراه الآخرون، ولكن العلامة العامة هي معنوية روحانية، يذكرونها عند قوله سبحانه: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ} [القدر:4-5] فقالوا: (سَلامٌ هِيَ) أي أن الملائكة تسلم على كل من في الأرض، فيقولون: من صافحته الملائكة -وقد تصافح البعض- يشعر أن في قلبه رقة، وكأنه يميل إلى البكاء فرحاً أو خوفاً من الله، وهذه الحالة المعنوية قد تعتري بعض الناس إذا قرأ شيئاً من القرآن، فإن المولى يتجلى عليه بروحانية كتابه، فيحس طمأنينة وارتياحاً نفسياً لم يكن يحس به من قبل، وهي السكينة التي تنزل عند قراءة القرآن كما ذكر ذاك الصحابي لرسول الله أنه كان يقرأ القرآن بالليل والفرس في مربطها فإذا بها تجول، وعندها طفل فخاف عليه، وترك القراءة وذهب ليرى الطفل فوجد الفرس قد سكنت وهدأت فإذا عاد إلى صلاته وقرأ تحركت الفرس، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (تلك السكينة التي تنزل عند قراءة القرآن، فتراها الفرس فتتحرك) .
وهكذا قد يرى أنواع وأشخاص وأفراد من الناس في تلك الليلة بعض تلك العلامات التي من يحسها يحس بانشراح صدره، وبخفة روحه، وبرفعة معنوياته، وبمحبته لذكر الله وما والاه.
أما العلامات التي يشهدها الجميع ففي صبيحتها تشرق الشمس وليس لها شعاع كشعاع الأمس، بل تكون الشمس هادئة رائقة فيها شبه من ضوء القمر، يقولون في سبب ذلك: إن الملائكة حينما تنزلوا ليلة القدر لم يبق شبر في الأرض إلا وفيه ملك، فإذا صلى الناس الفجر بدأ الملائكة يصعدون إلى السماوات السبع، وإلى سدرة المنتهى، فيصعدون من بعد الفجر إلى طلوع الشمس وإلى الضحى فكثرة عددهم مع نورانيتهم -لأن الملائكة من نور- يختلط نور الملائكة مع شعاع الشمس، فيختلط النور والشعاع، فيتغير لون أشعة الشمس بسبب ذلك.
ويقولون في علاماتها: إن ليلتها سلام، فلا يقع فيها من الأحداث العظام التي تفزع الأمم، لا يقع فيها خسف، ولا يقع فيها غرق، ولا يقع فيها إحراق، وكذلك نهارها يكون تابعاً لليلتها بسلام: {سَلامٌ هِيَ} [القدر:5] والواجب على العالم في هذا الوقت الحاضر -لو كانوا عقلاء- أن يجعلوا لهم فترة سلام يستريحون فيها ولو كانوا في حالة قتال وشحناء، ويعطون أنفسهم فرصة للمفاهمة، وللتوصل إلى السلام الحقيقي، وسابقاً جعلوا سويسرا بلداً بعيداً عن الحروب، يلتقي فيها المتحاربان، يتقاتلان في الميدان، ويجلسان على طاولة واحدة وعلى مائدة واحدة في سويسرا، وإذا خرجوا منها شهر كل منهما السلاح على الآخر، فجعلوها بلداً بعيداً عن الحروب، حتى إنه كان في الأول ليس لها جيش؛ لأنها لا تحارِب ولا تحارَب؛ لتكون موطناً لالتقاء الأعداء وفرصة للتفاهم، وقد سبق الإسلام ذلك قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة:36] يحرم على الإنسان أن يعتدي على الآخر ولو كان له دم عنده، فيتواصل الناس، وتسافر القبائل وتنتقل في مأمن أثناء هذه الأشهر الحرم.
وكذلك قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة:125] فالمتقاتلان في غير مكة إذا التقيا في حرم مكة فهما أخوان، لا يهيج أحدهما الآخر، ولا يعتدي أحدهما على الآخر؛ لأنهما في مظلة أمن البيت الحرام كما قال تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:97] حتى الطير يأمن فيه، والوحش يأمن فيه فضلاً عن الإنسان، فالإسلام جعل مكاناً وزماناً للسلم والأمن وجعل فرصة للمتخاصمين أن يتصالحوا، وفرصة للمتخالفين أن يتفاهموا في ظل حرمة من حرمات الله قال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] .
إذاً: نحن مقصرون في حق الإسلام، وكان علينا لزاماً أن نعلِّم العالم بأن السلام عندنا، ومن عندنا انطلق، سواء كان في المكان بمكة، أو في الزمان في الأشهر الحرم، والتشريع العام: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة:2] يا سبحان الله! يقول: لا تحلوهم، ولا تستحلوهم، وابقوا لهم الحرمة، من أمَّ البيت الحرام فهو آمن، وقد كانوا في الجاهلية من خرج من أمن الحرم وخاف على نفسه في غير الأشهر الحرم يأخذ لحاء شجرة ويجعله كالقلادة في عنقه، فإذا مر بأي قبيلة قالوا: تحرم بالحرم، فهذه القلادة، والقشرة من لحا الشجرة تحميه من أعدائه؛ لأنها من جوار البيت.
والآن صار المسلمون لا يرقبون في بعضهم إلاً ولا ذمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فالقوة للقاهر، والسلطة للقادر، ورجعت جاهلية من عز بز ومن غلب استلب، فلنرجع إلى الإسلام، إن لم نصدره للآخرين فليكن لنا فيما بيننا، لا أن نأتي في رمضان ونحشد الجيوش للقتال، الواجب على الجميع أن يكون رمضان أقل ما فيه هو السلم والسلام، نعم لأخذ الاحتياط! ونعم لأخذ الأهبة! ونعم لإعداد القوة! ولكن أن نقاتل! وأن يقاتل المسلمون بعضهم بعضاً في رمضان، وفيه ليلة السلم والسلام التي قال الله فيها: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر:5] ! فنسأل الله السلامة والعافية! أين المسلمون من هذا؟! أين أجهزة الإعلام من هذا التشريع الإلهي؟! إن الكلام على ليلة القدر لا يمكن أن يستوفيه إنسان في جلسة.(158/10)
سبب تسمية ليلة القدر بهذا الاسم
وإذا جئنا إلى تسميتها قالوا: القدر: هو الشرف والرفعة، فهي ليلة رفيعة القدر، جليلة المكانة؛ لأنها شهدت عظيم القدر على عظيم الخلق في عظيم الأمم، شهدت أعظم ما شهدت ألا وهو إنزال القرآن الكريم على خير خلق الله في أمة هي خير الأمم، ومن هنا كانت ليلة القدر رفيعة الشأن.
وقيل القدر: هو التقدير؛ لأن الله سبحانه يقدر فيها أحوال العالم الأرضي، وينزل ذلك التقدير إلى الملائكة ليطبقوا ذلك كما قال تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} [القدر:4] من كل أمر من أمور الخلائق: من رزق ومن شقاء ومن سعادة ومن مولد ومن ممات ومن.
إلخ، ولذا يؤكد العلماء على أن ليلة القدر هي في رمضان، وأن ما جاء في سورة الدخان في قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا} [الدخان:4-5] إنما هو في ليلة القدر؛ لأنه قال: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] وكان إنزال القرآن قطعاً في رمضان.
إذاً: الليلة التي تقدر فيها الأمور، وتقدر فيها شئون الحياة إنما هي ليلة القدر، يقدر الله أو ينسخ من اللوح المحفوظ ما قدره طيلة العام، وينزّله إلى الملائكة الكرام، ثم بعد ذلك ينزل ويطبق وينفذ في العام كله.(158/11)
الأدعية الواردة في ليلة القدر
أما ماذا يقول من صادفها؟ فقد جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: (يا رسول الله! ماذا أقول إن أنا صادفت ليلة القدر؟ قال: قولي: اللهم! إنك عفو تحب العفو فاعف عني) وإذا تأملنا في هذه الألفاظ وجوها: السائل عائشة، وسألت رسول الله، ومن تكون عائشة من رسول الله؟ هي أحب الناس إليه بعد أبي بكر، فأتاها بأحب النصح، يعني: أن جوابه لها هو نهاية النصح والمحبة، ولو أن هناك خيراً من ذلك لقاله لها.
ويقول علماء اللغة: الميم في (اللهم) بدل (يا) النداء في (يا ألله) فتحذف ياء النداء في الأول، ويعوض عنها بميم في الأخير.
قوله: (اللهم! إنك عفو) هذا وصف للمولى سبحانه أنه عفو، وكم من عفو لله على الخلق! وكم من ذنب يرتكبه الإنسان في خفاء أو علن والله يعفو عنه! إذاً: يمتدح الله بصفته أولاً؛ لقوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35] أي: عند الدعاء قدم وسيلة لاستجابة دعائك، وهذا مبدئياً، فإذا قلت: (اللهم! إنك عفو) فقد أثنيت على الله، ومدحت الله بالصفة التي تتناسب مع حاجتك وسؤالك، ولو كنت تريد الرزق: فقل: اللهم! يا رزاق! يا رازق الطير! يا رازق النمل! يا رازق كذا في جحره ارزقني؛ لأنك تطلب رزقاً فتسأله بصفة الرزاق، وهنا تريد أن تسأله العفو، فتمتدحه سبحانه بصفة العفو.
وقوله: (إنك عفو تحب العفو) قال تعالى: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] في قضية مسطح وغيره، وقوله: (إنك عفو تحب) أي: وأنا أسألك لأن من صفتك العفو وأنت تحبه أن تعفو عني.
وإذا تأمل الإنسان في قوله: (فاعف عني) العفو -كما يقولون-: هو الإزالة، نحو: عفت الريح الأثر، إذا مرت قافلة في الصحراء ورسمت أخفافها وأقدامها في الطريق، فإذا جاءت ريح شديدة وحركت الرمل عفت أثر المسير في الصحراء ولم يبق للمسير أثر، فكذلك العفو عن الزلة يمحو أثرها من الصحيفة، فلا يبقى لها أثر مكتوب على الإنسان.
قوله: (إنك عفو تحب العفو فاعف عني) وإذا نظرنا إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (من عوفي في بدنه، وعنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) ، وقوله: (من عافاه الله في بدنه فهو سعيد) ، وقوله: (من عافاه الله في دينه وسلم من الشرك، وسلم من الرياء، وسلم من كبائر الذنوب فهو سعيد) ، وقوله: (من عافاه الله يوم القيامة من تلك المضايق فهو السعيد الناجي) ، وقوله تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185] علمنا أن أجمع دعاء يكون هو هذا الدعاء الموجز (فاعف عني) مع المقدمة التي يقدمها الإنسان إليه.
ونحن نتوجه إلى الله العلي القدير بأنه عفو يحب العفو أن يعفو عنا، اللهم! إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة، اللهم! إنا نسألك أن تعافينا في أبداننا، وفي ديننا، وفي جميع أعمالنا، اللهم! إنا نسألك يا سلام! يا منزل السلام! أن تنزل السلام على الأمة الإسلامية، اللهم! خذ بنواصي ولاة أمور المسلمين إلى الحق وإلى العدل، اللهم! أنزل رحمتك علينا واجعلنا من عتقائك من النار، ومن المقبولين، اللهم! أوردنا حوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم! وأسقنا منه وبيده الشريفة شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبداً، اللهم! أكرمنا بفضلك شفاعة نبيك صلى الله عليه وسلم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(158/12)
كتاب الصيام - باب الاعتكاف وقيام رمضان [4]
جعل الله عز وجل البيت الحرام مهوى أفئدة الناس من جميع أقطار الأرض، فكلما زادت زيارته ورؤيته زاد الشوق والحنين إليه، ولفضله وشرفه نسبه الله إليه، وجعل الصلاة فيه بمائة ألف صلاة، وجعله المكان الذي يؤدى فيه الركن الخامس من أركان الإسلام ألا وهو الحج، وجعل الله عز وجل المسجد النبوي مقارباً له في الفضل، وجعل المسجد الأقصى مقارباً للمسجد النبوي في الفضل؛ لأن هذه المساجد الثلاثة بناها أنبياء بوحي من الله سبحانه وتعالى.(159/1)
حكم شد الرحال إلى الثلاثة المساجد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد بن عبد الله وعلى آله والتابعين.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى) متفق عليه] .
يسوق المصنف رحمه الله تعالى هذا الحديث الخاص بشد الرحال إلى المساجد الثلاثة في باب الاعتكاف بمناسبة تحديد المكان الذي يصح الاعتكاف فيه.(159/2)
الخلاف في المسجد الذي يصح فيه الاعتكاف
قد تقدمت الإشارة إلى قوله سبحانه: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] وأن الجمهور يرون صحة الاعتكاف في كل مسجد، ويشترطون المسجد الجامع للرجل حتى يصلي الصلوات الخمس في جماعة، وحتى يحضر صلاة الجمعة، ولا يضطر إلى أن يخرج ويقطع اعتكافه للجمعة والجماعة، ولكن يوجد من العلماء من غير الأئمة الأربعة من يقول: لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام، أخذاً من قوله سبحانه: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125] .
وهناك من يقول: لا يصح الاعتكاف إلا في المسجد النبوي، عملاً بفعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يعتكف قط إلا في المسجد النبوي.
وهناك من يقول: الاعتكاف جائز في تلك المساجد الثلاثة، وألحقوا المسجد الأقصى بالمسجدين السابقين لاشتراطه معهما في خصوصية شد الرحال، ويستدل بهذا الحديث بأنه لا يجوز لأحد أن يشد الرحل إلى أي مسجد في الأرض ليعتكف فيه إلا إلى أحد هذه الثلاثة؛ لأن جميع المساجد على وجه الأرض ما عدا تلك المساجد الثلاثة فيما يتعلق بالعبادات سواء، فمثلاً: لا يجوز لإنسان في مصر يشد الرحل إلى الجامع الأموي في دمشق ليعتكف فيه؛ لأن المساجد في مصر تعادل المساجد في دمشق، ولا يحق لأحد في دمشق أن يشد الرحل إلى مصر ليعتكف مثلاً في الجامع الأزهر؛ لأن مساجد دمشق بالنسبة للعبادات سواء مع مصر وغيرها، وهكذا الجوامع القديمة كجامع قرطبة أو الزيتونة أو غير ذلك من المساجد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) ومعلوم أن شد الرحال لهذه المساجد الثلاثة إنما هو لموضوعية المساجد، وهي: الصلاة والاعتكاف.
إذاً: بهذا الحديث ينبه المؤلف رحمه الله على أن أي إنسان في أي بقعة من العالم إذا أراد أن يعتكف فيعتكف في مسجد من مساجد بلده أياً كان موقعه وأياً كان نوعية مسجده، مادام يجمع فيه، إلا إذا أراد الفضيلة فله أن يشد الرحال إلى واحد من هذه المساجد الثلاثة، فإذا جاء أي إنسان من شرق أو غرب أو شمال أو جنوب في محيط الأرض إلى أحد هذه المساجد الثلاثة ليعتكف فيه فلا مانع.(159/3)
سبب تخصيص المساجد الثلاثة بجواز شد الرحال إليها
ولماذا خصت تلك المساجد الثلاث بجواز شد الرحال إليها ليعتكف فيها؟ قد سبق أن نبهنا أن طالب العلم إذا وجد متعددات في حديث واحد فعليه أن يطلب الرابط والجامع والمناسبة بين جمع هذه المتعددات في سياق واحد، ومثلنا بحديث المنبر والتأمين عليه ثلاث مرات، حينما صعد صلى الله عليه وسلم المنبر فقال: (آمين، ثم صعد الدرجة الثانية فقال: آمين، ثم صعد الدرجة الثالثة فقال: آمين) ، وكان منبره صلى الله عليه وسلم في زمنه من ثلاث درجات، قيل: كان يصعد على الأولى وتستقر قدماه الشريفتان على الوسطى، ويجلس على الثالثة، وربما وقف على الثالثة وأدى بعض الأعمال ليري الناس كيف يفعلون، كما جاء أنه صعد عليه وصلى ركعتين فاستقبل القبلة وكبر وقرأ وركع ثم رفع، ثم نزل القهقرى وسجد في أصل المنبر، ثم عاد إلى الركعة الثانية ثم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) .
وموضوع التأمين ثلاث مرات: (قالوا: يا رسول الله! سمعناك تؤمن ولا نعلم على ما أمنت، قال: نعم، أتاني جبريل آنفاً وقال: يا محمد! من أدرك أبويه أو أحدهما ولم يدخلاه الجنة باعده الله في النار، فقل: آمين.
فقلت: آمين.
ولما صعدت الثانية قال: يا محمد! من ذكرت عنده ولم يصل عليك باعده الله في النار، فقل: آمين.
فقلت: آمين.
ثم قال: من أدرك رمضان وخرج عنه ولم يغفر له باعده الله في النار، فقل: آمين.
فقلت: آمين) فلما تأملنا وتساءلنا عن علاقة ذكر هذه الثلاثة في سلك واحد في حديث واحد في وقت واحد؛ وجدنا أن عظيم الأجر في هذه الثلاث: ففي بر الوالدين عظيم الأجر، فالإنسان إذا أتاح الله له وجود والديه أو أحدهما ولم يعمل على برهما وحسن عشرتهما حتى يدخلاه الجنة فهذا ليس فيه خير؛ ولذا فضل النبي صلى الله عليه وسلم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله كما في الحديث: (لما أتاه شاب من اليمن وقال: جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان على خروجي.
قال: ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما) فالجهاد في سبيل الله لا شيء أعلى منه، ومع هذا الرسول صلى الله عليه وسلم قدم بر الوالدين عليه.
وكذلك إذا كان الأبوان إنما عظم حقهما لأنهما السبب في وجود الإنسان من العدم إلى هذا العالم، وهو وجود مادي كما توجد أفراد الحيوانات، فالحيوانات تلقح وتنتج، وابن آدم أيضاً يلقح وينتج، فالطريقة واحدة، فكان لهما بهذا التسبب في إيجاده هذا الحق؛ لأن الموجد الحقيقي هو الله، وهما متسببان في إيجاده من الله، فكانا في الدرجة الثانية كما في قوله سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] فحق الله أولاً ثم حق الوالدين.
والنبي صلى الله عليه وسلم هو سبب إيجادك المعنوي الروحاني، وهو الإيجاد الأفضل والأبقى؛ لأن إيجاد الدين وإيجاد الإسلام والإيجاد مع الله هو الذي يستمر إلى الحياة الآخرة، أما الإيجاد الأول فينقطع، بل يتمنى صاحبه لو لم يكن، ويأتي يوم القيامة كما قال الله تعالى: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40] أي: ولم أوجد؛ لأنه لم يصحبه الإيجاد المعنوي الروحي وهو الإيمان بالله.
إذاً: إذا كان للأبوين فضل على الإنسان في وجوده من العدم فللرسول على المسلم فضل إيجاده الإيجاد الأكمل، وهو الإيجاد المعنوي الروحي الذي يربطه بالله ويسعده في الآخرة.
ثم نأتي إلى رمضان، ورمضان هو شهر الخير وشهر المغفرة وشهر الرحمة، فإذا كان لله في كل ليلة من رمضان عتقاء من النار، وفي رمضان تتنزل الرحمات من الله تعالى، وفيه ليلة هي خير من ألف شهر، وفيها تغمر الملائكة الأرض، وتسلم على أهلها، من قامها غفر له ما تقدم من ذنبه، فإذا كان هذا الفضل كله في رمضان ولم يغفر له فيه ولم ينل حظاً منه فمتى ينال حظاً؟! إذاً: هذه الثلاث لها مناسبة ولها ارتباط بعضها ببعض ولهذا ذكرت في حديث واحد.
ونأتي إلى ذكر هذه المساجد الثلاثة: فواحد في مكة، وواحد في المدينة، وواحد في بيت المقدس، والذي في مكة هو أول بيت وضع للناس، والذي في بيت المقدس وضع بعده بأربعين سنة، والذي بالمدينة وضع بعدهما بآلاف السنين، فما الذي ربط بينها رغم التباعد فيما بينها؟! وإذا تأملنا أيضاً نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ربط بينها في جانب آخر، فقال صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) فصارت صلاة في المسجد الحرام بمائة ألف، وصلاة في مسجد المدينة بألف، وصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة، ووجدنا أن المسجد الأقصى قد ارتبط بالمسجد الحرام قبل المسجد النبوي في مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1] إذاً: هذه المساجد الثلاثة اجتمعت لها تلك الفضيلة، وهي مضاعفة الصلاة فيها، فتكون أيضاً مشتركة في مضاعفة الاعتكاف فيها؛ لأن الاعتكاف عبادة، فما دامت تتفاضل الصلوات فيها على سائر مساجد الدنيا فكذلك الاعتكاف.(159/4)
سبب مضاعفة الصلاة في المساجد الثلاثة
ثم يأتي السؤال الآخر: وما السبب في أن الصلاة تضاعفت فيها بمائة ألف، وألف، وخمسمائة، والأرض كلها مسجد وطهور؟ نجد أيضاً أن في تاريخ كل منها ارتباطاً وثيقاً وصفات معينة لم يشاركها -أي: الثلاثة- غيرها من مساجد العالم كله، أولاً: إن اختيار المكان لها ما جاء عفواً، بل كان اختيارها في هذه الأماكن من الله، ثانياً: إن إقامتها وبناءها جاء عن طريق رسل الله وليس عامة الناس.
إذاً: ما دامت قد اشتركت في كيانها ووجودها في تلك المبادئ فبينها اشتراك أساسي، أما تعيين المكان فقد جاء في حق المسجد الحرام قوله سبحانه: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج:26] والبيت كان قد انطمس، وزمزم كانت قد ردمت، ولم يبق في مكة أثر للبيت، فأوحى الله سبحانه وتعالى إلى خليله إبراهيم أن ينقل ولده إسماعيل إلى مكة، فجاء امتثالاً لأمر الله كما قال الله عنه أنه قال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم:37] وهذا باعتبار ما كان؛ لأنه لا يوجد بيت في وقت مناداة إبراهيم؛ لأن إبراهيم عليه السلام بناه بعد أن كبر إسماعيل وبوأ الله لإبراهيم مكان البيت - (بوأ) بمعنى: أطلعه على المباءة، والمباءة: المكان الذي يبوء إليه الإنسان ويئول- تقول كتب تاريخ المسجد الحرام: إن الله أرسل إليه سحابة في وقت الظهيرة -وقت الزوال- فسارت ثم وقفت وثبتت، وقال له المولى: خط على حدود ظلها.
فخط على حدود ظل تلك السحابة، ثم بدأ بالحفر فنزل حتى وصل إلى القواعد الأساسية كما جاء في قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} [البقرة:127] فلم يضعها ابتداءً ولم يحط حجر الأساس، بل كانت القواعد موجودة من قبله، ومن الذي كان قد وضعها؟ نجد في ذلك آثاراً كثيرة، منها أن الملائكة بنته لآدم، ومنها أن آدم هو الذي وضعها بعد أن جاء شيث، وغيرها من الآثار، وكلها آثار لا ترتفع إلى درجة الصحة التي يقطع بها.
والذي عندنا من علم اليقين ما جاء في كتاب الله من العمارة الثانية وهي عمارة الخليل عليه السلام، فلما وصل إلى القواعد بنى عليها ورفعها، وكان إسماعيل عليه السلام يساعد أباه، وكما يقولون في تاريخه: كان يأتيه بالحجر ويرفعه إليه، إلى أن استوى البناء إلى قامة الإنسان، وبعد أن وصل إلى قامة الإنسان لم يكن لديهم (سقالة) ، وليس لديهم (مصعد) ، فجاء مقام إبراهيم، وهو: حجر كان يقف عليه إبراهيم، فإذا بالحجر يصعد بإبراهيم وهو حامل الحجر للبناء حتى يضعه في الجدار في مستوى ارتفاعه، وينزل الحجر بإبراهيم حتى يأخذ الحجر من إسماعيل ويصعد به، وهكذا.
ولذا فإن مقام إبراهيم فيه آيات بينات، يقول الفخر الرازي: الآيات جمع آية وهي موجودة في الحجر في مقام إبراهيم، وكيف هي؟ قال: وجود حجر أصم، ثم يلين هذا الحجر تحت قدميه كأنه من الطين، وتبقى صلابة الحجر في حوافها لم تلن، فحجر واحد البعض منه يلين والبعض منه يظل قاسياً هذا فيه آية، فالجزء الذي لان فيه آية، والجزء الباقي على قساوته فيه آية، وإلى الآن يوجد مقام إبراهيم في الفانوس الموجود في صحن المطاف، وفيه أثر قدمي إبراهيم في الحجر.
إذاً: المسجد الحرام اختص أولاً بقوله سبحانه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} [آل عمران:96] وهل هذه أولية مطلقة، بأن كان هو أول حركة عمران على وجه الأرض، أم هي أولية بالنسبة للمساجد؟ هناك من يرجح الأول، ويقول: إن أول عمران على وجه الأرض عند أن نزل آدم إلى الأرض هو البيت -الكعبة- ثم جاء إبراهيم عليه السلام وبوأ الله له المكان، وهذه خصيصة ثانية، فقام ببنائه إبراهيم يساعده إسماعيل والحجر معهم مساعد، وهذه خصيصة ثالثة، فاختص المسجد الحرام بهذه الأمور.
ثم هو في حرم آمن، ويتفق الجميع بأن الصلاة تتضاعف في جميع حرم مكة وليس في المسجد فقط، فبيوت مكة كلها داخلة في الحرم، فحدود الحرم إلى مسجد التنعيم، وجميع المساحة التي حول الحرم والتي لا يصح الإحرام منها للعمرة داخلة في الحرم وتتضاعف فيها الصلاة.
نأتي إلى مسجد المدينة: لما تمت بيعة العقبة الثانية، وجاءت الهجرة، وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة -كما نعلم- نزل أول ما وصل بقباء، فبنى مسجدها، وكيف بناه وأين؟ تذكر كتب تاريخ المدينة حديثاً ضعيفاً وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ علي: (اركب الناقة، فركب، قال: ارخ زمامها، فأرخاه، فقامت واستدارت في مربع، فقال: خطوا على أثرها، فخطوا على أثرها، وبدأ ببناء مسجد قباء على ما خطته الناقة) ، فقالوا: أيضاً كان اختيار المكان لمسجد قباء من الله، وقد شارك في بعض الاختصاصات، فالذي بناه هو رسول الله، وجعل من تطهر في بيته وأتى إليه وصلى فيه صلاة كان له كأجر عمرة، وقال سعد بن أبي وقاص: (لأن أصلي ركعتين في مسجد قباء أحب إلي من أن أذهب إلى بيت المقدس، ولو تعلمون ما لهذا المسجد لضربتم إليه أكباد الإبل ولو شهراً) يعني: لو لم يكن عندنا لكان لفضله يستحق أن تضرب إليه أكباد الإبل شهراً، يعني: تشد الرحال إليه.
والكلام على مسجد قباء كثير، ويكفي فيه من الفضل أن من قصده للصلاة فيه كان له كأجر عمرة، وقول هذا الصحابي الجليل: (لأن أصلي ركعتين فيه أحب إلي من أن أذهب إلى المسجد الأقصى) .
وبعد أن بنى صلى الله عليه وسلم مسجد قباء نزل دافعاً إلى المدينة، وكانت -كما نعلم- قبائل الأوس والخزرج الذين بايعوه عند العقبة في استقباله بالعَدد والعُدد، وكل قبيلة تقول: هلم إلينا يا رسول الله! هلم إلى العَدد والعُدد.
أي: لنوفي لك بالعهد، فكان جوابه: (خلوا سبيلها فإنها مأمورة) يا سبحان الله! هذا نبي يوحى إليه بوحي السماء وفي أخطر رحلة يترك أمره إلى المأمورة وهي عجماء؟ ولماذا لا؟! ألم يوحِ ربك إلى النحل، والحيوانات لا تتحمل الوحي، لكنها تعقل، كما ذكر مالك في الموطأ: (أن يوم القيامة يكون يوم الجمعة، وأنه ما من دابة إلا وتصيخ بسمعها فجر يوم الجمعة شفقاً من الساعة) ، فإذاً: جميع الحيوانات تعلم يوم الجمعة من الخميس من السبت، وتدرك أن يوم الجمعة تقوم فيه الساعة، وتتسمع هل جاءت النفخة أو لا، فهي تعقل وتدرك، والناقة هنا مأمورة، فمضت إلى أن وصلت إلى هذا المكان المبارك فبركت، ولم ينزل عنها صلى الله عليه وسلم لأول وهلة، ثم نهضت وهو عليها وراحت ودارت واستدارت ورجعت إلى المكان الأول وبركت ومدت عنقها وتحركت، يا سبحان الله! هل عندها خارطة تطبقها لتتثبت مما أمرت به؟! ليس عندها شيء من ذلك وإنما هذا لكي يكون عندهم علم بأنها ما جاءت عفواً وإنما بركت مأمورة بركت على العلم الأول، ثم قامت تتثبت وتتأكد بأنها مأمورة، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنه المنزل إن شاء الله) فرجع الأمر إليه صلى الله عليه وسلم بقوله: إنه المنزل، وبتقريره المأمورة على ما أمرت به.
ويأتي السؤال هنا: لماذا ترك أمره للمأمورة؟ يجيب العلماء على ذلك: بأنه صلى الله عليه وسلم يعلم ما كان عليه المجتمع في المدينة قبل مجيئه، فقد كانت الحرب سجالاً بين الأوس والخزرج مائة سنة، ولم تقف إلا قبل مجيئه صلى الله عليه وسلم بخمس سنوات كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، إذاً: هم بالأمس كانوا في سباق في القتال، وكانوا طائفتين متقاتلتين متنافستين، ولا يوجد واحدة تسلِّم للثانية، فلما وضعت الحرب أوزارها وهدأت، جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أشرف من جاءهم، فلو قال: سأنزل عند الأوس، فستقول الخزرج: الجرح لم يبرأ بعد، ولو قال: سأنزل عند الخزرج فستقول الأوس: ولماذا لسنا نحن؟ ولماذا تركتنا؟ فتثار بينهم الحزازات مرة أخرى.
لكن لما قال لهم: (إنها مأمورة) أي: عندكم الناقة وهي مأمورة فتفاهموا معها، واتركوني من تحمل مسئولية تفضيل قبيلة على قبيلة، فجاءت إلى حيث أمرها الله وبركت، فلم يتكلم أحد بشيء؛ لأنهم يعلمون أن المأمورة إنما يأمرها الله، فإذا اعترضوا كان اعتراضهم على الله، وهم جاءوا ليستقبلوا رسول الله لا ليعترضوا على الله! إذاً: انتهت مشكلة تنافس الأوس والخزرج.
بقي لنا المحل الذي نزل فيه وقال عنه: (إنه المنزل) والمنزل هذا ليس بخال وليس بقفر، بل هناك بيوت وفيها أناس، فلو قال: أنا سأنزل عند فلان لقال الأخرون: لماذا فلان؟ وستأتي المسألة ثانية، فوقف الجميع وكل واحدٍ يقول: عندي عندي، بيتي قريب، بيتي هنا، وهو ساكت، وأبو أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه كتب الله له الخير فما زاحم ولا شارك ولا دافع وإنما قام ساكتاً وأخذ الرحل من على الناقة وجعله في بيته، فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى الناقة فوجدها خالية، فسأل أين الرحل؟ قالوا: احتمله أبو أيوب إلى بيته، فقال: (المرء مع رحله) فلم يتخير أحداً ولم يبق على أحد غضاضة في ذلك.
إذاً: سلمت الرحلة من كل شوائب قد تثير في النفس شيئاً، فلما استقر في بيت أبي أيوب نظر فإذا أمام البيت -كما يقال- بستان صغير أو مربد، والمربد عند أهل النخيل: هو المتسع بين البساتين الذي يجمعون فيه الرطب حتى يتمر، وينشرونه فيه للشمس حتى تذهب الرطوبة عنه ويشتد، فسأل لمن هو؟ فقالوا: لأيتام - سهل وسهيل - عند أسعد بن زرارة، قال: عليَّ به.
فجاء، فقال له: ثامني على هذا المربد -ثامني يعني: اذكر لي ثمنه وبعه علي بالثمن-.
قال: لا يا رسول الله! هو لك بدون ثمن، هو لأيتام عندي سأرضيهم عنه بأرض بدله أو بتعويض عنه، قال: لا، ثامنّي.
فثامنه وانتهى الثمن على عشرين ديناراً ذهباً، فدفعها أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فكل ركعة يركعها الإنسان في المسجد النبوي يكون لـ أبي بكر فيها أجر.
فقطع الجريد، وسوى الأرض، وبدأ ببناء المسجد من جذوع النخ(159/5)
مباحث متعلقة بالمسجد النبوي الشريف
بقي عندنا مباحث متعددة، وكلها عملية وضرورية بالنسبة للمسجد النبوي الشريف.
ونجمل هذا في الآتي: أولاً: المسجد النبوي طرأت عليه توسعات بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأتي السؤال عن تلك التوسعات مع الحديث: (صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة) فهل يا ترى! قوله: (مسجدي هذا) ينسحب إلى التوسعات التي جاءت بعده أو لا ينسحب؟ ثم (ألف صلاة) هل هي في عهده أو من بعدِه؟ وهل هي للفريضة والنافلة أو للفريضة فقط؟ فنأخذ أولاً: التوسعة، لما وسع عمر رضي الله تعالى عنه المسجد رأى بعض الصحابة يتحرج من الصلاة في توسعة عمر، فلاحظ ذلك، فقال: والله! إنه لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو امتد إلى ذي الحليفة -أبيار علي-.
إذاً: عمر يقسم بأن الزيادة التي زادها إنها من مسجد رسول الله، ولو جاءت الزيادة بعده، وقد جاءت من عثمان، ومن الوليد، ومن الخلفاء بعدهم، ومن العثمانيين، ومن الدولة السعودية.
فهي من مسجد رسول الله.
والواقع يصدق ذلك.
فلو امتد إلى ذي الحليفة، وجلس إنسان على الحائط الغربي من ذي الحليفة، وقيل له: أين أنت جالس؟ لقال: في مسجد رسول الله، إذاً: التوسعة مهما كانت فإنه ينسحب إليها فضل المسجد النبوي.
وسبب هذا الخلاف هو مدلول اللغة في كون اسم الإشارة اسم يعين مسماه كما يقول ابن مالك في الألفية: اسم الإشارة وضع بالوضع العام لموضوع له خاص.
فكلمة (هذا) تصدق على كل مفرد مذكر، فيقال: هذا إنسان، هذا جهاز، هذا عمود، هذا مصباح، هذا قلم، فكلمة (هذا) كلمة عامة تطلق على كل مفرد مذكر، ولكن مع كونها عامة هل تطلق على العموم في وقت واحد أو على فرد من أفراد العموم؟ الجواب: على فرد من أفراده، ولهذا قال بعض العلماء: اسم الإشارة هو: اسم يعين مسماه كالعلم، فقالوا في قوله: (مسجدي هذا) يكون خاصاً بما أشارت إليه الإشارة الحسية فيما يصلح لها؟ وقد ذكرنا في تتمة أضواء البيان عند قوله سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18] وذكرنا قوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي) و (مسجدي) في اللغة: مضاف ومضاف إليه، مسجد: مضاف، وياء المتكلم مضاف إليه، إذاً: مهما اتسع المسجد فهو مضاف إليه صلى الله عليه وسلم، والإضافة تكون للتخصيص كما تقول: باب الدار، وتكون للتمليك، كما تقول: كتاب زيد، إذاً: (مسجدي) مدلول الإضافة فيه يعادل مدلول اسم الإشارة.
ونأتي إلى قضية أخرى جاء فيها الحديث الصحيح: لما نزل قوله سبحانه: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108] تلاحى بعض الناس: هل هو مسجد قباء أو مسجد رسول الله؟ فأتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فأخذ كفاً من حصباء وضرب به الأرض وقال: (هو مسجدكم هذا) وأما مسجد قباء فما مصيره؟ مسجد قباء فيه النص: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة:108] ولما نزلت ذهب رسول الله إلى بني عمرو بن عوف وهم أهل قباء فقال: (إن الله قد أثنى عليكم في الطهور، فماذا تفعلون؟ قالوا: إنا نتبع الحجارة الماء) أي: نستنتجي بالحجارة، ثم نغسل بالماء.
إذاً: الآية قطعاً نزلت في مسجد قباء، وعلى هذا فقوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة:108] هل الأولية هذه أولية زمانية أو أولية تفضيل؟ إن جئنا إلى الأولية الزمنية فمسجد قباء هو أول، وإن جئنا إلى أولية الأولولية فلا شك أن المسجد النبوي أولى، ثم جمع العلماء وقالوا: كلاهما أسس على التقوى من أول يوم، ولذا فإن الآية الكريمة تشمل كل مسجد في كل زمان وفي كل مكان إذا بني من أول يوم على التقوى، لا على الرياء ولا على السمعة ولا على مزاحمة لمسجد آخر، إنما بني لوجه الله سبحانه.
إذاً: الصلاة في الزيادة تتعادل مع الصلاة في البناء الأول، ولكن لا شك ولا ريب أن المكان الذي كان صلى الله عليه وسلم يصلي فيه هو أولى من المكان الذي جاء من بعده، وأفضلية الألف موجودة فيهما، ولكن الأولوية لا شك أنها في البناء الذي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا جاءت الخصيصة الخاصة بهذا وأنه روضة من رياض الجنة قال صلى الله عليه وسلم: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على ترعة من ترع الجنة) ، وقد أشرنا إلى اختصاصه بالعبادة في الصلاة والاعتكاف، وذكرنا قصة الرجل الجهني الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إني رجل كبير، ولا أستطيع أن أنزل كل ليلة إلى هذا المسجد، وإني -بحمد الله- أصلي بقومي، فمرني بليلة أنزل فيها إلى هذا المسجد ابتغاء ليلة القدر) فلم يقل له: صل حيثما كنت، ولم يقل له: ابق وصل مع قومك، ولكنه قال له: (انزل ليلة ثلاث وعشرين) ففي هذا إجازة بأن يأتي الإنسان إلى هذا المسجد من أي مكان كان للاعتكاف كما يأتي للصلاة.
وقد جاء اختصاصه أيضاً بالمجيء إليه لطلب العلم في حديث: (من راح إلى مسجدي لعلم يعلمه، أو يتعلمه، كان كمن غزا في سبيل الله) ولا توجد هذه الخصوصية في أي مكان في العالم، ولذا سمعنا من كثير من مشايخنا ومن زملائنا، وجربناه في أنفسنا: أن الله سبحانه يفتح على طالب العلم في هذا المسجد بما لا يفتح عليه في غيره، وهذا من خصائص المسجد النبوي الشريف.
وبقي في قوله: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) قضية كبرى، ونزاع طويل كما يقول ابن كثير، لا ينبغي الدخول فيها إلا إذا كان هناك وقت يتسع لبيانها، ثم التعليق عليها وإيضاح الراجح فيها، ومن أراد أن يقف عليها فعليه أن يرجع إلى الجزء الثامن من تتمة أضواء البيان، فهناك بحث مطول قريباً من خمسين صفحة في حكم شد الرحال إلى المدينة أو إلى المسجد النبوي للصلاة وللسلام على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(159/6)
كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه [1]
الحج والعمرة عبادتان عظيمتان، وموسمان عظيمان لتحصيل الأجور، وتكفير الذنوب، وقد سماهما النبي صلى الله عليه وسلم (جهاداً لا قتال فيه) وذلك لما فيهما من الصبر على المشقة والتعب، بل والتضحية بالمال والنفس، فحري بالمسلم أن يحرص على أدائهما، وتكرارهما، والمتابعة بينهما.(160/1)
شرح حديث: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) متفق عليه] .(160/2)
خلاف العلماء في المراد بالذنوب التي تكفر بالعمرة
بدأ المؤلف رحمه الله بهذا الحديث: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) .
موضوع هذا الحديث هو الترغيب في هذين النسكين العظيمين: (العمرة إلى العمرة) أي: الزيارة إلى البيت، من أي قطر من أقطار الدنيا، فأداء عمرتين يكفر ما بينهما من ذنوب، طال المدى أو قصر، ويأتي بحث للعلماء في نوعية المكفَّر أهي الكبائر، أم الصغائر، أم هما معاً؟ وقد جاءت أحاديث فيما يسمى بمكفرات الذنوب، جاء في القرآن الكريم: أن اجتناب الكبائر يكفر الصغائر: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيئاتِكُم} [النساء:31] ، وجاء أيضاً: (الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما، وزيادة ثلاثة أيام) ، وكذلك المشي إلى المساجد للصلوات الخمس، وكذلك يوم عرفة، إلى غير ذلك من النصوص التي وردت في مكفرات الذنوب.
ويرى بعض العلماء أن هذا عام (العمرة إلى العمرة كفارة) لم يأت قيد لكبيرة ولا لصغيرة، ولم يأت قيد لحق الله أو لحق العبد، والعلماء مختلفون في هذه المسألة: فهناك من يقول: تكفر حق الله وتكفر حق العباد على الإطلاق.
وهناك من يقول: تكفر حق الله فقط، أما حق العباد فمتوقف على الأداء.
وهناك من يقول: تكفر الصغائر فقط ولا تكفر الكبائر.
وأشد من تشدد في ذلك ابن عبد البر رحمه الله، والذين قالوا: تكفر حتى حقوق العباد، مع أن حق العباد لا يسقطه حتى الجهاد وحتى الشهادة في سبيل الله؛ لأن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ماذا تكفر الشهادة -فأخبره بأنها تكفر كل شيء-؟ ثم ولى، فدعاه مرة أخرى، وقال: إلا الدين، فإن الميت مرهون في قبره بدينه) وقالوا: إن حق العبد مبني على المشاحة، فهو يقف بين يدي الله ويطالب بحقه.
فالذين قالوا: إنها تكفر كل شيء حتى حقوق العباد، قالوا: إن الله سبحانه قد وعد بذلك، فهو الذي يتولى إرضاء ذوي الحقوق عن حقوقهم، وقد جاءت نصوص وفيها: (إذا كان الناس في عرصات القيامة، ترفع غرف يراها أهل الموقف كما يرى أهل الأرض النجوم في السماء، فيقولون: يا ربنا! لمن هذه الغرف؟ فيقول -سبحانه-: لمن تنازل عن مظلمة له عند أخيه) ، فكل ذي مظلمة يتنازل لينال من تلك الغرف الرفيعة المنازل، كرفعة النجوم في الدنيا إلى غير ذلك.
ومهما يكن من شيء فهذا نص عام، إلا أن المسلم العاقل لا ينبغي أن يتكل على ذلك كل الاتكال، فعليه أن يؤدي حقوق العباد، وأن لا يقصر في حقوق الله.(160/3)
آداب بنبغي على من أراد الحج مراعاتها
وقد جاء عند الفقهاء جميعاً: بعض آداب الحج، قبل البدء فيه، فمن أراد أن يحج فليبدأ أولاً: بالتحلل من حقوق العباد، فإن كانت عنده أمانات فليردها إلى أهلها، وإن كانت عليه ديون فليسدد ديونه، وإن كانت عنده مظلمة لأحد فليتحلل منه، حتى قالوا: عليه عند عزمه على السفر أن يزور صالحي أهل بلده، ويوادعهم، ويسألهم الدعاء له بالسلامة والقبول إلى غير ذلك، ونحن أمام هذا النص نقول: هذا فضل الله، وفضل الله عظيم.(160/4)
العمرة ليس لها وقت محدد
والمباحث الفقهية في هذا النص النبوي الكريم عديدة منها: إطلاق الإتيان بالعمرة: (العمرة إلى العمرة) لم تقيد بيوم، ولا بشهر، ولا بزمن محدد، بخلاف الحج فقد قال تعالى فيه: {أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] فقال الفقهاء رحمهم الله: كل وقت من السنة صالح لأداء العمرة، ولكنهم استثنوا الأيام الخاصة بالحج، وهي: يوم عرفة، وأيام التشريق، واختلفوا في أيام التشريق فيمن تعجل في يومين: هل له أن يأتي بالعمرة في اليوم الثالث، أو أن هذا اليوم الثالث من خصائص الحج؟ فإن هناك من الناس من تأخر ولم يتعجل، فهي أيام ثلاثة لرمي الجمرات، فاختلفوا في اليوم الثالث فقط، وما عدا يوم عرفة وأيام التشريق فجميع أيام السنة صالحة لأداء العمرة.(160/5)
حكم تكرار العمرة
وكذلك من المباحث الفقهية في هذا الحديث الشريف: تكرار العمرة؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: (العمرة إلى العمرة) دونما تقييد بزمن، فأخذ الجمهور وأتباع الأئمة الأربعة ما عدا المالكية: بأن العمرة يجوز تكرارها في الشهر وفي السنة.
وبعضهم قال: لا تكرر في الشهر الواحد.
وبعضهم قال: لا تكرر قبل عشرة أيام.
وحجة أولئك: بأن من اعتمر يحلق شعره، وإذا أراد عمرة أخرى ينتظر حتى ينبت شعره ليحلقه في العمرة الثانية، إلى غير ذلك من الاستنتاجات، ويرى المالكية: بأن العمرة لا تتكرر في السنة، وإنما تكون في كل سنة مرة لمن أراد ذلك.
ووجه نظر المالكية في ذلك قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر، وأتى مكة وحج واعتمر مع حجه، ولم يأت بعمرتين في سنة واحدة، وقد جاء في فتح مكة سنة ثمان من الهجرة، وذهب إلى حنين، وفي عودته اعتمر من الجعرانة، وكانت عمرة واحدة، ولم يكرر العمرة، مع أنه كان لديه الوقت لذلك، وأجاب الجمهور: بأن فعله صلى الله عليه وسلم سنة وأسوة، ولكن تركه الفعل ليس دليلاً على عدم الجواز، فقد كان صلى الله عليه وسلم ربما يترك الفعل وهو يحب فعله؛ مخافة أن يفرض على الناس، أو أن يشق عليهم.
ومن هنا ترك العمرة في فتح مكة، وفي حجة الوداع، ويقال أيضاً: لقد كانت سنة ثمان سنة فتح وجهاد، وما أن فرغ من فتح مكة حتى سمع بأن هوازن قد جمعت له، فما كان إلا أن خرج إليهم، ولما انتهى منهم رجع بعمرة إلى مكة، وما كان إلا قسم الغنائم ثم العودة إلى المدينة، ولو أنه صلى الله عليه وسلم كرر العمرة في تلك السنة لشق على من كان معه، فإن معه جيشاً لا يقل عن عشرة آلاف مقاتل، خرج بهم من المدينة، ومعه أيضاً عدة آلاف من أهل مكة، انضموا إلى جيش المسلمين، فحينئذ لو أراد أن يعتمر لكان في ذلك مشقة على هذا العدد، وتكرار العمرة سنة ونافلة، وليس بواجب.
وعلى كل يرى الجمهور: أن تركه صلى الله عليه وسلم ليس دليلاً على عدم الجواز، فهو صلى الله عليه وسلم وإن ترك الفعل فقد أتى بالقول، وجعله عاماً ولم يقل: إلا أنها في السنة مرة واحدة، ولم يقل: في كل سنة، بل جاء إقرار منه صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، عندما حجت مع أزواجه صلوات الله وسلامه عليه، ورضوان الله تعالى عليهن، فكانت قد حاضت بسرف، وكانت مفردة، وخافت أن لا تطهر قبل أن تأتي بعمرتها، (فدخل عليها صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال: ما يبكيك لعلك نفست؟ قالت: نعم، قال: لا عليكِ أمر كتبه الله على بنات حواء، قولي: عمرة في حجة -فأدخلت العمرة على الحج وصارت قارنة- فلما انتهوا قالت: أريد عمرة قال: يكفيكِ عمرتكِ مع حجك، قالت: لا، أيرجع صاحباتي بعمرة وحج، وأرجع أنا بعمرة مع الحج -تريد عمرة مستقلة- فقال صلى الله عليه وسلم لأخيها عبد الرحمن: اذهب بها فاعمرها من التنعيم) فذهب وأعمرها من التنعيم، وجاءت وقضت عمرتها ورحلوا، وقد كانوا على أهبة الرحيل، والوقت ليل، ولولا صحة العمرة أكثر من مرة -وقد أتت معهم بعمرة في تلك السنة مع حجها- لما قال له وهم على سفر: اذهب وأعمرها -أي: ويدركهم في موضع كذا- فلما أجاز لها، وأعمرها وأتت بعمرتين في السنة؛ علم الجميع بأن العمرة يجوز تكرارها.
ويقول بعض العلماء: إن العمرة يجوز تكرارها إلا لأهل مكة؛ لأن بقاءهم عند البيت، وطوافهم بالبيت، أولى من أن يضيعوا وقتاً في الذهاب والإياب إلى غير ذلك.
إذاً: قوله: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما) على عمومه دون تحديد وقت لأداء العمرة، خلافاً لما جاء عن مالك رحمه الله.(160/6)
معنى الحج المبرور والأجر المترتب على الإتيان به
والقسم الثاني من الحديث: (والحج المبرور) يرى بعض العلماء أن بر الحج إنما هو: إيفاء أركانه وواجباته، أي: الإتيان به على الوجه الأكمل.
ويرى البعض أن الحج المبرور ما قام فيه الحاج بإطعام الطعام، وإفشاء السلام، ولين الكلام مع رفقائه، وهو راجع إلى الوجه الأول أيضاً؛ لأن من تمام الحج الرفق بالمسلمين، وكما جاء عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (أن تعين الرجل على دابته، تحمله عليها وتدله على الطريق، كل ذلك صدقة) وهكذا الحج، ولما كان هذا الجمع من كل قطر على اختلاف العادات والبيئات، فتختلف طبائع المجتمعات عن بعضها؛ جاءت آداب الحج في كتاب الله لتقضي على كل تلك الفوارق، وتمنع كل أسباب النزاع، ليظل الحجيج متآلفين متآخين: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] لأن هذه الثلاثة تؤدي إلى الفرقة، وإلى النزاع والشقاق، وهم إنما جاءوا ليشهدوا منافع لهم، ولا يتم شهود المنافع مع وجود النزاع والخصومات، ومع وجود الرفث، فكيف يقول: لبيك، ثم تجده يرفث عند النساء.
إذاً: الحج المبرور هو: ما وُفِّي على خير ما يكون، من إتمام واجباته، وسننه، ومندوباته، وأركانه.
والبعض يقول الحج المبرور: ما اجتنب فيه المآثم، وهذا راجع للأول؛ لأن من أدى الحج بكامل أركانه، وواجباته، وسننه؛ يكون بعيداً عن الأخطاء، والآثام في هذه السفرة المباركة.
وبعضهم قال: هناك ميزان، ننظر إلى الحاج حينما خرج من بلده وجاء إلى الأراضي المقدسة، وأدى المناسك.
إلخ، ثم عاد إلى بلده، كيف صارت حالته؟! نزن الحالة الأولى مع الحالة الثانية، هل هو أحسن حالاً في سلوكه في منهجه في أمانته في معاملاته في محافظته على العبادات في وفائه للحقوق أهو خير مما ذهب أو هو كما ذهب رجع؟ فإذا كان خيراً مما ذهب، فيكون قد استفاد من رحلة الحج؛ لأن رحلة الحج فيها تهذيب للنفس، ويظهر ذلك في محظورات الإحرام، على ما سيأتي إن شاء الله.
ومهما يكن من شيء فهذا بيان من النبي صلى الله عليه وسلم بأن الحج المبرور على ما جاء فيه أن جزاءه الجنة، وجاء في بعض النصوص، لكنها بأسانيد ضعيفة: (إطعام الطعام وإفشاء السلام) ولكن نقول: كل ذلك من فعل الخير في أداء الحج.
قوله: (ليس له جزاء إلا الجنة) ، أعظِم بهذا الجزاء! يخرج في رحلة، أياماً وأسابيع أو أشهراً فيعود بهذا الجزاء وهو الجنة، ومعنى ذلك: أنه يستحق عند الله -عطاءً منه- أن يدخله الجنة، إذن: عليه أن يحافظ على تلك النعمة وعلى هذا العطاء، وأن لا يحرم نفسه منه، أي: بما يضاد موجباتها، فإذا ما أنعم الله على إنسان بأداء الحج، وليعلم كل مسلم أن الإتيان لأداء الحج إنما هو فضل من الله عليه، لا بوفرة ماله، ولا بقوة بدنه، ولا بعزة جاهه، ولا سلطانه، إنما هي نعمة من الله.
ولذلك يقول العلماء: أول ما بنى إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام البيت ورفع القواعد، أوحى الله إليه: أن يا إبراهيم! أذن في الناس بالحج، فقال: يا رب! وأين يذهب ندائي؟! وكيف يبلغهم صوتي؟! قال: عليك النداء وعلينا البلاغ، فصعد إبراهيم عليه السلام على جبل أبي قبيس وقال: أيها الناس! إن الله قد ابتنى لكم بيتاً فحجوه، فلبى كل من كتب الله له الحج، حتى الذراري في أصلاب الآباء إلى يوم القيامة، ومن لبى مرة حج مرة، ومن لبى مرتين حج مرتين إلى آخره، فمن لبى في ذاك الوقت وهو في عالم الذر، قبل أن يوجد إلى الدنيا، فهو سيلبي حينما يوجد فيها.
وهكذا عندما يأتي الحاج ويشرع في نسكه يكون شعاره: لبيك اللهم لبيك، و (لبى) في اللغة بمعنى: الإجابة، والإقامة على الطاعة، إذا ناداك إنسان فقلت: لبيك، معنى ذلك: أنا هاهنا وتحت أمرك، أجبتك في دعائك، وممتثل لأوامرك، فالحاج حينما يشرع في نسكه يعلن قائلاً: لبيك، إنما هي إجابة لذاك النداء، الذي بلغه عن الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة السلام.
إذاً: مجيء الحاج فضل من الله عليه، وكل إنسان يعلم كم خلف في قومه ممن هو أغنى منه، وأقوى بدناً، وأعز سلطاناً، ولم يقدر له الحج! فإذا لم يقدر له الحج فلن يحج، ومن أتى فبفضل من الله، (والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) والله سبحانه وتعالى أعلم.(160/7)
شرح حديث: (عليهن جهاد لا قتال فيه ... )
[وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (قلت: يا رسول الله! على النساء جهاد؟ قال: نعم، عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة) رواه أحمد وابن ماجة واللفظ له، وإسناده صحيح وأصله في الصحيح] .
يقول هنا: إن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (يا رسول الله! أعلى النساء جهاد؟) قولها: (على النساء) خبر يراد به الإنشاء أو الاستفهام؟ (على النساء جهاد؟ قال: نعم، جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة) ، وجاء بصيغة أخرى وفيها: (يا رسول الله! أرى الجهاد أفضل الأعمال، أفلا نجاهد؟) تقول رضي الله تعالى عنها: نرى الجهاد -معشر النسوة- أعظم الأعمال وأفضل الأعمال، أفلا نشارك في هذا الفضل؟ (قال: نعم، ولكن جهادكن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة) .(160/8)
أوجه الشبه بين الحج والجهاد
وهنا يتبين فضل الحج، وأنه يعدل في ثوابه ثواب الجهاد، والمجاهد في سبيل الله ينال إحدى الحسنيين: إما الشهادة، وفيها حياة برزخية دائمة إلى يوم القيامة، ثم مأواه الجنة، وإما النصر والغنيمة.
والحج: جهاد لا قتال فيه، قالوا: هذا جهاد النساء، وقال آخرون: هو جهاد للرجال أيضاً؛ لأن الحج: حل وارتحال وشظف في العيش، وتحمل للمشاق، ولربما البعض لم يعش ساعة واحدة أثناء أدائه مناسك الحج على الحالة التي كان عليها من قبل، وإن كان الآن قد تيسر الأمر بحمد الله، وكل ما يجده الآن في بيته من وسائل الراحة قد يجدها أيضاً في الحج، ولكن مهما يكن من شيء، فلابد في الحج من وعثاء السفر؛ لأن السفر قطعة من العذاب، فلابد فيه من بعض الحرمان أو المشقة، فإذا كان الأمر كذلك؛ فقد اشترك الحج مع الجهاد في الرحلة، والحل والترحال، وبقي القتال والمسايفة.
نجد في الحج جهاد النفس، فالحاج يجاهد نفسه على تأدية الأعمال التي كلف بها، وقد نجد في الحج جهاداً صعباً لا ينجح فيه إلا من شاء الله، فإذا جئنا إلى محظورات الإحرام، فقد حُرّم عليه أثناء الإحرام الرفث إلى نسائه، فتكون زوجته معه في خيمة واحدة، وفي هودج واحد، وسيارة واحدة، وهي حلال له بكتاب الله، لكنها في وقت الإحرام محرمة عليه حتى يقضي حجه، ونجد الحاج يرى الصيد بعينيه يقف بين يديه، فلا تمتد يده إليه، وما أشد منازعة النفس للصيد؛ لأنه من الحلال، ولكن لإحرامه يجاهد نفسه على أن لا تمتد يده إليه إلى غير ذلك.
والجهاد كما قيل: أنواع متعددة، فمنه: الجهاد بالكلمة، {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52] ، وقد يكون بالقلم، وقد يكون بالمال، وقد يكون بالنفس إلى غير ذلك من أنواع الجهاد، وهذا الحديث فيه بيان فضل الحج وأنه يعدل فضل الجهاد.
وقد جاءت في ذلك أحاديث أخرى منها، (أي الأعمال أفضل يا رسول الله؟! قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور) إذاً: الجهاد الذي لا قتال فيه هو الحج المبرور، ويكون على سبيل التشبيه؛ لأن الحديث السابق جعل الحج مرتبة ثالثة بعد الجهاد: (أي الأعمال أفضل يا رسول الله؟! قال: إيمان بالله وبرسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور) .(160/9)
من فقه الفتوى مراعاة حال السائل
وبهذه المناسبة فقد نجد أحاديث في تفاضل الأعمال، تختلف الفتوى فيها باختلاف الأحوال، كما سئل صلى الله عليه وسلم مرة: (أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله وبرسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله) وسئل مرة أخرى: (أي الأعمال أفضل يا رسول الله؟! قال: إيمان بالله وبرسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الصلاة على أول وقتها) ثم سئل (أي الأعمال أفضل يا رسول الله؟! قال: إيمان بالله وبرسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: بر الوالدين) فنجد أن السؤال واحد، بينما الجواب مختلف، ومن هنا قال العلماء: ليس هناك تناقض، وليس هناك تعارض؛ لأن كل جواب ينزل منزلته بحسب حالته، والمسئول الحكيم يجب أن يراعي حالة السائل، فقد يسأل اثنان في حكم مسألة واحدة، فيبيحها لأحدهم، ويمنعها عن الآخر.
كما جاء في موضوع القبلة للصائم، جاء رجل وسأل النبي صلى الله عليه وسلم: (أيقبل الصائم يا رسول الله؟! قال: نعم، -ثم بعد فترة وفي نفس المجلس- جاء رجل وقال: أيقبل الصائم يا رسول الله؟! قال: لا، -ومضى هذا ومضى ذاك- ثم التفت صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وقال: لعلكم تعجبون أني سمحت للأول ومنعت الثاني، قالوا: إي والله يا رسول الله! قال: نظرت إلى الأول فإذا به شيخ كبير، -لا خطر عليه- فأبحت له، ونظرت إلى الثاني فإذا به شاب قد خشيت عليه، فمنعته منها) وهكذا.
جاء في بعض الأخبار: أن الإمام محمد بن سيرين -وهو إمام في تأويل الرؤى- جاءه رجل وقال: رأيتني أؤذن فما تعبير رؤياي؟ فنظر إليه وقال: تحج البيت إن شاء الله، وذهب، وجاء آخر وقال: رأيتني أؤذن، فنظر إليه وقال: تسرق وتقطع يدك، فعجب الحاضرون! الرؤيا واحدة، فكيف تختلف في التعبير، قال: نظرت إلى الأول فإذا به إنسان وديع مستقيم، فأخذتها من قوله سبحانه: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] ونظرت إلى الثاني، فإذا به على خلاف ذلك، فأخذتها من قوله: {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف:70] .
إذاً: لابد من مراعاة الأحوال عند الفتوى ففي هذه الأحاديث الثلاثة: بر الوالدين، الصلاة على أول وقتها، الجهاد في سبيل الله، لاختلاف أحوال السائل: فقوي البنية الذي يقوى على الجهاد أرشده للقتال، وضعيف البنية الذي لا يقوى على الجهاد أرشده إلى الصلاة على أول وقتها، وذو الوالدين أرشده إلى برهما، وهكذا كالطبيب يصف لكل ذي داء دواءً يناسبه.
إذاً: النصوص التي جاءت في بيان فضائل الحج كثيرة ويكفي ذكر بعضها، وهذا مراد المؤلف رحمه الله في اقتصاره على ما ذكر، وبالله تعالى التوفيق.(160/10)
حكم العمرة في الشرع
[عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول الله! أخبرني عن العمرة، أواجبة هي؟ فقال: لا، وأن تعتمر خير لك) رواه أحمد والترمذي والراجح وقفه، وأخرجه ابن عدي من وجه آخر ضعيف، عن جابر رضي الله عنه مرفوعاً: (الحج والعمرة فريضتان) .
] هذا ترتيب حسن من المؤلف رحمه الله، فبدأ كتاب الحج بحديثين موضوعهما بيان فضل الحج والعمرة، والترغيب فيهما، وكأنه يدعو الناس ويرغبهم في الحج والعمرة، ثم دخل في موضوع الأحكام.
فقوله: (العمرة إلى العمرة كفارة) لكن هل هي واجبة أم سنة؟ وقوله: (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) هل هو واجب أم ليس بواجب؟ مع أن الحج مفروغ من أمر وجوبه، فوجوبه ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] (لله على) هذا آكد من قوله: (أوجبت) ؛ لأنه أصبح ديناً وحقاً لله على العباد، والفرض قد يسقط، والدين لا يسقط.
وفي نهاية الآية الكريمة: {مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97] ثم قال: {وَمَنْ كَفَرَ} [آل عمران:97] هذا وعيد شديد، {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ} [آل عمران:97] أي: ومن لم يحج، فإن الله غني عنه، ولكن ما جاء المقابل من جنسه، فلم يقل: ومن لم يحج، بل جاء بديلاً عن من لم يحج (ومن كفر) ليبقى كما يقول أهل المنطق الماصدقي (ومن كفر) تصدق على من لم يحج، أو من لم يحج كفر.
وقد جاء عن عمر أنه قال: (من استطاع الحج ولم يحج، فليمت إن شاء نصرانياً، أو يهودياً) وجاء عنه كذلك: (لقد هممت أن أبعث رجالاً للأعراب على مياههم، ينظرون من استطاع الحج ولم يحج، فليضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين! ما هم بمسلمين! (.
إذاً: بدأ المؤلف في بيان الأحكام، وبدأ بالعمرة؛ لأنها محل الخلاف، أما الحج فلا خلاف في وجوبه بالشرط المذكور: (من استطاع) .(160/11)
تحقيق الخلاف في حكم العمرة
وهنا يروي جابر لنا حديثين: الأول: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أخبرني عن العمرة؟) أخبرني عن حكم العمرة أواجبة هي؟ هذا سؤال إنسان متثبت: أهي واجبة أم ليست بواجبة؟ ماذا كان الجواب؟ الجواب: لا، وكما يقولون: الجواب يتضمن إعادة السؤال، (لا) العمرة ليست واجبة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتصر على ذلك؛ حتى لا يظن إنسان أنها مستوية الطرفين: الفعل والترك، بل قال: (وأن تعتمر خير لك) كأنه قال: ليست واجبة، ولكن فعلها خير من تركها، وهذا الأسلوب يدل على عدم وجوبها، وأنها مرغب فيها ومندوب إليها.
ومن هنا بدأ خلاف العلماء، فهناك من أخذ بقوله صلى الله عليه وسلم: لا، وقالوا: ليست بواجبة، أخذاً بهذا النص، ولكن هل سلم سند هذا الحديث؟ العلماء متفقون على أنه ضعيف.
ثم يأتي المؤلف رحمه الله -من فقهه- بالأثر الثاني عن جابر.
[ (وعن جابر رضي الله عنه، مرفوعاً) ] .
(مرفوعاً) يعني: مسنداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وجابر: صحابي، ولو كان القول من عنده لاعتبره العلماء موقوفاً على الصحابي، لكن إذا قال: (مرفوعاً) فإنه يرفعه درجة، وإذا رفع الصحابي الحديث درجة عن طبقة الصحابة فإنه يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(وعن جابر أيضاً مرفوعاً) أي: إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أي: أن جابراً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(الحج والعمرة فريضتان) .
(الحج والعمرة فريضتان) ولكن هل هذا أيضاً صحيح قوي أو ضعيف مثل الذي قبله؟ قال المؤلف: [وأخرجه ابن عدي من وجه آخر ضعيف] .
كلا الأثرين -عن جابر - ضعيف، فمن أخذ بالأول أخذ بسند ضعيف، ومن احتج بالثاني احتج بسند ضعيف، إذن: كما قال الشافعي: حديث في عدم فرضيتها خير من حديث في فرضيتها.
ويرجع الاستدلال على وجوبها إلى مسائل أخرى: من ذلك ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (العمرة والحج مقترنان) ، واستدل بقوله سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] ولكن الذين يقولون بعدم الفرضية قالوا: الأمر هنا: (إتمام) والإتمام يكون بعد البداية، لا ابتداءً، وبالإجماع: أن نافلة العمرة، ونافلة الحج، إذا شرع فيها الإنسان وجب عليه أن يتمها، مع أنها نافلة، ولو اعتمر عشر مرات، ثم شرع في عمرة جديدة فإنه وجب عليه بعد الشروع فيها أن يتمها، فقالوا: الإتمام يكون بعد الابتداء، أما الوجوب ابتداءً فليس فيه نص، والآخرون يقولون: هي فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وفعل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وفتواهم جميعاً.
والجمهور ومنهم الأئمة الأربعة ما عدا مالكاً يقولون: العمرة فرض كالحج.
إذاً: ما هو الفرق بين حديث: (فرض على كل مسلم) ، وحديث: (لا.
وأن تعتمر خير لك) يقول الأصوليون: إذا جاء نصان متعادلان في السند، أحدهما ينفي ويسقط الوجوب، والآخر يثبت وينشئ الوجوب، قالوا: المثبت مقدم على النافي، وقالوا: ما يخرج عن البراءة الأصلية مقدم على غيره؛ لأن الأصل عدم الوجوب، فلما جاء النص بالوجوب ولو كان ضعيفاً فإنه أقوى من النص الأول الذي مؤداه كالعدم؛ لأن الأصل عدم الوجوب، وحديث: (لا) ، ما زاد عن الأصل بشيء، بخلاف الحديث الثاني الذي قال: (العمرة والحج فرض على كل أحد) .
إذاً: الناقل من البراءة الأصلية إلى التكليف مقدم عما لا ينقل عن البراءة الأصلية؛ لأن فيه زيادة تكليف وزيادة علم، ولهذا قال الجمهور: إن العمرة واجبة كوجوب الحج.
وهناك نصوص أخرى أصح سنداً، منها: (إن أبي شيخ كبير أدركته فريضة الحج أفأحج عن أبي؟ قال: نعم، حج عن أبيك واعتمر) فهو سأل عن الحج، فزاده (واعتمر) كأنه يجهل أمر العمرة، أو كأنه أغفلها، فذكّره بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.(160/12)
كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه [2]
إن وجوب فريضة الحج ثابت في كتاب الله تعالى ثبوتاً قطعياً مؤكداً، ووجوبه ثابت أيضاً بالسنة والإجماع.
وإن من رحمة الله بعباده وتيسيره عليهم أن علق وجوب الحج بالاستطاعة، وتكون: بالزاد والراحلة، وصحة البدن، وأمن الطريق، وتجوز الإنابة من الحي العاجز عن الحج ببدنه، إن كان مستطيعاً بماله.
ويجب الحج على الفور ويستحب تكراره، ويصح من الصبي.(161/1)
شرح حديث: (ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد: [وعن أنس رضي الله عنه قال: قيل: (يا رسول الله! ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة) رواه الدارقطني، وصححه الحاكم، والراجح إرساله، وأخرجه الترمذي من حديث ابن عمر وفي إسناده ضعف] .(161/2)
صيغة وجوب الحج والتأكيدات الواردة في كتاب الله تعالى لها
ساق المؤلف رحمه الله أولاً الأحاديث في الترغيب فيه، وبيان فضله: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) ، (نرى الجهاد أفضل الأعمال يا رسول الله! أفلا نجاهد؟ قال: عليكن جهاد لا قتال فيه) ثم جاء بما يبين على من يجب.
والأصل في الوجوب أو الإيجاب هو الكتاب الكريم ثم السنة النبوية المطهرة، وجاء في كتاب الله بيان الفرضية المؤكدة في قوله سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] يرى العلماء: أن هذه الصيغة للوجوب مؤكدة بعدة تأكيدات: اللام، في قوله: (ولله) وهي لام الملك والاستحقاق.
(على) : وهي للاستعلاء والفرضية.
(الناس) : عموم الناس، حتى قال البعض: لقد شملت غير المسلمين؛ لأنهم مطالبون بالإسلام وبفروع الإسلام، وهذا العموم والشمول يؤكد الوجوب والفرضية.
(حج البيت) : تقدم تعريف الحج أنه: القصد إلى معظم، و (البيت) : هو البيت الحرام، وهو الكعبة، وهو البيت العتيق، وهو {أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} [آل عمران:96] ، وهذا البيت جاء في بيان حرمته ومكانته ما لا يحتاج معه إلى مزيد بيان.
(من استطاع) يقول العلماء: (من) هنا بدل البعض من الكل، فالكل: الناس، و (من استطاع) بعض الناس، وهذا بمثابة الاستثناء، وهذا يؤكد الفرضية أيضاً، وتعلق الفرضية بالاستطاعة بيان لهذه الملة الحنيفية في يسرها وسهولتها، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] فنجد في جميع التكاليف والعبادات التيسير، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] فأهم أركان الإسلام الصلاة أي: بعد الشهادتين، حتى في الشهادتين تيسير، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] .
والصلاة مفتاحها الطهور، فمن عجز عن استعمال الماء رخص له في التيمم، ومن عجز عن القيام رخص له أن يصلي على حسب حالته جالساً أو متكئاً.
والزكاة ما فرضت إلا على الغني الذي يملك نصاباً، ويبقى عنده حولاً كاملاً مستغنياً عنه.
والصيام من كان مريضاًََ أو على سفر فاضطر إلى الفطر للمشقة: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] .
والجهاد: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور:61] .
وهنا في الحج: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] ، وهنا يسأل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم: ما السبيل؟ الذي شرطت الآية استطاعته في وجوب الحج (من استطاع إليه) ؟ فيفسره صلى الله عليه وسلم لهم بقوله: (الزاد والراحلة) هذا التفسير لو أن الحديث سلم من التضعيف لكان نصاً قاطعاً في تفسير كتاب الله من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن العلماء يقفون من هذا النص المفسر بالمقارنة بينه وبين العمومات الأخرى في كتاب الله، ويقولون: إن قصر الاستطاعة على الزاد والراحلة أسقط شروطاً أخرى، ألا وهي: صحة البدن، وأمن الطريق.(161/3)
المراد بالاستطاعة في الحج
وهنا يبحث الفقهاء موضوع الاستطاعة من حيث هي: فيرى بعض العلماء: أن الاستطاعة الكاملة تكون بالبدن والمال، والمال ماثل في الزاد وفي الراحلة، أي: وسيلة السفر والوصول، وقد تكون الاستطاعة بالبدن فقط ولا مال، وقد تكون الاستطاعة بالمال فقط ولا صحة للبدن.
ومن هنا يقع الخلاف عند الأئمة رحمهم الله فيمن تجب عليه فريضة الحج؟ فالجمهور: على أن الاستطاعة بصحة البدن ووفرة المال، المال الذي يهيئ له الزاد، ووسيلة السفر، مع توفير الزاد لمن تلزمه نفقته حتى يرجع، فإن كان له عيال، أو تبعة مطلوبة منه، فإنه مع اشتراط وجود الزاد له في سفره حتى يرجع يجب أن يكون الزاد موجوداً أيضاً لمن يخلفه في بيته: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) فإذا وجد ما يكفيه وحده ولا يكفي أهله فليس بمستطيع، والسعي على أولاده في تلك الحالة أولى من السفر إلى الحج وتركهم في ضياع، إذن: الزاد له ولمن تلزمه النفقة حتى يرجع.
والاستطاعة بالبدن ليست شرطاً عند بعض العلماء، فقالوا: إذا عجز عن الحج ببدنه -أي: عجز عن القدرة على السفر، وعنده مال، تعين عليه أن يخرج من ماله ويدفعه لمن يحج به عنه من بلده، فيدفع المال لشخص آخر من بلده؛ ليكون سفر البديل معادلاً لسفر الأصيل من مكان واحد، وسيأتي: أن هذا البديل يجب أن يكون قد حج عن نفسه أولاً؛ لتصح أعمال حجه عن غيره، وسيأتي ذلك في حديث شبرمة، حين سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يطوف بالبيت ويقول: (لبيك اللهم عن شبرمة، قال: من شبرمة هذا؟ قال: أخ لي أو قريب لي -شك الراوي- فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أحججت عن نفسك؟ قال: لا.
قال: حج عن نفسك أولاً، ثم حج عن شبرمة) .
وسيأتي مبحث الاستئجار للحج، وهل تجوز الأجرة للإتيان بالحج أو لا تجوز؟ وهل هي على البلاغ، أو هي على الإجارة؟ ومعنى البلاغ: أن يأخذ ممن سيحج عنه ما يبلغه الحج حتى العودة، فإن نقص شيء وفَّاه إليه، وإن زاد شيء رده إليه.
أما إذا كانت من باب الإجارة: فعلى ما اتفقا عليه، إن نقص وفىّ لنفسه، وإن زاد أمسك الزائد، وسيأتي في ذلك زيادة بيان إن شاء الله.
وهناك من يقول: الاستطاعة بالبدن فقط، ولو لم يوجد المال، وهذا عند الشافعية بشرط: أن يكون قادراً على المشي، وأن يكون ذا مهنة، أو صنعة، أو عمل يمكن أن يتكسب به مدة سفره حتى يرجع، وقيل لمن قال ذلك: هل أوجب الله على الناس المشي إلى مكة على أقدامهم؟ قال: أرأيت لو كان له ميراث في مكة أكان يتركه؟ قال: لا.
بل يأتي إليه ولو حبواً، قال: كذلك الحج.
وبعضهم يقول: الاستطاعة بالمشي لمن كان قريباً، وليست للآفاقي البعيد، مع أننا وجدنا رحلات وجماعات تخرج من الآفاق وتسافر الأيام والأسابيع والأشهر، حتى يصلون إلى مكة، ولكن في هذا من المشقة والضياع ما يمكن أن يقول الإنسان فيه: ليس هذا في منهج التشريع بصفة عامة: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة:185] .
إذاً: لا ينبغي أن نحكم على الناس بأن على المستطيع للمشي من الآفاق -من القارات البعيدة والأقطار النائية- أن يمشي ليحج، وهناك من يقول: شرط الحج ماشياًً للصحيح المعافى المتكسب بمهنته أن يضمن غالباً أن يكون عمله في اليوم الواحد يكفي لمئونة اليومين، ولماذا؟ احتياطاً؛ لأن هذا الصحيح قد يمرض؛ ولأن تلك المهنة قد تتعطل في يوم من الأيام، وليس بلازم أن يجد عملاً لمهنته في كل يوم ما يكفيه، فإذا كان أجر عمله يكفيه لمئونة يومين، فلو قدر أنه مرض بعض الأيام فسيكون قد توفر عنده زاد بقية الأيام.
وهنا لفتة فقهية للمذاهب الاقتصادية، بأن تقييم الأشياء -كلها- في العالم ليست العملة، التي ترتفع وتنزل في (البورصات) ، وفي الأسواق المالية، ولكن تقييم الأشياء -حقاً- إنما هو بكسب العامل في اليوم، أجرة هذا العامل غالية أو رخيصة، وهذه أمور نسبية، فقد تكون أجرة عامل في قطر درهماً، وقد تكون في قطر آخر عشرة دراهم، وهذا فرق كبير، ولكن نسأل: العامل الذي يعمل بدرهم في بلد، كم يكفيه هذا الدرهم؟ فلربما كان يكفيه لقوت يومه؛ لرخص الحاجات عنده، والذي يعمل بعشرة دراهم، أتكفيه لقوت يومه -في بلده- أو لقوت يومين؟ فربما لا تكفيه بسبب غلاء الأسعار، إذن: التسعير الحقيقي والتقويم الحقيقي، لقيم الأشياء، إنما هو كسب العامل اليومي، فإذا كانت له أسرة وعائلة فليكن ذلك أيضاً في الحسبان.
ومن هنا كان مأخذ الشافعية بقولهم: الاستطاعة قد تكون بالمشي إن كانت له مهنة يتكسب منها، ويكسب بها في اليوم ما يكفي نفقة يومين.
وزاد بعض المالكية: إن الفقير المعافى الذي يعيش في بلده على التكفف، أي: يمد يده ويبسط كفه للناس، ويعيش على السؤال، إن تيسر له في سفره أن يجد من يسأله، ويعيش كما يعيش في بلده؛ يعتبر مستطيعاًً، وعليه أن يصحب القافلة بالسؤال ليحج.
وهذا القول فيه ما فيه.
وقد قال العلماء: من لم يجد مالاً، ووجد إنساناً يدفع له المال من عنده هبة ليحج، قالوا: ليس بواجب عليه أن يقبل، خشية أن تكون فيه عليه منَّة.
وهنا يمكن أن نأخذ سر التعبير في كتاب الله حيث قال: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] ، ولم يقل: من استطاع إليه وصولاً؛ لأن الوصول إليه قد يكون من عنده، أو قد يكون من عند غيره، أما السبيل: فلا يكون إلا من عنده هو، وعلى هذا فالجمهور على أن الاستطاعة الكاملة تكون بالبدن وبالمال معاً.
وقال الشافعي: من استطاع ببدنه ومات ولم يحج، فإن على الورثة إخراج جزء من ماله قبل قسمة التركة لمن يحج عنه من بلده؛ لأن الشافعي رحمه الله يرى تقديم الحقوق المتعلقة بالتركة ومنها حق الله؛ فلذلك قدمه على تقسيم التركة، وبالمناسبة: فإن الحقوق المتعلقة بالتركة منها ما هو دين للناس، ومنها ما هو دين لله، والدين للناس: دين موثق، ودين غير موثق، وكذلك حق الميت في التجهيز، وكذلك الوصايا، ثم بعد ذلك كله الميراث، فإذا كان مديناً، وكان قد أوصى، وعليه حق لله: في كفارة، أو نذر، أو حلف، وترك ما يكفي واحداً من ذلك فقط، فأيها يقدم؟ عند الحنابلة: تقدم مئونة تجهيزه؛ لأنه حقه هو، كما لو كان مفلساً وعليه دين للآخرين فإنه يباع ما يملك في دينه إلا ثيابه ونفقته، فحقه الخاص مقدم.
الشافعي يقول: يقدم في ذلك كله حق الله، أما تجهيزه فعلى بيت مال المسلمين، واستدل على ذلك بما سيأتي في قصة المرأة التي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تحج عن أمها فقال: (أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان ينفعها، قالت: نعم.
قال: فدين الله أحق أن يقضى) .
قال الشافعي قوله: (دين الله أحق) هذا أفعل تفضيل.
وغيره يقول-وهم المالكية-: ديون العباد مقدمة؛ لأن حق الله مبني على المسامحة، وحق العباد مبني على المشاحة، والشهيد يحبس في قبره في دينه إلى آخر ذلك، ولذا قال الشافعية: إن من مات وكان مستطيعاً للحج فلم يحج، أخرج من تركته ما يحج به عنه قبل أن تقسم التركة، أي: قبل حق الورثة والوصايا، وغير ذلك.(161/4)
اختلاف الزاد والراحلة باختلاف الأشخاص والأزمان والبلدان
وقد فصل الفقهاء في الزاد والراحلة: فتختلف الراحلة، ويختلف الزاد باختلاف الأشخاص، فهناك من يقوى على السفر على ظهر بعير بدون شيء، وهناك من لا يقوى ولا يستطيع أن يثبت حتى نأتي له بالهودج، أو نأتي له بالرحال، أو نأتي له بالفراش، فلا تكون استطاعة شخص هي استطاعة لشخص آخر، والآن هناك من يستطيع أن يركب على ظهر سيارة (لوري) ولو كانت محملة بالبضائع، وهناك من لا يستطيع أن يركب إلا (الأتوبيس) ، وهناك من لا يستطيع أن يسافر إلا في سيارة صغيرة، وهناك من لا يستطيع أن يسافر إلا في الطائرة أو في الباخرة، وهي درجات.
إذاً: الراحلة تتنوع حسب تنوع الأشخاص، فإذا كان مستطيعاً للراحلة المناسبة مع حالته فقد توفرت، وكذلك الزاد، هناك من يجتزئ في سفره بالتمر والخبز، وهناك من لا يستطيع ذلك، بل يحتاج إلى أنواع الأغذية والأطعمة، فإذا توفر التمر فقط لا نقول: هذا زادك؛ لأنه لم يتعود على هذا.
إذاً: الزاد والراحلة كل ذلك بحسب أحوال الأشخاص، فمن توفرت له الراحلة والزاد، وكان مستطيعاً للحج، تعين عليه أن يحج.(161/5)
الأمر بالحج يقتضي الفورية من غير تكرار
بقي هنا الأمر في قوله سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] ، يبحث الأصوليون في صيغ الأمر هل تقتضي التكرار وهل تقتضي الفورية؟ أو لا تقتضي الفور وتكون على التراخي؟ نجد أن هذا الأمر لا يفيد التكرار؛ لأن الصحابة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمرهم بالحج فقالوا: (أفي كل عام يا رسول الله؟! يعني: يتكرر، فسكت عنهم، حتى سألوا ثلاث مرات، وفي الرابعة قال: لو قلت: نعم، لوجبت ولما استطعتم، الحج في العمر مرة) .
ولهذا قالوا: إن الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم فرض على كل مسلم في العمر مرة؛ لقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] فإذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم في العمر مرة واحدة خرج من عهدة هذا الأمر، ولكن وردت نصوص أخرى تطلب التكرار، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم عندما صعد المنبر: (آمين! آمين! آمين! -وكان المنبر ثلاث درجات- فقالوا: يا رسول الله! سمعناك تؤمن، ولا ندري على ما أمنت؟ قال: أتاني جبريل، وقال: يا محمد! من أدرك شهر رمضان، وخرج ولم يغفر له، باعده الله في النار، قل: آمين، فقلت: آمين، يا محمد! من أدرك أبويه أو أحدهما، ولم يغفر له -أي: ببرهما- باعده الله في النار، قل: آمين، فقلت: آمين، يا محمد! من ذكرت عنده، ولم يصل عليك، باعده الله في النار، قل: آمين، فقلت: آمين) ، فتعين على كل مسلم إذا سمع ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه، هذا التكرار بطلب جديد، وليس بالطلب الأول: (صلوا عليه وسلموا تسليماً) وقد جاء في النصوص بيان فضل ذلك: (من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه بها عشراً) .
إذاً: الأمر لا يقتضي التكرار.
بقيت الفورية، هل الأمر يقتضي الفورية، أو يكون على التراخي؟ بحث الأصوليون في ذلك، فعند الجمهور -ما عدا الشافعية- الأمر على الفورية، وقال الشافعي: الأمر على التراخي؛ لأن وقت الحج: العمر كله، ومع ذلك يقول: من أخر الحج؛ لكونه على التراخي فمات، أخرج من تركته، وعلى هذا نقول: لماذا لا يُطلب منه الحج على الفور، فتبرأ ذمته ويخرج من هذه الإشكالات.
ولوالدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في هذا المبحث: الترجيح والتأكيد على أن الأمر للفورية: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133] وجاءت نصوص خاصة في الحث على الحج منها: (حجوا قبل أن لا تحجوا) ، وأيضاً: فلو أن سيداً قال لعبده: أعطني ماءً، فذهب العبد ومن الغد جاءه بالماء، فقال له السيد: لماذا؟ فقال: الأمر على التراخي، فماذا يكون موقف السيد من هذا العبد الذي لم يتمثل الأمر الذي كلف به؟ فقد كان على هذا العبد أن يذهب حالاً، ويأتي بالماء لسيده، فيكون قد أدى الواجب عليه، وامتثل الأمر.
والشافعية يقولون: لقد فرض الحج سنة ست من الهجرة، وما حج صلى الله عليه وسلم إلا في السنة العاشرة، ويقول الجمهور: ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحج؛ لأن مكة تحت أيدي الكفار، وما فتحت إلا في السنة الثامنة، قيل: ولماذا لم يحج في السنة الثامنة؟ قالوا: لم تكن هناك فرصة للحج؛ لأن فتح مكة كان في رمضان، ثم ذهب إلى هوازن، ورجع إلى المدينة، ولم يتأتى له الحج، ولما قيل: وفي سنة تسع لماذا لم يحج؟ قال الجمهور: لموانع منعته من تنفيذ الأمر، ومن ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر يحج بالناس، ثم أردفه بـ علي رضي الله تعالى عنه ليقرأ على الحجيج سورة براءة، ويعلن للناس: أنه لا عهد لمشرك بعد اليوم، ولا يحج البيت مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
إذاً: كان للمشركين عهد، وكان المشركون يطوفون بالبيت عراة رجالاً ونساء، وهل يتأتى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحضر هذا المشهد؟ لا والله، هكذا يعلل العلماء، ولكن التحقيق: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحج في تلك السنة؛ لما أعلنه صلى الله عليه وسلم بقوله -في السنة التي حج فيها-: (إن الزمان قد استدار، كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض) ومعنى ذلك: أن العرب كانت عندهم أيام النسيء، يقدمون ويؤخرون في الأشهر، فكانوا ينسئون المحرم إلى صفر، ويقدمون صفر إلى المحرم؛ لأنهم كانت تطول عليهم الأشهر الحرم: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم؛ لتواليها، وكانوا يغير بعضهم على بعض، فيؤخرون المحرم بحرمته، ويقدمون صفر مكانه؛ ليغير بعضهم على بعض، ولهذا حصل تخلخل في مواعيد الحج، فما كان الحج يصادف ذا الحجة الذي هو وقت الحج، وما كان الوقوف بعرفات يقع يوم عرفة في التاسع من ذي الحجة، وقيل: إن حجة أبي بكر ما كانت في الزمن المحدد يقيناً، ولما استدار الزمن وجاء يوم عرفة مطابقاً لأمر الله وهو اليوم التاسع من ذي الحجة كانت حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقعت في الزمان والمكان المأمور به.
يهمنا أن الشافعية قالوا: الحج على التراخي، (من استطاع إليه سبيلاً) والجمهور قالوا: الحج على الفور، فعلى من استطاع الحج أن يحج ولا يؤخر.
وجاءت نصوص قد أشرنا إليها من قبل منها: (من استطاع الحج ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً) وعمر يقول: (لقد هممت أن أبعث للأعراب رجالاً على مياههم، ينظرون من استطاع الحج ولم يحج، فليضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين! ما هم بمسلمين!) .
إذاً: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] على الفور لا على التراخي، ومرة دون تكرار، ولكن التكرار نافلة، كما سيأتي عنه صلوات الله وسلامه عليه.
إذاً: الاستطاعة المشروطة في الحج فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بالزاد والراحلة، وقد كان أناس من اليمن يحجون بلا زاد، ويقولون: نحن المتوكلون، فأمرهم الله بقوله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ} [البقرة:197] تزودوا لسفركم، وتزودوا من حجكم لميعادكم، فلابد من زاد الدنيا للبدن، ومن زاد الآخرة بالعمل، ولا ينبغي لإنسان أن يقول: أنا متوكل على الله، ولم يأخذ بالأسباب التي أمر الله بها، كالزاد هنا، وإلا فإنه متواكل على الناس وليس متوكلاً على الله.(161/6)
المستطيع بماله دون بدنه له أن ينيب من يحج عنه
بقي في ما إذا كان مستطيعاً بماله عاجزاً ببدنه وهو على قيد الحياة، فالجمهور: يجيزون له أو لوليه أن ينيب عنه من يحج عنه، كما سيأتي في سؤال المرأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أبي شيخ كبير لا يقوى على الثبوت على الراحلة) ، وسؤال شخص آخر: (لا يقوى على الثبوت على الراحلة، أخاف إن وثقته عليها أن يموت، أفأحج عنه؟ قال: حج عن أبيك) وخالف في ذلك المالكية، ومنعوا الإنابة في حج الفريضة عن الحي، وهذه الأحاديث حجة عليهم، وسيأتي للمؤلف رحمه الله زيادة نصوص في كل هذه المسائل وبالله تعالى التوفيق.(161/7)
حديث ابن عباس في اعتبار حج الصبي
[وعن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي ركباً بالروحاء فقال: من القوم؟ فقالوا: من أنت؟ فقال: رسول الله، فرفعت إليه امرأة صبياً فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر) رواه مسلم] .
يسوق لنا المؤلف رحمه الله هذه الحادثة، وكما أشرنا بأن حجة النبي صلى الله عليه وسلم قد اشتملت على جميع أصول الحياة، فهؤلاء رفقة يسيرون في الطريق فأدركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالروحاء، وهي: منطقة ما بين المدينة وبدر، وهو بئر معروف في الطريق، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (سَيهلُ عيسى ابن مريم بالروحاء بحج أو بعمرة أو بهما معاً) فالروحاء معروفة لأهل المدينة.(161/8)
مشروعية التعارف بين الناس في السفر
عندما بقي النبي صلى الله عليه وسلم الركب قال: (من القوم؟) الذي بدأ بالسؤال الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا من واجب ولي الأمر، أنه إذا لقي قوماً أن يتعرف عليهم: من أي الجماعات هم؟ وأين وجهتهم؟ مع أنه من المعلوم أنهم ذاهبون للحج؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج إلى الحج، وقبل مجيء أشهر الحج بعث رجالاًَ إلى القبائل في الجزيرة أني حاج هذه السنة، فمن أراد أن يحج معي فليوافني، وكل وافاه بحسبه، فمنهم من وافاه بالمدينة، ومنهم من وافاه بالطريق، ومنهم من وافاه بمكة، كل على حسب موقعه.
فهؤلاء قوم وافاهم في الطريق، فسألهم (من القوم؟) ، لكنهم لم يجيبوا مباشرة، وإنما تعرفوا أولاً على السائل مَنْ هو، وهذا من دهاء العرب ويقظتهم، وفي هذا احتياط لهم، وما أنكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أقرهم على ذلك، مع أنهم لم يجيبوه، وإنما سألوه هو: ومن أنت؟ فأجابهم: أنا رسول الله.
إذاً: هم عرفوه، وقد يكون حصل بينهم وبينه جوار بعد ذلك، وليس هذا ما يهمنا في هذا المقام، فيكفي أن الفريقين تعارفا بالإسلام، وأنهم جميعاً مسلمون والحمد لله، يعني: ما هم أعداء.(161/9)
مشروعية استغلال مواطن الاستفادة والتعليم
فلما عرفت المرأة أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهزت الفرصة لتستفيد، فرفعت طفلاً بيدها، وقيل: بضبعه، أي: رفعته من تحت إبطه، إذن: هذا الطفل غلام كبير أم طفل رضيع؟ رضيع، وفي بعض الروايات (في محفته) المحفة: عبارة عن قطعة قماش مستطيلة وفي طرفيها أعواد، ينام الطفل فيها ويربط بالأعواد، وتحمله على ظهرها، وهذا أحسن من هذه العربيات التي يوضع فيها الأطفال اليوم، يوشك أن ينكسر ظهر الطفل من طول قعوده في العربية، أما هذه المحفة فينام الطفل فيها مستريحاً وفي قماش لين، وهي من عادات العرب.
(ألهذا حج) أي: انظر إليه فهو أمامك، ويلاحظ أن ابن عبد البر رحمه الله يقول: كيف يصح لهؤلاء أن يقولوا للرسول صلى الله عليه وسلم: من أنت؟ ولكن لعل اللقاء كان في الليل.
ولكن إذا كان اللقاء في الليل فكيف تقول المرأة: ألهذا حج؟ وكيف يراه صلى الله عليه وسلم؟ ولا أدري هل أجاب ابن عبد البر على هذه الناحية أم لا، وسواء أكان اللقاء في الليل أو في النهار، فهل كل مسلم لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرفه؟ لا.
إذاً: لا مانع أن يكون اللقاء نهاراً ولم يعرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ألم نجد في هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قدم المدينة، ونزل في ظل نخلة، هو وأبو بكر وجاء الأنصار أو بعضهم، ولم يعرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يفرقوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر؛ لأنهم لم يروه قبل ذلك، حتى اشتد النهار وقام أبو بكر يظلل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهناك عرفوا من هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صاحبه؟! إذاً: لا حاجة أن نفترض أن اللقاء كان ليلاً، يهمنا من الحدث: (ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر) .
وكما يقال: الجواب يتضمن السؤال، وعليه فالمعنى: نعم لهذا حج، ولك أجر، يقول العلماء: (لك أجر) أي: في معانات حجه، ولكن القضية عامة، وكما جاء: (من فطر صائماً كان له كأجره لا ينقص من أجره شيئاً) فهذا فعل الخير وكما جاء في الحديث: (الدال على الخير كفاعله) فهذا فضل الله.(161/10)
سن الإدراك ليس شرطاً للحج بالصبي
وهنا يبحث الفقهاء: من هو الصبي الذي له حج؟ قال بعضهم: هو الذي له إدراك، وهو: الذي خوطب بالصلاة، أي: أمر وليه أن يأمره، (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع) قالوا: لأن أول سن الإدراك عند الطفل سبع سنوات، ولهذا فالنظم التعليمية الحديثة لا تقبل الطفل في الدراسة قبل سن سبع سنوات؛ لأنه إن قُبل قبل هذه السن فستسبب الدراسة الكد والإكلال لذهنه؛ فيعجز عن التحصيل، والطفل في هذا السن إنما يقبل التلقي عن طريق اللعب والأمور العملية، أما الأمور الذهنية فصعبة عليه.
والذي يظهر أن هذه المرأة لم ترفع طفلاً عمره سبع سنوات على يدها، فإن هذا بعيد، وإنما رفعت طفلاً في محفته، وهذا يدل على أنه طفل صغير.
ساق المؤلف رحمه الله هذا الحديث ليبين أن الحج فرض على المستطيع، وأنه يصح للصغير، لكن هل يصح منه استقلالاً، أم أنه يصح منه بواسطة وليه؟ وكيف يحج الولي بالصبي؟ قالوا: يفعل له ما يفعل لنفسه: يجرده عن المخيط، ويلفه في لفائف، ويجنبه النجاسة، ويلبي له عند الميقات بقوله: لبيك اللهم عن نفسي كذا لبيك اللهم عن طفلي كذا وإذا أحرم له بالعمرة متمتعاً وحج به عليه دم له.
ومن الذي يملك أن يحج بالصبي؟ قالوا: أبوه أو وصيه، وهل يشمل هذا كل وصي؟ وهل المرأة تملك أن تحج عن الصبي؟ وهناك نفقة، فمن الذي يؤدي تلك النفقة؟ قالوا: أبوه، أو وصي أبيه، أو الأم إذا كانت لها وصاية عليه، تنفق من ماله، فإذا لم يكن الشخص وصياً لا يحق له أن ينفق من مال الصبي في حجه؛ لأن هذا الحج لا يجزئ عن حجة الإسلام، فيكون ضياعاً لمال الصبي؛ لأنه سيأتينا: (أيما صبي حج قبل البلوغ، فعليه أن يحج حجة الإسلام إن استطاع) وكذلك المملوك: (أيما عبد حج وهو مملوك فأعتق فعليه حجة الإسلام إن استطاع) .
إذاً: لا يحج بالصبي إلا أبوه؛ لأنه ولي أمره وماله، أو وصي الأب، أو الأم إن كانت لها وصاية؛ وذلك من أجل التصرف في مال الصبي، أما إذا كان متبرعاً من عنده فيحج بالصبي وينفق عليه معه، فجزاه الله خيراً، ولا إشكال في ذلك، والله تعالى أعلم.(161/11)
كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه [3]
إن للحج أهمية عظيمة، وقد رتب الله على أدائه الأجر الجزيل، ولما كان الإنسان لا يخلو من موانع تمنعه وتحول بينه وبين هذه العبادة العظيمة، كالعجز والموت، فقد كان من تيسير الله على عباده أن أجاز حج الولد عن والده، كما أجاز الحج عن الغير بشرط أن يكون الشخص قد حج عن نفسه.
ويصح الحج من الصبي والمملوك، إلا أن حجهما لا يسقط عنهما حجة الإسلام بعد البلوغ والعتق.(162/1)
شرح حديث ابن عباس في بيان حكم الحج عن الشيخ الكبير
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: (كان الفضل بن عباس رضي الله عنهما رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت امرأة من خثعم، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، فقالت: يا رسول الله! إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً، لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم.
وذلك في حجة الوداع) متفق عليه واللفظ للبخاري] .
بعدما بين المؤلف رحمه الله تعالى حكم حج الصبي انتقل إلى بيان حكم الحج عن الغير، فجاء بهذا الحديث وهو المعروف عند العلماء بحديث الخثعمية.
أورد المؤلف رحمه الله تعالى حديث ابن عباس وفيه: أن الفضل بن عباس، أي: ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم.
والرديف: هو الذي يركب خلف صاحب الدابة.
(فجاءت امرأة من خثعم) هنا تأتي عدة روايات يسوقها ابن حجر رحمه الله في الجزء الرابع من فتح الباري: تارةً (جاء رجل فسأل عن أمه) ، وأخرى: (جاء رجل فسأل عن أبيه) وأخرى: (جاءت امرأة فسألت عن أمها) وكل ذلك وارد بأسانيد صحاح، فقيل: بتعدد السؤال، وتعدد الجواب.
وفي بعض الروايات لهذه القصة: أن هذه الخثعمية معها أبوها، وجاء في بعض روايات الفضل: أن أباها أتى بها يعرضها على رسول الله صلى الله عليه وسلم لعله يتزوجها، أو أمرها بالسؤال ليسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثها، وقد جاء في وصفها أنها حسناء.(162/2)
نظر الفضل بن العباس إلى الخثعمية وكلام العلماء في ذلك
وكما جاء في الحديث هنا: كانت تنظر إلى الفضل، وكان الفضل ينظر إليها، فكان صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل عنها إلى الجهة الأخرى، وتكرر ذلك حتى قال العباس رضي الله تعالى عنه -وكان حاضراً-: يا ابن أخي! قد أتعبت أو أوجعت عنق ابن أخيك.
أي: في تكرار صرف وجهه إلى الجهة الأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم: (رأيت شابة وشاباً فخشيت أن يدخل الشيطان بينهما) .
وهنا للعلماء مباحث: كيف كان الفضل ينظر إليها، وقد فرض الحجاب من قبل؟ يقول بعض العلماء: إن المرأة في الحج تسفر عن وجهها؛ لأنها نهيت عن لباس البرقع والنقاب، ولكن جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كنا إذا لقينا الركبان أسدلنا على وجوهنا، وإذا فارقونا كشفنا عن وجوهنا) .
ومن هنا تكلموا في تغطية المرأة لوجهها أثناء الإحرام، والذين قالوا: إن المرأة تكشف وجهها دائماً في إحرامها، أخذوا ذلك من هذا الحديث: أن الفضل ينظر إليها، وهي حسناء، وقالوا: لا يتأتى ذلك إلا إذا كانت مسفرة عن وجهها، ولكن فاتهم ما يوجد في الحديث: من أنه صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت فتاة وشاباً) ، فإن الفتاة ولو كانت مخمرة وجهها، فإنها لقرب الحجاب من عينيها ترى الطريق، وترى من تلقاه من الرجال، فكما يخشى على الشاب من الفتاه، كذلك يخشى على الفتاة من الشاب.
إذاً: صرف النبي صلى الله عليه وسلم وجه الفضل عنها لا يدل قطعاً على أنها كانت مسفرة عن وجهها، بل يدل قطعاً بأنها لشبابها ولشباب الفضل يمكن أن تفتتن به، ويتفق العلماء: على أن بني هاشم بصفة عامة كانوا من أجمل الناس، رجالاً ونساء، وجاء في هذه القصة -بالذات- أن الفضل كان وسيماً.
إذاً: صرف النبي صلى الله عليه وسلم وجه الفضل لا يقتضي أن تكون الفتاة مسفرةً وجهها، ولا دليل فيه لمن يقول ذلك.
وقد قدمنا بأن حجة النبي صلى الله عليه وسلم تأتي على كل شيء في الإسلام، فهذه الحادثة وقف عندها العلماء وبحثوا سفور المرأة في الحج وعدم سفورها.
ثم ذكروا أن من الشفقة ومن الرأفة بالإنسان أن تردفه على دابتك إذا كانت تحتمل اثنين، أما إذا كانت لا تحتمل فلا يجوز، وهذا من باب الرفق بالحيوان.
وقد جاء في شأن الرفق بالحيوان ما هو أبعد من ذلك، جاء: أن امرأة دخلت النار في هرة، وجاء: أن امرأة بغياً دخلت الجنة في كلب سقته، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم في قصة البعير الذي ندّ عن صاحبه، أن بيّن له وقال: (بعيرك يشتكي كثرة الكلف وقلة العلف) ، فقد بيّن صلى الله عليه وسلم أنه يجب أن يرفق بالحيوان ولا يكلف فوق طاقته.(162/3)
الحج عن العاجز
وفي هذا الحديث: أن المرأة سألت، وفي رواية: جاء أبوها يعرضها، أو يعرض بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأب موجود، فكيف تسأل عن عجزه عن الحج؟ قالوا: لعل المراد: الأب الأعلى، وهو: جدها، وقالوا: لعلها قضية أخرى، يهمنا صيغة السؤال وصيغة الجواب، قالت هذه المرأة: (إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً، لا يثبت على الراحلة) .
فقولها: (لا يثبت) .
أي: لا يثبت بنفسه على الراحلة، وجاء في بعض الروايات: (أن امرأة سألت، وقالت: إني أخشى إن أنا شددته على الراحلة بالحبل أن أقتله) وجاء -أيضاً مرةً أخرى- (أن رجلاً سأل عن أبيه وقد عجز، ولا يستطيع أن يربطه ويثبته على الراحلة) .
وهذه الصور بمجموعها تعطينا أن هذا العاجز قد بلغ به عجزه إلى حد لا يستطيع أن يثبت بنفسه على الراحلة.
وهنا ينظر العلماء في هذا العجز ما سببه؟ إن كان للشيخوخة فهو لا يرجى عوده إلى الشباب والصبا، فهو ميئوس من ذهاب هذه العلة عنه، أما إذا كان مريضاً مرضاً عارضاً ويظن أو يرجى له البرء فإن حكمه يختلف، ومن هنا قال بعض العلماء: لا يجوز الحج عن الغير في حال الحياة إلا إذا كان عاجزاً بهذه الصفة، أو بسبب لا يرجى برؤه ولا زواله، فحينئذٍ يجوز أن يحج عنه، والكلام في حجة الفرض لا في النوافل؛ لأنهم متفقون على أن الحج نافلة عن الغير يصح، ولو كان الغير سليماً معافى، اللهم إلا قولاً للمالكية يخالف في ذلك.
إذاً: هذا المبحث ونظيره إنما هو في حجة الفرض لا في حجة النفل.
فقالت: (أفأحج عنه؟) (قال: نعم) يعني: نعم حجي عنه، وهنا قد يأتي البعض ويقول: هذا مجرد جواز الحج عنه، ولكن هل يسقط به الفرض أم لا؟ لا حاجة إلى هذا التساؤل؛ لأنه كما يقال: الجواب يتضمن السؤال، فهي سألت عن أبيها، وقد أدركته فريضة الحج على العباد، فهل قوله: حجي عنه، يكون حج فريضة أم حج نافلة؟ لا شك أنه حج فريضة، وسيأتي ما يبين ذلك أكثر، وأن هذا واجب عليها، وكما سيأتي في قصة المرأة التي سألت عن أمها التي نذرت حجاً وماتت ولم تحج، فقال لها: (أرأيت لو كان على أمك دين؟ -إلى أن قال- دين الله أحق) .
إذاً: ما دام قد تعلق بذمته وجوب الحج، فسألت: هل تحج عنه أم لا؟ وأجابها: بنعم، فيكون ذلك حج الفريضة.(162/4)
صحة الحج عن الغير
وفي هذا الحديث -كما يقول الإمام ابن حجر وغيره- من المسائل الفقهية: صحة حج الغير عن غيره، وهذه كما قالوا: مغايرة للأصول: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39] وأنهم مجمعون على أنه لا يصلي إنسان عن إنسان، ولا يصوم إنسان عن إنسان وهو على قيد الحياة، وقال الآخرون: هذه قضية فيها نص، فلا حاجة إلى قياسها على غيرها.
وقالوا أيضاً: إن العبادات تنقسم إلى قسمين: عبادة بدنية مقصودة من الشخص بعينه.
وعبادة مالية ليست مقصودة من الشخص بعينه، ولكنها مقصودة من عين المال، فالعبادة البدنية لا تتأتى من أحد عن أحد؛ لأن الصلاة فيها وقوف بين يدي الله، وفيها الخشوع، وفيها الخضوع، وفيها الذكر والدعاء، وهذا أمر شخصي يرجع إلى المصلي، فإذا صلى غيره عنه، فأين تلك المعاني لمن صلى عنه؟! وكذلك الصوم: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] أي: بالصوم، فإذا صام إنسان عن إنسان، فات على من صيم عنه معاني اكتساب التقوى.
أما العبادات المالية: كالزكاة، والكفارات، ووفاء النذور، فإنها تتعلق بالمال، والمال لا دخل له في الإنسان إلا من ناحية الشح والسخاء ونحو ذلك، ويسقط الواجب بهذا الجزء من المال سواءً كان من صاحبه أو من غيره، كما سيأتي في الحديث: (أرأيت لو كان على أمك دينٌ فقضيته أكان ينفعها؟) أي: هل يسقط عنها الدين، والمطالبة به أم لا؟ قالت: نعم، فأحالها على ما تعلم، لتعرف حكم ما لم تعلم.
فإذا وجد إنسان مدين، وطولب بأداء الدين فلم يستطع الأداء وأخذ إلى السجن، فجاء إنسان آخر ودفع عنه الدين شفقة ورحمة، فهل يقال: لا، بل يبقى في السجن حتى يدفع هو! أو حتى يسقط عنه الدين وتسقط المطالبة؟ حتى يسقط عنه الدين وتسقط المطالبة.
وقالوا: إن الحج يجمع بين القسمين، عبادة البدن: المتمثلة في الحل والترحال، والطواف، والسعي، والوقوف، وعبادة المال: المتمثلة في الزاد، والراحلة، ولذا يقول بعض العلماء: إذا غلب جانب البدن فلا يحج أحد عن أحد في الحياة، وإذا غلب جانب المال فإنه يحج كل إنسان عن أي إنسان في الحياة، وعلى هذا يكون الراجح: صحة نيابة الإنسان في الحج عن غيره، وهذا هو مذهب الجمهور، وخالف في ذلك المالكية، فقالوا: ما دام موجوداً حياً فلا حج عنه ولا نيابة، فغلبوا جانب العبادة البدنية.
ولا تشترط المماثلة فيجوز أن تحج امرأة عن رجل، وكذلك رجل يحج عن امرأة، ولا مانع من ذلك، هذا من النواحي الفقهية.
من النواحي الأخرى: أن هذه امرأة نظرت إلى حال أبيها، وقد بلغ به الكبر إلى هذا الحد، وهي تتطلع إلى بره والإحسان إليه؛ لتخرجه من عهدة الواجب عليه، وهذا هو الواجب على كل ابن تجاه والديه.
إذاً: الحديث يتناول عدة جوانب سواء كان من جانب التشريع: الحلال والحرام، والإجزاء وعدمه، أو كان من جانب الأمور الاجتماعية: من الإحسان، والبر، ونحو ذلك.
كذلك مسألة سفور المرأة، وإزالة ما يراه الإنسان سداً للذرائع، كما هو الأصل في مذهب مالك؛ لأن صرف وجه الفضل عن الفتاة سدٌ لذريعة الفتنة بينهما، وهذا على قدر سلطة الإنسان، إن كانت له سلطة باليد فباليد، وإن لم تكن له سلطة باليد فبالقول، وإن لم يستطع بالقول فيكون بالوسيلة الثالثة، وهي القلب، وذلك أضعف الإيمان.
إذاً: موضوع هذا الحديث هو: بيان نيابة حج الإنسان عن غيره لعذر، ألا وهو: العجز عن السفر إلى الحج لعذر لا يرجى زواله ولا برؤه.(162/5)
حكم من أناب في الحج لعجزه ثم قوي بعد ذلك
بقيت مسألة واحدة وهي: إذا كان الإنسان لا يستطيع الحج لكبر سنه، وأناب في الحج عنه، ولكن مع الزمن قوي بدنه، وتيسرت له الوسائل التي بها يستطيع أن يحج، فهل نطالبه بحجة الإسلام؛ لأن الأولى كانت لعلة وقد زالت، أو يكتفى منه بما مضى في وقته بوجه شرعي؟ اختلف الأئمة في ذلك، فـ مالك لا يرى أن يحج عنه أصلاً مادام حياً، وعلى هذا فيلزمه الحج، وأحمد يقول: لا يطالب بالحج؛ لأنه أُدِّيَ عنه بوجه مشروع، وأبو حنيفة والشافعي رحمهما الله يقولان: عليه أن يحج حجة أخرى، على ما سيأتي في حق الصبي والمملوك.
والله تعالى أعلم.(162/6)
شرح حديث ابن عباس في وجوب الوفاء بالنذر لمن نذر الحج
قال المؤلف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنه: (أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: نعم.
حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين، أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء) رواه البخاري] .
الحديث الأول: امرأة من خثعم، والحديث الثاني: امرأة من جهينة، وكونها من خثعم، أو من جهينة، أو من تميم، أو من مضر، أو من باهلة، أو من أي جنس من الأجناس لا علاقة له بالحكم، ولكن هذا من باب التوثيق في الخبر؛ لأنه متأكد أن المرأة معروفة بعينها وقبيلتها، وهذا مما يعطي السند قوة، والخبر أصالة.(162/7)
أحكام النذر وأقسامه
والمؤلف رحمه الله بعدما ذكر الحديث الدال على الحج عن العاجز الحي لعذر المرض ذكر الحديث الدال على الحج عن الميت، فهذه المرأة الأخرى تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: (إن أمي كانت قد نذرت أن تحج) إذا كان هذا النذر لحج الفريضة، فيكون واجباً بأمرين: بالإيجاب الأول: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] وبالإيجاب الثاني: وهو النذر، وإذا كان نذراً لحج النافلة، وكانت قد حجت الفريضة، ثم نذرت حجة أخرى نافلة، والنافلة بالنذر تصبح واجبة إيجاباً جديداً، ومهما يكن من شيء فأمها نذرت.
والنذر من حيث هو: إلزام الإنسان نفسه بشيء قربة لله، وقد يكون مطلقاً، وقد يكون مشروطاً، فالمطلق مثاله: رجل كسلان عن الصيام، فأراد أن يلزم نفسه بالصيام فقال: لله علي نذر أن أصوم يوم كذا، ويوم كذا لله، فهذا يسمى: نذراً مطلقاً، والنذر المشروط مثاله: أن يقول طالب: لله علي نذر إن نجحت في الامتحانات أن أذهب وأعتمر، هذا النذر مشروط، ومعلق بما إذا نجح في الامتحانات.
أما النذر المطلق فلا مانع فيه، وبعضهم يكرهه؛ لأنه إلزام لنفسه بما لم يلزمه به الشرع، وما يدريك لعلك تعجز، فهو غير واجب ابتداءً، ولكن عندما ألزم الشخص نفسه به أصبح واجباً في حقه، والأفضل للإنسان أن يترك النذر، وإذا أراد أن يتطوع بعمل ما فليأت به تطوعاً من غير نذر، وهذا هو الأفضل، أما المشروط فكرهه العلماء؛ لأن فيه حديث: (إن النذر لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل) النذر لن يأتي لك بالنجاح وإنما يكون النجاح بالمذاكرة، وبالتوفيقِ من الله، ولو قال قائل: إن شفى الله مريضي حججت وتصدقت، هل الحج أو النذر هو الذي سيشفي المريض؟ لا: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] .
هذه مساومة مع الله ومبايعة، إن أعطيتني أعطيتك! ولكن يستخرج به من البخلاء، لولا مرض الولد، ومجيء الشفاء، والتطلع إليه، ما حج ولا اعتمر؛ لأنه بخيل.
إذاً: (النذر لا يأتي بخير، ولكن يستخرج به من البخيل) ، يعني: لا يأتي به لذاته، وإنما الذي يأتي بالخير هو الله سبحانه وتعالى.
فهذه امرأة نذرت، وبسبب نذرها تورطت ابنتها، وجاءت البنت تريد أن تفك أمها مما ألزمت به نفسها ولم تف به، فهي كانت في عافية، ولكن لما نذرت صارت مدينة مسئولة، وهذا أيضاً من شفقة البنت على أمها؛ لأنها علمت أنها مدينة مرتهنة بنذرها، فاغتنمت فرصة وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم لتسأله، ولقد كان عصر الصحابة أحسن العصور لتمتعهم بهذه النعمة وهذا الفضل العظيم، (خير القرون قرني) إمامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلما أشكل عليهم أمر بادروا بالسؤال ويجدون الجواب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم (أفأحج عنها؟ قال: نعم، حجي) .
ثم لما استشكلت البنت الوفاء عن أمها؛ لأنه عمل للغير، فالغير ألزم نفسه به تبرعاً، ولم يوجبه الله عليه، أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبين لها ليزول هذا الإشكال، وهذا رأفة بالسائل، وحكمة من المسئول، قال: (أرأيت) يعني: أخبريني بما تفهمين أنت: لو أن على أمك ديناً لجارتها، وماتت وهي مطالبة بالدين، فقضيت أنت عنها الدين، أكان ينفعها؟ قالت: نعم ينفعها، قال: دين الله أحق، ما دمت تعلمين بأن سداد الدين عن الغير ينفعه، ويرفع عنه المطالبة والمسئولية، وإذا كنت توفين دين المخلوق، والنذر دين لله، ودين الله أحق بأن توفيه، وبهذا علمنا صحة الحج عن الميت.
والمالكية يقولون: من أوصى بالحج عنه، حججنا عنه، لكن من نذر بالحج أنحج عنه أم لا؟ بعضهم يقول: نعم؛ لأنه أوجبه على نفسه، بخلاف ما أوجبه الله على العبد، ومات العبد قبل تمكنه من أدائه، فالله الذي أوجبه هو الذي أخذ العبد، ولم يمكنه من أن يحج، بخلاف ما لو أوجب العبد على نفسه الحج فيكون هو الذي ورط نفسه، فيكون الإلزام هنا من جانب الوفاء؛ لأن العبد هو الذي حمّل نفسه وألزمها.
ويهمنا في هذا أن الجمهور قالوا: أيما ميت مات وعليه حج، سواء كان عليه بأصل الوجوب: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ} [آل عمران:97] أو كان عليه بإيجابه على نفسه بالنذر، فإن وليه يحج عنه، أو ينفعه حج الغير عنه.
إذاً: الحج عن الحي بسبب علة عجزه، والحج عن الميت، بسبب موته، واستقرار الحج دين في ذمته، وبهذا يتم عندنا جواز الحج عن الغير حياً أو ميتاً، إلا أن الحي مشروط فيه أن يكون عاجزاً عن أن يحج بنفسه، وهذا كله في حجة الفريضة.(162/8)
نيابة الأجنبي في الحج
وهنا يبحث العلماء في نيابة الأجنبي؛ لأن الوارد في السؤالين نيابة البنت أو الابن، وإذا كان النائب أجنبياً فهل يجزئ أم لا؟ يقول البعض: القياس لا يجزئ؛ لأن ولد الرجل من عمل أبيه، إذ الولد بضعة من أبيه ويقول صلى الله عليه وسلم: (أو ولد صالحٌ يدعو له) لأن عمل الولد تابع للوالد، فإذا كان أجنبياً عنه فلا توجد بينهما رابطة ولكن سيأتينا حديث شبرمة وفيه: (أخٌ لي، أو صاحب لي) أي: ليس بأبي ولا بأمي، فيدل هذا على صحة حج الإنسان عن غيره، والأولى أن يكون النائب من ولده، وإذا لم يكن من ولده ولا من أقربائه صح ذلك، على ما سيأتي الشرط فيه.(162/9)
شرح حديث ابن عباس في حكم حج الصبي والمملوك
قال المؤلف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما صبي حج، ثم بلغ الحنث، فعليه أن يحج حجةً أخرى، وأيما عبد حج، ثم أعتق، فعليه أن يحج حجةً أخرى) روا ابن أبي شيبة والبيهقي ورجاله ثقات، إلا أنه اختلف في رفعه، والمحفوظ أنه موقوف] .
هذا الخبر جاء موقوفاً على صحابي، وجاء مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولكن حكمه حكم الرفع؛ لأن حج الصبي، وإجزاؤه وعدم إجزائه تشريع، ولا يتأتى لإنسان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُشرع ويصدر مثل هذا الحكم، إذن: سواء ثبت في الصناعة الحديثية رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن جاء فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لم يصح أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبت أنه موقوف على الصحابي، فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم جميعاً لا يملكون أن يقولوا مثل ذلك، والعلماء يقولون: الموقوف على الصحابي إذا لم يكن للرأي فيه مجال فهو مرفوع حكماً؛ لأنه لا يتكلم فيه بالرأي ولا بالعقل، ولكنه يكون قد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.(162/10)
اعتبار الأهلية في التكليف
وموضوع هذا الحديث مرتبط بالحديث الذي تقدم في قصة المرأة التي رفعت صبياً بالروحاء وسألت: (ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر) .
فهذا الصبي قد حجت أمه عنه في صغره قبل أن يُكلف، فإذا بلغ هذا الصبي سن التكليف، فهل يُكلف بالحج أم أن حجه الأول يسقط عنه فريضة الحج؟ فهذا الحديث جواب على هذه المسألة.
(أيما) أي: من صيغ العموم، و (ما) كذلك وهما معاً كلمة واحدة (أيما صبي حج، ثم بلغ الحنث، فعليه أن يحج حجةً أخرى) الصبي هذا كم عمره؟ تقدم أنه رفع في المحف، وكانوا يحجون بالصبيان دون البلوغ، كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، حيث قال عن نفسه: (كنت مع الضعفة ليلة المزدلفة وكنت غلاماً) ، وجاء عنه أيضاً أنه قال: (جئت على أتان وقد ناهزت الاحتلام -يعني: قاربت أن أحتلم ولم أحتلم بعد- والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بمنى، فمررت بالأتان بين الصفوف، حتى وجدت مكاناً، فنزلت عنها وتركتها) أي: وقمت في الصلاة، فهذا غلام ناهز الاحتلام وكان حاجاً معهم.
إذاً: سواءً كان غلاماً أو صبياً رضيعاً، أو فطيماً، أو ابن سبع سنوات، أو تسع، ما دام أنه حج دون البلوغ، فعليه أن يؤدي حجة الإسلام بعد البلوغ.(162/11)
حكم من بلغ أثناء أدائه للمناسك
وهنا يأتي الفقهاء رحمهم الله وجزاهم الله عنا أحسن الجزاء، ومما يجب على طالب العلم أن لا يقف عند نصوص الحديث، بل لابد أن يرجع إلى الموسوعات الفقهية؛ لأن للفقهاء تفريعات واستنتاجات نحن لم نتوصل إليها.
فيقولون: لو أن إنساناً أخذ صبياً ليحج به، ولما جاء إلى مكة وهو محرم بالحج بلغ واحتلم، يقولون: متى كان احتلامه؟ هل كان قبل الوقوف بعرفة أم بعده؟ إن صح احتلامه قبل الوقوف بعرفة، أو وهو في أرض عرفات، قبل أن ينصرف منها، أجزأت عنه حجة الإسلام؛ لأنه أداها وهو بالغ، وإن كان احتلامه بعد أن نزل من عرفات، فهو قد حج دون البلوغ؛ لأن الحج عرفة، وما يأتي بعد عرفة فهو من مكملات الحج فعليه حجةٌ مرةً أخرى، (فأيما صبي حج، ثم بلغ) أي: بلغ سن التكليف، واستطاع الحج؛ لأنه في حال صغره قد يحججه وليه، فلما بلغ أصبح كعامة الناس: (من استطاع إليه سبيلا) يعني: أن الحجة الأولى، التي أوقعها له وليه قبل البلوغ لا تجزئ عن حجة الإسلام.(162/12)
حكم حج قاصر الأهلية
ثم يأتي بعد ذلك قاصر الأهلية وهو: المملوك، ومعنى قاصر الأهلية: أنه لا يتصرف بأهلية كاملة في نفسه وفي ماله، والصغير قاصر الأهلية، يحجر عليه في ماله، ولا يعطى المال في يده، وإنما يعطى بقدر ما يمتحن به؛ حتى يجرب: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا} [النساء:6] أي: بعد بلوغ سن الرشد، أو بعد البلوغ مع الرشد في التصرف، وهل المراد الرشد في الدين أو الرشد في الدنيا؟ هذا بحث آخر.
وفي حق المملوك: (أيما مملوك) أيما عبد أيما جارية -فالمملوك يصدق على العبد والجارية، وعلى الذكر والأنثى- كان قد حج مع مواليه وهو مملوك، ثم بعد ذلك أعتق أو كاتب على نفسه وصار حراً، كذلك إن استطاع سبيلاً للحج فعليه أن يحج حجة أخرى، وبهذا يستدل على أن العبد المملوك قاصر الأهلية لأنه في حكم سيده، وهناك تفريعات عديدة على هذا، في من سقطت عنه الجمعة، وسقطت عنه الزكاة في ماله، إلا بإذن سيده، إلى أشياء أخرى والله تعالى أعلم.
وأيضاً يضاف إلى هذين الاثنين -كما تقدم- من المريض الذي لا يستطيع الحج، فحج عنه غيره، ثم تعافى، فيكون أيضاً مضافاً إلى الصغير وإلى المملوك، وكذلك من حج عنه لعجزه عن الركوب، ثم استطاع أن يركب بعد ذلك.(162/13)
كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه [4]
إن المرأة مأمورة بالحج كالرجل، إلا أن الإسلام راعى ضعف المرأة، وحاجتها إلى غيرها، فأوجب عليها إن أرادت أن تسافر إلى الحج أن يكون معها محرم، فإن لم تجد فلا يجب عليها الحج، والمحرم هو كل من حُرّمت عليه المرأة تحريماً مؤبداً.
ويجوز الحج عن الغير فرضاً كان أو نفلاً، بشرط أن يكون قد حج عن نفسه أولاً، والوصية بالحج تنفذ من ثلث مال الموصي، ويستحب تكرار الحج كل عام ويكره تأخيره -لمن كان مستطيعاً- أكثر من خمس سنوات.(163/1)
اشتراط وجود المحرم مع المرأة عند خروجها للحج
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: (لا يخلُونّ رجلٌ بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله! إن امرأتي خرجت حاجة، وإني اكتُتبت في غزوة كذا وكذا، فقال: انطلق فحج مع امرأتك) متفق عليه، واللفظ لـ مسلم] .
هذا الحديث يتناول قضية كبرى من كبريات قضايا المجتمع، ألا وهي: قضية سفر المرأة، ومفهوم سفر المرأة يقتصر على ما يسمى سفراً في العرف، بخلاف ما كان دون ذلك، كما لو خرجت المرأة من المدينة إلى قباء، فلا يقال: إن هذا سفر، أو خرجت من بيتها من ضاحية المدينة إلى المسجد النبوي فلا يقال: ذلك سفر، وإنما السفر كما يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: (كل ما احتاج الإنسان معه إلى زاد وراحلة) هذا بالجملة، ولكن جاءت نصوص: (يوم وليلة) ، (يومين) ، (ثلاثة أيام) ، إلى غير ذلك.
وصدر الحديث (لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم) قضية عامة: لا يخلون رجل بامرأة، حضراً أو سفراً، والخلوة: أن يكون الاثنان معاً فقط، سواءً كان في السيارة، أو كان في الخيمة، أو كان في البيت، أو.
إلخ، إذا خلا المكان من غيرهما فهذا ممنوع؛ لأنه قد جاء في الحديث: (ما خلا رجل بامرأة، إلا كان الشيطان ثالثهما، أو معهما) وإذا كان الشيطان معهما فسيجرهما إلى الشر، ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
ثم جمع مع النهي عن الخلوة ما يتعلق بموضوعها أيضاً وهو السفر للحج، فالمرأة حين سألت النبي: هل تحج عن أمها؟ فقال: حجي، فعندها يأتي السؤال: كيف تحج؟ فجاء بشرط حج المرأة وسفرها: أن يكون معها محرم، ومن هنا يرى أحمد رحمه الله: أن استطاعة المرأة للحج بالزاد والراحلة والمحرم، وإذا لم يكن لها محرم كزوج، وأب أو كان محرمها فقيراً لا يستطيع الحج فلا تتم استطاعتها، والجمهور: على أن استطاعة المرأة كاستطاعة الرجل، الزاد، والراحلة، والمحرم شرط زائد عن ذلك.
والأئمة الثلاثة رحمهم الله في حج المرأة حجة الفريضة من غير محرم يقولون: إن كانت هناك رفقة مأمونة فلها أن تخرج للفريضة فقط، وما هي الرفقة المأمونة؟! إذا كانت المرأة في جمع من النسوة مع محارمهن إلى غير ذلك، فتخرج لحج الفريضة ولا تخرج لحج النافلة.
لما قدم المؤلف رحمه الله بيان فضل الحج، جاء بشروط وجوبه، وهي: الاستطاعة، وتفسيرها من النبي صلى الله عليه وسلم بالزاد والراحلة، ثم جاء بعد ذلك بمن يحج عن غيره، من أب أو أم، حياً أو ميتاً، نذراً أو غير نذر، ثم جاء هنا بواجب من الواجبات، أو بشرط من الشروط وهو: حج المرأة بمحرم لها.(163/2)
اختلاط المرأة بالرجال وخلوتها بهم في السفر وفي غيره
وفي صدر الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -وهو يخطب على المنبر، والخطابة على المنبر قد تكون للجمعة وقد تكون لغيرها-: (لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعهما ذو محرم) هذا الجزء من الحديث -على إيجازه- يعطينا صورة كاملة على مدى الحفاظ على المرأة في الإسلام، وعلى وجوب التوقي من فتنتها؛ وذلك أن علاقة المرأة بالرجل، والرجل بالمرأة علاقة أصل بفرع، وفرع بأصله، {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1] فالأصل يعطف على الفرع، والفرع يحن إلى الأصل، وهذه جبلة وغريزة، والله سبحانه وتعالى حفظ الجنسين من بناء علاقة بينهما إلا ما كان في عقد نكاح، أو ملك يمين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:6] .
فإذا جاء العقد كانت هناك رابطة أخص: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187] وقبل أن يأتي هذا اللباس فالمرأة الأجنبية محرمة على الأجنبي، وبهذه المناسبة -وقد انتشر في العالم التساهل في هذه القضية- نجد أن الله سبحانه سدّ منافذ الوصول إلى المرأة، من الحواس الخمس، عن النظر: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ} [النور:30] ماذا؟ {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] فأمر بغض البصر من كلا الجانبين، وحفظ الفرج، وكذلك السماع: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ} [الأحزاب:32] ، وكذلك: {وَلا يَضْرِبْنَ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] لأن ضرب الخلخال يصدر صوتاً تسمعه الأذن ويلفت النظر، وكذلك الملامسة من باب أولى، وهنا يقول صلى الله عليه وسلم: (لا يخلون) ، بل أيضاً منع ما يثير حاسة الشم: (أيما امرأة تعطرت وخرجت من بيتها، فمرت على رجال، فوجدوا منها ريحها، فهي زانية) .
وقد يتعاظم الإنسان هذا الحكم، ولكن إذا عرفنا بأن العين تزني وزناها النظر، والأذن تزني وزناها السماع والتلذذ، والأنف أيضاً تزني وزناها الشم إلى غير ذلك هان الأمر علينا.
ثم منع الخلوة أياً كانت، وهذا زيادة في الحفاظ عليها، حتى جاء في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله: (أفرأيت الحمو يا رسول الله؟!) والحمو: أخو الزوج، يعني: يدخل في غيبة أخيه، فبيّن صلى الله عليه وسلم أنه أشد خطراً فقال: (الحمو الموت) ؛ لأن الأجنبي لا يجرؤ أن يدخل، وإذا دخل لفت الانتباه، أما أخو الزوج فيدخل بيت أخيه، وهناك تكون عدم المبالاة، فيكون هناك ما يشبه الموت.
إذاً: في هذا الحديث يبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن على الرجل أن يتوقى من المرأة، وكذلك المرأة.
وتقدم لنا في قضية الخثعمية التي كانت تسأل النبي صلى الله عليه وسلم والفضل بن العباس رديف النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ ينظر إليها، وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل عن الخثعمية، ولما سأله العباس في ذلك قال: (رأيت شاباً وشابة، فخشيت عليهما الفتنة) .(163/3)
حرمة سفر المرأة من غير محرم
قوله: (ولا تسافر امرأة بغير محرم) السفر بصفة عامة يكون للحج ولغير الحج، والمؤلف ساقه فيما يتعلق بالحج؛ لأن الرجل الذي قام وسأل ربط السفر بالحج، ولا تسافر المرأة بغير محرم، والسفر ليس مطلق النقلة، بل له حدود ومسافات، وجاء مسيرة يوم وليلة، (مسيرة) في اللغة: مفعلة، تصلح مصدراً ميمياً، وتصلح: اسم زمانٍ ومكان، فعلى أنها اسم زمان يكون النهي أن تسير يوماً وليلة قطعت فيها عشرة أميال أو آلاف الأميال، ويكون النهي متعلقاً بجزء زماني وهو: اليوم والليلة، وعلى أنها اسم مكان: يكون النهي عن أن تسافر مكاناً، ومسافته تقطع عادة في يوم وليلة، حتى ولو قطعتها في ساعة واحدة.
إذاً: (مسيرة) هنا تحتمل الأمرين، وقد وجدنا أن بعض العلماء يأخذها على الناحية الزمنية، فإذا سافرت أقل من يوم وليلة، -ولو قطعت مئات الأميال- لم تبلغ الحد الذي نهيت عنه، ومن حمله على المكان قال: لا تسافر تلك المسافة التي من عادتها أن تقطع في يوم وليلة، ولو سافرتها في ساعة واحدة.
ونجد ابن حجر رحمه الله في فتح الباري يفرق فيما يتعلق بقصر الصلاة والفطر في رمضان، فيجعله من باب المكان، وعموم السفر يجعله من باب الزمان، والمسألة مشتبهة جداً وخطيرة، والغرض من ذلك: الحفاظ على المرأة من أن تخلو في سفرها؛ لأنه كما يقال: يخشى عليها من ذئاب الخلاء، وحينئذٍ إن اضطرت إلى سفر فهل تسافر أم لا؟ والنهي هنا هل هو للتحريم أو للكراهية؟ نجد القول متشعباً ومتعدداً في هذا الأمر، ولكن عندما يأتي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا البيان، فالرجل سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن أن تسافر المرأة بغير ذي محرم، فأدرك المعنى، وهو يعلم أن زوجته خرجت للحج، وهو جالس وليس معها محرم، فقام وسأل: ماذا أفعل؟ ما هو الحكم؟ وقد اكتتبت في غزوة كذا؟ فهنا مقارنة بين أمرين: أن يصحب الزوجة لتكون ذات محرم في الحج، أو أن يذهب إلى الغزوة، فنجد النبي صلى الله عليه وسلم يقدم ذهابه مع زوجه ليحج معها، حتى لا تحج بغير محرم، فلكأن وجود المحرم مع المرأة أهم من وجوده في تلك الغزوة، والمشاركة في الغزوة بالنسبة له من باب فروض الكفاية؛ لأنهم لم يهاجموا، والقتال يكون فرض عين على كل شخص حتى النساء إذا داهم العدو البلد، ويكون فرضاً كفائياً، إذا كان بعيداً عن بلده، والقوة موجودة، والعدد متوفر، ويكون من النافلة إذا توفر العدد الكثير ولم يتوقف عليه.
وهكذا رجح النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحالة بين هاتين العبادتين، فقال: (اذهب وحج مع امرأتك) .
ربما يقول البعض: إن تلك المرأة التي خرجت للحج كانت برفقة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ولكن في النفس من ذلك شيء؛ لأن حجة أبي بكر رضي الله تعالى عنه كانت في السنة التاسعة، وفتحت مكة عام ثمانية من الهجرة، وبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر يحج بالناس سنة تسع، وأي غزوة كانت في سنة تسع؟ لا نعرف إلا غزوة تبوك، وهي لم تكن في وقت الحج.
إذاً: كونها في صحبة، أو رفقة أبي بكر هذا فيه نظر.
وهنا نجد بعض علماء الحنابلة يقولون: لا تتم استطاعة المرأة للحج، ولا تلزمها الفريضة إلا باستطاعتها في ذاتها وأيضاً كونها مستطيعة لمحرم يحج معها؛ لأنها في حاجة إليه، ونفقته عليها إن لم يكن خرج للحج عن نفسه معها.
ونجد الشافعي رحمه الله يرى أن ذلك النهي للكراهية، ويقول: إن كانت الحجة فريضة، ووجدت رفقة مأمونة من النسوة وغيرهن سافرت معهن، فهي عندما تكون في جماعة النسوة معهن المحارم، فإنها تخدم وتحفظ وتصان مع النسوة فتكون في مأمن.
والنووي يدلل على هذا الجانب فيقول: لو أن امرأة خرجت مع محرمها، وفي منتصف الطريق مات المحرم، ماذا ستفعل تلك المرأة؟ أتبقى في مكانها في خلاء؟ أم ترجع إلى بلدها وحدها؟ إذاً: تمضي مع الرفقة حتى تتم حجها.
ثم جاءوا واستدلوا أيضاً بحديث الظعينة التي تسير بين يثرب والحيرة لا تخاف على راحلتها السرق، قالوا: فهذه ظعينة تسير وحدها، وأجاب الآخرون: بأن هذا إخبار -في الجملة- عن استباب الأمن، ولكن ليس فيه جواز مسير المرأة بغير محرم، ولا ينبغي أن ننصب التعارض بين هذين الحديثين، ولا سيما مع طول الزمن وفساد الحال.(163/4)
المحرم الذي تسافر معه المرأة في الحج
من هو المحرم الذي يكون للمرأة في الحج؟ قالوا أولاً: الزوج.
ثانياً: من كانت المرأة تحرم عليه تحريماً مؤبداً، أما إذا كان زوج أختها، أو زوج خالتها، أو زوج عمتها، فهي لا تحل له، لئلا يجمع بين الأختين، ولا تنكح المرأة مع عمتها أو خالتها، لكن هذا التحريم مؤقت، لأنه إذا ماتت الأخت أخذ أختها، وإذا ماتت البنت أخذ خالتها، وهكذا يمكن أن يأخذ الواحدة منهن على انفراد، وقد يطلقها في الطريق، وتحل له هذه بعد طلاقها وخروجها من العدة، فالمقصود بالتحريم أن يكون مؤبداً.
والعجيب أن نجد قولاً لـ مالك رحمه الله، يستثني من هذا التحريم المؤبد الأخ من الرضاع، وولد الزوج، فالأخ من الرضاع محرم على التأبيد، وولد الزوج محرم؛ لأنها زوجة أبيه، ويعلل ذلك بفساد الزمن، فإذا كان في زمن مالك يمنع أن يكون ولد الزوج محرماً في السفر مع زوجة أبيه لفساد الزمن، فماذا نقول في وقتنا الحاضر؟ إذاً: المسألة تحتاج إلى تحفظ واحتياط.
ولكن للأسف فإننا نشاهد مجيء المرأة بدون محرم في حلها وترحالها، عند ركوبها السيارة، عند نزولها، وعند وجودها في منى، وعند وقوفها في عرفات، فلو أرادت أن تشرب ماءً، أو أن تريق ماءً، فإنها في حاجة إلى من يكون معها، ويأخذ بيدها إلى قضاء حاجتها.
إذاً: إذا كان المولى سبحانه أعفى المرأة ولم يوجب الحج عليها إذا لم يكن لها محرم، فلا حاجة أن تغرر بنفسها، ولا حاجة أن نشجعها على مخالفة السنة النبوية المطهرة، لكن إذا حدث وجاءت فهل نردها؟ لا نملك ذلك، وسنقع في المحظور، ولكن ينبغي أن يُعرف هذا الحديث ويحفظ ويعلّم ويدرس قبل أن تخرج المرأة من بيتها، وأنتم الآن وقد علمتم ذلك، فقد حملكم الله الأمانة، وحملكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: (ألا فليبلغ الشاهد الغائب فرب مُبَلغ أوعى من سامع) ، وقال: (رحم الله امرأً سمع مقالتي، فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) .
إذاً: هذه قضية عامة ينبغي أن تراعى.
ونجد بعض الناس يقول: المرأة إن كانت شابة فتمنع؛ لأنها موضع الفتنة، وإن كانت عجوزاً فلا مانع، ونجد الآخرين يقولون: لكل ساقطة لاقطة، فالعجوز لها عجوز أيضاً، ولكن: آخر ما يمكن أن يقال: سددوا وقاربوا، والله تعالى أعلم.(163/5)
شرح حديث: (حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة)
قال المؤلف رحمه الله: [وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: (لبيك عن شبرمة، قال: من شبرمة؟ قال: أخ لي، أو قريب لي، فقال: حججت عن نفسك؟ قال: لا.
قال: حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة) رواه أبو داود وابن ماجة، وصححه ابن حبان والراجح عند أحمد وقفه] .(163/6)
الحج عن الغير وشرطه
هذا الحديث تتمة لما تقدم بيانه من أن المرأة الخثعمية سألت: (فريضة الله في الحج، أدركت أبي شيخاً كبيراً) .
وهكذا ثبتت صحة حج الإنسان عن الغير عند الجمهور، وكذلك الحج عن الميت إن أوصى أن يحج عنه، وهذا عند مالك فقط، إذن: يجوز أن يحج إنسان عن غيره، لكن ما هو المشروط في هذا النائب في حجه عن الغير؟ وللجواب على ذلك جاء المؤلف رحمه الله بهذا الحديث.
الرسول صلى الله عليه وسلم يسمع إنساناً يطوف بالبيت قائلاً: (لبيك اللهم عن شبرمة) اسم علم، قال: من شبرمة هذا؟ أي: ماذا يكون لك؟ قال: أخ لي، أو صديق لي، أو قريب لي، الشك من الراوي؛ لأن الملبي سمى واحداً فقط، لكن الراوي التبس عليه أي الألفاظ قال.
يهمنا أنه حاج عن غيره، فسأله صلى الله عليه وسلم: (أحججت عن نفسك؟ -أنت الآن تحج عن شبرمة، فهل حججت عن نفسك أنت؟ - قال: لا، قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة) .
وعلى هذا فعند الجمهور: من لم يحج عن نفسه لا يتأتى منه أن يحج عن الغير، لكن لو قدر أن وقع ماذا يكون؟ هذا هو الفقه.
مدلول النصوص قد يستوي في إدراكه الكثيرون، ولكن فقه الحديث قد يختص به العلماء وسلف الأمة رضوان الله تعالى عليهم، فلو وقع وجاء إنسان ولبى عن غيره، وهو لم يحج عن نفسه، قالوا: تقع الحجة عن نفسه، وإن كان قد أخذ أجراً من ولي أمر الذي يريد أن يحج عنه، فما أخذه دين في ذمته، فإن شاء حج في السنة التي تليها عمن أراد، وإن شاء رد الأجر على أهله.(163/7)
حكم الإجارة في الحج
وعلى هذا يأتي بحث الإجارات في الحج، وهل هذا الرجل حج عن شبرمة متطوعاً أو بأجرة؟ لم يسأله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولكن كلمة (أخ) وكلمة: (صاحب) تشعر بأنه متطوع ومتبرع، وما كان يعرف في الزمن السابق أن إنساناً يأخذ أجرة على الحج، والآن أصبح طريقاً من طرق الكسب، والله المستعان.
ويبحث العلماء عن حكم أخذ الأجرة على الحج عن الغير، فمن العلماء من يمنع ذلك بالكلية، قال: لأن الحج عبادة، والعبادة لا يؤخذ عليها الأجر، وقوم قالوا: هناك فرق بين أمرين: من حج ليأخذ، ومن أخذ ليحج، فمن أخذ ليحج أي: أنه لا يريد أن يتمول، ومستعد أن يحج عن الغير، وقد حج عن نفسه، لكنه لم يستطع أن يقوم بلوازمه بنفسه، فأخذ من ولي النائب عنه ما يحججه، بمعنى: يأخذ على الوصول، ولو أن ولي من ينوب عنه أخذه في صحبته بسيارته، أو أسكنه معه في خيمته وتكفل بأكله وشربه، حتى أدى المناسك ورده إلى بيته، أجزأه، ولا مانع في ذلك.
ولكن من ليست له رغبة في الحج في البدء، ولما عرض عليه الولي الأمر، وجعل له مبلغاً من المال لفت نظره، فحج ليأخذ هذا المبلغ، فهذا حج ليأخذ ولم يأخذ ليتبلغ، فهو يأخذ هذا المبلغ ويحج منه، وما زاد فله، بخلاف الذي يحج على البلاغ، فإنه لو لم يصحبه معه، وأعطاه مبلغاً فأنفق منه بالمعروف، على ما ينفق على مثله، ولو زاد شيء من المال رده لصاحبه، وإذا نقص عليه شيء استوفاه من صاحبه؛ لأنه على البلاغ، وهكذا، من حج ليأخذ فلا يحق له، ومن أخذ ليستعين به على الحج فلا مانع.
ثم إن الشافعي رحمه الله قال: من أخر الحج بعد الاستطاعة بالزاد والراحلة، ومات قبل أن يحج، فإن الواجب على ورثته أن يخرجوا من رأس مال التركة قبل قسمتها، وليحجوا عنه من تركته ومن بلده.(163/8)
الوصية بالحج وكيفية تنفيذها
ومن أوصى بحجة من تركته، تعلقت الوصية بالثلث، فريضة كانت أو نافلة؛ لأنه له الحق في التصرف في الثلث: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في أجوركم) فلو أوصى وقال: فأوصى: حججوا عني، نظرنا كم يحتمل؟ ثلث التركة فإن احتمل من يحج عنه من بلده تعين إنفاذ الوصية، وإن احتمل من يحج عنه من نصف الطريق اكتفينا، وإن لم يحتمل إلا أن نأخذ من مكة فيكتفى بذلك، وهكذا، فتتعلق الوصية بالحج بثلث التركة، ومن حيث احتمل الثلث أخذنا من يحج عنه، وبالله تعالى التوفيق.
ثم إنهم اتفقوا على أن من حج عن أحد تطوعاً، كأحد أبويه، أو قريب له، أو صديق، فإن له من الأجر كأجر الذي حج عنه، والله تعالى أعلم.(163/9)
شرح حديث: (إن الله كتب عليكم الحج ... )
قال المؤلف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنهما قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله كتب عليكم الحج، فقام الأقرع بن حابس فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟! قال: لو قلتها لوجبت، الحج مرة، فمن زاد فهو تطوع) رواه الخمسة غير الترمذي، وأصله في مسلم من حديث أبي هريرة] .(163/10)
استحباب تكرار الحج
أخيراً: يأتي المؤلف رحمه الله ببيان ما يلتبس على الناس، لأن الحج يأتي كل سنة، ورمضان يأتي كل سنة، والصوم في رمضان كلما جاء رمضان واجب، فهل كلما جاء الحج وجب على المستطيع؟ فخطب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إن الله كتب عليكم الحج) (كتب) بمعنى: ألزم، وهي صيغة تكليف مؤكدة، وتأتي في الأمور الهامة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178] ، {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة:180] ، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] .
(إن الله كتب الحج) أي: أوجبه بكتابه، وجاء في الكتاب الكريم: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] فقام: الأقرع بن حابس -وهو سيد في قومه- وقال: (يا رسول الله! كتب الله علينا الحج، والحج يأتي كل سنة، أفي كل سنة نحج؟) أي: يكون التكرار بتكرار موجبه كما في رمضان؟ فرمضان جاء فيه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] ، فكان إلزاماً لكل من شهد الشهر بأن يصومه، ولكن هنا قال: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] .
فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم: (لو قلت: نعم، لوجبت، ولم تستطيعوا) وفي بعض الروايات: (دعوني ما تركتكم، إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه) .
ثم بين صلى الله عليه وسلم أن الحج في العمر مرة واحدة، وما زاد عن المرة فتطوع، ومتى يكون؟ لم يحدد، فإذا كرر الحج كل سنة، فهو طيب.(163/11)
تكرار الحج أفضل من التصدق بنفقته
وقال بعض العلماء: تكرار الحج أفضل من التصدق بنفقته؛ لأن فيه منافع كثيرة؛ ولكن جاء هناك تحديد في قوله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث القدسي: (لا يحل -أو لا يحق- لعبد عافيته في بدنه، وأوسعت له في رزقه، أن يهجر البيت فوق الخمس) ، إنسان مستطيع وثري، والطريق آمن، فما ينبغي أن يهجر البيت أكثر من خمس سنوات، والرسول صلى الله عليه وسلم سماه هجراً: (أن يهجر البيت) فإذا كان يستطيع لأقل من الخمس فهو المطلوب، وإن وفاها إلى الخمس فلا ينبغي أن يتجاوزها، وهكذا الحج في العمر مرة، والنافلة لا حد لها، ولا ينبغي لمستطيع أن يجاوز الخمس سنوات، وكيف وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (من أراد خيري الدنيا والآخرة فليؤمنّ هذا البيت) ، من أراد أن يوسع الله في رزقه فليؤمن هذا البيت، ففي الحج فوائد كثيرة.
ويكفي عموم قوله سبحانه: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُم} [الحج:28] واتفق علماء البلاغة على أن التنكير في مثل هذا للعموم: منافع دنيوية شخصية، واجتماعية، واقتصادية، ومنافع أخروية.
إذاً: الحج مرة في العمر، ونافلته لا تنحصر، ولا ينبغي تركه أكثر من خمس سنوات، والله تعالى أعلم.(163/12)
كتاب الحج - باب المواقيت
إن لحج بيت الله الحرام مواقيت زمانية لا يصح الإتيان بالنسك إلا فيها وهي: شوال وذو القعدة وأول ذي الحجة، كما أن له مواقيت مكانية محيطة من كل الجهات ببيت الله الحرام، لا يجوز للحاج أن يتجاوزها إلا بإحرام، ومنها: ذو الحليفة، والجحفة، وقرن المنازل، ويلملم، وذات عرق، ولها أحكام متعلقة بها ذكرها أهل العلم في المطولات.(164/1)
شرح حديث ابن عباس في مواقيت الحج
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، هنَّ لهنَّ ولمن أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج أو العمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة) متفق عليه.
] .
المؤلف رحمه الله بعد أن بيّن لنا فضل الحج: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) ثم بيّن من يجب عليه الحج بالأصالة أو النيابة، ثم بيّن لنا شروط النيابة، ثم بيّن لنا أنه واجب في العمر مرة، فلكأننا رغبنا في الحج، ولكأننا اكتملت لنا الاستطاعة، ولكأننا عزمنا على الحج، ونريد البداية، فجاءنا بباب المواقيت؛ لأن المواقيت هي أول أبواب الدخول في الحج، ووقفنا على الأبواب فبين لنا مكان الميقات.(164/2)
أحكام الحرم وحدوده
المواقيت على وزن: مفاعيل من الوقت، أصلها موقت، نأتي ونُبعد الدائرة قليلاً، ونجد أن هذه المواقيت لمن أراد القدوم على البيت في نُسك، ونجد هناك دائرة أضيق وهي: حدود الحرم، فإن المولى سبحانه جعل للبيت حدوداً وهي داخل مكة للمقيم وللقادم، في نسك وفي غير نسك، تلك الحدود لها أحكام الحرم: عموم الأمن: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:97] بلوغ الهدي: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] (هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] والكعبة لا أحد ينحر فيها الهدي، لكن المراد به إطلاق الحرم داخل مكة، تحريم الصيد وقطع الشجر، وتأمين الخائف: يأمن فيه الطير، والوحش، والإنسان، والصيد، فهذه دائرة محدودة داخل مكة، للمحرم ولغير المحرم، ثم نجد الدائرة الأوسع لمن أراد أن يقدم على البيت بنسك، ونجد هذه المسافات مختلفة، وكذلك المسافات في حدود الحرم، نجد حداً من حدود الحرم: سبعة كيلومترات، وهو: مسجد التنعيم، ونجد حداً من حدود الحرم عشرين كيلومتراً، وهو: ما بين المزدلفة وعرفات، ونجد أيضاً هناك الجعرانة.
إذاً: اختلفت حدود الحرم، واختلفت مواقيت المحرم، أما اختلاف حدود الحرم فالعلماء الذين كتبوا في تاريخ الكعبة، وفي هذا الموضوع، يذكرون أسباباً عديدة، نلم بالقليل منها، فمنهم من يقول: بأن الخليل عليه السلام لما أتمَّ بناء البيت، جاءه جبريل حينما قال: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة:128] فعلمه المناسك، ثم بيّن له حدود الحرم على ما هي عليه الآن.
وبعضهم قال: لما نزل الحجر الأسود من الجنة كانت له إضاءة، وكان مشعاً مضيئاً، ولكن إضاءة الحجر لم تأخذ دائرة الضوء المعروفة، بل كانت متفاوتة الأطراف، وحيث ما انتهى الضوء من الجهات الأربع كان حد الحرم منها، فكان اختلاف حدود الحرم باختلاف وصول الضوء من الحجر، والله تعالى أعلم.(164/3)
توقيت المواقيت علم من أعلام النبوة
أما المواقيت فإننا بالتأمل نجد هذه المواقيت وفيها مباحث عديدة من جانب المعجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن باب بيان علاقة الحرمين معاً، ومن باب الآداب التي يجب التزامها عند الدخول على البيت، أما تلك المواقيت فوجدنا الرسول صلى الله عليه وسلم حج سنة عشر، وبيّن المواقيت، وانتقل إلى الرفيق الأعلى سنة عشر والإسلام لم يخرج من جزيرة العرب، إنما وصل إلى اليمن، وكان حده إلى تبوك ولم يتعد النهرين، ولم يعبر البحر الأحمر، ولكنا نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع الحد في المواقيت لأهل الشام، وأهل العراق، ولم يكن هناك شام مسلم، ولا عراق مسلم، ولا مصر مسلم، فيكون ذلك من باب المعجزة أن الله تعالى أعلمه بذلك، وهو مستفاد أيضاً من منطوق: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33] {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ:28] وأن الدين سينتشر، وكما قال في غزوة الأحزاب، لما استعصت عليهم الكدية، وضربها بالمعول ثلاث ضربات، فأبرقت عند كل ضربة، وكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث تكبيرات، وقال في الأولى: (الله أكبر! فتحت مدائن كسرى) وكان بعض المنافقين يقول: نحن خائفون على أنفسنا، وهو يقول لنا: فتحت مدائن كسرى! ولكن المؤمنين صدقوا ذلك، وكان أبو هريرة يقول: (اغزوا ما شئتم، واغنموا ما شئتم، فقد أخبرنا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل) .
إذاًَ: هذه المواقيت التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقتها لأهلها قبل أن يأتي الإسلام إليهم فيه توطيد وتشريع مسبق للشمول.(164/4)
المواقيت توقيفية لا يزاد عليها ولا ينقص منها
حين ننظر في هذه المواقيت، فسنجد أن أهل المدينة يهلون من: ذي الحليفة.
وقوله: (وقّت رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، يعني: المواقيت توقيفية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يملك أحدٌ أن يغير أو يبدل فيها، ولا نقول: المسافة طالت على أهل المدينة، دعونا نقدمها قليلاً، ولا نقول: المسافة قريبة على أهل اليمن، دعونا نبعدها قليلاً، فما دام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتها فتبقى على توقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا فكرنا أو تخيلنا قليلاً بحثاً عن العلة فقد يقال: إن معزة المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلته يربطها بحرم مكة، فيخرج من حدود حرم المدينة إلى حدود الإحرام بالحج؛ لأن حرم المدينة من: ثور، وهو: الشمال الغربي من أحد إلى عير، وهو المحاذي لذي الحليفة، فإذا كان حد الحرم ينتهي إلى عير عند ذي الحليفة، والمحرم من المدينة يحرم من ذي الحليفة، يعني: لا يخرج من حرم المدينة إلا بإحرام إلى حرم مكة، فيكون على ارتباط واتصال، وأما الشام ومصر، وأهل حوض البحر الأبيض المتوسط -والبحر الأبيض المتوسط كالبحيرة، وهو كالحوض الكبير جداً- فيشمل كل من يأتي من الشمال من إيطاليا وما حولها، إلى تركيا، وإلى سوريا، وإلى لبنان، وإلى وإلى ويدخل على البحر الأحمر، ومن ذلك مصر، ومن يأتي أيضاً من المغرب إن جاء عن طريق البحر الأبيض، فكل من جاء عن طريق البحر الأبيض إلى البحر الأحمر فإن ميقاته الجحفة، والجحفة قرية كانت في محاذاة رابغ على ساحل البحر، لكن البحر مع المد والجزر جحفها؛ فسميت الجحفة، وأصبح الميقات الآن في محاذاتها، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله، ووقّت لأهل اليمن: يلملم، وهو موضع معروف لأهلها على بعد مرحلتين، والجحفة على بعد خمس مراحل، وذو الحليفة على بعد تسع مراحل، وقرن المنازل وهو لأهل نجد على بعد مرحلتين، ووقّت لأهل العراق ذات عرق، وقيل: الذي وقت هذا الميقات هو عمر.
ويهمنا قوله رضي الله عنه في الحديث المتفق عليه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة،ولأهل الشام الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل نجد قرن المنازل) .(164/5)
الميقات لمن أتى عليه ولو لم يكن من أهله
ولما سمى تلك المواقيت لتلك البلاد قال: (هن لهن -يعني: لأهلهن- ولمن أتى عليهن من غير أهلهن) يعني: لو أن إنساناً تركياً أو شامياً أو هندياً أو باكستانياً جاء إلى المدينة ولم يأت عن طريق البحر الأحمر، ولا عن طريق حوض البحر الأبيض، فما دام وصل إلى المدينة لا يكون ميقاته الجحفة بل ميقاته ميقات أهل المدينة لقوله: (ولمن أتى عليهن من غير أهلهن) وكل الحجاج الذين يجتمعون في المدينة من جميع الأقطار، ويريدون الخروج إلى مكة للحج، فميقاتهم ميقات أهل المدينة، وهكذا أهل المدينة إن جاءوا من الشام على الجحفة، أو جاءوا من اليمن على يلملم، أو جاءوا من نجد على قرن المنازل، لا يقولون: ميقاتنا المدينة ولابد من الرجوع إليه، فما دام أنه سيدخل من ذلك الميقات إلى مكة مباشرة فيحرم من هناك، وهذا هو الشمول والعموم، فلا تخصيص ولا عنصرية -كما يقال اليوم-، فالتوقيت عام لجميع الأجناس، والغرض أن من أراد النسك -حجاً أو عمرة- فلا يجوز له أن يتجاوز الميقات الذي في طريقه إلا وهو محرم، سواءً كان من أهل هذا الميقات أو كان وافداً وماراً عليه، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ومن كان دون ذلك) أي: داخل الدائرة، كالناس الذين بين الجحفة ومكة، والذين بين يلملم ومكة، والذين بين قرن المنازل ومكة.
إلخ، هل يرجعون إلى الميقات ليحرموا منه؟ قال: لا، ومن كان محله دون ذلك نحو مكة، فمن حيث أنشأ، فلو كان في منتصف الطريق بين يلملم ومكة، أي: على بعد مرحلة، فيحرم من مكانه ولا يرجع إلى الميقات.
وهكذا كل من كان دون الميقات إلى مكة، فموقع إحرامه وميقاته: مكانه الذي هو فيه، حتى قالوا: لو أراد أهل عرفات العمرة أحرموا من عرفات، وجاءوا إلى البيت، ولو أرادوا الحج أحرموا من عرفات، ووقفوا الموقف، وأتموا حجهم.
وأهل مكة إذا أرادوا الحج فمن مكة، وإن أرادوا العمرة فلابد من خروجهم إلى أدنى الحل ثم يدخلون الحرم محرمين، لحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أعمرها من التنعيم) لأن العمرة زيارة، والنسك لابد فيه من الجمع بين الحل والحرم، فما وراء التنعيم حل، فيحرم من الحل، ويدخل الحرم محرماً، أما القادم من خارج الحدود فهو بطبيعة الحال يجمع بين الحل والحرم، أما أهل مكة في الحج فإنهم بخروجهم إلى عرفات يكونون قد خرجوا من حدود الحرم، فبعد وقوفهم يرجعون إلى البيت محرمين، وهكذا، والله تعالى أعلم.(164/6)
شرح حديث عائشة في ميقات أهل العراق
قال المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم (وقّت لأهل العراق ذات عرق) رواه أبو داود والنسائي، وأصله عند مسلم من حديث جابر رضي الله عنه، إلا أن راويه شك في رفعه.
وفي صحيح البخاري: أن عمر هو الذي وقّت ذات عرق.
وعند أحمد وأبي داود والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم (وقّت لأهل المشرق العقيق) ] .(164/7)
تحقيق الخلاف في توقيت ذات عرق
تقدم في الحديث الأول: (وقّت النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة) وتقدمت المواقيت أن لأهل الشام الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل نجد قرن المنازل، وهنا يأتي المؤلف رحمه الله تعالى بهذا الحديث عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم (وقّت لأهل العراق ذات عرق) وكلٌ من: يلملم، وقرن المنازل، وذات عرق، تبعد عن مكة مرحلتين.
ثم ساق المؤلف رواية أخرى: (أن عمر رضي الله تعالى عنه هو الذي وقت لأهل العراق ذات عرق) وهذا عند العلماء يسمى باختلاف الحديث؛ لأن الرواية الأولى تقول: الذي وقّت لأهل العراق هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرواية الثانية تقول: الذي وقّت لأهل العراق هو عمر رضي الله تعالى عنه.
ويجمع بعض العلماء بين الروايتين وأن كلتيهما صحيحة، قالوا: وقّت النبي صلى الله عليه وسلم فعلاً، ولكن الخبر لم يبلغ عمر، ولما كان في خلافته رضي الله تعالى عنه، ودخلت العراق في الإسلام، فسألوا عمر أن يوقِّت لهم فوقت لهم ذات عرق، وغاية ما هناك أن يكون توقيت عمر وافق توقيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس بعيداً على عمر رضي الله تعالى عنه، فقد وافق القرآن الكريم في ستة مواضع، فلا غرابة من أن يوافق السنة في هذا الموضع، وبعضهم يقول بالترجيح؛ لأن خبر عائشة فيه راوٍ ضعيف، وخبر عمر أصح سنداً، وعلى كل فقد انعقد الإجماع على أن ميقات أهل العراق هو ذات عرق.
ثم يأتي المؤلف بهذا الخبر الآخر: (وقّت لأهل المشرق العقيق) ، وهو: من العقوق وهو أن يشق السيل الأرض، أي: يعقها، والمعروف منه: وادي العقيق بالمدينة، وهو الذي يمر بذي الحليفة وينزل إلى عروة إلى سلطانة إلى ملتقى الأسيال إلى الغابة.
ووادي العقيق بالطائف، وكلاهما بهذا الاسم، ويقال: هناك ثالث باليمن، والله تعالى أعلم؛ فقالوا: رواية أهل المشرق هم أهل العراق، والعقيق هو بنفسه يمر أو يقع بذات عرق، فإذا كان ذات عرق بالعقيق؛ فلا منافاة بين التسمية؛ لأن كليهما يصدق على مكان واحد، ويرى بعض العلماء أن هذا التوقيت من عمر قياساً، أي: على تباعد ما سنه وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم من مواقيت اليمن ونجد.(164/8)
من لا يمر طريقه بميقات فيحرم عند محاذاة الميقات
ثم ذكر العلماء مسألة وهي: أن من أتى إلى مكة، ولم يكن طريقه على ميقات من تلك المواقيت ماذا يفعل؟ هل يتعين عليه أن يقصد إليها حتى ينشئ إحرامه منها؟ قالوا: لا، ولكن إذا حاذى الميقات يميناً أو يساراً فهناك ميقاته ويحرم من تلك المحاذاة، ثم جاء بعد ذلك أيضاً -كما يقولون الجهات الست- الوراء، والأمام، واليمين، واليسار، والفوق، والتحت، هذه تسمى الجهات وهي نسبية، فقالوا: كل من مر بمحاذاة ميقات، في البر في الجو في البحر فإن ميقاته محاذاته، واليوم تأتي السفن وتمر بالبحر فتحاذي الجحفة، فيكون ميقات من في البحر وهو في السفينة أن يُحرم من محاذاة الميقات، وكذلك في الطائرات فمن جاء في طائرة، ومر بميقات بلده، عليه أن يتأهب قبل أن تصل الطائرة إلى الميقات، ويحرم قبل مجاوزة الطائرة محاذاة ميقاته؛ لأن الطائرة ليست كالسفينة فهي تقطع المسافة بسرعة، وتخرجه عن حدود الميقات بسرعة، فعليه أن يبادر ولا يتأخر، فمثلاً: ميقات أهل المدينة: ذو الحليفة، والذي يسافر على السيارة سيمر بها، فإذا كان طريقه كما هو الحال الآن بما يسمى بخط الهجرة، فلا يمر بالمسجد ولا بالقرية إنما يجانب عنها إلى جهة الجنوب الشرقي، فلا مانع أن يحرم في الطريق من محاذاة الميقات، ولا يأتي إلى المسجد.(164/9)
كيفية الإحرام لمن أراد السفر بالطائرة
ومن لم يمر على الميقات له أن يحرم من أول حدود (الميقات) وكذلك له أن يحرم من طرف الميقات، المهم أنه لا يتجاوز حدود الميقات إلا وقد أحرم، فإذا كان سفره بالطائرة والطائرة تأخذ طريقها جنوباً، فتمر بمحاذاة ذي الحليفة وقد تمر فوقها عمداً كما هو في خطوط الطيران، فإذا خرج الحاج من المدينة، لا نقول: عليك أن تذهب بالسيارة إلى ذي الحليفة فتحرم، ثم تأتي وتطلع إلى المطار وتسافر على الطائرة، لا، ولكن تجهز في بيتك، والبس الإزار والرداء، واذهب إلى المطار، وعندما تأتي الرحلة فلا تُلب، ولا تنو عقد الإحرام حتى تضمن الرحلة، فإذا ما صعدت الطائرة، وشُدَّ الحزام، وأقفل الباب، وتحركت محركاتها، واتجهت في طريقها في مدرج المطار، فعندما ترتفع عن مستوى الأرض هناك تُحرم؛ لأنك إذا انتظرت حتى ترى ذا الحليفة تكون قد اجتزتها، وخرجت قبل أن تحرم، وهكذا إذا جاء إنسان على الطائرة من نجد أو من اليمن ومر في الجو بمحاذاة الميقات فإنه يحرم من محاذاة ميقاته، سواءً كان في البر أو كان في البحر أو كان في الجو، فهذه هي المواقيت وهذا ترتيبها لمن أراد إنشاء الإحرام منها.(164/10)
الإحرام في الميقات إنما هو لمن أراد النسك
بقي ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: (هن لهن ولمن أتى عليهن ممن كان يريد الحج والعمرة) مفهوم المخالفة: من أتى عليهن ولم يكن يريد الحج ولا العمرة هل نلزمه بالإحرام؟ لا نلزمه بالإحرام؛ لأن التوقيت لمن أراد النسك، ومن أراد أن يدخل مكة لتجارة لزيارة لاعتكاف لشيء آخر من غير العمرة أو الحج فله أن يجتاز المواقيت من غير إحرام، ولكن وجدنا الفقهاء رحمهم الله قالوا: من أراد الدخول إلى مكة وكان قد مضى عليه من إتيان مكة زمن طويل لا ينبغي أن يدخل مكة غير محرم بعمرة توقيراً وتعظيماً للبيت، وبعضهم حدد بعض الأشهر، وبعضهم قال: لا يزيد عن أربعين يوماً، واستثنوا من ذلك صاحب التردد: كالحطاب، وصاحب البريد، والآن بعض الناس يعمل في جدة وهو ساكن في مكة، ويومياً يسافر إلى جدة، والعكس رجل يعمل في مكة وهو ساكن في جدة، فهؤلاء لا يدخلون في هذا الحكم، ولكن إن تيسر له فالحمد لله، وإن لم يتيسر له فليس بواجب عليه، وقد أخذ الفقهاء هذا الحكم من فعله صلى الله عليه وسلم في عام فتح مكة، حيث دخل مكة وقد مر بذي الحليفة ولم يحرم، ودخل مكة وعلى رأسه المغفر، والمحرم يكشف رأسه، وما أتى عنه أنه صلى الله عليه وسلم أول ما جاء مكة أنه طاف؛ لأنه كان مشغولاً بأمر وبشئون فتح مكة، فاستدل العلماء بذلك على أن من دخل مكة لغير نسك، بتجارة أو زيارة أو أي شيء آخر فليس عليه أن يُحرم، وإنما يدخل دخولاً عادياً، هذا ما يتعلق بالمواقيت.(164/11)
حكم من جاوز الميقات من غير إحرام ناسياً أو جاهلاً
ترد هنا مسألة فقهية: لو أن إنساناً جهل الميقات، مثال ذلك: إنسان أتى من نجد، أو أتى من الشام، أو خرج من المدينة، ولا يعلم منطقة ذي الحليفة أين هي، ويظنها أمامه، فجاوز الميقات، ولما وصل إلى المركز هناك أخبروه، وقالوا له: كيف تذهب إلى الحج ولم تحرم؟! قال: سأحرم من ذي الحليفة، قالوا له: ذو الحليفة وراءك! فكان جاهلاً بها، أو كان يعرفها ولكنه نسي، وجاوز الميقات، ولم يحرم، فماذا يفعل؟ يقول الجمهور: النسيان لا يعفيه من الفدية، ولكن هل يُحرم من مكانه؟ أو يرجع إلى ميقاته، لأنه مر عليه جاهلاً ناسياً؟ وإذا رجع إلى الميقات هل يسقط عنه دم التجاوز للميقات، أو لا يسقط عنه؟ فالبعض يقول: لا يسقط عنه؛ لأن المجاوزة حصلت، والبعض يقول: إن رجع، وكان قد تجاوزه ناسياً أو جاهلاً سقط عنه الدم، أما إذا تعمد وهو يعلم فجاوزه ولم يحرم فلا يسقط عنه الدم ولو رجع، هذا ما يتعلق بقضية الميقات المكاني.(164/12)
الميقات الزماني للحج والعمرة
وللحج ميقات زماني، وقد تقدمت الإشارة إلى أن العمرة لا زمن لها (العمرة إلى العمرة) مطلقاً، وإنما تكلم الفقهاء في الأيام التي لا يجوز له أن يأتي بعمرة فيها وهي: الأيام المختصة بالحج، كيوم عرفة، ويوم العيد، وأيام التشريق، فمنهم من يقول: يومان، ومنهم من يلحق اليوم الثالث بها، ومنهم من يفصل: إن كان قد تعجل في يومين فله أن يأتي بالعمرة في اليوم الثالث، وإن لم يكن تعجل فليس له أن يفعل ذلك، وبعضهم يقول: لا يجوز ولو تعجل؛ لأن اليوم الثالث من أيام الحج؛ ولأن جماعة آخرين تأخروا في منى يرمون الجمرات، إذن: جميع السنة وجميع الأيام وقت زمني للعمرة ما عدا يوم عرفة، ويوم العيد، وأيام التشريق الثلاثة على الاحتياط.
أما الميقات الزماني للحج فكما بيّن سبحانه: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] وأجمعوا على أن الجمع هنا يطلق على الشهرين وبعض الثالث تغليباً، وهي: شوال، وذو القعدة، وبعضٌ من ذي الحجة، فإذا أنشأ الإحرام في الميقات الزماني وقع، وهل يجوز تقديم الإحرام عن الميقات المكاني، وعن الميقات الزماني أو لا يجوز؟ وإذا فعل ما هو الحكم؟ فلو أن إنساناً أحرم بالحج أو بالعمرة من المدينة، أو من المسجد النبوي أو من بيته، فـ مالك رحمه الله أتاه شخص وقال: (أريد أن أحرم من هذا المسجد، قال: لا تفعل، قال: لماذا؟ قال: أخشى عليك الفتنة، قال: وأي فتنة تخشاها؟ قال: أخشى أن يخطر ببالك أنك أحرمت بخطوات أكثر من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من مكان أفضل من المكان الذي أحرم منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخطر ببالك أنك فعلت خيراً مما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فتهلك) والآخرون يقولون: إن كان من غير المدينة -وهذا الاحتمال ليس وارداً- قالوا: لا بأس، فيجوز أن يُقدم الإحرام عن المواقيت المسماة، واستدلوا بأمرين: الأمر الأول: جاء حديث: (من أحرم بعمرة من بيت المقدس كان له من الأجر كذا) فقالوا: يُحرم من بيت المقدس، وقوم قالوا: هذا خاص ببيت المقدس؛ لأنه من حرم إلى حرم ولا يجوز ذلك من غيره، وقال الآخرون: جاء عن علي رضي الله تعالى عنه، في قوله سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] قال رضي الله تعالى عنه: (إتمامهما إحرامك بهما من دويرية أهلك) فيجوز له أن يحرم من بلده من أي قطر من الأقطار، لكن العلماء كرهوا هذا؛ لأنه قد يطول عليه الوقت فيضيق عليه الحال فيكون ذلك مدعاة لأن يرتكب محظوراً من محظورات الإحرام لطول الزمن، فالأولى أن يجعلها من المواقيت التي وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم يقولون: أقل الأدنى هي المواقيت، وما وراءها يصح، هذا في الميقات المكاني.
إذاًً: حكم الميقات الزماني قالوا: الميقات الزماني ليس كالمكاني، فمن أحرم بالعمرة فلا زمان لها، ومن أحرم بالحج قبل التوقيت فله ذلك، وهناك من يقول: لا إحرام له ولا نسك، والشافعي رحمه الله يقول: (إن أحرم قبل ميقات الحج بحج انعقد إحرامه، وانصرف إلى ما يصح في ذلك الوقت) ، فلو أحرم بالحج في رمضان على قول الجمهور: لا حج له، والشافعي يقول: (انعقد الإحرام وانقلب إلى عمرة) لأن العمرة تصح في رمضان، وعليه أن يجدد الإحرام بالحج في زمن الحج، والله تعالى أعلم.(164/13)
كتاب الحج - باب وجوه الإحرام وصفته
الأنساك ثلاثة: الإفراد، والتمتع، والقران، وقد حج الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنهم من كان مفرداً، ومنهم من كان متمتعاً، ومنهم من كان قارناً، فأقرهم صلى الله عليه وسلم على ذلك.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بداية الأمر مفرداً ثم أمره جبريل بالقران، وكان قد ساق الهدي فأمر المتمتعين والقارنين الذين لم يسوقوا الهدي بالتحلل، وإنما امتنع صلى الله عليه وسلم عن التحلل؛ لأنه كان قد ساق الهدي.
وقد اختلف العلماء فيما هو الأفضل في هذه الأنساك الثلاثة، والذي عليه بعض المتأخرين: أن الأفضل ما كان أسهل في حق كل مهل.(165/1)
شرح حديث عائشة في وجوه الأنساك وأنواعها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: [عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بحج، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، فأما من أهل بعمرة فحل عند قدومه، وأما من أهل بحج أو جمع بين الحج والعمرة فلم يحلوا حتى كان يوم النحر) متفق عليه](165/2)
الأنساك الثلاثة
وجوه وأوجه: جمع وجه، وقد جاء تفسير ذلك عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها الأنساك الثلاثة: التمتع، والإفراد، والقران، ولكن نلاحظ أن المؤلف رحمه الله أوجز في هذا الباب فيما كان ينبغي زيادة بعض النصوص، وهنا نجد النص الذي عندنا عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: خرجنا -جماعة- مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فمنا من أهل بكذا، ومنا من أهل بكذا، ومنا من أهل بكذا، فمن أهل بعمرة تحلل عندما وصل، ومن أهل بحج أو بحج وعمرة ما أحلوا حتى يوم النحر، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفرداً.
إذا جئنا إلى الحديث، نجد أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها نقلت لنا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل نقلت لنا أعمال الناس؟ لاحظوا هذه الدقة في الحديث، قالت: (خرجنا) (فمنا) ولم تذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده وإنما ذكرت معه أفعال الناس، فما وجه استدلال المؤلف بحكاية عائشة لحال إهلال الناس؟ المؤلف يسوق هذا مستدلاً لأنواع وأوجه الأنساك الثلاثة، بأي شيء؟ كأنها تقول: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنا ومنا ومنا وهو يعلم ذلك وأقرنا عليه، فيكون الاستدلال هنا بالإقرار، ولكن النص الصريح أولى وأقوى، وقد جاءت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها: (لما جئنا ذا الحليفة قال صلى الله عليه وسلم: من أراد أن يهل بالحج فليفعل، ومن أراد أن يهل بالعمرة فليفعل، ومن أراد أو ومن شاء أن يهل قارناً فليفعل) أي الروايتين أقوى في التشريع؟! خطابه: من أراد أن يفعل فليفعل؛ لأن هذا مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وإلى هنا يتفق الجمهور على وجوه الأنساك الثلاثة، وأوجه الإحرام (لبيك اللهم حجاً) للمفرد، (لبيك اللهم عمرة) للمتمتع إن حج من سنته، (لبيك اللهم حجاً وعمرة) لمن قَرَن النسكين معاً فهو قارن، وعلى هذا تتفق كلمة العلماء شرقاً وغرباً.
ولكن عندنا مباحث مطولة في أمرين: صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم، هذه واحدة، المبحث الثاني: إذا كانت الأنساك ثلاثة، فهل هي على المساواة، أو هناك ما هو أفضل من غيره؟(165/3)
بماذا أهل النبي صلى الله عليه وسلم؟
تبقى المباحث عندنا مبحثان: الأول: صفة حجه صلى الله عليه وسلم، والشوكاني في نيل الأوطار، وابن حجر في فتح الباري، وابن القيم في زاد المعاد، والطبراني وغيرهم، أطالوا جداً النقاش والإيراد، ولا يتسع الوقت لدراسة كل هذه الأقوال وإيرادها في هذا المجلس.
وخلاصة الأمر في حج النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد جاءت نصوص صريحة صحيحة منها حديث عائشة المتفق عليه، (حج النبي صلى الله عليه وسلم مفرداً) وجاءت أحاديث أخرى وفيها: (حج متمتعاً) وابن القيم رحمه الله يجمع بين تلك الروايات بأنه: حج قارناً، فالروايات جاءت في حج النبي صلى الله عليه وسلم بالأوجه الثلاثة، فبعضهم قال: إن بداية حجه صلى الله عليه وسلم أول ما أحرم كان -على رواية عائشة - مفرداً الحج (لبيك اللهم حجاً) ثم بعد ذلك جاء الحديث الصحيح الصريح: (أتاني جبريل وقال: صل في هذا الوادي المبارك -وادي العقيق الذي في ذي الحليفة- ثم قل: عمرة في حجة) إذاً عندما أنشأ الحج كان مفرداً، ثم بتوجيه من جبريل عليه السلام: أدخل العمرة مع الحج فصار قارناً، فمن قال حج مفرداً نظر إلى أول أمره، ومن قال: حج متمتعاً فبهذا الحديث، وفيه القران أيضاً، قالوا: إنهم كانوا يسمون القران تمتعاً؛ لأن التمتع هو أن يأتي بالحج والعمرة في سفرة واحدة، فيأتي بالعمرة وبعد أن ينتهي منها يجلس، ثم يحج، ويجمع النسكين في سفر واحد، وكذلك القارن، فإذا كان الأمر كذلك فمن قال: متمتعاً أراد بالتمتع القران بجامع التسمية.
إذاً: كل الروايات التي جاءت في نوعية حجه صلى الله عليه وسلم صحيحة ولا تعارض فيها؛ لأنه في بداية الأمر كان مفرداً، ثم طرأ على ذلك القران، والقران يطلق عليه التمتع، إذن: انتهينا من صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم وهي عند الجمهور: القران.
ثم قالت عائشة رضي الله تعالى عنها (فأما من حج أو أهل بالعمرة فإنهم حلوا حينما وصلوا) يعني: أدوا عمرتهم عندما وصلوا، فطافوا للعمرة، وسعوا، وحلقوا، وتحللوا، ولبسوا، وأما من أهل بالحج أو به وبالعمرة فلم يحلوا حتى إذا كان يوم النحر، ويوم النحر يأتي بعد عرفات، وبعد تمام الحج، فعلى هذا النص الناس على طبيعتهم ما طرأ عليهم جديد، ولكن وجدنا نصوصاً أخرى، من أنه صلى الله عليه وسلم لما وصل مكة وطاف طاف الجميع معه، من كان متمتعاً فلعمرته، ومن كان مفرداً أو قارناً فللقدوم، ثم ذهبوا جميعاً وسعوا، فمن كان معتمراً سعى سعي العمرة، ومن كان مفرداً أو قارناً سعى سعي الحج مقدماً بعد طواف القدوم، بقي الحلق والتحلل، أهل العمرة تحللوا ولبسوا، وأهل الإفراد والقران لم يتموا نسكهم وكان عليهم أن يبقوا إلى يوم النحر، كما قالت عائشة، وهذا الأمر طبيعي.
ولكن وجدنا في بعض النصوص أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن سعى وسعى الجميع معه كل على نيته قال: (من لم يسق الهدي فليجعلها عمرة) إذن أهل العمرة على عمرتهم من أول، والخطاب موجه للمفردين والقارنين، فمنهم من كان معه الهدي فبقي على إحرامه، ومنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقي على إحرامه ولم يتحلل، ومن لم يكن ساق الهدي معه وهو محرم بالحج؛ مفرداً أو قارناً توجه إليه الخطاب بجعلها عمرة، فتحللوا، فمن لم يسق الهدي وكان مفرداً بالحج أو قارناً بين النسكين عليه أن يتحلل لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا أمر جديد على الناس جميعاً، في الإسلام وقبل الإسلام، فتأخر بعض الناس عن التحلل، فوجد فيهم ثقلاً عن المبادرة فقال لهم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي) أي: لحج وأحرم بدون هدي (ولجعلتها عمرة) كأنه يقول: ما منعني أن أتحلل كما أمرتكم إلا لأني سقت الهدي، ولما سئل: (ما بال الناس حلوا من إحرامهم، وأنت لم تحل يا رسول الله؟! قال: لقد سقت الهدي، ولبدت شعري) فسوق الهدي منعه من التحلل، لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] ومحله يشمل: الزمان والمكان، فالمكان: منى، والزمان: بعد الرجوع من عرفات وهو يوم العيد.
ينقل بعض العلماء أن سبب استثقال بعض الصحابة: هو مخالفة هذا الأمر لما اعتادوه من قبل فقالوا: (أي الحل يا رسول الله؟! قال: الحل كله) ليس فقط لبس الثياب، كل ما كان محظوراً على المحرم لإحرامه صار حلالاً، ومن ذلك النساء، قال: (الحل كله، فقال قائل: يا رسول الله! أيذهب أحدنا إلى منى، وذكره يقطر -يعني: ونحن حدثاء عهد بالنساء، وما كانوا عهدوا ذلك من قبل- فقال: لو استقبلت من الأمر ... ) إلى آخره.(165/4)
المفاضلة بين الأنساك الثلاثة
وقد اختلف العلماء في أي الأنساك أفضل، فقال بعضهم: بأنه لا يصح إلا التمتع؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر المهلين بالحج أن يقلبوها إلى عمرة، وقال: (لو استقبلت) فعلى كل من يستقبل الحج أن يأتي متمتعاً، وهذا فيه تطرف، وقال الآخرون: الأنساك لا زالت قائمة بأنواعها الثلاثة ولكن الأفضل موضع نظر، كما قال والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في محادثة لما سئل عن الأفضل؟ قال: الأفضلية أمر هين، ولكن ترسيخ وتثبيت الأنساك الثلاثة هو الأهم.
فإذا جئنا إلى أقوال العلماء فيما هو الأفضل، نجد هناك من يقول: الأفضل هو الذي بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بدأ بالحج مفرداً، ونجد من يقول: الأفضل ما انتهى به نسك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد انتهى نسكه بالقران، ونجد آخر يقول: الأفضل ما تمناه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو التمتع.
أردت بهذا أن أبسط القضية لنرى مواقف الأئمة الأجلاء من النصوص الواردة، ومن فعله صلى الله عليه وسلم وقوله، لنرى على أي شيء يبني الأئمة مذاهبهم، فمن قال: الإفراد أفضل، لم يأت به من عنده، ولكن أخذ بابتداء حج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: الرسول صلى الله عليه وسلم أمامه الأنساك الثلاثة، ولا يختار لنفسه إلا الأفضل، وقال بهذا مالك والشافعي، ونجد الآخرين يقولون: الختام هو المهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم اختار لنفسه الإفراد، والله سبحانه وتعالى اختار لرسوله صلى الله عليه وسلم القران، فالذي اختاره الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أولى من الذي اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، أجاب على ذلك أصحاب الإفراد وقالوا: إن مجيء جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره إليه: (قل: عمرة في حجة) هذا تعليم جديد، وأمره صلى الله عليه وسلم لأصحابه المفردين أن يجعلوها عمرة، هو أمر جديد، يقضي على أمر قديم، وليس لعينِ النسك في ذاته، فهو: لعلة وقصد، وليس لأفضلية القران أو التمتع، نقول: ما هي العلة التي عندكم؟ قالوا: يقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (كان العرب في الجاهلية قبل الإسلام، لا يرون العمرة في أشهر الحج) حتى يتساءل أحد الصحابة قائلاً: أيذهب أحدنا إلى منى وكذا؟ قال: (فقدموا صبح رابعة) يعني: قدم النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه -كما قالت عائشة: (خرجنا مع رسول الله) - اليوم الرابع من ذي الحجة في الصباح، واليوم الرابع من ذي الحجة من أيام الحج، فأمرهم بالتحلل من العمرة، وكانوا في الجاهلية يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، وكانوا يأتون بصفر بدل المحرم، وهو النسيء، فيقدمون صفر؛ لأنه يحل فيه القتال، ويؤخرون المحرم؛ لأنه يحرم فيه القتال، لئلا يجتمع عليهم ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، فتطول عليهم المدة؛ فأخروا المحرم وقدموا صفر، وكانوا يقولون: (إذا انسلخ صفر، وبرأ الدبر، وعفا الأثر، حلت العمرة لمن اعتمر) بمعنى: إذا خرج زمن الحج (وبرأ الدبر) والدبر: هو الجرح في ظهر البعير، من الرحل من طول المشوار، وهذا يحتاج إلى مدة يرتاح فيها (وعفا الأثر) والأثر هو: وطء الأقدام في السفر، وهذا لا يعفى أثره مع كثرة الرواحل إلا بعد مدة تعميها الرياح وتغطيها، فكانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، قالوا: فلذلك أمرهم صلى الله عليه وسلم أن يجعلوها عمرة.
قول الراوي: (كانوا يرون فأمر) يتفق علماء اللغة بأن الفاء هنا سببية، أي: بسبب ما كانوا يعتقدون، وبسبب ما كانوا يقولون، أمرهم؛ ليقضي على هذا القول وهذا الاعتقاد، ثم قال: (دخلت العمرة في الحج هكذا: وشبك بين أصابعه) وقوله: (دخلت العمرة في الحج) أفي القران؟ أم دخلت العمرة في أشهر الحج في الزمان؟ الاحتمالان واردان، وعلى هذا يقول الذين قالوا بالإفراد: إن قران رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول الطريق بأمر جبريل؛ ليدل على جواز العمرة في أشهر الحج، على خلاف ما كانوا يعتقدون، وأمره صلى الله عليه وسلم بالتحلل وجعلها عمرة للعالم كله وليُعلن ذلك للجميع، وأصحاب القران يقولون: هذه لا تكفي، لأنه اعتمر صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات قبل الحج: عمرة الحديبية، وعمرة القضية، وعمرة الجعرانة، وكلها كانت في أشهر الحج، وهذا يكفي لبيان جواز العمرة في أشهر الحج، وقال الآخرون: بل هذا لا يكفي؛ لأنها وقعت في حوادث متفرقة وعند جماعات محدودة، ولو كان ذلك بياناً كافياً لما توانى الناس، ولما تساءلوا وقالوا: أيذهب أحدنا إلى منى وهو كذا؛ إذاً: لم يكن عندهم بيان كافٍ يزيح ما كانوا قد اعتادوه من قبل؛ فلذلك تعين البيان في هذا الجمع، وكان قاضياً على ذلك الاعتقاد.
إذاً: القران والأمر بالتحلل إنما كان لتشريع جديد يقضي على الماضي، وقالوا أيضاً: الخلفاء الراشدون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأوا بأعينهم، وسمعوا بآذانهم، وباشروا بأيديهم، ماذا فعلوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل جاءوا متمتعين، كما تمنى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أو جاءوا قارنين كما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أو جاءوا مفردين كما بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وباتفاق الأمة فإن أبا بكر رضي الله تعالى عنه في خلافته حج مرتين مفرداً، وعمر في خلافته -عشر سنوات- حج مفرداً، زيادة على ذلك وجدنا عثمان رضي الله تعالى عنه -وهو ثالث الخلفاء الراشدين- في أثناء الطريق ينهى عن التمتع، وقد جاء في رواية أن رجلاً جاء إلى علي رضي الله عنه وهو يعلف بقرات له فقال: (أما رأيت ما يقول عثمان؟ قال: وما ذاك؟ قال: ينهى عن التمتع، يعني: التمتع بالعمرة إلى الحج، فذهب علي -يقول الراوي: لا أنسى أثر العجين على يده- فدخل على عثمان وقال: أتنهى عن التمتع! وقد تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أردت أن يفرد الناس الحج بسفر مستقل) أي: لا أريد معتمرين يمكثون في مكة بعد العمرة، ومنها يحرمون للحج، فقال: (وجدنا عمر قبل عثمان ينهى عن القران، قيل: يا عمر! كيف تنهى وتعلم أننا حججنا مقرنين الحج والعمرة؟! قال: أردت أن يكثر الوافدون على البيت) يعني: ما يريد أن يجعلهم يرمون عصفورين بحجر، لا، ولكن يأتي إلى العمرة بسفر ويرجع، ثم يأتي إلى الحج بسفرة أخرى.
إذاً: وجدنا بداية إهلاله صلى الله عليه وسلم بالحج مفرداً، ثم قران وكان لأمر يقتضيه البيان، ثم وجدنا الخليفتين عمر وعثمان ينهيان: أحدهما عن القران، والآخر عن التمتع، فما هو الذي بقي عندنا؟(165/5)
أفضل الأنساك أيسرها على الحاج
ومع هذا كله يرى كثير من المتأخرين: أن أفضل تلك الأنساك الثلاثة في الوقت الحاضر ما كان أيسرها على المهل، فانظر إلى ظروفك، وإلى وضعك، وما هو الأيسر عليك فيكون هو الأفضل في حقك، ونجد بعض الناس يأتي إلى مكة في اليوم السابع أو في ليلة الثامن، فيأتي متمتعاً، ويرهق نفسه: يطوف ويسعى ويتحلل، ومن الغد يهل بالحج، لكن مثل هذا ما دام أنه قد جاء متأخراً فلو دخل مفرداً وطاف طواف القدوم، وسعى سعي الحج مقدماً، وإن شاء أخره، ثم يتم حجه على راحته، ويقال: لو ضاق الوقت أكثر من ذلك فهل عندهم متسع للعمرة؟ لا.
إذاً: القول الأخير: كما سمعنا من والدنا وشيخنا الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: أن الأفضلية أمر سهل، ولكن المهم تثبيت الأنساك الثلاثة، ولا أنسى مجلساً لوالدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه مع سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم في خيمته بمنى صبيحة يوم العيد، وقد جرت العادة أن المشايخ يُسلم بعضهم على بعض، وكان من ضمن خيام المشايخ خيمة الشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ ابن باز، والشيخ عبد الملك، والشيخ عبد اللطيف، وكبار المشايخ، فمررنا -وكنت بفضل الله في شرف صحبة الشيخ الأمين - فسلم على الشيخ محمد وهم يشربون القهوة، فإذا بالشيخ محمد يسأل الشيخ الأمين: بلغني يا شيخ -وكان يوقره جداً- أنك حججت مفرداً، ألكونه أفضل عند مالك؟ فقال رحمه الله: نعم يا سماحة الشيخ! جئت مفرداً وقصداً فعلت ذلك، ولكن ليس لكونه مذهب مالك، قال: وقصداً فعلت ذلك، لماذا؟ قال: لأنه بلغني أن هناك أشخاصاً متطرفين، لا يكتفون ببيان الأمر الذي يرونه، ويقولون: إن التمتع أفضل، بل يجبرون الناس عند المروة على الحلق، ويحللونهم من الإفراد بالحج، وأنا لا أملك السلطة لأمنع هؤلاء، والناس يأتون من أقطار الدنيا منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل يهل بما تيسر له من نسك، وما وجدنا أحداً قط أمر أحداً بهذا عملياً، ثم لقد جاءت النصوص عن أبي ذر وعن غيره -فليراجع طالب العلم بداية المجتهد- لما أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإدخال العمرة في الحج، قام رجل وقال: (يا رسول الله! ألعامنا هذا؟ -يعني دخلت العمرة في الحج هكذا- قال: لا، بل للأبد وأبد الأبد) ومع ذلك، لم يقم أحد يلزم الناس بأن يتحللوا من الإفراد إلى العمرة، وأنا لا أملك السلطة، فجئت مطبقاً لذلك عملياً، ومن رآني أو سألني فهذا جهدي، وما كان بعد ذلك فلا أملكه، ثم يا صاحب السماحة! إن النصوص كذا -وأورد كل ما ذكرته وأضعاف أضعافه معه- وسماحة الشيخ محمد الله يغفر لهم جميعاً ويرحمهم ويجزيهم عنا أحسن الجزاء مصغ إلى آخر كلمة، فما زاد على أن قال: أحسنت جزاك الله خيراً.
إذاً: نحن نعيد هذا القول، أو نورد هذه القضية لأننا نعلم أن كثيراً من طلبة العلم قد يتطلع إلى مثل ذلك متأثراً بقوله صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي) ويتركون بقية الملابسات الأخرى، والواجب على طالب العلم ألا يستقل برأيه، وإنما يرجع إلى أقوال العلماء سواءً كانوا من أهل الحديث، أو كانوا من الفقهاء ومن الأئمة الأعلام، ويأخذ أقوال الجميع ولا ينفرد برأيه.
وبالله تعالى التوفيق.(165/6)
كتاب الحج - باب الإحرام وما يتعلق به [1]
إذا أراد المحرم أن يحرم بالحج أو العمرة فيشرع له أن يهل بالنسك، والإهلال هو التلبية، ويشرع رفع الصوت بها، ولها معان عظيمة جليلة، كإفراد الله تعالى بالتوحيد والعبودية، ونحو ذلك من المعاني، وعند الإهلال يجب على الناسك أن يتجرد من ثيابه ويلبس ثياب الإحرام، ويسن له الاغتسال، وبعد الاغتسال يلبس ثياب الإحرام، وعليه أن يجتنب لبس القميص والعمائم والسراويلات والبرانس والخفاف، ولا يلبس ثوباً مسه الزعفران أو الورس.(166/1)
الإهلال بالحج والعمرة وصفته
قال المؤلف رحمه الله: [عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (ما أهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد) متفق عليه] .
بعدما بين المؤلف رحمه الله تعالى المواقيت للإهلال، وكأن كل مريد للحج قد وصل إلى ميقاته، شرع في بيان ميقات أهل المدينة؛ وذلك لقرب المدينة من مكة، وأراد أن يبين لنا من أين أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد خرج صلى الله عليه وسلم بعد أن صلى الظهر في هذا المسجد النبوي الشريف أربعاً، وسار إلى ذي الحليفة ووصلها قبل العصر وصلى العصر قصراً ركعتين وبات ليلته هناك، ثم أهلّ بنسكه.(166/2)
تعدد الروايات في مكان إهلال النبي صلى الله عليه وسلم
ويأتينا المؤلف رحمه الله بهذه الرواية: (ما أهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد) ، وهذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أوقع إهلاله في الميقات.
وقد تقدمت الإشارة إلى أنه أهل قبل الميقات المكاني وهو خاص، وهنا جاءت روايات أن النبي صلى الله عليه وسلم أهلّ من عند المسجد، وهناك رواية: أنه أهلّ حينما استوت به راحلته، وأخرى أنه أهلّ حينما كان بالبيداء.
وقد جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال: يا ابن عباس! لقد حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة واحدة ووقع في نفسي شيء لكثرة ما سمعت في إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: وما ذاك؟ قال: سمعت من يقول: أهلّ بالمسجد، وسمعت من يقول: أهلّ حينما استوت به راحلته، وسمعت من يقول: أهلّ حينما استوى بالبيداء -والبيداء: هي الأرض المرتفعة المطلة على ذي الحليفة وليست بعيدة عنها- فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يا ابن أخي! أنا أخبرك بذلك كله.
ووضع لنا ابن عباس رضي الله عنهما منهجاً علمياً في مسألة: كيف نعمل مع الأحاديث إذا تعددت وكان فيها شبه تعارض؟ قال: يا ابن أخي! أهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب الصلاة بالمسجد، فسمع ذلك أقوام فأخبروا بذلك، ثم لما نهضت به راحلته أهلّ، فسمع بذلك أقوام آخرون ولم يكونوا قد سمعوا ما تقدم فأخبروا بما سمعوا، ثم لما كان بالبيداء أهلّ، فسمع بذلك أقوام ولم يكونوا قد سمعوا بما قبلها فأخبروا بما سمعوا، فكل صادق، وكل أخبر بما سمع.
إذاً: فقد تعددت الروايات في مكان إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن تلك الروايات: (ما أهلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد) ومعلوم أن السنة في الإهلال هي اقتفاء آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وقد قدمنا ما جاء عن مالك رحمه الله تعالى أن رجلاً أتاه وقال: أريد أن أحرم من هذا المسجد، فقال: لا تفعل؛ فإني أخشى عليك الفتنة، فقال: وأي فتنة وأنا أحرم من مسجد رسول الله، إنما هي خطوات أزيدها؟ قال: هذه هي الفتنة، أخشى أن يقع في نفسك أنك زدت في إحرامك خطوات لم يأت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتهلك.
وعلى هذا: فمن قدّم الإهلال على الميقات المكاني فإن إهلاله صحيح، ولكن الأفضل أن يكون من الميقات، مخافة أن يطول عليه الزمن أو المكان فيقع في بعض المحظورات وقد كان في عافية من ذلك.
وإذا لاحظنا ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في قوله: (خذوا عني مناسككم) ؛ علمنا أن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع الأعمال هو الأولى والأفضل.(166/3)
معنى الإهلال بالنسك
وقوله: (أهل) أي: رفع صوته مهلاً بنسكه، والإهلال: مأخوذ من التهليل وهو رفع الصوت، والتهليل مأخوذ من الهلال، يقول أهل اللغة: إن أسماء المعاني مأخوذة ابتداءً من أسماء الذوات، أي: المحسوسات، فالاسم يوضع أولاً للذات المحسوسة، ثم ينقل منها إلى المعنوي، كما تقول: أذن الآذن بكذا، وفلان مأذون بكذا، فإن أصل مادة (أذن) هي الأذن؛ لأنها يلقى فيها الأمر الذي أُذن فيه للسامع بما أُذن، فكذلك الإهلال، فقد كانوا إذا رأوا هلال الشهر رفعوا أصواتهم بالتهليل، أي: إعلاناً برؤية الهلال لهذا الشهر، ثم انتقل الاستعمال لكلمة الإهلال والتهليل لكل صوت مرتفع، ولهذا يقال للصبي عند ولادته: أهلّ باكياً، إذا استهل صارخاً ثبتت حياته وثبت ميراثه ولو مات بعدها بلحظة.
وعلى هذا فقوله: (أهلّ النبي من عند المسجد) أي: رفع صوته بالتهليل بالنسك الذي أراده، وهنا يقول العلماء: إن عقد النية لجميع أعمال العبادات يكون سراً في القلب إلا في أحد النسكين، فله الحق في أن يتلفظ به رافعاً صوته: لبيك اللهم عمرة، أو لبيك اللهم حجاً، أو لبيك اللهم عمرة وحجاً، وما عدا ذلك من صيام وصلاة وزكاة وغير ذلك فلا يرفع فيها صوته ولا يتكلم بالنية إلا بقدر ما يسمع به نفسه توكيداً لما انعقد عليه القلب.(166/4)
رفع الصوت بالإهلال
قال المؤلف رحمه الله: [وعن خلاد بن السائب عن أبيه رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال) رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن حبان] .
الخبر الأول: في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أهل.
والخبر الثاني: في حق أصحابه رضوان الله تعالى عليهم، وهنا نجد جبريل عليه السلام مع رسول الله في هذه الحجة، فنجده صلى الله عليه وسلم يقول: (أتاني جبريل) ، فهو يأتيه بكل ما أراد الله سبحانه وتعالى أن يوحيه إليه، فقد يأتيه بوحي من كتاب الله قرآناً، وقد يأتيه بخبر آخر سوى ذلك.
فهنا أتاه جبريل وأمره، ولم يلقِ الأمر جزافاً، بل قال أمره لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال، وهناك رواية: (بالتلبية) ؛ لأن الإهلال هو التلبية، والتلبية هي الإهلال، ورفع الصوت من شعار الحج، وهذا خاص بالرجال، أما النسوة فيسمعن أنفسهن فقط.(166/5)
من معاني التلبية
وهذه التلبية وشعار الحج لو وقف الإنسان عندها لوجد -كما أسلفنا سابقاً- أن الحج يشمل عموم أعمال الإسلام، وقد أسلفنا أيضاً أن رحلة الحج لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هي رحلة عامة للدين والدنيا والآخرة، فهنا حينما يقول الحاج: لبيك اللهم لبيك، التلبية في اللغة تأتي بمعنى: الإقامة، أي: إقامة على طاعة الله، وتأتي بمعنى: إجابة النداء، كأن تنادي: يا زيد! فيقول: لبيك، أي: أنا سامع مجيب مستعد لما تأمرني به.
وهنا يقول العلماء: (لبيك) إجابة لنداء، وأين هذا النداء الذي يلبيه الحاج عند إهلاله بالنسك؟ قالوا: هناك نداء سابق وهو ما جاء في قول الله سبحانه وتعالى لإبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج:27] ، ولما بنى إبراهيم البيت أمره الله أن ينادي في الناس: (إن الله قد ابتنى لكم بيتاً فحجوه، فقال: يا رب! وأين سيبلغ ندائي؟ قال: عليك النداء وعلينا البلاغ، فصعد أبا قبيس ونادى وقال: أيها الناس! إن الله قد ابتنى لكم بيتاً فحجوه) ، فأبلغ الله سبحانه وتعالى بقدرته هذا النداء لجميع الخليقة إلى يوم القيامة، فقد بلغ الصوت للحاضرين آنذاك، وللأشخاص في الذراري في أصلاب الآباء قبل أن يوجدوا، فشمل كل أجيال بني آدم، وقالوا: من لبى مرةً حج مرة، ومن لبى أكثر حج أكثر.
فمجيء الإنسان إلى الميقات وإعلانه: لبيك اللهم لبيك، عبارة عن إجابة لذلك الدعاء الذي دعاهم به إبراهيم عليه السلام لحج بيت الله الحرام، وفي قول الحاج أو المعتمر: لبيك اللهم لبيك، تكرار للتأكيد.
وقوله: (لا شريك لك لبيك) ، هذه هي عقيدة التوحيد التي خلق الله الخليقة من أجلها ليعبدوه ويوحدوه، (لا شريك لك) رد على أهل الجاهلية، فقد كانوا يقولون في حجهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، فهم يعترفون بأنه شريك صغير، وأنه مملوك لله، ولكن ذلك لم ينفعهم، فجاءت التلبية تخلص العبادة لله وحده: (لبيك لا شريك لك) لا في هذا الحج ولا في غيره.
ثم يعقب ذلك بما يشبه التعليل لنفي الشراكة عن الله، فيقول: (إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) فكأنه يقول: موجب التوحيد وعدم الشريك هو أن الحمد والنعمة لك، والحمد يكون لكمال الممدوح لذاته، قال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] ، و (رب العالمين) فيها التنصيص على أن جميع النعم في جميع العوالم هي لله، وهنا: تحمد الله لكمال ذاته، والحمد يتضمن الشكر على نعمه؛ لأن جميع النعم لله، (إن الحمد) أي: الكمال الذاتي، (والنعمة) : التي نعيش بها ونرجوها في الدنيا أو في الآخرة هي لله.
إذاً: ما دام الكمال لله فلا نعبد غيره، وما دامت النعمة كلها لله فلا نطلب من غير الله شيئاً؛ بل نتوجه إلى الله بكليتنا بدون شراكة في ذلك.
والملك كله لله، إذاً الخير والشر لا يكون إلا بقضاء الله وقدره، فلا تخشى في دنياك أحداً؛ لأن النعمة التي ترجوها عند الله، والشر الذي تتقيه وتخشاه لا يأتيك إلا بقضاء الله؛ فلا وجود لمن ترجوه أو تخشاه إلا الله، وبهذا تكون بداية الناسك تجديد العهد بربه إيماناً وتصديقاً ورضاً، ويظهر شعار الحج بهذا النشيد المبارك: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) ، أي: في ذلك كله، فهذا هو معنى الإهلال.
ومن المعلوم أن الأذان وهو شعار الإسلام في أعظم ركن وهو الصلاة يبدأ بالتكبير ثم بالتهليل (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ثم نجد الدعوة إلى الصلاة وإلى الفلاح، فنجد فيه أيضاً توحيد الله سبحانه، والتصديق برسوله في النطق بالشهادتين، ونجد تكرار التكبير؛ لأنك في عملك أياً كان نوعه، أو في جلوسك ومتعتك أياً كانت صفتها، حينما تسمع: الله أكبر، توقن بأن الله أكبر مما أنت فيه مهما كان، فلا يمنعك ولا يؤخرك عن إجابة المنادي (حي على الصلاة) ؛ لأن الله أكبر مما أنت مشغول به، أو مما تسعى إليه.
وهكذا يكون الإمعان في التلبية بمعنى: الإمعان في أسس التوحيد والعودة إلى الله سبحانه وتعالى.(166/6)
التجرد من الثياب والاغتسال عند الإهلال
قال المؤلف رحمه الله: [وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم: تجرد لإهلاله واغتسل) ، رواه الترمذي وحسنه] .
التجرد: هو الخروج من هذا اللباس العادي، وإذا ما تجرد فلابد أن يستتر فيلبس الإزار والرداء بعد التجرد، وقبل اللبس يغتسل، ولذا اتفق الجميع على أن من شروط الإحرام: التجرد، ولكنه ليس شرط صحة، فإذا أهل ولم يتجرد صح إهلاله وانعقد نسكه، ثم يجب عليه أن ينزع ما هو لابس من ثيابه، فإن لم يفعل فتلزمه فدية.
ويصح أن يتجرد الإنسان قبل الميقات أو في الميقات، أما ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم فهو أنه تجرد في بيته في المدينة واغتسل ثم خرج إلى ذي الحليفة بإزاره وردائه، وطيبته أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها.
إذاً: السنة والواجب على المحرم أن يتجرد من ثيابه، وإذا نظرنا إلى هذا العمل نجده من غرائب حكمة التشريع فحينما تأتي وفود المسلمين من أقطار شتى ويجتمعون في المدينة، فتجد كل جنس في كل قطر له لباس خاص به يميزه عن غيره، ولو رأيته بلباسه لعرفت من أي الأجناس أو من أي الأقطار هو، فإذا ما أرادوا الحج فلا يجتازون الميقات إلا وقد خرجوا من تلك الألبسة وتوحدوا بلباس واحد إزار ورداء، وهناك تكون قد ذهبت الفوارق، وألغيت العادات، وظهر المسلمون أمة واحدة في شكل واحد، توحدت أشكالهم كما توحد شعارهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك.
وفي هذا التجرد خروج من مظاهر الدنيا، سواءً كانت مظاهر غنى أو فقر، مظاهر إقليمية أو جنسية أو غير ذلك، والإسلام في ذاته لا يعترف بشيء من هذا إلا للتنظيم فقط: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13] ، للتعارف والتنظيم فقط، والحقيقة: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] .
فهنا حينما يريد الحاج أو المعتمر أن يهل فإن عليه قبل ذلك أن يتجرد، فإذا تجرد اغتسل، وكما أسلفنا فإن التجرد شرط للإحرام، ولكن إذا لم يفعله جبر بدم، وسيأتي أن البعض قد يعذر في تجرده من بعض ما يحتاج إليه من لباس، فيترخص ويدفع قيمة ذلك الترخص.
ويسن كذلك الاغتسال، وقد سن الاغتسال للمحرم في عدة مواطن، وكلها -كما أسلفنا- سنة حسب ما تيسر له، وهي: عند إرادته الإحرام بعد التجرد، وعند دخول مكة، وعند الوقوف بعرفات، فقد اغتسل النبي صلى الله عليه وسلم في هذه المواطن، فإذا لم يتيسر له أن يغتسل توضأ وأجزأه ذلك، وإن كان معذوراً في استعمال الماء أو لم يجد الماء تيمم.
ثم إن أهل دون أن يغتسل ودون أن يتوضأ ودون أن يتيمم فإن إهلاله صحيح؛ بل إن المرأة الحائض أو النفساء عند الإهلال تغتسل للإهلال وليس للحيضة، فإذا جاءتها الحيضة مثلاً في الصباح فتهل في المساء ولا زالت بحيضتها، والسنة أن تغتسل لا لحيضتها ولكن تطهراً واستقبالاً لهذا النسك، كما جاء (أن أسماء بنت عميس -زوج الصديق رضي الله تعالى عنهما- نفست -أي: ولدت- في ذي الحليفة ليلة مبيته صلى الله عليه وسلم بها فجاء أبو بكر وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: مرها فلتغتسل) ، وبين له أنها تفعل ما يفعل الحاج غير أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر من نفاسها، وكذلك مثلها صاحبة الحيضة.
إذاً: الإهلال ينعقد ويصح ولو لم يغتسل، ولو لم يتوضأ، ولو لم يتيمم، ولكن الغسل هو السنة، وكذلك مس الطيب في البدن لا في الثياب، على ما سيأتي إن شاء الله.
إذاً: على المحرم أن يتجرد من ثيابه، وأن يغتسل لإهلاله، وأن يلبس إزاراً ورداءً أو ما ينوب عنهما، كما سيأتي إن شاء الله.(166/7)
شرح حديث: (ما يلبس المحرم من الثياب)
قال المؤلف رحمه الله: وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل: (ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال: لا يلبس القميص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا شيئاً من الثياب مسه الزعفران ولا الورس) متفق عليه، واللفظ لـ مسلم] .
بعدما قدم المؤلف رحمه الله التجرد والاغتسال للإهلال وموقع الإهلال ومكانه، كأنه قيل: بعدما تجرد واغتسل لابد أن يلبس شيئاً، فجاء بهذا الحديث الشامل العام في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم: (ماذا يلبس المحرم؟) وهذا الحديث من نماذج أسلوب الحكيم في الإجابة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سُئل: ماذا يلبس؟ فأجاب: (لا يلبس) ، أي: سُئل عن بيان ما يجوز للمحرم أن يلبسه فكان الجواب عكس السؤال: لا يلبس المحرم كذا وكذا.
وقد ذكر العلماء أن القاعدة الأساسية في الجواب أن يطابق السؤال، ولكن المسئول إذا كان حكيماً راعى حالة السائل، فقد يزيده عما سأل، وقد يغاير ويجيبه عن غير ما سأل؛ ليبين له أن الأهمية فيما تضمنه الجواب، أو يختصر في الجواب ليسهل على السائل فهم الجواب.
ومن مغايرة الجواب للسؤال، ما جاء في كتاب الله عند قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة:215] ، فهم يسألون عن ماذا ينفقون؟ وفي آية أخرى: {قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة:219] ، أي: الزائد عن حاجتكم، وهذا مطابق للسؤال، ولكن هنا قال: {قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة:215] ، فقد سألوا عن نوعية ما ينفقون فأجابهم بأن دلهم على جهة ما ينفقون عليه؛ لأن معرفة ذلك أهم من معرفة ماذا ينفقون.
وكذلك من الزيادة في الجواب على السؤال حديث: (قالوا: يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟) فالسؤال محدود عن صحة الوضوء من ماء البحر، فكان جوابه صلى الله عليه وسلم: (هو -أي: البحر- الطهور ماؤه الحل ميتته) ، مع أنهم لم يسألوا عن ميتته أحلال هي أم حرام؟ ولكن نظر صلى الله عليه وسلم إلى السائل عن صحة الطهور من ماء البحر ورأى أن تحريم وتحليل ميتة البحر أشد إشكالاً عليهم، فإذا كانوا قد استشكلوا الوضوء من ماء البحر لكونه مالحاً فلأن يستشكلوا حِل ميتته من باب أولى، فزادهم فيما يرتبط بركوب البحر.
وهنا سُئل صلى الله عليه وسلم: ماذا يلبس المحرم؟ قال بعض العلماء: لقد أجابهم بما كان ينبغي أن يتوجه السؤال إليه، وهو: ما الذي يمتنع علينا لبسه في الإحرام؟ فكأنه يرشدهم إلى ما كان ينبغي أن يجعلوا السؤال عنه، وهو: ما الذي نجتنبه إذا أحرمنا؟ وقد عللوا ذلك بأن الأصل جواز لبس أي شيء، فالأصل في اللباس إباحة كل شيء حتى يأتي المانع، كما نهي عن لبس الحرير والذهب للرجال، فالأصل في الأشياء الإباحة ما لم يأت الدليل المانع، لكن اللباس في الإحرام من حيث هو خرج عن هذه القاعدة؛ لأن تاريخ لبس المحرم في الجاهلية كان مغايراً، فقد كانوا في الجاهلية يطوفون بالبيت عرايا لا يلبسون شيئاً رجالاً ونساء، وهذا كما كان يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: من شدة مكيدة الشيطان للإنسان؛ لأنه ما وجد مصيدة أشد وأقوى للرجال من النساء، ويقول: إن فتنة الرجل بالمرأة من أول ما وجد جنس الإنسان، فقد كان آدم عليه السلام في الجنة منعماً مطمئناً في عيشة رغيدة، فلما طرد الشيطان حسد آدم على بقائه، فأراد أن يكيد له ليخرجه ليستويا في الحرمان، فجاءه عن طريق حواء وأغراه حتى أكل من الشجرة التي نهي عنها، فخرجا معاً، قال تعالى: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف:22] .
والعجيب أن الشيطان جاء لآدم بالطريق الذي يريده ليكون انقياده أهون عليه، قال تعالى: {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ} [طه:120] ، فكلمة (أدلك) تعني: أنه يريد أن ينصحه.
(هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120] ، وهذا هو ما يريده آدم، وتخيل إنساناً في الجنة منعماً، فإن أخوف ما يخافه هو الخروج منها، فقال له: أنا أدلك على الطريق الذي يؤمنك من هذا الخوف، فدله على ما أراد، وجاء عن طريق حواء وحصل ما حصل، قال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} [البقرة:38] .
ثم بعد ما نزل آدم إلى الأرض وبدأ يكون مجتمعه جاءت فتنة المرأة، فكان قتل أحد ولديه لأخيه بسبب المرأة، بسبب أخته، ثم واصل الطريق معه عن طريق المرأة، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء) ، وكما قال جرير: يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله إنسانا وهذا هارون الرشيد ينادي جارية صغيرة ويقول لها: تعالي، فتقول له: لا! خليفة المسلمين الذي سمعت به الدنيا! ومع ذلك جارية صغيرة تقول له: لا! فتمثل بهذه الأبيات: ما لي تطاوعني البرية كلها وأطيعهن وهن في عصياني ما ذاك إلا أن سلطان الهوى وبه قوين أعز من سلطاني فسلطان الهوى أعز من سلطان الملك، ومما يذكر أن جورج الخامس أو غيره نزل عن عرشه لامرأة! يقولون: لم تكن بارعة في الجمال، ولكنها كانت بارعة في الظرف والأدب والحديث، فأراد أن يتزوجها، فقيل له: لا يمكن؛ لأن الملك في انجلترا لا يتزوج إلا من بيت الملك، فأنت مخيّر بين الملك وامرأة، فقال: خذوا الملك كله.
فتنازل عن عرش بريطانيا وتزوج بالمرأة؛ لأن سلطانها أعز عليه، ولهذا يقول صريع الغواني: وحديثها السحر الحلال لو أنه لم يجن قتل المسلم المتحرز فدمه متحرز حرام لكنها تقتله.
فالمقصود: أن الشيطان اتخذ المرأة وسيلة لإغواء الرجل، فما زال يغوي العرب إلى أن جعلهم في تلك الصورة التي يستنكرها كل عاقل حتى صاروا يطوفون بالبيت رجالاً ونساءً عرايا، حتى يذكرون عن بعض النسوة أنها قالت وهي تطوف: اليوم يبدو جله أو كله وما بدا منه فلا أحله وكيف وصل بهم إلى هذا الأمر الشنيع؟ وصل إلى ذلك بحيلة، فقد جاءهم وقال: أنتم جئتم تحجون وتطوفون تريدون المغفرة من الذنوب؟ فقالوا: هذا كلام صحيح.
فقال: إن ثيابكم التي تلبسونها في الطواف قد باشرت معكم وشهدت عليكم ارتكاب المعاصي، فكيف تطوفون بالبيت وهذه الثياب عليكم شاهدة بمعاصيكم؟ فقالوا: وما هو الحل إذاً؟ قال: اخلعوها، وطوفوا مجردين من كل شيء.
فقالوا: لقد أصبت.
وأضلهم بهذه الحيلة، وكان الواحد منهم إذا استحى أن يطوف عرياناً ولم يستطع وتأبى عليه مروءته ذلك، كان عليه أحد أمرين: إما أن يستعير ثوباً من جيران البيت الحرام فيلبسه، على أن جيران البيت لا ذنوب ولا معاصي لهم، أو لأنهم مكرمون عن هذا.
وإما أن يشتري ثوباً جديداً ما شهد معصية، فيلبسه ويطوف به، فإذا أنهى طوافه خلعه ورماه عند البيت ويكون هدية لسدنة البيت.
ثم جاء الإسلام وكرم الإنسان، وقد كان المسلمون يعلمون بأن المشركين كانوا يطوفون عرايا، ففي سنة تسع لما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر يحج بالناس قال له: (ولا يحجنّ بعد هذا العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان) ، فما ألغي هذا الأمر إلا سنة تسع من الهجرة بعدما فتحت مكة بسنة.
إذاً: هم يعلمون أن الطواف في الجاهلية كان يقع والناس عرايا، إذاً ماذا يلبسون؟ فالسؤال منهم عما يلبس المحرم هو عين الصواب، والجواب من رسول الله صلى الله عليه وسلم المغاير للسؤال الصحيح السليم إنما هو لبيان وحصر ما يمكن تجنبه، ومعلوم أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
أيضاً قالوا: إن ما يمنع المحرم من لبسه محدود ومحصور، وما يجوز له أن يلبسه مطلق دون حد أو حصر، فكأنه صلى الله عليه وسلم قال: اجتنبوا هذه المذكورات وما عداها فالبسوا ما شئتم.
وسواء كان ذلك في عمرة أو كان ذلك في حج، وقوله (لا تلبسوا) خطاب للرجال يخرج عنه النساء، وإن كان المؤلف لم يورد ما تجتنبه المرأة، لكنه معروف عند الجميع وفي غير هذا الموطن، وقد ذكره المصنف في فتح الباري في شرح صحيح البخاري.
وقوله: (لا تلبسوا القمص) القمص: جمع قميص، وهو كناية عن الثوب، سواء كان القميص الذي يلبس مع البدلة، أو مع السروال الطويل، أو كان نفس الثوب المعروف، فإنه يسمى ثوباً ويسمى قميصاً، فما كان على هيئة البدن بكمين فهو قميص.
ويراد بالقميص كل مخيط على هيئة البدن وله كمان، وسواء كان هذا القميص مخيطاً بيد أو بمكينة أو ملصقاً بلصقة أو مشغولاً بالإبرة، أو نحو ذلك؛ لأن الغرض منع لبس المحيط بالجسم، فالنهي هو عن المحيط لا المخيط، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.(166/8)
كتاب الحج - باب الإحرام وما يتعلق به [2]
إذا أراد المحرم أن يلبس ثياب الإحرام فعليه أن يجتنب أموراً، منها: لبس القميص، والعمامة، والسراويل، والبرانس، والخفين، إلا إذا لم يجد نعلين فليلبس الخفين، على خلاف بين العلماء في ضرورة قطعهما أسفل من الكعبين، وكذلك لا يلبس ثوباً مسه الزعفران أو الورس، وأما المرأة فتلبس ما شاءت من الثياب، إلا أنها لا تلبس النقاب ولا القفازين.
ويمنع المحرم من الطيب، على تفصيل وخلاف بين العلماء مذكور في بابه.(167/1)
النهي عن لبس القميص في الإحرام
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلبسوا القمص) أي: على الهيئة المعهودة، ولو أن إنساناً وجد إزاراً ولم يجد رداء، فأخذ ثوبه الذي كان يلبسه قبل أن يتجرد وجعله على كتفيه وارتدى به فلا مانع من ذلك، ولو أن إنساناً أخذ (دراعة) -وهي معروفة عند المغاربة والشناقطة وهي كبيرة مثل الملحفة- وجعلها إزاراً فلا مانع من ذلك؛ لأنها مخاطة من الأمام ومن الخلف.
إذاً: المراد هو النهي عما يحيط بالجسم على هيئته بأي نوع من الإحاطة، سواء كانت بخياطة، أو بدبابيس، أو بمسامير، أو بتلصيق ونحو ذلك، حتى هذا الذي يسمونه: التريكو، فما دام محيطاً بالجسم فهو ممنوع.
ويدخل في مسمى القميص كل ما يحيط بالبدن: كالفنيلة، والجاكيت، والبالطو، والجبة، ونحوها.(167/2)
النهي عن لبس العمائم للمحرم
قال صلى الله عليه وسلم: (ولا العمائم) العمائم: جمع عمامة، قالوا: العمامة رمز لتغطية الرأس، وكل ما غطى الرأس فهو مندرج تحت العمامة: كالطاقية، والقلنسوة، والكسكيتى، والبرنيطة إلخ، فكل ما يجعل لباساً خاصاً للرأس فهو ممنوع.
وهنا يقول العلماء: قوله: (لا تلبسوا القمص) أي: المحيط وليس المخيط، أو المخيط على هيئة الجسم، وفي الرأس لا يغطى الرأس بالعمامة، وكل ما يغطي الرأس فهو مندرج تحتها، ولو أن إنساناً معه متاع فحزمه ووضعه على رأسه وكان رخواً، فدخل الرأس في ضمن المحمول، ونزل على جانبي الرأس وغطاه إلى أذنيه، فإنه يكون قد غطى رأسه، بحمل، فهل يكون داخلاً في معنى العمامة؟ يقول بعض العلماء: إذا قصد بهذا الوضع تغطية رأسه من شمس ونحوها فهو لابس، وإن كان فيه متاعه وحمله ونزل إلى هذا الحد فلا يقال له: لابس له، إنما يقال له: حامل متاعه.
ولو أنه أخذ شريطاً على منتصف الرأس إلى أسفل الحلق لجرح أو لصداع أو لأي حاجة من الحاجات، فهذا الذي أخذ شريطاً عرضه (5سم) ونزل به إلى أسفل حلقه يقال له: رابط رأسه، فلا يكون لابساً ولا يكون مغطياً.
وإذا نام على فراش وثير ولين وغطس فيه رأسه، فلا يقال: لبس المخدة، ولا يكون مغطياً رأسه وهكذا.
إذاًَ: المنع من تغطية الرأس بعموم مسمى العمامة وما يلحق بها، كالغترة ونحوها، وإذا كان في الحر أو في المطر وظلل رأسه بالمظلة، فهذا يقال عنه: استظل بالمظلة.
وأبعد من هذا يقول النووي: لو وقف الحاج في الخيمة، والخيمة واطية، فدخل رأسه في الخيمة ورفعها، فهل يكون غطى رأسه أو حمل الخيمة على رأسه؟ يقال: رفع الخيمة على رأسه.
أريد أن أبين بهذا أن الفقهاء عند هذه النقاط الأساسية يفرعون عليها بتوسع، ولهذا يؤكد العلماء ضرورة أو حتمية دراسة الفقه قبل دراسة الحديث لطالب العلم إذا أراد أن يتوسع في معرفة الفقه، ويكون الحديث تثبيتاً وأدلة لما قرأ من الفقه، وإذا درس طالب العلم الحديث فلا يقتصر على كتب الحديث مهما كان الشرح فيها متوفراً واسعاً، وللأسف لم أجد كتاباً شارحاً لبلوغ المرام شرحاً وافياً يكتفى به أو يستغنى به عن غيره.
ولا يمكن أن تقف على حقيقة شرح بلوغ المرام إلا في الأحاديث التي رواها البخاري أو هي من المتفق عليه، فترجع إلى شرح المؤلف وهو فتح الباري على صحيح البخاري، فتجد الكلام وافياً على ذلك الحديث في ذاك المكان، أو ترجع إلى شروح السنة، فحينما يقول: رواه النسائي أو أبو داود أو الترمذي، فترجع إلى مراجع الحديث وتقرأ الشرح هناك موسعاً، فتستطيع أن تلم بحقيقة الأحاديث أو النصوص الواردة في بلوغ المرام.
ومن وراء ذلك المجاميع والموسوعات الفقيه، مثل المجموع للنووي، وهو خاص بمذهب الشافعية، ولكنه يفرع ويذكر مذاهب الأئمة الآخرين، وكذلك المغني لـ ابن قدامة، فإنه وإن كان خاصاً بالحنابلة إلا أنه أيضاً يفرع ويأتي بأقوال بقية المذاهب.
إذاً: العمامة هنا رمز لكل ما يغطي الرأس، ثم نأتي إلى تحقيق المناط فيما هو غطاء للرأس.(167/3)
نهي المحرم عن لبس السراويلات
قال صلى الله عليه وسلم: (ولا السراويلات) ، السراويلات: جمع سروال، وهو ما يسمى باللباس، وهذا من تسمية الخاص باسم العام؛ لأن كلمة (لباس) تطلق على كل ما يلبس في الجسم من فنيلة أو قميص أو دراعة أو نحو ذلك، فكل هذا لباس، ولكن أصبح العرف يخصص كلمة (لباس) بما لبُس في موضع الإزار، وهو ما كان له ساقان على ساقي القدمين، فهذا لا يلبسه المحرم؛ لأن فيه إحاطة بهذا الموضع من البدن.
وهذا يشمل ما استجد عند الناس من السراويل القصيرة وهي ما يسمى: (كلسيون) أو ما إلى ذلك، فكل هذا داخل تحت مسمى السراويلات، وقد كان السروال القصير موجوداً عند السلف وهو ما يسمى: التبان، وقد جاء في خبر عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت تسمح لمن يرحلها أن يلبس التبان تحت الإزار؛ وذلك تحفظاً من أن تنكشف عوراتهم.
إذاً: يندرج تحت السراويل: البنطلون، والكلسيون، والتبان، وكل ما يلبس تحت الإزار بساق طويل أو بدون ساق، فهذا ممنوع لبسه للمحرم.(167/4)
نهي المحرم عن لبس البرانس
قال صلى الله عليه وسلم: (ولا البرانس) ، البرانس: جمع برنس، ويكثر وجوده في المدينة أثناء الحج إذا كان الوقت شتاءً، وأكثر من يلبسه هم المغاربة والليبيون، وهو كما قالوا: كل لباس خيط به غطاء للرأس؛ لأن البرنس معه مثل المثلث يغطى به الرأس، وهو مخيط من عند رقبة اللباس، والبرنس شبيه بالعباية والجبة ونحوها، ولكن غطاء الرأس مخيط فيه، فإذا كان وقت الشتاء غطى رأسه، وإذا لم يرد تغطية رأسه خلعها ورماها وراء ظهره، فهذه البرانس سواء غطى رأسه بالغطاء الموجود معها أو لم يغطِّ رأسه، فإنها ممنوعة.
والفرق بين القمص والبرانس: أن القمص محدودة، فالقميص يصدق على الفنيلة، ويصدق على القميص القصير، لكن البرانس واسعة، يدخل فيها الدراعة، ويدخل فيها المشالح، ويدخل فيها اللباس الفضفاض كما يوجد في لباس البادية، وهو الثوب ذو الأكمام الواسعة الطويلة.
إذاً هذه البرانس رمز لكل لباس فضفاض على الجسم.(167/5)
حكم لبس المحرم للخفين
قال صلى الله عليه وسلم: (ولا الخفاف) ، الخف لباس القدمين، والأصل فيه أن يصنع من الجلد، وأن يكون طويلاً بحيث يغطي الكعبين ويتجاوزهما، وهو الذي يجوز المسح عليه في الوضوء.
فالخفاف التي يصح المسح عليها في الوضوء ممنوعة في الإحرام، وسواء كان الخف من الجلد كما هو الأصل، أو كان من القماش خفيفاً أو متيناً في هذا الباب، بخلاف المسح في الوضوء فإنه يجب أن يكون قوياً ثخيناً، سواء كان من صوف، أو من قطن، أو من كتان، أو من نايلون، أو من بلاستك، حتى قال النووي في الممسوح عليه: ولو من زجاج يكشف البدن.
فإذا كان محرماً فلا يلبس الخف، ولكن سيأتي الاستثناء في صورة ما.
إذاً: يمنع المحرم من لبس الخفين في القدمين، ويلبس النعلين، ولو مشى حافياً فهو وما أراد، لكن تكريماً له ولأجل الحر والبرد والأمن من الحجارة ومن الشوك ونحوها يلبس نعلين، وأصل النعل ما كان على قدر أسفل القدم، ويكون ظاهر القدم مكشوفاً، وذلك مثلما يسمونه: (زنوبة) ، وهي المصنوعة من البلاستك، ونحوها، فإذا كان ظهر القدم مكشوفاً بطبيعة التركيب والتفصيل فهو النعل، أما إذا كان مغطى وساقه مرتفعة مع ساق الرجل إلى ما فوق الكعبين.
فهذا هو الخف.(167/6)
حكم من لم يجد نعلين عند الإحرام
ثم استثنى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إلا أحد لا يجد نعلين، فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين) ، فإذا أراد أن يحرم وأراد أن يلبس ثياب الإحرام، فإن وجد نعلين فليلبسهما، وإن لم يجد نعلين وعنده خفان فله أن يلبس الخفين ولكن بشرط أن يقطع ساق الخفين من تحت الكعبين.
أظنه ما يسمى الآن (بالكندرة النصف) وهناك (الكندرة) العسكرية التي يلبسها الجندي إلى نصف الساق، وهناك المدنية التي تكون تجدها صغيرة قصيرة من تحت الكعبين وتسمى: نصف رباط.
فهنا الخف لباس على قدر الرجل مثل الجورب، وساقه يمتد إلى أعلى فوق الكعبين، فإذا لم يجد النعلين لبس الخفين وقطعهما أسفل من الكعبين، وكيف يتحقق عدم وجود النعلين؟ قالوا: بأن تكون غير موجودة في السوق بالكلية، أو كانت موجودة ولكن البائع عرف أن هذا محرم فرفع عليه في قيمتها، كأن تكون بخمسة ريالات مثلاً، فرفع قيمتها إلى عشرة أو إلى عشرين ريالاً، فليس بلازم أن يشتريها وفيها هذا الفحش، أو كانت رخيصة كأن تكون بريالين لكن لا توجد عنده قيمتها، فتكون غير موجودة في حقه.
وهنا يقول العلماء: لو جاء شخص وقال له: يا أخي! أنا أعطيك نعلين تحرم فيهما هبة مني لك، فهل يجب عليه أن يأخذها أم لا؟ قالوا: لا يلزمه قبولها، مخافة المنة عليه، ولو جاء وقال: أعيرك إياها، فلا يوجد مانع من أن يأخذها؛ لأن العارية مردودة، يعير بعضهم بعضاً، ولو قال: أؤجرها لك، وكان عنده الأجرة، فعليه أن يستأجر.
إذاً: من لم يجد بمعنى تعذر وجوده، أو وجد مع مشقة عليه في زيادة السعر، أو وجد ولكن بمنة من الغير؛ لأنهم قالوا في الحج: إذا كان هناك إنسان غير مستطيع، وجاء آخر وقال: أنا أعطيك مالاً لتحج هبة مني لك، فليس بلازم أن يقبل؛ لأنه فيما بعد قد يمن عليه، ويقول: أنا حججت لك أنا أعطيتك لكن رب العزة سبحانه لا يمتن علينا، والله عز وجل إذا لم يعطه ولم يجعله مستطيعاً فقد أسقط عنه الواجب.
فمخافة المنة على الإنسان، ومحافظة على كرامة الإنسان عند الله، يسقط الفرض عنه، وكأنه يقول: يا عبدي! لا تتمنن على عبدي فلان، أنا أولى به منك، أنا أعطيه بغير منة، وأعطيه ما يستحق وأتفضل عليه بدون شيء.
وفي الصدقة قال الله تعالى: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264] ، فلا فائدة من صدقة هذا الذي سوف يؤذي المسكين ويكسر خاطره.
إذاً: من لم يجد بالكلية، أو وجد ولكن بما يشق عليه فيه فكأنه معدوم، فإذا كان عنده خفان فليس هناك مانع من أن يلبسهما ولكن بشرط أن يقطعهما، ولماذا يقطعهما؟ حتى يصبحا في صورة النعلين، أي: كاشفين ظهر القدم ونازلين عن الكعبين.
ومسألة قطع الخفين وقع فيها نزاع بين العلماء رحمهم الله، فإن حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنه: (وليقطعهما) ، قيل: في المدينة قبل أن يلبس المحرم، حين بين لهم ما يلبسون، وفي عرفات خطب صلى الله عليه وسلم وبين ما يجتنبه المحرم فقال: (من لم يجد النعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد الإزار فليلبس السراويل) ، ولم يذكر قطعاً للخفين، بل قال: (فليلبس الخفين) ، ولم يقل: وليقطعهما أسفل من الكعبين.
فأصبح عندنا حديثان في خصوص لبس الخفين: حديث في المدينة يأمر بالقطع، وحديث في عرفات يرخص في لبس الخفين من دون قطع.
فقالوا: إن حديث عرفات عام مطلق عن قيد القطع، وحديث المدينة خاص أو مقيد بشرط القطع، فيحمل العام في عرفات على الخاص في المدينة، فقوم قالوا: حديث المدينة يقضي على حديث عرفات، ويحمل المطلق في عرفات على المقيد في المدينة، فيكون حديث ابن عباس في عرفات: (فليلبس الخفين) ، بشرط القطع المذكور في حديث المدينة، ومن هنا وقع النزاع: هل حديث ابن عباس في عرفات مقيد بقيد القطع في المدينة فيجب القطع، أم أنه متأخر عنه وقد عرفنا التاريخ فيكون ناسخاً لحكم القطع؟ الناس في هذا على مذهبين: مذهب حمل العام على الخاص وأمر بالقطع مطلقاً.
ومذهب يقول بأن القطع قد نسخ بحديث ابن عباس المتأخر الذي سكت فيه عن القطع.
ويقال لأصحاب المذهب الأول: تقولون: إنه ترك ذكر القطع في عرفات؛ لأنه ذكره في المدينة، وهل كل من كان في عرفات وسمع حديث ابن عباس: (فليلبس الخفين) ، قد سمع حديث ابن عمر في المدينة؟ إذ أن حديث ابن عمر فيه القطع، فمن قال لكم: إن الذين في عرفات قد علموا وسمعوا بحديث ابن عمر في المدينة؟ إذاً هناك مجتمع يحتاج إلى بيان، وهنا مجتمع يحتاج إلى بيان، ولو كان بيان حديث ابن عمر كافياً لما كانت هناك حاجة إلى حديث ابن عباس في عرفات.
إذاً: الحاجة باقية لبيان ما لا يلبسه المحرم، أو حكم لبس الخف للمحرم، ولهذا أعاد النبي صلى الله عليه وسلم الحديث مع ترك القطع.
ومن ناحية أخرى، فإن الخف مال محترم، والمال يجب أن يحترم وأن يصان، وما دام أنه لم يأتِ في حديث ابن عباس الأمر بالقطع، فإذا لبسناه ولم نقطع بناءً على حديث ابن عباس وحافظنا على المال من أن نتلفه، فلا يوجد هناك مانع من هذا.
وعلى كل حال: ما دامت المسألة عند العلماء دائرة بين الأمرين: وهو حمل المطلق على المقيد، أو القول بالنسخ، وقد عرفنا التاريخ، فأعتقد أن من أخذ بأحد الطريقين فحمل المطلق على المقيد أو أخذ بطريق النسخ، فكل منهما له وجه.(167/7)
نهي المحرم عن لبس ما مسه زعفران أو ورس من الثياب
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تلبسوا شيئاً من الثياب مسه الزعفران ولا الورس) .
الزعفران: نبات مخصوص قيل: هو زهر أشبه ما يكون بزهر الرمان، وله لون أحمر ورائحة زكية، وله خصائص كثيرة.
قالوا: إذا كان هناك ثوب أبيض وصبغ بالزعفران، والزعفران يستعمل لصبغ الثياب والتجميل ونحو ذلك، قالوا: فلا يجوز لبسه، إذا كان قد صبغ الثوب بهذا النوع على أساس أن الصبغ ثبت وأصبح بحيث لو غسل فلن يخرج من الصبغ الموجود شيء.
والثوب الذي مسه الزعفران أو الورس ينقسم إلى قسمين: ثوب صبغ ولبس بعد الصبغ مباشرة، بحيث أنه لو عرق فيه لانطبع في جسمه، ولو وقع عليه ماء لخرج اللون مع الماء، فهذا ممنوع، أما إذا ثبت الصبغ ولم يبق إلا اللون فقط بحيث لو عرق لما انطبع فيه شي، ولو غسل لما وقع في ماء الغسيل منه شيء، فقالوا: لا بأس به، ولكن في العموم في غير الإحرام لا يجوز للرجل أن يلبس الثوب المصبوغ بورس أو زعفران، فإنه للنساء وليس للرجال.
فعلى كلتا الحالتين منع من لبس الملون، ولكن في الوقت الحاضر لو وجدنا هذه البشاتير التي تكون محمرة أو مخضرة أو مصفرة، والصبغ ثابت لا ينطبع على الجسم، فلا بأس بها؛ لأن الأصل في ذلك المنع هو الرائحة وليس اللون، فإذا كان لوناً ثابتاً لا رائحة فيه، بأن غسل قبل ذلك وبقي اللون كالخضاب وأثر الحناء، فلا مانع من ذلك.
وبعضهم يقول: منع الرجال من الثياب المعصفرة أو المصبوغة بالزعفران عام في الإحرام وغيره، فيكون المنع لأجل اللون أعم من كونه فيه رائحة أو ليست فيه رائحة.
هذا ما يتعلق بلباس الرجل في الإحرام في الجملة.(167/8)
لباس المرأة في الإحرام
بقي ما تجتنبه المرأة من اللباس في الإحرام، فنقول: المرأة تلبس كل شيء حتى حليها، وليس محظوراً عليها لون عن لون، ولا نوع لباس عن لباس، ما دام اللباس تصح فيه الصلاة، أي: ساتراً لجميع بدنها، إلا النقاب والبرقع والقفازين، والنقاب والبرقع: نوعان من اللباس خاصان بوجه المرأة، وبعض البلاد تختلف عن بعض في شكله وحجمه، وهو شريط من القماش بعرض الوجه يتدلى من الرأس إلى الصدر، مثقوب أمام العينين وكل ثقب يكون بحجم العين ترى المرأة من خلاله، والنقاب يكون أوسع منه، وقد يكون على مجرى الأنف نوع من الذهب كالقصبة، أو نوع من الحلية، وقد توضع أنصاف الجنيهات أو أرباعها من الذهب على أطرافه زيادة ومبالغة في حلية المرأة، فهذا هو الذي تمنع منه المرأة، وكذلك القفاز، وهو قطعتان تغطيان الكفين والساعد فتمنع المرأة من لبسهما.
وكونها لا تلبس النقاب ولا البرقع معناه أنها تكشف وجهها، قالوا: لأن وجه المرأة في الإحرام كرأس الرجل، فهو يكشف رأسه وهي تكشف وجهها، ولكن عند عدم وجود الأجانب، أما في حضرة الأجانب فتغطي بخمارها لا ببرقع ولا نقاب، بل تسدل خمار أو غطاء رأسها على وجهها فتغطيه، كما جاء في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كنا نكشف وجوهنا، فإذا مر بنا الركبان سدلت إحدانا خمارها على وجهها) .
وبهذا ينتهي بحث: ما يجتنبه المحرم من اللباس ومحظوراته.
وبالله تعالى التوفيق.(167/9)
حكم الطيب للمحرم
قال المصنف رحمه الله: [وعن عائشة قالت: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت) متفق عليه] .
موضوع هذا الحديث هو تطيب المحرم، وألفاظه: (كنت) يقول بعض العلماء: (كنت) تدل على التكرار، ويقول البعض في هذا الحديث: ليس فيه دلالة على التكرار؛ لأنه أحرم للحج مرة واحدة.
ولكن إن كان أحرم للحج مرة واحدة فقد أحرم للعمرة ثلاث مرات، أي: منفردات، وهي: عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، وعمرة الجعرانة، والرابعة من عمراته كانت قراناً مع الحج، فلا مانع أن يكون هذا الفعل قد تكرر من عائشة رضي الله تعالى عنها.
أما أحكام الحديث فقولها: (أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه) ، أي: إذا أراد أن يحرم طيبته، أي: أنها توقع الطيب قبل أن يحرم، وهنا يبحث العلماء: هل للمحرم أن يتطيب؟ أجمع العلماء على أنه لا يتطيب ابتداءً، أي: إذا أحرم وقال: لبيك اللهم حجاً أو عمرة، حرم عليه أن يمس الطيب.
ولكن إذا تطيب قبل أن يحرم، أي: تطيب لإحرامه، فقال بعضهم: إن كان هذا الطيب ستبقى له رائحة فيمنع منه، كما هو مروي عن عمر وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، والجمهور على أنه إذا تطيب قبل الإحرام وبقي أثر الطيب بعد الإحرام فلا مانع من ذلك، ولهذا يقولون: الإحرام مانع ابتداء لا مانع دوام، كما سيأتي في النكاح، فإن المحرم لا يتزوج ولا يزوج، فهو مانع ابتداء للتزويج ولكن ليس مانع دوام؛ لأن المتزوج يحرم وتبقى الزوجية على ما هي عليه، فهو مانع ابتداء يمنع ابتداء المحرم من أن يتزوج من جديد، ويمنع المحرم أن يتطيب من جديد، ولكن لا يمنع دوام الطيب الذي وقع قبله، ولا دوام النكاح الذي وقع قبله.
ومن هنا استدلوا أيضاً بحدث عائشة رضي الله تعالى عنها في بعض رواياتها: (وإني كنت أرى وبيص -والوبيص: البريق واللمعان- المسك في مفرقه صلى الله عليه وسلم) ، والمفرق هو موضع فرق شعر الرأس، وكان صلى الله عليه وسلم له شعر يصل إلى منكبيه، وكان يفرقه قسمين: قسم إلى اليمين، وقسم إلى اليسار، حتى تظهر فروة الرأس، فتقول أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: (كنت أطيب) ، ثم بعد الإحرام: (كنت أرى وبيص المسك في مفرق رسول الله) .
إذاًَ: هنا دوام الطيب، والذين قالوا: إن المحرم لا يتطيب بطيب يدوم، قالوا: صحيح أنها طيبته لإحرامه، ولكن جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه خرج من المدينة وقد لبس ثياب الإحرام، وتطيب ولبد رأسه- فأتى إلى ذي الحليفة وبات هناك، وفي تلك الليلة التي بات فيها طاف على نسائه اللاتي معه، واغتسل عند كل واحدة، فإذا كان الأمر كذلك فيكون هذا الاغتسال المتكرر قد أزال وأذهب الطيب الذي طيبته إياه بالمدينة، ثم أصبح فاغتسل وأحرم) ، فقالوا: إن هذا الطيب الذي طيبته عائشة أذهبه الاغتسال في الليل.
وأجاب الآخرون عن ذلك بقولها: (وكنت أرى وبيص المسك في مفرقه) ، وقد رأت هذا الوبيص حينما كان في الطريق وبعد أن غادر ذا الحليفة ومضى بإحرامه.
وعلى هذا يأتي نوع من التفريع: هل يصح الطيب للمحرم في ثوبه إزاراً ورداءً، وفي بدنه، وفي شعره، وفي رأسه، وتحت إبطه، وفي يديه؟ قالت المالكية: يكون الطيب في البدن وليس في الثوب، وجاءوا بالتعليلات الفقهية التي تذهب إلى الدقة، وقالوا: إن الطيب في البدن ثابت مكانه، وأما إذا كان الطيب في الرداء، فقد يطرح الرداء عنه، ثم يرجع فيلبس الرداء والطيب في الرداء فيكون لبسه الرداء وفيه الطيب بمثابة ابتداء الطيب من جديد؛ لأنه أخذ الطيب الموجود في الرداء حينما أخذه للمرة الثانية، وهذه المسألة من الدقائق التي علم حقيقتها عند الله.
وقد صح عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه شم ريح طيب من رجل -سواء كان معاوية أو غيره- فقال: من طيبتك هذا؟ قال: أم حبيبة يا أمير المؤمنين! فقال: عزمت عليك لتذهبن فلتغسلن عنك هذا الطيب.
وجاء عن ابن عمر أنه قال: لأن أتلطخ بالقار وأنا محرم أهون عليَّ من أن أتلطخ بالطيب.
فإذا كان الأمر كذلك فإننا نجد هذا الحديث الصحيح من أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، فقد تجرد في بيته وتطيب في بيته، فأهل بيته أعلم الناس بطبيعة إحرامه وما أخذ من طيب وغيره، ولقد جاء عنها في بعض الروايات أنها قالت: (طيبت رسول الله لا كطيبكم هذا) قال بعضهم: (لا كطيبكم هذا) أي: يزول بسرعة، وقال بعضهم: لا إنما قالت ذلك لتبين أن طيبكم لا يصل إلى هذا الطيب، وقد صرحت في بعض الروايات: (بأحسن طيب المسك) .
وعلى هذا فالجمهور على أن المحرم قبل أن يهل له أن يتطيب ويكون الطيب في بدنه.
وإذا جئنا إلى ما ذكره صلى الله عليه وسلم: (إني أحرمت، وقلدت هديي ولبدت شعري) ، وتلبيد الشعر هو إمساكه بما يكون من أنواع الدهون أو الطيب لئلا يتشعث؛ لأن المدة من المدينة إلى عرفات إلى أن ينزلوا إلى منى طويلة، كما جاء عن ابن عباس: أنهم حينما قدموا للحج استغرقوا تسعة أيام في الطريق، وأربعة أيام في مكة قبل عرفات، ويومين بعد عرفات، فهذه خمسة عشر يوماً، فهذه المدة إذا ترك الشعر كما هو فإنه يتخلله الهواء ويسري إليه التراب ويعلق به ما كان في الجو، فإذا كان ملبداً سلم من هذا كله.
وبماذا يلبد؟ قالوا: يلبد بالطيب: كالمسك ونحوه، أو كما قالت رضي الله تعالى عنها: (بطيب ليس كطيبكم هذا) ، وعلى هذا فالجمهور على أن المحرم يحق له أن يتطيب قبل أن يحرم.
بقي النصف الثاني من الحديث وهو قولها: (ولحله قبل أن يطوف بالبيت) ، الجمهور على أن الإحلال من الإحرام قسمان: الأول: التحلل الأصغر.
الثاني: التحلل الأكبر.
فالتحلل الأصغر: يحل فيه للمحرم كل شيء إلا النساء، وبعضهم يلحق بها الطيب، وهو أن يفعل اثنتين من ثلاث: رمي الجمرة، وحلق الرأس، والطواف بالبيت، فإن فعل اثنتين من هذه الثلاث أياً كانت حل له كل شيء، فيلبس الثياب، ويقلم الأظفار، ويحلق الشعر، فكل الذي كان ممنوعاً منه فإنه يحل له إلا النساء، فإذا فعل الثالثة حل له كل شيء.
فبعضهم يقول: إذا فعل اثنتين من ثلاث حل له كل شيء إلا النساء، وبعضهم يقول: إلا النساء والطيب.(167/10)
العلة في النهي عن الطيب للمحرم
العلماء متفقون على أن الطيب ليس ممنوعاً على المحرم لذاته؛ لأن الطيب من حيث هو شيء طيب ومحبب، وقد جاء في الحديث: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً) ، لكن يقولون: الطيب يعتبر من الترفيه، والمحرم يجب عليه أن يتجنب المرفهات، وأن يكون أشعث أغبر.
إلخ.
وبعضهم يقول: العلة أن الطيب يثير عند الإنسان الغريزة.
وبعضهم يقول: إنه يوجد داخل الأنف عروق لها صلة بالإثارة، فمنع من الطيب لئلا يكون ذلك مدعاة لإثارته وهو محرم، فإذا كان الطيب ممنوعاً لا لذاته وإنما لأمر آخر سداً للذريعة، فبعضهم قال: هذا من خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم أن يتطيب قبل أن يطوف بالبيت ويبقى الوطء محرماً عليه، وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها قالت: (وكان أملككم لإربه) ، أي: أن الطيب لا يثير رسول الله، ولا يتسلط عليه، ولا يتأثر به من تلك الناحية بخلاف غيره.
وقال بعضهم: ليست هناك خصوصية إلا بالنص، وهنا لم يأت نص في ذلك عن عائشة، ولم يقله النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: من عمل بهذا الحديث في هذين الموضعين: عند إرادة الإحرام قبل أن يحرم، ويبقى أثر الطيب ويدوم معه حال إحرامه، وعندما يريد أن يتحلل قبل أن يطوف بالبيت، فمن عمل بالحديث في طرفيه فلا مانع؛ لما جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، والمحظور أن يستأنف طيباً بعد أن يحرم.(167/11)
حكم شم المحرم للطيب
وهنا مسألة: إذا مر الإنسان بريحان أو فل أو ورد وشم ريحه من البستان، أو من يد شخص آخر، فهل في ذلك على المحرم من شيء؟ قال العلماء: له أن يشم الرياحين لكن لا يعمد إليها، وإذا جاء الإنسان إلى الكعبة وإلى الحجر والناس يتقربون وينثرون الطيب -العود والمسك والورد- على الحجر الأسود وعلى كسوة الكعبة، فجاء إنسان ليستلم الحجر فمسح بيديه على الحجر فتلطخت بالعود ونحوه من الطيب الذي عليها، فهل هذا محظور عليه؟ ليس عليه شيء إنما يمسحه عنه في كسوة الكعبة أو في الحجر أو في غير ذلك، ولا مانع أن يشمه من نفس الحجر، فإنه لم يتطيب، ولكن الطيب موجود أمامه، ولابد أن يمسح الحجر، فليس عليه شيء إذا كان الحجر مطيباً وقبل الحجر وفيه الطيب.
والله تعالى أعلم.(167/12)
كتاب الحج - باب الإحرام وما يتعلق به [3]
إذا أحرم المحرم للحج أو للعمرة فلا يجوز له أن يَنكح ولا أن يُنكح، وكذلك يحرم عليه أن يصيد صيداً، أو أن يأكل صيداً صيد لأجله، أما إذا لم يصد لأجله فلا بأس أن يأكل منه، ولذلك حكم عظيمة من تربية النفس وتهذيبها وتعويدها على اجتناب المحرمات، فما دام أن الإنسان قد امتنع عن الحلال حال إحرامه، فمن باب أولى أن يجتنب الحرام حال إحلاله.(168/1)
شرح حديث: (لا ينكح المحرم)
قال المصنف رحمه الله: [وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يَنكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب) رواه مسلم] .
من محظورات الإحرام عقد النكاح والوطء، فإذا أحرم الإنسان حرم عليه وطء زوجه، وحرم عليه أيضاً أن يعقد عقد نكاح لابنته أو أخته أو مولاته.(168/2)
مسألة زواج النبي صلى الله عليه وسلم من ميمونة في عمرة القضاء
وهنا وقع خلاف بين الإمام أبي حنيفة رحمه الله وبين الجمهور في قضية أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية -وتسمى عمرة القضية، وعمرة القضاء، وهي العمرة الثانية بعد عمرة الحديبية لما خرج صلى الله عليه وسلم معتمراً عام الحديبية، وما كان من قريش حين أن منعوه من دخول مكة، وصالحهم على ما فيه مصلحة المسلمين، وتمت فيها بيعة الرضوان، وتحلل المسلمون وحلقوا رءوسهم في الحديبية على مشارف حدود الحرم، ورجعوا وحسبت لهم عمرة، وكان من شروط الاتفاق: أن يتحللوا مكانهم ويرجعوا إلى بلدهم ثم يأتوا في العام القادم، على أن تخلي قريش مكة للمسلمين حتى يقضوا عمرتهم ويقيموا فيها ثلاثة أيام.
وسميت القضية؛ لأنها العمرة التي كانت بمقتضى التقاضي بين الفريقين والاتفاق عليها، وسميت عمرة القضاء كذلك، لكن بعض الناس يقول: إنها قضاء عن العمرة الأولى، ولكن المحققين من العلماء يقولون: العمرة الأولى انتهت، ولهذا لم يلزم النبي صلى الله عليه وسلم جميع الذين حضروا معه عمرة الحديبية أن يرجعوا معه في العام الثاني ليقضوا ما فات، فإن هذه عمرة مستقلة وتلك عمرة مستقلة.
الشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في الطريق إلى مكة لأداء العمرة أرسل إلى ميمونة من يخبرها بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يخطبها للزاوج منها، فلما أتوا إلى العمرة وانتهت الثلاثة الأيام، جاءت قريش وقالوا: يا محمد! اخرج بمن معك فقد انتهت الموعدة، قال: أمهلونا، نحن نريد أن نتزوج من عندكم، ونريد أن نحتفي ونريد أن نطعم سوية، قالوا: لا حاجة لنا في زواجك ولا في طعامك، اخرج، فخرج صلى الله عليه وسلم وتزوجها ودخل بها في سرف في عودتهم إلى المدينة، وسرف تبعد عن مكة مرحلتين.
وهنا اختلفوا: هل تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم حينما أرسل يخبرها، أم تزوجها بعد أن حل من عمرته وانتهى وبنى بها في سرف؟ والعجيب أنهم يقولون: المكان الذي بنى لها فيه خيمة وبنى بها هو المكان الذي توفيت ودفنت فيه.
فقال بعضهم: تزوجها وهو محرم، وأخذ بذلك أبو حنيفة رحمه الله.
وقد اختلفت الروايات فـ رافع بن خديج كان السفير بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ميمونة وقد روى أنه تزوجها وهو حلال.
وابن عباس هي خالته، وقد روى أنه تزوجها وهو محرم، فلما اختلف الناس في ذلك سألوا ميمونة رضي الله عنها، فقالت: تزوجني وهو حلال.
فهنا اختلفت الرواية في قضية واحدة، ولا يمكن أن يدعي أحد تكرار القضية وتعددها -كما يقال في غير هذا الموضع- فتحمل بعض الأحاديث على نوع وبعض الأحاديث على نوع آخر، لكن هذه قضية واحدة لم تتكرر.
فقالوا: في هذه الحالة يؤخذ بالترجيح، فيرجح بالقرائن التي تدل على صدق أحد الفريقين، ومن القرائن: أن الذي يروي أنه تزوجها وهو حلال هو الواسطة بين الطرفين، فـ رافع بن خديج هو الواسطة في تزويجهما، فيكون أعلم من غيره: أتزوجها وهو حلال أم وهو محرم؟ وابن عباس يروي عن خالته، ومن روى عن خالته ليس مثل شخص آخر يسمع بواسطة، فلو قارنا رواية ابن عباس عن خالته برواية غيره، فإن الذي يكون أعلم بهذا الأمر هو ابن عباس بلاشك.
إذاً: هنا اختلف رافع بن خديج وابن عباس، فالأول يروي أنه تزوجها وهو حلال، والثاني يروي أنه تزوجها وهو محرم، وهنا رجعوا إلى ميمونة فسألوها عن ذلك فقالت: تزوجني وهو حلال.
فاختلفت رواية ابن عباس عن رواية رافع وميمونة، وابن عباس يروي عن خالته، فهو يعادل حديث رافع، ورافع هو الرسول بينهما، وابن عباس هو ابن أختها، فاختلفا، وكلاهما له صلة قوية بها، فقالوا: إذاً نرجع إلى صاحبة القصة وهي ميمونة، فسألوها فقالت: تزوجني وهو حلال.
وبهذا أخذ الجمهور أنه لا يَنكح المحرم ولا يُنكِح.
ثم بعد ذلك ذكروا مسائل أخرى، مثل هل يطلق؟ وهل يخالع؟ هل يرد الزوجة في طلاقها قبل تمام العدة؟ كل ذلك موضع بحث في هذا الحديث.
والذي يهمنا أن من محظورات الإحرام: النكاح، أي: أن يكون النكاح ابتداء لا دواماً، فالمحرم يكون متزوجاً ويبقى حكم الزواج بعد الإحرام، ولكن لا يبتدئ ولا يستأنف النكاح، وإذا كان العقد ممنوعاً وهو مجرد قبول وإيجاب؛ فالوطء من باب أولى.(168/3)
حكمة تحريم النكاح على المحرم
وهنا يقال: إن هذه المحظورات تعتبر من خصائص الإحرام، فإن الزوجة حلال بكتاب الله، وحينما أحرم قيل له: لا تمس الزوجة فإنها محرمة عليك مدة الإحرام، سبحان الله! الإحرام الذي هو قربة إلى الله يحرم عليه الزوجة؟! والشخص الحلال الذي لم يحرم زوجته حلال له؟! قالوا: لأن معطيات الإحرام تهذيب النفس وتربية المسلم تربية مثالية، فإذا كانت الزوجة معه في هودجهما، والاثنان على بعير واحد متقابلان، ويكونان معاً في خيمتهما، ومعاً في طعامهما وشرابهما ومنامهما، ويمسك نفسه منها وهي كذلك مدة الإحرام، وكم من نوازع تأتي بينهما، وكم تكون هناك من تفاعلات نفسية غريزية، لكنه يتذكر أنه محرم فيكف عن ذلك؛ بل ربما لا يفكر نهائياً في هذا الموضوع؛ لأنه محرم.
ولو قدر أنه اختلى بأجنبية لظروف ما فإنه تكون عنده حصانة ومناعة، وقد تعلم كيف يمتنع من زوجته التي هي حلال له في كتاب الله، فتكون الأجنبية من باب أولى، فيأخذ هذا الدرس، ويتعود هذا التعود بالنسبة للمحرمة عليه بناء على الحلال التي أحلها الله له، ولكن بالإحرام كف وامتنع.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة -وهذا قطعاً-في عمرة القضية، وبنى بها في سرف، لكن جاء عن ابن عباس أنه عقد عليها وهو محرم، وجاء عن رافع بن خديج أنه ما عقد عليها إلا بعد أن تحلل، فتعارضت الروايتان عن صحابيين كل له صلة بالقصة؛ هذا يروي عن خالته، وهذا كان السفير بينهما، فجاء حديث صاحبة الموضوع وفصل في النزاع وعرفنا أنه تزوجها وهو حلال.(168/4)
حكم عقد المحرم للنكاح من حيث الصحة والبطلان
والحكم عند الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد بن حنبل أن المحرم لا يحق له أن يعقد نكاحاً، وإن عقد فهو باطل؛ فلا يزوج وليته ولا يتزوج، ولا يتوكل عن إنسان في الزواج، وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أن له أن يتزوج بناءً على وجود الخلاف في الروايتين.
وهنا نشير مرة أخرى إلى أن الخلاف إذا وقع بين الأئمة رحمهم الله في قضية واحدة كهذه، لم يكن الخلاف عن دوافع شخصية، ولا عن تعصب في الرأي، إنما يكون الخلاف في معنى الحديث، وفي الرواية التي وصلتنا، فلا يستطيع إنسان أن يقول لـ أبي حنيفة: أنت خالفت الحديث، ولكن يقال: إن الحديث الذي تمسكت به حديث صحيح وعن إنسان له علاقة، ولكن الآخر أرجح.
وأما رواية ابن عباس فقالوا: هذا ثقة خالف الثقات، ويقال في علم الحديث: هذه رواية شاذة، والله تعالى أعلم.(168/5)
حكم الصيد للمحرم
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه في قصة صيده الحمار الوحشي وهو غير محرم قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وكانوا محرمين (هل منكم من أحد أمره أو أشار إليه بشيء؟ قالوا: لا، قال: فكلوا ما بقي من لحمه) متفق عليه] .
وعن الصعب بن جثامة الليثي رضي الله عنه أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه وقال: (إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم) متفق عليه] .(168/6)
ابتلاء الله تعالى للمؤمنين بمسألة الصيد
موضوع هذين الحديثين أن المحرم لا يقتل الصيد، ولا يأكل لحم صيد صِيد لأجله، ولكن القضية في التشريع الإسلامي أوسع بكثير من هذه الكلمة والنصف، فإن الله سبحانه وتعالى قد امتحن المسلمين بقضية الصيد، وامتحن قبلهم بني إسرائيل بقضية الصيد، فكيف كان نوع الامتحانين؟ وكيف كانت النتيجة؟ قال الله تعالى عن بني إسرائيل: {وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:163] فذكر حال هذه القرية وما فعلت وما حل بها، وقال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة:65] ، فبنو إسرائيل قالوا: لا نعمل في يوم السبت، وكانوا يقولون بأن يوم السبت هو اليوم الأسبوعي، وأنه خير من يوم الجمعة، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن الأمم اختلفت في يوم الجمعة، فاليهود أخذوا يوم السبت، والنصارى أخذوا يوم الأحد، وهدى الله المسلمين ليوم الجمعة، فقال بنو إسرائيل: إن يوم السبت فيه السبوت، قالوا: إن الله خلق الكائنات فبدأ من يوم الأحد وانتهى يوم الجمعة، وسبت في يوم السبت فلم يخلق شيئاً، فقالوا: ففي يوم السبت لا نعمل شيئاً، فأخذهم الله بادعائهم، وامتحنهم الله بالحيتان في يوم السبت الذي أخذوا على أنفسهم أنهم لا يعملون فيه شيئاً، ففي يوم السبت كانت تأتيهم الحيتان على سطح البحر، فما استطاعوا أن يصبروا، فأتوا بالشباك وألقوها يوم الجمعة وربطوها وذهبوا وناموا في بيوتهم، ويوم الأحد ذهبوا وسحبوا الشباك بما علق فيها من الحيتان يوم السبت، وقالوا: نحن لم نفعل شيئاً، فقد كنا يوم السبت في بيوتنا وما فعلنا شيئاً، فكان ما كان، قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة:65] .
ثم جاءت هذه الأمة وامتحنها الله بالصيد، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:94] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95] ، فمنعهم من قتل الصيد ثم قال: سأبتليكم بالصيد وأنتم حرم، فجاء منع الصيد، فخرجوا في عمرة القضية، فأرسل الله الطيور تقع على أسنة الرماح، وتقع على أعواد الركاب أمام الإنسان، وجاءت الغزلان وصيد البر تتخلل بين أرجل الخيل والإبل كأنها غنم تمشي معهم، وهذا شيء يسيل له اللعاب وخاصة عند العرب، فإن الصيد من ألذ ما يكون لهم وإن لم يأكلوه، فلم تمتد يد إنسان منهم لا على طائر فوق رمحه ولا على غزال بين قدم فرسه، وكفوا أيديهم فعلاً؛ بل إنه صلى الله عليه وسلم مر على ظبي عاكف في ظل شجرة مصوب بسهم إنسان عادي كان قد رماه فجاء ونام عند الشجرة، فأوقف عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً من المسلمين يحرسه لئلا يهيجه أحد؛ لأنه مصوب مجروح، ومروا في هذا الامتحان بنجاح، فبنو إسرائيل امتحنوا بالصيد ففشلوا، والأمة الإسلامية امتحنت بالصيد فنجحت، وهذا الابتلاء بالطعام أشد ما يكون على الأمم.
وكذلك طالوت لما فصل بالجنود قال تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} [البقرة:249] فابتلاهم الله بالماء، يقول ابن كثير: كانوا في شدة الحر {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ} [البقرة:249] ، ولم يمنعهم من الشرب مرة واحدة، ولكن من يغترف بيده فلا بأس.
وحينما تبتلى الأمم وتمتحن بمن يحاربهم في أرزاقهم وفي حياتهم وفي طعامهم، ويتحكم في موادهم الغذائية ويتاجر بها كيف شاء، فهي محاربة وبلاء شديد، وأشد ما يكون ابتلاء على الأفراد، وكذلك يكون الابتلاء بإخراجهم من ديارهم، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} [النساء:66] ، فجعل الإخراج كالقتل سواء، فقد ابتليت الأمم وامتحنت، ولتمام هذه القضية بالذات امتحن بنو إسرائيل في مادة أخرى امتحنت فيها الأمة المحمدية، فسقطت تلك ونجحت هذه.
كذلك قضية القتال لما قال لهم نبي الله موسى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} [المائدة:21-22] .
{قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] ، قالوا كلمة يستحيا من التلفظ بها، ونفس المادة والدرس امتحنت به هذه الأمة في غزوة بدر.
فقد خرج صلى الله عليه وسلم ليأخذ عير أبي سفيان، وقال: (إن هذه عير قريش، نخرج إليها لعل الله ينفلكموها) فأرادوا أن يجمعوا جيشاً يخرج معه فقال: من كان ظهره حاضراً فليركب، وخرج في ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، وحينما مشى وقبل أن يصل إلى بدر جاءته عيونه بأن العير فاتتهم وأقبل النفير، وأصبحوا بين أمرين: إما أن يرجعوا ولا يقابلون النفير، وأما أن يجازفوا بلقاء النفير.
وقد علم صلى الله عليه وسلم أن القوم ما بين التسعمائة والألف، وذلك عن طريق الإحصاء لما أخذوا الغلام ليلاً وسألوه عن عدد القوم، فقال: لا أدري، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كم ينحرون في اليوم؟ قال: يوماً تسعة ويوماً عشرة من الإبل، فقال صلى الله عليه وسلم: القوم ما بين التسعمائة والألف) ، وهذه مهمة القائد اليقظ، يجب أن يعرف عدد عدوه وآلاته ومنهجه في القتال، فعلم عدد المشركين وما معه صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثمائة وأربعة عشر، وهنا احتاج أن يشاور أصحابه، فإنه قد خرج لأخذ العير، وجاء النفير، وقد كان العهد بينه وبين الأنصار -وهم أكثر الموجودين- عند بيعة العقبة أن يحموه إذا خرج إليهم مما يحمون منه نساءهم وأطفالهم، وهذه الحالة لم يكتمها عن القوم؛ لأن الجهاد في الإسلام مشورة ومشاركة، والفرد في الجيش الإسلامي كالقائد يشعر بمسئولية المعركة؛ لأن الكل جند في سبيل الله، فشاورهم وقال: يا أيها الناس! ذهبت العير وجاء النفير، فماذا نفعل؟ فقال البعض: يا رسول الله! نحن ما خرجنا للنفير بل خرجنا للعير، ومعنى هذا: أن نرجع، وقال آخرون: لعلك خرجت لأمر وأراد الله أمراً آخر، فلتمض إلى ما أراد الله، وتكلم المقداد وعمر وأبو بكر، فيثني عليهم خيراً ويقول: (أشيروا علي أيها الناس) حتى قال قائلهم: يا رسول الله! والله لو خضت بنا البحر لخضناه معك، وقال آخر: والله يا رسول الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] لكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، وبعد هذا الكلام يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: أشيروا علي أيها الناس، فيقوم سعد بن عبادة وقيل: سعد بن معاذ، فكلاهما سيد الأوس والخزرج، فقال: لكأنك تريدنا معاشر الأنصار يا رسول الله؟! -لأن الذين تكلموا من قبل هم من المهاجرين - فقال: نعم، أريدكم -أي: لأن العهد بيني وبينكم في بيوتكم ولكنكم الآن خارج منازلكم، ولكم أن تقولوا: ليست لك علينا نصرة لأننا خرجنا عن بيوتنا، ومنعتنا من أن نأتي بالباقي من العوالي، ومنعت الآخرين أن يأتوا، فلهم أن يقولوا هذا، وهذا لم يحصل تصريحاً ولكن يفهم من المقام، فقال: (والله يا رسول الله! لقد تخلف عنك بعض أصحابنا، ووالله ما نحن لك أشد حباً منهم، ووالله لو علموا أنك تلقى قتالاً ما تخلف واحد منهم، والله يا رسول الله! لوددنا أن تلقى بنا عدونا، إنا لصبر عند اللقاء.
ثم قال: امض لما أمرك الله يا رسول الله!) فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتهلل وجهه وقال: (أبشروا، هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان) ، وأخذ يعدد مصارع صناديد قريش الذين سيصرعون غداً في يوم بدر.
ويهمنا من هذه المقارنة أن بني إسرائيل قالوا: اذهب أنت وربك، وهذه الأمة قالت: والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك؛ ولهذا جاء القرآن الكريم بالشهادة الإلهية: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] ، وليست مسألة عاطفية ولا مسألة ابتدائية، بل إنها مؤسسة على سوابق، فقد نجحوا في امتحان الأكل والشرب في الصيد، ونجحوا في امتحان القتال واتصفوا بما وصفهم الله به ونفاه عن بني إسرائيل، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ} [آل عمران:110] ، وقال عن بني إسرائيل: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78-79] ، فالأمور التي عرضت على بني إسرائيل فأخفقت فيها: الصيد والقتال والأمر بالمعروف، وهذه الأمة نجحت في هذه الثلاث.(168/7)
الحكمة من تحريم الصيد على المحرم
ولماذا حرم الصيد في الإحرام؟ شخص يقول على ظهر البعير: لبيك اللهم لبيك، حرام عليه أن يصيد، وقائد البعير وليس بمحرم فيصيد ويأكل، فهل الحلال غير المحرم أفضل على الله من المحرم الذي يقول: لبيك اللهم لبيك؟ والصيد هو كرامة، ولو أتينا إلى العقل لكان المحرم أولى من غيره، ولكن هذا من باب التربية، فإذا كان المحرم لا ينكح ولا يمس زوجته وهي حلال له؛ ليكون ذلك دربة وتمريناً له على العفة عن الحرام، فكذلك الأمر هنا إنما هو دربة وتعليم وتهذيب وكف لليد عن أن تريق دماً ولو كان لشيء حلال وهو الصيد، فإذا ما حل من إحرامه وعاد إلى بلاده، فاليد التي لم تمتد إلى صيد حلال مباح ستكف عن الدم الحرام، ولن يعتدي على أخيه المسلم فيريق دمه من غير ما ذنب.
وهكذا تكون كل خطوة في الحج لها حكمة ولها مدلول ولها عطاء، ويحتاج المسلمون أن يتعلموا هذه المواطن وما فيها من توجيهات، وما يمكن أن يستخلصه الإنسان من تعاليم الإحرام، سواء مما كان جائزاً فيه أو كان ممنوعاً عنه.
وبالله تعالى التوفيق.(168/8)
حكم أكل المحرم مما صيد لأجله ولغيره
وبقي الكلام على فقه الحديث وما يتعلق بالحمار الوحشي.
كان أبو قتادة رضي الله عنه في عمرة الحديبية غير محرم، قيل: لأنه كان قد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مهمة فلم يخرج معهم في تلك العمرة، وإنما التقى معهم في الطريق، وقيل: لأنه كان طليعة للمسلمين عند قدومهم على مكة، والحاصل: أنه رضي الله تعالى عنه كان مع أصحابه في المهمة التي بعثه إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان بعضهم قد أحرم وبعضهم لم يحرم، فرأى حمار وحش فأراد أن يشد عليه فسقط سوطه، فقال لبعض إخوانه المحرمين: ناولني السوط، فقال: إنا حرم، فانطلق وأتى بحمار الوحش -ومعلوم أنه رجل غير محرم، والصيد جائز لغير المحرم إذا صاده لنفسه أو لغير المحرم- فلما أتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم سأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه: (هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء؟ قالوا: لا، قال: فكلوا ما بقي من لحمه) والبعض يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم أكل منه، والبعض الآخر يقول: لم يأكل؛ لأنه جاء في بعض الروايات أن أبا قتادة صاده لرسول الله صلى الله عليه وسلم حينما يأتي، والمحرم لا يأكل الصيد الذي صاده بنفسه أو صاده غيره من أجله، وينص النووي وغيره في مناسك الحج: لو أن قرية من القرى يمر عليها الحجاج وهم محرمون، وفيها الذبائح واللحم، فقام أرباب الصيد وذهبوا واصطادوا وجاءوا بلحم الصيد للبيع، وعلم المحرم أنهم صادوه من أجله ولو للبيع عليه أو للهدية، فلا يجوز له أن يأكل من ذلك؛ لأنه صيد من أجله، أما إذا صاده ابتداء لنفسه أو لأهله، وحضر محرم هذا اللحم أو هذا الطعام ولم يشارك لا هو ولا جنسه من المحرمين، فله أن يأكل من هذا اللحم.(168/9)
حكم أكل المحرم من لحم الصيد إذا اضطر إليه
وهنا يبحث العلماء: إذا لم يجد المحرم طعاماً إلا الصيد، فهل يباح له كما أبيحت الميتة لغير المحرم؟ وإذا وجد ميتة ووجد صيداً ووجد غير صيد من بهيمة الأنعام مملوكة للغير، فهل يأكل الصيد؟ أم يأكل الميتة للرخصة؟ أم يأكل من مال الغير؟ كثير من العلماء قالوا: لا يأكل الصيد، وله أن يأكل من الميتة؛ لأن الصيد محرم على كل حال ولم يأت فيه استثناء في حالة الاضطرار كما جاء في الميتة؛ ولأن الميتة جاءت فيها رخصة مستقلة، وقالوا: الصيد حرم على المحرم على الإطلاق في كل زمان ومكان، والميتة محرمة إلا على المضطر، فقالوا: يأكل من الميتة ولا يأكل من الصيد، فضلاً عن أن يقتل الصيد وهو حي، وهذا يدل على التشديد في تحريم لحم الصيد للمحرم.
ثم جاء الحديث الآخر بأن الصعب أتى بحمار وحش أو بلحم حمار، أو حمار وحشي -بأي لفظ كان من هذه الألفاظ- وفي بعض الروايات: يقطر دمه، فقدمه للنبي صلى الله عليه وسلم هدية، فرده عليه صلى الله عليه وسلم، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم تغير وجه الصحابي لأن الرسول رد هديته، ولم يعلم الحكم، فجبراً لخاطره أزال عنه هذا الأثر وقال: (إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم) أي: محرمون، والمحرم لا يأكل الصيد الذي صيد من أجله، ففي حديث أبي قتادة رخص لهم أن يأكلوا ما لم يشارك أحد منهم في صيده، وهنا لم يسأل، ولكن رده ابتداء، وهنا قالوا: هل يمنع المحرم من أكل الصيد مطلقاً، أم لا يمتنع منه إلا إذا شارك فيه؟ في حديث أبي قتادة لم يشارك فيه أحد، فأكلوا منه، وهنا لم يسأل، قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرده عليه إلا لأنه تيقن أو غلب عليه الظن أن هذا لم يأت بحمار الوحش يقطر دمه إلا من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كانت القرائن محتفة بأن هذا الآتي لم يأت بهذا الحمار إلا من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم رده عليه؛ لأن المحرم لا يأكل ما صيد من أجله، وبهذا يجمع بين الحديثين؛ فيقال: في الحديث الأول أباحه لأنه لم يصده من أجلهم، ولا شارك أحد منهم في صيده، وفي الحديث الثاني غلبة الظن أنه صاده من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا رده صلى الله عليه وسلم.
وهنا ينبغي الاستفادة من جانبين: جانب تحريم الصيد على المحرم، وجانب جواز أكل لحم حمار الوحش، والفرق بينه وبين الحمار الأهلي، مع أن كليهما حمار، فالجنس واحد والفصيلة واحدة.(168/10)
من حكم تحريم النكاح والصيد على المحرم
يقول بعض العلماء الذين تكلموا في حكمة التشريع: لقد تبين لنا بالتتبع أن كل خطوة في الحج وراءها حكمة وموعظة، وفيها توجيه وتهذيب للنفس الإنسانية، فإذا نظرنا -كما تقدم- في قضية زواج النبي صلى الله عليه وسلم من ميمونة، وأن المحرم لا يتزوج ولا يزوج، وبالتالي {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} [البقرة:197] ، والرفث: هو الحديث في شأن النساء عند النساء، فإذا كان الحديث ممنوعاً؛ فمن باب أولى الوطء، وقد أجمع العلماء على أن من وطئ بعد الإحرام وقبل الوقوف بعرفة فقد فسد حجه، وعليه أن يمضي في فاسده وأن يحج من عام آخر، وذكروا أن المحرم يقترن بحليلته قرابة العشرين يوماً أو الشهر، فإنه يخرج من ذي الحليفة -مثلاً- ميقات المدينة، وهو أبعد المواقيت، ويظل حتى يصل إلى مكة تسعة أو عشرة أيام، ثم بعد ذلك إلى عرفات، ثم الرجوع إلى مزدلفة ومنى وحتى يطوف بالبيت هذه تأخذ سبعة أيام، فيظل قرابة العشرين يوماً وهي قرينته في ركوبهما على البعير وفي أكلهما وشرابهما، وفي كل لحظة وهما مختلطان معاً، ومع ذلك يستطيع أن يمسك نفسه وأن يتعالى ويبتعد عنها مع موجب الحليِّة وهي الزوجية، فقالوا: هذا تمرين وتعليم له، وتهذيب للنفس وتربية لها على العزيمة على ترك الحلال حينما يطلب ذلك منه، فإذا رجع إلى بلده ولم يكن هناك إحرام ولكن هناك التحريم عن الأجنبيات والخلوة مع الأجنبية ساعة أو ساعتين، ففي الحج استطاع أن يمسك نفسه مع الخلطة الكاملة، وهذه الأجنبية لا تتاح له الفرصة بالخلوة معها أكثر من نهار، فإذا كان قد استطاع أن يتماسك عن الحلال عدة أيام، فمن باب أولى أن يستطيع أن يتماسك عن المحرم بضع ساعات، ففي هذا تهذيب للنفس.
وقالوا: كذلك في الصيد، فهو أحل الحلال؛ لأن الشاة التي تربيها وتذبحها أنت مسئول عن رعايتها: من أين جئت بالعلف؟ ومن أين جئت بثمنها؟ لكن الصيد لست مسئولاً عن شيء فيه، وهو هدية لك من الله سبحانه وتعالى، وكذلك النفس تنشرح وتنهض للظفر به، وهو من ملك الله، ومع ذلك فإن الحلال يصطاد ويأكل والمحرم يلبي ولا يأكل.
قالوا: لأنه إذا استطاع أن يكف يده عن هذه الغزال في البر وهي ملك لله، وهو أحق بها من غيره، فإذا رجع إلى بلده فلا يمكن أن تمتد يده إلى مال أحد من المسلمين بغير حق؛ لأنه درب وكف يده عن أحل الحلال في الخلاء بوجود حرمة الإحرام، وهو الآن يكف يده عن حلال غيره لحرمة التحريم.
إذاً: تحريم الصيد على المحرم ليس تقتيراً عليه ولا تهاوناً بشأنه، ولكن تدريباً لنفسه على أن يكف يده عن الحرام، فإن هذا محرم بالإحرام، وهذا محرم بالتحريم.(168/11)
كتاب الحج - باب الإحرام وما يتعلق به [4]
أجاز الشارع للمحرم قتل الفواسق الخمس ولو كان ذلك في الحرم، وهي: العقرب، والحدأة، والغراب، والفأرة، والكلب العقور، وألحق بها بعضهم الحية.
ويجوز للمحرم أن يحتجم، وإذا فعل محظوراً من محظورات الإحرام لعذر، كحلق الرأس ونحوه، فعليه فدية: ذبح شاة، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع.(169/1)
الأشهر الحرم والحكمة منها
لقد نهى الله سبحانه وتعالى الأعراب أو سكان البوادي أو من يقعون على طريق الحجاج، ويسوقون الهدي معهم، وقال لهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ} [المائدة:2] (لا تحلوا الهدي) ، أي: لا تأخذوه ولا تؤذوه؛ بل اتركوه يمضي آمناً.
وهنا أمر يلفت النظر وهو أن العرب في الجاهلية قديماً كانوا يعظمون الأشهر الحرم فلا يقتلون فيها ولا يقاتلون ولا يقتصون، وربما يلقى الرجل قاتل أبيه أو قريبه فلا يمد يده عليه؛ لأنهم في الأشهر الحرم، وغزوة نخلة وما ترتب عليها من الأمور أمرها معروف.
وهنا هؤلاء الذين يتصيدون الناس، ويقطعون الطريق، إذا مر عليهم الهدي مقلداً مشعراً ليس معه من يدافع عنه كفوا أيديهم؛ لأنه هدي يساق إلى الكعبة؛ فلحرمة الكعبة ولكونه هدياً يكفون عنه، وأنت أيها المحرم يجب أن تبادلهم هذا الأمر، فإنهم قد حفظوا لك هديك، وتركوه يمضي آمناً، فاترك لهم الصيد الذي يعيش في بلدهم وفي منطقتهم؛ لأنهم أحق به منك، وإنما أنت وافد عليهم، فلا ينبغي أن تقتل الصيد وتذهب وتتركهم جياعاً، فكما أمنوا لك هديك فأمن لهم صيدهم.
ومن العجيب أن الأشهر الحرم -ذا القعدة وذا الحجة والمحرم ورجب الفرد- متزامنة مع أشهر الحج: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] وهي بالإجماع: شوال وذو القعدة وذو الحجة، فهذه أشهر القدوم إلى مكة، وينتهي الحاج من حجه في منتصف ذي الحجة، ويعود إلى بلده، فالله سبحانه وتعالى دعا الناس إلى حج بيته وقد كان الناس يقطعون السبيل، فنشر لهم الأمن في سفرهم تحت مظلة أمن الأشهر الحرم؛ ولهذا فإن الحاج يأتي من أقصى الجزيرة شرقاً وغرباً من الخليج العربي إلى البحر الأحمر، ويقطع المسافة في شهر أو شهرين على قدر حالة المسير، فيبدأ من أول شهر شوال، فإذا ظهر هلال شوال وأفطر الناس في عيد الفطر جاز الإهلال بالحج زماناً، فيكون أمامه شوال وذو القعدة وجزء من ذي الحجة، فيأتي من دول الخليج ومن وراء دول الخليج إلى مكة آمناً مطمئناً، فإذا وفّى حجه وانتهى أصبح عنده ذو الحجة والمحرم، وهذا يرده إلى بلده في أقصى الجزيرة؛ فيكون آمناً في سفره إلى مكة وفي العودة إلى بلده.
إذاً: الحاج مضمون له الأمن في مسيره، وعليه أن يكون أميناً على ما يلقاه في طريقه، فتزامن الحج مع الأشهر الحرم مع تحريم الصيد مع احترام الهدي، وكلها وحدة متكاملة.(169/2)
تحريم الحمر الأهلية والحكمة من ذلك
إن فصيلة الحيوان تتفق في ماهيتها، فالإبل كلها على وجه الأرض فصيلة واحدة؛ أبو سنامين وأبو سنام واحد، والصغير والكبير سواء.
والحمر تنقسم إلى قسمين كما قيل: أهلي ووحشي، فالجنس واحد، والوحشي صيد وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يأكلوا منه، وصيده مشهور ومعروف، وفي عام خيبر حرمت الحمر الأهلية وبقيت الوحشية على أصل الحل والإباحة.
وهنا يأتي السؤال: ما الذي فرق بين أبناء الجنس الواحد وهي الحمر، فهذا حلال وهذا حرام؟ وما هو الموجب أو السبب في ذلك؟ لأن بعض الناس يطعنون في الشريعة ويقولون: إن الشريعة تفرق بين أفراد الجنس الواحد، وتفرق بين المتساويين، والتفريق بين المتساويين لا يصح عقلاً، كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: (يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام) قالوا: فهذا بول وهذا بول، وهذا آدمي وهذه آدمية، وهذا طفل رضيع وهذه طفلة رضيعة، فلم فرق بينهما؟ حتى قال بعض المسلمين: لا فرق في ذلك، ويذكر عن بعض المالكية أنه يغسل الجميع، ولكن فيما بعد ثبت من الناحية الكيميائية: أن هرمون الأنوثة يغاير هرمون الذكورة فيتأثر به البول، وأن طبيعة بول الأنثى ثخين يحتاج إلى غسل، وطبيعة بول الذكر أقل كثافة فيكفي فيه الرش، مع أنه لا يتوقف التشريع على المعامل الكيميائية والتحليلات ونحوها، فإن الشرع جاء لأمة أمية لم تدخل إلى مختبرات ولا إلى معامل، فما جاء عنه صلى الله عليه وسلم نقبله من دون أي نقاش أو اعتراض.
وهنا قالوا: لماذا حرم لحم الحمار الأهلي وبقي لحم الحمار الوحشي على حليته وهما شيء واحد؟ قالوا: إن للغذاء تأثيراً على جسم الإنسان، وهناك بعض الناس يسمون النباتيين، لا يأكلون اللحم أبداً، ويقولون: إن اللحم لحيوان، وهذا يؤثر على طباعنا ويأكلون مما تنبت الأرض، وهناك أشخاص يعيشون على الألبان، والذي يهمنا أنه باتفاق علماء التغذية والأطباء أن كل نوع من الأطعمة له تأثير على الجسم في خصائصه وغرائزه، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم الأمر بالوضوء من لحم الإبل وعدم الوضوء من لحم الغنم؛ حتى قال بعضهم: هذا أيضاً تفريق بين متساويين لحم ولحم، فقالوا: إن في الإبل خصائص كالكبر والخيلاء، وفي الشاة التواضع ونحو ذلك، وذلك لطبيعة المعاشرة، فالشخص الذي يعايش الإبل يحتاج إلى عصا متينة غليظة قوية ليضرب بها، والذي يعايش الشياه لو أشار بيده بقضيب من أراك فإن الشاة تمشي أما الإبل فقد يكابر ويعصي ويتمرد، فهناك فرق بينهما، فالذي يعايش الإبل بطبيعته وسلوكه وأخلاقه غير الذي يعايش الغنم؛ ولذا يصلح لرعي الإبل راعي الغنم قبل أن يصلح لرعي الإبل؛ ولذا حرمت الشريعة لحوم بعض الحيوانات حفاظاً على الإنسان من أن يتسرب إليه بعض خصائص تلك الحيوانات.
يقول أبو حيان رحمه الله تعالى في تفسيره عند تحريم لحم الخنزير، الخنزير فاقد الغيرة على أنثاه، وقد شاهدنا أن المكثرين من لحمه عندنا لا غيرة لهم على نسائهم.
وكان بعض العلماء يقول: كل الحيوانات كانت متوحشة حتى الخيل، ثم استؤنست ودربت على أن تعيش مع الإنسان، فالحمار حينما كان وحشياً قبل أن يكون إنسياً، كان يعيش على سعيه على نفسه، وحمايته لنفسه، ويأنف الضيم، ولا يخضع لنوع من الذلة، فلما استأنس نوع من الحمر وأصبح إنسياً أصبح ينتظر العلف من صاحبه، ويحرسه صاحبه ويستذله، حتى إن الطفل الصغير ليضربه ويحمل عليه وينقاد له، حتى قيل: ولا يقيم على ذل يراد به إلا الأذلان عير الحي والوتد عير الحي: هو الحمار، فهو صبور، ويضرب به المثل في الصبر، وفيه طبع اللآمة؛ لأنه إذا عرف أن الذي يقوده طفل صغير تلاءم وتعاجز وتناوم وتقلب في التراب، وإذا وجد الجد ممن هو معه شمر ونشط وخاف، ففيه الذلة واللآمة، وأصبح يضرب به المثل في البلادة؛ رغم أن عنده الفهم للطريق أكثر من الإنسان، ومعرفته للطريق أكثر من معرفة الإنسان إياها، فإن الحمار إذا مشى طريقاً ولو عشرات الكيلومترات وأراد أن يمشيه مرة ثانية فلا يمكن أن يضل الطريق أبداً، ولذلك فإن أهدى المخلوقات إلى الطريق هو الحمار، لكن في الأشياء الأخرى: كالعيس في البيداء يقتلها الضمأ والماء فوق ظهورها محمول قال تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5] ولا يدري عنها شيئاً.
فقالوا: حرمت الحمر الأهلية لما لها من صفات ليست موجودة في الحمر الوحشية؛ لأن الحمار الوحشي يعتمد على نفسه، ويقول الدميري صاحب كتاب الحيوان: إن حمار الوحش الأنثى إذا ولدت كسرت رجل تولبها - والتولب: الحمار الصغير الذي تلده- ليبقى في جحره لا يخرج إلى أن يشب ويكون قادراً على الجري سريعاً، فإذا ما خرج من جحره ولقيه وحش ليفترسه استطاع أن يفلت بالجري.
إذاً: هو يقوم على حماية نفسه ويسعى على علفه ومرعاه، فهو لا يحمل منة لأحد، ولا يخضع لذلة عند أحد، فسلم مما ابتلي به الحمار الإنسي.
ومن هنا: نعلم أن الشريعة ما حرمت شيئاً إلا لمضاره ومفاسده، وعلى هذا جاءت المناسبة في هذا العرض فيما يتعلق بالحمار الوحشي والحمار الأهلي أو الإنسي، وكان تحريمها يوم خيبر، والله تعالى أعلم.(169/3)
الخمس الفواسق اللاتي يقتلن في الحل والحرم
قال المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خمس من الدواب كلهن فواسق يقتلن في الحل والحرم: العقرب، والحدأة، والغراب، والفأرة، والكلب العقور) متفق عليه] .
من دقة المؤلف رحمه الله أن ذكر هذا الحديث بعد الحديث الدال على تحريم الصيد على المحرم، وما دام أن المحرم لا يمد يده على الصيد، فماذا يفعل في المؤذيات؟ يقتلها فكما أنه ذكر تحريم الصيد على المحرم، والصيد قتل الحيوان المباح، ذكر هنا الاستثناء وقال: أما المؤذيات فاقتلها.
والفواسق: جمع فاسق، كفوارس جمع فارس، والفاسق في اللغة: ما خرج عن طريقه، وسميت الفأرة فويسقة؛ لأنها تخرج عن طريقها وتضرم على الناس بيوتهم -أي: تحرقها - ولذا أمر بإطفاء السراج عند النوم؛ لأنهم كانوا قديماً يستضيئون بالمسرجة، وقد كان يوجد البعض منها هنا في المدينة، وهي تأتي على شكل قناديل من الزجاج مستديرة تشبه البطيخة مفتوحة من الأعلى، وهذه كانت مسارج المسجد النبوي، وكان يوضع فيها الزيت ويؤتى بالفتيل ويلقى طرفه في الزيت والطرف الآخر على حافة المسرجة ويشعل فيه الضوء، فيستجر من الزيت كما تفعل الشمعة، ويستضاء به، فتأتي الفأرة وتريد أن تشرب هذا الزيت، والمسرجة صغيرة، وهي تخاف من النار، فتأتي بذنبها وترفع الفتيل من المسرجة وتلقيه خارجاً عنها، والنار مشتعلة فيه فيحرق ما سقط عليه، فهذا هو فسقها، والعرب تسمي كل من خرج عن طريقه السوي: فاسقاً.
ويقولون: فسقت النواة عن الرطبة، وذلك إذا أردت أن تأخذ القمع خرجت معه النواة، وفسقت الحبة عن الرحى، عندما يطحنون الحب بالرحى ويكون الحب كثيراً؛ فتتناثر الحبيبات وتبتعد عن الرحى ولا تطحن، فيقولون: فسقت الحبة عن الرحى؛ لأنه كان المفروض أن تبقى الحبة في الرحى حتى تطحن.
وفي اصطلاح الشرع: الفاسق من خرج عن الصراط السوي إلى بنيات الطريق فيما نهي عنه.
وقوله: (يقتلن في الحل والحرم) أي: أن حرمة الحرم لا تحرمها ولا تمنعها؛ بل يجوز قتلها مع وجود حرمة الحرم، وكذلك حرمة الإحرام لا تمنع هذه الفواسق من أن يقتلها المحرم.
إذاً: تلك الفواسق يقتلها في الحرم المحرم وغير المحرم، وكذلك خارج الحرم يقتلها المحرم وغير المحرم.(169/4)
العقرب من الفواسق
ثم بدأ صلى الله عليه وسلم يذكر هذه الفواسق فقال: (العقرب) لفظ العقرب يطلق على المذكر والمؤنث، وقد يلحق به التاء فيقال: العقربة على المذكر والمؤنث، وهي دابة معروفة، وهي سامة، وهي من المؤذيات، فتقتل في الحل والحرم وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي، فلدغته العقرب وهو يصلي، فأمسكها بيده وقال: (قاتل الله العقرب؛ لا تدع مصلياً ولا غير مصلٍ) .(169/5)
الحدأة من الفواسق
قوله: (والحدأة) الحدأة كما يقولون: من جوارح الطير، فهل يلحق بالعقرب بعض الحشرات المؤذية كبعض العناكب أو الوزغ؟ والحدأة هل يلحق بها نظيرها من الصقور والشاهين والبازي ونحو ذلك؟ قالوا في الحدأة: إنها تخطف اللحم، وقد ذكروا أن جارية مملوكة كانت عند قوم في المدينة، فضاع لابنتهم عقد، قالت: فاتهموني فيه وفتشوني حتى ما بين رجلي، فلم يجدوا شيئاً، وهم كذلك وإذا بالحدأة تأتي وترمي هذا العقد من أعلى؛ لأنه كان في خرقة حمراء، فظنت الحدأة أنه لحم فاختطفته، وقد ذكرت هذه القضية عند عائشة رضي الله عنها.
والحدأة تخطف صغار الطيور، كفراخ الدجاج والحمام، وتخطف اللحم من الأطفال، فهي مؤذية، فهل يلحق بها من كان من جنسها بجامع الإيذاء أم أنه لا يتعدى النص؟(169/6)
الغراب من الفواسق
قوله: (والغراب) الغراب ينقسم إلى قسمين: غراب الزرع، والبعض قد يسميه: أبا قردان، وهو أبيض ناصع، وقد يوجد على ظهره أو على رأسه نوع من الحمار يشبه الحناء.
وغراب أسود، وهو قسمان: أسود كله وأسود أبقع، والأبقع سواده أقل من الأول، وبين جناحيه بياض، قالوا: فهذا مؤذ يقارب الحدأة في إيذائه.
أما الغراب الأبيض، فيسميه أصحاب الأراضي الزراعية: صديق الفلاح؛ لأنه حينما يسقى الزرع بالماء تظهر الحشرات الكامنة في الأرض، فعند ذلك يصيدها ويأكلها وكأنه مبيد للحشرات، فالغراب المقصود في الحديث: هو الغراب المؤذي وليس غراب الزرع.(169/7)
الفأرة من الفواسق
قوله: (والفأرة) الفأرة سماها صلى الله عليه وسلم: الفويسقة، وهي معروفة، وهي محرمة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مضارها، فتقتل كذلك.(169/8)
الكلب العقور من الفواسق
قوله: (والكلب العقور) بعض العلماء يجعله اسماً لنوع من الحيوانات، والبعض يجعله اسماً لكل حيوان يفترس، وقد جاء في قصة أحد المشركين حينما دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (اللهم سلط عليه كلباً من كلابك) ، وكان هذا المشرك قد سمع بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج مع أناس في سفر، فنزلوا أرضاً مسبعة يكثر فيها السباع، فقال: والله إني لأخشى على نفسي من دعوة محمد، فقالوا: لا تخف نحن نحيطك، فناموا حوله وهو في الوسط، فجاء أسد في الليل وقفز إلى وسط الدائرة واختطفه وذهب به، فالأسد كلب من الكلاب، فقالوا: كل ما يعدو بنابه فهو كلب، ويشمل ذلك الأسد والفهد والنمر وغير ذلك.
والكلب العقور بخلاف الكلب المسالم المعلم الذي لا يعقر ولا يعتدي، قالوا: فما دام أنه لا يعتدي ولا يعقر فليس فيه صفة الإيذاء بل قد ينتفع به، فبعضهم قال: يلحق بالكلب العقور الذئب؛ لأنه مؤذٍ، وكذلك الثعلب والأسد.
إلخ.(169/9)
الحية من الفواسق عند بعض الفقهاء
وهناك من يزيد في هذا الباب: الحية؛ لأنها مؤذية، وجاء وقد جاء أن بعض الصحابة كانوا جالسين في منى، فخرجت عليهم حية، فأرداوا قتلها فهربت وفاتتهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (كفيت شركم، وكفيتم شرها) ، فقد أرادوا قتلها فلم يمنعهم، وهناك آثار الله أعلم بصحتها، منها: (من رأى الحية ولم يقتلها برئت منه كذا وكذا ... ) وفيه الحث على قتل الحيات.
ويجب التنبيه على ما يستثنى من بعض أنواع الحيات وفي المدينة خاصة، فقد جاء أنه في غزوة الخندق استأذن رجل النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى بيته في المدينة -وكان حديث عهد بعرس - فأذن له وقال: (خذ سلاحك إني أخشى عليك بني قريظة) ، فذهب، فلما وصل إلى زوجته وجدها بين عضدي الباب، فهم بأخذ رمحه ليطعنها بسبب وقوفها على هذه الحالة؛ لأن هذا كان بعد نزول الحجاب، فإن الحجاب كان في السنة الثانية وهذا الحادث كان في السنة الرابعة أو الخامسة، فقالت له: لا تعجل، رد عليك رمحك وادخل إلى بيتك وانظر ما في فراشك، فدخل فإذا حية متمددة على طول الفراش، وقيل: ملتوية على وسطه، فاخترطها برمحه ثم أخذ الرمح وركزه في عرصة البيت، يقولون: فانتفضت الحية وسقط هو ميتاً، تقول زوجته: والله لا أدري أيهما كان أسرع موتاً، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (إنها من الجن، وقد انتصر لها قومها - لأنه لم يسم الله حينما طعنها-إذا رأيتم شيئاً من هذه الحيات في بيوتكم فلا تقتلوها حتى تؤاذنوها ثلاثاً) أي: يقال لها: اذهبي عنا ثلاث مرات، لكن هل يكون هذا في أول ظهورها أم حينما تظهر المرة الأولى والثانية والثالثة؟ قالوا: الثلاث مرات في أول رؤيتها، لأننا لا ندري بعدها ماذا يحدث، فإن ذهبت فاتركها، وإن لم تذهب فاقتلها.
واستثني من ذلك نوعان: الصفراء أو الرقطاء، وهي التي يكون على عينيها نقطتان صفراوان، كاللتين تكونان على عيني الكلب الأسود.
والبتراء: وهي القصيرة؛ لأن البتراء إذا نظرت إلى الحامل أسقطت حملها، وكذلك ذات الطفيتين، فإن سمها سم ساعة لا يعطي فرصة لعلاجه أو تداركه، فأمر صلى الله عليه وسلم أن تؤذن الحية البيضاء، ولم يأمر بأن تؤذن الرقطاء ولا البتراء.
إذاً: هذه خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم، وذكروا أن الحية تكون سادسة، ويستثنى من ذلك في المدينة خاصة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن المدينة ليهاجر إليها مسلمو الجن كما تهاجرون أنتم إليها) .(169/10)
الحكمة من قتل الخمس الفواسق في الحل والحرم
وماذا نستفيد من قتلهن في الحل والحرم؟ نقول: إن المسلم مهما كان في إسلامه وفي ديانته وورعه وزهده وطيبته إنما يكون سلماً لمن سالم وحرباً على من حارب، فهو محرم لله يقول: لبيك اللهم لبيك، فهو يكف يده عن الصيد الحلال، وهو خارج في طاعة الله وعبادته، لكن إذا واجهه شيء لا يؤذي فلا يستسلم له، بل يقتل ويقاتل إذا ما اعتدي عليه، وهكذا المسلمون يجب أن يتعلموا من هذا التحليل والتحريم أن يقفوا مع كل موقف بما يناسبه، فإذا جاء واعتدى عليهم قوم فلا يقولوا: نحن مسلمون، ولن نؤذيهم أو نعتدي عليهم، فإن هذه ليست صفات الكمال في الرجال، بل كما قيل: نسالم من سالمنا، ونعادي من عادانا.
وهذا هو الواجب على المسلم، وهذا ما يفيده هذا الموقف من إباحة قتل الفواسق والمؤذيات وإن كان محرماً وفي الحرم؛ لأن حرمة الحرم لا تعيذ المؤذين.
ثم يأتي البحث الآخر بما يتعلق بالاعتداء في مكة، وسيأتي في حديث حرمة مكة وأن الله حرمها وأباحها لرسوله، وهل يستثنى من ذلك شيء أم لا؟ وبالله تعالى التوفيق.(169/11)
شرح حديث: (احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم)
قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم) متفق عليه] .
يسوق المؤلف رحمه الله تعالى هنا خبر احتجام الرسول صلى الله عليه وسلم وهو محرم، وما علاقة الحجامة بالإحرام؟ أولاً: الحجامة نوع من الطب القديم، وهي: إخراج الدم من الجلد عن طريق تشريطه وجذبه بالهواء، وهناك الفصد وهو: إخراج الدم من العرق عن طريق قطعه أو خرقه.
وهناك كما يقال: كاسات الهواء، وهو سحب الرطوبة المتجمعة تحت الجلد.
أما الحجامة فهي تدخل في كثير من أنواع العلاج، وقد احتجم صلى الله عليه وسلم وحث على الحجامة في أمور متعددة، وقد أطال ابن القيم رحمه الله فيما يتعلق بالتداوي بالحجامة، وأين تكون، ومما ينبغي التنبيه عليه: النهي عن الحجامة في الثالث والرابع والخامس عشر من الشهر؛ لأنها ليالي اكتمال الهلال، فيكون هناك شدة المد والجزر في البحار، فإذا احتجم في تلك الليالي، فيكون خروج الدم من الجسم أشد من المعتاد، وبالمناسبة يقول بعض الأطباء: إن من الحكمة في تعيين صيام الأيام البيض -التي هي الثالث والرابع والخامس عشر من كل شهر- إنما هي لهذه الحكمة؛ لأن أسباب المد والجزر في البحر بسبب القمر، فيكون هيجان الدم في الجسم كهيجان الماء في المحيطات، فإذا صام في تلك الأيام يكون الصوم أدعى لخفة هذا الهيجان في جسم الإنسان.
فالحجامة تفيد من أمراض عديدة، وقد حددوا لها أوقاتاً، وعينوا لكل مرض محلاً يحتجم فيه، وهي من الطب العربي القديم.
ويقولون: سوق هذا الحديث هنا ليدل على أصل التداوي، فالمحرم كما يتداوى بالحجامة فإنه يتداوى بغيرها من الأدوية المشروعة النافعة، ولكن الحجامة من حيث هي تحتاج إلى تشريط البشرة تشريطاً خفيفاً، وتارة تكون في موضع منبت الشعر كنقرة القفاء، وهذه يحذرون منها لأنها تؤثر على العين وعلى الدماغ، لكن لها صلة بالأكحل أو غيره، وكذلك على الفخذ إذا كانت الحجامة للمحرم تحتاج إلى إزالة بعض الشعر للتشريط أو لتركيب المحجم وشفط الدم؛ لأن الشعر يعمل فجوات يتخلل منها الهواء فلا يتوجه إلى الدم مباشرة، فإن كانت الحجامة للمحرم في موضع فيه شعر، وكانت الحاجة إليها مطلوبة، فله أن يحلق من شعره وهو محرم من أجل الحجامة ولا إثم عليه، وعليه كفارة هذا الحلق.
وإذا كانت الحجامة لغير حاجة؛ فإنه يكون آثماً، لحلق الشعر بدون حاجة، وعليه دم.
أما إذا كان موضع الحجامة في الإحرام لا شعر فيه كما يكون في بعض الحالات على ظاهر الكف، أو على الساعد، أو على الكتف ولا تحتاج إلى حلق شعر؛ فله أن يستعملها ولا شيء عليه؛ لأن الفدية من أجل حلق الشعر.
إذاً: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم، والحجامة من الأدوية النافعة المستعملة، فإن احتاجها المحرم فلا مانع في ذلك، كما أن له أن يداوي الجرح ويتعاطى الدواء للمرض الباطني، أو يجري جراحة أو غير ذلك، فإن سلم من حلق الشعر فلا شيء عليه، وإن احتاج إلى حلق الشعر من أجلها فيحلق المحل الذي يحتاج إليه، وعليه الفدية لما حلق من شعره، والله تعالى أعلم.(169/12)
شرح حديث كعب بن عجرة في فدية الحلق من الأذى
قال المؤلف رحمه الله: [وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: (حملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ما كنت أُرى الوجع بلغ بك ما أرى، أتجد شاة؟ قلت: لا، قال: فصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع) متفق عليه] .
هذا الحديث جاء بروايتين: هذه الرواية المتفق عليها، وفيها قال: (حملت) سواء حمل على الأيدي للمرض، أو أخذ بالقوة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (والقمل يتناثر على وجهي) طال عليه الزمن، والمحرم لا يسرح شعره، حتى قال المالكية: لا يقتل القملة، فإذا وجدها أخذها وطرحها في الأرض، وقد أثاروا مناقشة حول قتل القملة، ولا أدري ما هو السبب في ذلك كله، والبعض يقول: لا يرميها فتموت فيكون قد قتل دابة.
سبحان الله! دابة مؤذية كيف يحاسب على قتلها! والبعض يقول: القملة إذا رميت في الأرض تنمو فتصبح عقرباً، والقمل كما يقولون: أشد عنصر ينقل التيفود.
والذي يهمنا أن هذا الرجل القمل كثر في رأسه، ولا يستطيع أن يحلق شعره لأنه محرم، ولا أن يمشط القمل من شعره؛ لأن المشط ينتزع بعض الشعرات، فصبر على حاله.
وفي رواية أخرى: (مر بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أنفخ على برمة لأصحابي، فإذا به يرى القمل يتناثر من الشعر) .
فالحكم يتعلق في قوله صلى الله عليه وسلم: (ما كنت أُرى) ، (أُرى) و (أرى) كلاهما من الرؤية، ولكن الرؤية البصرية والرؤية الفكرية البصيرية، تقول: أرى هذا حلالاً، أرى هذا حراماً، أرى أن تعمل كذا، فهذه رؤية علمية وليست بصرية، وتقول: أنا أرى اللون أحمر، فهذه رؤية بصرية، و: (أُرى) بمعنى: أظن، أي: ما كنت أظن أنه قد بلغ بك الوجع إلى هذا الحد، وإلا لكنت رخصت لك من قبل، فما دام أنه قد وصل بك إلى هذا الحد فقد أصبح هذا عذراً يباح معه حلق الشعر.(169/13)
وجوب الفدية على من اضطر إلى فعل محظور
وأما إيجاب الفدية مع أنه معذور فقالوا: هو معذور رُفع عنه إثم الحلق لعذره، وفرضت عليه الفدية لحلق شعره؛ لأنه استفاد من حلق الشعر الممنوع عليه وهو محرم.
إذاً: المسألة متعادلة، فقد عذر بالمرض فلا إثم عليه، ولو حلق الشعر بدون مرض فإنه يكون متعدياً آثماً، لكن العذر أسقط عنه الإثم في حلق الشعر، واستفادته من حلق الشعر جعلت عليه الفدية مقابل هذا الشعر الذي حلقه.
إذاً: من اضطر إلى فعل محذور في الإحرام فله فعله وعليه الفدية، ومحظورات الإحرام فيها أشياء تدخلها الضرورة، وأشياء لا تدخلها.
فلو أن إنساناً معه زوجته في الحج، فهل هناك ضرورة لأن يباشرها؟ ليس هناك ضرورة، والبعض يذهب بعيداً ويقول: إذا كان مريضاً بالشبق ولا يستطيع أن يصبر، فإن هذه ضرورة، والمرأة ما ذنبها إذن؟ وهذه التقديرات البعيدة الأصل فيها أن تترك.
ومن حالات الضرورة أن تكون هناك شدة برد، فمن الضروري أن يلتحف أو يتغطى أو يلبس؛ فإن وجد ما يلتحف به-كالبطانية ونحوها- وضعه فوقه أو لفه على جسمه، وهذا ليس فيه مانع، فإنه يتقي البرد ولم يلبس شيئاً.
وإذا كان عنده صداع في رأسه، ولابد أن يربط رأسه ويلبس عليه عمامة، فهنا ضرورة، فله ذلك، كذلك إذا اضطر إلى تقليم ظفره، كما لو دق إصبعه في شيء فكسر ظفره، فقالوا: إن بقي هذا الجزء المكسور وجاء عليه الهواء فإنه قد يؤذيه، فمن أجل أن يتجنب هذا الإيذاء له أن يزيله، وعليه كفارة.
فمن اضطر إلى شيء ممنوع عليه في الإحرام فعله وعليه كفارته.
وهكذا أباح له صلى الله عليه وسلم أن يحلق شعره من أجل الأذى الذي فيه، وهنا يقول الله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة:196] يقول العلماء: هنا دلالة الاقتضاء، وابن حزم يوافق الجمهور في ذلك، والتقدير: فمن كان مريضاً أو به أذىً من رأسه، فحلق بسبب الأذى من رأسه، فعليه فدية، وابن حزم يوافق على ذلك.
لكن نجد أن ابن حزم يخالف في مثل هذا الموقف في الصوم في قوله تعالى: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ} [البقرة:184] والتقدير: فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فأفطر بسبب المرض أو مشقة السفر فعدة من أيام أخر، لكن ابن حزم يقول: إذا كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر، سواء أفطر أو لم يفطر.
ولماذا قدر هناك (فحلق) ولم يقدر الاقتضاء هنا (فأفطر) ؟ حصلت مغايرة ولا نستطيع أن نقول: تناقض، فهو إمام جليل رحمه الله، ولكن الأسلوب اختلف عنده، فهنا {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة:196] أي: فحلق، كما قال ابن حزم نفسه: لأن المرض والأذى في الرأس لا يستوجب فدية، إنما الذي يستوجب الفدية هو حلق الرأس.
ثم جاء أوسع من هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما: (من ترك نسكاً فليرق دماً) ، والنسك هنا يشمل كل أعمال الحج، قال تعالى: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة:128] لكن هناك من المناسك ما يجبر بالدم، ومن المناسك ما لا يجبر إلا بفعله ذاتياً، فالطواف والسعي والوقوف بعرفات مناسك، لكن إذا فات واحد منها لا يجبر بالدم، بل لابد من فعله، لكن المبيت بمزدلفة والمكث في عرفات حتى تغرب الشمس وأن يجمع جزءاً من الليل مع النهار، هذا واجب، ومن ترك يوماً من أيام منى، فقد ترك نسكاً، ومن ترك طواف الوداع، أو طواف القدوم، فإن هذه مناسك لكنها تجبر بالدم.
إذاً: المحرم قد يترك واجباً، وقد يفعل محظوراً، فإن كان للضرورة فلا إثم عليه وعليه الفدية، وإن كان متعمداً فهو آثم وعليه الفدية.(169/14)
مقدار الفدية لمن ارتكب محظوراً لعذر
وقصة كعب بن عجرة جاء بها المؤلف ويذكرها العلماء لبيان أن العذر يبيح إزالة هذا العذر أو سببه مقابل فدية.
فقال له صلى الله عليه وسلم: (أتجد شاة؟) وهذا سؤال الحكيم الخبير، يسأل الشخص الذي عليه المسئولية، إن كان باستطاعته أن يجد الكفارة، ثم ينتقل به إلى ما هو أسهل من ذلك وهو صيام ثلاثة أيام، ثم ينتقل به إلى الإطعام، فهو محيز بين هذه الأمور الثلاثة، وبعضهم يقول: هي على الترتيب، فلا يصوم إلا إذا عدم الشاة، فإذا وجدت الشاة فلا يجزئ الصوم، والبعض يقول: هو مخير في ذلك، فإن لم يستطع صوماً فيطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع.
يقول بعض العلماء: نصف صاع من أي طعام موجود تصح منه زكاة الفطرة، ويقول أبو حنيفة رحمه الله: نصف صاع، إن كان سيطعم من البر، وصاع كامل إن كان سيطعم من الشعير أو التمر أو الزبيب أو غيره.
والحديث لم يفرق بين طعام وطعام، وقد جعل كفارة الأذى في الإحرام أن يخير بين ثلاثة أشياء، والأولى أن يكون على الترتيب الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم.
وبالنسبة لصيام الثلاثة الأيام: هل يصومها متتالية أو متفرقة؟ يقول ابن مسعود: يصومها متتالية، ويقول غيره: تصح متفرقة، وإذا كان سيصوم في أي مكان فله لك، وفي أي وقت كان قبل عرفات أو بعد عرفات، المهم أن يصوم بعد أن يزيل الأذى.
فإذا انتقل إلى الإطعام؛ فإن الإطعام يكون في الحرم بمكة، فالنحر والهدي والفدية وكل ما يتعلق بجزاء في الحج أو العمرة فإن محل إطعامه هم أهل مكة، قال تعالى: {هدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] ، وكذلك يقاس عليه كل ما يكون إنفاقاً أو إطعاماً بسبب الحج أو العمرة فإنما هو لأهل مكة.
وتتمة لما تقدم في قضية كعب: إذا أحس المحرم بألم في الضرس فله أن يتداوى، وكذلك لو أحس بألم في العين أو الأذن فله أن يضع القطرة، وله أن يقلع ضرسه، لكن إذا في بدنه شيء من دماميل فهل له أن يفتحه ويخرج ما فيه من الأذى أم لا؟ وإذا أصيب في رأسه وجاء بعصابة وعصبها على الجرح، فهل يكون قد غطى رأسه أم يكون عاصباً له؟ وهل يلزمه في ذلك شيء؟ والباب في هذا واسع، والمراد التنبيه على أصل المسألة في أمر الحجامة، وفي إزالة الأذى.(169/15)
كتاب الحج - باب الإحرام وما يتعلق به [5]
لقد جعل الله سبحانه وتعالى لمكة مكانة عظيمة، ومنزلة رفيعة، فقد حبس عنها الفيل وأصحابه، ولكنه سلط عليها رسوله والمؤمنين، وهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإنها لم تحل لأحد قبله، ولن تحل لأحد بعده، ومن عظيم مكانتها أن الله تعالى حرمها من يوم خلق السماوات والأرض إلى يوم القيامة، فلا يحل لأحد أن يسفك بها دماً، ولا أن ينفر صيدها، أو يختلي شوكها، أو يقطع شجرها، ولا يجوز أن تؤخذ لقطتها إلا لمن أراد أن ينشدها ويعرف بها.(170/1)
شرح حديث حرمة مكة
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما فتح الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنها لم تحل لأحد كان قبلي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وإنها لن تحل لأحد بعدي، فلا ينفر صيدها، ولا يختلى شوكها، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين، فقال العباس: إلا الإذخر يا رسول الله! فإنا نجعله في بيوتنا وقبورنا، فقال: إلا الإذخر) متفق عليه] .
هذا الحديث وهو حديث حرمة مكة يتناول عدة مسائل، ولنأخذ الحديث جملة جملة، ثم سنأخذ بعض الجوانب التي تحتاج إلى تنبيه وييسر الله تعالى أمرها.(170/2)
دخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً
قوله: (لما فتح الله على رسوله مكة) لم يقل: لما فتح رسول الله مكة؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي فتحها عليه، وهل فتحت مكة عنوة أو صلحاً؟ في ذلك خلاف بين العلماء، ويترتب على ذلك الخلاف في رباع مكة، فمن قال: فتحت صلحاً فليست هناك غنائم، وليست هناك قسمة غنيمة، وإن افتتحت عنوة فهي غنيمة وهي حق للمقاتلين، وكما قال والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه: من قال: فتحت عنوة فله وجه، ومن قال: فتحت صلحاً فله وجه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما دخل مكة دخل متواضعاً لله سبحانه وتعالى، حتى إن جبينه ليمس قربوس راحلته تواضعاً لله على نعمة فتح مكة عليه.
وإذا تأملنا السيرة النبوية نجد أنها كعقد متراص كل حلقة تأخذ بعجز الأخرى، وكل غزوة من غزواته صلى الله عليه وسلم أو سرية من السرايا نجد أنها تجر ما بعدها، وهكذا تترتب الغزوات ترتب النتائج على أسبابها.
لقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة بعشرة آلاف، ودخل من أعلاها، فحينما أراد الدخول قالوا: من أين تدخل يا رسول الله؟ لأن مكة لها مدخلان كَداء وكُداء، فقال: (انظروا ماذا قال حسان) ، وهنا تكريم للشاعر الإسلامي حسان بن ثابت رضي الله عنه؛ لأنه قال هاجياً أبا سفيان ومدافعاً: عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كَداء فدخلوا من حيث قال حسان، والفقهاء يرمزون لهذا بقولهم: افتح وادخل، واخرج وضم، أي: افتح الباب، كناية عن فتح الكاف في كَداء، واخرج وضم، أي: اخرج وأغلق الباب، كناية عن ضم الكاف في كُداء.
فدخل صلى الله عليه وسلم من كَداء، وأرسل خالد بن الوليد رضي الله عنه وجماعة آخرين من الجهة الأخرى، فوجد خالد بعض الأشخاص المتحمسين من مكة، فتناوشوا، فيقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه: من قال: إنها فتحت عنوة، نظر إلى قتال خالد مع من اعترضه، ومن قال: إنها فتحت صلحاً، نظر إلى دخول النبي صلى الله عليه وسلم بدون قتال، وقال: (من دخل البيت فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل بيته فهو آمن) ، فدخل يؤمن الناس على دمائهم وأنفسهم.
إذاً: فتح الله على رسوله مكة، والناظر في تاريخ العالم لا يجد فيما يسمى بحركات الإصلاح أسرع من حركة الإصلاح في الإسلام، فإن الفتح كان في السنة الثامنة من الهجرة، وقبل ثمان سنوات خرج النبي صلى الله عليه وسلم ثاني اثنين إذ هما في الغار، وخرج متخفياً عن قومه ولجأ إلى الغار ثلاثة أيام، ثم خرج إلى الصحراء وكان يسير ليلاً ويقف نهاراً خشية الطلب، ثم بعد ثمان سنوات يرجع إلى مكة فاتحاً ويدخلها بعشرة آلاف مقاتل، هذا لم يحدث له في التاريخ نظائر أبداً.(170/3)
عفو النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل مكة
قال رضي الله عنه: (قام صلى الله عليه وسلم في الناس، فحمد الله وأثنى عليه) لما فتح الله على رسوله مكة، لم يتجبر أو يتكبر، ولم يسلب أو ينهب؛ بل إنه ضرب المثل الأعلى في الإحسان لمن أساء إليه، حينما وقف بباب الكعبة وقال: (يا أهل مكة! ماذا تظنون أني فاعل بكم؟) في هذه الكلمة يعيد عجلة التاريخ السابقة حينما كانوا يؤذونه، ويضعون عليه سلى الجزور وهو ساجد في ظل الكعبة، ويؤذون أصحابه، وها هو اليوم يقول: ماذا تظنون أني فاعل بكم بعد أن قدرت عليكم؟ وحينها تنازلوا عن ذلك الكبرياء والطغيان والإيذاء، ولجئوا إلى صلة الرحم والعطف، فقالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم.
استجداء واستعطافاً بالأخوة آلآن أصبح أخاً كريماً، وبينما عند إيذائهم له لم يكن كريماً؟! فقال صلى الله عليه وسلم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) .
فقد كانوا في يده، وكان بإمكانه أن يحكم بأخذهم أسارى، ولكن أطلقهم لله وصلة للرحم، ووفاء للموطن، ولأشياء عديدة لا يمكن حصرها في هذا المقام.(170/4)
حماية الله للكعبة من أصحاب الفيل
ومما قاله في ذلك الموقف رداً على تساؤلات في نفوسهم، وهذا فيه توجيه إلى أنه ينبغي على ولاة الأمر أن ينتبهوا لمشاعر الناس وما يدور في خلجاتهم بمقتضى القرائن، فالموقف الآن اقتحام مكة ودخولها بالسلاح، وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وعلى رأسه المغفر، أي: أنه ليس بمحرم بل مقاتل، فلما كانت الصورة صورة استباحة واستحلال مكة، وهي محرمة، يعظمون حرمتها وقد كان الرجل قبل الإسلام يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يمد يده عليه إعظاماً لحرمة الحرم، قال الله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:97] ، أي: ومن دخله من إنس أو طير أو حيوان؛ بل حتى النبات فهو آمن فيه؛ فلا يقطع شجره، ولا يختلى خلاه، ولا ينفر صيده، ولقطته محرمة، أين ذهبت هذه الحرمة؟ فهنا أزال عنهم كابوس هذا التفكير فقال (إن الله حبس) فأتى بهذه المقدمة حتى نعلم جميعاً أن مكة محرمة، وأن الله حبس عنها الفيل، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1] ، فقد جاء أبرهة بجيش عرمرم، وأتى بالفيل من أجل أن يستعين به على هدم الكعبة؛ لأنه كان قد بنى كنيسة وسماها (القليس) وزخرفها وزينها ليصرف عرب اليمن إليها بدلاً من الحج إلى الكعبة، وبالتالي يصرف القبائل المجاورة لليمن، فجاء رجل أعرابي غار على الكعبة، وأراد أن يكيد للملك، فدخل القليس وتبرز فيها، فبلغ الملك هذا الفعل، فغضب وقال: لأهدمن بيتهم الذي يعتزون به انتقاماً للقليس.
فجمع الجيش وأخذ الفيل وتوجه إلى الحجاز، وعندما وصل الطائف كان هناك الصنم الذي يعبدونه، فقالوا له: ليس هذا الذي تريد، مطلبك أمامك، وأخذ دليلاً من الطائف يدله على البيت الحرام، فلما وصلوا إلى وادي محسر ونزلوا، جاء الدليل الذي يدلهم على مكان البيت وهمس في أذن الفيل وقال: يا محمود! أتدري إلى أين أنت ذاهب؟ إنهم يريدونك لهدم بيت الله - يقولون: أذكى الحيوانات الفرس والفيل- فلما أرادوا الذهاب أتوا إلى الفيل ليمشي فإذا به يرفض، فضربوه ولكن دون فائدة، حتى جاءوا بمحاجم من نار وكووه في مناعمه فلم ينهض، وتحمل كي النار، وكانوا إذا حولوه عن جهة الكعبة قام يهرول، فإذا قام ومشى وحولوه إلى الكعبة برك؛ فسمي: وادي محسر؛ لأن الفيل انحسر فيه.
وأعتقد أن أبرهة كان غبياً مثل فرعون، أو أن الطغيان يعمي، فإن فرعون لما رأى موسى وقومه عندما فتح الله لهم في البحر طريقاً يبساً ومشوا فيه، فلم يفكر من الذي شق لهم البحر وجعل لهم طريقاً يبساً، وجعل الماء كل فرق كالطود العظيم، فلم يعلم أنه لا يقوى على ذلك إلا الله، وأن الذي فعل له ذلك لا يفعله لكل إنسان، إذاً: فهو ليس كالناس العاديين، فاقبل رسالته، وسالمه، وابتعد عنه، واتركه يمشي في سبيله وارجع، لكنه لج في طغيانه ودخل البحر.
وكذلك أبرهة، فقد رأى أن الفيل رفض المشي، وعظم الجهة التي هو ذاهب إليها، ولم تخضعه حرارة النار، ومع ذلك لم يفكر في هذا الأمر؛ بل أصر على الذهاب، فعومل بنقيض قصده.
والفيل هو أضخم حيوان ثم يأتي بعده وحيد القرن، ثم الجمل، فهو عندما جاء بالفيل الكبير أهلكه الله بطير أبابيل تحمل الحجارة، كل طائر يحمل ثلاثة أحجار، إذا أسقط الطائر هذا الحجر على رأس أحدهم وهو راكب على دابته اخترقت رأسه واخترقت الدابة التي هو عليها حتى تصل إلى الأرض، فيا ترى ما هي المادة التي كانت منها هذه الحجارة حتى تخترق الفرس والفارس؟! إنها قوة عجيبة! والشيء بالشيء يذكر، يقولون: إن معدن اليود يابس مثل الكحل لكن لونه بني، إذا وضع على الحديد أحرقه، وإذا وضع على الخشب أشعل فيه النار، وإذا وضع على رصاص أذابه، وإذا وضع على الزجاج فإن الزجاج لا يحتر ولا يتأثر، فهذا معدن مستخلص من ماء البحر، ويكون له هذا الأثر مع تلك المواد ومع ذلك لا يتأثر به الزجاج، ولذا يحفظ في أواني زجاجية، والغطاء يكون زجاجاً أيضاً، وقدرة الله فوق كل شيء.
فهنا قال صلى الله عليه وسلم (إن الله حبس عن مكة الفيل) ، وكذلك في صلح الحديبية لما قال: (هل لنا من رجل يدلنا على الحرم ونتجنب طلائع قريش) وقال القائل: أنا، ومشوا إلى أن وصلوا إلى حدود الحل والحرم، فبركت الناقة، فقال قائل: خلأت القصواء، أي: تعبت من السفر وبركت إعياء وتعباً، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا والله، ما خلأت وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل، والله لا يعرضون عليّ خطة يعظمون فيها محارم الله إلا أجبتهم إليها) ، ولهذا تنازل معهم في مواد الصلح، حتى إن عمر غلبه الغضب وما استطاع أن يتحمل؛ لأنه كان من بنود الصلح: من جاءنا منكم نرده، ومن جاءكم منا لا تردونه علينا.
إذاً: الحيوان الأعجم يلهمه الله عظمة حرمة البيت، وبعض الناس -نسأل الله السلامة والعافية -تحجب بصائرهم وتتحجر قلوبهم ولا يرون لمكة حرمة، الفيل يعظم حرمة مكة ويبرك مكانه ولا يتحرك من كي النار، والإنسان الطاغية الجبار يخترق حرمة مكة وينتهكها ويقاتل أهلها، أرأيت مقارنة مثل هذه؟! إذاً: الحيوانات لها إدراك، وقد جاء في موطأ مالك في فضل يوم الجمعة: (وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وتصيخ بسمعها يوم الجمعة بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس شفقاً من الساعة) فما أدرى الحيوانات بالجمعة أو السبت؟ وما أدراها بقيام الساعة؟ وما أدراها حتى تصيخ بسمعها لتسمع النفخة؟ إذاً: تلك الحيوانات لها إدراك: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام:38] ، بل قد يكونون أحسن منكم، ولذلك لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى من سورة الرحمن على وفد الجن: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] ردوا وقالوا: ولا بشيء من آلاء ربنا نكذب، وقرأها على الإنس فلم يتكلم أحد، فقال: (والله للجن أحسن سماعاً منكم) .
ولما ورد كتاب من عبد الملك بن مروان إلى الحجاج، فقرأه على أهل العراق وفيه: من أمير المؤمنين إلى أهل العراق، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فما رد عليه السلام أحد، فقال لقارئه: أمسك، واستل سيفه وقال: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني ويحكم! الخليفة يسلم عليكم ولا تردون عليه السلام، إني لأرى رءوساً قد أينعت وقد حان قطافها، ثم بعد ذلك قرأ الكتاب من أوله، فقالوا كلهم: وعلى أمير المؤمنين السلام ورحمة الله وبركاته.(170/5)
حرمة مكة إلى يوم القيامة
قال صلى الله عليه وسلم: (وسلط عليها رسوله والمؤمنين) أي: في فتحها، (وإنها لم تحل لأحد كان قبلي وإنما أحلت لي ساعة من نهار) جاء في بعض الروايات ( {وقد أحلها الله لي ساعة من نهار، ولم تحل لأحد قبلي ولن تحل لأحد بعدي) .
وقوله: (لم تحل لأحد قبلي) أي: في الجاهلية وما قبلها، وتاريخ مكة طويل، لا يعلم مداه إلا الله، وقد أشار المولى سبحانه بأولية الكعبة فقال: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} [آل عمران:96] ، والكعبة موجودة قيل: من زمن آدم عليه السلام بنته الملائكة، وقيل: من زمن شيث عليه السلام، وقيل: بناه العمالقة، وقيل غير ذلك، إلى أن جاء القرآن بتاريخ إسلامي قريب، قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ} [البقرة:127] فقد كانت القواعد موجودة موضوعة، لكنها انطمست قيل: لما جاء الطوفان وغمر الكعبة، وأخذ الحجر الأسود وأخفي في أبي قبيس، حتى جاء الإسلام وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: (إني لأعلم حجراً بمكة كان يسلم عليّ) قيل: هو الحجر الأسود، وقيل: هو غيره، ثم جاء إبراهيم عليه السلام والبيت مندثر، قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج:26] ، فاندثر البيت ولم يبق له أثر، وجاء جبريل عليه السلام وبين مكانه لإبراهيم، كما جاء لـ عبد المطلب وبيّن له مكان زمزم، وقيل: إن الله أرسل سحابة في وسط النهار وقال لإبراهيم: خط عليها ثم احفر، فحفر حتى وصل إلى القواعد.
وقد جاء في الحديث الآخر: (إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض) ، وسيأتي الحديث الآخر: (اللهم إن إبراهيم حرم مكة، وأنا أحرم المدينة) ، وجمعوا بين الحديثين: بأن تحريم الله مكة حينما أمر القلم أن يكتب فكتب: إن مكة حرام؛ فهو تحريم من الله، ثم إن إبراهيم حرم مكة التحريم للناس وأعلنه وبين حدود حرمها.
إذاً: لم تحل مكة لقتال قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من خصائصه صلوات الله وسلامه عليه، ولن تحل لأحد بعده، أي: لا يحلها الله لأحد بعده، فإذا استحلها إنسان فهو معتد؛ لأنها غير حلال له.
قال: (وإن الله أحلها لي ساعة من نهار) المقصود بالساعة هنا الساعة اللغوية، وليست الساعة الزمنية التي هي ستون دقيقة، والمعنى وقتاً من نهار، سواء كان النهار كله أو أكثره أو أقله، فقد أحلها الله له أن يدخلها بسلاحه عنوة مستعداً متهيئاً للقتال، وقد وقع فعلاً بعض القتال في بعض جوانبها حينما دخل خالد بن الوليد ومن معه من الجهة التي تقابل جهة دخول النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ولن تحل لأحد بعدي) يقول ابن دقيق العيد رحمه الله: هذا يدل على أن مكة ستظل إسلامية إلى يوم القيامة؛ لأنها ستظل حراماً، والحرمة إنما هي أمر شرعي، فلا يجوز لأحد أن يستحلها أبداً.
وهنا يبحث الفقهاء فيما إذا طرأ طارئ، يقول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وفي غيره: (فإن ترخص أحد بقتالي فقولوا له: إن الله قد أحلها لرسوله ولم تحل لأحد بعده) ، وفي بعض الروايات: (وقد عادت إليها حرمتها إلى يوم القيامة) .
إذاً: حرمة مكة قديمة، سواء كانت بتحريم الله، أو كانت بتحريم إبراهيم، وتحريم إبراهيم إنما هو تحريم عن الله، أي: بلاغ عن الله سبحانه وتعالى بحرمتها.(170/6)
حكم إقامة القصاص والحدود داخل مكة
وهنا يذكر الفقهاء ويفرعون على هذا من الأحكام: لو أن أحداً قاتل في مكة فماذا يكون موقف المسلمين منه؟ هل يحرم عليهم استحلالها لأنها محرمة إلى يوم القيامة، وهذا آثم عاصٍ بقتاله فيها، أم يقاتلون من قاتل فيها؟ قالوا: إذا انتهك أحد حرمة الحرم فقد أسقط عن نفسه حرمة الأمن فيُقاتل فيها.
وقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:97] أي: بدون اعتداء، وإذا قتل إنسان إنساناً بمكة فهل يقتل أو يترك؟ الجمهور على أنه يقتص منه في مكة، ويقول الإمام أبو حنيفة: لا يقتل حتى القاتل قصاصاً بمكة، ولكن يضيق عليه حتى يُخرج أو يخرج إلى الحل فيقتص منه هناك.
وحينما أسر الصحابي الجليل خبيب بن عدي وبيع في مكة واشتراه بعض من له ثأر ودم في بدر، فلما أرادوا قتله خرجوا به من مكة إلى التنعيم وهي من الحل، وهناك صلب وقتل، فلم يستبيحوا قتله في مكة لحرمتها، مع أنهم قد اشتروه أسيراً من أجل أن يقتصوا منه لبعض قتلاهم في بدر، فتركوا قتله في مكة لحرمتها.
فهناك من يقول: إن حرمة مكة تحمي كل ذي دم وكل ذي نفس؛ لأن قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:97] عام في الإنسان والطير والحيوان حتى الشجر.
وبعض العلماء يقول: الذي ينتهك حرمة مكة؛ تزول عنه الحرمة والإيواء والأمن فيقتل، وأيضاً من جاء معتدياً وقاتل أهل مكة من البغاة والخوارج فإنهم يُقاتلون في مكة؛ لأن في ذلك دفاعاً عن النفس، ورفعاً للطغيان والبغي، ولا يؤوى إلى الحرم من كان بهذه الصفة.
وكذلك قالوا في بقية الحدود سواء كان الحد رجماً أو قطعاً أو جلداً: هل تقام في مكة أم يخرج إلى الحل وهناك يقام عليه الحد؟ قال بعضهم: يقام عليه الحد ولو كان قتلاً، واستدلوا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة؛ وذلك لأنه غدر بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاء فأسلم ثم ارتد وهجا النبي صلى الله عليه وسلم، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، فعندما أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له ( {إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، قال: اقتلوه) .
وأجاب الآخرون بقولهم: إنه قتل في الساعة التي أحلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقتل بعد أن عادت إليها حرمتها، والنقاش في ذلك نقاش فقهي.
والذي يهمنا في هذا الباب أن المحرم يحترم حرمة البيت ولا يعتدي -كما تقدم- لا على صيد، ولا على شجر، ولا على إنسان، ولا على غير ذلك.(170/7)
حكم تنفير صيد الحرم
قال صلى الله عليه وسلم: (فلا ينفر صيدها) .
من حرمتها أن لا ينفر صيدها، والتنفير: هو التخويف والإهاجة، وهنا كما يقولون: من مفهوم المخالفة وفحوى الخطاب: إذا كان الصيد فيها آمناً فلا تزعجه ولا تنفره من مكانه، فهل يجوز صيده وقتله؟ من باب قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23] ، فهل يجوز له أن يفعل أكثر من ذلك؟ لا يجوز له ذلك.
والصيد: هو كل حيوان بري يحل أكله، أما إذا كان وحشياً كالسباع فقد تقدم: (يقتلن في الحل والحرم) .
ويضيف العلماء أيضاً: لو أن حلالاً اصطاد خارج الحرم ودخل به إلى الحرم فإنه يطلق من يده؛ لأنه منهي عن إمساك الصيد أو قتله أو تنفيره في الحرم.(170/8)
حكم قطع شوك الحرم وشجره
قال: (ولا يختلى شوكها) .
الاختلاء: هو أخذ الحشيش من الخلاء كالصحراء والوادي، ويذكر عن الشافعي رحمه الله: أنه أباح قطع الشوك الذي في الأغصان، كما يقول الصنعاني شارح البلوغ، وقد استدل بأن الشوك مؤذٍ، وإنما أبيح قتل الفواسق الخمس لأجل الأذى، فلما كانت الفواسق تقتل في الحل والحرم لوجود الأذية، والشوك مؤذٍ، فيقاس عليها ويجوز قطعه، لكن يقول الصنعاني أو غيره: إنما أباح قطع الشوك من الأغصان.
وأعتقد أن هذا مغاير لطبيعة الحرم؛ لأنه يوجد في الحرم نبات قصير جداً ينبت على وجه الأرض وفيه الشوك، فهذا هو الذي يؤذي؛ لأنه إذا أراد الإنسان أن يجلس أو أن ينصب خيمة أو أن يفرش فراشه، فإن هذا الشوك سوف يؤذيه، فقد يضطر لقلعه من أجل أن يمهد له مكاناً يجلس فيه، فإذا نقل عن الشافعي أنه أباح قلع الشوك للإيذاء فيكون هذا النبت من باب أولى؛ لأن الشوك في الأغصان فوق الدوحة ونحوها لا يؤذي أحداً بشيء، فيكون هذا أولى بحمله عليه.
وإذا كان الشوك المؤذي لا يختلى، فإن النباتات الأخرى من باب أولى.
قال صلى الله عليه وسلم (ولا يعضد شجره) أي: لا يقطع شجره، قيل: في الشوك النبات وفي الشجر ما لم ينبته الآدمي، فما كان من نبات الآدمي فهو يزرع ويحصد، أما ما كان نبتاً طبيعياً من خلق الله سبحانه دون أن يكون للإنسان فيه عمل كالنباتات الصحراوية، فهذه هي التي لها حرمة ولا يعتدى عليها.(170/9)
حكم لقطة الحرم
قال صلى الله عليه وسلم: (ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد) .
الساقطة: هي اللقطة التي سقطت من صاحبها، وقوله: (إلا لمنشد) أي: لا يأخذها شخص من مكانها إلا على نية الإنشاد، أي: الإعلام بها، فهي لا تملك بالالتقاط، بخلاف اللقطة في غير الحرم؛ فإن حكمها أن ينشدها لمدة سنة، فإن ظفر بصاحبها سلمها إليه، والإنشاد لمدة سنة إنما هو إن كانت صالحة للبقاء سنة، وإلا باعها أو تصرف فيها بعد أن يعرف قيمتها، وتكون ديناً عنده وأمانة، فإذا ظهر صاحبها أعطاه إياها، فكل ضالة أو ساقطة للإنسان أن يأخذها بنية التعريف والإنشاد، وينشدها على أبواب المساجد، أو مظنة وجود صاحبها، ولا ينشدها في المسجد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وقال: (إذا سمعتم من ينشد ضالته في المسجد فقولوا: لا ردها الله عليك) ؛ لأنه سوف يستغل المسجد في غير ما وجد له، كما جاء النهي عن البيع والشراء في المسجد، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع، فقولوا: لا أربح الله تجارتك) ، وكما قال عمر رضي الله عنه: (من أراد الثواب والأجر وسوق الآخرة فليأت إلى المسجد، ومن أراد البيع أو الشراء أو الحديث فليخرج إلى أسواق الدنيا) ، وقد بنى رحبة في غربي المسجد، وقال: (فمن أراد حديث الدنيا فليخرج إلى هذه الرحبة، ومن أراد حديث الآخرة فليبق في المسجد) فالذي يجد ساقطة في الحرم في مكة فلا يحل له أن يأخذها إلا إذا كان على استعداد أن ينشدها، ومهما أنشدها سنة أو سنوات فلا يتملكها، بخلاف الساقطة في غير الحرم المكي، فإنه يتملكها بعد سنة، فإن جاء صاحبها بعد ذلك فإن كان قد استفادها لنفسه واقتناها سلمه قيمتها، وإن كان قد تصدق بقيمتها على نية صاحبها فيخبره ويقول له: لقد انتظرت وعرفت فلم يأت أحد، فتصدقت بها على نية صاحبها، فإن قبلت الصدقة فأجرها لك، وإن لم تقبل فأكون قد تصدقت بغير ما أملك، فهذه قيمتها والصدقة لي.
وهنا يأتي السؤال: لماذا تملك ساقطة غير الحرم بعد سنة وساقطة الحرم لا تملك أبداً؟ قالوا: لأن حرم مكة يأتيه الحجاج في كل سنة من كل مكان، ولا ندري ممن سقطت تلك اللقطة، ولا يلزم أن من سقطت له ساقطة يعود في العام القادم من أجل أن ينشد ساقطته أو ضالته، ويمكن أن لا يتأتى له المجيء إلا بعد خمس سنوات على أقل تقدير، أي: في التطوع؛ كما في الحديث القدسي: (من عافيته في بدنه وأغنيته في ماله، فلا يحق له أن يهجر البيت فوق خمس) أي: خمس سنوات، فيمكن أن لا يأتي إلا بعد خمس سنوات، فنقول: هذا خاص بالحرم، فإذا سقطت لقطة من حاج آفاقي، وأنشدها الملتقط سنة أو سنتين، ولم يأت صاحبها، ولا يدري عنها أحد شيئاً، فتبقى أمانة في يد ملتقطها وينشدها إلى أن يأتي صاحبها.(170/10)
كتاب الحج - باب الإحرام وما يتعلق به [6]
لقد حرم الله سبحانه وتعالى مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام إلى يوم القيامة، ومن حرمتها: أن من قتل خارج مكة ثم لجأ إليها فلا يقتل حتى يُخرج منها، أما من قَتَل فيها فإنه يُقتل فيها، ومن قٌتِل له قتيل فهو بخير النظرين: القصاص أو الدية.
ومن حرمة مكة: أنه لا يجوز قطع شجرها إلا الإذخر، فإنه يجوز قطعه للحاجة.
والمدينة حرم كمكة، فلها حرمتها وتعظيمها، فلا يجوز قطع شجرها، ولا قتل صيدها، ومن فعل ذلك فهو آثم ولا جزاء عليه، وحدود حرم المدينة ما بين الحرتين شرقاً وغرباً، وما بين جبل عير وثور شمالاً وجنوباً، والحد وهو الحرتان وعير وثور داخل في حدود الحرم.(171/1)
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين)
قال صلى الله عليه وسلم: (ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين) .
قوله: (فهو بخير النظرين) : النظران في قتل العمد؛ لأن قتل الخطأ فيه نظر واحد وهو الدية، أما العمد فله الدية وله القصاص، ومناسبة ذكر القتل في هذا الحديث: قالوا لأن حرمة مكة تعيذ القاتل من القتل، وتجعل من دخلها آمناً، حرمة مكة تعيذ من لجأ إليها، أي: أن من ارتكب جريمة خارج مكة ولجأ إليها دخل في نطاق الأمن، لكن مجيء هذا الحديث بهذا السياق يشعر بأن القاتل في مكة لصاحب الدم الخياران، فله أن يقتله، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر بإخراجه من الحرم، والمعروف أنه يقتل حيث قتل، إذاً: الحديث هنا يشعر بأن حرمة تلك النباتات والحيوانات في الصيد وحرمة مكة لا تمنع القاتل من أن يقتص منه في الحرم، وهذا ما يرجح القول -وهو قول الأكثرين- بأن الجاني في مكة يقتص منه في مكة، بخلاف من جنى خارج مكة ولجأ إلى مكة؛ فإنه يخرج إلى الحل ويقتص منه.
وقوله: (فهو بخير النظرين) النظران هما: القصاص أو الدية، وفي قوله سبحانه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178] اتفق العلماء في هذه القضية على أن اليهود كان عندهم حكم واحد: وهو أن القاتل يقتل، ثم جاء النصارى وأصبح الحكم عندهم أن القاتل يدفع الدية، ثم جاء في الإسلام التخيير بين الأمرين.
وفي فقه المسألة عند الأئمة رحمهم الله: أنه إذا قبل أولياء الدم عن القاتل عمداً بالدية فعليه أن يدفعها.
وذهب الإمام مالك رحمه الله في المشهور عنه إلى أنه ليس لولي الدم على القاتل إلا نظر واحد إما القصاص وإما الترك، وهذا مذكور عن أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الله تعالى يقول: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179] ولم يذكر في العمد دية، فقالوا: الجاني إن لم يرض ويقبل بدفع الدية عند طلبها من ولي الدم فليس بملزم، بل إما أن يقتص ولي الدم أو يتركه، وفي المذهب المالكي في هذه المسألة ثلاثة أقوال: القول الأول هو هذا، وهو المشهور عن مالك.
القول الثاني: وافق فيه الجمهور: وهو أنه إذا طلب ولي الدم الدية فعلى القاتل أن يدفعها.
القول الثالث: التفصيل: فإن كانت الجناية في النفس، وطلب ولي الدم الدية، وكان الجاني واجداً، وجب عليه أن يدفع الدية، وإذا كانت الجناية في عضو؛ كأن اعتدى على يده أو عينه أو أذنه، فإن طالبوا بالقصاص فعليه أن يقدم القصاص، وإن طالبوا بالأرش ودية العضو فالجاني بالخيار؛ إما أن يمتنع من دفع الأرش ويقول: اقتصوا كما جاء في الشرع، ولست ملزماً بالدية.
وفي هذه المسألة سمعت من والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه يقول: الراجح أنه في قتل النفس إذا طلب الولي الدية فيتعين على الجاني أن يدفعها؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29] ، فإذا وجد الدية وعوفي من القصاص فلا يقل: اقتصوا؛ لأنه حينئذ يكون كقاتل نفسه؛ لأن الدية تعفيه من القتل وهو يأبى إلا أن يقتص منه.
إذاً: الحديث هنا يرد على هذا القول، سواء كان عند مالك أو عند أبي حنيفة رحمهما الله.(171/2)
حكم المصالحة على أكثر من الدية
لو أن ولي الدم تمسك بالقصاص، وعرض الجاني الدية، وبدلاً من أن تكون دية جعلها عدة ديات، فمثلاً: الدية مائة بعير، فهو يعرض مائتين وثلاثمائة أو أكثر، فإذا قبل ولي الدم فلا مانع، يعني: لا يقال: إن ولي الدم لا يحق له أن يأخذ من الجاني أكثر من الدية؛ بل إذا كان الحكم قصاصاً، فهو الآن لم يأخذ الدية إنما يأخذ الصلح عن التنازل عن القصاص، وهذا راجع للتراضي بين الطرفين، والحد الأدنى للدية هو مائة من الإبل، وهذا في قتل الخطأ، لكن في العمد يكون الطلب هو القصاص، وإذا تصالح الجاني عن قتل نفسه بعدة من الديات فلا مانع لولي الدم أن يقبلها.(171/3)
جواز قطع الإذخر من الحرم للحاجة
قال العباس لرسول الله بعد أن ذكر حرمة شجر الحرم: (إلا الإذخر يا رسول الله! فإنا نجعله في قبورنا وفي بيوتنا، فقال: إلا الإذخر) .
قول العباس رضي الله تعالى عنه: (إلا الإذخر يا رسول الله) (إلا) أداة استثناء، والإذخر نبات، فالإذخر مستثنى من قوله: (ولا يختلى شوكها) ومن قوله في الحديث الآخر: (ولا يختلى خلاها) والخلاء: هو النبات الذي ينبت في الأرض على الأمطار أو السيول أو غير ذلك، وهنا من ضمن الخلاء الذي ينبت في الأرض البيضاء: الإذخر، وهو نبت حجازي معروف، طيب الرائحة، وله خصائص مذكورة في كتب الطب، وقد كان يؤخذ الإذخر قديماً ويوضع على أفواه أكياس الفحم.
فـ العباس رضي الله تعالى عنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يستثني من الخلاء الإذخر، ولما كان معروفاً عندهم ما احتاج إلى تعريف، ثم علل رضي الله عنه موجب هذا الاستثناء فقال: (فإنا نجعله في قبورنا) ، فقد كانت العادة أن أهل مكة يشقون وأهل المدينة يلحدون، والشق: هو أن يحفر القبر، ثم يحفر في الوسط خد على قدر الجسم ويمدد فيه، واللحد: بعد أن يحفر القبر في جهة القبلة قدر ما ينام فيه الميت ثم يسد عليه، وفي كلتا الحالتين يسد على الميت باللبن أو بالحجارة، وكان يتخللها فراغ، فإذا أهيل التراب على الميت تساقط التراب من بين الأحجار أو الطوب على الميت، فيجعلون الإذخر يسد المسام والفراغ الذي بين الحجر والآخر، وقد يتعذر عليهم استعمال الطين خاصة وأنه لا يوجد هناك؛ لأن الأرض رملية.
إذاً: العباس رضي الله تعالى عنه طلب استثناء الإذخر لمصلحتهم وحاجتهم: الأولى: أنهم يضعونه في قبورهم.
والثانية: أنهم يضعونه في بيوتهم، وذلك حينما يسقفون بالخشب ويأتون بالجريد أو الأغصان ويضعون فوقها من الطين ما يحميها من الأمطار، فيكون بين الأخشاب فراغ، فيجعل الإذخر طبقة فوق الأغصان أو الجريد أو الخشب، ثم يوضع فوق ذلك ما يطلى به السقف من الطين.
الثالثة: قوله: (ولقيننا) واللفظ هذا موجود في بعض النسخ، القين: هو الحداد، وحاجة الحداد إلى الإذخر حينما يأتي بالحطب ليشعله ليذيب به الحديد، والحطب الكبير إذا أشعل فيه الكبريت لا يشتعل، فيحتاج إلى صغار الأغصان ودقائق النباتات، فيؤتى بالإذخر فيشتعل حالاً ثم توضع الأخشاب الكبيرة بعد ذلك، فنار الإذخر تحرق الأخشاب، وهكذا يكون وسيلة لإشعال الحطب، وإلا لما استطاع الحداد أن يشعل النار في الحطب الجزل، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم استثناء العباس، وعرف حاجتهم إليه؛ قال: (إلا الإذخر) .
وهنا مسألة: وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم أجاب بعد السؤال مباشرة، أي: أنه لم يتربص مجيء الوحي ليجيبه عن هذا السؤال؛ بل أجاب حالاً، فهل تكون هذه الإجابة اجتهاداً منه صلى الله عليه وسلم؟ أم أن الوحي جاء سريعاً وأخبره بالحكم؟ فمكة حرام منذ أن خلق الله السماوات والأرض، لا يختلى خلاها، فهو استثنى من ذلك الإذخر، فيقول ابن دقيق العيد: يحتمل أن هذا اجتهاد منه صلى الله عليه وسلم وقد أقره الله عليه، ويحتمل أن يكون الوحي قد جاء بسرعة؛ لأن الوحي إعلام في الخفاء، فيكون جبريل عليه السلام قد جاءه بالجواب.
وما دام أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب العباس لحاجته، فهل كل ما نهى عنه رسول الله يباح للحاجة؟ قالوا: لا؛ لأن النص جاء باستثناء الإذخر بخصوصه، ولم يأت باستثناء الحاجة في الخشب لسقف البيوت، ولا لآلات البيت من النجارة وغيرها، ولم يأت باستثناء الخلاء للرعي، حتى قال بعض العلماء: الخلاء الرطب وهو المرعى الذي ترعاه الدواب لا يحل رعيه، ولكن أين يذهبون إذا كان عندهم دواب؟ يقال: هذا من نبت الله، المهم أنهم لا يعتدون.
إذاً: أعلن النبي صلى الله عليه وسلم حرمة مكة، وأنها محرمة من قبل، وإنما أحلت له ساعة، ثم عادت حرمتها كما كانت إلى يوم القيامة، ومن حرمتها أن يتجنب فيها قتل الصيد وتنفيره، وقطع شجرها، واختلاء شوكها، والتقاط لقطتها إلا لمنشد، وهنا يبحث الفقهاء فيمن ارتكب أحد هذه الأشياء المنهي عنها في الحديث السابق، فمن اختلى خلاها، أو اقتطع شجرها، أو نفر أو قتل صيدها، هل عليه في ذلك جزاء أم لا؟ من المعلوم أن المحرم إذا قتل الصيد {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} [المائدة:95] قالوا: وفي الحرم كذلك، فهناك لحرمة الإحرام خارج الحرم، وهنا لحرمة الحرم في الحج وفي غيره، للمحرم ولغيره، حتى قالوا في الشجرة الكبيرة فيها نعامة، والشجرة الصغيرة فيها شاة، قياساً على كبار الصيد وصغاره، ولكن لم أقف على نص مرفوع فيما يتعلق بجزاء النباتات والأشجار، والله تعالى أعلم.(171/4)
شرح حديث: (إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها ... )
قال المؤلف رحمه الله: [وعن عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، وإني دعوت في صاعها ومدها بمثل ما دعا به إبراهيم لأهل مكة) متفق عليه] .
قوله صلى الله عليه وسلم: (إن إبراهيم حرم مكة) هنا إسناد التحريم إلى إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وهناك إسناد التحريم إلى الله سبحانه وتعالى، والحديثان كلاهما صحيح، وقد جمع العلماء بين هذين الخبرين: بأن الله قد حرمها فعلاً يوم خلق السموات والأرض، وأخبر ملائكته بذلك، ولكن العمل بهذا التحريم لم يكن إلا زمن إبراهيم عليه السلام، فيكون تحريم الله سابقاً تكريماً، وتحريمه في زمن إبراهيم عليه السلام تعليماً، وإنما التكليف حصل بتحريم إبراهيم عليه السلام، أو أن إبراهيم أظهر تحريمها بعد أن نسيه الناس وتوالت عليه القرون الطويلة، والذي يهمنا أن حرمة مكة أمر مقطوع به.(171/5)
حرمة المدينة المنورة وحرمها
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإني -يسند النسبة إليه- حرمت المدينة) يقول بعض العلماء: إن حرمة المدينة قديمة أيضاً، وإنما أظهرها النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد جاء في تاريخ الهجرة ومعالمها أنه صلى الله عليه وسلم قال (أريت دار هجرتي أرضاً سبخة ذات نخيل، أُراها هجر أو يثرب) وهجر هي الأحساء حديثاً، ويثرب هي المدينة المنورة، ويذكر في أخبار الإسراء والمعراج أن جبريل عليه السلام في رفقته للنبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المسجد الأقصى أنزله مرتين يصلي، ففي الأولى قال: (أعلمت أين صليت؟ قال: لا، قال: بيثرب، وهي المهاجر، والثانية في بيت لحم) إذاً: حرمة المدينة أو اختيارها إنما هو من ذي قبل، ولكن إعلان حرمتها إنما هو على لسان النبي صلى الله عليه وسلم.(171/6)
المفاضلة بين مكة والمدينة
وهنا ربما تناول بعض العلماء المقارنة بين مكة والمدينة بأن تحريم مكة من إبراهيم، فيكون هناك المقارنة بين ما حرمه إبراهيم عليه السلام وبين ما حرمه النبي صلى الله عليه وسلم، وأدخلوا هذا في باب المفاضلة بين مكة والمدينة، واستدل بذلك من يفضل المدينة على مكة، وهنا ينبه -كما يقول العلماء- إلى أن الخوض في المفاضلة بين مكة والمدينة إنما هو إشغال وقت وإثارة شعور لا طائل تحته، إنما ينظر فيما هو أفضل للمهاجر والمقيم، هل الأفضل له أن يهاجر إلى مكة أم إلى المدينة؟ وهل الأفضل أن يقيم في مكة مجاوراً أم في المدينة مهاجراً؟ هناك قول لبعض العلماء وعلى رأسهم مالك: أن الهجرة والإقامة بالمدينة خير من الهجرة والإقامة بمكة، والبعض يستدل على أن الإقامة بالمدينة أفضل: بأن مكة تتضاعف فيها الحسنات وكذلك السيئات، قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25] فيؤاخذ الإنسان في مكة بمجرد الإرادة ولو لم يفعل، أما المدينة فتضاعف فيها الحسنات ولا تتضاعف فيها السيئات، إن فضل الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم بألف صلاة، وهذا لا قول لأحد فيه، وهو صحيح بالإجماع، وجاء أن صوم رمضان في المدينة بألف، وجمعة في المدينة بألف، وهذان الخبران فيهما مقال.
وقد فضل بعض العلماء المقام في المدينة لأن الله اختارها مهاجراً لرسوله ومقاماً له، ثم كان فيها مثواه صلى الله عليه وسلم.(171/7)
المقارنة بين حرمة مكة وحرمة المدينة
ونحن الآن نتكلم عن تحريم المدينة وليس عن تعداد فضائلها وخصائصها، فقد عدد بعض العلماء خصائص المدينة وأبلغها إلى حوالي مائة خصيصة، وهذا أمر يطول بيانه، لكن يهمنا تحريمه صلى الله عليه وسلم للمدينة، فقد جاءت الأحاديث الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم قال: (المدينة حرم آمن) ، فتسميته صلى الله عليه وسلم المدينة حرماً يرد على بعض العلماء المتأخرين الذين يقولون: لا يسمى حرماً إلا مكة، ولكن هذا صحيح صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن المدينة حرم آمن، ثم بين صلى الله عليه وسلم حكم الحرم المدني كما بين حكم الحرم المكي بأنه لا يختلى خلاه، ولا ينفر صيده، ولا يعضد شجره، ولا تلتقط لقطته إلا لمنشد، فذكر حرمة الخلاء والشجر في حرم المدينة إلا لحاجة علف دابته أو خشبه، فإن ذلك لا بأس به للحاجة، ومع نهيه صلى الله عليه وسلم أن يختلى خلاها، أو أن يقطع شجرها إلا لحاجة، أو أن ينفر صيدها، اتفق العلماء -إلا ما جاء عن بعض المالكية- أن من قتل بها صيداً فإنه لا جزاء عليه كجزاء صيد مكة، لكنه آثم بانتهاكه حرمة الحرم، ويعزر من جانب ولي الأمر، بل قال بعض العلماء: يسلب، أي: تؤخذ ثيابه، كما جاء عن سعد بن أبي وقاص أنه رأى غلاماً يصطاد في حرم المدينة فسلبه ثيابه، فأبى أهله وطلبوا رد الثياب إليه، فقال: (حاشا، طعمة أطعمنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أردها عليكم، إن شئتم أعطيتكم قيمتها فعلت، أما هي فلا) .
ثم أوصى صلى الله عليه وسلم بأهلها خيراً، وبين أن من أراد أهل المدينة بسوء أذابه الله في النار كما يذاب الرصاص، أو أذابه الله كما يذاب الملح في الماء.
ثم حث صلى الله عليه وسلم وحذر من أحدث فيها أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وإحداث الحدث يراد به عند العلماء: الابتداع، أي: أن يبتدع في دين الله في المدينة ما ليس من دين الله، أو يبتدع أمراً لم يأت به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا تأملنا في ذلك فإننا نجد أن حرمة المدينة وتعظيم شأنها والحفاظ على أمر الدين فيها من ضروريات الدين؛ لأن مكة بحرمها كانت وما زالت مأوى المؤمنين؛ وهي دار السلم والسلام: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:97] ، ولما ضيق على المسلمين في بادئ الأمر واضطروا إلى الخروج إلى مكان آمن كانت المدينة، ولما هاجر المسلمون إلى المدينة وانتقل النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى المدينة أصبحت المدينة آنذاك عوضاً لهم عن مكة، وأصبحت العاصمة للعالم الإسلامي كله، يفد إليها الناس من مشارق الأرض ومغاربها؛ فكان لزاماً أن يبقى الدين كما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا أتى آتٍ من الآفاق وأراد أن يأخذ أحكام الدين وجدها نقية بعيدة عن أي الشوائب والعلائق.
وهكذا كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الناس لكم تبع، ستفتح الأمصار، ويأتي إليكم رجال يطلبون العلم، فأقرئوهم وعلموهم) .
وقد اعتبر مالك رحمه الله أن عمل أهل المدينة حجة، وقد استدل به على أعمال عديدة لم يأت بها نص من الكتاب ولا من السنة، ولكن يستدل بمجرد عمل أهل المدينة -أي: عمل علمائها- ويقول: إنهم يأخذون ذلك خلفاً عن سلف، ويأخذونه كابراً عن كابر.
وقد جاء تطبيقاً لذلك أن أبا يوسف صاحب أبي حنيفة رحمهما الله لما جاء مع هارون الرشيد إلى المدينة ولقي مالكاً رحمه الله، تذاكرا العلم وتدارسا في المدينة، وسأل أبو يوسف مالكاً عن الصاع، فقال: الصاع عندنا خمسة أرطال وثلث، فقال أبو يوسف: بل هو عندنا ثمانية أرطال، فقال مالك لجلسائه: من كان عنده صاع يؤدي به زكاة الفطر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فليأت به غداً، ومن الغد اجتمعت عند مالك ما يقارب خمسين صاعاً، وكلهم يخبر عن أبيه أو عن أمه عن جده عن جدته أنهم كانوا يخرجون به زكاة الفطر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول أبو يوسف: فنظرتها فإذا بها كلها سواء، فأخذت واحداً منها وذهبت به إلى السوق، فعايرته بعدس الماش فإذا هو خمسة أرطال وثلث، فلما رجع إلى العراق قال لهم: أتيتكم بعلم جديد، قالوا: وما ذاك؟ قال: وجدت الصاع خمسة أرطال وثلث، قالوا: خالفت شيخ القوم -أي: أبا حنيفة رحمه الله- فقال: وجدت أمراً لم أجد له مدفعاً، أي: منقولاً عن ذاك العدد الكبير.
فكان عمل أهل المدينة وما ينقلونه عن سلفهم حجة، وكان ذلك عملاً لـ مالك، وقد أحصي ما في موطأ مالك مما هو مسند لعمل أهل المدينة دون أن يورد عليه آية أو حديثاً أو قول صحابي أو خليفة فوجد أنه يزيد على ثلاثمائة وثلاث عشرة مسألة، وقد قورنت هذه المسائل مع ما عند الأئمة الثلاثة فما اختلفوا مع مالك إلا في مسألة واحدة انفرد بها ولم يوافقه غيره عليها، وأما بقية المسائل فقد شاركه فيها غيره، فقد يتفق معه إما الثلاثة أو اثنان أو واحد، فكان ذخيرة للمسلمين أوردها مالك في موطئه ليس عليها نص من آية أو حديث، ولا يتأتى لإمام غيره أن يحصل عليها؛ لأنه أخذها مباشرة عن أهل المدينة المعاصرين له، وهم أخذوها عن أسلافهم فيما قبل.
إذاً: المدينة حرم آمن، وينبغي أن تظل بحرمتها إلى يوم القيامة، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الحفاظ على تلك الحرمة، وحذر وزجر ونهى من إحداث البدع فيها أو إيواء محدث.
ثم حث على الإقامة فيها، بل والموت فيها لمن استطاع، بل قال: (من استطاع أن يتخذ له أصلاً في المدينة فليفعل) أي: من سكن أو زراعة أو غير ذلك، وقال: (من مات بالمدينة كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة) ، قالوا: (شهيداً) فيمن حضره، و (شفيعاً) فيمن كان بعده.
ثم يذكر العلماء من الفضائل العديدة: أن أهل البقيع في المدينة أول من تنشق عنهم الأرض يوم القيامة بعد القبور الثلاثة المشرفة، وهكذا دعوته صلى الله عليه وسلم بالبركة لأهل المدينة، ولأجل هذا ذكر المؤلف رحمه الله حرم المدينة وحرمتها بجوار ذكره لحرم مكة وحرمتها، وقد أشرنا إلى أن أحكام حرم المدينة كأحكام حرم مكة سواء بسواء، إلا أنه ليس فيه جزاء كجزاء مكة، إلا ما جاء عن بعض المالكية أنه رأى في حرم المدينة جزاء كجزاء حرم مكة.
وهناك حرم ثالث لا يطلق إلا بالقيد وهو: وادي وج، وهو وادٍ في الطائف، فيرى الإمام الشافعي رحمه الله أنه يطلق عليه حرم ولكن بملازمة الإضافة، فيحرم صيده، وله أحكامه المعلومة.(171/8)
حدود حرم المدينة
حدود حرم المدينة بحث قديم متجدد، وقد أطال العلماء البحث فيه، ولكن كل ما يطرأ من بحث حول حدود الحرم فإنما هو لتحقيق المناط ولتبيين المراد، وإلا فقد أجمع المسلمون على مسميات حدود الحرم، والمجمع عليه في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين لابتيها) واللابتان: الحرتان، واللابة: الحرة، أي: الحجارة السوداء، والمدينة محاطة باللابتين الشرقية والغربية، وهي في الحقيقة حرة واحدة لكن لها طرفان: طرف في المشرق وطرف في المغرب، وجنوب الحرة قد يمتد ويوغل في الامتداد حتى يصل إلى المهد أو يزيد أو ينقص، فهي مدورة حول المدينة.
يقول النووي رحمه الله: إن الحد هنا داخل في المحدود، أي: أن اللابتين داخلتان في مسمى الحرم، والحرتان طرفان أو حدان للحرم شرقاً وغرباً، فالطرف الشرقي يمتد من وادي قناة وينزل إلى مسامتة ما يقرب من وسط جبل أحد، والطرف الغربي يمتد وينزل إلى قريب من طريق سلطانة إلى جبل أبي عبيد، وهو خلف المعهد المهني بقليل.
أما من الشمال والجنوب فقد جاء في الصحيحين: (المدينة من عير إلى ثور) وجبل عير موجود في منطقة ذي الحليفة، ولم يختلف أحد من المؤرخين في موضعه، وإن خالف بعض من كتب في ذلك ونفى أن يكون بالمدينة جبل يقال له: عير، أو جبل يقال له: ثور، وحمل الحديث على تقدير المسافة بين عير وثور بمكة، ولكن التحقيق الذي عليه العلماء وتناقله الناس خلفاً عن سلف: أنه يوجد في المدينة جبلان: جبل عير، وجبل ثور، وعير يقع في الجهة الجنوبية الشرقية من ذي الحليفة، أي: من مسجد الميقات، وهو مشهور لأهل المدينة جميعاً، فهذا حد الحرم من الجنوب، أما حده من الشمال فهو جبل ثور، وقد اختلف في مسمى هذا الجبل حتى قال البعض -كما ذكرنا-: لا يوجد في المدينة جبل يسمى: جبل ثور، ولكن المحققين أثبتوا ذلك وتناقلوه خلفاً عن سلف، وحقق المطري في تاريخه للمدينة وجود هذا الجبل، وقال: قد حققته بالمشاهدة، وكبار السن الموجودون الآن في تلك المنطقة يتناقلون أخباره وهو الذي يسمى: جبل الدقاقات، وهو يقع شمال الخط الجديد الذي يمر به، وبينه وبين الخط مسافة ميل، ويقول المؤرخون: إنه يقع شمال جبل أحد إلى الغرب، وهو أحمر مدور، وهو فعلاً على ما قالوا، وهو حد الحرم من الشمال، ويؤيد ذلك ما جاء في بعض الروايات: (وجبل وعيرة) وجبل وعيرة: هو الجبل الذي بعد محطة الكهرباء الجديدة التي على خط المطار، وهو مسامت لجبل ثور من وراء أحد بالفعل.
وعلى هذا: فإن حرم المدينة الذي يحرم فيه الصيد إنما هو ما بين هذه المعالم الأربعة: الحرتان من الشرق والغرب، وعير وثور من الشمال والجنوب، وقد جاء في حديث أبي ذر وحديث أبي هريرة في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم حدد ذلك بالمسافة: بريد في بريد، والبريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل كيلو ونصف بالحساب الحديث، وعلى هذا يكون حدود الحرم إن اعتبرناه دائرة فيكون قطر الدائرة بريدان: بريد من الشرق وبريد من الغرب، وبريد من الشمال وبريد من الجنوب.
وبعضهم يقول: إن حدود الحرم من الجنوب الشرقي من البيداء وذات الجيش، والبيداء: هي التي يصعد إليها الحاج من ذي الحليفة، وقد قدم معنا من أين أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن قائل: أهل حينما سلم من صلاته في مصلاه، ومن قائل: أهل حينما استوت به راحلته، ومن قائل: أهل بالبيداء، والبيداء ملاصقة لذي الحليفة، وبقربها أيضاً ذات الجيش، ومن جهة الشمال الحفياء، والحفياء تمتد خلف جبل ثور إلى مسافة ليست بعيدة، وأحكم الأقوال في ذلك والمتفق عليه بلا نزاع هو: بريد في بريد في بريد.(171/9)
حكم قطع شجر حرم المدينة وقتل صيده
وعلى هذا يتعين على كل مقيم بالمدينة أن يحفظ هذا الحرم بحدوده، ولا يقطع الشجر إلى لحاجة، ولا يختلي خلاه إلا لحاجة، ولا ينفر صيده ولا يقتله، وإن قتله فهو آثم، ولكن لا عقوبة عليه.
والذين قالوا: لا عقوبة عليه، والذين قالوا: لا بأس بالصيد فيه - مع أنه مخالف للجمهور- استدلوا بقصة أبي عمير، وأبو عمير غلام لـ أبي طلحة كان النبي صلى الله عليه وسلم يغشاه كثيراً، فمر به النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فوجد بيده طائراً يعرف عند أهل المدينة بالنغر، ولا يزال هذا الطائر موجوداً في البساتين إلى اليوم وله تغريد طيب في الصباح، فإذا به يلعب به، ثم ذهب صلى الله عليه وسلم، وفي عودته وجد الغلام يبكي والطائر ميت في يده، فقال (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟) ، فقالوا: هذا صيد في يد الغلام، فلم يطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما رآه ميتاً لم يحمله صلى الله عليه وسلم جزاءه ولا قيمته.
وأجاب المانعون بأن هذا غلام، وليس على الغلام تكليف؛ فتركه صلى الله عليه وسلم، أو لعله أتى به من خارج الحرم، وهو في هذا خلاف حرم مكة؛ لأن من أدخل صيداً من الحل إلى حرم مكة أُجبر على إطلاقه، بخلاف المدينة.(171/10)
دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة كدعاء إبراهيم عليه السلام لأهل مكة
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن إبراهيم دعا لأهل مكة) إبراهيم عليه السلام دعا لأهل مكة بأدعية كثيرة، منها قوله: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:126] وقوله: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ} [إبراهيم:37] ودعوة إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لا زال أثرها باقياً حتى اليوم، فقد أوجد الله سبحانه وتعالى حب القلوب وهفوها وميلها ورغبتها إلى مكة، سواء استطاع الشخص أن يأتي أو لم يستطع، فكل مسلم في مشارق الأرض ومغاربها تجده يهفو قلبه إلى مكة، وكيف لا وهو في كل يوم خمس مرات على الأقل يتوجه إليها في صلواته، وقبلته الكعبة التي هي شرف مكة كما هو معلوم.
وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} [البقرة:125] ، فهو أمن لمن كان فيه، ومثابة للبعيد عنه، يأوي ويثوب إليه، أي: يرجع إليه، سواء يرجع إليه في لجوئه، أو يرجع إليه في هجرته، أو يرجع إليه في حجه وعمرته، أو يرجع إليه في صلواته كل يوم خمس مرات، فهذه بركة دعوة إبراهيم عليه السلام، قال: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ} [البقرة:126] يقولون: إنه توجد في مكة ثمرة الصيف في الشتاء، وثمرة الشتاء في الصيف، قال تعالى: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص:57] .
وهذا خبيب رضي الله تعالى عنه لما أخذ أسيراً وبيع على أهل مكة لينتقموا منه لقتلى بدر، تقول المرأة التي حبس في بيتها: والله ما رأيت مثل خبيب، كنت والله أراه يأكل في يده قطف عنب، وما على وجه الأرض في ذلك الوقت من حبة عنب، أي أنه في غير أوانه، ولكنها كرامة لهذا الصحابي الشهيد الذي ضحى بنفسه، والذي أعلن مدى حبه للنبي صلى الله عليه وسلم ووفائه وفدائه له حينما قدم ليضرب عنقه، فقيل له: أتود أن محمداً مكانك تضرب عنقه وتكون أنت آمناً في أهلك؟ قال: لا والله، ولا أن يصاب بشوكة في قدمه وأنا في أهلي.
وهكذا كان فداؤه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غائب من أن يشاك بشوكة في قدمه ويسلم من ضرب عنقه، ولذلك أكرمه الله في حال أسره أن جاءه بالعنب في غير وقت العنب وفي غير زمنه.
ونحن الآن نجد كل ثمرات العالم يؤتى بها إلى مكة والمدينة؛ من الشمال ومن الجنوب ومن الشرق ومن الغرب، من آسيا ومن أوربا ومن أفريقيا؛ فكل الثمرات تجبى إلى مكة والمدينة.
فيقول صلى الله عليه وسلم: (إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، وإني دعوت في صاعها ومدها بمثل ما دعا به إبراهيم لأهل مكة) ، وفي بعض الروايات: (ومثليه معه) وقد جاءت نصوص عديدة أنه صلى الله عليه وسلم دعا لأهل المدينة بالبركة، وسيأتي الحديث الذي يبين تعلق البركة في دعواته صلى الله عليه وسلم.(171/11)
شرح حديث: (المدينة حرام ما بين عير إلى ثور)
قال المؤلف رحمه الله: [وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المدينة حرام ما بين عير إلى ثور) رواه مسلم] .
هذا اختصار من المؤلف رحمه الله تعالى لحديث علي رضي الله تعالى عنه، فقد جاء عن علي رضي الله عنه أنه سئل: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم آل البيت بشيء؟ أي: هل خصكم بشيء دون الناس؟ فقال علي: لا والله، إلا رجلاً أعطاه الله فهماً في كتاب الله وما في هذه الصحيفة، قالوا: وما فيها؟ فأخرج سيفه وأخرج من غمده صحيفة مكتوب فيها: فكاك الأسير، ودية القتلى، وأنصباء الأموال في الزكاة، وهذا الأثر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (المدينة حرام من عير إلى ثور) ، وهذا نص من علي رضي الله عنه، والمؤلف أخذ المعنى فقال: عن علي رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المدينة حرام من عير إلى ثور) ، ثم قال: رواه مسلم، والتحقيق أنه متفق عليه، فقد جاء في صحيح البخاري: (المدينة حرم من عير إلى كذا) بالكناية، ولم يصرح بلفظ (ثور) ، فأخذ العلماء من ذلك أن كلمة (ثور) ليست في صحيح البخاري، وقال البعض: الأصل: (المدينة حرم من عير إلى أحد) ، ولكن هذا غير صحيح؛ فقد جاء في البخاري: (من عير إلى ثور) ولكنه لم يذكره في بيان حرم المدينة، إنما الذي ذكره البخاري قوله باب: حرم المدينة من عير إلى كذا، ولم يصرح ما هو كذا، ولكن في باب الفرائض ذكر البخاري رحمه الله: ما بين (عير) إلى (ثور) ، وصرح رحمه الله بذكر (ثور) مقابل (عير) ، وهذا ما ينبغي التنبيه عليه؛ لأن ابن حجر رحمه الله أغفل ذلك وقال: لم يأت عن البخاري إلا: (عير وكذا) بينما هو موجود بالتصريح بلفظ (ثور) مع (عير) في باب الفرائض، فيكون لفظ (ثور) متفق عليه وليس قاصراً على رواية مسلم.
وبالله تعالى التوفيق.(171/12)
كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [1]
حج النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة حجة واحدة، ولا خلاف بين أهل العلم في ذلك، وهي التي سميت بـ (حجة الوداع) لأنه ودع فيها الناس، وفي هذه الحجة بين النبي صلى الله عليه وسلم للأمة مناسك الحج الذي هو الركن الخامس من أركان الإسلام، فبين في حجته تلك أنواع الحج، وأركانه، وشروطه، وواجباته، وسننه، وكذلك بين فيها مفسدات الحج، ومحظوراته، ومكروهاته، وبهذا التبيين كمل دين الإسلام، وتمت نعمة الله على العباد.(172/1)
شرح حديث جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حج فخرجنا معه، حتى إذا أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس، فقال: اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، ثم ركب القصواء، حتى إذا استوت به على البيداء أهلّ بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) ] .
(صفة الحج ودخول مكة) يعنون العلماء في كتب الحديث لهذا الحديث بقولهم: حديث جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث جابر الذي صدّر به المؤلف الباب هنا هو أوسع وأشمل رواية لحج النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يرويها من بداية خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى نهاية الحج والعودة إلى المدينة.
وقد عني كثير من العلماء بهذا الحديث، بل وكتب فيه بعض السلف رسائل مستقلة، وقد ذكر النووي رحمه الله عن بعض السلف أنه استخرج منه ما يفوق المائة والخمسين قاعدة فقهية فيما يتعلق بالحج وبغيره، وجابر رضي الله تعالى عنه حدّث بذلك في الكوفة، حينما أتاه جماعة من التابعين وسألوه عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: (فعقد تسعاً) والعقد هو: نوع من الحساب بالأصابع، وهو هنا أن يضم أصابعه العشر وينصب إبهام إحدى الكفين، أي: عشراً إلا واحدة، قال: (مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة تسعاً) أي: تسع سنوات، وفي العاشرة أعلم الناس أنه حاج، فاجتمع إلى المدينة خلق كثير، كلٌ يريد أن يأخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كيفية أعمال الحج، وسميت هذه صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، أي: في الإسلام، وما حج صلى الله عليه وسلم بعد البعثة إلا تلك الحجة.(172/2)
تسميات حجة النبي صلى الله عليه وسلم وأسبابها
وتسمى حجة الإسلام وحجة الوداع وحجة البلاغ.
فسميت حجة الإسلام؛ لأنها هي الوحيدة التي أدى بها الفرض، وسميت حجة الوداع؛ لأنه ودع الناس فيها وقال: (لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) ، وسميت حجة البلاغ؛ لأنه بلغ الناس في خطبه التي كانت في الحج وهي ثلاث أو أربع، بلغهم أصول الدين كله، وحقوق الإنسان مع أخيه، وحق الله سبحانه، وحق المرأة، وحق الملوك، وأشياء عديدة أوصاهم بها في تلك الخطبة.(172/3)
بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم حج قبل البعثة
وقد حج صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وكان في حجه ذلك مغايراً لما كان عليه أهل الجاهلية، وذلك أن أهل مكة كانوا يقولون: نحن الحمس، والحمس هم: خدَّام البيت، أو جيران البيت، أو سدنة البيت، فكانوا يقولون: نحن لا نخرج عن الحرم، وكانوا في يوم عرفة يقفون في المزدلفة ويقولون: لا نخرج عن حدود الحرم، ويقفون عند المشعر الحرام، وكان بقية العرب يذهبون إلى عرفات، فلما حج صلى الله عليه وسلم قبل البعثة اجتاز المزدلفة ومضى ووقف مع الناس في عرفات، حتى قالوا: ما بال هذا الرجل وهو من الحمس؟ أي: كيف نقف مع عامة الناس؟ فلم يقف صلى الله عليه وسلم مع قريش، وإنما ذهب ووقف مع عامة الناس واستمرت قريش على هذا إلى أن جاء الإسلام ونزل قوله سبحانه: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199] ، فتركت قريش موقفها بالمزدلفة وصارت تقف في عرفات حيث يقف الناس، ويفيضون من حيث يفيض الناس.(172/4)
عدد الذين حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم
وفي هذه الحجة التي يصفها جابر رضي الله تعالى عنه اجتمع فيها خلق كثير كما قال جابر: (كنت أنظر أمامي فلا يقطعهم البصر، وخلفي فلا يقطعهم البصر، وعن يميني وعن شمالي كذلك) قدر بعضهم ذلك بعشرة آلاف، وبعضهم بأربعين ألفاً وبعضهم أكثر، وبعضهم بأقل، ولكن جابراً قدر ذلك بمدى النظر، قال: (ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ينزل عليه الوحي، وهو أعلم به، ويفعل ما يوحى إليه، ونحن نأخذ عنه) .(172/5)
سبب عناية العلماء بحديث جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم
وهكذا عني العلماء بهذا الحديث؛ لما فيه من التفصيل للجزئيات في حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أشرت سابقاً أن ابن كثير رحمه الله في كتابه التاريخ في وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم في أحداث السنة العاشرة من الهجرة اعتمد حديث جابر، ثم أتى بجزئيات من الأحاديث الأخرى، والروايات المتنوعة في أماكن أخرى تتمم وتبين ما أجمل في حديث جابر؛ لأنه هو الأصل عنده، ويعتبر ما أورده جابر منسكاً كاملاً وافياً، ولهذا فنحن سنمشي مع المصنف في حديث جابر، وإن كان قد اختصره في بعض المواطن، واكتفى بما يلزم من الضروري منه، وأشمل سياق لحديث جابر هو ما ورد في صحيح مسلم، حيث جاء بكل جزئياته وبما لم يأت به المصنف هنا.
وقوله: وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حج فخرجنا معه) .
يقول جابر رضي الله تعالى عنه: (إن الرسول صلى الله عليه وسلم حج فخرجنا معه) هذا موجز لما تقدم من أنه أعلن للناس أنه حاج، بل أرسل إلى القبائل قبل الحج: (إني حاج هذه السنة، فمن أراد أن يحج معي فليوافني) ، فوافاه أناس بالمدينة، ووافاه أناس بالطريق، ووافاه أناس بمكة، كلٌ بما تيسر له بالنسبة لمقامه ومحل سكناه، فهو أعلمهم وبين لهم وواعدهم وهم توافدوا إليه.(172/6)
الأولى للحاج الذي طريقه قريب من المدينة أن يبدأ بالمدينة
وقول جابر: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجاً فخرجنا معه) هذه الصحبة الكريمة التي يقتفون فيها آثار النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا كثير من العلماء يقول: إذا كان للإنسان في حجه نية في الذهاب إلى المدينة وكان الطريق إلى المدينة أقرب فليبدأ بالمدينة؛ ليكون إهلاله وطريق حجه من حيث أهلّ وسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان طريقه أقرب إلى مكة فليقدم الواجب الذي هو الركن وهو الحج، ثم بعد ذلك إن شاء ذهب إلى المدينة.(172/7)
حكم تلبيد الشعر للمحرم
في حديث جابر وفي غيره: (خرج رسول الله) ، (حج رسول الله) يبين الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج تجرد من ثيابه، واغتسل، وادهن، ولبد شعره، ولبس إزاره ورداءه، يقول بعضهم: لبد شعره ببعض الزيت، ويقول بعضهم: لبد شعره بالعسل، أي: ليجتمع الشعر ولا يتشعث مع الهواء، فيكون موضع الغبار والقذى ونحو ذلك، ثم خرج صلى الله عليه وسلم ولم ينو ولم يلب.(172/8)
قصر الصلاة للمسافر يبدأ بعد خروجه من أطراف بلده
بعد ذلك صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر في المسجد النبوي الشريف أربعاً، أي: أنه لم يشرع في قصر الصلاة من مكانه وإن كان على سفر طويل؛ لأن السنة في قصر الصلاة للمسافر أن شروعه في القصر يبدأ بعد أن يغادر أطراف القرية التي خرج منها، ويستدلون لذلك بكون علي رضي الله تعالى عنه حينما كان خارجاً من الكوفة في سفر صلى الظهر أو العصر أربعاً، فقيل له: ألسنا مسافرين، ألا نقصر الصلاة؟! قال: (لولا هذا الخصيِّص لقصرت الصلاة) .
والخصيِّص تصغير الخص، وهو: عبارة عن عشة أو غرفة من الأعشاب والجريد وأغصان الشجر، فجعله علي رضي الله تعالى عنه تابعاً للقرية، ولا يقصر الإنسان الصلاة إلا بعد أن يغادر معالم القرية وتوابعها، وهكذا فعل هنا صلى الله عليه وسلم.
وبهذه المناسبة يرى بعض الناس أن المسافر بالطائرة إذا وصل إلى مطار المدينة النبوية مثلاً، فإنه يقصر، ويرى أنه خارج عن حدود المدينة، والواقع أن المطار اليوم يعتبر جزءاً وضاحية من المدينة النبوية؛ لاتصال البنيان أكثر المسافة، ولوجود الخدمات التي تمتد إليه من المدينة، من ماء وكهرباء وطرق وغير ذلك، فالأولى أن لا يقصر الإنسان في هذا المطار في أول سفره، والله تعالى أعلم.
خرج النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن تجرد واغتسل وادهن، ولبس الإزار والرداء، وصلى الظهر بالمسجد النبوي أربعاً، فلما أتى ذا الحليفة جاء وقت العصر فصلاها ركعتين، وذا الحليفة هي التي تسمى عند العامة: آبار علي، والمسافة بينها وبين المدينة معروفة، وليس هناك اتصال عمراني متشابك من المدينة إليها.
وفيها صلى النبي صلى الله عليه وسلم العصر ركعتين، وبات كذلك بذي الحليفة، وكان معه نساؤه التسع، فطاف عليهن واغتسل عند كل واحدة منهن، ثم في ضحوة النهار اغتسل لإحرامه.(172/9)
متى يبدأ الإهلال والتلبية؟
ثم بعد ذلك صلى الظهر وأحرم ولبى قيل من مجلسه الذي صلى فيه، وقيل: بعد أن انبعثت به راحلته، وقيل: حينما استوى على البيداء، كما في حديث جابر هنا: (أتى إلى ذي الحليفة، فلما أتى البيداء أهلّ) .
والإهلال هو: رفع الصوت بالتلبية، وهو مأخوذ من الهلال، وهو القمر في أول ظهوره، لأنهم كانوا إذا أهل الشهر وطلع الهلال ورأوه رفعوا أصواتهم إعلاماً بوجود الهلال وبدخول الشهر الجديد، فصار الإهلال مأخوذاً من رفع الصوت بالتلبية، ثم صار يطلق على كل من رفع صوته، يقال: هلل أي: رفع صوته بما يتكلم به، فأهل بمعنى رفع صوته بالتلبية.
وفي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها الذي في صفة الإحرام قالت: (منا من أهل بحج، ومنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة معاً) وفي بعض روايات حديث جابر هنا: يقول صلى الله عليه وسلم: (أتاني آت البارحة -يعني: في الليل- وقال: صل بهذا الوادي المبارك) ولذا يقال له: الوادي العتيق، والوادي المبارك، وقد نزله كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى وبات فيه كما تقدم، ثم أهل ووبيص المسك يظهر في مفرق رأسه، كما جاء عن عائشة قالت: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت، قيل: بم كنت تطيبينه؟ قالت: بأطيب الطيب) ، وتقول: (وكنت أرى وبيص المسك في مفرق رأسه صلى الله عليه وسلم بعد ثلاثة أيام) ، أي: بعد ثلاثة أيام من إحرامه.(172/10)
وقت خروج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة ووصوله إلى مكة
يتفق العلماء على أن خروجه كان لخمس بقين من ذي القعدة، يعني: يوم خمسة وعشرين من ذي القعدة، وماذا يوافق من أيام الأسبوع؟ يقول بعضهم: يوافق يوم الجمعة وهذا هو قول ابن حزم وقد ردوا عليه، ومنهم من يقول: يوافق يوم الخميس، وأكثرهم يقول: إنه كان يوم السبت، وأياً كان من الأيام، فالذي يهمنا من الناحية الزمنية أنه خرج من المدينة في اليوم الخامس والعشرين من ذي القعدة، ووصل مكة لأربع خلون، ويعبرون ببقين أو خلون، وبقين يعني: في آخره، وخلون يعني: من أوله، ووصل مكة لأربع خلون -يعني: مضين- من ذي الحجة، فكانت الفترة الزمنية التي قطع فيها المسافة من المدينة إلى مكة تسعة أيام، خمسة أيام من ذي القعدة، وأربعة أيام من ذي الحجة.(172/11)
جواز الإهلال بأحد الأنساك الثلاثة
وفي قول عائشة رضي الله تعالى عنها: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى إلا الحج، فمنا من أهل ... ) ، وبينت أنواع الأنساك الثلاثة فمن أراد أن يهل بالعمرة متمتعاً أهل، ومن أراد أن يهل بالحج مفرداً أهل، ومن أراد أن يهل بهما معاً أهل، ولم يعب بعضهم على بعض، وتركهم صلى الله عليه وسلم إلى أن أتى مكة وطاف وسعى، وهناك كان أمر جديد.(172/12)
ما يشرع للمرأة إذا حاضت أو نفست قبل أن تحرم وبعد أن تحرم
يقول جابر رضي الله تعالى عنه: (حتى إذا أتينا ذا الحليفة، ولدت أسماء بنت عميس) وهي زوج أبي بكر رضي الله تعالى عنه ولدت له محمداً، وهي في تلك الحالة مقبلة على الإحرام، فتساءلت: ماذا تفعل؟ لأن المحرم يذكر الله ويصلي ويطوف، والحائض ممنوعة من ذلك، والنفساء مثل الحائض، فماذا تفعل؟ وهل يصح منها الإحرام وهي نفساء أو لا يصح منها؟ فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية في الموطأ: (فسأل أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قائلاً: إن أسماء نفست، فماذا تفعل؟ فقال: مرها فلتغتسل ولتستثفر بثوب ولتهل) وفي القاعدة الأصولية: (الآمر للآمر آمر للمأمور) فهل يا ترى! تنطبق هذه القاعدة في قوله صلى الله عليه وسلم: (مرها فلتغتسل) وهل يكون الأمر لـ أبي بكر أو لـ أسماء؟! الصحيح عند الأصوليين أن الأمر لـ أسماء وإنما جاء من طريق أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ومثل هذا ما جاء في قضية عبد الله بن عمر لما طلق زوجته وهي حائض، فأخبر عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال له: (مره فليراجعها) فراجعها عبد الله بن عمر إلى آخر الحديث.
ومن هنا نعلم أن الحيض والنفاس لا يمنعان المرأة من أن تهل بالحج أو بالعمرة، أي: من أن تهل بنسك، ولها -كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها- أن تصنع كل ما يصنعه الحاج، غير أن لا تطوف بالبيت حتى تطهر، فتلبي مع الناس، وتذكر الله مع الناس، وتحمد وتسبح وتهلل وتفعل كل ما يفعله الحاج، إلا أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر، وكذلك إذا وصلت إلى مكة لا تسعى حتى تطهر؛ لأن السعي لا يكون إلا بعد طواف مشروع، والطواف المشروع لا يكون في حالة الحيض أو النفاس، إذاً: لا تسعى؛ لأن السعي مرتب على الطواف، والطواف مرتب على الطهر.
وقوله: (مرها فلتغتسل ولتستثفر) الثفر في الأصل هو: الحبل الذي يوضع تحت ذنب البعير ليمسك الرحل من أن يتزحزح إلى الأمام، وكذلك صورة ما تفعله المرأة فهي تشد على نفسها مثل الحزام، ثم تأخذ خرقة، فترم بها بين فخذيها وتربطها من الخلف ومن الأمام، ليكون ذلك مانعاً من تساقط الدم عليها أو على الأرض، خاصة في المسجد، وليبقى الدم في محله ولا تتلوث به أو ينجس ثيابها أو بدنها، فأرشدها صلى الله عليه وسلم إلى ما تعمله تحفظاً من دم النفاس.
ودم النفاس كما يقول العلماء: لا حد لأقله، وأما أكثره فيختلفون فيه ما بين الأربعين يوماً وبين الخمسين يوماً، إذاً: المسافة طويلة، ولكن متى ارتفع الدم عنها ولو بعد ساعة أو يوم أو أسبوع فعليها أن تغتسل؛ لأنها قد أصبحت طاهرة، ولها كل ما هو للطاهر التي لا حدث عليها، وهنا مضت أسماء مع الحجاج.
وهكذا فقد أخذت قضية الحيض والنفاس حيزاً في حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسبحان الله! من حكمة الله أن تقع تلك الأحداث في صحبة رسول الله وفي بيته، فهذه أسماء زوج الصديق، والصديق مع رسول الله دائماً كما نعلم جميعاً، وبيتهما كأنه بيت واحد، وحينما جاءوا إلى سرف في أثناء الطريق حاضت عائشة، فدخل عليها صلى الله عليه وسلم فوجدها تبكي، فقال لها: (ما يبكيك لعلك نفست؟! -لأن الحيض يسمى نفاساً أيضاً، للتنفيس بخروج الدم- قالت: نعم، قال: لا عليك، هذا أمر كتبه الله على بنات حواء) وفي هذا رد على من يقول: إن الحيض لم يوجد إلا في بني إسرائيل فنقول: لا، هو موجود في بنات حواء عموماً؛ لأن الخلقة للمرأة من حيث هي أنها تحيض، وهذا كما يقال: دورة الرحم الشهرية، وأما دورة الرحم السنوية فهي بالحمل.
وقوله: (قولي: لبيك اللهم! حجة في عمرة) لأنها كانت قد أهلت من ذي الحليفة بالعمرة، وبكت لأن الوقت قصير، ومن سرف إلى مكة مرحلتان، والوقوف بعرفة قريب، وليس عندها مدة تطهر فيها قبل الصعود إلى عرفات، فلا تتمكن من إتمام عمرتها، فبكت لهذا السبب، فقال لها صلى الله عليه وسلم: (لا عليك قولي: حجة في عمرة) يعني: حتى تصيري قارنة، وهكذا الحيض الذي يطرأ على الإحرام لا ينقضه ولا يتعارض معه، بل تمضي المرأة في إحرامها وإن طرأ عليها حدث الحيض أو النفاس، كما أنه في بداية إحرامها لا يمنعها الحيض ولا النفاس من عقد الإحرام.
وفي نهاية الحج بعد النزول من عرفات، وحينما أراد صلى الله عليه وسلم العودة إلى المدينة كانت نوبة صفية في ذلك اليوم، فسأل عنها، فقالت عائشة: إنها حائض، فقال: (عقرى حلقى، أحابستنا هي) يعني: أننا سننتظر حتى تطهر لتطوف بالبيت طواف الإفاضة، فقالوا له صلى الله عليه وسلم: إنها قد طافت، يعني: طافت قبل أن تحيض، قال: (فانفروا إذاً) فبين صلى الله عليه وسلم حكم حيض المرأة في بداية الإحرام عند الميقات، وفي أثناء الطريق بين الميقات ومكة، وفي نهاية الحج قبل الطواف بالبيت طواف الإفاضة، وبهذا اكتملت دورة معالم حيضة المرأة بالنسبة لإحرامها.(172/13)
حكم التلبية ورفع الصوت بها وصفتها ووقتها
ولما صعد على البيداء أهل ولبى، وفي بعض الروايات: (أهل بالتوحيد) لأن التلبية في الحج هي بمثابة الأذان في الصلاة، وكل منهما يرفع فيه الصوت إلا المرأة لا ترفع صوتها، وقد جاء الحديث في رفع الصوت قال صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل عليه السلام فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية) .
وصيغة التلبية هي: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) هذا لفظ حديث جابر في بيان تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويذكر بعض العلماء زيادة عن عبد الله بن عمر: (لبيك وسعديك والخير كله بيديك، والرغباء إليك والعمل) ، ويذكر بعض العلماء أن الإنسان بعد التلبية يسأل الله المغفرة، ويسأله الجنة، ويستعيذ به من النار إلى غير ذلك من المسائل التي يحرص عليها المسلم عقب كل قربة إلى الله سبحانه.
وأما حكم هذه التلبية فيقول بعضهم: هي ركن في الحج ولو مرة، وبعضهم يقول: هي واجبة، ولا خلاف في ذلك، فمن قال: إنها ركن نظر إلى النية؛ لأنه في التلبية قد أهلّ بحج، يعني: نوى الحج، فإذا اعتبرنا أن التلبية في أول الأمر نية للنسك فهي ركن ولا شك في هذا، وإن اعتبرنا أن النية محلها القلب وإنما التلبية إظهار وبيان لنوع النسك الذي اختاره الملبي، فتكون واجبة، ويقولون: للإنسان أن يلبي أو يسبح أو يكبر إلى أن يأتي البيت ويرى الكعبة، فإذا رآها قطع التلبية؛ وذلك لأن معنى التلبية السمع والطاعة والإقامة على طاعة الله، كما يقال: لبى بالمكان بمعنى أقام فيه، وتكون جواباً للنداء، فإذا ناديت وقلت: يا زيد! فإنه يقول: لبيك، أي سمعت وأطعت وأنا مقيم ومستديم على طاعتك، فإذا كانت (لبيك) إجابة للداعي، والحاج إنما خرج مجيباً للداعي الذي دعاه وهو في عالم الذر، والداعي هو إبراهيم كما قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً} [الحج:27] فنادى إبراهيم عليه السلام على جبل أبي قبيس: (أيها الناس! إن الله قد ابتنى لكم بيتاً فحجوه) وقد سأل إبراهيم ربه فقال: (يا رب! أنا إذا ناديت أين يبلغ صوتي؟ قال: عليك النداء وعلينا البلاغ) ، وأبلغ الله سبحانه نداء إبراهيم إلى كل من أراد الله له الحج إلى يوم القيامة، فأجابوا وهم في عالم الذر في أصلاب الآباء، ومن لبى النداء مرة حج مرة، ومن لبى أكثر حج بعدد ما لبى نداء إبراهيم عليه السلام، فحينما تقول: (لبيك) فأنت تجيب الداعي، والداعي هنا هو قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] فأنت الآن تجيب حينما جئت إلى عالم الوجود، وكلفت وأردت أن تؤدي ما عليك من فريضة الحج.
وقوله: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك) هذا هو التوحيد وهو بمعنى: لا إله إلا الله، وقد كان العرب في الجاهلية يقولون: (لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك) فإذا كان هو لله، والله يملكه وهو لا يملك شيئاً، فلماذا تعبدونه؟ اتركوه وأخلصوا التلبية لله وحده، لكن هكذا كانوا يقولون، وهكذا نقل إلينا.
وقوله: (إن الحمد والنعمة) الحمد هو: الثناء على المحمود لكمال ذاته، لا بشيء يصدر منه إلى الحامد، واللغة فيها الحمد، وفيها الثناء، وفيها الشكر، وكلها ثناء على المحمود والمثنى عليه والمشكور، إلا أن الحمد ثناء على المحمود لكمال ذاته ولو لم يصلك منه شيء، وكمال الذات ليس إلا لله سبحانه وحده، وليس في الكون ولا في المخلوقات من هو كامل لذاته، بل هو مكمَّل من غيره، ولابد أن فيه جانب نقص، حتى الرسل أقل ما يقال فيهم: أنهم ماتوا، والموت نقص، والمولى سبحانه وتعالى حياته دائمة باقية.
والحمد هو: الثناء على الله سبحانه وتعالى، ولهذا يقولون: (أل) في قولك: الحمد لله للاستغراق، أي: تستغرق جميع المحامد التي يمكن أن يحمد الله تعالى بها وتكون لله وحده، والثناء يكون على حسن فعال المثنى عليه، كأن يصنع شيئاً ويبرز فيه، مثلاً: رأيت عمارة جيدة، وأعجبك التصميم والتنسيق الذي فيها فأثنيت على المخطط لها أو المنفذ لها لحسن فعاله لا لكماله في شخصه، ولكن لحسن فعله ولو لم يأتك منه شيء، ومثله لو اخترع إنسان دواءً نافعاً، أو جهازاً صالحاً للناس، أو خدمة للناس، فتثني عليه لحسن فعاله ولو لم يأتك منه شيء.
وأما الشكر فهو يكون في مقابل ما يصل إليك ممن تشكره، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، فتشكر الله على نعمة العافية ونعمة الرزق ونعمة العلم ونعمة التوفيق، وعلى كل ما جاءك من الله من النعم، وكذلك تشكر زيداً؛ لأنه خدمك في كذا، أو ساعدك في كذا، فتشكره مقابل ما أسدى إليك من النعم، فتشكر الشخص على ما أتاك منه من خير، وتثني على الشخص على ما يفعله من حسن فعال، ولو لم يكن لك، وتحمد ولا يكون الحمد إلا لكمال الذات، ولا يكون ذلك إلا لله.
وقوله: (إن الحمد والنعمة) النعمة هي: كل ما فيه نعومة: كالعيش والرخاء والصحة والمال، كل ذلك فيه نعومة الحياة؛ لأن الشخص إذا توفرت له الأموال توفر له الغذاء، واكتملت له الصحة، وكانت حياته ناعمة، بخلاف ما إذا كان في شظف من العيش، أو كان في مرض، أو كان في شدة فحياته تكون خشنة، فالنعمة من النعومة التي يطمئن إليها الإنسان، ويركن إليها ويستريح بها، وكل ما في الوجود من نعمة فهي من الله كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ} [النحل:53] وقال: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34] أي نعمةٍ؛ لأن النكرة إذا أضيفت إلى معرفة دلت على العموم {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ} [النحل:53] و (من) هنا جاءت قبل النكرة للتعميم، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34] ، فهي تفوق الحد وتفوق الحصر، والإحصاء مأخوذ من الحصر: كالعد من واحد واثنين وثلاثة إلى ما لا نهاية، فإذا جاء الإنسان ونظر في شخصه فقط، وفيما أنعم الله عليه في ذاته وفي تكوينه من بصر وسمع وتذوق وحركة فلن يستطيع أن يحصي هذه الفضائل والنعم التي أنعم الله تعالى بها عليه.
وهنا قال: (إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) أي: إن كمال الذات لا يساويك يا رب! فيه أحد ولا شريك لك في ذلك، وكذلك في نعمك على خلقك ليس هناك من هو شريك لك في الإنعام، فالحمد والنعمة لك، والملك لك تتصرف فيه كيف شئت لا شريك لك.
وهنا يقال: إذا أعلنت على ملأ العالم، وسمع وشهد الحجر والشجر والمدر والجن والإنس أنك تقر بأن الحمد والكمال لله سبحانه، وأن كل نعمة على منعم عليه بها فهي لله لا شريك له، فهل يليق بك أن تتوجه بعد ذلك إلى غير الله بتزلف أو ثناء، أو بطلب أو باستعانة، أو برغبة فيما عنده؟! هذا الذي تتوجه إليه هو من مخلوقات الله، وكل ما عند المخلوق نعمة من الله، فلماذا تذهب إلى هذا المخلوق الذي أنعم الله عليه، ولا تذهب إلى المنعم سبحانه؟ ولهذا فإن في التلبية تجديد التوحيد لله سبحانه وتعالى.
وقوله: (إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) هكذا ذكر لنا جابر رضي الله تعالى عنه صيغة التلبية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الطويل.
وقد أشرنا إلى أن ابن عمر كان يزيد: (لبيك وسعديك، والملك كله بيديك، والرغباء إليك والعمل) (الملك كله بيديك) فلماذا تسأل مخلوقاً هو نفسه من ملك الله؟! (والرغباء) أي: الرغبة إليك، لا نرغب إلى غيرك؛ لأنك أنت بيديك الخير وغيرك محتاج إليك، (والعمل) أي: نعمل العمل خالصاً لك وليس لغيرك.
وبالنسبة للتلبية يقول الفقهاء رحمهم الله: ليستمر الحاج في التلبية، كما نقول: مثل الشريط المسجل: لبيك لبيك لبيك طول الوقت، ويقولون: لا يتركها بالكلية، ولا يشغل جميع أوقاته بها فيشق على نفسه، وقالوا: يحسن به أن يجدد التلبية عند كل تجدد حال له، فكلما تجدد له حال جدد التلبية، فمثلاً: إذا كنت تمشي فأدركت ركباً فهذا حال جديد، فأعلن التلبية، وإذا وجدت أمامك وادياً منحدراً فنزلت هذا الوادي فهذا أمر جديد فعليك أن تجدد التلبية، وإذا صعدت من الوادي إلى مرتفع فهذا حال جديد فعليك أن تجدد التلبية، وإذا نزلت منزلاً للمقيل أو للطعام أو لشيء من ذلك فهذا حال جديد فجدد التلبية، وإذا أردت أن ترحل من هذا المكان فهذا حال جديد فجدد التلبية، وهكذا تكون التلبية عند كل حال متجدد للحاج أو للمعتمر.
وتستمر التلبية كما أشرنا مع المعتمر إلى أن يرى الكعبة، ثم بعد ذلك حينما يحرم في يوم الثامن من ذي الحجة (يوم التروية) عليه أن يجدد التلبية لحجه إلى أن ينزل من عرفات إلى المزدلفة وإلى أن يصل إلى منى، ويصل إلى جمرة العقبة.(172/14)
حكم المبيت والاغتسال بذي طوى قبل دخول مكة
قال المؤلف رحمه الله: [ (حتى إذا أتينا البيت استلم الركن فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً، ثم أتى مقام إبراهيم فصلى، ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا) ] .
يقول جابر رضي الله تعالى عنه: (حتى إذا أتينا البيت) وقبل إتيان البيت في حديث جابر وغيره أن الرسول صلى الله عليه وسلم في مجيئه من المدينة إلى مكة حينما وصل مكة لم يأت إلى البيت مباشرة، بل بات بذي طوى، وهو المكان المسمى الآن بأبيار الزاهر، وهو معروف إلى الآن بـ (أبواب الزاهر أو بأبوار الزاهر) ، وكان مسمى بذي طوى سابقاً، فبات واغتسل لدخول مكة، ولما أصبح دخل إلى مكة نهاراً، وهنا يقول العلماء: من تيسر له المبيت والغسل في هذا المكان فبها ونعمت، وإن لم يتيسر له المبيت وتيسر له الغسل فبها ونعمت، وإن تيسر له المبيت ولم يتيسر له الغسل فبها ونعمت، يعني: أيهما تيسر له من الأمرين إما المبيت وإما الاغتسال فليفعله، والاغتسال يكون تكريماً لمكة، ومن هنا قالوا: إن على المحرم أغسالا ًمسنونة وهي: الغسل لإحرامه، والغسل لدخول مكة، والغسل للوقوف بعرفات، فهذه الاغتسالات مسنونة في الإحرام، وهي للإحرام وليست للنظافة أو للرفاهية، ولكن من أجل النسك ومن أجل المكان.
فإن لم يتيسر للإنسان المبيت بذلك المكان، ولأن الحال الآن قد تغير عن ذي قبل، فإذا لم يتيسر له فليعمد إلى مكة وإلى مقر سكناه، فإذا وصل واستقر في موطن سكناه إن تيسر له أن يغتسل فبها ونعمت، وإن لم يتيسر له فعليه الوضوء حتى يأتي إلى الكعبة للطواف وهو على طهارة.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
والحمد لله رب العالمين.(172/15)
كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [2]
شعار المرء المسلم إذا أمره الشرع أو نهاه السمع والطاعة، والرضا والتسليم سواء ظهرت له الحكمة أو لم تظهر، وسواء عقل المعنى أو لم يعقل.
ومن تلك الأوامر التي يجب السمع والطاعة فيها استلام الحجر الأسود وتقبيله، فاستلام الحجر الأسود وتقبيله ليس لحجريته ولا لذاته، وإنما هو لامتثال أوامر الشرع.(173/1)
بيان العمل الذي يعمله المحرم إذا وصل إلى البيت
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [ (حتى إذا أتينا البيت استلم الركن) ] .
لما وصل إلى البيت أي: بعد ما كان منه من مبيت واغتسال أتى البيت، وفي بعض الآثار أنه صلى الله عليه وسلم دعا الله لتعظيم هذا البيت وتشريفه وتكريمه، وبعض الفقهاء يقول: يدخل الحاج الآن من باب السلام، وأما في ذلك الوقت فلم يكن هناك باب السلام ولا باب الرحمة ولا غيرهما؛ لأنه لم يكن هناك بنيان على المسجد، وإنما كان الناس يطوفون حول الكعبة، والبيوت من حولها تطوقها عن بعد، ثم بني المسجد بعد ذلك.(173/2)
من أين يبدأ الطواف؟
وقوله: (حتى إذا أتينا البيت استلم الركن) أي: الحجر الأسود، وهو نقطة البداية؛ لأن الطواف حركة دائرية حول الكعبة، والحركة الدائرية تكون البداية فيها من قطر الدائرة، فإن بدأت من الركن اليماني فسوف تنتهي بالركن اليماني، وإن بدأت بالركن الشامي الأيمن أو الشامي الأيسر، فسوف تنتهي الدائرة أو الشوط عند نقطة البداية التي بدأت منها، ولكنه صلى الله عليه وسلم قد حدد نقطة البداية في الطواف.
إذاً: أيّ نقطة في الدائرة يصح منها البداية للشوط، ولما كانت جميع النقاط صالحة للبداية خص صلى الله عليه وسلم منها نقطة، وفي هذا ترجيح بعض المتساوي على بعض ليتعين البداية به، وما دام أنه قد بدأ صلى الله عليه وسلم بالركن فيتعين البداية بالركن، ومن بدأ مثلاً: بالركن اليماني فلا يحتسب له ما بين الركن اليماني والحجر الأسود في هذا الشوط، ويكون بداية شوطه من الحجر.(173/3)
كيفية استلام الركن وحكمه
فجاء (واستلم الركن) والاستلام إنما هو للحجر الأسود؛ لأنه في الركن، كما هو معلوم للجميع، وأما كيفية استلام الركن فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم بيان ذلك أنه استلمه ووضع كفيه عليه وقبّله بدون صوت، فإذا تيسر للإنسان ذلك فبها ونعمت، وإذا لم يتيسر له ولمسه بيده عن بعد قبّل يده، وإذا لم يتيسر له وكان بيده محجن أو عود أو شيء ولمس بالعود طرف الحجر قبّل الجزء الذي لمس الحجر من ذلك العود أو القضيب أو نحوه، حتى ولو بطرف الغترة إذا كنت بعيداً وأعطيتها لشخص قريب من الحجر وقلت له: مس بهذه الغترة الحجر، فإذا مسها أخذتها وقبّلتها، وإن لم يتيسر هذا أشرت بيدك وكبّرت ومضيت في طريقك.
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم النهي عن الزحام عند الحجر، قال لـ عمر رضي الله عنه لما قال: (كنت نذرت اعتكاف ليلة في الجاهلية فماذا أفعل؟ فقال: أوف بنذرك، ثم لما أراد الذهاب، قال: لا تنسنا من صالح دعائك يا أخي! ثم قال: يا عمر! إنك رجل قوي، فلا تزاحمن على الحجر فتؤذي) ونحن نقول: إن الضعيف والقوي لا ينبغي أن يزاحما؛ لأن القوي يؤذي غيره، والضعيف يتأذى بغيره، إذاً: لا حاجة إلى الزحام، وإن كان ابن عمر رضي الله تعالى عنه له في ذلك رأي آخر، ولكن رأي الجمهور وحث النبي صلى الله عليه وسلم هو أولى، وخاصة مع ما نشاهده الآن من مزاحمة النسوة على استلام الحجر أشد من مزاحمة الرجال، وهذا ما أنزل الله به من سلطان، ولا يحق للمرأة -كما يقولون- أن تهدم مِصراً لتبني قَصراً، أتريد أن تصل إلى فضيلة تقبيل الحجر على أكتاف الرجال؟!! فلا ينبغي لها هذا أبداً، وكذلك يجب على الرجل الذي معها أن يحدها وأن يمنعها عن مثل هذا الزحام الذي لا يليق بحرمة المرأة، وخاصة تحت جدار الكعبة.
إذاً: لا ينبغي الزحام على الحجر، لا من رجل ولا من امرأة، لا من قوي ولا من ضعيف.
وجاء عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه حينما قدم إلى الركن ليقبل الحجر قال: (إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) ، يقولون: جاء في رواية -الله أعلم بصحتها-: أن علياً سمع قول عمر، فقال: (لا يا أمير المؤمنين! إنه يضر وينفع؛ لأنه يأتي يوم القيامة له لسان وعينان، يشهد لكل من استلمه) ، ويذكر العلماء في هذا آثاراً عديدة منها: (الحجر يمين الله في أرضه) ومنها: (الحجر نزل من الجنة) وتاريخ الحجر طويل.
ويهمنا هنا قول عمر: (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع) فيه ما يرد به على أولئك الذين يشككون ويوردون شبهة وهي: أنهم يقولون: الإسلام ينهى عن تعظيم الأحجار، ويحطم الأصنام، ثم يقول: قبلوا حجراً! فما الفرق بين هذا الحجر وبين الصنم؟ ويوردون بهذا تشكيكاً على بعض الناس، ومن الأسف كل الأسف أني وجدت من يتصف بالعلم قدم من الآفاق، وطاف بالبيت وامتنع عن استلام الحجر، وقال لي من يصحبه: أنا لا أؤمن أو لا أوقن بمشروعية تقبيل الحجر بعد أن حطمت الأصنام، وهذا تحكيم للعقل، والعقل يقتضي أيضاً الإيمان بالله وبما جاء عن رسول الله؛ لأن سيد الخلق الذي حطم الأصنام بقضيب في يده جاء وقبّله، أي: لبيان الامتثال لأمر الله سبحانه.
ثم لنعلم أيها الإخوة! أنه صلى الله عليه وسلم عندما طاف بالبيت واستلم، وجاء إلى مقام إبراهيم وصلى ركعتين سنة الطواف، ماذا قرأ فيهما؟ قرأ بالتوحيد، فقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:1-2] فكأنه بعد أن قبّل الحجر واستلمه يعلن بأن الله واحد أحد، وأنه ما قبّل الحجر عبادة له، وما قبّل الحجر تعظيماً لحجريته، وإنما قبّله امتثالاً لأمر الله، ولسان حاله أنه يقول: يا أيها الكافرون! أنتم في دين وأنا في دين، وأنا بعيد عنكم وأنتم بعيدون عني كما قال تعالى: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:2] أي: فلم أقبّل الحجر كما تقبلون أنتم، وهكذا تأتي سورة الكافرون، وسورة الإخلاص في ركعتي الطواف رداً على هذه الشبه مسبقاً من ذلك التاريخ.(173/4)
استحباب الرمل في الثلاثة الأشواط الأولى وسبب ذلك
قال المؤلف رحمه الله: [ (حتى إذا أتينا البيت استلم الركن، فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً) ] .
يقول جابر رضي الله عنه في إيراد حجة المصطفى صلى الله عليه وسلم: (خرجنا مع رسول الله إلى أن قال: ثم أتى البيت) ، والبيت أي: الكعبة، (واستلم الركن) والركن هو: الذي فيه الحجر الأسود، وقد تقدمت الإشارة إلى كيفية الاستلام، والصورة الأكمل في الاستلام هو أن يضع الشخص كفيه على الحجر ويقبل الحجر من بين الكفين، وبعد ذلك يمسحه بيده ويقبل يده، أو يمسحه بواسطة ثوب أو عصا أو نحو ذلك، ويقبل تلك الواسطة، فإن لم يتيسر له لا هذا ولا ذاك فيشير ويمضي ولا يقبل يده.
وكذلك يستلم الركن اليماني إلا أن الركن اليماني ليس فيه تقبيل، والخلاف إنما هو إذا لم يتيسر له أن يستلمه، فهل يشير إليه بيده كما يشير إلى الحجر أو لا؟ البعض يرى الإشارة إليه إذا لم يتيسر له استلامه بيده.
يقول جابر رضي الله عنه (فرمل ثلاثا) ً الرمل هو: مشي سريع ببطء، بمعنى: أن يكون سريع الحركة بطيء الانتقال، يعني: أنه يمشي بخطىً متقاربة، في صورة الجري ولكن بدون إسراع، كما لو كان الإنسان معه طفل صغير والطفل يجري، فهو يريد أن يجري معه، لكن لا بخطىً واسعة بل بقدر جري الطفل، كان للرمل سبب في مشروعيته، وقد استمرت هذه المشروعية بعد انتفاء السبب، وبقي هذا العمل تسجيلاً لذلك السبب لما له من عظيم الأهمية، ولهذا دائماً نقول: إن جميع أعمال الحج هي تاريخ ومواعظ وإرشاد، وبيان لما كان عليه السلف رضوان الله عليهم، والسبب هو أنه صلى الله عليه وسلم لما ذهب معتمراً في عمرة الحديبية، وقد رأى صلى الله عليه وسلم قبلها رؤيا أنه يأتي البيت معتمراً، فأخبر أصحابه بذلك وخرج في ألف وأربعمائة رجل، فلما سمعت بهم قريش واجهتهم على حدود الحرم ومنعتهم من الدخول، وصدتهم عن البيت، ثم جرت المفاوضة بين الطرفين على أن يرجعوا من عامهم هذا، فتحللوا في مكانهم، وعظم ذلك على المسلمين، وتم الاتفاق على أنهم يأتون من عام قابل ويعتمرون وتخلي قريش لهم مكة ثلاثة أيام، على أن يدخلوا بغير سلاح القتال، ولكن بسلاح المسافر وهو السيف في قرابه.
فخرج صلى الله عليه وسلم من العام الثاني الذي بعده على هذا الاتفاق، ولكنه أخذ معه سلاحاً كافياً، وأودعه قبل مكة، وأقام عليه الحراس، تخوفاً من غدر قريش، فلما دخلوا المطاف جلس سادة قريش على جبل أبي قبيس وما حوله ينظرون ماذا سيفعل المسلمون في عمرتهم، أيطوفون كما كانوا يطوفون بالسابق أم سيفعلون شيئاً جديداً جاء في الإسلام؟! فلما وصلوا إلى البيت أتاهم الشيطان وقال لهم: هذا محمد وصحبه قد أنهكتهم حمى يثرب، وأضناهم طول السفر، فلو ملتم عليهم ميلة رجل واحد لقضيتم عليهم، وهذه مؤامرة خطيرة؛ لأن المسلمين يعتبرون كالعزَّل، وهم بعيدون عن أي مدد، فلو انقضَّت عليهم قريش ولو بالحجارة لآذوهم، لأن أولئك فوق الجبل، وهؤلاء في بطن الوادي، وأهل مكة بكاملهم، وهؤلاء عددهم محدود.
فلما تآمروا على ذلك كان الوحي أسرع، فجاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأعلمه بما تآمروا عليه، وهنا يقف كل عاقل ويتأمل كيف سيصنع المسلمون أمام هذه المؤامرة الغادرة؟ وليس هناك أحد قريب يمكن أن يسعفهم بعدد من الرجال والسلاح، ولكن يوجد هنا نور النبوة، وتوجد الحكمة النبوية الكريمة، كما قال سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بواقع الحال، ليتعاونوا معه على مواجهة هذه الأزمة، وأمرهم وقال: ما دامت قريش تظن بكم الضعف والوهن فيجب أن تقلبوا عليهم فكرتهم، وعكس الضعف والوهن هي القوة، ولذا قال: (فأروهم منكم اليوم قوة) كي يخلف الظن عندهم، ويعلموا أن هؤلاء ليسوا بضعفاء وليس الوهن يعتريهم، فأمرهم بالاضطباع، وذلك بأن يجعلوا وسط الرداء تحت الإبط الأيمن، وطرفيه على الكتف الأيسر، وأن يرملوا، وتلك هي صورة المشمر المستعد القوي الفتي، فلما رأى المشركون ذلك، ورأوا المسلمين يطوفون وهم أشداء قالوا: أتقولون: إن هؤلاء قد أنهكتهم حمى يثرب، وأضناهم طول السفر وهم ينقزون كالجن، والله! ما هم بأنس إنهم كالجن لا طاقة لنا بهؤلاء.
وبهذا أحبطت مؤامرة الشيطان مع أعوانه، وسلم المسلمون من الغدر الذي كان يحاك ضدهم جميعاً.
وكان من حكمته صلى الله عليه وسلم أن يكون الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى، وأن يمشوا مشياً عادياً في الأربعة الأشواط الباقية، وكذلك يرملون من الحجر الأسود حين يطوفون بالكعبة إلى أن يأتوا إلى الركن اليماني، فيمشون مشياً عادياً يلتقطون أنفاسهم فيه، فإذا قيل: لماذا لم يرملوا في الأشواط الأربعة الباقية؟ الجواب: المتأمل في هذه الحالة يرى أنه لا يمكن أن الألف والأربعمائة سينزلون المطاف في لحظة واحدة، ويستلمون الركن في لحظة واحدة، ويسيرون معاً جميعاً في لحظة واحدة، لا يمكن هذا، بل سيأتون إلى المطاف أرسالاً، فإذا كانت الدفعة الأولى في الشوط الثاني ستكون الدفعة الثانية في الشوط الأول، وإذا كانت الدفعة الثالثة في الشوط الأول فستكون الدفعات التي سبقتها في الشوط الثالث أو الرابع وهكذا، فدخلت الأشواط الأربعة ضمن الثلاثة الأولى في صورة الهرولة، ولن يخلوا المطاف من جماعة تهرول في مدة الأشواط السبعة، وعلى هذا كانت مشروعية الرمل من أجل أن يعكسوا على المشركين خطتهم وتآمرهم مع الشيطان.
وبعد ذلك فتحت مكة، وصارت بلداً إسلامياً في إمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن عمرة القضية كانت في السنة السابعة، وفتح مكة كان في السنة الثامنة، ولما فتحها أقام عليها أميراً، وكان الحج في السنة العاشرة، ولما جاء صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة بعد فتح مكة بسنتين ومكة آمنة ليس فيها عدو، والمسلمون آمنون مطمئنون، وقد انقضت دولة الشرك، وانتفى الإيذاء، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يرمل في الأشواط الثلاثة أول ما قدم إلى مكة، وقد سأل رجل عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا أمير المؤمنين! ما بال هذه الهرولة، لقد هرولنا سابقاً ونحن في خوف، والآن نحن في أمن، وليس هناك خوف؟ يعني: أن العلة قد انتفت، والمعلول باقٍ.
فقال: هرول رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية وهرولنا معه، وفتحت مكة وجاء رسول الله فهرول في حجة الوداع وهرولنا معه، إذاً: فهي سنة باقية، ومثل هذا قد يقال في القوادح عند الأصوليين بالكسر وهو انتفاء العلة مع بقاء المشروع.
ولهذا صفة الهرولة باقية إلى اليوم.
والهرولة للرجال وليس للنساء فيها شيء، وكذا العاجز وكبير السن والذي لا يستطيع الهرولة ليس عليه في ذلك شيء، وإذا تركه الإنسان ليس عليه دم في تركه، وإذا كان هناك زحمة ولا يستطيع أن يهرول فعليه أن يتحرك حركة المهرول كما يقولون في رياضة الصباح: محلك سر، يرفع أرجله وينزلها وهو لا يتقدم إلى الأمام، فبقدر ما يستطيع يهرول، وبهذه المناسبة لا يكون الاضطباع في الإحرام إلا عند البيت لمن سيهرول، أما الذين يكشفون أكتافهم من الميقات فهذا خطأ، ومغاير للسنة، ويعرضون أنفسهم بذلك للحر وللبرد، حتى إن بعض الناس يتقشر جلده من شدة الحر وهو باق على هذه الحالة.
إذاً: محل الاضطباع والهرولة إنما يكون في الطواف الذي يعقبه سعي، فإذا كان هناك شخص حج فإذا طاف طواف القدوم، أو طاف طواف الإفاضة وليس عليه سعي فليس عليه هرولة؛ لأن الهرولة لا تكون إلا في الطواف الذي يعقبه سعي، سواء كان في طواف العمرة الذي يأتي بعده السعي للعمرة أو كان في طواف القدوم الذي يسعى بعده للحج تقديماً.
وها نحن في هذه الآونة وبعد أربعة عشر قرناً نهرول؛ لأننا بهذا العمل نحيي تلك الذكرى، ونتذكر موقف المسلمين في ذلك الوقت، وكيف صبروا وتحملوا، وكيف كانت حياتهم في سبيل الإسلام وفي نصرته، وكيف يواجه الناس مكائد الأعداء، لو تركنا ذلك لنسيناه ولانمحى من تاريخ المسلمين، ولكن إذا استمر الناس على إحيائه وعلى فعله فإنه بمثابة السجل الناطق على مدى الزمن على تلك الأحداث.
والرسول صلى الله عليه وسلم كان من عادته أنه إذا بدأ عملاً واظب عليه ولو لم يكن واجباً، وقد يصير في حقه واجباً، وأما في حق الأمة فعلى حسب التشريع من وجوب أو ندب أو استحباب أو غير ذلك.
إذاً: (رمل ثلاثا) ً أي ثلاثة أشواط من السبعة، (ومشى أربعاً) أي مشى مشياً عادياً.
والله تعالى أعلم.(173/5)
مشروعية الصلاة خلف المقام واستلام الحجر بعد الانتهاء من الطواف
قال المؤلف رحمه الله: [ (ثم أتى مقام إبراهيم فصلى، ثم رجع إلى الركن فاستلمه) ] .
بعدما أكمل الطواف سبعة أشواط أتى إلى مقام إبراهيم فصلى ركعتين، وفي رواية عند مسلم في هذا الحديث: وقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] ، وهذا من المواضع التي وافق عمر فيها ربه سبحانه، أو وافق القرآن فيها رأي عمر؛ إذا ثبت أن عمر رضي الله عنه أول ما جاءوا قال: يا رسول الله! ألا نصلي خلف المقام؟! فنزلت: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] ، وقد أشرنا إلى أن هاتين الركعتين هما سنة الطواف، وأن السنة أن يقرأ المصلي فيهما بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] ، وأشرنا إلى أن هذا المعنى الذي تضمنته هاتان السورتان فيه رد عملي على أولئك الذين يثيرون الشبه والشكوك عند ضعاف النفوس، لأنا وجدنا من يقول: الإسلام يحطم الأصنام وأنتم تعظمون بنية من الحجارة وتقبلون حجراً، وهذا بعينه هو الوثنية، ولكن غاب عنهم الابتلاء والامتحان لمجرد الامتثال، فالمؤمن إذا قيل له: افعل هذا، قال: على العين والرأس، وإذا قيل له: لا تفعل هذا، قال: مرحباً وأهلاً وسهلاً، والكلام في هذا يطول، وإذا نظرنا إلى قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:1-6] فأين الوثنية هنا؟ وأين المشابهة والمشاكلة؟ الجواب: لا توجد، وهكذا في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1-2] إلخ.
إذاً: ليست هناك شبهة بين الطواف بالكعبة وتقبيل الحجر قطعاً.
يقول بعض الفقهاء -والله تعالى أعلم-: إن الله سبحانه وتعالى ينزل مائة رحمة على البيت: ستين للطائفين، وعشرين للمصلين، وعشرين للناظرين، أو ثلاثين للمصلين وعشراً للناظر أي: الذي ينظر إلى الكعبة، وهناك بعض الآثار أن من طاف سبعين شوطاً يعني: عشر مرات أجر كذا وكذا، والله تعالى أعلم، فإذا أراد إنسان أن يطوف سبعين شوطاً نافلة، فهل يا ترى! يصلي ركعتين بعد كل سبعة أشواط، ثم يستأنف الطواف، أو أنه يواصل الطواف سبعاً سبعاً سبعاً ثلاث مرات ثم يذهب إلى المقام فيصلي ركعتين ركعتين ثلاث مرات؟ الجمهور على أن الأفضل في ذلك أن يصلي ركعتين خلف كل سبعة أشواط من الطواف.
قال المؤلف رحمه الله: [ (ثم رجع إلى الركن فاستلمه) ] .
بعد أن صلى خلف المقام رجع صلى الله عليه وسلم إلى الركن، أي: إلى الحجر فاستلمه قبل أن يخرج إلى السعي، إذاً: استلمه في بادئ الأمر في أول الطواف، ثم بعد ذلك على ما تيسر من استلامه في بقية الأشواط، ثم صلى ركعتين خلف المقام سنة الطواف، ثم رجع إلى المقام فاستلمه، أي: كالاستلام الأول، ثم ذهب إلى الصفا والمروة.(173/6)
السعي بين الصفا والمروة
قال المؤلف رحمه الله: [ (ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ:) ] .
قوله: (خرج من الباب) يشعر هذا أنه كان هناك باب، وبعض التواريخ تقول: إن أول من بنى المسجد إنما هو عمر، والآخرون يقولون: عمر إنما وسعه وأدخل فيه دار الندوة، والله تعالى أعلم، فهنا خرج إلى الصفا، فلما وصل إلى الصفا رقى عليه حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة وهو على الصفا، ثم نبه وقال: (أبدأ بما بدأ الله به، أو: ابدءوا بما بدأ الله به) ، أو أنهم سألوا: (من أين نبدأ يا رسول الله؟! قال: ابدءوا بما بدأ الله به) ، أو سألوا: (من أين تبدأ يا رسول الله؟! قال: أبدأ بما بدأ الله به) ومن هنا نجد أن المنهج العلمي في كتاب الله أنه سبحانه إذا قدم أحد المتماثلين كان لتقديمه دلالة أولولية في الموضوع، والصفا والمروة كلاهما غاية، والجمهور على أن الذهاب من الصفا إلى المروة شوط والعودة من المروة إلى الصفا شوط، إلا رواية عن ابن بنت الشافعي وغيره يقولون: إن الذهاب من الصفا إلى المروة والعودة إلى الصفا شوط واحد، وهذا ما يقول به ابن حزم، ولكن كما قال النووي: هذا شاذ مغاير لما عليه إجماع المسلمين.
فهنا صعد صلى الله عليه وسلم إلى الصفا، وقال: أبدأ بما بدأ الله به، وهذا الترتيب هو المنهج في كتاب الله، ومن ذلك ما جاء في الحدود: ففي حد السرقة قال سبحانه وتعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة:38] وفي حد الزنا قال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور:2] ففي حد السرقة قدم الرجل؛ لأن الرجل في السرقة أقوى؛ لأنه يقاوم ويدافع، وأما المرأة في السرقة فهي ضعيفة، وفي باب الزنا قدم المرأة؛ لأنها هي السبب، وهي التي تغري الرجل كما قال تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] فلما كان الرجل أقوى في عنصر السرقة قدمه على المرأة، ولما كانت المرأة أقوى فاعلية في أمر الزنا قدمها على الرجل؛ لأن الرجل لا يمكن أن يزني بامرأة إلا إذا وجد منها الميل، أو جد منها الإغراء بنفسها.
إذاً: إذا وجدنا في القرآن الكريم متساويين فبدأ أو قدم ذكر أحد هذين المتساويين عرفنا أن لهذا المقدَّم خصائص أو أولوية في الموضوع، لهذا قال صلى الله عليه وسلم هنا (أبدأ أو ابدءوا بما بدأ الله به) فبدأ صلى الله عليه وسلم بالصفا.(173/7)
ما يقوله المحرم على الصفا والمروة والبدء بالصفا
قال المؤلف رحمه الله: [ (فلما دنا من الصفا قرأ: إن {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158] .
أبدأ بما بدأ الله به) ] .
والمناسبة هنا هي مثل التي هناك في المقام في قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] وكأنه يشير إلى المناسبة، وهنا لما صعد على الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} [البقرة:158] يعني: أنه ذكر الآية التي تنص على السعي.
قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158] .
شعائر جمع شعار، وجمع شعيرة، والشعيرة هي: النسك، والشعار هو: العلامة المظهرة، كما تقول: شعار الشركة الفلانية كذا، وكذلك هنا الصفا والمروة من شعائر الله، وجميع مناسك الحج من شعائر الله.
قوله: [ (أبدأ بما بدأ الله به، فرقى الصفا حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة فوحّد الله وكبره) ] .
وحد وكبر، وحد عنوان لقوله: لا إله إلا الله، هذا هو التوحيد، وكبر قال: الله أكبر، وكبر من ألفاظ النحت، تقول: كبر، وسبح، وحمدل، وحوقل، فكبر أي: قال: الله أكبر، وهلل قال: لا إله إلا الله، وحوقل قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وهكذا سبحل قال: سبحان الله، فهذه ألفاظ يسمونها ألفاظ النحت.
قوله: [فوحد الله وكبره وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير] .
وهنا عيّن الذكر الذي يقال على الصفا كما عيّن الذكر الذي جاء في التلبية وهو: (لبيك اللهم، لبيك لبيك لا شريك لك) .
إلخ، وكذلك هنا وحد الله وأعلن أن الملك كله لله.
قوله: [لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده] .
في هذا تذكير بغزوة الأحزاب (لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده) أي: بنصر دينه ونبيه والمسلمين، وقد جاءت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب:9] فهذا وعد الله والنصرة بالفعل، ((وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا)) والجنود هنا غير الرياح؛ لأن الرياح مذكورة وحدها، وجنود الله لا يعلمهم إلا الله كما قال سبحانه: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر:31] .
وقد جاء في حديث حذيفة في غزوة الأحزاب أن الملائكة شاركت في القتال، ففي قصة حذيفة حينما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يأتيني بخبر القوم؟) ولشدة البرد والجوع والخوف لم يتحرك أحد، كما قال حذيفة: فلم يتحرك أحد، ثم قال صلى الله عليه وسلم في المرة الثانية: (من يذهب فيأتيني بخبر القوم وأضمن له العودة؟) فلم يتحرك أحد، وفي الثالثة قال: (وأضمن له العودة ويكون رفيقي في الجنة) فما قام أحد، فتتبع الحاضرين واحداً واحداً حتى إذا وقف علي وقال: حذيفة.
قلت: نعم، وكنت أتقاصر إلى الأرض، فلما سماني لم يكن لي بد من أن أقوم، فقمت وأنا أقرقر من البرد أي: يرتعش وأسنانه تدق في بعضها، قال: وهو ملتف في مرط لأهله فضمني إليه، فوالله! لكأنني في حمام، وقال لي: (اذهب وائتني بخبر القوم، ولا تحدث حدثاً حتى تأتيني) فذهبت.
وهو خبر طويل وفيه عند رجوعه قال: (لقيت عشرين رجلاً معمماً على خيل، فقالوا لي: أخبر صاحبك بأن الله قد كفاه) وهؤلاء العشرون المعممون على هذه الخيل من أين جاءوا؟ لو كانوا من جيش المسلمين لعرفهم حذيفة، فإذاً: هؤلاء ليسوا من جيش المسلمين، وليسوا من جيش المشركين، فهم فريق ثالث، فمن يكون؟ لاشك أنهم من الملائكة.
إذاً: نصر الله عبده وأنجز وعده، وهزم الأحزاب وحده، هزمهم بتسليط الريح عليهم، وبالجنود التي لا يعلمها إلا هو.
قوله: [ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة] بعد ما أدى نسك الصفا والذكر الوارد في ذلك نزل إلى المروة، والسنة هنا في السعي هي أن يستغرق الساعي كامل المسافة بين الغايتين، يبن الصفا والمروة، فكيف يتحقق الشخص أنه قد استغرق البينية؟ والبينية نهايتها من الطرف الأول الصفا ومن الطرف الثاني المروة؟ لا يتحقق الإنسان من ذلك إلا إذا صعد على جزء من الصفا، ومشى وأتم المشوار وصعد على جزء من المروة، فإذا كان قد أخذ في مشواره جزءاً من الصفا وجزءاً من المروة جزمنا يقيناً أنه قد استغرق بينية ما بين الصفا والمروة.(173/8)
كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [3]
الخلاف الذي يقع بين الفقهاء وأصحاب المذاهب هو من الخلاف الجائز، وهو إما خلاف أفهام وإما خلاف تنوع، ومن هذا الخلاف ما حصل بينهم في تفضيل أنواع الحج الثلاثة، فمن أخذ بهذا أو بهذا فلا ينبغي الإنكار عليه، ولكن ينبغي على المسلم أن يتحرى الحق وأن ينظر الأقرب إلى الصواب.(174/1)
مشروعية الإسراع في بطن الوادي الذي بين الصفا والمروة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [ (ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى) ] .
أي: ذهب متجهاً إلى المروة (حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى) أي: كان يمشي مشياً عادياً، ولكن لما وصل إلى بطن الوادي سعى، أي: أسرع في المشي، وهنا أيضاً فقال: إن سبب هذا السعي قد انتهى، ولكن المشروعية لا زالت باقية، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اسعوا، فإن أمكم هاجر قد سعت) .(174/2)
سبب مشروعية السعي بين الصفا والمروة
وما هو سبب هذا السعي؟ يتفق العلماء جميعاً أن سببه: هو سعي هاجر حينما جاء الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بها وبابنها إسماعيل ووضعهما في مكة، والقصة معروفة وسببها أن سارة غارت من هاجر، وسارة هي زوج إبراهيم عليه السلام، ومن أكرم نساء العالمين في زمانها، وهاجر كانت جارية، وهبها لها حاكم مصر لما عرضت عليه في قصتها الطويلة معه، فأخدمها هذه الجارية، فوهبتها سارة لإبراهيم، فحملت هذه الجارية من إبراهيم، وسارة الزوجة الحرة لم تحمل فغارت منها، فأبعدها إبراهيم عليه السلام منها، والحقيقة أن الأساس هو قدر الله سبحانه وتعالى؛ لينقل الدعوة من موطن لم تعد صالحة فيه إلى موطن جديد؛ لأن الدعوة كانت -كما يقال- في أرض الأنبياء؛ في فلسطين، والشام، ولكن طال المدى، ولم تعد تلك المنطقة صالحة لحمل الرسالة العالمية.
وعلم الله سبحانه وتعالى أنه سيأتي في هذه البقعة من يصلح لحمل الرسالة إلى العالم وتكون رسالته باقية إلى الأبد، فكان ذلك أولاً في نقل إسماعيل وهو طفل عند أن جاء به إبراهيم مع أمه ووضعهما في مكة وهي وادٍ قفر كما قال تعالى: {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم:37] ولكن {عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم:37] ، وأحاطهما بأعظم وسائل التموين المتوفرة {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ} [إبراهيم:37] وهذه الدعوة كفيلة بإيوائهما، وكفيلة بالإنفاق عليهما، وكفيلة بالمعيشة الرغدة لهما، وبكل ما تتطلبه الحياة؛ لأن هذا مشوار طويل، فلما جاء إبراهيم بـ هاجر وإسماعيل لم يكن معهما إلا جراب من تمر وسقاء من ماء، فلما وضعهما في ذلك المكان رجع عائداً من حيث جاء، فأمسكت هاجر بزمام راحلته وقالت: إلى أين تذهب وإلى من تدعنا هاهنا؟ قال: لله.
من منا يترك ولده أو زوجه أو رجلاً بكل قواه في فلاة لا ماء فيها ولا نبات ولا أنيس ولا جليس؟! وقد كنا قبل مدة إذا تعطلت علينا السيارة في الطريق في الليل نجتمع مع بعضنا ونخاف ونحن في أمن، فإذا كان هذا واد غير ذي زرع، فمعنى هذا أنه غير مسكون، وليس فيه ماء، وهذه امرأة معها طفل، ولو كانت وحدها لكانت المسئولية أخف؛ لأنها مسئولية شخصيتها فقط، أما الآن فإنها تتحمل مسئولية شخصها ومسئولية الطفل الذي معها؛ لأن عاطفة الأمومة تتحرك فيها فقالت: لمن تدعنا؟ قال: لله.
إنه اليقين بالله فعلاً؛ لأن الله هو الذي وجهه ليأتي بـ هاجر وإسماعيل إلى هذا المكان: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم:37] فهما ضيوف عليك يا رب! وفي جوارك ونعم الجوار.
ونحن لو أودعنا أسرة بكاملها في جوار أمير أو ملك لقام بإكرامهم، ولقام بمسئوليتهم فكيف برب العالمين؟! وقد أتى بهما ووضعهما عند بيته، الله أكبر! والله! إننا لنمر على هذه المواقف ونحن غافلون لا نعي منها إلا حروفها وذكراها، فعلينا أن نتأمل وأن نحكم العواطف والشعور الجياشة في هذا المقام، وفي هذه القصة قال تعالى: {عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ} [إبراهيم:37] .
مهما كان السقاء، ومهما كان جراب التمر فلابد أن ينتهي وينفد، فلما انتهى وليس عندها مدد عطشت، وقل حليبها، وعطش الصبي وبكى، فأخذت تبحث عن الماء، أين تجد الماء؟ فلم تر شيئاً، ولم تر رائحاً ولا غادياً، فنظرت إلى الصفا وهو أقرب مكان مرتفع فصعدت عليه لتستطلع ما وراءه لعلها تجد مغيثاً، أو ترى ماءً، أو ترى رائحاً أو غادياً يسعفها بماء فلم تجد ولم تر شيئاً، فنظرت إلى الجهة الأخرى وأقرب مكان مرتفع إليها هو المروة، فنزلت من الصفا وصعدت على المروة لتستطلع ما وراء المروة كاستطلاعها إلى ما وراء الصفا، ولكن كان من طبيعة الأرض وجغرافية المكان أن إسماعيل كان في مكان منخفض، وأوطى مكان في مكة هو مكان الكعبة، وأوطى مكان في المدينة هو مكان المسجد النبوي، وهذا باتفاق.
فكان إسماعيل في مكان منخفض، ولما كانت هي في المرتفع على الصفا كانت قريبة وتراه، ولما انصبت قدماها في بطن الوادي صار مستوى نظرها دون مكان إسماعيل فلم تره، فانشغلت عليه فأسرعت حتى أتت إلى شاطئ الوادي من الجهة الأخرى فرأته فاستقرت، فمشت مشياً عادياً، فنظرت وراء المروة فلم تجد شيئاً، فرجعت من المروة إلى الصفا، وعادت من الصفا إلى المروة، وتركها الله تفعل ذلك سبع مرات لكي تتقطع علائق قلبها، وينعدم عندها سبب الرجاء من الخلق، فتوجهت إلى الخالق سبحانه بكليتها وبيقينها واضطرارها، فنظر الله إلى قلبها وإلى حالها فأسعفها حالاً لا بدلاء ولا بسقاء ولكن بجبريل الذي نزل فشق الصخر حتى نبع الماء، وأصبحت زمزم تفيض للعالم، وأصبحت مكة هي السكن والأمن الغذائي -كما يقولون- وفيها الاستيطان، كل ذلك متوفر فيها، ونحن الآن إذا سعينا بين الصفا والمروة إذا انصبت أقدامنا في بطن الوادي نسرع مع أن السبب قد ذهب، ولكن كما حصل الرمل لسبب قد انتهى وبقي الرمل، وكذلك حصل الإسراع في السعي وقد انتهى السبب ولكن بقي التشريع، ومن الطرائف التي سمعتها في المسعى: أن واحداً كان يسعى، وكان المطوف له طفل صغير، فلما جاء عند أول مكان السعي قال له المطوف: هنا اجر اجر، قال له: لماذا؟ قال: لأن سيدتنا هاجر كانت تسعى هنا وهي تطلب الماء لولدها، فقال له: هذه كانت تطلب الماء لولدها وأنا ما الذي يعنيني؟ المسألة هنا ليست شكلية، وإنما المسألة مسألة تشريع، لتعيش أيها الحاج! في مناسك الحج بروحك وإحساسك وشعورك لا بجسمك دون قلبك، فممكن أن نذهب ونأتي دون شعور، ولكن كل خطوة في مناسك الحج فيها دروس وفيها عبر، وهكذا سعى صلى الله عليه وسلم، ونحن نسعى كما سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم.(174/3)
حكم الهرولة بين الصفا والمروة للنساء
ومن الناحية الفقهية الإسراع على الرجال، وليس على النساء إسراع؛ لأن الإسراع والهرولة فيها حركة لا تتناسب مع حالة المرأة؛ لأن المرأة مبناها على الستر وعلى الوقار وعلى الحشمة، وعلى أمور تليق بها، أما الرجل فلديه استعداد لأمور عديدة.
قوله: [حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي دعا، حتى إذا صعدتا مشى فأتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصفا] .
وكان الوادي يا إخوان! موجوداً إلى عهد قريب، أي: إلى السبعينات، وإذا جاء السيل يمر منه وكان المسعى سوقاً وعلى جانبيه الدكاكين والمطاعم، وهذا كما كان عليه في السابق، ولكن لما شيد المسعى على هذه الحالة عدِّل في أرضية المسعى، وأصبح الوادي لا أثر له، ولكن المسئولين وضعوا علامات وهي (اللمبات) ذات الضوء الأخضر، فوضعوا علامة في بداية الوادي وعلامة في نهايته؛ لأن الذي يسعى يسعى في بطن الوادي في ذهابه ويسعى في بطن الوادي في إيابه وعودته.(174/4)
أنواع النسك الثلاثة والخلاف فيها وفي أفضلها
قوله: [ففعل على المروة كما فعل على الصفا وذكر الحديث] .
أي: بأن استقبل البيت، وهلل وكبر وقرأ الآية إلخ.
وهنا المؤلف ترك جزءاً هاماً من حديث جابر، وهو محط الرحال عند طلبة العلم، وأكبر معركة علمية تقام بينهم هي عند هذا الجزء الذي تركه المؤلف، وهذا الجزء هو أن جابراً وغيره يذكرون عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: لما أكمل السعي سبعة أشواط، وهو يبدأ بالصفا وينتهي بالمروة، لما أنهى صلى الله عليه وسلم سعيه وقف على المروة، وأمر من لم يسق الهدي أن يجعلها عمرة، وهنا جاء النقاش في فسخ الحج إلى عمرة هل هو خاص بهم في ذلك الحج أو هو عام لهم ولغيرهم؟ والنقاش في هذا طويل، وفيه بحث، وعلى طلبة العلم أن يقرءوا هذا البحث في نيل الأوطار، وفي فتح الباري، وإن كان البخاري لم يسق حديث جابر على ما هو عليه، ولكن المسألة مبحوثة في فتح الباري، حتى يكون لديهم الخلفية لهذه القضية؛ لأنها تحتاج إلى إمعان النظر، والله الهادي والموفق.
قال المؤلف رحمه الله: [ (ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى، حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا، وذكر الحديث، وفيه: فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى، وركب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس) .
] ساق لنا جابر رضي الله تعالى عنه من صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم أتى البيت وطاف سبعاً، وصلى خلف المقام ثم رجع فاستلم الركن، ثم خرج إلى الصفا والمروة للسعي، فبدأ بالصفا فرقى على الصفا حتى رأى البيت، ودعا بالدعاء المتقدم، ثم توجه إلى المروة، فلما انصبت قدماه في بطن الوادي أسرع، فلما ارتفع عن بطن الوادي مشى، أي: مشياً عادياً، وقد أشرنا إلى كل ما يؤخذ من هذا كله من الرمل في السعي، وأنه خاص بالرجال دون النساء، وإن كان الأصل فيه هي المرأة، ولكن كان ذلك سبب المشروعية، ثم رفع عنها الإسراع لما جاء في عموم التشريع من الحفاظ على المرأة؛ لأن الإسراع قد يخرجها عن الوقار، وعما يليق بها من عوامل الستر والحشمة.
فلما صعد المروة صنع عليه كما صنع على الصفا، قال: (وذكر الحديث) وهذا الذي لم يذكره هنا هو من أهم النقاط التي تبحث في مناسك الحج، وهو أنه صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى المروة قال: (من لم يسق الهدي فليجعلها عمرة) وذكر هنا أيضاً أن علياً رضي الله تعالى عنه قدم من اليمن مهلاً بإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه أبو موسى الأشعري، وكانا مبعوثين إلى اليمن قضاة وأمراء، فلما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بم أهللت يا علي؟! قال: أهللت بما أهل به رسول الله، قال: هل معك هدي، قال: نعم، قال: ابق على إهلالك) وسأل أبا موسى رضي الله تعالى عنه: (بم أهللت؟ قال: أهللت بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أمعك هدي؟ قال: لا، قال: فتحلل) وكان مجموع ما جاء به علي رضي الله تعالى عنه من اليمن وما ساقه النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بلغ مائة بدنة، وأشرك علياً رضي الله تعالى عنه معه.
وفي الحديث أن علياً لما دخل على فاطمة رضي الله تعالى عنها وجدها قد لبست واغتسلت واكتحلت، فتغيظ عليها وقال: هذا وقت الإحرام، فقالت: أمرني أبي بذلك، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (ألا ترى إلى فاطمة كيف فعلت، اغتسلت وتطيبت واكتحلت وقالت: إن أبي أمرني بذلك؟! قال: صدقت يا علي!) .
وهنا لما قال صلى الله عليه وسلم: (من لم يسق الهدي فليجعلها عمرة) توانى الناس ولم يسارعوا إلى التحلل، أي: كل من لم يسق الهدي، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة) وهنا يبحث العلماء في تحلل المفرد بالحج، أو القارن بالحج إذا سعى بين الصفا والمروة: هل يتحلل كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم ويجعلها عمرة، أم يبقى على إحرامه بالحج مفرداً أو قارناً؟ جاء أن أبا موسى الأشعري كان يفتي: من لم يسق الهدي أن يجعلها عمرة، أي: كما أمره النبي صلى الله عليه وسلم، ولما كان في خلافة عمر، قيل له: على رسلك يا أبا موسى! لقد أحدث أمير المؤمنين في النسك، فقال: من كنا أفتيناه بشيء فليمسك، وإن أمير المؤمنين قادم عليكم فاستفتوه، فلما قدم عمر رضي الله عنه سأله: ماذا أحدثت في النسك يا أمير المؤمنين؟! قال: (إن نكمل فبكتاب الله، وإن نتحلل فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: إن نكمل أي: إن نبقى على الإفراد بالحج بدون سوق الهدي فبكتاب الله، يعني بذلك: قوله سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] لأن من فسخ الحج إلى عمرة لم يتمه، بل خرج عنه وقطعه (وإن نتحلل فبسنة رسول الله) يعني قوله صلى الله عليه وسلم: (من لم يسق الهدي فليجعلها عمرة) .
وهنا النقاش في هذه المسألة طويل وحاد بين العلماء، ولكن الشدة إنما كانت عند الخلف وليست عند السلف، والمسألة هي: هل يجب فسخ الحج إلى العمرة كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم (من لم يسق الهدي) أم أن ذلك كان لظرف خاص في ذلك الوقت لبيان التشريع؟ الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأبو حنيفة يقولون: لا يجوز فسخ الحج إلى العمرة لمن جاء مفرداً، وعن أحمد رحمه الله روايتان: رواية تقول كما يقول الجمهور، ورواية تقول: يجوز فسخ الحج، وقول الجمهور على أنه لا يفسخ حجه، ورواية أحمد وقول ابن حزم: يجب أن يفسخ، هذه الأقوال هي محل الإشكال عند المتأخرين.
ولكن للأسف أن بعض المتأخرين تشددوا في ذلك أكثر مما كان عليه سلفهم من قبل، ودليل الذين يقولون: يجب الفسخ هو قوله صلى الله عليه وسلم: (من لم يسق الهدي فليجعلها عمرة) واللام هنا لام الأمر، ثم قال: (لو لم أسق الهدي لجعلتها عمرة) ثم تمنى، وقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة) .
وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بيان السبب في أمر الذي لم يسق الهدي أن يجعلها عمرة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنهم كانوا قبل ذلك لا يرون جواز العمرة في أشهر الحج، وكانوا يقولون: (إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر) ويعنون بصفر شهر محرم؛ لأنهم كانوا يقدمون صفر بدل محرم، على خلاف ترتيب الأشهر ذو القعدة ثم ذو الحجة وتنتهي السنة ثم يبدأ المحرم، وكانت الأشهر الحرم هي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثلاثة أشهر متوالية، ورجب وهو فرد بين جمادى وشعبان، وكانوا يحترمون هذه الأشهر الحرم، فلا يقاتلون فيها ولا يثأرون، ولا ولا إلخ.
فكانوا يستطيلون هذه الأشهر الثلاثة لكونها متوالية، فيؤخرون المحرم ويجعلونه بدل صفر، ويقدمون صفر ويجعلونه بدل محرم، وهو النسيء الذي ذكره الله في القرآن الكريم بقوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37] .
فكانوا يقولون: (إذا برأ الدبر) أي: دبر البعير من رحلة الحج ذهاباً وإياباً، (وعفا الأثر) أي: أثر السير في الأرض، (وانسلخ صفر) أي: الذي هو محل المحرم، حلت العمرة، ومعنى ذلك أنها قبل هذا لا تحل عندهم، فيذكر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا يقولون بذلك.
(فقدموا) والفاء هنا فاء التعقيب، فقدموا صبح رابعة، وقد أشرنا سابقاً أن خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة كان لخمس بقين من ذي القعدة، ووصلوا مكة لأربع خلون -يعني: خرجن- من ذي الحجة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يتحللوا ويجعلوها عمرة وسبب ذلك ما ذكره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أنهم كانوا يعتقدون هذا الاعتقاد.
(فأمرهم أن يتحللوا ويجعلوها عمرة) الفاء هنا تفيد السببية والعلة، أي: أن سبب أمرهم بالتحلل هو ما كانوا يعتقدونه من عدم جواز العمرة في أشهر الحج فأمرهم بالعمرة ليبين لهم جواز العمرة في أشهر الحج على خلاف ما كانوا يعتقدون، ولهذا تأخر الكثيرون عن أن يتحللوا واستنكروا ذلك وقالوا: (أي حل يا رسول الله؟! قال: الحل كله، قال قائل منهم: أنذهب إلى منى ومذاكيرنا تقطر منياً؟!) يعني: أنباشر النساء في مكة بعد التحلل ثم نخرج في اليوم الثامن إلى منى ونحن حديثو عهد بالنساء، فكانوا يستبعدون ذلك ويستكثرونه.
ثم قال: (لو لم أسق الهدي لجعلتها عمرة) ثم قال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة) يبين لهم صلى الله عليه وسلم أنه لولا الموانع الموجودة لتحلل هو أيضاً ولجعلها عمرة؛ ليبين لهم عملياً أنه مثلهم سيتحلل ويجعلها عمرة، ولكن فاته ما تمناه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بدأ إحرامه وإهلاله من ذي الحليفة مفرداً بالحج، ثم أتاه جبريل عليه السلام وقال: (يا محمد! قل: عمرة في حجة) فأمره جبريل عليه السلام في بادئ الطريق أن يضم العمرة إلى الحج، وهو هنا قد اعتمر في أشهر الحج، لكن كان يريد أن يتحلل نهائياً؛ لأن سوقه الهدي وهو قارن يجعله في الإحلال كالمفرد، لا يحق له أن يتحلل.
ومن هنا تساءل أحد الصحابة كما جاء في حديث أبي ذر، وقال: (يا رسول الله! ألعامنا هذا؟ -يعني: هذا التحلل، ودخول العمرة في أشهر الحج- قال: بل للأبد وأبد الأبد، دخلت العمرة في الحج هكذا وشبك بين أصابعه) وهل دخلت العمرة في الحج للقارن بأن يكفيه عمل الحج عن عمل العمرة فيكون الطواف واحداً وا(174/5)
ثبوت استمرارية الإفراد عن الخلفاء الراشدين
ثم وجدنا بعد ذلك هذا التطبيق العملي من الخلفاء الراشدين الأربعة؛ لأنه بعد تلك السنة التي كانت فيها حجة الوداع، والتي ودع النبي صلى الله عليه وسلم فيها أصحابه، رجع إلى المدينة ولقي الرفيق الأعلى، ولما استخلف أبو بكر رضي الله تعالى عنه وحج بالناس، جاء مفرداً الحج، ولم يتحلل بعد أن سعى بين الصفا والمروة كما نبه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه علم أن ذاك التحلل خاص بذاك الركب، وخاص برسول الله ومن معه لبيان جواز العمرة في أشهر الحج، فهل يا ترى كان أبو بكر غائباً عن قوله صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت) ؟ الجواب: لم يكن غائباً، بل كان مع رسول الله، وكانت زاملتهما واحدة، بمعنى أن البعير الذي كان عليه الزاد لـ أبي بكر ولرسول الله كان واحداً.
إذاً: هما لم يفترقا قط، بل كان حاضراً مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد سعى معه بين الصفا والمروة، وهو أول من يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم تمنيه: (لو استقبلت ... ) ، (لو لم أسق) ، كل ذلك قد سمعه ووعاه وشاهده، وإذا به في خلافته يحج مفرداً، فهل كان على خلاف رسول الله؟ حاشا وكلا، وهل نحن اليوم بعد أربعة عشر قرناً أشد حباً واتباعاً لرسول الله من أبي بكر رضي الله تعالى عنه؟ حاشا وكلا.
ثم جاء بعد ذلك عمر رضي الله تعالى عنه، وامتدت خلافته عشر سنوات فكان يأتي في خلافته ويحج بالناس مفرداً، ولم يكن أيضاً غائباً عن قوله صلى الله عليه وسلم: (لو استقبلت ... ) ولم يكن غائباً أيضاً عن قوله: (لو لم أسق الهدي لجعلتها عمرة) ولكن علم أن ذلك كان لغرض وقد حصل ذلك الغرض في تلك السنة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بل جاء عن أمير المؤمنين عمر ما هو أشد من ذلك، فقد كان ينهى الناس أن يحجوا متمتعين بالعمرة، الذي يقول عنه بعض الحنابلة: إنه أولى من الأنساك الأخرى: القران والإفراد، عمر يقول: لا يأت أحد متمتعاً بالعمرة فيتحلل ثم يحج من عامه، قالوا: يا أمير المؤمنين! لماذا تنهى والرسول قد فعل؟ أي: فعله أصحابه معه وهو الذي أمرهم أن يتحللوا؟ قال: أردت أن يكثر المجيء من الحجيج إلى البيت، أي: يأتي الواحد بعمرة في سفرة ويأتي بحج في سفرة أخرى.
إذاً: عمر رضي الله تعالى عنه لم يفسخ الحج في عمرة فحسب، بل نهى عن العمرة، وعن التمتع في أشهر الحج.
وعثمان رضي الله تعالى عنه لما ولي كان يحج بالناس أيضاً مفرداً، ثم بعد ذلك نهى عن القران بين الحج والعمرة، فسمع بذلك علي رضي الله تعالى عنه، وهو ينجع لبكرات له دقيقاً وحبقاً، والحبق هو ورق الشجر، وصاحب الإبل إذا جاء إلى شجرة مورقة وأغصانها مرتفعة يأخذ عصا ويضرب بها الأغصان، فيسقط الورق على الأرض، فإما أن تأكله الإبل بنفسها وإما أن يجمعه ويخلطه مع الدقيق، ثم يعطيه لها، يقول راوي الحديث: فلا أنسى أثر العجين على يديه، فذهب علي وهو بتلك الحالة، وعجين الحبق على يديه لم يغسله، ودخل على عثمان رضي الله تعالى عنه، وقال: أأنت تنهى عن القران -أي: بين العمرة والحج-؟ قال: نعم، قال: كيف تنهى عن شيء فعلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: شيء رأيته وأردت أن يكثر مجيء الناس إلى البيت، مثل رأي عمر رضي الله تعالى عنه؛ لأن القارن بين الحج والعمرة سيأتي لهما مرة واحدة، فإذا ما فرق بينهما على ما رآه عمر فسيأتي معتمراً ويرجع ثم يأتي حاجاً ويرجع.
فقال علي رضي الله تعالى عنه: لبيك اللهم! حجاً وعمرة معاً، وكان علي مفرداً، لكنه أهل بالعمرة مع الحج في ذلك الوقت بين يدي عثمان، ليعلن جواز القران بين الحج والعمرة، كما كان ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عثمان لـ علي: أردت مخالفتي يا علي؟! قال: لم أرد مخالفتك، ولكنه عمل عملناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.(174/6)
إفراد النبي صلى الله عليه وسلم الحج ابتداءً ثم إقرانه الحج مع العمرة
ومن هنا ننتقل إلى المسألة الثانية وهي: أن الرسول بدأ الحج مفرداً، ثم أتاه جبريل وقال: (قل: عمرة في حج) فيكون في بداية الأمر قد اختار ما هو الأفضل، ولكنه أمر وكلف أن يدخل العمرة في الحج، وعلى هذا قال مالك والشافعي: الإفراد أفضل؛ لأنه هو الذي بدأ به رسول الله واختاره من الأنساك الثلاثة، وقال أبو حنيفة رحمه الله: القران أفضل؛ لأنه هو الذي أتم به صلى الله عليه وسلم حجه وأمر به من الله، وقال أحمد رحمه الله: المتمتع أفضل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم في آخر الأمر لما وصل عند المروة أمر من لم يسق الهدي أن يتحلل، وقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ... ) يعني: لو حججت مرة أخرى، أو لو أنني الآن في الميقات لما سقت الهدي، ولجئت بغير هدي وتحللت كما أمرتكم، إذاً: لو حج مرة أخرى لجاء متمتعاً، ومعنى هذا: أن التمتع أفضل، وهكذا وقع الخلاف بين العلماء في: ما هو الأفضل في الأنساك؟ ولكن كما قال والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: الخلاف إنما هو في الأفضل، وكل الأنساك جائزة بإجماع المسلمين، ومما قاله ابن القيم رحمه الله: ثلاث لا ينبغي الخلاف فيهن: ألفاظ الأذان بتربيع التكبير وبتثنية الإقامة، أو بإفرادهما والإقامة مثل الأذان سواء بسواء لا ينبغي الخلاف في ذلك بل على أي صيغة أذن المؤذن وأقام فلا مانع، وأنواع الأنساك الثلاثة لا ينبغي الخلاف فيها، فمن حج معتمراً أي: متمتعاً، أو من حج مفرداً، أو من حج قارناً فالكل حجه صحيح وارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قالت أم المؤمنين: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا المفرد ومنا القارن ومنا المتمتع، فلم يعب أحد على أحد، أي: فالكل جائز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على ذلك.
وقد شهدت موقفاً في منى بين والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه وبين الشيخ محمد بن إبراهيم المفتي آنذاك رحمة الله تعالى علينا وعليه، وهما هما، وكان من عادة العلماء أن (يعيدوا) على الشيخ محمد، وعلى العلماء من آل الشيخ جميعاً في خيمة خلف القصر في صبيحة يوم العيد بعد رمي جمرة العقبة، فدخل الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه وسلم و (عايد) على المشايخ آل الشيخ جميعاً، وكان المكان مملوءاً بكبار العلماء في ذلك الوقت، فسأل الشيخ محمد بن إبراهيم الشيخ الأمين وقال: بلغني يا شيخ! أنك حججت مفرداً؟ قال: نعم، وقصداً فعلت، فقال الشيخ محمد: ألأنه أفضل في مذهب مالك؟ قال: لا، ليس للأفضلية ولا لـ مالك فعلت ذلك، قال: فلماذا إذاً؟ قال: لأني سمعت أن أشخاصاً هنا لا يرون من الأنساك إلا التمتع، وليتهم اقتصروا على أنفسهم فيما يرون، بل سمعت أنهم يقفون على المروة ويحللون الناس إجبارياً من الحج إلى العمرة، ولما لم أكن أملك سلطة أمنع بها هؤلاء، والعالم الإسلامي يحج من قديم الزمن كل يحج بما يتيسر له من الأنساك الثلاثة فلا أملك إلا نفسي، فجئت مفرداً الحج أبين بعملي في شخصي ما أراه صحيحاً.
ثم قال -ويا نعم ما قاله- كلاماً ومن ضمنه أنه ساق حديث ابن عباس، والأحاديث التي جاءت في أن ذلك كان من خصائص ذلك الوفد، وما يتعلق بهذا الأمر، وأطال وأفاض في هذا الأمر، والكل مصغون منصتون له، إلى أن فرغ رحمه الله، فما كان من الشيخ محمد بن إبراهيم رحم الله الجميع إلا أن قال: أحسنت بارك الله فيك.(174/7)
الفرق بين التقليد والاتباع لأهل العلم
أقول هذا يا إخوان! لأننا لا زلنا أيضاً نسمع هذا من بعض الشباب ومن بعض الذين يرون أنهم مجتهدون وأنه لا حاجة إلى الأخذ بمذهب من المذاهب، وأنهم يرون أن هذا الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم للوجوب، ولا يصح إلا هو، وقد سبق لي في الجامعة الإسلامية تدريس هذا الباب في كتاب بداية المجتهد لـ ابن رشد، وهو كتاب منهجي في الفقه المقارن بين المذاهب الأربعة، وأطلت في هذه القضية وقد كنا نأخذ في الحصة مسألة ونمضي عنها، فأخذت في هذه المسألة مع الإخوان أربع حصص، وأخيراً قال لي بعض الإخوة -وهو موجود إلى الآن-: أراك أطلت في هذه المسألة، فقلت له: اليوم انتهيت، ولكني أريد منكم جميعاً إذا أوى أحدكم إلى فراشه وتوسد الوسادة أن يغمض عينيه ويوقد قلبه وضميره، وليتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم على المروة: (لو استقبلت من أمري) (لو لم أسق) ، ويتصور أن خلفاءه الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي كانوا حوله يسمعون هذا المقال، ثم بعد ذلك كل منهم في خلافته يأتي مفرداً، ويتساءل: عن الذين سمعوا ذلك مشافهة من رسول الله، وعن الذين وجدوا ذلك خطاً مكتوباً في صحف، أي الفريقين أجمع للمعنى، الذي سمع من شفتي رسول الله بأذنيه ووعى ذلك وحضر وشاهد، أو الذي أخذ ذلك من أوراق صامتة وجد ذلك مكتوباً فيها؟ لا شك أن الذين شاهدوا رسول الله كانوا هم أوعب وأدعى للفهم والإدراك منا نحن المتأخرين، ثم ليتساءل: أينا أسرع إجابة لرسول الله هل هم هؤلاء الصحب الكرام، أو نحن معشر المتأخرين في القرن الخامس عشر؟ وأينا أشد تمسكاً واتباعاً لرسول الله نحن أو هم؟ والله! إنه سيجد قطعاً أنهم هم أولى وأنهم أشد إدراكاً، وأنهم أسرع متابعة لرسول الله، فإذا ما تصور ذلك فليسأل نفسه وسيتلقى الجواب من داخله لا من الكتب ولا من الخلاف ولا من المنازعات، ولما كان الغد إذا ببعض الإخوان أذكر اسمه وأعرفه شخصياً يدخل ويقف عند الباب، ولم تكن عادة الطلاب أن يستأذنوا، فقال: عندي كلمة أقولها، قلت: ادخل واجلس ثم تكلم، قال: لا، بل أقولها من هنا، قلت: خلصنا، قال: سامحك الله يا أستاذ! قلت: آمين، ولكن هذه كلمة يقال وراءها شيء، قال: البارحة ما خليتني أنوم، قلت: يا أخي! صحح الكلام وقل: أنام، ليس فيه نام ينوم، وإنما نام ينام، قال: لا، هذه لغتنا، فقلت: بكيفك أنت ولغتك، لكن لماذا لم تنم؟ قال: لأنني فعلت كما قلت، ومنذ أن استحضرت ذلك لم أستطع النوم؛ لأنني تحيرت هل نحن أشد حباً لرسول الله؟ وهل نحن أكثر فهماً من أصحاب رسول الله؟ وهل نحن أشد اتباعاً لرسول الله من خلفائه الراشدين؟ لا والله! إذاً: الأمر فيه شيء، فقلت له: وما الذي وصلت إليه؟ قال: وصلت إلى أن في عقولنا شيئاً، قلت له: نعم، في عقولكم عدم الاتباع لسلف الأمة، والأخذ بما عليه العلماء.
ويهمني أيها الإخوة! في هذا الموقف ما قاله جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من معه في هذا الحج المبارك ممن لم يسق الهدي أن يتحلل، ويجعل إحرامه بعمرة، ثم بعد ذلك يحرم في اليوم الثامن ويكمل حجه.
وقد أطلت القول في هذه المسألة بالذات لما نراه ونسمعه من بعض الإخوان الذين يجدون في أنفسهم الاجتهاد والعمل بالحديث وعدم التقيد، ويقولون لغيرهم: هذا مقلد، ونقول: لا، والله! إن من أخذ بأقوال الأئمة فهو متبع وليس بمقلد، وفرق بين التقليد والاتباع، فالمقلد هو من أخذ كلام من يقلده من غير أن يعلم ما هو دليله عليه، والمتبع هو من يختار قول العالم مع علمه بدليله فيه.
إذاً: في تلك الحجة من لم يسق الهدي تحلل ولبس ثيابه، وعاد حلالاً كما لو كان في بلده قبل المجيء إلى مكة، ومن كانت معه أهله حلت له.(174/8)
بيان الأعمال التي يعملها الحاج يوم التروية
وفي يوم الثامن من ذي الحجة، ويسمى يوم التروية؛ لأنهم كانوا يروون الدواب في ذلك اليوم، ويملئون قربهم وآنيتهم بالماء ويصعدون بها إلى منى ثم إلى عرفات، خرج صلى الله عليه وسلم إلى منى، وجاء في بعض الآثار أنه خطب الناس بمكة في اليوم السابع وبين لهم ما يحتاجونه من الغد، أي: في اليوم الثامن، ثم خطب في عرفات، وبين البيان الوافي، فخرج صلى الله عليه وسلم يوم الثامن أي: يوم التروية، وخرج معه الجميع.(174/9)
من أين يحرم المتمتع للحج يوم الثامن من ذي الحجة؟
وهنا سؤال: من كان قد تحلل إذا جاء اليوم الثامن من أين يحرم بالحج؟ الجواب: اتفق العلماء على أنه يحرم من منزله الذي هو فيه، وليس بلازم عليه أن يذهب إلى المسجد الحرام ويعقد الإهلال للحج من المسجد الحرام أو من عند الكعبة، بل يحرم من بيته أو من محل سكنه، فيتجرد ويغتسل ويتطيب ويلبد شعره، ويلبس لباس الإحرام، ويهل بالحج من مسكنه، ثم يذهب إلى منى.(174/10)
الوقت الذي يحرم فيه أهل مكة بالحج
وطرأ على الناس أيضاً ما أتى به عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال لأهل مكة: (يا أهل مكة! ما لي أرى الناس يأتون شعثاً غبراً وأنتم منعّمون في بيوتكم ولا تهلون إلا في اليوم الثامن، أهلوا بهلال الشهر) فأمر أهل مكة ألا يؤخروا الإهلال إلى يوم التروية، وأن يبادروا بالإهلال من أول يوم في ذي الحجة، فقال بعض الناس: لماذا يا عمر! والرسول لم يأمرهم بذلك؟ قال: لأن الناس كلهم يأتون شعثاً غبراً عليهم آثار السفر وهؤلاء يظلون جالسين في بيوتهم منعمين إلى يوم التروية ثم يلبون، فلابد أن يلبوا من أول يوم من ذي الحجة حتى يشاركوا الناس في أحوال الإحرام والتجرد، والتحمل إلى غير ذلك، وهذا لاشك أنه اجتهاد من عمر رضي الله تعالى عنه، ولنا في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ... ) ويهمنا في ذلك أن الأمر من حيث الإجزاء أو الوجوب أو الندب سواء.(174/11)
الوقت الذي يخرج فيه الحاج من مكة إلى منى وبيان الأعمال التي يعملها في منى
خرج صلى الله عليه وسلم إلى منى يوم الثامن ضحىً، وهناك صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء وبات في منى ثم صلى الصبح، وكانت صلاته صلوات الله وسلامه عليه أنه كان يقصر الرباعية دون أن يجمع، فلم يجمع بين صلاتي الظهر والعصر ولا المغرب والعشاء في منى عند ذهابه، بل كان يقصر الرباعية فقط، ويصلي كل صلاة في وقتها، ولما صلى الصبح انتظر حتى أشرقت الشمس، وكما قيل: كانت على قمم الجبال كالعمائم على الرءوس، وبعد أن أشرقت الشمس ذهب إلى عرفات.
قوله: [ (فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى، وركب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس) ] .
قوله: (وركب صلى الله عليه وسلم) هناك من يقول: الذهاب إلى المناسك راكباً أفضل؛ لأن الرسول حج راكباً، وهناك من يقول: الرسول إنما جاء مسافراً من المدينة، ومعه راحلته، فهو لن يسوقها ويمشي على قدميه، وعلى هذا فالمشي أفضل؛ لأن فيه زيادة تكلفة، ولكن نقول: إن الله سبحانه وتعالى غني عن أن يكلف الإنسان نفسه في شيء في غير محله، والرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى رجلاً يسوق بدنة ويمشي، قال له: (اركبها، قال: إنها بدنة، قال: اركبها -أي: ولو كانت بدنة مساقة إلى البيت- إن الله غني عن أن يعذب أحدكم نفسه) والذين يقولون: إن المشي أفضل قالوا: يكون المشي من المسجد الحرام إلى عرفات ثم العودة، أو من المسجد الحرام إلى عرفات إلى منى أو إلى مكة إن كان سيطوف الطواف النهائي، واستدلوا على أفضلية المشي برواية جاءت عن ابن عباس: (من حج ماشياً كتبت له بكل خطوة حسنة من حسنات الحرم) والحسنة من حسنات الحرم بمائة ألف حسنة، فهناك من رغب في الحج ماشياً، وهناك من رغب في الحج راكباً، فالذين قالوا: يحج راكباً قالوا: تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه ركب، والذين قالوا: المشي أفضل قالوا: لأن في كل خطوة حسنة من حسنات الحرم.
ولو أن الرسول صلى الله عليه وسلم حج ماشياً لشق ذلك على الناس، ولكان كل واحد يريد أن يقتفي أثر رسول الله في ذلك، ولذا جاء في شأن زمزم أنه قال: (اسقوني، لولا أن يغلبكم الناس على زمزم لمتحت معكم) أي: لسحبت الحبل وأخرجت الدلو وشربت بنفسي، ولو فعل ذلك لكان كل إنسان يريد أن يمتح لنفسه ويشرب بنفسه، وكذلك عمر رضي الله تعالى عنه لما ذهب لاستلام مفاتيح بيت المقدس دخل كنيسة، فلما حضرت الصلاة خرج منها فقال بعض النصارى: صل فيها، قال: لو صليت فيها لأخذها العرب منكم، يقولون: نصلي كما صلى عمر، فيحتلونها ويأخذونها منكم، إذاً: ما منع عمر الصلاة في الكنيسة، ولكن خشي أن يغلبهم الناس على حق من حقوقهم.(174/12)
كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [4]
الوحدة كلمة ترتاح لها النفوس الزكية، وتتطلع إليها القلوب النقية، لما لها من مدلول عظيم، فالوحدة بها لم الشمل، وتوحيد الصف، وقوة الأمة، ولا أعظم ولا أدل على هذه الوحدة من الموقف الذي يتوحد فيه المسلمون ويجتمعون فيه ألا وهو موقف يوم عرفة، ذلك اليوم الذي يجتمع فيه المسلمون من شتى بقاع العالم، ويلبسون لباساً واحداً، لا يتميز فيه الغني عن الفقير، ولا القوي عن الضعيف، ذلك اليوم الذي يباهي الله عز وجل ملائكته بمشهد عباده المجتمعين في ذاك الصعيد في مشهد لا يتكرر إلا في ذلك الزمان وذلك المكان.(175/1)
بيان الوقت الذي يذهب فيه الحاج من منى إلى عرفة والأعمال التي يعملها في يوم عرفة
قال المؤلف رحمه الله: [ (فركب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، فأجاز حتى أتى عرفة) ] .
مكث النبي صلى الله عليه وسلم في منى في صبيحة يوم عرفة إلى أن أشرقت الشمس وارتفعت قليلاً ثم واصل السير إلى عرفات، ويقال: عرفات للأرض كأذرعات، ويقال: عرفة لليوم، أي: للزمن، صوم يوم عرفة، إذاً: عرفة للزمن.
قوله: (فأجاز حتى أتى عرفة) .
أجاز يعني: تجاوز المزدلفة والمشعر حتى أتى عرفة.
قال المؤلف رحمه الله: [ (فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها) ] لما وصل عرفات -وهي أرض الموقف- وجد القبة قد نصبت له بنمرة، ونمرة هو: الوادي الذي يفصل أرض عرفات عن المزدلفة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (وقفت هاهنا وعرفات كلها موقف، وارتفعوا عن بطن عرنة) وجد القبة قد ضربت له، والقبة هي: الخيمة، وضربت بمعنى: نصبت، فنزل بها حتى جاء الزوال، أي: نزل بعرنة ولم يدخل أرض الموقف إلى أن زالت الشمس.(175/2)
حكم استظلال المحرم في يوم عرفة
وهنا يبحث البعض: هل المحرم يدخل الخيمة أو لا يدخل؟ وهل يستظل أو لا يستظل؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم لما وجد القبة مضروبة نزل بها؟ وهنا: نجد أن بعض الطوائف لا يرون للمحرم أن يستظل، ويستدلون بما جاء عن عبد الله بن عمر أنه قال: (اضح لمن أحرمت له) وعند بعض المالكية المتأخرين تفصيل وهو: أن الاستظلال للمحرم يجوز عند نزوله ولا يجوز عند مسيره، وهذا من باب المستحبات ولا دخل في صحة الإحرام وعدمه، وليس من الواجبات التي يجب فيها دم، لكن يأخذ العلماء من كل نقطة ومن كل خطوة -كما ذكرت- من أعماله صلى الله عليه وسلم أحكاماً ومواعظ وتوجيهات.(175/3)
مسجد نمرة ليس كله في عرفة
قال المؤلف رحمه الله: [ (حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي فخطب الناس) ] .
نزل في القبة في بطن عرنة حتى إذا زالت الشمس أمر بالقصواء فرحلت بالتخفيف وبالتشديد فرحِّلت، أي: وضع الرحل عليها، وهيئت للركوب والمسير، ثم أتى المكان الذي فيه الآن مسجد نمرة، والمسجد كما يقولون: جزء منه وهو حائط محرابه خارج عن حدود عرفات، ومؤخرة المسجد من أرض عرفات، ولذا فإن الذين يجلسون في المسجد في نمرة ويصلون في الصف الأول، أو في الذي يليه ينالون أجر التقدم في الصفوف، لكن إذا قضيت الصلاة فعليهم أن يتنحوا إلى مؤخرة المسجد، حتى يتحقق وقوفهم في الموقف لقوله صلى الله عليه وسلم: (ارتفعوا عن بطن عرنة) .
وقد جاء في موطأ مالك أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ذهب إلى الحجاج وكان أمير الحج، فنادى: أين فلان؟ قالوا: ها هو ذا، فقال له: هيا قد آن أوان الرحيل إن كنت تريد السنة، وذلك عندما زالت الشمس، فقال: أمهلني يا أبا عبد الرحمن! حتى أغتسل، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه اغتسل في عرنة قبل أن يتوجه إلى الموقف، وقبل أن يخطب، فاغتسل لإحرامه، واغتسل لدخول مكة، واغتسل لوقوفه بعرفات، فاغتسل صلى الله عليه وسلم وأمر بناقته فرحلت له، ثم ذهب من محل إقامته في القبة إلى موضع نمرة لأداء الخطبة.
وهنا يقول بعض العلماء: على أمير الحج ألا يعمد إلى عرفة رأساً، بل عليه أن يأتي وينزل في عرنة، فإذا ما زالت الشمس ذهب إلى نمرة وأكمل النسك على ما سيأتي في الخطبة والصلاة.(175/4)
الخطبة في يوم عرفة
قال المؤلف رحمه الله: [ (حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي فخطب الناس، ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً) ] .
يذكر المؤلف رحمه الله تعالى هذا أيضاً، وهو من حديث جابر رضي الله تعالى عنه، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من منى بعد شروق الشمس أتى إلى عرنة، فوجد القبة قد ضربت له فنزل فيها إلى أن زاغت الشمس، فأمر بناقته فرحلت له، وقد أشرنا إلى أنه صلى الله عليه وسلم اغتسل للوقوف بعرفة، وهذا إن تيسر فبها ونعمت، وإلا فهو من الأغسال المسنونة في ذلك اليوم، فلما زاغت الشمس أمر بناقته فرحلت له، ثم أتى بطن الوادي أي: أتى نمرة وهو مكان المسجد الموجود الآن، فخطب الناس، وهذه الخطبة في ذلك اليوم هي عبارة عن خطبتين أو خطبة طويلة مفصول بينها، وكذلك بقية خطبه صلى الله عليه وسلم التي خطبها في هذا الحج المبارك، سواءً التي في اليوم السابع قبل الصعود إلى منى، والتي بين لهم فيها أعمال اليوم الثامن وأعمال منى، أو التي في يوم الحج الأكبر بعد أن نزل من عرفات ورمى جمرة العقبة، أو غيرهما من الخطب المأثورة عنه صلى الله عليه وسلم.
ولما فرغ من الخطبة أذن فصلى.(175/5)
قصر الظهر والعصر والجمع بينهما في عرفة والخلاف في سبب ذلك
وهنا يبين لنا المؤلف رحمه الله أنه صلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، وجمع بينهما جمع تقديم، ولم يسبح بينهما أي: ولم يصل بينهما شيئاً، وهذا الجمع والقصر اختلف فيه العلماء: هل هو للنسك، أو هو للسفر؟ فالذين يقولون: هو للنسك قالوا: كل من حج سواء من أهل مكة أو حتى من أهل منى أو حتى من سكان أرض عرفات فإنه يقصر ويجمع من أجل النسك، والذين قالوا: إن هذا الجمع والقصر من أجل السفر قالوا: يقصر ويجمع الآفاقي الذي قدم من خارج مكة، أما أهل مكة الذين يحجون من مكة أو سكان منى الذين يحجون من منى فلا يجمعون ولا يقصرون، ومذهب أبي حنيفة على أن هذا الجمع من النسك، ولهذا لا يوجد عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله جمع بين صلاتين إلا في النسك -أي: بين الظهر والعصر جمع تقديم، وبين المغرب والعشاء جمع تأخير- وما عدا ذلك من نصوص الجمع بين الصلاتين فحملها رحمه الله على الجمع الصوري، كما جاء في خبر المستحاضة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لها: (وإن استطعت أن تؤخري الظهر إلى آخر الوقت وتغتسلين وتصلين العصر في أول الوقت فافعلي) يعني: تغتسل للوقتين، وتجمع بينهما بالغسل، ولكنها توقع كل فرض في وقته، فتصلي صلاة الظهر في آخر وقتها، وتصلي صلاة العصر في أول وقتها، فتكون الصورة صورة جمع.
أما الأئمة الثلاثة رحمهم الله فقالوا: إن هذا الجمع والقصر للصلاة إنما هو للسفر، وأما كيف يقصر ويجمع أهل مكة وليست المسافة بين مكة وعرفات مسافة قصر؟ فأجابوا عن ذلك: بأن الغرض هنا هو اتباع النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يعلم أنه قد حج معه المكي والمدني والأعرابي الذي جاء من ضواحي عرفات، ولم يقل لهم: أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر، كما قال لهم ذلك في فتح مكة؛ لأنه في فتح مكة إنما صلى قصراً تبعاً لسفره من المدينة إلى مكة، وكان في طريقه إلى الطائف وإلى ثقيف، فكان يقصر بسبب السفر، فقال لأهل مكة: (أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) .
ولما جاء في الحج وهو يعلم أن معه من الحجاج من مسكنه قريب فلم يقل لهم: (أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) ، إذاً: الكل قد قصر وجمع معاً، سواء القادم من بعيد أو القادم من قريب.
وهناك من العلماء من يقول وهذا القول مروي عن الشافعي رحمه الله، وأخذ به الإمام ابن تيمية رحمه الله: أن كل ما سمي سفراً، واحتاج الإنسان فيه إلى زاد وراحلة فهو سفر تقصر فيه الصلاة، ولا يشترط له مسافة ولا يقال: لابد من مرحلتين، لأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (تقصر الصلاة فيما بين مكة وجدة، وفيما بين مكة وعسفان، وفيما بين مكة والطائف) .
وتقدير هذه المسافات الثلاث تدور حول السبعين والثمانين كيلو، والذين حددوها حددوها بأربعة برد، والبريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، وتقدر باثنين وسبعين كيلومتراً بالمقاييس الحالية.
والذي يهمنا في بيان حجة النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع وقصر، ونحن الآفاقيون إذا قدمنا إلى الحج لنا أن نجمع ونقصر كما فعل صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قد قال: (خذوا عني مناسككم) إذاً: الكل متفق في أن القريب والبعيد في ذلك اليوم يجمع ويقصر، سواء قلنا: إنه للسفر أو للنسك، على ما تقدم من تفصيل في مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وفي أقوال الأئمة الثلاثة، وفي عدم بيانه صلى الله عليه وسلم بقوله: (أتموا) ، كما قال ذلك في فتح مكة، وعلى هذا فالجميع يقصر ويجمع الصلاتين في ذلك اليوم.(175/6)
الصلاة التي صلاها النبي صلى الله عليه وسلم مع العصر في عرفة
ومن الناحية العلمية وقع نقاش: هل كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرفات صلاة جمعة أو صلاة ظهر وأضاف إليها العصر؟ الجمهور يقولون: إنما كانت صلاة ظهر.
وأبو يوسف صاحب أبي حنيفة رحمه الله ناقش هذه المسألة مع مالك رحمه الله، وكان أبو يوسف يرى أنها صلاة جمعة ليوم الجمعة، فقال له مالك: لماذا؟ قال: لأنها ركعتان لخطبتين، وهذه هي الجمعة، فسأله مالك رحمه الله قائلاً: أترى جهر بالقراءة أو أسر بها؟ قال: أسر بها، قال: والجمعة يجهر بها.
إذاً: هذه الصلاة تكون ظهراً والخطبة فيها إنما هي لبيان أعمال يوم عرفة وليلة المزدلفة وصبيحة يوم العيد، إلى أن يأتي إلى منى فيبين ما بقي في الخطبة العظيمة التي خطبها في يوم الحج الأكبر.
قوله: (لم يسبح صلى الله عليه وسلم بينهما) لأنه هنا أذن ثم أقام فصلى الظهر والعصر، ثم أقام أي: بدون أذان آخر وصلى العصر، وهناك من يقول: تكفي الإقامة الأولى للفريضتين، وهناك من يقول: يؤذن مرة أخرى للعصر ويقيم لها، ولكن المنقول الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم هو أذان واحد وإقامتين.(175/7)
المكان الذي وقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم في عرفة
قال المؤلف رحمه الله: [ (ثم ركب حتى جاء الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات) ] .
يقول: (ثم ركب) أي: من مكان الصلاة من نمرة، (حتى أتى الموقف) أي: الموقف الذي في عرفات، ويرد على هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف) قالوا: نعم عرفة كلها موقف هذا للعموم، وحيثما وقف الحاج في جزء من أرض عرفات فقد تم وقوفه، ولكن الموقف هنا، أي: الموقف الذي اختاره صلى الله عليه وسلم، و (أل) للعهد، فهو تقدم من نمرة إلى ما يسمى الآن بجبل الرحمة، وهو عبارة عن مجموع صخرات ضخمة كبيرة، تقدم إليها ووقف عندها وجعلها بينه وبين الكعبة، فكان مستقبلاً جبل الرحمة والكعبة من وراء الرحمة في سمت اتجاهه، فيكون بهذا مستقبلاً كلاً من الصخرات والكعبة.
وهنا يبحث العلماء في هذا الموقف: هل يتعين الوقوف في هذا المكان على كل حاج؟ الجواب: بإجماع المسلمين لا يتعين على من أتى عرفات أن يذهب إلى ذلك الموقف، ويصح حجه ويتم بالوقوف في أي مكان من أرض عرفات، حتى ولو كان جالساً ولو كان نائماً، إذا كان قد أدرك لحظة من وقت الوقوف وشعر أنه بعرفات فقد تم حجه.
وهنا يتساءل الإنسان ويقول: ما دام أن الأمر كذلك وأرض عرفات كلها موقف فلماذا ذهب صلى الله عليه وسلم إلى هناك؟ قالوا: لأنه كان قد آذن الناس وأعلمهم قبل الخروج إلى الحج من المدينة، بل وأرسل رجالاً إلى القبائل على مياههم: (إني حاج، فمن أراد أن يحج معي فليوافني) فتوافد الناس إلى رسول الله فمنهم من أدركه بالمدينة وخرج معه، كما قال جابر رضي الله تعالى عنه: كنت أنظر عن يميني مد النظر، وعن يساري مد النظر ومن أمامي ومن خلفي، أي: أنهم عدد لا يقطعهم نظر العين.
فهؤلاء توافدوا إلى المدينة، وهناك من توافد إلى رسول الله وهو في الطريق ولقيه في الطريق، وهناك من قدم إلى مكة، بل إن هناك من قدم إلى عرفات مباشرة، ولم يكن قد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهنا يقولون: هؤلاء الذين جاءوا ليحجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويروه ويأخذوا عنه أين سيبحثون عنه في عرفات؟ الجواب: لو لم يكن هناك مكان معلوم للجميع لتعذر على كل من أراد أن يراه البحث عنه في أرض عرفات المتسعة مع كثرة هؤلاء الخلق، فإذا كان له موقف معين وجبل الرحمة في عرفات والفضاء من حوله، وهو في الوسط مثل العلم، فإذا سأل سائل: أين رسول الله؟ قيل له: عند ذاك الجبل، فيكون الجبل علامة، أو علماً على موقفه ليذهب الذاهب إليه كيما يراه.
ومن تمام الإعلام وتيسير الوصول إليه أنه صلى الله عليه وسلم قضى يوم عرفات على ظهر راحلته وهي قائمة، إذاً: المكان كان معلماً بالجبل -جبل الرحمة- ومحيط الجبل كان معلماً بالناقة وهي قائمة وهو عليها، حتى قال بعض العلماء: هل الوقوف بعرفات على الدابة أفضل أو الوقوف بعرفات على قدميه أو جالساً أفضل؟ الجواب: هذا مما يذكره الأصوليون من أفعاله صلى الله عليه وسلم الدائرة بين الجبلة والتشريع، فبعضهم يقول: جلس على الناقة لأنه أريح له فالركوب أفضل، والآخرون يقولون: لا يعذب الحاج الناقة طيلة النهار بالجلوس عليها، بل عليه أن يريحها، وهذا دائر بين الاعتبارين، فمن اعتبر أن الوقوف على الناقة من أفعال الحج قال: الأفضل أن يقف على ناقته وراحلته، ومن رأى أن ذلك كان لقصد الإعلام قال: الوقوف في الأرض أولى من تعذيب الراحلة.(175/8)
حكم الإمارة على الحج
والذي يهمنا أنه صلى الله عليه وسلم اختار هذا المكان، ومن هنا يقول العلماء: يتعين على أمير الحج، وإمارة الحج قديمة من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعده في زمن الخلفاء الراشدين رضوان الله تعالى عليهم، وكذلك في زمن بني أمية وبني العباس إلخ.
فلابد للحج من أمير ليسير الحجاج بسيره وينزلوا بنزوله ويكون هو بذاته أهلاً لأن يرشد الحجاج إلى ما يحتاجونه، فإن لم يكن فيه الكفاءة ولا الأهلية فليكن معه من أهل العلم من يفعل ذلك، وعمر رضي الله تعالى عنه في خلافته لكثرة مشاغله، ولأنه كان يكثر الناس عليه أقام للناس على الحج ابن عباس ليقيم للناس المناسك، ولما أمره أن يقيم للناس المناسك، قال: يا أمير المؤمنين! لا أقوى على سكنى بلدٍ تتضاعف فيه السيئات كما تتضاعف فيه الحسنات، وإني سأتخذ الطائف مسكناً، فإذا جاء الحج نزلت إلى مكة.
ومن بعده كان عطاء رضي الله تعالى عنه، وكان ينادى: لا يفتي أحد في المناسك إلا عطاء، ومن هنا يجب توحيد الفتوى، وتوحيد البيان والإرشاد والتعليم حتى لا يُشوش على الناس باختلاف الآراء، فقد يأتي إنسان ويسأل هذا عن مسألة فيفتيه بقول، ويذهب إلى ذاك في عين المسألة فيفتيه بقول آخر، فيكون في ذلك الحيرة والتذبذب لهذا السائل، ولا يدري بما يأخذ، فكانت الفتوى توحد في موسم الحج لئلا يشكك الناس ولئلا يقعوا في الحيرة.
فأتى صلى الله عليه وسلم ووقف في ذلك المكان وعليه يتعين على أمراء الحج أن يقفوا هناك، أي: ينصبوا خيامهم أو منازلهم بجوار ذاك الجبل، وليس بلازم عليهم أن يقفوا على رواحلهم كما وقف صلى الله عليه وسلم.(175/9)
حكم استقبال القبلة يوم عرفة وبيان الوقت الذي ينتهي فيه الوقوف
قال المؤلف رحمه الله: [ (وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة) ] .
لما جاء إلى الموقف جعل حبل المشاة بين يديه، أي: بينه وبين الصخرات.
قال المؤلف رحمه الله: [ (فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس) ] .
فلم يزل واقفاً في موقفه ذلك على ظهر راحلته حتى غابت الشمس، يقول العلماء: ينبغي على الإمام أن يتأخر في نفرته من عرفات إلى ما بعد غياب الشمس بقليل، حين يصفر الأفق، تأكيداً في غروبها.
قال المؤلف رحمه الله: [ (وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص) ] .
حتى غاب قرص الشمس وانتهى واستكمل غروب الشمس، وذهبت الصفرة، أي: التي تعقب الشمس عند الغروب.(175/10)
حكم الصوم بعرفة للحاج
هنا يبحث العلماء في يوم عرفات وفي موقف النبي صلى الله عليه وسلم هل كان صائماً في هذا اليوم أو كان مفطراً؛ لأنه قد قال: (صوم يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر سنتين: السنة التي هو فيها، والسنة الماضية) وبين أن صوم يوم عاشوراء يكفر السنة التي هو فيها، قيل: لأن عاشوراء لموسى عليه الصلاة والسلام فكان يكفر سنة واحدة، وعرفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يكفر سنتين.
وقد اختلف الصحابة في صومه صلى الله عليه وسلم، وكانوا لا يجرءون أن يسألوه: هل أنت صائم أو مفطر؟ فذهبوا إلى أم الفضل رضي الله عنها وسألوها، فأرسلت إليه صلى الله عليه وسلم قدحاً من اللبن بعد العصر، وهي تعلم أنه صلى الله عليه وسلم لا يرد ثلاثاً: اللبن والريحان والوسادة، إذا كان جالساً وقدمت إليه وسادة ليتكئ عليها فإنه لا يردها، وإذا قدم إليه الريحان أو النباتات العطرية فإنه لا يردها، وإذا قدم إليه اللبن فإنه لا يرده، وإنما يأخذه ويشرب منه، فلما علمت ذلك أرسلت إليه بقدح من اللبن بعد العصر، فأخذه ورفعه على رءوس الأشهاد وشرب، فعلموا يقيناً أنه مفطر وليس بصائم.
وهنا نجد أن بعض العلماء اجتهدوا وقالوا: النص قد جاء في فضل صوم يوم عرفة، وفطر النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو ليبين الجواز وليس فيه الوجوب، فمن صام وقوي على أعمال الحج ولم يقصِّر في واجباته فلا بأس أن يجمع بين الفضلين، ومن كان يضعفه الصوم عن أداء واجبات الحج فلا يصم وليفطر، ولكن نقول: النبي صلى الله عليه وسلم أفطر مع ما أعطاه الله من القوة البدنية، فقد كانوا إذا اشتد بهم الأمر في الحرب يحتمون بشخصه صلى الله عليه وسلم، وفي حنين حينما انصرفوا ورجعوا وقف وأعلن عن نفسه، وهذا على خلاف المعتاد، فإن العادة جرت أن القائد يخفي نفسه في حالة الانهزام أو الرجوع، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يأتي ويعلن عن نفسه: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب يعني: الذي لا يعرفني فأنا هاهنا؛ وذلك لثقته بنصر الله، ولقوته وشجاعته، فكان صلى الله عليه وسلم قد أوتي قوة ثلاثين رجلاً، ومع ذلك لم يصم في عرفات، والله تعالى أعلم.
ونحن الآن إذا تأملنا نجد: أن الله سبحانه وتعالى قد خفف في التكليف الواجب؛ ليعطي الحاج وقتاً لاغتنام فرصة عمره؛ لأن الحج قد لا يتيسر في العمر إلا مرة، فنجد أن الصلاة التي قال عنها سبحانه: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103] أي: كل واحدة في وقتها، لكن خفف الله عز وجل فيها عن الحاج، فأذن له أن يقدم العصر مع الظهر، ويؤخر المغرب مع العشاء، ليصبح عنده نصف الزمن، فهو من زوال الشمس إلى منتصف الليل -الذي هو آخر وقت فضيلة للعشاء- غير مطالب في هذا الوقت بفرض الصلاة؛ لأنه قد انتهى منها، فقد قدم الظهر والعصر عند الزوال، وأصبح متفرغاً ليس مشغولاً بالعصر، وأما المغرب فقد أخرها حتى يصل إلى المزدلفة، فأعطى الله عز وجل الحاج فرصة فسيحة ليؤدي فيها واجب هذا اليوم العظيم؛ لأن يوم عرفة يوم عظيم وأنا أسميه يوم الأمة الإسلامية، العالم الآن يحتفل بأيام معينة؛ كيوم الاستقلال، ويوم النصر، ويوم الأمة، ويوم كذا ويوم كذا، ويجعلون هذا اليوم فخراً لهم، أو تذكاراً لنصرتهم إلخ.
وهذا اليوم هو يوم العالم الإسلامي كله، ويكفي أن الله سبحانه اختص هذا اليوم بتمام النعمة وكمال الدين، وقد جاء رجل من اليهود إلى عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا أمير المؤمنين! والله! إنكم تقرءون آية في كتابكم لو علينا نزلت لجعلنا يوم نزولها عيداً، قال: وما هي؟ قال: قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] فقال عمر: والله! إني لأعلم متى نزلت، لقد نزلت في يوم عيد في يوم عرفة وهو عيد للمسلمين.
فهنا هذا اليوم العظيم الذي أتم الله فيه الدين وأكمل فيه النعمة لا يوازيه يوم في العام، هذا اليوم الذي يجتمع فيه العالم الإسلامي من جميع أنحاء الأرض؛ شرقها وغربها وشمالها وجنوبها، يجتمعون في صعيد واحد، في لباس واحد، وفي شعار واحد ينادون: لبيك اللهم لبيك فأي وحدة للأمة أعظم من ذلك؟! ونحن الآن لو أردنا أن نعقد مؤتمراً دولياً تجتمع إليه جميع الأمم، وطلبنا من هيئة الأمم أن تجمع لمؤتمر مثل هذا المؤتمر والله! إنها ستعجز، ولكن في هذا اليوم كلٌ يأتي بنفسه، وكما يقولون: عجباً لهذا الجمع في سرعة اجتماعه، وعجباً له في سرعة انصرافه.
قال صلى الله عليه وسلم: (أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي في هذا اليوم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير) فلعظمة هذا اليوم ووجوب الاجتهاد فيه بالذكر والدعاء يحتاج إلى جهد، فإذا صمنا سننام ونعجز عن أداء أعمال هذا اليوم، وإذا غربت الشمس سيأتي الرحيل إلى مزدلفة، وهناك مشاعر أخرى، ومن بعد الفجر سيأتي الرحيل إلى منى على ما فيها من أعمال الرمي والذبح وغيرها، ومن بعد منى إلى مكة والعودة فالحاج في حركة دائبة خلال أربع وعشرين ساعة.
إذاً: من حكمة التشريع ومن الرفق بالأمة أن يكون الحاج في هذا اليوم مفطراً، ثم إن من فضل الله أن من كانت له أوراد كتلاوة، أو صلاة، كان يفعلها في الإقامة وفي الصحة فسافر أو مرض وقصر عنها، فقد أمر الله ملائكته أن تكتب له مثل أعماله في الإقامة والصحة في مدة سفره ومرضه حتى يرجع ويعافى، فلم ينقص عليه من أجره شيء.
والخلاصة أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف مفطراً وليس صائماً.(175/11)
الرحيل من عرفة إلى المزدلفة والمبيت بها
قال المؤلف رحمه الله: [ (ودفع وقد شنق للقصواء الزمام) ] .
لما غرب القرص دفع، أي: نزل إلى المزدلفة، (وقد شنق للقصواء الزمام) الشنق هو: الخنق في الرقبة، أي: شد زمامها إليه، والناقة إذا شددتها ورفعت رأسها قل سعيها، ومشت مشياً خفيفاً؛ لأنها إذا أرادت أن تسرع مدت عنقها أمامها، فكان يشنق لها الزمام لتقصر من خطوها.
قال المؤلف رحمه الله: [ (حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله) ] .
شنق لها فرفعت رأسها حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله، ومورك الرحل يقولون: هو قطعة من الجلد أو وسادة خفيفة من قطن خفيف تكون أمام الرحل يضع الراكب فخذه عليها، ويرفع رجله من الجهة الأخرى ويضعها على مقدمة ظهر الناقة وأول عنقها، لكي تتوسد رجله هذه المؤخرة، فرفعت رأسها حتى كادت أن تصيب هذا الموضع، يعني: أنه شنق لها إلى أقصى غاية.(175/12)
مشروعية الدفع من عرفة إلى المزدلفة بسكينة
قال المؤلف رحمه الله: [ (ويقول بيده اليمنى: يا أيها الناس! السكينة السكينة) ] .
في هذا الدفع إلى المزدلفة كل الناس يدفعون، وكل يريد الإسراع، ومن طبيعة الدفع السرعة، حتى السيارات الآن يزاحم بعضها بعضاً، والمشاة يزاحمون السيارات، فكان يشير بيده اليمنى؛ لأن اليسرى كانت تشنق الزمام للناقة، وإلا لأشار بيديه إلى الجهتين، فكانت يده اليسرى تشنق الزمام للناقة ويده اليمنى تشير إلى الناس وهو يقول: (أيها الناس! السكينة السكينة) يعني: عليكم بالهدوء في السير، يعني: رفقاً بأنفسكم وببعضكم بعضاً.
قال المؤلف رحمه الله: [ (وكلما أتى حبلا ًمن الحبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد) ] .
(وكلما أتى حبلاً من الجبال) إذا كنت في الصحراء تجد أن من عوامل الرياح أنها تجمع الرمل ويمتد في اتجاهك كأنه حبل متين ممتد على وجه الأرض، وهذا يسمى الحبل، وربما وجدت في بعض النسخ جبلاً، بالجيم والصحيح أنها (حبلاً) أي: حبلاً من الرمل.
(أرخى) أي: أرخى لها الزمام حتى تستطيع بمد عنقها إلى أمامها أن تصعد حبل الرمل، والسير في الرمل متعب؛ لأن الرِجْل تغوص فيه، ولكن المولى سبحانه جعل للناقة قواعد تمشي عليها، وليست مثل الفرس وغيرها التي حافرها يغوص في الرمل، فخفها يجعلها لا تغرز، ومع ذلك أيضاً يشق عليها المشي في الرمل، فلو كان شانقاً لها لصعب عليها أن تصعد الرمل مع الشنق، فكان يرخي لها زمامها لتمد عنقها ويسهل عليها قطع هذا الحبل من الرمل.
قال المؤلف رحمه الله: [ (حتى أتى المزدلفة) ] .
دفع على هذه الصفة وهو يشير: (السكينة السكينة) وكان شانقاً للقصواء، مرخياً إليها عند حبال الرمل حتى أتى المزدلفة.(175/13)
حكم الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في قضاء الحاجة بين عرفة ومزدلفة
وفي الطريق ميّل صلى الله عليه وسلم إلى بعض الوادي ونزل فبال وتوضأ، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كلما حج إذا مر بذلك المكان نزل وبال وتوضأ، فقيل له في ذلك، فقال: هكذا فعل رسول الله.
وهل رسول الله فعله لكي يذهب كل الناس ويبولون هناك في ذلك المكان أو فعله لحاجة عرضت له؟! ابن عمر يقول: الرسول فعل ذلك وأنا أفعله، ولكن جمهور الصحابة لم يتابعوه على هذا العمل، وهو قطعاً من أعمال الجبلة، وليس من أعمال التشريع.(175/14)
مشروعية الجمع بين المغرب والعشاء في المزدلفة
فلما توضأ وضوءاً خفيفاً، قيل له: الصلاة، يعني: أن الشمس قد غربت وما زلنا في نصف الطريق، فنريد أن نصلي المغرب، فقال صلى الله عليه وسلم: (الصلاة أمامك) أي: إن الصلاة ستكون في المزدلفة، ومن هنا يقولون: من كان عنده فسحة من الوقت وليس عليه عائق يلزمه المكث فلا يصلين إلا في المزدلفة، ولو تأخر وصوله إلى المزدلفة إلى ما بعد منتصف الليل، وبعضهم يقول: إلى ثلث الليل الأخير، فإن تأخر في عرفات لظرف ما، كما يقع الآن في السرات يحبس الناس من أجلها، فإذا تأخر في عرفات أو في الطريق وعلم أنه لن يصل إلى المزدلفة إلا بعد أن يدخل ثلث الليل الأخير، فهل يؤخر المغرب والعشاء أيضاً حتى يطلع الفجر؟ قالوا: لا، بل عليه أن يصلي في مكانه؛ لأنه تعذر وصوله قبل خروج الوقت، وأصبح بين أحد أمرين: إما أن يأتي بالسنة بإيقاع الصلاة بمزدلفة وقد خرج وقتها، وإما أن يؤدي الفرض الذي هو الصلاة قبل خروج وقتها، فالحفاظ على الفرض أولى من الحفاظ على السنة.
فله في تلك الحالة أن يصلي حيثما تأخر، ويجمع أيضاً المغرب مع العشاء، والفقهاء رحمهم الله يقولون: في حالة الجمع ينوي ضم إحدى الصلاتين إلى الأخرى، إن كان يريد جمع تأخير، فعند دخول وقت الأولى لا يؤخرها سهواً ولا إهمالاً، بل ينوي أنه سيؤخرها إلى الثانية، فإذا جاء وقت الثانية صلاهما جمع تأخير، وبدأ بالأولى، فيصلى الظهر ثم العصر، وإذا جمع جمع تقديم ينوي جمع الثانية مع الأولى قبل أن يدخل في الأولى، فمثلاً: قبل أن يدخل في صلاة المغرب يكون قد نوى أنه سيجمع معها العشاء وهكذا.
فإذا لم يتأخر في الطريق فالصلاة تكون في المزدلفة، وإن كان هناك ما يؤخره لظرف ما فيصلي حيثما كان على صورة الجمع، يؤذن ثم يقيم فيصلي المغرب ثم يقيم ويصلي العشاء ركعتين، ثم يواصل السير إلى المزدلفة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم دفع من عرفات ومشى إلى أن جاء إلى المزدلفة.
قال المؤلف رحمه الله: [ (فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين) ] .
(فصلى بها) أي: بالمزدلفة، والمزدلفة تسمى أيضاً جمعاً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (وقفت هاهنا وجمع كلها موقف) وليس بلازم أن تتحرى موقع المشعر الحرام وتنزل فيه؛ لأن المشعر الحرام مكان صغير، ولا يمكن أن يسع جميع الحجاج، ولكن المزدلفة كلها موقف، فإن تيسر لك بعد ذلك أن تأتي مكان المشعر وتدعو فالحمد لله وإلا دعوت في مكانك، فصلى المغرب والعشاء في المزدلفة بأذان واحد وإقامتين، كما صلى في عرفات الظهر والعصر بأذان واحد وإقامتين.(175/15)
مشروعية النافلة بين المغرب والعشاء في المزدلفة
قال المؤلف رحمه الله: [ (ولم يسبح بينهما شيئاً) ] .
(ولم يسبح) أي: لم يتنفل بينهما شيئاً، يعني: أنه لم يأت بنافلة بين المغرب والعشاء.
قال المؤلف رحمه الله: [ (ثم اضطجع حتى طلع الفجر) ] .
(ثم اضطجع) أي: بالمزدلفة، (حتى طلع الفجر) ، أي: اضطجع بعد صلاة المغرب والعشاء حتى طلع الفجر.(175/16)
مشروعية الوتر في ليلة مزدلفة
وأما الوتر فقد بحثنا على نص بخصوص الوتر في ليلة المزدلفة حتى تعبنا فلم نجد ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم أوتر أو أنه لم يوتر، ولم يبق عندنا إلا عموم النصوص في الوتر، وأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يترك الوتر وركعتي الفجر -أي: السنة- في حضر ولا في سفر، ولما ناموا إلى أن طلعت الشمس ولم يصلوا الفجر، كانوا قد أوتروا من قبل، فصلوا سنة الصبح بعد طلوع الشمس، ثم صلوا الفجر.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
والحمد لله رب العالمين.(175/17)
كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [5]
يوم النحر يوم عظيم، فهو اليوم الذي لا يماثله يوم في كثرة الدماء التي تراق فيه تقرباً إلى الله عز وجل، سواءً دماء الأضاحي أو دماء الهدي، وهو اليوم الذي خطب فيه النبي صلى الله عليه وسلم خطبته البليغة التي تعد دستوراً للأمة، لما اشتملت عليه من أحكام عظيمة، وهو اليوم الذي يبدأ فيه التحلل من الإحرام.(176/1)
الأعمال التي يعملها الحاج يوم النحر
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين.
أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [ (ثم اضطجع حتى طلع الفجر، وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، فدفع قبل أن تطلع الشمس، حتى أتى بطن محسر فحرك قليلاً، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها، كل حصاة مثل حصى الخذف، رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر فنحر) ] .
وصل بنا الحديث في الكلام على حديث جابر رضي الله تعالى عنه في بيان صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المزدلفة، إلى أن صلى المغرب والعشاء جمع تأخير بأذان وإقامتين، ولم يسبح بينهما، قال: (اضطجع حتى الفجر) فلما طلع الفجر صلى الصبح بأذان وإقامة، وفي غير حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم استيقظ وتبسم، فقيل له: (تبسمت يا رسول الله! في موطن لم تكن تتبسم فيه؟ قال: كنت سألت ربي أن يغفر لأمتي ويرحمها، فأعطاني ذلك إلا التبعات، فألححت على ربي -أي: في موقف عرفات- فلم يعطني، وقد أعطانيها الليلة) ، وفي بعض الروايات أنه قال له: (أما ما كان من ذنوب أمتك فيما بيني وبينهم فقد غفرتها، ولكن التبعات) والتعبات: هي تبعة كل إنسان على الآخر، أي: حقوق العباد فيما بينهم، كأن يكون لإنسان مظلمة عند أخيه في مال، أو في دم، أو في عرض، أو في أي شيء، فهذه تسمى حقوق العباد فيما بينهم، وأما ما كان بين العبد وبين الله ولا تعلق لحق عبد فيه فهذه هي حقوق الله سبحانه وتعالى، ويقولون: حق الله مبني على المسامحة، وحقوق العباد مبنية على المشاحّة.
وهنا ذكر صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه وتعالى استجاب له، وجاء في بعض الروايات أنه قيل له: (إلا التبعات، فقال: يا رب! إنك قادر أن ترضي صاحب الحاجة، أو صاحب المظلمة عن حاجته أو عن مظلمته، وتغفر لصاحبه، فلم يعطه) ، وفي تلك الليلة استيقظ متبسماً؛ لأن الله سبحانه وتعالى استجاب له وغفر لأمته حتى التبعات.
وهذه التبعات تدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان عشية يوم عرفة ينزل ربنا إلى سماء الدنيا فيباهي بأهل الموقف ملائكة السماء، يقول: عبادي جاءوا شعثاً غبراً ماذا يريدون؟ فتقول الملائكة: يا رب! أنت أعلم بما جاءوا إليه، جاءوا يرجون رحمتك ويخشون عذابك، فيقول سبحانه: أشهدكم يا ملائكتي! أني قد غفرت لهم، أفيضوا مغفوراً لكم ولمن شفعتم فيه) والعشية في اللغة من بعد العصر إلى غروب الشمس.
وفي قوله: (فقد غفرت لكم) اختلف العلماء هل يغفر كل شيء أو تستثنى التبعات؟ أكثر العلماء يقولون: كل شيء؛ لأنه لم يستثن شيئاً في هذا الحديث.
وبعض العلماء يقول: إلا التبعات، أي: التي لم يعطها صلى الله عليه وسلم، وقد أعطيها صلى الله عليه وسلم في ليلة المزدلفة.
وبالمناسبة ذكر العلماء سبب هذه المباهاة فقالوا: لما أخبر الله الملائكة أنه سيخلق بشراً جديداً كما في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص:71-72] فتساءل الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:30-31] ، فقالوا: إن الملائكة تساءلوا لما سمعوا من المولى سبحانه قوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة:30] ؛ لأنه كان في الأرض أجناس من الخلق قبل آدم، عمروها، ففسدوا فيها وأفسدوا، وسفكوا الدماء، وكان إبليس ممن يقود الجيوش في سبيل الله، ورفع إلى مكانة عليا، وكان مع ملائكة السماء الدنيا؛ لكثرة جهاده وعبادته.
ولما كان الملائكة قد رأوا السلوك الذي كان من عمّار الأرض تساءلوا: (أتجعل فيها) يعني: مرة أخرى، فأعلمهم سبحانه وتعالى وقال: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) ، ثم بين فضل آدم بتعليمه الأسماء، وعرضهم على الملائكة، فاعتذروا وقالوا: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة:32] ، ثم أنبأهم آدم بها، ولما ظهر فضله أمرهم الله أن يسجدوا له سجود تعظيم وتكريم، فإذا جاء يوم عرفة، واجتمع الخلائق من كل فج عميق يباهي الله بأهل الموقف الملائكة، كأنه يقول لهم: كنتم تقولون: أتجعل فيها من يفسد فيها؟ وهؤلاء هل هم مفسدون؟ ولم جاءوا؟ وماذا يريدون؟ فيقولون: (جاءوا شعثاً غبراً يريدون رحمتك، ويخشون عذابك) ، فهذه هي -كما يقولون- مناسبة أن الله سبحانه يباهي بأهل الموقف ملائكة السماء.
وقوله سبحانه: (أفيضوا مغفوراً لكم) يقولون: هل غفر لهم كل شيء بدون استثناء، أو غفر لهم كل شيء إلا التبعات؟ قد تقدم الكلام على هذا، وسواء كان هذا أو ذاك فإن الله سبحانه قد تكرم على عباده، ومنحهم غفران التبعات أيضاً.
فهو سبحانه وتعالى يغفرها لمن ارتكبها، ويرضي أصحابها عنها.
وجاء في حديث آخر: (إن الله سبحانه وتعالى إذا كان يوم القيامة والناس في الموقف يرفع غرفاً يراها أهل الموقف كما يرى أهل الأرض النجوم في السماء، فيقولون: يا رب! لمن هذه الغرف؟ فيقول: لمن عفا عن مظلمة لأخيه، فكل من كانت له مظلمة عند أخيه يقول: يا رب! عفوت عنها) أي: لينال من تلك الغرف.
وفي الجملة: فإن الله سبحانه وتعالى تكرم على هذه الأمة بهذه المنح العامة، وتكرم عليها بأن جعلها شاهدة على الأمم، وجعلها خير أمة أخرجت للناس، إلى آخر خصائص هذه الأمة على غيرها.(176/2)
مشروعية التغليس في صلاة الفجر يوم النحر
وهنا استيقظ صلى الله عليه وسلم متبسماً، ثم صلى الصبح في أول وقت يمكن أن تصلى فيه، حتى قال بعض الناس: لقد صلى الصبح قبل وقتها أي: قبل الوقت المعتاد في كل يوم، أي: أنه كان بعد أن يطلع الفجر، ويستبين النهار، يؤذن المؤذن، ثم يقيم على مهل، أما هنا فأول ما تبين الفجر وتبين النهار من الليل أذن المؤذن وأقام وصلى النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: أنه بادر بصلاة الصبح في ذلك اليوم دون بقية أيام السنة.(176/3)
الانتقال من المزدلفة إلى المشعر الحرام والدعاء عند المشعر
وقوله: (صلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام) .
يبين بقوله: (ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام) أن نزوله كان في غير المشعر الحرام؛ لأنه لما استيقظ وصلى لم تكن صلاته في المشعر الحرام، وإنما ركب وأتى إلى المشعر الحرام بعد الصلاة.
إذاً: المزدلفة كلها موقف، والمشعر الحرام جزء منه في طرف منها، وهو كان عبارة عن جبيل صغير وبني بجانبه مسجد، ثم وسع المسجد وهو المعروف الآن بمسجد المزدلفة.
قوله: (فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله) .
يقولون هنا: إنه صلى الله عليه وسلم وقف عند المشعر الحرام ودعا الله طويلاً، ويقول بعض العلماء: إن في بعض الروايات: أنه كان رافعاً يديه وضاماً لها إلى صدره في صورة المسكين الذي يطلب إحساناً، وهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم لربه في سؤاله وحاجته، وهل كان يسأل لنفسه أو كان يجتهد في سؤاله للأمة، كما كان في عرفات يجتهد ويسأل الله تعالى للأمة أن يغفر لها، وأن لا يجعل بأسها بينها، وأن لا يهلكها بكذا؟ الجواب: أن اجتهاده صلى الله عليه وسلم كان أكثر ما يكون للأمة ولنفسه معهم.
وبعض الناس ربما يأتي إلى المزدلفة ويذهب عنها وهو لا يعلم أين المشعر الحرام ولم يذهب إليه، فما حكم حجه هذا؟ الجواب: وقع الإجماع على أنه لا شيء عليه، فإن تيسر له الذهاب إليه وعلم مكانه فأتاه ودعا عنده فهذا أفضل؛ لأن الله سبحانه يقول: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] ، وهذا مكان -كما يقولون- تستجاب فيه الدعوة، والرسول اجتهد بدعاء ربه فيه، وإن لم يتيسر للإنسان الذهاب إليه، أو كان هناك زحام شديد لم يستطع بسببه المكث فيه، فمر عليه ووقف بإزائه ودعا فلا مانع، وإذا بقي في مكان نزوله بعيداً عن المشعر الحرام كما نزل رسول الله، وصلى مكانه أو مع الإمام أو مع جماعة من جماعته فليرفع يديه وليدع الله بقدر ما يتيسر له ويستطيع.
قوله: (فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً) .
لم يزل واقفاً عند المشعر الحرام يسأل ربه حتى أسفر، والإسفار هو: من السفر وهو النور، ولذا سمي السفر سفراً؛ لأنه ينير ويكشف عن حقيقة الصاحب في السفر، فأنت إذا كان لك صاحب في الحضر وفي الرخاء تجد منه العسل؛ لأنه ليس هناك مشقة، وليس هناك إيثار على النفس، وليس هناك حاجة إلى أن يمده إليك، وأما عند الأسفار فهناك التعب، وهناك الظنة بما في اليدين، وهناك الشح بما يملك الإنسان، وهناك الكسل وعدم المبادرة إلى المساعدة، فتظهر حقائق الرجال في السفر، ولهذا كان عمر رضي الله تعالى عنه إذا جاء إنسان ليزكي إنساناً عنده، وتزكية الشهود لم تحصل إلا في زمن عمر، وقبلها كان الشهود يُقبلون بدون تزكية.
فجاء رجل إلى عمر، وقال: يا أمير المؤمنين! أدرك الناس، فإن شهادة الزور قد تفشت في العراق، فأمر أن لا تقبل شهادة مجهول إلا بشاهدين يزكيان هذا الشاهد أنه صدوق وعدل، فكان عمر إذا جاءه إنسان ليزكي إنساناً يقول له: هل تعرفه؟ فيقول: نعم، فيقول له: هل بينك وبينه رحم؟ فيقول: لا، فيقول له: هل بينك وبينه معاملة في الدرهم والدينار؟ فيقول: لا، فيقول: هل سافرت معه؟ فيقول: لا، فيقول له: اذهب فأنت لا تعرفه.
لأن هذه هي الحالات التي تكون فيها المخالطة عن قرب، وتكون فيها مشاحة النفس؛ لأن الحياة بين الأرحام يحصل فيها شدة ويحصل فيها ضيق، ويحصل فيها غضب، ويحصل فيها رضا، كما هي شئون حياة البشر، فتعرف حقيقة الإنسان عندها، ويعرف إن كان شحيح النفس أو واسع الصدر.
وكذلك المعاملة بالدهم والدينار، يعرف عندها الإنسان هل هو يحرص على تحصيله من أي سبيل أو أنه يتعفف ويتورع عن الذي فيه شبهة؟! وكذلك السفر يعرف عنده الإنسان هل هو يحافظ على الصلاة في السفر؟ وهل يؤدي الأمانة في السفر؟ وهل يساعد رفيقه في مشاق السفر؟ وهل وهل.
إلخ.
قوله: (حتى أسفر) يعني: ظهر ضوء النهار من الليل جداً، يعني: قبيل طلوع الشمس، وربما بدأت إشعاعاتها البعيدة تحت الأفق في جهة الشرق.(176/4)
مشروعية الدفع من المشعر الحرام والإسراع في بطن وادي محسر
قوله: (فدفع قبل أن تطلع الشمس) .
دفع قبل أن تطلع الشمس، يعني: قبيل طلوعها؛ لأننا إذا صلينا الفجر عند الأذان فقد صلينا قبل طلوع الشمس، وإذا صلينا بعد طلوع الفجر بنصف ساعة فقد صلينا قبل طلوع الشمس، وإذا صلينا قبل طلوع الشمس بعشر دقائق فقد صلينا قبل طلوع الشمس، ولكن إذا قيل: قبل طلوع الشمس فمعناه: قرب طلوعها.
قوله: (حتى أتى بطن محسر فحرك قليلاً) .
دفع من المشعر الحرام حينما أسفر جداً، وقبل أن تطلع الشمس، وذلك مغايرة لما كان قبل الإسلام، فقد كانوا يقولون: (أشرق ثبير كيما نغير) ولم يكونوا يفيضون من المزدلفة حتى تشرق الشمس على رأس جبل ثبير، فخالف النبي صلى الله عليه وسلم أعمال الجاهلية ونزل من المزدلفة قبل أن تطلع الشمس، ثم دفع حتى أتى بطن وادي محسر بين مزدلفة ومنى، فحرك راحلته قليلاً، وهنا من أعظم الدروس التي يأخذها الحجاج في حجهم في بطن هذا الوادي موجب هذا الإسراع، وموجبه أن هذا الوادي أنزل الله سبحانه فيه العذاب على قوم فأهلكهم، وجميع الأماكن التي هي مواطن المسخ أو مواطن العذاب، لا ينبغي لإنسان أن يقيم فيها ولا أن يمر بها، ولا أن يدخلها إلا للحاجة، ووادي محسر لابد للحاج أن يقطعه؛ لأنه بين المزدلفة وبين منى، وليس هناك طريق غيره، فإذا دخله فعليه أن يسرع الخطى حتى يخرج منه، وقالوا: إن الإنسان يسرع في هذا الوادي مقدار رمية الحجر، بقدر المستطاع؛ لأن الأمور تقديرية، فإن كان راكباً حرك الدابة، وإن كان ماشياً على قدميه أسرع خطاه، بقدر ما يتيسر له دون إرهاق.
والسبب في ذلك كما هو معلوم للجميع ما كان من قصة جيش أبرهة حينما جاء ومعه الفيل قاصداً هدم الكعبة، فلما وصل إلى الطائف رأى صنماً كبيراً فظنه الكعبة، فقالوا له: لا، إن مطلبك أمامك، فقال لهم: أعطوني رجلاً يدلني على الطريق، فأعطوه رجلاً، فمشى معه إلى أن نزلوا ببطن الوادي، وقد أصبحت مكة قريبة منهم، فجاء هذا الرجل إلى الفيل وهمس في أذنه وقال: أتدري يا محمود! إلى أين تذهب، وماذا يراد منك؟ وكان محمود اسماً للفيل، والناس قد يسمون بعض الحيوانات، فيسمون بعض الغنم سعدية وسعدة ونحو ذلك، فبقي الفيل جالساً، فلما أرادوا أن ينهضوا به حينما أرادوا الرحيل لم يقم، فضربوه وآذوه بمحاجم فلم يتحرك، فحولوه إلى حيث أتى فقام يهرول راجعاً، فحولوه إلى جهة الكعبة فبرك مكانه.
ودائماً ننبه في مثل هذه الحالات على أن الإنسان إذا كان طاغياً، وفكرة الطغيان مسيطرة عليه فإنه تغلق عليه الأبواب وتظلم بصيرته، ولا يرى الرشد، ونظير هذا ما وقع لفرعون عند أن جاء ووجد البحر مفلوقاً لموسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام كل فرق كالطود العظيم، فأنت يا فرعون! لو كان عندك عقل، وأنت ترى البحر الذي تعرفه قد أصبح الآن طرقاً، والماء الرجراج قد أصبح مثل الجبل، فستعلم أن هذا شيء ليس بعادي، وستعلم أن هذا وقع لنبي كان يدعوك من قبل، وقد أراك تسع آيات، وأراك العصا والحية، ودعاك إلى الله وتعب معك في الدعوة، وأنت الآن أمام أمر يفوق قضية العصا والحية أو يعادلها، وقد مشى فيه موسى، فلماذا لم تقف وتتذكر وتعتبر بأن الذي فعل هذا لموسى ليس بقدرة موسى، وإنما هو بقدرة رب موسى الذي كان يدعوك إليه؟ ولماذا لم تأخذ العبرة والموعظة ما دام أن ربه قد عمل له هذا؟ إذاً: هو على الحق، فكان المنطق السليم أن يرجع فرعون أمام هذه الآية، ولكن طغيانه أنساه، وأظلم بصيرته، فلج ودخل في تلك الطرق وسط الأمواج، فأطبق الله عليه البحر وأغرقه هو وجنوده.
وكذلك نقول هنا لـ أبرهة: أنت قد رأيت الفيل وهو كما يقولون: أغلظ الحيوانات طبعاً، ولكنه ذكي، ويذكرون عن الفيل في تعليمه أنه من أذكى الحيوانات، ويفاضلون بينه وبين الفرس في الذكاء؛ لأن الفرس ذكي جداً، فها أنت يا أبرهة! قد رأيت أن الفيل ليس قادراً على أن يُقبل على ما أنت مقبل عليه، وقد جعل يرجع ويهرول إلى الموضع الذي أتى منه، أفلا ترجع؟! كان عليك أن تتأسى بالفيل، وأن تحجم عن الذي جئت من أجله، وأن ترجع كما رجع الفيل عنه، ولكنه أصر على المضي، فكان كما قال الله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ} [الفيل:1-3] الإبيل والأبابيل جمع: {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} [الفيل:4] سبحان الله! يقولون: كان الطير يحمل ثلاثة أحجار: حجرين في مخلبيه وحجراً في منقاره، وكان الحجر الذي يرميه على الفارس يخترق الفارس والفرس حتى يسقط إلى الأرض، وقد ذكرت لكم سابقاً أن بعض الناس يتساءلون ويقولون: إذا كان في الحجر قوة الاختراق هذه، وتخترق إنساناً من رأسه إلى الفرس إلى الأرض فكيف استطاع الطير أن يمسكها بمخالبه، وأن يمسكها بمنقاره؟ الجواب: قد ذكرت لكم أن هذا ممكن في الموجودات الأخرى، فقد وجد مثل هذا في حجر اليود، وهو يستخرج من ماء البحار المالحة، إذا وضعته على الحديد صهره، وإذا وضعته على الخشب أشعل فيه النار حالاً، وإذا وضعته على الزجاج لا يؤثر فيه شيئاً ولا يرفع الحرارة فيه حتى درجة واحدة، فالذي خصص الزجاج عن الحديد وعن الخشب هو الذي جعل الطير تأخذ هذه الحجارة ولا تؤثر فيها شيئاً، ويهمنا أن الله سبحانه أهلك ذاك الجيش بفيله في هذا الوادي، {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:5] .
فما كان موطن عذاب، فإن السنة فيه أن يسرع الإنسان ولا يقيم، ويقول كثير من المؤرخين: إن الله سبحانه وتعالى فعل ذلك في السنة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذا من الإرهاصات لمجيء النبي صلى الله عليه وسلم، فهنا أسرع النبي صلى الله عليه وسلم الخطى، وكما قال في مدائن صالح: (لا تدخلوها عليهم إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تبكوا فتباكوا) أي: ولو من باب الشكليات؛ لتظهروا الأسف، وهنا نقول: أبرهة قد انتهى هو وجيشه وفيله، والذي نأخذه نحن في هذا الموطن من الموعظة والعبر أننا ننظر إلى منهجية الفريقين: الفريق الأول: هو هذا الجيش الباغي المعتدي، ودينه النصرانية، وهو على دين سماوي، حرف أو لم يحرف، والفريق الثاني: هم القوم الذين ذهب إليهم أبرهة ليهدم البيت الذي يعظمونه وهم وثنيون، ولا شك عند الجميع أن الكتابيين خير من الوثنيين، ومهما غير الكتابيون في دينهم إلا أن عندهم مبدأ وأصل، ولهذا جاز للمسلم أن يتزوج الكتابية، ولا يجوز له أن يتزوج المشركة الوثنية، وإنما يستمتع بها بملك اليمين، وأما بعقد نكاح فلا، وكذلك يترك أهل الكتاب على دينهم، ويُقبل منهم أن يدفعوا الجزية؛ لأنهم سيتركون على بقايا كتاب عندهم، أما الوثنيون فلا يقبل منهم أن يدفعوا الجزية، ولا يقبل منهم إلا الإيمان أو السيف؛ لأننا إذا أخذنا منهم الجزية وتركناهم فسنتركهم على عبادة الأصنام، وهذا لا يقبل منهم، فهناك فرق بين الفريقين، ومع ذلك فإن الله أهلك من هم خير في العقائد وهم أهل الكتاب من أجل أولئك الوثنين الذين يعبدون الأصنام، مع أن الأولى والأحق بالنصرة هو الكتابي؛ لأنه على عقيدة، لها أصل وإن كانت محرفة، فلماذا؟ الجواب: إن الفارق الذي غلَّب جانب هلكة الكتابي هو الظلم؛ لأنه جاء ظالماً باغياً طاغياً يريد أن يهدم الكعبة، وماذا عملت به الكعبة؟ وإن أراد أن يؤذي قريشاً فماذا صنعت به قريش؟ هو بنى كنيسة وزخرفها وأراد أن يحج الناس إليها بدل الكعبة، فجاء رجل من عامة أهل البادية وتغوط داخلها، فغضب وأراد أن ينتقم، فيقال له: انظر أين الرجل الذي تغوط وانتقم منه هو، أما أن تأتي لتنتقم من جميع أهل مكة فهذا ليس فيه عقل ولا عدالة.
إذاً: أيها الحاج الكريم! إذا مررت بهذا الوادي وأسرعت فعليك أن تتساءل: لماذا أسرع هنا دون جميع الأماكن في الحج؟ سيقال لك: لأن هذا المكان حصل فيه كذا وكذا، إذاً: فاحذر أن تطغى، واحذر أن تظلم، واحذر أن تبغي على أحد، وتجنب الظلم، واذكر قوله سبحانه في الحديث القدسي: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً) وقوله سبحانه في الحديث الآخر: (إني لأنصر المظلوم ولو كان كافراً) ؛ لأن الكافر إذا ظُلم، وطلب من يرفع الظلم عنه فلم يجد، فتوجه إلى الله، فهو عندما يتوجه إلى الله موقناً بأنه وحده القادر على أن يأخذ حقه، فهو في هذه اللحظة مؤمن بوجود الله، ومؤمن بقدرة الله، ومؤمن بعلم الله بظلمه وأنه سينصره، وهذا القدر يكفي في إجابة دعوته، وكما قالوا في قصة فرعون مع موسى: إن فرعون لما جاءه الغرق بدأ ينادي: يا موسى! يا موسى! عدة مرات، وموسى لم يلتفت إليه حتى لا يجيبه، فلما انتهى أمر فرعون عاتب الله موسى، فقال: يا موسى! فرعون يناديك عدة مرات، ولا تلتفت إليه لو دعاني مرة واحدة لأجبته؛ لأنه حينما يدعوه في تلك اللحظة فهو قد آمن، وهو يعلم أنه قادر على أن يعطيه دعوته.
إذاً: حينما يمر بذلك الحاج الموضع يتذكر ذلك التاريخ، وكما قلنا مثل ذلك في الرمل الذي كان في عمرة القضية عند أن تآمر المشركون على المسلمين لما بلغهم من ضعفهم، وفي موضوع السعي بين الصفا والمروة، في قصة طلب هاجر للماء، وكيف استطلعت من حولها فلم تجد أحداً، فاتجهت إلى الصفا ثم إلى المروة، كل هذه خطوات يجب على الحاج أن يستفيد منها بإحياء ذكراها، والتأسي بما تعطيه من مدلول.(176/5)
الأعمال التي يعملها الحاج في يوم النحر إذا وصل إلى منى
وهنا أسرع صلى الله عليه وسلم في هذا الوادي، فلما انتهى منه وجاء إلى العدوة الثانية صار في حيز منى، ولما جاء إلى منى، أول ما فعله أنه أتى إلى الجمرة حالاً، ولم يذهب إلى منزله، ولهذا يقولون: إن تحية منى: هو المبادرة إلى رمي جمرة العقبة، فرماها بسبع حصيات من بطن الوادي.
وفي بعض الآثار أنه صلى الله عليه وسلم قال للعباس في المزدلفة: (التقط لي سبع حصيات) فأخذ معه سبع حصيات من المزدلفة، وهذا يدل على أن الحاج لابد أن يكون متأهباً للعمل الذي أمامه وهو رمي جمرة العقبة، حتى إذا وصلها شرع في رميها، ولا يذهب ينادي ويقول: ابحثوا لي عن حصى، بل عليه أن يكون متأهباً.
وهنا فكرة طرأت على ذهني في هذا الموقف وهي أن الله سبحانه وتعالى لما امتن على المسلمين بالوقوف بعرفة، وغفر لهم وحط عنهم أثقالهم، وفك عنهم قيودهم التي كبلهم بها الشيطان؛ لأن الشيطان قال: {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} [الإسراء:62] فالشيطان قد توعد الأمة بين يدي الله أنه سيأتي بحبل ويضعه في حنكهم ويسحبهم كما يسحب الإنسان الدابة، وفعلاً كثير من الناس ينقاد له كذلك، فكان الإنسان يقترف في حياته خطيئة مع أخرى حتى صارت كالجبال فوق ظهره، وصار مثقلاً ومقيداً يقاد بمقود كالبعير، ولما كان يوم عرفات غفر سبحانه وتعالى له خطاياه وأزال عنه قيوده، فكيف سيكون حاله بعد هذا؟ سيكون على أمرين: الأول: الخفة، والثاني: استشعار النصرة من الله على عدوه، ولهذا ما رؤي الشيطان أصغر ولا أذل ولا أحقر منه من يوم عرفة؛ لما يرى من تنزل الرحمات، ولما يرى من أن الله قد غفر للجميع فينادي بالويل والثبور؛ لأنه طول عمره وهو يسعى وراء هؤلاء لإضلالهم، فإذا به في لحظة واحدة قد بطل مسعاه، وضاع كل جهده مع هذه الملايين التي جاءت ووقفت في الموقف، فيتأسف على ذلك، فإذا ما جاء الحاج إلى المزدلفة أخذ قسطاً من الراحة، والاستحمام، ثم ذهب ليصفي حسابه مع الشيطان -كما يقولون- لأن الشيطان كان معلناً عليه الحرب، وكان مستأسره، وكان مستضعفه، وقد فعل به ما شاء، فهو الآن جاء ليصفي حسابه مع الشيطان، وكأنه سيدخل معركة مع الشيطان، فيتزود من المزدلفة بالسلاح الذي سيعلن به الحرب على الشيطان، والذي يذهب إلى المعركة لابد أن يتزود بالذخيرة قبل أن يأتيها، ولهذا حين أن يأتي ليرمي الجمرة، يقول: (باسم الله، الله أكبر إرغاماً للشيطان وإرضاءً للرحمان) ؛ لأنه بعد أن كان أسيراً للشيطان قد أطلق من أسره، وأصبح في موقف القوة، يعلن الحرب على عدوه، وهاهو يرمز -ورمي الجمرات ما هو إلا رمز، لا كما يظن الجهال أن الشيطان أمامه- إلى أنه قد انتهى من عدوه وبدأ معه طوراً جديداً، ومن أعلن الحرب على عدوه فلا يغفل عنه أو ينام، بل يكون أشد حرصاً من ذي قبل.
فهنا صلى الله عليه وسلم أخذ الحصى من المزدلفة، ويقول العلماء: من شاء اكتفى بسبع حصيات من المزدلفة، ثم يأخذ بقية الحصيات لبقية الأيام من منى، بشرط أن لا يلتقطها من مسجد، ولا يلتقطها من المرمى؛ لأنه قد أدى بها الواجب إنسان قبل، فأنت إذا أخذتها بعده فهو بمثابة الماء المستعمل في الوضوء لا يتوضأ به مرة أخرى.
إذاً: من شاء أخذ الحصى من مزدلفة، ومن شاء أخذ سبعاً من مزدلفة والتقط الباقي من طريقه أو من منى، وقد بين صلى الله عليه وسلم مقدار الحصاة كما جاء هنا: (كحصى الخذف) وحصى الخذف هي: الحصاة التي مثل حبة الفولة تقريباً ويمكن أن تضعها بين أصبعين وتخذف بها، مثل (النبّيلة) فتذهب إلى مسافة بعيدة، ولا ينبغي أن تكون كبيرة مثل الليمونة، ولا أن تكون صغيرة مثل حبة القمح؛ لأن هذه الصغيرة لا يعتبر الرمي بها، والكبيرة إذا أصابت إنساناً عند الحوض فإنها تؤذية، وليست المسألة مسألة إيجاع ولا تحطيم، ولا اعتداء، وإنما هي عبارة عن رمز.(176/6)
حكم غسل حصيات الرمي والتوكيل في التقاطها
يبحث الفقهاء في هذه الحصى: هل يغسلها الحاج أو لا يغسلها؟ والقول بغسلها جاء عن بعض الشافعية، والجمهور يقولون: غسلها بدعة؛ لأن الرسول لم يغسلها، والأصل فيها الطهارة.
ولك أن تلتقطها بنفسك، ولك أن توكل إنساناً يلتقط لك، كما وكل النبي صلى الله عليه وسلم: (يا عباس! التقط لي سبع حصيات) فأتى منى وجاء من بطن الوادي، وجعل منى عن يمينه، ومكة عن يساره، ورمى الجمرة بسبع حصيات وهو على راحلته، ولم يقف عندها، وإنما رمى وانصرف.(176/7)
نحر الهدي يوم العاشر من ذي الحجة
قوله: (ثم انصرف إلى المنحر فنحر) .
المنحر وهو اسم المكان الذي ينحر فيه، كما يقولون: المذبح، إذاً: هناك تعيين، فما كل إنسان يذبح في الطريق أو عند خيمته! ولكن عليه أن يأتي المنحر، وهذا من أوائل تنظيم الأعمال التي بها تكون منى صالحة للسكنى، وقبل مجيء المذابح الآلية الجديدة كنا إذا مشينا في أي مكان نرى الشياه مرمَّية في الشارع، وسبحان الله! الله أمر بتطهير البيت ومكة من هذه المظاهر في قوله سبحانه: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] ، وأين محله؟ قال: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] وهل محله عند الكعبة بأن نذبح في مكة حول الكعبة؟ الجواب: لا، فقد جعل الله منى منحراً، إذاً: منى منحر رسمي لمكة.
وبهذا تكون جيف الذبائح قد أبعدت عن المسجد الحرام؛ لتظل مكة طاهرة طيبة بعيدة عن هذه القاذورات، والفضلات إلى غير ذلك.(176/8)
عدد الهدي الذي كان مع النبي صلى الله عليه وسلم والفرق بين النحر والذبح
أتى صلى الله عليه وسلم المنحر وكان معه من الهدي مائة بدنة، بعضها أخذها معه من المدينة، وبعضها أتى بها علي من اليمن، وشركه في هديه، فنحر صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة ثلاثاً وستين بدنة، ونحر علي الباقي.
والنحر للإبل والذبح للغنم، وأما البقر فمختلف فيه، والجمهور على أنها تذبح كما تذبح الشاة، والذبح هو: قطع الحلقوم من عند الرأس، والنحر هو: الطعن في اللبة من عند الصدر، والسبب في النحر أنه أسرع لإخراج الدم، فلو ذبح البعير لكانت المسافة بين القلب وبين مكان الذبح طويلة، ولكن لما تنحر الإبل تكون الفتحة التي يخرج منها الدم قريبة من القلب، فيستطيع القلب في فترة ما بين الحياة والموت أن يتخلص من جميع الدم الموجود في جسم الناقة، ولكن لو ذبحت فإنها تحتاج إلى (ماطور) في الصدر حتى يخرج الدم من مسافة رقبة البعير الطويلة، فيحتاج إخراج الدم يحتاج إلى مجهود؛ لأن القلب في مكان منخفض وسيتوقف بالموت قبل أن يخرج جميع الدم، فكان السر في نحر الإبل هو تيسير خروج الدم من جسم الإبل؛ لأن الغرض من النحر أو الذبح هو تخليص اللحم من الدم؛ لأن الدم فيه ثاني أكسيد الكربون، وفيه الأكسجين، فالأكسجين هو مادة الحياة، وثاني أكسيد الكربون هو غاز سام، والدم في خروجه من القلب إلى الجسم يحمل الأكسجين ليغذي به الجسم، وفي عودته من الجسم إلى القلب يحمل ثاني أكسيد الكربون ويمر في عودته بالرئة، فتصفيه من هذا الغاز السام عن طريق (الفلتر) الموجود في الرئة، فمواضع الترشيح التي في الرئة، تستخلص منه الغاز السام وتعطيه الأكسجين ويرجع في دورته إلى الجسم للتغذية مرة ثانية، وهكذا.
ولهذا يقولون: إن الحركة السريعة التي يأتي بها المذبوح من الطير أو الحيوان كبيراً كان أو صغيراً تساعد على إخراج الدم من الجسم إلى الخارج ليصفو اللحم، ومن هنا كانت الميتة فاسدة وضارة؛ لأنها تحتبس وتختزن القسم الذي فيه السم وهو ثاني أكسيد الكربون فيؤذي، ولهذا إذا وجدت شاة ميتة وذبحت شاة أخرى حية وسلختها وعلقت لحمها بجانب هذه الميتة فإن الفساد يسرع إلى الميتة حالاً، ويظل اللحم الآخر الذي هو مذكى ومذبوح صالحاً بعد ذلك لمدة يوم أو يومين لم يطرأ عليه الفساد؛ لأنه تخلص من عوامل الإفساد التي خرجت مع الدم.(176/9)
نحر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين بدنة فيه إشارة إلى عمره
ويهمنا هنا أنه صلى الله عليه وسلم نحر بيده ثلاثاً وستين بدنة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم توفي عن ثلاث وستين سنة، فما هي العلاقة بين ثلاث وستين بدنة ينحرها وثلاث وستين سنة يعيشها وهو في آخر سنة من سني حياته؟ الجواب: هذا كأنه رمز وإشعار منه صلى الله عليه وسلم للألباء أصحاب الفطن أن اعلموا أن عدد سنواتي ثلاث وستون، وأن هذه السنة هي النهاية، ففي هذا إشعار بعدد سنوات عمره صلى الله عليه وسلم.
ثم أمر علياً أن ينحر بقية المائة، ولماذا أكمل المائة ولم يكتف بالثلاث والستين؟ الجواب: أنه قد سبق لأبيه قبل ذلك، أنه وقع عليه السهم في أن يذبحه أبوه في النذر الذي كان عليه كما تقدم لنا أن عبد المطلب قال: (لئن رزقني الله عشرة أولاد يقفون بجاني يحملون السيف ويدافعون عني لأنحرن واحداً منهم) ، فأقرع بينهم، فجاءت القرعة على عبد الله والد رسول الله، ولكن عبد الله كان يحمل أمانة، وما كان الله ليتركه يذهب بها، فجاءت مفاداته وفودي بمائة من الإبل، إذاً: كأنه صلى الله عليه وسلم يقول: يا رب! معذرة، أبي فودي بمائة من الإبل في الجاهلية، وأنا أقدم مائة من الإبل في الإسلام.(176/10)
مشروعية أكل صاحب الهدي من هديه
ثم أمر علياً بأن يأتي بالجزارين ليسلخوها ويقطعوها، وأمره أن يأخذ من كل بدنة قطعة، وأمر أن تطبخ تلك القطع كلها في قدر واحد، فأكل من اللحم وشرب من المرق، وعلى هذا كانت السنة أن على من أهدى أن يأكل من هديه؛ من أجل أنه إذا علم أنه سيأكل من هذا الذي سيذبحه، فلن يذبح عجفاء عرجاء ويتركها في الشارع، بل سيتخير الشيء الذي تطيب نفسه أن يأكل منه؛ لأن الواجب أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، فإذا علم صاحب الهدي أنه سيأكل منها فإنه سيتخير، وهكذا كانت السنة.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً إلى يوم الدين.
والحمد لله رب العالمين.(176/11)
كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [6]
أيام التشريق يجتمع فيها للمؤمنين نعيم أبدانهم بالأكل والشرب، ونعيم قلوبهم بالذكر والشكر، وبذلك تتم النعمة، وكلما أحدثوا شكراً على النعمة كان شكرهم نعمة أخرى، فيحتاج إلى شكر آخر، ولا ينتهي الشكر أبداً.
وفي الأمر بالذكر بعد انقضاء النسك معنى عظيم، وهو أن سائر العبادات تنقضي ويفرغ منها وذكر الله باق لا ينقضي ولا يفرغ منه، بل هو مستمر للمؤمنين في الدنيا والآخرة.(177/1)
بقية الأعمال التي يعملها الحاج يوم النحر بعد نحر الهدي
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [: (ثم انصرف إلى المنحر فنحر، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر) رواه مسلم مطولاً] .(177/2)
الحلق يوم النحر وكيفيته
يسوق المؤلف رحمه الله تعالى حديث جابر الطويل الذي وصف فيه حجة النبي صلى الله عليه وسلم وقد اختصره في هذا الموطن، وذكر غيره بقية الحديث، وأجمع من ذكره هو الإمام مسلم رحمه الله تعالى، وهنا يقول: (ثم انصرف إلى المنحر فنحر هديه) وقد تقدمت الإشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم ساق معه من المدينة بعض الإبل، وجاء علي رضي الله تعالى عنه من اليمن أيضاً بجملة من الإبل، واجتمع من ذلك مائة بدنة، فنحر صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة ثلاثاً وستين بدنة، وأوكل إلى علي رضي الله عنه أن ينحر البقية، وأن يأتي بالجزارين ليسلخوا وليقطعوا وأن يعطيهم الأجرة من غير اللحم، وإذا كانوا مساكين أو يحتاجون إلى اللحم فيأخذون منه بصفة الحاجة، لا بصفة الأجر على عملهم.
وقد تقدم أن العلماء قالوا: كونه صلى الله عليه وسلم اقتصر على نحر ثلاث وستين بيده الكريمة فهذا فيه إشارة خفية إلى أن سني حياته صلى الله عليه وسلم ستنتهي عند الثلاث والستين سنة، وفعلاً توفي صلى الله عليه وسلم بعد أن رجع إلى المدينة بقليل، وتقدم أن العلماء بحثوا في كلمة: (نحر) و (ذبح) فقالوا: إن النحر للإبل وهو أن تطعن في نحرها، أي: في لبتها وهي في آخر العنق من جهة الصدر، والذبح يكون في طرف العنق من جهة الرأس، فالذبح للشاة والنحر للإبل، والبقر مترددة بين الإبل وبين الغنم، فبعض العلماء يلحقها بالإبل لضخامة جسمها، وبعضهم يلحقها بالغنم لقصر عنقها، وتقدم أن الحكمة في أن الإبل تنحر والغنم تذبح: أن النحر والذبح كلاهما إنما يكونان من أجل أن يتخلص جسم الحيوان مما فيه من الدم، فإذا ما نحرت الناقة فسيكون موضع خروج الدم قريباً من القلب، ويستطيع القلب أن يظل مستمراً بالنبض إلى أن يخلص الجسم مما فيه من الدم، وتأتي حركة الأطراف في الحيوان المذبوح فتنشط الدم للخروج من الأطراف إلى القلب، والقلب يدفعه إلى الفتحة الناتجة عن النحر، وهي فتحة قريبة من القلب، لا يزيد بعدها عنه على ثلاثين سنتيمتراً، أما إذا ذبحت الإبل ذبحاً فإن القلب يحتاج إلى مجهود كبير ليدفع الدم إلى نهاية هذا العنق الطويل، وربما انتهت حياته قبل أن يخلّص البدن من كامل الدم الذي فيه، فكان الأنسب بالنسبة للإبل أن تنحر؛ لسهولة خروج الدم من هذا الجسم الكبير بالنحر، بخلاف الذبح.
وكان في الغنم الذبح؛ لأن مجمع العروق والحلقوم إنما هو في طرف الرقبة من جهة الرأس.
ولما نحر صلى الله عليه وسلم الهدي أمر علياً رضي الله عنه بأن يكلف الجزارين أن يأخذوا من كل بدنة بضعة لحم، أي: قطعة، وجمعت المائة قطعة من المائة بدنة في قدر وطبخ جميع ذلك، فأكل صلى الله عليه وسلم من اللحم وشرب من المرق، ومن هنا يقول العلماء: من استطاع أن ينحر أو يذبح هديه بيده فهو أولى، ومن لم يستطع أناب عنه، كما أناب النبي صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله تعالى عنه في نحر بقية الهدي، وكذلك من السنة أن يأكل الحاج من هديه؛ وذلك لكي يتخير من الهدي ما تطيب نفسه أن يأكل منه، وعلى مبدأ: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) ، فالذي تطيب نفسه أن يأكل منه يأخذه من أجل أن يأكل منه المسكين، أما إذا جاء إلى مريضة أو هزيلة أو لا تصلح للأكل فذبحها فإن المسكين يعاف أن يأكل منها كما يعاف صاحبها.
وبعد أن أنهى صلى الله عليه وسلم النحر حلق، كما قال تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] بعدما نحر صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الحلاق فحلق له قبل أن يفيض إلى مكة لطواف الإفاضة، وأما كيفية حلقه لشعره صلى الله عليه وسلم فقد دعا الحلاق وناوله شق رأسه الأيمن، فحلقه ثم قال له: قسم هذا الشعر على الناس، يقول بعض العلماء: إنه طيّب به خواطر من لم ينل شيئاً من اللحم، والتحقيق عند أكثر العلماء: أنه أمر بتقسيمه حفظاً له وإكراماً له لئلا يلقى في الأرض فيوطأ، فأمر أن يوزع على الناس، وكل يتمنى أن ينال الشعرة أو الشعرتين ليحتفظ بها ويكرمها دون أن تصاب بأذى أو امتهان.
وقد كان عند بعض الصحابة بعض ذلك الشعر، حتى قيل: إن خالد بن الوليد كان يحتفظ بشعرات في قلنسوته، وأم سلمة رضي الله عنها كانت تحتفظ بشعرات في جلجل من فضة، فكان إذا أتاها محموم جاءت بماء فصبته فيه، وحركت هذا الجلجل بما فيه من هذه الشعرات ثم سقته المريض فيعافيه الله سبحانه وتعالى بفضله، وهكذا لما حلق الشق الثاني من الرأس قال: خذ هذا أنت.(177/3)
الحلق أفضل من التقصير عند التحلل من النسك
وهكذا حلق صلى الله عليه وسلم والحلق هو الأفضل للتحلل من النسك، كما قال سبحانه وتعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح:27] ، ومعلوم أن تقديم أحد المتساويين يدل على فضله، أو الاهتمام به، كما جاء في الصفا والمروة في قوله سبحانه: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} [البقرة:158] ، ولما سئل صلى الله عليه وسلم: (من أين ستبدأ؟ قال: أبدأ بما بدأ الله به) أو قالوا: (من أين سنبدأ؟ قال: ابدءوا بما بدأ الله به) ، فهنا تقديم (محلقين) على (مقصرين) يدل على أفضليته، وقد بين ذلك صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية، أو الحديبية حينما حلق بعض الناس وتأخر البعض وقصر، فقال: (اللهم! ارحم المحلقين ثلاث مرات، فقالوا: والمقصرين يا رسول الله! -وفي الثالثة أو الرابعة قال- والمقصرين، فقيل: وما شأن المقصرين يا رسول الله! وما شأن المحلقين؟ قال: أولئك لم يشكوا) أي: لم يترددوا في الحلق ولو لم يصلوا إلى البيت الحرام.(177/4)
طواف الإفاضة والخلاف في موضع صلاة النبي صلى الله عليه وسلم الظهر يوم النحر
نحر صلى الله عليه وسلم وحلق ثم ركب ونزل إلى البيت، وطاف طواف الإفاضة، وفي حديث جابر: (وصلى الظهر بمكة) وهذه المسألة فيها ثلاث روايات في صلاته الظهر يوم العيد: الرواية الأولى: كما ذكر المؤلف أنه صلى الظهر بمكة، ثم رجع إلى منى.
الرواية الثانية: أنه رجع من مكة إلى منى وصلى الظهر فيها.
الرواية الثالثة: أنه صلى الظهر بمكة حينما دخل وقتها، ولما رجع إلى منى وجدهم ينتظرونه فصلى بهم الظهر مرة أخرى، ولا مانع من مثل ذلك؛ لأن غاية ما فيه أنه كرر الصلاة مرتين، ووقت صلاة الظهر ليس من الأوقات المنهي عن الصلاة بعده، بل جاء فيما يتعلق بصلاة العصر أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى العصر ذات يوم، فدخل رجل متأخراً، فقال صلى الله عليه وسلم: (من يتصدق على هذا؟ فقام رجل وصلى معه) حتى اكتسب أجر صلاة الجماعة مرة ثانية، وهنا كذلك.
وسواءً صلى الظهر بمكة أو صلى بمنى أو صلى بالموضعين فإنه رجع إلى منى يوم العيد وبقي هناك وبات، أي: ليلة اليوم الثاني من أيام العيد وهو اليوم الأول من أيام التشريق.(177/5)
الأعمال التي يعملها الحاج أيام التشريق
ثم بعد ذلك كان من عمل النبي صلى الله عليه وسلم أنه من الغد، وهو أول أيام التشريق انتظر حتى زالت الشمس، فركب وأتى إلى الجمرة الصغرى التي تلي مسجد الخيف، فرماها بسبع حصيات مستقبلاً الجمرة والكعبة، يعني: مستقبلاً القبلة، جاعلاً الجمرة بينه وبين الكعبة، أي: على مستوى مسيره من المسجد، فإذا خرجنا من المسجد وتوجهنا إلى الجمرات فإننا نواجه الجمرة الأولى في طريقنا ونكون مستقبلين الكعبة ومتوجهين إلى مكة، وهناك رمى صلى الله عليه وسلم الجمرة بسبع حصيات، ثم تنحى جانباً، واستقبل القبلة ووقف ودعا طويلاً، ثم مضى إلى الجمرة الوسطى أيضاً وهو مستقبل القبلة، ورماها بسبع حصيات، ثم تنحى جانباً واستقبل القبلة ودعا طويلاً، ثم مضى إلى جمرة العقبة الكبرى، وتياسر مع الوادي، وجعل الجمرة أمامه، ومنى عن يمينه، ومكة عن يساره، ورماها بسبع حصيات وانصرف ولم يقف عندها ولم يدع.
يقولون: إنه لم يقف لأن المكان لا يتسع؛ لأن عندها العقبة، وهي: جبيل صغير، والجمرة تقع بجانبه من جهة بطن والوادي، فيقف الواقف في بطن الوادي ويرمي، وليس هناك متسع؛ لأن كل من رمى إذا أراد أن يدعو، وجاء إلى بعض الجوانب فسيجد العقبة تشغل المكان وليس هناك محل يمكن أن يقف الناس فيه ليدعوا كما دعوا في الأولى وفي الوسطى، فرمى جمرة العقبة الكبرى، وهي الأخيرة، أي: التي رماها بالأمس يوم العيد، وجعلها آخر ما رمى من الجمرات الثلاث، ثم رجع إلى مخيمه.
وهكذا فعل في اليوم الثاني من أيام التشريق مثل ذلك.(177/6)
الترخيص لرعاة الإبل وأصحاب الأعمال العامة في عدم المبيت بمنى أيام التشريق
وأذن لرعاة الإبل ولأصحاب الأعمال العامة الذين يخدمون الحجاج أن يذهبوا إلى حيث يعملون، فذهب الرعاة بالإبل إلى خارج منى ليرعوا الإبل هناك، ويمكثوا اليوم الثاني من أيام التشريق، على أن يرجعوا في اليوم الثالث من أيام التشريق ليرموا عن اليوم الثاني والثالث، وعلى هذا فعملهم في يوم النحر أنهم رموا جمرة العقبة ثم أفاضوا ثم جاءوا وباتوا في منى، ثم رموا جمار اليوم الأول من أيام التشريق وذهبوا، ومكثوا في مكان عملهم اليوم الثاني ولم يأتوا إلى منى ولم يرموا، وفي اليوم الثالث جاءوا إلى منى فرموا جمرات اليوم الثاني الذي لم يأتوا فيه إلى منى، كما رموا في اليوم الأول: الأولى فالوسطى فالعقبة، ثم رجعوا فرموا لليوم الذي هم فيه وهو اليوم الثالث على الترتيب السابق: الأولى فالوسطى فالعقبة.
وكذلك أذن صلى الله عليه وسلم لأصحاب السقاية أي: الذين يسقون الحجيج في زمزم، وأذن للعباس رضي الله عنه لأنه كان صاحب السقاية أن ينزلوا ويبيتوا في مكة تلك الليلة من أجل مباشرة عمل السقاية، وهي خدمة الحجيج.
وهنا يمكن أن نقول: إن أصحاب المهن المرتبطة بأعمال الحجاج وخدماتهم إذا كان الحال يتطلب خروجهم أو ذهابهم عن منى فإنه لا مانع أن يؤذن لهم كما أذن لرعاة الإبل، وكما أذن لأصحاب السقاية، فمثلاً: توجد المستشفيات في مكة وفي منى وفي غيرها، فإذا كان هناك طبيب محرم بالحج، وملتزم بمناسكه، وجاء وطاف طواف الإفاضة، ثم رجع ليبيت في منى ولكن عمله يتطلب أن يكون في مكة، فله أن ينزل ويبيت ليزاول عمله بعد أن يرمي الجمرات في وقت من النهار؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكلف الرعاة بأن يفدوا عن غيبتهم وعن تأخيرهم الرمي، وكذلك أصحاب السقاية، ويتفق العلماء على أن من ترك الرمي في أول أيام التشريق، وثاني أيام التشريق، ثم جاء في اليوم الثالث من أيام التشريق فرمى عن اليوم الأول: الأولى فالوسطى فالكبرى، ثم رجع فرمى عن اليوم الثاني: الأولى فالوسطى فالكبرى، ثم رجع فرمى عن اليوم الثالث: الأولى فالوسطى فالكبرى، أنه لا شيء عليه، وأن ذلك يجزئه.
وهكذا ينبغي أن يوسع لأصحاب الأعمال؛ لأن الذي يتخلف منهم عن المبيت بمنى لم يتخلف لمصلحة نفسه، ولا لرفاهية يطلبها، وإنما من أجل خدمة الحجيج.
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يتعجل في يومين، بل تأخر إلى اليوم الثالث.(177/7)
حكم المرأة إذا حاضت قبل أن تطوف طواف الإفاضة والخلاف في ذلك
وحينما رجع صلى الله عليه وسلم من مكة في يوم العيد، كانت نوبة صفية رضي الله تعالى عنها، فسأل عنها: أين هي؟ فقالت له عائشة رضي الله تعالى عنها: إنها حائض، فقال: (عقرى حلقى، أحابستنا هي؟) أي: أتحبسنا حتى تطهر وتغتسل وتطوف طواف الزيارة ثم نرحل؟! فقيل له: إنها قد طافت، يعني: طافت قبل أن تأتيها الحيضة، فأمرهم بالرحيل، ومن هنا أخذ العلماء المبحث الأول الذي سقناه سابقاً وهو: أن المرأة إذا أتاها الحيض قبل أن تطوف طواف الزيارة، وهو طواف الإفاضة ماذا تفعل؟ الكلام في هذا المبحث كثير، والخلاف فيه مشهور عن الأئمة الأربعة، فـ الشافعي ومالك يشددان في ذلك ويقولان: تبقى على إحرامها وتبقى على حالتها ولو سافرت إلى بلدها فعليها أن ترجع.
أما أبو حنيفة رحمه الله وهي رواية عن أحمد فيقولان: إنها إن لم تستطع أن تصبر إلى أن تطهر، لعدم وجود محرم ينتظر معها، أو لنفاد نفقتها، أو لفوات رفقتها فإنها تتحفظ وتطوف وعليها بدنة فدية؛ لأنها قد أصبحت في هذه الحالة مضطرة بين أن ترجع إلى بلدها وتبقى على إحرامها، وتبقى كذلك محرّمة على زوجها إلى أن تأتي مرة أخرى، وتكمل حجها وتفك إحرامها، وبين أن تبقى في مكة حتى تطهر وتكون وحيدة منفردة وقد فاتتها الرفقة، وقد يكون عليها من الخطر ما يكون.
وقد ناقش العلماء هذه القضية طويلاً، فالإمام أبو حنيفة رحمه الله كما بينا يجوز لها عند الضرورة القصوى أن تتحفظ وتطوف وعليها بدنة، وجاء الإمام ابن تيمية رحمه الله وبحث المسألة بحثاً ضافياً فيما يقرب من خمسين صفحة وهذا البحث موجود في كتاب مجموع الفتاوى، وبين الأدلة في هذه القضية بياناً لا يوجد نظيره عند غيره، وانتهى إلى القول بأنها معذورة، وأنها لا شيء عليها، لا بدنة ولا غيرها؛ لأنها لم تفرط، وهذا الأمر خارج عن يدها، والمشقة تجلب التيسير، ولا ضرر ولا ضرار إلخ.(177/8)
نزول النبي صلى الله عليه وسلم بالأبطح والخلاف في سببه
ولما انتهى صلى الله عليه وسلم من أعمال منى نزل بالأبطح، وكان يسمى (خيف بني كنانة) وهو موجود الآن في أوائل مكة في ما يسمى قصر السقاف، موضع الرابطة سابقاً، وهنا يبحث العلماء في سبب هذا النزول، فبعضهم يقول: نزل فيه نزولاً تابعاً للنسك، وبعضهم يقول: إنما نزل فيه لأنه واسع وهو في بادئ مكة، فيكون أيسر له ولمن معه إذا أرادوا السفر إلى المدينة؛ لأن السفر من هناك أيسر عليهم من أن يدخلوا مكة وبيوتها وأزقتها ثم يخرجون، فهذا فيه مشقة عليهم، إذاً: مبيته في هذا المكان الذي هو خيف بني كنانة اختلف فيه هل هو تابع للنسك أو هو من أجل المصلحة؟ وابن كثير رحمه الله يذكر لذلك سبباً آخر وهو: أن خيف بني كنانة هذا في أول بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كان له تاريخ، لما تآمرت قريش على بني هاشم، أن لا يبايعوهم ولا يزاوجوهم، ولا يعاشروهم، حتى اضطروا إلى أن ينحازوا إلى الشعب، واشتد الأمر عليهم، حتى أكلوا ورق الشجر، وكتبوا في ذلك صحيفة، وعلقوها داخل الكعبة، وكانت هذه الصحيفة تسمى: الصحيفة الظالمة، وقد كتبوها في هذا الخيف.
وبعد أن كتبت بمدة جاء جبريل عليه السلام وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله قد سلط الأرضة على الصحيفة فأكلتها، ولم يبق منها إلا: لفظ الجلالة فقط، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب، وقال: إن الصحيفة التي كتبوها وعلقوها بالكعبة سلط الله عليها الأرضة فأكلتها، ولم يبق منها إلا لفظ الجلالة، فذهب أبو طالب إلى سادات قريش، وقال: يقول ابن أخي: إن صحيفتكم الظالمة قد سلط الله عليها الأرضة فأكلتها، ولم يبق منها إلا لفظ الجلالة فهلموا انظروا إليها، إن كان صادقاً فلا حاجة إلى هذه القطيعة، والغوا هذه الصحيفة، وإن كان كاذباً فشأنكم به.
ففتحوا الكعبة، ونظروا الصحيفة، فوجدوها كما أخبر صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك استمروا في العناد، فقام أربعة نفر من قريش وقالوا: والله! إن هذا ظلم، أفنقاطعه بعد أن تبين لنا صدقه؟! فتآمروا أنهم إذا جاء الليل يكون كل إنسان من الأربعة في ركن من أركان المسجد، فيقوم الأول ويقول: إن تلك الصحيفة الظالمة لم نحضرها ولم نرض بها ولا نقرها، فيتكلم أبو جهل فيقوم الثاني ويؤيد هذا القول، وهكذا الثالث والرابع، وحينئذٍ ستجد قريش نفسها أمام الأمر الواقع، ففعلوا ما تآمروا عليه حتى قال أبو جهل: إن هذا أمر بيت بليل، يعني: ما جاء صدفة الآن وإنما أنتم متفقون عليه بليل، فيقولون: إن تلك الصحيفة الظالمة كتبت في خيف بني كنانة، حيث اجتمع كفار قريش هناك في ذلك الخيف وكتبوها وجاءوا بها وعلقوها داخل الكعبة، فيقول ابن كثير: كما أن هذا الخيف شهد كتابة الصحيفة الظالمة فليشهد نزول النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه عقب هذا النسك العظيم، فكما شهد الظلم يشهد العدل ويشهد ذكر الله من هذا الرهط الكريم، والله تعالى أعلم.(177/9)
مشروعية العمرة بعد الحج للقارن
وهناك قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: أريد عمرة، فقال لها صلى الله عليه وسلم: (يكفيك عمرتك مع حجك) لأنها بدأت أول ما بدأت من ذي الحليفة متمتعة، لكنها لما وصلت إلى سرف -وسرف قبل مكة بمرحلتين- أتتها الحيضة، فدخل عليها صلى الله عليه وسلم فوجدها تبكي، فقال: (ما يبكيك لعلك نفست؟) والحيض يطلق عليه نفاس أيضاً، قالت: (نعم، قال: لا عليك، هذا أمر كتبه الله على بنات حواء) وفي قوله صلى الله عليه وسلم هذا يرد به العلماء على من قال: إن الحيض لم يوجد إلا في بني إسرائيل، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (هذا أمر كتبه الله على بنات حواء - أي: من أول الدنيا- اغتسلي وقولي: حجة في عمرة) فكانت متمتعة ولكن الحيضة منعتها من أن تتحلل من عمرتها قبل الحج، فأدخلت الحج على العمرة وصارت قارنة، ولما طهرت طافت للحج والعمرة معاً، فكانت قارنة قد جمعت بين النسكين، فقالت: أترجع صاحباتي كلٌ بحج وعمرة، يعني: مفردة مستقلة، وأرجع أنا بحجة فقط؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأخيها عبد الرحمن: (اذهب بأختك وأعمرها من التنعيم) والتنعيم هو: المكان المعروف الآن بـ (مسجد عائشة) ، والمسافة بينه وبين الحرم المكي سبعة كيلومترات، وهذا كما يقولون: هو أدنى الحل، لأن حرم مكة وحلها متفاوت المسافات، فبعض الجهات الحل بعيد فيها كما هو الحال فيما وراء مزدلفة، وبعض الجهات قريب؛ كالتنعيم، إذ لا يتجاوز سبعة كيلو مترات، وبعض جهات الحل المسافة إليها فوق العشرين كيلو متراً، فأدنى الحل في مكة إلى الحرم هو التنعيم، ومن هنا اشترط العلماء أن كل مكي سواءً كان آفاقياً أو مكياً أصلياً إذا أراد العمرة فإن عليه أن يخرج من حدود الحرم إلى أدنى الحل، ويعقد الإحرام هناك، ويدخل إلى الحرم عاقداً نية العمرة، وهذا يؤديه المعنى اللغوي؛ لأن العمرة هي بمعنى الزيارة، والحج هو بمعنى القصد إلى معظم، فكيف تكون زيارة وأنت تحرم من وسط البيت؟ وكيف تزور وأنت جالس في البيت؟ فالزائر لابد أن يأتي من الجانب، كما يقولون: الزور، والزور يكون من فتحة الفم، ويعمل زاوية وينزل إلى الرقبة إلى الجوف، يعني: الزائر يأتيك عن جنب، كما أن الزور يأتي عن جنب من الفم، فلا يتأتى أن يقول القائل: أنا زائر وهو جالس في البيت، بل لابد من الخروج.
ويستدلون على ذلك أيضاً أن ابن الزبير لما بنى الكعبة على قواعد إبراهيم، وأدخل فيها الحجر وجعل لها بابين مساويين للأرض، لما أتم البناء خرج بأعيان مكة إلى التنعيم، وأحرموا منه وجاءوا بعمرة شكراً لله على إتمام بناء الكعبة، وقد اتفق الأئمة الأربعة على أن من كان في مكة وأراد العمرة فلابد أن يخرج إلى الحل، وقالوا: كل نسك عمرة أو حج لابد فيه من الجمع بين الحل والحرم، أما العمرة فكما ذكرت، وأما الحج فإن من جاء متمتعاً وأحرم يوم التروية من مكة فإنه سيخرج إلى الحل -أي: إلى عرفات، وعرفات خارج حدود الحرم- ثم ينزل ويدخل إلى الحرم ليكمل نسكه.
فخرجت عائشة مع أخيها وأتت بعمرتها، وانتظرهما صلى الله عليه وسلم إلى صلاة الفجر، ثم رجعوا إلى المدينة.(177/10)
حكم طواف الوداع للحائض والنفساء
ومما يتعلق بالمرأة إذا حاضت قبل ذلك، أو فاجأها الحيض بعد طواف الإفاضة وقد بقي عليها طواف الوداع، ما جاء الخبر فيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض والنفساء) ، فالحائض أو النفساء لا وداع عليها؛ لعذرها ولعدم الحاجة إلى تأخرها حتى تطهر، وهذا بخلاف طواف الإفاضة.
هكذا كانت حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد أن فرغ من الحج ورجع إلى المدينة رجع كل وفد من الطريق الذي جاء منه، ورجع الناس إلى بلادهم بعد أن وادعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا خلاصة ما بقي من حديث جابر رضي الله تعالى عنه في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم.(177/11)
الكليات الخمس والإشارة إليها في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر
وفي حديث جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم العيد، وهذه الخطبة هي الخطبة العظيمة التي بين فيها صلى الله عليه وسلم مجمع أحكام الإسلام كاملة، وبدأ الخطبة بقوله: (أيها الناس! أي يوم هذا؟ قال: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس يوم الحج الأكبر؟ قلنا: بلى، قال: أي شهر هذا؟ قال: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس بالشهر الحرام؟ -لأن شهر ذو القعدة وذو الحجة والمحرم هذه الثلاثة من الأشهر الحرم، والرابع هو شهر رجب- قلنا: بلى، قال: أي بلد هذا؟ قالوا: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس بالبلد الحرام؟ قلنا: بلى، قال: ألا -أداة التنبيه والاسترعاء- إن دماءكم وأموالك وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا،) يعني: تحريم مضاعف ثلاث مرات، بحرمة الزمان والمكان.
وهنا يتأمل الإنسان في قوله: (دماءكم وأموالكم وأعراضكم) وهذه أعظم ثلاث جواهر من الجواهر الست التي لا قيام لأي مجتمع بدون الحفاظ عليها، يقولون: هذه الجواهر الست لا غنى لأي مجتمع أياً كان دينه عنها، فإذا ما انتهكت تلك الجواهر ضاع هذا المجتمع، وصار لا قيام له ولا كيان، وأول شيء للمجتمعات هو الدين، فلابد لكل مجتمع من دين أياً كان هذا الدين، سواءً كان سماوياً أو أرضياً صحيحاً أو باطلاً، فلابد من تدين؛ لأن التدين يملأ الداخل، فإن كان سماوياً صحيحاً فهذا هو الرشد، وإن كان غير ذلك فهذا هو الضلال والعياذ بالله! ولهذا يقول بعض الكتاب: من الممكن أن ترى مدينة بدون ملعب، وبدون ملهى، وبدون حديقة، وبدون مسبح، ولكن لا يمكن أن ترى مدينة بدون معبد، فالعبادة والتدين هو من طبيعة البشر، فالدين من الجواهر الست، ولهذا جاء الإسلام بالحفاظ على الدين، وأمر الله سبحانه وتعالى عباده أن يأخذوا بهذا الدين، فقال سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] .
وبين صلى الله عليه وسلم حكم من بدل دينه فقال: (من بدل دينه فاقتلوه) وحرم كل ما يؤدي إلى تبديل الدين وتغييره من البدع والخرافات؛ لأن البدع بريد الكفر، وجعل في الردة القتل، وجعل في البدع والخرافات التعزير.
النوع الثاني من الجواهر: العقل، والعقل هو ميزان الإسلام، وهو الجوهرة التي يتميز بها الإنسان عن جميع الكائنات، والتي بها عرف الله سبحانه وتعالى، وتلقى الخطاب بالتكاليف عن الله، والإنسان بغير العقل ينزل عن مستوى الحيوانات؛ لأن الحيوانات لديها تمييز ولديها إدراك، وتعرف ما ينفعها وما يضرها، فتجتنب ما يضر وتسعى إلى ما ينفع، أما فاقد العقل فهو يؤذي نفسه أكثر مما يؤذيه عدوه، ومن هنا أمر الله بالحفاظ على العقل، وحرم كل ما يفسد هذا العقل، وكذلك حرم ما يوصل إلى فساد هذا العقل، قال صلى الله عليه وسلم: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) وقال: (كل مسكر حرام وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام) وإن كان لا يسكر لكنه طريق إليه، وهكذا حرم كل ما يخل بالعقل من نباتات وكيميائيات، وما أشد مضرة العالم كله اليوم من تلك المفسدات التي دخلت على العقل، وشغل العالم والأمم والدول والحكومات بمطاردة هذه المفسدات التي أفسدت الشباب وأضاعت جهدهم وكيانهم.
النوع الثالث: النفس، حافظ الشرع عليها ولهذا حرم الله القتل وجعل فيه القصاص، وجعل من قتل نفساً واحدة ظلماً فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً، وشرع القصاص فقال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179] .
النوع الرابع: النسب، والنسب هو قوام المجتمعات، ولهذا حرم الله ما يفسد الأنساب، فحرم الزنا، وجعل فيه إما الرجم وإما الجلد، وحرم ما يوصل إليه، من الخلوة بالأجنبية، والسفر بدون محرم، وكذلك سد المنافذ بين الرجل والمرأة عن طريق السمع، وعن طريق البصر، وعن طريق الشم، وعن طريق الحركة، فعن طريق البصر قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] وقال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] وعن طريق الشم قال صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة تعطرت فخرجت من بيتها فمرت بقوم فوجدوا منها الطيب فهي زانية) وكلمة زانية عظيمة جداً على الأذن، لكن كما بين صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الزنا على كل شخص، فالعين تزني وزناها النظر، والأذن تزني وزناها السمع -إلى أن قال:- والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) .
وكذلك سد منافذ السمع، قال تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] ومنع الرجل من أن يتسمع أو المرأة من أن تلين بكلامها للرجال، وكذلك الحركة قال تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] فكل هذه المنافذ التي توصل شبح المرأة إلى قلب الرجل أو العكس أمر الإسلام بإقفالها، سلامة لها منه وسلامة له منها؛ وذلك لئلا يصلا إلى ما فيه الحد ألا وهو الزنا، وبهذا حفظت الأنساب.
النوع الخامس: الأموال، فقد حفظ الشرع الأموال بأن جعل الله في السرقة حد القطع، وحرم كل ما يوصل إليها، وحرم أكل أموال الناس بالباطل: كالغش، والخداع، والتدليس، وتطفيف الكيل والوزن إلخ، كل ذلك حرمه الله حفظاً للمال، فإذا ما حفظ للمجتمع دينه وعقله ودمه ونسبه وماله كان آمناً، وإذا ما انتهكت فيه بعض هذه الكليات اضطرب ميزانه، وتقوضت أركانه، ففي حجة الوداع في تلك الخطبة العظيمة قال صلى الله عليه وسلم: (إلا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ... ) إلخ، وقال صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه) وقال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة) إلى غير ذلك.
ثم أتبع هذا المبدأ الأساسي بالأمر بالأمن حتى يحتفظ المجتمع بالأمن، وحتى لا يكون هناك مجال للاعتداءات، فجاء إلى المرأة شقيقة الرجل فقال: (ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عوان عندكم، استحللتموهن بكلمة الله) أي: ليس بالصداق الذي يدفع، وإنما الصداق نحلة، وإنما الذي أحلها لزوجها بعد أن كانت محرمة عليه هو قول وليها: زوجتك على كتاب الله وسنة رسول الله، فيرد ويقول: قبلت هذا الزوج على كتاب الله وسنة رسول الله.
ثم قال: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) وذكر صلى الله عليه وسلم حق الوالي على الرعية، وحق الرعية على الولاة، إلى آخر ما جاء في تلك الخطبة العظيمة التي لو جمعت أطرافها، وبوبت وشرحت وبين ما فيها لكانت أعظم دستور للأمة؛ لأنها تبين ما أجمله القرآن والسنة من تعاليم الإسلام، والله سبحانه وتعالى أعلم.(177/12)
جواز التقديم والتأخير في أعمال يوم النحر
ومما يذكر يا إخوان! في ذلك اليوم وهو من أهم ما يرفق بالناس أنه صلى الله عليه وسلم سأله: سائل فقال: ما شعرت رميت قبل أن أنحر، وقال آخر: ما شعرت نحرت قبل أن أرمي، وقال آخر: حلقت قبل أن أنحر، وكلما سئل قال للسائل: (افعل ولا حرج) ويقول الراوي: ما سئل عن شيء في ذلك اليوم إلا وقال: (افعل ولا حرج) لأنهم يقولون: يستحب في أعمال ذلك اليوم الترتيب الذي جاء عنه صلى الله عليه وسلم، وهو أنه يبدأ برمي جمرة العقبة، ثم بعد الرمي يذهب وينحر، وبعد النحر يحلق، وبعد الحلق يطوف طواف الإفاضة، هذا هو الترتيب الطبيعي، ولكن في هذا الحديث جاء التيسير على من قدم شيئاً على غيره، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لكل من سأله: (افعل ولا حرج) أي: وليس عليك فدية في ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.(177/13)
كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [7]
دين الإسلام دين الرحمة واليسر، فليس في الإسلام حرج أو مشقة، وإن عرضت فقد رفعها الإسلام، ولهذا فإن من القواعد الكلية في الشريعة أن المشقة تجلب التيسير، ومن ذلك التيسير ما جاء في مناسك الحج، فقد وسع الشرع على المحرم في أداء المناسك، ورفع عنه المشقة كما جاء في القصر والجمع بين الصلوات، والتوسعة في الوقوف في أي مكان من أرض عرفات، وكذلك في المزدلفة، والإذن بالنحر في المكان الذي يكون فيه المحرم، والإذن لأهل الأعمال بالمبيت خارج منى ليالي أيام التشريق، إلى غير ذلك.(178/1)
مشروعية الدعاء عقب التلبية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من تلبيته في حج أو عمرة سأل الله رضوانه والجنة، واستعاذ برحمته من النار) رواه الشافعي بإسناد ضعيف] .
يذكر لنا المؤلف رحمه الله تعالى هذا الحديث الذي رواه الشافعي رحمه الله وإن كان بسند ضعيف، إلا أنه من الأعمال التي هي من نوافل العبادات، والتي ليست من الأحكام كالحلال والحرام، وكما يقولون: أحاديث الترغيب والترهيب لا يشدد فيها كما يشدد فيما يتعلق بالتكليف من حلال أو حرام ومن فعل أو ترك.
يقول: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من تلبيته في حج أو عمرة) ، وقوله: (من تلبيته) أي: التلبية المنسوبة إليه، والتي كان يأتي بها، وقد تقدم لنا أن التلبية عند الفقهاء واجب من واجبات الحج، يعني: أن كل من أتى بنسك حج أو عمرة فإنه يجب عليه أن يلبي ولو مرة واحدة، أي: أن الواجب يؤدى بمرة واحدة، وما عدا ذلك فهو من باب الزيادة والفضل.
وكان صلى الله عليه وسلم يجدد التلبية كلما تجدد له حدث، بمعنى: أنه إذا كان يمشي في أرض مستوية فهبط وادياً في طريقه جدد التلبية، وإذا انتهى من هذا الوادي وقابل مرتفعاً جدد التلبية، وإذا لقي ركباً في الطريق جدد التلبية، وإذا نزل منزلاً للراحة أو للطعام أو للشراب جدد التلبية، وإذا بدأ الرحيل كذلك جدد التلبية، وهكذا كما تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (تُجدد التلبية عند كل حدث يواجه المحرم) .
وقد تقدمت صيغة التلبية عنه صلى الله عليه وسلم وهي: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) إلى هنا كانت تلبية النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يزيد: (لبيك وسعديك والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل) ويقول العلماء: إن هذه الزيادة من باب الذكر، ولا بأس بها؛ لأن ألفاظها تتناسب مع التلبية، ومعناها الإقامة على الطاعة والامتثال.
فكان إذا فرغ من تلبيته صلى الله عليه وسلم يعقب ذلك أنه يسأل الله المغفرة والرحمة، ويستعيذ بالله من العذاب.(178/2)
استحباب الدعاء بعد كل عبادة
وهذا التذييل بالدعاء والإتباع يعتبر قاعدة عامة في التشريع، فإن كل ذكر واجب تجد أن الدعاء مطلوب بعده، ففي الأذان قال صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تكون إلا لواحد أرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة كنت له شفيعاً يوم القيامة) وكذلك يكون الدعاء عقب الصلوات، وكذلك عند الإفطار من الصيام في آخر النهار، وكذلك عند ختم القرآن، فمن ختم القرآن فإن له دعوة مستجابة، وهكذا نجد أنه يستحب الدعاء عقب كل عبادة مشروعة؛ لأن الدعاء طلب ومسألة، وأرجى ما تكون الإجابة للعبد في سؤاله أن يقرب بين يدي مسألته قربة لله بحيث يكون حينما يدعو قريباً من الله، وفرق بين أن تكون قريباً من الله وأن يكون الله قريباً منك؛ لأن الله أقرب للعبد من حبل الوريد، فالله قريب من عبده، ولكن العبد هو الذي يتباعد أو يتقرب إلى الله كما في الحديث القدسي: (من تقرب إلى شبراً تقربت إليه ذراعاً) إذاً: العبادة قربة يتقرب بها العبد إلى الله، فإذا اقترب إلى الله -وهذا الاقتراب في حق الله سبحانه وتعالى هو كما يليق بجلاله وكماله، ليس قرب مسافة ولا زمان ولا مقياس بمتر ولا كيلو- استجاب له دعاءه.
وفي الآية الكريمة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة:12] كان هذا تكريماً للنبي صلى الله عليه وسلم وإقلالاً عليه من كثرة الأسئلة التي لا طائل منها؛ لأنهم كانوا يشغلونه بأسئلة شخصية، وهو ما جاء للشخصيات، وإنما جاء للعمومات، فلما فرضت عليهم الصدقة قبل مناجاته خففوا من الأسئلة؛ لأنه ليس كل إنسان يستطيع أن يتصدق عند كل سؤال، وكما يقول علماء التفسير: ما عمل بها إلا علي رضي الله عنه، ثم نسخت بقوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [المجادلة:13] .
إذاً: كون الإنسان يدعو عقب التلبية، فيه كما يقال: جلب النفع ودفع الضر، وفيه الجمع بين خيري الدنيا والآخرة فقوله: (إذا فرغ من تلبيته سأل الله رضوانه والجنة) هذا فيه طلب منفعة، وقوله: (واستعاذ برحمته من النار) هذا فيه دفع مضرة، فهو طلب واستعاذ، طلب الجنة واستعاذ من النار، فلم يبق بعد هذا شيء؛ لأن طلب الجنة هو طلب كل خير وسعادة في الآخرة، وهي السعادة الحقيقية، والاستعاذة من النار هي السلامة من كل سوء، وكما جاء الأثر: أن رجلاً أعرابياً سمع الرسول والصحابة يدعون ويجتهدون بالدعاء، فقال: (يا رسول الله! قال: نعم، قال: علمني دعاء ولا تكثر، فإني لا أحسن دندنتكم هذه) هذه الدندنة التي أنتم تدندنونها وترددونها وتأتون بها أنا لا أعرفها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت ماذا تقول إذا دعوت؟ قال: أنا أقول: اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار، فقال صلى الله عليه وسلم: ونحن حول هذا ندندن) .
ولهذا جاء في حديث عائشة حينما ذكر صلى الله عليه وسلم ليلة القدر وفضلها، قالت: (يا رسول الله! ماذا أقول إن أنا صادفتها؟) انظر الموقف! السؤال عن أفضل ما يكون عن ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، والسائلة هي أحب من يكون إلى رسول الله، والمجيب هو أحب من يكون إليها، فالموقف كله محبة ووئام، إذاً: التعليم الذي يصدر في هذا الجو وفي هذه البيئة، وفي هذه الأحاسيس هو من حبيب إلى حبيب في محبوب فقال لها: (قولي: اللهم! إنك عفو تحب العفو فاعف عني) يقول بعض العلماء: (والله! لقد نظرت في هذا الأثر فإذا به جمع خيري الدنيا والآخرة) ؛ لأن من عوفي في بدنه، ومن عوفي في دينه، ومن عوفي في كل أحواله في الدنيا وعوفي يوم القيامة من الحساب لم يبق بعد ذلك شيء يطلبه.
وهكذا يتحرى الإنسان الدعاء بعد العبادات أياً كان نوعها، حتى في العبادات المالية، قال الله سبحانه وتعالى لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] أي: بعد الصدقة ادع لهم؛ لأنه بعد قربة وبعد عمل صالح.(178/3)
آداب السؤال تتجلى في سورة الفاتحة
وكان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: لقد علَّم الله سبحانه وتعالى عباده في سورة الفاتحة آداب السؤال، وطلب الحاجة ممن لك حاجة عنده؛ لأن أعظم مسألة للعبد المؤمن هي الهداية إلى الصراط المستقيم؛ لأن الهداية منحة من الله كما قال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] .
قال: فقد جعل الله في الفاتحة سؤال الهداية، ولكن لم يأت السؤال لها مباشرة، بل على العبد أن يقدم قبلها أنواعاً من القرب والتعظيم والإجلال للمولى كما في قوله سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة:2] وبعد أن حمد الله على كمال ذاته وصفاته، يعترف لله بالربوبية للعالمين جميعاً {رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] .
ثم يصفه بصفات الجلال والكمال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] ويقولون في معنى هذين اللفظين الرحمان الرحيم: رحمان في ذاته، رحيم في صفاته لعباده، فهو رحمان الدنيا رحيم الآخرة كما جاء في الحديث: (إن لله مائة رحمة، أنزل منها واحدة إلى أهل الأرض بها يتراحمون، حتى إن الدابة لترفع حافرها عن ولدها رحمة به) أي: من هذه الواحدة، واحد في المائة للعالم كله يتراحم بها قال: (وادخر تسعاً وتسعين لعباده المؤمنين إلى يوم القيامة) .
ثم يأتي بقوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] ففي الدنيا هو رب العالمين، وهو رحمان رحيم، وفي الآخرة الملك كله يعود إليه كما قال تعالى: {لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:16] .
وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] أي: أنت رب العالمين، والدنيا الآخرة في ملكك تتصرف فيهما كيف شئت، فنحن نعبدك وحدك؛ لأنك الرب المستحق للعبادة.
{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] لأننا ضعاف، ولولا قوة منك وتوفيق منك وهداية منك لنا ما عبدناك.
وبعد هذه المقدمات في التمجيد والتكريم والتعظيم والاعتراف تأتي المسألة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] فأتت المسألة بعد كل هذه الاعترافات والإجلال للمولى سبحانه، وكذلك هنا في قوله: (لبيك اللهم لبيك) أي: أقمت على طاعتك، واستجبت لندائك الذي قلت فيه لإبراهيم: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] .
وقوله: (إن الحمد والنعمة لك والملك) هذا فيه اعتراف كما في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] .
(لا شريك لك) إلى آخر هذه التلبية وهذه الألفاظ الكريمة، وبعد هذه القربى إلى الله: (يسأل الله رضوانه والجنة، ويستعيذ بالله من النار) وهكذا يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا يتحرى الإنسان في مسألته أن يكون أقرب ما يكون إلى الله، ومن ذلك بعد العبادات وفيها، ومن ذلك ما جاء في السجود، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد، فاجتهدوا في الدعاء) .(178/4)
التوسعة على المحرم في أداء المناسك
قال المؤلف رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحرت هاهنا ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم، ووقفت هاهنا وعرفة كلها موقف، ووقفت هاهنا وجمع كلها موقف) رواه مسلم.
هذه الأخبار الثلاثة: النحر في منى، والوقوف في عرفات، والوقوف في مزدلفة، أترون رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذه الثلاثة في نطق واحد، وفي مجلس واحد، أو أن الراوي سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الأخبار كل واحدة منها في مكانها، فسمعه في عرفات يقول: (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف) لأن (هنا) اسم إشارة للمكان، كما تقول: زيد هنا، ولا يتأتى هذا إلا عند وجوده.
فقوله: (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف) هل سيقول هذا وهو في منى؟ الجواب: لا، وإنما يصح منه أن يقول: (وقفت هاهنا) حينما يكون واقفاً في الموقف الذي يتحدث عنه، إذاً: هذا من تصرف الراوي فهو ذكر كل ما سمع في مجلس واحد، وهو قد سمعه في أماكن متعددة وفي أوقات مختلفة، فسمعه في منى يقول: (نحرت هاهنا ومنىً كلها منحر فانحروا في رحالكم) وهكذا والله أعلم.
وفي بعض طرق الحديث: (وفجاج مكة وطرقها فجاج ومنحر أو طريق ومنحر) ولهذا يقول العلماء: إن قوله سبحانه: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] ومَحِلّه بالكسر لا مَحَلّه، (مَحِلّه) يعني: مكان إحلاله، وهو الوقت الذي يحل نحره فيه، وقال الله تعالى في الآية الأخرى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] وفي هذه الآية يقول: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] وهل محلها يكون عند الكعبة؟ الجواب: لا؛ لأن الكعبة تطلق على عموم الحرم بكامل حدوده، ومنى داخلة في الحرم، ففي قوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] بين النبي صلى الله عليه وسلم أين يكون محله، ومحله تصدق على اسم الزمان والمكان، فتقول: محلها إلى البيت العتيق، ومحلها يوم العيد يعني: زمن إحلالها، ومكان إحلالها على ما بينه صلى الله عليه وسلم.
وقد بين النبي متى يحل الهدي؟ وأين يكون موضع إحلاله، ويقولون: إن الله جعل منى منحراً للهدي؛ لئلا تصبح مكة مجزرة لكل الحجاج فلا يطاق الجلوس فيها، والآن العالم كله يجعل المجزرة نائية عن محل السكن؛ لئلا تؤذي السكان.
وقوله: (نحرت هاهنا) أي: في المكان الذي نحر فيه، وقالوا: إنه معلوم إلى الآن، وكان جهة (منحر الكبش) وأهل منى يعرفون ذلك، وعندهم منطقة معروفة تسمى: (منحر الكبش) .(178/5)
حكم نحر المحرم لهديه في محله
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ومنى كلها منحر) فيه دليل على أن لكل حاج أن ينحر محله، وقد جاء في بقية الحديث: (فانحروا في رحالكم) ولكن هل ينطبق هذا الحديث علينا الآن؟ لأن صورة النحر في ذلك الوقت لم تكن على ما عليه الناس الآن، فقبل وجود المذبح أو المسلخ الآلي، كنت إذا مشيت في طرقات منى تطأ على أغنام قد أريق دمها وتركت، وهذه الأغنام التي أريق دمها وتركت في الشارع مع الحرارة بعد ساعات ستتغير، فكانت القلابات تمشي في الطرقات، وعمال البلديات يجمعون ويرمون فيها المخلفات حتى يستطيع الناس أن يمشوا، وأما في السابق فقد كان ينحر الهدي ولا يلقى منه مقدار درهم واحد في الأرض، بل كانوا إما أن يأكلوا ويطعموا منه، وإما أن يشرقوه وينشروه على الصخور والحبال، ولذلك سميت هذه الأيام أيام التشريق؛ لأنهم كانوا ينحرون الهدي إبلاً أو بقراً أو غنماً فيأكلون ما يأكلون، ويطعمون من يطعمون، والباقي يجزئونه ويشطرونه إلى أوصال، ويشرقونه على الحبال أو على الصخور، حتى إذا انتهت أيام منى كان هذا اللحم قد جفت رطوبته وأصبح قديداً، فيجمعونه في أوعيتهم ويذهبون به إلى بلادهم.
إذاً: لم يكن النحر في منى في ذاك الوقت يؤذي الساكن أو المار أو المقيم في منى، وإنما كانوا يحافظون على ذلك، حتى لا يتأتى منه إيذاء للآخرين؛ لأن أنعام الهدي الأساس فيها أن تذبح وتسلخ وتقطع وتعطى للمساكين، ولا يبقى منها شيء، حتى جلودها وجلالها كما قال صلى الله عليه وسلم لـ علي: (ادع الجزارين وتصدق بجلودها وجلالها) والجلال هي الأقمشة التي كانوا يزينون بها الهدي، أي: يكسونها بها من باب التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، كانوا إذا خرجوا من المدينة غطوها بهذه الأقمشة من باب الزينة، فإذا انسلخوا من المدينة وخرجوا من ضواحيها جمعوها وحفظوها حتى لا تؤذى أو تشقق، فإذا ما أقدموا على مكة ألبسوها تلك الجلال، فإذا جاءوا عند النحر أخذوها عنها حتى لا يلوثها الدم، ثم يتصدقون بها، وكانوا في السابق يجمعون تلك الجلال، ويعملون منها كسوة للكعبة، فإذا أتى من يقوم بكسوة الكعبة على حسابه، تكون هذه من باب الصدقات التي يتصدق بها، فكانوا يتصدقون بكل شيء حتى الجلود.
وكان اليوم الثاني هو يوم الرءوس، أي أنهم كانوا يأخذون رءوس الأنعام التي لم يأكلوها في أول يوم لأن اللحم كان متوفراً، فإذا انتهى اللحم رجعوا إلى الرءوس التي كانوا قد تركوها.
إذاً قوله: (نحرت هاهنا ومنى كلها منحر) هذا فيما لو كان الأمر على ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، أما الآن مع كثرة الناس ووفرة الهدايا والذبائح، وعدم تحري الناس فيما ينبغي أن يكون عليه الهدي من سلامته من العيوب، بأن لا يكون فيه عجفاء ولا معيبة ولا غير صالحة للأكل، فقد جاءت هذه المذابح الجديدة على هذا النظام الموجود، فمن استطاع أن يذبح بنفسه في تلك الأماكن فهو أولى، ومن لم يستطع وتركها للمسئولين أو أنابهم في الذبح عنه فلا مانع في هذا.
وكذلك (وفجاج مكة) لو أن إنساناً نزل بين مكة ومنى وسكن هناك، وكان إذا جاء المبيت جاء إلى منى وإذا جاء وقت الرمي جاء إلى منى، ثم يرجع إلى ذلك المكان، وفي وقت الذبح ذبح هديه في مكانه، فلا مانع، وإذا كان يسكن في مكة ونزل به إلى بيته في مكة فلا مانع، إذا كان ما زال في محله الزماني، أي: إذا كان في يوم العيد وأيام التشريق، والله تعالى أعلم.(178/6)
عرفة كلها موقف ولا يتعين الوقوف على جبل الرحمة
وقوله: (وقفت هاهنا) تقدم معنا أنه صلى الله عليه وسلم وقف عند الصخرات، وهو الذي يسميه الناس: (جبل الرحمة) وهو الجبل الوحيد المكون من مجموعة صخرات ضخمة وكبيرة، ويوجد في أعلاه علم مبني لبيان مكانه، وقد اختار صلى الله عليه وسلم هذا المكان لأنه ليس في عرفات علامة سوى هذا، ويقول العلماء: إذا خرجت من وادي نمرة، وكان عن يمينك جبال إلى جهة الشرق، وأمامك جبال إلى الشمال وعن يسارك جبال إلى الغرب فكل ما بين دائرة هذه الجبال فهو عرفة، فإذاً: على هذه السعة لا يوجد في داخل تلك الدائرة في أرض عرفات مكان معلم إلا هذا الجبل الصغير، ولذلك لو ذهبت إلى هناك في غير أيام الحج والدنيا مكشوفة فلن ترى إلا هذا الجبل، واختار صلى الله عليه وسلم وقوفه هناك؛ ليكون في مكان معلوم معلم، ولذا لو أن إنساناً كان في آخر طرف من عرفات، وأراد لقاءه صلى الله عليه وسلم وسأل: أين رسول الله؟ وقلت له: هناك عند ذاك الجبل فسيهتدي إليه، ويتأتى أيضاً لكل من قدم حاجاً أن يراه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم حينما أراد الحج قبل أن يخرج أرسل رسلاً إلى العرب على مياههم وقال لهم: (إني حاج هذا العام، فمن أراد أن يحج معي فليوافني) فتوافد الناس إليه فمنهم من جاء إلى المدينة وذهب معه، ومنهم من لقيه في الطريق، ومنهم من أتى إلى مكة، ومنهم من أتى إلى عرفات، والكل يريد أن يراه، أي: لتثبت له الصحبة؛ لأن الصحابي هو: من رآه ولو لحظة وهو مؤمن به ومات على الإسلام، فكل هؤلاء الحجاج يريدون شرف رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: اختار مكاناً يسهل على الجميع أن يصلوا إليه فيه، وكان في ذلك اليوم على ظهر راحلته؛ ليكون علماً على علم، ولما قال: (خذوا عني مناسككم) فلعل كل إنسان يقول: نأخذ عنه مناسكنا، إذاً: نأتي إلى الموقف الذي وقف فيه ونقف فيه، فبين لهم أن الغرض من الموقف هو الوقوف بأرض عرفات، ولذا نبه الناس أن عرفة كلها موقف، وحيثما وقف الإنسان في أي مكان من أرض عرفات أجزأه، ولهذا قالوا: لو أن إنسانا ًحضر إلى أرض عرفات في زمن الموقف ولو ساعة زمنية ولو ربع ساعة وهو يعلم أنه في عرفات أجزأه، كمن كان مريضاً وهو في حالة إسعاف في المستشفى -عافانا الله وإياكم- فذُهب به إلى عرفات أو مُكث به في عرفات، ثم أعيد إلى المستشفى فإنه يكون قد أدرك الموقف ويجزئه ذلك، وكذلك لو أن إنساناً جاء متأخراً ولم يدرك أرض عرفات إلا قبل فجر يوم العيد بساعة أو نصف ساعة فإذا وقف في أي جزء من أرض عرفات فإنه يكون قد أدرك الموقف.(178/7)
مزدلفة كلها موقف ولا يتعين الوقوف في المشعر الحرام
وكذلك قوله في المزدلفة: (وقفت هاهنا وجمع) وجمع هو: اسم للمزدلفة، ومن المزدلفة المشعر الحرام، قال تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] فهل نقول: يجب على الناس كلهم أن يتكدسوا عند المشعر الحرام؟ الجواب: لا؛ لأنه لن يسع الناس، ولكنه صلى الله عليه وسلم اختار الموقف الذي يكون أيضاً علماً، وقد بين للناس أنه لا يتحتم أن يكون المكوث في المزدلفة عند المشعر الحرام، ولكن لك أن تذكر الله عنده إذا نزلت عنده، وحيثما كنت فصليت وذكرت الله ونمت ثم أصبحت وذهبت وقد وقفت في أي مكان من المزدلفة التي هي جمع فإنه يجزئك ذلك، والله تعالى أعلم.(178/8)
مداخل مكة التي دخل وخرج منها النبي صلى الله عليه وسلم
قال المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى مكة دخلها من أعلاها، وخرج من أسفلها) متفق عليه] .
هذا من مستحبات السفر، أو من مستحبات العمل، ودخوله من أعلاها وخروجه من أسفلها قال بعضهم: كان من أجل النسك، وبعضهم قال: إن هذا صادف موقعها، وهو لم يتحر أعلاها للدخول ولا أسفلها للخروج، وهنا دخل من أعلاها وخرج من أسفلها، ولهذا يقولون، كَداء وكُداء، كَداء هو أعلاها، وكُداء هو أسفلها، والفقهاء يقولون: افتح وادخل واضمم واخرج، والمراد حركة الكاف فقولهم: افتح أي: حركة الفتحة (كَ) ، واضمم أي: بحركة الضمة (كُ) فتقول: كَداء بفتح الكاف وتدخل أي: من أعلاها، وتقول: كُداء بضم الكاف وتخرج أي: من أسفلها.
ومن أي مكان تيسر للإنسان دخول مكة فالحمد لله، وهنا يقول الأدباء: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كرم شعر الدعوة في دخول مكة والخروج منها، وقالوا: لما جاء صلى الله عليه وسلم لفتح مكة أو للحج قالوا: من أين ندخل أو من أين تدخل يا رسول الله؟! أي: لأن مكة لها مدخلان، والمدينة لها مدخل واحد وهو وادي العقيق على سلطانة على سلع على ثنية الوداع -الباب الشامي- وهذا كان مدخل المدينة الوحيد، وأما مكة فلها مدخلان: كَداء من أعلاها، وكُداء من أسفلها، قالوا: من أين ندخل أو من أين تدخل؟ قال: (انظروا ماذا قال حسان؟) أي: في قصيدته التي يرد فيها على أبي سفيان حينما هجا رسول الله وفيها: أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء وفي هذا تنويع، وقد جاء التنويع في نص القرآن قال تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24] .
إلى أن قال حسان رضي الله تعالى عنه: عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كَداء أي: الموعد بيننا وبينكم أن ندخل عليكم مكة من كَداء فقال صلى الله عليه وسلم: (انظروا ماذا قال حسان؟ قالوا: حسان يقول: كَداء، قال: إذاً: من هناك) وهذا مما يستشعر المسلم أنه فيه إكرام الشعراء الذين سخروا شعرهم للدعوة، ولفعل الخير، ولذا قال تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ} [الشعراء:224] إلى أن قال: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا.
} [الشعراء:227] فالشعراء المؤمنون الذين يعملون للدعوة استثناهم الله، وقد كان للرسول شعراء وخطباء في الدعوة وكانوا يمثلون وزارة الإعلام -كما يقال اليوم- لأن وزارة الإعلام في كل دولة هي الناطقة بلسانها، وكان حسان رضي الله تعالى عنه شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هجاه أبو سفيان فقال: (يا رسول الله! أرد عنك وأهجوهم، قال: كيف تهجو قريشاً وأنا منها؟ قال: أسلك منهم كما تسل الشعرة من العجين) فأخذ يهجوهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (اهجهم وروح القدس يؤيدك، والله! إن وقع كلامك عليهم أشد من وقع السهام في غلس الظلام) وهكذا كان العرب إذا هجوا يلحقهم العار بهذا الهجاء وتلصق فيهم السبة على لسان الشاعر الذي هجاهم، ولذا كانوا يتحاشون إغضاب الشعراء، وكان صلى الله عليه وسلم ينصب لـ حسان كرسياً في المسجد ويدعوه إلى نصرة الإسلام بشعره.
وذات مرة مر عليه عمر رضي الله تعالى عنه في خلافته وهو ينشد شعراً، فنظر إليه مستنكراً، فنظر إليه حسان وقال: (والله! لقد أنشدت فيه وفيه من هو خير منك) يعني: أنشدت الشعر في المسجد والمسجد فيه من هو خير منك وهو الرسول صلى الله عليه وسلم.
فدخل صلى الله عليه وسلم من كَداء، والحديث عن الشاعر الإسلامي حسان رضي الله عنه مدعاة لتكريم كل من سخر آلة إعلام في خدمة الدين، سواءً بقلمه أو بلسانه نثراً أو شعراً، أو بأي وسيلة من وسائل الإعلام، ما دامت تخدم الدين.(178/9)
المبيت بذي طوى قبل دخول مكة
قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى حتى يصبح ويغتسل، ويذكر ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
متفق عليه] .
هذه أيضاً صورة من صور كيفية دخول مكة، كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لا يأتي إلى مكة، أي: من المدينة إلا بات بذي طوى، وذو طوى هو المعروف الآن عند الناس بالزاهر، وهو من أبواب مكة، للقادم من جدة، وكانت كل هذه معلومة للناس بتناقلهم إياها، ولا زالت حتى الآن يقال لها: الأبواب، أو باب مكة، والمنزل الذي نزل به ابن عمر يرجع إلى الشرق من جهة التنعيم، ما بين التنعيم وما بين باب مكة، وهو معروف إلى الآن بالزاهر، وكان بستاناً كبيراً جداً، وقد أخذت عدة مرافق من نفس هذا البستان، وهو على طريق المدينة المؤدي إلى مكة، فكان ابن عمر إذا جاء مكة نزل وبات على أبواب مكة، واغتسل ثم دخل مكة نهاراً، فسئل فأسند ذلك إلى فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا يقول العلماء: من صفة دخول مكة للمحرم لعمرة كان أو لحج إذا أتى من ذاك المكان فعليه أن يبيت ويغتسل، وإذا أصبح يدخل مكة، وهل مبيت الرسول بذي طوى كان نسكاً أو أنه وصل ليلاً فأحب أن يبيت خارج البلد، ويدخل نهاراً حتى يتيسر له ولمن معه إدراك المنازل ومعرفة الطرق، أو أنه أيسر لهم في النهار دون الليل، كما قيل في مبيته عند عودته من الحج، لما نزل بخيف بني كنانة بالأبطح، فقالوا: هل نزوله بالأبطح بعدما أنهى الحج تماماً كان للنسك أو أنه كان تيسيراً على الناس في حال خروجهم إلى المدينة؟ كل هذه الاحتمالات واردة.(178/10)
مشروعية الغسل لدخول مكة
وأما الغسل فهو سنة لدخول مكة، فمن أي جهة دخل الإنسان مكة فإن السنة في حقه أن يغتسل، ولكن إذا كان الإنسان مع غيره أو في ظروف لا يستطيع أن يبيت بذي طوى لعدم وجود مكان يبيت فيه، أو لو أنه أراد أن يوقف سيارته في الطريق فسيأخذها المرور، فلا حرج عليه في عدم المبيت، فإن كان لك أيها المحرم! منزل هناك، أو كان لك صديق تنزل عنده، أو تيسر لك بوجه من الوجوه نقول: الحمد لله، وعليك أن تطبق السنة، وإذا لم يتيسر لك فلا تكلف نفسك المشاق وتقول: هنا بات رسول الله فلابد أن أبيت، فنقول: إنما بات حينما تيسر له المبيت، وأما الآن فقد لا يتيسر، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فلا عليك أن تمضي وتجتاز إلى محل سكناك، فإذا نزلت في عمارة أو نزلت في شقة أو نزلت في خيمة، أو نزلت في فندق، فاغتسل؛ لأن الغسل سنة، وإن لم يتيسر الغسل عند الدخول فقبل الطواف، حتى تأتي إلى البيت وتكمل الواجب عليك بطواف القدوم إن كنت مفرداً أو قارناً، وإن كنت معتمراً فيكون عليك طواف العمرة وهو يجزئ عن طواف القدوم.
وهكذا كان ابن عمر رضي الله عنهما يبيت ويغتسل بذي طوى.(178/11)
حكم متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في الأمور الجبلية
والمشهور أن ابن عمر قد انفرد بهذا عن مجموع الصحابة، فإنه كان يتتبع خطوات رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج شبراً بشبر، حتى في الأمور الجبلية التي كان يفعلها الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد جاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بين عرفات والمزدلفة في الشعب فبال، فكان ابن عمر إذا جاء إلى ذلك المكان ينزل ويبول، فقالوا له: يا ابن عمر! هذه ليست عبادة؛ لأن الرسول ما فعل هذا ليتأسى الناس به، فإذا كان إنسان ليس به بول وليس هناك حاجة داعية لأن يأتي ويبول بالقوة! فقال: الرسول فعل هذا، أي: أنا أتبعه، فنقول: هذا شدة رغبة في اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كما يقول الأصوليون: أعماله صلى الله عليه وسلم الجبلية ليست موضع تشريع، كما قال الناظم: وفعله المركوز في الجبلة كالأكل والشرب فليس ملة الأكل والشرب جبلة في الإنسان وفي كل كائن حي، فالنصراني يأكل، والدرزي يأكل، والحيوان يأكل؛ لأن مطلب الحياة أن يأكل وإلا فسيموت.
إذاً: الأكل والشرب جبلة، من غير لمح الوصف، فلا تقل: أنا آكل لأن الرسول كان يأكل، نقول: لا، أنت ستأكل غصباً عنك اتباعاً للرسول أو لغيره، وأما الوصف في كيفية الأكل، وهل يكون باليمين أو بالشمال؟ فنقول: الوصف هنا هو المراعى، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأكل بيمينه ويأمر بذلك بقوله للغلام: (يا غلام! سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك) إذاً: الوصف في الأمر الجبلي هو المطلوب، أما في الأمور من حيث هي فلا تقل: أنا أنام لأن الرسول نام، وأتزوج لأن الرسول تزوج، فنقول: لا، أنت في حاجة إلى النوم والزواج من غير هذا، والرسول صلى الله عليه وسلم كان ينام وكان يأكل ويتزوج، وقد تزوج حتى قبل الرسالة.
والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(178/12)
كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [8]
الحجر الأسود نزل من الجنة أشد بياضاً من اللبن، وإنما سودته خطايا بني آدم، ويوصف بالأسود لسواده، والحجر الأسود فيه مسائل عديدة؛ منها الفقهية وذلك فيما يتعلق بالمناسك، ومنها التاريخية، وذلك فيما يتعلق بأصله، ومن أين جاء؟ وكم عمره؟ وما إلى ذلك.(179/1)
استلام الحجر الأسود وتقبيله والسجود عليه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه.
أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أنه كان يقبل الحجر الأسود ويسجد عليه) رواه الحاكم مرفوعاً والبيهقي موقوفاً] .
الواقع يا إخوان! أن القضايا المتعلقة بالحجر الأسود كثيرة، ومما يرد فيه من المسائل: من أين أصله؟ وكيف جاء؟ وكم تاريخه في المكان الذي هو فيه؟ وفي أحكامه، وما طرأ عليه في التاريخ من القرامطة وغيرهم، فلو أن إنساناً أفرد الحجر الأسود بمبحث مستقل لوجد مادة واسعة ينهل منها.
وقد أتت آثار وأحاديث في الحجر الأسود ولا نستطيع أن نناقش أسانيدها، ومنها: (بأنه نزل من الجنة) وهذا مما يتفق عليه العلماء، يقولون في أسانيد الأخبار التي جاءت فيه: يقوي بعضها بعضاً، وفي بعض الآثار: (أنه نزل مضيئاً مشعاً) حتى قال بعض العلماء: إن اختلاف حدود الحرم لمكة هو بحسب ما وصل إليه ضوء الحجر أول ما نزل، ولكن التحقيق العلمي: أن حدود الحرم هي كما أوقف جبريل عليه السلام الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام عليها، فإنه وقف معه على أماكن حدود الحرم وعلّم له عليها.
وقيل: إن البيت أول ما بني بنته الملائكة لآدم، لما نزل من السماء؛ لأن في السماء البيت المعمور فجعل الله الكعبة لبني آدم في الأرض مكان البيت المعمور في السماء، ولهذا فهو على سمته عمودياً، فوضع الحجر الأسود في الكعبة، ومر عليه الزمن، ولما جاء الطوفان هدم الجميع، وحفظ الله الحجر الأسود في جبل أبي قيس، حتى جاء إبراهيم وإسماعيل وقاما ببناء ووضع الحجر الأسود في مكانه، ثم جاء القرامطة وأخذوه إلى بلادهم ومكث عندهم فترة ثم ردوه.(179/2)
بناء الكعبة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم
وكان بناء الكعبة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وقد اختلفت قريش في بناء الكعبة وقضية اختلافهم معروفة فيمن ينال شرف وضع الحجر في مكانه من بناية الكعبة، فإنهم لما هدمت الكعبة، اتفقوا على بنائها، ولما بدءوا بالبناء قسموا الجهات الأربع على قبائل قريش، وكل جهة قامت بالبناء إلى أن ارتفع البناء إلى مكان الحجر الأسود، فتنازعوا فيمن يضعه حتى كادوا أن يقتتلوا، فألهم الله سبحانه وتعالى بعض عقلائهم، وقال: علامَ نقتتل، لنحكم أوّل من يخرج علينا من هذا الطريق، فنظروا فإذا أول من خرج عليهم هو محمد بن عبد الله -وهذا قبل الرسالة- فأنطق الله الجميع: هذا الأمين ارتضيناه.
إذاً: هو قبل ما يقول لكم: قولوا: لا إله إلا الله كان الأمين، وبعدما قالها كان المجنون؟! هذا تناقض واضح، لكن الله سجل عليهم هذا الاعتراف، فلما جاء صلى الله عليه وسلم أخذ رداءه ووضعه على الأرض، وأخذ الحجر بيديه الكريمتين ووضعه في وسط الرداء وقال: لتأخذ كل قبيلة بطرف الرداء ولترفع، فاشتركوا في حمله وفي رفعه جميعاً، ولما رفعوه إلى أن ساوى موضعه من الجدار أخذه صلى الله عليه وسلم بيديه الشريفتين ووضعه في مكانه إذاً: هذا الشرف الذي كادوا يقتتلون عليه جميعاً ظفر به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه من أول المقدمات للتكريم، ومن أول الاعترافات المنتزعة منهم إجبارياً بأنه الأمين.(179/3)
الحكمة من تقبيل الحجر الأسود
ولما جاء الإسلام جاء بتقبيل الحجر واستلامه، وقد يعجب المرء من هذا التشريع كيف أن الله سبحانه وتعالى أمر عباده بتحطيم الأصنام، وبإنكار عبادة الحجارة وتعظيمها ثم يأمرهم بتقبيل الحجر، بل يأمرهم أن يطوفوا ببنية الكعبة وهي عبارة عن كتل حجرية! والذي يزيل هذا العجب أنك بعد هذا الفعل تأتي بسنة الطواف التي تقرأ فيها: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ؛ لتنفي عنك الشرك، ولتثبت أنك ما قدست الحجر عبادة ولا تقديساً له، ولكن عملت ذلك طاعة لله.
كما جاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال حينما قبّله: (إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) .
ففي هذا تقديم النص والاتباع على العقل، أي: أنا أعلم أنك لا تنفع ولا تضر، ولكن مع ذلك أنا أقبّلك، فلماذا يقبله وهو لا ينفع ولا يضر؟ الجواب: لأن الإنسان لا يسعى في حياته إلا لجلب نفع أو لدفع ضر كما قال الشاعر: إذا أنت لم تنفع فضر فإنما يرجى الفتى كيما يضر وينفع ولهذا قال عمر رضي الله عنه: (لولا أني رأيت) فهو قدم النص على العقل؛ لأن النص معصوم، فإذا كان النص صحيحاً ثابتاً فألغ عقلك، واعمل بما جاء في هذا النص، ولكن نبه عقلك بالتأمل والتدبر.
يقولون في هذا الأثر: إن علياً رضي الله عنه قال: (لا يا عمر! إنه ينفع، فقال له: بم ينفع؟ قال: يأتي يوم القيامة وله عينان ولسان، يشهد لكل من استلمه أو قبّله يوم القيامة.(179/4)
صفة تقبيل الحجر واستلامه
وقد جاء أن ابن عمر كان يسجد عليه، وكذلك ابن عباس كان يسجد عليه، وكان يقبله من غير صوت، أي: يلمسه بشفتيه دون أن يُسمع صوت للشفتين عند التقبيل، ويقولون: صفة التقبيل هي: أن يضع الإنسان كفيه على طرفي الحجر، ويضع شفتيه بين كفيه ويقبل، هكذا يقولون في صفة تقبيل الحجر واستلامه.
وعلى هذا فكلام الفقهاء في تقبيل الحجر: أنك إن استطعت أن تقبل وتستلم على هذه الصفة فهي أكمل الصفات، وإن لم تستطع فمد يدك ولو من بعيد والمس أي جزء منه وقبل يدك، وإن لم تستطع فمد طرف العمامة واطلب من الذي عند الحجر أن يلمسها بالحجر ثم خذها وقبل طرفها الذي لمس الحجر، وإن لم تستطع لا هذا ولا ذاك فأشر بيدك وامض.
والله سبحانه وتعالى أعلم.(179/5)
الرمل في الطواف حول الكعبة في الثلاثة الأشواط الأولى
قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عمر رض الله عنهما: (أنه كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول خبب ثلاثاً ومشى أربعاً) ] .
الطواف الأول هو إما طواف القدوم للمفرد والقارن، وإما طواف العمرة، والرمل والخبب سواء.
قال المؤلف رحمه الله: [وفي رواية: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طاف في الحج أو العمرة أول ما يقدم فإنه يسعى ثلاثة أشواط بالبيت ويمشي أربعة) متفق عليه] .
يسعى المحرم ثلاثة أشواط من سبعة؛ لأن الطواف هو سبعة أشواط، ويمشي أربعة، يعني: بدون خبب وبدون إسراع.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمرهم بهذا قيل: في حجة الوداع، وقيل: في عمرة القضية، وهو الصحيح، فأمرهم أن يرملوا ثلاثاً، ويمشوا أربعاً، والرمل في الطواف هو أن يمشي الإنسان في صورة المسرع، وتكون خطاه متقاربة إظهاراً للقوة والنشاط، ويكون مع الرمل الاضطباع على ما سيذكره المؤلف رحمه الله، والاضطباع هو: أن تجعل منتصف الرداء تحت إبطك الأيمن، وتجعل طرفيه على عاتقك الأيسر.(179/6)
سبب الاضطباع والرمل
ويقولون: إن سبب الاضطباع والرمل هو ما كان من المشركين حينما قدم النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية، وبعضهم يسميها: عمرة القضاء، وهي: العمرة التي جاءت بعد صلح الحديبية، وصلح الحديبية كان في السنة السادسة، حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام أنه قادم إلى البيت معتمراً، فأخبر أصحابه، فخرجوا معه، ولما علم المشركون بمجيئهم، استكثروا على أنفسهم أن يدخل المسلمون عليهم مكة بدون إذن ولا علم منهم، واعتبروا أن ذلك عنوة وعدم مبالاة، فخرجوا ليصدوهم عن البيت.
فلما علم صلى الله عليه وسلم أن المشركين قد خرجوا ليصدوهم قال: (من رجل يدلنا على الطريق بعيداً عن مواقعهم؟) لأنهم خرجوا ليصدوهم من الطريق المعهود، فقام رجل وقاد الركب إلى أن وصلوا إلى الحديبية من غير الطريق المعروف للمار إلى مكة.
والحديبية تقع على مشارف حدود الحرم، فنزلوا بخيامهم في الحل، وكانوا يصلون الصلوات في الحرم؛ لأنه ليس بينهما فاصل كبير، وقضية الحديبية قضية طويلة معروفة، وكانت في الواقع فتحاً مبيناً، وأنزل الله سبحانه وتعالى فيها سورة الفتح، وتم فيها الصلح والمفاهمة بين المسلمين والمشركين، وكان من ضمن بنود هذا الصلح: أن يرجع المسلمون من مكانهم دون أن يدخلوا مكة، ولهم أن يأتوا في العام المقبل معتمرين، وتخلي لهم قريش مكة لمدة ثلاثة أيام ليعتمروا فيها ولا يزعجهم أحد، ثم بعد ذلك يخرجون ويرجعون من حيث أتوا.
فأتى النبي صلى الله عليه وسلم في السنة التي بعدها معتمراً، فسميت عمرة القضية، أي: لما تقاضوا به في الصحيفة التي كتبت بين الطرفين، وقيل: سميت عمرة القضاء، أي: لصدور القضاء بين الطرفين، وليس من القضاء الذي هو ضد الأداء؛ لأن العمرة التي سبقت وتحللوا منها على الحدود اعتبرت لهم عمرة، واعتبرت لهم غزوة، والعمرة الثانية كانت مستقلة، وكانت بناءً على اشتراط الطرفين أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في العام المقبل، وأن تخلي لهم قريش مكة، فجاءوا ودخلوا المسجد الحرام، وجلس كفار قريش على قعيقعان وهو: الذي يطل على الكعبة من جهة الحِجْر، وقبل أن يبدأ المسلمون بالطواف جاء الشيطان إلى كفار قريش وقال لهم: أين أنتم؟ ها هم المسلمون قد جاءوا، وقد أنهكتهم حمى يثرب، وأضناهم طول السفر، فلو ملتم عليم ميلة رجل واحد لقضيتم عليهم.
وتم هذا التآمر بين الشيطان وبين أعوانه وأتباعه للقضاء على المسلمين في ذلك الوقت وفي ذلك المكان، ولا يقدِّر هذا الموقف إلا القادة العسكريون؛ لأن المسلمين عزَّل، فقد اشترط عليهم أهل مكة أن لا يأتوا بسلاح إلا سلاح المسافر، السيف في القراب، وهؤلاء الكفار لو تسلطوا عليهم بالنبل من فوق الجبال بل حتى ولو بالحجارة لقضوا عليهم؛ لأن موقع الكعبة في أخفض مكان في مكة، والجبال مرتفعة من حولها، كما أن موقع المسجد النبوي في أخفض مكان في المدينة، ولذا فإن السيول تأتيه من كل جانب، فلو أنهم نفذوا مخططهم لقضوا عليهم، وليس هناك موالٍ قريب ليمد المسلمين بالمدد، والرسول صلى الله عليه وسلم كان قد جاء بالسلاح معه، وتركه في العيس، وترك حراساً عليه، ولكن لو انقضوا عليهم فلن يجدوا وقتاً ليأتوا بالسلاح! ولابد أن يكون هناك ضيم على المسلمين.
فكان الحل من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر المسلمين بتآمر المشركين مع الشيطان، وكما ننبه دائماً أن الغزو الفكري لا يقاوم بالقوة، ولكن تقاوم الفكرة بفكرة ضدها، وهنا فكرة المشركين أن المسلمين ضعاف من آثار حمى يثرب، وهذا كان أمراً معروفاً في الجاهلية، فقد كانوا يعتقدون في الجاهلية أن من دخل المدينة تصيبه الحمى، فإذا أراد أن يسلم من الحمى فعليه أن يقف عند بابها وينهق ثلاث مرات، فإذا ما نهق ثلاث مرات في اعتقادهم فإنها تشرد عنه الحمى، إذاً: الحمى كانت مشهورة عندهم، ويقول العلماء المتأخرون: هذا أمر طبيعي؛ لأن المدينة كانت مليئة بمياه السيول، وكانت العيون تفيض على وجه الأرض، فينتج عن ذلك غدران ومستنقعات الماء، ومستنقعات الماء في العالم إنما هي حواضن للبعوض، والبعوض هو الذي يسبب الحمى وينقلها.
إذاً: كانت المدينة موطناً طبيعياً للحمى.
فجاء جبريل عليه السلام إلى النبي وأخبره: أن المشركين قد تآمروا بكذا وكذا، فلم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: يا رب! أنزل لي جنوداً أو أنزل لي ملائكة؟!! وإذا كان الله سينزل له ملائكة فغيره ماذا يفعل؟ ولكن النبي صلى الله عليه وسلم عنده السياسة الحكيمة، والفكر الثاقب، ونور النبوة، فقال لأصحابه: إن المشركين تآمروا عليكم بكذا وكذا بسبب كذا، فأروهم من أنفسكم اليوم قوة، يعني: اقلبوا عليهم ظنهم، كما يقال: اعكسوا عليهم الفكرة، فهم يقولون: إنكم ضعاف بسبب الحمى، وإنكم منهكون بسبب طول السفر من المدينة إلى مكة، فإذا رأوكم كذلك فإنهم سيطمعون فيكم ويتحقق فيكم القول، ولكن اعكسوا عليهم الفكرة، وبماذا تعكس؟ قال: (أروهم اليوم من أنفسكم قوة) وليس المراد المصارعة عند البيت، وإنما المراد أروهم القوة في عنصر العمرة، فأمرهم بالاضطباع، وهو: جعل وسط الرداء تحت الإبط الأيمن، وطرفيه على الكتف الأيسر، يعني: شمروا، وهذه هي هيئة الإنسان الذي يريد أن يعمل، وأمرهم بالهرولة.
وبداية الطواف هو من عند الحجر الأسود، فكانوا يرملون من عند الحجر الأسود ويطوفون بالبيت من وراء الحجر إلى أن يأتوا إلى الركن اليماني، يعني: ثلاثة أركان من أركان الكعبة يقطعونها هرولة، وإذا وصلوا إلى الركن اليماني ودخلوا في ظل الكعبة وسترتهم الكعبة عن أهل مكة الذين ينظرون إليهم من المقابل، فيمشون على مهل ليكون ذلك أرفق بهم ليستأنفوا الشوط الثاني بنشاط، ولو كانت الهرولة في الأشواط الثلاثة كاملة فقد يظهر عليهم الضعف في الآخر، ولو كانت الهرولة في السبعة الأشواط لكان ذلك شاقاً عليهم، ولكن حينما تبدأ طائفة بالهرولة ثم تتبعها طائفة أخرى في الهرولة تكون الطائفة الأولى قد أنهت الشوط الأول، والطائفة الثالثة تبدأ، وإذا جاءت الطائفة الرابعة تكون الثانية قد انتهت، وهكذا تستمر الهرولة طيلة مدة الطواف، وإن كان الكل لم يهرول السبعة الأشواط، وكذلك أمرهم أن يمشوا ما بين الركن اليماني والحجر الأسود إرفاقاً بهم من أن يواصلوا الشوط كاملاً، وهكذا الشوط الثاني والثالث حتى لا يظهر عليهم الإعياء.
وهذا الأمر بالرمل التحقيق أنه كان في عمرة القضية، وكان من أجل إظهار القوة، وإحباط فكرة المشركين.
فهل السبب مستمر في الرمل أو قد زال؟ الجواب: السبب قد زال، والرسول صلى الله عليه وسلم حينما فتح مكة سنة ثمان، يعني: بعدها بسنة واحدة، حينما طاف بالعمرة التي أهل بها من حنين عند عودته من الطائف من ثقيف رمل، ومكة فتحت في العام الثامن وهو اعتمر في نفس العام بعد الفتح، وقد أصبحت مكة في إمرة رسول الله وله عليها أمير، ومع ذلك رمل، وفي حجة الوداع سنة عشر من الهجرة حج وطاف بالبيت ورمل.
إذاً: العلة كانت موجودة في أول رمل، وبعد ذلك انتفت تلك العلة ولم تعد موجودة، فلماذا بقي الرمل إذاً؟ الجواب: سأل رجل عمر رضي الله تعالى عنه في خلافته وقال: يا أمير المؤمنين! في نفسي شيء، رملنا لما كنا خائفين، يعني: أول ما رملنا، فعلامَ الرمل الآن؟ قال: يا ابن أخي! حج رسول الله، وطاف ورمل فرملنا، أي: لم تكن العلة موجودة في الحج، ولم يكن هناك خوف ولا مؤامرة، ولكن أمر شرع فاستمرت مشروعيته.
وعلى هذا يتفقون على أن الرمل يكون في الطواف الأول الذي يعقبه سعي، وهذه قاعدة: أن كل طواف يعقبه سعي ففيه رمل، وكل طواف بدأ به الحاج أو المعتمر فإن فيه رملاً، فالذي يأتي مفرداً الحج سيطوف طواف القدوم، وله أن يسعى بعده سعي الحج ففي طوافه رمل، والذي يأتي معتمراً فإنه سيأتي ويطوف وطوافه ركن في العمرة، وبعده سعي ففي طوافه رمل.
وأما طواف الإفاضة فمن كان قد سعى قبل عرفات فلا سعي عليه، وعلى هذا لا رمل فيه، وأما طواف الوداع فلا سعي بعده وعلى هذا لا رمل فيه، وهكذا أصبح الرمل مشروعاً في أول طواف يطوفه الناسك حاجاً كان أو معتمراً، وإن كان قد انتهى سببه وانقطعت علته إلا أنه أمر شرع وداوم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله مع انتفاء العلة، وهي التي يقول الأصوليون: فيه الاعتراض أو الإيماء وهو بقاء الحكم مع انتفاء العلة.(179/7)
حكم الرمل في الطواف للنساء
والرمل هو حركة سريعة، وفيها إظهار قوة، فهل كل من طاف يرمل أو أن هذا خاص بالرجال؟ الجواب: هو خاص بالرجال؛ لأن القضية في أساسها كانت للرجال الذين رملوا عند أن تآمر عليهم المشركون، إذاً: المرأة لا تضطبع؛ لأنه ليس عندها رداء، وإنما تلبس لباسها العادي، ولا ترمل بل تمشي المشي العادي، ومن كان معه امرأة ويخشى من تركها ويضطر أن يسايرها فليمش معها في هيئة الرمل لكن بخطىً متقاربة، كما لو كان معك طفل، وأردت أن تجرّيه فهو يجري بأقصى ما يستطيع، وأنت أرجلك متقاربة مع بعضها كما يقال: محلك سر، فتكون في صورة الذي يجري وهو لا يجري.
إذاً: الرمل سنة في طواف الرجال وليس سنة في طواف النساء.(179/8)
استلام الركنين اليمانيين
قال المؤلف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنه قال: (لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت غير الركنين اليمانيين) رواه مسلم] .
تقدم الكلام عن استلام الحجر وتقبيله والسجود عليه، والحجر الأسود هو في أحد الركنين اليمانيين، وهو الركن المجاور لباب الكعبة، وبقي ثلاثة أركان في الكعبة، فما حكم استلامها؟ الجواب: ابن عمر يقول: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين، (اليمانيين) تغليباً كما يقال: القمرين للشمس والقمر، والعمرين لـ أبي بكر وعمر، فهذه من باب التغليب، وهذا جزء من حديث طويل وفيه أن رجلاً سأل ابن عمر فقال: (أراك تفعل شيئاً لم تكن تفعله من قبل أراك تطوف بالسبتيتين -وهما: نوع من أنواع النعال- وأراك لا تستلم من البيت إلا الركنين، فقال: أما لبس السبتيتين فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسهما، وأما استلام الركنين فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين) .
والركنان الآخران يسميان بالركنين الشاميين؛ لأنهما في الجهة الشمالية، ويقولون: إن الذي يواجه المدينة من الكعبة هو الحجر والميزاب، ويقولون: إن الميزاب الذي فوق الكعبة على خط مستقيم مع محراب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالركنان اللذان يليان الحجر، واحد من الفتحة اليمنى وواحد من الفتحة اليسرى يقال لهما: الشاميان، واللذان مقابلهما من الجهة الأخرى يقال لهما: اليمانيان.(179/9)
سبب استلام الركنين اليمانيين دون الشاميين
وسبب استلام الركنين اليمانيين وعدم استلام الركنين الشاميين يرجع إلى تاريخ الكعبة؛ لأن الكعبة في العهد الأخير قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كما أشرنا سابقاً قد جددت قريش بناءها، والكعبة كانت على قواعد إبراهيم، فلما أرادوا أن يبنوها من جديد حينما تصدعت، أو أحرقت أو إلخ، قال قائل منهم: لا تدخلوا في بيت الله إلا مالاً حلالاً، والقصة من أولها: أن أهل مكة حينما اتفقوا على الهدم كانت تأتي حية في الضحى وتطلع وتستشرف على جدران الكعبة، فكانوا يخافون أن يتقدموا إلى الكعبة، فأرسل الله طائراً وهم يرونه وأخذ الحية بمخالبه وذهب بها، فقالوا عند ذلك: قد أذن الله لكم بالهدم، ولكن لم يتجرأ أحد -تقديساً للبيت واحتراماً له- أن يتقدم للهدم، فجاء رجل وتجرأ وتقدم فتناول حجراً، فانتثر الحجر من يده ورجع إلى مكانه، فقال: يا معشر قريش! لا تدخلوا في بناء البيت مالاً محرماً، فلا تدخلوا فيه مهر بغي، ولا حلوان كاهن، ولا مالاً ربوياً، فقالوا: وكيف نصنع وغالب أموالنا من هذه الأمور الثلاثة؟ قال: انظروا إلى حلي النساء، وهو ما يسمى بالمال الصامت، أي: الذي لا يكون متحركاً في الأسواق، فجمعوا من حلي النساء ما أمكنهم، ونظروا في قيمته فوجدوه لا يفي بالقدر المطلوب لإعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم الأربعة، فقالوا: ماذا نصنع؟! فاجتمعوا وقالوا: إذاً: نختصر من البيت من جهة الشمال، ونحجر على الجزء الذي اختصرناه بحجر يحفظه من أن يضيع في المسجد، وفعلوا ذلك.
وفي هذا معانٍ عظيمة جداً فلو تأملنا في هذا النظر من المشركين، لرأينا أنهم كانوا يتأثمون من أن يدخلوا في بناء بيت الله مالاً حراماً، فكيف بالمسلمين الذين جاءهم الشرع الحكيم؟! فحلوان الكاهن ومهر البغي والربا كل ذلك محرم عقلاً وشرعاً، وأهل الجاهلية كانوا يقيمون تجاراتهم على الربا، فقالوا: لا تدخلوا الربا في بناء الكعبة.
وأقول -والله تعالى أعلم-: أراد الله سبحانه أن يقيم من آياته الكبرى عند بيته للعالم كله على مدى الأزمان شاهداً على تحريم الربا من زمن الجاهلية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ لأن كل إنسان يأتي إلى البيت الحرام وينظر إلى هذا الحجر سيتساءل: لماذا احتجروه، ولماذا لم يضيفوه إلى البيت، ولماذا اقتطعوه من الكعبة؟ فسيكون الجواب: لأن أهل مكة قصرت بهم النفقة، ولم يدخلوا فيه الربا.
ولما طلبت عائشة من رسول الله أن يدخلها البيت لتصلي فيه كما صلى فيه صلى الله عليه وسلم، أخذ بيدها إلى الحجر وقال: (صلي هاهنا فإنه من البيت، فصلت، ثم قالت: ما بال هذا من البيت ولم يدخل فيه؟ فقال لها: إن قومك قصرت بهم النفقة ... ) وذكر لها السبب، فكل إنسان سيأتي ويرى هذا الأمر سيسأل سؤال عائشة: ما باله لم يدخل فيه؟! وسيتلقى الجواب كما تلقته أم المؤمنين رضي الله عنها أن السبب في ذلك هو التورع عن إدخال الربا في بناء الكعبة، والحجر هو: الستة الأذرع الممتدة من جدار الكعبة إلى جهة الشمال.
إذاً: كل من أتى البيت وطاف ورأى الحجر وتساءل سيتلقى نفس الجواب، إذاً: هذا الحجر فيه آيات بينات وفيه دلالة واضحة قائمة شاهدة تنادي على العالم أجمع: أن الربا محرم.
فأقاموا البناء من جهة الركنين اليمانيين على قواعد إبراهيم سواء، واختصروا البناء من الجهة الشامية فقطعوا الركنين عن قواعد إبراهيم إلى حيث وصلت بهم النفقة، ولما أبقوا من البيت مكاناً خارجاً عنه حجروه بهذا البناء.
ومن ناحية أخرى كون النفقة قصرت بهم وجعلوا جزءاً من البيت حجراً مفتوح الطرفين فإنه إتاح الفرصة للمساكين، ولمن أراد أن يصلي في البيت أن يصلي فيه؛ لأنه لا يجد من يفتح له الكعبة، كما قال الرسول لـ عائشة عند أن سألته: (ما بالهم جعلوا له باباً مرتفعاً؟ قال: ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا) فبقي الحجر مفتوحاً من هنا ومن هناك، وفي إبقاء الحجر على هذه الحالة آية، فليس كل أحد يستطيع أن يأتي إلى بني شيبة ويقول: افتحوا لي الكعبة، أو يأتي إلى من يتولى شئون الحرمين ويقول: افتحوا لي الكعبة؛ لأنها لا تفتح إلا للرؤساء والعظماء إلخ، أو في المناسبات المعهودة، فجعل الله الحجر -رغماً عنهم- مرجعاً ومأوى وموئلاً للضعفاء الذين لا يستطيعون دخول البيت، وأصبح الحجر جزءاً من البيت مفتوحاً ليلاً ونهاراً لا يرد عنه أحد.
والذي يهمنا في هذا أن الركنين اللذين يليان الحجر ليسا على قواعد إبراهيم، ولهذا يقولون: للركنين اليمانيين خصيصة، وأحدهما له خصيصتان والآخر له خصيصة واحدة، فالركن الذي فيه الحجر الأسود له خصيصتان: الأولى: كونه على قواعد إبراهيم، والثانية: كونه فيه الحجر الأسود، ولهذا يقبل ويستلم، ويقبل ما وصل إليه، وأما الركن اليماني فله خصيصة واحدة: وهو أنه على قواعد إبراهيم، فيستلم ولا يقبل، فليس من السنة أن يقبل الركن اليماني، ولكن يستلم باليد، ولا تقبل اليد بعد استلامه، وهكذا فعل ابن عمر رضي الله عنه، وعزا ذلك وأسنده ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول بعض العلماء: كان الخلاف موجوداً في السابق عن معاوية رضي الله عنه، فقد جاء عنه: أنه كان يستلم جميع الأركان، فسئل عن ذلك، فقال: ليس من البيت شيء مهجور، ولكن كما يقول العلماء: هذا الخلاف قد انقضى وانتهى، ولم يبق استلام إلا للركنين اليمانيين.(179/10)
حكم الزحام على الحجر الأسود
عند الاستلام للحجر الأسود يجب التحذير من التزاحم عليه، ومن إيذاء الضعفاء، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لـ عمر حينما قال له: (يا رسول الله! إني كنت نذرت أن أعتكف ليلة في الجاهلية في المسجد الحرام، فقال له: أوف بنذرك، ثم قال: لا تنسنا من صالح دعائك يا أخي! ثم قال: يا عمر! إنك رجل قوي، فلا تزاحمن على الحجر فتؤذي) ونحن نقول أيضاً: يا ضعيف! لا تزاحمن على الحجر فتؤذى وتعرض نفسك للإيذاء من القوي، إذاً: النهي عن المزاحمة يتوجه للطرفين: للقوي حتى لا يؤذي، وللضعيف حتى لا يؤذى، ومن الضعفاء النسوة، فلا ينبغي لهن أن يزاحمن على الحجر.
ويذكر بعض العلماء أن رجلاً يمانياً قال لـ ابن عمر: أرأيت لو زاحمت على الركن، قال: اجعل أرأيت باليمن، ولم يقبل منه هذا العذر، ومعلوم أن ابن عمر كان عنده شيء من التشديد في هذه المسألة، وقوله صلى الله عليه وسلم: (يا عمر! إنك رجل قوي فلا تزاحمن) هذا هو المعمول به عند جميع العلماء، وهذا الذي ينبغي مراعاته، والله تعالى أعلم.(179/11)
بيان أن تقبيل الحجر ليس لذاته وإنما للتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم
قال المؤلف رحمه الله: [وعن عمر أنه قبل الحجر وقال: (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) .
متفق عليه] .
هذه القضية قد أشرنا إليها فيما تقدم، فقلنا: إن الأصنام كانت مثبتة على جدران الكعبة بالرصاص، ولما دخل صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً كان يشير إلى الصنم بقضيب في يده، فما أشار إلى صنم في قفاه إلا انكب على وجهه، ولا أشار إلى صنم في وجهه إلا خر على قفاه، وما كان يلمسه بالسوط ولكن بمجرد الإشارة.
ففي هذا معجزة كبرى، وقد يقال: أليس هذا القضيب كان في يده قبل فتح مكة، ألم يكن يصلي حول الكعبة وظلت الأصنام عليها، فلماذا لم يسلط عليها هذا القضيب؟ الجواب: أنه لم يكن قد حان أوان ذلك، ولهذا من الحكمة للداعية أن ينظر في عواقب الأمور، وأن لا يتعجل الأمور قبل أوانها، والحكمة هي: وضع الشيء في موضعه.
إذاً: عمر رأى أنه قبل سنين كانت الأصنام معلقة، فخاف على العامة أو الدهماء، أو الذين لم يدركوا ذلك، أن يقع في أذهانهم أن في تقبيل الحجر تكريماً للحجر لذاته، فقال لهم: لا، الحجر لذاته لا ضر فيه ولا نفع، فهو حجر وجماد، ولكن قبّله لأمر آخر، فقال: (ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) إذاً: عمر قبل الحجر امتثالاً واقتداءً برسول الله، علم الحكمة أو لم يعلم، وعلى هذا فإن الواجب على كل مسلم، فيما لم تنكشف له الحكمة فيه أن يسلم وأن يمتثل الأمر.
وكذلك إذا انكشفت له بعض الجوانب وخفي عليه الكثير منها فإنه يسلم ويمتثل.
إذاً: إذا جاء الشرع ثابتاً واضح الدلالة، فلا قول للعقل في قبول التشريع، ولا يجوز أن نعرض الشرع على عقولنا، بل نعرض عقولنا على الشرع، فإذا ما ثبت التشريع بطريق سليم صحيح، وكان المعنى واضحاً، والنص صريحاً فلا مكان للرأي ولا محل للاجتهاد فيه، كما يقول العسكريون في تلقي الأمر: نفذ ثم اسأل، أي: نفذ أولاً ما أمرت به، وقد يكون الأمر غير موافق لعقلك وما تدري لماذا أمرك القائد بهذا؟ فلا ترفض الأمر، وتقول: لماذا؟ فإنك قد تفوت الوقت وتضيع الفرصة، وإنما نفذ ما أمرت به ثم اذهب واسأل ما بدا لك، وهكذا الشرع، ولهذا قال عمر: (إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا -هذا محل التشريع- أني رأيت) ويا نعم ما رأى! رأى عمل رسول الله مباشرة ومشافهة؛ لأنهم كانوا يتلقون عنه مباشرة، لا بنقل ينقل، ولا برواية تروى، بل رأوا بأعينهم، وسمعوا بآذانهم، فامتثلوا أوامره طواعية: (لولا أني رأيته يقبلك ما قبلتك) .
في هذا الموطن يذكر العلماء ومنهم الصنعاني شارح هذا الكتاب أن هناك رواية فيها: أن علياً سمع ذلك من عمر، فقال: (لا يا أمير المؤمنين! إنه ينفع، قال: وكيف ذلك؟ قال: لأنه يأتي يوم القيامة وله عينان ولسان، يشهد لكل من استلمه بحق) (وقد جاءت فيه أحاديث منها: (هو يمين الله في أرضه)) فقال عمر: (من أين يا علي؟! قال: من كتاب الله، قال: وأين ذلك في كتاب الله؟ قال: في قوله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172] ، فكتب ذلك في رق، وأودع هذا الرق الحجر، وكان له فم ولسان وعينان) ونحن نقول: إن هذه الأشياء يتوقف في سماعها على صحة إسنادها، وصراحة مدلولها، ونحن لا نستبعد هذا كما لا نستبعد كيف أخذ الله الذرية بعضها من بعض إلى آخر واحد من آدم، وكيف اجتمع العالم كله في عالم الذر بعرفة؟! أنا وأنت ومن سيأتي بعدنا أرواحنا اجتمعت في عالم الذر؟! ونحن لا ندرك هذا، ولكنه عالم آخر يعلمه الله سبحانه وتعالى.
فإذا جاءت القضايا إلى القدرة الإلهية فاسترح؛ لأنه لا يستعصي على القدرة الإلهية شيء.
إذاً: عمر ينبه بهذا المعنى على أن المسلمين إنما يقبلون الحجر لا لذات الحجر ولا لمعنى فيه، ولكن امتثالاً وطاعة واتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك الطواف حول الكعبة ليس لأنها زمردة أو ياقوتة، ولو كانت زمردة أو ياقوته، أو أغلى جوهر في العالم فليس الطواف حولها لذاتها، فكيف وهي بنيَّة من حجارة وهذه الحجارة موجودة في مكة، ولكن نطوف حولها لقداستها، ولتعظيمها، فقد عني به المولى سبحانه فقال: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ} [البقرة:127] .
وقال: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} [البقرة:125] ونحن نطوف أيضاً امتثالاً لأمر الله في قوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] .(179/12)
مشروعية استلام الركن بمحجن ونحوه
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي الطفيل قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه سلم يطوف بالبيت ويستلم الركن بمحجن معه، ويقبل المحجن) رواه مسلم] .
هذا فيه تتمة لاستلام الحجر، فإن استطعت أن تأتي إلى الحجر وتضع كفيك على جانبيه، وتضع شفتيك عليه وتقبل، بل وتضع جبهتك عليه وتسجد، فهذه هي أكمل الصور، وإذا لم يمكنك واستلمته من بعيد بيدك أو بأنامل أصابعك فقبل يدك أو أناملك وامض، وإذا لم تستطع فبمحجن، يعني: عصا معوجة، فإذا مددته ولمست الحجر به فقبل طرفه ولكن احرص على أن لا تؤذي أحداً، وقلنا: لو أنك مددت رداءك إلى إنسان عند الحجر وقلت له: ألمسه لي، فمسحه بالحجر ورده إليك فقبله وهكذا، فقبل الحجر بذاته أو ما لامسه، أما إذا لم يحصل هذا ولا ذاك، فأشر من بعيد وارفع يدك وقل: باسم الله، الله أكبر، ولا تقبل يدك؛ لأنها في الهواء، لم تلمس الحجر فلا تقبل.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً إلى يوم الدين.(179/13)
كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [9]
اشتهر عند كثير من العامة عند رمي الجمرات أنهم يرمون الشيطان، وأن الشيطان يتأثر ويتضرر بهذا الرمي، حتى صاروا يرمون الجمرات بحصى كبيرة، بل قد يرمي بعضهم بالأحذية، هذا بالإضافة إلى تسمية الكثيرين للجمرات باسم الشيطان فيقولون: الشيطان الكبير والشيطان الصغير، وكل ذلك إما من الجهل وإما من الغلو الذي حرمه الشرع، وإنما يكون الرمي بحصى كحصى الخذف مع التكبير والدعاء، فيلزم التقيد بما أمر به الشرع فلا إفراط ولا تفريط.(180/1)
وقت رمي الجمرات
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه، أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه قال: (رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحىً، وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس) رواه مسلم] .(180/2)
بداية وقت رمي الجمرات ونهايته
يبين لنا جابر في هذا الحديث متى ترمى الجمرات، وذكر بأن جمرة العقبة رماها صلى الله عليه وسلم ضحىً؛ لأنه حينما أفاض من المزدلفة قبل طلوع الشمس، والمسافة من المزدلفة إلى منى حوالي ستة أو سبعة كيلو مترات، فلما جاء من المزدلفة على الراحلة، كان في الطريق زحام بين الرواحل فكان ينادي: (السكينة السكينة ... ) ولما وصل إلى منى أخذ في طريقه إلى العقبة، ومعلوم أن أول عمل للحاج في منى هو رمي جمرة العقبة، وكما يقولون: تحية منى يوم العيد هي رمي جمرة العقبة، فوصلها ضحىً فرماها، إذاً: رمي جمرة العقبة ضحىً، والضحى هو: قبل الزوال، وأما بقية الجمرات في أيام التشريق: الأول والثاني والثالث فترمى بعد الزوال، ووقت جمرة العقبة فيه خلاف كما تقدم، فمنهم من يقول: يبدأ بعد منتصف الليل، ومنهم من يقول: يبدأ بعد طلوع الفجر، ومنهم من يقول: يبدأ بعد طلوع الشمس على الخلاف المذكور في وقت الإفاضة من مزدلفة لأهل الأعذار وغيرهم.
لكن متى ينتهي وقت الرمي؟ الجواب: لا حد لانتهائه، والوقت الأفضل الذي رمى فيه رسول الله هو الضحى، فلو أن إنساناً تأخر في عرفات وفي مزدلفة، ولم يصل إلى منى إلا بعد العصر، فأول ما يصل إلى منى عليه أن يرمي جمرة العقبة، ولا نقول: إن وقت الرمي هو في الضحى، وإنما وقت الضحى هو الأفضل، فإذا تأخر إلى الزوال أو إلى العصر، أو إلى ما بعد العصر فلا مانع من أن يرمي، وإنما الخلاف في جواز رمي الجمرات ليلاً، فلو تأخر إنسان ووصل إلى منى ليلاً فهل يرمي الجمرات أو لا يرميها؟ الجواب: الأئمة الثلاثة يقولون: يجوز أن يرمي في الليل عن اليوم الماضي.
والإمام أحمد يقول: إن غربت الشمس فلا رمي، وعليه أن يؤخرها إلى غد؛ لأن الأيام الثلاثة كلها أيام رمي، والرمي فيها أداء لا قضاء، ولا فدية على من تأخر في رمي يوم إلى اليوم الثاني، ولكن عليه الترتيب، كما جاء في حديث الرعاة الذين رخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذهبوا ليرعوا الإبل، ثم بين أن عليهم أن يأتوا ليرموا عن اليوم الثاني أولاً، ثم عن اليوم الثالث.
وعلى هذا فالسنة في رمي جمرة العقبة أنه يبدأ من الضحى، ويبدأ قبل ذلك لأهل الأعذار، وأما بقية الجمرات الثلاث في غير يوم العيد فإن جمرة العقبة قد خرجت عن كونها عقبة، وصارت من الجمرات الثلاث في أيام التشريق الثلاثة، ووقتها هو وقت بقية الجمرات حيث يبدأ من الزوال، ولا نقول: قد رميناها بالأمس ضحىً ولابد أن نرميها اليوم ضحىً؛ لأنه إذا خرج يوم العيد لم يعد هناك وقت للرمي إلا من الزوال، إلا قول يذكر عن عطاء وعن غيره في جواز الرمي قبل الزوال، وهذا يذكره بعض العلماء من باب التخفيف، ولكن يقولون: إنما رمى صلى الله عليه وسلم من بعد الزوال.
ويستمر الرمي من بعد الزوال إلى قبيل غروب الشمس وهذا باتفاق، فإذا دخل الليل ولم يكن قد رمى فيرمي في تلك الليلة عن اليوم الماضي، والإجماع على أنه لا يرمي ليلاً عن اليوم الآتي، ولكن يرمي ليلاً عما سبق أن فاته في نهار تلك الليلة، إلا ما جاء عن أحمد رحمه الله فإنه قال: إذا دخل الليل فلا رمي في الليل.
والجمهور يقولون: الليل يستدرك فيه ما فات في النهار، وعلى هذا يبدأ الرمي في أيام التشريق الثلاثة بعد الزوال، الأولى فالوسطى فالكبرى، والآن نقول: الكبرى، ولا نقول: العقبة؛ لأن العقبة تكون في يوم العيد.
والله سبحانه وتعالى أعلم.(180/3)
الترتيب في رمي الجمرات والتبكير والدعاء عندها
قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما: (أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات، يكبر على أثر كل حصاة، ثم يتقدم، ثم يسهل، فيقوم فيستقبل القبلة، ثم يدعو ويرفع يديه ويقوم طويلاً، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل، ويقوم فيستقبل القبلة، ثم يدعو فيرفع يديه ويقوم طويلاً، ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي، ولا يقف عندها، ثم ينصرف فيقول: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله) رواه البخاري] .
يبين لنا عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما في هذا الحديث كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرات، فيذكر لنا أنه كان يرميها على الترتيب، فيبدأ برمي الجمرة الدنيا، والدنيا تقابل القصوى، والدنيا والقصوى أمر نسبي، فالمتوجه من منى تكون الجمرة الدنيا بالنسبة إليه هي الأولى التي يقال لها: الصغرى، فيرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات.(180/4)
حكم رمي الجمرات بغير الحصى
وهنا نص على الحصى، ولذا يتفق العلماء على أن الجمار لا ترمى إلا بالحصى، ولا يجوز الرمي بأي نوع آخر من أنواع الجمادات، فلو رمى الحاج بسبعة دنانير ذهب بدل السبع الحصيات ما أجزأ ذلك عنه، وكذلك لو رمى بسبع حبات فاكهة: تفاح أو رمان أو برتقال ما أجزأ ذلك عنه، ولو رمى بحجر مطبوخ الذي هو الفخار ما أجزأ، أو بقطع من الصبة (الخرسانة) ما أجزأ، أو بطوب من الطين وهو قاس يابس جامد ما أجزأ، ولا يجزئ الرمي إلا بالحصى.
ثم يزيد بعض الفقهاء على ذلك ويقول: بشرط أن تكون على طبيعتها، فلا يأتي بحجر كبير ويكسره ليأخذ منه أجزاء بمثابة الحصى، والحصى معروف وهو: حبات من الرمل كبيرة مستقلة بذاتها مستديرة أو مستطيلة أو مضلعة كل ذلك حكمه سواء.(180/5)
كيفية رمي الجمرات
إذاً: رمى بسبع حصيات، والرمي لابد فيه من رفع اليد، ومن حركة الرمي والدفع، ولذا يقولون: لو أخذ الحاج الحصاة وهو عند الحوض ووضعها فيه كما يضع الكأس على الطاولة فإنه لا يجزئ، بل لابد من حركة الرمي، وأن تطير الحصاة في الهواء من يد الرامي إلى أن تسقط في الحوض.
والعبرة بالرمي إنما هو إلى دائرة الحوض (المرمى) وليس المقصود أن تصيب البنيان الذي في وسط الحوض الذي يسمى (الشاخص) ؛ لأن هذا الشاخص ما بني إلا مؤخراً، وكذلك الحوض ما بني إلا بعد ثمانمائة سنة من الهجرة، بناه أهل مكة باجتهادهم، وإنما كانوا يقيسون موضع الرمي بثلاثة أذرع، أو بخمسة أذرع على حسب كثرة الرمي، ثم بني هذا الحوض ليحفظ الحصى، وليحدد موضع الرمي، ولذا تجدون في كتب الفقه في أحكام المناسك أنهم يقولون: من رمى وتدحرجت الحصاة إلى أقصى الكوم فإنها لا تجزئ، ولكن إن استقرت في وسط المرمى الذي هو خمسة أذرع من كل جهة أجزأت، يعني: أن دائرة قطر الحوض عشرة أذرع؛ لأن مسافة الوتر من الدائرة أو من المحيط إلى المركز خمسة أذرع، ثم بني هذا الشاخص في الوسط ليكون علامة على موضع الرمي، وليتلقى الحصى من الجهات الأربع حتى لا تتعدى إلى المقابل فتؤذي، فإذا رميت أيها الحاج! وصادفت الشاخص المبني القائم وسط الحوض وارتدت الحصاة من الشاخص إلى الحوض أجزأت، أما إذا كانت الرمية التي رميت بها الشاخص قوية فارتدت بقوة وسقطت خارج الحوض فلا تجزئ ولا يعتد بها؛ لأن الغرض ليس هو الشاخص المبني القائم، ولكن الغرض أن تستقر الحصاة في داخل المرمى.
وقالو: لو أنك رميت الحصاة فصادفت عنق بعير مقابل فتدحرجت ونزلت في المرمى أجزأت، ولو رميتها على هودج مقابل وتدحرجت ونزلت في المرمى أجزأت، وعلى هذا فإنك إذا كنت في الدور الثاني وأردت أن ترمي فإنك ترمي في حوض صغير أسطواني، وتتدحرج الحصاة من المرمى حتى تنزل من الفتحة إلى المرمى الأصلي في الأسفل وهكذا.
وقالوا: في حكم الصغير الذي يحج به وليه ويريد أن يرمي عنه، إن كان يحسن أن يلعب ويأخذ الحصى ويرمي فعل الرمي بنفسه، وإن لم يكن يحسن فإنه يضع الحصاة في كفه، ثم يأخذها هو -أي: الولي- من كف الصبي ويرمي بها نيابة عنه.
إذاً: في قوله: (يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات، يكبر على أثر كل حصاة) فيه الترتيب، وطريقة الرمي، والتكبير عقب كل حصاة، وأن يكون الرمي بالحصى لا بغيره.(180/6)
الذكر الذي يقال عند رمي الجمرات
قوله: (يكبر عقب كل حصاة) ، قد تقدمت الإشارة إلى هذا، فمن العلماء من يرى أنه يقول: (باسم الله، الله أكبر؛ إرغاماً للشيطان وإرضاءً للرحمان) ، (إرغاماً للشيطان) لأنه كان بالأمس بعرفات، وما رؤي الشيطان أحقر ولا أذل ولا أصغر منه من يوم عرفة؛ لكثرة ما يرى من تنزل الرحمات، وكما يقال: يحثوا على رأسه التراب ويقول: يا ويلتا! لأنه قد اجتهد في إضلال الناس، فمنهم من بلغ عمره عشرين ثلاثين خمسين ستين سبعين ثمانين سنةً، وهو يجلب عليه بخيله ورجله، ويحتنكه ويقوده، ويفعل ما شاء فيه، فإذا كان يوم عرفات تنزل الله سبحانه وتعالى وتجلى لأهل الموقف وقال لهم: (أفيضوا مغفوراً لكم) ، إذاً: كل تعبه مع هذا الإنسان الذي بلغ عمره ثمانين أو تسعين سنةً ذهب وانتهى في عصرية، أو في عشية، إذاً: سيكون في تلك الحالة أشد ما يكون أسفاً على ما كان من عمله سابقاً، وحينما يأتي الحاج إلى رمي الجمار يقول: (إرغاماً للشيطان) ، أي: على ما أصابه في يوم عرفة يكون الرمي، زيادة في إذلاله واحتقاره وإصغاره.
(وإرضاءً للرحمان) لأن الإنسان ما خرج من بلده وترك أهله وولده وماله وتحمل مشاق الحل والترحال إلا ابتغاء وجه الله، كما جاء في حديث المباهاة: (إذا كانت عشية يوم عرفة ينزل ربنا إلى سماء الدنيا، فيباهي بأهل الموقف ملائكة السماء، يقول: يا ملائكتي! هؤلاء عبادي جاءوا شعثاً غبراً ماذا يريدون؟ فتقول الملائكة: يا رب! أنت أعلم بما جاءوا إليه، جاءوا يرجون رحمتك ويخشون عذابك) ، إذاً: يقول: (إرضاءً للرحمان) ؛ لأنه جاء يرجو رحمة الله، فمن هنا حينما يتخلص الحاج من تلك الأثقال التي حملها عليه الشيطان، فإنه يطلق من قيوده، ويفك من احتناكه، ويصبح طليقاً قوياً سوياً، فيأتي إلى الشيطان وكأنه يقول له: هاه! قد جلبت علي تلك السنوات كلها وأنا عاجز أمامك، وأما الآن فقد تقويت؛ لأن ما أثقلتني به قد ذهب عني، وما كبلتني به من القيود قد انطلقت منها، وهأنذا أبدؤك بالحرب، (باسم الله، الله أكبر، إرغاماً للشيطان وإرضاءً للرحمان) .
إذاً: رمي الجمار ليس الغرض منه ضرب الشيطان، كما يظن بعض الجهال أنه يضرب الشيطان أمامه، فالشيطان لن يقعد له حتى يرميه! ولا حتى يضربه! ولذا ترى أحدهم يأتي بحجارة أو يأتي بنعل أو يأتي بمظلة ويرمي بها، ولا يدري أن الشيطان يضحك عليه بهذا العمل، إنما الرمي هو كما قال صلى الله عليه وسلم: (بحصاة كحصى الخذف) فيرمي على هذه الوجهة، وبهذا المقصد، وهو يستشعر رحمة الله وفضله عليه، ونعمته عليه بهذا الموقف.(180/7)
مشروعية الإكثار من الدعاء عقب رمي الجمرات
قوله: (ثم يسهل) لأن المكان هناك في حافة الوادي إلى جهة الميمنة عال، وإلى جهة الميسرة مجرى الوادي، فيسهل ثم يتقدم، أي: بعيداً عن الزحام وعن حلقة الرمي (ويستقبل القبلة، ويدعو طويلاً) يقول بعض العلماء ومنهم شارح الكتاب: جاء عن ابن عمر أنه حدد المدة بين رمي الجمرتين بمقدار ما تُقرأ سورة البقرة؛ لأنه يكثر من الدعاء في هذا المقام.(180/8)
مشروعية رفع اليدين في الدعاء بعد رمي الجمرات
قوله: (ويرفع يديه) وقضية رفع اليدين في الدعاء في الآونة الأخيرة أثارت المشاكل بين العامة وطلاب العلم، ونرى بعض الناس يعيبون على من يرفع يديه في الدعاء، ويقولون: رفع اليدين في الدعاء ما جاء إلا في مواضع مستقلة، كالاستسقاء وعند رؤية البيت، وفي عرفات وما عدا ذلك لا ترفع فيه اليدان، وبهذه المناسبة فإن النووي رحمه الله ذكر بعض مواطن رفع اليدين في الدعاء، ثم قال: (ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه رفع يديه في الدعاء في أكثر من ثلاثين موضعاً، ومن ظن أن رفع اليدين قاصر على هذه الثلاثين فهو أجهل من كذا) .
إذاً: القاعدة العامة هي رفع اليدين في الدعاء، وقد استدل بعض العلماء على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليستحي من عبده أن يمد إليه يديه فيردهما صفراً) يستحي الله من العبد أن يمد يديه إليه يسأله حاجته أن يردهما صفراً أي: بدون شيء، وإنما يضع له شيئاً فيها، وهذا عام في كل دعاء، وجاء في الحديث الآخر: (وذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام ومشربه حرام، فأنى يستجاب له) فما ذكر صلى الله عليه وسلم نوعاً من الدعاء، وإنما قال: (الرجل يطيل السفر) أي: أن الدعاء يكون على أي حالة من الحالات.
إذاً: القاعدة والأصل في الدعاء أن يرفع الإنسان يديه إلى الله سبحانه وتعالى، وهنا في هذا الموضع نص على أنه يرفع يديه في الدعاء عقب رمي الجمرة الأولى والوسطى، وأما جمرة ذات العقبة فليس فيها دعاء ولا وقوف، وعلى هذا لا يكون فيها رفع، إذاً: نستصحب الأصل في التشريع وهو أن كل دعاء يجوز رفع اليدين فيه، وأما الذين يحددون الرفع بشيء معين فإنهم يحتاجون إلى نص على إثبات ذلك، وإلى نص بالنفي لما سواها، والنووي يقول: (رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه في ثلاثين موضعاً، ومن ظن أن رفع اليدين قاصر على هذه الثلاثين فهو أجهل من كذا) .
إذاً: ننصح أنفسنا أولاً، والإخوة الذين يقولون: نتحرى الوارد في السنة أن لا يشددوا على أنفسهم، ولا يشددوا على الناس، ولا يمنعوا الجائز؛ لأن رفع اليدين في الدعاء هو الأصل.
قوله: (ثم يأتي إلى الوسطى كذلك فيرميها بسبع حصيات يكبر عقب كل حصاة، ثم يسهل، ثم يستقبل القبلة، ثم يدعو طويلاً ويرفع يديه، ثم يأتي إلى ذات العقبة) ذات بمعنى صاحبة، وجمرة العقبة مضاف ومضاف إليه، والإضافة تقتضي التمليك أو التخصيص، والتمليك يكون فيمن يصح تمليكه، كما تقول: كتاب زيد، والتخصيص يكون فيما لا يصح تمليكه، كما تقول: باب الدار، فالباب مختص بالدار، وجمرة العقبة أي: ذات العقبة، فإن الحاج يرميها من بطن الوادي ويذهب ولا يقف عندها.
ولماذا لا يقف ولا يدعو؟ الجواب: أشرنا فيما تقدم إلى أن المكان عندها كان ضيقاً، وأنها كانت ترمى من جهة واحدة، وأن العقبة كانت تمنع الرمي من بقية الجهات.
ثم قال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل) ومع كونه يقول: رأيته يفعل، نضيف إليها قوله صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني مناسككم) وبالله تعالى التوفيق.(180/9)
مسألة في مشروعية رفع اليدين عند الدعاء على الإطلاق
ورفع اليدين كثر الكلام فيه، وحصل فيه النقاش والإساءة في المفاهمة بين الإخوان، وقد سمعت أن بعض الإخوان المنتسبين إلى طلبة العلم يقول: بعض الناس عند الدعاء يخشع ويبكي، وإذا سمع القرآن لا يتأثر، فنقول: هذا ليس بصحيح، بل القرآن أشد تأثيراً، كما قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23] ، لكن يا إخوان! لما قام الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر في العريش، هل قام يقرأ: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ.
} [البقرة:1-2] ، وهل قام يقرأ: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس:1-2] هل قام يقرأ كتاب الله أو قام يلتجئ ويتضرع إلى الله بالدعاء ويقول: (اللهم! أنجز لي ما وعدت، اللهم! إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض بعد) ؟ الجواب: كان اجتهاده في الدعاء، وكان رافعاً يديه مبالغاً في رفعهما، حتى إن رداءه كان يسقط من على كتفيه، فيقوم أبو بكر ويرد عليه الرداء ويقول: حنانيك يا رسول الله! بعض ذلك يكفي، إن الله منجز لك ما وعد، فاستكثر أبو بكر هذا، وأشفق على الرسول صلى الله عليه وسلم.
إذاً: كل موطن له حالته، ولكل مقام مقال، ونحن حينما نقرأ القرآن الكريم إذا جئنا إلى قصة موسى عليه السلام مع فرعون ووو فما هو الذي سيخشِّع ويبكِّي؟! فهو سرد تاريخي لقصة رسول مع عدوه، وأمثال هذا، لكن حينما تأتي الآيات التي فيها رقائق، والتي فيها وعد ووعيد، فهذا هو الذي يحرك الشعور ويحرك العاطفة، وربما تذرف منه العين، فقد جاء أن ابن مسعود قرأ على النبي من سورة النساء حتى بلغ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] ، فقال له: أمسك، وذرفت عيناه؛ لأنه تذكر ذلك الموقف، وتذكر تلك الحالة، التي قال الله عنها: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} [عبس:34-35] وقال سبحانه: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} [الحج:2] ، إذاً: البكاء يكون في مواطن، وليس في كل حالة.
والدعاء عبادة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الدعاء مخ العبادة) وقال: (الدعاء هو العبادة) قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:60] فقال: (عن عبادتي) ولم يقل: عن دعائي، مع أن المذكور في أول الآية هو الدعاء، ولكن الله سبحانه وتعالى في هذا الأسلوب وضع العبادة موضع الدعاء ليبين أن العبادة والدعاء متساويان.
ومثل هذا قوله سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ} [آل عمران:97] ولم يقل: (ومن لم يحج) وإنما قال: (ومن كفر) إذاً: من لم يحج وهو مستطيع تساوي: من كفر.
وعلى هذا يا إخوان! فإن الواجب على الإنسان أن يكون في حالة دعائه إلى ربه حاضر القلب، خاشعاً، متذللاً، ضارعاً إلى الله كما فعل صلى الله عليه وسلم عند الملتزم، فنظر إليه عمر فإذا به يبكي، فقال: (أتبكي يا رسول الله؟! قال: نعم يا عمر! هاهنا تسكب العبرات) وهل كل مكان مثل الملتزم الذي عند باب الكعبة؟ الجواب: لا، ليس كل مكان مثله.
إذاً: الدعاء له أوقاته، ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد، فاجتهدوا في الدعاء) ولهذا يحرم عليك أن تقرأ القرآن وأنت ساجد، وإنما تدعو وتجتهد في الدعاء.
والله تعالى أعلم.(180/10)
الحلق في النسك أفضل من التقصير
قال المؤلف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم! ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله! قال في الثالثة: والمقصرين) متفق عليه] .
فهذا الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة للمحلقين، والمحلقون هم: الذين حلقوا شعور رءوسهم عند التحلل، والمقصرون هم: الذين قصروا بالمقص أو بالمكينة التي حدثت الآن، ولم يحلقوا بالموسى، والله سبحانه وتعالى ذكر الأمرين فقال: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح:27] فنص على الأمرين، إذاً: كلا الأمرين مجزئ، ولكن تقديم الحلق في قوله تعالى: (مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) يدل على أن الأفضل هو الحلق، وهنا كون المسألة فيها أفضلية يدل على أنها متقاربة، ودل على الأفضلية أنه صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين مرتين، وهم يسألونه: يا رسول الله! والمقصرين، يعني: وادع للمقصرين، وهو يعرض عنهم ويقول: اللهم! ارحم المحلقين، وفي الثالثة قال: والمقصرين.
ومتى كان هذا الدعاء؟ الجواب: يختلف العلماء في وقته، فمنهم من يقول: كان في صلح الحديبية، ومنهم من يقول: كان في حجة الوداع، والنووي وغيره يرجح أنه كان في حجة الوداع، ولكن الذي يظهر أنه كان في عمرة الحديبية، وذلك أنهم سألوا: ما بال المحلقين يا رسول الله؟! -يعني: دعوت لهم ثلاث مرات أو مرتين- قال: (لم يشكوا في أي شيء) أي: عند أن أمرهم بالتحلل في عمرة الحديبية، فإنه لما منع المشركون المسلمين من أن يأتوا إلى البيت، وأن يطوفوا ويسعوا ويكملوا العمرة على وجهها، تم الصلح معهم وكتبت الصحيفة، وكان في الصلح خير كثير جداً، وقد سمى الله عمرة الحديبية فتحاً، وأنزل فيها سورة الفتح، فقال عمر: (أفتح هي يا رسول الله؟! قال: نعم، هي فتح) وقال صلى الله عليه وسلم فيها: (والله! ما يطلبون مني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أجبتهم إليها) أي: مطلقاً، فانتزع الله -بفضله- من المشركين اعترافاً بالكيان الإسلامي، بينما الرسول سبق له وأن خرج من مكة مختفياً في الغار ليلاً، لكن وبعد ست سنوات يأتي إلى مكة بجيش، ويأتي معتمراً ويدخل عليهم عنوة، فجلسوا مع النبي صلى الله عليه وسلم على مائدة المفاوضات، وهذه الجلسة على المفاوضة، وتوقيع المسلمين وتوقيع سهيل بن عمرو على الصحيفة يساوي اعترافاً من المشركين بالكيان الإسلامي الذي فاوضوه، يعني: أنهم اعترفوا بالأمة الإسلامية، وهذا يعد فتحاً عظيماً.
لما تم ذلك الصلح قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: تحللوا، وانحروا الهدي، واحلقوا شعوركم: أي: أن العمرة قد انتهت، ولكن بعضهم قال: كيف انتهت ونحن لم نر الكعبة؟!! وكيف انتهت ونحن ما طفنا ولا سعينا؟!! لأن لهم مقاييس وللرسول صلى الله عليه وسلم مقاييس أخرى، فتوانوا عن التحلل، فغضب صلى الله عليه وسلم، ودخل على زوجه أم سلمة، فقالت: ما لي أراك غاضباً، أغضب الله من أغضبك؟ قال: وما لي لا أغضب وأنا آمر الأمر فلا يؤتمر به، قالت: وما ذاك؟ قال: تصالحنا مع القوم، وانتهت العمرة، وأمرتهم أن ينحروا ويتحللوا فلم يتحلل أحد قالت -انظر الحكمة والروية والعقل-: أتحب أن يفعلوا ذلك؟ قال: نعم، قالت: لا عليك، خذ المدية، واخرج على الناس ولا تكلمن أحداً، واعمد إلى هديك فانحره، ثم ادع الحلاق واحلق شعرك، ثم الزم خيمتك، فإذا به صلى الله عليه وسلم قد وجد حلاً عملياً يقطع على أولئك المتوانين مطامع الرجاء في حل آخر؛ لأنه إذا كان الرسول قد نحر وحلق، فما هو الذي بأيديهم بعد هذا، فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نحر هديه بادروا إلى نحر هديهم، ودعوا الحلاق وكادوا يقتتلون على الحلاقة، وانتهت القضية، وفي هذا الظرف منهم من حلق، ومنهم من قصر، والذي حلق والذي قصر كلاهما امتثل، وكلاهما تحلل، ولكن الذي حلق شعره كان حلقه على يقين بالأمر (مائة في المائة) ، وأما الذي قصر فكأنه تحلل وهو يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، وليس هو على الثقة وعلى اليقين الذي عليه الذي حلق شعره؛ لأن الذي حلق شعره متيقن وليس عنده شك.
إذاً: الأولى ترجيح أن ذلك الدعاء كان في عمرة الحديبية.(180/11)
حلق النبي صلى الله عليه وسلم شعره في حجة الوداع وبعض ما يتعلق بذلك
والرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع لما نحر بعض الهدي وأناب علياً في نحر الباقي، ودعا الحلاق ناوله أولاً الشق الأيمن فحلقه، ثم قال: خذ هذا الشعر وقسمه على الناس -على الحاضرين- ثم ناوله الشق الأيسر فحلقه، فقال: خذه أنت، وهنا بعض الناس قد يفكر ويسأل: لماذا يقسم الشعر عليهم؟ الجواب: لأن هناك مصلحتين: المصلحة الأولى: إكرام شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقى على الأرض؛ لأنه إذا ما حصل إنسان على شعرات منه فإنه سيطويها ويحتفظ بها في أعز مكان عنده، وقد كان السلف رضوان الله عليهم من حصل على شيء من شعرات رسول الله يحتفظ بها، فـ خالد بن الوليد كان في قلنسوته التي يضعها على رأسه شعرات من شعر رسول الله، وأم سلمة كان عندها شعرات وضعتها في جلجل فضة، وكانت إذا جاء المحموم إليها ماصتها في الماء وسقته إياه فيعافيه الله، هذه مصلحة أولى وهي إكرام شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهان ويلقى على الأرض.
المصلحة الثانية: التبرك، فقد كانوا يتبركون ببصاقه ومخاطه صلى الله عليه وسلم كما جاء في صلح الحديبية حينما قال عروة بن مسعود الثقفي: (والله! لقد دخلت على كسرى في ملكه وقيصر في ملكه، فما رأيت قوماً يعظمون ملكهم كتعظيم أصحاب محمد لمحمد، والله! ما تفل تفالة ولا تنخم نخامة إلا سقطت في كف أحدهم يدلك بها وجهه، ولا توضأ وضوءاً إلا اقتتلوا على مائه ليتمسحوا به) وأم أيمن لما شربت بوله صلى الله عليه وسلم، قال لها: (لا توجعك بطنك أبداً) ، وابن الزبير لما قال له صلى الله عليه وسلم: (خذ هذا -أي: دم الحجامة- وغيبه عن الناس في مكان لا يراه أحد، فذهب بعيداً وشربه، ولما رجع قال له: ماذا فعلت؟ قال: شربته، قال: ويل للناس منك، وويل لك من الناس) أي: لأثر دم رسول الله الذي في جوفه.
وكانوا يأتون بالأطفال إليه ليحنكهم تلمساً لبركة يده صلى الله عليه وسلم، وأبو قتادة لما خرجت عينه في أحد ردها ومسح عليها بكفه فكانت أحسن عينيه، وأشياء كثيرة في هذا الموضع عملها أصحابها التماساً لبركة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نقول: علم الله أننا لو أدركنا التراب الذي وطئه لاكتحلنا به في أعيننا، ولكن هل يتعدى هذا إلى غيره؟ الجواب: نقول: لا، بل هذا خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأننا لم نجد أصحابه فعلوا ذلك مع غيره، إذاً: هذه الأشياء قاصرة عليه؛ لأنه هو الذي اختص بمثل هذه الأمور.
وبهذا يتبين أن قوله: (اللهم ارحم المحلقين) أي: الدعاء للمحلقين كان في صلح الحديبية.(180/12)
القدر الذي يقصر من الشعر في النسك
وهنا يأتي بحث فقهي: الرسول صلى الله عليه وسلم حلق شعره كله، وبدأ بالشق الأيمن ثم الشق الأيسر، وبإجماع المسلمين أن هذه الصفة هي أكمل الصفات، لكن لو أن إنساناً لم يحلق شعره كله، وأراد أن يقصر فكم يحلق من حجم رأسه، وكم يقصر من طول شعره؟ الجواب: أحمد ومالك يقولان: الواجب تقصير كامل الشعر، فإن حلق فليحلق الجميع، وإن قصر فليقصر الجميع، وأما أبو حنيفة رحمه الله فيقول: يجزئ ربع الرأس حلقاً أو تقصيراً، وهذه المسألة هي مثل المسألة التي تبحث في مسح الرأس عند قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6] فكم يمسح من الرأس في الوضوء؟ فيها خلاف، وهذه المسألة مثلها، والشافعية يقولون: كل ما صدق عليه حلق أو تقصير ولو ثلاث شعرات فإنه يجزئ، والنووي رحمه الله يقول: وقد أفرط بعض منا -أي: من الشافعية- فقال: ولو قصر بعض شعرة لأجزأه، ثم قال: وكيف يأخذ بعض الشعرة، فإنه إذا أخذ من شعره بالمقص فسيأخذ كثيراً، فكيف يتمكن من قص شعرة دون غيرها؟ قالوا: إذا غطى الإنسان رأسه بالحناء، فطلعت شعرة من تحت الحناء وبرزت من فوق فجاء بالمقص وأخذ هذا الجزء البارز من الشعرة من فوق الحناء، فإنه يكون قد أخذ بعضها، قال: وهذا إفراط، أي: أنه لا ينبغي مثل هذا في النسك.
وعلى هذا نجد في المسألة عدة أقوال: فمنهم من قال: يحلق أو يقصر كل الرأس، ومنهم من قال: ربع الرأس، ومنهم من قال: ولو ثلاث شعرات، هذه أقوال الأئمة رحمهم الله، ولا نملك أن نقول شيئاً في ذلك إلا أن السنة هي حلق أو تقصير جميع الرأس.
ثم إذا جئنا إلى حديث بيان فضل الحج: (جئنا نسألك، قال: إن شئتما أخبرتكما.
إلخ، وعن حلقك شعر رأسك فلك بكل شعرة حسنة ووضع سيئة ورفع درجة) إذاً: كتابة حسنة وإسقاط سيئة ورفع درجة كل هذا بشعرة واحدة، ثم بعد هذا نذهب ونأخذ شعرة، أو نأخذ ثلاث شعرات، أو نأخذ ربع الرأس! هذا فيه تفريط، بل لو استطعنا أن نأتي برأس آخر جنب الرأس الأصلي حتى نحلق شعراً أكثر لفعلنا، حتى يزداد الأجر.(180/13)
كيفية حلق رأس الأصلع في النسك
وأما الأصلع فيقولون: الأصلع يمر الموسى على رأسه، وإذا وجد شعر أزاله.
وهنا مسألة عند العلماء: إذا كان المحرم متمتعاً وعنده تحللان: تحلل للعمرة، وتحلل للحج، فهل الأفضل في حقه في تحلل العمرة أن يحلق أو أن يقصر؟ الجواب: بعض الناس إذا كان متمتعاً يحلق البعض ويترك الباقي إلى الحج، وهذا لا يجوز؛ لأن هذا يسمى قزعة الشيطان؛ لأن الإنسان حتى في الأيام العادية إما أن يحلق شعر رأسه كله أو يتركه كله، وأما أن يحلق بعضاً ويترك البعض فهذا يسمى (قزعة الشيطان) .
ويقول بعض العلماء في هذه المسألة: إن كان هناك وقت بين تحلل العمرة وتحلل الحج ينبت فيه الشعر بحيث يستطيع أن يحلقه في الحج فله أن يحلق في العمرة؛ لأنه يمكن أن يوجد الحلق في النسكين، وإذا كان الوقت قريباً، فإذا حلق في العمرة لا يجد ما يحلقه في الحج فيكتفي في العمرة بالتقصير، وإذا كان سيقصر من الشعر فكم يقصر؟ الجواب: يقولون: لا يقل عن قدر أنملة، فإذا كان إنسان عنده شعر طويل -خمسة سم مثلاً- فعليه أن يأخذ منه اثنين سم، ويشمل جميع جوانب الرأس بالقص، كما تقدم.
وأما المرأة فقد جاءت النصوص بأنه لا حلق عليها، وإنما عليها التقصير، وكيف تقصر؟ قالوا: تجمع شعر رأسها في كفها إلى أن يبقى قدر أنملتين أو أنملة وتقص من أطرافه، وعليها أن تعمم بالتقصير جميع الشعر، وبعضهم يتندر ويقول: إذا حلقت المرأة فهل يجزئها ذلك؟ الجواب: نقول: هذه مثلة، والمرأة لا تحلق شعرها، وما كن يحلقن إلا في المصائب، عياذاً بالله! إذاً: المرأة تقصر ولا تحلق.(180/14)
الترتيب في أعمال يوم النحر
قال المؤلف رحمه الله: [وعن عبد الله بن عمر بن العاص رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع، فجعلوا يسألونه، فقال رجل: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح؟ قال: اذبح ولا حرج، وجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي؟ قال: ارم ولا حرج، فما سئل يومئذٍ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج) متفق عليه] .
هذا الحديث من أجمع أحاديث الحج، وأيسرها على الحجاج، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم وقف يوم العيد فأخذوا يسألونه، هذا يقول: يا رسول الله! ما شعرت، يعني: نسياناً وسهواً لا عمداً، حلقت قبل أن أنحر، قال: انحر ولا حرج، والترتيب الطبيعي لأعمال هذا اليوم هي كالآتي: أولها: رمي جمرة العقبة، وثانيها: نحر الهدي، وثالثها: حلق الرأس، ورابعها: طواف الإفاضة.
أما رمي جمرة العقبة فإنها تحية منى، وهذا باتفاق، وأما النحر قبل الحلق فلقوله سبحانه: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة:196] ثم بعد الحلق النزول لطواف الإفاضة، هذا هو الترتيب الطبيعي، فإذا سها إنسان أو جهل وغيّر في هذا الترتيب فلا شيء عليه؛ لأن هذا السائل قال: ما شعرت حلقت قبل أن أنحر -مع أن النحر كان أول- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: افعل ولا حرج، أي: ما دام أن هذا الشيء قد وقع، ونلاحظ أن الأسئلة هنا هي عن أمور قد وقعت بالفعل، وفرق بين كون الشيء وقع فعلاً وبين كونه سيقع، ولم يوجد أحد قال: أنا أريد أن أحلق قبل أن أنحر، وإنما كل من سأل كان يسأل أسئلة عملية واقعية، وما دام أن الأمر قد وقع فهل نرفع الواقع؟ الجواب: لا نرفعه، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن أجاز هذا العمل؛ التماساً لقوله: لم أشعر أي: أنا ناسٍ أو جاهل، فماذا أفعل؟ قال: (افعل ولا حرج) ، إذاً: أجاز المغايرة بين الرمي والحلق فقال: (افعل ولا حرج) ، وكذلك قال آخر: نحرت قبل أن أرمي، فقال له: (ارم ولا حرج) ، ثم يأتي الراوي بقضية وقاعدة عامة فقال: فما سئل عن شيء ذلك اليوم قدم أو أخر إلا قال: (افعل ولا حرج) ، وما هو الذي سيقدم أو يؤخر في ذلك اليوم؟ هو ما ذكرنا: الرمي والنحر والحلق والإفاضة، أيها قدم سهواً أو جهلاً أو نسياناً، فلا حرج في ذلك ولا شيء على من قدم أو أخر.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(180/15)
كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [10]
النساء شقائق الرجال، وكل ما شرع للرجل فهو مشروع للمرأة إلا ما جاء تخصيص المرأة به، ومن الأحكام التي تشمل الرجل والمرأة على حد سواء أحكام الحج، فالحج هو نصيب المرأة من الجهاد، وكل ما شرع للرجل في الحج فهو للمرأة كذلك إلا ما جاء استثناؤها فيه كاللباس والاضطباع والرمل والإسراع بين الصفا والمروة والحلق ونحو ذلك مما ينافي حشمة المرأة ووقارها وخلقتها التي خلقها الله عليها.(181/1)
النحر في النسك قبل الحلق
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن المسور بن مخرمة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر قبل أن يحلق، وأمر أصحابه بذلك) رواه البخاري] .
يسوق المؤلف رحمه الله حديث المسور بن مخرمة رضي الله تعالى عنه وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر قبل أن يحلق وأمر أصحابه بذلك) وكون النبي صلى الله عليه وسلم نحر ثم حلق هل هذا الفعل المخبر عنه والذي أمر به الصحابة كان في صلح الحديبية أو كان في حجة الوداع؟ فيه خلاف، وأكثر العلماء على أن ذلك كان في صلح الحديبية.
وقد تقدم التنبيه على أن ترتيب أعمال يوم العيد تكون كالآتي: الرمي فالنحر فالحلق فالإفاضة، وما سئل صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم عن شيء قدم أو أخر إلا وقال: (افعل ولا حرج) فإذا كان الأمر كذلك وأنه ما سئل عن شيء قدم أو أخر إلا قال: (افعل ولا حرج) ، فلماذا يأتي المؤلف بعد ذلك بهذا الحديث الذي فيه: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم نحر قبل أن يحلق، وأمر أصحابه بذلك) ؟ فإن كونه فعل هذا الفعل المرتب وأمر أصحابه به يغاير قوله: (افعل ولا حرج) ؛ لأنه هناك قدم هذا وأخر ذاك، وأخر هذا وقدم ذاك فقال لكل من سأله: (افعل ولا حرج) ، وظاهر هذا وجوب الترتيب، وهنا: فعل وأمر فكيف يكون الجمع بين الحديثين؟ الجواب: يقول العلماء: إن هذا الترتيب وهو تقديم النحر على الحلق كان في صلح الحديبية، وهذا شأن المحصر عن الحج، وسيأتي للمؤلف: (باب الإحصار) ، والإحصار هو: المنع، وسواء كان الإحصار بعدو أو كان بمرض، على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله، فيقول العلماء: إن قوله: (افعل ولا حرج) هذا في الحج، حينما يقع النسيان أو السهو أو الجهالة، أما في الإحصار فيتعين أن ينحر أولاً ثم يحلق ثانياً، وليس فيه: (افعل ولا حرج) .
إذاً: سوق المؤلف لهذا الحديث الذي فيه الترتيب في تقديم النحر وتأخير الحلق مغاير لما تقدم من قوله: (افعل ولا حرج) فقال العلماء: الجمع بين هذا وذاك: أن (افعل ولا حرج) مع العذر بالنسيان أو الجهالة هذا في الحج، وأما الترتيب فيكون في حالة الإحصار، والله تعالى أعلم.
وقد قدمنا قضية الدعاء للمحلقين عند قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم! ارحم المحلقين -ثلاثاً-) وبينا أن ذلك اختلف فيه أيضاً: هل كان ذلك الدعاء في صلح الحديبية أو كان في حجة الوداع؟ وبينا أنه في صلح الحديبية، وأن السبب في ذلك والمرجح لكونه في صلح الحديبية أنه أمرهم فتوانوا في العمل، فدخل خيمته وهو مغضب، فقالت له أم المؤمنين أم سلمة رضي الله تعالى عنها: (لا عليك، خذ المدية واخرج ولا تكلمن أحداً، واعمد إلى هديك فانحره، ثم ادع الحلاق فاحلق) يعني: أنه نحر أولاً، ثم حلق ثانياً، ثم أمر أصحابه بذلك.
إذاً: هذا الحديث إنما يتعلق بحالة الإحصار، والإحصار سيأتي له باب مستقل.(181/2)
التحلل من الإحرام
قال المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا رميتم وحلقتم فقد حلّ لكم الطيب وكل شيء إلا النساء) رواه أحمد وأبو داود وفي إسناده ضعف] .(181/3)
متى يكون التحلل كاملاً ومتى يكون ناقصاً؟
هذا الحديث يبين لنا متى يتحلل المحرم من إحرامه، يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب وكل شيء إلا النساء) يقول الفقهاء: التحلل الكامل يكون بفعل ثلاثة أشياء، والتحلل الناقص -أي: التحلل الأصغر كما يسمونه- يكون بفعل اثنين من ثلاثة، وهذه الثلاثة هي: الرمي والحلق والطواف، فهذه الأمور الثلاثة إذا فعلها الإنسان في يوم النحر ولو أخر النحر؛ لأن أيام التشريق كلها أيام نحر، فإذا رمى الجمرة، وحلق شعره، وطاف بالبيت فقد تحلل التحلل كله، وحلّ له ما كان ممنوعاً عليه بالإحرام وجميع ما كان محظوراً عليه، وهذا التحلل لا يشمل الصيد بمكة؛ لأن تحريم صيد مكة هو لحرمة مكة سواءً كان حاجاً أو غير حاج، وأما الصيد في الخلاء فتحريمه خاص بالمحرم، فلو خرج الإنسان إلى خارج حدود مكة ولم يكن محرماً وصاد فلا شيء عليه.
إذاً: التحلل الأكبر من كل شيء يكون بفعل ثلاثة أشياء، والتحلل الأصغر بفعل اثنين من هذه الثلاثة.
وهنا ذكر الرمي والحلق، فلو أنه رمى ولم يحلق ونزل إلى مكة وطاف طواف الإفاضة فكذلك حلّ له ما جاء في هذا الحديث: (كل شيء إلا النساء) وهنا في هذا الحديث ذكر الطيب، وهذا يؤيد حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين يحرم، ولإحلاله حينما يحل) ، قالوا: كيف تطيبه وهو لم يكتمل له التحلل الأكبر؟! لأن كثيراً من الفقهاء يلحق الطيب بالنساء؛ لأن الطيب من شأنه أن يثير الغريزة إلى النساء؟ فقالوا: منع المحرم من الطيب حتى لا تكون هناك عوامل إثارة، وإلا فإن الطيب شيء طيب، ومقبول للنفس، لكن لما كان له هذا الأثر، والمحرم محرم عليه النساء فكان تحريمه سداً للذريعة ومنعاً للإثارة، ولكن هنا يقول صلى الله عليه وسلم: (فقد حلّ له الطيب وكل شيء إلا النساء) .
إذاً: لا يحق للمحرم أن يمس النساء إلا إذا تحلل التحلل الأكبر وفعل الأمور الثلاثة، وعلى هذا إن فعل اثنين من ثلاثة فقد تحلل التحلل الأصغر، وإن فعل الثلاثة كاملة فهو التحلل الأكبر، وأما الحديث الذي عند أبي داود وفيه: (من لم يطف ذلك اليوم رجع كما كان) فهذا الحديث يرد عليه؛ لأنه إذا رمى وحلق فقد حل له كل شيء إلا النساء، ولم يحدد هذا التحلل بزمن من الأزمنة سواءً طاف في ذلك اليوم أو لم يطف، فإذا رمى وحلق وأخر الطواف إلى أن ينتهي من أيام منى فلا مانع في ذلك، فإن له أن يرمي ويحلق ويجلس أيام التشريق كلها في منى ولا ينزل إلى مكة، إذا كان يريد أن ينزل ويطوف طواف الإفاضة ويسافر، فهذا يجزئه حتى عن طواف الوداع، وعلى هذا فتأخير طواف الإفاضة لا يمنعه من أن يتحلل التحلل الأصغر، والتحلل الأصغر هنا سيتحقق في لبس الثياب، ومس الطيب، وتقليم الأظافر، وأما ما عدا ذلك كأمر النساء فهو ممنوع منه، وكذلك الصيد ممنوع منه في مكة.
والله تعالى أعلم.(181/4)
حكم الحلق والتقصير بالنسبة للمرأة
قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس على النساء حلق، وإنما يقصرن) رواه أبو داود بإسناد حسن] .
تقدمت مباحث الحلق والتقصير، والمفاضلة بينهما، والقدر المجزئ في الحلق أو في التقصير، وهذا بصفة عامة، والمرأة هي شريكة الرجل في الحج، من أول كل شيء فيه إلى آخره، ما عدا ما استثنيت منه كنوعية اللباس والرمل والسعي -أي: الإسراع- فهي لا ترمل ولا تسرع بين الصفا والمروة؛ لأن هذا يخرجها عن وقارها وما يجب الحفاظ عليه من عفتها وسترها، وما عدا ذلك فهي مثل الرجل، إن تمتعت وإن أفردت وإن قرنت بين الحج والعمرة، فعدد طوافها، وعدد سعيها، وعدد حصيات رميها ومقدار الفدية، كل ذلك تستوي فيه مع الرجل، وكذلك في التحلل فإن رمت وقصرت من شعرها فقد تحللت التحلل الأصغر، وإن طافت فقد تحللت التحلل الأكبر، وإذا كان زوجها معها فقد أصبحا معاً حلالاً.
وهنا جاء بهذا الحديث وفيه: أنه ليس على النساء حلق؛ لأن الحلق في حق النساء مثلة، عياذاً بالله! وإنما عليهن التقصير.
إذاً قوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح:27] تنطبق على الرجال (محلقين) وعلى الرجال والنساء (مقصرين) لأن الرجال كذلك يحلقون ويقصرون.(181/5)
مقدار الشعر الذي تأخذه المرأة من رأسها في النسك
قال العلماء: إنها تأخذ من طرف شعرها قدر الأنملة، فلا تذهب تقص نصف الشعر أو أكثر، وإنما مطلق التقصير، قالوا: بقدر الأنملة من أطراف شعر رأسها، فإذا كانت ذات ظفيرة تأخذ طرف الظفيرة وتقص من طرفها قدر الأنملة، وإذا كانت بغير ظفيرة فتجمع شعرها في كفها وتأخذ قدر الأنملة من أطرافه، وأما الحلق فلا يجوز لها.
وقد أشرنا إلى أن بعض العلماء يورد نقاشاً في هذا ويقول: لو حلقت المرأة مثل الرجل فهل هذا يجزئها؟ الجواب: لا يجوز لها الحلق، فإذا تجاوزت وفعلت فأنا أقول: إنها تكون آثمة؛ لأن هذا بالنسبة للمرأة مثلة ولا يجوز ذلك.(181/6)
الإذن بالمبيت في مكة ليالي منى لأهل السقاية
قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما (أن العباس بن عبد المطلب استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيت في مكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له) متفق عليه] .
السقاية كانت من خصائص العباس، والرفادة كانت خصائص تختص بها بعض قبائل قريش، فكان العباس رضي الله تعالى عنه من أصحاب السقاية، والسقاية هي: أنهم كانوا يجمعون الماء -ماء زمزم- في أحواض كبيرة من الحجر المنحوت، وكانوا يجمعون طوال السنة من الزبيب ومن التمر ما يضعونه في هذا الماء الذي يجعلونه في تلك الأحواض قبل الشرب بزمن -بست ساعات أو بعشر ساعات، أو باثنتي عشرة ساعة، أو بأربع وعشرين ساعة، ما لم يتغير ويصير نبيذاً- وكان هذا يعطي ماء زمزم نوعاً من الحلاوة؛ لأن بعض الناس ربما كان ماء زمزم فيه ملوحة عنده أو فيه ثقل عليه، أو أن هذا نوع من إكرام الحجيج عندهم، فكانوا يتكلفون ذلك، واستمرت سقاية العباس على الماء والتمر والزبيب، وكان بعض المتبرعين الآخرين لهم سقايات تبرعوا بها، وربما وضعوا العسل في الماء، وربما جاءوا باللبن، فسأل رجل الفضل بن العباس وقال: ما بال الناس يضعون في الماء العسل واللبن، وأنتم تضعون التمر والزبيب أمن قلة عندكم أم من بخل؟ فقال: والله! يا ابن أخي! ليس هذا من قلة عندنا ولا من بخل، ولكن أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم مردفاً أسامة بن زيد وقال: (اسقوني، فقال العباس للفضل: اذهب وائت لرسول الله بماء من عند أمك، فقال: اسقوني من هذا الذي يشرب منه الناس، فقال: يا رسول الله! إن هذا يضعون أيديهم فيه وهم كذا -أي: نأتي لك بماء نظيف من عند أم الفضل - فقال: اسقوني مما يشرب منه الناس، فسقاه مما يشرب منه الناس) وجاء في بعض الروايات الأخرى أنه أتى إلى بئر زمزم وقال: (امتحوا، لولا أن يغلبكم الناس لوضعت هذا على عاتقي -يعني: حبل الدلو- ومتحت معكم) ولو فعل هذا لكان كل إنسان يريد أن يفعل مثلما فعل الرسول، وكم هي الدلاء التي ستكفي الناس على هذا؟! فسحبوا له بالدلو وأعطوه الدلو فشرب منه، وهناك جاء أن العباس سقاه مما يشرب الناس من تلك الأحواض.
إذاً: السقاية كانت من زمزم، وكان الأصل فيها للعباس، وكان يحلي ماء زمزم بالزبيب وبالتمر الذي كان يجمعه طوال العام، وكان آخرون ربما وضعوا مع زمزم العسل أو اللبن، أو يسقون اللبن خالصاً في ذلك اليوم، وكل ذلك كانوا يفعلونه إكراماً وتوسعة على الحجيج.
وحينما ينزل الناس لطواف الإفاضة كان بعضهم ربما ينزل في الليل، فكانت السقاية تحتاج إلى عمل مستمر، فإذا بات العباس في منى ربما تعطل عمل السقاية، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل عمل السقاية، فأذن له صلى الله عليه وسلم.
وهنا بحث للعلماء: هل من عمل سقايةً في مكة، مثل أن يأتي بالشراب، كشراب التوت أو شراب المانجو، أو جعل سقايةً كبيرةً ليسقي الناس منها، فهل له ذلك؟ الجواب: قالوا: إنه لا مانع من ذلك، فإذا وسع الله على إنسان وأخذ برميلاً كبيراً ووضعه في مكة حول زمزم، وكلما ينتهي برميل يأتي ببرميل آخر فيجوز له ذلك.
ونحن نرى الآن أنهم يوزعون الخبز ويوزعون الماء ويوزعون أشياء كثيرة، فلو أن إنساناً فعل ذلك خدمة للحجاج، أيحق له أن يستأذن في المبيت بمكة ليالي منى؟ وهل يؤذن له؟ وإذا بات بمكة تلك الليالي فهل يسقط عنه وجوب المبيت؟ الجواب: هناك من يقول: لا مانع قياساً على العباس، وهناك من يقول: لا يجوز؛ لأن هذه كانت وراثةً اختص بها العباس، وليس لأحد أن يستأذن بعد ذلك، ولكن أعتقد أن في هذا تحجيراً، وقد أشرنا إلى أنه يجوز لكل من كان له عمل في خدمة الحجاج بصفة عامة، كالطبيب الذي يعمل في المستشفى في مكة، أو الفران الذي يخبز الخبز في مكة ويهيئه ويرسله إلى أهل منى، أو من نزل بمكة كأصحاب الكهرباء، وأصحاب المياه، والطوارئ، والأعمال العامة التي يحتاجها الحجاج في مكة، فلو أن صاحب هذا العمل ترخص وبات بمكة من أجل العمل الذي يخص الحجاج فنقول له: لا بأس؛ لأنها خدمة عامة، ولم ينزل لخدمته الخاصة.
ويقولون: إن ابن عمر استأذنه رجل من أجل مال له بمكة؛ لأنهم كانوا يأتون للحج وللتجارة أيضاً، وكانت المزدلفة سوقاً، وكان هناك سوق عكاظ ومجنة، وكانوا يأتون من الشحر وعمان ومن غيرهما ليتاجروا، وكل هذه كانت أسواقاً للعرب، وإلى عهد قريب كان في منى شارع اسمه (سوق العرب) وهذه الأسواق كانت في الجاهلية، وكانوا يأتون بتجارات إلى الحج، فرجل قال لـ ابن عمر: أنا عندي مال بمكة، قال له: السنة المبيت بمنى، ولم يأذن له، فهنا نقول: لم يأذن له لإنها مصلحة خاصة به في تجارته، وأما إذا كانت في خدمة الحجاج فلا بأس في ذلك، والله تعالى أعلم.(181/7)
الإذن بالمبيت خارج منى ليالي منى لرعاة الإبل
قال المؤلف رحمه الله: [وعن عاصم بن عدي (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى، يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين، ثم يرمون يوم النفر) رواه الخمسة، وصححه الترمذي وابن حبان] .
نحن نعلم جميعاً أن الوسيلة الخاصة التي كانت للنقل هي الإبل، حتى الخيل لم تكن تصلح للأسفار؛ لأن الخيل نفسها ومداها قريب، وأما الإبل فمعها سقاؤها وخزانها في جوفها، ويمكن أن تصبر عن الماء أربعة أيام؛ لأنها تحمل ماءها في جوفها، وخالد بن الوليد لما قطع المفازة من العراق إلى الشام، أخذ بعض الإبل العجاف وعطشها ثلاثة أيام، ورواها بالماء، ثم ربط على أفواهها حتى لا تجتر، وكانوا في المفازة إذا احتاجوا الماء نحروا تلك الإبل العجاف، وأخذوا الماء الذي في جوفها وسقوا به الإبل والخيل الأخرى، يفعلون هذا لعدم وجود ماء في المفازة، ثم يأكلون لحمها، فالإبل كما يقولون: (سفينة الصحراء) فهؤلاء الحجاج كم من الإبل التي يأتون بها إلى الحج؟ كل واحد على بعير، أو كل اثنين على بعير، فضلاً عن أن تحمل بعضها الضعائن في هوادجها، فإذا حصل هذا العدد الكثير من الإبل، وكل إبل عليه هودج، فأين المساحة التي تأخذ هذا العدد كله؟ فهي تحتاج إلى حيز، ولذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم من أجل أن لا تزدحم منى بالإبل وهوادجها، قال للرعاة: خذوها واذهبوا بها بعيداً عن منازل الناس؛ وهذا لمصلحتين: الأولى: أن الإبل تجد في الخلاء مرعىً ترعاه، الثانية: أن منى يخف الزحام فيها من الإبل ومن حمولاتها، كما يعملون الآن من حجز السيارات الصغيرة لئلا تزحم الناس في منى، وحتى يخففوا كثيراً من الأزمة، إذاً: هذا تنظيم من النبي صلى الله عليه وسلم -كما يقال- لحركة المرور، من أجل كثافة السكان، ولكن الذي يهمنا: أن هؤلاء الرعاة كانوا رعاة وكانوا محرمين، لأنهم يرمون، والذي يرمي معنى ذلك أنه حاج، إذاً: لا مانع من كون الحاج يزاول عملاً، سواءً كان رعاية الإبل، وسواءً كانت قيادة السيارة، وسواءً كانت قيادة الطائرة، أو أي عمل يزاوله فلا مانع من ذلك، وكذلك له أن يبيع ويشتري ويصنع، وإذا كان الحجاج يأتون بهذه الأعداد الهائلة من الإبل فهم أصناف شتى، فمنهم من يصنع طعامه، ومنهم من هو كسلان أو تعبان لا يقدر أن يعمل طعاماً فإذا وجد من يبيع الطعام في القافلة فسيشتري؛ لأنه لا مانع من أن يحرم للحج وأن يعمل في سفره وفي طريقه إلى الحج، قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198] .
وإنما الخلاف فيما إذا كان إنما حج ليتجر، أو اتجر ليحج، فإذا كان اتجر ليحج أي: ليربح ويستعين بربح تجارته على مصاريف الحج فلا مانع في ذلك، وأما إذا حج من أجل أن يحصل على الربح فقط فهذه ناحية ثانية، إذاً: الرعاة هم عمال يرعون الإبل، ويقودونها وقت السفر، فأذن لهم صلى الله عليه وسلم أن يرحلوا بإبلهم إلى خارج منى؛ لترعى من عشب الأرض ونباتها، ولتتسع أرض منى للحجاج.(181/8)
كيفية الرمي عن الأيام الثلاثة لأهل الأعذار الذين يبيتون خارج منى
وأما الترتيب في الرمي فإنهم يرمون جمرة العقبة أول ما يصلوا إلى منى؛ لأنهم سينزلون مع الحجاج من عرفة إلى المزدلفة ومنها إلى منى، ثم يفترقون عن الحجاج بعد رمي جمرة العقبة، فإذا رموا جمرة العقبة مع الناس فحينئذٍ يذهبون، وسيكون أمامهم أول يوم من أيام التشريق الذي هو ثاني أيام العيد، وثاني أيام التشريق الذي هو ثالث أيام العيد، وثالث أيام التشريق الذي هو رابع أيام العيد، فهم يرمون جمرة العقبة في يوم العيد، ثم يذهبون، وفي أول أيام التشريق لا يأتون، ثم يأتون ثالث أيام العيد بأشخاصهم، فيرمون عن اليومين: عن ثاني أيام العيد الذي هو أول أيام التشريق، يرمون الأولى فالوسطى فالكبرى، ثم يرجعون فيرمون عن اليوم الثاني من أيام التشريق الذي هو ثالث أيام العيد الأولى فالوسطى فالكبرى، ثم يرجعون إلى إبلهم ويأتون بها في ثالث أيام التشريق من أجل أن يرحل الحجاج عليها، ويرمون في ثالث أيام التشريق عن اليوم نفسه، يعني: أنهم يغيبون يوم التشريق الأول، ويأتون في يوم التشريق الثاني ليرموا عن أمسهم وعن يومهم الحاضر، ثم يذهبون إلى إبلهم فيبيتون عندها، ومن الغد يأتون بالإبل من أجل رحيل الحجاج ويرمون عن هذا اليوم الأخير، وهذا لمن تأخر في النفر، وأما من كان يريد أن يتعجل فإنه ينزل بإبله في اليوم الثاني ويرمي عن اليوم الأول والثاني، ويتوكل على الله ويذهب.
وهكذا كل من ترخص وكان في الخدمة العامة فإنه يأتي للرمي ويسمح له في عدم المبيت بمنى، وليس عليه فداء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر العباس ولم يأمر الرعاة بأن يكفِّروا أو أن يفدوا أو أن يجبروا عدم مبيتهم بمنى حينما أذن لهم، والله تعالى أعلم.(181/9)
خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في يوم النحر
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر) الحديث.
متفق عليه] .
أبو بَكْرَة أو أبو بَكَرَةَ، هذا الصحابي من أهل الطائف، ولما حاصر النبي صلى الله عليه وسلم أهل الطائف تدلى إليه هذا الصحابي رضي الله عنه، فقيل: جاء بحبل وبَكَرَة ونصبهما على السور ونزل بالحبل مع البَكَرَة، ولهذا يقال له: أبو بَكَرَة، وقيل: كانت بَكْرَة -وهي: أنثى الإبل- واقفةً بجوار السور، فتدلى من على السور على ظهر البكرة ثم نزل إلى الأرض، ومن هنا قيل له: أبو بَكْرَة، وأصبحت هذه كنيته.
قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا يوم النحر) ، يريد المؤلف أن يبين بإيراده هذا الحديث أن الرسول خطب في يوم النحر؛ لأن هناك من الأئمة من يختلفون في عدد خطب الحج التي خطبها صلى الله عليه وسلم، فالمتفق عليها خطبتان: الأولى: أنه خطب في يوم سابع ذي الحجة وبين للحجاج ما يلزمهم عمله في غدهم أي: في يوم التروية، فبين لهم أنهم سيخرجون من الغد (يوم التروية) قبل الزوال إلى منى، وكان يسمى يوم التروية؛ لأنهم كانوا يأتون بالقرب فيملئونها، وقد كانوا قبل هذا اليوم يشربون من الماء الحاضر والقرب فارغة، فإذا جاء هذا اليوم فإنهم من الصباح يضعون القرب في الماء، حتى تلين ثم يملئونها بالماء ويصحبونها معهم في صعودهم إلى منى، فسمي لذلك هذا اليوم يوم التروية، فبين لهم أنهم سيذهبون إلى منى قبل الزوال، ويصلون الفروض الخمسة بمنى، ثم يخرجون من منى صبيحة يوم عرفة بعد طلوع الشمس إلى آخره، هذه أول خطبة.
الخطبة الثانية: خطبة يوم عرفة، وهاتان الخطبتان وقع عليهما الإجماع.
وبعد هذا يأتي الخلاف في خطبتين: خطبة يوم النحر، وخطبة ثاني أيام العيد الذي هو أول أيام التشريق، فهاتان حصل فيهما الخلاف، والجمهور على أن الخطبة التي ذكرها أبو بكرة هنا كانت في يوم العيد، وإلى هذا أشار المؤلف، ومنهم من يقول: إنها كانت في ثاني أيام العيد، وهناك من يقول: إنه خطب في اليومين، وهو مذهب الشافعي، وعلى هذا تكون الخطب أربع، أي: أنه خطب في يوم السابع، وفي يوم عرفة، وفي يوم العيد، وفي أول أيام التشريق، وهناك من يقول: الخطب ثلاث، ثم يختلفون في الثالثة هل كانت في يوم العيد، أو في أول أيام التشريق؟ إذاً: الخطب المتفق عليها في الحج هي: خطبة يوم سابع ذي الحجة، وخطبة يوم عرفة، وخطبة أحد اليومين: يوم العيد أو ثاني أيام العيد، فهذه ثلاث متفق على أنه خطبها، وإنما اختلف في موقع الثالثة، ولذا يقول الشافعي: خطب في اليومين يوم العيد وأول أيام التشريق، وعلى هذا فالخطب عند الشافعي أربع، وعند الجمهور ثلاث.
والله تعالى أعلم.(181/10)
خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الرءوس (أول أيام التشريق)
ِقال المؤلف رحمه الله: [وعن سراء بنت نبهان رضي الله عنها قالت: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الرءوس، فقال: أليس هذا أوسط أيام التشريق؟ .
الحديث) رواه أبو داود بإسناد جيد] .
تقدم حديث أبي بكرة: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر) ويوم النحر هو يوم العيد، وهنا تقول سراء: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الرءوس) ومعنى الرءوس: أنهم كانوا في يوم النحر ينحرون الهدي والأضحية، فيأكلون منها لحماً طرياً، وفي الغد يرجعون على الرءوس، فالرءوس كانوا يتركونها في يوم العيد؛ لأنهم ليس لهم بها حاجة، ولما ينتهي لحم الضحايا والهدي يرجعون إلى رءوس ذبائحهم فيأكلونها، فسمي اليوم الثاني من أيام العيد وهو اليوم الأول من أيام التشريق يوم الرءوس.
إذاً: أبو بكرة أثبت خطبة في يوم النحر، وهذه الصحابية أثبتت خطبة في ثاني أيام النحر وهو أول أيام التشريق، إذاً: ثبت عندنا الآن خطبتان: خطبة في يوم النحر، وخطبة في يوم الرءوس، وأما خطبة سابع ذي الحجة، وخطبة يوم عرفة فهما مجمع عليهما عند الجميع، وإنما الخلاف في الخطبة الثالثة هل كانت في يوم العيد أو في أول أيام التشريق؟ وهنا ساق الأمرين، وعلى هذا تكون الخطب أربع.
قوله: (أليس هذا أوسط أيام التشريق؟!) يقولون: الأوسط بمعنى الأفضل؛ لأن هذا هو أول أيام التشريق، أو أن هذا على اعتبار أن يوم العيد من أيام التشريق وأنهم كانوا يشرقون اللحم وينشرونه على الحبال أو على الصخور حتى يجف ثم يأخذونه وهو المسمى بالقديد، إذاً: عينت لنا خطبة في يوم الرءوس، وهو أوسط أيام التشريق، وعلى هذا فهما خطبتان: خطبة في يوم النحر، وخطبة في يوم الرءوس الذي هو أوسط أيام التشريق.(181/11)
ما يلزم القارن من الطواف والسعي
قال المؤلف رحمه الله: [عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك) رواه مسلم] .
هذه المسألة تتعلق بأعمال القارن، ففي أول مجيئه صلى الله عليه وسلم إلى الحج بعد أن سعى بين الصفا والمروة أمر من لم يسق الهدي بالتحلل، فسئل عن ذلك فقال: (دخلت العمرة في الحج هكذا وشبك بين أصابعه) فقالوا: دخول العمرة في الحج أي: أعمالها؛ كإحرامها وطوافها وسعيها وتحللها، فتدخل ضمن أعمال الحج، وقيل: دخلت العمرة في الحج أي: في أشهر الحج التي كانوا يمتنعون أن يعتمروا فيها.
وهنا يتفق العلماء على أن المفرد بالحج والمتمتع بالعمرة إلى الحج أن لعمرتهما أعمالاً مستقلةً لا تشترك مع الحج في شيء، وأن للحج أعمالاً مستقلةً لا تشترك مع العمرة في شيء، فالمتمتع يبدأ بالطواف بالبيت طواف العمرة؛ لأنه ركن فيها، ثم يسعى بين الصفا والمروة وهذا السعي ركن في العمرة، ثم يحلق أو يقصر وبهذا تنتهي عمرته، ويصير حلالاً، فإذا جاء يوم الثامن (يوم التروية) أحرم للحج، وصعد إلى منى، فعرفات فمزدلفة فمنى فالعقبة، ثم نزل وطاف بالبيت، وهو قد طاف بالبيت قبل ولكن للعمرة، وسعى بين الصفا والمروة ولكن للعمرة، وأما هنا فهو يطوف طواف الإفاضة للحج، ويسعى بين الصفا والمروة للحج، ثم يحلق أو يقصر للحج.
إذاً: المتمتع والمفرد كل منهما له عمل مستقل لا يشترك مع الثاني في شيء، وأما القارن فقالوا: إن عمل القارن هو بعينه عمل المفرد، والعمرة تدخل ضمن أعمال الحج، فيأتي المفرد أول ما يأتي بالطواف بالبيت طواف القدوم، وكذلك القارن إن شاء سعى بعد طواف القدوم سعي الحج والعمرة مقدماً، ثم يبقى على إحرامه إلى أن يذهب إلى منى ثم عرفات ثم مزدلفة ثم منى ثم يرمي الجمرة، ثم ينزل إلى البيت ليطوف طواف الإفاضة للحج وللعمرة؛ لأنه ركن، ولا يعيد السعي؛ لأنه قد سعى أولاً بعد طواف القدوم، وسعي العمرة قد دخل مع سعي الحج، ثم يحلق عنهما معاً.
وهنا الأئمة الثلاثة: مالك وأحمد والشافعي وأهل الحديث يقولون: عمل العمرة في القران يدخل في أعمال الحج، فيطوف لهما طوافاً واحداً، ويسعى لهما سعياً واحداً سواءً بعد طواف القدوم أو بعد طواف الإفاضة، يعني: الطواف الذي هو الركن والسعي الذي هو الركن للقارن واحد لا يتكرر.
وأما الإمام أبو حنيفة رحمه الله وبعض الطوائف الأخرى فيقولون: للحج طواف وسعي، وللعمرة طواف وسعي، فإذا كان المحرم قارناً ونزل ليطوف طواف الإفاضة قالوا: يطوف طوافين: واحداً للحج وواحداً للعمرة، ويسعى سعيين: سعياً للحج وسعياً للعمرة، هذا عند الإمام أبي حنيفة رحمه الله، ويستدل على ذلك بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] وإتمام كل منهما يكون بالإتيان بأركانه مكتملة، فإذا اكتفيت بطواف واحد، وبسعي واحد فهذا الواحد لأيهما يكون؟ إن كان للحج فستكون العمرة ناقصة، وإن كان للعمرة فسيكون الحج ناقصاً؟ نقول في الجواب على هذا: إذا كان هذا هو ظاهر نص القرآن الكريم فقد جاء بيانه من رسول الله صلى الله عليه وسلم صريحاً صحيحاً، والسنة تفسر القرآن، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني مناسككم) وهو صلى الله عليه وسلم كان قارناً في حجه، فلم يكرر الطواف، ولا السعي، وإنما اقتصر على طواف واحد، وعلى سعي واحد، وأجزأه ذلك عن حجه وعمرته معاً.
وعائشة لما طلبت منه أن تعتمر عمرة مستقلة، قال لها: تكفيك عمرتك في حجك، ويكفيك طوافك وسعيك عن الحج والعمرة، يعني: أن العمرة قد انتهت بانتهاء الحج، وقد دخلت معه، وقد انتهيت من الاثنين، فقالت: لا، أريد عمرة.
الحديث، والذي يهمنا أنه قال لها: (طوافك بالبيت، وسعيك بين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك) وهل نقول بعد هذا: لابد من طواف خاص وسعي خاص للعمرة؟! أعتقد أن هذا نص صريح في محل النزاع رافع للإشكال.(181/12)
عدم مشروعية الرمل في طواف يعقب سعياً
قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرمل في السبع الذي أفاض فيه) رواه الخمسة إلا الترمذي وصححه الحاكم.
] .
يذكر لنا المؤلف في هذا الحديث حكم طواف الإفاضة، وقد ذكر لنا أنه رمل في طواف القدوم، وهنا في طواف الإفاضة الذي هو ركن هل يرمل أو لا يرمل؟ ذكر لنا حديث ابن عباس وفيه: (أنه لم يرمل صلى الله عليه وسلم في طواف الإفاضة) ، ولماذا لم يرمل؟ لأن الرمل كما يقول الفقهاء: إنما يكون في طوافٍ يعقبه سعي، وهذه قاعدة عامة، والرسول قد سعى قبل عرفات، إذاً: من طاف طواف القدوم وسعى سعي الحج بعد القدوم، وبقي عليه طواف الإفاضة فقط فليس عليه أن يرمل في طواف الإفاضة، وهذه هي السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك طوف الوداع لا رمل فيه، حتى قال بعض الناس: طواف الوداع ليس من الحج، وإنما هو من حق البيت؛ لأن الحج قد انتهى عند رمي الجمار، وعند النزول من منى بدليل أن من حج وجلس في مكة ولم يغادرها، وسكن فيها، فإنه لا وداع عليه؛ لأنه جالس عند البيت.
إذاً: طواف الإفاضة لا رمل فيه لمن سعى قبله، وطواف الوداع لا رمل فيه؛ لأنه خارج عن أعمال الحج، وإنما هو من تتمة تكريم البيت أن يوادعه الإنسان قبل أن يخرج منه.(181/13)
النزول بالأبطح والمبيت فيه ليس من أعمال الحج
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة بالمحصب، ثم ركب إلى البيت فطاف به) رواه البخاري] .
لما انتهى صلى الله عليه وسلم من طواف الإفاضة، ورجع إلى منى أين صلى الظهر؟ اختلف في ذلك، فمن قائل: صلى الظهر بمكة؛ لأنه دخل وقتها وهو فيها، ومن قائل: رجع إلى منى وصلى الظهر فيها، ومن قائل: صلى بمكة حينما دخل الوقت، ثم لما رجع إلى منى وجدهم ينتظرونه فصلى بهم، وعلى كل فقد بقي أيام التشريق كلها في منى ولم يتعجل، وانتهى من منى برمي الجمار، ولما نزل من منى لينصرف إلى المدينة نزل بالأبطح، يقولون: فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالأبطح، وكيف صلى الظهر مع أن وقت الرمي بعد الزوال؟ قالوا: أخر الظهر حتى أتى الأبطح فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ونام، والأبطح كما نعلم هو: في جهة المعلاة، وكان يقال له: خيف بني كنانة.
وهنا سؤال عند العلماء في نزوله بهذا المكان (المحصب) أو (خيف بني كنانة) : هل هذا النزول من مناسك الحج ومن أعماله، أو أن هذا كان أسهل وأيسر للسفر؟ سيأتي عن عائشة أنها لم تكن تنزل فيه، وكانت تقول: إنما نزل بالمحصب ليكون أيسر لدفعه، أي: للسفر؛ لأنه يقع خارج مكة والنزول فيه أيسر من أن ينزل في الزحام داخل مكة، وهناك من يقول: إنما قصد النزول في هذا المكان ليشهد هذا المكان ذكر الله والعبادة والنسك، كما شهد كتابة الصحيفة الظالمة، تلك الصحيفة التي كتبت في مقاطعة بني هاشم، وعلقت بالكعبة؛ فهي إنما كتبت في هذا المكان، فكما شهد هذا الموضع في أوائل البعثة مشهد ظلم وجور بكتابة صحيفة المقاطعة فيه، فليشهد عوضاً عنه مشهد ذكر لله وعبادة إلخ.
إذاً: بات صلى الله عليه وسلم عند خروجه بالأبطح كما بات عند الدخول بذي طوى، فهو عند دخوله مكة بات في أولها، ولما أصبح دخل مكة في النهار، وعند الخروج بات في أول مكة في الأبطح، وذو طوى في أولها من جهة المدينة، والأبطح في أولها من جهة منى، وكان هذا المبيت من باب التيسير، وعائشة رضي الله تعالى عنها لم تكن تفعله بعد ذلك، وعلى ما قدمنا فهل هو جبلي ومصلحة للنفر، أو هو تتمة للنسك؟ القول الأولى أنه كان لمصلحة خاصة بعيدة عن النسك، ولا حرج على الإنسان إذا لم يبت فيه، فإن شاء استراح فيه وبيت، وإن شاء مضى إلى سبيله.
قال المؤلف رحمه الله: [عن عائشة رضي الله عنها أنها لم تكن تفعل ذلك -أي: النزول بالأبطح- وتقول: إنما نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان منزلاً أسمح لخروجه.
رواه مسلم] .
أي: كان مكاناً أسمح وأريح لخروجه من مكة، بدل أن يدخل ويخرج من وسط البيوت.
والله تعالى أعلم.(181/14)
طواف الوداع والتخفيف فيه عن الحائض والنفساء
قال المؤلف رحمه الله: [حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض) متفق عليه] .
قول ابن عباس: (أمر) الآمر هنا والذي يملك الأمر في هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذاً: فالأمر للوجوب، (ولكنه خفف) والتخفيف لا يكون إلا من تكليف (عن الحائض والنفساء) لأن الحائض لا تطوف بالبيت، والنفساء لا تطوف بالبيت، فلا نحبسهما على شيء ليس بأيديهما.
إذاً: طواف الوداع واجب إلا من عذر الحيض أو النفاس، ومن ترك طواف الوداع فماذا عليه؟ جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان يرد من لم يوادع إذا كان قريباً من مكة، ويأمره أن يرجع فيوادع ثم يواصل سفره، وإذا كان قد ابتعد عن مكة تركه، وقد اختلف الأئمة في هذه المسألة، فـ مالك يقول: ليس عليه شيء، والأئمة الثلاثة يقولون: إن تركه قاصداً فعليه دم؛ لقول ابن عباس: (من ترك نسكاً فليرق دماً) .
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(181/15)
كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [11]
المساجد هي بيوت الله عز وجل، ولكنها ليست في المرتبة والفضيلة سواء، فهي تتفاوت من حيث مكانها، ونوعها، ومن قام ببنائها، ولهذا فضل الله عز وجل المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى؛ لأنها في أماكن مقدسة، ولأن من بناها هم أنبياء، ولهذا أجاز الشرع شد الرحال إليها، لفضيلتها ومضاعفة الأجر فيها.(182/1)
فضل الصلاة في المساجد الثلاثة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن الزبير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة) رواه أحمد وصححه ابن حبان] .(182/2)
مناسبة ذكر حديث شد الرحال إلى المساجد الثلاثة في باب صفة الحج ودخول مكة
قدم المؤلف رحمه الله تعالى في هذا الباب صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم من أول خروجه من المدينة إلى أن أنهى الحج، ونزل إلى المحصب، وقد ذكرنا أقوال العلماء فيما يتعلق بذلك، وهل كان من المناسك أو كان إرفاقاً بالمسلمين عند الخروج من مكة.
والباب هنا: باب صفة الحج ودخول مكة.
هذا الحديث الذي يسوقه في نهاية هذا الباب، وقبل أن يأتي بباب أحكام الإحصار بالحج، وماذا يعمل المحصر وماذا عليه؟ والإحصار هو صورة نادرة من صور الحج والعمرة، يأتي المؤلف بهذا الحديث الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) ونحن الآن في صفة الحج، وفي صفة دخول مكة، وهذا الحديث موضوعه المسجد النبوي، فما علاقة إيراد هذا الحديث في بيان فضل الصلاة في المسجد النبوي بأعمال الحج المتعلقة بمكة؟ قد يتساءل الكثير في هذا، ولابد للمؤلف من غرض وراء إتيانه بهذا الحديث الذي يتعلق بالمسجد النبوي في نهاية بيان صفة الحج ودخول مكة، فبعض الناس يقول: إن الإتيان بهذا الحديث هنا يتعلق بموضوع المقارنة بين مكة والمدينة -ولكن ليس في هذا إشارة إلى مكة- وأن فيه تفضيل مكة على المدينة؛ لأن صلاة في المسجد الحرام بمائة ألف، وفي المسجد النبوي بألف، وبعضهم يذكر مع هذا الحديث حديث الروضة الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) ويستدلون بهذا على أن المدينة أفضل من مكة؛ للحديث الآخر: (موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها) ، والشوكاني رحمه الله في (نيل الأوطار على منتقى الأخبار) أتى بأحكام الزيارة للمدينة النبوية عقب مباحث الحج، وقال: لم يذكرها المؤلف هنا، ولكن هذا محلها؛ لأنه جرت عادة الناس أنهم إذا أتوا إلى الحج فإنهم يعرجون على المدينة للزيارة.
فذكر الشوكاني رحمه الله ما يتعلق بفضل الزيارة: من شد الرحل إلى المدينة وإلى المساجد الثلاثة، وفضل الصلاة في مسجد المدينة، وما يتعلق بالروضة وفضل الصلاة فيها إلى غير ذلك.
والأولى أن مظنة إيراد المؤلف هذا الحديث هنا هو كما أشار إليه الشوكاني، وهو أن الناس في الآونة الأخيرة يجمعون بين الحج والزيارة في رحلة واحدة، وهذا هو الذي نشاهده الآن، فقل من يأتي برحلة خاصة للمدينة، ثم يأتي برحلة خاصة للحج أو للعمرة، حتى الذين يأتون برحلة خاصة للمدينة يأتون بها مع العمرة، فيأتون للعمرة في رجب أو في ربيع الأول أو في رمضان ويعتمرون ثم يذهبون إلى المدينة، إذاً: لما كثر من الناس الجمع بين زيارة المدينة وبين الحج أو العمرة ساق المؤلف هذا الحديث هنا ليرغب في الإتيان إلى المسجد النبوي الشريف؛ لما فيه من هذا الفضل في الصلاة.
هذا ما ظهر بالنسبة لإيراد المؤلف لهذا الحديث الشريف هنا والله تعالى أعلم.(182/3)
هل مضاعفة الصلاة في المساجد الثلاثة تشمل النافلة أم أنها خاصة بالفريضة؟
أما موضوع الحديث فيقول صلى الله عليه وسلم: (صلاة) وصلاة هنا نكرة، والنكرة تعم الجنس، أي: جنس الصلاة، فريضةً كانت أو نافلةً، وهذا هو الذي أخذ به الجمهور.
ولكن نقل عن الطحاوي من الأحناف أنه قال: (صلاة) هنا في هذا الموضع تنصرف إلى النوع الأهم، وهو الفريضة، أما النافلة فهو يرى أن إيقاعها في البيت خير من إيقاعها في المسجد النبوي، ولكن لا ينفي أنه إذا أوقعها في المسجد النبوي أن تكون بألف، لكنه يقول: (صلاة) تعم فرضاً ونفلاً في المسجد النبوي بألف، ولكن تخصيص النافلة بالبيت خير منها بألف في المسجد النبوي؛ وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) ويستدل على هذا القول بما صح عنه صلى الله عليه وسلم من استمرار صلاته النافلة في بيته، مع قرب البيت من المسجد، والمتوقع أنه لن يترك الأفضل ويأتي بالمفضول، فلو لم تكن النافلة في البيت أفضل منها في المسجد لصلاها في المسجد فليس هناك كلفة؛ لأن بيته صلى الله عليه وسلم ملاصق للمسجد، ولكن الجمهور حملوا اللفظ على عمومه فقالوا: (صلاة) أياً كان نوعها وأياً كانت صفتها: فريضة رباعية ثنائية ثلاثية نافلة في ليل أو في نهار، فإن صلاة في المسجد النبوي تعدل ألف صلاة أو تفضل ألف صلاة فيما سواه، أي: من عامة المساجد.(182/4)
المفاضلة بين المسجد الحرام والمسجد النبوي
ثم استثنى من عموم المساجد المسجد الحرام، فكأنه يقول: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في عموم المساجد إلا المسجد الحرام وقوله: (إلا المسجد الحرام) قال بعضهم: الصلاة في المسجد النبوي تفضل ألف صلاة في عموم المساجد وتفضل أقل من الألف في المسجد الحرام، وقال غيرهم: بل تفضل ألف صلاة في عموم المساجد، وتقصر عن فضل الصلاة في المسجد الحرام، يعني: هي أفضل من المساجد كلها، وأقل من الصلاة في المسجد الحرام؛ لأن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، وهذا هو الصحيح الذي عليه الجمهور.(182/5)
هل تفضيل الصلاة في المساجد الثلاثة تفضيل وصف أم تفضيل عدد؟
وقوله: (صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة) هل هذه الفضيلة عددية أو وصفية؟ بمعنى هل الألف صلاة المعادلة بصلاة واحدة في المسجد النبوي ممكن أن نوزعها: واحد اثنين إلى ألف، أو هي واحدة، لكنها في النوعية والثواب وفي المعادلة وفي الفضل وفي الخير تساوي ألف صلاة، كما لو اشتريت قلماً بريال واشتريت قلماً بألف ريال، فهو واحد ولكنه يفضل القلم الأول في قيمته وفي نوعيته، فهذا أبو ألف وهذا أبو ريال، إذاً: لن يكتب به ألف كلمة في آن واحد، ولن يستعمل ألف استعمال في وقت واحد؟ الجواب: إنما هو في الفضيلة والنوعية، وعلى هذا لو أن إنساناً عليه خمس فوائت، وصلى في المسجد النبوي صلاة من نوع تلك الفائتة فهي في ذاتها تعدل ألفاً، ولكن لا تسقط عنه شيئاً مما عليه من الفوائت، ولو صلى واحدة من الخمس الفوائت عليه في المسجد النبوي فإن صلاة تلك الفائتة تعدل ألفاً، ولكن لا تجزئ إلا عن واحدة من الخمس، وتبقى الأربع في ذمته.(182/6)
شمول الفضل المذكور في الحديث للتوسعة التي بنيت في المسجد النبوي
وقوله: (صلاة في مسجدي هذا) اختلف كلام العلماء في تحديد (مسجدي هذا) فيرى بعض العلماء أن كلمة (هذا) للتخصيص والتعيين؛ لأنه كما يقولون: (هذا) اسم إشارة يعين المسمى ويحدده، كما تقول: هذا الرجل فلا يتعدى إلى غيره، وكما تقول: هذا الكتاب فلا يتعدى إلى كتاب آخر، فهذا اسم يعين المسمى بالإشارة الحسية، فقالوا: الذي أشير إليه عند التحدث بهذا الحديث هو المسجد الذي كان موجوداً بالفعل عند التحدث بهذا الحديث، يعني: أن كلمة (هذا) أشارت إلى الحاضر، فما تجدد بعد ذلك فهل تشمله كلمة (هذا) التي وقعت في السابق أو لا تشمله؟ البعض كما تقدم يقول: لا تشمله، قال بذلك النووي وغيره، وأخذ بذلك المالكية، وبعض من وافقهم وقالوا: إن قوله: صلاة في مسجدي هذا) يراد به المسجد الذي كان موجوداً وأشير إليه بالإشارة الحسية (هذا) ، إذاً: ما طرأ من زيادات بعد كلمة (هذا) لا يدخل فيما أشير إليه من قبل؛ لأنه لم يكن موجوداً في ذلك الوقت، والجمهور على أن (مسجدي هذا) هو للتخصيص، ولا يمنع من دخول الزيادات؛ لأن الزيادات مهما طرأت لن تخرجها زيادتها عن كونها من مسجد رسول الله، ولكنه أراد بكلمة (هذا) تخصيص المسجد النبوي بالفضل دون بقية المساجد التي كانت موجودة في المدينة آنذاك، فكان هناك مسجد موضع المصلى، وإن كان لم يبن مسجداً، وكانت هناك مساجد في أطراف المدينة، فكان هناك مسجد بني سلمة الذي تحولت فيه القبلة، وكان هناك مسجد قباء، وكانت هناك مساجد يميناً ويساراً، فأراد بكلمة (هذا) يعني: دون بقية المساجد التي توجد في المدينة، وكلها مساجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: قوله (صلاة في مسجدي هذا) هذه الفضيلة الجمهور على أنها عامة تشمل ما كان موجوداً عند الإشارة إليه، وتشمل كل ما زيد فيه وضم إليه، ويستدل الجمهور على هذا التعميم والاتساع ببعض الأحاديث وإن كان في أسانيدها مقال ومنها: (إنه لمسجدي ولو امتد إلى صنعاء) وقد جاء في الأثر الصحيح الموقوف على عمر رضي الله عنه أنه بعد ما وسع المسجد النبوي من الشمال ومن الغرب، رأى أن بعض الناس ربما تساءل أو توقف أو تردد في إيقاع الصلاة في تلك الزيادة العمرية، ويحرص على أن يدخل إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان في حال حياته، فلما لاحظ هذا منهم قال: (والله! إنه لمسجد رسول الله ولو امتد إلى ذي الحليفة) يعني: كل ما تأتي من زيادة فهي من المسجد النبوي، وأكبر زيادة شهدها المسجد النبوي هي في هذه الآونة، ويمكن أنه بعد مائة أو مائتين أو ثلاثمائة سنة أو أكثر أو أقل تحصل زيادة على هذه الزيادة، ولكن مهما بلغت الزيادة فيه فهي لن تبلغ إلى ذي الحليفة، فقول عمر رضي الله عنه: (ولو امتد إلى ذي الحليفة) يعني: إبعاداً للمدى وأنه مهما قدر اتساعه نظرياً فإنه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعلى كل فالمؤلف رحمه الله ساق هذا الحديث هنا ليبين فضيلة الصلاة في المسجد النبوي للقادمين الذين يجمعون بين الحج أو العمرة وبين الزيارة إلى المدينة، وهناك مباحث عديدة في هذا الموضوع منها:(182/7)
تفاوت أجزاء المسجد النبوي في الفضل
هل الصلاة في المسجد النبوي في جميع أجزائه سواء أو تتفاوت؟ كثير من المؤلفين يأتي بحديث الروضة بجانب هذا الحديث، وفعل هذا البخاري ففي باب التهجد والنوافل ذكر فضل المدينة وفضل الصلاة في المسجد النبوي وذكر حديث الروضة، قال ابن حجر عند هذا: (لقد ساق البخاري هذا الحديث: (بألف صلاة) في كتاب التهجد والنوافل ليبين على أن (صلاة) تشمل النافلة والفريضة، وساق أيضاً في فضل الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم حديث الروضة وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) وهذه هي الرواية المشهورة، وقال ابن حجر: جاء عند ابن عساكر وحده) ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة) وهو باطل، ثم ذكر أنه عند البزار برجال ثقات ولفظه أيضاً: (ما بين قبري ومنبري) قال: وجاء عند الطبراني أيضاً ولفظه: (ما بين قبري ومنبري) قال: وهذا على سبيل التأويل، وعلى سبيل المقاربة؛ لأن بيته قد أصبح قبره، ويقول ابن حجر عند قول المؤلف: فضل الصلاة بين القبر والمنبر، وجاء بالحديث: (ما بين بيتي ومنبري) فقال ابن حجر بوب باسم القبر وساق حديث البيت ليبين أن رواية القبر صحيحة، ولأن القبر والبيت سواء، وسبق أن جرت مناقشة في هذا الموضوع وكانت النتيجة أن هذا من باب الإشعار والإيماء والتنبيه لذوي الألباب والنهى، قال ذلك في حياته؛ لأن بعض الناس يقول: كيف يقول: قبري وهو على قيد الحياة فإن هذا لا يمكن أبداً، وهنا الكلام على صحة الرواية، وإذا صحت الرواية في هذا الحديث فيكون قوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين قبري) وهو على قيد الحياة وقوله: (ما بين بيتي) يدل على أن البيت والقبر سواء.
إذاً: ينتبه بهذا من ينتبه إلى أن بيته سيصبح قبره، وأنه سيدفن في بيته ويقبر فيه، ولهذا لما التبس على الصحابة: أين يدفنون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن قائل منهم: نرده إلى مكة، ومن قائل: ندفنه في مقابر المسلمين، ومن قائل: يدفن في بيته، فدخل عليهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما نقل نبي عن المكان الذي مات فيه، وما مات نبي إلا في المكان الذي يقبر فيه) ، فأزاحوا الفراش، وحفروا في المكان الذي مات فيه في حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها.
وقد جاءت أخبار عديدة حول هذا، وفي جعله في بيت عائشة حماية له لقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم! لا تجعل قبري وثناً يعبد) ولولا ذلك لأخرج قبره أي: خارج الحجرة، ولو أخرج لكان هناك ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم، فاستجاب الله له، وعصم قبره من أن يكون وثناً يعبد، وأصبح في بيت بعيد عن اللمس، بعيد عن أعمال غير مشروعة، وقد جاء أن عائشة رضي الله تعالى عنها لما تمت القبور الثلاثة كان الناس يأتون إليها في بيتها زيارة، ويأتون ويسلمون على الثلاثة، ويأخذون من تربة المكان.
فبنت جداراً على القبور الثلاثة، واقتصرت على الباقي من الحجرة سكناً لها، والموضوع ذو شعب، ويبقى قول: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة ... ) على العموم، ويأتي النظر في الصلاة في الروضة على ما جاء في فضلها في الرواية المشهورة: (ما بين بيتي ومنبري) أو: على الرواية الضعيفة: (ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة) وإذا كانت روضة من رياض الجنة فهل تتميز فيها الصلاة عن غيرها من المسجد أو لا تتميز؟ صنيع البخاري يدل على أنها تتميز؛ لأنه ذكرها في عرض سياق فضل المسجد النبوي والصلاة فيه، إذاً: الروضة يكون لها مزية على بقية أجزاء المسجد، يضاف إلى ذلك كثرة صلاة وجلوس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، وكثرة اجتماع وجلوس أصحابه رضي الله تعالى عنهم حوله فيها، وكثرة ما يكون من الأحاديث ومن الحكمة ومن الوحي الذي كان يتنزل فيها.
إلخ.(182/8)
هل الأفضل الصلاة في الصف الأول من المسجد النبوي أم في الروضة؟
وهنا بحث آخر: حينما كان في العهد الأول كانت الروضة مع الصف الأول على خط مستقيم، ولما حصلت الزيادة من جهة القبلة انتقل المحراب إلى القبلة، وأصبح هناك أربعة أو خمسة صفوف خارجة عن الروضة إلى الجنوب، فهل نقدم الأحاديث الواردة في فضل الصف الأول كقوله صلى الله عليه وسلم: (لو علم الناس ما في الصف الأول لاستهموا عليه) (لتجالدوا عليه) (لأتوه ولو حبواً) وقوله: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها يتمون الصف الأول فالأول) وقوله: (خير صفوف الرجال أولها) فهذه كلها آثار في فضل الصف الأول.
وقد كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصف الأول مع الروضة في ميسرة المسجد؛ لأن الروضة في الميسرة ما بين المنبر وما بين الحجرة، فكان يمكن للإنسان أن يجمع بين الصف الأول وبين الروضة، فهل يا ترى! يحرص الإنسان الآن على إيقاع الصلاة في الروضة لفضيلتها أو يحرص على الصلاة في الصف الأول لفضيلته؟ ونجد أيضاً: أن مع الأحاديث التي جاءت في فضل الصف الأول أحاديث أخرى جاءت في فضل ميمنة الصف، ومنها ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف) وقد حدث في زمن النبي صلى الله عليه وسلم امتلاء ميامن الصفوف وخلو مياسرها نظراً للحث على ميامن الصف، نقول: في العهد النبوي كان الصف الأول والروضة يجتمعان في الميسرة، والصف الثاني والثالث والرابع والخامس يجتمعان في الميسرة مع الروضة، ولكن ميامن الصفوف من الصف الأول فما وراءه ليس فيها روضة، فننظر في ذلك الوقت أي الجانبين كانوا يرجحون الروضة على الميمنة أم الميمنة على الروضة؟ قلنا: بأنه يمكن أن يجمع الإنسان بين الصف الأول والروضة، ولكن لا يمكن أن يجمع بين الميمنة والروضة، فإما أن يكون في الروضة وإما في الميمنة، فنجد عند ابن ماجة: أنهم اشتكوا وقالوا: يا رسول الله! خلت ميسرة المسجد، أي: صارت خالية؛ لأن الناس صاروا يتتبعون الميامن؛ لأن ما في الميامن من الآثار لا تعادلها آثار الروضة، فقال صلى الله عليه وسلم: (من أعمر ميسرة المسجد فله كفلان من الأجر) إذاً: الصحابة رضي الله تعالى عنهم قارنوا بين الروضة وبين الصف الأول، وبين الروضة والميمنة، فقدموا ورجحوا ميمنة الصف على ميسرته ولو في الروضة، فإذا كان الأمر كذلك وقد انتقل الصف الأول عن مستوى الروضة إلى الأمام، فهل نقدم الصف الأول أو نقدم الروضة؟ الصحابة قدموا الميمنة على الروضة، والصف الأول أفضل من الميمنة في الثاني أو الثالث، فإذا كانوا قد قدموا الميامن على الروضة، فمن باب أولى تقديم الصف الأول على الروضة، ولهذا يقول النووي وغيره: إذا كنت تصلي مأموماً تابعاً للإمام فصل حيث انتهى بك الصف، في الروضة في الميمنة أو في الميسرة، في المؤخرة أو في المقدمة، فحيث انتهى بك الصف فصل، وإن كنت تصلي منفرداً أو متنفلاً فتحر الروضة؛ لأن النافلة ليس فيها لا صف أول ولا ميمنة، ولا شك أن موضع الروضة أولى من غيره؛ لأنه قد جاءت فيه تلك الخصيصة.
ثم جاء بحث الإمام ابن تيمية رحمه الله بعد هذا كله، وبعد الزيادات المتكررة والمتعددة من الأمويين والعباسيين وغيرهم، وقال: عثمان رضي الله عنه تقدم وصلى في المحراب الذي في الزيادة الأمامية، حينما وقعت الزيادة من جهة القبلة، وترك الروضة خلفه، وعلي رضي الله تعالى عنه كذلك، وجماعة من الصحابة في عهد الخليفتين الراشدين عثمان وعلي كانوا يتبعونهما في الصفوف الأول مما يلي القبلة، ووراءهم الروضة بعدة صفوف، فيقول ابن تيمية رحمه الله: ليس من المعقول أن الخلفاء الراشدين يتركون الأفضل ويذهبون إلى المفضول، لولا أن الصلاة في الصف الأول على ما هو عليه خارج الروضة أفضل لما داوموا على الصلاة فيه، ولرجعوا إلى الروضة محل مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: على هذا نقول كما قال النووي رحمه الله: الروضة لها فضيلة ذاتية مكانية، والصف الأول وصف ذاتي للصلاة، والنووي عقد فصلاً في أيهما أفضل الفضيلة الذاتية أو الفضيلة النسبية؟ والفضيلة الذاتية هي ما يكون في عين الفاضل، والفضيلة النسبية هي بالنسبة لشيء خارج عنه، ومثل لهذا: بالصلاة في المسجد النبوي منفرداً وقال: إذا فاتتك الجماعة وصليتها منفرداً بالمسجد النبوي فهي بألف، فإذا كنت في طريقك من مسكنك إلى المسجد النبوي، ومررت بمسجد تقام فيه الجماعة لهذه الفريضة، فإن صليت معهم أدركت الجماعة، وإن تركتهم ومضيت إلى المسجد النبوي فاتتك الجماعة فيه، فأنت إن صليت مع الجماعة في مسجد الطريق صلاة عادية فهي بسبع وعشرين درجة، وإن مضيت إلى المسجد النبوي وصليت فيه فهي بألف صلاة، فأيهما أولى: فضيلة الألف من أجل المسجد، أو فضيلة السبع والعشرين درجة من أجل الصلاة؟ ثم قال: إن فضيلة الجماعة فضيلة ذاتية؛ لأنها تتعلق بهيئة الصلاة وكيفية أدائها، وأما مضاعفة الألف فهي للبقعة، إذاً: فهي فضيلة إضافية، أي: أنك اكتسبت الفضيلة في صلاتك من أجل المكان الذي صليت فيه لا من أجل الصلاة، فصلاتك في هذا المكان الفاضل ناقصة عن صلاتك في ذاك المسجد العادي؛ لأن صلاتك هناك كاملة لكونها جماعة.
وكذلك قال في فضل الطواف بالبيت: إذا طفت قرب البيت فسيكون الشوط مثلاً مائتي خطوة، وإذا ابتعدت عن المكان إلى وراء زمزم فسيكون الشوط خمسمائة خطوة، وكل خطوة بحسناتها، فإذا كان طوافك المتسع جداً فيه زيادة حسنات لكثرة الخطوات فإن طوافك بجوار البيت سيكون أقل حسنات؛ لأنه أقل خطوات، وإذا نظرنا إلى أصل الطواف سنجد أن الطواف مختص بالبيت، إذاً: هل الأولى في الطواف أن تقترب من البيت الذي تطوف حوله أو أن تبتعد ولو كثرت الخطى؟ الجواب: كلما اقتربت فهو أولى لأنك تطوف به، وما دمت تطوف به فالصق به، وأما كونك تبعد الدائرة بعيداً وتأخذ الشوط عن سبعة فصحيح أنك تعبت وأن خطواتك أكثر ولكن الذي يطوف بجوار الكعبة أفضل منك؛ لأن الطواف بجوار الكعبة ذاتي في عين الطواف، والطواف من بعيد كثرة الحسنات فيه إضافية لكثرة الخطى.
إذاً: نرجع إلى تفضيل الصلاة بين الصف الأول وبين الروضة فنقول: الصف الأول ذاتي بالنسبة للصلاة؛ لأنه جزء من الجماعة، والروضة نسبية للصلاة؛ لأنها بقعة، فيكون الوصف الذاتي وهو صلاتك في الصفوف الأول أفضل من صلاتك في الروضة؛ لأن الفضيلة في الروضة تدركها بالنسبة للمكان وليس لعين الصلاة، وعلى هذا ينبغي على الإنسان فيما يتعلق بالجماعة أن يحاول الترتيب الذي جاء عنه صلى الله عليه وسلم فيتم الصف الأول فالأول، ويتم ميامن الصفوف كما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف) فيكون التحري للصف الأول أولى من التحري للروضة.
وهناك صور نشاهدها من بعض الجماعات منها: أن منهم من يأتي متأخراً قبل أن تقام الصلاة بلحظات، فيتخطى رقاب الناس من أجل أن يدرك المسجد الأول الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسجد الذي كان في عهد رسول الله بني على مرحلتين: المسجد الأول الذي كان من جذوع النخل والجريد، وهو الذي على السواري التي فيه خطوط بالطول، وفي وسط الخطوط مثل الوردة، فهذه الأعمدة التي فيها تلك الخطوط هي حدود المسجد النبوي الأول، يتعدى عن المنبر بعمود واحد، ويرجع إلى الشمال حوالي سبعة أعمدة.
والبناء الثاني كان بعد العودة من خيبر، فعند أن ضاق المسجد الأول على الناس وسعه صلى الله عليه وسلم وبناه بالحجر والطين، وجعل السقف من جذوع النخل، ولما بنوه البناية العثمانية الموجودة حالياً كتبوا على رءوس الأعمدة التي هي نهاية المسجد النبوي في السابق: هذا حد المسجد النبوي، وكان في البناء الأول سبعين ذراعاً في سبعين، ثم أصبح في التوسعة الثانية: مائة ذراع في مائة ذراع.
فيأتي بعض الناس من الباب إلى المسجد الأول هو حد مسجد النبي، يعني: مسافة مائتين وخمسين متراً، وكم من صف يتخطى فيه رءوس الناس؟ وهذا عمل مؤذٍ كما قال صلى الله عليه وسلم للرجل الذي جاء يوم الجمعة متأخراً، وأخذ يتخطى رقاب الناس ليدنو من المنبر، فأشار إليه صلى الله عليه وسلم وقال له: (اجلس فقد آنيت وآذيت) آنيت: من الأين وهو الوقت أي: تأخرت، وآذيت لتخطيك رقاب الناس؛ لأن هذا لا ينبغي، فلا ينبغي للإخوان الذين لا يزالون يعتقدون أن الفضيلة مختصة بالمسجد الذي أشار إليه صلى الله عليه وسلم في حياته أن يتأخروا ثم يحاولون الوصول إليه على رقاب الناس، فنقول لمن يتخطى رقاب الناس: إذا كنت تريد المسجد الأول وتريد الروضة فاحضر مبكراً، والأبواب مفتحة أمامك، لا أن تتكئ في بيتك وتشتغل بما يهمك فإذا سمعت النداء جئت مسرعاً وأتيت تتخطى الرقاب فإن هذا لا يجوز لك، وهذا من الذي ينبغي مراعاته فيما يتعلق بآدب المسجد النبوي والصلاة فيه.(182/9)
وجه تخصيص المساجد الثلاثة بهذه الفضائل
إذاً: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) وقد جاءت نصوص تؤكد صحة الاستثناء وتبين أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في المسجد النبوي بمائة مرة، إذاً: صلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم بألف، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجده بمائة، إذاً: الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة فيما سواه، وصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة، وجاء في الحديث الذي جمع المساجد الثلاثة: (وفي المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة) .
وهنا مبحث يرتبط بالحديث: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) خصت المساجد الثلاثة بجواز شد الرحل إليها، وخصت المساجد الثلاثة بمضاعفة الأجر فيها، فلماذا؟ الأرض هي أرض الله، والمساجد كلها بيوت الله، كما قال تعالى: ((وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18] وقال سبحانه: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] وأي مسجد في أقصى الدنيا فهو بيت الله، ولكن كما أن الله سبحانه وتعالى اختص جزءاً من المسجد النبوي بأن كان روضةً، وهذا جزء من الأرض بصرف النظر عن المعاني التي قيلت فيه، واختص الله سبحانه وتعالى بقع المساجد الثلاثة دون غيرها، واختص الله مكة والمدينة وفضلهما على بقية البلدان، وحتى في الزمان فإن الله قد اختص شهر رمضان وجعل ليلة فيه خيراً من ألف شهر، واختص يوم الجمعة واختص فيه ساعة، واختص يوم عرفة وهو خير يوم طلعت عليه الشمس، إذاً: هناك اختيار من الله وتفضيل لبعض أجزاء الكل على بعضه، فاختار ساعةً من أربع وعشرين ساعة، وليلةً من ليالي السنة، ويوماً من أيام السنة، وشهراً من شهور السنة، وهكذا يختارها الله ويفضلها، كما اختار من بعض البشر رسلاً وفضلهم على كثير من العالمين.
فقالوا: إن سبب مضاعفة الصلاة في هذه المساجد الثلاثة وجواز شد الرحل إليها لأنها هي المساجد المقطوع بعينها، ولو جئت إلى أي مسجد في العالم؛ كمسجد موسى أو مسجد هارون أو مسجد نوح فكلها خاضعة للنظر من حيث سبب تسميتها ومن قام على بنائها، وأما الثلاثة فهي مقطوع بها؛ ولأن هذه الثلاثة اشتركت في عناصر أساسية: اشتركت في كون اختيار مكانها من الله، قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج:26] وقال صلى الله عليه وسلم: (دعوها فإنها مأمورة) وفي الأثر أن الله قال لداود عليه السلام: (ابن لي بيتاً في بيت المقدس حيث ترى الفارس المعلم شاهراً سيفه) فالله تعالى هو الذي عين أماكن المساجد الثلاثة، ثم قام على بنائها أنبياء ثلاثة: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ} [البقرة:127] ومعه إسماعيل، والمسجد النبوي بناه النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه، وكانوا يقولون عند البناء: لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل فكانوا يحملون الحجارة ويحمل معهم.
إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي خطط وبنى المسجد النبوي، وكذلك مسجد بيت المقدس بناه نبي الله داود، فكون اختيار المكان، وإقامة البناء والإشراف عليه من رسل الله بتوجيه من الله جعل لهذه المساجد فضيلةً على غيرها.
والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(182/10)
كتاب الحج - باب الفوات والإحصار
الإحصار هو مانع يمنع الناسك من الوصول إلى البيت العتيق لأداء نسكه، وسواء كان الإحصار بمنع عدو، أو كان لمرض أو أي مانع يمنع بينه وبين أداء النسك.
وقد أحصر النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فتحلل التحلل الكامل: فحلق رأسه، ونحر هديه، وأتى نساءه.
والاشتراط في النسك من السنة لاسيما في هذه الأيام مع كثرة حوادث السيارات، وفائدة الاشتراط أنه يجوز للمشترط التحلل في مكانه الذي أحصر فيه، ويسقط عنه الهدي، ولا ينتظر حتى يذهب السبب ثم يمضي في نسكه.(183/1)
حديث: (قد أحصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلق رأسه ... )
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن ابن عباس رضي عنهما قال: (قد أحصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلق رأسه، وجامع نساءه، ونحر هديه حتى اعتمر عاماً قابلاً) رواه البخاري] .(183/2)
إحصار النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يخبرنا عن إحصار رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحلله حينما أحصر، وأن هذا كان في صلح الحديبية عندما منعه المشركون من أن يصل إلى البيت، وكتبوا الاتفاقية معه أن يرجع من عامه هذا، ويأتي العام القابل، وله أن يمكث في مكة ثلاثة أيام، ولما تم الصلح وكتبت الصحيفة، وهم في منزلهم يقولون: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراوح بين الحل والحرم، لأن الحديبية على حدود حرم مكة، حتى قال بعضهم: كانت خيامهم ومساكنهم في الحل، وإذا أرادوا الصلاة تقدموا وأوقعوا الصلاة في الحرم؛ لفضيلة مضاعفة الصلاة في الحرم.(183/3)
التحلل من الإحصار: كيفيته ونوعه
لما أحصر صلى الله عليه وسلم وتم الاتفاق -يقول ابن عباس:- (نحر هديه، وحلق شعره، وأتى النساء) .
حلق الشعر يدل على التحلل الأصغر، ولكن بقي التحلل الأكبر ولم يحصل طواف، فـ ابن عباس يؤكد أن تحلل النبي صلى الله عليه وسلم في إحصاره يعتبر التحلل كله: الأصغر والأكبر؛ لأنه لو لم يكن التحلل كله ما أتى نساءه، لأننا في الحج والعمرة وجدنا أنه لا يحل للإنسان الجماع إلا بعد أن يكمل النسك، وفي الحج بعد أن يطوف طواف الزيارة -الذي هو الركن الأخير في الحج- فـ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يبين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أحصر بالعدو، وكان عنده موعد العام القادم، لم يمكث على إحرامه إلى العام القادم، وإنما تحلل.
وأي أنواع التحلل تحلله صلى الله عليه وسلم في هذا الصلح؟ التحلل كله، ونحر هديه، في الحل حيث نزلوا، أو قدموه إلى الحرم، والصحيح أنه في مكانه في الحل كما جاء عن أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها حينما دخل عليها صلى الله عليه وسلم مغضباً، فقالت: من أغضبك، أغضبه الله؟ قال: وما لي.
إلخ.
قالت: أتحب أن يفعلوا ذلك؟! قال: بلى.
قالت: لا عليك، خذ المدية، واخرج ولا تكلمن أحداً، واعمد إلى هديك فانحره، فخرج ونحر هديه.
إذاً: فهي رضي الله عنها ما قالت: اذهب به إلى الحرم، ولا ذهب به هو إلى الحرم، فذهب ونحر هديه حيث كان الهدي، وتسابق الناس بالنحر.
إذاً: المحصر ينحر هديه حيثما أحصر.
وسيأتي في النصوص: أنه نحر، ثم حلق، وأمر أصحابه بذلك، وهذا الترتيب -كما يقول بعض العلماء- واجب في حالة الإحصار، بخلاف الحج، فقد جاء: أنهم كانوا يخلون في الترتيب فكان الواحد منهم يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: ما شعرت نحرت قبل أن أرمي.
قال: ارم ولا حرج.
ما شعرت حلقت قبل أن أنحر؟ قال: انحر ولا حرج.
وما سئل عن شيء قدم أو أخر في ذلك اليوم إلا قال: (افعل ولا حرج) لكن هنا لابد من ترتيب.
إذاً: المحصر بالعدو أياً كان نوعه -كما يقول العلماء- سواء كان مشركاً أو معتدياً أو باغياً ظالماً، فإن المحرم يتحلل.
وهل عليه هدي أو ليس عليه هدي؟ هناك من يقول: عليه هدي لتحلله، وهناك من يقول: ليس عليه هدي، وفي كلا الأمرين جاءت النصوص، ويجمع بعض العلماء قائلاً: إن كان قد اشترط عند إهلاله وقال: محلي حيث حبستني، تحلل ولا هدي عليه، وإن لم يكن قد اشترط تحلل وعليه الهدي.(183/4)
قضاء المحصر للحج والعمرة
ثم يأتون إلى القضاء: إن كان محصراً عن عمرة فهل يتعين عليه أن يقضي تلك العمرة، أو أن هذه العمرة قد مضت إلى سبيلها؟ وإذا كان قد أحصر عن حج فهل يقضي هذا الحج، أو أن هذه الحجة قد مضت إلى سبيلها؟ ما يمكن أن يقال: الحجة مضت في سبيلها؛ لأن الحج فيه وقوف وسعي، وفيه أشياء كثيرة، فالذي عليه الجمهور: لا قضاء على من أحصر في نسك.
وعمرة القضية -عمرة القضاء- وقد وقعت في السنة التي تليها بعدما أحصر، على حسب الشرط: يأتون بعدها في السنة القادمة، وفي نفس الشهر، ويؤدون عمرتهم؟ قالوا: هذه العمرة ليست قضاءً عن الماضية، وإنما سميت: عمرت القضية، وعمرة القضاء؛ للمقاضاة -بين الفريقين- المكتوبة في الصحيفة، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء في السنة القادمة لم يؤكد على جميع من حضر في السنة الماضية أن يذهب ويقضي عمرته، ولم يطلب منهم ذلك وكما يذكرون عن الشافعي أنه يجزم بأن أشخاصاً حضروا العمرة الأولى في الحديبية ولم يحضروا في العمرة الثانية عمرة القضية.
أما إذا كان أحصر في الحج فقالوا: الحج فرض في العمر مرة، وهذا الذي أحصر لم يؤد الغرض، إذاً: عزم على الحج وحيل دونه، فلا يسقط الفرض عن نفسه بل بقي عليه ويحج من قابل كما قال عمر لـ أبي الدرداء وغيره.
يعني: الحج مطلوب منك أولاً؛ لأنك لم تسقطه عنك بما أحصرت فيه، وهذا غاية ما يبحث في موضوع الفوات والإحصار.(183/5)
حديث: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم على ضباعة ... )
يقول المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، فقالت: يا رسول الله! إني أريد الحج، وأنا شاكية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني) متفق عليه] .(183/6)
الاشتراط في النسك وأهميته
هذا الحديث ينازع فيه كثير من العلماء، فهي قالت: يا رسول الله! أنا أريد الحج ولكني شاكية مريضة، لا أدري ماذا أصنع وما يطرأ علي في الطريق هل أبلغ المناسك أم لا؟ فقال لها: حجي -يعني: وأنت على حالتك- واشترطي على ربك.
لبيك اللهم حجاً! اللهم إن محَلي -أو محِلي: أي: موضع إحلالي- حيث حبستني، فأسندت الأمر إلى الله، إذا حبسها بالمرض الذي هي شاكية منه، أو حبسها بأي حابس آخر؛ لأن كل شيء مرده إلى الله سبحانه وتعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] .
قوله صلى الله عليه وسلم: (واشترطي) .
وهنا يقول بعض العلماء هذا الاشتراط كان خاصاً بهذه المرأة، والاشتراط لا يسقط شيئاً، وإذا ما أحصر هذا المشترط وتحلل فعليه هدي كغيره، وإذا لم يجد هدياً فصيام ثلاثة أيام في مكانه، وسبعة إذا رجع إلى أهله.
قال الجمهور: إذن: ما فائدة الاشتراط إذا كان لا يعفيه من الهدي؟ وما فائدة الاشتراط إذا كان لا يستفيد منه في أن يتحلل مكانه؟ وهنا جاء التعميم سواء كان الإحصار بمرض أو بعدو: (محلي حيث حبستني) .
وفي عموم الحبس والإحصار رد على من يقول: لا إحصار إلا في العدو، ومن الإحصار -كما ينص مالك -: من كُسِر أو عُرج.
إلخ.
إذاً: الاشتراط في النسك عمرة كان أو حجاً يساعد المحرم أو الناسك في إعفائه من الهدي إن تحلل، وفي جواز وإمكان تحلله في مكانه، وليس بلازم أن يبقى محرماً حتى يتعافى ويأتي إلى مكة ويتحلل بطواف وسعي بعمرة.
وهنا أعتقد أنه يلزم كل إنسان أراد الحج أو العمرة -وخاصة مع حوادث السيارات عافانا الله وإياكم جميعاً أو الإخوان الذين يحاولون التحايل على المرور في التصاريح وعدم التصاريح- أن يشترط بقوله: (محلي حيث حبستني) ، إن فسح له الطريق ومضى فالحمد لله، إن سلم بسيارته ونفسه ومضى فالحمد لله كثيراً، وإن قدر عليه شيء، وردته السلطة من الطريق (فمحلي حيث حبستني) وإن حصل هناك -لا قدر الله- من حوادث السيارات، أو تعطلت السيارة حتى فاته الحج: فمحلي حيث حبستني.
فيستفيد الإنسان من هذا الاشتراط -على قول الجمهور- أنه يسقط عنه الهدي، ويبيح له التحلل في مكانه، ولا ينتظر حتى يذهب السبب ويمضي إلى مكة فيتحلل من إحرامه بالحج بعمل العمرة، وينتقل من نسك إلى نسك، ويبقى الحج إن كان فرضاً فيكون باقٍ عليه، وإن كان نافلة فعلى الخلاف المتقدم: هل يلزمه القضاء أو لا يلزمه?! هذا ما يتعلق بموضوع الشرط.(183/7)
حديث: (من كُسر أو عرج فقد حلّ ... )
يقول المصنف رحمه الله: [وعن عكرمة عن الحجاج بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كُسر، أو عَرِج، فقد حل، وعليه الحج من قابل.
قال عكرمة: فسألت ابن عباس وأبا هريرة عن ذلك فقالا: صدق) رواه الخمسة وحسنه الترمذي] .
هذا الحديث يأتي به المؤلف رحمه الله ليبين أن الإحصار عام: (كسر أو عرج) العرج: يكون في الرجل، والكسر: يكون في محلات عديدة، وبعضهم يقول: إن الإحصار عام في أي مانع يمنع عن إكمال النسك، فلو أن رجلاً لدغته عقرب فهو محصر، وسواء لدغ بعقرب أو بعقربين فليس بمحصر ما دام حياً ولا يمنعه هذا من المضي في طريقه، فيرقي برقية العقرب ويمضي في طريقه، لكن يهمنا التنبيه على التوسع، وكما كان يفعل بعض السلف، وربما أفرط فيستدل بقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] على الإفطار في نهار رمضان، فإذا قال: أصابعي تؤلمني! تقول: إن كانت أصابعك تؤلمك هل يبيح لك الفطر؟! لا، الفطر في البطن وليس في الأصابع.
إذاً: التطرف في مثل هذه المسائل، والتوسع فيها على غير أساس ليس له موجب مذموم.
فالمؤلف رحمه الله يرد بهذا الحديث على من يقول: لا إحصار إلا بعدو، والذي أحصر بالعدو يتحلل، والذي أحصر بغير العدو لا يتحلل حتى يذهب المانع، ويمضي إلى مكة، إن كان أحصر في عمرة أتم عمرته، إن كان أحصر في حج: ذهب وتحلل من حجه بعمرة، وعليه حج من عام قابل، وقوله: (عليه حج) هذه مطلقة سواء كان الحج الذي أحصر فيه نافلة أو فريضة، فالجمهور تمسكوا بظاهر هذا الحديث، وقالوا: عليه حج من عام قابل، وجاء عن ابن عباس ما فيه رد على هذا، قال: من تحلل للذة فعليه الحج من قابل، وعليه الهدي، ويقصد بهذا إذا كان حاجاً، لقوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] إذا وقع بينه وبين زوجه في الحج قبل الوقوف بعرفات فسد حجه لتلذذه، وعليه المضي في حجه هذا الفاسد، وعليه حج من عام قابل، سواء كان الذي أفسده فرضاً أو نفلاً؛ لأنه باختياره.
وهنا ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول: إذا ما أحصر بغير لذة، وفاته الحج بغير قصد منه، فحينئذ لا يجب عليه إعادة الفريضة، إلا إذا كان الذي أحصر فيه هو حج الفرض؛ لأن بإحصاره لم يوقع الفرض المطلوب منه، فتكون الذمة لا زالت مشغولة بفريضة حجة الإسلام، فليأت بها.
والله تعالى أعلم.(183/8)
كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [1]
خلق الله الناس وقسم أرزاقهم، ومعاشاتهم، وجعلها في أصول المكاسب الثلاثة: التجارة، والزراعة، والصناعة، وللبيوع أحكام كثيرة، بينها أهل العلم على ضوء الكتاب والسنة.(184/1)
شرح حديث: (أيُّ الكسب أطيب)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه، أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن رفاعة بن رافع رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أيُّ الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور) رواه البزار وصححه الحاكم] .
بدأ المؤلف رحمه الله كتاب البيوع بهذا الحديث وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن أطيب الكسب، ما هو؟ وبعض العلماء يقول: إن جميع المكاسب راجعة إلى الزراعة والتجارة والصناعة، يعني: هذه الثلاثة، التي فيها التنمية، وفيها نمو المال، أو نمو المادة الخام وتطورها، فالزارع: حبة بذر يجعلها المزارع في الأرض، فتنمو إلى سبع سنابل {فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة:261] ، الحبة نمت إلى سبعمائة، فهذا نمو، كذلك التجارة: يأخذ السلعة بعشرة ويبيعها باثني عشرة، هذا أيضاً نمو، ويجتمع له هذا النماء، كذلك الصنعة يأخذ القطن فيغزله، ويأخذ الغزل فينسجه، ويأخذ النسيج فيفصله وهكذا تتطور المادة الخام على أيدي الصناع كل بحسبه، وفي كل مرحلة من هذا التصنيع تنتفع الأمة.
إذاً: أصول المكاسب هذه الثلاثة، ثم يختلفون أيها أفضل، أهي الزراعة، أم التجارة؟ فبعضهم يقول: الله سبحانه وتعالى جعل البركة مائة جزء، أنزل منها جزءاً إلى الأرض، وادخر تسعة وتسعين إلى يوم القيامة، والجزء الذي نزل إلى الأرض منه تسعة وتسعون في التجارة، والباقي في الصناعة، وفي الزراعة، وفي الأمور الأخرى.
والذي يرجحه العلماء: أن أفضل الكسب الزراعة؛ لأن الزراعة يستفيد منها الإنسان، والحيوان، والطير، فكل هؤلاء يستفيدون من عمل الفلاح.
وبعضهم يقول: هناك كسب آخر، لكنه راجع إلى عمل اليد، وهو الكسب من الغنائم في الجهاد في سبيل الله، ويقول آخرون: الجهاد من عمل اليد، فلم يخرج عن هذه الثلاث.(184/2)
الحرص على أطيب الكسب وفائدته
قوله: (أطيب الكسب) ولماذا كانوا يسألون عن أطيبه؟ لأنهم يعلمون بأن طيب الكسب صحة في البدن، وعون على الطاعة، لما سأل سعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ادعُ الله أن يجعلني مستجاب الدعوة -ماذا قال له؟ هل قال له: أكثر من الصلاة في الليل، أكثر الصيام، أكثر الصدقة؟ لا- ولكن قال: أطب مطعمك) ، وفي الحديث الآخر: (الرجل أشعث أغبر يطيل السفر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! أنّى يستجاب له؟! ومطعمه حرام، وملبسه حرام) إذاً: حرمة المطعم ومحرميته حالت دون استجابة دعائه، إذاً: من حقهم رضوان الله تعالى عليهم أن يسألوا عن أطيب الكسب، ولم يسألوا عن أطيب الكسب إلا ليتحروه ويعملوا به فماذا كان الجواب؟ قال: (عمل الرجل بيده) .
يقولون: لفظة (الرجل) وصف طردي لا مفهوم له؛ فالمرأة في بيتها قد تغزل وتبيع الغزل، وتنسج، وتخيط الثياب، فإذا كان للمرأة عمل فكذلك: أطيب كسبها عملها بيدها.
وهنا إذا نظرنا إلى بعض الأشخاص نجده لا عمل له، يقول عمر رضي الله تعالى عنه: كنت أرى الشاب فيعجبني، فأسأل عن عمله؟ فيقال: لا عمل له، فيسقط من عيني.
من هنا فالمرابي لا يعمل بيده شيئاً، وإنما يرسل دراهمه تعمل على حساب الناس وهو لا يعمل، فلا يتاجر، ولا يزرع وإنما يتابع الدراهم أين ذهبت؟ ومن أين جاءت؟ ونبي الله داود -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- ماذا كان يفعل؟ كان يأكل من كسب يده {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} [الأنبياء:80] ، {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10] نبي ملك، ولكن ما كان يعوِّل على ما في ملكه وما في خزائنه، وإنما كان يعمل بيده ويأكل من كسب يده.
فالموظف في آخر الشهر، يذهب ويستلم الراتب، فيحس بلذة ذلك، وهذا مجرب؛ لأنه من عرق جبينه، ومن عمل يده، ولو أن إنساناً جاء وأعطاك عشرة ريالات وقال: هذه هدية، هل تحس لهذا لذة كلذة عمل يدك؟ لا؛ لأنك لم تبذل جهداً مقابل الهدية، وإن كانت حلالاً، فالشخص الذي لا يكسب من عمل يده، وإنما ورث مالاً كثيراً، تجده يأكل ولا يشعر بما يأكل، ولا يستطعم نوع طعامه، بخلاف الشخص الذي يكد ويعمل، مهما كان نوع العمل، كما قيل: لا عيب في الكسب، العيب في مد اليد، وذكرنا لكم مراراً: كان في هذا المسجد النبوي الشريف نجوم، فإذا كانوا في الصباح ذهبوا في سوق الخضرة، وإذا كان بين المغرب والعشاء تراهم مثل الشموع المضيئة: نظافة، أناقة، عزة نفس، حاضرين في الدرس.
لا أستطيع أن أقول لك أكثر من هذا، يعمل ويكسب بيده، ولا ينتظر حسنات الناس! إذاً: أطيب الكسب عمل الرجل بيده، ولا يضير إنسان أنه يعمل بيده، وكان العرب ينظرون إلى بعض الأعمال الدنيئة بازدراء، كالحجامة والحلاقة وكذا وكذا، وهذه عادات، وربما ما كان قبيحاً في مجتمع يكون عادياً في مجتمع آخر، فهذه بحسب العادة، وحسب العرف عند الناس، ولكن إذا كان هذا العمل يعفه عن مد اليد فهو شريف، وإن كان وضيعاً عند الناس.
وهذا الحديث يرشد أن أطيب الكسب: عمل اليد، فهو يقضي على الفراغ؛ لأن كل إنسان يريد أطيب الكسب، فيذهب ويفتش ويعمل بقدر ما يستطيع فتقل نسبة البطالة التي يشتكي منها العالم المتمدن والمتحضر الآن، وكسب الرجل بيده يكون بأي صفة من صفات العمل، ولو بالكلام، فهو كسب، ولو بالتوجيه فهو كسب بيده، ولو بالحركة: يفلح الأرض، أو يصنع الصناعة أو.
إلخ فهو كسب باليد.
إذاً: (سئل صلى الله عليه وسلم عن أطيب كسب الرجل، فقال: عمل الرجل بيده) .(184/3)
البيع المبرور
قوله: (وكل عمل مبرور) .
وهذا ما أشرنا إليه: أي نوع من أنواع الكسب، البيع هل هو في عمل الرجل بيده أم لا؟ فالبائع يأتي بالسلعة ويذهب إلى الدكان ويوزن ويعطي هذا وهذا.
إلخ، إذا انتهت البضاعة ذهب إلى تاجر الجملة وأتى بها، فهو يعمل بيده ورجله، ولكن لكون البيع المبرور من أميزها، والمبرور هنا: المفعول بالبر فهو: سالم من الغش، سالم من التدليس، سالم من غبن الجهال، سالم من انتهاز الفرص مع الحمقى، ومع الذين لا يعرفون الأسواق، فبعضهم إذا رأى إنساناً جاهلاً لا يدري عن شيء انتهز الفرصة ورفع الأسعار، وإذا رأى إنساناً حاذقاً ويعرف كل شيء تأدب معه فهذا ليس بيعاً مبروراً، بل يجب عليه أن يبر بيعه، وينصح إذا سئل عن سلعة معينة والآن في الوقت الحاضر مثلاً: هناك ماركة معينة راجت عند الناس، فيطلبها إنسان بالسماع، وهو لا يدري عنها، فجاء هذا البائع مستغلاً الفرصة وقال: هذا جاهل لا يدري كوعه من بوعه، فأعطاه سلعة غير الماركة المطلوبة، وقال له: هذه هي.
وذاك لا يدري، فهذا البيع ليس مبروراً، بل هو غش.
فالبيع المبرور: أولاً يتحرى فيه نوع السلعة وأنها حلال، ونوع السعر، فلا يستغل الضعاف في الزيادة والنقص، وإنما يعامل الناس معاملة واحدة، وقد يتفاوت البيع بعض الشيء فيتساهل مع هذا بواحد في المائة، ويزيد على هذا واحداً في المائة، فهذا يعوض هذا، المهم إلاّ يكون الغبن فاحشاً.
وأحياناً تكون السلعة موجودة عند البائع، ولكنه يقول: ما عندي، ولكن أنا أقدر أن آتي لك بها ولكن بزيادة قليلة!، وجد المشتري في حاجة إلى السلعة، ومضطراً إليها، فلو قال له: هي عندي، خذ، فإن المشتري سيساومه على الثمن، ولكنه يقول له: هذه السلعة معدومة، ولكن يمكن أن أوفرها لك من عند بعض التجار، ولكن بسعر فيه زيادة قليلة، ولماذا هذه اللفة الطويلة؟! من أجل الاحتيال على المشتري والزيادة في السعر! وكذلك من عدم البر في البيع: ترويج السلع بالأيمان فيحلف أيماناً بأنها الممتازة، والجيدة، والجديدة.
إلخ، وأن سعرها كذا وأنا تساهلت معك لماذا هذا كله؟! وأنت ترى إذا عرف تاجر في بلد بصدق الكلمة، وتوحيد السعر، كان موضع ثقة عند الجميع، وإذا عرف إنسان بعكس ذلك تجد الناس يتواصون بالحذر منه: فلان احذر منه! إذا جئته فانتبه منه! لماذا هذا؟! والتاجر الأمين مع النبيين والصديقين.
الأجير في عمله إذا عمل بيده فعليه أن يعمل عملاً مبروراً، فإن كان أجيراً باليوم فلا يضيع اليوم والزمن في الذهاب والإياب والمراوغة، فإذا أراد أن يصلي العصر تراه يذهب يتمشى، وبدلاً من أن يتوضأ يذهب يستحم، لماذا هذا كله؟ والبر في البيع بجميع أنواعه: هو الإخلاص، وعدم الغش، والنصح لله، ولعامة المسلمين، في تلك السلعة وفي غيرها، كذلك المشتري يجب عليه أن ينصح في الثمن، فلا يأتي بنقد مغشوش، ويقول: هذا البائع بدوي لا يدري المغشوش من الصحيح، ويقدمه له على أنه نقد صحيح فلو كانت معه ورقة خمسمائة ريال مزورة، وأعطاها لواحد بدوي لا يعرف الورق، ولا يعرف النقد، فهذا سينظر إلى الأصفار وسيرى الخمسة فيأخذها، ولكنه لا يعرف المزيف من غير المزيف.
إذاً: البر مطلوب من الجانبين: جانب البائع، وجانب المشتري.(184/4)
شرح حديث: (إن الله حرم بيع الخمر)
قال رحمه الله: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح وهو بمكة: إن الله حرم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام، فقيل: يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة، فإنها تُطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا، هو حرام، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: قاتل الله اليهود، إن الله تعالى لما حرم عليهم شحومها جملوه، ثم باعوه فأكلوا ثمنه} متفق عليه] .
لاحظوا هذا الترتيب! بدأ المؤلف بالترغيب في أطيب الكسب: عمل اليد، البيع المبرور، عمل اليد دخلت فيه الزراعة، ودخلت فيه الصناعة، ودخلت فيه التجارة، لكن لاختصاصها جاء بهذا الوصف: البيع المبرور، ورغب الناس في الكسب الحلال، ثم بدأ بما يتمشى مع العنوان: قال: كتاب البيوع، ثم قال: شروطه -أي: شروط البيع- وما نهي عنه، وأين: ما أمر به؟ لا يوجد لماذا؟ لأن القاعدة عند الفقهاء أن الأصل في الأشياء الإباحة، فكل ما أنبتت الأرض، وأخرجت البحار، وأمطرت السماء، وجاءت به الأشجار.
كل ذلك الأصل فيه الإباحة ما لم يرد الحظر، كما أن الأصل في العبادة الحظر ما لم يأت إذن، فهل تصلي العشاء الآن؟ ممنوع، متى نصلي؟ حينما يأتي الإذن، العشاء نصليها خمس ركعات؟ لا، ممنوع.
كم نصليها؟ على ما جاء به الإذن: أربع، جاء الإذن في الصبح باثنتين، وفي المغرب بثلاث، إذاً: الزيادة محظورة وهكذا فالأصل في الأعيان الإباحة، والأصل في العبادات الحظر.
فلما كان الأصل في الأعيان الإباحة؛ فكل شيء يجوز بيعه، إلا ما جاء النص في تحريمه، إذاً: نحن الآن نحتاج إلى بيان ما يباح بيعه، أو نحتاج إلى بيان ما لا يجوز بيعه؟ نحتاج إلى بيان ما لا يجوز بيعه، ولهذا قال المؤلف: شروطه، وما نهي عنه.
فبدأ بأشد الممنوعات، وذكر لنا جابر رضي الله تعالى عنه تاريخ الرواية: في فتح مكة: حرّم الله بيع الخمر.(184/5)
تحريم الخمر شرباً وبيعاً واستعمالاً
الخمر من حيث هي اسم جنس يصدق على كل ما خامر العقل، والتخمير: من الخمار وهو الغطاء على الوجه، (خمروا الإناء فإن البلاء ينزل في ليلة من السنة) ، (خمر -أي: ضع عليه الغطاء- فإن لم تجد فضع عليه عوداً وقل: باسم الله) فالخمر: اسم جنس لكل ما خامر العقل، سواء كان سائلاً، أوجافاً، بأي نوع من الأنواع، فهو خمر في مسماه اللغوي، والشرع جعل كل ما أسكر خمراً، ولو كان لا يسكر منه إلا الكثير، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما أسكر منه ملء الفرق فملء الكف منه حرام) ، وليس المراد من هذا التحديد بملء الكف، وأن خمسة كفوف، وعشرة كفوف، ليس بمسكر وليست حراماً، لا، ولكن المراد: المقابلة بين الكثير والقليل، وأن الجميع محرم، فالقطرة الواحدة حرام شرباً وبيعاً.
كان أحد الناس يأتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بنبيذ وبخمر، قبل أن تحرم الخمر، وكان صلى الله عليه وسلم من عادته أن يشرب النبيذ: نبيذ الزبيب، نبيذ التمر، نبيذ كذا وكذا، من الأشياء التي تنبذ في الماء فتعطيه الحلاوة والطعم، ما لم يتخمر أو تمضي عليه أربع وعشرون ساعة، فإذا تخمر قبل أربع وعشرين ساعة لم يشربه، وإذا مضت عليه أربع وعشرون ساعة -ولو لم يختمر- تركه لغيره ولم يشربه.
فجاء ذلك الرجل بزق من الخمر، والنبي صلى الله عليه وسلم في مكان يسمونه: مسجد الفضيخ، قال: يا رسول الله! أهديت إليك هذا، قال: أما علمت أن الله قد حرمها؟ فجاء رجل وهمس في أذن صاحب الخمر، فانتبه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ماذا قال لك؟ قال: يقول: اذهب فبعها، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا حرم شيئاً حرم بيعه) .
وتحريم البيع يدل على المنع، وسيأتي النقاش في منع البيع، أو منع الاستعمال.
يخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن الله حرّم) لو قال: إن الله حرم، فيكون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم، فيكون بوحي من الله، فالتحريم من الله ومن الرسول صلى الله عليه وسلم متلازمان، فإذا ذكر التحريم من الله فقط لزم التحريم من رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا ذكر التحريم من رسوله صلى الله عليه وسلم فقط، لزم التحريم من الله أيضاً.
(إن الله حرّم بيع الخمر) ، يعني: إن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم حرما بيع الخمر.
وعلى هذا تكون الخمر محرمة مطلقاً، شرباً وبيعاً واستعمالاً، وقد ذكرت لكم مرة ما وقع من خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه، أنه حينما انتهى من فتح الشام دخل الحمام، وبعد أن دخل الحمام ادهن أو اطلى بالنورة في مواطن الشعر، يعني استعمل النورة مزيلاً للشعر، وهذا معروف عندهم، لكن النورة حارة تلهب الجلد، فأخذ العصفر، وعجنه بالخمر؛ لأن الخمر بارد، وطلى به مواضع النورة، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه، فكتب إليه: يا خالد! بلغني أنك استعملت الخمر في كذا وكذا، وقد علمت أن الله حرمها.
فكتب إليه: يا أمير المؤمنين! إني لم أشربها، ولكنني استعملتها غسولاً -أغسل بها محل النورة-.
فكتب إليه مرة أخرى: لقد علمت أن الله حرم الخمر، وإذا حرم الله شيئاً حرمه ظاهراً وباطناً، ولكنكم آل المغيرة فيكم جفوة، أرجو ألا تموتوا على ذلك.
فكتب إليه: قد انتهيت يا أمير المؤمنين! هذا في البداية والنهاية لـ ابن كثير، لمن أراد أن يرجع إليه.
فهنا قول عمر: قد علمت أن الله حرمها، وإذا حرم شيئاً حرمه ظاهراً وباطناً، يستعمل في الظاهر مثل الميكروكرم أو صيغة يود أو أي شيء مطهر.
(إن الله حرم بيع الخمر) إذاً: نأخذ من لازم تحريم بيعها تحريم الانتفاع منها؛ لأن الذي يريد أن يأخذها ماذا يصنع بها؟ لابد أن ينتفع بها، ينتفع بماذا؟ لا يوجد إلا الشرب.(184/6)
حكم بيع الميتة والانتفاع بها
قوله: (والميتة) .
حرم بيع الميتة، الميتة جاء النص في تحريمها، ويرى بعض العلماء أن النص مجمل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ} [المائدة:3] ، فقال: حرمت في ماذا؟ هل أكلها، بيعها، شراؤها؟ قالوا: هذا مجمل.
والآخرون قالوا: لا، ليس مجملاً؛ لأن الفائدة من الميتة كانت قبل الموت إذا ذكيت بالأكل، وليس هناك أي جانب انتفاع إلا الأكل، فلما حرم بيع الميتة حرم أكلها، كما حرمت الخمر وحرم شربها.
والنقاش في نجاسة الميتة، ونجاسة الخمر، وبالتالي نجاسة الدم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الدم، فالصحابة رضي الله تعالى عنهم أخذوا حكم النجاسة في الميتة من حكم تحريمها، وذلك حينما مر صلى الله عليه وسلم بشاة -لـ ميمونة - ميتة يجرونها، فقال: (هلا انتفعتم بإهابها) -الإهاب لغة: الجلد قبل الدبغ- (فقالوا: إنها ميتة يا رسول الله!) والرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أنها ميتة، فهو يراهم يجرونها، وهل خفي عليه أنها ميتة، أم أنه يراها؟! هو يراهم يسحبونها، ويرى أنها ميتة، لكن قولهم: إنها ميتة، لا لإخباره بموتها؛ لأنه مشاهد، ولكن للازم موتها وهو النجاسة، (إنها ميتة) ، بمعنى: إنها نجسة بالموت، وكان جوابه إياهم بمقتضى هذا، فقال: (يطهره -أي: الإهاب- الماء والقرظ) إذاً (إنها ميتة) لا يعنون بذلك الإخبار، وإنما يعنون النجاسة، وهو يكلمهم عن الإهاب، وخاطبهم في الطهارة والنجاسة، لا في الأكل والشرب، قال: يطهره.
إذاً: يطهره، رداً على استشكالهم النجاسة اللازمة للميتة، فقوله: (يطهره) أي: نعم هي ميتة، ونعم هي نجسة كما قلتم وفهمتم، ولكن ليست النجاسة لازمة لها، فإن جلدها يمكن تطهيره بالماء والقرظ.
إذاً: نهى عن بيع الخمر، ونهى عن بيع الميتة، والنهي يقتضي التحريم، وهناك قاعدة: كل محرم لذاته فهو نجس العين.(184/7)
العلة في النهي عن بيع وأكل لحم الخنزير
قوله: (والخنزير) .
وكذلك نهى عن بيع الخنزير ولو كان حياً، ولماذا لا يباع ولحمه يؤكل، وشهي عند أصحابه وأربابه؟ فلماذا نهى عنه؟ لابد من علة، ما هي هذه العلة؟ هل لأنه ميتة؟ لا، لأنه نهى عن بيع الخنزير وهو حي يمشي على أربع، والعلة في النهي عن بيع الخمر هي النجاسة، والعلة في النهي عن بيع الميتة النجاسة، إذاً: الخنزير يشترك مع الخمر والميتة في النجاسة، ولذا ورد في النص الكريم: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام:145] والرجس: النجس.
إذاً: هذه الثلاثة نهى صلى الله عليه وسلم عن بيعها لنجاستها.
الشيء الثاني: هناك جوانب تدل على حكمة التشريع، فالخمر ولو لم تكن نجسة فهي ضارة، والمضر لا يجوز استعماله؛ لأنه يضر بالجسم، ويكفي في ضررها أنها تزيل العقل، وتسلب الإنسان أعز ما به كان إنساناً، والميتة ضارة بعينها على جسم الإنسان، والإنسان ممنوع من تعاطي ما فيه ضرر عليه، والخنزير كذلك، ويذكر أبو حيان رحمه الله في تفسيره عند الكلام على لحم الخنزير، قال: إن الخنزير مفقود الغيرة، لا يغار الذكر على أنثاه -يقول-: وقد شاهدنا من أكثر من أكل لحم الخنزير أنه سلب الغيرة، فيرى زوجه تلاعب غيره على مرأى منه ولا يتأثر، وأي مضرة ومصيبة في افتقاد الرجل الغيرة؟! وسبق أن قلت: الغيرة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: غيرة جنونية، ويسميها علماء الاجتماع: الغيرة السوداء وهي: التي تحجب عن صاحبها الرؤية؛ فيبطش، ويفعل كل ما بدا له غيرة، والأمر لا يحتاج إلى هذا كله، وغيرة حمراء، وهي: الغيرة التي تدفع صاحبها للذب عن محارمه، ويغار على محارم الله، وهذه هي الغيرة المشكورة فإن زادت أفسدت، وإن ضعفت أفسدت؛ لأنه لا يغار على محارمه، ولا يغار على محارم الله، وأصبح لا غيرة له كما قال أبو حيان رحمه الله.
ومن المضار الصحية في لحم الخنزير: ما قرره الأطباء من أنه ينتج عنه دود العضل، والدود معروف وغالباً يكون في المعدة، ويُعالج بالدواء وينتهى، حتى الدودة الشريطية التي طولها اثنا عشر متراً، وتعيش في المعدة، ولكنها تُعالج وتخرج بدواء خاص، أما الدود الذي في العضل، في الفخذ أو في اليد أو في الزند فلابد من شق العضلة، ولقطه بالملقاط: واحدة واحدة، وهذه أكبر مصيبة.
إذاً: نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الخنزير؛ للعلة التي اشترك فيها مع الميتة والخمر، والمنصوص عليها في كتاب الله بأنه رجس.(184/8)
حكم بيع الأصنام والانتفاع بها
قوله: (والأصنام) .
الأصنام: كل ما كان مجسماً على صورة معبود -أياً كان- نجم، قمر، حيوان، شجرة، فكل ما يعبد، وله جسم مجسم، له ظل، فهو صنم، وهنا يقولون: هل تحريم بيع الأصنام لذاتها -لنجاستها- أو للازمها؟ فاتفقوا على أن النهي عن بيع الأصنام إنما هو للازمها، وهو: كونها تعبد من دون الله، أما إذا كسرتها وجعلتها وقوداً فلا شيء في ذلك؛ لأنها ليست نجسة، أو كسرتها وصنعت منها كرسياً فلا شيء في ذلك؛ لأنها ليست نجسة، وعلي رضي الله تعالى عنه لما وصل مهاجراً ونزل في قباء، كان يرى رجلاً يطرق الباب ليلاً على امرأة مغيبة، ويعطيها شيئاً، فجاءها علي في النهار وقال: يا أمة الله! من هذا الرجل الذي أرى منه كذا وكذا! لقد رابني أمرك! قالت: إنه سهل بن حنيف، علم أني امرأة، وليس عندي أحد، فيغدو على أصنام القوم فيأتيني بها ويقول: احتطبي بهذا.
إذاً: الأصنام تسمى بهذا الاسم إذا كانت على هيئتها الصنمية، فإذا ما كسرت لم تعد أصناماً، وأصبحت خشباً مكسراً، أو حديداً أو نحاساً، أو أي مادة صنعت منها.
إذاً النهي عن بيع الأصنام لا لعينها ولكن للازمها.
والأصنام: كل ما عبد من دون الله وكان ذا جسم -أي: شاخص- له ظل، مصنوع من خشب، أو حجر، أو معدن، ذهب أو فضة، أو نحاس، أو من الأحجار الكريمة، ويوجد في بعض البلاد -في معابد غير اليهود والنصارى والمسلمين- صور لأصنام من أحجار كريمة، ربما تعادل الملايين من الدولارات، وبيع الأصنام محرم، لا لنجاستها كما هو الحال في الخمر والميتة والخنزير، ولكن لعدم منفعتها، ولما يترتب عليها من الضلال فإنها تعبد من دون الله.
ويتفق العلماء على أن الصنم إذا كسر وتغيرت حالته عن كونه صنماً مجسماً ذا صورة وهيئة، وأصبح فُتاتاً وكسراً، ويمكن الانتفاع بتلك الأجزاء؛ فلا مانع من بيعها، فإذا كان الصنم من أحجار كريمة: كالفيروز، والياقوت، والعقيق، أو نحو ذلك، وفتت وأخذ فتاته، وانتفع به حلية: كفصوص للخواتم، وزينة لبعض المقتنيات فلا مانع، أو كان حجراً يمكن الاستفادة منه في بناء شيء أو ارتكاز شيء، أو كان خشباً يمكن الاستفادة منه باتخاذه حطباً، أو اتخاذه إناء، أو شيئاً مما ينتفع به في غير العبادات أو الضلال، فلا مانع.
وأشرنا إلى ما كان من علي رضي الله تعالى عنه حينما قدم مهاجراً، ونزل بقباء، وكانت هناك امرأة مغيبة -أي: ليس لها زوج حاضر- فكان يأتي شخص بالليل ويطرق عليها الباب، فتخرج فيناولها شيئاً ويذهب، فارتاب علي رضي الله تعالى عنه في ذلك فسألها: من هذا الذي يطرق عليكِ الباب ليلاً ويناولك شيئاً؟! وأنت امرأة وحيدة مغيبة! قالت: هذا فلان -وسمته: سهل بن حنيف - علم أني وحيدة، فيعدو على أصنام القوم، فيأتيني بها ويقول: احتطبي بهذه.
أي: تتخذها حطباً توقدها وتستفيد من وقودها، سواء كان في خبز عجينها، أو في طهي طعامها، أو تسخين مائها، أو تدفئتها، أو أي منفعة من المنافع التي يحتاجها الناس في البيوت.(184/9)
يحرم بيع ما لا فائدة منه
ويلحق بهذا كل ما لا فائدة فيها شرعاً، ولا عرفاً، فإنه يحرم بيعه، ومن ذلك آلات الملاهي، وتلك الأوراق التي يلعب بها كثير من الناس، فإنها ليس فيها فائدة، وقد يذكر أهل هذه اللعب فوائد لبعضها كتعليم الحساب، أو تعليم السياسة العسكرية، كما جعلوا ذلك في بعض أنواع النرد، ويسمونها (لعبة الملوك) وفيها تسيير الجيوش وتدبيرها، فالشطرنج مثلاً: بعضهم أجازها؛ لأن فيها التدريب على حسن قيادة الجيوش، وبعضهم قال: هي من الملاهي، فإذا كانت اللعبة، أو الآلة والأداة لا فائدة من ورائها -كأدوات الطرب جميعها بدون استثناء- ديناً ولا دنيا، فلا يجوز بيعها؛ لعدم صحة الانتفاع بها، وعدم إذن الشرع فيها، فكل ما نهى الشرع عنه من تلك النواحي أو كان لا فائدة فيه فهو داخل في عموم النهي عن بيع الأصنام، لا لأنه صنم، ولكن لأنه لا نفع فيه.
وأجمع العلماء على أن من شروط صحة المبيع أن يكون مما ينتفع به، أما ما لا ينتفع به فلا يجوز بيعه، فلو أن إنساناً يتاجر بالحيات والثعابين! فهذه لا ينتفع بها، اللهم إلا في المزارع الخاصة بها، فينتفع منها باستخراج سمها؛ لإدخاله في بعض الأدوية، وبعض المصالح، لأن سم الثعبان قد يعالج به، كما قال القائل: وداوني بالتي كانت هي الداء، فإذا اقتني لاستخلاص السم منه وتصنيعه، فلا بأس في ذلك، أما إذا كان للإيذاء، إذا كان للعب، أو كان لترويع الناس، فهذا حرام ولا يجوز بيعه.
وهكذا الحشرات التي لا تنفع، فكل ما لا نفع فيه شرعاً، ولا نفع فيه عرفاً، لا يجوز بيعه، وهو داخل تحت عنوان: النهي عن بيع الأصنام.(184/10)
حكم بيع شحوم الميتة والانتفاع بها
وهكذا نهى صلى الله عليه وسلم عن هذه المسميات، ثم إن السامع لما سمع النهي عن بيع الميتة، والميتة فيها ما ينتفع به عرفاً، وهو شحوم الميتة، يؤخذ فيجمل فيذاب -كما ذكر- وتطلى به السفن، أي: من الجانب الذي يلي الماء؛ لئلا يتخلل الماء في مسام الخشب؛ فيعدمه ويفسده، أو فيما بين تركيب اللوح على اللوح، فقد تكون هناك فجوات، أو مسام، فيحشونها بخيوط الصوف، أو الكتان، ويملئون فراغها، ثم يأتون بالشحم، أو يأتون بالقار، أو يأتون بأي أنواع الشحوم التي لا تذوب في الماء؛ لتسد المسام التي بين الألواح حتى لا يتسرب الماء إلى داخلها، أو إلى داخل الخشب فيفسده.
فاستثنوا (قالوا: يا رسول الله! أرأيت - (أرأيت) تستعمل بمعنى: أخبرني، أي: أخبرنا يا رسول الله! - شحوم الميتة، فإنه يستصبح بها، وتطلى بها السفن) .
قوله: (يستصبح بها) كان في السابق: يستصبح بمادة الدهن، قال الله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ} [النور:35] ، كان زيت الزيتون أرقى أنواع الاستصباح؛ لأن ضوءه يأتي صافياً، وليس فيه دخان، فكان يؤتى بالمصباح، وهو: عبارة عن وعاء مثل الكأس، يملأ بالزيت، ويوضع في داخله فتيلاً غير مشدود البرم، خفيف البرم -سحيل، كما يقال- ويجعل أحد طرفيه على حافة الكأس من الخارج، ويجعل الطرف الآخر داخل الكأس، وعملية الجذب وكثافة النار تسحب الزيت، والزيت يخرج من داخل الكأس بواسطة هذا الشريط -الخيط- فيصل إلى النار فيضيء، وكان إلى عهد قريب في المسجد النبوي القناديل معلقة، وكان يؤتى بالزيت بالبراميل، وهناك أحجار الزيت موجودة في التاريخ، ومستودعات الزيت كانت قبل العمارة السعودية الموجودة، فيستصبح بها، سواء كان في البيوت، أو كان في الطرقات، أو كان في المساجد.
فهذه مصلحة ومنفعة، فطلبوا استثناء شحوم الميتة، وقالوا: نستثني من ذلك يا رسول الله! الشحوم يا رسول الله! فإنه وإن كانت الميتة محرمة، ولا يجوز أكلها، ولا الانتفاع بها، ولكن في شحومها منفعة، فقال: (لا، هو حرام) .
كلمة (هو) هذا الضمير المنفصل يعود على أي شيء؟ هل هو عائد إلى النهى عن البيع، وبيع: لفظ مذكر، مصدر، يصدق عليه (هو) يعني: بيعها حرام، ويصدق عود الضمير على الشحم (هو) يعني: شحمها حرام، فكلمة (هو حرام) يتردد الضمير المنفصل في العود: إلى البيع المعنون له في الأول مع الأصناف الأربعة، وإلى الشحم المستجد الذكر، فقوله: (لا؛ هو حرام) يعني: بيعها، أم أن قوله: (لا؛ هو حرام) يعني: الشحم حرام، فمن هنا وقع الخلاف بين العلماء في الانتفاع بشحوم الميتة.
فقيل: الضمير راجع إلى البيع فقوله: (هو حرام) يعني: البيع حرام، فلا يجوز بيعه، ولا أخذ ثمنه، أما الانتفاع به لصاحبه في غير البيع فجائز؛ لأن التحريم عائد على البيع، وليس هناك نهي عن الانتفاع.
وإن كان الضمير راجعاً إلى الشحم، فيكون النهي عن الانتفاع عموماً، ومنه البيع؛ لأن البيع انتفاع، ولذلك نجد بعض العلماء يقول: لا ينتفع من الميتة بشيء، واستثنى منها: الشعر، والصوف، والوبر، فإنه يؤخذ من الميتة وينتفع به، وهذا جائز باتفاق، والخلاف في العظم: كسن العاج، وسن الفيل، وقد جاء: (ما أبين من حي فهو كميتته) ، وسن الفيل عاج يؤخذ منه وهو حي، فهل يكون كميتته حرام الانتفاع أو ليس كميتته، ولكنه كالشعر، والوبر، والصوف، في الحيوانات ذات الشعور والأوبار والأصواف؟ يقول ابن تيمية رحمه الله في هذا: سن الفيل خارج مثل الظفر، لأنه حينما يقص ليست فيه حياة، فهو كالجماد، إذاً: يجوز بيعه، ويجوز استعماله، وإن كان قد أبين من حي.
وقد جاء تحريم الميتة عاماً، قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] (ال) شملت جسمها من شعرها إلى ظلفها، وجاءت السنة واستثنت من ذلك الشعر، وفي الآية الأخرى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل:80] ، فقد أباح القرآن: جز الصوف، والوبر، والشعر، من البهيمة وهي حية، والانتفاع منه، إذاً: هذا تخصيص السنة للقرآن.
وجاء أبعد من هذا: (هلا أخذتم إهابها فانتفعتم به) ، وفي الحديث الآخر: (إذا ماتت الميتة فلا تنتفعوا منها بشيء) وهو عام في كل شيء، لكن جاء الاستثناء في قوله: (هلا أخذتم إهابها فانتفعتم به) ولو كان إهاب ميتة، ولو تنجس فإنه يطهره الماء: (أيما إهاب دبغ فقد طهر) ، حتى إن الإمام أبا حنيفة رحمه الله عمم الإهاب وقال: ولو إهاب خنزير، وقيل: إن الخنزير ليس لديه جلد.
-أنا لا أدري حقيقة الأمر، ولكن لا يوجد حيوان بدون جلد- وقيل: إن جلده يؤكل مع لحمه؛ ولهذا لم يخصص الجلد عن بقية اللحم في قوله: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام:145] ، فالضمير راجع إلى عموم الدائرة التي تحتوي الخنزير: شعره، جلده، لحمه، شحمه، فكل ما فيه: رجس، ولهذا لا يطهر.
فهنا استثني من الميتة الانتفاع بالجلد، ويطهر بالدباغة، سواء كانت بالتراب، بالقرظ، بالخشب، بأي شيء، ما دام قد دبغ، وأخرجت الرطوبة التي كانت فيه، وأصبح جرماً بلا رطوبة، فيجوز الانتفاع به، مع اختلاف الناس في الانتفاع بالمائعات، أو في اليابسات.
إلخ.
فهنا لما طلبوا استثناء شحوم الميتة من عموم النهي في البيع قال: (لا، هو ... ) هو: هل الضمير عائد على البيع أو على الشحم؟ فمن قال: عائد على البيع، قال: إن الشحم تابع للميتة، فإذا لم يجز بيعها؛ لم يجز الانتفاع به بأي حالة من الحالات، بدليل ما ذكر صلى الله عليه وسلم في حق اليهود: (لما حرم الله عليهم الشحوم جملوها فأذابوها فباعوها فأكلوا ثمنها) ، إذاً: انتفعوا بما حرم الله عليهم من الشحوم، وليس بلازم أن يكون الانتفاع بالأكل مباشرة، ولكن باعوها وأكلوا ثمنها، والثمن مادة سيالة تذهب في المطعوم وغير المطعوم، وحصل لهم انتفاع بالمحرم بواسطة، وهذا تحيل على ما نهى الله عنه.
فقوله: (هو حرام) أي: الشحم، فلا يجوز بيعه بأي حالة من الحالات، ولا يجوز استخدامه في أي شيء؛ لأنه حرام.(184/11)
الانتفاع بالزيت المتنجس
والذين قالوا: إن الضمير راجع إلى البيع، الذي هو أصل الحديث: (نهى عن بيع) قالوا: بما أن الضمير عائد على البيع، فإن المحرم: بيعها، ويجوز الانتفاع بشحوم الميتة، وبالزيوت المتنجسة انتفاعاً شخصياً، لا أن تباع ويؤخذ ثمنها ويؤكل، ولكن يستنفع بعينه، وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن السمن تقع فيه الفأرة، ونحن نعلم أن كل ذي نفس سائلة -يعني: دم- إذا سقط في سائل ولا نقول: قلة ولا قلتين- في إناء فمات فيه؛ فقد تنجس هذا السائل الذي فاضت نفسه فيه، وأما ما ليس له نفس سائلة إذا مات في السائل فإنه لا ينجسه، واستدلوا بحديث الذباب: (إذا سقط الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه) قال العلماء: غمس الذباب في الماء يضمن موتها فيه، وموتها فيه لا ينجسه؛ لأنها ليس لها نفس سائلة، وقاسوا على الذباب البعوضة وغيرها مما ليس له دم.
ومفهوم المخالفة: لو أن حشرة فيها دم يجري وماتت في السائل فإنها تنجسه، فعندنا حديث الذباب: لم ينجس الماء الذي غمس فيه، والفأرة نجست السمن الذي ماتت فيه؛ لأن الفأر فيه دورة دموية كبقية الحيوانات الأخرى، فلما سئل صلى الله عليه وسلم عن السمن تقع فيه الفأرة، قال: (إن كان جامداً فألقوها وما حولها) ألقوا الفأرة وما حولها من السمن الجامد، أما ما كان بعيداً عن مكان وقوعها فلم يصله أثر موتها، ولم تصل النجاسة إلى ما كان بعيداً عن موضع وقوعها وموتها، إذاً: الذي كان في موضع وقوعها وموتها تنجس فنلقيه، وما كان بعيداً لم يتنجس، بدليل الأمر بإلقاء ما كان حولها فقط، ومفهوم المخالفة: أن البعيد عنها لا نلقيه، وإذا كان مائعاً فجاء في الحديث: (فاتركوه) ، وجاء: (فانتفعوا به) بم ننتفع؟ بهذا السمن الذي ماتت فيه الفأرة! وإذا كان مائعاً فالنجاسة تسري إلى آخر الماعون الذي هو فيه، بخلاف الجامد فلا مجال لأن تسري فيه، ولكن فيما حولها فقط، فقالوا: هذا سمن تنجس بموت الفأرة فيه وهو مائع، والنجاسة قد سرت في كامل السمن الموجود في هذا الإناء، وأباح لهم الانتفاع به، وفي بعض الروايات: (فاستصبحوا به) إذاً: أباح لهم الانتفاع بسمن متنجس، إذاً: هذا متنجس بموت الفأرة، وذاك الشحم متنجس، أو نجس بموت الشاة؛ إذاً: يجوز أن نستفيد منه، ولا يجوز أن نبيعه؛ لأننا إن استفدنا منه كان بعينه فيما فيه المصلحة، فندهن به السفن، ونستصبح به في السرج، إلا المساجد كما هو منصوص عليه عند الحنابلة، فلا نستصبح بزيت متنجس في المسجد لماذا؟ وما الفرق بين المساجد والبيوت؟ قالوا: حفاظاً على المسجد من أن يسقط فيه من هذا الزيت؛ لأنه مخالط له، فلا نضمن مائة بالمائة أننا نضع الزيت في المصباح ولا يسقط منه شيء في أرض المسجد، إذاً: احتياطاً للمسجد، أما في الطرقات وفي البيوت فكيفما شئت.
فمن هنا قال بعض العلماء: يجوز الاستفادة من شحوم الميتة وما في حكمها بذاته، ولا يجوز بيعه، وهذا الجمع بين النهي عن بيع الميتة، ولما سئل عن الشحم قال: (هو حرام) .
يعني: بيعه، وهنا في السمن المتنجس قال: (انتفعوا به) إذاً هناك النهي عن البيع، وهنا الإذن في الاستفادة، وهذا هو الجمع بين الأمرين، وهكذا كل المتنجسات إذا أمكن الانتفاع بها في ذاتها فلا مانع.
وقاسوا على هذا سماد الحيوانات غير مأكولة اللحم -وهي نجسة- أما سماد مأكولة اللحم فروثها وبولها طاهر على المشهور، فإذا كان هناك -كما يسمونه- سرجين نجس هل يجوز بيعه؟ قالوا: لا.
فهل يجوز أن نسمد به النبات؟ قالوا: نعم؛ لأنه انتفاع بعينه بدون بيع.
وبعضهم قال: يجوز للمشتري أن يدفع الثمن، ولا يجوز للبائع أن يأخذ الثمن! فأين يذهب بالثمن إذا كان هذا سيدفع وهذا لا يأخذ؟! سيدفع لمن؟! قالوا: هذا من باب التورع، كما قيل في بيوت مكة: يجوز للمحتاج أن يستأجر، ولا يجوز للمالك أن يؤجر.
إذاً: فماذا يصنع؟ قالوا: إذا طلبت منه أجرة دفعها، وإذا لم تطلب منه أجرة فليس عليه شيء.
إذاً: طلبهم استثناء شحوم الميتة كان للحاجة إليها، ويجوز الانتفاع بها دون البيع، لحديث: (الفأرة تقع في السمن المائع فينتفع به) .
والله تعالى أعلم.(184/12)
كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [2]
هناك عدة أنواع من المكاسب محرمة مثل: ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن، وإنما نهي عن هذه المكاسب لما تتضمنه من شر وفساد.
وبعض أنواع البيوع مختلف فيها، مثل الشرط في البيع، والراجح: أن الشرط إذا كان يتمشى مع العقد، ولا يعود عليه بالبطلان، وليست فيه مخالفة شرعية فجائز، وإن كانت فيه مخالفة شرعية، أو يعود على العقد بالبطلان، أو لا يتمشى معه فهو باطل، ولو كان مائة شرط.(185/1)
شرح حديث: (إذا اختلف المتبايعان)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا اختلف المتبايعان وليس بينهما بينة فالقول ما يقول رب السلعة أو يتتاركان) رواه الخمسة وصححه الحاكم] .
قوله: (إذا اختلف المتبايعان) يختلفان في ماذا؟ قد يختلفان في الثمن، وقد يختلفان في نوعية السلعة، وقد يختلفان في حجم السلعة، وفي تعجيل الثمن وتأجيله.
إلخ.
فمثلاً: اشترى رجل سلعة، وعند الدفع أراد أن يدفع عشرة ريالات، فلم يقبل البائع ذلك، وطلب اثني عشر ريالاً فاختلفا، أو اختلفا في نوعية السلعة إلخ.
فأي خلاف بين المتبايعين قبل أن يفترقا، والسلعة لا زالت موجودة، فنأخذ كلام البائع، لكن ما الفرق بينهما، وهما طرفان متعادلان، هذا يدفع وهذا يدفع؟ ما الذي قدم البائع على المشتري في موقف الخلاف؟ فالمشتري يقول: أنا اشتريت كما أردتَ، وقبلت بما قلتَ، ولكنك تأسفت وندمت، وقلت: العشرة قليل، وطلبت الزيادة، فطلبك للاثني عشر زائد عما تعاقدنا عليه، إنما دفعك إليه الطمع! وإذا كلفنا البائع بالبيع بعشرة فسيكون متضرراً، وأيضاً المشتري لو كلفناه الشراء باثني عشر فسيكون متضرراً، فما القول؟! ما زالت السلعة في ملك البائع، ولا يتم البيع إلا عن تراضٍ، والبائع لم يرض بهذا الذي قاله المشتري، إذاً: كلام المشتري غير مقبول؛ لأنه لم يملك السلعة بعد، وكلام البائع هو المقدم؛ لأنه المالك للسلعة، والسلعة ما زالت في يده، ويقال للمشتري: إن رضيت بما قال البائع، فسيكون البائع راضياً بالبيع، وأنت راض بالشراء، وإذا لم ترض فلا تقدم رأيك على رأي البائع وهو صاحب السلعة.
إذاً: (إذا اختلف المتبايعان) سواء في: عين السلعة في القيمة في شرط في أجل في أي نوع من أنواع الخلاف الذي يقع بين المتبايعين، فالقاعدة عندنا: القول قول البائع؛ لأنه صاحب السلعة وصاحب الحق، ولا نأخذها منه إلا عن تراضٍ.(185/2)
شرح حديث: (نهى عن ثمن الكلب)
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن) متفق عليه] .
ذكر المؤلف في الحديث السابق بعض الأعيان المنهي عن بيعها كالخمر، والميتة.
إلخ، ثم ذكر اختلاف المتبايعين، ثم ذكر بعض أنواع الكسب المحرمة، ولو قدم هذا على اختلاف المتبايعين لكان أنسب.(185/3)
النهي عن ثمن الكلب
قال: (نهى عن ثمن الكلب) هنا لا يوجد بيع ولا شراء، ولكن في بعض صوره، فلم يقل: نهى عن بيع الكلب، نهى عن ثمنه، ولماذا نهى عن ثمن الكلب؟ وهل هو عام في الجنس أو يستثنى منه بعض الأوصاف؟ بعض الناس يقول: استثني من ذلك كلب الصيد؛ لأنه معلم ينتفع به، وما عداه لا منفعة فيه، وهو تابع للقاعدة العامة: ما لا فائدة فيه فليس محلاً للبيع.
وقالوا: العلة في النهي عن ثمن الكلب هو منع بيعه، ولماذا لا يباع؟ لأنه لا فائدة فيه.
فإذا كانت فيه فائدة؟ قالوا: لا اعتبار لهذه الفائدة مع وجود النجاسة؛ لأنه نجس؛ ولكن النجاسة لم يتفقوا عليها؛ فقد قال مالك بطهارة الكلب! فقالوا: الفائدة منه غير مضمونة، لكن أرباب الخبرات سيضمنون الفائدة: ككلب الصيد، وكلب الحراسة، وكلب الماشية، وبعضهم يقول: النهي منصب على ما عدا الثلاثة، فقد ورد في الحديث: (من اقتنى كلباً نقص من أجره كل يوم قيراط، إلا كلب صيد، أو ماشية، أو زرع) استُثني هذا: بأن صاحبه لا ينقص من أجره شيء؛ للحاجة إليه.
فالنهي عن ثمن الكلب قيل: عام في الجنس، وقيل: ما عدا ما فيه منفعة، والنهي، لعدم الانتفاع بالكلب في غير الأصناف الثلاثة التي رخص في اقتنائها.(185/4)
حكم مهر البغي
قوله: (نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي) البغاء محرم، والبغاء ممنوع، حتى في الجاهلية، وإنما كانوا يكرهون فتياتهم على البغاء، وقد عذر الله سبحانه هؤلاء الفتيات المكرهات فقال: {وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:33]-وهو -كما يقولون- أخبث أنواع الكسب؛ لأنه يأتي عن أسوأ وأخس طريق؛ فنهى عن مهر البغي، سواء كانت مع شريكها أو كانت لسيدها، وقد كانوا في السابق يكرهون الفتيات على البغاء؛ لتأتيهم بالمال الذي تأخذه أجرة ممن زنى بها، أو كان في حال المقابلة هي وشريكها في العمل، وأخذت مهراً على فعله معها، فهذا منهي عنه، ولا يحق لها أن تأخذ هذا المهر، ولا يحق لسيدها أن يرسلها في طريق البغاء لتأتيه بمهر، وسمي الأجر الذي يدفع مهراً؛ لأنه في مقابل مهور الحرائر، أو الزواج المشروع.(185/5)
حكم الكهانة وأجرتها
قوله: (وحلوان الكاهن) .
حلوان: على وزن فعلان، من الحلاوة، وهو الأجر الذي يأخذه الكاهن على كهانته، والكاهن -كما يقولون- هو: كل من ادعى علم غيب ماض أو حاضر أو مستقبل، وقيل: العراف: هو الذي يدعي معرفة الغيب المستقبل، والكاهن: هو الذي يدعي علم الغيب الماضي، فإذا خفي على الناس شيء مسروق، يأتي الكاهن ويقول: سرقه فلان، وهو مدفون في المكان الفلاني.
ينبئ عنه وقد وقع فيما مضى، أما العراف: فإنما يقول: سيأتي كذا، سيحدث كذا، ويخبر بما يمكن أن يكون في المستقبل، وكلهم سواء، وأجرتهم حرام.
والصديق رضي الله تعالى عنه أرسل خادماً له يأتي بطعام، فجاء فقدمه لـ أبي بكر، فلما طعمه سأله: من أين هذا؟ قال: كنت تكهنت لرجل في الجاهلية، فلقيني فأعطاني حلواني، فهذا هو.
فوضع الصديق إصبعه في حلقه واستقاء ما أكل من حلوان الكاهن.
والذي يهمنا هنا تحريم دفع الأجرة لهؤلاء؛ لأن فعلهم باطل، ومحادة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65] ، وإن صادف أن واحداً من هؤلاء صدق فيما أخبر، فقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب ذلك: وهو أن الشياطين يسترقون السمع، حتى إذا دنوا من السماء، سمعوا صريف الأقلام، ولربما سمع الأخير منهم -قبل أن يأتيهم الشهاب- كلمة من الملائكة في القضاء والقدر، فينزل بها أو يلقيها إلى من تحته، قبل أن يدركه الشهاب، ومن تحته يلقيها إلى من تحته حتى تصل إلى الأخير، فيذهب بها إلى صاحبه، ويخبره: سيقع كذا وكذا.
وهو صحيح، فيتكلم الكاهن بذلك، فيقع ما يقول، ويزيد معها مائة كذبة، ويصدق؛ لأنه في الوقت الفلاني أخبر بكذا، ووقع ما أخبر به! إذاً: فالكاهن يسترق السمع، وتكون حقاً، ويُصدق بها عند الناس، فيروج معها مائة كذبة.
فحلوان الكاهن هذا نهى الله سبحانه وتعالى عنه، ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، سواء كان الكاهن الذي يأخذه، أو الذي يذهب إليه ويدفعه له.
وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن الإتيان إلى هؤلاء، وقالوا: (من أتى عرافاً لم تقبل له صلاة أربعين يوماً) ، وإذا ردت عليه صلاة أربعين يوماً فما الذي بقي له؟! إذاً: هذا مما نهى عنه صلى الله عليه وسلم، وأيضاً مهر المرأة الباغية، وهكذا كل ما لم تكن فيه فائدة أو كان محرماً شرعاً، كالرهان، أو الميسر، وما لا فائدة فيه، أو فيه مضرة، أو فيه أكل أموال الناس بالباطل.(185/6)
الإخبار بحالة الطقس المتوقع ليس من الكهانة
هناك شيء أكثر الناس يعرفه، لكن ربما خفي على بعض الناس، وهو ما نسمعه في نشرة الأخبار الجوية: يكون الطقس في يوم غد -بإذن الله- غائماً جزئياً، ويطرأ كذا، ورياح كذا، وسحب كذا، ويمكن -بإذن الله- أن ينزل المطر.
إلخ، فبعض العوام يظن أن ذلك من الكاهنة، والواقع أنه ليس غيباً وليس كهانة، ولكنه إخبار بالواقع، فكل دولة لها مراصد جوية، فإذا كانت في الهند مراصد، ورصدت توجه الرياح بسرعة كذا كيلو في الساعة، فستخبر دول الخليج: بأنه هبت ريح بسرعة كذا، يعني: ستصلكم في وقت كذا، فحينما تصل إلى دول الخليج، فدول الخليج ستخبر السعودية، والسعودية بعد أن تصلها ستخبر مصر، ومصر ستخبر ليبيا، وليبيا ستخبر المغرب، وهكذا يتناقل الخبر، ويكون صحيحاً، والريح ماشية في طريقها، وربما تكون ممطرة؛ لتحملها الماء، أو سحب ثقيلة، أو نحو ذلك.
إذاً: ليس هذا من باب الغيب، وإنما هو تلقي الخبر الواقعي من بلد قبل البلد المخبرة، وهي تخبر بناءً على الأخبار التي جاءتها (لا سلكياً) ، وهذا ليس من باب الكهانة ولا من باب علم الغيب.(185/7)
شرح حديث: (كان على جمل له قد أعيى)
قال رحمه الله: [ (وعن جابر بن عبد الله أنه كان على جمل له قد أعيى فأراد أن يسيبه، قال: فلحقني النبي صلى الله عليه وسلم فدعا لي، وضربه؛ فسار سيراً لم يسر مثله، فقال: بعنيه بأوقية.
قلت: لا.
ثم قال: بعنيه.
فبعته بأوقية، واشترطت حملانه إلى أهلي، فلما بلغت أتيته بالجمل، فنقدني ثمنه، ثم رجعت فأرسل في أثري، فقال: أتراني ماكستك لآخذ جملك؟ خذ جملك ودراهمك، فهو لك) متفق عليه، وهذا السياق لـ مسلم] .
قوله: (كان على جمل له قد أعيى) أي: أعيى من المسير، وكان هذا في عودتهم من غزوة تبوك، وكانت المسافة طويلة، والجمل أعيى من السير وتعب، حتى كاد جابر أن يزهد فيه ويسيبه، ويمشي على قدمه، ماذا يفعل به وهو لا يقدر على المشي؟ قوله: (فأراد أن يسيبه قال: فلحقني النبي صلى الله عليه وسلم) .
إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم كان في مؤخرة الجيش، وهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كانوا في الذهاب إلى الغزوة يكون في المقدمة، وإذا كانوا قافلين -في العودة- يكون في المؤخرة.
لماذا؟ يكون في المؤخرة؛ ليتفقد مثل هذا الذي أعيى جمله، وفي المقدمة لماذا؟ ليشجع ويتأسى به الآخرون؛ لأن المقدمة تدل على الشجاعة، وعلى قوة العزيمة، لكن العودة لا يحتاج فيها إلى ما كان في الذهاب، ولكنه صلى الله عليه وسلم كان يسير في المؤخرة؛ ليتفقد حال من يعتريه ما يوجب مساعدته.
وقوله: (فدعا لي، وضربه، فسار سيراً لم يسر مثله) .
كأنه قال: ما بالك يا جابر؟! ما بالك متأخراً؟! قال: أعيى جملي، قال: ناولني عصاً، أو قضيباً، فأعطاه القضيب فضربه، فإذا بالجمل الذي أعيى يسبق الركب، وصار يتسابق ويتزاحم مع ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق.(185/8)
مداعبته صلى الله عليه وسلم لجابر
تأتي المداعبة اللطيفة: يا جابر! أنت كنت زهدت في جملك وتريد أن تسيبه، فهل تبيعه الآن؟! انظروا اللطافة إلى أي حد! معناه: أنك كنت زاهداً فيه، ولا تريد من ورائه شيئاً، فهل تبيع؟! كأنه يقول: هاه! هل ناسبك الآن؟ أيصلح لك؟! أتبيعني جملك؟! قال: لا.
أنت بالأمس كنت تريد أن تسيبه، والآن نريد أن نشتريه منك نقداً، فتقول: لا! كنت أريد أن أسيبه لما كان أعيى، ولكنه الآن صار ممتازاً، لماذا أبيعه؟ قال: بعني.
إذاً: ما دام أتت الثانية، أو أتت المساومة، فلابد من الطاعة، فهل استحى جابر من رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أعاد إليه: بعني، أو استجاب له؛ لأنه فعل أمر: (بعني) ؟ قال: بعتك.
قوله: (فقال: بعنيه بأوقية.
قلت: لا) .
الأوقية: أربعون درهماً.
(بعنيه بأوقية) هل أوقية ذهب أو فضة؟ كان أكثر تعامل أهل الحجاز بالفضة، (بعنيه بأوقية.
قال: لا) ثم أعاد عليه الأمر، فقال: (بعتك) ولكن نحن في منتصف الطريق، فكيف أبيعك الجمل! وأنا أين أذهب؟! وقوله: (ثم قال: بعنيه.
فبعته بأوقية، واشترطت حملانه إلى أهلي) .
بعد أن انتهوا، وتم البيع بإيجاب وقبول، ولم يدفع الثمن بعد، قال: (واشترطت حملانه إلى أهلي) أنا صحيح بعتك، ولكننا في الخلاء فأشترط عليك -وقد اشتريته، وأصبح في ملكك- أن يحملني إلى المدينة، إذاً: حملانه من محل العقد إلى المدينة خارج عن العقد، العقد تم بالإيجاب والقبول، ولكن جابراً اشترط منفعة له في المبيع، والرسول صلى الله عليه وسلم وافقه بدليل: أن جابراً لما وصل المدينة جاء بالجمل، وقال: خذ حقك، وأعطني حقي.
فقال صلى الله عليه وسلم: يا فلان! أعطني الثمن.
وانظر إلى المضي في المداعبة إلى أي حد! قال: (فلما بلغت أتيته بالجمل فنقدني ثمنه، ثم رجعت فأرسل في أثري) .
أخذت الثمن ورجعت، وكل واحد ذهب في سبيله، أرسل في أثري، قال: تعال.
قوله: (قال: أتُراني ماكستك لآخذ جملك؟) .
تعال يا جابر! أنت بعتني هناك، وأخذت الثمن الآن وانتهينا، لم تعد بيننا مساومة، أتراني -بمعنى: أتظنني- ماكستك هناك عند العقد؟ (حينما قلت: بعني بأوقية.
فقلت: لا.
قال: بعني) هذه هي المماكسة، والبيع إما أن يكون على المماكسة -وهي المساومة- أو على الوضيعة، أو على المرابحة، أو على المساواة.
أتراني ماكستك هناك -ونحن في الخلاء- لكي آخذ جملك منك؟ لا، أنا ما فعلت هذا يا جابر! خذ جملك، هو لك والثمن.
ولماذا لم يقل له من البداية: يا جابر! خذ هذه الأوقية؟ لكن كيف يأخذها جابر بدون بيع وشراء، فلو جاء وقال: خذ يا جابر! سيقول: لماذا هذه يا رسول الله؟! ما موجبها؟! فإذا أراد الصديق أن يصانع صديقه، وكان ذا حياء، فيجب أن يحتال في صورة ترفع الحياء والخجل عن صاحبه: أنا أريد أن أشتري منك هذا.
قال: والله أنا في حاجته، ولكن ما دمت تريد أن تشتريه فأنا لا أقول لك: لا، فإذا كانت قيمته عشرة تعطيه عشرين، أما لو جئت وقلت له: يا فلان! هذه العشرة هدية لك! سيتساءل: ما موجبها؟ لعله رآني محتاجاً، وماله كثير، أنا.
أنا.
وسيحصل في نفسه مثل هذا الحرج، ولكن لو قال: بعني هذا، هذا أعجبني، ما له نظير في السوق، فسيقبل ذلك بسرور، أنت وهو والناس كلهم يعرفون أنه يساوي عشرة، لكن دفعت له عشرين، وظاهر الأمر أنك دفعت العشرة الزائدة لكونك رغبت في هذه السلعة، وليس هناك غضاضة على البائع بالمكارمة في الثمن، وهنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أتراني ماكستك لآخذ جملك بالأوقية؟ خذ الجمل والأوقية فهما لك.(185/9)
حكم الشرط في البيع
وهنا مبحث طويل، وهو: الشرط في البيع.
وخلاصة مبحث الشرط في البيع: أن يشترط البائع فيما باع، أو يشترط المشتري فيما اشترى، أو اشترط في عين السلعة، مثال اشتراط البائع على المشتري: حديث جابر، ومثال اشتراط المشتري على البائع لا في عين السلعة: أن يقول له: أشتري منك هذا الحمل -ونحن هنا- بشرط أن توصله لي إلى البيت، إذاً: اشترط المشتري على البائع شيئاً لمصلحته، وجابر اشترط شيئاً لمصلحته، وهو البائع، ومثال الشرط في عين السلعة: أشتري منك هذه السيارة بشرط أن تكون ماركة كذا، فنحن لا نعرف الماركات ولكن سنسأل، أشتري منك كذا، على أن يكون موديل سنة كذا، أشتري منك كذا، على أنه من نوع كذا، فالشرط هنا في السلعة، أو قال: تزوجني كذا على أنها بكر، فهذا شرط في عين المرأة.
إذاً: الشرط إما أن يكون لمنفعة البائع، ويشترطه في المبيع، أو لمصلحة المشتري، ويشترطه في المبيع، أو بينهما في عين السلعة، وكل هذه الشروط في مضمونها: إما أنها تتمشى مع مقتضى العقد، والعقد يتطلبها أو يجيزها، فهذه لا شك في جوازها، وإما أنها تتعارض مع مقتضى العقد، فهي ممنوعة، مثلاً: بعت السلعة، قال والثمن قال له: حتى نصل إلى المدينة، قال: أريد رهناً، فهذا شرط لمصلحة توثيق العقد، أو أن البائع قال: بعتك ولكن بشرط ألا تبيعه لغيرك، وألا تهبه لأحد، وإنما تبقيه في ملكك! ومقتضى العقد أنك إذا اشتريت شيئاً فإنك تملكته، وإذا ملكته فأنت حر في التصرف فيه، فاشتراطه عليك ألا تبيعه، نقص في التمليك، وهذا يتنافى مع العقد؛ ولذلك فهذا الشرط باطل.(185/10)
نموذج في اختلاف وجهات النظر
وهنا مسألة من لطائف العلم في شروط البيع، يقول عبد الوارث: جئت إلى مكة فوجدت فيها أبا حنيفة، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، فقلت: هؤلاء -والله- هم علماء العراق، لأنتهزن فرصة وجودهم، فجئت إلى أبي حنيفة وقلت له: ما تقول في شرط وبيع؟ قال: الشرط والعقد كلاهما باطل.
وذهبت إلى ابن أبي ليلى فقال: البيع صحيح، والشرط باطل، فذهبت إلى ابن شبرمة، فقال: العقد صحيح، والشرط صحيح.
قلت: ويا عجب! ثلاثة أئمة من بلد واحد يختلفون في مسألة واحدة! فرجعت إلى أبي حنيفة وقلت: إن ابن أبي ليلى يقول كذا، وابن شبرمة يقول كذا.
فقال: ما علي مما قيل لك، (نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط) ، إذاً: أتى بالحكم بأن العقد والشرط باطل من هذا الحديث.
فذهبت إلى ابن أبي ليلى، فقلت: إن صاحبك يقول كذا، وابن شبرمة يقول: كذا، ولما رجعت إلى أبي حنيفة أخبرته بما قلت أنت، وبما قال ابن شبرمة.
فقال: كذا، فقال ابن أبي ليلى: ما علي مما قيل لك، (جاءت بريرة إلى أم المؤمنين عائشة تستعديها -أو تستسعيها- في مساعدتها في المكاتبة، قالت: إني كاتبت أهلي على كذا أوقية، إلى زمن كذا.
فقالت: اذهبي إليهم وأخبريهم: إن شاءوا نقدتها لهم كلها -أي: الثمن- ولي الولاء، فذهبت وأخبرت أهلها.
فقالوا: لا، تشتريها والولاء لنا.
فرجعت بريرة إلى أم المؤمنين وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء، قال: ما بال هذه المرأة؟ فأخبرته.
قال: ما عليك، اشتريها واشترطي لهم.
فلما اشترتها واشترطت لهم خرج صلى الله عليه وسلم إلى المسجد، ودعا الناس، وقال: ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، ولو مائة شرط) فأجاز البيع وأبطل الشرط.
قال: ثم ذهبت إلى ابن شبرمة، وأخبرته بما حصل، وبما قال صاحباه، فقال: ما علي مما قيل لك، لقد باع جابر جمله إلى النبي صلى الله عليه وسلم واشترط عليه حملانه إلى المدينة، فصح العقد وصح الشرط.
ما تقولون في هذا؟ هل نعيب في مسألة وقع الخلاف فيها بين الأئمة؟! يتعين ويجب على كل طالب علم أو طويلب علم إذا بلغه خبر اختلاف الأئمة في مسألة واحدة؛ أن يتأدب وأن يتريث وأن يستطلع، انظر إلى هذا السائل، وهو عبد الوارث سأل، وأخذ الجواب من الثلاثة، وكانت أجوبة مختلفة، ورجع إليهم واحداً واحداً، وسمع الدليل من كل واحد، مع أن كل واحد لما سمع مقالة الثاني ودليله، لم يرجع عما عنده من دليل أيضاً؛ لأنه عنده أرجح مما سمعه من الغير.
إذاً: من انقدح عنده ترجيح نص على نص آخر، فله الحق أن يقول بما انقدح عنده رجحانه، ولا يعاب عليه.
وهذه -كما أشرنا- مسألة واحدة: بيع وشرط، يختلف فيها هؤلاء الأئمة الأعلام، ولم يعب واحد على الآخر، ولم يترك واحد ما عنده من النص تقليداً للآخر، ومن أراد الزيادة في هذا فليرجع إلى كتاب "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" للإمام ابن تيمية رحمه الله، فقد ساق نماذج عديدة في أسباب الخلاف: في اختلاف وجهات النظر في النص، في تعدد الأدلة، في تعارضها، في عدم ثبوتها.
إلى آخره، فقد ذكر عشرة أسباب توجب الخلاف بين العلماء.(185/11)
قاعدة في الاشتراط في البيع
حديث جابر ركن في هذا الباب، والقاعدة بعد ذلك: كل شرط يتمشى مع مقتضى العقد فهو صحيح؛ لأنه لا يتعارض مع قوة العقد، وكل شرط يتنافى مع مقتضى العقد فهو فاسد؛ لأن الشرط فرع عن العقد، والفرع لا يبطل الأصل، إذاً: نبطل الفرع ويبقى الأصل سليماً، كما في قضية بريرة.
وللعلماء بحث في قوله صلى الله عليه وسلم: (كل شرط ليس في كتاب الله) ، بعض الناس ينتظر أن يجد في كتاب الله نص الشرط، ويبحث عن نص شرط بريرة، وشرط عائشة على بريرة أن يكون الولاء لها، ومتى يكون هذا التفصيل في كتاب الله؟! وهل كتاب الله جاء لتفصيل الجزئيات؟! إنما جاء كتاب الله بقواعد عامة تشريعية تصلح لكل زمان ومكان، فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (كل شرط ليس في كتاب الله) أي: كل شرط لا يتمشى مع مقتضى كتاب الله -فيما يجوز وما لا يجوز- فهو باطل، ولو مائة شرط، ما هو الشرط الذي لا يوجد في كتاب الله؟ هو الشرط الذي يتنافى مع مقتضى العقد.
ولذا فالفقهاء قعدوا هذه القاعدة: لكل من البائع والمشتري أن يشترط، ولكلٍ الحق في ما اشترطه، وعلى الثاني أن يوفي بشرطه (المؤمنون عند شروطهم) لأن الشرط جزء من المعقود عليه، فقد يكون تنازل في الثمن من أجل الشرط، وقد يكون زاد في الثمن من أجل الشرط الذي اشترطه لنفسه، إذاً: ما كان من شرط يتناسب مع مقتضى العقد فالشرط صحيح، وما كان من شرط يتناقض، ويتعارض مع مقتضى العقد فالشرط باطل، والله سبحانه وتعالى أعلم.(185/12)
المعجزة النبوية
نرجع مرة أخرى: هذا جمل أعيى عن المسير، قال: أعطني عصا.
فضربه فإذا بالجمل يسابق ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم! ماذا كان في هذه العصا؟ لا شيء، فلم تكن عصا سحرية! ولم تكن عصا موسى! ولم يسقه شراباً، ولا لبناً، ولا سمناً، ولا أعطاه علفاً، مع أن هذه الأصناف هي موجبات القوة، إنما ضربه -والضرب منهك- فإذا به يأتي بنتيجة عكسية.
إذاً: هذه معجزة، ويقول السيوطي رحمه الله: ما من معجزة أوتيها نبي إلا وأعطي محمد صلى الله عليه وسلم نظيرها: عصا موسى تفلق البحر، وعصا موسى تنقلب حية، وعصا موسى تفعل الأعاجيب، وهذه عصا تعطي البعير قوة، من أين جاءته هذه القوة؟ العصا ما فيها قوة، ولكن اليد التي ضربت جعل الله فيها البركة.
الزبير في غزوة الخندق ضرب شخصاً على رأسه فشقت غطاء الرأس، وشقت الرجل نصفين، ونزلت إلى الفرس فقسمته نصفين، فقال قائل: والله ما أجود سيفك يا زبير! قال: لا، الكلام ليس للسيف، الكلام على اليد التي ضربت بالسيف.
وكذلك هنا، ليست العبرة في عصا يقود بها جابر بعيره، ولكن العبرة باليد التي ضربت البعير، ونظير هذا: حينما دخل صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح، وأتى إلى الكعبة وكانت الأصنام التي حولها (360%) صنماً، حوالي ثلاثمائة صنم، ومثبتة بالرصاص، وماذا فعل صلى الله عليه وسلم؟ هل قال: ائتوا بسلم، ائتوا بمعول، ائتوا (بكمبريشن) ؟! لا، القضيب الذي في يده كان يشير به إلى الصنم، فما أشار إلى صنم في قفاه إلا خر لوجه، ولا أشار إلى صنم في وجهه إلا خر لقفاه، وهكذا قوضت تلك الأصنام بكاملها بإشارة من العصا! هل كان فيها أشعة (ليزر) تذيب الرصاص وتسقطه؟ وأليس هذا القضيب كان في يده صلى الله عليه وسلم حينما كان يصلي عند الكعبة وجاءوا بسلى الجزور ووضعوه على ظهره؟ بلى كان موجوداً، فهل فعل شيئاً من هذا؟! ألم يكن في يده حينما منعوه من دخول مكة عند عودته من الطائف، ولم يدخل إلا في جوار رجل مشرك؟ لماذا لم يكسر الأصنام أو بعضها بالعصا، ويبين لهم القوة؟! لماذا لم يفعل ذلك؟ لكل شيء أوانه، لو فعل في ذاك الوقت لقامت حرب أهلية، ولكن ماذا لو بقيت الأصنام على الكعبة سنة أو سنتين أو ثلاث أو عشر، وقد كانت معلقة على جدران الكعبة من عشرات السنين؟ وحينما يأتي الحق ويزهق الباطل ينتهي الأمر.
إذاً: هذه من المعجزات التي أوتيها صلى الله عليه وسلم، وكما قال السيوطي: ما من معجزة أوتيها نبي إلا وأوتي محمد صلى الله عليه وسلم مثلها، فالحجر التي ضربها موسى فانفجر منها الماء {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ} [البقرة:60] قد أوتي محمد صلى الله عليه وسلم معجزة من جنسها، بل أبلغ منها، وذلك لما أتوا ليتوضئوا ولم يكن هناك ماء، فجاءوا بركوة، ووضع النبي صلى الله عليه وسلم أصابعه فيها، فنبع الماء من بين الأصابع، الماء يخرج من خلال الحجر أمر طبيعي {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} [البقرة:74] هذه طبيعة الحجارة، لكن أن يخرج من بين اللحم والدم فيتوضئون عن آخرهم! هذا أبلغ.
إذاً: كونه صلى الله عليه وسلم يضرب الجمل الذي قد أعيى، فإذا به يعطى قوة! حتى يسابق ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه معجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم التي أظهرها الله سبحانه وتعالى على يديه صلى الله عليه وسلم؛ تصديقاً لما جاء به من عند الله سبحانه وتعالى.(185/13)
كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [3]
من الفواسق الفأرة، ولها أحكام في الفقه، مثل حكمها لو وقعت في سمن جامد أو مائع، ويذكر هذا في باب البيوع للاختلاف في جواز بيع هذا السمن الذي سقطت فيه.
وكذا يذكرون في باب البيوع حكم بيع السنور والكلب، ومثل هذه المسائل إنما يدل على سعة هذا الدين وشموله، وتميزه في حل المشكلات من المسائل العارضة.(186/1)
شرح حديث: (أعتق رجل منا عبداً)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد فقال المصنف رحمه الله: [وعنه (أي: عن جابر) قال: (أعتق رجل منا عبداً له عن دبر، ولم يكن له مال غيره، فدعا به النبي صلى الله عليه وسلم فباعه) .
متفق عليه] .
شخص أعتق عبداً، والرسول صلى الله عليه وسلم أحضره وباعه، وانتهى الأمر، ما علاقة هذا بهذا الباب؟! المؤلف عنوَن لهذا الباب بقوله: باب شروطه وما نهي عنه، وهنا يسوق لنا حديث: (أعتق رجل منا عبداً له عن دبر) ، (أعتق عبداً) هذه مفهومة، لكن (عن دبر) يعني: بعد موته، قال للعبد: أنت حر بعد موتي، فمات، فإنه يُعتَق، فسمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بالعبد وباعه، ولماذا باعه وأبطل إعتاقه؟ أممنوع أن الإنسان يعتق عن دبر؟! ليس بممنوع، إذاً: فما العلة والموجب لإبطال إعتاقه؟! المؤلف هنا اختصر الحديث، وهذا رجل أوصى بعتق عبده، جاء في هذه الرواية: (ولم يكن له مال غيره) ، وهناك رواية أخرى: (وهو مدين) ، فكيف تكون مديناً للناس، وتتبرع للعبد بالحرية! أولاً: اعتق نفسك أنت؛ لأن الإنسان الذي يموت مديناً يكون مرتهناً بدينه في قبره، فالأولى: أن تعتق نفسك بسداد الدين قبل أن تعتق العبد.(186/2)
ثلاث جدهن جد وهزلهن جد
يقولون: ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: الطلاق، والنكاح، والعتاق، وهذا أعتق، ولو أعتق وهو يمزح؛ قلنا: هذا جد، وكذا لو طلق وهو يضحك أو يلعب، قلنا: انتهى الأمر، ليس فيها لعب، ولو قال: زوجتك وهو يلعب؛ انتهى الأمر زوّج.
يذكر أن اثنين تواعدا للخروج للغزو، فتأخر أحدهما عن الآخر، قال: ما أخرك يا أخي؟! قال: جئت أخرج فإذا المرأة تنفس فانتظرت حتى وضعت، قال: فماذا رزقت؟ قال: رزقت بنتاً، قال: زوجنيها، فقال: زوجتك.
الآن لم تُربط سرة البنت بعد! وهذا يقول: زوجنيها! والأب يقول له: زوجتك، لكنه يقولها مزاحاً.
فالثاني تربص حتى عرف أنه قد حان قطافها، قال: يا أخي! زف لي عروستي، قال: ما بيني وبينك شيء.
قال: في يوم كذا، في ظرف كذا، في غزوة كذا، أما زوجتني البنت ليلة ولادتها؟! قال: اذهب يا رجل! إنما كان مزحاً ولعباً، فذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن هذا امتنع أن يعطيني زوجتي، وأخبره القصة، فقال له: (دعها لا خير لك فيها) ، أقر الحق في نصابه، ثم وجّه النصح، هذا الذي يجاهد ويذهب ليغزو في سبيل الله، يتزوج بنتاً لم تربط سرتها! كم يكون الفرق بينهم من السنين؟ وأيضاً فهو سيأخذها غصباً عن أهلها؛ لأنهم قبلوا بتزويجها له في حالة مزح، والآن أصبح الأمر لا مزح فيه، فكيف ستكون العلاقة بينهما؟ يعني: هذا الوضع ليس وضع زواج وفرح، (لا خير لك فيها) .
فهنا أعتق العبد، أو أوصى بعتقه، ومات فاستحق العتق، فعُتِق العبد، ثم استدعاه صلى الله عليه وسلم وباعه.
لماذا باعه؟ وأين ذهب بثمنه؟! هل أعطاه للورثة؟ لا، بل دفع لأصحاب الديون ديونهم.
وإنما استرجعه من العتق وباعه من أجل تسديد الدين الذي على سيد ذلك العبد.
فهل يجوز للإنسان أن يعتق أو أن يتصدق وهو مدين؟ هو مدين بمائة ألف، وعنده عشرة آلاف، وذهب يتصدق بها، ويقول: هذا لوجه الله، وماذا عن حق الناس! العشرة آلاف التي وزعتها على عشرة أشخاص، كل واحد أعطيته ألفاً، ستعيشه يوماً أو يومين، لكن كيف تتصدق وأنت مدين؟! ما يجوز هذا.
ومن هنا قال العلماء: لا يجوز لإنسان أن يعتق -سواءً كان العتق في حال حياته أو عن دبر منه- وهو مدين بقيمة العبد، أو بعضه، وعلى ولي الأمر أن يرد العتق، ويبيع العبد، ويسدد الديون، والله سبحانه وتعالى أعلم.(186/3)
شرح حديث: (أن فأرة وقعت في سمن)
قال رحمه الله: [وعن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم (أن فأرة وقعت في سمن فماتت فيه، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال: القوها وما حولها وكلوه) .
رواه البخاري وزاد أحمد والنسائي (في سمن جامد) .
يذكر المؤلف رحمه الله تعالى حكم المتنجسات، وحكم بيعها، أي: الأشياء التي أصلها طاهر ولكن طرأت عليها نجاسة.
وذلك بعد أن قدّم حكم نجس العين، في عين الخمر، والميتة، والخنزير، فهذه الثلاث نجسة بذاتها، أما السمن فمن حيث هو فطاهر، وإدام، ونعمة، لكن قد يطرأ عليه ما ينجسه، فما حكم ذلك؟(186/4)
الحكم فيما إذا ماتت الفأرة في السمن الجامد
أخبرتنا ميمونة رضي الله تعالى عنها أن فأرة وقعت في سمن، وسئل عنه صلى الله عليه وسلم فقال: (ألقوها -أي: الفأرة- وما حولها) ، ومفهوم كلمة (ما حولها) يشعر بأن السمن جامد؛ لأن السائل لا يتحدد حولها بحد، أما الجامد فما قرب منها فهو حولها، ثم جاء التصريح (في سمن جامد) .
وما عدا منطقة سقوط الفأرة وموتها، فكلوه على الأصل، وسيأتي البيان في الحديث الذي بعده حديث أبي هريرة، وقد جمعهما المؤلف ليبين حكم السمن الجامد والسمن المائع، وما يُلحق بذلك.(186/5)
تاريخ الفأرة، وفسقها
الفأرة لها تاريخ! يقول بعض العلماء إنها من الأمم التي مسخت من قبل، ويذكر الشوكاني دلالة على مسخها، وليس معنى مسخها: أن كل فأرة في العالم من ذاك الممسوخ، فهناك مخلوق أصلي، وهناك مخلوق ممسوخ.
يقول بعض العلماء: لو قرّبت إليها حليب الإبل، أو لحم الإبل، ما أكلته وما شربته؛ لأن بني إسرائيل لا يشربون ألبان الإبل، ولا يأكلون لحومها؛ لأن خفها ذو ظفر، وإن كانت من الفئران الأصلية -قبل المسخ- فإنها تشرب وتأكل! وبعض العلماء يرد ذلك ويقول: إن كل ما مُسخ من الأمم التي نص القرآن أن الله جعل منهم قردة وخنازير لم يعيشوا أكثر من ثلاثة أيام، أي: بعد أن ثبتت الآية في حقهم، والآخرون يقولون: إنهم لا زالوا يتناسلون، وموجودون حتى الآن.
والفأرة إن من طبيعتها الإفساد، فلا تعرف إصلاحاً أبداً، وسميت الفويسقة، وهي: تصغير فاسقة، لأن الفسق في اللغة: الخروج، تقول العرب: فسقت النواة عن الرطب، يعني: خرجت منها، وفسقت الحبة عن الرحى: أي طارت من تحتها ولم تُطحن، ومنه الفاسق من البشر: الذي يخرج إلى طريق الإفساد.
قالوا: إنها لا تخرج إلا للإفساد، ويقولون: إن الفأر خبير بمواطن دفن الذهب، وينقب عنه ويخرجه، ولهم في ذلك قصص.
وجاء في الحديث: (غطوا الإناء، وأوكوا السقاء، وأغلقوا الباب، وأطفؤا السراج) ، ثم بيّن صلى الله عليه وسلم وقال: (فإن الفويسقة تضرم على أهل البيت بيتهم) ، كما نبهنا بأنهم في السابق كانوا يستصبحون بالزيت، ويضعون الفتيل داخل السراج، وهو: عبارة عن كأس فيه زيت، ويضعون طرف الفتيل على حافة السراج، ويشعلون فيه النار، فيضيء مثل الشمعة، فإذا جاءت الفأرة، وأرادت أن تلعق الزيت، تخاف من النار، فتنثني بذنبها، وتسحب الخيط الذي في السراج، وتخرجه وتلقيه خارج السراج، وقد يكون مشتعلاً، فإذا سقط على فراش أو على ثياب أو شيء قابل للاحتراق أشعله، (فإن الفويسقة تضرم) أي: تحرق (على أهل البيت بيتهم) .
وأما تخمير الإناء فهو: تغطيته، فإذا كان الإناء فيه ولو ماء، فعليك أن تغطيه، وجاء في الأثر: (فإن لم يجد أحدكم إلا أن يعرض على إنائه عوداً، ويذكر اسم الله فليفعل) ، ضع عليه عوداً معترضاً، وسم الله فإنه يكفيه، وذكر صلى الله عليه وسلم أن البلاء ينزل ليلة في السنة، فما وجد إناءً مكشوفاً إلا نزل فيه، حتى قال بعض العلماء: لو كان الإناء فارغاً فإما أن تكفيه، وإما أن تغطيه.
وإيكاء السقاء، السقاء: القربة، ومعلوم أنها كانت آلة الشرب، وتبريد الماء، وحمله، فإذا تركت فم القربة مفتوحاً -وخاصة في المناطق الحارة- فإن الهوام تبحث عن الأشياء الباردة، وتأتي وتلبد فيها طلباً للبرودة، فلربما هوام الأرض جاءت إلى فم القربة فوجدته مفتوحاً فدخلت، ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم عن الشرب من فم السقاء، ولو كان مربوطاً، فلا تذهب وتفكه وتضعه على فمك وتشرب، ولكن يجب أن تصب الماء في إناء لترى ماذا فيه؟ أهو صاف أم فيه شيء، فلو كان في السقاء شيء؟ وشربت بفيك فلن تستطع تداركه، لكن إذا صببت الماء في الإناء رأيت الإناء بما فيه.
وقد سمعنا في هذا حكايات كثيرة: فهذا يرى العقرب الصغيرة على فم القربة، وهذا رأى كذا وكذا، أشياء كثيرة، وهذا أمر طبيعي وخاصة في المناطق الحارة.
وهنا تذكر لنا ميمونة رضي الله تعالى عنها أن فأراً وقع في السمن، وأظن أنه لا يوجد بيت من البيوت يسلم من الفئران، إلا ما كان في الآونة الأخيرة من البيوت المسلحة التي ما فيها بيوت للفئران، ولا تستطيع أن تتخذ لها فيها بيوتاً، ولكن يمكن أن تدخل بين الأثاث، وخاصة في المخازن والمستودعات، فهناك تتكاثر وتتوالد وهي -سبحان الله- أعطاها الله كثرة الإنتاج.(186/6)
غمس الذباب في الإناء إن وقع فيه
الفأرة مخالطة للناس، وقد بيّن صلى الله عليه وسلم كيف نتعامل معها، كما بين لنا كيف نتعامل مع الذباب، (إذا وقع الذباب في شراب أحدكم) ، ولا أظن أحداً في الدنيا لم يسقط الذباب في كأس في يده؛ لأنه مخالط للناس، وسبحان الله جربها في حياتك، خذ طعاماً وشراباً واذهب إلى الربع الخالي -يمكن خالي حتى من الجن- وضع الطعام واجلس خمس دقائق، تجد الذباب عندك، من أين جاء؟ أمسافر معك أم خرج من الأرض أم نزل من السماء؟! لا ندري! قل أن تضع الطعام في مكان إلا وجدت الذباب، ويقولون -والله أعلم-: إلا منى أيام التشريق فقط، وبعد أيام التشريق لا تستطيع أن تجلس فيها من كثرة الذباب، والبعوض، والحيوانات الأخرى.
إذاً: علمنا صلى الله عليه وسلم إذا سقط الذباب في الإناء ماذا نفعل؛ لأن هذا أمر وارد وبكثرة: (فليغمسه ثم لينزعه) ، وبعد هذا تشرب، ومن الخطأ عند بعض الناس إذا وقع الذباب في الكأس رماه حالاً، وأفرغ ما فيه، وهذا غلط؛ لأن الحديث فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (فليغمسه، ثم لينزعه، فإن في إحدى جناحيه داء، وفي الأخر شفاء) ، وهذا قامت عليه أبحاث في أوروبا عجيبة جداً، كيف يكون في حشرة صغيرة: أحد الجناحين داء، والثاني دواء؟! وما الذي ميّز بين هذا وذاك؟ وكتبت كتابات طويلة ما نحب أن نضيع الوقت في إيرادها، لكن يتفقون طبياً: أنهم وجدوا مبيد البكتريا في الأنبوب في مؤخرها، وهو أقوى من أي مبيد على وجه الأرض، أي: واحد على مائة ألف، وقالوا: أنها إذا غمست في الماء؛ ضغط الماء على الأنبوب فينفجر عما فيه فيطهر السائل.
فالذي رأى الذباب سقطت بالكأس فإنه يراه يدلي بالجناح الذي فيه الداء، ويرفع الجناح الثاني الذي فيه الدواء، فحينما تغمسها بكاملها تكون قد جمعت الجناحين، وكان الجناح الذي فيه الدواء يقابل الجناح الذي فيه الداء، ويطهُر السائل من دائه، أما إذا صببته فإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء، وقد فعل، وأصبح السائل ملوثاً؛ لأن الجناح الثاني مرفوع فوق، فإذا أرقت هذا الماء فإن جدران الكأس تحمل من داء جناحه ما يكفي للتلويث، ولو غسّلته بالصابون وبالتراب فلا ينقي كما لو غمست الجناح الثاني، وهذه حكمة الله سبحانه وتعالى، وهو الأعلم بمداها وكيف أوجدها.
كنت مع طبيب مَعامِل تحليل، وذهبنا العمرة معاً، ونزلنا في رابغ أيام ما كان الذباب فيها منتشراً بكثرة، فجلسنا في القهوة، وتغدينا، وأتينا بالشاي، فانتظرت قليلاً فإذا بذبابتين بقدر النحل يتضاربان، فسقطتا في الكأس أمامي.
فقلت هذه فرصة، ولاحظت نظرات الدكتور، وتغافلت عن الذباب، فقال: عطية! عطية! إلحق! إلحق! فغمزتهما إلى الداخل، ورميتهما، وأخذت أشرب، أنا أريد أن أثير الدكتور؛ لأني أعرف أن هذا عند الدكاترة شيئاً كبيراً، قال: هاه! ما هذا؟! ما هذا؟! قلت له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذه أيضاً فيها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وكان كثيراً ما تأتي مناسبات وأقول له: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال مستغرباً: أهذه أيضاً من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت له: نعم، قال: ماذا قال؟ قلت له: كذا وكذا، قال: عجباً! إن هذا الحديث صحيح، قلت: ما أدراك بالصحيح والضعيف، وأنت في الطب وما إليه؟ ما أدراك بهذا؟ قال: كنت في ألمانيا أدرس، فانقطعت علينا المصاريف بسبب الحرب العالمية الأخيرة، وذهبت للعمل في مطعم أنا وثلاثة زملاء، فكنا ندرس الطب في الصباح، وفي الليل نغسل الأواني؛ حتى نعيش ونواصل دراستنا، وهذه والله الرجولة الصحيحة.
يقول: وفي وقت من الأوقات إذا بلوحة في الكلية في الفانوس الخاص بالإعلانات، فيها إعلان: اكتشاف بكتريوج -أي: مبيد البكتريا- من الذباب، وتعجبت وتتبعنا هذا.
أقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا كيف نتعامل مع ما يخالطنا في بيوتنا وحياتنا، أما الذباب فعلمنا كيف نتعامل معه، ويقول الأطباء القدامى: أعظم كحل للعين هو الذباب، إذا جمعته في (ماصورة) صلب، وأحرقته على النار، ثم سحقته واكتحلت به، لكن لا تذهبوا وتفعلوا ذلك وتقولوا: فلان قال لنا.(186/7)
شرب الفأرة من السائل
هذه الفأرة كيف نتعامل معها خاصة في السائل، لو رأيناها تأكل من الدقيق، أو من الحب، وذهبت فلا شيء في هذا، وإذا شربت من السمن وذهبت فلا شيء في هذا، إنما يهمنا إذا ماتت؛ لأنها بموتها تتنجس، وتنجس ما حولها، فبيّن صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (ألقوها وما حولها) ، الحولية هذه كم مسافتها وكم قدرها؟ قد يختلف بعض الناس من مسافة سانتيمتر أو نصف سانتيمتر أو عشرة سنتيمتر، وبعضهم يبالغ ويقول عرض الكف، وهذا أظنه كثيراً.
وبعضهم يقول: يرجع الأمر في الحولية إلى نوع جمود السمن، فقد يكون جامداً جداً، وأصبعك لا تدخل فيه، فهذا لا تتعدى النجاسة سانتيمتراً واحداً، وقد يكون جامداً جموداً لم يتم، ولو حرّكته بقوة ربما تحرّك، فهذا يحتاج إلى توسيع ما حولها نوعاً ما.
وفي الحديث الأول: حديث ميمونة: (ألقوها وما حولها وكلوه) ، فهذا حكم وقوع الفأرة في السمن الجامد.
وهل الموضوع يقتصر على السمن؟ وإذا وقعت في العسل؟ وإذا وقعت في الدبس؟ إذا وقعت في شيءٍ آخر، يعادل ذلك كالمربى وسقطت فيه وماتت؛ يكون الحكم واحداً، إن كان العسل جامداً -وأحياناً العسل يجمد- فكما هنا، وإن كان سائلاً مائعاً فالحكم كذلك، وعلى هذا يكون الأصل في هذا الحكم هو: السمن.(186/8)
شرح حديث: (إذا وقعت الفأرة في السمن)
قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا وقعت الفأرة في السمن فإن كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فلا تقربوه) ، رواه أحمد وأبو داود، وقد حكم عليه البخاري وأبو حاتم بالوهم] .
الحديث الأول ليس فيه إشكال، لا في السند ولا في المعنى، والحديث الثاني جاء به المؤلف رحمه الله لما فيه من الخلاف، والإشكال.
والتفصيل: إذا وقعت الفأرة في سمن جامد فإنه يُلقى وما حولها، ويؤكل الباقي، ولكن هنا تفصيل لواقع الحال، فإن وقعت في جامد فالحكم قد تقدم، وإن وقعت في مائع فإنه يقول هنا: (فلا تقربوه) ، فلا تقربوه بماذا؟ أبأكل أم بادِّهان أم باستصباح أم بانتفاع؟! تقدم في النهي عن بيع الميتة أنهم أرادوا استثناء شحومها، فقال: (لا، هو حرام) ، وهل الضمير عائد إلى البيع أو الانتفاع؟ تقدمت الإشارة إلى الجمع، فقوله صلى الله عليه وسلم (فلا تقربوه) ، الجمهور على أن: (فلا تقربوه) ، أي: بالأكل إجماعاً؛ لأنه تنجس بموتها فيه وهو مائع، ولا نجد حداً محدوداً لوصول النجاسة إلى جزءٍ منه، بل لكونه سائلاً فإنها تسري في الجميع.
فقوله: (فلا تقربوه) ، الجمهور قالوا: لا تقربوه بالأكل، وبعض أهل الحديث، وأهل الظاهر قالوا: لا تقربوه أبداً، لا بالأكل ولا بالبيع ولا بالانتفاع، (مطلق أريقوه) .
والجمهور يقولون: هذا مال، وقبل أن يتنجس كانت له قيمة، ونهينا عن إضاعة المال، وهناك منفعة يمكن تحصيلها من هذا الدهن، وهذا السمن، فيمكن أن نجعله طلاءً للسفن، أو نستفيد منه بالاستصباح، أو نحو ذلك، فلا مانع، وذكر الجمهور حديث: (وإن كان مائعاً فاستصبحوا به) ، إذاً: أباح الانتفاع به، وحملوا على هذا كل متنجس بغيره لا بذاته، فقالوا: يجوز الانتفاع به دون البيع، والبعض زاد: النجس الأصلي (بذاته) ، وقال: شحوم الميتة لا نبيعها، وإذا انصب التحريم على البيع انصرف عن بقية الانتفاع كالاستصباح، ودهن السفن وغير ذلك.
الذي يهمنا في فقه الحديث الرواية التي ساقها الطحاوي: (استصبحوا به) ، والذي عليه الجمهور: أنه مال يجوز الانتفاع به، ويبقى النهي والتحريم خاصاً بالأكل؛ لأنه تنجّس، والإنسان لا يأكل النجس.
إذاً: المؤلف رحمه الله جمع الحديثين معاً؛ ليبين حكم ما إذا وقعت الفأرة في جامد أو مائع، ثم هل الأمر يقتصر على الفأرة والسمن أو يقاس على الفأرة كل ما شاكلها، وعلى السمن كل ما شاكله؟ هناك حيوانات تقارب الفأرة مثل ابن آوى وابن عرس واليربوع أو الجربوع، هذه كلها حيوانات يعرفها أهل البر، منها ما يأكلونه ومنه ما لا يأكلونه، فهذه كلها من فصيلة الجرذان -الفئران-، فهل يقتصر الحكم على الفأرة أو يعم الجميع؟ قالوا: يعم كل ذي نفس سائلة، لو أن قطة صغيرة سقطت في السمن، وبعض الفئران الكبيرة التي في البساتين أكبر من القطة الصغيرة! فنقول: حكمها حكم الفأرة تماماً، وكذلك أنواع الجرذان مثل: اليربوع أو الجربوع، وبنت عرس، وابن آوى، كلها حيوانات صغيرة تعيش في البيوت وتعيش في البساتين، فإذا سقطت في مائع فهذا حكمها.
وتلك الحيوانات بما فيها الفأرة والهرة الصغيرة إذا وقعت في ماء مستبحر - (بركة كبيرة) أو كما يقول الفقهاء: فوق القلتين، على اختلاف في تقدير القلتين- وماتت فيه واحدة من تلك الحيوانات، وكان الماء فوق القلتين، يأتي الحديث: (إذا كان الماء قلتين لا يحمل الخبث) ، أي: لا يتنجس، وقيل: لا يحمل، يعني: يضعف وينجس، والجمهور على أنه (لا يحمل الخبث) يعني: الخبث لا يؤثر فيه، بل يتلاشى.
إذاً: القضية أعم من مجرد فأرة وسمن.(186/9)
شرح حديث: (سئل عن ثمن السنور والكلب)
قال رحمه الله: [وعن أبي الزبير قال: (سألت جابراً رضي الله عنه عن ثمن السنور والكلب فقال: زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك) .
رواه مسلم والنسائي، وزاد (إلا كلب صيد) ] .
انتقل المؤلف رحمه الله من ذكر حكم النجس والمتنجس -من المطعومات- إلى هذين الصنفين، فـ جابر رضي الله تعالى عنه يروي لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر، والزجر: النهي بشدة.
قوله: (عن ثمن الكلب والسنور) السنور: هو الهرة أو البسة، أو القطة، ويطلق على الذكر والأنثى، والكلب والسنور مخالطان للبيوت.(186/10)
طهارة السنور
سُئل صلى الله عليه وسلم عن الهرة فقال: (إنها ليست بنجس) ، أي: في حياتها؛ لأن الموت ينجس كل حي طاهر، وكل ميت نجس، إلا الإنسان، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70] .
كانت بنت أبي كبش تصب الماء لزوجها وهو يتوضأ، فجاءت هرة، فأصغى إليها الإناء حتى شربت، فنظرت تتعجب! قال: أتعجبين! -يا ابنة عمي- من ذلك؟! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنها ليست بنجس -يعني: ليست نجسة في حياتها- إنما هي من الطوافين عليكم والطوافات) .
وقالوا: إذا رأيتها تشرب من إناء فإن شربها لا ينجسه، وهناك قول شاذ عن بعض التابعين أنه ألحقها بالكلب، يسبّع سؤرها بالغسل ويترّب، ولكن هذا شاذ مردود.
فكونها من الطوافين ومن الطوافات فقد تشرب من هذا الإناء، وتلعق من هذا، وتذهب وتدخل، وتمشي على الفراش، فهي ليست بنجس.
قوله: (من الطوافين) : مَنْ الذي يطوف علينا؟! هل هناك من يطوف علينا في الليل؟! أليس للبيوت عماراً؟! أليس يطوفون بالبيوت، فمنهم من يظهر ونراه، ومنهم من يختفي، وخاصة في المدينة؟ وقد بيّن صلى الله عليه وسلم: أن مؤمني الجن ليهاجرون إليها كما تهاجرون أنتم.
والحكايات والوقائع الفعلية أكثر من أن تحصى.
إذاً: هناك طوافون: من ملائكة، أو جن، أو مما يكون، وهي من ضمن أولئك الطوافين، وبتطوافها عرفنا أنها طاهرة، ويقول العلماء: إذا رأيتها تشرب، أو تلعق إناء فسؤرها طاهر، إلا إذا رأيت على فمها أثر نجاسة، فيمكن أن تكون لتوها أكلت فأراً، -لأن العداوة بين الفأر والقطة عجيبة جداً! - فإذا رأيت على فمها أثر النجاسة، فهذا شيء طارئ، ولكن سبحان الله! القطة عندها خصلتان، تعتبر في القمة في النظافة، حتى أكثر من بعض الناس! فإذا أكلت فريسة، حالاً بلسانها تنظف فمها، ولا يبقى على فمها أثر النجاسة أبداً، وبعض الناس تبقى الدسومة على فمه ولا يغسلها! وإذا أرادت أن تقضي حاجتها حفرت ودفنت، فهي مكافحة الأوبئة.
لقد شاهدت هرة تذهب إلى الكرسي في الحمام وتقضي حاجتها، وبعضها تقضي حاجتها على الفراش.
إذاً: الهرة من حيث هي في ذاتها ليست نجسة والحمار اختلفوا في ذلك؛ قالوا: الرسول صلى الله عليه وسلم كان يركبه عرياً -أي بدون رحل- ومعلوم أن الحمار يعرق، ولو كان نجساً لتنجس بعرقه، ولكن الحياة أصل الطهارة كما قال مالك رحمه الله تعالى؛ ولذا الحمار يشرب من السطل، ويشرب من القدر، وسؤره ليس نجساً.(186/11)
الكلاب وبعض أحكامها
موضوع الكلاب جاءت فيه أمور عجيبة.
منها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، ومنها: نهى عن قتل الكلاب، كانت في مرة من المرات كثيرة ومؤذية، والمرة الأخرى نهى عن قتلها؛ لأنها أمة من الأمم، اتركها تأكل من الخشاش.
ومن الغريب! أنها في مرة من المرات كثرت جداً في الرياض، فقاموا وجمعوها في مركبات، وأخذوها على الدهناء، وتركوها هناك، والكثير منها مات من الجوع، فبعض المشايخ قال: ما لكم حق في قتلها، اتركوها في البلد، ولو عندكم شيء أعطوها إياه، فقالوا: تتكاثر إذاً! قال: اعزلوا الذكور عن الإناث.
نهى عن قتل الكلاب، وأمر بقتل الكلاب! أي: الكلاب حينما تؤذي، لا مانع من ذلك، أما إذا لم تكن تؤذي فلا حاجة إلى قتلها.
ثم صنف النبي صلى الله عليه وسلم الكلاب إلى صنفين: كلب يجوز اقتناؤه، وكلب لا يجوز اقتناؤه، كما سيأتي وأشار هنا: (إلا كلب صيد) ، وأيضاً كلب الحراسة، والماشية، فكلب الماشية، وكلب الحراسة، وكلب الصيد ينتفع به؛ فأبيح اقتناؤه، وسلم صاحبه من الزجر، وقد جاء: (من اقتنى كلباً إلا كلب ماشية، أو ضارياً، نقص من عمله كل يوم قيراطان) ، ثم استثني هذه الثلاث، إذاً: من اقتنى كلباً للّعب، أو كلباً للمضاربة بين الكلاب، والمسابقة بينها والمصارعة إلى غير ذلك فهذا منهي عنه وينقص بسببه كل يوم قيراطان.
وتقدير القيراطين مشكل، والأصل: أن القيراط جزءٌ من واحد صحيح متعدد الأجزاء، فما هو العرف عند الناس؟ الفرضيون يعتبرون المسألة: أربعة وعشرين قيراطاً، والصاغة يعتبرون الذهب الخالص أربعة وعشرين قيراطاً، فما مقدار القراريط التي جاءت: (من صلى على جنازة ولم يتبعها فله قيراط فإن تبعها فله قيراطان) ، بعضهم يقول: القيراط كجبل أحد، وبعضهم ككذا.
ولكن هنا في موضوع الكلب ممكن للإنسان أن يجتهد ويقول: نقص من أجره كل يوم قيراط، لو قلنا كمثل جبل أحد هل كل إنسان عنده في كل يوم مثل جبل أحد حسنات؟ ليس بشرط.
فإذا لم يكن عنده قدر القيراط! فأقول -والله تعالى أعلم-: النقص الذي يطرأ على مقتني الكلب الممنوع اقتناؤه: يقسَّم عمله في يومه إلى أربعة وعشرين جزءاً، فمن الناس من يكون الجزء الواحد في قراريطه يعادل أربعة وعشرين قيراطاً من قراريط؛ لأنه إنسان مجتهد في العبادة، ويفعل الخير بكثرة، فقيراطه من أربعة وعشرين ليس كقيراط إنسان نائم طول الليل، وفي النهار تجده في الملاهي.
إذاً: نقص القيراط هو: نقص جزء من أربعة وعشرين جزءاً من عمله اليومي، وقال بعض العلماء: قيراط من عمل النهار، وقيراط من عمل الليل، حتى تكون هناك مساواة، لأن بعض الناس قد يكتسب في الليل من الأجر أكثر مما يكتسب في النهار، والبعض بالعكس، فالذي يكون نهاره صيام وليله قيام، ليس كالشخص الذي لا يصوم ولا يقوم.
إذاً: جاء أولاً الأمر بقتلها، وجاء ثانياً النهي عن قتلها، ثم أيضاً جاء الزجر عن اقتنائها، وجعل في اقتنائها نقص القراريط، واستثنى منها ما ينتفع به: من صيد، ومن حراثة، ومن ماشية.
جاء الآن الكلام في بيعه، فإذا جمع إنسان عدة كلاب، وعلمها الصيد، أو توالدت عنده، وعلمها الحراسة، وعلمها حراسة الماشية، ونعرف أن كثيراً من الرعاة يكون معه كلبان أو ثلاثة رعاة، فلو شذت شاة يلحقها الكلب ويردها، هذا كلب ماشية، وشاهدنا بأعيننا الكلب يلحق البقرة الشاردة ويمسك حبلها ويردها.
إذاً: هذا فيه فائدة، وكذلك كلب الحراسة في الليل، فصاحب المزرعة، أو البيت لا يحرس طوال الليل، وإنما يكفيه وجود الكلب، وكذلك كلب الصيد، يغنم من ورائه من الصيد ما يصطاده عن طريقه.
إذاً: وجود المنفعة في هذا النوع أباح اقتناءه.(186/12)
حكم بيع الكلب وأكل لحمه
جئنا إلى البيع، فالبعض يقول: زجر عن ثمن الكلب مطلقاً، سواءً كان مأذوناً في اقتنائه -للصيد، والحراسة، والماشية- أو كان غير مأذون، والإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: إذا كان من النوع المستفاد منه جاز بيعه وأخذ ثمنه؛ لأنك تبيع المنفعة التي يحصلها المشتري من ورائه، ونجد مالكاً رحمه الله يقول: يجوز شراؤه ولا يجوز بيعه.
كيف وإذا أردت أن أشتريه فلا أشتريه إلا من بائع، والبائع لن يبيعه إلا على مشتر؟! قال: يجوز للمشتري أن يدفع الثمن لينتفع، ولا يجوز للبائع أن يقبض الثمن! فأين يذهب به؟ لن يكون هناك بيع بل هبة، قال: ومن أتلفه فعليه القيمة، فمن أباح بيعه أوجب قيمته على متلفه.
أما موضوع السنور فإن الشوكاني يحكي عن ابن عبد البر أنه قال: لم يثبت في ثمن السنور حديث، وتكلموا في رواية مسلم، التي جاء فيها، وقالوا: إن فيها راوٍ متكلّم فيه، ويتفق الجمهور على أن النهي عن بيع السنور للكراهية والنزاهة، أما النهي عن ثمن الكلب فهذا للتحريم إلا ما استثني، وهي الأصناف الثلاثة، وهذا الذي يقتضيه المقام، ويتعادل مع الوصف المناسب؛ لأن فيه منفعة، فإذا اشتراه الإنسان فلمنفعته.
وهناك من يمنع بيع الكلب مطلقاً، وهناك أثر: (إذا أتاكم من يطلب ثمن الكلب فضعوا في كفه التراب) ، والتراب ليس ثمناً، وقد جاء في حق المداحين (فاحثوا في وجوههم التراب) ، وهذا تصوير وتقبيح، فكأنه يقول: ليس لك إلا التراب ثمنا على كلبك، وهل التراب ثمن؟ {كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} [العنكبوت:41] ، وهل بيت العنكبوت يستر شيئاً أو يقي من شيء؟ لا.
والعلماء على ما تقدم من تفصيل فيما يتعلق بثمن الكلب والسنور، والله تعالى أعلم.
فإن قيل: أيجوز أكل لحم الكلب أم لا؟ الجواب: الشوكاني له أبيات جميلة في ذم التعصب المذهبي، يحسن مراجعتها، وقد اشتهر عند الناس: أن مالكاً رحمه الله يقول بحلية أكل لحم الكلب، وهذا غير صحيح، الصحيح عند مالك أن الكلب طاهر، وأن التتريب والتسبيع في الغسل لا للنجاسة ولكن لأمر طبي، والآن ظهر مغزى الأمر الطبي في الكلب، خشية داء الكلَب الموجود في الكلب حينما يصاب، ويتفق الأطباء على أن داء الكلب لا يزيله إلا التراب، والتراب ليس لذاته؛ بل لأن فيه مادة تسمى (فيلورين) أخت (الكلورين) ، والكلورين مادة تطهر الماء الذي في الغدران، فحينما تذهب بعثة وليس عندها ماء، وتجد غدير ماء له زمن، وتخشى من مضرته لطول مكثه، تأخذ الماء وتضع فيه مادة الكلورين، وكنا قديماً نشم هذه الريحة في المياه في البيوت، كانوا يضعونها في خزانات المياه تطهيراً للماء.
فمن فصيلتها (فيلورين) ، وهذه المادة هي التي تقضي على جرثومة الكلَب، وهي بكثرة في التراب، وأكثر ما تكون في أرض عرفات، تربة أرض عرفات غنية بالفلورين أكثر من جميع الأراضي.
ومالك له في هذا بحث طويل، والمتأمل والمتحرر من التعصب يرى: أن مذهب مالك صحيح.
فلما قالوا بطهارة الكلب، قالوا: إذاً: هو يجوز أكله، وألزموهم بمقتضى قوله، ولكن الأصوليين يقولون: لازم القول ليس بقول.
أتلزمني بما لم أقله؟ فإذا كان هذا لازماً، لكن أنا لا أقول به.
إذاً: مالك -صحيح- يقول بطهارة الكلب ولا يقول بجواز أكله.(186/13)
كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [4]
حرص الإسلام كل الحرص على حرية الإنسان، وحارب الاسترقاق، وحث على تحرير وعتق الرقاب، وأوجبه في مواطن كثيرة، ومنع طرق الاسترقاق إلا طريقاً واحداً، وهو طريق الجهاد، بينما فتح أبواب العتق، وعددها، ونوعها، وجعل لها أحكاماً، ومن أسباب العتق التي شرعها الإسلام المكاتبة.(187/1)
حديث: (إني كاتبت أهلي على تسع أواق ... )
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فقال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءتني بريرة، فقالت: (إني كاتبت أهلي على تسع أواق، في كل عام أوقية، فأعينيني، فقلت: إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت، فذهبت بريرة إلى أهلها، فقالت لهم، فأبوا عليها، فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فقالت: إني قد عرضتُ ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق، ففعلت عائشة رضي الله عنها، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله تعالى؟ ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق) متفق عليه، واللفظ للبخاري، وعند مسلم قال: (اشتريها وأعتقيها واشترطي لهم الولاء) ] .
هذا الحديث يعتبر من أمهات الأحاديث: صيغة، وأحكاماً، وتشريعاً، وكما جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها: كان في بريرة ثلاث سنن، وبريرة كانت مزوجة برجل اسمه مغيث وكان يحبها، وكان مملوكاً، وهي مملوكة فعتقت بعد أن اشترتها عائشة، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كانت مملوكة تحت مملوك: متعادلان، والآن أصبحت حرة، وهو مملوك، فهنا اختل التوازن واختل التعادل، والكفء يجب أن يكون مكافئاً لزميله، والعبد لا يكافئ الحرة، لكن نظراً للعقد المتقدم، قال لها: (أنت لك خيار، إن شئت بقيت على عقدك مع المملوك، وإن شئت فسخت نكاحك بالحرية) فاختارت نفسها، فكان مغيث يتبعها في الطرقات ويبكي، يدريها أن ترد نفسها إليه، فبلغ ذلك الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: (يا بريرة! انظري لحال مغيث -فعلمتنا الأدب- فقالت: يا رسول الله! أشافع أنت أم آمر؟) انظر الأدب: تشفع لـ مغيث عندي، وتكون شفيعاً، والشفيع قد تقبل شفاعته وقد ترد، أو آمر لي بالعودة إليه، والأمر يقتضي الوجوب، (أشافع أنت أم آمر؟ -ماذا قال لها؟ - قال: لا، أنا شافع) ، فقالت: (لا حاجة لي فيه) وقولها هذا يساوي: أرد شفاعتك، لكن بأدب.(187/2)
أهمية حديث بريرة
هذا الحديث النبوي الشريف، من الأحاديث العظيمة، وقد اشتمل على العديد من الأحكام، وخاصة: الشروط في البيع، وما يتعلق بالمكاتبة، وبيع المكاتب، وحكم الولاء، والاشتراط فيما لا يوافق كتاب الله إلى آخره، وقد ذكر ابن حجر رحمه الله -مؤلف كتاب فتح الباري-: أن بعض العلماء عني بهذا الحديث وذكر ما يستنبط منه، فذكر عن ابن خزيمة أنه ذكر فيه مائة مسألة، وابن خزيمة: ذكر عن غيره أنه قال: اشتمل على أربعمائة مسألة فقهية، وهل بعضها يتداخل مع بعض أو لا يتداخل؟! الذي يهمنا شدة عناية العلماء بهذا الحديث.
والواقع أنه جدير بذلك، ونمضي مع هذا السياق كلمة كلمة، فهنا يقول المؤلف رحمه الله: عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (جاءتني بريرة) مجيء بريرة من بيت أهلها إلى بيت عائشة فيه كلام؛ فـ بريرة أمة وجارية وكانت تخرج لخدمة عائشة قبل مكاتبتها لأهلها، فهي تعرف عائشة من قبل، وهي التي قالت -حينما خاض الناس في حديث الإفك وسأل النبي صلى الله عليه وسلم علياً فقال: سل الجارية تخبرك- قالت: والله! إنها لجارية، ولا أعيب عليها إلا أنها تعجن العجين وتنام عليه، حتى تأكله الدواجن، يعني صغيرة لا تدري عن شيء، فلما كاتبت أهلها قامت تسعى.(187/3)
حكم المكاتبة ومعناها
قال الله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور:33] ويقول العلماء: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} خيراً هنا عام: خيراً في السلوك، وخيراً من نظير قوله: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة:180] ، يعني: إن علمتم أنهم يستطيعون أن يدفعوا المكاتبة.
وأصل المكاتبة: أن يريد السيد مالاً، ويريد أن يبيع العبد، أو المملوك، والمملوك لا يريد أن يخرج من رق إلى رق، ويريد أن يشتري نفسه، أي: يعوض سيده عما يقبضه من ثمن من سيد آخر، وينتقل من سيد إلى سيد، فيكاتبه ويتفق معه على مقدار معين، ويشترط في الكتابة أن يكون الثمن منجماً، وأصل النجم لغة: الكوكب في السماء، وهي النجوم المنتشرة في السماء، والعرب تسمي الأجل نجماً، حتى حمل بعض العلماء قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1] قالوا: نزول القرآن منجماً، يعني: على فترات، وكانت العرب إذا استدانت كتبت الوفاء عند ظهور النجم الفلاني، وهم يعرفون مسيرة النجوم ومواقعها، وهذا من بعض علومهم العامة.
ويستحب أن يسامح سيد العبد المكاتب في القسط الأخير أو بعضه، فـ بريرة كاتبت أهلها على ما ذكرت لنا تسع أواق، كل سنة أوقية، يعني منجمة على تسعة أنجم، والمكاتب من حقه أن يسعى ويطلب، ويحق له الطلب والسؤال، وله من الزكاة حصة قال تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة:60] ، فيأخذ من الزكاة جزءاً ليكمل به ما نقص عليه من الدين في مكاتبته.
وهنا جاءت بريرة إلى عائشة فقالت: أعينيني في النجم الذي سيأتي، وليس في التسعة الأنجم، وبعضهم يقول: إن بريرة جاءت عند العقد، ولم تكن قد دفعت لا قسطاً ولا نجماً، وبعضهم يقول: لقد دفعت أربعة أنجم، وبقي عليها خمسة أنجم، فجاءت تستعين عائشة رضي الله تعالى عنها، وكل ذلك يؤخذ من حديث بريرة في شأن المكاتبة.(187/4)
لا يشترط استئذان الزوج في المكاتبة
بريرة لها زوج، والمكاتبة إذا أوفت ما عليها من دين الكتابة تحررت، وإذا تحررت خُيرت في نكاحها، فهل يُستأذن زوجها صاحب العصمة في مكاتبتها -لأن المكتابة ستخرجها من عصمته- أو لا يُستأذن؟ بريرة ما ذكرت أنها استأذنت من مغيث، إذاً: المكاتبة حق لها، وبه تستكمل حريتها، والشرع يحث على تحرير الرقاب، فلم يدع الأمر لرأي الزوج، فإن وجدت المكاتبة بنفسها فلا تستشير زوجها، ولا يؤخذ رأيه.(187/5)
المكاتبة في عصمة الزوج ما بقي عليها درهم
وكذلك مجرد الكتابة لا يُخرجها من ذمة وعصمة الزوج، ولكن تبقى على عصمة زوجها حتى توفي جميع المكاتبة، والمكاتب: عبد ما بقي عليه درهم، وللسيد أن يعجز مكاتبه، فمثلاً تكاتبا على تسعة أقساط، فدفع ثمانية أقساط، فليس له الحق أن يقول: أنا تراجعت، أنا لا أريد مكاتبة، ويرجع المكاتب في رقه من جديد، وقد أخذ الثمانية الأقساط، ويقول: العبد وما ملكت يمينه لسيده! وقد كنت قبل المكاتبة تسعى وتعمل وتعطيه للسيد! وقد جاء النهي عن كسب الأمة وهو عام، حتى في الخدمة مخافة إذا فرض عليها شيء يومي: من غزل من غسل من من، ولم تجد المقرر عليها يومياً، فربما لجأت إلى طريق غير سليم، وبعضهم يقول: إذا كان عندها صنعة، أو استطاعت أن تعمل، وقد فرض عليها السيد مقداراً معيناً في كل يوم، واستطاعت أن تأتي به يومياً أو أكثر فالأكثر لها، والذي شارطها عليه له، فهذه كاتبت ولم يؤخذ رأي الزوج في ذلك، وعقد المكاتبة لم يخرجها من عصمة الزوج، فجاءت في طريقها لتكمل عملية المكاتبة.(187/6)
جواز المسألة للمكاتب
جاءت إلى عائشة -لأنها تعرفها من قبل- فطلبت منها المساعدة، وهكذا كل مكاتب له الحق بأن يسأل ويسعى، ويأخذ من الصدقات والزكاة، فـ عائشة قالت: إن كان أهلك كاتبوك على تسع أواق في تسع سنوات، فأنا مستعدة أن أعدها، يقف العلماء عند كلمة (أعدها) قالوا: لأن عُرف الحجاز حين بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كان عد الدراهم، وبعد مجيئه كان الوزن، والآخرون يقولون: بل العكس؛ لأنه جاء في الحديث: (المكيال مكيال المدينة، والميزان ميزان مكة) ، ووحدوا المكيال والميزان حتى إذا اختلفوا في الوزن رجعوا إلى عرف مكة، وإذا اختلفوا في الكيل رجعوا إلى عرف المدينة؛ لأن أهل المدينة أهل تمور وحبوب، تحتاج إلى الكيل، وأهل مكة أهل تجارات فالوزن إليهم أقرب، فهنا قالت: أعدها، وفي بعض الروايات: أصبها لهم صباً، يعني: إذا كانوا كاتبوك مكاتبة منجمة على تسع سنوات فأنا الآن أعطيك، وفرق كبير عند البائع أن يبيع شيئاً مقسطاً إلى تسع سنوات وأن يأخذ الثمن حالاً، فالمال لا نقص فيه، بل إن البائع بالتقسيط، لو وجد المبلغ كاملاً (حالاً) ولو بناقص كان أربح له، فهي تقول لهم: المنجم بعيد، وأنا أعطيكم إياها الآن كاملة، ويكون الولاء لي.(187/7)
الولاء
الولاء مبحث مستقل، وأوسع ما يكون في الفرائض، وهو كما يقولون: وصف اعتباري سببه نعمة العتق، والولاء بين المعتق والمعتق لحمة كلحمة النسب، ينسب إليه ولا يُباع ولا يوهب ولا يورث، إنما ينتقل بالعصوبة، فلو أن إنساناً أعتق عبداً صار له الولاء، ثم مات عن زوجة وولد، فالزوجة ليس لها شيء في هذا الولاء؛ لأنها إذا دخلت الزوجة دخلت بالميراث، ولكن ينتقل الولاء للولد؛ لأن الولد حل محل أبيه، فالولاء لا يوهب ولا يباع ولا يورث، مع أن الميراث كسب إجباري على الوارث، والولاء كما يقولون: الدرجة الثالثة في مراتب الميراث؛ لأنه يُقدم أولاً: صاحب الفرض، وثانياً: العاصب، وثالثاً: الولاء؛ (ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى ذكر) أي: عاصب، فإذا مات الميت، وعنده من يرث بالفرض، وأخذوا فروضهم، فالباقي للعاصب، فإذا لم يوجد عاصب ووجد صاحب الولاء، فأصحاب الفروض أخذوا نصيبهم بفروضهم، ولما لم يوجد عاصب بالنسب جاء العاصب بالولاء، ولهذه القوة قالت عائشة: (ويكون ولاؤك لي) ، وهو وصف اعتباري يلزم المعتَق طيلة حياته، وحتى موالي مواليه، يكونون موالي للمعتِق الأول، فقالت: أذهب وأخبرهم، فذهبت بريرة لتخبرهم أن عائشة مستعدة أن تدفع لكم كل الباقي، وأن يكون الولاء لها، قالوا: لا، وحقيقة المكاتب لو استمر في المكاتبة، وأوفى الكتابة لسيده؛ صار حراً، وولاؤه للمكاتب؛ لأنه هو الذي تسبب في عتقه، فهم كاتبوها ليكون الولاء لهم، وهنا قالت عائشة: (أدفع لهم، لا أن تدفع لـ بريرة، فلو دفعت لـ بريرة لكانت مساعدة لـ بريرة على المكاتبة، ولا دخل لها في الولاء، ولكن تدفع لأسيادها الذين كاتبوها، إذاً: دخول عائشة سينسخ المكاتبة، ويُغير العقد إلى بيع، كما جاء في الرواية (اشتريها وأعتقيها) ؛ لأنه لا يتم لها عتقها إلا بعد أن تمتلكها، فلو دفعت لـ بريرة لم تمتلكها بهذا الدفع، أما إذا دفعت لأسيادها فقد اشترتها منهم، وإذا اشترتها وأعتقتها فالولاء لمن أعتق، فأبوا، وقالوا: لا، إن كانت تريد أن تدفع محسنة فالمحسن لوجه الله، أي: تحسن إليك، ويكون الولاء لنا، فلما أبوا رجعت ثانية إلى عائشة تخبرها، وصاحب الحاجة ملحاح فهي تريد أن تنجز أمرها، في مجيئها الأول لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم موجوداً، ولما ذهبت وسألت أهلها ورجعت كان الرسول صلى الله عليه وسلم جالساً، وفي بعض الروايات: (فسارتها في أذنها،) بريرة لا تحب أن تُسمع الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم لما نظر إلى هذه الحركة والوشوشة قال: (ما شأن هذه المرأة؟) وعائشة رضي الله تعالى عنها -كما في بعض الروايات- لما أخبرتها برفضهم، وقولهم: فلتحسن، قالت: لا، ورفعت صوتها؛ لتسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما شأن هذه المرأة؟) وسواءً الرسول صلى الله عليه وسلم سأل ابتداءً، أو نتيجة لرفع عائشة صوتها.
وهنا أيضاً: وقفة رب البيت، يرى امرأة تدخل بيته وتُسار زوجه! فمن حقه أن يسأل: ما شأنها؟ ولاسيما في هذه الآونة، فحينما تدخل امرأة أجنبية أو غريبة وتُسار الزوجة أمام زوجها أو علم بعد ذلك، فله أن يسأل: ماذا تكون هذه المرأة؟ هل هي صالحة أم طالحة؟ فمن حق رب البيت أن يسأل عن مجيء تلك المرأة، وعن غرضها، حفاظاً على بيته، فقال: (ما بال هذه المرأة؟) فأجابته عائشة: جاءتني وطلبت مني كذا، وأرسلتها ورجعت.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف الخبر، ثم أخبرت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنا يتصرف الرسول صلى الله عليه وسلم: لا عليك: (اشتريها) لم يقل: أعينيها في المكاتبة، ولكن قال: (اشتريها) وفي بعض الروايات: (خذيها) ، تأخذها بماذا؟ تأخذها بالشراء: (اشتريها وأعتقيها) .(187/8)
الشروط الباطلة غير معتبرة ولو كانت مائة شرط
بالشراء يصح أن تعتق؛ لأن العتق فرع عن الملك، وهنا وقفة خطيرة في قوله: (اشترطي لهم الولاء) ، كيف تشترط لهم الولاء عندما تشتريها وحقيقة الأمر أنه: ليس لهم ولاء؟! هل نعبر عن هذا بمغايرة الواقع؟! في غير بيت النبوة نقول: هل هذا خداع للبائع؟ لأنه تساهل معك، وباعك على أن الولاء لهم، والولاء جزء من الثمن، فحينئذ تقول: نعم لك الولاء، ثم ترجع وتقول: ليس لك ولاء! فضيعت عليه الولاء! قالوا: هذا بعيد عن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كيف يقول هذا الكلام؟! قالوا: لأنه سبق أن أعتقت رقاب عديدة، وأخبرهم سابقاً: بأن الولاء لمن أعتق، فكيف -مع علمهم المسبق- يريدون من عائشة أن تشتريها، وتعتقها، ولهم الولاء، على خلاف ما علموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل؟ إذاً: بما أنهم اشترطوا شرطاً باطلاً، ويعلمون بطلانه، فهو تجاوز منهم للحد، والشرط الباطل لا اعتبار له، ولو كان مشروطاً في مجلس العقد، فاشترتها وأعتقتها، وهنا يجري التشريع العام، ولا تأثير لما أحدثوه من شرط باطل.
إذاً: القضية بين أربعة أشخاص: سيد بريرة وبريرة وعائشة ورسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: طرفا البيع والشراء، والسلعة، والرسول صلى الله عليه وسلم الذي سمع الخبر، وهذا لا يكفي لإعلان الموضوع، وتأكيده؛ ولذا لما تم شراؤها وعتقها، وثبت الولاء لـ عائشة -بمقتضى هذا الشراء- العتق صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر.
وهنا تأتي رسالة منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت حاولت أن أجمع رسالة في القضايا الخطيرة التي عولجت على أعواد منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي عظيمة وعديدة وكثيرة، هذا المنبر الذي أدى رسالة أعظم من أي منصة في أكبر جامعة، صعد النبي المنبر، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يُبلغ أمراً، أو يشرح أمراً، أو يعلم الناس شيئاً، قال: احضروا المنبر؛ فيعلم الناس بعضهم بعضاً، فيحضرون حول المنبر، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وهذا من شروط الخطبة وآدابها، ثم هل قال: -لماذا يا أهل بريرة! فعلتم؟! لا، - ولكن قال: (ما بال أقوام) ، هم قوم فقط، وهم أهل بريرة، ولكن عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا ينبغي التشهير؛ لأن تسمية أشخاص بأعيانهم في صلب التشريع ليس مهماً، فأصحاب الكهف: ثلاثة ورابعهم، خمسة وسادسهم، سبعة وثامنهم، من هم؟ وما أسماؤهم؟! وما الذي يفيدنا من معرفة أسمائهم؟! بل الذي يفيدنا صلب القضية، وماذا كان منهم وعليهم، وهذا موسى يخاطب فتاه كما قال الله تعالى حاكياً عن موسى: {قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا} [الكهف:62] ، وهو الذي سافر معه، وحمل الغداء؛ ولذا يقول ابن تيمية رحمه الله: الشخصيات، والعينيات التي لا تعلق لها بالتشريع، لم تسم؛ لأن أسماءها لا تزيد في التشريع شيئاً {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ} [طه:17-18] من أي شجرة؟ لا نتدخل، وما طولها وما عرضها؟ لا نتدخل، عصا يتوكأ عليها.
وهكذا (ما بال أقوام) الغرض بيان الحكم، وشرح القضية للناس، أما ما يتعلق بنوعية الأقوام والأشخاص والأفراد فهذا لا يغير في الموضوع شيئاً (ما بال أقوام) ، وأقوام جمع قوم، والقوم في اللغة يطلق على الرجال، ولا يدخل فيه النساء، كما قال الشاعر: أقوم آل حصن أم نساء وكما في قوله تعالى: {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات:11] {وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} [الحجرات:11] ، فلفظ قوم يختص بالرجال، (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله) يعني: ليست في كتاب الله بنصها وفرعها وكل موضوعها! يعني: ما بال أقوام يشترطون ولاءهم في عتق بريرة، وليس هذا النص في كتاب الله؟! كتاب الله لم يأت من أجل بريرة، ولا من أجل سعدة! إنما هو تشريع عام، ولكن كما يقول ابن حجر: يشترطون شروطاً ليست على نهج كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ويزيد البعض: وإجماع المسلمين، أبيعك هذا العبد بشرط ألا تعتقه أبداً، دعه عندك حتى يموت! لماذا؟ هذا يتنافى مع مقتضى العقد؛ لأنني بشرائي العبد امتلكته كامل الملك، وكمال الملك يعطيني الحق بأن أتصرف فيه تصرفاً كاملاً، ومن التصرف الكامل: أن أبيع، أن أهب، أن أعتق إلخ، لكن أبيعك عبداً بشرط أن تعتقه، هل عتق العبد في كتاب الله أم لا؟ في كتاب الله؛ لأن الشرع حث على تحرير العبيد.
إذاً: القرآن جاء بعتق العبيد، لا بمنع العتق، فإذا اشترط عليك: أن تعتقه، كان شرطاً في كتاب الله، وإن اشترط ألا تعتقه كان شرطاً ليس في كتاب الله، وهكذا، يعني: ما بال أقوام يخترعون من عند أنفسهم شروطاً لم يأت بها دين الإسلام، كل شرط ليس في دين الله -ضعها محل كتاب الله، يتبين لك المعنى- كما جاء في الحديث الآخر: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: مردود، كل شرط ليس في كتاب الله، أي: على مقتضى تشريع الله في كتابه، ولا على تشريع الله في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا على تشريع الله في إجماع علماء الأمة؛ فهو باطل، وإن كان مائة شرط.
ويقولون: ذكر المائة هنا للمبالغة، فإذا كانت مائة شرط وهي مغايرة لكتاب الله فهي باطلة، أما لو كان شرطاً وشرطين فهل يقبل؟ لا، لا يقبل الباطل، كثيراً كان أو قليلاً، وقال: (قضاء الله أحق) أي: حكمه، وقضى ربك كذا، (قضاء الله أحق) أحق أفعل تفضيل من الحق ضد الباطل.
وقوله: (وشرط الله أوثق) ، شرط الله: ما أباحه الله وأجازه، فهو أوثق من الشروط الأخرى؛ لأن الشرط الصحيح ملزم وموثق {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} [الأنعام:152] ، فالمؤمنون على شروطهم.(187/9)
الولاء لمن أعتق
وقوله: (وإنما الولاء لمن أعتق) ، كل ما تقدم مقدمة، ثم قال: (وإنما الولاء لمن أعتق) ، وهذه جملة مبنية على يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، وهو اشتراطهم الولاء لهم، وإن لم يكونوا هم الذين أعتقوا، أي: اشتراطكم ذلك باطل، والصحيح أن الولاء لمن أعتق، سواء كان رجلاً أو كانت امرأة، أو كان عبداً مملوكاً، فلو كان عبداً مملوكاً وسمح سيده له بالاتجار، وامتلك العبيد، وأعتق، صار ولاء عبيده -الذين أعتقهم- له، فإن ماتوا، ولم يتركوا عاصباً، ورثهم بالولاء، مع أنه إذا مات أبوه، أو مات أخوه لا يرثه؛ لأنه مملوك، لكنه ورثهم بالولاء.
وقوله: وعند مسلم قال: (اشتريها وأعتقيها واشترطي لهم الولاء) .
(اشتريها) مثل كلمة: خذيها، ويبين أن هذا عقد جديد، وأن عقد المكاتبة قد أُلغي، وأن بريرة جاءت تطلب المساعدة، لكن تغير الموقف وانقلب إلى بيع وشراء: (اشتريها وأعتقيها) ، فبناءً على شرائك إياها، ماذا كانت النتيجة؟ ماذا كانت نهاية بريرة؟ عُتقت، وألغي شرط البائعين، وأصبحت معتوقة لـ عائشة رضي الله تعالى عنها.
تتمة لقضيتها، ألم نقل: إن ابن خزيمة ذكر عن فلان أنه أخذ أربعمائة مسألة فقهية من قصتها، فقصتها مهمة وليست عادية، فبعدما أُعتقت، وملكت نفسها، تتمة للحكم أخبرها صلى الله عليه وسلم أنها ملكت نفسها، وهي بالخيار بين بقائها زوجة بالعقد الأول، وبين اختيارها لنفسها، وينفسخ عقد الزواج بينهما برغبتهما.
إذاً: قبل أن يبين لها، قال لها: (لا تعجلي) حفاظاً على العقد السابق، وعلى عقد الزوجية والحياة الزوجية، فاختارت نفسها.
وهذا التخيير -في باب الطلاق، وكتب الفقه- موجود بين الزوجين الأحرار، ويسمى التخيير والتمليك، فإذا جاء الزوج وبينه وبين الزوجة وئام وعشرة طيبة، {وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237] ، ثم بدأ من الزوجة بعض النفرة، وهو لا يحب أن يطلقها ابتداءً من عنده، فيقول: نحن كالأخوين، وحياتنا مبنية على الكرامة، وحفظ المعروف، وأنا لا أتحكم لكوني أملك الطلاق -لأن الطلاق لمن أخذ بالساق- ولكن أُخيرك على ما أردتي، خيرتُك بيني وبينك، هذا التخيير يعطيها الحق بأن تقول: اخترتك، أو أن تقول: اخترت نفسي، فإن قالت: اخترتك، فيتفق العلماء على أن هذا التخيير الذي صدر منه لا يحتسب من الطلقات الثلاث؛ لأنه عرض عرضاً ولم يتم، وإن قالت: اخترت نفسي، فسخ النكاح، وهذا الفرق بين التخيير والتمليك، أقل ما ينفسخ به النكاح واحدة، أما التمليك، فيقول: ملكتك نفسك بطلقة بطلقتين بثلاث وبقدر ما ملكها تتصرف، فإن قال: ملكتك طلقة، فقالت: طلقت نفسي ثلاثاً، فبعض العلماء يقول: لم يحصل شيء؛ لأنه أعطاها واحدة وطلقت الثلاث، هو أعطاك واحدة، فلم تمتلكي الثلاث، ولم تستخدمي الواحدة التي أعطاك إياها، وبعضهم يقول: هو أعطاها واحدة، وهي طلقت ثلاثاً، والثلاث مشتملة على الواحدة ضمناً، فتكون الواحدة قد وقعت.
وهكذا التخيير والتمليك حكم موجود بين الزوجين الأحرار حينما يكون هناك حسن العشرة، ويقولون: إن الزبير بن العوام كان مع زوجته في عشرة وفي مؤانسة طيبة، فاستحت أن تطلب منه الطلاق، وهو لم تطب نفسه أن يطلقها، وسكتت إلى قبل الوضع، وفي يوم جمعة، قالت: يا فلان! لم أطلب منك شيئاً إلا وأعطيتني، أريد أن تقر عيني بطلب واحد، قال: ما هو؟ قالت: تملكني نفسي إلى أن ترجع من الصلاة، فأحس أني طليقة، وأني حرة، وأني أملك أمر نفسي، قال: مرحباً، ملكتك أمرك إلى بعد الصلاة، فذهب وجاء فوجدها متغطية، فقال: ما بك؟! قالت: ملكتني نفسي، واخترت نفسي، وقد وضعت وخرجت من عدتك -امتلكت نفسها فاختارت نفسها فعليها العدة، ووضعت حملها، فخرجت من العدة- قال: خدعتيني.
إذاً: التخيير والتمليك حكم موجود في باب الطلاق، فهنا أخبرها بأن أمرها في يدها، ماذا كان الأمر؟ اخترت نفسي، فعلم زوجها بهذا التخيير، وامتنعت عليه، قالوا: وكان يحبها أشد ما يُحب الرجل زوجه، فكان إذا رآها في الشارع، تبعها ويبكي ويستعطفها؛ لترجع إليه، وهي لا تلتفت إليه، ولا ترد عليه جواباً؛ وعلم بذلك الناس، وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم -وهو بالمؤمنين رءوف رحيم- فأشفق على زوجها، واسمه: مغيث، وفي يوم أصبحت عند عائشة؛ لأن عائشة مولاتها، وأصبحت واحدة في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا بريرة! انظري زوجك، انظري في أمره، فإن أمره صار شديداً، فقالت -كما ذكرنا سابقاً-: يا رسول الله! أشافع أنت أم آمر؟) أقول: إن هذه الكلمة لا تفي بها قواميس الأدب، ومهما تطاول أديب بأن يُبين مدى أدبها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن يبلغ هذه الكلمة.
أشافع -والشفاعة ليست لازمة- أم آمر؟ والأمر لازم، {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء:59] ، فقبل أن تجيب تأكدت من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهو شفاعة وشفقة بـ مغيث أو هو أمر وإلزام لها؟ فلما قال لها: (شافع) ، والنبي صلى الله عليه وسلم زوج عائشة، وهي عتيقة زوجه، وأدبياً واجتماعياً له الحق أن يأمرها، ولن ترد عائشة أمره فيها، ولكنه يعطيها الحق المشروع لها.(187/10)
حرية الكلمة في الإسلام
لنعلم مدى حرية القول والكلمة في الإسلام -ولكن في محلها- فهذه امرأة مملوكة معتوقة لزوجه صلى الله عليه وسلم يعرض عليها أمراً رفيقاً، فتستفسر فيجيبها بالرفق أيضاً، ولا يفرض سلطته عليها، مع أنه له الحق في ذلك ولو لم تكن معتوقة لزوجه؛ قال الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6] سبحان الله! إذاً: من حقه أن يأمرها وينهاها، فالمرأة التي جاءت تعرض نفسها وتهب نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم تكن له حاجة فيها، فقال رجل: زوجنيها يا رسول الله! فزوجه، بأي حق زوجه امرأة أجنبية؟! لأنه أولى بها من أبيها وأخيها، وكل عصبتها، فبولائه عليها امتلك حق التزويج، وهنا لم يفرض هذا الحق على هذه الجارية، وإنما قال: (أنا شافع) ، ما أعظمها من كلمات! وما أشرفه من موقف! فإذا بالجارية التي عُتقت بالأمس تجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بصراحة الحق الناصع: (لا حاجة لي فيه) .
فكأنها تقول: نعم، شفاعة طيبة وحسنة، ولكن أنا لا أستطيع أن أنفذ هذه الشفاعة، أي إنسان مهما عظمت منزلته، في أي دولة هل يمكن أن يرفض شفاعة رئيس الدولة في أمر أكبر من هذا، والله لا يقدر، لو قال: يا فلان أطلب منك كذا، فسيقول: سمعاً وطاعة على الرأس والعين، ولو رغماً عنه؛ لأنه لا يستطيع أن يجابه رئيسه الأعلى، رئيس الدولة بطلب يطلبه، ويرفض ذلك! وهذه جارية تجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولها: (لا حاجة لي فيه) .
علموا الناس الحرية الحقيقة في الإسلام، احترام الكلمة، واحترام الشخصية، وإعطاء الحقوق لأهلها، فهذه جارية وأعطاها حقها إلى هذا الحد، ولم يعنفها، فإذا لم يكن لك فيه حاجة فأنت وشأنك، وأنا أديت الذي عليّ، وشفعت فيه، وبعد هذا فالأمر إليك.
من يستطيع أن يصور المعنى، ويبين هذا للعالم؟! وأصبحت بريرة حرة، ومغيث ذهب في سبيله.(187/11)
سنة ثالثة وردت بسبب بريرة
وجاءت في بريرة سنة ثالثة: حينما دخل صلى الله عليه وسلم وطلب الغداء، فأتوه بخل وزيت وملح، فقال: (ألم أرى البرمة على النار؟) ومن حق الرجل أن يستطلع ما في بيته، لماذا خصصتم أنفسكم بهذا!؟ ولا يجوز للمرأة أن تختص نفسها بطعام دون زوجها أو عيالها، لماذا احتفظتم بالبرمة لكم وناولتموني الخل والملح؟! اعتذروا، وقالوا: لا، يا رسول الله! إن البرمة لا تحل لك! لماذا؟ ما هو السبب؟ لأنها صدقة، (لحم تصدق به على بريرة، فقال: هو عليها صدقة، ولنا منها هدية) انظروا التحوير، التحوير المعنوي غيرّ الحكم، إننا بالأمس نقول: التحوير المادي، وهنا تحوير معنوي: (هو عليها صدقة، ولنا منها هدية) ، ما رأيك -يا بريرة - أتهدينا أو لا؟! فهل ستقول: لا؟! حكم عليها بأنه هدية، فستفرح بذلك بريرة لتهدي الرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً.
هنا قضية صغيرة كنت قد سمعتها من الشيخ الأمين، والشيء بالشيء يذكر، كان هو وبعض القضاة في سفر، ونزلوا على قوم، وقام الناس وذبحوا لهم، والوقت وقت الظهر، وكانوا جائعين، فالشيخ الأمين انتظر الطعام والشراب وما حضر، وكانت هناك جارية ومعها عصيدة، وضعت عليها السمن، وبجوارها اللبن، وتأكل، فقال لها: يا جارية! أليس عيب عليك أن تأكلي والضيوف ينظرون جائعين؟! قالت: ما بك يا شيخ؟! أما علمت أن الناس قد ذبحوا لك ذبيحة؟! فتركت الذبيحة، وتتطلع إلى ما في يد الجارية! قال: نعم، هذا حاضر ناجز، وذاك غائب، قالت: أتحب أن تأكل منه؟ قال: نعم، قال: فقامت -فرحانة تجري- وحمّت العصيدة، وزادت السمن، وأتت باللبن من أجل أني قلت لها: أريد أن آكل من طعامك، وفرحت جداً وأتت به، يقول: فأكلت حتى شبعت، فقالت: تريد شاي (أتاي) ، قلت لها: نعم، فذهبت وفعلت الأتاي، وشربت ونمت مبسوطاً، صاحبه يقول له: يا شيخ! أنت لم تسمع ما قالت لك الجارية؟! الناس ذبحوا لنا الذبيحة، وتركت الذبيحة! قال: انتظر إلى أن تأتي الذبيحة! وبعد العصر جاءت الذبيحة، فالشيخ أخذ يأكل من الذبيحة بهدوء.
يهمنا بأنه صلى الله عليه وسلم قال: (وهو لنا هدية من بريرة) ، ثقة برضاها وفرحها بأنها ستهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان هناك فرقاً بين القصتين، ولكن ذكرناها إيضاحاً للمعنى، وبالله تعالى التوفيق.
أقول: الواجب على طالب العلم المتفرغ -ولا يوجد شبه المتفرغ- أن يأخذ مثل هذا الحديث الذي يعتبر كنزاً وموسوعة ومجالاً فسيحاً جداً لإعمال الملكة الفقهية، وإعمال الذهن، في استخراج الأحكام، كما سمعنا عن ابن خزيمة أن هناك من استنبط منه أربعمائة مسألة، وكما سمعنا عن الشافعي في قوله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟) ، جملتان صغيرتان يستخرج منهما أربعين مسألة فقهية.
إذاً: طالب العلم لا يمر على الحديث مرور الكرام، فيقرأه كقراءة الصحف أو المجلات أو المواضيع العادية، ولكن يقف عند كل لفظة، وعند كل كلمة، وعند كل جملة، وعند كل تركيب؛ ليرى فيها أصول التشريع، وبالله تعالى التوفيق.
وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(187/12)
كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [5]
هناك بيوع حرمتها الشريعة الحكيمة لمفاسدها الكثيرة، ومن ذلك تحريم بيع أمهات الأولاد وبيع فضل الماء وبيع ماء الفحل وبيع حبل الحبلة، وقد بين أهل العلم أحكام هذه البيوع، وحكمة الشريعة من تحريمها.(188/1)
شرح حديث نهي عمر عن بيع أمهات الأولاد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه.
أما بعد.
قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (نهى عمر عن بيع أمهات الأولاد فقال: لا تباع، ولا توهب، ولا تورث، يستمتع بها ما بدا له، فإذا مات فهي حرة) رواه مالك والبيهقي، وقال: رفعه بعض الرواة فوهم] .
يذكر المؤلف رحمه الله عن عبد الله بن عمر، أن عمر رضي الله تعالى عنه نهى عن بيع أمهات الأولاد، أمهات الأولاد الأصل أنهن إماء وجواري مملوكات، وللسيد أن يستمتع بمملوكاته بملك اليمين، والاستمتاع بملك اليمين جائز بالكتاب، والسنة، والإجماع: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3] ، {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:5-6] .
وعبر عن الإماء بـ ((ما ملكت أيمانهم)) ؛ لأن الغلبة في مواطن القوة تسند إلى اليد اليمنى؛ لأنها الأقوى {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة:45] وقال بعضهم: إذا ما راية رفعت لمجد تلقاه عراضة باليمين ولما كان الجهاد بذلاً للقوة، وبذلاً الطاقة؛ عبر عن الأسارى الذين يؤخذون في الجهاد بملك اليمين التي هي شعار القوة، وتقدمت الإشارة إلى أن الإسلام لم يبح استرقاق البشر إلا في ميدان القتال، وفي غير ميدان القتال لا رق، وموجبه أن الكفار عارضوا مسيرة الإسلام، وأرادوا أن يوقفوها، وأن يستبدلوا بالإسلام غيره، فلما قدر عليهم بالأسر استرقوا وسلبوا الحرية.(188/2)
سرُّ جواز الاستمتاع بملك اليمين من غير حد بعدد
وهنا يقول عمر: لا تباع ولا توهب، ولكن يستمتع منها ما شاء، فإذا مات عتقت.
ومن هنا نعلم السر في أن الله سبحانه أباح للحر أن يستمتع من الحرائر بعقد النكاح بأربع، ولكن الاستمتاع بملك اليمين بلا عدد ولا حد، فلو امتلك أربعين أمة، أو مائة أمة فله أن يستمتع بجميعهن.
وهذا موضع تكلم المستشرقون من خلاله على الإسلام، وقالوا: إنه أعطى الرجل المجال لإشباع غريزته ورغباته فيمن شاء من النساء، وغاب عنهم قول عمر: فإذا مات عتقت، وهو أن السيد إذا ما استولد الأمة، أو مجرد أن حملت منه، ولو سقط الجنين وتبينت فيه خلقة الإنسان، فإنها تصبح في عرف الشرع أم ولد، يعني: أم ولد للسيد، فإذا مات عتقت من رأس ماله، لا من الثلث، فإذا لم يترك إلا أم ولد فقط فإنها تعتق، وليس هذا كالذي تقدم: أن رجلاً أعتق عبداً له عن دبر، فباعه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرجل كان مديناً، فاسترجع العتق وباعه، وسدد الدين، أما أم الولد فلا تباع في الدين؛ لأنها بمجرد موت سيدها اكتسبت الحرية، فنقطة الصفر التي فاضت فيها روح سيدها هي نقطة الصفر التي تحررت فيها؛ ولهذا لا ترث؛ لأنها لم تكتسب الحرية في حياته، ولكن بعد أن انتهت حياته بدأت حريتها، فلم يلتقيا.
وعلى هذا فمن حكمة الشرع أن أباح للرجل الحر أن يستمتع من الإماء بقدر ما شاء؛ لأن استمتاعه من الإماء بمثابة الطعم له في السنارة؛ لأنه بمجرد أن تحمل منه الأمة تصير أم ولد، وبذلك تكون قد اقتربت من التحرر، والشرع يحث على تحرير الرقيق.
والمرأة التي تملك العبيد لا يحق لها أن تمكن نفسها من واحد منهم؛ لماذا؟ لأن ولدها سواءً كان من حر، أو من عبد، أو من ملك يمين؛ يكون حراً، إذاً: تمكينها العبد لا يأتي بجديد، بخلاف الأمة فإنها بذلك تكتسب الحرية، وولدها يصير حراً، ونسلها كذلك يكونون أحراراً، فاستمتاع السيد بالأمة لمصلحتها هي، وليس لمصلحته هو؛ لأنها تخرج من ملكه إجبارياً دون اختياره.(188/3)
النهي عن بيع أمهات الأولاد
الذي حصل في قصة عمر أنه كان جالساً فسمع صياحاً، فقال: يا يرفأ! -غلام له- انظر ما هذا الصياح! فذهب فوجد امرأة بيعت دون ولدها، باعها سيدها ولم يبع ولدها؛ لأن ولدها حر، إذ أنه من رجل حر، ولو حملت من غير سيدها فإن الولد يكون مملوكاً، أما إذا حملت منه فولده يصير حراً، وأمه تتحرر بموت السيد، فقال: إن أم ولد تباع، والصياح بين ولدها وبينها! فقال عمر رضي الله تعالى عنه: ادع لي من كان هنا من قريش.
فجمعهم وقال: هل ترون الإسلام جاء بقطعية الرحم أم أنه جاء بوصلها؟! قالوا: جاء بوصلها، قال: أرأيتم لو أن أحدكم من أم ولد وبيعت أمه وفُرّق بينهما أيقبل ذلك؟! قالوا: لا، قال: إذاً: لا تباع أم ولد بعد اليوم، ونهى عن بيع أمهات الأولاد.
وإذا نظرنا إلى أمهات الأولاد فإننا نجد أن النهي عن بيعهن؛ لأنهن اقتربن من الحرية، فمتى مات سيدها تحررت وصارت حرة، لكن هناك شيء آخر: إذا اشترى الإنسان الأمة ومعها أولادها -من غيره- أو أنه زوجها لعبد، أو لحر، وأنجبت، فأولادها في الرق يتبعونها في ذلك، فأراد أن يبيعها، فقد جاء النهي عنه صلى الله عليه وسلم أن يفرق بين المرأة وولدها -أي: الأمة وولدها- أو بين الأخ وأخيه، قال: إما أن يباعا معاً -الأمة والولد- وإما أن يبقيا معاً؛ تجنباً لقطيعة الرحم، وقاس العلماء زيادة على ذلك: كل ذي رحم لا يجوز أن يفرق بينهما.
وقال الآخرون: النص موجود في الأمة وولدها، والأخ مع أخيه فقط.
وهل هذا النهي عام يتناول جميع مراحل العمر أم أنه خاص بما دون البلوغ؟ قال البعض: إذا ما بلغ الولد وأصبح مستقلاً، فلو بيعت أمه وحدها فلا مانع؛ أما دون البلوغ فلا يجوز؛ لأنه ما زال صبياً، وهو في حاجة إلى أمه، وعطفها عليه.(188/4)
من هي أم الولد؟
عمر رضي الله تعالى عنه أول من نهى عن بيع أمهات الأولاد، وسواء كان لها ولد حاضر، أو مات ولدها، المهم أنها جاءت بولد من السيد، فثبت أنها أم ولد بهذا الولد، فإذا عاش الولد سنة، أو سنتين فمات، فإن ذلك لا يخرجها عن كونها أم ولد، وتصير حرة بموت سيدها، وهل تباع؟ لا؛ لماذا؟ لأنها أمسكت بأول خيط للحرية؛ فلا تباع، ولا توهب، ولا ترهن، فكل عقد يئول إلى نقل ملكيتها، لا يجوز، فلا تورث، ولا توهب، ولا تباع، ولا ترهن؛ لأن كل ذلك ينقل الملكية، والسبب في ذلك ما هو؟ أنها في طريق الحرية.
هذا ما جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه.
وبعضهم -كما قال المؤلف- يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان جالساً فسمع، فسأل، فمنعه، فإذا كان الأمر مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو أصل في التشريع، وإذا كان موقوفاً على عمر، فـ عمر حينما قال ذلك قاله على ملأ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووافقوه، وإن كان قد حدث أن علياً رضي الله تعالى عنه كان موافقاً على هذا، وبعد عمر رأى علي أن تباع، فقيل له: كنت مع عمر موافقاً! قال: والآن بدا لي ألا أوافق.
قالوا: رأيك مع غيرك أحب إلينا من رأيك وحدك.
فقال علي وأنا لا أحب المخالفة، امضوا على ما كنتم عليه.
إذاً: المخالفة للجمهور ليست جيدة، وكما قال ابن مسعود للذي اشتكى عثمان بأنه أتم في منى، وقد قصرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقصرنا مع أبي بكر، وقصرنا مع عمر، انظر ما فعل الرجل! قال: يا ابن أخي! الخلاف شر، فإن صليت في رحالك فاقصر، وإن صليت معه فوافقه.
ومحل الشاهد عندنا قوله: (الخلاف كله شر) ، وهنا علي رضي الله تعالى عنه يقول: لا أحب الخلاف، امضوا على ما كنتم عليه، ولو كان على غير رأيه الذي استجد له.(188/5)
شرح حديث: (كنا نبيع سرارينا)
قال رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه قال: (كنا نبيع سرارينا أمهات الأولاد، والنبي صلى الله عليه وسلم حي، لا يرى بذلك بأساً) رواه النسائي وابن ماجة والدارقطني، وصححه ابن حبان] .
المؤلف يأتي بالحديث هذا -حديث جابر - (كنا نبيع سرارينا -جمع سرية-: أمهات الأولاد) يعني: الذي نهى عمر عن بيعهن كنا نبيعهن زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، (ولا يرى بذلك بأساً) فكيف عمر رأى به بأساً؟! إذاً: المسألة متعارضة! قالوا: ليس عندنا من اليقين الذي يجعلنا نجزم بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم ببيعهم سراريهم، ولم يثبت أن رجلاً جاء وقال: يا رسول الله! بعت سريتي -أم ولد-، وكونه موجوداً وفي عهده؛ مظنة لعلمه به، والمظنة غير اليقين، وكما قالوا: (كنا نعزل والقرآن ينزل، ولو كان شيئاً ينهى عنه لنهينا عنه) .
مع أن النهي قد جاء في صحيح مسلم والترمذي وغيره، وأنها الموءودة الصغرى: (أو تفعلون؟! ما من نفس منفوسة إلا وهي آتية، شاء أحدكم أم أبى) ، (ولو أن أحدكم ألقى الماء على حجر، وأراد الله أن يأتي بالولد لجاء) والرجل الذي جاء واستفسر الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن لي جارية، وأريد منها ما يريد الرجل من المرأة، وأخشى أن تحمل، أفأعزل؟ قال: اعزل أو لا تعزل ما قدر لها سيأتيها، وبعد سنة جاءه وقال: يا رسول الله! الجارية حملت، قال: الله أكبر! أنا عبد الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- لو أن أحدكم ألقى الماء على حجر وأراد الله منه الولد لجاء) ، والآن الطب يثبت هذا، فلو أراق الرجل الماء على حجر، وتجمرت به امرأة لنفذ الماء إلى الداخل وحملت، وهو شبيه بالتلقيح الصناعي، -الذي ملئوا به الدنيا صياحاً- فيؤخذ الماء من الرجل، ويوضع في رحم المرأة، وتتلقح بدون علاج، وبدون جماع، قالوا: كنا نعزل والوحي ينزل، فمن قال لكم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اطلع على هذا: فهذه أمور فرضية، وقد جاء النهي عن ذلك، وهنا كذلك، يقول: والرسول حي.
فالذين وافقوا عمر رضي الله تعالى عنه يقولون: ليس عندنا دليل قاطع بأن الرسول صلى الله عليه وسلم علم، وأقر، وسكت، وإنما لوجوده بين أظهرهم فمظنة ذلك أن يعلم بمثل هذه الصور.
وبعضهم يقول: الحديث الأول مرفوع، فيكون ناسخاً لهذا؛ لأن المنع مقدم، والمنع إنما يكون بعد الإباحة؛ لأن الإباحة على الأصل والبراءة الأصلية، فجاء المنع فنسخ البراءة الأصلية، فيكون المنع هو المقدم.(188/6)
شرح حديث: (نهى عن بيع فضل الماء)
قال رحمه الله تعالى: [وعن جابر بن عبد الله قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع فضل الماء) رواه مسلم] .
من المنهي عن بيعه: بيع أم الولد، وكذلك التفريق بين ذوي الرحم، وجاء في الحديث: (من فرق بين الأم وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة) ، ولا يدخل في هذا ما إذا كان يملك أمة، وزوجها وأنجبت، فأصبح يملكها ويملك ما أنجبته، فإذا باع باع الجميع، وإذا أبقى أبقى الجميع.(188/7)
المراد بفضل الماء
وبعد ذلك جاء بالنهي عن بيع فضل الماء، والفضل هو: الزائد عن الحاجة سواء كان الماء للشرب واستعمال الآدمي، أو كان للزرع وسقي الحيوان؛ لأن هذه هي أنواع استعمال الماء، فهناك ماء لاستهلاك الشخص، وماء للزرع، وماء لسقي الحيوان، فهنا نهى عن بيع فضل الماء، و (ال) هنا للجنس، وقد حملها كثير من العلماء على جنس الماء، وفضل الماء: ما زاد عن حاجة صاحبه، فإذا حفر بئراً، وجاء الماء، فله أن يستعملها استعماله الشخصي، وما زاد عن حاجته فهو فضل، وإذا سقى زرعه، فما زاد عن حاجة زرعه فهو فضل، وإذا كانت عنده ماشية، فسقى الماشية، وبقي فضل من الماء عن ماشيته، فكل ذلك داخل في فضل الماء.(188/8)
حكم بيع فضل الماء
اختلف العلماء: هل النهي هنا للتحريم أو للكراهة والتنزيه؟ ونفرق بين الماء وموقع الماء، فسواء كان الماء في بئر أو في عين، أو في غدير، أو حفرة امتلأت ماءً وزادت عن حاجة صاحبها، كذلك إذا كان في الخلاء، ومعه ماء فائض عن حاجته، ووجد من يضطر إليه، فهذه مسألة أخرى: ويتعين عليه أن يبذل الفائض من مائه للمضطر إليه، ولو منعه الماء حتى مات فإن كان تعمد المنع لإماتته؛ اقتص منه، وإن لم يكن تعمد فعليه ديته؛ لأنه تسبب في وفاته بشيء هو في غنى عنه.
ويقول بعض العلماء: إن النهي عن بيع فضل الماء قد نسخ، وبعضهم يقول: هذا للكراهية والتنزيه؛ للإرفاق بين المسلمين، ويجوز بيعه، هذا كله إذا كان الماء في موطنه: في بئره، في عينه، في مجرى السيل، في حفرته في الخلاء، أما إذا حازه لنفسه: في وايت، في قربة، في إبريق، فلا يحق لأحد أن يزاحمه عليه.
ولا يدخل في فضل الماء ما إذا كان الشخص لديه ماء في خزان البيت، ويكفيه لعدة أيام أو أسابيع، فهذا ليس فائضاً عن حاجته، فإن كان فائضاً الآن فهو في حاجته غداً.(188/9)
بيع الماء في زمن النبوة
بعضهم يقول: كان بيع الماء موجوداً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما في قصة بئر رومان -بئر عثمان - كان رومان -وهو رجل يهودي- يبيع الماء على أهل المدينة، فيأتون ويستسقون منه القربة بكذا أو الإناء بكذا، فضيق على المسلمين، فقال صلى الله عليه وسلم: (من يشتري بئر رومان، يوسع به على المسلمين، وله الجنة) فذهب عثمان رضي الله تعالى عنه إلى رومان وساومه على البئر، فامتنع؛ لأنها مورد كسبه، فقال: لا أبيعها أبداً.
فأعطاه وساومه إلى أقصى حد، قال: هلاّ بعتني نصفه، وساومه على النصف بقريب من ثمن الجميع، فرضي وفرح رومان، وباعه نصف البئر، فلما امتلك عثمان نصف البئر، اتفقا على تناصف البئر، على أن يكون يوم لـ عثمان، ويوم لـ رومان، ولما اتفقا على ذلك، أعلن عثمان لأهل المدينة: اليوم الفلاني لـ عثمان، واليوم الفلاني لـ رومان ففي يوم عثمان من أراد الماء مجاناً فليأخذه، فكان الناس يأخذون الماء في يوم عثمان، وكان رومان ينتظر في يومه فلا يأتي إليه أحد؛ لأنهم اكتفوا بماء الأمس -ماء عثمان - فأتى رومان وقال لـ عثمان: اشتر الباقي.
قال: لست في حاجة إليه، وهذه بصيرة المسلم! (اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله) .
فكان رومان يبيع الماء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يجوز ما دام في حوزته، وفي بئره، أو في ملكه، أو في عينه التي تجري في أرضه، أما الأماكن والمواطن العامة، فلا يجوز بيعه فيها، كالسيل الذي يجري تأتي وتبيعه! أنت لا تملكه، فكيف تبيعه.
فأجاب المانعون وقالوا: هذا ليس بدليل، رومان يهودي، واليهود كانت لهم سلطة في المدينة، وقد جاء الرسول صلى الله عليه وسلم ولهم نفوذ في المدينة، إلى أن كتبت الصحيفة بينهم، فما كان للرسول صلى الله عليه وسلم أن يعارض أعمالهم وتصرفاتهم.
ولكن هذه الحجة ليست قائمة؛ لأن الصحيفة جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعاً لكل ما اختلفوا فيه، فأصبح الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحاكم في المدينة على كل الطبقات: اليهود، والمسلمين، والمشركين، والمنافقين، الكل تحت إمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكمه.(188/10)
حديث: (الناس شركاء في ثلاثة) وعلاقته بهذا الباب
هذا الموضوع فتح على الناس أبواباً أخرى، فقالوا: لا يجوز أن يبيع الحطب الزائد، ولا الكلأ الموجود في أرضه، فلا يمنع غيره من أن يرعاه، إذا كان زائداً عن حاجته، واستدلوا بحديث: (الناس شركاء في ثلاث) ، وقامت فتنة الاقتصاد على هذا الحديث ممن جهله.
والتحقيق: أن الناس شركاء -صحيح- في الماء، والنار، والكلأ، والنار يتبعها الحطب، لكن شركاء في ما هو عام، الآن في الوقت الحاضر، في الشعاب، والوديان، لكل واحد منا أن يقول: الناس شركاء، من شاء فليذهب فليحتطب، وما احتطبه فهو له، ولا يمنع أحد أحداً؛ لأنهم شركاء فيه، ومن سبق إلى شيء أخذه، ولكن بعد أن يحتطب ويحوزه هل تأتي وتقول: أحضر نصف الذي عندك، أنا شريكك؟! أنا قائم من الليل، أجمع الحطب، وأكسر، وأحزم، وأحمل، وأمشي، وأنت قاعد في بيتك، فتأتي وتقول: أنا شريك معك! لا يمكن هذا أبداً.
والشاب الذي جاء يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة، فوجده جلداً قوياً، فقال: يا هذا! الصدقة لا تحل لك، قال: ما عندي شيء، أنا وعجوز في البيت لا نمتلك إلا حلساً نفترش نصفه، ونلتحف بالنصف الثاني، وقعباً نأكل ونشرب فيه، قال: عليَّ بهما.
فباعهما صلى الله عليه وسلم بدرهمين -في المسجد- وقال: خذ هذا الدرهم واشتر طعاماً واجعله عند أمك، وهذا الدرهم اشتربه فأساً وحبلاً وائت، ثم جعل عوداً في الفأس وقال: اذهب فاحتطب، ولا أرينك خمسة عشر يوماً، احتطب وبع، هذا الذي يحتطب ويأتي ويبيع، يبيع ما يملكه أو ما لا يملكه؟ هل لأحد أن يقول: أنا لي نصف ما احتطبتَ؟ لا، أنت وهو شركاء في الحطب ما دام في موقعه، لكن إذا حازه وجمعه وحزمه، فليس لك فيه حق، وهؤلاء الذين كانوا ينادون بالإشتراكية، هل أحد منهم يسمح لإنسان أن يدخل بيته ويأخذ كأساً من الماء؟! فقد كانوا يبيعون الماء والنار، فمصلحة المياه، تضع العداد باللتر، والكهرباء -وهي نار- العداد يعد عليه بالفولت، والفحم كانوا يبيعونه، ولم يشركوا الناس ولا في واحد من ذلك؛ لماذا؟ لأنه في حيازتهم.
إذاً: قوله: (شركاء) إنما هو في ما كان في موطنه وموقعه، أما بعد أن حازه، وأصبح في يده وملكه، فليس لأحد فيه شراكة.
فهنا النهي عن بيع فضل الماء، وأدخلوا معه: (الناس شركاء في ثلاثة) ولكن هذا ليس بصحيح، فإنما يراد بذلك الإرفاق، مع اتفاق الجميع: بأن من باع البئر فإن البيع صحيح، والماء تبع للبئر، فـ رومان لما باع نصف البئر كان له نصف الماء تبعاً، إذاً: بيع مكان الماء، ومجرى الماء، ومحتوى الماء، جائز.
إذاً: جرم الماء السائل الشفاف هو الذي لا يباع، وإذا زاد عن حاجتك فأعطه لغيرك، ولكن هذا من باب الإرفاق، وليس من باب الوجوب، فلو كان الماء جارياً في الوادي، ويمر على بلدك، أو على مزرعتك، فخذ حاجتك، ولا تبع الباقي، ولكن أرسله إلى من وراءك، وهكذا لو وجدت غديراً في الأرض: حفرة بها ماء، وليست ملكاً لك، فلا تملك أن تبيعها، ولو كانت في ملكك فلا تمنع أحداً يحتاج أن يأخذ الماء ما دام زائداً عن حاجتك.
ولـ ابن القيم رحمه الله زيادة بحث في هذا الموضوع، والله تعالى أعلم.(188/11)
شرح حديث: (النهي عن بيع ضراب الجمل وعسب الفحل)
قال رحمه الله تعالى: [وزاد في رواية: (وعن بيع ضراب الجمل) .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عسب الفحل) رواه البخاري] .(188/12)
علة النهي عن بيع ضراب الجمل
ضراب الجمل: هو ماؤه الملقِح، نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع هذا الماء -مني الجمل- ولماذا؟ قالوا: يرد عليه عدة محظورات، فهل تملك أن تستخرج ماء الفحل منه؟ لا، وإذا بعت فكم الكمية؟! ومن يقدرها؟ وإذا تجاوزنا الكمية، فهل تضمن بأن هذا الضراب من هذه المرة سيلقح وينتج أو أنه يمكن أن ينتج ويمكن ألا ينتج؟! إذاً: شروط استيفاء البيع بالملك: القدرة على التسليم، معرفة السلعة، كل ذلك مجهول في ضراب الفحل.(188/13)
جواز المكارمة في ضراب الفحل دون المشارطة
وجاء أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنا نكارم -أو نكرِم أو نُكرَم- على ضراب الفحل.
قال: لا بأس) إنسان عنده فحل، فيأتيه صاحب الناقة فيطلق فحله عليها، ثم يكارمه بكيس شعير، بشيء من العلف للجمل دون مشارطة بيع، فلا بأس بذلك، وهذا عام في جميع الحيوانات ذات الذكور والإناث، فعسب الفحل هو ضراب الفحل، نهى صلى الله عليه وسلم عن بيعه مشارطة، أو مساومة، أو مكاسرة، لكن أن يكارم عليه فلا مانع من باب المجاملة، ومقابلة المعروف بالمعروف.(188/14)
حكم استئجار الفحل للضراب
مالك رحمه الله يرى جواز استئجار الفحل ليوم أو يومين أو ثلاثة، ليكون في إبله للضراب، يستأجر الجمل، لا أن يشتري الضراب، وأيضاً نقول: المدة التي استأجره فيها، هل ندري كم سيكون منه ضراب؟ وما هو الذي سينتج وما الذي لا ينتج؟ قالوا: يتساهل في ذلك؛ لأن الأجرة وقعت على وجود الجمل عند صاحب النوق مدة معينة، أما كونه يحصل على ضراب كثير أو قليل، فهذا متروك، وغير منظور فيه، ومسامح فيه، وكما يقولون: الآن خمسة أشخاص دخلوا الحمام، والحمام يستعمل فيه الماء الحار، والمكث في الحمام له أجرة، واستهلاك الماء له أجرة، والأجرة متساوية، على كل واحد خمسة ريالات، فهل كلهم يدخلون في دقيقة واحدة، ويخرجون في دقيقة واحدة، أم يتفاوتون؟! فهناك شخص يمكث أكثر من الثاني، فاستفاد من الحمام أكثر من غيره فتساهلنا، وهل الخمسة يتفقون في مقدار الماء الذي يستنفدونه في الحمام؟! لا، مع أن كل واحد دفع خمسة ريالات، وبعضهم قد يستهلك عشرين لتراً، وبعضهم ثلاثة لترات.
والآن إذا ذهبت إلى مكتب الطيران، فستجد التذكرة من المدينة إلى جدة بمائة ريال، ثم راقب الناس في المطار، تجد واحداً وزنه خمسين كيلو جرام، والآخر وزنه مائة وخمسين، وكل منهما له نفس التذكرة، هل الخطوط تحاسب على الوزن وعلى الثقل؟ لا، ومثل هذه الفوارق متسامح فيها.
فـ مالك أباح استئجار الفحل، فيبقى عند المستأجر وقتاً معيناً ومدة معلومة، والله تعالى أعلم.(188/15)
شرح حديث: (نهي عن بيع حبل الحبلة)
قال رحمه الله: [وعنه (أي: ابن عمر) (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حَبَل الحبلة، وكان بيعاً يبتاعه أهل الجاهلية، وكان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة، ثم تنتج التي في بطنها) متفق عليه، واللفظ للبخاري] .
مما نهي عن بيعه ما فيه غرر؛ لأنه غير معروف، وغير مضمون، مثل ما جاء في هذا الحديث، وهو مثال عام لكل ما فيه غرر، أبيعك ما في جيبي! أبيعك ما في الصندوق! وما الذي في الصندوق؟! لا أدري، إذاً: هذا غرر، أبيعك هذا الثوب على طيه ولا تفكه؟! وهل أنا أدري ما بداخله؟! أبيعك ما يأتيني به فلان! وهل أنا أدري ما الذي سيأتيك به؟! فكل ما فيه غرر داخل في هذا الحديث: (نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة) حَبَلها: الذي في جوفها، وهل النهي عن بيع الطبقة الأولى وهي: الحمل الموجود أم أن النهي عن بيع الطبقة الثالثة، وهي: أن تنتج الناقة أنثى، فيكبر هذا النتاج، ثم ينتج، فيكون جيلاً ثالثاً أو أن النهي ليس منصباً على عين الحمل، وحمل الحمل، بل جعل الحمل موعداً لوفاء الدين؟! (نهى عن بيع حبل الحبلة) ، قالوا: يحمل على أمرين: أن ينتظر وضع الحمل ثم يكبر هذا الحمل إلى أن يبلغ وينتج، فحينئذ حل الدين، هذا واحد: أن يجعل حبل الحبلة موعداً لوفاء الدين، وإذا وقفنا عند هذه: فلو اشتريت عبداً وقال: حلول ثمنه عند حبل الحبلى التي عندك، أو حبل الحبلى التي عندي والتي تعرفها، ما المانع في هذا؟ قالوا: لا ندري متى يأتي حبلها هذا الموجود، والمعروف عند الناس: تسعة أشهر، أو سنة، طيب هذه التي جاءت، متى تكبر؟ ومتى تحمل؟ ومتى تنتج؟ لا تجد شيئاً مضموناً يمنع النزاع، فنهي أن يجعل هذا الوصف موعداً لوفاء الدين، وهذا أحد المعاني التي فُسر بها الحديث، مع أنه بعيد.
والمعنى الثاني -القريب-: أن يقول قائل لآخر: بعني الناقة.
فيقول: لا؛ هذه عزيزة عندي.
طيب: بعني الذي في بطنها -نتاجها-، وبعض الناس يحرص على النوعية خاصة في الخيل، فيحجز الحمل الموجود في هذه الفرس، ويشتريه -تكون معروفة بأصالتها، فيحرص الناس على سلالتها، فيتسابقون في شراء نتاجها- وكذلك الإبل، ففي زمن عمر باع رجل ناقة بثمانين جملاً -أنا ما كنت أظن أن يصل السعر إلى هذا الحد- فالنوعية والسلالة تجعل الناس يرغبون في نتاجها، فصاحب هذه الناقة الأصيلة لن يبيعها، ولكن سيبيع نتاجها، فيأتي إنسان ويشتري حبلها، وهو لم يأت بعد، فنهي عن ذلك، لماذا؟ لا ندري هل ستأتي بناقة أو جمل؟ وهل ستأتي بكبيرة أو صغيرة؟ وكما يقولون: سمحة الخلقة أو لا! بيضاء أو حمراء! وهناك صفات يرغب فيها المشتري قد تختلف، وهل ستأتي بمولود حي، أو أنها تموت ولا تنتج؟! أما بيع حبل الحبلة: فالمراد أن تنتظر الحبلى حتى تضع، ثم ينتظر المولود حتى يكبر وينتج، ونتاجه هو المبيع، فالجهالة تكون في هذا أكثر وأكثر، فإذا منع في الحمل الموجود بالفعل؛ فيمنع في نتاجه فيما بعد من باب أولى، والسبب في ذلك وجود الغرر، وكل بيع فيه غرر في السلعة، أو في الثمن؛ فهو منهي عنه، فمثلاً: لو قال قائل: اشتريت منك الناقة بما في يدي! بما أحمل من النقد، بما في هذا الصندوق! بما في هذه الخرقة! ولا تعرف هل هو نحاس، أو ذهب، أو فضة، أو حصاة؟! ولا تعرف كم عدده، ولا مقداره، ولا وزنه! فهذا غرر.
إذاً: النهي عن بيع حبل الحبلة يحمل على أحد الأمرين: أن يجعل موعداً لسداد الديون، وهذا ضعيف، أو أن يقع البيع على نفس الحمل حينما يأتي، أو على نتاج الحمل بعد أن يوضع، وهذا فيه غرر كبير؛ ولهذا نهي عنه، والله سبحانه وتعالى أعلم.(188/16)
شرح حديث: (النهي عن بيع الولاء وهبته)
قال رحمه الله تعالى: [وعنه (أي: ابن عمر) رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء، وعن هبته) متفق عليه] .
تقدم لنا أن الولاء نعمة بموجب الحرية، أو وصف اعتباري يلحق المعتق، ويتبع المعتِق، وهي صلة بين المعتِق وعتيقه، صفة معنوية يربط المعتَق بمن أعتقه، ونبه فيها صلى الله عليه وسلم بقوله: (الولاء لحمة كلحمة النسب) ، ولحمة النسب لا تباع، ولا توهب، فهل تبيع أخاك أو تبيع ولدك؟ لا، النسب لا يباع، فكذلك الولاء حل محل النسب، فلا يباع، ولا يورث، ولا يوهب، فكيف لا يورث، وصاحب الولاء قد مات، وترك ورثة؟! قالوا: نعم، لا ينتقل بالفرض، ولكن ينتقل بالعصبة، للأولى الذي يحل محل المعتِق، وأشرنا في قصة بريرة بأنه لو مات إنسان وله ولاء على عبد، وخلّف ورثة: ولد، وبنت، وزوجة، وأم، فالولاء خاص بالولد، وليس للبنت، ولا للزوجة، ولا للأم نصيب ميراث فيه؛ ولهذا لا يبيعه، ولا يهبه -أي: الولاء- إنما يبقى ارتباط وثيق بين المعتِق والمعتَق، والله تعالى أعلم.(188/17)
كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [6]
حرمت الشريعة كل ما يدعو إلى العداوة والبغضاء، ومن ذلك بيع الغرر، وله صور كثيرة مثل: بيع الحصاة، وبيعتين في بيعة، وسلف وبيع، وشرطين في بيع، وربح ما لم يضمن، وغير ذلك.(189/1)
شرح حديث: (نهى عن بيع الحصاة)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد: فقال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر) رواه مسلم] .
يسوق المؤلف رحمه الله تعالى هنا حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر) .
الحصاة قطعة من الحجر معروفة عند الجميع، وهي: نوع متميز من الأحجام الحجرية الملساء، وكان يستعمل في العدد، وربما في عصر من العصور كان يستعمل نقداً، وكان بيع الحصاة في زمن الجاهلية أمراً جارياً، وعرفاً جارياً، ولكن كيف كانت الصورة؟ يقول بعضهم: -وهو أقرب للمعنى- هو: أن يأتي المشتري فيجد أمامه عدة سلع متنوعة، مختلفة الأجناس، والأنواع، فمثلاً: علبة كبريت، علبة حلاوة، خيط، مقص.
إلخ، أو ملابس: فنايل، سراويل، قمصان، غتر، وتكون مرصوصة بجوار بعضها، فيقول البائع للمشتري: خذ حصاة، وارم بها، فما وقعت عليه فهو لك بكذا، وهذه الصورة واضحة، وهي داخلة في عموم الغرر؛ لأن الغرر أن تغر الإنسان، ويدخل على أمر مجهول، لا يدري نتيجته، ولا يؤمن فيه الغبن، فهنا: على أي شيء ستقع الحصاة؟ فقد يكون المشتري صاحب حذق وخبرة في الرماية، فيحدد ما يريد، والبائع لا يدري على أي شيء ستقع الحصاة! فقد تقع على منديل يد يساوي ريالاً، وقد تقع على فنيلة تساوي عشرة ريال، وقد تقع على قميص يساوي ثلاثين ريالاً.
إذاً: الغرر من جانب البائع أكثر منه من جانب المشتري، وقد يكون المشتري شخصاً لا يحسن الرمي بالحصاة، فإذا كان كذلك فسيأخذ حصاة ويرمي، ولكنه لا يدري أين تقع؟! فإذا كانت الصفقة على خمسة ريالات، وسقطت الحصاة على ما يساوي ريالاً، كان في ذلك غرر على المشتري، وإذا كانت الصفقة بخمسة ريالات، وسقطت الحصاة على سلعة بعشرة، أو بعشرين ريال، كان الغبن على البائع.
إذاً: هذه الصورة من البيع نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما فيها من الغرر، وهي أحسن ما فُسر به بيع الحصاة.
وهناك من يقول: بيع الحصاة هو: أن تأخذ حصاة في يدك، أو يأخذها البائع، فتساوم -مثلاً- على قميص معين -معروف لك وله- بعشرة ريال، قال: طيب، أتركني أفكر، فمتى أسقطت الحصاة من يدي؛ مضى البيع، طيب، وإذا ما أسقطتها إلى متى ننتظر؟ هكذا يقول بعض شراح الحديث: إن بيع الحصاة هو: أن تربط انعقاد البيع على سقوط الحصاة، أو أن تربط عقد البيع على السلعة التي تقع عليها الحصاة، وفي خارج هذه البلاد يوجد هذا البيع بكثرة لاسيما في الأعياد والمناسبات، خاصة عند الشباب والأطفال، يؤتى بدائرة فيها سهم، وعلى حافة المقعد التي هي عليه، ترص السلع: علبة حلوى، منديل، علبة بسكوت، أشياء متعددة متجاورة، ولها سهم مثل عقارب الساعة، يدار بطريقة معينة، وحيث ما وقف السهم فالسلعة التي أمامه لمن أدار السهم، علماً بأنه لا أحد يدري على أي شيء سيقع السهم -لا اللاعب ولا صاحب اللعبة- وربما وقف على سلعة تساوي هللة، وربما وقف على سلعة تساوي ريالاً، وأنت وصاحب اللعبة، لا تدرون أين سيقع! فهو داخل في هذه العملية، وداخل في هذا النهي، لماذا؟ لأن فيه جهالة، وفيه غرراً، ومقامرة، فلا يجوز هذا اللعب، ولا يجوز هذا البيع، هذا ما يقال في بيع الحصاة.(189/2)
بيع الغرر: صوره وحكمه
أما بيع الغرر، فتقدم التنبيه عليه في حديث أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حبل الحبلة، مثلاً تكون الناقة حاملاً، فيقول: أبيعك الذي في بطنها، هذا نوع.
أو تكون حاملاً، فيقول: أسلفني ألف ريال أسددك بعدما تنتج الناقة ما في بطنها، ويكبر هذا النتاج، وينتج، يعني: في البطن الثالث، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك، سواء وقع البيع على الحمل الموجود، أو الذي سيوجد فيما بعد، أو جعل ذلك موعداً لسداد الديون المؤجلة؛ لأن فيه غرراً، فإنه لا يُدرى ما الذي في بطنها؟! أذكر هو أم أنثى؟! مكتمل أم خلوج؟ .
إلخ فكل ذلك مجهول، إذاً: هناك غرر.
وأشرنا بأن كل بيع فيه غرر مندرج تحت هذا الحديث، وجاء التصريح هنا بالنهي عن بيع الغرر: (وعن بيع الغرر) .
ومن أمثلة بيوع الغرر: أن تأتي إلى الدكان، فتجد فيه علباً مغلقة، سواء كانت للملابس الجاهزة، أو للأحذية، أو لأدوات منزلية، أو كذا، فتقول: ماذا في هذه العلبة؟ قال: فيها حذاء، طيب أريد أن أفك، قال: لا، لا تفك! هو على ما هو عليه! أنا اشتريته مقفولاً وأبيعه مقفولاً، طيب أريد أن أعرف اللون، والمقاس، قال: لا، فأنت ما تدري ماذا تجد، هل هو خاص بالرجال، أو بالنساء، أو هو كبير، أو صغير، نوع جيد، أو نوع رديء؟ فهذا غرر في المبيع، فلابد أن تفك، وأن تنظر، وأن تتأمل؛ فإن طاب لك أخذت، وإن لم يطب لك تركته في محله.
وكذلك ما يوجد في بعض الجهات، تأتي بنوع من اللباس، مطبق ومشبك بدبابيس، ومغلف في كيس من النيلون، أو نحوه، فإذا أردت أن تفك، يقول: لا تفك، إذا فكيته وطبقناه، وإذا أتى زبون آخر فلن يأخذه؛ لأنه مفكوك، لكن ما ندري فربما يكون فيه شق! أو عيب، فكيف نفعل؟ لكن يقولون: يغتفر في مثل هذا؛ لما علم من تكرار المبيعات في مثل هذه الصورة على السلامة.
فمثلاً: الفنايل تكون في كيس نايلون أو في بعض الأشياء، أو بعض المعلبات، وجرت العادة عند الناس أن تقرأ الرقم فيبين المقاس، ويبين نوعية القماش، فتأخذه على النعت الموجود فيه، وهنا: يصح البيع؛ لما عرف من نظائره السابقة، فإذا حدث وظهر فيه عيب -لم يتعود الناس أن يروه- فله حق رد المبيع بالعيب، أو يأخذ أرش العيب، فهذا العيب كم أنقصها من قيمتها؟ مثلاً: (2%) ، (5 %) فأنت بالخيار ترد وتأخذ القيمة، أو تسترجع من البائع أرش النقص (2%) أو (5 %) ، وهكذا كل ما فيه غرر.
ومن صور بيع الغرر: بيع ما لا تقدر على تسليمه، ويمثل الفقهاء لهذا: ببيع الطير في الهواء، والسمك في الماء، والعبد الآبق، والفرس الشارد، وكل هذا من بيع الغرر، فإذا قال لك: أبيعك الطير (وهو في الهواء) ، طيب: ومن يحضر لي الطير؟! قال لك: أبيعك السمك في هذا الماء، طيب ومن يضمن لي السمك؟! ولكن: الفقهاء لهم مخارج، فإذا كان الطير في الهواء كما يفعل بعض الشباب الذي يضيع دراسته في هذا، هواية الحمام! حمام جلابي، حمام هزازي، حمام كذا.
إلخ، تعال انظر إليه في الجو، وهو يتقلب بحركات جميلة، يرغبه فيه، قال المشتري: طيب اشتريت، أعطني المبيع، قال البائع: لا، ليس الآن، لما يرجع في الليل، ويبيت فسأذهب وأمسكه.
أو قال: أبيعك هذا السمك، الذي في هذا الحوض، لكن الحوض كبير! مائة في مائة متر! من يعين ويحدده بالذات ويحضره، هذا سمك في ماء، طيب أنا أملكه، الحوض حقي وأنا مربيه، فإذا كان باستطاعته بآلة، أو بأخرى، أن يصطاد هذا السمك، الذي وقع عليه البيع، ولا يختلط بغيره، فهذا مقدور على تسليمه.
وكذلك الطير في الهواء إذا كان قادراً على تسليمه ويستمهل إلى مجيء الليل، والمبيت؛ فلا مانع، وتكون رؤيته في الهواء من باب رؤية حركاته التي يرغب فيها، وهو قادر على التسليم فيما بعد، فقالوا: مثل هذا لا بأس.
أما إذا جاءت يمامة، أو جاء طاووس، ووقع على الشجرة، فقال شخص: أبيعك هذا! -هو ليس عنده، وليس في بستانه- فيقال له: وإذا بعته فمن يسلمه؟! إذاً: هذا غرر؛ لأنه غير مقدور على تسليمه.
كذلك إذا كان لك عبد، فأبق عليك: هرب، فقال: أبيعك العبد الهارب، قلت: أين هو؟ قال البائع: والله ما أدري أين محله! لكن إذا علم مكانه، والمشتري يرى أنه قادر على الذهاب إليه، والقبض عليه، وأخذه، يقول الحنابلة يجوز هذا ما دام المشتري قادراً على أخذه، طيب، كان يظن القدرة فعجز، ماذا يفعل؟! يرجع على البائع! ولو اغتصب شخص سلعة: طيراً، عبداً.
إلخ، والمالك لا يستطيع أن يخلص السلعة من يد الغاصب، فلا يجوز له أن يبيعه؛ لأن المشتري يريد السلعة، والسلعة في يد غاصبها، والبائع لا يستطيع أن يخلصها منه، إلا إذا جاء إنسان وقال: أنا قادر على تخليص المغصوب من يد غاصبه، بعنيه، فقال البائع: والله ما دام أنك قادر، نعم أبيعك، وباعه على من يقدر على تخليصه من يد غاصبه، حينئذ يصح البيع، طيب، وإذا عجز المشتري عن تخليص السلعة من يد الغاصب! يذهب يشتكي، فإن استطاع بشكواه لولي الأمر الحصول على السلعة، فالبيع ماض على ما كان عليه، وإن عجز، وولي الأمر لم يستطع أن يلزمه بإحضاره؛ حينئذ يرجع المشتري على البائع، وكل ما أوجب، أو أدى إلى عدم القدرة على التسليم فهو غرر، فلا يجوز البيع.
من الدواهي الموجودة الآن، وأطبق عليه الجميع، واستحلوا بذلك الحرام، ما تجده في معارض السيارات التي سببت ملء السجون بالمدينين ببيع التقسيط، فيأتي عند البيع ويقول: (بعتك سكراً في ماء) ، (ملحاً في ماء) ، (كومة حديد) ، وهو يعلم بأن فيها بعض العيوب، ولكن يخفيها، ويأتي بتلك العبارات، والمشتري يقول: قبلت، قبلت، قبلت، ويظن أن هذه عبارات وهمية، لكن الحقيقة قد يكون فيها عيب؛ ولذا قال مالك: من باع على البراءة الأصلية لا يصح بيعه، لو قال: أبيعك على أنها بريئة من كل عيب، فإن كان يعلم فيها عيباً، وكتمه فهو آثم، فإن اطلع عليه المشتري، فله ردها عليه؛ لأنه دلس عليه وغره بكتمان العيب.
إذاً: هذه المبيعات يعلم أن فيها عيوباً ما، وأهل السيارات يعرفون العيوب الخفية والدقيقة: من تسرب الزيت.
إلخ، والمسكين الذي يشتري لا يعرف هذه الأشياء، وما يدري عنها، تقول له: اذهب وانظر، فيذهب إلى مهندس واحد، وقد يخفى عليه شيء، ويعلم أشياء، فكل من دس وأخفى عيباً، -وسواء كان يعلم وجوده أو لا يعلم- فتبين المشتري ذاك العيب، فإن له أن يرد السلعة؛ لأنه قد غره، وغشه، ودلس عليه، فالبيع باطل، وتحت هذا صور عديدة.
وكذلك قد يقع الغش والتدليس في أعمال المقاولات والبناء، فمثلاً: يتفق صاحب العمل مع أحد المقاولين على مواصفات معينة، ويحدد له النسب والمعايير المطلوب تنفيذها، والسير عليها، وهنا قد يستغل المقاول جهل صاحب العمل بكيفية تطبيق تلك المواصفات؛ فيغش ولا ينفذ المتفق عليه، ومن هنا قد يلجأ أرباب الأعمال إلى الاستعانة بمشرف فني يعرف أعمال البناء ليشرف على المقاول في تطبيق الاتفاقية، والمشكل إذا اتفق المشرف مع المقاول على صاحب العمل! فهذه مصيبة أخرى!(189/3)
قاعدة عامة في المعاملات
هنا قاعدة أساسية وعامة تدخل في جميع المعاملات: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] ، (المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه) ، وكذلك: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس) ، وهكذا كل ما تقرأه عن أنواع الغرر يرجع إلى التحايل على أخذ أموال الناس وأكلها بالباطل، والتحايل على أخذ الزيادة في الثمن، ويغره، في وصف السلعة، أو بأي حالة من الحالات، والله تعالى أعلم.(189/4)
شرح حديث: (من اشترى طعاماً ... )
قال المصنف رحمه الله: [وعنه -أي أبي هريرة - رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اشترى طعاماً فلا يبعه حتى يكتاله) رواه مسلم] .
هذه قضية مهمة لاسيما في حق التجار، وخاصة تجار (القطاعي) أو (التصريف) ؛ لأن التاجر على قسمين: تاجر جملة، وتاجر قطاعي (تجزئةً) .
فتاجر الجملة يأتي ويشتري كمية كبيرة، كما نشاهد في أيام جذاذ التمر، فيكيل عشرة قناطير! وعشرين قنطاراً! ويتركها في المستودعات عنده، فإذا قدر أنه اشترى مائة كيس، وكالها، وكل كيس فيه عشرون صاعاً، وعدها مائة كيس، فجاء إنسان يريد أن يشتري كيساً، فقال: أنا حينما اشتريتها كلتها، وفي كل كيس عشرون صاعاً، فاختر أي كيس منها، فهذا لا يجوز، فلابد أن نأتي بالصاع، ونكيل الكيس مرة أخرى، حتى قال بعض العلماء: لو كنت حاضراً في السوق، والتاجر اشترى صبرة قمح، أو تمر، وكالها الكيال وأنت موجود، كالها بين البائع والمشتري وأنت واقف، فكانت عشرين صاعاً، فوضعها في الكيس، وتركها على جنب، ثم جئت بنفسك، ووجدت الكيس بعينه، وأردت أن تشتريه على ما شاهدت من كيل سابق، فلا يجوز للبائع أن يبيعها عليك، حتى يعيد الكيل -من أجلك- مرة أخرى، فيجري فيها الصاع مرتين.
فإن قلت: لما نكيل الكيل الثانية تحصيل حاصل؛ لأني رأيته بنفسي كاله أمامي فلماذا؟ قيل: دفعاً للتهمة، ومنعاً للشك، وما يدرينا، فلعل الكيال حينما كال أمامك غلط في العدد، فربما أنقص صاعاً، أو زاد صاعاً، سهواً، فأنت أخذت الكيس على الكيل الأول، وذهبت إلى البيت، وقسمته بين عائلتيك، فإحدى العائلتين أخذت عشرة صيعان مستوفاة، والعائلة الأخرى صار لها تسعة صيعان، فالناقص هذا على من يكون؟! سترجع إلى من باعك، والبائع يقول: البائع أنا كلت أمامك، فتكون العهدة على الذي باعك، أو على المالك الأول؟ الذي باعك، لكن الذي باعك تم الكيل أمامه، فهل يستطيع أن يرجع على الأول، ويقول: أنت الذي أحضرت الكيال وأنت الذي كلت، وأنت الذي عديت؟ لا، سيقول البائع: بل أنت الذي أنقصت، أنت الذي أخذت! ثم يرجع المشتري الأول على المشتري الثاني! ويقول: يا عم! أنا أعطيتك كيساً فيه عشرون صاعاً، فذهبت به إلى البيت، ثم أنقصت صاعاً! وستقع المشاجرة، وسيقع النزاع، فحسماً للنزاع؛ كل يكيل لنفسه.
وهذا أيضاً قد يقع حالياً في بعض المؤسسات مع الموظفين، فحينما يصرفون الرواتب وتستلم من البنك، وهي معدودة بعد البنك، فيستلمها الموظف على عدّ البنك ولا يعدها، ثم يذهب إلى بيته ويوزعها فإذا هي ناقصة، فهل يستطيع أن يرجع بهذا النقص على الصراف، أو أمين الصندوق، ويقول: أنت أعطيتني مرتبي ناقصاً؟! ولذا توجد لوحة عند كل أمين صندوق، (لا تقبل النقود بعد الخروج من الغرفة) ؛ لأنه ممكن يسحب منها ويضعها في جيبه، ويرجع ويقول: هذه ناقصة، ولكن عدّها أمامه.
إذاً: هذه الأمور التي يحتمل فيها الخطأ، ويحتمل فيها الغلط والنسيان، ينبغي أن يعاد المكيال، ويعاد المعيار، والميزان، والعدد، لكل إنسان على حده، حتى نسلم من الاتهام، ومن الشك، فممن كان هذا النقص؟! لا ندري، إذاً: سيقع هناك النزاع، فمن اشترى طعاماً واكتاله، لا يجوز له أن يبيعه حتى يكيله مرة أخرى للمشتري، ولابد من أن يحوزه وينقله، ولا بد من إعادة الكيل، أو الوزن، أو العد، منعاً للغرر، وحسماً للنزاع.(189/5)
شرح حديث: (النهي عن بيعتين في بيعة)
قال المصنف رحمه الله: [وعنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعه) رواه أحمد والنسائي وصححه الترمذي وابن حبان، ولـ أبي داود: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما، أو الربا) ] .
أقول: ما تعب طلبة العلم في صورة نهي كهذه الصورة، (نهى عن بيعتين في بيعة) ، (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا) كثر ما قيل في هذه الصور، وقد اختلف العلماء في تحديد الصورة التي يتحقق بها المراد من هذين الحديثين، ولكن الشافعي رحمه الله فسر البيعتين في بيعة بتفسير سهل جداً، ومريح، ولو أخذ به الناس لاستراحوا، واستراح طلبة العلم من عناء التفكير والتعب، واستراح الناس في معاملاتهم.
ولكن يرد عليه ما يرد من حيث السند ومن حيث المعنى، فـ الشافعي رحمه الله يقول: هو أن تبيع السلعة بثمن مؤجل، أكثر من سعرها في الحاضر بسبب التأخير، مثل بيع التقسيط: نقداً بمائة، ومؤجلاً بمائة وثلاثين، فهذه بيعتان، يعني: عقدان في بيعة، أي: سلعة واحدة، مثل ما يوجد في بيع السيارات الآن -وهي التي أساءت إلى الناس- نقداً بعشرين ألفاً، ومؤجلاً: بخمسة وعشرين ألفاً.
فـ الشافعي فسرها بهذا، (بيعتين) أي: عقدين: عقد حال، وعقد مؤجل، في بيعة، وهي السيارة، وقال: فمن باع بيعتين في بيعة -كما تقدم- طبق عليه الحديث الآخر: (فله أوكسهما) يعني: أقلهما، (أو الربا) ، وهذا ينطبق تماماً على هذه الصورة، بعت السيارة بيعتين: بيعة بمائة، وبيعة بمائة وثلاثين، (فلك أوكسهما) يعني: أنقصهما، إذاً: نحسبها بمائة، وإن أصر على مائة وثلاثين، كانت الثلاثون ربا.
لكن العلماء يقولون -وجعلوا لها تخريجاً أيضاً-: هذا ينطبق عليه فعلاً إن انصرف الطرفان دون تحديد نوع المبيع، فلم يقل المشتري: اشتريت حالاً بمائة، ولم يقل البائع: بعت مؤجلاً بمائة وثلاثين، البائع قال: نقداً بمائة، ومؤجلاً بمائة وثلاثين، وقال المشتري: نعم، وأخذ السيارة (شغل ومشى) ، على أي السعرين تم البيع؟! لم يحدد! ويقولون: لم يتعين نوع العقد من العقدين، فالمشتري لم يحدد: قبلت بالنقد، أو قبلت بالنسيئة، والبائع كذلك، لم يحدد: باع بالنقد، أو باع بالتأجيل، وافترقا على ذلك، فهل يطالب البائع المشتري بالمائة؟ أم ينتظر حتى يأخذ المائة والثلاثين بعد سنة؟ ما عندنا تحديد، فقالوا: من هنا وقع الغرر؛ لأن البائع لا يدري ما الذي استقر له في ذمة المشتري، أهي المائة حالاً الآن أم هي المائة والثلاثون بعد سنة؟! ومالك يزيد في هذه الصورة شكلا ًآخر، ويقول: إن هذا العقد الذي لم يحدد فيه نوع الثمن، فيه ربا، كيف هذا؟! على تحقيق: (أوكسها أو الربا) يقول: لعل المشتري أرادها نقداً، وانصرف على أنها نقد، ثم بدا له أن يجعلها نسيئة، فيكون استقدم المائة نقداً بمائة وثلاثين بعد سنة، وهذا هو عين الربا، أو أن يكون البائع قد انصرف عن المشتري على أنها نسيئة بمائة وثلاثين، ثم جاء المشتري ودفع المائة، فيكون البائع قد باع بمائة وثلاثين، ثم وضع وتعجل، وقولهم: زد وتأجل، أو ضع وتعجل، هما صورتان للربا، فـ مالك يحقق معنى الربا في هذين العقدين، إذا لم يعينا أحد العقدين ويتفقا عليه.(189/6)
صور أخرى للبيعتين في بيعة
وهناك صور أخرى للبيعتين في بيعة، كأن يقول: أبيعك هذه السيارة (التكسي) على أن تبيعني هذه (الأنيسة) ، أو تبيعني هذه الحمالة (دينة) ، فهذا باع، وهذا باع، بيعتان في عقد واحد، على الشرط: أبيعك التكسي شرط أن تبيعني الدينة، يقولون: هذا أيضاً يصدق عليه أنه بيعتان في بيعة؛ لأنه بيع وشرط، وتوقفت صحة العقد الثاني على صحة العقد الأول، قالوا: هذا أيضاً داخل في معنى: بيعتين في بيعة.
لكن لا ينطبق عليها أوكسهما؛ لأن كل واحدة منهما إما بسعر الأخرى، وهذه في قيمة هذه، فتكون متساوية، وإما كل واحدة بثمن محدد، فهما عقدان متفاوتان، وليس هناك أوكس ولا أكثر؛ لأن كل سلعة لها سعرها.
وهناك من يقول: أسلم في قفيز من الحب، وبيع السلم هو أن تأخذ الثمن، ويكون المبيع في ذمتك، تقدمه للمشتري عند الأجل، كالذي يبيع خمسة أوسق من التمر، والناس ما زالوا يؤبرون، وهذا جائز، فيأخذ الثمن، وحينما يأتي وقت الجذاذ، عليه أن يقدم الخمسة الأوسق للمشتري، فلما جاء الأجل، وقال: أعطني الأوسق التي لي، والتي اشتريتها من قبل -أنت ما عندك- فيقول: أنا ما عندي، ولكن بعني تلك الأقفزة الخمسة التي لك عليّ بألف مؤجلة إلى شهرين، فالخمسة الأوسق وقع عليها بيعان: بيع في عقد السلم، وبيع عند الوفاء؛ لانعدامها عند الأجل، إذاً: أنت بعتها، ثم اشتريتها، بعتها وهي معدومة، واشتريتها حينما حل الأجل عليك لتدفعها، فهذا أيضاً من صور البيعتين في بيعة.
ولكن: إذا أردنا أن نطبق الحديثين فإن أقرب الصور في تطبيقها هو ما قاله الشافعي رحمه الله: أن تبيع السلعة بأكثر من ثمنها في يومها بزيادة مقابل التأجيل، الآن في السوق بمائة، تقول: بمائة وثلاثين بعد ستة أشهر، الثلاثون هذه مقابل ماذا؟ التأخير إلى ستة أشهر.
فينطبق عليها أوكسها، وهي المائة، وهو سعرها اليوم، (أو الربا) أي: في هذه الثلاثين الزائدة.
ولكننا نجد الشوكاني يرحمه الله بحث هذه المسألة, وقال: لقد كتبت رسالة في ذلك أسميتها: إرواء الغليل في زيادة الثمن من أجل التأجيل، ولكن لم نطلع عليها، ولم نجدها.
فكل صورة من تلك الصور الثلاث التي أوردناها وردت عليها اعتراضات، إلا الصورة التي ذكرها الشافعي، فلا يوردون عليها، إلا أن العمل جار عليها، وكون العمل جار على شيء، وهو يتعارض مع النص الصريح، لا يكون ذلك حجة مسقطة للنص، وقالوا: الحديث متكلم فيه، وإذا أردنا أن نأخذ كل كلام في كل حديث، ما يبقي لنا شيء، هذا الذي نستطيع أن نورده في هذه المسألة على كثرة ما قيل فيها، سواء كان في الموسوعات أو كان في المجاميع، أو كان عند الفقهاء، وبالله تعالى التوفيق.(189/7)
شرح حديث: (لا يحل سلف وبيع)
قال المصنف رحمه الله: [وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك) رواه الخمسة، وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم، وأخرجه في علوم الحديث من رواية أبي حنيفة عن عمرو المذكور بلفظ: (نهى عن بيع وشرط) ومن هذا الوجه أخرجه الطبراني في الأوسط، وهو غريب] .
(لا يحل سلف وبيع) مثلاً: تقول: سلفني وأبيعك! بعني السيارة وسلفني ألف ريال، هذا الشرط هو: ارتباط السلف بالبيع، فحينما تأتي وتقول لصاحب السيارة: سلفني عشرة آلاف ريال، قال صاحب السيارة: عشرة آلاف كثير، ومتى تردها لي؟ قلت: بعد سنة، قال صاحب السيارة: أنا أريد أن أبيع وأشتري، وأريد أن أربح، قلت: طيب بعني هذه السيارة باثني عشر ألفاً، وحينما علمت أنه سيعطيك عشرة آلاف ديناً، أردت أن تنفعه، ويريد أن ينتفع منك بسبب هذا الدين، فباعك السيارة التي تساوي ثمانية آلاف باثني عشر، وهذه الأربعة زيادة لأجل ماذا؟ من أجل أنه سلفك، فأنت تحملت زيادة في سعر السيارة، ولم تماكس، بل قلت: مرحباً على العين الرأس، من أجل أن يمضي عقد السلفة، فيكون المبيع مع السلفة وسيلة للزيادة في سعر المبيع هروباً من أن تقول: سلفني عشرة وأعطيك بها اثنى عشر، فلو قلت: سلفني عشرة، وأعطيك بها اثنى عشر، فسيقول: هذا ربا، وهذا حرام، طيب، بعني هذه السيارة، كم تساوي؟ تساوي عشرة، سأشتريها منك باثني عشر، إذاً: أبيعك إياها باثنى عشر، فتقبل أنت باثنى عشر، مع أن قيمتها عشرة، فزدت ألفين، وهما اللذان كنا سنضعها مع السلف، وهربنا منها وقلنا: ربا! ربا! ثم أتينا ووضعناها في قيمة السيارة! وكذلك العكس، سلفني عشرة آلاف، وأبيعك سيارتي، قلت: هي تساوي عشرة، قال: والله أشتريها بثمانية، فأنت من أجل أن تمضي عقد السلف وتأخذ العشرة؛ تساهلت في ثمن السيارة بألفين، وأخذها بثمانية، فلأجل السلفة نزلت من قيمة السيارة، إذاً: المسألة رجعت إلى الربا مرة أخرى، فاجتماع البيع والسلف، سواء كان البيع من المسلِّف أو كان البيع من المتسلف، والمراعاة والتنازل في ثمن المبيع -باسم المبيع-؛ ليغطي مصلحة القرض.
إذاً: نهى صلى الله عليه وسلم عن سلف وبيع.
هذا الحديث جمع فيه الراوي من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم مسائل متعددة من مسائل البيع.
فالأولى منها: نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع وسلف، وتقدم الكلام على هذا النوع، وبيان العلة في النهي عن جمع البيع مع السلف، وأنه يدور حول مظنة الربا، سواء كان البيع من المسلف أو كان البيع من المتسلف.(189/8)
الشرطان في بيع: صوره وحكمه
النوع الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن شرطين في البيع.
تمهيداً لهذه المسألة -كما يذكر الحنابلة- في الصورة: حمل الحطب وتكسيره، فمثلاً: اشتريت حطباً من حطاب، واشترطت عليه أن يحمله إلى بيتك، ثم اشترطت مع حمله أن يكسره إذا وصل، ونحن نقول في المقدمة: إذا اشتريت الحطب من الحطاب، وانتهيت بالثمن، ثم سألت الحطاب: أريد من يحمله لي إلى البيت، هذا الحامل الذي سيحمله لك، ماذا يسمى بالنسبة إليك، بائع أم أجير؟ أجير، فقال لك الحطاب: أنا أحمله إلى بيتك، كم تدفع؟ اتفقت معه على أجرة الحمل، وأوصل الحطب إلى البيت، وأعطيته أجرة حمله، فأنت عندما كنت في السوق كنت مشترياً، وهو بائع، وهو هنا أجير وأنت مستأجر، ثم قلت: أريد إنساناً يكسره لي، قال: أنا أكسره لك، كم تدفع؟ فاتفقت معه على تكسيره بأجرة جديدة، ودفعت له الأجرة وكسر الحطب، الآن حصل مع شخص واحد، في سلعة واحدة، ثلاثة عقود: عقد على البيع والشراء، وعقد على حملانه، وعقد على تكسيره، هل في هذا شيء ممنوع أم كله سليم؟ كله سليم، لو قدر أنه قال لك: أنا أحمله لك، وحمله في السيارة، ثم جاء ليشغل السيارة فما اشتغلت! قال: والله أنا عجزت، هل يستحق عليك شيء؟ ستأتي بحامل آخر ويحمله، إذاً: الحمل عقد مستقل بذاته، وليس مربوطاً بالبيع والشراء.
حمله ووصّله، ثم قال: أنا أكسر لك الحطب، أعطني الفأس، ذهبت وأتيت بالفأس، قال: هذه لا تصلح للتكسير، هذه تتعب، وما فيها فائدة، وفسخ عقد الإجارة على التكسير، فلا يتعلق فسخ عقد التكسير بعقد الحمل، فالحمل انتهى في طريقه، والبيع انتهى في طريقه، وإنما ارتبط الفسخ بالتكسير فقط! إذاً: لو جئنا وقلنا: يا صاحب الحطب! حطبك هذا بكم، وبشرط: أن تنقله إلى بيتي، وأن تكسره هناك، كم الثمن؟ قال: مائة، وهذا العقد على الحطب بمائة دخل فيه مقابل الحمل والتكسير، وليس الحمل والتكسير من أجلك.
إذاً: الحطاب سيحسب قيمة الحطب مثلاً: واحداً وثمانين، وعشرة للحمل، وتسعة للتكسير، هذا بحسابه هو، لكن في العقد المائة مجملة، فحينما يتم حمل الحطب، ووصله، وكسره يستحق المائة، وانتهى الأمر، لكن الفقه يقدر لما لم يقع لو وقع ماذا يكون، فمثلاً: اتفقت معه على كوم من الحطب بمائة، لكن بشرطين: الحمل، والتكسير، جاء عند الحمل، قال: أنا ملزوم بالشرط، فتركه في السيارة، فشغل السيارة فما اشتغلت، قال: إنا لله، يا عم! لست قادراً على توصيله، فعجز عن تنفيذ الحمل، أو جئنا عند التكسير، قال: لا والله، الخشب هذا يابس، وناشف وكذا، أنا لا أقدر على تكسيره؛ فهنا يحصل اختلال في الشرط، فقلت له: يا عم! والله أنا اشترطت عليك النقل فالحطب مع نقله بمائة، وأنت الآن عجزت عن نقله، فستطالبه بقيمة الحمل المشروط عليه؟ ستطالب بكم؟! غير معلوم.
إذاً: المبيع فيه قيمة الحمل غير معلومة.
ولو قدر أن السلعة غير الحطب، كأن تكون مأكولاً أو مشروباً أو كذا، ونقله، فنظرت في المبيع، فإذا هو معيب، والعيب هذا ينقص القيمة، وأصبح لك الخيار في أن ترد البيع وتأخذ الثمن، أو أن تمضي البيع وتسترد قيمة العيب، طيب، أمضينا البيع، قلت له: هات حق النقص الذي حدث بسبب العيب الذي ظهر في المبيع، قال: قدروه، وانظروا كم يستحق؟ فقلت: تعالوا يا جماعة! قدروا، نظرنا السلعة -ونحن تشارطنا وتبايعنا على مائة قيمة السلعة، وحملها- قالوا: والله المبيع هذا معيب بعيب يقدر له (10%) ، هنا (10 %) ستقدر من قيمة المبيع مع عزل تقدير أجرة الحمل، فإذا قدرنا الحمل عشرة، (10%) ، فسيكون نقص العيب في التسعين أم في المائة؟! وهل سيتفق معك على أن قيمة الحمل عشرة أم تختلف معه؟! إذاً: دخل عنصر الجهالة في الصفقة، ويقابله عنصر الجهالة في الثمن، إذاً: سيقع نزاع أم لا؟ فإذا كان هذا في شرط واحد، فكيف إذا كان في شرطين؟! اشترطت: حمل الحطب، وتكسيره، أو كما يقولون: خياطة الثوب وتفصيله، قلت: يا عم! سأشتري منك ثوباً من هذه الطاقة، بشرط: أن تفصله، وتخيطه، وآخذه جاهزاً، قال: طيب، قلت: بكم؟ قال: بمائة، أتاك بالثوب مفصلاً، مخيطاً، مكوياً جاهزاً، ففتحت الثوب، فإذا في جانب من الثوب عيب: شط، تمزق.
إلخ، عيب يقتضي أرشاً أو رداً، ماذا ستفعل في اشتراط التفصيل والخياطة؟ تخصم مقابل العيب من مجموع المائة أم مما يخص القماش فقط ولا يدخل في ذلك أجرة التفصيل، وأجرة الخياطة؟! ومن الذي سيحدد، ويرضي الطرفين على قيمة الخياطة والتفصيل؟! إذاً: يوجد عنصر يؤدي إلى الخلاف والنزاع لجهالة ما يقدر به العيب في المبيع الأساسي، أو في الصنعة، مثلاً: إذا كان التفصيل غير مناسب، من تحت الإبط ضيق، والكم واسع أكثر من اللزوم، ومن أسفل من ناحية مرتفع، وناحية مرتخي، والخيط غير سليم، ففي هذه الحالة وجد عيب في التفصيل، فكيف نسترد قيمة العيب في أحد الشرطين؟ نحن لم نقدر لها شيئاً عند العقد الأول، وكانت مجملة، إذاً: وجد عنصر الجهالة، وهو موجب للنزاع؛ ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط، أو بيع وشرطين.(189/9)
اشتراط جابر في بيعه على رسول الله صلى الله عليه وسلم
تقدم في حديث جابر: أن جمله أعيى وكاد أن يسيبه، فضربه النبي صلى الله عليه وسلم بقضيب في يده، فنشط ونهض وصار يسبق ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: أتبيعني جملك؟ قال جابر: لا، فقال صلى الله عليه وسلم: بعنيه بكذا، قال جابر: ما في مانع، لكن نحن في وسط الطريق، فأشترط حملانه إلى المدينة، جابر اشترط على رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا؟ وقع شرط مع البيع أم لا؟ البيع صحيح أم لا؟ الشرط صحيح أم لا؟ نعم، قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: عملية أجراها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا أحد يسأل أصحيح أم باطل؟ لأنه صلى الله عليه وسلم هو المشرع، لكن كيف صح بيع وشرط، وهنا نهى عن بيع وشرط؟ يقولون في الجمع بين الصورتين: حملان البعير من مكان العقد إلى المدينة في عين السلعة، ليس على جابر، الاشتراط هنا في عين السلعة، أن يستبقي حمل البعير وركوبه إلى المدينة، ومثله: لو أردت أن تشتري بيتاً، فقال لك البائع: والله يا فلان! نحن في نصف السنة، وما عندي بيت ثاني أسكن فيه، وأحتاج أن أستأجر -والعادة في المدينة أن الاستئجار يكون من أول السنة- ولكن أبيعك البيت وأستثني وأشترط لنفسي سكنى البيت إلى نهاية السنة، فهنا وقع شرط وبيع، فهل صح البيع أم لم يصح؟ صح؛ لأن الشرط في عين المبيع، والشرط في عين المبيع، لا يلحقه ضرر ولا غرر.
لكن هنا الشرط ليس في السلعة ولكن على صاحبها، والأولى أن يكون بعقد آخر، لما قال: استثني حملانه إلى المدينة، هل فيه عقد استئجار؟ لا، وإنما يراعى فيه التسامح، فما دام أني سأعطيك لتركبه إياه إلى المدينة فخفض من السعر، ويكون هناك رضى، فإذا كان الشرط معلوماً، ولا يؤدي إلى نزاع فلا مانع.
أما إذا كان الشرط غير معلوم القيمة، وفي النهاية إذا أرادا أن يتفاصلا، أدى ذلك الشرط إلى نزاع بسبب الجهالة؛ فهذا ممنوع.(189/10)
اختلاف الأفهام فيه توسعة على الأمة
لعلكم تذكرون قضية أبي حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة، حينما قال عبد الوارث: والله لأنتهزها فرصة، ثلاثة علماء من قطر واحد، وسأل أبا حنيفة عن بيع وشرط، فقال: البيع والشرط فاسدان، ثم سأل ابن أبي ليلى قال: البيع صحيح والشرط صحيح، ثم سأل ابن شبرمة قال: البيع صحيح والشرط باطل، فتعجب! فرجع إلى أبي حنيفة، وقال له: إن صاحبيك يقولان: كذا، قال: ما عليَّ مما قالا لك، ولكن الشرط والبيع فاسدان؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط، وحملها على عمومها، فذهب إلى ابن أبي ليلى فقال: ذكرت كذا، وذكر أبو حنيفة كذا، وابن شبرمة كذا، فقال: ما علي مما قالا لك، البيع صحيح والشرط باطل، وذكر له قضية بريرة؛ لأن أهلها اشترطوا عليها الولاء، فصحح النبي صلى الله عليه وسلم العقد وأبطل الشرط، فذهب إلى ابن أبي ليلى وقال له: إن صاحبيك يقولان: كذا وكذا، قال: ما علي، العقد صحيح والشرط صحيح، وذكر حديث جابر، وهذا هو أدب العلماء، واحترام الرأي، وكل يستدل بما وصل إليه، ولم يأت أحد منهم -رضوان الله تعالى عليهم أجمعين- بشيء من عنده، ولكن تعددت النصوص، واختلفت الأفهام.
ويقول عمر بن عبد العزيز: والله ما أحب أن لي حمر النعم ولم يختلفوا؛ لأنهم لو كانوا كلهم على رأي واحد، لشق على الناس، ولكن رحمة من الله سبحانه، فإذا كان الخلاف له أصل، والرأي له دليل؛ فلا يحق لإنسان أن يعترض على ذلك، ولا أن يتناول صاحب الرأي بالكلام، ويجب أن نفرق بين القول والقائل، فإذا وجهنا نقداً أو اعتراضاً فإنما يكون للقول، لا للقائل، والقائل مصون في مكانه.
وهكذا نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط، ووجدناه يعقد بيعاً وشرطاً مع جابر، ووجدناه يعقد عقداً ويبطل شرطاً مع عائشة في بريرة.
وهكذا يجب ويتعين على طالب العلم أن يتأنى، ويتريث، في ما يصله عن سلف الأمة، ولا يحق له أن يتكلم في مسألة حتى يجمع أطرافها، ولا يحل له أن يفتي في بيع وشرط، حتى يلم بهذه الأحاديث كلها، وإذا وجد غيرها يضمها إليها؛ ليقف على مجموع الروايات، ومجموع الأحاديث، وكما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه: لا يحق للإنسان أن يتكلم في مسألة إلا إذا جمع نصوصها، وجمع أطرافها، وعلم العام من الخاص، والمطلق من المقيد، والمتقدم من المتأخر، إذا علم ذلك كله في المسألة كان لفتواه ولقوله أصل.
وقد ذكرنا مراراً أن أحمد رحمه الله سئل: من حفظ ألف حديث له أن يفتي؟ قال: لا، فقيل: ألفين؟ قال: لا، فقيل: ثلاثة آلاف إلى خمسة؟ قال: لعله! نقول هذا لأنفسنا، ولبعض الإخوة الذين يبادرون في الفتوى، ولو سألت واحداً منهم: أن يذكر عشرة أحاديث بأسانيدها -أنا شخصياً لا أستطيع أن أذكرها بأسانيدها- لا يستطيع، أما المتن فلعله يعلق في الذهن، ولو قلنا: من يحفظ متن ألف حديث، أظن أنه رصيد كبير جداً، لكنه عند أحمد يُعد مفلساً، الذي يحفظ ألف حديث بالنسبة لميزانية أحمد في الأحاديث: يعتبر مفلساً، ونحن نعتبر من حفظ خمسمائة حديث الآن حافظاً كبيراً.
إذاً: هذا الموضوع يجدد لنا: النظر، والتأني، والتأمل، وحفظ كرامة سلف الأمة وأقوالها، والله تعالى أعلم.(189/11)
ربح ما لم يضمن: صورته وحكمه
قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا ربح ما لم يضمن) .
نهى صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن، وهذه من أخطر قضايا الربا، وهي من أخطر المعاملات في الأسواق، وسيأتي عن جابر أو غيره توضيحها أكثر.
ربح ما لم تضمن، ما هو الذي لم تضمن، ملكك أم ملك جارك؟ ملك الجار، أما ملكك فإنك تضمنه، يعني: إن خسر سيخسر إليك، وإن ربح سيربح لك، أما بضاعة جارك فإن خسرت فهل تضمن منها شيئاً؟! الأجنبي لو خسر في سلعته، فهل تضمن -أنت- منها شيئاً؟! فإذا كنت لا تضمن خسارتها، فكيف تأخذ ربحها! مثلاً: هناك تاجران متجاوران، فجاء رجل إلى أحد التاجرين يريد أن يشتري منه سلعة، ولتكن -على سبيل المثال- الشاي الأخضر، فقال التاجر، معذرة، نفدت البضاعة من عندي، ولكن سأحضرها لك بعد قليل، فاتفقا على السعر، ثم اتصل التاجر بجاره وطلب منه البضاعة المطلوبة، وكان قد تعاقد التاجر الأول مع المشتري على أن سعر البضاعة ثلاثمائة، ولما ذهب لإحضارها، اشتراها من جاره بمائتين وثمانين، فيكون قد ربح عشرين، ولكن هذا الربح من أين جاء؟ جاء هذا الربح عن طريق بيع سلعة ليست في ملكه، وليست في ضمانه، فإذا كنت لم تضمن خسارتها، فكيف تأخذ ربحها؟! دعها لصاحبها يربح منها، كما تركتها له يتحمل خسارتها، وهذا هو حق الأسواق، فلا تبع ما لم تضمن، لماذا؟ لأن الضمان بالخراج، أو الخراج بالضمان، الربح مقابل تحمل الخسارة، الغرم بالغنم، أو الغنم بالغرم، السلعة التي تريد أن تأخذ غنيمتها وهو ربحها هي التي أنت تتحمل ضمانها.
ويوجد هنا ما يسمى بالمخاطرة، فصاحب السلعة الموجودة عنده مخاطر بها؛ لأنها معرضة للتلف، ومعرضة لانخفاض السوق فجأة، فهو دائر بين: الربح، والمساواة، والخسارة، وأنت بعيد! فكيف يصح لك أن تقطع عليه رزقه، وتكسب ما لم تضمنه؟ إذاً: فإنما الكسب لصاحب الضمان.(189/12)
بيع ما لم تملك: صورته وحكمه
قوله صلى الله عليه وسلم: ولا بيع ما ليس عندك، بيع ما ليس عندك أعم، سواء كان فيه ربح، أو فيه خسارة، فالشيء الذي ليس عندك، لا تبيعه، وكما تقدم في مثال الشاي، جاء الزبون وطلب منك الشاي، وأنت ما عندك، فتبايعت معه، بناء على أن جارك عنده شاي، فاتفقت مع الزبون على السعر والكمية، وتم العقد، فقلت: هات ستمائة ريال -وهي قيمة الشاي- فذهبت إلى جارك، وأعطيته خمسمائة وستين، وقلت له: خذ يا عم! أعطني الشاي، قال: ما عندي، معذرة، فقبل أن تأتي بخمس دقائق أخذها الزبون، فأنت ارتبطت بشخص في عقد في سلعة ليست عندك، بناء على أنها عند الجار، فذهبت إلى الجار فلم تجدها عنده، ماذا ستفعل مع الذي أخذت فلوسه ووضعتها في جيبك؟! قلت له: يا عم! والله أنا آسف! ما عندي! قال لك: كيف ما عندك، وأنت بعت وأخذت الفلوس؟! أريد منك السلعة، العقد في البيع عقد ملزم، وأنا لا أقيلك من البيع، لابد أن تعطيني الشاي! ماذا تفعل؟! ستسافر لإحضارها؟! ولو جئت إلى القضاء فأنت ملزم بتسلم السلعة.
ولهذا الإحراج منع صلى الله عليه وسلم الإنسان أن يبيع ما ليس عنده؛ لكون الغرر فيه: ربح ما لم تضمن؛ لأنه ليس في ملكك، والتغرير بالمشتري وبنفسك، على مظنة أنها عند الجار.
إذاً: أوقعت نفسك في حرج، وأُحرجت مع المشتري، وأُحرجت أيضاً مع جارك، ومع نفسك، ومن هنا: نهى صلى الله عليه وسلم أن تبيع ما ليس عندك، بصرف النظر عن الربح؛ لأن الربح تابع للبيع.
ويذكر أن جابراً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! الرجل يأتيني يريد السلعة، وليست عندي، فأذهب فأشتريها، ثم أبيعها عليه) ، وهذه الصورة موجودة الآن بالفعل، قال: (لا تبع ما ليس عندك) .
ومثال ذلك -كما تقدم- أن يأتي الزبون فيقول: أريد شاي، وليس عند التاجر شاي، فيقول: انتظر، فيذهب ويشتري البضاعة، فيضمن وجودها، ويشتريها على حسابه، وبعد أن امتلكها ووضعها في دكانه تبايع مع المشتري، لكن لماذا اشتراها من جاره؟ وما هو الدافع لذلك؟ أهي الرغبة في السلعة أم استجابة للطالب؟! استجابة للطالب؛ لأنه قال للزبون: انتظر ثم ذهب واشتراها، وكان يظن أنها بثلاثمائة، فوجدها بثلاثمائة وخمسين، فأخذها إلى دكانه، وقال للمشتري: والله! يا عم السعر ارتفع، وهي عليَّ بثلاثمائة وخمسين، فقال الزبون: هذا سعر مرتفع ولن اشتريها بهذا السعر، فهل المشتري ملزم بأن يأخذها بما اشتريت أنت؟! ليست بملزم، وهل تستطيع أن تقول له: أنا اشتريتها من أجلك! فما دمت لا تملكها فلماذا تبيعها؟! وكما أشرت: إن بعض الأشخاص، أو بعض الجهات، أو بعض المؤسسات، يفعل ذلك، يأتيهم الشخص يريد السلعة، وليست عندهم، فيذهبون إلى جهات تمتلك السلعة، ثم يحول الزبون عليها ليستلمها من هناك، وتكون المعاملة مع المؤسسة في استلام القيمة، وهي قد اتفقت مع المشتري على ما يرضيها.
إذاً: (لا تبع ما ليس عندك) ، صورتها: أن يأتي زبون يريد السلعة، فتذهب وتشتريها، حتى ولو اشتريتها على حسابك من أجل أن توفرها لتبيعها على الزبون، لا تفعل ذلك؛ لأنه ما دفعك لشرائها إلا طلب هذا الزبون.
إذاً: دخل فيها شيء، ولو تركها ولم يأخذها منك لوقع بينكما ما لا تحمد عقباه، ولو في النفوس.(189/13)
كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [7]
هناك بيوع محرمة نهى عنها الشارع الحكيم؛ لما فيها من ضرر وغرر، ومن تلك البيوع التي نهى عنها الشارع: بيع العربون، لما فيه من أكل أموال الناس بالباطل، ونهى الشارع أيضاً عن بيع السلعة قبل حيازتها ونقلها إلى الملك؛ وذلك لأن السلعة قبل حيازتها لم تمتلك ملكاً كاملاً.
ويجوز بيع السلعة بنقد ثم استيفاء الثمن بنقد آخر، ولكن بشرط: أن يكون الثمن الآخر بسعر يومه، وأن يدفع كاملاً، فينصرف البائع والشاري دون أن يبقى بينهما شيء.
ونهى الشارع عن النجش بجميع صوره؛ لما في ذلك من التحايل على أموال الناس وأخذها بغير حق؛ ولما فيه من إفساد للناس وللأسواق.(190/1)
شرح حديث: (نهى عن بيع العُربان)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع العُربان) رواه مالك، قال: بلغني عن عمرو بن شعيب به] .(190/2)
بيع العربون: صورته وحكمه
يقال: بيع العُربان أو بيع العربون، والعربون عند الناس في العرف: أن تأتي إلى صاحب سلعة، وتريد السلعة، وليس عندك من المال ما يكفي لشرائها، فتقول لصاحب السلعة: ليس عندي الثمن كاملاً، ولكن أمهلني إلى الغد -مثلاً- حتى آتيك بالثمن كاملاً، فالبائع يقول: أنا أخشى أن تذهب ولا ترجع، وربما يأتي زبون يريد السلعة ولا أستطيع أن أبيعها؛ لأني ارتبطت معك، ولكن أعطني عربوناً أضمن به رجوعك، فيقول: هذا العربون، السلعة بمائة، وهذه عشرة، فإن جئتك بكامل الثمن أخذت السلعة ودفعت لك الباقي، والباقي هو تسعون؛ لأننا احتسبنا العربون من الثمن، وإن لم تتحصل القيمة عند المشتري، وجاء إلى صاحب الدكان، أو صاحب السلعة، وقال: إن الثمن لم يتحصل عندي، فسامحني، وأعطني العشرة، فيقول: لا، أنت دفعت العشرة على أنها ربط للبيع، وتعويض لي عن تفويت فرص بيع السلعة في مدة انتظارك، فقد جاءني عدة زبائن يريدون شراءها، فبحجزك للسلعة فوَّت عليّ بيعها، فالعربون غير مرجوع.
هذا هو بيع العربون الذي كانوا يتبايعون به، يشتري السلعة، ويدفع جزءاً من الثمن، عربوناً على توثيق البيع، على شرط: إن جاء بالثمن أخذ السلعة، ومضى العقد، وإن لم يأت بالثمن فيكون العربون ملكاً لصاحب السلعة، تعويضاً له على ما فوت عليه من عقود مع أشخاص آخرين.
وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن هذا البيع؛ لأنه إذا تعاقد معه ودفع العربون توثيقاً للبيع، ولم يحصل البيع، فبماذا يستحل هذا العربون من مال أخيه والسلعة عنده؟! قد يقول: إنه فوت عليّ الزبائن، فيقال: الزبائن موجودون، والسوق مفتوح، فإن ذهب هذا يأتي ذاك، وأين الإرفاق بالناس؟ وأين الوفاء بالوعود؟! إذاً: هذا البيع حرام إن كان الشرط فيه امتلاك العربون إذا لم تتم الصفقة، أما إذا كان سيرد له العربون، فأكثر العلماء على النهي عن هذه الصورة، كما ذكرها مالك رحمه الله تعالى.
ونحن نقول -من باب الإنسانية، ومن باب الإرفاق، ومن باب التورع-: ليس هناك موجب لأخذك من مال أخيك شيئاً بدون مقابل، وكونك تزعم بأنه فوت عليك فرص البيع، وإذا ما جاءك زبون! ولا سأل عنها أحد! فالأصل أنه ما فات عليك شيء، فلماذا تأخذ العربون؟ إذاً: الغرر موجود، وأكل أموال الناس بالباطل موجود، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وبعض المتأخرين يقول: إنه جائز؛ لأنه دفعه عن رضا، خاصة إذا قال: إذا ما أحضرت لك الثمن فهو لك، فكأنه متبرع به سبحان الله! هل جاء وقال: السلام عليكم، أنا والله عندي عشرة زائدة خذها لك، أم أنه دفعها مضطراً حتى تبقى السلعة؟! إنما دفعها لحاجة، فكيف نقدر بأنه متبرع؟ هذا بعيد، ولماذا لم يتبرع صاحب السلعة ويرد العشرة؟! فالواقع أن هذا النوع من المعاملات فيه تعريض لأكل الأموال بالباطل.(190/3)
شرح حديث: (نهى أن تباع السلع حيث تبتاع)
قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (ابتعت زيتاً في السوق، فلما استوجبته لقيني رجل فأعطاني به ربحاً حسناً، فأردت أن أضرب على يد الرجل، فأخذ رجل من خلفي بذراعي، فالتفت، فإذا هو زيد بن ثابت، فقال: لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع، حتى يحوزها التجار إلى رحالهم) رواه أحمد وأبو داود واللفظ له، وصححه ابن حبان والحاكم] .(190/4)
بيع السلعة قبل حيازتها: صورته وحكمه
هذه صورة من صور البيع المنهي عنها أيضاً؛ لتوثيق البيع، وفض النزاع، وهي مبنية على قاعدة، يقول ابن عمر: اشتريت زيتاً، وبينما أنا أمشي في الطريق -الزيت عند البائع، وهو قد دفع الثمن- علم شخص بما اشتريت، فأعطاني ربحاً حسناً، ولكن الزيت انتقل من عند التاجر إلى الطريق فقط، (فأردت أن أضرب بيدي على يده) وضرب اليد على اليد في البيع يسمى الصفقة، والتصفيق: هو الصوت الناتج عن التقاء الكفين، وسمي به عقد البيع، وهو إما صفقة رابحة، أو صفقة خاسرة.
قال: فأردت أن أعقد البيع، فإذا برجل من روائي يمسك يدي التي أردت أن أصفق بها على يده، وقال: لا تبعه حتى تنقله من محل البائع، وتحوزه إلى محلك، لماذا يا زيد؟! قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نهى أن تباع السلع حيث تبتاع) يعني: في مكانها الذي بيعت فيه: (حتى يحوزها التجار إلى رحالهم) أي: محلاتهم.
حتى ولو كان بين السوق وبين محلك شارع واحد، واشتريتها وتركتها عند تاجر الجملة، ورجعت إلى دكانك، وستنقلها غداً، فجاءك إنسان، وطلب سلعة مثل التي اشتريتها، وتركتها عند التاجر، فلا تبعه من تلك السلعة التي عند التاجر حتى تحوزها إلى محلك، ثم بعها من محلك.
يقولون: هذا في المنقول مكيلاً، أو موزوناً، أو معدوداً، أما الأمور الثابتة، كما لو اشتريت بيتاً، وتريد بيعه، فهل تحوزه وتنقله؟! البيت ليس منقولاً، فيقولون: إن المبيع المنقول لا تتم الصفقة فيه إلا بالاستلام، فحتى تستلمها وتستوفيها، وما دامت عند البائع فهي على ضمانه، فلو تلفت عنده فهو ضامن.
إذاً: لا تتم الصفقة في المنقولات حتى تستوفى، إذاً: ملكك لها غير تام، والملك غير التام لا تستطيع أن تبيعه، فالمرأة إذا كان صداقها ألفاً، فإذا طلقها قبل أن يدخل بها، فلها من الألف خمسمائة، مع أنها كانت تملك ألفاً، لكنها لم تملك الألف ملكاً كاملاً، وإنما كان الملك ناقصاً؛ لأنه متوقف على الدخول، فكذلك هنا: الملك ناقص؛ لأنه متوقف على الحيازة، وذلك في كل مكيل، أو موزون، أو معدود يمكن زحزحته، وقد كنا نشاهد هذا في سوق الحراج، فمثلاً: كوم الحبحب، فإذا اشتراه وزحزحه بيده عن مكان البيع، وبعضهم يأتي بغطاء ويضعه على الحبحب، وبعضهم يأتي بشيء من البرسيم ويضعه على العنب، إشارة إلى أنه قد حازه، ووضع يده عليه؛ لأن السوق للجميع، وقد يشتري بالجملة، فإذا اشترى عشرة صناديق، فعليه أن ينقلها من مكان صناديق التاجر ولو لمسافة متر، فتصبح في حيازته وملكه؛ لأن أرض السوق ملك للجميع.
فلا يبيع الإنسان السلعة إذا اشتراها إلا بعد أن يحوزها؛ لأنه بحيازتها تم الملك، وانقطعت علاقتها بالبائع، أما الأعيان التي لا تحاز ولا تنقل، فتكون حيازتها بالتخلية، فمثلاً: اشتريت بيتاً، وفيه أغراض للبائع، فعليه أن يأخذها، ويخلي لك البيت، فإن أخلى البيت وسلم لك المفتاح، فقد حزت البيت، وامتلكته ملكاً تاماً، وكذلك البساتين، يخليها من حاجاته، ويرفع يده عنها، فتكون في حيازتك.
فإذاً: رفع يده، ووضعت أنت يدك؛ فقد صارت حيازة، وكذلك السيارة، حتى تحوزها وتنقلها، وتأخذ مفاتيحها، وحينئذ يحق لك أن تبيعها، أما أن تشتريها من المعرض، وتبيعها في المعرض، وفي محلها، فهذا لا يجوز، ويقع في مثل هذا كثير من الناس، والله تعالى أعلم.(190/5)
أهمية فقه المعاملات
وبالمناسبة: أوصيكم بالعناية بالفقه، والعناية بالمعاملات؛ لأن مدار الإسلام عليها، فأنت تصلي، وتلبس الثياب، وتأكل الطعام، وتصوم، وتفطر، وتسكن في ملك، أو في أجرة، وتسافر إلى الحج، وكل ذلك من الربح، سواء كان من نتاج عندك، أو من بيع وشراء، فإذا كان البيع والشراء سليماً، فكل أعمالك ستكون سليمة، وإذا كان فيه خلل عياذاً بالله، فكل أعمالك فيها خلل؛ لأننا سمعنا سعداً رضي الله تعالى عنه يقول: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال (أطب مطعمك تجب دعوتك) ، وعمر يمر بالأسواق، ويسأل الباعة، ويختبرهم في أحكام الربا، والبيع، والكيل، والوزن، فإذا وجد جاهلاً أقامه، وقال: قم، لا تفسد علينا أسواقنا، قم، لا تمنع المطر عنا؛ لأنه إذا وجد الغش والتدليس والربا منع القطر، والعياذ بالله.
فنصيحتي لكل المسلمين أن يعنوا بالفقه؛ لأننا وجدنا دراسة الفقه قليلة، ونجد التركيز والاهتمام والعناية بالحديث دون الفقه، والحديث هو الأصل، ولكن كما يقولون: له نقاد وصيارفه، يحسنون تصريفه واستنتاجه، وهم الفقهاء، فنأخذ ما صنعوا، ونمشي معهم أيضاً في الحديث، ونتبع كل قاعدة بأدلتها، وبالله تعالى التوفيق.(190/6)
شرح حديث ابن عمر حينما كان يبيع بالدنانير ويأخذ الدراهم والعكس
قال المصنف رحمه الله: [وعنه -أي ابن عمر - رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذا من هذه وأُعطي هذه من هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء) رواه الخمسة وصححه الحاكم] .
يذكر لنا ابن عمر رضي الله تعالى عنهما صورة مبيع واستيفاء الثمن مقاصة، فيقول: إني أبيع الإبل بالدنانير، وآخذ عنها الدراهم، والدنانير عملة ذهبية، وهو في العدد يسمى ديناراً، وفي الوزن يسمى مثقالاً، والدراهم عملة فضية، وهو في العدد وفي الوزن سواء، إلا أن الفقهاء ربما فرقوا وقالوا: وعشرة دراهم وزناً، عشرة دراهم عداً، وهذا حينما يختلف الضرب، وتحصل هناك زيادة ونقص.
وأصل الدنانير: عملة رومية، أو فارسية، وقد تعامل بها العرب على ما هي عليه، ولم يتغير وزن المثقال، لا في جاهلية ولا في إسلام، أما الدارهم فقد تغيرت، فكان هناك الدرهم الكبير، والدرهم الصغير، وفي زمن بني أمية جُمع الدرهم الكبير والدرهم الصغير وسبكا معاً فصارا درهمين، واتحدت الدراهم، وهذا من واجب ولي الأمر، فعليه أن يوحد العملة التي يتعامل بها الناس، حتى لا يقع خطأ أو غرر في المسمى.
وموضوعنا الآن في كونه يبيع بالدراهم، ويأخذ الدنانير، والعكس.
ومنطوق الحديث يبين أن عبد الله بن عمر كان يتعاطى البيع والشراء، وهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين تاجر ومزارع، وهذه كما يقولون: وسائل الإنتاج والكسب، فالزراعة فيها كل البركة، وكان أكثر عمل الأنصار الزراعة، والتجارة كذلك، وهي تسع وتسعون بركة، والتاجر الصدوق مع الأنبياء والصديقين يوم القيامة.
ولا بأس أن الرجل الصالح، أو العالم، أو غيره يعمل في التجارة، ومعلوم أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله كان يتاجر في البز، أي: القماش، فقد كانوا يتكسبون لأنفسهم، وهذا نبي الله داود كان يصنع بيده الدروع، ويأكل من كسب يده، فـ ابن عمر رضي الله تعالى عنه كان يعمل، ويكتسب، ولا مانع من أن يشتغل طالب العلم بذلك، وحبذا طالب العلم التاجر؛ لأنه يستغني بذلك عن أن يتطلع إلى الناس، أو ينظر الناس إليه بعين الرحمة لفقره، ولأن تستغني عن الناس تكن أميراً في نفسك.(190/7)
بيع السلعة بثمن واستيفاؤه بثمن آخر: صورته وحكمه
فيقول: كنت أبيع الإبل، يقولون: إن سوق الإبل كان عند بقيع الغرقد، والبقيع الآن معروف مكانه، وفي أي موضع من مواضع البقيع؟! لا يهمنا هذا، فكان يتاجر، ويبيع ويشتري في الإبل، إذاً: هناك من يتاجر في الإبل، وهناك من يتاجر في الغنم، وهناك من يتاجر في الأطعمة، وفي الألبسة، وكل على حسب اتجاهه ومعرفته، وسؤاله رضي الله تعالى عنه: إني أبيع هذا البعير بألف درهم، ويقول في بعض الروايات: (فأذهب مع المشتري لينقدني الثمن، فلم يجد دراهم، ويجد دنانير، فآخذ الدنانير عوضاً عن الدراهم) إذاً: أنا بعت بشيء، وقبضت شيئاً آخر، فهل يجوز هذا؟ فأفتاه صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا بأس أن تأخذها بسعر يومها) ، فإذا بعت البعير بألف درهم، والمشتري يريد أن يقدم لك دنانير، فكم سعر الدينار بالدرهم؟ الدينار أخذ أسعاراً متفاوته، أقل ما وصل إليه في الصرف ثمانية دراهم، وأعلى ما وصل إليه في الصرف اثنا عشر درهماً، واستقر الأمر بعد ذلك في زمن عمر رضي الله تعالى عنه على عشرة دراهم، ونحن نجد المقارنة في باب الزكاة، فنصاب الذهب عشرون مثقالاً، وقد قلنا: المثقال والدينار شيء واحد، ونصاب الفضة مائتان درهم، إذاً: الدينار عادل عشرة دراهم، إذاً: صرف الدينار يساوي عشرة دراهم.
فإذا بعت البعير بألف درهم، وجئت معه إلى البيت ليعطيك دنانير بدل الدراهم، فهل تأخذها بسعر يومها، أم بسعر أمس، أم بسعر جديد غير موجود الآن وإنما هو متوقع فيما بعد؟ خذها بسعر يومها؛ لأنك تصارف الدراهم إلى دنانير، والصرف يجب أن يكون بسعر يومه.
قال: (ما لم تفترقا وبينكما شيء) ، فإذا بعته بألف، والألف الدرهم إذا قسمناها على عشرة -والعشرة الدراهم تساوي ديناراً واحداً- فإن فيها مائة دينار، فقال: أنا عندي تسعة وتسعون ديناراً، وسيبقى لك دينار واحد إلى الغد إن شاء الله، أو إلى بعد ساعة، فإن هذا لا يجوز، ولكن يجب أن تأخذها كاملة، سواء كنت ستأخذ الدنانير عن الدراهم، أو تأخذ الدراهم عن الدنانير، فمثلاً: بعته بعشرة دنانير وجئت إلى البيت، وقال: ما عندي دنانير، عندي دراهم، فليس هناك مانع، ولكن بسعر يومها، الدينار بعشرة دراهم، وهذه عشرة في عشرة يساوي مائة، فإن أعطاه إياها كاملة فبها ونعمت، أما أن يعطيه الدراهم ناقصة، ولو بدرهم واحد، فهذا ممنوع؛ لأن الصرف يجب فيه التقابض والتسليم في مجلس العقد، ولا يجوز فيه التأجيل؛ لأن أصل الصرف بيع، وإن غلب عليه اسم الصرف، فأنت تبيع الذهب بالفضة، والفضة بالذهب، ولكن غلب عليه اسم الصرف لأن تعامل الصراف إنما يكون بالعملة، ولكثرة تحريكه لها يكون لها صريف، أي: صوت -كأنه دعاية وإعلان- فلما غلبت هذه الحركة سمي صرفاً؛ لصريف الدراهم في حركة الصراف، فإذا أعطيته ديناراً ليصرفه لك دراهم، والدينار بعشرة، وقال لك: خذ هذه التسعة، وبعد ساعة ارجع وأعطيك العاشر، فلا يجوز ذلك؛ لأنه قد يتغير السعر، وهذا خاص بالذهب والفضة وجميع أنواع العملة، وأما بقية السلع فلا تدخل في هذا، فلو اشترى طعاماً أو نحوه، ودفع جزءاً من المال وبقي على جزء إلى أجل، فلا بأس في هذا.
ومعلوم موضوع البورصة، فتجد الشخص يعلم عن ارتفاع العملة وعن نزولها في الدقيقة، وبعض الأشخاص تراه جالساً على التلفون مع البنك، كم سعر الآنصة اليوم، الآن بكذا، فيقول: لي احجز بكذا، بع لي، وهو عمل فيه مقامرة، وربا، ولا يجوز؛ لأنه بيع وشراء بدون استلام وبدون قبض، فهو بيع في الهواء، وهذا هو عمل البورصات وبهذه الطريقة فهو ربا محض.
فهنا: إذا تصارفتما، أو تبادلتما، وأخذت الدراهم بدلاً عن الدنانير، والدنانير بدلاً عن الدراهم، فجائز بشرطين: الأول: أن تكون بسعر يومها.
الثاني: أن لا يبقى لك عنده شيء.
إذاً: هذا هو شرط الصرف، وهو خاص بالربويات، والذي يمهمنا في الثمن، فلو أنه استبدل نقداً بنقد، فيشترط أن يكون بسعر يومه، وأن يكون التقابض حالاً، والله تعالى أعلم.(190/8)
شرح حديث النهي عن النجش
قال المصنف رحمه الله: [وعنه -أي ابن عمر - رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النجْش) متفق عليه] .(190/9)
النجش: صوره وحكمه
النجْش أو النَجَش صورته الاصطلاحية: أن يزيد الإنسان في السلعة دون رغبة في شرائها.
وبعض الناس يعمل هذا فضولاً منه، وبعض الناس يعملها قصداً؛ إما يؤجَّر على ذلك، وإما كيداً في أحد المتبايعين، وصورتها تكون دائماً في بيع المزاد، أو المزايدة، فحينما يعرض الدَّلال السلعة، أو يعرضها صاحبها، فيقول: هذه السيارة بعشرة آلاف، فيأتي واحد ويقول: بعشرة وخمسمائة، فيأتي آخر ويقول: بإحدى عشر، وهي تساوي عشرين، لكنهم فتحوا باب المزاد بعشرة، فيتزايدون فيها، فيأتي إنسان لا ناقة له فيها ولا جمل، ودخّل نفسه مع الناس، واعتبر نفسه تاجراً من التجار، وراغباً من الراغبين، فحينما قيل: هذه بعشرة، قال هو: عشرة ونصف، وآخر قال: إحدى عشر، وقال ثالث: إحدى عشر ونصف، ثم قال هو: باثني عشر، وهكذا، وضع رأسه ضمن رءوسهم، وأخذ يزايد، فهذا الشخص الذي يزيد في السلعة دون رغبة فيها يُعدَّ ناجشاً.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عليه وسلم عن ذلك، والعلة في ذلك: أنه الراغب الحقيقي يزيد بمقدار رغبته وتقديره للسلعة، أما الناجش فإنه سيزيد من غير تقدير، ثم سيسحب نفسه ويذهب، فليس متحملاً مسئولية الزيادة، ولكن ماذا يفعل إن وقف السعر عليه؟ سيضطر إلى التراجع، فترجع السلعة للذي قبله، فإذا كان الناجش قد أوصلها إلى عشرين، والذي قبله أوقفها على تسعة عشر، فسترجع للذي قبله بالتسعة عشر، وتسقط زيادة الناجش الأخيرة، وفي هذا العمل مضرة، وإفساد للسوق، فإن كان فضولياً فهذا تعدٍ، وإذا كان غير فضولي، ولكنه بقصد، فإما أن يكون القصد هذا من قبل نفسه، وإما أن يكون بدافع من البائع، وبعض البائعين قد يتفق مع بعض الأشخاص ليزيدوا في السعر، فيفتح باب الزيادة بعشرة، فيأتي هذا العميل المساعد فيقول: بإحدى عشر، والراغب في الشراء يظن أن هذا صادق، وأنها تساوي إحدى عشر، فيزيد خمسمائة من أجل أن يأخذها، والعميل يقول: إحدى عشر وخمسمائة، وكل واحد ينجش ويزيد، والراغب في السلعة يزيد حقيقة، ويكون قد لبس عليه بسبب زيادة العميل، وتزيد السلعة عن قيمتها الحقيقة بسبب الناجش، وما مصلحة الناجش في هذا؟ خدمة صاحب السلعة والزيادة في سعرها، فلو لم يدخل العميل ليناجش، ويزيد في السعر؛ لما نفقت السلعة، ولما ارتفع سعرها أكثر مما تستحقه.
إذاً: فالناجش غاش، ومدلس، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ لأن فيه تعاوناً على الإثم والعدوان، والواجب على المسلم أن يساعد على البر والتقوى، لا أن يساعد على الإثم والعدوان.
وهنا شيء آخر، وهو: إذا غرر بالمشتري، وزيد عليه في السعر بسبب المناجشة التي تواطأ عليها البائع والمناجش، فإن ثبت ذلك فالمشتري بالخيار، فإن شاء أمضى البيع برغبته، وإن شاء رد السلعة وأخذ الثمن.
إذاً: النجش عيب، ويعطي المشتري الحق في فسخ العقد؛ لأنه تدليس وغش، ولهذا نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ولو مضت السلعة فيكون البائع قد أكل من مال أخيه المسلم بالباطل، فليتق الله أصحاب الأسواق.
وهنا صورة أخرى، وهي عكس الصورة السابقة، وكما يقول ابن تيمية في كتاب الحسبة: يجب على طالب العلم أن يعرف أوضاع الأسواق، حتى يستطيع أن يحكم على أعمال الناس.
فمثلاً: يأتي إنسان بسيارة ويريد بيعها، فيأتي شخص يريد شراءها، فيجد أشخاصاً آخرين يريدون شراءها أيضاً، فيتواطئون جميعاً على ألا يزيدوا في السعر، أو ألا يدخلوا في المزايدة حتى يقف السعر عند حد فيه بخس للسلعة، على أن يتشاركوا فيما بخسوا به صاحب السلعة، فهؤلاء تواطئوا على بخس السلعة، ثم أكلوا فارق البخس فيما بينهم، وهذا حرام، وإنما أكلوا سحتاً.
وهناك صورة أخرى: أن يأتي شخص إلى البائع، فيعطي للسلعة سعراً أكثر من قيمتها، ثم لا يشتريها، فمثلاً: قيمة السلعة الحقيقية ثلاثون، فيأتي هذا الرجل ويقول: هذه السلعة تساوي خمسين، وذلك حتى ينطبع في ذهن البائع هذا السعر، فلا يبيعها إلا به، وهذا السعر لن يجده حقيقة، ولن يدفعه له أحد، ويسمى هذا بربط الرأس، وإنما فعل ذلك الرجل هذه الحيلة ليصرف الناس عن هذه السلعة، فيتفرد بالبائع حتى يبخسه، ولا يعطيه قيمتها الحقيقية، فضلاً عن أن يعطيه ما وعده به من قبل، فإذا كان صاحب السلعة مضطراً، فسيبيعه السلعة بأقل من قيمتها الحقيقية، فتؤكل أموال الناس بالباطل عن طريق هذه الحيل.
يقول ابن تيمية: حيل الأسواق وعقود البيع كثيرة جداً، خاصة في أنواع المكاييل والموازين، وهذه العقود والبيعات تكون في المزاد، فليتق الله ربه كل إنسان، ويتحرى الصدق والحلال.
إذاً: نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع النجْش أو النجَش، ويلحق به كل ما فيه تحايل على إسقاط شيء من سعر السلعة، أو زيادة في سعرها على من لا يعرف السعر الحقيقي.(190/10)
جواز رد السلعة إذا غبن فيها المشتري
وقد كان رجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يبيع ويشتري، لكنه أحمق، لا يحسن تقدير السلعة، فإن وجد سلعة في يد إنسان وأعجبته سأل: بكم هذه السلعة؟ ثم يأخذها على كلام صاحبها، وإن كانت في يده سلعة ويريد بيعها، فأتى من يريد شراءها، باعها له على ما أراد، فيكون -أي: المشتري- قد زاد في سعر السلعة بحسب كلام البائع (30%) ، وقد يكون أنقص من قيمة ما في يده بحسب كلام المشتري (30%) ، أو (40%) ، فتضرر أهله بذلك، فقالوا: يا رسول الله! امنع حبان بن منقد من البيع والشراء؛ لأنه أتلف علينا أموالنا، يشتري بسعر زائد، ويبيع السلعة بثمن ناقص، ويخسرنا فيها، فقال له صلى الله عليه وسلم (دع البيع والشراء) ، فقال: يا رسول الله! لا أستطيع أن أدع البيع والشراء، فقال له صلى الله عليه وسلم: (إذا بعت أو اشتريت فقل: لا خلابة) ، والخلابة: النقص، فكان حبان بن منقد -بعد هذا- إذا تبايع مع إنسان أو اشترى منه قال: لا خلابة، فإذا علم أهله بالمبيع أو المشترى ووجدوا الغبن فاحشاً، رجعوا إلى صاحبه وأبطلوا البيع؛ لأن الرسول الله صلى الله عليه وسلم اعتبر حالته العقلية وجعل حق نقض البيع وإمضائه لأهله؛ لأنهم هم الذين يتحملون الغرم.
وهل يجوز لإنسان أن يقول عندما يشتري: لا خلابة؟ إن كانت حالته كحالة ابن منقذ فيجوز ذلك، أما إذا لم يكن كذلك، كأن كان حاذقاً، وإنما زادوا عليه في ذلك، فإن هذا يرجع إلى باب آخر، وهو: هل كان الغبن فاحشاً أم لا؟ إذاً: كل ما يكون من التحايل، على زيادة أو نقص السعر في السلعة في السوق في المزاد العلني فهو باطل، والمشتري أو البائع إذا ظهر له التحايل عليه فله الحق في فسخ البيع، أما سلع المحلات والدكاكين، فإذا جاء الزبون وقال لصاحب الدكان: بكم هذه السلعة؟ فقال: بخمسة، فاشتراها، ثم جاء الثاني وقال: بكم؟ فقال: بخمسة، فقال: أريدها بأربعة ونصف، فقال: لا بأس خذها، ثم جاء الثالث وقال: بكم؟ فقال: بخمسة، فقال: أريدها بخمسة إلا ربع، فلا بأس بهذا.
وهذا التفاوت لا بد منه؛ لأن طبيعة الناس المساومة، وإن كان السعر محدداً فلا مانع، ويستريح الذكي والبليد، ولكن إذا كانت هناك مساومة، وحدث هناك شيء من الغبن اليسير، فإن عادة الناس التسامح في المماكسة، والزيادة، أو الغبن الخفيف، الذي لا يؤثر على النفس، أو على المال، أما في حالة الغبن الفاحش، كأن تكون السلعة بخمسة، فيبيعها بخمسين، فهذا غبن فاحش، ولمن وقع عليه الغبن الحق في رد السلعة؛ للغبن الفاحش الذي وقع عليه.(190/11)
كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [8]
لقد دلت النصوص الشرعية على تحريم بعض أنواع البيوع، ومن تلك البيوع المحرمة: بيع المحاقلة، والمزابنة، والمخابرة، والثنيا إذا لم تحدد بعينها، وبيع المخاضرة والمنابذة والملامسة؛ لما في هذه البيوع من الغبن والتحايل لأكل أموال الناس بالباطل، وجاء النهي أيضاً عن تلقي الركبان، وعن أن يبيع حاضر لباد؛ لما في ذلك من الإضرار بالبائع والمستهلك.(191/1)
شرح حديث النهي نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة، والمزابنة، والمخابرة، وعن الثُّنْيَا إلا أن تُعلم) رواه الخمسة إلا ابن ماجة وصححه الترمذي] .
انتقلنا من ذكر أحكام البيوع التي تعقد في الأسواق، إلى البيوع التي تعقد في المزارع، فإنها محل بيع وشراء أيضاً.(191/2)
بيع المحاقلة: صوره وحكمه
قوله: (نهى صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة) المحاقلة والمزابنة: اصطلاح فقهي، مأخوذ من نحت الكلام، محاقلة: مفاعلة، أصل مادتها: حَقَل، والمحاقلة مأخوذة من الحقل، والحقل بمعنى الغيض، بلغة مصر، وسوريا، وغيرها، والحقل موضع الزراعة، والمحاقلة: هي بيع الزرع في حقله بعد خرصه وتقديره بحب مكيل من نوعه، وهذا لا يجوز؛ حتى يشتد الحب في سنبله، وتجب فيه الزكاة، وعلى أي أساس؟ سيأتينا إن شاء الله.
فإذا كانت لديك مزرعة قمح، فبعت القمح في سنبله بقمح مكيل من نوعه، فمثلاً: بعت المزرعة بثلاثة أرادب، أو بعشرة أرادب من القمح، فإن ذلك لا يجوز؛ لأنك قدرت ما هو موجود في الحقل -وهو مجهول الكمية- وبعته بما هو معلوم، وكان الثمن من جنسه، وهما صنفان ربويان، ووجد التفاوت بينهما، فأنت أخذت القمح الآن أرادب، وهو أخذه سنابل في عيدانها، وهذا لا يجوز.
ومن المحاقلة أيضاً: الإجارة، وصورتها: أن يأتي صاحب الحقل الكبير ويعطيه لمزارع، ويقول له: هذه الأرض تزرعها قمحاً، على أن لي ما ينبت على القناطر، وفي رءوس الجداول، ولك ما كان في وسط الأحياض، أو أجرتك هذا الحقل، أو الأجرة من هذا الجانب الغربي الشمالي.
إلخ، فيعين له محلاً من المزرعة، ويجعله أجرة له مقابل عمله، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وجاء عن جابر: (يا أهل قباء! لقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لكم فيه خير، ولكن طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم أولى، نهى أن تؤاجر الأرض أو يباع الزرع على ما ينبت على الماذيانات، ورءوس الجداول) ، والماذيانات: القناطر، والقنطرة هي التي يجري فيها الماء ويوزع على الأحواض، فالماء فيها مستمر، وربما يستمر فيها الماء في السقية الواحدة حوالي ثلاث إلى أربع ساعات، فالنبات النابت في القنطرة يشرب ست ساعات، بينما النبات الذي داخل الحوض لا يشرب إلا خمس دقائق أو عشر دقائق، فلا يستوفي من الماء كالذي يستوفيه زرع القناطر، وكذلك ما كان في رءوس الجداول -أي: الأحواض- وهي الفتحة التي عند القنطرة، ويدخل منها الماء إلى الحوض، فإذا كانت مساحة الحوض أربعة في أربعة أمتار، ومدخل الماء إلى الحوض من القنطرة، فالماء يمر على رأس الجدول إلى أن يستوفي الحوض الماء، وآخر الحوض يأتيه الماء متأخراً، ثم ينقطع عنه، فتكون رءوس الجداول التي عند القنطرة قد استوفت ماءً أكثر، بينما آخر الجداول استوفت ماءً أقل، وكلما استوفى الزرع ماءً أكثر كان أكثر إنتاجاً، فجاء جابر وذكر النهي، ثم قال: (فلربما صح هذا وفسد ذاك) ، فلو اتفقت مع الأجير، وحددت له مكاناً معيناً من المزرعة، على أنه أجرة له مقابل عمله، فقد يصاب ذلك الجزء بآفة وتلف.
إذاً: الأجرة مجهولة، ولابد أن تكون الأجرة بشيء معلوم، كالدراهم، كأن يقول: أستأجرك لتزرع هذا الحقل براً أو شعيراً -على ما تريد- بمائة درهم، أو بعشرة دنانير، أو بأي شيء معلوم، أو بعشر ما يخرج منها، فهنا صار القدر معلوماً، وكم سيخرج منها؟ لا ندري، فإن كان المحصول كثيراً فسيستفيد منه الطرفان، وإن كان قليلاً فالنقص داخل على الجميع، وكان بعض السلف يكره أن تؤجر الأرض بجزء مما يخرج منها، ولكن قل: أجرتك إياها بإردبين، ولا تشترط أن يكون من منتوج الأرض التي أجرتها؛ لأن الإردبين تحل محل الدنانير والدراهم، أما بجزء مما يخرج منها فلا.
والآخرون يقولون: إن هذا مثل الشراكة، فلو تشارك اثنان على جزء من الربح، وهما لا يعلمان كم الربح، لكن هذا التعامل أقره الإسلام، وهو ما يسمى بالمضاربة، فتدفع المال لشخص يعمل، وله نصف الربح -مثلاً- وهو لا يعلم كم سيربح، ولا يعلم كم سيكون نصفه، وأنت لا تعلم كم ستربح، وكم سيكون نصفك، ولكنها مخاطرة، إلا أنها معاملة جائزة، والعمل جارٍ عليها.
فكذلك المحاقلة على جزء مشاع، بنسبة مئوية فيما يخرج من هذه الأرض.(191/3)
بيع المزابنة
والمزابنة: من الناس من يقول: المزابنة: هي عين المحاقلة، والمزابنة: من الزبن، والزبن: الدفع، ومنه الزبانية -عياذاً بالله- فقالوا: سميت المحاقلة مزابنة؛ لأن كلاً من الطرفين: البائع، والمشتري، والمؤجر، والمستأجر، يدفع عن نفسه الغبن.(191/4)
المخابرة: صورتها وحكمها
قوله: (والمخابرة) .
المخابرة: مأخوذة من خيبر، وبعض الناس يقول: هذا كان خاصاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الصحيح أن المخابرة على ما كان عليه أهل خيبر، والرسول صلى الله عليه وسلم لما فتح الله عليه خيبر، أتاه اليهود وقالوا: يا محمد! نحن أعلم بالزراعة، ومتفرغون لها، دعنا نخدمك فيها، فقال صلى الله عليه وسلم: نقركم ما أقركم الله، وأعطاهم إياها على النصف مما تُخرج، وكان هذا العقد على كل أرض خيبر: نخيلها، وما يأتي به من التمر والرطب، وكرومها، وما يأتي به من العنب، وأرضها البيضاء، وما تأتي به من الحب، فيجمع الجميع ويعطى نصفه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعضهم يقول: كانت المخابرة على النخل فقط.
وقد جاء أن عبد الله بن رواحة أرسله النبي صلى الله عليه وسلم ليخرص عليهم، والخرص: التقدير، وهذه طريقة تقريبية، وتكون في الزكاة، فيأتي العامل، ويقف عند نخلة، وينظر كم فيها من عرجون، وما فيه من الرطب والبسر والزهو لو أثمر وصار تمراً كم يأتي؟! ويقدر كل نخلة بما يترجح عنده، فإن كان للزكاة قدر على صاحب البستان وقيل له: زكاتك كذا؛ لأننا قدرنا أن هذا النخيل سيأتي بكذا وسق، وعليك كذا، وهو نصف العشر، أو العشر.
فلما جاء ابن رواحة ولقيه اليهود -عملوا على طريقتهم- جمعوا له من حلي نسائهم، وقالوا: خذ هذا لك، وخفف عنا.
أي: أنه إذا كان فيها ألف وسق، سنكون ملزمين بخمسمائة، فأنت قدر الألف بستمائة، فيكون علينا ثلاثمائة بدلاً من خمسمائة، وعوض ذلك أن تأخذ هذا لك.
فقال لهم: يا إخوة الخنازير! والله لقد جئت من أحب الناس إلي، ولأنتم أبغض الناس عندي، ووالله ما حبي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبغضي إياكم حاملي على أن أحيف بكم، إني مقدر، فإن شئتم فخذوا والتزموا، وأعطونا نصف ما قدرت، وإن شئتم فارفعوا أيديكم، وألتزم لكم بنصف ما قدرت.
فقالوا: بهذا قامت السماوات.
أي: بعدم قبول الرشوة، وبالعدالة، فحينما يقدر فيها ألف وسق، فإما أن تلتزموا بخمسمائة، أو أنا ألتزم لكم بخمسمائة، وليس في هذا إجحاف! يلتزم لهم بنصف ما قدر، أو يرضى منهم بنصف ما قدر.
فبعضهم يقول: المخابرة كانت خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الآخرين يقولون: بل هذا تشريع عام، وقد بقيت إلى زمن عمر، وبقيت معاملتهم بذلك حتى أجلاهم عمر رضي الله تعالى عنه لما بلغه حديث: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب) .
إذاً: المخابرة نوع من المعاملة في الزراعة بجزء مما يخرج من الأرض، فإن كان هذا الجزء معيناً: النصف، أو الربع، أو الثلث؛ فلا بأس بذلك.(191/5)
بيع الثُنيا: صورته وحكمه
قال: (وعن الثنيا إلا أن تعلم) .
الثنيا: من الاستثناء، والاستثناء مأخوذ من الخيط الممتد إذا أثنيته، أي: تعيد آخره على أوله، وهنا البستان فيه مائة نخلة، فقلتُ: بعتك المائة نخلة، وأستثني لنفسي خمساً، فالاستثناء عاد على المبيع، فأخرج بعضاً منه، فهذه هي الثنيا.
والخمس هذا إن كان معلوماً، كأن يكون النخيل مرقماً، ثم عين الخمس من الواحد إلى الخمسة، أو عين رقم عشرين أو واحد وعشرين.
إلخ، أي: أنه عينها، أو عين الخمس الموجود حول البركة، أو الخمس الموجود في الطرف الفلاني، وتكون معلومة للطرفين، فحينئذٍ يصح البيع، لكن إذا لم تكن معلومة، كأن يقول: بعتك المائة، واستثنيت لنفسي عشراً، فأين هذه العشر؟ فحينما يبدأ الرطب فتذهب وتتخير العشر، وهذا فيه إجحاف على المشتري، أو هو يفرض عليك عشراً، فهذا فيه ضرر وغبن، ولكن إذا علمت الثنيا عند العقد، فسواء كانت أجود الموجود، أو كانت أقل الموجود جودة، فإنها معينة، وكذلك قطيع الغنم، كأن يقول: بعتك ألف شاة إلا مائة، فيجب أن تعلِمْها، ويجب أن تعزلها، وهكذا مائة ثوب إلا خمسة فإذا كانت الأجناس متساوية، وفيها بعض التفاوت، أي: من جنس واحد، ولكن فيه بعض التفاوت، فلابد من تحديده، ولابد من تعيينه بعينه؛ لئلا يقع النزاع عند الاستلام.
والله تعالى أعلم.(191/6)
شرح حديث النهي نهى عن المحاقلة والمخاضرة
قال المصنف رحمه الله: [وعن أنس قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمخاضرة والملامسة والمنابذة والمزابنة) رواه البخاري] .
هذه المسميات -المحاقلة والمزابنة والمخابرة- صور من صور البيع التي كانوا يتعاطونها، وفيها ضرر على البائع، وعلى المشتري.(191/7)
النهي عن بيع المحاقلة وعلة ذلك
المحاقلة: من الحقل، وهو محل الزرع، أو الأرض الخصبة المنبتة، فإذا إنسان زرع قمحاً، أو شعيراً، أو ذرة، أو نحوه، فيبيع ما فيه من الحبوب بخرصه كيلاً، فكم يمكن أن يكون في هذا الحقل إذا حصد وصُفي؟ يمكن أن يأتي مثلاً بعشرة أرادب، فيقول المشتري: أنا أشتريه منك الآن بتسعة، أو أشتريه منك الآن بعشرة، أو بأي تقدير كان، أي: يبيع المجهول من الحب في الحقل بمعلوم بالكيل من جنسه، وهذا منهي عنه؛ لأن فيه غرراً؛ ولأنه إذا كان المبيعان من جنس واحد وبيعا ببعضهما؛ وجب الحلول، والتقابض، والتماثل، وحتى لو بيع بغير جنسه -بطريقة المحاقلة- كان فيه الغرر، فلو اشترى حقل الحب -وقد رما فيه بعشرة آرادب- بخمسة آرادب من تمر، فإن الحب مع التمر ربويان، ولكن لاختلاف الأجناس يجوز التفاضل، ولكنه هنا -أي: في بيع المحاقلة- لا يجوز؛ لوجود الغرر، فإن التمر معلوم الكيل، والحب في الحقل مجهول الكيل، ولا نعلم كم سيحصد منه.(191/8)
بيع المخاضرة: صورته وحكمه
وقوله: (والمخاضرة) .
المخاضرة: هي بيع الزرع أخضر ولم ينعقد الحب فيه بعد، فيقدر كم سيكون إذا طلع السنبل، وإذا طلع الحب، وانعقد في سنبله، وصُفي، كم سيكون؟ وكذلك أنواع الخضروات بجنسها موزوناً أو مكيلاً، فكل ذلك يلحقه الغرر، فنهي عن بيعه.(191/9)
بيع الملامسة: صوره وحكمه
وقوله: (والملامسة) .
الملامسة تقدم الكلام عنها، وهي: أن يقول البائع: أيَّ ثوب لمسته من مجموع هذه الثياب فهو لك.
أو تكون مبادلة ثوب بثوب، وكل منهما قد لف ثوبه ولم ينشره، فلا يراه الآخر، فيقول له: هذا الثوب بيدي، أبيعه عليك بالثوب الذي في يدك، وبمجرد ما ألمس ثوبك وتلمس ثوبي ينعقد البيع، وهما لا يعلمان ما بداخل الثوبين، فقد يناسبه في تفصيله، وفي حجمه، وقد لا يناسبه، وقد يكون فيه عيب مستتر لا يراه، وكل ذلك منهي عنه، وقد تقدم التنبيه على ما كان من اللعب المشابه لهذا، وصورته أن يجعل سهماً كعقرب الساعة، ويدار على سلع موزعة، فما وقف السهم عليه فهو له، فهذا أيضاً من الملامسة المنهي عنها؛ لأنه لا يعلم على أي سلعة سيقف السهم، والسلع عادة تكون متفاوتة، فمنها ما يساوي درهماً، ومنها ما يساوي عشرة، وفي هذا إغراء للمتلاعبين، أو المتعاقدين على أن يظفر بشيء قيمته كبيرة بثمن قليل.(191/10)
بيع المنابذة: صورته وحكمه
قوله: (والمنابذة) .
المنابذة: قريبة من الملامسة، ولكن المنابذة من النبذ، -والنبذ: الطرح، والرمي، فمثلاً: يقول: أيَّ ثوب نبذته إلي فأنا آخذه بكذا، سواء كانت السلع متساوية، أو كانت السلع غير متساوية، فمثلاً: نجد الآن في الوقت الحاضر لوحات على بعض الدكاكين: كل شيء بخمسة ريال، كل شيء بعشرة ريال، أي أن الثمن متعادل، فيأتي صاحب الدكان ويقول: أي شيء بخمسة ريال، والأثمان متعادلة، وأيَّ شيء نبذته إليك فهو بخمسة، لكن المشتري لا يعلم ماذا سينبذ إليه، فربما نبذ إليه شرّاباً وهو يريد غترة، وربما نبذ إليه ثوباً وهو يريد قميصاً، إذاً هذا معلق على اختيار أحد الطرفين، فلا يجوز ذلك.
وكذلك إذا كان العكس، كأن يقول: ما دامت كل السلع عندك بخمسة ريال، فأي سلعة سقطت عليها الخمسة الريال فهي لي، وإن كان الغبن هنا مرتفعاً، إلا أن المانع هو عدم تعيين المبيع عند العقد، وكل هذا منهي عنه؛ سداً للباب فيما لو كانت السلع متفاوتة الأثمان.(191/11)
حكم بيع المزابنة
وقوله: (والمزابنة) .
المزابنة: من الزبن، وهو الدفع، قالوا: المزابنة، والمحاقلة، والمخاضرة، كلها تدخل في المزابنة؛ لأن كلا المتعاقدين يدفع عن نفسه الغبن، ويكون ذلك بالمخاطرة، فهي أيضاً ممنوعة لهذا السبب.(191/12)
شرح حديث النهي عن تلقي الركبان
قال المصنف رحمه الله: [وعن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تلقوا الركبان، ولا يبع حاضر لباد) قلت لـ ابن عباس: ما قوله: ولا بيع حاضر لباد؟ قال: لا يكون له سمساراً.
متفق عليه واللفظ للبخاري] .(191/13)
القاعدة العامة في معرفة البيوع المحرمة
لو تأملنا في كل ما جاء النهي عن بيعه فإننا نجد عنصر التحفظ عن أكل أموال الناس بالباطل هو السبب البارز في النهي عن جميع البيوع المحرمة؛ لأن من أخذ شيئاً مخاطرة، وكان فيه غبن، كان فيه أكل لأموال الناس بالباطل، فإذا وقع الغبن على البائع فقد خسر شيئاً، وأكله المشتري بالباطل، أو وقع الغبن على المشتري في الثمن، فقد نقص عليه شيء، وأكله البائع بالباطل، وهكذا كل هذه الصور يقع فيها أكل أموال الناس بالباطل، وتدخل تحت قوله سبحانه: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه) ، والمال لا يحل إلا بطيب نفس من صاحبه، فمهما كانت صفة العقد وصورته وشروطه -وقد وجدنا في الآونة الأخيرة صور عقود لم تكن في السابق- فإنها لم تفلت من نطاق القواعد العامة التي فيها احترام مال المسلم، وتحريم أكله بالباطل.(191/14)
النهي عن تلقي الركبان: صوره وما يتعلق به من أحكام
وهنا نهى صلى الله عليه وسلم عن تلقي الركبان، والتلقي: هو الاستقبال، قال الله تعالى: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:103] ، والركبان: جمع راكب، والمراد: الجالب، سواء جاء على قدميه، أو جاء راكباً بعيراً أو فرساً، وقد صار هذا الاسم علماً على كل من يجلب إلى السوق؛ لأن الغالب أن الجالب يأتي من بعيد، وغالباً يأتي راكباً، أي: يركب ما يحمل عليه السلع، فنهى صلى الله عليه وسلم عن تلقي الركبان.
والركبان إما أن يكونوا قادمين من البادية، أو قادمين من بلد أخرى حاضرة للبيع في هذه البلدة؛ لاختلاف الأسعار، ولكثرة الحاجة، ولقلة السلعة، وهذه أمور تحكمها حالة الأسواق.
ولنفترض المسألة في البادية: فإذا جاء الجالب من البادية، فإنه سيأتي بإنتاج البادية، وإنتاج البادية إما أن يكون بهيمة الأنعام، وإما أن يكون نتاجها من ألبان، أو أصواف، أو جلود، ونحو ذلك، وإما حطباً يحتطب من الجبال، ونتاج بهيمة الأنعام يكون سمناً، ويكون أقطاً، كل هذا من إنتاج البادية، فإذا جاء البدوي بسلعة، ويريد أن يبيعها في المدينة، ويشتري بثمنها سلعاً أخرى من السوق، فهو أتى بسمن أو حطب أو جبن، فباع واشترى سكراً، أو قماشاً، أو قهوة، أو هيلاً.
إلخ، وهذه هي العادة، فإذا قدم ركبٌ بسلع بدوية، فلا ينبغي لأحد من أهل السوق أن يخرج من السوق، أو يخرج من البلدة ويتلقاهم قبل أن يصلوا إلى السوق، وقبل أن يعرفوا الأسعار، فيساومهم على ما معهم؛ لأنه بتلقيه للركبان يقطع السلع عن أهل السوق.
ومن أين يكون التلقي؟ بعض العلماء يقول: يكون التلقي بمجرد خروجه من السوق، وبعضهم يقول: ميلاً، وبعضهم يقول: ميلين، وبعضهم يقول: أكثر، أو أقل، ولكن الأصل العام في ذلك: أن يتلقاه قبل أن يأتي ويلتقي بالناس، ويعرف الأسعار، وبعضهم يقول: التلقي من السوق إلى الطريق ليس فيه شيء؛ لأنه موجود، ولكن التلقي المنهى عنه فيما إذا كان خارج المدينة، فإذا خرج من المدينة، ولقي الركبان خارج المدينة، وساوم واشترى، فهذا هو المنهي عنه، ولكن إذا نظرنا إلى العلة، وهي قطع الاستفادة من السلعة عن أهل السوق، فيتفرد بالبادي، ويشتري منه وهو يجهل السعر، إذاً: سواء تلقاه خارج السوق، أو تلقاه خارج المدينة، فالعلة موجودة.
وهنا تتشعب المباحث: فلو أنه خرج وتلقى الراكب، واشترى منه، ثم جاء صاحب السلعة إلى السوق، ووجد أن الذي تلقاه قد غبنه، وأخفى عليه سعر السوق، فله الفسخ، وهو بالخيار، وإذا كان له الخيار فهنا مبحث للفقهاء، وهو: هل العقد الذي انعقد هناك أثناء التلقي سارٍ أو غير سارٍ؟ الجمهور يقولون: هو عقد سارٍ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاه -أي: صاحب السلعة- الخيار، والخيار لا يكون إلا عن عقد ثابت، ولو لم يكن ثابتاً لقال: العقد فاسد.
وهل النهي عن تلقي الركبان شامل لكل صغير وكبير، ولكل زمان؟ بعض العلماء -وخاصة علماء الحديث- قالوا: في كل صغيرة وكبيرة، وفي كل زمن: خصب، أو جدب، وسواء كان الجالب عالماً بأحوال السوق، أو ليس بعالم، وأخذوا الحديث على عمومه، والآخرون نظروا إلى العلة في النهي، والعلة في النهي هي: غبن البدوي فيما جلب من سلعة، فقالوا: إن كان قد جاء بسلعته، يريد أن بيعها في يومه، وهو لا يعلم الأسعار، ففي مثل هذا يكون النهي، وهذا بخلاف المتردد على السوق الذي يعرف الأسعار، والأسعار من يوم إلى يوم لا تختلف كثيراً، فإذا كان خبيراً بأمر السوق، فلا محظور في ذلك، إن كان قد نوى بيعها في يومه.
إذاً: الشرط الأول في تحقق النهي: أن يكون الجالب لا يعرف أسعار السوق، الثاني: أن يكون الجالب جلبها ليبيعها في يومها.
ويقول بعض العلماء أيضاً: أن تكون بالناس حاجة إلى تلك السلعة.
والبعض الآخر يقول: سواء كانت هناك حاجة للسلعة، أو لم تكن، والذي يهمنا هو الجالب، فإذا كان الجالب جلبها ليبيعها في يومه، وكان لا يعلم الأسعار، فتلقاه إنسان واشتراها منه، ثم جاء إلى السوق فوجد أنه قد غبن، فله الحق في فسخ البيع؛ لأن المشتري قد غبنه وخدعه.
وكون الناس في حاجة إليها، أو ليسوا في حاجة إليها، هذا يشترطه البعض، وينفيه البعض الآخر، ويقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله: أو إذا تلقاه وباع له وهو لا يعلم فلا مانع؛ لأنه نصح، لكن إذا كان سيشتري منه فأين النصح؟ النصح يأتي عند (لا يبع حاضر لباد) ، وسيأتي تفصيله إن شاء الله.
وهناك من يقول: يجب أن نراعي أصحاب السوق؛ لأنه إذا تلقى الركبان، وأخذ السلعة من هناك، والناس في السوق ينتظرون مجيء الجلب، وهذا قد سبقهم إلى الجلب وحاز السلعة، ففيه مضرة على المستهلك، وعلى أهل السوق، وقد جاء في الحديث: (أحب لأخيك ما تحب لنفسك) .
إذاً: مبدئياً نهى صلى الله عليه وسلم عن تلقي الركبان.
ونظير هذا أيضاً: لو أن شخصاً ذهب وحمل سيارة كبيرة -كهذه التي يسمونها (سكس) - بالأسمنت والشعير، وبالسلع التي يحتاجها أهل البلد، وهو لا يعلم أسعار المدينة، فذهب إنسان إلى (الفريش) وتلقاه، وتبايع معه على حمولة السيارة وغبنه، فباعه، ثم جاء إلى السوق فوجد نفسه قد غبن، لا سيما -كما يذكر الفقهاء- إذا قام المتلقي بالخداع، كأن يقول له: المدينة مليئة بهذه السلع، والناس غير محتاجين إلى هذا، لكن سآخذ منك هذه السلع وأجعلها عندي، ومن ثم أصرفها على مهل، أما أنت فإن جئت إلى السوق فستجد عشرات السيارات كسيارتك، وستجد المستودعات مليئة، ولكن أنا أستطيع تدبيرها، مع أن المدينة ليس فيها ولا سيارة واحدة، ولا شيء من هذه السلع، فيكون قد غره وغشه، وحمسه إلى البيع مخافة ألا يجد من يشتري؛ لأن السوق يقوم على العرض والطلب، فإذا كان العرض كثيراً والطلب قليلاً نزلت السلعة، وإذا كان العكس ارتفعت السلعة.
فقالوا: إذا كان قد خدع المتلقي الجالب، وهوّن عليه أمر سلعته، وهوّن عليه أسعار السوق، سواء كان بادياً أو حاضراً، فكل ذلك داخل في هذا النهي؛ لأن الغرض وراء ذلك كله هو أكل أموال الناس بالباطل.(191/15)
النهي عن بيع الحاضر للباد: صورته وحكمه
قال: (لا يبع حاضر لباد) .
ومن النهي هنا أيضاً نهيه صلى الله عليه وسلم ألا يبيع حاضر لباد، وانظر إلى هذا التناسق بين هذه النواهي! ولنفرض أن الركبان لم يتلقها أحد، ووصلت إلى السوق، فإذا وصلت إلى السوق دون أن تصطدم بمتلق يخدعها، وبدأ البيع، فلا يجوز أن يأتي حاضر ويتولى عملية البيع للبادي.
وقد سأل السائل ابن عباس: ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يبع حاضر لباد) ؟ فقال: لا يكون له سمساراً.
والسمسرة: معروفة من قديم، فهنا الجالب إذا وصل السوق فليترك بسلعته مع الناس، فإن الجالب سيبيع بما يراه يحفظ حقه، والغالب أن البدوي يجلب سلعاً لم يدفع فيها مالاً، وإنما بذل فيها جهداً، فرأس مالها عليه جهده في الحلب، والتصنيع وما إلى ذلك، أما الذي يشتريها ويأتي بها إلى السوق، أو يشتريها بالجملة ويبيعها بالتجزئة، فإنه يعمل حساب رأس المال الذي دفعه، والغالب أن الجالب من البادية يتساهل في سلعته، فإنه لم يخسر فيها مالاً، وإنما بذل فيها جهداً، فيكون في هذا رخاء وتوسيع على الناس.
أما إذا جاء أحد أهل السوق ليبيع السلعة لهذا البدوي، فإنه سيستخدم خبرته ومعرفته بالسوق ليخدم بها الجالب، فهو يعلم أسعار السوق، ويعلم هل السلعة متوفرة أم غير متوفرة، فيغالي في الثمن ويزيد في السعر، فيتضرر أهل البلد، لا سيما المساكين والأرامل والأيتام والفقراء والضعفاء، فتقطع عليهم الطريق، ولا ينتفعون من جلب البادية، ولذا جاء في بعض الروايات: (دع الناس يرزق الله بعضهم من بعض) ، فهذا اشترى قربة سمن، فإن كان لبيته -وجاءت رخيصة- فهو رزق من الله، وإن كان سيبيعها ويكسب فهذا رزق من الله.
فقوله: (لا يبع حاضر لباد) قالوا: هي على المبدأ الأول في تلقي الركبان، بشرط أن يكون البادي لا يعرف أسعار السوق.
وهل النهي عام، أم أنه خاص فيما إذا كان الناس بحاجة إليها؟ الظاهر أن النهي على العموم.
وعلى هذا: نجد في الصورتين الإضرار بالمستهلك، فتلقي الركبان يكون فيه قطع الطريق على المستهلك، وبيع الحاضر للباد فيه رفع السلعة على المستهلك، وهذا فيه مضرة.
يقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: إذا باع الحاضر للبادي من باب النصح فلا مانع، فلو أن الحاضر رأى حاضراً آخر يشتري من بدوي لا يعرف شيئاً عن قيمة سلعته، كأن يكون لديه قربة سمن تساوي ألف ريال، فقال له الحضري: أشتريها بمائتي، وكاد أن يبيع، فتدخل حضري آخر فقال للبدوي: اصبر، لا يخدعك، واذهب وانظر السوق، فالإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: للحاضر أن ينصح إذا رأى غبناً فاحشاً.
لكن إذا كانت السلعة بألف، وجاء حاضر وساوم البادي إلى ثمانمائة، أو ثمانمائة وخمسين، والثمانمائة والخمسون ليست غبناً فاحشاً، فإنه يتركه لعموم النهي (ولا يبع حاضر لباد) .
ولكن إذا كان البادي يعرف السوق ويتردد عليه، وجاء بسلعته إلى المدينة، ولا يريد أن يبيعها؛ لأنه وجد السلع كثيرة، وقد أتى بالسمن وكان يظن أنه لم يجلب إلا هو، فأتى إلى السوق وإذا به مليء بالسمن، فجاء إلى أحد أهل الحاضرة، وقال: يا فلان! اترك هذه السلعة عندك، وأنت وكيل عني، فبعها إذا تحسن السوق.
ماذا يكون في هذا؟ هو عرف السعر، ثم إنه أودعها عند حضري، ثم وكل الحضري ليبيعها عند تحسن السوق، إذاً: الجالب لن يبيع اليوم؛ لأنه رأى السعر منخفضاً، والسلع كثيرة، فوكل الحضري، وعلى هذا فلا شيء في ذلك.
وقوله: قلت لـ ابن عباس: ما قوله: (ولا يبع حاضر لباد) ؟ قال: لا يكون له سمساراً.
متفق عليه.
السمسار: هو الذي يسعى كالدلال، ولكن السمسار يسعى بين البائع والمشتري في شيء موجود حاضر، ويحاول أن يوفق بين الطرفين إلى أن يصلا إلى عقد البيع، والدلال إنما يدل على السلعة لمن لا يعرفها.(191/16)
كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [9]
لقد حرص الإسلام على إرساء المحبة والألفة بين المسلمين، وسد كل باب يفضي إلى النزاع والفرقة، ولذلك نهى عن بيوع ومعاملات تفضي إلى الفرقة والنزاع، وتفسد المحبة والألفة بين المسلمين، ومن تلك المعاملات: بيع الرجل على بيع أخيه، أو أن يخطب على خطبة أخيه، أو أن تسأل المرأة طلاق أختها لتتزوج زوجها، ونهى عن سوم الرجل على سوم أخيه، ونهى عن أن يُفرق بين المرأة وولدها، أو بين الأخوين ببيع أو نحوه، ونهى عن الاحتكار، فلا يحتكر إلا خاطئ.
وإذا غلت الأسعار، فيجب على المسلمين أن يرجعوا إلى الله، فإن الله هو المسعر، وما نزل الغلاء إلا بسبب الذنوب والمعاصي، وبالعودة إلى الله يرتفع الغلاء، ويجوز لولي الأمر أن يُسعر إذا دعت الحاجة، لاسيما في الأشياء التي لا تعرف تكلفتها عادة، وكذلك إذا ظهر المحتكرون.(192/1)
شرح حديث: (نهى أن يبيع حاضر لباد ... )
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعنه -أي: أبي هريرة - رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضرٌ لباد، ولا تناجشوا، ولا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها) متفق عليه، ولـ مسلم: (لا يَسمُ المسلم على سوم أخيه) ] .
بيع الحاضر للباد تقدم، وبيع النجش تقدم، والنجش: هو الزيادة في السلعة بدون قصد الشراء، ويترتب عليه أكل أموال الناس بالباطل؛ لأن المشتري سيزيد على زيادة السائم الأول، ثقة منه بأنه راغب، وأن السلعة تستحق ذلك.
ويضيف العلماء إلى صور النجش: ما يفعله بعض الناس حينما يأتي بالسلعة إلى السوق فيقال له: بكم هذه؟ فيقول: قد أعطوني فيها خمسين، مع أنه لم يعطه أحد شيئاً، ولكنه هو الذي كذب ووضع هذا السعر، فكأنه زاد لنفسه من نفسه تعريراً بالمشتري، فإن صدّقه المشتري واشترى على قوله، ثم تبين له الغبن، فهو بالخيار.(192/2)
بيع الرجل على بيع أخيه: صوره وحكمه
قوله: (ولا يبيع الرجل على بيع أخيه) .
بيع الرجل على بيع أخيه والسوم على سومه كلاهما من هذا القبيل، وصورة بيع الرجل على بيع أخيه: أن يأتي إنسان ويشتري سلعة من شخص، ويشترط لنفسه الخيار لمدة يومين ليستشير، فيأخذ السلعة في يده على ذمة الخيار لمدة يومين، والمشتري والبائع كلاهما له الخيار في الإمضاء والفسخ -إلا إذا اشتُرط الخيار لواحد منهما فقط، فإذا اشترى المشتري واشترط الخيار لنفسه فقط، فليس للبائع حق الفسخ- وفي مدة الخيار علم جار البائع بما حدث، فذهب إلى المشتري وقال له: ما دام أنك في مدة الخيار، فارددها إلى صاحبها وسأبيعك نفس السلعة بسعر أقل، فيكون هنا قد باع على بيع أخيه.
وصورة الشراء على شراء أخيه كما لو اشترى المشتري السلعة بألف، وعلم بذلك شخص وهو في حاجة إلى السلعة، فذهب إلى البائع وقال له: بكم بعت يا فلان؟ فقال: بعتها بألف، فقال: يا أخي! لماذا لم تخبرني، لو كان عندي علم لأخذتها بألف ومائتين، فما دام أن لك الخيار، ولك حق الفسخ في يومين، فافسخ البيع، وسأشتريها بألف ومائتين، فيكون قد اشترى على شراء أخيه، وفي كلتا الصورتين إفساد بين الناس، وإفساد للسوق، وفي الحديث: (أحب لأخيك ما تحب لنفسك) .
إذاً: هاتان الصورتان منهي عنهما؛ لما فيهما من إفساد بين الناس، ثم إنه صلى الله عليه وسلم خاطب الناس في هذا بقوله: (ولا يبيع الرجل على بيع أخيه) ، ولم يقل على بيع الغير، ولكن قال: (على بيع أخيه) ، إذاً: من حق الأخوة ألا تتعدى على أخيك، وهذا من البلاغة النبوية، فقد كان يمكن أن يقول: لا يبيع أحدكم على بيع غيره، ولا يشتري على شراء غيره، ولكنه قال: (أخيه) ، فكأنه يذكره بحق الأخوة بينهما، فما دمت اعتبرته أخاً لك فأحب له ما تحب لنفسك.
وهكذا فالتشريع في المعاملات قد يلمس العاطفة، وقد ينبه الضمير، ويوجه الإنسان بإنسانيته، فيشعره بأن هذا أخوه، ولا ينبغي أن يفسد عليه بيعه، وأن هذا أخوه، فلا ينبغي أن يفسد عليه شراءه، فيكون أنانياً يحب لنفسه ما لا يحب لغيره.(192/3)
النهي عن الخطبة على خطبة الغير
قال: (ولا يخطب على خطبة أخيه) .
الخُطبة: هي الخطبة على المنابر، وفي النوادي، وفي الحفلات، والخِطبة: هي خطبة الرجل للمرأة، فإذا خطب إنسان امرأة أو فتاة، فلا يخلو الحال من أحد أمرين: إما أنه مجرد استفهام، وقد يكونون قبلوا خطبته أو لم يقبلوا، وإما أن يكونوا قد قبلوا ولم يبق إلا المفاهمة في الحواشي والتنفيذ، فإن كانت الخطبة مجرد حديث، ولم يستجب أهل المرأة إليهم، وفهم من حالهم أنهم رفضوا، وقد يكون الرفض بلطف، فيعتذروا بقولهم: هي تريد أن تتعلم إلى أن تكمل تعليمها، مع أنها في الحقيقة راسبة، ومهيأة للزواج، ولكنهم ردوه بلطف، وهذا من الآداب الاجتماعية، فعلم أنهم غير راغبين، فهنا لا مانع من أن يتقدم شخص آخر بالخطبة، أما إذا كانوا في مرحلة المفاهمة، ولم يظهر من أهل المرأة رفض ولا قبول، فليبق وليكف، فإذا ظهر من أهل المرأة القبول حرم التقدم، وإذا ظهر منهم النفي فلا مانع من التقدم.
وإذا علم بأن أهل المرأة قد قبللوا الخاطب، ولكنهم ما زالوا في بحث موضوع الجهاز، كالفراش وصفته، والتعنتات التي أرهقت الناس، وهذا كثير، وهذا قليل.
إلخ، فالمبدأ الأساسي هو القبول بهذا الخاطب، ولكن ما زالوا في بحث الحواشي، والتعليقات، والهوامش، فإذا تقدم إنسان آخر ورأى أهل العروس فرقاً بعيداً بينه وبين الأول، فالأول إنسان مسكين يعمل بأجر يومي، ويسكن في بيت شعبي، وجاء هذا وعنده عمارة، وسيارة، ومال كثير، فقالوا: والله لا نضيع بنتنا عند هذا، ولا نفوّت هذا، فهذا أحسن لنا، وسيرفضون الأول الذي رضوا به ابتداءً لعدم ظهور هذا، فيأتي هذا دون مبال بشعور أخيه، ودون مبال بحاجته، ودون مبال بكرامته، وعلاقته وأخوته، فكأنه أهدر حق أخيه بالكلية، فقبلوه وزوجوه.
والجمهور: على أنه إذا رفع ذلك إلى الحاكم فإنه يبطل العقد الثاني، ويمنع زواج الثاني منها؛ لأنه بُني على باطل، وهو خطبته على خطبة أخيه.
والجمهور -ما عدا مالك - يقولون: يفسخ العقد ولو دخل بها، ومالك يقول: إذا فات الأمر ودخل بها فلا يُفسخ؛ لأنه بالدخول بها دخلت حقوق أخرى جانبية، فقد تكون حاملاً، وإذا قلنا بالفسخ فستشتت الولد، ويفرق بينه وبين أمه، وبينه وبين أبيه، وتكون هناك أشياء مترتبة على ذلك، كالعدة، والنفقة، وأشياء كثيرة، فلذلك لا يفسخ العقد، بل يستمر، ويلحق ذلك المتعدي الإثم.
أما الأئمة الثلاثة رحمهم الله فيقولون: حتى لو دخل بها فإنه يفسخ العقد، وإن حملت فالولد لأبيه، ويلحق به؛ لأن الزواج كان بعقد -وإن كان الواجب عدم إيقاع هذا العقد- استوفى شروط صحة العقد، وبه استباح المرأة.
إذاً: لا يجوز أن يخطب على خطبة أخيه، وجاء في بعض الروايات: (حتى يدعوا أو يقبلوا) أي: حتى يتركوا، أو يتموا فيما بينهم.
يقول بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص:23-24]-من باب تلطيف الموضوع على أن عنصر المرأة موجود- قالوا: نبي الله داود خطب على خطبة رجل آخر فزوجوه، وقال الآخرون: إن الخطبة على خطبة أخيه لم تكن ممنوعة عندهم كما هي ممنوعة عندنا، والله أعلم بذلك.(192/4)
سؤال المرأة طلاق أختها: صورته وحكمه
قال: (ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها) .
المقصود بأختها أي: أختها المسلمة، وليس أختها من النسب؛ لأن أهلها لو علموا بأنها طلبت طلاق أختها من النسب لتتزوج بزوج أختها؛ لرفضوا أن يزوجوه بها، ولقالوا: كيف نعطيه هذه وقد طلق أختها! إذاً: المراد بأختها أي: المسلمة.
وصورة هذه المسألة: أن يأتي رجل متزوج ويخطب امرأة، فتقول: مرحباً، على العين والرأس، وأنعم، لكن طلق التي عندك وأنا أتزوجك، وقوله: (تكفأ) كأنه كناية عما يتحمله الرحم، وتتلقاه المرأة في المعيشة مع الزوج، وكل ذلك في إناء الحياة والعشرة الزوجية، (لتكفأ ما في إنائها) لتأتي هي بإنائها من جديد، فهذه أنانية فوق اللازم، وكذلك عنصر الأخوة، فلا تطلب المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها، من خير المعيشة: من النفقة، ومن حسن العشرة، ومن الإيواء، فتحرم الزوجة الأولى من هذا من أجل أن تأتي هي وتحل محلها، وهذا ينافي الأخوة، ولذلك خاطبها نهاها في هذا الحديث عن هذا الأمر.
وهنا وقفة جانبية واستراحة خفيفة: بعض النسوة الآن يتقدم إليها المتزوج فتقول: أنا لا أريد أن تكون معي ضرة، لا تتزوج عليّ ولا تكن متزوجاً قبلي، وهذا الشرط من حيث هو لا بأس به؛ لأنها تريد المصلحة لنفسها، لكن أن تقول: طلق الزوجة الموجودة من قبل، فهذه هي المصيبة، ثم نقول للأخوات والبنات: ما هو الأُولى لك؟ أن تكوني تحت نصف رجل، أو أن تكوني خالية بالكلية؟ نصف رجل أولى؛ لأنه سيقسم بينك وبينها بالعدل، ومئونتك مكفية، وكرامتك حاصلة، ونفقتك مؤداة، وأصبحت في خيمة رجل، تستظلين بها بجانب وأختك في الجانب الآخر، أو خيمتك بجانب خيمتها، وإناؤك بجانب إنائها، وما يأتيها في إنائها يأتيك مثله في إنائك، وبذلك تكونان أخوات.
إذاً: الغلط كل الغلط فيما يحصل الآن من بعض النساء، من أن المرأة -وخاصة الفتيات- لا تقبل أن تتزوج من متزوج إلا العاطلات النوادر، وقد سمعت من شخص ثقة حينما خطب فتاة -وهو متزوج وله أولاد بالغين- فبادرت الفتاة بقبوله، فقيل لها: ماذا تريدين من هذا الرجل وله أولاد بالغون، مع أن الشباب يتمنون ويتقدمون لخطبتك وترديهم من قبل؟! فقالت: نعم؛ لأن الشاب طائش، وهو طوال الليل في الخارج، ولا يأتي إلى وهو متعب، فينام، ثم يصبح نائماً وكذا وكذا، وليس فيه خير، أما هذا فرجل عاقل، وله بيت، وهو مجرب، ويعرف حق الزوجة، ويقوم بواجبه، وطيلة ليله يكون عندي، ولا أشتغل عنه، ولا أغير عليه فمثل هذا أولى من ألف واحد من الشباب الذين تتطلعون إليهم، فنحن ننصح الفتيات قبل النسوة العوانس بأن الزواج من متزوج خير، أما إذا كانت تزوجت من شاب لم يتزوج، ولكن على شرط أن يكون لها وحدها، فإن التي لم ترض بضرة، فقد يكون لزوجها عشرات الضرائر صداقة، من خلال السهرات -عياذاً بالله- والذهاب والعودة، وينشغل بهن عن زوجته، فماذا تنال منه؟! إذاً: سؤال المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها هذا خطأ كبير، ولا ينبغي لأي امرأة أن تفكر في هذا، وبالله تعالى التوفيق.(192/5)
السوم: معناه وحكمه
قال: (ولا يسم على سوم أخيه) .
البيع إما مساومة أو مزايدة، فبيع المساومة: أن تكون السلعة في يد صاحبها، فيقول المشتري: بكم هذه؟ فيقول: بعشرة، بخمسة، بثلاثة، باثنين، فالذي تتبايع معه وحدك هذا سوم، فإذا تشاغلتما في السوم، وقال لك: أفكر، ولم يبع، فجاء الثاني وسام بأكثر -في غياب الآخر- فهذا لا يجوز؛ لأن البائع يبتّ في الرفض.
والبيع الثاني: المزايدة، كأن يقال: هذه بخمسة، من يزيد؟ بخمسة ونصف، من يزيد؟ وهكذا، فحيثما رسا المزاد بيعت، فالبيع بالمزايدة ليس فيه النهي عن السوم على سوم الغير؛ لأن الباب مفتوح، وكذلك إذا كان المبيع وقفاً، أو غنيمة، أو تركة لميت له ورثة، فيجوز فيه السوم؛ لأن السلعة مملوكة لأشخاص، فينبغي على البائع فيها أن يتحرى السعر الأفضل إلى آخر لحظة، فالتركة فيها قُصّار وفيها نساء، والوقف وقف لحق الله تعالى، والغنيمة لم تقسم، أو إذا سيم على السهم، وبائع الغنائم يريد أن يُقسم القيمة على الغانمين، فلهم حقوق، فينبغي أن يتحرى، ولا يتم التحري إلا بالسماح بالسوم على سوم أخيه، أما إذا كانت في الحراج، فوقعت المزايدة، فلا حرج في ذلك، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه باع بالمزايدة في هذا المسجد الشريف، كما في قصة الشاب الذي جاء وطلب الصدقة، فقال له: (أراك قوياً جلداً، قال: ليس عندنا شيء، قال: ما عندك؟ قال: حلس وقعب، قال: عليّ بهما، فلما جاء بهما، قال: من يشتري مني هذا؟ فقال رجل: بدرهم، قال: من يزيد؟ فقال رجل: بدرهمين) فهذا سام على سوم أخيه؛ لأنها مزايدة.
وهكذا النهى عن السوم على سوم أخيه مثل النهي عن البيع على بيع أخيه، إلا إذا كان البيع مزايدة فلا مانع أن يسوم وأن يزيد، إلى أن تصل السلعة إلى نهايتها، وبالله تعالى التوفيق.(192/6)
شرح حديث: (من فرق بين والدة وولدها ... )
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من فرق بين والدةٍ وولدها فرّق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة) رواه أحمد وصححه الترمذي والحاكم، ولكن في إسناده مقال، وله شاهد] .(192/7)
عظمة هذا الدين ورحمته بالخلق
يذكر المؤلف رحمه الله حديث أبي أيوب هذا في كتاب البيوع، باب شروطه وما نهي عنه، فيقول لنا أبو أيوب رضي الله تعالى عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من فرق بين والدةٍ وولدها فرّق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة) ، والحديث فيه النهي عن أن يُفرِّق السيد بين الأمة وبين ولدها في البيع، فما علاقة الأحبة، وعلاقة يوم القيامة؟! وكان يمكن أن يقال: لا تُفرِّقوا بين الأم وولدها، أو لا ينبغي التفريق، ولكن مصداقاً لقوله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] ، ولأن دين الإسلام هو دين الرحمة، ومصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ، فهذه أم معها ولدها، وكم يصعب على الأم أن تفارق ولدها؟! ونعلم ما حصل في قصة أصحاب الأخدود، وفي قصة المرأة التي جاءت إلى عائشة وهي تحمل طفلتين فأعطتها عائشة تمرة، فشقتها نصفين، وأعطت كل طفلة نصفاً واجتزأت هي بالنواة تمصها، وذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها: (لله أرحم بعباده من هذه الأم بطفليها) ، وتلك المرأة في قصة أصحاب الأخدود، فحينما ظنت المرأة بولدها فأنطقه الله وقال لها: (يا أماه! قعي في النار ولا تتقاعسي) ، وعندما ذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عطف تلك الأم على ابنتيها قال: (أترون أن هذه الأم تلقي بولديها في النار؟ قالوا: لا، قال: لله أرحم بعباده من هذه الأم بطفليها) .
ثم نأتي إلى عوامل جانبية أخرى، فإن الرحمة في الإسلام لم تقف عند الإنسان، فقد دخلت امرأة النار في هرة حبستها، ودخلت امرأة بغي الجنة في كلب سقته، فالإسلام دين الرحمة، ودين العاطفة، ودين إيقاظ الضمير.
ثم ننتقل خطوة بعيدة، وطويلة جداً، ونقرع الطبل في آذان أولئك الآباء والأمهات الذين يقع بينهم النزاع والشقاق لأمور شخصية بينهما، وتقع المصيبة على الأولاد، وينتزع الأولاد من الأم قهراً، لا لشيء إلا لمضارتها، فنقول: (من فرّق بين الأم وولدها) ، وإن كان ذلك في المبيع فكذلك في الحضانة، وللقاضي أن ينظر في مصلحة الطفل أهي عند أمه، أم هي عند أبيه، أم عند شخص ثالث؟ لأن مصلحة الطفل مقدمة، أما الأبوان فقد تفرقا وسار كل في طريقه، وهذا لا يزال ناشئاً، فأي مكان يكون أصلح له فيضعه القاضي فيه.
والمجال في هذا الموضوع واسع، ولكن يهمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم -مع كثرة مسائل التشريع، ومسئوليات الأمة، والتبليغ في الحضر والسفر، وفي السلم والحرب- لم يُهمل هذا الجانب الإنساني، بل قال: (من فرّق بين الأم وولدها) مع أن كليهما مملوك، وقد يكون باقياً على شركه وعلى كفره، فالناحية الإنسانية والرحمة ليست قاصرة على كافر ومسلم، بل شملت -كما أشرنا- الحيوان، وهكذا يرطب النبي صلى الله عليه وسلم القلوب ويبللها بالشفقة والرحمة.
وهنا يأتي الفقهاء ويفرعون ويقعدون، ويأتون بمسائل، منها: متى يكون ذلك؟ قالوا: إذا كان الطفل دون البلوغ، أما إذا بلغ فأصبح رجلاً فيذهب حيث شاء، فقد يتركها ويذهب عنها، أما دون البلوغ فعاطفة الأمومة أشد إليه منها حينما يكبر، فغداً يكبر ويتزوج امرأة ولا يدري عن أمه شيئاً، أما دون البلوغ فالعاطفة مرتبطة به أكثر، وهنا سواءً كانت الأم مسلمة أو مشركة وهي أمة مملوكة، وكذلك الولد، علماً بأن الولد يُلحق بأفضل دين الأبوين، فلو أن نصرانياً تزوج مشركة، حكم للولد بدين النصارى؛ لأنه خير من الوثنية، ولو أن مسلماً تزوج كتابية، حكم للولد بدين الإسلام؛ لأنه أفضل من دين النصرانية.(192/8)
ما يلحق بالنهي عن التفريق بين الأم وولدها
إذاً: مما نهي عنه في المبيع أن تفرق بين الأم وولدها، وهنا يأتي السؤال: وما حكم التفريق بين الولد وأبيه، والأخ وأخيه، والقرابة ذوي الرحم؟ لما كان حديث أبي أيوب بين الأصل والفرع، ويلحق الأب بالأم، أعقبه بحديث علي (أمرني أن أبيع غلامين أخوين ... ) .
إذاً: حديث أبي أيوب مع حديث علي رضي الله تعالى عنهم جميعاً يكملان لنا حلقة كل قرابة في الدرجة الأولى، الولد مع الأبوين، والأخ مع أخيه، والأخت مع أخيها، فهذه الدائرة لا يجوز أن يفرق بينها، إلى متى؟ قالوا: إلى حد البلوغ، وإذا ترك فيما بعد ذلك فهو أولى.
يقول أبو أيوب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من فرّق بين الأم وولدها فرّق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة) ، ففي الدنيا لو فُرّق بين الإنسان ومن يحب أسبوعاً لقلق عليه، وانزعج وتألم وتضجر، فكيف إذا فارقه سنة أو سنتين؟! لربما طار قلبه عليه، فكيف بما لا نهاية له يوم القيامة؟! ونعلم بأن الله سبحانه يجعل قرة أعين الصالحين من عباده أن يلحق بهم من تقر أعينهم بهم، قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور:21] ، فقد تكون الذرية ما وصلت إلى درجة الأبوين، ولكن الله -فضلاً منه ورحمة- يرفع درجة الأولاد ليلحقوا بدرجة الآباء إكراماً للأبوين (أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) وليس على حساب الوالدين، بل فضلاً من الله: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21] لم نأخذ من حساب الأبوين، ورفعنا به الأولاد حتى يتساووا، بل الأبوان على ما هما عليه من الدرجة، والأولاد والذرية كانوا بعيدين عنهم، فتفضل الله على الذرية البعيدة فألحقها بالأبوين، فضلاً من عنده؛ لتقر أعينهم بهم، فكيف إذا كان يوم القيامة ويُفرق بينه وبين أولاده؟! الله يجمع بينهم لتقر أعينهم، وهذا يعمل على أن يُفرّق بينهم.
وإذا قدر أن البيع انعقد فهل يتم البيع أو يفسخ؟ يفسخ، على ما جاء في حديث علي: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبيع غلامين) ، وسنأتي إليه إن شاء الله.(192/9)
شرح حديث: (أمرني أن أبيع غلامين ... )
قال المصنف رحمه الله: [وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبيع غلامين أخوين، فبعتهما، ففرقت بينهما، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أدركهما فارتجعهما، ولا تبعهما إلا جميعاً) رواه أحمد، ورجاله ثقات، وقد صححه ابن خزيمة، وابن الجارود، وابن حبان، والحاكم، والطبراني، وابن القطان] .(192/10)
النهي عن التفريق بين ذوي الأرحام في البيع
قوله: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبيع غلامين) يقولون: إن تدرج السن: من رضيع، إلى فطيم، إلى غلام، إلى شاب، فالرضيع معروف، والفطيم: هو من كان على وشك الفطامة، أو قد فُطِم، والشاب: ما بين أوائل التمييز إلى البلوغ، وبعضهم يقول: الغلام لغة: يطلق على الرجل الوافي، كما قيل في الحجاج بن يوسف: إذا هبط الحجاج أرضاً مريضة تتبع أقصى دائها فشفاها شفاها من الداء العضال الذي بها غلام إذا هز القناة سقاها فهو رجل مقاتل، والعادة أن الغلام والجارية يطلقان على من كان دون البلوغ، وقد يطلق على ما بعده، أما في عُرف اللغة فيطلق على من بلغ إلى سن الثلاثين، وهو الشاب فقوله: (أمرني أن أبيع غلامين) أي: صغيرين، لا يوجد لهما أم ولا أب، ولكن الأخوة.
وقوله: (فبعتهما وفرقت بينهما) فواحد ذهب إلى الشرق، وواحد ذهب إلى الغرب، وكل واحد مع الزبون الذي اشتراه.
وقوله:: (فجئت فأخبرت رسول الله على ما وقع مني) لماذا؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره أن يبيع، والبيع مطلق، وليس فيه تفصيل للاجتماع أو الافتراق، فلما وقع ما وقع من علي بالتفريق بينهما، وهو زائد عن ماهية البيع، بل الذي يفهم من قوله: (أمرني أن أبيع غلامين) أي: بيعة واحدة، فالمتبادر إلى الذهن أن هذه الصيغة تدل على أن يبيعهما بيعة واحدة، أي: دون تفريق، ولكن اللفظ عام، فـ علي رضي الله تعالى عنه نظر إلى ماهية البيع دون قيد، فباع هذا هنا، وباع هذا هناك، فجاء وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فعل، وكأنه أوجس في نفسه أن الأمر ببيعهما لم يتناول التفريق.
فقال صلى الله عليه وسلم: (أدركهما) وكلمة (أدركهما) ، وكأنه خاف الفوت، تقول: فلان أدرك الصلاة، أي: على آخر لحظة فلان أدرك الفائت، فلان أدرك من سبقه، وفلان أدرك السارق، وذلك إذا سرق شيئاً ثم فرَّ به فجريت وراءه، وأمسكت به، فلا تقل: لحقته، وقل: أدركته، لأن الدرك الظفر، و (أدركهما) صيغة تدل على التشديد، والحرص في اللحاق بهما.(192/11)
إبطال البيع إذا فُرَّق به بين أخوين
ثم بيّن له صلى الله عليه وسلم فقال: (ولا تبعهما إلا جميعاً) لماذا؟ لأنهما أخوان، والتفريق بين الأخ وأخيه قطيعة للرحم، والله قد أمر بأن توصل، وكلمة الأخوين تشمل الأصناف الثلاثة: الشقيق، ولأب، ولأم، فمطلق الأخوة موجود، وإذا كان الرابط بينهما أبعد من الأخوة، كالرجل وابن أخيه، والرجل وعمه، أو الغلام وعمه، فهل يدخل في هذا أم لا؟ بعض العلماء وسع وقال: كل ذي رحم لا يفرق بينهما ما دام أنه دون البلوغ، وبعضهم قال: جاء النص في دائرة الدرجة الأولى: ولد مع أبيه، أخ مع أخيه، فهذه الدائرة تُسمى: بالقرابة من الدرجة الأولى، فهذا لا يُفرق بينهما، وإن وقع التفريق بينهما ببيع أو نحوه فإنه يُفسخ البيع ويُرد، ولا يباعان إلا جميعاً.(192/12)
شرح حديث: (غلا السعر في المدينة)
قال المصنف رحمه الله: [وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (غلا السعر في المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الناس: يا رسول الله! غلا السعر، فسعر لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله هو المسعر، القابض، الباسط، الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله تعالى وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال) رواه الخمسة إلا النسائي وصححه، ابن حبان] .(192/13)
سبب الغلاء وكيفية رفعه
غلاء السعر يكون بقلة السلعة، أو كما يُقال: الطلب من العرض، فتكون هناك المزاحمة على السلع، فترتفع الأسعار، وارتفاع الأسعار إما أن يكون بقلة السلعة، أو بحرص بعض المواطنين على الجمع، وسيأتي التنويه إلى هذا المعنى، فيأتي أصحاب الأموال إلى الأسواق، ويجمعون السلع، أعطاهم الله المال، فأخذوه وخزنوه، وقلَّت السلع في السوق، فغلا السعر، سواءً أخذه لنفسه، أو أخذه محتكراً، لبيعه فيما بعد، بصرف النظر عن الحكم، فهذا هو موجب غلاء السعر.
فقالوا: (يا رسول الله! غلا سعر فسعر لنا) ضع سعراً لا يتجاوزه التجار، وهذا ما يُقال له: التسعيرة، أو التسعير، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله هو المسعر) وهل المراد أن الله سينزل أسعار السلع؟ ليس هذا هو المراد، ولكن الله تعالى هو الذي يرخص إذا أنزل البركة، وكثر الصنف، وكثرت الأسواق؛ رخصت السلع، وإذا منع المطر، ومنعت السلع وقلَّت؛ غلا السعر، فيكون المسعر حقيقة هو الله سبحانه وتعالى وقوله: (القابض الباسط) القابض: يقبض الرزق عن عباده، فتقل السلع، فيغلو السعر، والباسط: يبسط الرزق لمن يشاء، فتتوفر السلعة، ولهذا يكون دائماً وأبداً الرجوع إلى الله (القابض، الباسط) .
وقوله: (الرازق) .
وهذا صريح بأن الله الرازق إذا أوسع الرزق للعباد رخصت الأسعار، وإذا ضيق عليهم غلت الأسعار، ولذلك فعلينا أن نفتش عن أسباب تضييق الرزق وأسباب منع القطر، وأسباب محق البركة؛ ليتجنبها الناس.
إذاً: السعر بيد الله؛ لأنه القابض، الباسط، الرازق، فبالقبض يكون الغلاء، وبالبسط والرزق يكون الرخاء.
ثم رجع إلى نفسه صلى الله عليه وسلم ليعلمنا بعض الآداب فقال: (إني لأرجو أن ألقى الله) .
وكلنا سيلقى الله، ولكن ليس الرجاء على أن يلقى الله، فإن لقاء الله حتمي وبدون رجاء، ولكن على القيد الذي بعده: (أرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني ... ) أي: أرجو أن لا أكون متحملاً لأحد منكم في ذمتي حقاً، في دم، أو مال، وقوله: (أحدٌ) عام شامل، بخلاف الواحد للعدد، فقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] فيه مطلق الوحدانية لله سبحانه، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أحد) يشمل كل فرد على وجه الأرض من بني آدم، (منكم) أي: وليس لأحد منكم يا أصحاب الطلب له في ذمتي مظلمة، وكأنه يشير إلى أن التسعير إذا لم يوفق المسعر إلى الصواب، فهو ظلم لصاحب السلعة إن كان التسعير أقل من قيمتها، وظلم للمستهلك إن كان التسعير أكثر مما تستحق، وبهذا لا يسلم المسعر من مظلمة، (وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة) في ذمتي أو عندي، في أي شيء؟ (في دم ولا مال) سبحان الله! الرسول صلى الله عليه وسلم سيظلم في الدم؟! بعوضة لا يظلم فيها، لكن إياك أعني واسمعي يا جارة! وإذا كان سيد الخلق -وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر- يخشى أن يلقى الله بمظلمة في دم أو في مال فغيره من باب أولى.
والكلام هنا هو في التسعير، والتسعير مال، ولكن لما كان الموقف موقف تحذير من الظلم في المال، جاء بالدم معه؛ لأنه أهم: (وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال) أين محل المظلمة في المال؟ في التسعير؛ لأنه إما أن يكون زائداً عن القيمة فيكون ظلماً للمستهلك، أو ناقصاً عن القيمة فيكون ظلماً للمالك.(192/14)
حكم التسعير للحاجة
ومع وجود هذا الحديث النبوي الكريم، الذي أعلن فيه صلى الله عليه وسلم براءته من الظلم في موضوع التسعير، فهل يجوز التسعير إن دعت الحاجة أم لا؟ ومتى يكون ذلك؟ ومن الذي يملك ذلك؟ هذا من جانب الفقه، فبعض العلماء قالوا: لا يجوز التسعير، فالمسعر هو الله، وإذا وقع الغلاء فارجعوا إلى الله وتوبوا إليه، وأصلحوا شأنكم؛ يبسط لكم الرزق، وجاء الناس إلى عمر رضي الله تعالى عنه وقالوا: (غلا اللحم فسعره لنا، فقال: أرخصوه أنتم!) نحن نشتكي غلا السعر، واللحم عند الجزارين، ونحن أصحاب الحاجة، فتقول: أرخصوه أنتم! وهل نملكه حتى نرخصه؟! قالوا: وكيف نرخصه وليس في أيدينا؟ قال: اتركوه لهم، فكل واحد منهم ذبح عشر أو اثنتي عشرة شاة، وذاك ذبح بعيراً.
إلخ، وكلهم ينتظر إتيان الناس ليبيع، فلم يأتهم أحد، فبالأمس كانوا يقولون: الأوقية -مثلاً- بريالين، واليوم يقولون: بريال ونصف، فإذا ذهب نصف النهار قالوا: بريال وربع، فإذا أذن العصر قالوا: بريال، وسيبيعون ولو بنصف ريال، وهو أحسن لهم من أن يعفن اللحم ويرمى، فقال: أرخصوه أنتم، وكيف نرخصه ولا نملكه؟ قال: اتركوه، وماذا لو تركتم اللحم يومين أو ثلاثة أو أسبوعاً، وكلوا غيره، فإذا علِم الجزارون أنهم إذا رفعوا السعر تركه الناس، فلن يرفعوا السعر، وهكذا بقية السلع، لكن إذا كان هذا في اللحم، وقد يكون من الكماليات في الطعام، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يأكل الخل والزيت والملح ويكتفي الإنسان بالذي يكون.
لكن إذا كان الغلاء في أمر ضروري، كالدقيق، والملح، والدهن، وهذه الأشياء التي لا غنى عنها، فماذا يكون الحل؟ ينص الفقهاء على أنه إن حصل الغلاء بسبب جلب النوع من السوق إلى المستودع من قبل تاجر الجملة، ويسمى المحتكِر، فجمع السلعة من السوق وقال: الآن السلعة موجودة إبانها التمر وقت الجُذاذ الكل مليء إلى أن تمضي مدة، وكل واحد استهلك الذي عنده، ثم ذهب يبحث في السوق فلم يجد السلعة، وذلك التاجر ما زال يخزن السلعة، ولا يريد بيعها الآن، وينتظر حتى يرتفع السعر قليلاً، فهذا هو المحتكِر على ما سيأتي، ولا يحتكِر إلا مخطئ.(192/15)
أقسام المحتكر
قالوا: المحتكِر على قسمين: محتكر لا ينتظر ارتفاع السعر، ولكن ينتظر خفة الصنف من السوق، فيمُد الناس، يقول مالك في هذا: قد يكون محسناً؛ لأنه وفر السلعة، وأخرجها عند الحاجة بسعر يومها.
ومحتكِر ينتظر ارتفاع السعر ليتحكم، فحينما اشتدت بالناس الحاجة أخذ يتحكم في السعر، فما كان سعره عشرة جعله بخمسين، وليس كل الناس يستطيع أن يضاعف الثمن خمس مرات، قالوا: في هذه الحالة لولي الأمر أن يتدخل بما يحقق (لا ضرر ولا ضرار) ، إذا أبعدنا نظرية التحكم، ومع عدم وجود هذا الصنف في السوق فكم يساوي؟! يساوي كذا، فيُلزم التاجر أن يبيع بذلك السعر، وكما يقول الفقهاء: يُقدر له ربح محتمل، ويأمره أن يبيع بالسعر الفلاني، قالوا: هذا لا بأس به؛ لأن فيه مصلحة المستهلك، وفيه رفع مظلمة المحتكِر.
ويقول ابن تيمية -في هذه المسألة- وابن القيم في الطرق الحكمية: ونظير ذلك أرباب المهن الضرورية، التي يحتاج إليها الناس، ومثل بالسقائين، والخبازين، وفي الماضي كان السقَّائون يحملون الماء في آنية بين طرفي عود، ويأتون بالماء من العيون ونحوها إلى البيوت، فإذا أضرب هؤلاء فماذا تعمل العجوز في بيتها؟ وماذا يعمل الشيبة في بيته؟ وماذا تعمل المرأة المخبأة المخدرة في بيتها؟ سيضطرون إلى الخروج لجلب الماء، وهذا مناف لوضعهم الحقيقي، وليس كل إنسان يستطيع أن يحمل قربته، فيذهب ويأتي بالماء، وكذلك الخبازون إذا أضربوا فالبيوت ليست مهيأة للطحن والعجن والخبز، بناءً على أن الأفران تشتغل، والخبز ينزل إلى السوق، ويشتري الناس حاجتهم.
يقول ابن تيمية رحمه الله وابن القيم: حينئذٍ يُلزِم ولي الأمر هؤلاء بالعودة إلى العمل إجباراً، ولا يسمح لهم بالإضراب، وتعطيل مصالح الناس؛ لأن الناس ارتبطت حياتهم بذلك، وكذلك نحن الآن نقول: لو أن عمال مصلحة المياه (السقاءون) أضربوا عن العمل وتوقف تسيير المياه إلى البيوت، أو الصيانة، فعلى ولي الأمر إجبارهم على العمل؛ لأنه بتوقفهم تتوقف مصالح الناس، وكذلك الكهرباء لو أن عمال الكهرباء أضربوا، لأن الأجرة قليلة، يُقال لهم: زاولوا عملكم واطلبوا الزيادة، ولا تضربوا فتعطلوا مصالح الناس.(192/16)
لولي الأمر أن يسعر إذا دعت الحاجة
وهكذا بيّن صلى الله عليه وسلم أنه يرجو أن يلقى الله وليس في ذمته مظلمة لأحد، فإذا وقعت الحاجة واضطر الناس، فهل يقول ولي الأمر: أرجو ألا ألقى الله وفي ذمتي مظلمة لأحد، أو يتدخل بما يرفع الضرر عن الطرفين (لا ضرر ولا ضرار) فيأتي بأرباب الخبرة لتقدير سعر شراء تلك السلعة، وكم يعطى للتاجر من أرباح عليها، فيقدر أرباب الخبرة الأسعار، ويلزم ولي الأمر التاجر بذلك السعر، فيكون حداً فاصلاً بين المالك والمستهلك.
وكان في السابق إذا أردت أن تأخذ شيئاً من الدكان، فتجده -مثلاً- في هذا الدكان بخمسة، وفي الدكان المقابل بعشرة، فلا يوجد ضابط للسعر في السلعة، وهذا أكثر ما يكون في الصيدليات، فتتفاوت الأثمان بكثرة، والناس لا يعرفون قيمة الدواء، ولا بكم تكلفته، والمريض مضطر إلى أن يشتري، أما الأشياء المتداولة يومياً، من سكر، وشاي وصابون، ولوازم، فهذه أسعارها متداولة عند الناس، أما الأدوية فمجهولة، فلما وقع مثل هذا قام المسئولون ووضعوا على كل دواء سعره؛ لئلا يُخدع الجاهل بالأسعار، ولا يغتنم البائع جهل المشتري فيتحكم كيفما شاء.
إذاً: هناك أشياء اتفق على تسعيرها للجهالة بحقيقتها عند عامة الناس، والله تعالى أعلم.(192/17)
شرح حديث: (لا يحتكر إلا خاطئ)
قال المصنف رحمه الله: [وعن معمر بن عبد الله رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحتكر إلا خاطئ) رواه مسلم] .(192/18)
الاحتكار: معناه، وحكمه
الاحتكار: هو جمع السلعة أياً كانت، سواء كانت من المطعومات، أو الملبوسات، أو أدوات منزلية، أو أي نوع من الأنواع، جمعه واحتكره لنفسه وسكت عليه، والخاطئ: اللغة فيها خاطئ ومخطئ، والمخطئ ضد العامد، وهو الذي يرتكب الشيء خطأً دون ما قصد إليه ولا عمد (رفع لأمتي الخطأ والنسيان) ، أما الخاطئ فهو الذي يتعمد الذنب (لا يحتكر إلا خاطئ) أي: مذنب آثم، بخلاف المخطئ الذي يقع في الفعل دون ما قصد منه.
وقد أشرنا إلى أن الاحتكار قسمان: احتكار لنفسه، وهذا لا يسمى محتكراً، بل يسمى خازن خزن لنفسه، ويجوز للإنسان أن يخزن لنفسه ما يكفي بيته سنة، ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك من سهمه من خيبر ومن غيرها، فإذا جمع الإنسان لنفسه في بيته فلا شيء في ذلك؛ لأنه لا يريد غنيمة على حساب الآخرين، إذا لم يكن لنفسه وكان للسوق، فإما أن يقصد بهذا الاحتكار تواجد الصنف، وارتفاع السعر أمر طبيعي يتحكم فيه السوق، وحينما يقل الصنف قدمه دونما تحكم، فهذا أيضاً ليس بخاطئ، ولكن المحتكر الخاطئ الذي يتعمد جمع الصنف ويرى بالناس حاجة فلا يبرزه، إمعاناً في حاجتهم، وطلباً في زيادة السعر، فهذا هو الخاطئ، وهذا هو الذي من حق الحاكم أن يتدخل في أمره.(192/19)
كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [10]
لقد أقام الإسلام العدل بكل صوره، ونهى عن الظلم بكل صوره، ولذلك فقد نهى الشارع الحكيم عن بعض المعاملات والبيوع التي فيها ظلم وغش للمشتري، ومن ذلك: النهي عن تصرية الماشية وبيعها، ومن اشترى مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام، وذلك حتى تعود الماشية إلى إنتاجها الطبيعي، فإن ردها رد معها صاعاً من طعام، وكذلك نهى الإسلام عن الغش بكل صوره، وأوجب النصح في البيع مع كل الناس مسلمهم وكافرهم، ونهى عن بيع العنب وغيره لمن يتخذه خمراً، فإن في ذلك مشاركة له في الإثم والعدوان المنهي عنه.(193/1)
شرح حديث: (لا تصروا الإبل والغنم)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها وصاعاً من تمر) متفق عليه.
ولـ مسلم: (فهو بالخيار ثلاثة أيام) .
وفي رواية له علقها البخاري: (ورد معها صاعاً من طعام، لا سمراء) .
قال البخاري: (والتمر أكثر) .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (من اشترى شاة محفلة فردها فليرد معها صاعاً) رواه البخاري، وزاد الإسماعيلي: (من تمر) ] .
هذا موضوع جديد، يدخل في النهي عن الغش والتدليس، وكل ما كان فيه غش أو تدليس ونحوه فإن هذا الحديث أصل في النهي عنه، مع ما سيأتي في قصة صاحب الصبرة: (من غش فليس مني) .
والتدليس: هو أن تُري السلعة في ظاهرها أحسن منها في باطنها، وسبحان الله! فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم زاول كل عمل من أعمال الناس، فعرف ما فيه من حق وباطل.
فقوله: (لا تُصَروا) أو (لا تُصِروا الإبل والغنم) لماذا لم يذكر البقر؟ لأن البقر كانت قليلة في الحجاز، وبما أنه جاء بأعلى شيء وبأدنى شيء فما بينهما يأخذ حكمهما.(193/2)
معنى التصرية وحكمها
والتصرية: هي أن تضع شيئاً في خرقة كبيرة وتلفها وتربطها عليه، فهذه الخرقة تسمى صرة، وكذلك الكيس الذي تضع فيه شيئاً يسمى صرة، والماشية تصرى بأن يجمع حليبها في صرتها، والصرة عند الناقة والشاة هي الضرع، وجمع حليب الماشية في صرتها هو: التحفيل، ومنه المحفل والحافل، والحافلة، وهي السيارة الكبيرة التي يجتمع فيها العدد الكثير.
والتصرية: هي جمع الحليب في الضرع عند إرادة بيع الماشية، والعادة أن الناقة -مثلاً- والشاة تحلبان مساءً وصباحاً، فإذا أراد صاحبها أن يبيعها من الغد تركها في الليل ولم يحلبها، وكذلك في الصباح أيضاً، فيذهب بها إلى السوق وهي صارة؛ لأنه حبس وجبتين في ضرعها، ولأي شيء يفعل ذلك؟ يفعل ذلك إيهاماً للمشتري بأنها تنتج اللبن بكثرة.
والضرع إذا صُري يصير مشحطاً، وهذا فيه مضرة على الدابة، والدابة إذا صُريت احمرت عيناها، وانتفخت الأوردة التي تحت البطن المرتبطة بالضرع، وربما ماتت لذلك، فإذا كانت التصرية لوقت قليل فإنها تسلم، وإذا كانت لوقت طويل فإنها تضرها، وقد يتفلت الحليب ويتقاطر ولا تقوى الحلمات على حبسه.
وقد نهى صلى الله عليه وسلم أن تصرى الإبل والغنم لئلا يحدث الغش، فقد يأتي إنسان ويرى الحليب كثيراً، فيظن أنها قوية الإنتاج، وليست كذلك، ولكن التصرية هي التي جعلتها كذلك، فيكون قد غر المشتري، ودلس عليه، وأوهمه أن هذه طبيعتها، ولكن الناس قد تعلموا، وعرفوا المصراة من غير المصراة، وأصبحت -كما يقال- لعبة معروفة، وما بقي إلا تعذيب الحيوان، والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن التصرية بصفة عامة؛ لئلا يعذب الحيوان بذلك، فإذا بيعت بالتصرية فيكون تدليساً.(193/3)
الخيار في المصراة إلى ثلاثة أيام والعلة من ذلك
وماذا يفعل الإنسان إذا خدع واشترى ماشية مصراة؟ هو بالخيار لمدة ثلاثة أيام، ولماذا ثلاثة أيام؟ لأن الماشية مصراة، فإذا حبلها أول مرة فسيحلب الحليب المتجمع منذ يومين، ولأن العادة أن التي صريت وحلبت وأخذ كل ما فيها، لا تأتي بكمية الحليب المعتاد يومياً من اليوم الثاني مباشرة؛ لأن خزن الحليب في الضرع أثّر على غدد الحليب، فيكون هناك رد فعل، فإذا كانت في الأيام العادية تنتج ثلاثة كيلو من الحليب، ولما صريت أنتجت ثمانية كيلو، فمن الغد لا تنتج إلا اثنين كيلو، ولا ترجع إلى طبيعتها -لأنها واقعة تحت تأثير التصرية- إلا في اليوم الثالث.
ومن هنا جعل النبي صلى الله عليه وسلم الخيار ثلاثة أيام، فاليوم الأول: لوجود التصرية، والتدليس، واليوم الثاني: لا نعوّل عليه؛ لأنها متأثرة برد الفعل، واليوم الثالث ترجع فيه إلى طبيعتها وعادتها، وتأتي بالحليب المعتاد إنتاجه يومياً.
فإن رضيها في اليوم الثالث فالحمد لله، ويمضي البيع الأول؛ لأنه قد علم أنها مصراة، وعلم إنتاجها الطبيعي وكميته، فقبل ذلك، فلا شيء في ذلك.
ولكن إذا حلبها وجربها في اليوم الثاني وفي اليوم الثالث فلم يعجبه إنتاجها، فهو بالخيار إن شاء أمسكها على ما وجدها عليه، وإن شاء ردها إلى صاحبها، ورد معها صاعاً من تمر، أو صاعاً من طعام.(193/4)
خلاف الفقهاء في موجب الصاع المردود مع المصراة
واختلف الفقهاء في هذا الصاع، لماذا يُعطى، ومقابل ماذا؟ فقيل: مقابل الحليب الذي أخذه، ولكن كم أخذ من الحليب؟ فإن الصاع معلوم، وكمية الحليب مجهولة، فدخل القياس ودخل التقدير، وخاض الناس في أشياء كثيرة، وقيل: إذا كان الصاع قيمة للحليب، فهذا طعام بطعام، فكيف نبيع معجلاً بمؤجل؟ وكيف نقدره؟ فالصاع معلوم، والحليب غير معلوم.
وإذا قيل: هذا من باب المجاملة، وكيف تكون مجاملة وقد أخذ الحليب، ورد الماشية على صاحبها؟ ومن هنا قال بعض العلماء: إما أن يقبلها، وإما أن يردها من غير صاع؛ لأن ردها مع الصاع مخالف لقواعد البيع.
ولكن نقول: هذه صورة مستقلة من صور البيوع، ولها حكم مستقل، فإذا رددنا النصوص من أجل مغايرة صورة من الصور -هي بذاتها مستقلة- فسنبطل أشياء كثيرة، ولهذا فإن الذين منعوا الصاع في هذه منعوا القسامة في الدم، وقالوا: أساس القضاء أن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر، وهؤلاء ادّعوا الدم، وحلفوا قبل المدعى عليهم، فكيف يدّعي ويحلف؟! فعليهم البينة، لا أنهم يدّعون ويحلفون.
وقد قيل لهم: هذا تشريع مستقل، وقيل أيضاً: إنه يتمشى مع قوانين القضاء السليمة؛ لأن اليمين جعلت في الجانب الأقوى، والبينة فيمن كان موقفه ضعيفاً، فإذا جئنا إلى المدعي والمدّعى عليه -في ألف ريال مثلاً- فادعيت عليه بألف ريال، فما هو الأصل بينكما؟ الأصل هو عدم وجود الألف، إذاً: المدّعى عليه معه البراءة الأصلية، وأنت ادعيت عليه بخلاف ذلك، فموقفه أقوى؛ لأن معه البراءة الأصلية، وموقفك أضعف؛ لأنك تريد أن تنقله من براءته إلى اتهامه، فعليك بالبينة.
وإذا جئنا إلى القسامة، فإن مدعي الدم جانبه أقوى؛ لأن القسامة لا تكون إلا مع اللوث والتهم القوية، فوجود التهمة في القتل؛ لوجود القتيل في محلة المدعى عليهم، ووجود العداوة السابقة، ووجود الوعيد، ونحو ذلك، فهناك قرائن اجتمعت بجانب المدعين، فيكون جانبهم أقوى، فيكون اليمين مع الأقوى، والذين ينفون عن أنفسهم القتل جانبهم ضعيف؛ لأن في بطنهم شيئاً، وكذلك هنا، يقال: هذه صورة بيع مستقلة، لا تقاس على غيرها، فإذا قستم كان قياساً فاسد الاعتبار؛ لمخالفته للنص الصحيح.
وخلاصة موضوع المصراة: أنه إذا اشتراها الإنسان ومكثت عنده ثلاثة أيام، فإن رضيها على ما استقرت عليه فذاك، وإن ردها، وسخط حليبها، فيرد معها صاعاً من تمر ومن طعام، إلا السمراء، وهي البر الشامي، فالتمر يكون مما تيسر ومما وجد، وسواء كانت المردودة شاة، أو ناقة، أو بقرة، أو غير ذلك، والله تعالى أعلم.(193/5)
شرح حديث: (من غش فليس مني)
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبرة من طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللاً، فقال: ما هذا يا صاحبَ الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله! قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس! من غشَّ فليس مني) رواه مسلم] .
هذه جولة في الأسواق منه صلوات الله وسلامه عليه، فإنه إن كان في القتال كان في مقدمة الصفوف، وإن كان في الصدقة كان كالريح المرسلة، وإن كان في العبادات قام حتى تفطرت قدماه، وإن كان في الاجتماعيات فكذلك، فما ترك صغيرة ولا كبيرة صلوات الله وسلامه عليه إلا ودلنا على خيرها، وحذرنا من شرها، وكان أول من يعمل بذلك.
فخرج إلى السوق ليرى أحوال الناس؛ لأنه مسئول عن ذلك، وقد اتخذها الخلفاء سنة، وعمر رضي الله تعالى عنه كان يأتي إلى السوق ويختبر الباعة، فمن وجده جاهلاً بأحكام البيع، والربويات، والمكاييل، والموازين، أقامه من السوق وقال: (لا تفسد علينا سوقنا، ولا تحرمنا نزول القطر من السماء) .(193/6)
بيع الطعام أكواماً
وها هو صلوات الله وسلامه عليه يمر في السوق بصبرة، والصبرة: الكومة من الطعام، والحب تارة يوضع في الأكياس، وتارة يوضع في الجفف، وتارة يُصبّر أكواماً، وخاصة عند أيام الجرين، يكثر في السوق، ويكون أكواماً، فيأتي المشتري ويشتري بالصبرة، أو بالكيل، وأحكام هذا موجودة في البيوع، فيجوز شراء الصبرة على ما يراها بعينه، ما لم تكن الصبرة قد وضعت على أرض ناتئة، أو كانت تحتها صخرة كبيرة، أو كانت الأرض منخفضة.
ويجوز بيع الصبرة وشراؤها إذا كانت على أرض مسطحة، وكانت القاعدة مستوية، لا مرتفعة فتأخذ حيزاً من الحب، ولا منخفضة فتأخذ حباً أكثر.(193/7)
الوعيد الشديد لمن غش في بيعه وشرائه
فأدخل صلى الله عليه وسلم يده في الصبرة، فهي مفتوحة لكن يسوى لها قفة، فلما أدخل يده أصابت بللاً، وكان البلل من نفس الصبرة، فقال: (ما هذا يا صاحب الطعام) بعض الناس قد يرش الحنطة، أو الشعير، أو الذرة، فإذا تشربت الماء ثقلت وكبرت، وزهت، ولمعت، وفي هذا غش، فالرجل اعتذر، وقال: (أصابته السماء يا رسول الله!) أي: ماء السماء، وحذف ما يعلم جائز، فكأنه قال: أنا لم أغش، ولم أعمل شيئاً، ولكن الله أرسل الماء من السماء فنزل عليها، وهل هذا ينفعه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وإذا كانت أصابتها السماء، فكيف أصابت السماء الأدنى دون الأعلى؟! وقد يقال: جاءت الشمس والرياح على الأعلى وجففته، فالناظر يرى حباً يابساً جافاً ليس فيه رطوبة ولا ماء، فما دام أن السماء أصابته، وأنت لا ذنب لك في هذا الماء، فلماذا لم تجعل بلل الداخل ظاهراً حتى يراه الناس؟ ولماذا تركت الجانب الخارجي اليابس ظاهراً، فيراه الناس فيظنونه جيداً من الداخل؟! ولذلك قال له: (من غش فليس مني) (من غشنا فليس منا) .
إذاً: التدليس والغش في السلعة فيه هذا الوعيد.
والناس يكثرون الكلام في قوله: (ليس منا) ، وهل المراد: أنه خرج عن الإسلام وصار كافراً؟ أو ما معنى: (فليس منا) ؟ منا: تكون لجماعة الأتقياء، الأبرار، المتقين، المحسنين، الأمناء، وليس معنى ذلك: أنه يخرج عن مجموع جماعة المسلمين، ولكنه وعيد شديد، وبعض العلماء فيقول: مثل هذا النص لا يفسر، ولا يشرح، ويترك على إجماله؛ لأنه كالسوط المعلق، فمن رآه أرهبه، وهذا من أشد الوعيد فيما يتعلق بالغش.(193/8)
وجوب النصح وحرمة الكتمان
وهذا يعطينا أيضاً أن الشخص إذا وقع على سلعة فيها شيء وسكت عليه، فحكمه كفاعله.
وسامع الذم شريك لقائله ومطعم المأكول شريك الآكل ولماذا تسكت عليه وقد عرفت أن فيه غشاً؟! إذاً: الغش منك هنا أنك أخفيته، وسكت عنه، فلا ينبغي لإنسان أن يخفي عيباً، سواء كان العيب منه أو من غيره، فإذا ما أخفاه واطلع عليه المشتري -وكان له حظ من الثمن- فله الخيار إن شاء رد السلعة وأخذ الثمن، وإن شاء أخذ أرش النقص بسبب العيب.(193/9)
الغش في الأِشِياء الخفية أشد إثماً
إن بلل الطعام مع الطعام واضح كالشمس، لكن هناك أشياء قد لا يدركها الإنسان، وكما يقولون: إن هناك سلعاً كاللؤلؤ الصناعي، فقد أصبح الآن يخفى على صانعه أنه صناعي أم أصلي؛ لدقة ما توصلوا إليه من المحاكاة، فإذا كانت هناك أنواع من الخرز، أو أنواع من الأقمشة، أن أنواع من الزيوت، أو أنواع من الدهون، أو أنواع من الحبوب، ونحوها ويخفى على الشخص العادي أن يفرق بينها، كالدهون فإنه يشاكل بعضها بعضاً، والعسل قد يدخل فيه بعض العناصر الأخرى، وما كل الناس يفرق بينها، والزيوت كذلك.
إذاً: هذا الحديث في أمر لا يحتاج إلى دراسة ولا إلى فراسة، ولا إلى معرفة كبيرة حب يابس، وحب مبلل، لا يخفى على أحد، أما الأشياء الخفية فإن الجرم فيها أكثر؛ لأن الشخص لو أخذ هذا على أنه مبلل، وأن السماء أصابته، فإنه يرى ذلك، أما إذا أخذ شيئاً وقد خُلط بغيره على سبيل الغش والتدليس وخفي عليه ذلك، فإن هذا جرم عظيم.
فالرسول صلى الله عليه وسلم مضى في الأسواق، ورأى، ونصح، وعمر كذلك كان يأتي إلى الأسواق كما أشرنا، بل كان يعس ليلاً في أزقة المدينة يستطلع أحوال الناس، وكما يذكرون: أنه سمع امرأة تقول لابنتها: قومي إلى الحليب فامزجيه بالماء، فقالت لها ابنتها: أما سمعت نداء عمر بمنع مزج الحليب بالماء؟ قالت: وأين عمر منك الساعة؟! قالت: ما كنت لأطيعه حاضراً وأعصيه غائباً.
فقال عمر لمن معه: اعرف هذا البيت، ثم من الغد سأل عمن فيه، وأعجب بديانة وأمانة الفتاة، وخطبها لولده، فكانت جدة عمر بن عبد العزيز، وهكذا كان السلف في أمانتهم، وفي انضباطهم وطاعتهم لله ولمن ولاه الله عليهم.
ونظير ذلك تلك المرأة التي كانت تطوف بالبيت وهي مريضة بالجذام -عافانا الله وإياكم- والجذام ينفر منه الناس ويتقززون منه، ويتباعدون عنه، فجاء عمر بجانبها وهمس إليها: يا أمة الله! لو خرجت من المطاف ولزمت بيتك كان خيراً لك، فلم تكمل الشوط وخرجت مباشرة، ومكثت في بيتها إلى أن توفي عمر، فأتاها آتٍ فقال لها: يا أمة الله! اخرجي، فقالت: لماذا؟ قال: إن الذي كان قد نهاك قد مات، فقالت كلمتها العظيمة: ما كنت لأطيعه حياً وأعصيه ميتاً، فرب العزة حي لا يموت.
والذي يهمنا هنا ما يتعلق بالغش الذي لا يظهر لكل الناس، ومن النوادر التي سمعتها من والدنا الشيخ الأمين: أن بعض شيوخه كان في القاهرة، وكان يأتيهم اللبان في كل يوم بلتر من الحليب، وكان الشيخ ينبهه إلى خطورة الغش في اللبن بوضع الماء فيه، وكان اللبان يقول: نعم، الغش حرام، وأنا لا أغش، وكان الشيخ يأخذ الحليب، فيجيء الخادم ويجهزه له، وفي يوم من الأيام جاء اللبان والخادم غير موجود، فقال الشيخ للبان: اترك الحليب هنا وهات الماء من تلك الثلاجة، فذهب وأتى بالماء من الثلاجة، فقال له الشيخ: ضع الماء على الحليب، فقال: كيف أفعل ذلك وأنت كل يوم تقول لي: لا تضع الماء على الحليب وأن هذا غش؟! وكيف تريد مني أن أفعل ذلك عندك؟! فقال الشيخ: هذا حقي أنا، فقال اللبان: وذلك الحليب حقي أيضاً، فكما أنك تضع الماء إلى حليبك، فسأضع الماء في حليبي أيضاً! فقال الشيخ: أنا أشربه ولا أبيعه، أما أنت فإنك تبيع الحليب، فإن وضعت فيه الماء فإن هذا غش؛ لأنك بهذا تكون قد بعت لبناً وماءً، أما أنا فأريد أن أشرب لنفسي ولا أبيع، فقال له: أبداً يا شيخ! من الآن سأضع الماء في الحليب.
يهمنا أن هناك بعض السلع لا يكاد الإنسان يدرك أن فيها غشاً، فيكون الذنب على صاحبها أشد؛ لأنه غرر وغش وتدليس، بخلاف ما إذا كان الشيء معروفاً للناس، وقبله المشتري، أو رغب فيه، أو رضي بحاله.(193/10)
النهي عن الغش عام في كل شيء
ثم إن هذه القاعدة العامة: (من غش) على عمومها تشمل كل غش، ولو كان في التراب، أو غش في الإسمنت، بأن كانت المادة الحديدية فيه ناقصة، أو كانت نسبة الأسمنت على الرمل ناقصة، وكذلك تمديد الحديد، فلو كان ناقصاً عن المتفق عليه لكان غشاً.
فالنهي عن الغش مطلق في أي سلعة، قليلاً كان أو كثيراً، وهي من القواعد العامة، ويدخل فيها الغش في الدراسة؛ فالأستاذ يعتبر غاشاً للطلاب إذا لم يبين لهم كل شيء، ولم يجتهد في إيضاح المشكل عليهم، وكذلك مدير الدائرة ورئيسها إذا لم يؤد الواجب عليه للمواطن فإن هذا من الغش، فإذا أنقص إنساناً حقاً يستحقه -ولو كان بمقدار رسم- فإن هذا غش.
إذاً: (من غش) ما تركت مجالاً من مجالات الحياة إلا وامتدت إليه، وهذا من جوامع الكلم الذي أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم.(193/11)
النهي عن الغش عام للمسلمين وغيرهم
وجاء الحديث بلفظ: (من غشنا) وهذا اللفظ قاصر على المسلمين، لكن رواية: (من غش) عامة تشمل المسلم وغير المسلم؛ لأن في قصر هذا الحكم على المسلمين اتهاماً للإسلام، وتقبيحاً للإسلام في أعين غير المسلمين، فإذا وجد اليهودي أو النصراني أن المسلم يغشه فماذا سيقول عن الإسلام؟! ولكن حينما يرى العدل والحق يطبق على المسلم وعلى غير المسلم، يعرف أن الإسلام هو الدين الحقيقي.
وقد ذكرنا قصة علي مع اليهودي، في الدرع الذي سقط من علي وأخذه اليهودي، فقال له علي: هذا درعي.
فقال: بل هو حقي وهو في يدي، فقال: نحتكم إلى القاضي.
فذهب علي باليهودي إلى القاضي شريح،.
فقال: ما قضيتكما؟ قال علي: هذا درعي في يد اليهودي، فقال القاضي: ما تقول يا يهودي؟ قال: بل هو درعي وفي يدي، فقال القاضي: ألك بينة يا علي؟ قال: نعم، قنبر والحسن بن علي، فقال: أما قنبر فغلامك وعتيق فنعم، وأما الحسن فابنك، فلا نقبل شهادته لك، قال: أما تخشى الله؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة) ، وأنت ترد شهادته! قال: والله ما رددت شهادته، وإني لأعلم أنه وأخاه سيدا شباب أهل الجنة، ولكن ولدك لا يشهد لك؛ لأن الشرع جعل ذلك موضع اتهام، فهل عندك شاهد آخر؟ فقال: لا، فقال القاضي: اذهب يا يهودي! بالدرع، فخرجا، حتى إذا كانا عند الباب وقف اليهودي مبهوتاً، وقال: يا علي! أهكذا القضاء عندكم؟! قاضيك الذي نصبته أنت يطالبك بالبينة على يهودي! ويرفض شهادة سيد شباب أهل الجنة؛ لأنها شهادة رجل لأبيه؟! قال: نعم، هذه عدالة الإسلام، فقال: أشهد أنه الدين الحق، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والدرع لك، فإنه سقط عن راحلتك فأخذته، وقد أنكرتك لأنظر ماذا ستفعل بي وأنت الخليفة، وماذا سيحكم القاضي وهو من وليت، أما والأمر كذلك فإن هذا درعك، فما كان من علي رضي الله تعالى عنه إلا أن قال: هو لك، ومعه مائتا درهم.
لأنه أظهر صدق علي، وإلا لكان علي قد ادّعى دعوى غير ثابتة.
والذي يهمنا أن قوله: (من غش) على عمومه، فتشمل حتى الكافر، أما إذا كان حربياً، فإن دم الحربي مباح، أما الذمي المعاهد المقيم فله حق الإقامة، فهو معصوم الدم والمال، ولا يجوز الاعتداء عليه؛ لأن ولي الأمر أعطاه أمان الإقامة، فلا ينبغي لإنسان أن يغشه، ولا يجوز أن يتعامل معه تعاملاً ربوياً.(193/12)
شرح حديث النهي عن تلقي الجلب
قال المصنف رحمه الله: وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تلقوا الجلب، فمن تلقي فاشتري منه، فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار) رواه مسلم] .
هذا تابع لما قبله، وفيه زيادة: بأن من تلقي الجالب واشترى منه، ثم جاء الجالب إلى السوق، ورأى أنه غبن فهو بالخيار، فله الخيار في إمضاء البيع، وله الخيار في فسخه ورد الثمن.(193/13)
النهي عن حبس العنب وبيعه لمن يتخذه خمراً
قال المصنف رحمه الله: [وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حبس العنب أيام القطاف حتى يبيعه ممن يتخذه خمراً فقد تقحم النار على بصيرة) رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن] .
النظر في الأسباب والمسببات، والغاية والوسيلة أمر مهم في إيقاع الحكم، والقاعدة تقول: الوسيلة تأخذ حكم الغاية، فإذا كانت الغاية واجبة فوسيلتها واجبة، على القاعدة الأصولية: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) .
فمن أخر بيع العنب -العنب نضج والناس تبيعه في السوق- فأمسكه حتى يزيد في النضج، ثم يبيعه لزبائن مخصوصين، يطلبون زيادة النضج ليتخذوا منه خمراً، والخمر من هذا النوع يكون أسرع وأقوى منه في العنب الفج الجديد.
وبعض الطيور تخمر العنب على الشجرة، خاصة النّعر، وأهل البساتين يعرفون هذا، فيأتي إلى الحبة الكبيرة التي ليست في مواجهة الشمس فينقرها من أعلاها -من جهة العنقود- نقراً صغيراً، قد يكون سمكه ملي ونص أو اثنين ملي، ويأخذ منها قطرة أو قطرتين، ثم يذهب إلى الطين ويأخذ طيناً ويسد هذه الفتحة، ولما دخل الهواء إلى العنبة أغلقها عن الهواء مرة أخرى، والهواء الذي دخل فيها يتفاعل مع مائها حتى تتخمر، وينتظرها أياماً معروفة عنده، ثم يأتي -يقول بعض الإخوان: إن ذلك يكون غالباً في العصر- فيسحب الطين عنها، ثم يشرب ما فيها وقد تخمرت، ثم ترى هذا الطير يغرد ويغني في محله هناك! فتأخير العنب إلى آخر وقته يساعد على قوة الخمرية.
والحديث عام، فمن باع العنب في أول ظهوره، أو البسر في أول ظهوره، أو المشمش، أو الخوخ، أو البصل، أو أي نوع من الأنواع التي تتخذ منها الخمور -وهو يعلم أن المشتري يشتريها لذلك- فهو متقحم باباً من النار على بينة؛ لأنه تعاون معه على الإثم والعدوان.(193/14)
ولا تعاونوا على الإثم والعدوان
ويبني الفقهاء على هذا الحديث: أن كل من تعاون مع صاحب إثم على إثمه فهو مشارك له في الإثم، وهذا واضح فيمن أخّر العنب ليبيعه على من يعتصره خمراً، ومنثله من أجّر بيتاً لمن يتخذه مصنعاً للخمر، أو لمن يجعله محلاً لبيع الخمر، أو لمن يبيع الأقداح والكؤوس التي يصب فيها الخمر، أو يبيع اللوز والجوز لهذا الذي يبيع الخمر؛ لأن الزبائن يستعملونه وقت شرب الخمر، فكل هؤلاء متقحمون باباً من النار.(193/15)
النهي عن محاكاة أهل المنكر في منكرهم ولو بالحلال
وينص الحنابلة: على أنه لو أتينا بالحليب أو الشاي -علماً بأن الشاي لم يكن معروفاً في زمانهم- أو بأي شراب حلال، وشربناه في أوانٍ وكؤوس العادة أنه يشرب فيها أرباب الخمر خمراً -على هيئة شراب الخمر ولو كنا قد صفينا هذه الأواني- فإن في ذلك إثماً؛ لما في ذلك من مشابهة ومشاكلة لأصحاب الخمر، ومثل ذلك ما يقع في بعض المناسبات: فتجد الناس يتبادلون كؤوس الشاي ويقولون: (نخب فلان) ، وهذه عبارة لأصحاب الشراب المحرم، فأي هيئة تحكي هيئة شراب محرم أو استعمال محرم فهي حرام.
إذاً: كل من تعاون على إثم فهو آثم، وخاصة حينما يعظم الإثم، كهذا الذي يؤخر بيع العنب ليبيعه على من يعتصره خمراً، وقد جاء في الحديث: (لعن الله في الخمر عشرة: شاربها، وحاملها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها إلى شاربها، وبائعها ... ) ، فكل هؤلاء مشاركون في هذا الإثم العظيم، وكذلك لُعن جماعة بسبب التعاون على أكل الربا.
إذاً: العنب عبارة عن مثال، وكونه يؤخر فهذه صورة الواقع، وكذلك لو باعه في بادئ الأمر لمن يتخذه خمراً فإنه داخل في هذا الحكم، ويشمله هذا الوعيد الشديد.(193/16)
كتاب البيوع - باب شروطه وما نهي عنه [11]
إن من عظمة هذا الدين اشتماله على القواعد العامة التي تدخل فيها جزئيات لا حصر لها، وإن تغير الزمان والمكان ومن ذلك قاعدة: الخراج بالضمان، وهي قاعدة كفيلة بحل كثير من مشاكل البيوع.
كما أجاز الشارع للوكيل أن يتصرف في ملك موكله بما أذن له فيه الموكل، فإن تصرف فيما لم يؤذن له فيه -في مصلحة موكله- فإن ذلك متوقف على إجازة المالك ومنعه.
ومن حكمة الشارع أنه لم يجعل حداً معيناً للربح، ولكن لا يجوز استغلال الجهلة بالأسعار وغبنهم، ومن غبن غبناً فاحشاً فله حق فسخ العقد أو استعادة الغبن.
وكل بيع فيه جهالة وغرر فإنه لا يجوز، ولذلك لا يجوز شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع، ولا ما في ضروعها، ولا يجوز شراء العبد الآبق، ولا المغانم حتى تقسم وتستلم، ولا الصدقات حتى تقبض، ولا ضربة الغائص، وكذلك كل ما كانت فيه جهالة أو لا يستطاع تسليمه.(194/1)
شرح حديث: (الخراج بالضمان)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الخراج بالضمان) رواه الخمسة، وضعفه البخاري وأبو داود، وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان والحاكم وابن القطان] .
هذا الحديث قاعدة من القواعد الفقهية، ومن الصعب على طلبة العلم التفريق بين القاعدة الأصولية والقاعدة الفقهية.
فمن القواعد الفقهية: (المشقة تجلب التيسير) ، (لا ضرر ولا ضرار) ، (الخراج بالضمان) ، فهذه قواعد فقهية.
أما الأصولية فمثل: (الأمر للوجوب) ، (النهي للتحريم) ، (العام يحمل على الخاص) ، (المطلق يحمل على المقيد) ، فهذه أصولية في طريقها، وتلك فقهية في طريقها.(194/2)
الخراج بالضمان قاعدة عامة في البيع والشراء
فقوله: (الخراج بالضمان) قاعدة تحل عامة مشاكل البيع والشراء، والخراج: هو الكسب والربح؛ كأن يكون عند إنسان: عبيد وخيول وأرض، فيحصّل من وراء ذلك فوائد، فالعبيد تشتغل وتأتي له بالخراج، والخيل تعمل وتأتي له بخراج، والأرض تزرع وتنبت وتأتي له هذا بخراج.
فالخراج: هو الفائدة التي تعود على المالك من ملكه.
والضمان: هو ضمان المتلف.
فإذا أخذت عارية -والعارية مضمونة- وتلفت عندك فإنك تضمنها، وإذا اعتدى ولدك أو بهيمتك أو أنت على شيء لغيرك فإنك تضمنه.
فالضمان: هو تعويض عما أتلفه الإنسان، إذاً: الخراج ضد الضمان، فإنك في الضمان تدفع، وفي الخراج تأخذ.
فـ عائشة رضي الله تعالى عنها تقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الخراج بالضمان) ، وتطبيق ذلك في أكثر صور المبيع عند النزاع.
فمثلاً: إنسان اشترى سيارة على أنها خالية من العيوب، وهو لا يدري عن السيارات ودقائقها، ومكثت عنده أسبوعاً أو أسبوعين، ويذهب بها من عمله إلى البيت، فركب معه مهندس، فقال: السيارة فيها خلل، فعرف العيب بعد عشرة أيام، وهذا العيب الذي اطلع عليه مؤخراً لو علم به وقت الشراء لما اشتراها، أو قد يشتريها ولكن ينقص من الثمن بقدر النقص بهذا العيب، فله أن يردها، ويسمى: الرد بالعيب، أو خيار العيب، وإذا اختلف مع البائع بأن قال البائع: هذا العيب حصل عندك أنت وليس عندي أنا، فيقدر ذلك أرباب الخبرة، فينظرون هل هذا العيب جديد أم قديم، فإن حكموا بأن العيب قديم، فعند ذلك يكون البائع قد دلس وغش المشتري، فيحكم برد السيارة، فإن قال البائع: السيارة بعشرة آلاف وهي عنده منذ عشرة أيام، ويذهب بها كل يوم إلى العمل، فأجرة السيارة في اليوم مائة ريال، فأخصم لي أجرة السيارة من قيمتها التي هي عندي، ثم أرد له الباقي، فيقال له: لا، الخراج بالضمان، ما معنى الخراج بالضمان هنا؟ استعماله السيارة المدة التي كانت عنده فائدة عادت عليه، فهي خراج، وقد يكون استعملها للأجرة فحصل على خراج من وارئها مدة وجودها عنده، من يوم العقد إلى اكتشاف العيب، ولو تلفت أو حدث فيها عيب جديد، فإنه على حساب المشتري التي هي في يده.
إذاً: ما دام أنه يضمن نقصها فيستحق خراجها، وهكذا الخراج بالضمان، فما استفاده لا يحق للبائع أن يطالب فيه؛ لأنها كانت في ضمانه، فلو تلفت لتحمل ضمانها، وبالله تعالى التوفيق.(194/3)
شرح حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عروة البارقي ديناراً ليشتري شاة فاشترى شاتين
قال المصنف رحمه الله: [وعن عروة البارقي رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً ليشتري به أضحية، أو شاة، فاشترى به شاتين، فباع إحداهما بدينار، فأتاه بشاة ودينار، فدعا له بالبركة في بيعه، فكان لو اشترى تراباً لربح فيه) رواه الخمسة إلا النسائي، وقد أخرجه البخاري في ضمن حديث، ولم يسق لفظه، وأورد الترمذي له شاهداً من حديث حكيم بن حزام] .(194/4)
أصل عملة الدينار ومقداره
يسوق لنا المؤلف رحمه الله تعالى عن البارقي رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً، والدينار: عملة ذهبية، والدينار والمثقال شيء واحد، وهو من حيث الوزن يزن مثقالاً، ومن حيث العملة يعتبر ديناراً، والدينار كان في الزمن السابق يتراوح صرفه ما بين ثمانية دراهم إلى اثني عشر درهماً، واستقر أمره زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بعشرة دراهم، وهو السعر الذي جاء به تشريع الزكاة، في كل عشرين ديناراً ربع العشر، وفي كل مائتي درهم ربع العشر، وعشرين في عشرة بمائتين.
إذاً: أعطاه ديناراً، وهذا يدل على أن المسلمين كانوا يتعاملون بالدنانير، والدنانير عملة غير عربية وإنما هي فارسية أو رومية، والدراهم ساسانية، ثم ضربت إسلامية في زمن بني أمية.
فهذه الدنانير في أيدي المسلمين ويتعاملون بها وهي عملة أجنبية عنهم، كما هو الحال الآن، يتعامل المسلمون بالدولار وبالمارك وبالين، وكلها عملات أجنبية، ولكن النقد لا يعرف الجنس، وكما قيل: النقد ملك لمن هو في يده، فمن حل في يده درهم فهو له وينسب إليه.(194/5)
إقراره صلى الله عليه وسلم لعمل عروة البارقي
فذهب عروة ليشتري شاة أو أضحية، كلاهما سواء؛ لأن الأضحية بالشاة، والشاة للأضحية، وهذا اختلاف في اللفظ، وقد يكون من الراوي الأول أو الثاني، فذهب فاشترى بالدينار شاتين، ثم في عودته بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقيه شخص وساومه على إحدى الشاتين، فباعها عليه بدينار، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هذا ديناركم وهذه شاة لكم، فسأله صلى الله عليه وسلم: ماذا فعلت؟ إذا كنت أتيت بالدينار وأتيت بشاة، فمن أين لك هذه الشاة؟ والدينار على حاله لم يصرف، فقال له رضي الله تعالى عنه: اشتريت بالدينار شاتين، وبعت إحدى الشاتين بدينار.
وهنا -مع هذا العمل- يدعو له الرسول صلى الله عليه وسلم بالبركة: (بارك الله لك في بيعك وشرائك) أي: أقره على هذا العمل واستحسنه ودعا له، فكان ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له ما باع صفقة أو اشترى صفقة ولو تراباً إلا وربح فيها، وكان الناس يأتون إليه بأموالهم ليشاركهم فيها، التماساً لبركة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(194/6)
تصرف الوكيل في مال موكله
وللعلماء في هذا مباحث، فحينما أعطي الدينار ليشتري الشاة، فهل أعطيه وكالة أو أمانة؟ إن قلنا: وكالة، فقد ذهب الوكيل وتصرف، فاشترى شاتين بدلاً من شاة، وهل للوكيل أن يتصرف في غير ما وكل فيه؟ هو وكل في شراء شاة، لكنه اشترى شاتين، فهل شراؤه الشاتين داخل ضمن الوكالة في شراء الشاة، أو أن الوكالة كانت عامة؟ الوكالة العامة كأنه يقول له: اشتر لنا ما في نظرك من شاة أو نحوها، فبالوكالة العامة يكون له الحق أن ينظر أي الشياه أصلح، ولو وجد شاة كبيرة بدينار، ووجد شاتين متوسطتين بالدينار، فاشترى إحدى الصفقتين، كان ذلك بمقتضى الوكالة صحيحاً، ونحن الآن إذا أتينا إلى سوق الأغنام ربما وجدنا خروفاً بألف ريال، بينما بجواره الخرفان الأخرى من أربعمائة إلى ستمائة، فثمن الخروف الأول ألف ريال، فلو أضفت إليه مائتين فستشتري ثلاثة، إذاً: الأسعار تختلف، والسلع تتفاوت فيها القيمة، هذا في الصورة الأولى، ولنقل: إنه وجد شاة بدينار، ووجد شاتين بدينار، فاستحب أن يأخذ الشاتين بدلاً من الشاة، وهذا التصرف من الوكيل لمصلحة موكله.
مضى العقد الأول، ومضى بالشاتين، وفي الطريق يأتي إنسان يساومه، فباعه إحدى الشاتين، فهل له الحق في بيع ملك موكله الذي وكله في شراء شاة فتجاوز، أو تخير، أو عمل المصلحة فاشترى شاتين بدلاً من شاة؟ وهنا بعد أن اشترى ودخل المبيع في ملك موكله، فهل يملك أن يخرجه من ملك موكله بالبيع دون أن يوكله الموكل في البيع؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يوكله في بيع، وإنما وكله في الشراء فقط، فبأي صفة يبيع ما اشتراه لموكله؟ قالوا: إن السبب في شرائه الشاتين هو مراعاة مصلحة موكله، فوجد أن من مصلحة موكله الاجتزاء بشاة، والشاة الأخرى زائدة، ومن مصلحة موكله أن يغنمه قيمة الزائدة، فباعها باسم موكله.
وهنا يقول الفقهاء: إذا تصرف الوكيل بما يظنه مصلحة لموكله دون أن يأذن له فيه، فإن هذا العقد يسمى: العقد المعلق، فهو معلق على إقرار الموكل، فإن رضي وأقر فلا مانع، وإن رفض فالبيع مرفوض ومردود، فهو باع الشاة تفويضاً من نفسه، طلباً لمصلحة موكله، وبثمن ليس فيه نقص، بل فيه ربح مائة بالمائة، فباع الشاة على هذا الاعتبار، ولما جاء وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم -باعتباره في نظام العقود موكلاً له- سأله: ماذا فعلت؟ فأخبره بما فعل في الشراء وفي البيع؛ فاستحسن ذلك، وأجاز تصرف الوكيل في هذا البيع، ولو لم يكن مأذوناً له مشافهة فهو مأذون له اعتباراً، ولو لم يكن مأذوناً له اعتباراً فقد أقر العقد، ويقول الفقهاء: إن اعتبار العقد المعلق ابتداء من إجازة الموكل لا من وقوع العقد.(194/7)
تحديد الربح
وهنا جاءت مسألة لا زال الناس يخوضون فيها إلى الآن، فهذا اشترى شاتين بدينار، وباع شاة منهما بدينار، فلما كان في الطريق، وهو في نفس اليوم، ولم تتغير الأسعار في الأسواق، ولا قل الوارد وكثر الطلب، فالسوق على ما هو عليه، لم يطرأ عليه ما يقتضي زيادة الثمن، فكم ربح في هذه الصفقة؟ ربح مائة في المائة، ويأتي هنا السؤال المهم: كم يجوز أن يربح؟ وكم يكون الغبن؟ وكم تكون الزيادة؟ ومتى يفسخ البيع؟ ومتى يحق للمشتري ادعاء الغبن؟ وهذه القضية إلى الآن لم يستقر فيها رأي، لا على تحديد السعر، ولا على تحديد صورة الغبن، وأهم ما يكون في ذلك، والمرجع ما لم يكن المشتري جاهلاً فغره البائع، وما لم يكن البائع مستغلاً لظروف المشتري ويتحكم فيه، فإذا كانا على هذه الحال وعلى قارعة الطريق، وليس هناك إلزام ولا إكراه، ولا استغلال لظروف المحتاج، فالبيع سليم ولو كان الربح مائتين في المائة.
وبعض السلع ربما كان الربح فيها خمسمائة في المائة، لكن مع اختلاف الزمن ومع اختلاف الأسعار، وعندنا بيع السلم لا بد أن يكون هناك أجل في تسليم السلعة، ويكون بسبب هذا الأجل تغيير في السعر بزيادة أو بنقص، فنقرر وجود الزيادة ووجود النقص وإلا لما كان سلماً.
فعلى هذا لا يمكن لإنسان أن يتحكم في سوق، ولا في سلعة، ولا في تاجر، ولا في متجر، ولا في مصنع، بتحديد سعر البيع والربح، إلا إذا كان هناك استغلال للمشتري، وما يوجد الآن من بعض التسعير لبعض السلع، فإنما ذلك مما استجلبه الناس باستغفال الجاهل، وبعدم معرفته قيمة السلعة، وباستغلال البائع جهالة المشترَي، فجعلوا في بعض السلع بياناً للأسعار، كما هو حاصل في الأدوية، فإننا نعرف الفرق بين حبة الأسبرين وحبة الفيتامين، فبعض أنواع الفيتامين قد تساوي الحبة الواحدة ثلاثة ريال، وعلبة الأسبرين كلها تساوي ثلاثة ريال، ولكننا لا نعرف الفرق من الناحية الكيماوية أو الطبية، فلما لم نكن نعلم ذلك ويمكن للصيدلي أن يستغل ظروف كل مريض؛ جعلوا المسألة واضحة، وقربوا الموضوع، وقدروا الربح المناسب لهذه السلعة، ووضعوا الأسعار على كل علبة، وكذلك المحلات الكبيرة التي تسمى: (سوبر ماركت) وفيها من أنواع السلع والبضائع، ولا يريد صاحبها النزاع في المساومة، فوضع أسعار السلع أمامك، فإن أعجبك سعرها أخذتها، وإن لم يعجبك تركتها، والذين يضعون هذه الأسعار يراعون مصلحة المالك ومصلحة المستهلك، على مبدأ فقهي إسلامي: (لا ضرر ولا ضرار) ، لا ضرر على المالك في بخس سلعته، ولا ضرار على المشتري في استنزاف ماله في هذه السلعة.(194/8)
حد الغبن الذي يحق به فسخ العقد
إذاً: ليس هناك حد -كما يقولون- في ادعاء الغبن في السلعة، فهذا في نهاره وقبل غروب الشمس يربح مائة في المائة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقره ويدعو له بالبركة، ولكن الفقهاء أيضاً تدخلوا وقالوا: إذا لم يكن هناك تحديد للأسعار، ووجدت سلعة في عشرين دكاناً في السوق، فخمسة عشر دكاناً يبيعها بعشرة، وجاء صاحب دكان وباعها على إنسان بعشرين، فهل يقر على ذلك؟ يقول العلماء: هذا غبن، فقد غبن المشتري بعشرة، ونسبة العشرة من العشرة مائة في المائة، فيكون من الغبن الفاحش، فيحق للمشتري فسخ العقد وإرجاعها.
إذاً: ما هو حد الغبن الذي يجعل المشتري يدعي الغبن ويطلب رد السلعة؟ قال بعضهم: إذا كان ثلاثين في المائة، أو أربعين في المائة، أو خمسين في المائة، أي: من ثلاثين فما فوق، وأقل من ثلاثين في المائة لا يعتبر غبناً، ولا ترد به السلعة، قالوا: إن مثل هذه النسب لابد أن تتفاوت؛ لأنه لا بد من الربح، ولكن المسألة ترجع إلى جشع البائع، وإلى قناعته، وحسن تعامله، ورفقه بالناس.
إذاً: هذا الحديث أصل في حلية الربح ما لم يكن هناك تدليس أو غش أو انتهاز لفرصة، أو استجهال مشترٍ.
والله تعالى أعلم.(194/9)
شرح حديث: (نهى عن شراء ما في بطون الأنعام ... )
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شراء ما في بطون الإنعام حتى تضع، وعن بيع ما في ضروعها، وعن شراء العبد وهو آبق، وعن شراء المغانم حتى تقسم، وعن شراء الصدقات حتى تقبض، وعن ضربة الغائص) رواه ابن ماجة والبزار والدارقطني بإسناد ضعيف] .
هذا وإن كان بإسناد ضعيف إلا أن معناه صحيح، فإن جميع هذه البيوع راجعة إلى الغرر، وكما أسلفنا في أول كتاب البيوع: أنه يجب الحذر والتحفظ من أكل أموال الناس بالباطل، وتلك الأشياء التي ساقها هنا واضحة الغرر.(194/10)
النهي عن بيع ما في بطون الأنعام
فنبدأ أولاً بنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع ما في بطون الأنعام.
وبهيمة الأنعام: هي من ذوات الأربع مأكولة اللحم: الإبل، والبقر ومعها الجاموس، والغنم ومعها الماعز، فهذه تحمل، أو كما يقولون: الثدية، أي: ذات ثدي فتلد وترضع.
فنهى صلى الله عليه وسلم عن بيع ما في بطونها، فلو رأيت ناقة لقحاء وحملها ظاهر جداً، وبقى لها شهر أو أكثر أو أقل لتضع حملها، وكان نوع هذه الناقة من حمر النعم من خيار الإبل، وتريد من نسلها، وتحرص أن تسبق إلى شراء ما في بطنها، حتى لا يسبقك الناس بعد ولادتها، فهذا لا يجوز؛ لأنك لا تدري هل ستأتي بفصيل أو ببكرة كما يقولون؟ بذكر أم أنثى؟ سوي الخلقة أم ناقص؟ إذاً: لا زال في صندوقه مقفلاً عليه لا نعلم عن كيفيته، فهذا فيه جهالة، كما لو جئت إلى إنسان بصندوق وقلت: هذه الصناديق فيها ملابس وأحذية -بدون رقم أو برقم- لكن نوع الصناعة ومقاساتها وألوانها كل ذلك مجهول داخل الصندوق، فلا يجوز بيع ما في داخله حتى تفكه وترى ما فيه وترتضيه، فكذلك ما في بطون الأنعام، سواء كانت في أوائل حملها، أو في أواخره، احتياطاً من كونه قد يأتي حياً وقد يأتي ميتاً، وقد يأتي على الجهة التي أنت تصورتها وتمنيتها وقد يأتي على جهة أخرى، فلو وقع البيع في هذه الحالة فالبيع باطل؛ لأن النهي يقتضي الفساد.(194/11)
النهي عن بيع ما في ضروع الأنعام
قال: (وعن بيع ما في ضروعها) .
هنا مشكلة: ترى الناقة محفلة، أو ترى الناقة وضرعها ممتلئ، أو البقرة أو الشاة، فتقول: أشتري ما في هذا الضرع من الحليب بكذا، وقد قدرته مثلاً لتراً، فحلبت فكان نصف لتر، أو البائع قدره لتراً، فحلبت فإذا به لتر ونصف، فيكون فيه غرر، فإن نقص عن تقديرك أنت فغرر عليك، وإن زاد عن تقدير البائع فهو غرر على البائع، إذاً: ماذا نفعل؟ احلب حتى يجتمع عندك، ثم بع.
وفي بعض المدن شاهدنا الذين يبيعون الحليب، ولم نرهم يبيعون الحليب في الأواني، ولكن ترى البهيمة معه في السوق، فإذا قلت له: أعطني نصف كيلو، فإنه يحلب أمامك في إناء ويزن لك ويعطيك! لا غشه بالماء، ولا باعه في ضرع مجهول، فيعطيك حليباً طازجاً من الضرع، فإذا كان الأمر كذلك فنعم الحال، وإذا لم يمكن كذلك فلا يجوز أن تبيع الحليب في الضرع كثيراً كان أو قليلاً، ومعروف أن بهيمة الأنعام تختلف في جرم الضرع، فبعض الحيوانات تجدها نحيلة الضرع، ولكنه يأتي بحليب أكثر من الضرع الذي تراه ضخماً، فربما تكون تلك الضخامة في لحم وجرم الضرع، فالضرع المتين إذا كان فيه نصف لتر فسيجعل الضرع كبيراً، والثانية جرم ضرعها رقيق وخفيف، فلو كان فيه لتر فما يظهر فيه.
إذاً: التقدير بالرؤية مع اختلاف أحجام الضروع فيه غرر على ما بداخلها.(194/12)