ما يفعله من دخل المسجد يوم الجمعة قبل دخول الإمام
قوله:: [ (فصلى ما قدر له) ] .
يفهم منه أن إتيانه إلى الجمعة بعد أن يغتسل يكون قبل وجوب الصلاة والأذان لها، لا بعد وجوب الصلاة، والدليل قوله: (فصلى ما قدر له) ، فلو أنه أتى إلى الجمعة بعد النداء، فليس بعد النداء صلاة نافلة، وإنما الواجب الإصغاء بعد النداء لخطبة الإمام، ويستثنى الداخل بعد ذلك، فيركع ركعتين ويتجوز فيهما.
فإتيانه في هذا الحديث إتيان قبل الزوال، وقبل الأذان الذي للوقت.
وقوله: (فصلى ما قدر له) .
أي: كل واحد بحسب ما يتيسر له.
وقوله: (ثم أنصت) ، أي: إلى الإمام حينما يصعد المنبر حينما ينادى للجمعة عند دخول الوقت، أي عند الزوال.
قوله: (ثم أنصت حتى يفرغ الإمام من خطبته) ، أي: أنصت وقت الخطبة، وقبل الخطبة لا مانع أن يتكلم، ولا مانع أن يصلي بعد الخطبة، وبعض الناس يتحرج من الكلام بعد فراغ الإمام من الخطبة حتى يدخل في الصلاة، وهذا ليس بصواب، فالمنهي عنه يكون من شروع الخطيب في الخطبة إلى أن ينتهي، وقبل ذلك وبعده لا حرج فيه.
قوله: (ثم يصلي معه) أي: لا يسمع الخطبة وينصرف قبل أن يصلي معه.
قوله: (غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام) ، هذا الحديث صالح لبيان فضيلة الغسل يوم الجمعة، وفضيلة الجمعة في ذاتها، فمن اغتسل يوم الجمعة، ثم أتى الجمعة، ثم أنصت للإمام، ثم صلى مع الإمام، غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، والأسبوع سبعة أيام، والحسنة بعشر أمثالها، وزيادة ثلاثة أيام على الأسبوع يصير بها اليوم عن عشرة أيام، والحسنة بعشر أمثالها.
ونقف هنا وقفة بسيطة، فبعض المسلمين -هداهم الله- قد يتساهلون في حضور الجمعة، ويجعلون يوم الجمعة للتنزه، وكأن يوم الجمعة ليس له أثر، وكل ما عندهم من أعمال في الأسبوع يؤخرونها إلى يوم الجمعة، ويشتغلون يوم الجمعة، ويضيعون الجمعة، فلا يبكرون، ولا يصلون ما تيسر لهم، فأي فضيلة بعد ذلك؟ والذي ينبغي هو أن يتنظف الإنسان، ثم يأتي المسجد فيصلي ما تيسر له، فهو يستريح من عناء العمل الذي كان فيه، فالموظف مع مراجعيه، والصانع مع عماله، والزارع في مزرعته، وكل إنسان طيلة الأسبوع في جهد بدني وفكري، فشرع الله له يوم الجمعة ليستريح ويتنظف ويسترجع قواه، فتجدد العافية، ويتغذى لروحه، ويحصل على مغفرة عشرة أيام، فأكبر تاجر في البلد يوم الجمعة لا يحصل من تجارته مثل ما يحصل يوم الجمعة، كما قال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:11] .
فالعاقل لا ينبغي له أن يتهاون بأمر الجمعة ما دامت فيها هذه الفضيلة، وكذلك الغسل، وسيأتي في الحديث عند البخاري: (ومس من طيب أهله) .
وقد جاء في حديث آخر: (غسَّل واغتسل) يقول بعض العلماء: غسل ثوبه واغتسل في بدنه.
وبعضهم يقول: (غسَّل واغتسل) لفظ يفيد اشتراك طرفين.
فيستحب يوم الجمعة أن تغتسل، وأن تتطيب وتلبس أحسن ما عندك من الثياب، وتأتي لتقابل إخوانك.
فكيف تشتغل عنها وتتركها؟ نسأل الله السلامة والعافية.
ومن المباحث الغسل يوم الجمعة والمقارنة بينه وبين الوضوء، لحديث: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) وقد أطلق الاغتسال في قوله صلى الله عليه وسلم: (من اغتسل يوم الجمعة) وبعض العلماء يقول: لو أن شخصاً أجنب فأوقع غسل الجنابة بعد طلوع الفجر، ونوى بهذا الغسل رفع الجنابة وسنة اغتسال الجمعة، فإنه يجزئه عند من يقول الغسل سنة، ومن يقول الغسل واجب يقول لا يجزئ واجب عن واجب، فيغتسل للجنابة ثم يغتسل إذا راح إلى الجمعة، ويكون غسل الجمعة مستقلاً.
ولكن الجمهور على أن المراد اغتسال يوم الجمعة بسبب أو بغير سبب، ونظروا كما يقول الشافعي وغيره إلى علة الغسل يوم الجمعة -وهو سنة- فهو معلل بالحث على النظافة في هذا الاجتماع، كما قال ابن عباس: كان الناس يعملون لأنفسهم، ويلبسون الصوف والخشن من الثياب، فيأتون من أعمالهم والمسجد ضيق والجو حار، فيعرقون فيؤذي بعضهم بعضاً.
وفي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: كان الناس عمال أنفسهم، وكانوا يأتون من عملهم في الغبار ويعرقون، فدخل أحدهم على رسول الله وهو عندي، فقال: (غسل يوم الجمعة واجب) ، فأمر بالغسل، فقالوا: إن الأمر بالاغتسال يوم الجمعة من أجل النظافة.
والجمهور قالوا: إن كانت العلة النظافة فقد صار مشروعاً لذاته، فلو أن إنساناً في الظل، وعلى فراش النعيم، وفي بعد عن الغبار، وأراد أن يأتي الجمعة، فإن عليه أن يغتسل للجمعة، كما أنه لو كان قبل الجنابة في الحر الشديد ودخل الحمام واغتسل للتبريد ثم جاءت الجنابة بعد الغسل بدقائق فلا يكفيه الاغتسال الذي قبل الجنابة، فالجنابة جاءت بوجوب الغسل، فكذلك الجمعة جاءت بسنة الغسل، وكثير من الأشياء تشرع لأسباب فتزول أسبابها وتبقى المشروعية.
فالهرولة في الطواف كان سببها لما دلس إبليس على المشركين ووسوس لهم وقال: لو ملتم عليهم ميلة رجل، فقد أنهكتهم حمى يثرب والسفر فلما هرول الصحابة وأظهروا القوة قالوا: والله إنهم لكالجن، ثم جاءت السنة الثامنة وفتحت مكة، وأمن المسلمون، وجاء المصطفى صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة حاجاً فهرول، وقد سأل رجل عمر رضي الله تعالى عنه: كنا نهرول عند الخوف وقد أمنا فعلام نهرول؟ قال: يا ابن أخي! سألتني فيما سألت فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أو قال: هرول رسول الله صلى الله عليه وسلم فهرولنا، ثم حج فهرول ونحن في أمن فهرولنا.
فالعلة وجدت ثم زالت وبقيت المشروعية.
وكذلك رمي الجمار، فإبراهيم عليه السلام حصب الشيطان لما جاءه ووسوس له: كيف تذبح ابنك؟ فقال: اخسأ يا لعين! ورماه بالحصيات، والآن ما عندنا شيطان يوسوس، ولا أحد يذبح ولده، ولو كان ولده أتقى خلق الله فلن يطيع الله في ذبح الولد حتى لو قال له: اقطع يده فلن يقطعها إلا أن يشاء الله.
وبعض الصحابة قيل له: أكنتم تطيعون رسول الله في كل شيء؟ قال: نعم.
والله لو أمرنا بقتل أنفسنا لقتلنا أنفسنا.
وهذا ليس من الطاعة العمياء بل هي الطاعة المبصرة؛ لأنه يعلم أنه يطيع الله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24] .
ومما شرع لعلة ثم بقي مع زوالها القصر لقوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] .
فإذا كنا آمنين مطمئنين حال سفرنا من مكة إلى المدينة فلنا أن نقصر الصلاة، فزال السبب وبقيت المشروعية.
فكان السبب في اغتسالهم يوم الجمعة كونهم يعرقون وتخرج منهم روائح العمل والغبار.
ولذا جاء في الحديث: (فلما كفوا المئونة) ، أي: لما جاءت الفتوحات، وجاءتهم العلوج -أي: العبيد- وكفتهم المئونة رخص لهم في ترك الغسل.
ونقول: الترخيص بنص؛ لأنه جاء في الحديث: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) ، فالأمران مشتركان في الأفضلية، وعثمان رضي الله عنه لما دخل رضي الله عنه وعمر يخطب فقال: أي ساعةٍ هذه؟ قال: ما إن سمعت الأذان أو النداء حتى توضأت وأتيت.
فقال عمر: والوضوء أيضاً؟ وأقره على الوضوء جميع الصحابة الحاضرين الذين يسمعون عمر، فالجمعة تصح بالوضوء، ولكن الغسل من أجلها أفضل.(101/4)
ساعة الإجابة وخلاف العلماء في تعيين وقتها
[وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال: (فيه ساعة لا يوافقها عبدٌ مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله عز وجل شيئاً إلا أعطاه إياه وأشار بيده يقللها) متفق عليه.
وفي رواية لمسلم (وهي ساعة خفيفة) ] هذا الحديث من خصائص يوم الجمعة وفضائله، وهو ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الجمعة فذكر فيها ساعة لا يصادفها عبدٌ مسلم قائم يصلي يدعو الله أو يسأل الله إلا أعطاه إياه.
ثم جاء المؤلف رحمه الله تعالى بعد ذلك بتوقيت هذه الساعة، وأنها بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، أو من حين يصعد الإمام المنبر إلى أن تتم الصلاة، ويذكر غيره أن الأقوال فيها متعددة، وقد ذكر المؤلف نفسه في فتح الباري ثلاثة وأربعين قولاً في تعيين هذه الساعة.
ويقول ابن عبد البر: أجمع حديث وأصحه فيما يتعلق بهذه المسألة ما جاء في رواية مالك رحمه الله تعالى، وتعرف هذه الساعة عند الفقهاء بساعة الإجابة.
ورواية مالك التي قال عنها ابن عبد البر: إنها أشمل وأجمع، هي رواية أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: خرجت إلى الطور - يعني: يصلي فيه - فلقيت كعب الأحبار، فجلسنا فحدثني عن الكتاب - يعني: عن التوراة - وحدثته عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومما ذكرت له: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في الجمعة ساعة ثم بين تلك الساعة وقللها، فقال: كعب الأحبار: إنها في السنة مرة.
قال: فلقيت عبد الله بن سلام وكعب الأحبار من أحبار اليهود أسلم وحسن إسلامه في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه، أما عبد الله بن سلام فهو صحابي أسلم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: فلقيت عبد الله بن سلام فذكرت له ما كان بيني وبين كعب الأحبار فقال: كذب -أي: في قوله: إنها في جمعة واحدة في السنة- إنها في كل جمعة، ثم قال عبد الله بن سلام: وإني لأعلم أين تلك الساعة، قال: أبو هريرة فقلت له: أخبرني بها ولا تضن عليّ قال: إنها ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، قال أبو هريرة: فقلت لـ عبد الله بن سلام إنها ساعة لا يصلى فيها! أي: لنهي النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس) ، وهذا استدلال صحيح، فقال عبد الله: صدقت! أو لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاة وبقي في مجلسه فهو في صلاة) قلت: بلى.
قال: هو ذاك.
يقول ابن عبد البر في الجزء الثالث والعشرين من التمهيد: إن هذه المناظرة بين أبي هريرة وعبد الله بن سلام وما ذكر له تعطينا أصل المذاكرة بين العلماء والمفاهمة، والأخذ عن أهل التوراة إذا علم صدقهم وأمن الكذب فيهم.
ثم يقول عبد الله بن سلام: (لقد ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم أنا نجد في الكتاب -يعني: في التوراة- أن في الجمعة ساعة لا يصادفها عبدٌ يصلي يدعو الله إلا أعطاه سؤله، فقال صلى الله عليه وسلم: أو بعض ساعة؟) قال عبد الله: نعم والله يا رسول الله أو بعض ساعة.
ثم قال: أخبرني أي ساعة هي يا رسول الله؟ قال: (ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس) ، وهكذا يسوق مالك هذا الحديث.
ومما ساقه أيضاً أن أبا هريرة في عودته من الطور لقي غلام أبي بصير الغفاري فقال: من أين أقبلت؟ قال: من الطور، قال: لو أني أدركتك قبل أن تخرج ما خرجت.
قال: ولماذا؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد، النبي صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى) .
ومما ساقه مالك أيضاً في هذا السياق أنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (أفضل يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة) ، أو: (إن يوم الجمعة خير يوم طلعت عليه الشمس، فيه خلق آدم، وفيه أسجد إليه، وفيه أسكن الجنة، وفيه أهبط من الجنة إلى الأرض، وفيه تيب عليه، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة في الأرض إلا وتصيخ بسمعها يوم الجمعة بعد صلاة الصبح إلى شروق الشمس شفقاً من قيام الساعة) .
وذكر صاحب منتقى الأخبار -الذي شرحه الشوكاني في نيل الأوطار- رواية فيها: (إن السماء والأرض والملائكة والرياح لتشفق في ذلك اليوم من يوم الجمعة) ، ويقول صاحب القبس: إن الله سبحانه وتعالى يخلق في البهائم فزعاً يوم الجمعة.
والذي يهمنا في هذه الساعة ما أشار إليه ابن حجر من اختلاف الناس في تعيين أوقاتها، وإذا كان اليوم اثنتي عشرة ساعة، فهي ساعة من هذا اليوم.
واختلفت الأقوال ابتداءً من أذان الفجر إلى طلوع الشمس، ومن طلوع الشمس إلى الضحى، ومن نهاية الساعة الثالثة من يوم الجمعة إلى زوال الشمس، ثم إلى أذان الجمعة، ثم إلى جلوس الإمام على المنبر حتى يفرغ من الخطبة، وحتى تنتهي الصلاة إلى ما بعد صلاة العصر، ثم إلى أن يكون ظل الشيء مثليه، ثم إلى أن تصفر الشمس، ثم إلى أن تضيف الشمس للمغيب.
وكل هذه الأوقات جاءت فيها الأخبار بأنها موضع تلك الساعة، حتى قال ابن حجر وابن عبد البر: اختلف الناس فيها هل هي باقية أم نسخت؟ ويردون قول من يقول: إنها رفعت وانتهت.
ثم يقولون: أهي جمعة في السنة، أم في كل جمعة؟ ويرجحون بأنها في كل يوم جمعة، ثم هل هي ثابتة في يوم الجمعة أو تتنقل فأحياناً قبل الصلاة وأحياناً بعدها، وأصح ما في ذلك حديث أبي موسى الأشعري -كما قال الشوكاني رحمه الله- وهو أنها بعد العصر.
وابن عبد البر ساق في التمهيد ما يزيد على ستة أصول أو سبعة في أنها بعد العصر، ثم قال: إن المذاكرة بين أبي هريرة رضي الله عنه وبين عبد الله بن سلام في كلمة (قائم يصلي) لم يثبتها بعض العلماء، وأن اللفظ: (لا يوافقها عبد يسأل الله حاجة إلا أعطاه الله إياها) ، ولم يذكر قيد (قائم يصلي) بل قال: إن بعض الشيوخ كان يأمر طلابه أن يحذف لفظ (قائم يصلي) من الحديث، ثم ساق النصوص التي تثبتها، وقال: إن الصحيح أنها ثابتة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قالها، فيصلي ويسأل الله حاجته.
ثم رجح ابن عبد البر أن معنى (قائم) أن عنايته واجتهاده من أجلها، كما تقول: قام فلان بالأمر حتى أتمه، وكما تقول: قمت بعمل واجتهدت فيه.
أو: قمت بتأليف هذه الرسالة، أو: قمت بكتابة هذه المقالة، وليس الأمر بالقياس حتى يكون المراد الانتصاب الذي هو ضد الجلوس.
يقول ابن عبد البر: لولا سلامة التأويل الذي أورده عبد الله بن سلام على أبي هريرة ما سلم به أبو هريرة؛ لأن أبا هريرة لم يجادله في ذلك، بل قبله وقنع به.
وعلى هذا فبعض العلماء يذهب إلى الترجيح، وبعضهم ويذهب إلى النسخ، والصحيح الترجيح.
وبعضهم يقول: الأنسب أن يكون الدعاء وقت الخطبة إلى أن تتم الصلاة، قالوا: وكيف يدعو في ذلك الوقت وهو يصغي إلى الإمام؟ فقالوا: إنها ساعة خفيفة، كما قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: (وأشار بيده صلى الله عليه وسلم يقللها) ، فبعض الناس قالوا: لفظة (وأشار بيده يقللها) من الراوي، وبعضهم قال: إنها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما قال له عبد الله بن سلام: إنها ساعة في الكتاب قال صلى الله عليه وسلم: (أو بعض ساعة) قال بلى يا رسول الله: أو بعض ساعة! فقال بعض العلماء: وضع صلى الله عليه وسلم الأنملة على الوسطى أو الخنصر، يعني: كأنها قليلة، وبعضهم قال: قبض يديه وقلب هكذا، وهكذا أي: معنى التقليل، أي: ليست ساعة زمنية محددة بستين دقيقة كما هو المتعارف عليه.
قال بعض العلماء: لقد رأيت شاباً يعتكف في بيت المقدس يوم الجمعة من بعد صلاة الفجر إلى الضحى، والجمعة الثانية من الضحى إلى زوال الشمس إلى صلاة الجمعة، وفي الجمعة الثالثة من بعد الجمعة إلى العصر، وفي الجمعة الرابعة من بعد العصر إلى غروب الشمس، يتحرى تلك الساعة على اختلاف تلك الأقوال.
فقال له قائل: وما يدريك لعله يصادفها إذا كانت تتنقل؟! فقد تكون في اليوم الذي اعتكف فيه من الصبح إلى طلوع الشمس بعد العصر.
ويهمنا في هذا ما قاله ابن عبد البر رحمه الله: إن هذه الساعة لا شك في فضلها، فينبغي للإنسان إن يجتهد طيلة يوم الجمعة، وأن يبذل جهده ما استطاع، وخاصةً في الأوقات التي هي مظنة لها، وأكثر الأحاديث أو أصحها أنها فيما بين صعود الإمام أو جلوس الخطيب على المنبر إلى أن تنتهي الصلاة، وأحاديث ما بعد العصر.
وأما كيف يجمع بين قوله: (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة) ، وما جاء أن خير يوم هو يوم عرفة؛ فقد قالوا: إن الساعة التي في يوم الجمعة، وليلة القدر التي في شهر رمضان، ويوم الجمعة، ويوم عرفة، ويوم الحج الأكبر كل هذا لا معارضة ولا منافاة فيها.
فقالوا: إن يوم الجمعة هو أفضل الأيام بالنسبة لأيام الأسبوع، فهو أفضل من السبت والأحد والأربعاء والخميس، والساعة التي في يوم الجمعة أبهمت ليجتهد الناس، كما أن ليلة القدر أبهمت أولاً في كامل رمضان، ثم أبهمت في العشر الأواخر ليجتهد الناس، وقوله صلى الله عليه وسلم: (خير يومٍ طلعت عليه الشمس يوم عرفة) أي: بالنسبة لأيام السنة كاملة.
وعلى هذا فلا منافاة، فيوم الجمعة أفضل بالنسبة لأيام الأسبوع، ويوم عرفة بالنسبة لأيام العام كله، وكذلك العيد لفضيلته.
فتلك الأقوال بكاملها(101/5)
شرف يوم الجمعة
وقالوا: إنه صلى الله عليه وسلم ذكر خلق آدم يوم الجمعة، وكانت خلقة الأنبياء في أيام متعددة، فخلق آدم ما فضيلته؟ قالوا: لأنه بخلق آدم وجد الإنسان، وبوجود الإنسان كان التكليف، وبوجود التكليف كان التوحيد، فعبد الله، وأرسلت الرسل، وجيء بالكتب، وكل ذلك نتيجةً لخلق آدم ابتداءً، فخلق آدم كان أساساً لوجود الخلائق، وسبباً لوجود التكليف وإرسال الرسل وإنزال الكتب.
وقالوا: إن كان آدم سبباً في هذا الخير فإن من أبناء آدم من جاءوا بالمعاصي ملء البحر والأرض، فقالوا: ساعة من ساعات من توحيد رب العالمين خير من ملء الأرض كلها من المعاصي.
ولذا جاءت الآية بأن الله سبحانه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وجاء: (يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً، لأتيتك بقرابها مغفرة) .
فمهما كان عند العبد من عصيان، أو ما يقع في الأرض من عصيان، فإن ما يوجد في الأرض من طاعة وعبادة وتوحيد خير من الدنيا وما فيها.
فوجود آدم في هذا اليوم سبب في هذا الخير الكثير، وبه عرف الله سبحانه وتعالى، كما جاء في الحديث القدسي: (خلقت خلقاً وبه عرفوني) ، ويقولون: إن ثلاثة أشياء خلقها الله بيده، وبقية الكائنات قال لها: (كوني) فكانت، فقال للسماوات والأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا: أتينا طائعين, وقال للجبال: (كوني) فكانت، ولكن خلق آدم بيده، كما قال تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ، وأيضاً غرس جنة عدن بيده، وكتب الألواح لموسى بيده، فقالوا: هذه ثلاثة أشياء أوجدها بيده، فشرفت لذلك.
ولا يقال: كيف خلق آدم بيده؟ وكيف غرس الجنة بيده؟ وكيف كتب الألواح لموسى بيده؟ فالكيف لا يرد على الله سبحانه أبداً في أي شيء كان، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] .
ثم بعد ذلك شرف آدم بأن أسجد الله الملائكة له، وهل سجدوا له ابتداءً أو سجدوا له بعد أن أظهر الله شرفه؟ بعد أن أظهر الله شرفه بتعليمه، كما قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة:31-32] ، فلما أنبأهم كانت النتيجة أن أسجد الله الملائكة له تكريماً، وليست عبادة كما يظن الجهلة، بل تكريماً له على العلم.
وقد وجدنا في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية أن العلم يكرم أهله، وبالتأمل نجد أن العلم يكرم المتعلم، ولو كان حيواناً ولو كان طائراً، فالهدهد لما غاب عن نبي الله سليمان، وتفقد الطير فقال -كما حكى الله تعالى عنه-: {مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل:20] قال الهدهد: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل:22] فكأنه ألغى العلم بالوحي، وكل ما يأتيه، والجن يعملون بين يديه، وقال: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:22] ، وذكر له أمر بلقيس وشأنها بعد ما قال نبي الله: {لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:21] .
فلما جاء بهذا السلطان، وتوسم فيه نبي الله الصدق قال: (سننظر) فتراجع عن تنفيذ الحكم، أو أوقف التنفيذ، وهذه الحكمة والسنة تجب على العالم الإسلامي، خاصة طالب العلم، فإذا جاءه أمر مستغرب لم يقف على حقيقته لم يبادر في الإنكار، ولا يسارع بالقبول، بل يقول كما قال نبي الله سليمان، مع أن لديه وسائل الاكتشاف والاطلاع، فالريح غدوها شهر ورواحها شهر، ومع ذلك قال: (سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين) ، وقدم الصدق لأنه وجد مخايل الصدق في تأكيد الهدهد على خبره، فقال: {اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا} [النمل:28] .
فهذا طائر لم يتعلم، ولم يدرس أصول الفقه ليستنتج، وهو في طيرانه اكتشف ما كانت تعبده بلقيس، فرجع يخبر عنها، فما أعمل المقاييس ولا أعمل الأجهزة، ولا استنتج النتائج، فجاء ونجا من الذبح ومن القتل، وبعد أن كان في تلك الحالة أصبح كبيراً مفوضاً من نبي الله سليمان إلى الملكة، وجاء بها مسلمة.
وما أكل السبع فهو ميتة إلا ما أدركته وذكيته، بينما الكلب يمسك عليك، وتأكل مما أمسك إذا أطلقته وسميت اسم الله عليه، كما إذا رميت بالسهم وسميت اسم الله عليه، ولو أن الكلب كان غير معلم فهو سبع، لكن إذا أصبح معلماً فإذا أرسلته انطلق وإذا دعوته أجابك، ولا يأكل لنفسه، حلَّ صيده وما يمسكه عليك فهو لك حلال تأكله، وما أصابه الأسد -وهو سيد الوحوش كما يقولون- فإنه ميتة، إلا أن تذكيه أنت فيحل بتذكيتك إياه.
وهكذا العلماء، فهم كما قال صلى الله عليه وسلم ورثة الأنبياء.
فلما علم الله آدم الأسماء، وعرضهم على الملائكة فلم يعلموها اعتذروا إلى الله -ولهم الحق- فقالوا: {لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة:32] ، وهذا منهج لطالب العلم، فإذا سئل عما لا يعلم قال: لا علم لي، وقد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع، ولا يقتحم أبواب النار، وقد قيل: اشد الناس اقتحاماً للنار أجرؤهم على الفتوى؛ لأنه قد ينطق بغير علم، ولا ينبغي للإنسان أن يفرح بسؤال يرد عليه ويفرح بالإجابة، إلا إذا كان موقناً كإيقانه بوجود الشمس.
وكانت الفتوى تأتي إلى علماء المدينة السبعة ويتدافعونها كلٌ يحيل على الآخر حتى ترجع إلى الأول، كل ذلك فراراً وخشية من الإفتاء بغير علم.
فشرف يوم الجمعة بخلق آدم، وتشرف آدم بالعلم، ثم أسكنه الله الجنة، قال تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة:35] ، والجنة كانت كلها مباحة له غير هذه الشجرة، وتلك حكمة الله، وكما يقول بعض المحققين: الله خلق آدم ليعمر الأرض، كما هو الواقع، فإذا قال له: ادخل الجنة فإنه سيأتي وقت يدعى فيه للنزول إلى الأرض وهذا لا يكون من طبع الكرماء، فلو كان عندك ضيف وأنت كريم، ومكث عندك فإنك تستحيي أن تخرجه دون أن يخرج، لكن جعل الله سبحانه وتعالى تلك الشجرة حتى يشعر آدم بذنبه، فإذا قيل له: اهبط إلى الأرض عرف لماذا أهبط، فلا يكون بخلاً من المولى عليه، ولا يكون تقتيراً عليه، ولا يكون إخراجاً بغير سبب، على أن هذه أمور لا ينبغي الخوض فيها.
فنزل إلى الأرض يوم الجمعة، واستغفر ربه، وسأل الله التوبة والمغفرة وأناب، فاجتباه ربه فهداه، كما قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37] ، فتيب عليه يوم الجمعة، ونحن أيضاً في حاجة إلى عرض التوبة وإلى تكرارها، وقد ندب صلى الله عليه وسلم إلى كثرة الصلاة والتسليم عليه صلوات الله وسلامه عليه، وإلى الاستغفار وكثرة العبادة، حتى قيل: إن الصدقة تضاعف في يوم الجمعة.
وفي الحديث الذي في الموطأ: (وما من دابة على وجه الأرض.
إلخ) .
عموم الدواب، فما من دابة إلا وتدخل في هذا العموم أياً كانت، حتى الطير الذي يطير بجناحيه ويدب على وجه الأرض.
ومعنى: [تصيخ] بالخاء أي: تصغي سمعها يوم الجمعة.
والإنسان والجان لا يصيخون، فالحيوانات تدرك يوم الجمعة وتميزه عن الخميس والسبت وتصيخ بسمعها، قال ابن عبد البر: إن الله يخلق لها ما يروعها أو يفزعها.
وهذا شي لا ندخل فيه، فالله أعلم بأي كيفية تصيخ؛ لأن لله تعالى سره في خلقه، فجميع الكائنات تعرف ربها، وجميع الكائنات تسبح لله، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] ، فهذا الحال فوق طاقتكم، وفوق عقولكم، ومرجعه إلى الله سبحانه وتعالى.
ومن هنا ينبغي على العاقل أن يجعل له من يوم الجمعة -كما يقال- نصيباً يجتهد فيه، فعنده ستة أيام يعمل فيها لدنياه، وعنده يوم الجمعة الوحيد، وقد يعمل فيه إلى أن ينادى للصلاة، فليكن سعيه يوم الجمعة باستغراق وتفرغ، ويبكر قبل ذلك ما شاء الله له، كما في الحديث الآخر: (من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة) إلخ، ويجعل يوم الجمعة للأمور الآتية: أولاً: يستريح فيه من عمل الدنيا.
ثانياً: يروح على نفسه من هذا العناء.
ثالثاً: يتذوق فيه العبادة والذكر والدعاء، وقد حث صلى الله عليه وسلم على كثرة السلام عليه.
كما يجعله لقراءة القرآن والتسبيح والاستغفار، وكل ذلك مما يتهيأ به الإنسان ويتزود.
والله أسأل أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه وبالله التوفيق.(101/6)
كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة [8]
مما يتعلق بصلاة الجمعة اختلاف العلماء في عدد من تنعقد بهم الجمعة، وفي المعذورين ممن لم يحضرها، وهل تنعقد بهم إذا حضروها، وكذلك آداب المستمعين في الجلوس وقت الخطبة، ومشروعية اتخاذ الخطيب عصا أو قوساً يتكئ عليه حال الخطبة.(102/1)
وقت الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة
قال المصنف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال: (فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله عز وجل شيئاً إلا أعطاه أياه، وأشار بيده يقللها) متفق عليه، وفي رواية لـ مسلم: (وهي ساعة خفيفة) ] .
قوله: (خفيفة) كأنها تفسير (يقللها) ، وذكروا أنه صلى الله عليه وسلم وضع طرف الإبهام على الوسطى أو الخنصر، أي: أنه شيء قليل جداً، فليست ساعة من الساعات الزمنية المعروفة التي ينقسم النهار إلى اثنتي عشرة ساعة منها.
[وعن أبي بردة عن أبيه رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة) رواه مسلم، ورجح الدارقطني أنه من قول أبي بردة.
وفي حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه عند ابن ماجة وعن جابر رضي الله عنه عند أبي داود والنسائي: (أنها ما بين صلاة العصر وغروب الشمس) وقد اختلف فيها على أكثر من أربعين قولاً أمليتها في شرح البخاري.
] .
هذان الحديثان يعتبران أصح الأقوال التي قيلت من ثلاثة وأربعين وقتاً، وابن عبد البر رحمه الله أورد تلك الأقوال بأسانيدها، ومن يقول بها، وهذا شيء لا نستطيع أن نحفظه ولا نستطيع أن نورده بكامله، ولكن نرشد طالب العلم إلى محله وهو في الجزء الثالث والعشرين من التمهيد، لمن أراد أن يرجع إليه.
ويهمنا باتفاق العلماء بأن كل الأقوال التي جاءت بتحديد وقت قبل جلوس الإمام أو قبل الأذان للجمعة كلها مردودة أو ضعيفة، ولكن الأحاديث الصحيحة التي يعوّل على أسانيدها هو هذا الذي جاء ما بين أن يجلس الإمام على المنبر إلى أن تتم الصلاة، وهناك من يقول: إلى أن تتم الخطبة، ولكن نقول: إن التمديد إلى الصلاة أشمل؛ لأنها تجمع الخطبة معها.
والقول الثاني: حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه: أن وقتها ما بعد صلاة العصر، ثم ما بعد صلاة العصر فيه عدة أقوال، حتى قيل: حينما يشرع القرص في الغروب، وقالوا: إن فاطمة رضي الله عنها كانت تأخذ بهذا القول، وتوصي غلاماً لها ينظر لها قرص الشمس إذا أخذ في الغروب أخبرها فقامت تدعو.
وقالوا: كان أحد السلف إذا صلى العصر جلس ولم يكلم أحداً إلى أن تغرب الشمس، يدعو الله سبحانه وتعالى انتهازاً أو تحرياً لتلك الساعة إلى غروب الشمس.
ثم إن بعضهم يقول: حتى يكون الظل كذا حتى تصفر الشمس حتى يغرب القرص، فكان ما بعد صلاة العصر يجلس في مكانه إلى أن تغرب الشمس، والله تعالى أعلم.(102/2)
العدد المعتبر الذين تنعقد بهم الجمعة
[وعن جابر رضي الله عنه قال: (مضت السنة أن في كل أربعين فصاعداً جمعة) رواه الدارقطني بإسناد ضعيف] .
هذا الحديث موضوعه في عدد الذين تنعقد بهم الجمعة.
وأعتقد أنه تقدم الكلام في مثل هذا، ومن رجع إلى تتمة أضواء البيان عند الكلام على سورة الجمعة يجد الأقوال هناك متفاوتة، ولم يصح نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدد الجمعة.
والمتأمل يجد أن هناك من يقول: ثلاثة أشخاص مع الإمام، أو شخصان مع الإمام، وهناك الإمام والمؤذن أخذاً من قوله سبحانه: {إِذَا نُودِيَ} [الجمعة:9] فهناك منادِ {مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة:9] وهناك من يسعى، {إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] وهناك من يذكر الله، فقالوا: إذاً هناك المنادي وهو المؤذن، وهناك من يذكر الله وهو الإمام، وهناك من كلف بالسعي، وأقل الجمع ثلاثة.
فقوله: (فاسعوا) يصدق على الواحد والثلاثة، فإذا كانوا ثلاثة يسعون وواحد يؤذن وواحد يذكر الله، فهؤلاء خمسة، فإذا وجد خمسة أشخاص وجبت عليهم الجمعة.
وهناك من قال: أقل عدد يكون اثني عشر أخذاً من قصة التجارة، لما كان صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة وكانت الخطبة بعد الصلاة، ثم قام يخطب فجاءت التجارة، ودقت لها الطبول، فخرج الناس إليها ولم يبق ممن كان عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً.
وقال صلى الله عليه وسلم: (لو خرجوا جميعاً لسال الوادي عليهم ناراً) ، فقالوا: هذا العدد حفظ الله به الصحابة من أن يهلكوا، وسماع الخطبة جزء من الجمعة حتى أنهم قالوا: هي بدل الركعتين الأخريين، ويأتي الخلاف في سماع الخطبة هل هو واجب أو سنة، وهل تصح الصلاة بدونه أو لا تصح؟! وأجيب عن هذا وذاك: أن أول جمعة أقيمت في المدينة المنورة كانوا نحواً من أربعين رجلاً، فقالوا: كون الذين بقوا عند مجيء رسول الله وقت الخطبة عند مجيء العير للتجارة اثني عشر، هذه خطيئة وقعت فجأة ويمكن كان أن يبقى عشرون، ويمكن أن يبقى عشرة أو خمسة، فهذا ليس منضبطاً بعدد، إنما صادف أن الذين بقوا اثنا عشر رجلاً، كذلك صادف الذين صلوا الجمعة أول ما كانوا أبعين رجلاً، ثم جاء خبر جابر، ولكن نبه المؤلف رحمه الله على ضعف هذا الحديث.
فالذي قال ثلاثة أبو حنيفة رحمه الله، والذي قال اثنا عشر رجلاً أحمد ومن وافقه، والذي قال أربعون الشافعي رحمه الله، والذي قاله مالك هو ما يمكن أن يكون كقاعدة عامة ليست مرتبطة بعدد هندسي ولا حسابي، فقال: كل جماعة أقامت في قرية واستقرت، وفيها أميرها وسوقها وجبت عليهم الجمعة سواء كانوا كثيراً أو قليلاً؛ لأنها وحدة سكنية قائمة بذاتها.
وأشرنا سابقاً -أيها الإخوة- بأن هذا القول هو الذي يفيده السياق في آخر السورة الكريمة؛ لأن الله سبحانه يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] ، أي: اتركوا البيع، فلو كانوا اثنين أو ثلاثة لم يكن هناك بيع كثير حتى يحتاج أن نقول: اتركوه؛ لأنها صفة حصلت وأنت ماش ما تستغرق شيئاً، لكن تدل على وجود سوق وأن البيع قائم، والناس يتبايعون ويُشغلون عن الجمعة: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] .
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا} [الجمعة:10] هل يقال لاثنين وثلاثة: انتشروا؟! الانتشار يكون للعدد الكثير.
إذاً: هل وجدتم سوقاً قائماً في الخلاء أو في الفلاة دون وجود قرية لها رئاسة؟! لابد من وجود خادم ووجود ولي أمر وحاكم ليفض النزاعات التي تقع في الغالب بين المتبايعين في الأسواق وإلا حلت الفوضى.
إذاً: هذه وحدة قروية كما يقال مستكملة وقائمة بذاتها، فهذه المجموعة عليها أن تصلي الجمعة سواء كانت عشرين أو مائتين أو أكثر أو أقل، وعلى هذا يضيف المالكية: ويمكن لهذه الجماعة أن تدافع عن نفسها، بمعنى: لو داهمها حيوان أو وحش أو قطاع طرق لكانوا بمجموعهم يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم، ولذا قال: تجب الجمعة على قرية يستقرون فيها احتياطاً من بيوت الشعر، وهم الذين يتبعون القطر والغيث والمرعى فلن يستقروا في مكان، فهؤلاء ليست عليهم جمعة كما يقول مالك رحمه الله.
إذاً: قضية العدد ليس فيها نص، وإنما كلها اجتهاديات، وأولى الأقوال في ذلك ما جاء عن مالك رحمه الله؛ لأنه كلام من واقع الحياة ومن وجود القرى والمستوطنين فيها، والله تعالى أعلم.(102/3)
من آداب الخطبة استغفار الخطيب للمؤمنين والمؤمنات
[وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستغفر للمؤمنين والمؤمنات في كل جمعة) رواه البزار بإسناد لين.
] الغرض هنا الدعاء في الخطبة (للمؤمنين المؤمنات) أي: على العموم، وقد كان صلى الله عليه وسلم يستغفر لآحاد الناس، وهذه سنة للخطيب أن يستغفر في خطبته للمؤمنين والمؤمنات، ونتناول موضوع دعاء الخطيب لولي أمر المسلمين.
فبعضهم يقول: لا مجال له، لأن هذه عبادة لله، ولا ينبغي تعظيم غير الله.
وقال الآخرون: إن الدعاء لإمام المسلمين بالصلاح والإصلاح والبطانة الصالحة، هو خير للمسلمين جميعاً، كما قال أحمد رحمه الله: لو كانت لي دعوة مستجابة لجعلتها إلى ولي أمر المسلمين؛ لأن في إصلاحه صلاح المسلمين.
إذاً: لا مانع أن يدعو الخطيب لما يصلح الإمام في الدين والدنيا لا في مصالحه الخاصة والشخصية، ولكن لمصلحة عموم المسلمين، فعندما يقول: اللهم وفقه لما فيه الخير، اللهم سدد خطاه، اللهم انصر به الإسلام والمسلمين، اللهم اجعله عوناً على طاعتك، وأيد له بطانة تدله على الخير وتعينه عليه، فهذه كلها دعوات ليست راجعة لنفس ولي الأمر في ذاته، بل راجعة لعامة المسلمين.
إذاً: لا مانع في ذلك وهذا الحديث أصل في هذا وبالله التوفيق.(102/4)
قراءة النبي صلى الله عليه وسلم الآيات في خطبة الجمعة
[عن جابر بن سمرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الخطبة يقرأ آيات من القرآن؛ يذكر الناس) رواه أبو داود وأصله في مسلم.
] تقدم معنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ سورة (ق) على المنبر، وهنا أتى بهذا الحديث ليبين أن من شروط الخطبة: أن يأتي بآيات من كتاب الله فيها موعظة وتوجيه وآداب، فسورة (ق) طويلة وكلها مواعظ، وفيها إثبات البعث وفيها خلق الإنسان وغير ذلك.
ولا يستطيع كل إنسان في كل جمعة أن يقرأها، فربما يطول الأمر على الناس، لكن لابد للخطيب أن يأتي بآية من كتاب الله في الخطبة، وجعلوها ركناً من أركان الخطبة التي هي: حمد الله، والشهادتان، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآية من كتاب الله، ثم يأتي بالموضوع الذي يريده.(102/5)
الأشخاص الذين لا تجب عليهم صلاة الجمعة
[وعن طارق بن شهاب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: مملوك، وامرأة، وصبي، ومريض) رواه أبو داود وقال: لم يسمع طارق من النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجه الحاكم من رواية طارق المذكور عن أبي موسى] .
هذا الحديث يبين حكم الإتيان إلى الجمعة وأهل الأعذار الذين تسقط عنهم؛ لأن هذين الأمرين متلازمين وهنا: (الجمعة حق على كل مسلم) ، ثم جاء الاستثناء لأربعة، وجيء بخامس وهو المسافر، وكل هذه الأصناف لها بحثها إن شاء الله، لكن يهمنا قوله: (حق على كل مسلم) ؛ لأن الموجود في أذهان كثير من الناس: أن إتيان الجمعة مندوب أو سنة مؤكدة، ولكن ليعلم الإخوان بالتتبع، ومن أراد فليرجع إلى تتمة أضواء البيان عند هذا المبحث، فسيجد نقول المذاهب الأربعة على أن الجمعة فرض عين على كل مكلف ممن لم يستثن ولم تسقط عنه الجمعة من الأصناف الأربعة أو الخمسة.
ويكفي وعيداً في عدم المجيء إليها قوله صلى الله عليه وسلم: (من ترك الجمعة ثلاث مرات بغير عذر طبع الله على قلبه) ، وهذا ما جاء إلا في المنافقين والعياذ بالله، وكما قالوا رحمهم الله في الاتفاق: هي فرض يومها، أما الذين سقطت عنهم أو لم يدركوها سواء كان بعذرٍ قام بهم كالمملوك والمرأة والصغير والمريض والمسافر، أو لشيء نقص عليه وهو مستكمل الشروط، كأن غلب عليه نوم أو شغل أو بعد عليه السبب أو المسافة، فحينئذٍ يصلي الظهر، إذاً: القادر المستطيع الذي يدخل تحت تكليف يوم الجمعة واجب عليه أن يأتيها.
وقد كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يأتون إليها من العالية ومن قباء، وكان يأمرهم صلى الله عليه وسلم أن ينزلوا لصلاة الجمعة بالمسجد النبوي الشريف، ثم بعد ذلك أذن لهم لما كثر الناس وشق عليهم النزول، وصار الأمر على خلاف ما كان سابقاً، وتقام كل جمعة في نفس القرية لا في قرية أخرى وهذا سيأتي عليه بحث آخر إنشاء الله.
إذاً: الجمعة حق على كل مسلم وفرض عين كالعصر والمغرب والعشاء والظهر في غير يومها.
أما من تسقط عنهم الجمعة فمنه ما هو موضع اتفاق ومنه ما هو موضع خلاف.
[وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس على مسافر جمعة) رواه الطبراني بإسناد ضعيف.
] تقدم الكلام على مقدمة هذا الحديث من حديث طارق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الجمعة حق واجب على كل مسلم) ، واستثنى الأربعة من عموم المسلمين: المملوك والمرأة والصبي والمريض، وسمعنا المؤلف رحمه الله يقول: إن الحديث ضعيف، وقالوا: إن طارقاً لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون الحديث مرسلاً؛ لأن طارقاً تابعي، وبعضهم يقول: رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولكن لم يسمع منه فيكون حديثه مرسلاً، ولكن قالوا: جاء الحديث برواية طارق عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والحديث تلقى بالقبول وعليه العمل، ولكن الخلاف في بعض تلك الأصناف وفيها تفصيل، أما قوله صلى الله عليه وسلم: (الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة) ، فهذا تقدم الكلام عليه من أن الجمعة في يومها فرض عين، وهي فريضة اليوم وقوله: (في جماعة) شرط في الجمعة، أي: لا تصح فرادى، ومن فاتته لعذر أو غير ذلك فلا يصلي جمعة وإنما يصلي ظهراً، والأصناف التي استثنيت هي كما يلي:(102/6)
أولاً: المملوك
والمملوك يصدق على الذكر والأنثى الأمة والعبد، وهو المعبر عنه بملك اليمين، وهذا أمر مفروغ منه، وفيه خلاف بين الجمهور والظاهرية؛ لأن داود بن علي رحمه الله يقول: إنه عليه الجمعة مستدلاً بعموم قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] ، وقال: إنه من عموم الذين آمنوا، وأخذ بذلك ابن حزم رحمه الله، يقول ابن قدامة في المغني: هي رواية عن أحمد.
ولكن الجمهور والرواية الأخرى عن أحمد أن المملوك في حكم مالكه ومنفعته لسيده فلا تجب عليه؛ لأنه مطالب بحق آخر، وإذا أذن له سيده فعليه أن يحضر، وإذا حضر أجزأت عنه وأغنت عن الفريضة يومها.
إذاً: الجمهور على أن المملوك لا جمعة عليه أساساً، وإذا إذن له سيده بحضور الجمعة أجزأته، ولكن يرى الجمهور أن حضوره لا يمكن أن يعتبر في تمام العدد عند من يشترط عدداً معيناً، فمن يشترط اثني عشر رجلاً قال: لا يكون فيهم مملوك، ومن اشترط الأربعين قال: لا يكون فيهم مملوك، بل يكون المملوك زائداً عن عدد الأربعين، وزائداً عن عدد الاثني عشر أي: يجب أن يوجد ممن تجب عليهم الجمعة ابتداءً العدد المطلوب.(102/7)
ثانياً: المرأة
النوع الثاني: المرأة، وهذا بالإجماع، ولكن بعض العلماء يقول: المرأة إذا أرادت أن تحضر الجمعة لسماع الموعظة أو لتتثقف في دينها، فإنه ينظر: إن كانت امرأة كبيرة في السن فلا مانع، وإن كانت شابة يخشى فتنتها فلا تحضر.
والآخرون يقولون: مطلق امرأة إذا أذن لها زوجها أو وليها، بالشروط المعتبرة في خروج المرأة كالتستر الكامل الذي تصح به صلاة المرأة وهو أن تكون لابسة درعاً وخماراً سابغاً، أي: أن الدرع يغطي ظهور القدمين، وكذلك عدم التعرض للطيب، ولا لمواطن الزحام، فإذا أمنت من هذه الجوانب وحضرت الجمعة فإنها تجزئها ولا تطالب بظهر.(102/8)
ثالثاً: الصغير
والثالث: الصغير: وهذا بإجماع العلماء؛ لأن الصغير دون سن التكليف ليس بواجب عليه أن يحضر الجمعة، وإذا حضرت المرأة أو حضر الصغير أيضاً فلا يحسب في العدد الذي تصح به الجمعة.
ويكون حضور المرأة أو الصغير أو المملوك زائداً عن العدد الذي يشترطه من يشترط عدداً معيناً.(102/9)
رابعاً: المريض
الرابع: المريض: قالوا: والمريض على قسمين: - مريض يمكن أن يتحمل ويأتي الجمعة، فإذا حضرها أجزأته، وعد من العدد المطلوب؛ لأن سقوطها عنه ليس أصالة كالصبي أو كالمرأة، ولكن سقوطها عنه لمرضه تخفيفاً عليه، فإذا تحمل وحضر يكون قد تحمل في سبيل حضورها وهو أصلاً من أهلها، فحينئذٍ تصح منه وتنعقد به.
- أما إذا كان المرض ثقيلاً يشق عليه الحضور سقطت عنه الجمعة.(102/10)
خامساً: المسافر
ثم يأتي بالرواية الأخرى ويضيف إلى ذلك خامساً وهو: المسافر.
والمسافر في الجملة حصل الاتفاق على أنه لا جمعة عليه، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم سافر في غزوات عدة ولم ينقل عنه أنه صلى الله عليه وسلم في أي غزوة ولا في أي سفرة صلى جمعة، بل بالإجماع كان السفر للحج والوقوف بعرفة في حجة الوداع يوم الجمعة، ولم يثبت أنه صلى الجمعة، بل صلى الظهر ركعتين قصراً والعصر ركعتين وجمع بينهما.
ولما جاء أبو يوسف ولقي مالكاً رحم الله الجميع وتذاكرا هل صلى النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات جمعة أم صلى ظهراً؟ فقال مالك: صلى ظهراً.
فقال أبو يوسف: ألم يصل ركعتين ويخطب بالناس؟ قال مالك: بلى.
قال: هذه هي الجمعة ركعتان مع الخطبة.
قال: أرأيت جهر بالقراءة أم أسر بها؟ قال: أسر بها.
قال: هذا الظهر، والجمعة يجهر فيها بالقرآن، وهكذا أيها الإخوة أسلوب العلماء في المذاكرة دون مناكرة أو شقاق أو غضب أو شيء من ذلك، فرجع كل إلى الأصل واقتنع أبو يوسف رحمه الله أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة كانت ظهراً، وبهذا اتفقوا في الجملة على أن المسافر لا جمعة عليه.
ولماذا لا جمعة عليه؟ قالوا: لأن المسافر تلحقه مشقة، ومن عناء السفر قصرت عليه الصلوات الرباعية فهو في حاجة ومشقة، فتكليفه بحضور الجمعة بما لها من شروط قد يلحق به مشقة زائدة.
ولهذه النظرة نجد بعض الفقهاء يفصل قالوا: المسافر على حالتين: - مسافر عابر سبيل، نزل بقرية في يوم الجمعة وهو على نية الرحيل في يومها، أي: أنه على ظهر طريق، فهذا يتفقون على أنه لا جمعة عليه.
- مسافر نزل في قرية قبل الجمعة بيوم أو يومين وسيستمر بعد الجمعة بيوم أو يومين فقالوا: هذا مسافر، ولكن نزل واستقر، فانتفت عنه مظنة التعب والمشقة، فهذا عليه أن يأتي، والجمهور قالوا: مادام أن له حكم المسافر وله يقصر الصلاة على ما تقدم في مدة المقيم إقامة مؤقتة، فحينئذٍ حكم السفر مازال معه واليوم كاليومين إلى الأربعة الأيام سواء.
إذاً: المسافر والذي نزل نزولاً مؤقتاً في طريقه فإنه لا جمعة عليه، وإذا حضر، قالوا: إذا حضر تحتسب له وتجزئه عن يومها، ولكن لا يكون في عدد الجمعة لماذا؟ لأن الأصل سقوطها عنه.
إذاً: هؤلاء الخمسة الأشخاص لا جمعة عليهم.
نجد أن هناك قولاً منفرداً، وهو يأتي عن أبي يوسف رحمه الله صاحب أبي حنيفة رحمه الله؛ يقول: يلحق بهؤلاء الخمسة الأعمى؛ لأنه تلحقه المشقة في حضور الجمعة، ولكن كما قال ابن قدامة في المغني: هذا قول شاذ؛ لأن الأعمى جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعتذر عن حضور الجماعة وقال: بيني وبين هذا المسجد هذا الوادي وليس لي قائد، وفي الطريق كذا وكذا واسترخص بأن يصلي في بيته فأذن له، وبعد أن أدبر دعاه فقال: أتسمع النداء؟ قال: بلى قال: أجب، فيقول الجمهور: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص له في ترك الجماعة في الصلوات الخمس، والجمعة آكد، فلأن لا يرخص له في الجمعة من باب أولى.
إذاً: الذي عليه الجمهور هو أن الجمعة تسقط عن خمسة أصناف: المملوك والمرأة والصبي والمريض والمسافر على ما تقدم، وبالله تعالى التوفيق.(102/11)
من آداب المستمعين مع الخطيب استقباله بوجوههم
[وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا) رواه الترمذي بإسناد ضعيف، وله شاهد من حديث البراء عند ابن خزيمة.
وعن الحكم بن حزن رضي الله عنه قال: (شهدنا الجمعة مع النبي صلى الله عليه وسلم فقام متوكئاً على عصاً أو قوسٍ) رواه أبو داود] .
بعد أن بين وجوب الجمعة على الأعيان وأنها فرض عين، ومن استثنى من ذلك من تلك الأصناف الخمسة ذكر آداب المصلين مع الخطيب فقال: إذا جلس صلى الله عليه وسلم على المنبر -أي: للخطبة- استقبلناه بوجوهنا.
العادة الطبيعية أن المصلين مستقبلون القبلة، والمنبر في قبلية المسجد، فإذا صعد الإمام اتجه إلى الشمال والمصلون متجهون إلى القبلة، فهم مستقبلون بوجوههم، ولكن هذا يصدق لمن هو باتجاه المنبر سواء، أما ميمنة الصف وميسرة الصف فليسوا مستقبلين، إذاً: على من يكون في الميمنة أو في الميسرة أن يستدير ويستقبل الخطيب بوجهه، وليس بلازم أن يستدير بجسمه كاملاً بأن يكون واجهته إلى المنبر.
ولو كان جالساً وأدار وجهه إلى الخطيب مستقبلاً القبلة بصدره، ومديراً وجهه إلى الإمام على المنبر مستقبلاً إياه بوجهه، فهذا من علامات الأدب والإصغاء، والنظر إلى الخطيب وهو يخطب ومتابعته في هذه الحالة توكيد للسماع وتقوية للمعنى؛ لأن حواسه كلها مع الخطيب يسمع بأذنه ويرى بعينه.
وعلى هذا تكون السنة ونحن بالمسجد النبوي فيها مشكلة؛ لأنه دون بقية المساجد، فالمنبر يوجد في حد المسجد النبوي الأول في عهده صلى الله عليه وسلم، ثم جاءت الزيادة التي في القبلة على سمت باب السلام إلى الحجرة، وكانت تسمى الطُرقة (طُرقة باب السلام) طرقة المُسلّمين على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والآن مكان المنبر لا يمكن أن يغير؛ لأنه موضوع على ما وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلف المنبر إلى القبلة عدة صفوف أربعة خمسة ستة على حسب الزحام، ماذا يفعل أولئك الذين في جلوسهم مستدبرين المنبر؟ السنة أن يواجهوا الخطيب بوجوههم ولا يعطونه ظهورهم؛ لأن هذا من علامات الإعراض، وبعضهم يقول: كيف نستدبر القبلة ونستقبل المنبر، ولكن لم أجد من استثنى ذلك المكان، فاستقبال الخطيب بالوجه في عامة المساجد هي السنة، ولا يوجد تساؤل إلا في هذا المسجد النبوي وبالنسبة لطرقه فقط.
كذلك الخطيب في مكة المصلون مستقبلون المنبر طبيعياً؛ لأنهم يستقبلون الكعبة بشكل دائمٍ، والمنبر لاصق بالكعبة، فغاية ما هناك أن الذين تقع الكعبة بينهم وبين المنبر لا يستطيعون أن يتطاولوا عليها ولا أن يزيلوها، لكنهم استقبلوا الخطيب بوجوههم، فسواء حصل حاجز أو لم يحصل فذلك ليس بأيديهم.
إذاً: السنة في المستمع أن يستقبل الخطيب بوجهه.
ولذا اتفق الجميع -ما عدا رواية عن أبي حنيفة رحمه الله ولكن الصحيح عنه كقول الجمهور- أن السنة في السلام على النبي صلى الله عليه وسلم أن تستقبله بوجهك وتستدبر القبلة؛ لأن أدب الخطاب أن تواجه من تخاطب، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (ما من أحد يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي فأرد عليه السلام) ، فهل تريد أن يرد عليك السلام وأنت مدبر عنه؟ وعند الإمام أبي حنيفة كما ينقلون عنه: إن الأدب أن يقف بجانب الحجرة فيجعلها عن يساره أو عن يمينه، ويستقبل القبلة عند السلام؛ لأن السلام قربة وعبادة، وقبلة القربة والعبادة الكعبة، فيستقبل الكعبة بوجهه ويسلم على النبي من جانبه كما يحدث شخص إنساناً آخر عن جانبه، ولكن الذي رأيناه في مسند أبي حنيفة رحمه الله -وهو مطبوع مع مسند الشافعي رحمهما الله- رواية أبي حنيفة أن السنة والأدب أن تستقبل النبي صلى الله عليه وسلم أي: الحجرة الشريفة عند السلام عليه.
فيكون قد وافق الجمهور في أن الأدب عند السلام على النبي صلى الله عليه وسلم أن يستقبل الحجرة الشريفة فيستقبل وجه النبي صلى الله عليه وسلم.(102/12)
اتكاء النبي صلى الله عليه وسلم على العصا والقوس وقت الخطبة
[وعن الحكم بن حزن رضي الله عنه قال: (شهدنا الجمعة مع النبي صلى الله عليه وسلم فقام متوكئاً على عصاً أو قوسٍ) رواه أبو داود] .
توكؤ الخطيب على شيء في يده مظهر من مظاهر الخطابة عند العرب قبل وبعد الإسلام، فكانوا إذا كان الخطيب في قوم لابد أن يكون على نشز مرتفع أو على ظهر ناقته أو جواده؛ لأنه بارتفاعه يشرف على أكثر عدد ممكن، وبارتفاعه يبلغ صوته أكثر مما لو كان منخفضاً.
ومن هنا كانت الخطبة على المنبر، وإن كان أصل المنبر في المسجد النبوي الشريف شفقة بطول قيام رسول الله، كان صلى الله عليه وسلم يقوم على قدميه في الروضة فيخطب متكئاً على جذع، فكان يتكئ عليه ويخطب، فرأت امرأة من الأنصار أن النبي صلى الله عليه وسلم يقف ويطيل القيام، ويبادل بين قدميه لطول الوقوف، فقالت: يا رسول الله! إن لي غلاماً نجاراً فهل تأذن له أن يصنع لك منبراً تجلس عليه حين تقوم، فأذن له، فذهب الغلام وجاء بأعواد من الطرفة من الغابة عند ملتقى الأسيال وراء بئر رومة وصنع المنبر من ثلاث درجات، درجة أولى، والدرجة الثانية عليها القدمان، والدرجة الثالثة يجلس عليها، فانتقل صلى الله عليه وسلم من موقفه واقفاً إلى موقع المنبر للجلوس عليه.
وكان من شأن الجذع أن حن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمع المصلون حنين الجذع لرسول الله ونزل إليه فالتزمه كما يهدئ الأب ولده أو الأم طفلها وقال: (إن شئت أخذتك فغرزتك فأورقت وأثمرت وأينعت، وإن شئت كنت من غرس الجنة؟ قال: أريد أن أكون من غرس الجنة، فدفنه صلى الله عليه وسلم في الروضة في أصل المنبر) .
إذاً: صنع المنبر ابتداءً لراحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من ثلاث درجات كما هو معلوم، فجاء الناس وصنعوا المنبر واعتبروه من جهة راحةً للخطيب ومن جهة للإشراف عليهم ليكون أدعى لانتشار الصوت وبعده.
ولهذا كانت السنة أن الخطيب يكون على مكان مرتفع فإلم يكن فعلى ظهر بعيره، وإلا فعلى ظهر فرسه، فجاء الإسلام وجعل المنبر للخطيب، وكان الخطيب يعتمد على قوسٍ أو عصا، فالقوس من أدوات القتال والعصا من أدوات التوكؤ فيقول الأدباء: إذا كان موضوع الخطبة يتعلق بالقتال والجهاد من هذه الناحية كان الاتكاء على قوس إشعاراً بجدية الموضوع، وإن كانت الخطبة مثلاً في أمور سلمية اتكأ على عصا؛ لأن العصا تشعر بعدم الحرب، والقوس يشعر بالشدة والقتال.
فهنا كلمة (أو) تكون مشعرة بالشك، أو أنه أحياناً يتكئ على قوس وأحياناً على عصا، فأحياناً صلى الله عليه وسلم يخطب الناس ويهيئ الجيوش فيندبهم إلى القتال، والذي يناسب في هذه الحالة أن يكون متكئاً على قوس.
وأحياناً يخطبهم ويبين لهم بعض ما يرد عليه أو بعض ما يعرض لهم من إشكالات وأحياناً يقول: أيها الناس! احضروا المنبر، ويكون لأمر دنيوي أو تشريعي فيكون الاعتماد على عصاً، ولو كان على المنبر، والاتكاء -أيها الإخوة- أثناء الخطابة يساعد الخطيب على استرساله في موضوعه.
ومن العجيب أنهم كانوا في أثناء القتال في التاريخ الأول يأتي الخطيب وبيده السيف، فيصعد المنبر وهو مستل سيفه يتكئ عليه، فيخطب وهو متكئ على السيف بدلاً عن القوس وإذا جئت إلى بعض مساجد الأرياف خارج المملكة تجد السيف مصنوعاً من خشب على المنبر يحاكي ما كان سابقاً فيأتي الخطيب ويصعد المنبر وبيده سيف من خشب، لا حول ولا قوة إلا بالله! تقليد! والسيف الخشب سيشعر بقتال.
إذاً: انتقلت تلك العادة حتى أدت إلى هذا التقليد بهذه الحالة، ولكن لابد إما أن يكون عصاً فعلاً وإما أن يكون قوساً، فإذا لم تدع الحاجة لذلك ولا يوجد، ولا تعود الناس على ذلك صعد وأمسك بيده جانب المنبر، وبعضهم يقول: يضع اليمنى على اليسرى، وبعضهم يقول: اليدين على جانبي المنبر إلى آخره.
ويذكر بعض الأدباء في عادة الخطباء أنه لابد أن تكون يده في شيء محسوس.
وبعض النكت عن بعض الأدباء يقولون: مفتاح عقل الخطيب في شيء يتعوده، وذكروا عن خطيب غير عربي كان بليغاً جداً، ولاحظ شخص أنه عند الحديث يمسك زرار السترة، ويعبث به طيلة ما يتكلم، فجاء إنسان وعند بدئه للصعود للخطبة قطع هذا الزرار، فوقف ليخطب فأخذ يحسس ويطلب الزرار فلم يجده فضاع عليه المفتاح، فلعله من باب شيء في يده محسوس على حسب ما تعود يساعده حتى يسترسل في موضوعه إلى غير ذلك، لكن الأصل كما يقول الأدباء: أن يعتمد الخطيب على شيء إما عصا أو قوس وذلك بحسب مناسبة الخطبة، وكما يقال: لكل مقال مقال.
وهنا يا إخوان ينبه العلماء: أنه إن اعتمد على عصا أو قوس إنما يكون لمجرد الاعتماد، لا أن يرفعها للتهديد أو يدق المنبر بها، إنما تكون في يده يعتمد عليها، إذاً: عمل للعصا ولا للقوس، وإنما هي اتباع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يدق بها درج المنبر أو يشهرها على الناس أو يهدد بها.(102/13)
كتاب الصلاة - باب صلاة الخوف
صلاة الخوف من الصلوات التي فرضت علينا، وهي صلاة من اسمها تبين أنها لا تؤدى إلا في حالة وجود سببها، وهو الخوف، ولها صفات عديدة، وقد أداها النبي عليه الصلاة والسلام عدة مرات بصفات عدة.(103/1)
أحكام صلاة الخوف(103/2)
مشروعية صلاة الخوف
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: [عن صالح بن خوات رضي الله عنه، عمن صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: أن طائفة صلت معه، وطائفة وجاه العدو، فصلى بالذين معه ركعة ثم ثبت قائماً وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا فصلوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت، ثم ثبت جالساً وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم.
متفق عليه، وهذا لفظ مسلم، ووقع في المعرفة لـ ابن مندة عن صالح بن خوات عن أبيه] .
تقدم الكلام على مشروعية صلاة الخوف، وعلى أهميتها، وعظيم دلالتها على وجوب الجماعة؛ لأنها إذا كان يحافظ عليها عند مصافة العدو فلأن يحافظ عليها في السلم والأمن من باب أولى.
ولنقف على هذا الترتيب النبوي الكريم لهذا العمل الذي يعتبر من الدقة بمكان، وكونها قد لا يعمل بها الآن لا يستدعي تركها؛ لأنها من الفقه، ومن يدري ماذا يئول الأمر إليه، فإن كثيراً من العلماء الاجتماعيين أو السياسيين أو الدينيين يقولون: سيرجع الناس في قتالهم إلى السيف والوتر والقوس؛ أي: حينما يتغير الوقت، ولسنا بصدد ذلك، ولكن يهمنا -كما أسلفنا- الوقوف على كيفية وصفة هذه الصلاة، كما جاء في الأثر: تعلم مسألة فقه خير من عبادة ستين سنة، عمل بها أو لم يعمل.
والكيفيات -كما أشرنا- متعددة، ولكن الصور التي تعتبر أساساً قرابة ست صور.
وبدأ المؤلف بصورة منها، وهي التي تتفق مع سياق القرآن الكريم، ونحاول إن شاء الله بيان ذلك بالإشارة، أو بالعبارة، أو بما ييسره الله سبحانه وتعالى، والآن نمضي مع هذا النص خطوة خطوة.
قال المؤلف رحمه الله: [عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذات الرقاع] .
ذات الرقاع هي اسم غزوة، قال ابن حجر في فتح الباري في كتاب المغازي: واختلف العلماء في سبب التسمية كما اختلفوا في تاريخها، أما سبب التسمية فقد جاء عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه أنه قال: (غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الستة النفر يعتقبون على البعير -أي: يركب كل واحد منهم مسافة ثم ينزل- قال: فحفيت أقدامنا، وتناثرت أظفارنا، فكنا نأخذ الرقاع ونلفها على أقدامنا) .
وقال آخرون: سميت بذلك لأن الأرض كانت متلونة.
وقول ثالث: لأنهم رقعوا راياتهم وألويتهم.
وقال بعضهم: نسبة لجبل هناك فيه ألوان متعددة كالرقع في الثوب.
وسبب التسمية لا يعنينا.
بقي الخلاف في تاريخها، فبعض العلماء يرى أنها قبل الخندق، وبعضهم يقول: إنها بعد خيبر.
وبينهما فرق بعيد، ويحقق البخاري رحمه الله أنها بعد خيبر، وهي قطعاً بعد الخندق؛ لمجيء أبي موسى رضي الله تعالى عنه بعد ذلك، ويهمنا في التاريخ: قضية غزوة الخندق؛ لأنهم ما صلوا العصر حتى غربت الشمس، وجاء عمر رضي الله تعالى عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال -يدعو على المشركين-: (شغلونا عن الصلاة ملأ الله عليهم قبورهم وبطونهم ناراً) .
ولم يصلوا صلاة الخوف، وفي بعض الروايات الأخرى: أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل: (أصليتم العصر؟ قالوا: لا) .
وقال بعضهم: لم تكن صلاة الخوف شرعت.
وقال بعضهم: كانت مشروعة في ذات الرقاع، على أن ذات الرقاع قبل الخندق.
والآخرون يقولون: كانت مشروعة لكن الناس شغلوا عنها، كما قال عمر: (شغلونا) .
أو نسيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما سأل: (أصليتم العصر؟) ، والتحقيق كما ساقه البخاري، وبيّنه والدنا الشيخ الأمين في أضواء البيان في الجزء الأول في كلامه عن الآية الكريمة: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ.
} [النساء:102] أن ذات الرقاع بعد الخندق.
وصلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف قيل: أربع مرات، وقيل: ست مرات، وابن العربي في القبس يقول: أربع عشر مرة، ولكن لم يبينها.
ويهمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف عدة مرات، وجاءت صفتها في عدة صور، فبعضهم يقول: في كل مرة كانت الصلاة على كيفية، وبعضهم يقول: الصلاة تغيرت صفاتها وتعددت كيفياتها بحسب حالة الميدان.(103/3)
الصفة الأولى لصلاة الخوف
المؤلف رحمه الله بدأنا بهذه الصورة، وهي مروية عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف في ذات الرقاع.
ففي تلك الصلاة في ذات الرقاع أن طائفة صفت معه -صلى الله عليه وسلم-، وطائفة صفت تجاه العدو.
وصلاة الخوف تدور بين أمرين: استقبال القبلة، والحذر من العدو.
وفي هذه الصورة العدو ليس في جهة القبلة، فصفت طائفة خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وصفت الطائفة الأخرى تجاه العدو، فهذا هو التقسيم الأول، فطائفة خلف الرسول إلى القبلة، وطائفة وجاه العدو.
قال: [فصلى بالذين معه ركعة] كبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكبر الجميع، الذين خلفه والذين تجاه العدو، فأصبحت الطائفتان في صلاة، مع اختلاف الموقف، فهذه خلف الإمام مستقبلة القبلة، وهذه تجاه العدو، والكل كبر للصلاة.
ثم قرأ، وركع فركعت الطائفة التي خلفه معه، ورفع فرفعوا، ثم سجد فسجدوا، والطائفة الأخرى قائمة تجاه العدو.
قال: (ثم ثبت قائماً) .
أي: ثم قام وثبت قائماً.
فالذين صفوا خلفه صلوا معه ركعة كاملة، فقام للركعة الثانية، واستوت الطائفتان قائمتين، هذه صلت ركعة، وتلك لم تصل شئياً.
قال: (وأتموا لأنفسهم) .
أي: هذه الطائفة التي خلف الإمام لما قام الإمام للثانية صلوا لأنفسهم، فركعوا ورفعوا وسجدوا سجدتين، فالطائفة التي صفت خلف الإمام صلت ركعتين، ولكن ركعة اقتدت فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم، وركعة صلتها لنفسها.
قال: (ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو) .
أي: هؤلاء ذهبوا إلى العدو، وهؤلاء رجعوا خلف النبي صلى الله عليه وسلم.
فالطائفة التي كانت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصلت ركعتين ركعة مقتدية فيها وركعة لنفسها ذهبت تجاه العدو.
قال: (وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت) .
أي: الطائفة الأخرى التي كانت تجاه العدو، جاءت وصفت خلف النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: فصلى بهم الركعة التي بقيت.
أي: فصلى بهم الركعة الثانية، ركع فركعوا، ورفع فرفعوا، وسجد فسجدوا.
فصلى النبي عليه الصلاة والسلام ركعتين، وصلت الطائفة الأولى ركعتين، وصلت الطائفة الثانية ركعة واحدة، فالطائفة الأولى حينما صلت مع النبي صلى الله عليه وسلم صلت ركعة واحدة مقتدية، وأتمت لنفسها، وهذه الطائفة التي جاءت صلت أيضاً ركعة واحدة اقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام، فلما انتهى من السجدتين جلس للتشهد، فقامت هذه الطائفة التي كانت وجاه العدو وصلت خلفه ركعة، ثم قامت وأتمت لنفسها، كما فعلت الطائفة الأولى، فاقتدت به ركعة، وأتمت لنفسها ركعة.
وحينما أتمت الطائفة الثانية لنفسها الركعة الثانية يكون الجميع قد صلوا ركعتين، فهذا يعني أن الجميع أكمل صلاته، ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم، وكل سلم في مكانه، وما طائفة فازت على طائفة بشيء، فكل طائفة من الطائفتين اقتدت برسول الله صلى الله عليه وسلم في ركعة، وأتمت لنفسها الركعة الثانية، ولما سلم كان الجميع قد أتم صلاته، فسلموا جميعاً معه.
الصورة الثانية: إذا كان العدو تجاه القبلة، فيكبر الجميع، ثم يركع ويركع الجميع، ثم يسجد ويسجد الصف الأول فقط، ويبقى الصف الثاني في الحراسة، وعندما يقوم الصف الأول يسجد الصف الثاني السجدتين، والصف الأول يحرسه ويتقدم الصف الثاني المتأخر، ويتأخر الصف الأول المتقدم، ثم يقومون إلى الركعة الثانية فيركع الإمام ويركع الجميع، ويسجد الإمام فيسجد الصف المتقدم، ويجلس الإمام والصف المتقدم للتشهد ويطيل فيه، ويتم الصف المتأخر ما عليه -السجدتين- ويلحقون الإمام والصف الأول في التشهد، ثم يتشهدون معهم، ويسلم الإمام ويسلمون جميعاً، وهذه الصورة ستأتي في حديث جابر الآتي.
ونستطيع أن نقول: إن هاتين الصورتين هما الأساس، وقد وضحتا ولله الحمد.
وهناك صور أخرى سيمر عليها المؤلف، لكن -كما يقال- قد تتداخل مع هاتين الصورتين، وقد تنفرد.
لذلك نمشي مع المؤلف خطوة خطوة، وحديثاً حديثاً؛ لأن هناك صوراً متقاربة جداً، فما بين أن يتموا لأنفسهم في مكانهم خلف الإمام، وبين أن يذهبوا ويتموا لأنفسهم في أماكنهم.(103/4)
الصفة الثانية لصلاة الخوف
قال رحمه الله تعالى: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد، فوازينا العدو فصاففناهم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بنا، فقامت طائفة معه، وأقبلت طائفة على العدو، وركع بمن معه وسجد سجدتين، ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل فجاؤوا فركع بهم ركعة، وسجد سجدتين، ثم سلم، فقام كل واحد فيهم فركع لنفسه ركعة، وسجد سجدتين] .
قوله: (وازينا العدو فصاففناهم) ، يعني: ليس هناك اشتباك، بل كلٌ منهما مواجه للآخر، وحينئذ حانت الصلاة؛ فكانت صلاة الخوف.
قال: (فقامت طائفة معه وأقبلت طائفة على العدو، وركع بمن معه وسجد سجدتين، ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل ... ) .
قوله: (ثم انصرفوا) .
أي: صلوا ركعة واحدة ولم يتموا لأنفسهم، وذهبوا هناك، فذهبوا بركعة واحدة، ثم جاء أولئك وصفوا خلف النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: [ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل، فجاؤوا فركع بهم ركعة، وسجد سجدتين ثم سلم.
] .
في هذه الصورة الثانية التي ساقها المؤلف كل طائفة صلت مع النبي ركعة واحدة، والأولى بعد الركعة الأولى ذهبت للحراسة، وطائفة الحراسة جاءت وصلت الركعة الثانية للنبي صلى الله عليه وسلم والأولى لها، فأصبحت كل طائفة صلت ركعة واحدة، والإمام صلى ركعتين، فيكون الإمام قد أتم صلاته والطائفتان بقيت على كل واحدة منهما ركعة، فالإمام هنا سلم؛ لأنه أتم صلاته.
قال: [فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة] .
بعدما صلت كل طائفة مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعة واحدة، الأولى صلت مع النبي الركعة الأولى وانصرفت، والطائفة الثانية جاءت وصلت مع الرسول عليه الصلاة والسلام ركعته الثانية وهي الأولى في حقها، فالإمام أتم صلاته ركعتين، وكلتا الطائفتين كل منهما صلى واحدة، فبعد أن سلم الإمام كل طائفة تصلي لنفسها ركعتها الباقية.
لكن هل بعدما سلم الإمام تقوم كل طائفة تصلي لنفسها، وتصبح الطائفتان في وقت واحد في صلاة، أم أن واحدة تكمل لنفسها والأخرى تبقى في الحراسة؟ الصحيح أن تبقى واحدة في الحراسة وتتم الأخرى؛ لأنه لو كل طائفة بادرت بإتمام ما عليها لضيعت الحراسة، كما يقول ابن حجر: هل هو في وقت واحد أو على التعاقب؟ والصحيح أنه على التعاقب؛ لأنهما لو قامتا لإتمام ما فاتهما، أو إتمام ما بقي عليهما ضيعت الحراسة، والغرض من هذا كله الحفاظ على الحراسة.
ففي هذه الصورة كل طائفة صلت ركعة واحدة وذهبت، ولم تتم لنفسها، والطائفة الثانية أيضاً جاءت وصلت ركعة واحدة، وسلم الإمام، وبقي على كل طائفة ركعة، فعلى كل طائفة أن تأتي بالركعة التي بقيت عليها، ولكن ليس في وقت واحد، بل على التعاقب، والأولى أن الطائفة التي وراء النبي صلى الله عليه وسلم تتم لنفسها أولاً، ثم تتم الأخرى لنفسها في مكانها، والله تعالى أعلم.
قال: [فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين] .
يعني: أتم الركعة الثانية.(103/5)
الصفة الثالثة لصلاة الخوف
قال رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه قال: (شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف والعدو بيننا وبين القبلة، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وكبرنا جميعاً، ثم ركع وركعنا جميعاً، ثم رفع من الركوع ورفعنا جميعاً، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه، وأقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى السجود قام الصف الذي يليه فذكر الحديث) وفي رواية: (ثم سجد وسجد الصف الثاني) ] .
الصورة التي أشرنا إليها قبل الصفة الثانية جاءت الآن في حديث جابر.
قوله: (والعدو بيننا وبين القبلة) ، يعني: صاففناه وواجهناه واستقبلنا القبلة.
قوله: (فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وكبرنا جميعاً) أي: الصفان كبرا جميعاً.
قال: (ثم ركع وركعنا جميعاً) أي: ركع فركع الجميع، فالصفان ركعا معه؛ لأن العدو أمامهم.
قال: (ثم رفع من الركوع ورفعنا جميعاً) قال: (ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه) أي: لما سجد سجد صف واحد، ففي القراءة والركوع والرفع من الركوع الصفان متساويان؛ لأنهم في ركوعهم وفي رفعهم في حراسة، لكن لما جاء وقت السجود سجد والصف الذي يليه، والصف الثاني بقي قائماً للحراسة.
قال: (وأقام الصف المؤخر في نحر العدو) أي: الصف المتأخر قام حارساً.
قال: (فلما قضى السجود قام الصف الذي يليه فذكر الحديث) أي: فلما سجد السجدتين وقام للثانية.
وقوله: (وذكر الحديث) يعني: أن الصف الذي سجد مع النبي صلى الله عليه وسلم تأخر مكان الصف الذي كان في الحراسة، والصف المتأخر الذي كان في الحراسة تقدم وراء النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ وركع فركعوا جميعاً، ورفع فرفعوا جميعاً، وعندما سجد عليه الصلاة والسلام سجد الصف الذي يليه الذي كان في الحراسة في الركعة الأولى.
(وفي رواية: ثم سجد وسجد الصف الأول) هذا صحيح.
[فلما قاموا سجد الصف الثاني وذكر مثله، وفي أواخره: ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم وسلمنا جميعاً.
رواه مسلم] .
لأن كلاً قد أتم ركعتين خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فقط التفاوت في حالة السجود.
قال رحمه الله: [ولـ أبي داود عن أبي عياش الزرقي، وزاد: إنها كانت بعسفان] .
هذا ليبين تاريخ مشروعية صلاة الخوف، وصلاة الخوف اختلف في تاريخها، فجاء أولاً أنها في ذات الرقاع، وجاء أنها في عسفان، وعسفان في عمرة الحديبية، ويذكرون خبراً بأن خالد بن الوليد يقول: صاففناهم- أي: المسلمين-، ثم صلوا صلاة الظهر، فقلنا: لو غافلناهم -يعني: في صلاة الظهر-، فقيل: إنها ستأتيهم صلاة أخرى هي أحب إليهم من أموالهم وأولادهم، فنغدر بهم فيها، فجاء جبريل عليه السلام وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما فكر فيه المشركون، فأقام صلاة الخوف، وأوجد الحراسة في الصلاة.
فصلوا الظهر بدون صلاة الخوف، والعدو انتبه، فلما انتبه العدو وانتظر أن تحين الفرصة في الصلاة التي تليها جاء جبريل وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فصلى العصر على حالة صلاة الخوف التي فيها الحراسة.
قال: [وللنسائي -من وجه آخر- عن جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بطائفة من أصحابه ركعتين ثم سلم، ثم صلى بآخرين ركعتين ثم سلم] .
هذه الصورة من صور صلاة الخوف، وهي أيسر ما تكون، فقد قسمهم طائفتين طائفة تجاه العدو وطائفة معه، فصلى بالطائفة التي معه ركعتين، وسلم وسلموا، ثم لما سلموا ذهبوا تجاه العدو، وجاءت الطائفة التي كانت في الحراسة وصلى بهم مرة أخرى ركعتين، فصلى مرتين مرة بالطائفة الأولى، ومرة بالطائفة الثانية، وكل طائفة صلت مرة واحدة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم صلى مرتين، والفريضة لا تكرر، فتكون الأولى فريضة والثانية نافلة.
ومن هنا قال الشافعي: يصح اقتداء المفترض بالمتنفل.
مع أن قضية المفترض والمتنفل جاءت أيضاً في قصة عثمان في صلاته في أهل قباء، لكن هنا كانت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: [ومثله لـ أبي داود عن أبي بكرة] .(103/6)
الصفة الرابعة لصلاة الخوف
قال رحمه الله: [وعن حذيفة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف بهولاء ركعة، وبهولاء ركعة، ولم يقضوا.
رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وصححه ابن حبان] .
هذه صورة جديدة أيضاً، حيث قسمهم صفين، فصلى بالذين خلفه ركعة واحدة، وذهبوا تجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى وصفت خلفه، وصلى بها ركعة واحدة، وسلم وسلموا.
يقول: [ولم يقضوا] .
ففي الصورة الأولى قضوا الركعة الباقية كل في مكانه، وهذه الرواية ليس فيها قضاء، حيث اكتفى كل بركعة، فهذه صورة جديدة.
وبعضهم يقول: كيف تجزئ ركعة؟ فنقول لهم: لأن الصلاة في السفر تقصر إلى ركعتين، وصلاة السفر تقصر في الخوف إلى نصفها، فتبقى ركعة واحدة، وهذا ما رجحه والدنا الشيخ الأمين في أضواء البيان، والله تعالى أعلم.
ويهمنا إدراك الصور التي ساقها المؤلف رحمه الله.
قال: [ومثله عند ابن خزيمة عن ابن عباس رضي الله عنهما] .(103/7)
الصفة الخامسة لصلاة الخوف
قال رحمه الله تعالى: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الخوف ركعة على أي وجه كان) رواه البزار بإسناد ضعيف] .
المؤلف عندما ساق الكيفية السابقة وفيها غرابة، حيث تكتفي كل طائفة بركعة واحدة جاء يؤيد هذه الكيفية بهذه الرواية.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الخوف ركعة على أي وجه كان) هذه صفة جديدة، حيث يصليها كل واحد منفرداً على أي وجهان، فلا قبلة، ولا ركوع ولا سجود إلخ، وكيف تؤدى هذه الكيفية؟ يقول ابن حجر وغيره: إنما هو الذكر والإيماء.
فهذا الخبر جاء به المؤلف عقب ذكره اكتفاء الطائفتين بركعة واحدة ليؤكد ويستدل على هذه الصفة، وفيه زيادة: (على أي وجه كان) ، وليس في هذه الصورة وجود طمأنينة ولا ركوع ولا سجود، بل يشعر أنه في حالة الحركة الدائبة والكر والفر في الميدان، فتكون هذه الرواية مؤيدة للصورة الأولى نوعاً ما.
والذي أخذ بهذه الصورة استدل بهذه الرواية، فقال: تصلى ركعة واحدة.
والله تعالى أعلم.
قال: [وعنه مرفوعاً: (ليس في صلاة الخوف سهو) أخرجه الدارقطني بإسناد ضعيف] .
السهو مرفوع في صلاة الخوف حال القتال لأن المقاتل يذهب ويأتي، ويَضرب ويُضرب، وقاتل ومقتول، فما فيها سهو؛ لأنه قد ترك الركن والواجب أصلاً.(103/8)
كتاب الصلاة - باب صلاة العيدين [1]
جعل الله يوم العيد يوم فرحة للمسلمين، وشرع لهم فيه الخروج إلى الصلاة رجالاً ونساء، وشرع ليوم العيد آداباً وسنناً، وجعل للمسلم الحق في التوسعة على أهله وعياله مع مراعاة حقوق إخوانه وجيرانه.(104/1)
ذكر بعض المظاهر والآداب في يوم العيد(104/2)
سنة خروج عموم نساء المسلمين إلى المصلى
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فيقول المؤلف: [وعن أم عطية رضي الله عنها قالت: (أمرنا أن نخرج العواتق والحيض في العيدين يشهدن الخير ودعوة المسلمين، ويعتزل الحيض المصلى) متفق عليه] .
حديث أم عطية هذا له عدة جوانب في باب التشريع للصلاة، وفي النواحي الاجتماعية في الإسلام وفي المدينة آنذاك.
وهذا الحديث فيه قولها: (أمرنا) ، والآمر هنا معروف؛ لأن الذي يملك سلطة الأمر في ذلك الوقت هو النبي صلى الله عليه وسلم، وتذكر بعض المراجع أن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع النسوة في بيت، ثم بعث إليهن عمر رضي الله تعالى عنه، فوقف في الباب، فسلم ثم قال: أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكن أن تخرجن إلى المصلى.
فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر النسوة أن يخرجن يوم العيد إلى المصلى كما يخرج الرجال، وأم عطية رضي الله تعالى عنها تبين لنا مدى عمق وشمول هذا الأمر لجميع النساء حتى العواتق.
والعواتق من النسوة: اللاتي لا يخرجن، فهن قاصرات في بيوتهن مخدومات مكفيات مئونة الخروج؛ لأن النسوة على أقسام حسب مراتب الحياء، فهناك امرأة تخرج وتلقى الرجال، وربما باعت واشترت في الأسواق، ومن النسوة من تخرج من بيتها لقضاء حاجتها فقط وترجع، ومن النسوة من لا تخرج حتى من بيتها.
وقد قال بعض الشعراء يبين حالة امرأة تزور جارتها: كأن مشيتها من بيت جارتها مور السحاب بلا ريث ولا عجل فعابت عليه امرأة فقالت: جعلتها خراجة ولاجة، هلا قلت كما قال الآخر: تعتل عن جاراتها فيزرنها أي: تعتل وتعتذر من أن تزور الجيران، وجيرانها يأتين لزيارتها، وهي معتكفة في بيتها، فهذا الصنف من النساء خروجه قليل وثقيل عليه، فالمرأة التي لم تعهد الخروج يكون الخروج ثقيلاً عليها، كما أن المرأة المعتادة الخروج يكون جلوسها في البيت ثقيلاً عليها.
فتبين لنا أم عطية بأن الأمر شمل الحيّض، والنسوة غير الحيّض يمكن أن يصلين، وأما خروج الحيض، فقد قالوا -كما في هذا الحديث-: ليشهدن بركة ذلك اليوم، ويشهدن الدعوات بالخير.
وناحية أخرى عند العلماء: وهي أن الغرض من إخراج النسوة مع الرجال في ذلك اليوم إظهار كثرة عدد المسلمين أمام العدو، فكأنه استعراض للعدد الموجود عند المسلمين، وآنذاك كانت في المدينة اليهود بقبائلها المتعددة إلى أن انتهى أمرهم في آخر الأمر مع غزوة الأحزاب في السنة الرابعة من الهجرة.(104/3)
التعاون الاجتماعي يوم العيد
هناك مسائل في هذه الحديث، منها ما ذكره البخاري رحمه الله حيث أورد أن الحيض يعتزلن المصلى؛ فهذا جانب فقهي؛ لأنهن لا يصلين، فإذا كانت صلاة العيد في المسجد هل يدخلن المسجد، أم يكن خارج المسجد؟ ومن ذلك أن المرأة إذا أرادت أن تخرج امتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد لا يكون عندها ما تلبسه لتخرج به أمام الناس، ولهذا بعض العلماء يقول: إذا أردتم أن يجلسن في البيوت فلا تلبسوهن ثياباً فاخرة؛ لأن المرأة إذا وجدت ثياباً فاخرة دعاها ذلك للخروج لتفاخر بلباسها، فإذا لم تجد شيئاً فترت نفسها وقعدت.
وقد جاء في الأثر أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله: أمرت النساء يخرجن، وإحدانا لا يكون لها جلباب تخرج به! والجلباب: هو الشيء الذي فوق الثوب العالي، مثل العباءة ونحوها.
فلم يعذرها صلى الله عليه وسلم بذلك وقال: (لتلبسها أختها من جلبابها) فأتانا بتعاون اجتماعي، فمن لم يكن عندها ما تخرج به وأختها عندها زائد من اللباس فعليها أن تعطيها؛ لتشاركها فرحة ذلك اليوم.
فمن الناحية الاجتماعية نقول: إن على كل إنسان أن يتفقد جيرانه في العيد، فكما تذهب بصرتك وتأتي بثياب جديدة لأبنائك، وهم سيلبسونها خارج البيت، فانظر إلى أبناء الجيران هل عندهم من ذلك شيء، أم أنهم أيتام ليس هناك من يأتيهم بشيء فتنكسر قلوبهم.
إن ألزم ما يكون على الإنسان من باب البر والطاعة، ومن باب المراعاة مراعاة حال هؤلاء في ذلك اليوم، وقد جاء ما هو أبعد من هذا، وهو أن المرأة إذا طبخت وخرجت ريح قدرها فلتغرف لجيرانها، وإذا اشتريت الفاكهة لأبنائك فمرهم أن يدخلوا بها داخل البيت، فإذا خرجوا بها في الشارع فأطعم منها أولاد جيرانك؛ لأنهم رأوها، فإن تأخذها إلى بيتك وتطعم أولادك ولا أحد ينظر فلا مانع، لكن أن يخرجوا بها في الشارع، وينظر إليها أولاد الجيران، وليس عندهم منها شيء، ولا استطاعة لهم على شرائها، فإنك تكون قد كسرت قلوبهم.
ففي هذا الحديث من التوجيه الاجتماعي الشيء العظيم، فالمرأة أشد ما تكون بخلاً حين تملك الحلي وأدوات الزينة، وهنا يأمرها صلى الله عليه وسلم أن تعطي أختها، وليست أختها بنت أمها وأبيها، لكن أختها في الإسلام، كجارتها ونحوها.(104/4)
حكم الضرب بالدف يوم العيد
جاء في شأن هذا اليوم ما ذكره البخاري رحمه الله عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم يوم عيد وعندي جاريتان للأنصار يغنين بغناء يوم بعاث، ويضربن على الكربال) والكِربال بالكاف المكسورة، وبعض الناس يحرفها فيقول: (الغُربال) ، والكربال: هو الدف الذي لا شناشين فيه، فإذا وضعت فيه شناشين سمي المزهر.
قالت: (فدخل أبو بكر علي، فأخذ يلهزني ويعاتبني: أمزامير من مزامير الشيطان في بيت رسول الله؟) .
والجواري هنا إما بمعنى مملوكات، أو بمعنى: بنات صغار، فإذا بلغت الجارية تسعاً فهي امرأة، وتطلق الجارية على الفتاة الصغيرة دون البلوغ.
وقالت: (فدخل رسول الله فتمدد على فراشه، وغطى وجهه، واستدار عنا) ، وهنا يقال: أسمع ذلك من الجاريتين أم لا؟ أسمع الكربال يضرب عليه أم لا؟ ولكنه سكت صلى الله عليه وسلم، فدخل أبو بكر فعاتب عائشة، فكشف وجهه وقال: (دعهما يا أبا بكر، إن هذا عيدنا) تقول رضي الله تعالى عنها: فلما غفل غمزت إليهما أن انصرفا.
فهاتان جاريتان تدخلان على عائشة تغنيان عندها، وفي بعض الروايات: (وليستا بمغنيتين) أي: تحكيان الغناء، وليستا محترفتين للغناء؛ وهذا مثلما يقع في البيوت، فالذي عنده بنات أو حفيدات يوم العيد أو في مناسبة أخرى إذا لم يكن عندهم هذا الكربال يأتون بغيره يدقون عليه ويغنون، وليس هذا من باب احتراف الغناء، ولكن محاكاةً وفرحة وبهجة.
فالجاريتان أتتا إلى بيت رسول الله فاستقبلتهما عائشة، وفسحت لهما، فيدخل رسول الله ويشاهد هذا الحدث، وليس هو بالراغب في سماعه، وليس بالممانع من وقوعه، فنام وغطى وجهه، فتغطيته لوجهه دليل على أنه مترفع عن مثل هذا، وكونه على فراشه يسمع دليل على إقراره، أي: أقر ما يكره مما لا يتناسب مع مقام النبوة، ولكنه بحاجة إلى هؤلاء الناس، فأباحه لهذا ولم ينكر عليهم.
فأنت -أيها الداعي- كن حكيماً فراعِ شعور الناس، وراع المناسبات، وإذا كان هناك ما تكرهه وأنت مترفع عنه في درجة عالية، فانظر إلى الآخرين، وليكن ذلك بحكمة، فـ أبو بكر رضي الله تعالى عنه لم يراع ما راعاه رسول الله، فأنكر المنكر في بيت رسول الله، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيَّن له العلة: (إنه يوم عيدنا ... ) وفي رواية ساقها ابن حجر في فتح الباري أنه قال: (يا أبا بكر! دعهما؛ لتعلم يهود أن ديننا دين السماحة) ، فليس هناك تشدد وغلو إلى أقصى حد، وكذلك ليس هناك انسياب وضياع، فهي مراعاة ليوم واحد في السنة، وليس هناك منكر، وليستا مغنيتين محترفتي الغناء، وإنما هو لعب أطفال في بيت من البيوت، وهذا أمر يغتفر ويسامح فيه.
وزد على هذا ما ذكره البخاري رحمه الله عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: دخل الأحباش المسجد يلعبون بحرابهم.
والأحباش: جمع حبشي، من أهل الحبشة، وأهل الحبشة يحبون الطرب، وكل الأفارقة يحبون الطرب، فأخذوا يلعبون في المسجد بحرابهم.
تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: إما سألني وإما طلبته، وجاء في بعض الروايات قال: (أتحبين أن تري يا عائشة، فقامت وقام معها رسول الله، تقول: وقف خدي على خده يسترني، وأنا أنظر، ثم يقول: دونكم يا بني أرفدة، دونكم يا بني أرفدة) وهذا لقبهم، ومعنى (دونكم) انتظروا واصبروا.
فإذاً: سمح لهم رسول الله، ثم سمح لزوجه أن تنظر إليهم، وقد دعا هذا إلى استغراب شراح الحديث، إذ كيف تنظر إلى الأجانب، وكيف يرضى لها بذلك صلى الله عليه وسلم، والجواب: أن عائشة في ذلك الوقت لم تبلغ خمس عشرة سنة؛ لأنها عقد عليها صلى الله عليه وسلم وعمرها سبع سنوات، ودخل عليها وعمرها تسع سنوات، في أول سنة أو ثاني سنة من الهجرة، وهذا اللعب كان سنة خمس، فلم تكن قد بلغت.
وهذا كله لا يلزم ما دام أن الرسول معها وهو يسترها، وسمح لها أن تنظر، فلا حاجة إلى ذلك، فما المانع -لو وجد مثل هذا- أن يسمح الرجال للنساء ما دام هناك ستر وليس هناك اختلاط، فهي في بيتها وفي حجرتها، وهم في المسجد.(104/5)
حال المسلم مع أهله وإخوانه من المسلمين يوم العيد
وقد تكلم العلماء -وخاصة الشافعية- على أن يوم العيد ينبغي أيضاً أن تظهر فيه البهجة للصغار، وأباح بعضهم أن يلبس الصغار من الثياب المصبغة بالألوان -أعني الأولاد الذكور- ولو حلُّوا بالذهب، ولو ألبسوا الحرير؛ لأنهم ليس عليهم تكليف.
والآخرون يقولون: التكيف على وليهم، فكيف يلبسهم الحرير، والحرير ممنوع على الرجال؟ ولكن ينبغي أن نعلم أن تحلية الأولاد بالذهب خطأ، ولا ينبغي لنا، سواء أكان بنتاً أم ولداً إلا إذا كانوا داخل البيت لا يخرجون إلى الشارع؛ لأن في تحلية الصبية بالذهب خطر على حياتهم، كما حصل في قضية الجارية مع اليهودي كما سيأتي في الحديث، فقد وجدها في أطراف المدينة في خربة، وعليها أوضاح من ذهب، فرضخ رأسها بين حجرين وأخذ الذهب منها، فأُتيت وهي في الرمق الأخير، وأخذوا يقولون: من فعل بك هذا؟ لكن لم تستطع أن تتكلم، ثم أخذوا يعرضون عليها الأسماء: فلان.
فلان.
فلان، حتى ذكر اسم يهودي فأومأت برأسها أن نعم، فجيء به فاعترف، فرض رأسه بين حجرين.
فسبب قتلها هو الذهب، فبريق الذهب سلب بصره وبصيرته، فقتلها من أجل هذه الأوضاح، ولو كثرت معنا الأموال فعلينا أن نصونها، وإذا جعلنا للطفلة حلياً فليس هناك مانع، وبعض الآباء عندهم عقل، فكل هدية تأتي للطفلة من الذهب يخزنونها إلى وقت زواجها، لكن أن تلبس الذهب وتخرج تنظر يميناً ويساراً هذا خطر عليها، فالعلماء -خاصة الشافعية كما ذكره النووي في المجموع- يقولون: لا بأس أن يجمل الصبيان بالحرير، وبالثياب المصبغة الملونة.
ونحن نرى الطفل عمره ثمان سنوات أو سبع ونصف وعليه حلة ضابط برتبة مقدم، وهو لا يستطيع أن يضبط نفسه، لكن من باب الزينة ومن باب التجميل وتفريح الأولاد؛ لأن يوم العيد يجب أن تكون فيه سعة، ويجب أن يكون فيه إدخال السرور على الجميع، ويجب أن يكون فيه توسعة على العيال.
وكما قلنا: مع مراعاة حقوق الجوار، فلا توسع على نفسك وأولادك وفي بيتك، وبجوارك أيتام جياع لا يجدون كسرة، ووالله لو لم يأت دين ولم تأت سنة في ذلك، لكانت المروءة والإنسانية توجبها.
وقد روي أن عروة بن الزبير كان كريماً جداً، وكان في سفر ومعه غلام، فانقطعا في ليلة وضلا عن الطريق، فرأيا ناراً فقصداها، فإذا بعجوز وشيخ كبير وبيت من الشعر، فحياهما، ثم دخل الشيخ على العجوز وقال لها: ما عندك لضيفنا؟ قالت: والله ليس عندي إلا تلك الشاة التي تسقي حليبها ابنتك، ولا تأكل شيئاً إلا حليبها.
فقال: اذبحيها للضيف، قالت: أتقتل ابنتك؟ قال: لابد من ذبحها، فذبحها وأطعم الضيوف! وفي الصباح قال عروة لغلامه: هل بقي معك شيء؟ قال: نعم، معي ألف دينار، قال: ادفع خمسمائة للرجل، قال: خمسمائة وشاته تساوي نصف دينار! قال: ويحك، إنه أكرم منا، قال: كيف؟ قال: لقد أكرمنا بما فيه حياة ابنته، أما أنت فتكرمه بنصف ما معك، فهو والله مع ذلك أكرم منا.
وهذا يؤيد ويوضح لنا ما كنا نستكثره في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال: (سبق درهم مائة ألف درهم قالوا: وكيف هذا يا رسول الله؟ قال: رجل عنده درهمان فتصدق بأحدهما، ورجل عنده مال كثير فأخذ من عرض ماله مائة ألف وتصدق بها) ، فصاحب الدرهمين أكرم؛ لأن صاحب الدرهين تصدق بـ (50%) من رأس ماله، وصاحب المال الكثير تصدق بأقل من ذلك من رأس ماله، وبقى له شيء كثير جداً، فدرهم أكرم وأجود وأعظم صدقة من مائة ألف درهم.
فمن التوسيع في يوم العيد أن تُلبس المسلمة أختها جلبابها إذا كانت لا تملك ولا مانع، وقد ذكر لي أنه في زمان كان الرجل يستر قريبته بكيس السكر أو الأرز من الفقر، وكان رجل عنده ثوب، فكل امرأة لها حاجة تأتي وتستعير ثوبه، حتى أصبح مشهوراً، فتذهب به إلى حاجتها وترجع، وهذا من التعاون، فيجب على الموسر أن يفيض على المعسر، والواجد يجب أن يفيض على من لم يجد، ولا ينبغي أن ينسى الإنسان إخوانه، وقد قالوا: وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل فالغني لا يدري متى يعيل ويفتقر، والفقير لا يدري متى يغنيه الله وقيل: وما تدري وإن زمرت ثقباً يكون لك أو لغيرك الفصيل فإذا أنتجت الناقة عندك، ونظفت ولد نتاجها عند ولادته واعتنيت به، فإنك لا تدري أيكون لك، أم تتركه ويكون لغيرك.
فعلينا أن نتفقد أحوالنا في أيام العيد، وليس في العيد فقط، فالعيد نموذج ومظهر عام، فعلينا التفقد في جميع أحوالنا وفي جميع أوقاتنا، والتوفيق من الله.(104/6)
مكان صلاة العيد والأفضل فيه
وحديث أم عطية الذي بيْن أيدينا فيه أن الخروج كان إلى المصلى، وقد جاء في فتح الباري عن زيد بن ثابت أنه سئل -وكذلك رواية ابن عباس -: أتعرف العلم الذي كان في المصلى؟ قال: نعم، عند دار فلان بن الصرد، والآن مسجد الغمامة يقال له -أيضاً-: مسجد المصلى، فمصلى العيد كان هناك.
فكان صلى الله عليه وسلم يخرج بالناس إلى ذلك المكان لسعته، ويصلي العيد هناك، ووردت كلمة العَلَم لكون أمية بن الصلت كان قد وضع منبراً، أو وضع علماً هناك؛ لأن بيته كان قريباً منه.
فوضع العلم لمكان مصلى رسول الله فيه حفظاً للأثر، قالوا: لم يكن هناك منبر؛ لأن المنبر ما بني أو صنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا وضع في المسجد النبوي منبر إلا في السنة الثامنة من الهجرة، وقبل ذلك كان يخطب متكئاً على الجذع.
قال بعضهم: ما بين باب المسجد إلى موضع منبر رسول الله من مصلى العيد ألف ذراع.
وبعد ذلك جاءت خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فما جعل منبره لصلاة العيد موضع منبر رسول الله تأدباً مع رسول الله، فأخذ ميمنة، فمسجد أبي بكر على ميمنة مسجد الغمامة، ثم جاء عمر رضي الله تعالى عنه، فما جعل منبره موضع منبر رسول الله، ولا موضع منبر أبي بكر، ولابد له أن يتحول، فإن ذهب وراء أبي بكر بعد كثيراً عن مصلى رسول الله، فجاء إلى اليسار مقابل أبي بكر.
ولذا يجد من ورد هذا المكان أن هناك هذه المساجد، مسجد المصلى، ومسجد أبي بكر، ومسجد عمر، ولم يكن لـ أبي بكر ولا لـ عمر رضي الله تعالى عنهما أن يتخذا لأنفسهما مسجداً ويتركا مسجد رسول الله، ولكن بعد مائة سنة جاء عمر بن عبد العزيز وكان أميراً على المدينة لبني أمية، فوضع مكان ذلك المعلم، ومواقع مصلى أبي بكر وعمر ما يشبه المسجد حفاظاً على المكان، ثم تطور بعد ذلك، فما يسمى الآن بمسجد أبي بكر ومسجد عمر لا يصح أن يظن أحد أن أبا بكر وعمر يتخذان مصلى ومسجداً ويتركان مسجد رسول الله.
وبناءً على هذا فالأصل خروج الناس إلى الخلاء لصلاة العيد؛ لأن الخلاء فيه سعة، فيسع الرجال والنساء والصبيان، والمبحث في هذا سيأتي لمناسبة في نهاية الباب حيث كانوا في حالة مطر فصلى بهم رسول الله في المسجد النبوي.
ومن هنا يقول العلماء: إذا كان المسجد يسع الرجال والنساء والصبيان، فالأفضل أن تكون الصلاة في المسجد؛ لأن بقعة المسجد خير من بقعة المصلى، ولهذا قالوا: أهل مكة وأهل المدينة يصلون في مسجديهم ولا يخرجون منهما.
وأما بقية المدن وبقية القرى فيكون لها مصلى يسع الرجال والنساء حينما يخرج الجميع لصلاة العيد، فـ أم عطية رضي الله تعالى عنها تبين لنا بأن ذلك بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما وراء ذلك من الحكمة ما جاء النص عليه: (يشهدن بركة ذلك اليوم) فهؤلاء العواتق يخرجن، يوماً في السنة، وكذلك الحيض يشاركن في دعوة الخير، ويحصلن دعوة الخير ويرجعن إلى بيوتهن، والله سبحانه وتعالى أعلم.(104/7)
أحكام تختص بها الحائض
وأما اعتزال الحيض فلأنهن لا يصلين، وكأن أم عطية تقول: الحائض لا تدخل المسجد، وهذا واحد من عشرة أو اثني عشر حكماً تتعلق بالحيض، فالحيض يمنع المرأة من عدة أشياء، فبعضهم ذكر أنها عشرة، وبعضهم ذكر أنها اثنا عشر، وبعضهم ذكر أنها خمسة عشر.
أما المكث في المسجد فممنوع؛ إذ قد أجمعوا على منع الحائض من المكث في المسجد.
وأما مرورها إن كانت لها حاجة، فقد استدلوا له بحديث عائشة رضي الله عنها -وغيرها من أمهات المؤمنين- أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد قال لها: (ناوليني الخمرة) وهو في المسجد -والخمرة: شيء يشبه السجادة من خوص النخل- فقالت: إني حائض، قال: (حيضتك ليست بيدك) وهذا بخلاف الأحناف القائلين: الحيضة حلت في اليد فلا تمس المصحف.
والذي يهمنا أنها جاءت بالخمرة ودخلت وناولت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا قالوا: مجرد العبور جائز إن وجدت حاجة، فلو أن الحائض تمشي في الطريق ولحقها ما يؤذيها، ولم تجد فراراً إلا إلى المسجد فدخلت المسجد، وخرجت من الباب الثاني فلا مانع.
وأما حديث: (إني لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب) فقد اتفق العلماء على أن الشخص إذا أجنب وكان الماء في المسجد كما هي حالة الناس سابقاً، فله أن يدخل ليأخذ ماءً من بئر المسجد ليغتسل، إذا لم يجد غيره.
فمما يمنع منه الحيض ما سبق.
وكذلك يمنع الوطء؛ لقوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] ، وكذلك يمنع الصلاة، وبعضهم يناقش هنا فيقول: هل يمنع الحيض فعل الصلاة، أو يرفع وجوب الصلاة؟ وهذه ناحية أصولية ليس لنا شغل بها، وأحسن من ناقشها الباجي لمن يريد أن يرجع إليه، فيمنع فعل الصلاة ولا تصح منها، وهي آثمة إن تعمدت فعلها، وكذلك صحة الصوم، والمباشرة فيما دون الفرج على خلاف، وحمل المصحف ومسه، وقراءة القرآن -وهذه عند المالكية فيها نقاش- والطلاق، والاعتكاف، فكل ذلك تمنع منه الحائض بسبب الحيضة، وأم عطية رضي الله تعالى عنها هنا إنما نصت على اعتزال المصلى.
فهذا الحديث فيه جوانب عديدة، ولعل ما أوردناه فيه الكفاية، وبالله تعالى التوفيق.
وكون الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر بإخراج النسوة ومعهن الحيض، يشعر بمغايرة معاملة الحائض في الإسلام عما كانت عليه من قبل، إذ الرسول صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، فوجد اليهود إذا حاضت فيهم المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يعاشروها، ويخرجونها من محلها إلى محل تنزوي فيه، حتى الإناء الذي تأكل فيه ما كانوا يأكلون فيه، والقدح الذي تشرب منه لا يشربون منه، فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح) ، حتى قال اليهود: هذا الرجل ما ترك شيئاً إلا ويريد أن يخالفنا فيه.
فهنا تخرج مع الجميع، ولا تنعزل في بيتها، ولا تنعزل عن أهل بيتها ومخالطتهم، بل تخرج مع عموم نسوة المسلمين إلى المصلى، وتشهد بركة ذلك اليوم، وتشارك في الدعاء؛ لأن الحائض وإن منعت من قراءة القرآن لكنها لا تمنع من الذكر والتحميد والتسبيح، والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، والدعاء والاستغفار، فهي تشارك في هذا كله، كما قال لـ عائشة: (اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري) ، والحاج يلبي ويذكر ربه.(104/8)
كتاب الصلاة - باب صلاة العيدين [2]
من الأحكام المتعلقة بصلاة العيدين تقديم الصلاة فيها على الخطبة، والتكبيرات في الصلاة وعددهن، والسور التي تسن القراءة بها في الصلاة، والخطبة وما تشمل عليه، إلى غير ذلك مما شرحه الشيخ في هذه المادة.(105/1)
صفة صلاة العيدين(105/2)
تقديم الصلاة على الخطبة يوم العيد
باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة) متفق عليه] .
قبل الكلام على الحديث ينبغي أن يعلم أن الاغتسال للعيد سنة، فيغتسل الإنسان للعيد كما يغتسل للجمعة، قالوا: إن الأحاديث في غسل الجمعة أشد تأكيداً منها في العيد، ولكن السبب مشترك، وهو اجتماع الناس في يوم عيد والجمعة، فألحقت الجمعة بالعيدين وسميت عيداً.
وأما متى يغتسل؟ فقالوا: من الفجر إلى صلاة العيد.
وبعض المالكية قالوا: لو اغتسل قبل الفجر فلا مانع من ذلك.
والشافعية قالوا: ولو بعد منتصف الليل؛ لأنه يحتاج إلى إخراج الزكاة والذهاب إلى المصلى، فلو أخر الاغتسال إلى ما بعد صلاة الصبح فقد ينشغل ويتأخر عن الحضور إلى المصلى.
وأما الحديث هنا ففيه أنه كان صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه من بعده، وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه من بعد أبي بكر -أي: الشيخان- يصلون العيد قبل الخطبة، فالخطبة بعد الصلاة.
والمؤلف يأتي بهذا ليبين الواقع، وليرد على ما أحدثه بعض الأمويين في المدينة، حيث كان عاملاً لـ معاوية فخطب قبل الصلاة، فقام أبو سعيد الخدري وقال: والله لقد غيّرت.
كان رسول الله وأبو بكر وعمر يصليان قبل الخطبة! قال: يا أبا سعيد: الأمر لا كما تعلم.
قال: والله ما أعلمه خير مما تعلمه.
فقال: يا أبا سعيد! إن الناس كانوا ينتظرون الخطبة بعد الصلاة زمن رسول الله، وأبي بكر وعمر، فأصبحوا بعدهم لا ينتظرون، فإذا قضوا الصلاة نفروا وذهبوا.
وقيل: إن أول من غيّر وقدم الخطبة معاوية، وكان هؤلاء عماله في الحجاز -أي: في المدينة ومكة- فتبعوا معاوية وقدموا الخطبة؛ لأن الناس ملزمون بالبقاء للصلاة، على مذهب من يرى أن صلاة العيد فرض عين، وهناك من يرى أنها فرض كفاية، وقيل: هي سنة.
فالمؤلف رحمه الله ذكر لنا هذا الأثر ليبين لنا السنة النبوية في أن الصلاة أولاً، كما سيأتي أنه صلى الله عليه وسلم خرج وقال: (أول عمل لنا هذا اليوم الصلاة) أي أن الخطبة بعدها، ويذكر ابن حجر أيضاً وغيره أنه صلى الله عليه وسلم بعدما صلى استقبل الناس، وقال: سنخطب، فمن أراد أن يجلس فليجلس، ومن أراد أن يذهب فليذهب.
إذاً: فالأصل في الخطبة والصلاة في العيد أن تكون الصلاة أولاً، ثم بعد ذلك الخطبة، والخطبة تكون للمواعظ والإرشاد والتوجيه، فبعض الناس يجلس يستمع إليها، وبعض الناس يذهب عنها.(105/3)
حكم صلاة العيد وعدد ركعاتها
[وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم العيد ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما) أخرجه السبعة] .
ذكر المؤلف رحمه الله تعالى هنا بيان عدد ركعات العيدين، وسيأتي بعد ذلك بكيفية صلاتهما من حيث التكبيرات والقراءة، فـ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يروي لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العيدين ركعتين، وهذا مجمع عليه لا خلاف فيه.
فالنبي صلى الله عليه وسلم صلى العيد ركعتين، وجاء عن عمر رضي الله تعالى عنه في أثر يرويه أو يسوقه العلماء: (صلاة السفر ركعتين، وصلاة الجمعة ركعتين، وصلاة العيد ركعتين، تمام بلا نقصان) .
فالأصل الثابت في صلاة العيدين أنهما ركعتان.
ولكن المستدرك هنا في حق من فاته العيد، فهل يصلي عيداً؟ وكم يصلي؟ فقد روي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه لما خرج لصلاة العيد في المصلى، قيل له: إن هناك أناساً عجزة -أي: يشق عليهم الخروج مع الناس إلى المصلى- فاستخلف من يصلي لهم، قال: (لو استخلفت لأمرت أن يصلي أربع ركعات) .
وقبل الشروع في الغرض ينبغي أن يعلم أن من فاتته صلاة العيد إن شاء صلى وإن شاء ترك، فهو إن شاء صلى هناك، وإن شاء رجع إلى المسجد، وإن شاء ترك الصلاة بالكلية؛ لأن صلاة العيدين ليست فرض عين، خلافاً لمن يقول بذلك، وأشد من يتشدد في ذلك الأحناف، فيرون أنها واجبة، والواجب عندهم غير الفرض، فالفرض ما ثبت بدليل قطعي، والواجب ما ثبت بدليل آحادي، وبقية العلماء يقولون: هي فرض كفائي، ولو تركها أهل قرية لقاتلهم الإمام عليها.
ومنهم من قال: هي سنة مؤكدة، كما يقول الشافعية.(105/4)
ما يفعله من فاتته صلاة العيد
ويبحثون فيمن فاتته لعذر أو لغير عذر إذا أراد أن يتدارك ذلك.
فمنهم من يقول: يصلي.
والآخرون يقولون: إن شاء ترك ولا شيء عليه؛ لأن الواجب قد أدي بغيره.
والقائلون: إنه يصلي يختلفون، فمنهم من يقول: يصلي ركعتين، ومنهم من يقول: يصلي أربعاً، ويستدلون بحديث علي المذكور، وهو موقوف عليه، وقياساً -وإن كان القياس فيه نقاش- على الجمعة، فإن فاتته الجمعة يصلي أربعاً، ولكن هل الأربع هذه بدل الجمعة، أم الأربع هي الظهر؟ والجواب: الأربع هي الظهر، فلا علاقة لها بالجمعة.
وجاء في الحديث: (من أدرك من الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى) ؛ لأنه أدركها مستكملة شروط الجمعة في مسجد، ومع الإمام في جماعة، وفي وقتها، (ومن لم يدرك ركعة فليصل أربعاً) ، فمن لم يدرك ركعة كاملة، بأن يدرك الإمام بعد الاعتدال من الركعة الثانية بعد أن يرفع ظهره، فعليه أن يصلي أربعاً، وإن كان عند الأحناف أن من أدرك أي جزء من الركعة الثانية فإنه يصلي ركعتين، فإذا أدرك الإمام وهو في التشهد، وكبر تكبيرة الإحرام قبل أن يسلم الإمام فإنه بعد سلام الإمام يأتي بركعتين فقط، والأئمة الثلاثة يقولون: إذا لم يدرك ركعة كاملة، بأن يدرك ركوعها فإنه يأتي بأربع، فلو جاء والإمام قد رفع رأسه وقال: (سمع الله لمن حمده) ، فوقف في الصف وكبر فعليه أن يأتي بأربع؛ لأنه لم يدرك ركعة كاملة.
فقال البعض: من فاتته صلاة العيد يصلي أربعاً، قياساً على من فاتته الجمعة.
ولكن يجاب عن هذا بأن القياس كائن مع الفارق؛ لأن من فاتته الجمعة انتقل إلى فرض آخر وهو الظهر، والظهر أربع، والأربع التي يصليها ليست عوضاً عن الجمعة، إنما هي فرض مستقل بذاته، وهنا يأتي المؤلف ليبين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العيدين ركعتين، ولذا فالجمهور على أن من فاتته صلاة العيد وأراد أن يصلي فإنه يجزئه أيضاً ركعتان، سواءٌ أصلاها في المصلى أم ذهب إلى المسجد، أم صلاها في بيته، فكل ذلك يجزئه، والأمر فيه سعة.
والله تعالى أعلم.
ومما يتعلق بمن فاتته صلاة العيد أنه إذا كان معه آخرون هل يصلون جماعة أم فرادى؟ وهل يأتون بالخطبة كما جاء بها الإمام في صلاة العيد في المصلى أم لا؟ والجواب عند العلماء أنهم إن كانوا قليلين لا تقوم بهم الجمعة، أو كانوا متخلفين أشتاتاً، وأرادوا أن يصلوا صلاة العيد، أو يقضوا صلاة العيد فلا يعيدون الخطبة، ولو أن الإمام خرج إلى المصلى وهناك من ضعفة الناس من استخلف لهم ليصلي بهم فإن المستخلف لا يعيد الخطبة، فيصلي بلا خطبة؛ لأن الخطبة أساساً مع الإمام، وهؤلاء ليس لهم عيد مستقل، إنما هم أهل أعذار يصلون عوضاً عما فاتهم مع الإمام؛ لأنهم لو تركوا الصلاة بالكلية فليسوا آثمين؛ لأن صلاة العيد ليست فرضاً عينياً كالظهر والعصر، وغاية ما تكون أنها فرض كفائي، والفرض الكفائي قد أدي بمن خرج مع الإمام، وعلى هذا فمن فاتته صلاة العيد، وأراد أن يصلي فليست عليه خطبة، سواءٌ أكان وحده أم كان معه جماعة.(105/5)
لا أذان ولا إقامة في صلاة العيد
[وعنه رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العيد بلا أذان ولا إقامة) .
أخرجه أبو داود، وأصله في البخاري.
] .
هذا الحديث يتعلق بهيئة وكيفية وآداب صلاة العيدين، فيذكر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العيد -والعيد هنا اسم جنس يراد به العيدين، أي: عيد الفطر أو الأضحى- بلا أذان ولا إقامة.
وبالتأمل نجد أن كل صلاة لم يشرع لها أذان إلا الصلوات الخمس، فصلاة الاستسقاء ليس فيها أذان، وصلاة الكسوف ليس فيها أذان، والتراويح والجنازة والصلوات العامة التي تؤدى فرادى وجماعة لم يشرع لها أذان.(105/6)
قصة مشروعية الأذان في الإسلام
الأذان من خصائص الصلوات الخمس، وكانوا في بادئ الأمر يعلم بعضهم بعضاً حينما يأتي وقت الصلاة، ويخرج المبكر ويمر على بيوت الآخرين في الطريق يقول: جاء وقت الصلاة، والثاني من جهة، والثالث من جهة، ثم كثر الناس وثقل هذا الأمر، فاجتمعوا ليختاروا وسيلة إعلام بدخول الوقت، فقوم اقترحوا الناقوس، فقال صلى الله عليه وسلم: هذا للنصارى، وقوم اقترحوا البوق، فقال: هذا لليهود، وقوم اقترحوا أن يشعلوا ناراً، فقال: هذا للمجوس.
ثم افترقوا ولم يتفقوا على شيء، وإذا بـ عبد الله بن زيد يرى في منامه أنه رأى رجلاً يلبس بردين أخضرين يحمل ناقوساً على كتفه -وفي بعض الروايات: عوداً على ظهره- قال: أتبيع هذا الناقوس؟ قال: ماذا تفعلون به؟ قال: نؤذن به للصلاة قال: ألا أدلك على خير من ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: تقولون: (الله أكبر) أربع مرات، ثم ذكر ألفاظ الأذان كاملة، ثم تنحى عنه، ثم قال: ثم تقولون: (الله أكبر الله أكبر) وذكر الإقامة كاملة، فاستيقظ وجاء فرحاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقص عليه ما رأى، فقال: إنها رؤيا صدق، قم فألقه على بلال؛ فإنه أندى منك صوتاً، فقام بلال يؤذن وقت الصلاة، فإذا بـ عمر يأتي يجر رداءه مسرعاً فقال: يا رسول الله! والله لقد رأيت مثلما سمعت، رأيت في النوم مثل هذا الذي سمعته من بلال! قال: قد رأى عبد الله مثل ذلك.
وقد يقال: إن الأذان إعلام بدخول وقت الصلاة وهي فريضة وركن الإسلام الأكبر، والرسول صلى الله عليه وسلم يأتيه الوحي ليلاً ونهاراً، فكيف لا ينزل عليه الوحي ويترك ليراه صحابي في النوم! مع أن الوحي قد جاءه صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة وفي نعليه أذى ليقول له جبريل: اخلع نعليك يا محمد؛ فإن فيهما أذى، فكيف لا يأتيه بالأذان؟ والذي يبدو لي أن هذا هو عين الحكمة؛ لأن الأذان فيه أعظم منقبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعظم شرف ومكانة، وذلك حين يقرن اسمه صلى الله عليه وسلم بـ (لا إله إلا الله) ، فيقول المؤذن بأعلى صوت: (أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله) فلما كان فيه تكريم لرسول الله إلى هذا الحد ترك المجيء به عن طريق الوحي إلى أن يراه شخص من الناس، فيقول: رأيت فيما يرى النائم.
ويذكر الأذان.
فحينما يُعلم بهذا على المنائر لا يمكن لمنافق رغم أنفه أن يأتي ويقول: إن محمداً صلى الله عليه وسلم يمدح نفسه على المنائر فيقرن نفسه مع (لا إله الله) ، فالوحي تخلى عن ذلك وتركه حتى يأتي لفظ الأذان مشروعاً على لسان رجل من عامة الناس.
وليس التشريع لرجل من عامة الناس! ولكن لما سمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنها لرؤيا حق) فأقرها، وحينما قال: (رؤيا حق) دخلت بذلك في التشريع، فنقول: شرعها رسول الله.
أي: صادق عليها.
فكان الأذان أساساً لإعلام الناس وهم متفرقون في بيوتهم للصلاة، ولكن يوم العيد ليس الناس فيه بحاجة إلى من يناديهم، فكلهم مجتمعون منذ الصباح، فقد مضت أيام وهم ينتظرون مجيء العيد، فهم متواعدون على الاجتماع قبل أن يأتي وقته، فلا حاجة إلى هذا النداء، وهذا أمر.
والأمر الثاني وهو أدق -أن المؤذن ينادي ويقول: (حي على الصلاة) ، ومعنى ذلك: أقبلوا يا سامعين، فيتعين على كل من سمع أن يقبل، وصلاة العيد لا تتعين على كل من يسمع.
إذاً: فلما لم تكن صلاة العيد متعينة لم يكن النداء عاماً يشمل الجميع، وعلى هذا كانت صلاة العيدين في واقع أمرها في غنى عن أن يشرع لها أذان أو إقامة.(105/7)
هل ينادى لصلاة العيد بغير الأذان؟
وأما المناداة بما فيه تنبيه للناس فبعضهم يقول: لا مانع أن نقول: الصلاة الصلاة، ولكن لا حاجة لذلك؛ لأن في العيدين إشعاراً أكبر، وهو سنة التكبير، فالتكبير للعيدين من شعائر الإسلام، ويكبر لصلاة عيد الفطر من غروب شمس آخر يوم من رمضان، فالليلة التي هي ختام أيام رمضان محسوبة من شوال، فيبدأ التكبير من غروب شمسها، فالنداء من قبل من الليل، فيكبر الناس في الطرقات، وفي المسجد، وفي البيوت، وفي كل مكان، فلا حاجة أيضاً إلى النداء إليها، ويستمر التكبير حتى يخرج الإمام ليعلو المنبر ويخطب.
وفي عيد الأضحى يبدأ التكبير من عشية يوم عرفة، ولكن يستمر إلى نهاية أيام التشريق الثلاثة؛ لأنها أيام عيد أيضاً، أو تبع للعيد، فيستمر التكبير فيها، وبعضهم يقول: يترك التكبير، أو تترك التلبية عند رمي جمرة العقبة، ثم هو بالخيار، فيسبح، أو يحمد، أو يكبر، أو يهلل.
فالعيدان في غنىً عن الأذان، وفي غنىً عن أي إشعار آخر؛ لأن الأذان للإعلام؛ ولإخبار الناس المتفرقين، وهم عالمون ومجتمعون، فلا حاجة إلى الأذان.(105/8)
كيفية التكبير في العيدين
والتكبير يكون فرادى ويكون جماعة، ومعنى (جماعة) أن يكون الجميع في وقت واحد يقولون: (الله أكبر الله أكبر) ، ويكون بالدور، فقوم يكبرون والآخرون يرددون تكبير هؤلاء القوم، وربما سمعنا، أو نشرت الصحف قول بعض من يعترض ويمتنع، بل هناك من تقدم إلى المحراب، وأخذ وآلة تكبير الصوت من يد الذي يكبر وقال: هذه بدعة.
وهذه والله جرأة، ولا ينبغي هذا أبداً؛ فالتكبير بالتدوير موجود في الزمن السابق، ويذكر العلماء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أنه كان يكبر منذ أن يخرج من بيته إلى المصلى والناس يكبرون بتكبيره، وعمر كان يكبر في منى وهو في مكانه، ويسمع الناس تكبيره فيكبرون بتكبيره حتى ترتج منى بالتكبير.
فالتكبير بالدور لا مانع منه، والتكبير بالصيغ المعروفة التي ألفها الناس وورد النص بها، وترديدهم هذا التكبير في أنفسهم، أو بصوت يسمعه الآخرون، لا مانع منه.(105/9)
حكم التنفل قبل صلاة العيد وبعدها في المصلى أو في المسجد
[وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي قبل العيد شيئاً، فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين) .
رواه ابن ماجة بإسناد حسن] .
الصلوات الخمس كل صلاة منها لها نافلة قبلها أو بعدها، أو قبلها وبعدها، وهذه تسمى الرواتب، أو النافلة الراتبة، فللصبح ركعتان قبلها، وللظهر قبلها وبعدها ركعتان وركعتان، أو أربع وأربع، وللعصر قبلها أربعٌ، وللمغرب بعدها ركعتان، ويستحب أيضاً ركعتان قبل المغرب، لحديث: (صلوا قبل المغرب ... ) والعشاء لها ركعتان بعدها.
فهذه نوافل راتبة مع الصلوات الخمس، واختلف في الجمعة: هل لها نافلة راتبة قبلها أم لا؟ فبعضهم يقول: راتبتها قبلها هي راتبة بديلة عن التي قبل الظهر، ولكن جاء الحديث: (من غسل واغتسل، وبكر وابتكر ثم صلى ما كتب له ... ) الحديث، فليس هناك عدد معين قبل الجمعة، أما بعدها فهناك حديث: (إن شاء صلى بالمسجد أربعاً، أو صلى بالبيت اثنتين) ، فبعضهم يقول: هذه راتبة الجمعة، والتحقيق أنها ليست راتبة كراتبة الصلوات الخمس؛ لأن الحديث قبلها: (وصلى ما تيسر له) أي: ركعتين، أو أربعاً، أو ستاً، أو أكثر من ذلك.
وعدد رواتب الصلوات الخمس جاء فيها حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنه، أنه قال: (حفظت عن رسول الله اثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة) ، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (من حافظ على اثنتي عشرة ركعة ضمنت له الجنة) .
وأما العيدان فيقول العلماء: إن كان سيصلي الإمام بالناس في المصلى فلا صلاة، فيأتي ويجلس، وليس للإمام أن يأتي قبل وقت الصلاة، وإنما يأتي من مكانه، ويخرج على الناس حينما يحين وقت الصلاة، ويبدأ بالصلاة حالاً.
وإذا كان مكانه بعيداً ويريد أن يأتي مبكراً فلا يأتي إلى مكانه الذي سيصلي فيه، بل يجلس جانباً وحينما يحين وقت الصلاة يأتي إلى مصلاه، فليس هناك سنة قبل الصلاة في المصلى.
وأما إن كانت صلاة العيد في المسجد فبعضهم يقول: لا صلاة؛ لأن الرسول كان يصلي العيد مباشرة، ولا يصلي قبلها.
فقالوا: عند المجيء إلى العيد ليس هناك صلاة.
وبعضهم يقول: ما دام العيد في المسجد فمن جاء إلى المسجد فعليه تحية المسجد، فإن كانت صلاة العيد في المصلى فباتفاق أنه لا صلاة قبلها ولا بعدها، وإن كانت صلاة العيد في المسجد فهناك الخلاف، فمن يقول: الحكم مطرد يقول: ليس لها صلاة قبلها ولا بعدها، وهناك من يقول: هذا حق في جانب وهذا حق في جانب آخر، فلو جئت بعد صلاة الصبح قبل طلوع الشمس فليس هناك صلاة تحية ولا غيرها، وإن جئت بعد بزوغ الشمس، والإمام تأخر فلم يأت بعد، فإنك تؤدي تحية المسجد.
والحديث هنا أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا جاء لصلاة العيد لا يصلي قبلها ولا بعدها، ولكن إذا رجع إلى بيته صلى ركعتين، فإن شئت فعلت كذلك، اقتداء بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم فصليت ركعتين، والمهم عندنا في هذا الباب فقهه، وهو أنه ليس هناك نافلة راتبة للعيد قبله ولا بعده.(105/10)
ما يفعله الإمام بعد الصلاة وهيئة المستمع للخطبة
[وعنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، وأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس على صفوفهم، فيعظهم ويأمرهم) متفق عليه.
] .
في هذا الحديث أنه كان صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، وأول شيء يبدأ به الصلاة، والخطبة بعد الصلاة، وفيه أنه كان ينصرف من مكانه الذي كان يصلي فيه، فكان يصلي مستقبل القبلة، ثم ينصرف عن القبلة إلى المصلين والناس على صفوفهم جالسين فيعظهم ويأمرهم وينهاهم بالإرشاد والتوجيه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما يراه مناسباً، والموعظة من أساس الخطبة، سواءٌ كانت هذه الموعظة وهذا الأمر هو الخطبة أم غير ذلك، فإن الوعظ وقع بعد الصلاة.
وهذا حديث طويل اختصره البخاري، وتتمته أنه صلى الله عليه وسلم بعدما صلى خطب الناس بما فيه الموعظة، وبما فيه الأمر، وبما فيه النهي، والناس على صفوفهم وهو مستقبل الناس، فسنة الخطبة أن الإمام يستقبل الناس، لا أن يستقبل القبلة وظهره إلى الناس، وكذلك المصلون يستقبلون الإمام بوجوههم.
وقد يكون هذا الأمر عادياً في غير المسجد النبوي، ولكن في المسجد النبوي في الطرفة من باب السلام إلى الحجرة الشريفة يكون الناس أمام المنبر، والإمام يخطب، وجلستهم العادية أنهم يكونون مستدبرين الإمام مستقبلين القبلة، فإذا بدأ الإمام بالخطبة ينبغي أن يستقبلوه بوجوههم، وكذلك من كان في أقصى الصف، الآن المسجد يمتد إلى ألف تقريباً من الشرق إلى الغرب، ومن كان في وسط الصف محاذياً للمنبر لا يعادل مكان من كان في طرف الصف شرقاً أو غرباً، فيلتفت بوجهه إلى الإمام ليسمع الخطبة.
فهؤلاء الذين هم أمام المنبر عليهم أن يستقبلوا الإمام عند الخطبة.
وأما إذا لم نسمع الإمام بذاته، ولم نره بأعيننا، وكان هناك آلات تكبير الصوت في جدار المسجد القبلي وأتانا صوت الخطيب من أمامنا، فهل نعتبر أنفسنا مستقبلين للخطيب، أم نستدبر هذا الصوت ونستقبل المنبر؟ والجواب أن هذه مسألة جديدة تحتاج إلى فتوى.
وعندي أنه إذا كنت في الصف الأخير والمنبر بعيداً فسماعي من الإمام مباشرة أحسن مما أسمع من السماعة، وإن كنت عند الجدار في آخر الصف، والصوت فوق رأسي، وإذا التفت لا أرى الإمام ولا أسمعه مباشرة، وسيأتيني الصوت عن طريق السماعة فالسماعة هذه أولى.
والمهم عندنا أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن أدى الصلاة قال: (صلينا، وسنخطب، فمن شاء جلس، ومن شاء انصرف) وسماع الخطبة يوم العيد ليس كسماعها يوم الجمعة، والذين قدموها رأوا أن الناس ما كانوا يجلسون إلا وهم يستمعون، والرسول أباح لمن يريد أن ينصرف أو يجلس، ولكن الأولى والأفضل أن يجلس؛ لأنه لن يعدم الوصية بالخير والنصيحة والتوجيه، ومع جماعة المسلمين تشمله كلمة (آمين) في الدعاء.(105/11)
موعظته صلى الله عليه وسلم للنساء
ومن تتمات هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن وعظ الرجال انصرف إلى النساء، فالنساء لم يختلطن بالرجال، فالرجال في جهة والنسوة في جهة متميزة عن الرجال، فأتى إليهن في مكانهن، ومعه بلال يتوكأ عليه، وأخذ يعظهن ويخوفهن ويأمرهن بالصدقة، فأخذن يلقين من أقراطهن ومن فواتخ أيديهن -الخواتم- في حجر بلال.
وقد جاء في هذه الخطبة للنساء أنه صلى الله عليه وسلم قال: (تصدقن؛ فإني رأيتكن أكثر أهل النار) فقامت امرأة منهم تستفسر عن ذلك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تكثرن اللعن وتكفرن العشير) .
وكون المرأة تتصرف في مالها في غيبة زوجها فالجمهور على جوازه ما دامت تملكه لنفسها، أما لو كان ملكاً للزوج وهو عندها أمانة تتزين به فلا يحق لها ذلك، والمالكية يقولون: لا يحق للمرأة المتزوجة أن تتصرف في مالها الخاص إلا بإذن زوجها؛ إذ قد يكون مالها من دواعي رغبته فيها، فإذا عريت عن المال، وعريت عن الحلي أصبحت هناك مشكلة.
والذي يهمنا في ذلك أن النسوة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذن يلقين في حجر بلال من حليهن.(105/12)
عدد التكبيرات في صلاة العيد، والسنة فيما يقرأ
[وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: (التكبير في الفطر سبع في الأولى وخمس في الأخرى، والقراءة بعدهما كلتيهما) أخرجه أبو داود، ونقل الترمذي عن البخاري تصحيحه.
] بدأ المؤلف رحمه الله في تفصيل كيفية صلاة العيدين، فذكر هنا حديث: التكبير في الفطر سبعاً في الأولى.
والتكبير في العيدين من شعار العيدين، ومن خصائص الإسلام، والتكبير -كما يقولون- تكبير عام وتكبير خاص، فالتكبير العام: ما يكون من الليل، وفي البيوت، وفي الطرقات ونحو ذلك، والتكبير الخاص: ما يكون في الصلاة وما يكون في الخطبة، وما يكون عقب الصلوات، فهنا يبين لنا المؤلف رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التكبير في الفطر) .
وكلمة في (الفطر) ، بعضهم يقول: لا مفهوم لها، فالتكبير في الأضحى كالتكبير في الفطر، وبعضهم يقول: التكبير في الفطر مخصوص، والأضحى أقل من ذلك أو أكثر، فبدل السبع تسع أو خمس.
وهنا ينص على أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر التكبير المختص بالصلاة التي هي صلاة العيدين؛ لأن هناك تكبيرات في الصلوات الخمس، كتكبيرة الإحرام، وتكبيرات الانتقال عند الركوع، وعند الرفع من السجود، وعند القيام للركعة الثانية التي تليها، فهذه تكبيرات تسمى تكبيرات الانتقال.
فالتكبيرات التي هي من صلاة العيدين في الأولى سبع، وهناك من يقول: إنها سبع من غير تكبيرة الإحرام، وهناك من يقول: هي سبع مع تكبيرة الإحرام، فيكبر تكبيرة الإحرام لتنعقد بها الصلاة، ثم يأتي بعدها بست تكبيرات، وبعضهم يقولون: التكبيرة الأولى للدخول في الصلاة، ولا تعتبر من تكبيرات الصلاة، وتكبيرات الصلاة في الركعة الأولى سبع.
وأما هل يأتي بها سرداً: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أو يفصل بينهن بالأذكار نحو: (الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً) ، فالجواب أن من شاء جاء بها سرداً، ومن شاء جاء ببعض الأذكار بين كل تكبيرة وأخرى، فإذا أنهى التكبيرات قرأ.
وسيأتي الحديث بعد هذا يبين كثرة ما كان صلى الله عليه وسلم يقرأ به في العيدين، وهذا على سبيل البيان، وليس إلزاماً، ويتعين ولا يحاد عنه، ففي الركعة الأولى يكبر سبعاً بعد تكبيرة الإحرام، وبعد ما ينتهي من التكبيرات يقرأ الفاتحة وبعدها سورة (ق) أو غيرها، أو على ما سيأتي النص عليه في الحديث الذي بعده، ثم يركع ويرفع ويقوم للركعة الثانية، وعند قيامه للركعة الثانية يكبر، فتلك تكبيرة الانتقال لا يحسبها، ويبدأ فيكبر خمساً.
ففي الأولى يكبر سبعاً لا يحسب معهن تكبيرة الإحرام، وفي الثانية خمساً لا يحسب معهن تكبيرة الانتقال التي هي معهودة في الصلوات الخمس، ثم يقرأ في تلك الركعتين بعد التكبيرات السبع أو الخمس.(105/13)
القراءة بـ (ق، واقتربت) في صلاة العيد
قال المؤلف: [وعن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفطر والأضحى بـ (ق) واقتربت) أخرجه مسلم.
] .
لما ذكر في الحديث الأول أنه يكبر ثم يقرأ في كلتا الركعتين بعد التكبير، جاء هذا الحديث ليبين ماذا كان يقرأ صلى الله عليه وسلم، وهم يتفقون على أنه لا تعيين ولا تحجير، فما رآه الإمام ليقرأ به قرأ، ولكن روي أنه كان صلى الله عليه وسلم يقرأ بسورة (ق) وبسورة {اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] ، وكلتا السورتين فيها المواعظ وفيها التذكير، وفيها الحث على فعل الخير.
فهنا يبين لنا المؤلف رحمه الله ماذا كان يقرأ، ويهمنا هنا أن مقدار سورة (ق) ليس مثل مقدار سورة الضحى، ولا (ألم نشرح) فالإمام يقرأ بما يراه مناسباً للحاضرين، فإن شاء طول بـ (ق) وأمثالها، وإن شاء اختصر بالضحى و (ألم نشرح) ، إلى غير ذلك من قصار السور.(105/14)
كتاب الصلاة - باب صلاة العيدين [3]
في العيد يظهر فضل الله تعالى على عباده المؤمنين بما شرع لهم من أسباب الترويح عن النفس والأهل، كما أن من فضله عليهم تلك الآداب الواردة في كيفية الذهاب إلى المصلى والرجوع منه، حيث يشرع للمسلم الذهاب من طريق والرجوع من آخر ليلقى أكثر إخوانه ويسلم عليهم ويدعو لهم، وكذلك الخروج إلى المصلى، إذ فيه إظهار فضل الله على عباده المؤمنين بإعزاز دينه وأهله، وإغاظة اليهود والنصارى وسائر الكافرين.(106/1)
من آداب العيدين
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:(106/2)
حكمة المخالفة في الطريق يوم العيد
فيقول المصنف: [وعن جابر رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم العيد خالف الطريق) أخرجه البخاري، ولـ أبي داود عن ابن عمر نحوه] .
هذا من آداب يوم العيد، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى المصلى وصلى العيد خالف بين الطريق، وهذا عندما يكون للمصلى طرق متعددة بالنسبة للإمام وكذلك المصلي، وقد اختلفوا في هذه المغايرة هل هي خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الذين في الطرقات أو في البيوت ينتظرون مرور رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدعو لهم ويسلم عليهم وتنالهم بركات سلامه عليهم ودعواته، أم أن ذلك عام لكل مصل؟ فبعضهم يقول: هذه خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الناس ينتظرون عودته ورواحه، وهنا يذكر ما يفعله بعض الناس من التهنئة بيوم العيد، وربما نسمع بعض الناس يقول: هذه بدعة! وهي سنة عن رسول الله، والسلف رضي الله تعالى عنهم ينقل العلماء عنهم أنه كان بعضهم يقول لبعض: تقبل الله منا ومنك، وهذه هي التهنئة بيوم العيد.
فالذهاب من طريق والعودة من طريق قيل: إنها ليرى الإنسان من لم يره من قبل، وقيل: هذا من جانب المقيمين، ليكون لهم حظ من سلام الإمام ودعوته لهم في ذلك اليوم بالخير.
فمغايرة الطريق قيل: هي خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل هي عامة لكل مصلٍ، والله تعالى أعلم.(106/3)
العيد يوم راحة المسلم وسعادته مع إخوانه المسلمين
[وعن أنس رضي الله عنه قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: قد أبدلكم الله خيراً منهما يوم الأضحى ويوم الفطر) أخرجه أبو داود والنسائي بإسناد جيد] .
في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة مهاجراً صلوات الله وسلامه عليه، وجد لأهل المدينة يومين يلعبون فيهما، وهذه من عادات الشعوب، فلها -حسب العادات والوقائع- أيام يفرح فيها الناس ويلعبون فيها، كما هي العادة المشهورة عند كثير من الأمم، وسبب هذين اليومين لم أقف عليه حتى الآن.
وهنا لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أسباب اللعب في هذين اليومين، ولكنه لما كان من عمل الجاهلية وقبل الإسلام، ولم يتضح لهما سبب شرعي لم ينههم عن ذلك، وهذه مسألة ينبغي التنبيه عليها؛ لأنها قاعدة إسلامية إصلاحية عظيمة جداً، فإذا رأيت إنساناً يرتكب أمراً مخالفاً فقبل أن تنهاه عنه انظر إلى البديل الذي يصلح لتقدمه إليه ليتخلى عن غير الصالح، إنسان كفيف له عصا يتوكأ عليها، لكن تلك العصا متنجسة، أو فيها شوك، أو أنها على وشك الانكسار، أي أنها غير صالحة لمهمتها في نظرك وأشفقت عليه، فلا تقل له: ارم العصا من يدك، بل قبل ذلك، وقبل أن تقول له إن العصا غير صالحة ائت بعصا صالحة، وقل له: خذ هذه فهي خير مما في يدك، وألق التي في يدك.
فستجد أنه عندما يحصل على شيء خير من الذي بيده سيلقي ما بيده قبل أن تقول له: ألق ما في يدك؛ وهكذا لو وجدت شخصاً في طريقة مبتدعة وطريقة منكرة لم تجد لها أصلاً في الدين.
فلا تأت إلى إنسان لتنزع ما بيده استنكاراً قبل أن تهيأ له البديل عن ذلك المنكر.(106/4)
حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في معالجة الأمور
وهنا النبي صلى الله عليه وسلم وجد القوم يلعبون على حال من الترفيه البريء، فما استنكر لعبهم، ولكن استنكر توقيت اللعب باليومين، فقال: (قد أبدلكم الله خيراً من هذين اليومين يوم الفطر والأضحى) .
ولو جئت من باب الترفيه، ومن باب التسلية، ومن باب إظهار السرور لا تجد يومين في حياة الأمة كيومي العيد، بخلاف الأفراد؛ لأنه قد يكون للفرد في حياته يوم خير من العيد، كما وقع لـ كعب بن مالك حين كان مع الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك، فعندما تخلفوا عن تبوك وجاءوا يعتذرون قبل عذرهم إلا ثلاثة، ومنهم كعب بن مالك، حتى جاءت توبتهم من عند الله، وليس المخلفون الذين تخلفوا عن الغزوة، فالذي تخلف عن الغزوة عدد كثير، لكن كلهم جاءوا فاعتذروا فعذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظاهر الأمر، وترك حقيقتهم إلى الله إلا هؤلاء الثلاثة الذين صدقوا وقالوا: والله ما كان عندنا عذر فخلفوا عن قبول توبتهم وعذرهم، فيوم أن نزلت توبتهم وذهب إلى كعب رجل ونادى وقال: أبشر يا كعب، وركض إليه رجل بالفرس فكان صوت المنادي أسرع من ركض الخيل، فلما جاء الذي صرخ له أعطاه ثوبه الذي عليه وقال: والله ما عندي غيره، ثم استعار ثوباً من جماعته وذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستقبله رسول الله بالبشر وقال له: (أبشر -يا كعب - بخير يوم طلعت عليك فيه الشمس من حين ولدتك أمك) ، فأسعد يوم مر عليك هذا اليوم، رغم أنه قد مرت عليه أعياد، وشارك في الجهاد، لكن هذا اليوم الذي تاب الله عليه فيه كان أسعد يوم مر عليه.
فالأيام السعيدة ذات الذكرى الجميلة قد تكون للفرد، وكلنا له يوم أو أيام حسب ظروفه ومشاغله، لكن لا يوجد للأمة يومان أفضل من يومي العيدين، وتقدم لنا أن الأعياد عند الأمم لمناسبات سببها حدث في يوم واحد تبقى ذكراه مع التكرار، لكن في الإسلام في كل سنة عيد حقيقي؛ لأن عيد الفطر عيد بصيام رمضان، وهذه نعمة كبرى؛ لأن الله وفق الناس وأعانهم على أنفسهم وعلى الشيطان والهوى، وحجزوا النفس عن الأكل والشرب والشهوات حتى أكملوا الشهر، كذلك الحج جاءوا من كل فج عميق، واجتمعوا في واد غير ذي زرع، وأدوا المناسك بحمد الله، فكان عيد الأضحى.
فهما يومان عظيمان مرتبطان بيومين متكررين وعبادتين متكررتين في كل سنة، والرسول صلى الله عليه وسلم انتقد اليومين ولم ينتقد اللعب، وأشعرهم أن الله قد أبدلهما خيراً منهما.(106/5)
إباحة اللعب والترفه يوم العيد
فمن باب الإيماء والتنبيه يكون هذا الحديث: (إن الله قد أبدلكم يومين خيراً منهما) فيه إباحة اللعب في العيد، ولا شك أنه لم ينكر اللعب عليهم، ولكن أنكر التوقيت الزمني، فأخبرهم أن الله تعالى أبدلهم يومين بيومين، واللعب على ما هو عليه.
والله أعلم.
ولو أن للناس عادة ويوجد نظير ذلك من السنة من الشرع فالأولى أن يأخذ البديل من السنة، بل قد يتعين؛ لأن المسلمين أمروا باتباع ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24] والخير كل الخير فيما جاءنا به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو كان يخالف عادات وطباع الناس، وعلى الناس أن يتطبعوا على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، لا أن يخضع الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به لأهوائهم، قال صلى الله عليه وسلم: (والله لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) .
دعا الرسول صلى الله عليه وسلم وصنع له الطعام، وكان رجل بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان الطعام من الدباء، فالرجل يقول: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء في القصعة، قال: فما زلت أحب الدباء من ذلك اليوم) ، فبسبب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم للدباء صار الصحابي يحب الدباء، وهل هناك حب أكبر من هذا؟ فكأنه يقول: اخترت ما اختاره الله لرسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد ثبت الحديث الذي يدل على لعب الأحباش في المسجد النبوي وأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تقول: (ربما سألني -أو سألته-: أتحبين أن ترينهم؟ قلت: بلى.
فقمت وهو يسترني من الناس وخدي على خده، وهو يقول لهم: دونكم يا بني أرفدة، دونكم يا بني رفيدة) وكان يقول لـ عائشة: (هل اكتفيت) وهي تقول: لا.
قالت: والله ما بي رؤيتهم، وإنما أردت أن يعلم زوجات رسول الله بقيام رسول الله معي ليعرفن مكانتي عند رسول الله، فهل يمكن أن تتسع لإنسان أخلاقه مع الزوجة في مثل هذا الباب إلى هذا الحد فيتحمل من أجلها ويصبر؟ فانظروا إلى مكارم أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك.
فلا مانع من اللعب في يومي العيد، وفي القديم كان يوجد مكان للعب الصبيان في المدينة، وكان أهلهم يجمعونهم ويحملونهم على العربات التي تنزل من القرى محملة بالبرسيم أو الدباء، وهي التي كانت تستعمل في التنقل في المدينة، فكانت هذه العربات التي تجرها البهائم يوم العيد تزين، ويجعل لها صندوق، ويجمع الأطفال بلباسهم يوم العيد والزينة، ويذهب بهم للتنزه واللعب، وتظهر ألعاب جديدة منها الجائز ومنها المحرم، فكان أطفال المدينة يظلون ثلاثة أيام في لعب ومرح وبهجة، ولا يعكر عليهم شيء.
فلا مانع أن يسمح للكبار والصغار، ولا مانع أن يسمح أيضاً للأطفال ذكوراً كانوا أو إناثاً، ماداموا في السن الذي ليس فيه فتنة، وكان عندهم كبير يرعاهم حتى لا يتأذون، فلا مانع أن نسمح لهم، ونجعل لهم أماكن للعب، بشرط أن تكون تحت إشراف مسئولين، وبأنواع جائزة بعيداً عن المقامرات.
ومما جاء في هذا أيضاً أن أبا بكر رضي الله عنه دخل على عائشة، وأنكر عليها وجود الجاريتين تغنيان، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم (دعهن يا أبا بكر؛ ليعلم اليهود أن ديننا دين سماحة) ، أي: ليعلموا أن في ديننا الترفيه البريء.
فسعادة الإنسان إن يجد شيئاً كان يفتقده، وهذا ما يحصل في يوم العيد، ومما يذكر عن بعض الفلاسفة أن إنساناً جاء يشتكي إليه الضيق والقلق، فسأله: هل أنت متزوج؟ قال: لا، قال: هل ينقصك من الدنيا شيء؟ قال: عندي أموال كثيرة، قال: هل أحد ينغص عليك وظيفتك؟ قال: أنا أعمل عملاً حراً، فأخذ يسأله عن كل الجوانب فرأى أن كل شيء متوفر عنده، فقال له: اكتب لي أن تعمل ما آمرك به حتى تنال السعادة؟ قال: أعَملُ ما أردت، فأخذه ودخل به على الطبيب وقال له: اثنِ رجله إلى فخذه وغطها بالجبس، فخدره فنام، وجاء من المشرحة برجل مبتورة ووضعها بجانبه على السرير، فلما استيقظ إذا به يبحث عن رجله فلم يرها، ووجد رجلاً مبتورة بجانبه، فظن أن رجله قد بترت، فقال: أنا ما قلت لك أن تفعل هذا، قال: لقد كتبت لي أن أعمل ما أشاء حتى أوصلك إلى السعادة، ثم قال له: إن أردت أن أرجع لك رجلك، فإني أريد مالاً، قال له: خذ ما تريد، فخدره وفتح الجبس وأعاد تلك الرجل إلى المشرحة، فلما استيقظ قال: أنا الآن أسعد مخلوق؛ لأنه افتقد شيئاً عزيزاً عليه ثم وجده وظفر به.
ورجل هرب عليه عبد، فقال: من يأتيني بعبدي فله عشرة آلاف.
فقيل له: العبد لا يساوي أكثر من ألف! قال لهم: ائتوني به، فلما أتوا به دفع العشرة الآلاف، فعوتب على ذلك، فقال: إنكم لا تعرفون لذة الظفر، فالعشرة الآلاف لم أدفعها لعودة العبد، ولكن لأظفر بمطلوبي.
وقد روي أن خالد بن الوليد رضي الله عنه قيل له: شاركت في المعارك، ولك أموال وصحة، فما هي أمنيتك بعد هذا؟ فقال: (أن تكون ليلة شديدة البرد عاصفة الرياح غزيرة الأمطار وأقوم حارساً للجند تالياً لكتاب الله) .
فسعادة الإنسان في أن يجد شيئاً كان مفقوداً، وإذا ما استكملت له كل أغراضه افتقد السعادة، فيوم العيد يجد فيه الأطفال والكبار والصغار البهجة ودواعي السرور وما يسمى الترفيه البريء، وليس غير البريء، والذين يذكرون بعض الحروب المتأخرة يعرفون الترفيه البريء ماذا كانت نتائجه، سواءٌ على إسرائيل أم على غيرها.(106/6)
سنة المشي في الذهاب إلى المصلى
[وعن علي رضي الله تعالى عنه قال: من السنة أن يخرج إلى العيد ماشياً.
] .
هذا الأثر عن علي رضي الله عنه، وهذا اصطلاح علماء الحديث، والسنة لغة: الطريقة، والسنة: نهج الحياة، كما قيل: من معشر سنت لهم آباؤهم ولكل أمة سنة وإمام فالسنة: الطريقة التي تعارف عليها الجماعة.
والسنة في الشرع تطلق على معنيين، فتطلق على النصوص التي صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بجانب القرآن، فتقول: الكتاب والسنة، فيكون الكتاب نصوصه وحي من الله والسنة وحي لرسول الله، وكلاهما وحي كما قال السيوطي: الوحي وحيان: وحي أمرنا بكتابته وتعبدنا بتلاوته، فقال صلى الله عليه وسلم: (من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات، لا أقول (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) ، فهذا تعبدنا الله بتلاوته، قال: ووحي لم نؤمر بكتابته ولم نتعبد بتلاوته، وهو السنة.
وكان كلامه وحياً لنص القرآن الكريم في حقه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] ، لكن اتفقوا على أن الحديث القدسي كلام الله، ولكن فرق في الاصطلاح بين القرآن المأمور بكتابته المتعبد بتلاوته وبين الحديث القدسي، وكذلك هناك فرق بين الوحي الثالث والسنة النبوية.
وتطلق السنة على منهج العمل، فالسنة في الأكل والشرب أن تأكل بيمينك، نسبة إلى الحديث الذي يقول: (يا غلام! سم الله وكل بيمينك) ، والسنة في النوم أن تضطجع على شقك الأيمن، فالسنة: الطريق والمنهج الذي سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمة.
فهنا علي يقول: (من السنة) ولم يقل: من السنة قوله صلى الله عليه وسلم فتكون سنة قولية، لكنه هنا ينقل لنا سنة فعلية، فقال: (أن تذهب إلى العيد ماشياً) وتخرج من بيتك إلى مصلى العيد ماشياً، ولا يكلف كل إنسان أن ينزل من ذاك المكان ماشياً، ويمكن أن نقول: في الزمن الأول لا بأس بذلك، الرسول صلى الله عليه وسلم -وقد جاوز الخمسين- كان يخرج إلى قباء تارة ماشياً وتارة راكباً، لكن قد تغير الناس في زماننا، فقالوا: لو ركب يركب من منزله حتى يقارب مشارف مصلى العيد فينزل ويمشي.
وقالوا: المشي هنا لأنه ذاهب إلى عبادة، ويكون ممشاه له فيه بكل خطوة أجر.
وعند الرجوع لم يذكر لنا علي سنة، قالوا: العودة على حسب العادة راكباً أو ماشياً، والفرق بين الذهاب والعودة أن الذهاب من البيت إلى المصلى بقصد العبادة، فهذا يتمحض فيه المشي للطاعة والعبادة، لكن في العودة تكون العبادة قد انتهت.
فالسنة في الذهاب لمن كان يقدر على المشي أن يذهب ماشياً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذهب إلى المصلى ماشياً، وكان يغاير بين الطريقين، فقالوا: ذلك سنة فعلية نقلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قالوا: لأن في المشي نوعاً من التواضع وإظهار الإخبات إلى الله، فيكون منذ خروجه من بيته إلى مصلاه في إخبات وإنابة إلى الله سبحانه وتعالى.(106/7)
حكمة الخروج إلى المصلى، ومتى يصلى في المسجد
[وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أنه أصابهم مطر في يوم عيد، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العيد في المسجد) رواه أبو داود بإسناد جيد] .
لما تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج لصلاة العيدين إلى المصلى، وذلك لأمرين: لضيق المسجد، ولإظهار الكثرة العددية، والكثرة العددية في ذلك التاريخ كان لها أثر كبير؛ لأن مجتمع المدينة كان فيه المسلمون والوثنيون واليهود والمنافقون، والوثنيون واليهود والمنافقون يتربصون بالمسلمين، وكان في نواحي المدينة أعراب لا يعرفون شيئاً، ولا يقدرون إلا القوة والمنفعة.
فالأعداء في داخل المدينة وخارجها كانوا لا يعرفون إلا منطق القوة، فعندما يخرج النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين بهذا العدد الكبير رجالاً ونساء وأطفالاً حتى الحيض يخرجن مع المسلمين إلى صلاة العيد، يرى أعداء الإسلام الكثرة فيعملون لذلك حساباً، ومن هنا كانت الكثرة قوة، ومن هنا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث على التكاثر، فقال: (تناكحوا تناسلوا تكاثروا، فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة) ، بل يذكر في تاريخ العصور الحديثة والدول الكبرى والصغرى أن جولدا مائير كانت كل صباح تسأل مصلحة المواليد الإسرائيلية عن عدد المواليد الإسرائيليين والمواليد العرب تنتظر العدد والكثرة،؛ لأن الكثرة قوة وغلبة.
وقد ذكر أن محاضراً ذهب يحاضر في الصين عن خطورة القنبلة الذرية ويحذرهم منها، فضحك الحاضرون، فسأل المحاضر: لم يضحكون؟ قالوا: لأن الصين تفرح ولا تهتم إذا جاءت قنبلة وأخذت مائة ألف أو أكثر من ذلك، فإنه سيبقى في الصين من يرث العالم كله بالتعداد، فالعدد في الأمة إنما هو قوة.
وحدث في مؤتمر ماليزيا عام خمسة وثمانين وثلاثمائة وألف من الهجرة -وشاركنا فيه- أنهم قدموا قراراً بتحديد النسل تتدخل فيه الدولة، فقلنا لهم: نحن قبل أن نأتي إلى ماليزيا درسنا التعداد السكاني والوضع الاجتماعي حتى نكون على بينة، فعرضنا على رئيس اللجنة عدد سكان ماليزيا، فالمسلمون فيهم خمسة وخمسون في المائة، والصينيون خمسة وأربعون في المائة، والصينيون لم يكونوا يحددون النسل عقيدة في ذلك الوقت، أما اليوم فأصبحت القضية عامة، فإذا أصدرتم قراراً بتحديد النسل في ماليزيا الذي سيعمل به المسلمون، فإذا عمل المسلمون بهذا القانون ولم يعمل به الصينيون -وهم أعداؤكم- فبعد خمس سنوات سيقضي هذا القرار على ماليزيا دون أن تشعروا، فألغي القرار وألغي الموضوع؛ بسبب ما سيئول إليه التعداد من الكثرة أو القلة.
وهنا كانوا يخرجون إلى مصلى العيد لإظهار تلك الكثرة أمام الأعداء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحث الشباب على الزواج، ونهى عن تحديد النسل على الصحيح، فنهى عن العزل أو كرهه، والله تعالى يقول: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] وأقل شيء أن كل واحدة تأتي بواحد.
وسوداء ولود خير من حسناء لا تلد.
إذاً: كان خروج النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين لمصلى العيد لأمرين: الأول: التوسعة على المسلمين، فقد كان مسجده ضيقاً لا يسع لجميع الناس، فخرج بهم إلى الصحراء، وقد كانت الصحراء واسعة قبل أن يحدث البناء الموجود اليوم.
ولما نزل المطر وعم الجميع، وأصبح المصلى ممطوراً صلى بهم في المسجد، وهنا يبحث الفقهاء مسألة صلاة العيدين في المسجد.
فالفقهاء يقولون: إن كان المسجد يسع المصلين فهو أولى وأفضل؛ لأنه معد للعبادة طوال السنة فهو أولى من الخروج إلى المصلى.
والآخرون قالوا: ولو كان يسع فإن السنة الخروج.
ومن قال: إن تعذر الخروج، أو كان فيه مشقة على الناس، فإنهم يصلون في المسجد، ولكن إذا ضاق المسجد بالناس فإنهم يصلون حوله؛ ولهذا ينص المالكية على أن الجمعة تصح في تلك المحلات المحيطة بالمسجد إذا كان يدخل إليها بدون استئذان، مثل المعارض المفتوحة، والدكاكين التي بجوار المسجد، ففي هذه المحلات تصح الجمعة، فإذا امتدت الصفوف من المسجد إلى الشارع إلى المعرض والدكان صحت الجمعة لمن صلى في الدكان ما دام الصف متصلاً بالمسجد، فإذا كان الحال كذلك في الجمعة -وهي آكد من العيد- وحصل مطر وتعذر الخروج إلى المصلى صلينا في المسجد.
وفي الحرمين من زمن بعيد يصلون صلاة العيدين في المسجد، فلو جئت إلى مكة الآن، أو سألت أهل مكة: هل يوجد مكان يمكن أن يصل الإنسان إليه بقدمه أوسع من المسجد الحرام وما حوله؟ يقال لك: لا.
وهل يوجد مكان بسعة المسجد النبوي يمكن أن يصل إليه إنسان برجله؟ خاصة بعد التوسعة الأخيرة والتخلية التي حولها، فالمدينة كلها دخلت في التوسعة، ولم يبق بيت واحد مما كان داخل السور الرسمي للمدينة إلا دخل في توسعة المسجد النبوي.
فالمؤلف رحمه الله يختم البحث بهذا الحديث ليبين لنا أنه إن كان المسجد ضيقاً، ويوجد مصلى للعيد، وليس هناك عذر فالسنة الصلاة في المصلى، وإن كان هناك عذر مانع، أو ما يشق على الناس معه الذهاب إلى المصلى صلوا العيد في المسجد، سواءٌ أكان في المسجدين الشريفين أم المسجد الأقصى، أم أي مسجد كان في أي قرية كانت، وبالله تعالى التوفيق.(106/8)
كتاب الصلاة - باب صلاة الكسوف
إن الحوادث الكونية من آيات الله عز وجل العظيمة التي يخوف بها عباده، والتي يبين بها سبحانه للخلق كلهم أنه لا طاقة لهم بها، ولا يستطيعون دفعها، ومن هذه الآيات كسوف الشمس والقمر، وكذلك الزلازل والرياح العاصفة الشديدة وغيرها، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ما يشرع للمسلم فعله عند وقوع آية من هذه الآيات.(107/1)
أحكام صلاة الكسوف(107/2)
الكسوف وسببه
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه قال: (انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم، فقال الناس: انكسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته) ] .
في هذا النص الكريم أن الشمس انكسفت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحمد لله الذي أحدث هذا في عهده، فبين لنا وشرع لنا ماذا نفعل.
وأحب أن أنبه على بعض المعتقدات الجاهلة -ولا أقول: الجاهلية-، فعندما يقع كسوف أو خسوف للقمر يدق بعض الجهال الطبول، ويطوفون بالشوارع ويلعبون، فهل دق الطبول واللعب يرفع الكسوف عن القمر؟ فنحمد الله أن هذا الحدث وقع في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبيّن لنا ماذا نفعل، وهؤلاء الذين يدقون الطبول ربما لم يعلموا السنة، أو أنهم علموها ولكن لم يطبقوا شيئاً منها، فنحمد الله سبحانه على أن الرسول علمنا.
قوله: (انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم) .
إبراهيم ولد من مارية، ومن الكنى التي كني بها النبي صلى الله عليه وسلم: (أبو إبراهيم) ، وتوفي إبراهيم وهو صغير، وحين جاءوا إليه صلى الله عليه وسلم وطلبوا منه أن يحضر قال: (أن العين لتدمع، والقلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا ... ) ، ووقع هذا الحدث -الكسوف- متزامناً مع موته، فقالوا تلك المقالة؛ لأن الكسوف عندهم في اعتقادهم لا يكون إلا لأحد أمرين: إما أن يحدث ذلك لموت عظيم حزناً عليه، وإما لوقوعه في غير ما اعتادوه في علم الفلك عندهم.
ويجب أن نعلم أن العرب هم أول أمة عنيت بالفلك، وأول أمة برعت فيه، وأول أمة وضعت خرائط للأرض، وأول أمة بينت وحددت رقعة وتضاريس الكرة الأرضية من بحار وجبال، وهذه الخرائط الأساسية هي المبدأ الأساسي في أوروبا في دراسة الفلك في العالم.
فالعرب كان لديهم علوم في الفلك ما سبقهم إليها أحد، ونعلم استفادة العرب في تقدير الزمن بحركة النجوم، كما قال الله عز وجل: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16] ، وكما قال: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام:97] ، فكانوا يعرفون الاتجاه ويعرفون المسير، ويؤرخون لظهور كل نجم من النجوم السيارة الاثني عشر، فهم كانوا يعرفون متى تكسف، ومتى لا تكسف، فاستغربوا كونها كسفت في غير وقتها، ولا نقول: إنهم يجهلون ذلك.
كلا؛ فالنبي صلى الله عليه بيّن أن هذه المقالة خاطئة، فقال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله) ، وآيات الله كثيرة وعظيمة، كالرياح والجبال والبحار والأشجار والسموات والأرض، فالآيات الكونية عديدة جداً، وكل آية لها مهمتها، ولكن هنا قال: (يخوف الله بهما عباده) ، وهذا هو الواقع، فأنت لو تأملت في القمر فإنه يكون في تمامه وهو مكتمل، وفجأة يضيق عليه ويبدأ بالتناقض.
وبعض العلماء يقول: إن حركة الكسوف لا دخل لها في تعارض الأفلاك بعضها مع بعض، وإنما هو أمر يتجلى الله فيه للكوكب فيحدث له ذلك، ولكن لا نستطيع أن نقول هذا، وإنما هي أقوال تقال، وقد حدث أنهم عينوا أنه سيكسف الكوكب كسوفاً جزئياً في وقت كذا في مكان كذا، وكسوفاً كلياً في الساعة الفلانية في مكان كذا، وحدث كما عينوا، وقد اجتمع علماء الفلك في موريتانيا في مرة من المرات وعلقوا المراصد ورصدوا الكسوف كاملاً للشمس.
قوله: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته) .
إذا عرفنا أنهما لا ينكسفان لموته فكيف لحياته؟ قالوا: ربما كان مريضاً مرضاً شديداً وتعافى، فنقول: المعافاة نعمة فكيف انكسفت لها الشمس؟ قالوا: يمكن أنها انكسفت لولادة شخص سيئ سيسيئ إلى العالم، فانكسفت لما سيلحق بالعالم من مضار ومفاسد، فالرسول صلى الله عليه وسلم أتى بالمتقابلين فقال: (آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد) وتأكيداً لهذا النفي أنها لا تنكسف لموت أحد قال: (ولا لحياته) .
والله أعلم.(107/3)
الواجب عند كسوف الشمس أو القمر
قوله: [ (فإذا رأيتموها فادعوا الله وصلوا) ] ؛ لأن هذه حالة شدة وحالة إنذار، فالذي يحدث في النظام العالمي شيئاً من التغيير هو قادر على أن يغير العالم كله في لحظة، ولذا فإن الكوارث الأخرى تحدث في لحظة من اللحظات وكم تدمر، وكم يحصل فيها من التغيير، كما سيأتي في آخر الباب إن شاء الله.
وقوله: (فادعوا الله) أي: إلى أن يأتي وقت الصلاة ادعوا الله أن يرحمنا، وادعوا الله أن يكشفها، وادعوا الله أن لا ينزل بنا سوءاً، وادعوا الله بكل ما فيه اللجوء إليه سبحانه وتعالى أن يكشف ما بنا، ثم مع الدعاء الصلاة.
قوله: [ (فادعوا الله وصلوا حتى تنكشف) ] .
أي: حتى تنكشف الشمس، أو ينجلي القمر.
[وفي رواية للبخاري: (حتى تنجلي) ] .
ذلك لأنها تظلم عند كسوفها، ويجب على المسلمين أن يبحثوا في هذه المسألة أبحاثاً علمية، وقد تكون هذه الأبحاث موجودة ولكن نحن ما وقفنا عليها.
والرسول صلى الله عليه وسلم لم يعز سبب الكسوف إلى عارض، حتى إنه لم يقل: حتى يزول العارض ولكن قال: (حتى تنجلي) فهذا الأثر في الكسوف قد يكون في عين الشمس بذاتها، وقد يكون حتى تنجلي الشمس عما بها، وقد يكون حتى تنكشف الشمس عما حل بها.
قال المؤلف رحمه الله: [وللبخاري من حديث أبي بكرة رضي الله عنه: (فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم) ] .
هنا (حتى ينكشف ما بكم) أي: من الغم والخوف والرهبة التي حصلت بوقوع هذا الحدث المغاير للمعتاد.(107/4)
صفة صلاة الكسوف
قال المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر في صلاة الكسوف بقراءته، وصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات) متفق عليه، وهذا لفظ مسلم] .
هنا المؤلف رحمه الله بعد أن جاء بحديث: (ادعوا وصلوا) جاء بحديث عائشة لتشرح لنا فيه كيفية هذه الصلاة المطلوبة.
فذكرت رضي الله تعالى عنها أن الصلاة في الكسوف تكون على الصفة الآتية: أولاً: الجهر بالقراءة، والجهر بالقراءة مبحث فقهي طويل، فهل قولها: (جهر بالقراءة) في خصوص الشمس أو في خصوص القمر؟ لأن الشمس نهارية والصلاة في النهار سرية، والقمر ليلي والصلاة في الليل جهرية، فهل نجهر في كلتا الحالتين أو نجهر فيما يجهر فيه فقط؟ المسألة فيها خلاف، فبعض العلماء يقول: نجهر في الحالتين؛ لأن أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: (جهر) ، والبعض يقول: يكون الجهر في الذي محله الجهر، ويكون الإسرار في الذي محله الإسرار، ومن العلماء من يقول: يسر في كلتا الحالتين.
ثم قالت: (يصلي أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات) .
في قولها: (أربع ركعات في ركعتين) -كما يقولون- المشترك اللفظي؛ لأن المراد بالركعة هنا: الركوع، لأنها قالت: (في ركعتين) وقالت: (أربع سجدات) ، والأربع السجدات لا تكون إلا لركعتين لكل ركعة سجدتان، فقولها: (أربع ركعات) هذه الركعات أين تكون؟ وكم عددها؟ قالوا: في الركعة الأولى يركع ثم يرفع، ثم يركع مرة ثانية ثم يرفع، ثم يسجد، وفي الركعة الثانية كذلك، وأما عدد الركعات في الركعة الواحدة فسيأتي الخلاف في ذلك.
فالإجماع على أن صلاة الكسوف ركعتان، وإنما الخلاف في عدد ركعات كل ركعة، فهنا في الحديث ركوعان، وجاءت روايات بثلاثة ركوعات، وستة ركوعات، وثمانية ركوعات.
والذي عليه الجمهور هوما جاء في حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر بصلاة الكسوف، وأنه صلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات، بمعنى: أربعة ركوعات في الركعتين.
وسيأتي التفصيل بأنه صلى الله عليه وسلم قرأ الفاتحة، ثم قرأ طويلاً نحواً من سورة البقرة، ثم ركع نحواً من ذلك، ثم رفع وقرأ نحواً من ذلك، ثم ركع نحواً من ذلك، وهكذا حتى أتم الركعتين.
وبعض العلماء يأخذها بالتفصيل الهندسي ويقول: يقرأ في الركوع الأول سورة البقرة، وفي الركوع الثاني مقدار سبعين في المائة منها، وفي الذي بعده مقدار خمسين في المائة، وهكذا يتدرج وينزل، وليس بلازم أن تكون سورة البقرة بعينها، بل مقدارها؛ لأن الموقف موقف شديد وعصيب ومخيف، مما يقتضي أن يكون العبد في تلك الحالة بين يدي الله سبحانه وتعالى.
قوله: [وفي رواية له: (فبعث منادياً ينادي: الصلاة جامعة) ] .
هنا الزائد في هذه الصلاة عن صلاة العيد: (فبعث منادياً ينادي: الصلاة جامعة) الصلاةَ بالنصب، منصوبة على الإغراء والتحريض، وأما بالضم فلا أعرف له وجهاً، وهذا من أجل أن يحثهم ويحرضهم على الحضور إليها.
وقد تقدم أن العيد لا يحتاج إلى نداء؛ لأن الناس يذهبون بأنفسهم إلى المصلى، فقد انتظروه من قبل يوم أو يومين، ولكن الكسوف أمر طارئ طرأ والناس في بيوتهم وأعمالهم، فينبههم، ولا ينبههم بالآذان؛ لأنه خاص بالصلوات الخمس.
فمن المصلحة أن يرسل في الطرقات وعلى المياه وفي مجامع الناس، وفي الأسواق من ينادي: الصلاة جامعة، وهذا هو المعمول به الآن في المدينة النبوية، وفي كثير من البلدان، والله تعالى أعلم.(107/5)
حديث ابن عباس في صفة صلاة الكسوف
قال رحمه الله تعالى: [وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (انخسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى، فقام قياماً طويلاً) ] .
الذي عليه الجمهور أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى الكسوف مرة واحدة، فكيف اختلف الروايات في عدد الركوعات؟ فـ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يبين لنا التفصيل في كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم الكسوف، قال: (انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم -وبعضهم يذكر يوم موت إبراهيم، وبعضهم قد يترك هذا التاريخ- فقام قياماً طويلاً نحواً من قراءة سورة البقرة) .
والسلف رضوان الله عليهم كانوا يقدرون الزمن بالقراءة، أي: بقدر ما يمكن أن يقرأ الإنسان في ذلك التوقيت، كما جاء في حديث أنس رضي الله تعالى عنه في الصيام حين سأله سائل: كم كان بين سحوركم والصلاة؟ قال: (قدر خمسين آية) ، فالتقدير للزمن بمقدار القراءة أمر تقريبي؛ لأن هناك من يسرع في القراءة، وهناك من يبطئ، والكل يعرف مقدار قراءة سورة البقرة أو آل عمران فـ ابن عباس وصف لنا طول قيامه صلى الله عليه وسلم من أول ما دخل في الصلاة.
ولنعلم أن الفاتحة تُقرأ قبل البقرة؛ لأن الفاتحة في كل ركعة، ولكن هل يعيدها المصلي عندما يرفع من الركوع الأول للركوع الثاني حينما يجدد القراءة؟ قالوا: لا؛ لأنها ركعة واحدة فتكفي فيها الفاتحة مرة واحدة.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قام طويلاً بقدر ما تقرأ سورة البقرة مع الفاتحة، وبعضهم قال: يأتي أيضاً بدعاء الاستفتاح.
وابن عباس لم يحدد ما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم فقال الذين قالوا بالجهر: ابن عباس لم يسمع القراءة؛ لأنه كان بعيداً.
والذين قالوا بالسرية قالوا: ابن عباس كان بجانب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يسمع ماذا قرأ؛ لأنه لم يجهر وسيأتي هذا في مبحث الجهر والإسرار.
قال: (ثم ركع ركوعاً طويلاً، ثم رفع فقام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول) .
هنا لم يحدد لنا مقدار الركوع، لكنه أيضاً ركوع طويل، وقوله: (ثم رفع) أي: رفع بعد الركوع الأول، ثم قام قياماً طويلاً لكنه دون الركوع الأول، وبعضهم ينص ويقول: بقدر قراءة سورة آل عمران؛ لأنها تنقص عن البقرة قليلاً، فهناك من حدد القيام الثاني، وهم مجمعون على أن كل قيام هو أقل من الذي قبله، سواءٌ أكان في الركوع الثاني، أم الثالث، أم الرابع عند من يقول بتعدد الركوع.
قال (ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول) .
أولاً ركع ركوعاً طويلاً، ثم قام قياماً أقل من الأول، ثم ركع ركوعاً ثانياً وهو أقل من الركوع الأول، ثم سجد في حديث ابن عباس، فركع ركوعين ثم سجد، ولم يفصل لنا ابن عباس طول السجود من عدمه، وغيره يقول: سجد سجوداً طويلاً، ففي قوله: (وسجد) عندنا سجدتان وجلسة بين السجدتين، ومقدار هاتين السجدتين والجلسة لم يذكره ابن عباس، وغير ابن عباس ذكره وقال: (سجد سجوداً طويلاً، ثم جلس -أي بين السجدتين- ولم يطل، ثم سجد السجدة الثانية وهي دون السجدة الأولى، ثم قام) أي: إلى الركعة الثانية.
قال: (ثم قام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول) .
أي: قام إلى الركعة الثانية، وقام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول، والأول بالنسبة لهذه الركعة الثانية هل يكون هو الثاني بعد الركوع الأول، أو هو القيام الأول الذي هو أول قيام في الصلاة والذي هو بقدر البقرة؟ الاحتمال موجود، وقد قيل بالقولين، ولكن نظراً لأن الصلاة تأخذ بالتناقص تدريجياً نحمل هذا القيام على القيام الذي هو دون البقرة.
فنقول: في الركعة الأولى قرأ -مثلاً- بمائتي آية، وفي القيام الثاني من الركعة الأولى قرأ بمائة وخمسين، فلما قام إلى الركعة الثانية قرأ في قيامه الأول من الركعة الثانية بمقدار مائة آية، أي: أن كل قيام يكون أقل من الذي قبله.
قال المؤلف رحمه الله: [ (ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول) ] .
دون الركوع الأول الذي يعتبر الركوع الثاني بالنسبة للركعة الأولى، أي: أنه تدرج في تنقيص الزمن في كل من القيام ومن الركوع، أي: كل ركن أقل من الذي قبله.
قال (ثم رفع، فقام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول) .
أي: دون القيام الأول في الركعة الثانية.
قال (ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول) .
أي: دون الركوع الأول في الركعة الثانية.
قال: (ثم رفع رأسه ثم سجد) .
أي: ثم سجد بعد الركوعين اللذين في الركعة الثانية.
قال: (ثم انصرف وقد انجلت الشمس) .
قبل الانصراف كان هناك السجود والجلسة بين السجدتين، وكذلك التشهد، والمعنى: ثم انصرف بعد أن أتم الصلاة وقد انجلت الشمس.
و (انجلت) معناه: ظهر نورها؛ لأن الكسوف تغير اللون إلى سواد، والخسوف -كما يقولون- هو النقصان، فقوله: (انجلت) أي: انجلى ما عليها من غشاء، أو ما عليها من ظلمة، وصارت ناصعة نقية كالمعتاد.(107/6)
الخطبة بعد صلاة الكسوف
قال: (ثم انصرف وقد انجلت الشمس، فخطب الناس) .
في قوله هنا: (فخطب الناس) اختلف العلماء أيضاً في الخطبة، فبعضهم يقول: خطب.
وبعضهم يقول: لم يخطب، وإنما وقف وبين للناس خطأ ما كانوا يعتقدون، فقال: (إنما هما آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته) ، وجاء في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: (أنه صلى الله عليه وسلم حث الناس على الاستغفار وعلى الصدقة وعلى العتق) ، فالذين قالوا: خطب هذه هي شروط الخطبة عندهم؛ لأنه حمد الله وأثنى عليه، ثم حث على التقوى والاستغفار، وأمر ونهى.
والآخرون قالوا: هذه لا تسمى خطبة، وإنما تسمى موعظة، أو تصحيح خطأ، أو إرشاداً لما ينبغي أن يعملوه، ولهذا فأكثر الأئمة الأربعة لا يرون للكسوف خطبة، ويرون أن ما توجه به صلى الله عليه وسلم من كلام بعد الصلاة إنما هو بيان للحقيقة، وتوجيه لخلاف ما كانوا يعتقدون في الجاهلية.(107/7)
الخلاف في عدد الركوعات في صلاة الكسوف والراجح في ذلك
قال: [وفي رواية لـ مسلم: (صلى حين كسفت الشمس ثماني ركعات في أربع سجدات) ] .
في رواية ابن عباس عند البخاري ومسلم التي ساقها المؤلف أولاً أربعة ركوعات في ركعتين، يعني أن في كل ركعة ركوعين، ثم جاءنا بزيادة عند مسلم فيها أنه صلى ثماني ركوعات، أي أنه ركع في كل ركعة أربعة ركوعات، فرواية ابن عباس بذاتها يختلف فيها البخاري ومسلم، فـ البخاري يتفق مع مسلم على أن الركوع ركوعان في الركعة، ومسلم ينفرد بزيادة أن الركوعات كانت ثمانية.
وهنا بداية الخلاف بين العلماء، وكما يقول الشوكاني رحمه الله: إن قدر أن الصلاة تعددت فالأمر سهل، وتُحمل كل واحدة من الصلاتين على عدد، فمرةً صلى صلاة بأربعة ركوعات، ومرةً أخرى صلى بثمانية ركوعات، ويكون ذلك بحسب انجلاء الشمس وعدمه؛ لأن في بعض الروايات: أنه صلى الله عليه وسلم كان يوكَّل رجلاً بعد كل ركعة أن ينظر إلى الشمس هل انجلت أو لا فإن قدر أو احتمل أن الصلاة تعددت فيكون الجمع هيناً، فيقال: تارةً انجلت بسرعة فاكتفى بركوعين، وتارةً طال الكسوف فأطال في الصلاة وركع أربعة ركوعات في كل ركعة.
أما إذا لم تثبت صلاة الكسوف أكثر من مرة، ورجح وصح عند الجميع أنه صلاها مرة واحدة، وأنها لم تكسف في عهده صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة يوم أن مات إبراهيم، فلا يمكن أن يقع في صلاة واحدة ركوعان وأربعة وخمسة وثمانية.
فإن قيل: فما العمل؟ قلنا: إن منهج علماء الحديث فيما تعارض واختلف أنه إن أمكن الجمع صير إليه، وإن لم يمكن الجمع يصار إلى الترجيح، وإمكان الجمع لا يتأتى في هذه؛ لأنها صلاة واحدة والموقف واحد، بخلاف ما إذا أمكن الجمع، فعلى سبيل المثال -فيما يمكن فيه الجمع- جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما وقال: يا ابن عباس! والله إني قد وجد في صدري شيء، قال: ماذا يا ابن أخي؟! قال: ما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة، وإني لأسمع من يقول: إنه لبى من مصلاه -أي: قبل أن يركب الراحلة-، وأسمع آخر يقول: لبى حينما انبعثت به راحلته -يعني: على ظهر الناقة-، وأسمع من يقول: لبى بالبيداء -أي: بعد أن طلع من الوادي إلى البيداء- وهي حجة واحدة، فكيف يكون هذا الخلاف؟ قال ابن عباس: تعال -يا ابن أخي! - أبين لك -وهذا هو فقه الحديث، وهو الجمع بين الروايات المختلفة التي يمكن الجمع بينها بحيث لا تتعارض رواية مع أخرى- قال: يا ابن أخي! إن النبي صلى الله عليه وسلم لبى في مصلاه، فسمع بذلك أقوام فأخبروا بما سمعوا، ثم لما استوت به راحلته لبى فسمع بذلك أقوام، ولم يكونوا قد سمعوا التلبية الأولى فأخبروا بما سمعوا، فلما أتى البيداء لبى فسمع بذلك أقوام لم يكونوا قد سمعوا ما قبلها، وكل أخبر بما سمع، وكل صادق.
فهنا أمكن الجمع ولم يوجد تعارض لاختلاف الزمان، ولكن هنا الصلاة واحدة، فقالوا: إما الترجيح وإما النسخ، والنسخ لا يأتي إلا في حادثتين إحداهما متأخرة عن الثانية، وتكون الثانية ناسخة للأولى.
فإذا لم يثبت التعدد لم يبق إلا الترجيح، فنظروا في تلك الروايات التي جاءت بالتعدد تارة بعدد، وتارةً بعدد آخر، فرجحوا بعضها على بعض، وأول خطوة في الترجيح هي الترجيح بالصحة، فحديث ابن عباس الذي جاء بركوعين في الركعة الواحدة متفق عليه بين الشيخين، والذي جاء بأربعة ركوعات في الركعة الواحدة انفرد به مسلم عن صاحبه، وعند علماء الحديث أن الذي يرجح هو أقوى الروايات، وهي الرواية المتفق عليها، ويليها ما انفرد بها واحد منهما، ثم يليها ما جاء في بعض السنن والمسانيد وهي صحيحة، فإذا جاءت الرواية متفقاً عليها بين الشيخين: البخاري ومسلم فهذه رواية عالية في سندها وصحتها، فإذا تعارض الحديث المتفق عليه مع ما انفرد به واحد منهما، فالأقوى والأرجح هو المتفق عليه.
وكما يقولون في باب العول في الفرائض: كان علي رضي الله عنه لا يرى العول، وكان عمر رضي الله تعالى عنه يرى العول في مسائل الفرائض، وقال به وأمضاه.
ولما آلت الخلافة إلى علي جاءت إليه قضية فيها عول، فقال: أنا لا أرى العول، قالوا له: لقد وافقت عمر عليه! فقال: لقد كان رجلاً شديداً مهاباً فقالوا: لأمر اتفقت معه عليه أحب إلينا مما انفردت به.
فالمتفق عليه بين عمر وعلي أقوى من الذي انفرد به علي.
فهذه طريقة من طرق الترجيح، فعندنا رواية ركوعين وأربعة ركوعات، فعمدنا إلى الترجيح فوجدنا أن رواية الركوعين في ركعة واحدة هي الأرجح.
وقد يقول قائل: ماذا نفعل في رواية مسلم وهو من أئمة الحديث؟ نقول: إذا جاءت رواية صحيحة وعارضت رواية أصح منها، مثل رواية اتفق عليها الشيخان والأخرى انفرد بها أحدهما، فهي شاذة، وبعض العلماء يقول في هذه الرواية: ضعيفة؛ لأن فيها فلاناً وهو مدلس، ولكن الصحيح هو أن نعتبر الحديث الذي خالف أصح منه شاذاً، والشاذ لا يعمل به، فيعمل بالمتفق عليه ولا يعمل بالشاذ.
ونظير هذا أيضاً ما جاء في قضية زواج النبي صلى الله عليه وسلم من ميمونة، فهناك من يروي: أنه تزوجها وهو حلال بعد أن تحلل من العمرة، ومنهم من يروي: أنه تزوجها وهو محرم، وكل من الأئمة قد أخذ بأحد هاتين الروايتين، فبعضهم أخذ بأنه تزوجها وهو حلال، وبعضهم أخذ رواية أنه تزوجها وهو محرم، فاختلفت الروايتان وكلتاهما صحيحتان، قالوا: لما تعارضت الروايتان جمعنا الطرق فوجدنا من يروي بأنه تزوجها وهو محرم ليس له علاقة بالقضية، ووجدنا من يروي أنه تزوجها وهو حلال كان هو السفير بينهما، أي: الواسطة بين رسول الله وبين ميمونة رضي الله تعالى عنها، فيكون على ذلك الأعرف بالقضية هو من كان الواسطة.
كما وجدنا أن ميمونة نفسها صاحبة القصة أخبرت بأنه تزوجها وهو حلال، فرواية (تزوجها وهو محرم) صحيحة، ورواية السفير بينهما ورواية صاحبة القصة بأنه تزوجها بعد أن تحلل أيضاً صحيحة، فنأخذ برواية السفير بينهما، وبرواية صاحبة القصة، ونقول في الرواية الأخرى: هي شاذة؛ لأن فيها ثقة خالف الثقات.
قال المؤلف رحمه الله: [وعن علي رضي الله عنه مثل ذلك] .
أي: مثل حديث ابن عباس، ونقول: ليس عندنا إلا الترجيح.
قال المؤلف رحمه الله: [وله عن جابر (صلى ست ركعات بأربع سجدات) ] .
أي: أن في كل ركعة ثلاثة ركوعات، ونعود إلى حل هذه القضية بالترجيح، فـ مسلم انفرد برواية ابن عباس بأربعة ركوعات في كل ركعة، وبرواية جابر بأنها ثلاثة ركوعات في كل ركعة، فكل هذا مما انفرد به مسلم عما اتفق عليه مع البخاري.
قال المؤلف رحمه الله: [ولـ أبي داود عن أبي بن كعب رضي الله عنه: (صلى فركع خمس ركعات وسجد سجدتين وفعل في الثانية مثل ذلك) ] .
وهذه الرواية دون الروايات الأولى المتفق عليها بين البخاري ومسلم، والتي انفرد بها مسلم، وهذه الرواية أخرجها أبو داود فتكون أنزل من التي قبلها.
ورواية الخمس أخذ بها العترة كما يقول الشوكاني.
فنخرج من هذا الخلاف ونقول: إن تعدد الركوعات قد جاءت به الروايات، وكلها لا يمكن أن تقاوم رواية (ركوعين) ، ولهذا أخذ الجمهور بأن صلاة الكسوف ركعتان، وأن في كل ركعة ركوعين.
وهناك من يرى الجمع ويقول: لا نلغي تلك الروايات كلها، ولكن ننظر إلى الحالة؛ لأن في الرواية الأولى لـ عائشة ولـ ابن عباس: (ثم انجلت الشمس) فإذا صلينا ولم تنجلِ، فبعض العلماء يقول: نطيل في الركوع إلى أن تنجلي أو نأخذ برواية الأربعة أو برواية الخمسة الركوعات حتى تنجلي؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى حتى انجلت، وحالات الكسوف ليست سواءً كما أشرنا، فقد يكون الكسوف جزئياً بسيطاً، وقد يكون كاملا مطبقاً.
وبعضهم يقول: بل نبقى على ما رجح وثبت، وهو ركوعان في كل ركعة، فإذا انتهت الركعتان بركوعين في كل ركعة وانجلت فالحمد لله، وإذا لم تنجلِ فلا نطيل ولا نعيد الصلاة من جديد، ولكن نلزم الاستغفار والدعاء والتسبيح وذكر الله سبحانه وتعالى، والله تعالى أعلم.(107/8)
حكم الصلاة للآيات الكونية كالريح والزلازل
قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ما هبت الريح قط إلا جثا النبي صلى الله عليه وسلم على ركبتيه وقال: اللهم! اجعلها رحمة ولا تجعلها عذاباً) رواه الشافعي والطبراني] .
هذه الرواية يسوقها المؤلف مقدمة للحالات الكونية العامة، فكسوف الشمس والقمر آية كونية، وتقدم لنا كيف نعمل، ولكن إذا وقعت آية أخرى مثل ريح عاصف شديدة أو زلزال أو شيء آخر من النوازل الكونية الشديدة، فماذا يكون الحال؟ بين لنا ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما هبت الريح جثا على ركبتيه، وهي صورة تذلل وخضوع واستكانة والتجاء واعتراف بالضعف والافتقار إلى من جثا إليه، وجاء نظير ذلك حينما قام صلى الله عليه وسلم وخطب الناس في أمر ما، فقام رجل وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم سؤالاً خاصاً به، فغضب صلى الله عليه وسلم، والسؤال هو أن الرجل قال: (من أبي؟ قال: أبوك فلان ونسبه إلى أبيه، وقام آخر وقال: من أبي؟ قال: أبوك فلان، ونسبه إلى غير أبيه، وظهر الغضب في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان من عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلا أن قام وجثا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: نستغفر الله ونتوب إليه يا رسول الله! آمنا بالله وبأنك نبينا، وجعل يقول مثل هذا بين يدي رسول الله حتى سري عن رسول الله) .
فهذه الحالة إنما تعطي صورة اللجوء والاستكانة والضعف وإظهار الذلة، وهكذا الرسول صلى الله عليه وسلم كما أخبر الله تعالى عنه بقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] ، فكان إذا رأى الريح الشديدة خاف؛ لأن أمماً كثيرة قد أُهلكت بالريح، فخاف أن تكون عذاباً، فجثا على ركبتيه وسأل الله أن تكون رحمة لا أن تكون عذاباً، وهكذا ينبغي للأمة عند هبوب الريح الشديدة المخيفة أن يتضرعوا إلى الله بأن يجعلها الله ريح رحمة لا ريح عذاب.
قال المؤلف رحمه الله: [وعنه رضي الله تعالى عنه: (أنه صلى في زلزلة ست ركعات وأربع سجدات، وقال: هكذا صلاة الآيات) رواه البيهقي] .
جاء أن الرياح لا يصلى لها، والزلزال يصلى له، فإذا وقع الزلزال صلى الناس حتى لا يتواصل أو يزيد، وذكر لنا هنا ستة ركوعات في ركعتين، وهذا العدد أيضاً مختلف فيه، وهذه الرواية رواها البيهقي، فهي خارجة عن الكتب الستة وهي: - البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجة، هذه الكتب الستة هي المعتبرة بالدرجة الأولى عند علماء الحديث، وما جاء بعد ذلك فهو دونها في الرتبة، فقد يأتي بالصحيح وقد يأتي بما دونه.
فمن قال بالصلاة في الزلزال قال: إن صورتها كصورة صلاة الكسوف، وبعضهم يقول: لا مانع إذا زاد في عدد الركوعات في الزلزال.
فالحوادث الكونية يجب على العالَم كله أن يرجع إلى الله فيها؛ لأنه لا طاقة له بها، سواءٌ في الزلزال أم في غيره من الحوادث الكونية، فإنه لا قدرة له بها، فهذه مسائل تدل على القدرة الإلهية، وليس للخلق فيها طاقة إلا بالرجوع إليه سبحانه وتعالى، والله تعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(107/9)
كتاب الصلاة - باب صلاة الاستسقاء [1]
إن دين الإسلام هو دين التوحيد، فما من مناسبة إلا ويربط الإسلام الناس فيها بربهم سبحانه، ففي حالة الجدب وشحة الأمطار دلنا الإسلام على الطريق الصحيح الذي يربطنا بالله سبحانه، فشرعت لنا صلاة الاستسقاء، وبينت لنا كيفيتها وآدابها، وتعددت طرق الاستسقاء تيسيراً لنا، تارة بالخروج إلى المصلى والصلاة والدعاء، وتارة بالدعاء في خطبة الجمعة ورفع اليدين لذلك، وتارة بالدعاء المنفرد لمن أراد من المسلمين.(108/1)
أحكام صلاة الاستسقاء(108/2)
كيفية خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى للاستسقاء
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: يقول المصنف رحمه الله: [عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم متواضعاً متبذلاً متخشعاً) رواه الخمسة، وصححه الترمذي وأبو عوانة وابن حبان] .
مما ينبغي التنبيه عليه أن بعض المؤلفين قدّم لهذا الباب أحاديث ترد الإنسان في قوته وغناه وضعفه وفقره إلى الله، ومن ذلك ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (لولا شباب خشّع، وبهائم رتّع، وأطفال رضّع لصب عليكم العذاب صباً) .
وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم ساوى في السهام بين المجاهدين في غزوة بدر، فقال سعد: أتجعل من أبلى كمن ليس كذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (ثكلتك أمك! وهل تنصرون إلا بضعفائكم) ، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (وهل ترزقون إلا بضعفائكم ودعواتهم) ، وهكذا رواية أخرى: (لولا شيبان ركّع، وأطفال رضّع، وبهائم في الخلاء رتّع لصب عليكم العذاب صباً) ، فقد يغيث الله الناس لا لذواتهم، ولكن لما حولهم، ولبعض من معهم من المخبتين إلى الله، ومن الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة، ونحن نعلم قصة هاجر وابنها إسماعيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام كيف سقاها الله في ذلك المكان، وفي ذلك الوقت الحرج.
ويذكرون أيضاً أن نبي الله سليمان خرج يستسقي، ثم رجع من الطريق، فقيل له: لم رجعت؟ قال: قد سقيتم بدعوة غيركم، قالوا: ما رأينا أحداً! قال: رأيت نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها تقول: اللهم إنا خلق من خلقك لا غنى لنا عن فضلك ورحمتك فاسقنا.
فرجع نبي الله سليمان وقال: سقيتم بدعوة غيركم.
فكيف رأى النملة وهو يمشي في الطريق؟ وكيف سمع نداءها؟ لقد قص لنا القرآن ذلك في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا} [النمل:18] خطبة طويلة عريضة بلسان المقال، أو بلسان الحال، فهذه معجزة خاصة به عليه السلام لا نعلم كيفيتها ولا يعلم ذلك إلا الله.
فقد يرحم الله العباد بالحيوان، وقد يرحم الله العباد بالأطفال الرضع، وبالشيوخ الركع، أي: بمن يظهر العبادة والضعف إلى الله، وقد تكون رحمته لمخلوقاته الأخرى من بهائم وحشرات وغيرها.
قوله: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم متواضعاً) .
الخروج يكون من الداخل إلى الخارج فمن أين خرج الرسول صلى الله عليه وسلم؟ والى أين خرج؟ قالوا: خرج إلى المصلى، فخرج بالناس إلى الفضاء يستسقي ربه، والحديث يبين لنا كيفية الحالة التي خرج بها صلى الله عليه وسلم في طلب السقيا؛ لأن الهمزة والسين والتاء للطلب، فـ (استسقى) أي: طلب السقيا، كما أن (استغفر) معناها: طلب المغفرة والغفران، وهكذا.
فنخرج إلى الله تعالى تاركين كل ما لدينا، مظهرين الفاقة والحاجة، رافعين أكف الضراعة إلى الله، قائلين: ها نحن جئناك يا رب لا حول لنا ولا قوة، ولا مال لنا ولا غنى إلا بك، نسألك الغيث والرحمة، ولا نخرج في عروض الخيل وأبهة السلاح وزينة الثياب، بل نخرج متواضعين منكسرين.
وبعض المحتالين في السؤال قد يكون عنده مال وفير، وهو معافى في بدنه، لكنه لما يخرج يتكفف الناس يبحث له عن ثياب قديمة، أو يتصنع عاهة؛ ليخدع الناس بمنظره وعاهته، مدعياً الحاجة والفاقة.
فنحن نخرج للاستسقاء في حالة الضراعة والذلة والتواضع وإظهار الفاقة والحاجة للمولى عز وجل، فهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (متواضعاً) التواضع حساً ومعنىً ألا يكون رافعاً رأسه، ولا مصعراً خده، ولا ضارباً للأرض بقدمه، وإنما يمشي في سكينة وتواضع.
قال: (متبذلاً) .
يوجد جناس بين التبذل والبذلة، فالبذلة: الهيئة -أي: الثوب الخلق- وقوله: (متبذلاً) معناه لابس لها، أي: خرج في ثياب ليست ثياب فخر، ولا ثياب إظهار النعمة، بل ثياب إظهار الفاقة، ونحن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له حلة، وكان له لباس خاص يلبسه يوم العيد، كما جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه وجد حلة جميلة تباع عند باب المسجد، فجاء بها إلى رسول الله، فقال للرسول صلى الله عليه وسلم: اشتر هذه تلبسها يوم العيد، وتتجمل بها عند الوفود -لأن هذه أماكن تحتاج إلى إظهار الغنى والسعة وشكر النعمة- فنظر فيها صلى الله عليه وسلم وقال: (يلبس هذه -هذه الحلة التي جئتني بها- من لا خلاق له، وبعد قليل أرسلها إلى عمر، فجاء عمر يجري قائلاً: يا رسول الله! أنت قلت فيها: (يلبسها من لا خلاق له) ثم تعطينيها! فقال رسول الله: لا يا عمر! ما أرسلتها إليك لتلبسها) أي: استنتاجك وتقسيمك -يا عمر - ناقص، فمن الممكن أن تلبسها، ومن الممكن أن تلبسها غيرك، أو تهديها لإنسان آخر، أو تتخذها فراشاً، فإن لاستعمالها أوجهاً متعددة.
ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعترض على تخصيص حلة للعيد والوفود، ولكنه اعترض على نوع قدم إليه، وقد كانت له البردة، وكان يخطب فيها أيام العيد؛ لأنها أيام زينة، وأيام إظهار النعمة شكراً لله على عطائه، وكان يلبسها عند مقابلة الوفود حتى يكون في مظهر الغني الموسع عليه، لا في مظهر الفاقة فيطمع الناس فيه.
والذي يهمنا أنه صلى الله عليه وسلم خرج متواضعاً متبذلاً، ولهذا ينبغي على كل من شارك في صلاة الاستسقاء أن يخرج إليها في حالة تواضع في مشيته ومنطقه في الطريق متبذلاً في ثيابه، ولا يخرج بثياب الفخر والعز، والتواضع صفة خُلقية، والتخشع صفة خَلقية، فقوله: (متخشعاً) معناه أنه ليس سريعاً في مشيته، وإنما يمشي مترسلاً، أي: في خطوات متقاربة، وليس كمن يركض إلى غنيمة أو جهاد ويظهر القوة والنشاط وسرعة الحركة، بل يمشي بهدوء ورفق وتؤدة.
وقوله: (متضرعاً) : يستوي أن يكون بكلماته أو بتلك الصفات؛ لأنها صفات المتضرع لا المتجبر.
قال ابن عباس: (فصلى ركعتين كما يصلي في العيد) .
وحديث ابن عباس هذا أصل من أصول مباحث صلاة الاستسقاء.
فحديث ابن عباس أول حديث جاء به المؤلف في مشروعية صلاة الاستسقاء، وفيه أن صلاة الاستسقاء كصلاة العيد، ويقولون في التشبيه: ليس من الضروري أن يشبه المشبهُ المشبَهَ به في كل الصور، فقد يقال: فلان كالنخلة، والنخلة طويلة، ولها جذع خشن، وعلى رأسها الجريد، وتثمر البلح ثم الرطب، فهل هو كالنخلة بهذه الصفات كلها، أو أنه كالنخلة في بعض صفاتها؟! فحين نقول: فلان كالنخلة.
أي: في الطول.
ولا يعني ذلك المشابهة في الثمرة والجريد والجذع الخشن، بل يكفي أن يشبهها في صفة واحدة.
وقوله: (كما يصلي في العيد) صلاة العيد ركعتان، فيها تكبيرات وخطبة، ففي أي صفة من تلك الصفات شابهت.
منهم من قال: كصلاة العيد في العدد، أي: ركعتان، ومنهم من قال بالتكبيرات، أي: بتكبيرات كتكبيرات صلاة العيد، ومنهم من قال: في الخطبة، فلها خطبة كصلاة العيد.
والآخرون يقولون: كصلاة العيد في الركعات فقط، وحذفوا الصفات الأخرى، وسيأتي إن شاء الله بيان أنواع الكيفية والخلاف فيها، وبيان الجائز من ذلك كله إن شاء الله.(108/3)
الخطبة في صلاة الاستسقاء
قال ابن عباس: [كما يصلي في العيد لم يخطب خطبتكم هذه] .
شبه ابن عباس صلاة الاستسقاء بصلاة العيد، وعلم أن العيد فيه خطبتان، فقال: (ولم يخطب) ؛ لأن الخطبتين داخلتان في التشبيه بصلاة العيد، فأخرجها بنص مستقل، ولكن هل قال: ولم يخطب.
أم أنه نفى خطبة معينة؟ نقول: نفى خطبة معينة، وذلك بقوله: (كخطبتكم) ، كأنه يقول: خطبتكم التي توقعونها في صلاة الاستسقاء مغايرة لخطبة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو يثبت خطبة، ولكنه ينفي عنها صفة خطبتهم.
فنأخذ من حديث ابن عباس: أن صلاة الاستسقاء كصلاة العيد، وفيها خطبة، ولكن ليست (كخطبتكم) هذه، أي: من حيث عدم الإطالة، وعدم الزجر ومن حيث إنكم تجعلونها خطبتين تجلسون بينهما، فكأنه يقول: وكان يخطب فيها خطبة ليست كخطبتكم هذه.
وسيأتي المؤلف -إن شاء الله- بنصوص تدل على ما كان منه صلى الله عليه وسلم، سواء أعتبرنا ذلك مجرد دعاء، أم اعتبرناه خطبة مع الصلاة، وأيدنا ذلك بتشبيهها بصلاة العيد.(108/4)
الخروج إلى المصلى للاستسقاء
قال المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر، فأمر بالمنبر فموضع له بالمصلى، ووعد الناس يوماً يخرجون فيه، فخرج حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر، فكبر وحمد الله، ثم قال: إنكم شكوتم جدب دياركم، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم، ثم قال: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، لا إله إلا الله، يفعل ما يريد، اللهم! أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت علينا قوةً وبلاغاً إلى حين، ثم رفع يديه فلم يزل حتى رُئي بياض إبطيه، ثم حول إلى الناس ظهره، وقلب رداءه وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس ونزل فصلى ركعتين، فأنشأ الله تعالى سحابةً، فرعدت وبرقت ثم أمْطَرَت) رواه أبو داود وقال: غريب وإسناده جيد.
وقصة التحويل في الصحيح من حديث عبد الله بن زيد وفيه: (فتوجه إلى القبلة يدعو، ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة) وللدارقطني من مرسل أبي جعفر الباقر: (وحول رداءه ليتحول القحط) ] .
حديث عائشة رضي الله تعالى عنها من أجمع الأحاديث فيما يتعلق بصلاة الاستسقاء وكيفية فعله صلى الله عليه وسلم، وقولها رضي الله تعالى عنها: (شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر) أي: غياب المطر، وتخلفه عن موعده، حتى قحط الناس.
ويذكر العلماء أن تلك الشكوى سبق نظيرها في مكة قبل الهجرة، حينما اشتد أمر المشركين على المسلمين، فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: (اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف) فاشتد الأمر بالقحط على أهل مكة، فجاء أبو سفيان في ذلك الوقت وهو على دين قومه وقال: يا محمد! إنك تدعو إلى صلة الرحم، وقد دعوت على قومك، وقد قحطوا، فادع الله أن يسقيهم فدعا النبي صلى الله عليه وسلم فأمطروا.
وقضية استشفاع المشركين برسول الله صلى الله عليه وسلم قد وقعت مرة ثانية بعد الهجرة، وذلك في قصة ثمامة بن أثال، وهو سيد بني حنيفة باليمامة، خرج معتمراً وهو على دين قومه فأخذته خيل المسلمين، فجيء به أسيراً، وربط في سارية المسجد، وكان يراح عليه بالحليب وهو مربوط في السارية، وكان صلى الله عليه وسلم كلما خرج مر عليه وقال: (كيف بك يا ثمامة) فيقول: يا محمد! إن تقتل تقتل ذا دم، وإن ترد مالاً أعطيتك ما يرضيك، وإن تمنن تمنن على كريم، وبعد ثلاثة أيام، قال صلى الله عليه وسلم: (أطلقوا ثمامة) فأطلقوه فأتى إلى بعض الصحابة وقال: ماذا يفعل من أراد أن يدخل في دينكم؟ قالوا: يغتسل ويجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وينطق بالشهادتين، فذهب إلى بيرُحاء -وكان بستاناً قريباً من المدينة إلى عهد قريب- فذهب واغتسل، ثم رجع، وبعد صلاة الظهر جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ونطق بالشهادتين مسلماً، فقيل له: لم لم تشهد قبل ذلك؟ قال: خشيت أن تقولوا: أسلم خشية السيف، ثم بعد ذلك قال: يا رسول الله! والله لقد كنت أبغض الناس إليّ، ولأنت الآن أحب الناس إليّ، وإني قد كنت خرجت معتمراً، فماذا ترى، قال: (اذهب فأتم عمرتك) ، فلما أتى إلى مكة علموا بإسلامه، فنالوا منه، فأقسم بالله لن تصلكم حبة بر من اليمامة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورجع إلى بلده، ومنع الميرة أن تؤخذ إلى مكة من وادي اليمامة، وكان وادياً خصباً يمول مكة، فاشتد الأمر على أهل مكة لعدم إرسال الميرة إليهم، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن ثمامة أسلم ومنع الميرة عن مكة، وأقسم أن لا يسمح بها حتى تأذن له، وإن لك بمكة -يا محمد- الخالة والعمة -أي: الرحم- فمر ثمامة أن يسمح بالميرة إلى مكة، فكتب إليه أن مر بالميرة إلى أهل مكة؛ فأمر بها وسمح.
المشركون استشفعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة قبل الهجرة عندما قحطوا، ومرة بعد الهجرة في الميرة.(108/5)
مسألة استسقاء أهل الذمة
وهنا يأتي بحث في الاستسقاء، فلو أن أهل الذمة طلبوا من المسلمين أن يستسقوا من أجلهم، أو طلبوا أن يخرجوا معهم، أو طلبوا أن يستسقوا لأنفسهم، فماذا يكون الحكم؟ يرى الجمهور: عدم الخروج معهم، وألا يمكنوا من الاستسقاء بأنفسهم، وإن طلبوا من المسلمين أن يستسقوا لهم فعلوا.
وذلك لأنهم قالوا: لو خرجوا وحدهم، وصادف أن سقاهم الله رحمة من عنده لا استجابة لدعائهم، ربما ظنوا أنهم على حق، وأن الله استجاب لهم، وإذا خرجوا مع المسلمين وسقوا من أجل المسلمين، ربما ادعوا بأنهم سقوا بوجودهم معهم، أما إذا طلبوا من المسلمين أن يستسقوا لهم، فهذه هي السنة، فيخرج المسلمون، فإن رحمهم الله فبفضل من عنده، وإن لم ينزل المطر، فهذا أمر خارج عن نطاقهم وقدرتهم.
ومن عجيب ما سمعت أنه في زمن مضى بعض الدول الأوربية حدث فيها قحط فاستسقى المسلمون فسقوا، أو أن أهل البلاد قحطوا فطلبوا من المسلمين أن يخرجوا ليسألوا الله نزول المطر فخرجوا فأمطروا.
ومما يهمنا في هذا الخبر قول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (شكا الناس إلى رسول الله) ، وهكذا حال المسلمين، فإذا نابهم أمر هرعوا إلى الرسل، وسألوهم أن يكونوا شفعاء لهم عند الله، فيسألونه رفع الضر الذي نزل بهم.(108/6)
خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء
تقول أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: (شكا الناس إلى رسول الله قحط المطر، فأمر بمنبر) .
ابن القيم رحمه الله يشكك في كلمة المنبر، وابن حجر في فتح الباري يقول: كان ذلك سنة ستٍ من الهجرة في رمضان، والمعروف في تاريخ المنبر أنه صنع سنة ثمان من الهجرة، فالله تعالى أعلم، ولهذا يقول بعض العلماء: إن صح الحديث وإلا ففي النفس منه شيء.
فأمر بمنبر وخرج، أي: خرج من المدينة إلى المصلى ليستسقي للناس هناك.
قالت: (فقعد على المنبر (القعود على المنبر ليس في حالة الخطبة؛ لأن الخطبة إنما يكون الخطيب فيها قائماً، فبعضهم يقول: قعد ليدعو، وبعضهم يقول: خطب قاعداً وبعضهم يقول: قعد ثم قام وخطب قائماً.
ويهمنا أنه صلى الله عليه وسلم وعد الناس يوماً يخرجون معه فيه، وفي ذلك اليوم، أمر بالمنبر فأخرج إلى المصلى، وخرج الناس معه، فقعد على المنبر.
قالت: (فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمد الله) .
هناك من يقول: التكبر في صلاة الاستسقاء كالتكبير في العيدين، سبع في الأولى، وخمس في الثانية وبعضهم يقول: كبر مرة واحدة، ولم يأت هنا عدد، فيحمل الحديث على حديث ابن عباس المتقدم: (كما يصلي في العيد) .
قولها: (وحمد الله) يقولون: هذا افتتاح الخطبة بالحمد؛ لأن السنة في ابتداء الكلام إما بـ (باسم الله) ، وإما بحمد الله، أو بهما معاً، فهنا بدأ بحمد الله، وفي الحديث: (كل أمر ذي بال لم يبدأ بحمد الله -أو لم يبدأ باسم الله- فهو أجذم، وفي رواية: أقطع، وفي رواية: أبتر) يعني: ناقص.
(ثم قال) يخاطب الناس: (إنكم شكوتم جدب دياركم، وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم) .
يبين ويذكّر العباد بما جاء عنه سبحانه وتعالى من أمرهم بالدعاء ووعدهم بالإجابة، كما قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] ، وكان عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول: (والله إني لا أهتم لإجابة الدعاء بقدر ما أهتم بإلهامي الدعاء) .
لأن الإجابة وعد من الله، فقد قال سبحانه: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} فبقي الدعاء منا، فنحن نهتم بأن يلهمنا الله الدعاء أكثر من اهتمامنا بأن يستجيب الله لنا؛ لأنه وعد بذلك.
قالت: (ثم قال: الحمد لله رب العالمين) بعد أن أمرهم بأن يتوجهوا بالدعاء قال: (الحمد لله رب العالمين) ، وهذه فاتحة سورة الفاتحة، وقرأ صلى الله عليه وسلم من سورة الفاتحة جملة: (الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين) .
يقول بعض العلماء: في هذا الحديث ترجيح إحدى القراءتين؛ لأنه قرئ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] ، وفي الأخرى: (ملك يوم الدين) ، وهي قراءة مالك، فقالوا: في هذا الحديث قرأ صلى الله عليه وسلم (مَالِكِ) بمد الميم، من الملك.
وقد يقول المالكية: ومن الذي يحتم بأنه أراد القراءة، ربما أراد الافتتاح أيضاً، والله تعالى أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: (لا إله إلا الله يفعل ما يريد) .
هذا التسليم والتفويض لله؛ لأنه الإله الخالق الرازق المدبر: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] يعني: أراد القحط فوقع القحط، ويريد الخصب فيأتي الخصب، فلا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه.
ولهذا يقولون من باب التندر: إن عمرو بن عبيد -وهو من رؤساء القدرية- جاءه أعرابي وقال: إن حماري قد ضاع فادع الله لي أن يردها.
فرفع يديه وقال: اللهم إن حماره سُرق ولم ترد أن يُسرق، فقال: يا هذا! امسك عليك دعاءك، والله لئن كان سرق ولم يرد أن يُسرق فقد يريد أن يرد ولا يُرد عليّ، أمسك عليك دعاءك.
فقوله: (لا إله إلا الله يفعل ما يريد) يدل على أنه إن أراد خيراً فعل ولا أحد يرده، وإن أراد شراً فعل ولا أحد يدفعه، فلا يسوق الخير إلا الله، ولا يرد الشر إلا الله.
وقوله: (اللهم! أنت الله لا إله إلا أنت) .
(اللهم) بمعنى: يا الله.
والميم في الآخر بدل عن الياء في الأول، والياء ياء النداء.
وقوله: (أنت الله لا إله إلا أنت) أي: أنت الفعال لما يريد، ولا إله إلا أنت، ولا غالب لما أردت.
وقوله: (أنت الغني ونحن الفقراء) هذا هو التضرع، فأنت الغني بيدك خزائن الملك وملكوت كل شيء، ونحن الفقراء لا نملك شيئاً إلا ما أتانا من عندك، وهذه هي الضراعة، وهذا هو الالتجاء إلى الله، كما تقدم أنه خرج متبذلاً متخشعاً متواضعاً، وهنا يظهر الفاقة والحاجة لرب العالمين، ويعترف بأن الغنى المطلق هو لله سبحانه وتعالى.
قوله: (أنزل علينا الغيث) أي: ما دمت غنياً ونحن فقراء عاملنا بفقرنا، وأعطنا من غناك، وأنزل علينا الغيث؛ لأنه من عندك.
قال: (واجعل ما أنزلت) ، ولم يكن الغيث نزل عند كلامه، ولكنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما أنزلت) لأنه صلى الله عليه وسلم موقن بمجيء الغيث، وكأنه قد نزل بالفعل.
قال: (واجعل ما أنزلت علينا قوة وبلاغاً) : قوله: (قوة وبلاغاً) أي: لا بطراً ولا هلاكا، ً والبلاغ والبلاغة والبلوغ: الشيء الذي يُبَلِّغُكَ الغاية التي تريدها.
أي: اجعل ما أنزلت من الغيث قوة لنا، وقد يقال: وهل الغيث فيه قوة؟ والجواب: الغيث مطر ينزل، ولكن المراد: اجعله سبباً لما ينشأ عنه من إحياء الأرض وإنبات النبات وإيجاد الثمار التي تكون قوة لنا.
قال: (وبلاغاً إلى حين) أي: ليس طغياناً نطغى به، كما قال تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-7] ، ولكن اجعل ما أنزلته علينا قوة لنا في ديننا ودنيانا نستعين به على ما تحبه وترضى وقوله: (إلى حين) أي: إلى أجل.(108/7)
رفع اليدين في الاستسقاء
قالت رضي الله عنها: (ثم رفع يديه فلم يزل حتى رئي بياض إبطيه) .
في هذا الحديث: (ثم رفع يديه ولم يزل حتى رئي بياض إبطيه) يقال: كيف هذا الترتيب؟ فهل كونه رفع ولم يزل حتى رئي بياض إبطيه هو قبل الرفع أو بعد الرفع؟ هنا حذف خفي على بعض الناس، فادعى أنه لم يرفع يده في دعاء إلا الاستسقاء، كما جاء في أثر أنس: (ثم رفع يديه ولم يزل يرفع ويرفع حتى رئي بياض إبطيه) يعني: بالغ في رفع يديه في دعائه في الاستسقاء حتى رئي بياض إبطيه، بخلاف المواقف الأخرى، فيمكن أن يرفع يديه حذو منكبيه، أو حذو أذنيه ولا يرى بياض إبطيه، لكن هنا في شدة الضراعة واللجوء إلى الله وإظهار الحاجة بالغ في رفع يديه حتى رئي بياض إبطيه.
وهنا ينقل العلماء عن النووي رحمه الله، أنه أنكر على من ينكر رفع اليدين في الدعاء مطلقاً، ويقول: لم يأتِ رفع اليدين إلا في الاستسقاء، كما في حديث أنس: (ما رفع يديه إلا في الاستسقاء) وأجاب العلماء عن قوله: (ما رفع يديه) أي: على تلك الحالة التي رئي فيها بياض إبطيه إلا في الاستسقاء.
يقول النووي رحمه الله: ولقد جمعت في ذلك رسالة فوق الثلاثين حديثاً في رفع اليدين، في عموم الدعاء، وذكر ذلك في كتاب (المجموع) في نهاية باب الصلاة، وينقله العلماء عنه لنفاسته.
وقال بعد أن ذكر الأحاديث: ومن ظن أنه لا ترفع الأيدي إلا في هذه المواطن فهو جاهل.
أي: إن العبرة بعموم الأحاديث في رفع اليدين عند كل دعاء، ومن أعم ما جاء في هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليستحيي من عبده أن يمد إليه يديه فيردهما صفراً) يعني: لابد أن يجيبه، كما لو جاءك السائل فإنك تستحيي أن ترده بلا شيء، فتعطيه ما تيسر، فكذلك الله تعالى يستحي من عبده إذا مد إليه يديه، لم يعين ولم يحدد صلى الله عليه وسلم في أي شيء يمد يديه بل جعله على العموم.
وقولها: (رفع يديه ولم ينزل) أي: لم يزل يرفع ويرفع حتى رئي بياض إبطيه صلى الله عليه وسلم.(108/8)
تحويل الرداء في الخطبة قبل الدعاء
قالت: (ثم حول إلى الناس ظهره) كان على المنبر يحمد الله بهذه الكلمات الكريمات مواجهاً للناس.
واجهة الخطيب للمصلين تكون بطبيعة الحال معاكسة لجهة القبلة، فتكون القبلة وراءه، وليس معقولاً أن يستدبر الناس ويخاطبهم، فليس هذا من الآداب، بل سنة الخطبة أن يواجه الخطيب من يخاطبهم.
قالت: (ثم حول إلى الناس ظهره) أي: لما استقبل القبلة.
قالت: (وقلب رداءه) ، وجاء: (حول رداءه) ، وجاء: (كانت عليه طنفسة غليظة فأراد أن يحولها فثقلت عليه فقلبها) ، وجاءت عدة ألفاظ.
والراجح من كل تلك الألفاظ أنه حول، وجاء التصريح أنه جعل الطرف الأيمن على الكتف الأيسر، والطرف الأيسر على الكتف الأيمن، والفرق بين (قلب) و (حول) أن القلب معناه أنه كان طرف الرداء الأعلى على رأسه، فإذا كان (قلب) فسينزل هذا الطرف إلى أسفل، ويأتي بالطرف الأسفل إلى أعلى، وتبقى أطراف اليمين في اليمين، واليسار في اليسار، لكن التحول معناه أنه يأخذ الرداء كله ويرفعه، فالأيمن يجعله أيسر، والأيسر يجعله أيمن.
والمشهور أو الراجح أنه حول، وبعض العلماء يقول: تارة قلب، وتارة حول وكل ذلك تفاؤل واستشعار بتحويل الحال التي هم عليها إلى حال أحسن منها، أو قلب الوضع من جدب إلى خصب، وكل ذلك لا بأس به.
يقول ابن حجر: وكان رداؤه صلى الله عليه وسلم ستة أذرع في ذراعين، وبعضهم يزيد: وشبرين.
فالمهم أنه حول الرداء، والآن لا أحد يلبس الرداء.
فإذاً: كان ما يلبس قابلاً للتحويل فيحول، فإن كان مشلحاً حوله، فيجعل كم اليد اليمنى في اليسرى، وما كان في اليد اليسرى يجعله في اليد اليمنى، وجعل المشلح بهذا الحال يقتضي القلب؛ لأنه ما كان في الداخل سيكون في الخارج، وما كان خارجاً سيكون داخلاً.
وعلى كل إذا لم تكن هناك عباءة أو مشلح فهناك ما يضعه على الرأس فيحوله أو يقلبه.
وفي ذلك الاستشعار والتفاؤل بتغيير الحال الذي هم فيه إلى حال أخرى أحسن منها.
قالت: (وقلب رداءه وهو رافع يديه) .
في حالة رفع اليدين أمسك بالرداء وقلبه أو حوله.
قالت: (ثم أقبل على الناس ونزل فصلى ركعتين) .
بعدما أجرى حركة الرداء تحويلاً أو قلباً استقبل الناس بوجهه، ونزل من على المنبر، أي: عاد إلى حالته الأولى،:ثم قام فصلى ركعتين، ومن هنا بعض الناس يقول: خطبة الاستسقاء تكون قبل الصلاة وقال آخرون: لا.
فقد جاءت أحاديث أخرى تفيد أن خطبة الاستسقاء بعدها.
فما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم هل كان دعاء، وليس خطبة؟! سيأتي البحث: هل يخطب لها أم لا، وهل يخطب بعدها أم قبلها، وسيأتي تفصيل ذلك في الأحاديث الآتية إن شاء الله.(108/9)
استجابة الله لدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم
قالت: (فأنشأ الله تعالى سحابة) .
أسندت عائشة رضي الله عنها الإنشاء إلى الله، فهو الفعال لما يريد، وليس كقول الجغرافيين، ولا كقول الفلكيين: بنوء، أو بتبخر ماء البحر، وإنما أنشأ الله سحابة، وستأتي الرواية: (فوالله ما بيننا وبين سلع من سحابة ولا قزعة) .
والسحابة: السحاب المتواصل المتراكم، والقزعة: السحابة المتقطعة، كما في الحديث: (نهى عن قزعة الشعر) ، أي: أن الإنسان يحلق جزءاً ويبقي جزءاً، وهذا لا يجوز، وابن حجر يذكر رواية: (والسماء كالمرآة صافية) ، أي: ليس فيها شيء، فأنشأ الله سحابة من وراء سلع -من جهة الغرب؛ لأن المدينة شمالها إلى أحد، وغربها إلى وراء سلع- فأنشأ الله سحابة من وراء سلع، وبعضهم يقول: كرجل الطير، وبعضهم يقول: كالترس والترس: هو الآلة التي يمسكها المقاتل يتترس بها من ضربات العدو بالسيف أو الرمح.
يعني: لا يزيد قطرها عن خمسين أو مائة سنتيمتر.
وفي الحديث: (فجاءت ريح فساقتها، حتى أقلت سماء المدينة، فانتشرت فأمطرت) ، وهذا الذي أشرنا إليه سابقاً بأن سوق السحاب وإنشاء السحاب وإنزال المطر إنما هو من الفعال لما يريد سبحانه وتعالى.
قالت: (فرعدت وبرقت ثم أمطرت) .
الرعد والبرق يذكر بعض العلماء أنه من عوامل السحب، أو من تنقيحها.
قالت: (ثم أمطرت) أي: تلك السحابة التي نشأت، وجاءت وهم يرونها.
قال المصنف: [رواه أبو داود، وقصة التحويل في الصحيح من حديث عبد الله بن زيد وفيه: (فتوجه إلى القبلة يدعو ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة) ] .
الزيادة هنا أنه في صلاته جهر بالقراءة، وعائشة رضي الله تعالى عنها أخبرتنا أن خروجه كان حين بدا حاجب الشمس، وصورة الشمس في أول خروجها تشبه استدارة الحاجب على العين، وذلك في أول ظهور حافتها العليا، فتكون في صورة حاجب العين، أو في صورة الهلال، فحينما بدا كان قبل أن يكتمل القرص في الظهور، ولما وصل إلى هناك، أكتمل القرض بالظهور، وصحت الصلاة بعد شروق الشمس.
قال المصنف: [وللدارقطني من مرسل أبي جعفر الباقر: (وحول رداءه ليتحول القحط) ] .
هناك (قلب) ، وهنا (حول) ، فالرواية باللفظين، وأيهما فعل فلا مانع في ذلك، وزادنا هنا: (ليتحول الحال) ، أي: تفاؤلاً.(108/10)
الاستسقاء في خطبة الجمعة
قال المصنف: [وعن أنس (أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فقال: يا رسول الله! هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله عز وجل يغيثنا.
فرفع يديه، ثم قال: اللهم أغثنا.
اللهم أغثنا) وذكر الحديث، وفيه الدعاء بإمساكها، متفق عليه] .
الحديث الأول فيه أنه وضع له منبر وخرج، فتلك صورة من صور الاستسقاء.
والحديث الثاني حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قائماً يخطب يوم الجمعة، فليست خطبة استسقاء، فدخل رجل -يعني: بعد الشروع في خطبته- فالخطبة ليست لمجيء الرجل، وإنما الخطبة للجمعة، فقد يقع الاستسقاء مستقلاً بخروج الإمام وخروج الناس معه، وقد يقع ضمن خطبة الجمعة في المسجد.
فهذا رجل دخل -ويقال: من باب مقابل المنبر- (فقال الرجل: يا رسول الله! هلكت الأموال ... ) أي: من القحط، فما بقي شجر، ولا بقيت دواب، ولا أنعام، وما بقي مرعى، فإذا لم يبق مرعى هلكت الأنعام.
قال: (وانقطعت السبل) .
السبل: جمع سبيل، وهي الطريق، والطريق ممدود في الأرض فكيف تنقطع؟ والجواب: أن المراد أنقطع استعمالها، إما لأن الإبل وهي سفينة الصحراء -كما يقال- لم يبق عندها ما تأكل، فلا تستطيع أن تذهب أو أن تسافر، كما لو انعدم الآن البنزين، فالسيارات ستبقى في محلها، كذلك هنا، فإذا المرعى للإبل انقطع لن تقوى الإبل على السير، أو أن السبل كانت تستعمل لنقل المنتجات وغلات الزرع، ولم يبق هناك زرع ولا ثمار، فلا يبقى هناك أسفار؛ لأن موجب الأسفار تعطل.
قوله: (فادع الله عز وجل يغيثنُا) روي: (يغيثنا) بالرفع، و (يغيثَنا) بالنصب، فعلى رواية الرفع يكون التقدير: (فادع الله إن دعوته) .
وعلى رواية النصب يكون التقدير:: (ادع الله عز وجل أن يغيثَنا) فكلا الروايتين وارد وموجود، وله توجيه في الإعراب، والغرض من ذلك: ادع الله لنا بالغيث.
قال أنس:) فرفع يديه ثم قال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا ... ) هذا الحديث -حديث أنس - فيه زيادات: فقد ذكر فيه قضية السحابة ومجيئها، حيث قال: فأمطرت، فوالله ما رأينا الشمس سبتاً.
أي: أسبوعاً.
وفي بعض الأقطار يسمون الأسبوع جمعة، فالجمعة الأولى والجمعة الثانية، والشهر عندهم أربع جمع، أي: أربعة أسابيع، ويرمزون إلى الأسبوع بجزء منه وهو يوم الجمعة.
يقول بعض العلماء: هذا الصحابي قال: (ما رأينا الشمس سبتاً) أي: أسبوعاً كاملاً من صلاة الجمعة إلى يوم السبت الآتي بعدها.
يقول بعض العلماء: إن كلمة (سبت) أخذها الأنصار من اليهود؛ لأن اليهود يعتبرون يوم أسبوعهم هو يوم السبت، والنصارى يعتبرون أسبوعهم يوم الأحد، والمسلمون يعتبرون أسبوعهم يوم الجمعة، فكان مستعملاً قبل ذلك وعرفاً سارياً، فاستعمل الكلمة على ما هي جارية على ألسنتهم.
والغرض من ذلك أنهم أمطروا، وما رأوا الشمس سبتاً، أي: استمر المطر من حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن مر عليهم السبت الآتي بعد يومهم ذلك.
وجاءت روايات: (فأمطرت كالجبال) ، وجاءت روايات: (وكان هم الرجل أن يصل إلى مكنة) يعني: ما يكنه من المطر من شدة ما نزل من الماء.(108/11)
جواز الدعاء بإمساك المطر إذا خشي الضرر
قال المؤلف رحمه الله: [وذكر الحديث وفيه الدعاء بإمساكها متفق عليه] .
اختصر الحديث اختصاراً شديداً، وتتمة الحديث في يوم الجمعة الثانية دخل رجل من نفس الباب، وفي بعض الروايات (دخل الرجل) فاللام للعهد، أي: الرجل الأول، وبعضهم يقول: لا ندري أهو بعينه أم غيره.
فقال: يا رسول الله! هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادعو الله أن يمسكها عنا.
فضحك صلى الله عليه وسلم، وتبسم لشدة خلف ابن آدم، فمن قبل تشتكون الجدب، والآن تشكون المطر! ثم أجابهم، وقد نقل ابن حجر وغيره عن قتادة: أن فيه إظهار كرامة الله لنبيه كما أشرنا سابقاً أن الاستسقاء فيه إثبات المعجزات للأنبياء، والكرامات للأولياء وللصالحين، فرفع صلى الله عليه وسلم يديه وهو في الخطبة، وقال: (اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الضراب والآكام وبطون الأودية، ومنابت الشجر، ويشير بيده) ، فيقول الراوي: والله إنا لنرى السحاب يتفتق ويتقطع وينفلق، فطلعت الشمس وخرجنا نمشي في الشمس.
وبعضهم يقول: تحولت حول المدينة، وأصبحت المدينة كأن عليها التاج أي: كان السحاب محيطاً حول المدينة، وعلى سماء المدينة ما في سحاب ولا مطر، فسبحان الله، ولا إله إلا الله يفعل ما يريد.
وهنا جواز الدعاء بإمساكها، وهنا ينبه بعض العلماء على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل أمسكها عنا ولكن طلب رفع الضرر، وأنه قد اشتد أمر نزولها علينا فتضررنا، فحولها إلى ما لا ضرر فيه، فإنها إذا نزلت على الآكام، -وهي المرتفعات- وعلى الجبال، وعلى بطون الوديان جرت الوديان، وسقت الأرض، وشربت الدواب، فكان في وجودها وجريانها في مجراها خير كثير، بخلاف ما إذا أمطرت على البيوت فإنها قد تهدمها، فلم يسأل صلى الله عليه وسلم ربه أن يمسكها؛ لئلا يقع في طلب الإرسال أولاً، ثم طلب الإمساك، وإنما طلب رفع ضررها بأن تتحول إلى الأماكن التي لا يحدث منها فيها ضرر.(108/12)
كتاب الطهارة - باب صلاة الاستسقاء [2]
إن للاستسقاء آداباً، منها أن يكون الداعي فيه من صالحي الناس، لا سيما إذا كان من آل بيت النبوة فإنه يقدم للاستسقاء، وأيضاً من آداب دعاء الاستسقاء أن يكون دعاءً جامعاً شاملاً فيه الثناء على الله وإظهار الفاقة إليه والحاجة، وفيه التوسل بأسماء الله وصفاته المناسبة للمقام، وإن مما ينبغي الحرص عليه في الدعاء أيضاً تقديم الضعفاء والفقراء؛ فإن سليمان عليه السلام قد اكتفى باستسقاء نملة.(109/1)
تابع أحكام صلاة الاستسقاء(109/2)
الدعاء في الاستسقاء وممن يكون
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعنه -أي: عن أنس -: أن عمر رضي الله عنه كان إذا قُحطوا استسقى بـ العباس بن عبد المطلب وقال: (اللهم إنا كنا نستسقي إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون) .
رواه البخاري] .
هذا العمل من أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه يدل دلالة عظيمة جداً على مكانة عمر أولاً، وعلى مكانة العباس ثانياً، وعلى ما ينبغي مراعاته في الاستسقاء بأهل الخير.
أما من جانب عمر رضي الله تعالى عنه فإنه أمير المؤمنين الملهم المحدث، الذي وافقه ربه في نزول القرآن في ستة مواطن، وهو الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما سلك عمر فجاً إلا سلك الشيطان فجاً آخر) ، فهو بهذه المثابة، وخليفة رسول الله، وهو خليفة راشد، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم الفاروق، ومع هذا يتنحى أن يتقدم يستسقي للمسلمين بوجود من هو أفضل منه في هذه الميدان.
فهناك رجال يصلحون للعبادات والدعاء لقربهم من الله، وهناك رجال يصلحون لسياسة الملك، وقهر العدو، وإصلاح أمر دنيا الناس.
فـ عمر يبين لنا هذه الخصائص، وقد جاء عن مالك رحمه الله قوله: لقد تركت تحت سواري هذا المسجد رجالاً إني لأرجو دعوتهم عند الله، ولم آخذ منهم؛ لأنهم ليسوا من أهل هذا الشأن.
فهم ليسوا من أهل هذا الشأن، تفوتهم بعض صفات الرواة، فيمكن أن يتساهلوا، ويمكن أن لا يضبطوا، فهم في شأن آخر.
فخصائص الناس تختلف، فمنهم من يصلح لأمر ولا يصلح لأمر آخر، وهنا عمر تواضع وهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وولي أمر المسلمين، ومع ذلك يتأخر، ويقدم العباس.
وذلك ما ينبغي على الإمام وكل من أراد أن يستسقي، وهناك حديث مكتوب في منبر عثمان رضي الله تعالى عنه: (أئمتكم وافدوكم إلى الله، فتخيروا من توفدون) ، فالإمام الذي يصلي بنا وافدنا إلى الله قدمناه يسأل الله لنا، فيقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا} [الفاتحة:5-6] ، فهو وافدنا يسأل لنا الله، وقوله: (فتخيروا) أي: انظروا.
(من توفدون) ، أي: أفضلكم وأقرؤكم لكتاب الله.
ومن هنا نعرف مكانة العباس، وجاء في بعض الروايات عن عمر: (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل العباس منزلة والده فتأسوا برسول الله) يعني: رأيت رسول الله يكرم عمه العباس كما يكرم أباه، أو كان يعزه أو يجله كما يُعَزُّ الوالد، فتأسوا برسول الله وقدموه.
وهنا العباس رضي الله تعالى عنه عرف هذه المكانة، فقام عمر بين يدي الله قائلاً: اللهم إنا كنا نتوسل أو نستسقي برسول الله فتسقينا.
والرسول صلى الله عليه وسلم مجاب الدعوة.
وفي فتح الباري أن رجلاً أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وطلب الاستسقاء، فرأى في المنام أن: ائت عمر.
وهذا يعلق عليه الشيخ ابن باز في طبعته بأنه لم يصح.
والذي عليه الرواية الصحيحة هنا أن عمر لم يأت إلى القبر، ولم يأت أحداً، ولكن توجه إلى الله بالأصل، ولم يبعد عمر عن الأصل -أي: رسول الله-؛ لأنه قدم واحداً من آل بيت رسول الله، ألا وهو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا يقول العلماء: إذا أراد الإمام أن يستسقي وفي الناس من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصالحين فإنهم أولى بأن يقدموا على غيرهم؛ لأن معهم زيادة فضل، وهو نسبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال عمر: وإنا الآن نتوسل إليك بـ العباس -ولم يكن التوسل بشخصه ولكن بدعاءه قم- يا عباس -فاستسق لنا.
أو: قم- يا عباس -فادع لنا.
فلو كان الاستسقاء بذاته لكان سيبقيه في مكانه، ولكن بدعائه، فقام العباس وسأل الله بمكانته من رسول الله، وبطاعته لله أن يسقي الناس فسقوا في حالهم.(109/3)
ما يفعل عند السقيا بنزول المطر
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعنه -أي: عن أنس - رضي الله عنه قال: (أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطر، قال: فحسر ثوبه حتى أصابه من المطر، وقال: إنه حديث عهد بربه) رواه مسلم] .
بدأ المؤلف رحمه الله يذكر بعض جوانب أو آثار الاستسقاء لمن مطروا بغير استسقاء، أو بعد الاستسقاء، فتقدم صلى الله عليه وسلم إلى ماء المطر، وخاض بساقيه، وحسر ثوبه، وقال: (إنه حديث عهد بربه) تبركاً بهذا الماء النازل غوثاً للمسلمين.
يقول العلماء في تفسير قوله: (حديث عهد بربه) : إن المطر جاء من السحاب، والسحاب دون السماء الأولى، والله سبحانه وتعالى مستوٍ على عرشه كما بيّن سبحانه وتعالى، وهذه أمور لا يدركها العقل.
قالوا: أي أن الله سبحانه وتعالى ساقه برحمة منه، فهو حديث عهد برحمة الله التي رحم بها أهل الأرض.
ومن هنا يتبرك به صلى الله عليه وسلم فيغمس قدميه فيه، وفي بعض الروايات: (رُئيَ المطر ينزل من لحيته) ، وفي بعضها: (حسر عن رأسه، وقال: أصيبوا منه) ، إلى غير ذلك، حتى قيل بأنه كان يشرب منه، وكان يتوضأ منه، وكان يخرج إلى وادي قناة، وكان أغزر أودية المدينة مطراً، إلى غير ذلك من الروايات، فلا مانع أن يصيب الإنسان من المطر إذا كان عند نزوله، أو يأتي إلى الوادي ويغسل يديه أو رجليه منه، أو يشرب منه إن طابت له نفسه إذا كان صافياً صالحاً للشرب، أو غير ذلك، فكل ذلك تبرك بهذا الماء الجديد لأنه حديث عهد بربه، أي: بأوامره وبإنزاله، وبإغاثته للعباد برحمة منه سبحانه.(109/4)
الوارد عند رؤية المطر
قال المصنف: [وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى المطر قال: (اللهم صيّباً نافعاً) أخرجاه] .
تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى المطر -أي: إذا نزل ورآه رأي العين وتأكد من نزوله- قال: (اللهم صيّباً نافعاً) .
و (الصيّب) أصله: صيْوِب، وعند علماء الصرف أنه إذا اجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، كما في (جيّد) ، فأصله (جَيْوِد) ، من الجودة.
وأصل (الصيب) من الإصابة، تقول: صوب السهم فأصاب الرمية.
وسمي المطر صيباً لأنه ينزل ويصيب مكانه، فإذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم المطر دعا الله أن يجعله صيباً نافعاً، وذلك مخافة أن يكون صيباً ضاراً؛ لأنه إذا زاد المطر عن مقدار تَحمُّل الخلق أو الأرض كان ضرره أكثر من نفعه، ونحن نشاهد ونسمع بالكوارث والحالات التي يأتيها المطر غزيراً فيهلك الزرع، ويهدم البنيان، ويكسر الطرق والجسور، فالنبي صلى الله عليه وسلم رحمة منه بالأمة حينما يرى المطر يقول: (اللهم صيباً نافعاً) .
و (صيب) من أسماء المطر أيضاً، ومنهما (الوبل) ، ومنها (الرذاذ) ، ومنها (الهتان) ، وكلها أسماء تأتي على حسب صفاته وحالاته وشدته ورقته، والله تعالى أعلم.(109/5)
ما يحسن الدعاء به عند الاستسقاء
قال المصنف: [وعن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا في الاستسقاء: (اللهم جَلّلْنا سحاباً كثيفاً ... ) ] .
الجلال: جمع جلالة، والجلالة: الثوب الذي يوضع على البُدْن حينما تساق هدياً إلى بيت الله، وتقول: فلان جلل فلاناً بالنعم.
أي: غطاه وغمره، فكذلك كانوا إذا ساقوا الهدي إلى بيت الله تكريماً وإمعاناً في القربة إلى الله، يزينون تلك البدن بنوع من الأقمشة الجديدة، فيجعلونها عليها تجميلاً لها، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما إذا أهدى إلى البيت كسا هديه من الجلال في أول خروجها، ثم إذا أراد أن يشعرها كشفها عنها، ثم بعد ذلك يلبسها إياها، ثم ينزعها حتى تدنو من مكة، فإذا دنت من مكة جللها وذهب بها إلى الموقف، ثم إذا رجع وأراد أن ينحرها، أخذ الجلالة عنها حتى لا يصيبها الدم، وتصدق بجلالها مع لحمها.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم جللنا سحاباً) .
أي: ارزقنا سحاباً يكون عامّاً شاملاً كما تشمل الجلال بهيمة الأنعام من البدن.
وفيه إشارة لطيفة بأن تكون تلك السحابة من باب الجلال، أي: لطيفة نافعة؛ لأن الجلال لا تضر الإبل، فتحملها الإبل متزينة بها، فكذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم أولاً بطلب السحاب، وأن يكون شاملاً مغطياً عاماً كشمول الجلال لبهيمة الأنعام في البُدْن، والله أعلم.
وقوله: (سحاباً كثيفاً) السحاب يأتي خفيفاً، ويأتي كثيفاً متراكماً، والخفيف يسمى الكهام أو الجهام، وهي التي أمطرت ما فيها وأصبحت خفيفة، وتجد السحب الخفيفة سريعة المشي؛ لأنها خفيفة على الرياح، فتمضي سريعاً، أما السحاب المحمل بالماء فتجده بطيئاً في المشي؛ لأنه مثقل بالماء ومحمل به، فالكثيف المتراكم بعضه فوق بعض والمحمل بالماء بخلاف الكهام أو الجهام الذي أراق ماءه، أو لم يحتمل الماء.
وقوله: (قصيفا) .
القصيف: فعيل من القصف يقال لصوت قصف الرعد، فالقصيف: الصوت الشديد، كقصف المدافع والأصوات الشديدة، فهذا يدل على كثافة السحاب وغزارة المطر.
قال: (دلوقاً) .
الدلوق: فعول من (دلق) ، والعامة قد تقول: دُلق ماء الإناء.
بمعنى: أُفرغ ما فيه، وتقول: الماء اندلق، والكأس اندلقت، بمعنى انكفأت وسقط ما فيها، فـ (دلوقاً) ، معناها: غزير الماء.
ويقال: إبل دلوق، إذا كانت سريعة، أو: خيل دلوق، إذا كانت سريعة، وكذلك الإناء أو الكأس، فما أسرع خروج الماء منه فهو اندلاق.
قوله: (دلوقاً ضحوكاً) .
السحاب الضحوك هو الذي يكون فيه البرق، كأنه يتبسم، فهي أوصاف عجيبة جداً، من أنواع البلاغة، واستعمال اللطيف من العبارات، فيسمى أو يعبر عن ضوء البرق الذي يلمع بأنه ثغر آدمي يضحك.
قال: (تمطرنا منه رذاذاً) .
(تمطرنا منه) كل ما تقدم صفات للسحاب، فإذا اكتملت تلك الصفات لهذا السحاب فكان مجللا، كثيفاً، قصوفا، ً دلوقاً، ضحوكاً قيل: ماذا ينزل من هذا كله؟ مخافة أن تكون هذه الصفات فيها من جرم الماء وكثرته ما يضر، فيكون الدعاء: ابعث لنا سحاباً هذه صفاته، وتمطرنا منه رذاذاً.
وفي فقه اللغة أن الصوت يوحي بالمعنى، ومن ذلك قول عباد الصيمري من علماء اللغة: إن بين اللفظ ومعناه رائحة شمها أولوا الألباب.
بمعنى أن الفطن صاحب الفطرة الصحيحة إذا سمع لفظة فهم معناها من جرس صوتها، واستدل بذلك على أسماء الأصوات في اللغة، وبعض المصادر تدل على معانيها ولو لم تعلمها من القاموس، فتسمع -مثلاً- كلمة (غليان) ، و (جريان) ، فهذا النطق فيه حركات متوالية، ففي (جَرَيَ) ثلاث حركات متوالية بالفتح، فـ (جريان) ، لا يدل على الجلوس، وإنما يدل على الانطلاق، و (غليان) ، تدل على أن الماء تحرك.
وحين تقول: (حفيف الشجر) فكلمة (حفيف) ، توحى بأن شجرة تحركها الرياح وراءك، ولما تسمع (زقزقة العصافير) وتكررها بقولك: (زق زق زق) فكأن عصفوراً في القفص وراءك.
فقالوا: إن أسماء الأصوات مأخوذ من معانيها ما يدل عليها بجرسها، فهنا لفظة: (رذاذاً) كأنها تعطي المعنى، أي: خفيف خفيف.
قال: (تمطرنا منه رذاذاً قِطْقِطْاً) .
قوله: (قِطْقِطْاً) هو كقولك: ليقطر نقطة نقطة، فليس هو صب القرب حتى تغرق الدنيا، ويكسر الشجر وتهدم البيوت، وإنما شيئاً فشيئاً، فكأنه شيء غير متواصل، فهو خطوة خطوة، ومقاطع منفصلة.
قال: (قِطْقِطْاً سَجْلاً) .
قوله: (سَجْلاً) منه السِجل، والذَنُوب، وهي أنواع من أواني المياه.(109/6)
استحباب الدعاء بأسماء الله وصفاته بما يتناسب مع الحاجة
قال: (يا ذا الجلال والإكرام) .
هذه صفات الله سبحانه وتعالى، يتوسل بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى رب العزة في قضاء ما سأله إياه، والجلال والعظمة والكبرياء صفات هي صفات الجلال والكمال لله سبحانه وتعالى، ومن صفات العظمة والكمال والجلال الأسماء الثلاثة: الملك، والإله، والرب، وكلها جاءت في سورة الفاتحة، وفي المعوذتين في آخر المصحف.
وأما كونه ذا الإكرام فنحن نسأل ونطلب، فتسأل حاجتك وتطلبها من كريم، فنظهر ونتوسل بهذا الاسم وبتلك الصفة التي تناسب الحاجة.
ومن هنا يقول العلماء في قوله سبحانه: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] ، وفيما جاء الحديث (إن لله تسعة وتسعين اسماً -مائة إلا واحداً- من أحصاها دخل الجنة) يقولون: هل معنى (أحصاها) حفظها كما هي مكتوبة في آخر المصحف -كما في بعض الطبعات الهندية-، أن (أحصاها) فقه معناها؟ وحضرت مجلساً انعقد بين والدنا الشيخ الأمين -رحمة الله تعالى علينا وعليه- وفضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز في هذا الموضوع في بيت الشيخ، وتذاكرا وقتاً طويلاً، وأخيراً استقر الأمر على أن (حفظها) بمعنى: صانها من التحريف والتأويل، وتأدب بها، فإذا قرأ أو إذا ذكر اسم الله الكريم فلا يبخل، وإذا ذكر اسم الله الرحيم فلا يتجبر، وإذا ذكر اسم الله الرزاق فلا يمنع، وهكذا يتخلق بأخلاق مدلول أسماء الله سبحانه وتعالى.
وهنا يقولون في هذه الآية الكريمة: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] يقولون: لن يتأتى لإنسان أن يسرد تسعة وتسعين اسماً، ويقول: يا رب: أعطني، أو يا رب: ارزقني.
أو: يا رب: اغفر لي.
قالوا: المراد هنا والمناسب أنك إذا سألت الله شيئاً انظر من أسمائه سبحانه ما يتناسب مع هذا الذي سألته، وتوسل إليه سبحانه بهذا الاسم، فإذا كان الإنسان فقيراً ويريد التوسع في الرزق، فهل سيقول: يا قهار، يا جبار، أم سيقول: يا رزاق، يا كريم؟ سيقول: يا رزاق، يا كريم.
وإذا كان يطلب المغفرة فهل سيقول: يا شديد العقاب يا شديد العذاب، يا جبار؟ إنه سيقول: يا غفار.
يا رحيم، وهكذا.
وقد جاء في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها حينما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فضل ليلة القدر، فقالت يا رسول الله! ماذا أقول إن أنا صادفتها؟ قال: (قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو، فاعف عني) .
أي: من صفاتك العفو، وأنت تحب العفو، وتحب من يعفو عمن ظلمه، فأسألك بما تحبه، وما أنت متصف به أن تعفو عني.
فالسؤال يكون بذكر الصفة التي يتصف بها الله سبحانه وتعالى، والتي يحبها في عباده، فـ عائشة رضي الله تعالى عنها لم تقل: يا رزاق، يا كريم.
ولم تقل: يا غفور، يا رحيم.
ولم تقل: يا ذا الجلال والإكرام.
ولم تقل: سبوح قدوس.
وكل ذلك من صفاته سبحانه وتعالى، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم علّمها أن تأتي لمسألتها فتسأل الله بالصفة التي ترتبط بهذه الحاجة، وهكذا هنا: (يا ذا الجلال والإكرام) .(109/7)
استسقاء نبي الله سليمان عليه السلام
قال المصنف: [رواه أبو عوانة في صحيحه.(109/8)
استسقاء النمل مع سليمان عليه السلام
قال رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خرج سليمان عليه السلام يستقي فرأى نملة مستلقية على ظهرها، رافعة قوائمها إلى السماء تقول: اللهم إنا خلق من خلقك، ليس بنا غنى عن سقياك فقال: ارجعوا؛ فقد سقيتم بدعوة غيركم) رواه أحمد، وصححه الحاكم] .
هذا الحديث يستوقف كل مسلم وقفة طويلة، لا للاستسقاء فحسب، ولكن للتأمل في عجائب قدرة الله، وللتأمل فيما وهب الله لأصغر مخلوقاته من معرفته سبحانه، وما أهمه وجعل فيه من غرائز.
تفوق عقل الإنسان في تصرفاته وعقائده.
وهذا الحديث يمكن أن يدخله العلم في عدة أبواب، فمثلاً في الأصول يدخل في مسالة (شرع من قبلنا هل هو شرع لنا) لأن النبي صلى الله عليه وسلم يذكر لنا ما وقع لمن كان قبلنا، وهو نبي الله سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وسليمان عليه السلام قد خصه الله بملك لم يأته لأحد من بعده، فعلمه منطق الطير، وسخر له الجن والريح، وأعطاه -كما في كتاب الله- ما لم يؤت أحد من العالمين.
وها هو كما في كتاب الله يسمع خطاب النملة، ويفقه ما قالت، ويتبسم ضاحكاً من قولها، وها هو صلى الله عليه وسلم -وهو الصادق المصدوق- يخبرنا بأن نبياً قبلنا -وهو نبي الله سليمان- خرج يستسقي.
فالاستسقاء قديم في الأمم الماضية، وهو دأب المسلمين الذين يعلمون بأنه لا يسوق الخير إلا الله، ولا يدفع الشر إلا الله، ولا يقوى على إنزال المطر سواه، فخرج نبي الله سليمان يستسقي -أي: يطلب السقيا، وبمن معه- فإذا به يرى النملة.
وأما كيف رأى النملة وكيف سمعها فهذا أمر لا يقوى عقل البشر على إدراكه، وإنما عليه أن يؤمن بما وقع، ويترك كيفية وكنه ذلك لله رب العالمين.
وإن قيل: كيف يراها على صغرها وهو خارج في جمع من الخلق؟ نقول أيضاً: وكيف سمعها وهو في جنده وهي تقول: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ.
} [النمل:18] فالله سبحانه وتعالى أعطاه القدرة على رؤيتها وهو في حالته، فلو كان جالساً أو ماشياً على قدميه فإنه يتفقد ما تحت رجله، أو ينظر إلى القريب منه، ويمكن أن نقول ذلك في هذه الحالة، لكنه خرج في جمع من أمته يستسقون رب العالمين، فكيف رآها؟ وعند هذه الآية الكريمة يروي بعض العلماء أن النملة رأتهم من مسافة ستة أميال قبل أن يصلوا، ثم أنذرت قومها، وسنرجع إليها إن شاء الله.
في موضوع الدرس هنا أن نبي الله سليمان خرج يستسقي -أي: يطلب السقي- فإذا به يرى نملة، ولم يرَ النمل كله، فيراها على تلك الحالة، ورأى قوائمها التي تكاد تكون أنحل من الشعر، وهي رافعة قوائمها إلى السماء، ولها ست قوائم.
فاستلقت على ظهرها ورفعت قوائمها، وهذا فيه رد على من لا يرى رفع اليدين في الدعاء، فهذه نملة تعرف أين تتوجه، وتسأل المولى لا من بطن الأرض، ولا من شرق ولا غرب، ولكن من السماء من العلو، ترفع قوائمها إلى الله كالذي يرفع يديه مستصرخاً ضارعاً، كما تقدم لنا أنه صلى الله عليه وسلم رفع يديه حتى رئي بياض إبطيه -أي: في هذه الحالة بالذات-، وهذه النملة مستلقية على ظهرها، ورفعت قوائمها تسأل الله.
ثم يروي لنا أنها قالت: (اللهم إنا خلق من خلقك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك) ، أو (بذنوب العباد) كما في رواية أحمد: (فلا تهلكنا بذنوب العباد، لا غنى لنا عن سقياك) ، وفي بعض الرويات -كما يذكرها الجاحظ: (إن لم تسقنا تهلكنا، إن لم تسقنا فأمتنا) أي: لنستريح من عذاب القحط.
فهذه نملة وهي أيسر ما تكون تأتي بهذا العمل، فمن أحق باللجوء إلى الله الإنسان أم هذه الحشرة؟ ومن أحق بالضراعة إليه الإنسان أم هي؟ ومن أحق بالاعتقاد بأن كل شيء بيده سبحانه؟! فما كان من نبي الله سليمان إلا أن اكتفى بدعائها، وقال لمن معه: (ارجعوا؛ فقد سقيتم بدعوة غيركم) .
فالله تعالى سمع دعاء النملة، كما يقول الزمخشري: يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليل ويرى نياط عروقها في نحرها والمخ من تلك العظام النحل فالمولى سبحانه يسمع ويرى دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء، فهذه هي القدرة الإلهية والعظمة الربانية، فهو الله ذو الجلال والإكرام سبحانه.
فإذا بسليمان ومن معه يرجعون.
فلله خلائق أخرى، ولله أمم وأجناس، فهو أرحم الراحمين.
وقد قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام:38] ، فالطيور والوحوش والحشرات إنما هي أمم ولها نظامها.(109/9)
النمل وبدائع صنع الله فيه
وفي هذه الآية الكريمة يذكر المفسرون عجائب النمل، وكتب الحديث والتفسير، وكتب العلوم العامة كعلم الحيوانات، وعلوم الحشرات، وكتب مليئة بأخبار النملة، وهذا من العجب.
يقولون عن هذه الآية الكريمة: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ} [النمل:18] : هل للنمل وادٍ؟ والجواب: نعم.
وأتثبت الكتب والدراسات الحديثة أن في بعض الدول -خاصة في أمريكا وفي أفريقيا- ودياناً لا يسكنها إلا النمل، وقد يتخذ له بيوتاً، أو مساكن كما قالت النملة: {ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل:18] ، فللنمل مساكن، ويتفق علماء الحيوانات والحشرات وكتب التفسير على أن نظام النمل في بيته كنظام الإنسان سواءً، ففي بيوته دهاليز وطرقات وحُجَر، فحجرة يخزن فيها الطعام، وحجرة يضع فيها البيض الخاص بالنمل، وحجر لتصريف المياه، فإذا دخل المطر فإن حجر المياه تكون منخفضة إلى أسفل، والحجر التي فيها الطعام تكون مرتفعة إلى أعلى.
ويذكر بعض العلماء أن النمل يبني له قرية يسمونها (مستعمرة النمل) على اصطلاحهم، وتكون هرمية الشكل، فمن أعلى تنتهي برأس، ومن أسفل تنتهي بقاعدة، يقول بعض الكتّاب: ربما تسع اثني عشر رجلاً.
وتكون على طبقات ودرجات، وكل طبقة فيها عدة بيوت، ومجموعها يسمى (قرية النمل) ، أو (مستعمرة النمل) ، وذكر الجاحظ عن أبي موسى الأشعري أنه قال: إن للنمل سادة.
فسئل قتادة: وما معنى السادة؟ وقال: ساداته الذين يخرجون طلائع يطلبون الغذاء من كل جانب، ثم يرجعون وينذرون جماعتهم فيأتون إليه، وكلهم يتفقون على أن النمل أعطي من الحكم والسياسة ما أعطيه ساسة الأمة، أي: ساسة الدول، ومن الهندسة والمعرفة والقوة ما لا يرى نظيره عند البشر.
فمن الحكمة عند النمل أنه يجمع طعام الشتاء في الصيف، فإذا جمعه وخزنه فلقه نصفين -وانظر إلى الإلهام والغريزة-.
وبعض العلماء يقول: إنه يفلق الحبة نصفين حتى لا تنبت، وبعضهم يقول: هو لا ينصفها، وإنما يأتي إلى منبت الزراع فيخرم الحبة منه، ويخرج ما سيكون نباتاً مخافة أنه إذا بقي في الجحر وجاءته رطوبة يزرع وينبت، فلا يستفيد منه شيئاً، إلا حبة الكزبرة، فإنه يقسمها أربعة أقسام، فالبر والذرة وغيرهما يأخذ منه محل المنبت، وحبة الكزبرة بالذات يقسمها أربعاً؛ لأن حبة الكزبرة بذاتها فلقتان، وكل فلقة صالحة أن تنبت وحدها، فلو فلقت الكزبرة فلقتين فكل فلقة ستنبت نبتة، كما تنبت حبة البر الكاملة، فالنمل لا يكتفي بكسر حب الكزبرة نصفين كما يفعل في حبة البر، لكن يكسرها أربعاً ليقسم كل نصف حتى لا ينبت النصف وحده.
وإذا قدر ودخل المطر عنده، أو جاءت الرطوبة انتظر طلوع الشمس، وأخرج كل ما عنده في مستودعاته ونشرها في الشمس، أو في الليالي المقمرة؛ لأنه يستفيد من ضوء القمر كما يستفيد من حرارة أشعة الشمس، فإذا ما جف وأمن عليه العفونة رده في مكانه، ويذكرون من عجائب النمل ما لا يستطيع إنسان أن يحصيه؛ فإن هناك أشياء كثيرة وغريبة وعجيبة، ولتقرأ في هذا كتب الأدب، ككتاب الجاحظ، ومن كتب الثقافة العامة (حياة الحيوان) ، أو أنواع التفسير، ومنها تفسير الفخر الرازي، ولكنه أشار إشارة خفيفة إلى عموم وأصول سياسة النمل وحياته.
ويتفق العلماء إلى أن أقوى مخلوق هو النملة، بمعنى أنه يحمل أضعاف وزنه، بخلاف الإنسان، فإنه في علم الرياضة أول درجة في البطولة هي من يحمل وزنه، فمن استطاع أن يحمل وزنه دخل في درجة البطولة، وكلما استطاع حمل أكثر من وزنه دخل في البطولة أكثر، أما النملة فتحمل أضعاف وزنها، حتى قال بعضهم: تحمل الصفف ثلاث مائة مرة.
ومن طبائع النمل أنه لا يجب الكذب، بل يقتل الكاذب، وذكروا عن بعض الأشخاص أنه كان في فلاة، وكان يتناول طعاماً، فسقطت منه فتاتة من طعامه، فإذا بنملة تأتي، ومن العجيب في شأن النمل والذباب أنك تكون في مكان لا نمل فيه ولا ذباب البتة، فإذا أخرجت طعاماً وسقط منه شيء على الأرض فسرعان ما تجد نملة عندك، أو ذبابة تحوم حولك، فتلك النملة هي رائدة القوم، فإن استطاعت أن تحمل ما سقط على الأرض أخذته بفيها وذهبت إلى جحرها، وإن لم تستطع أخذت قليلاً منه -إن أمكنها- وذهبت إلى جحرها، واستدعت جماعة يتعاونون على هذا الطعام الصغير، ويحملونه إلى الجحر، فهذا الشخص سقطت منه فتاتة، فجاءت النملة تحملها فما قدرت فذهبت، ولم تلبث أن جاءت بمجموعة من النمل، ففطن أنها ذهبت تدعوهم، فلما اقتربوا من تلك الفتاتة حملها هذا الرجل، فأخذ النمل في البحث في المنطقة فما وجد شيئاً فرجع، ثم وضعها بعد ذلك، فجاءت نفس النملة ووجدتها، فرجعت إلى جماعتها، فجاءت فحمل الرجل تلك الفتاتة، وفي المرة الثالثة لما لم يجدوا تلك الفتاتة جاءوا إلى النملة التي أخبرتهم وقتلوها لأنها كذبت عليهم.
فهو ينظم عمله، وينظم جماعته، ولديه ترتيب في بيضه، وفي حضانته، وفي غير ذلك، حتى قال بعض الناس: إنه يختزن طعاماً يكفيه عدة أعوام، ولسنا نطيل الأمر في ذلك، ومن أراد التوسع في أخباره فليرجع إلى تلك المراجع التي أشرنا إليها أو غيرها.
ويهمنا في هذا البحث الطلب والرجاء، وأن ندرك أن هذه النملة أدركت حياتها، وأيقنت بربها، وآمنت بقدرته وأنه القادر على ذلك، وإدراك النمل وإدراك الحيوان ثابت في القرآن الكريم والسنة النبوية أيضاً.
ففي القرآن الكريم ذكر الهدهد، وهو طائر من الطيور -كما أن النملة حشرة من الحشرات- ذهب فمكث غير بعيد، وجاء إلى نبي الله سليمان وقال: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل:22] ، وأخبره عن بلقيس، ثم كان من أمره أن أنكر عليهم السجود للشمس والقمر من دون الله، فلم يكن أن أكتشف بلقيس فحسب، بل أنكر عليها الشرك بالله في عبادة الشمس والقمر، ثم كان من أمره ما كان.
وذكر مالك رحمه الله في الموطأ في فضل يوم الجمعة أنه تقوم فيه الساعة، وقال: وما من دابة إلا تصغي بسمعها بعد طلوع الفجر من كل يوم جمعة مخافة أن تقوم الساعة، أو شفقاً من الساعة.
فالدواب تميز بين الخميس والجمعة والسبت، وتصغي بسمعها يوم الجمعة بعد الفجر، وليس في الظهر والعصر، وتؤمن بأن القيامة تقوم في يوم الجمعة، وتصغي بسمعها.
وعلى هذا فجميع الحيوانات تدرك، ومن ذلك البعير الذي ند عن صاحبه، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وذهب الرسول إليه، وأراد أن يدخل، فقال أبو بكر: على رسلك -يا رسول الله- فالجمل هائج فقال: (على رسلك أنت) ، ودخل صلى الله عليه وسلم، واستقبله البعير، ووضع فمه على رأسه صلى الله عليه وسلم، وأصغى إليه رسول الله، ثم انتهى بعد ذلك وقال: (يا صاحب البعير! بعيرك يشتكي كثرة الكلف وقلة العلف) أي: إن قانون المعاوضة لم يعتدل، ولم يتزن، فتكلفه أكثر مما تعلفه، وهذا ليس عدلاً، فلما انتهى قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله! لكأن الجمل يعلم أنك رسول الله، فكيف جاءك وكيف خضع لك، وكيف جاء وكلمك وفهمت منه؟ فقال: (يا أبا بكر! ما بين لابتيها -أي: لابتي المدينة، وهي الحجارة الحارة الشرقية، والحجارة الحارة الغربية- من شجر أو حجر أو مدر أو حيوان أو طير إلا ويعلم أني رسول الله) .
وقد نكون أطلنا في هذا الموضوع، ولكن يهمنا تنبيه العقول، وتنبيه الضمائر، ولفت الأنظار إلى أن الكائنات كلها تعلم بوجود الله، وتؤمن بالله، وتؤمن باليوم الآخر، وهذا الذي أردنا التنبيه عليه، وإن كان خارجاً عن موضوعنا.(109/10)
استحباب الخروج بالحيوانات للاستسقاء
يقول بعض العلماء: لا مانع عند الاستسقاء أن نخرج البهائم؛ لأن الله سقى الأمة بنملة فلو أخرجنا البقر والأغنام والإبل كان ذلك أيضاً أدعى لأن يرحمنا الله إذا سمع رغاءها وسمع خوارها فلعل الله يرحمنا بها لهذا كانت صلاتها في الخلاء لتسع فيما لو اخرجوا البهائم.
وقال بعضهم: لا حاجة إلى ذلك.
وهنا مسألة، وهي: هل يجوز قتل النمل أم لا يجوز؟ فمما يذكرونه عن عبد الله بن أحمد أن رجلاً رأى جارية له تقتل نملة، فقال: لا تقتليها.
وطلب كرسياً وجلس عليه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها النمل! أخرجوا عنا.
وفي بعض الروايات قال: إني لا أحب أن تقتل في بيتي، وبعضها يقول: اخرج عنا وإلا أحرقتك.
قال: فأخذ النمل يخرج أرسالاً.
وجاء في الحديث أن نبياً من الأنبياء كان في طريقه -وبعضهم يعزوها إلى نبي الله موسى، فقال: يا رب! تهلك قرية لرجل فيها فاسق! -أي: لمعصية إنسان تهلك قرية بكاملها- فأراد الله أن يريه الآية، فخرج مرة ثم جلس في ظل شجرة، واتكأ ونام، وفي أثناء نومه -كان بجانبه بيت للنمل-، فجاءت نملة وقرصته، فانتبه مذعوراً، فقام وأفسد قرى النمل كلها، فقال له الله سبحانه وتعالى: أمن أجل نملة تهلك القرية كلها؟! فتذكر سؤاله الأول.
وأخبار هذه الحشرة كثيرة، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن قتل النمل والصرد والهدهد.(109/11)
كيفية رفع الكفين أثناء الدعاء
قال المصنف: [وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء، أخرجه مسلم] .
تقدم أن من هيئة صلاة الاستسقاء رفع اليدين حتى يُرى الإبط، وكيف يكون وضع اليدين في حالة رفعهما؟ يذكر العلماء أن الإنسان إذا سأل الله فإن سؤاله في أحد أمرين: إما أن يسأله جلب نفع، أو يسأله دفع ضر، وهذان الأمران هما مقاصد العقلاء في الدنيا، فلا تجد عاقلاً في أي بقعة من الأرض من أي جنس من الأجناس على أي دين من الأديان.
إلا وهو يسعى لأحد أمرين، إما ليجلب نفعاً، أو ليدفع ضراً، فيقولون في آداب الدعاء: إن كان الدعاء لطلب نفع طلب بأكف يديه، وجعل أكفه إلى السماء، وجاء الحديث: (إن الله حيي كريم يستحيي من عبده أن يمد يديه فيردهما صفراً) ، وإذا كان الدعاء لدفع مضرة.
قالوا: يجعل ظهور يديه إلى السماء، كأنه يريد أن يدفع هذا الذي نزل، والاستسقاء فيه طلب نفع، وفيها دفع ضر، ولكن دفع الضر مقدم؛ لأن دفع الضر هو السبب لطلب الخير، والضر النازل هو القحط.
فقالوا: كان صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه إلى الاستسقاء قدم جانب دفع الضر الواقع بهم، كما في حديث عائشة (شكوتم إليّ قحط بلادكم) ، والقحط ضر، فكان يجعل ظهور كفيه إلى السماء، والله تعالى أعلم.(109/12)
كتاب الصلاة - باب اللباس [1]
من شروط الصلاة ستر العورة بلباس طاهر، وللباس أحكام وآداب بينتها الشريعة، كما بينت الفرق بين لباس الرجل ولباس المرأة، والمتأمل في هذه الأحكام يدرك حكمة الشريعة وكمالها.(110/1)
أحكام اللباس(110/2)
حرمة لبس الذكور للحرير
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: يقول المصنف رحمه الله: [عن أبي عامر الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير) رواه أبو داود، وأصله في البخاري] .
أبو عامر هذا غير أبي موسى الأشعري، فهو رجل آخر.
قوله: (يستحلون) استحل الشيء: جعله حلالاً، فهل هو حلال في ذاته أو أنه محرم؟ لو كان حلالاً في ذاته لما قيل: استحله؛ لأنه حلال، وتحليل الحلال تحصيل حاصل، فهو حرام، ولكنهم يستحلونه، وهل يستحلونه تكذيباً للتحريم الثابت عن رسول الله، أو يستحلون استعماله مع اعتقادهم بتحريمه؟ إن من استحل شيئاً محرماً ورد به دليل التحريم فإنه يكون قد رد حكم الله الوارد على لسان رسول الله، ومن حرم ما هو حلال بالضرورة أو استحل ما هو محرم بالضرورة فهو مرتد عن الدين، ولكن من اعتقد أنه حرام، واستعمله فهذه تكون معصية، ولا يخرجه العصيان عن الإسلام.
وهذا اللفظ استدل به الجمهور على أن هذا الذي يستحله أقوام أصله محرم، فما هو موضوع الاستحلال؟ قال هنا: (الحر) بالحاء والراء، والحر: هو الفرج، فالمعنى يستحلون الفروج بالزنا، والحرير باللباس.
وأكثر علماء الحديث يروونه بالحاء والراء المهملتين -أي: ليس فيها نقط-، وبعضهم يرويه معجماً بالنقط، والحاء إذا كتب عليها نقطة صارت خاءً، والراء إذا صارت عليها نقطة صارت زاياً، فروي (الحر) و (الخز) ، والكتابة واحدة، ولكن الخلاف بكون الحرفين منقوطين أو بدون نقط.
والجمهور على أنه الخز؛ لأنه متناسب مع ذكر الحرير، والآخرون يقولون: إذا حرم الحرير فالخز نوع منه، فيكون تكراراً، فالأنسب أن يكون تحريماً لشيء آخر.
وجاء في بعض النصوص الأخرى: (يستحلون الحر والمعازف) ، واستحلال الفروج مع المعازف متجانس؛ لأنه من باب اللهو والاستمتاع المحرم، فعلى أنه الحر لا يدخل معنا في البحث، وهذا راجع إلى باب حد الزنا، وإذا كان (الخز) ، فما الفرق بين الخز وبين الحرير؟ وكيف ذكر معه؟ قالوا: الحرير ما كان من دودة الحرير، فهو إنتاج دودة معروفة باسم الحرير بصفة خاصة، والخزّ: هو وبر دابة يكون ناعماً كالحرير، وبعضهم قال: الخز: ما كان فيه حرير مخلوط مع غيره.
والزرقاني في شرح هذا الحديث -على رواية الخز بالخاء والزاي- ذكر عن مالك أنه روى عن خمسة وعشرين صحابياً أنهم كانوا يلبسون الخز، وكذا عن خمسة عشر من التابعين، فيكون (الخز) موضع الخلاف، و (الحرير) موضع الاتفاق، ويكون النهي عن الخز للكراهية، والنهي عن الحرير للتحريم، وتحقيق المناط أنه إن كان الثوب مخلوطاً بالحرير فإنه يبقى فيه جزء من المنهي عنه، فهو يحمل جزءاً من النهي، لكن لا يصل إلى حد التحريم؛ لأنه ليس خالصاً من الجنس الذي دخله التحريم والنهي عنه لذاته.(110/3)
حكم استعمال الذهب والفضة ولبس الديباج والحرير وافتراشهما
قال المصنف رحمه الله: [وعن حذيفة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية الذهب والفضة، وأن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والديباج، وأن نجلس عليه) رواه البخاري] .
إذا وجدت صنفين مقرونين في الحديث بالطلب أو بالنهي فلابد أن بينهما علاقة، فالآنية واللباس كلاهما يستعمله الإنسان، فهذه آنية لطعامه وشرابه، وهذا ثياب للباسه، فبينهما ارتباط، وهو الاستعمال، ونحن بحاجة إلى بيان ما يجوز منهما وما لا يجوز، ونحو هذا الحديث سبق في باب الآنية، وتقدم هناك، والنهي جاء بالوعيد، وهو حديث: (الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) ، وفاعل (يجرجر) هو النار، كأن الطعام والشراب الذي يدخل إليه نار تجرجر، أو هو الفاعل للجرجرة، فيجرجر ناراً، ومهما يكن فهو وعيد شديد.
فنهى صلى الله عليه وسلم عن استعمال أواني الذهب والفضة، وهذا مبحثه واسع تقدم في باب الآنية، وأهم ما يتطرق إليه البحث هنا هو ما إذا كان الإناء الصيني والفخار والزجاج مطلياً بالذهب، وفرق بين المطلي بالذهب والمموه بماء الذهب، فالمطلي: هو أن يؤخذ الذهب مذاباً ويطلى عليه كما يُطلى الدهان على الخشب وعلى البنيان، أما المموه بماء الذهب فهو أخف، ولا جرم للذهب فيه، إنما هو اللون، وتمسحه بأي شيء، والفرق بين المطلي والمموه ما قاله النووي رحمه الله في المجموع، وهو أنه إذا أخذت سكيناً وحككت اللون الأصفر عن هذا الصيني الأبيض فإن حصلت باحتكاك السكين على هذا اللون الأصفر على جرم مادي ملموس فهو مطلي، وإن لم تحصل على شيء فهو مموه، وكذلك إذا أدخلته النار فذاب هذا الأصفر، وخرج منه مادة سائلة ذابت بعد أن كانت مجمدة فهذا مطلي، وهذا عين الذهب.
وإن لم يذب ولم ينحل عنه شيء فهو المموه.
وقد ذكروا عن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه أنه جاء إلى المدينة فوجد في جدار المسجد النبوي عهود الخلفاء، وهذه كانت عادة كل خليفة أموي، حيث يكتب خطاب عهده، وهو خطاب العرش -أي: سياسة ملكه في الرعية-، ويكتبه على جدار المسجد النبوي إعلاناً لسياسته في الأمة، فكانت تكتب بماء الذهب، أو تكتب بالذهب، فرآها عمر وأراد أن يحتها، فقال له العلماء: إن كنت ستحصل من هذه الكتابة على مادة من الذهب فافعل، وإن كنت ستفسدها ولن تحصل على شيء لأنها مموهة فقط فاتركها فجرب فإذا به لا يحصل منها على شيء، بل كانت كتابة بمادة ذهبية لا يحصل منها على جرم، فتركها.
فما تجده على غلاف الكتاب، أو في بعض الأواني وبعض الزخارف إن كان مطلياً بالذهب فهو محرم، وإن كان مموهاً فلا شيء في ذلك.
مسألة: إذا وجدنا إناء من الجواهر النفيسة من الزمرد أو الياقوت أو غير ذلك فهل يحرم استعماله؟ الجواب: لا، كما لا يحرم على الرجل أن يلبس ويتختم بالخاتم الذي فيه فص من الفيروز، أو من الزمرد، أو من الألماس، ولو كانت قيمته أضعاف الذهب والفضة، فيجوز أن يلبسه، لكن الذهب والفضة حرام، وبعضهم يقول: لأنهما قيم الأعيان، والأثمان لا تكون للاستعمال، حتى لا تتعطل مهمتها النقدية فتتعطل الأسواق.
وقالوا: إن عامة الناس لا يميزون بين خرز وبين عقيق، والفقراء لا تنكسر قلوبهم من تلك الأحجار الكريمة كما تنكسر قلوبهم من الذهب والفضة؛ لأنهما معروفان للصغير وللكبير.
والله تعالى أعلم.
قوله: [وعن لبس الحرير والديباج] الحرير عرفناه، والديباج: هو عين الحرير، ولكن نسيجه متين، والحرير شفاف، ويقولون: يمكن أن تأخذ خيط حرير بأدق ما يمكن.
فالحرير إذا نسج على رقته كان رقيقاً شفافاً، كما قيل: شف عنها رقرق جندي، فـ (رقرق) أي: رقيق جداً، و (جندي) : نسبة إلى جند، أو إلى بلد تسمى بهذا الاسم، فإذا نسج غليظاً سمي ديباجاً، فنهى صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير على طبيعته، أو أن يكون ديباجاً.
أي: حريراً متيناً مكثفاً في النسيج.
وقوله: (وأن نجلس عليه) أي: على الحرير والديباج.
وقالوا: الجلوس على الثياب نوع من اللباس، فكأنه لبسه، والكل ملبوس بحسب حالته، واستدلوا بحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أين تريدون أن أصلي لكم؟) فعمد الصحابي إلى حصير قد اسود من طول ما لبس -أي: لكثرة الاستعمال- فأخذ ماءً فنضحه، قال العلماء: استعمال الحرير باللباس واستعمال الحرير في الجلوس سواء، والنهي فيهما سواء، فلا ينبغي للرجل أن يتخذ مجلساً به حرير يجلس عليه إذا كان مباشراً له.
وقد يقول قائل: الحرير مباح للمرأة تلبسه وتجلس عليه، فإذا اتخذت المرأة لنفسها ثياباً من حرير، واتخذت فراشاً من حرير فهو جائز لها، فهل تبيحون للزوج هذا الفراش تبعاً لها أو تمنعونه؟ والجواب: أعتقد أن المرأة إذا اتخذته لنفسها، ودعت زوجها إليه فله ذلك؛ لأنه ليس مستقلاً به، وإنما كان تبعاً لها في هذا الاستعمال، وهو مباح لها، ولا نفرق بين الزوجين، ولا نقول: كل واحد يتخذ له فراشاً على حدة.(110/4)
الترخيص في لبس قدر أربع أصابع من الحرير
قال المصنف رحمه الله: [وعن عمر رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع) ، متفق عليه، واللفظ لـ مسلم] .
تبين لنا من إيراد المؤلف رحمه الله ما يجوز لبسه بالنسبة للرجال، وما لا يجوز لبسه بالنسبة للرجال أيضاً، ومن ضمن اللباس الجلوس عليه، وجاء هنا بحديث النهى عن الحرير عن لبسه، وعن الجلوس عليه، ولكن هناك حالات استثنائية بمثابة الرخصة، فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن الحرير إلا مقدار إصبعين، أو ثلاث، أو أربع، وموضع هذه الأربعة الأصابع يكون في أطراف الثياب، مثل طرف الجبة، أو عند الرقبة عند الحاجة إذا كانت عنده حكه، أو طرف الكم الذي يباشر الجلد، فإذا احتاج إلى ملطف لحاجة في جسمه فلا مانع أن يتخذ من الداخل جزءاً على قدر أربعة أصابع على دائرة الفتحة، وإذا كان للثوب فتحات فلا بأس أن يتخذ من الحرير على تلك الفتحات -ويقال لها: الفروج- بقدر أربعة أصابع.(110/5)
الترخيص في لبس الحرير للعلاج
قال المصنف رحمه الله: [وعن أنس رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لـ عبد الرحمن بن عوف والزبير في قميص من حرير في سفر من حكة كانت بهما) ، متفق عليه] .
الاستثناء الأول في أطراف الثياب أربعة أصابع، وهذا الحديث رخص في الثوب كله.
والرَخْص: الشيء الناعم، والرخيص الناعم من الثياب، ورخص البنان.
لين الأطراف، وسعر رخيص: لين هين كل إنسان يقدر عليه، والرخصة: هي التهوين من شدة، فالصوم واجب لكن المريض المسافر يشق عليه، فرخص له في الفطر، أي: لين له، وكذلك الميتة محرمة، لكن قد يضطر الإنسان إليها للإبقاء على حياته، فرخص وهون له، فالرخصة تكون من ممنوع ومن محرم؛ لأن الحرمة منع، والمنع شدة، فالرخصة تكون من شيء محرم فكونه رخص يبقى الأصل عدم الترخيص، وهو العزم والمنع.
فرخص صلى الله عليه وسلم لـ ابن عوف والزبير في قميص الحرير في سفر من حكة، وحكة الجسم الآن تسمى (حساسية) أو (حرارة) أو (التهاباً في الجلد) ، وما هي خاصية الحرير؟ قالوا: طبيعة الحرير حيوانية رطبة، وهو لين، ويعالج بالحرير الجلدُ، فهو ألطف ما يكون استعمالاً بدون حائل لجلد الإنسان، فمن كان عنده حكة إذا لبس القطن جاءته الحكة، وإذا لبس الصوف كانت الحكة أكثر وأكثر، فالذي يناسبه الحرير، فمن أجل علة الحكة رخص له ما كان محرماً، وليست العلة كونه في سفر، ولكن الترخيص في السفر أحوج منه في الحضر؛ لأن الذي في الحضر يمكن أن يحصل على علاج، ويمكن أن يحصل على شيء يخفف عنه هذا، ويمكن أن ينزع القميص ويقعد في بيته، لكن هذا في سفر وفي حركة، فهو أحوج منه حينما يكون في غير سفر.
فيرخص الممنوع، وهذا وجدناه في جميع أبوب الفقه، ويقولون: المشقة تجلب التيسير.
ففي العبادات ينتقل إلى التيمم عند التضرر باستعمال الماء، والانتقال إلى الجلوس في الصلاة عند عدم استطاعة القيام، والانتقال إلى صيام عدة أيام أخر إذا كان في مرض أو سفر.
وهكذا نجد الرخصة تأتي عند الشدة وعدم الاستطاعة، مع بقاء التحريم؛ لأن الحكم قائم، وإذا انتفى الحكم يكون هذا نسخاً لما تقدم، وجاء هذا بديلاً عنه، ولكن الرخصة إباحة الشيء بخطاب جديد مع بقاء الحكم الأول على ما هو عليه، وتكون الرخصة مؤقتة بحالتها وبأسبابها وبدواعيها، فإذا انتفت الحكة انتفى جواز لبس القميص الحرير، والله تعالى أعلم.(110/6)
جواز إعطاء الرجل ثوب الحرير ليكسوه نساءه
قال المصنف رحمه الله: [وعن علي رضي الله عنه قال: (كساني النبي صلى الله عليه وسلم حلة سيراء، فخرجت فيها، فرأيت الغضب في وجهه، فشققتها بين نسائي) ، متفق عليه، وهذا لفظ مسلم] .
الحلة: هي إزار ورداء من جنس واحد، فهي قطعتان، أما الجبة فهي قطعة واحدة، وهي مثل العباءة، لكنها طويلة حسب عادة الناس في اللباس، وهي ثياب تلبس فوق اللباس العادي.
يقول علي رضي الله تعالى عنه: كساني النبي صلى الله عليه وسلم يعني: أعطاني كسوة، والكسوة: اللباس.
وتكون كسوة إذا كانت مكتملة.
قوله: (سيراء) هي نوع من الحرير الرقيق، وليست حريراً خالصاً، قال: فخرجت بالحلة فرأيت الغضب في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والوجه يعبر ولو لم يتكلم، فالبشاشة والهش والبش والتكشير كلها صور معبرة، فـ علي رضي الله تعالى عنه عرف من وجه رسول الله الغضب، كأنه يقول: لماذا لبستها؟! ففهم علي ذلك بدون أن يتكلم، قال: (فشققتها بين نسائي) ، وفي بعض الروايات قال: (فقسمتها بين الفواطم) ، وليس هنالك اختلاف؛ لأن الفواطم جمع فاطمة، وهن نساء علي، فمنهن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي زوجته، ومنهن فاطمة بنت أسد، وهي أمه، ومنهن فاطمة بنت فلان، وهي قريبة له، فكلهن من بيت علي رضي الله تعالى عنه، فقوله: (كسوتها نسائي) و (كسوتها الفواطم) معناهما واحد.
ونأخذ من هذا الحديث أن تغيير المنكر قد يكون باليد، وقد يكون باللسان، وقد يكون بالنظرة، ولذا يقول العلماء في باب التعزيرات: إذا ارتكب إنسان أمراً محظوراً واقتضى الأمر تعزيره فيعزر الأشخاص بحسب ذواتهم، فشخص لا ينفع فيه التعزير إلا بالضرب والجلد، وشخص يكفي أن يقال له: يا فلان! والله ما كان يليق بمثلك أن يفعل هذا.
وشخص يعزر بأن تعرض عنه، فإذا أقبل عليك أعرضت عنه، وهذا أثقل عليه من السب ومن الضرب، ويكفي هذا في تعزيره.
فالشخص الأبي الكريم تكفيه النظرة، والشخص الأقل منه كرماً يحتاج إلى كلام وإلى إيقاف، والشخص فاقد الإحساس يعزر بالضرب، فهنا أدرك علي رضي الله تعالى عنه إنكار رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه لبس هذا النوع، وحالاً قطعها وقسمها بين نسائه.
وهذا النوع لا يجوز للرجال ويجوز للنساء.(110/7)
أحكام الذهب بين الرجال والنساء(110/8)
جواز لبس الذهب للنساء خاصة
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أحل الذهب لنساء أمتي، وحرم على ذكورها) ، رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه] .
هذه قاعدة الباب التي يدور عليها فقه هذا الباب كله، حيث يخبر صلى الله عليه وسلم: أن الحرير والذهب حرام على ذكور أمته، حلال على نسائها، وهل المراد أن لا يقتنيه؟ وهل الرجل لا يضع في بيته ثوب حرير، ولا يضع في بيته ذهباً؟ لا.
إن المراد انه حرام في استعماله الشخصي، أما إذا اقتنى من الذهب قناطير مقنطرة لتجارة وصناعة فلا مانع من ذلك؛ لأنه لم يلبسه، وإذا تاجر في الحرير وخزنه في بيته، أو في مستودعاته، وباع واشترى فيه، ولم يلبسه فلا مانع من ذلك.
فحلال للنساء استعماله، وحرام على الرجال استعماله، أما القنية فلا دخل لها في ذلك، والذهب حلال للنساء مادام أنه غير مصنع، فإذا صنع نظرنا، فإن صنع أواني فلا يجوز للرجال ولا للنساء استعمال أواني الذهب والفضة، لكن المرأة تستعمله زينةً وحلياً لها فلا مانع، وإن صنعه الرجل بيده ليبيع ويشتري في صنعته حلياً للنساء فلا مانع، لكن أن يصنع ملاعق وصحوناً ونحوها فلا يجوز؛ لأنه لا يجوز تصنيعه، ولا استعماله، ولا اقتناؤه في البيت للرجال ولا للنساء.
وهنا بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الحرير والذهب حرام على الرجال بأي نوع من أنواع الاستعمال، وحلال للنساء على الوجه الذي تقدم، فيجوز للمرأة الحرير استعمالاً ولبساً، ما لم يكن لباس الحرير شفافاً يشف عن الجلد ويصف البشرة على ما سيأتي إن شاء الله؛ لأن المرأة مأمورة أن تستر نفسها، والذهب حلال لها أيضاً ما لم يكن في صورة الممنوع، وهو الأواني والاستعمال المباشر، أما للزينة وللحلي فلا مانع من هذا، وهذا الحديث هو القاعدة الأساسية.(110/9)
خلاف العلماء في تحلية الأطفال بالذهب
بقي عندنا من فقه الحديث مسألة الأطفال الصغار، فالآباء يفرحون بالمولود الصغير، فإذا جاءت مناسبة أو جاء العيد قد يأتون للطفلة بأنواع من الحلي على قدرها، وأنواع من الحرير على قدرها، وإذا كان المولود ذكراً وأرادوا أن يفرحوا به ويجملوه فهل يلبسونه الحرير والذهب؛ لأنه صغير لا يجري عليه القلم، أم هم المكلفون والمسئولون عن ذلك؟ فعند الشافعية جواز ذلك في الأعياد والمناسبات؛ لأنهم غير مكلفين، وعند مالك رحمه الله عدم جواز ذلك؛ لأن النهي عام، فالذكر وهو في بطن أمه ذكر، فإذا جاء إلى الدنيا ما تغيرت الذكورة، فيشمله وصف الذكور، فلا يجوز مالك أن يلبس الصغير حريراً أو ذهبا في عيد ولا في غيره، وغير مالك يقول: هذا طفل صغير، ولا مانع أن نفرح به ونزينه، وفي نظري أن مما يؤيد مذهب مالك مبدأ سد الذريعة، وهذا باب واسع جداً، وللأسف إلى الآن لم أجد من طلاب العلم من خصه برسالة جامعية، فقد كتبوا في كثير من أبواب الفقه إلا هذا الباب على حد علمي.
وسد الذريعة: هو ترك المباح خشية الوقوع في غير المباح، فالنهي عنه لغيره، وأصله في كتاب الله قوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] ، فسب الذين يدعون من دون الله جائز، فلك أن تسب الأصنام وتحطمها، ولكن إذا كان سبك لأصنامهم يحملهم على أن يسبوا الله لأنك سببت آلهتهم فلا يجوز لك ذلك، كما في الحديث: (لعن الله من لعن والديه) ، وهل أحد يلعن والديه؟ نعم، كما في الحديث الآخر: (يلعن أبوي الرجل فيلعن الرجل أبويه) ، فهو سبب في لعنهما فهذا هو سد الذرائع وهو باب مهم جداً.
وأجد كثيراً من العلماء يتحاملون على المالكية لأنهم أكثروا من هذا الباب، ولا يوجد أحد من المذاهب الأربعة إلا وقد أخذ منه ما قل أو كثر.
وأقول: مما يمكن أن يستدل به لـ مالك ويستأنس به أن الطفل إذا عودته على حلوى معينه، أو على لعبة معينة، أو على شيء معين فكبر وقد تعود على شيء أصله ممنوع فإنك تحتاج إلى معاناة في أن ترده عن هذا الذي شب عليه وعودته إياه، أما إذا عرفته من الصغر أن هذا ممنوع فقد استرحت واستراح.
فالأولى ألا يلبس الصغار الحرير، بل ينشأون على الجد وعلى الرجولة، ولا يحلى الصبي بالذهب حتى لا يكون هو وأخته سواء، فالصبي الذي على الفطرة عندما تلبسه هو وأخته بالحرير والذهب أعتقد أنه يغضب، ويقول: هذا للبنت.
ويرميه.
فحينما يكون عند الطفل إحساس بما يخص البنات فإنها بادرة خير.
فمما يؤيد مذهب مالك رحمه الله سد الذريعة حتى لا ينشأ الطفل ويتعود على الحرام.
والآن تجد الطفلة عمرها ست سنوات تخرج مع أمها، وقد تأتي بها إلى المسجد، وثيابها إلى الركبة، فهذه حينما تنشأ على ذلك، وتبلغ الثانية عشر من عمرها، وتريد أمها أن تلبسها ساتراً إلى الكعبين هل تستطيع ذلك؟ إنها -حينئذ- ٍتقول: أريد هذا أريد القصير الذي تعودت عليه لكن لو كان في أول الأمر عرفتها بأن هذا لباسها، وذاك لباس أخيها، حينئذ يسهل على الأم أن تأمر ابنتها، وأن تستجيب البنت لها، والله تعالى أعلم.(110/10)
التحدث بنعم الله
قال رحمه الله تعالى: [وعن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يحب إذا أنعم على عبده نعمة أن يرى أثر نعمته عليه) ، رواه البيهقي] .
(أنعم) (ونعمة) : مأخوذان من النعومة، يقال: هذا حرير ناعم.
أي: لا يؤثر على اليد، ولا يؤذي، بخلاف الصوف الخشن أو الشعر، فالوسادة التي تكون من الشعر تكون خشنة، حتى لو جلست عليها تتعب، والأرض الناعمة تستطيع أن تتكئ وتجلس عليها، ولو كانت خشنة تقلق إذا جلست عليها، وكذلك يقولون: حياة ناعمة، وفي عين النعيم، فالنعيم والنعمة من النعومة، وهو لين الملمس، وهو يدل على الراحة والدعة والطمأنينة، ويقابل هذا الخشونة، يقال: عيش خشن أو: عيشة خشنة، بمعنى: ضيق وعدم سعة وتقتير، بخلاف النعمة والنعيم.
قوله: (إذا أنعم الله) إنعام الله سبحانه وتعالى على الخلق لا حصر له، قال تعالى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34] ، وفي سورة الفاتحة {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] أي: بالهداية والاستقامة.
لأن النعم تكون دنيوية، ودينية بالهداية والتوفيق والقبول، وأعظمها لطالب العلم أن يشرح الله سبحانه وتعالى صدره، وينير بصيرته، وييسر له الفقه والفهم في الدين، ثم يكمل هذه النعمة بالتوفيق للعمل بما علم، وهذه أعظم النعم عند الله.
فإذا أنعم الله على عبد نعمة، سواءٌ أكانت في البدن، أم كانت في العقل والعلم، أم كانت في المال، أم كانت في الجاه، أم كانت في أي مجال من مجالات النعم فإن الله يحب أن يرى أثر هذه النعمة على عبده، فلا ينعم عليك ثم أنت تخفيها، فلو شاء لأعطاها لغيرك، فإذا أخفيتها كأنك تخفي نعمة الله عليك، لكن بين أثرها؛ لأن من شكر النعمة أن تظهرها اعترافاً منك بالمنعم عليك، فإذا أعطاك الله مالاً يجب أن يظهر آثار المال عليك، بأن تكرم الجيران، وتعطي المحتاج، ويظهر هذا العطاء بنعم الله على ما تنفقه، وكذلك على نفسك، وابدأ بنفسك أولاً.
فأول ما ينبغي إظهار نعمة المال على صاحبه، ثم على من يليه من أصحاب الحقوق علية، وفي الحديث: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) .
ثم وسع الدائرة حتى يظهر أثر هذه النعمة، وحتى يتحدث الصالحون: فلان يشكر النعمة ويبذلها في طريقها وإذا أنعم الله عليك بالجاه يحب أن تظهر أثر هذه النعمة عليك، بأن تسعى في مصالح الآخرين، وترفع حوائجهم إلى من لم يصلوا إليهم، وإن أعطاك الله صحة في البدن فكذلك، فإذا مشيت في الطريق ووجدت إنساناً مريضاً ساعدته، أو حملته وحملت متاعه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع عليها متاعه صدقة) ، والرسول صلى الله عليه وسلم مر على رجل ذبح شاة ويريد أن يسلخها ولا يعرف السلخ، والرسول يعرف، فشمر عن كمه، وأدخل يده صلى الله عليه وسلم بين الجلد واللحم وسلخها، وقال: (هكذا فافعل) ، فيعلم الصنعة، ويرشد الضال، وكل هذا من إظهار النعم، فإذا رزق الإنسان مالاً فيلزم على صاحب المال أن يظهر النعمة؛ لأنه إذا أخفاها كأنه يجحد نعمة المنعم عليه، فيظن أنه مسكين ما عنده شيء، وقد أعطاه مالاً، ولكنه يدفنه في التراب ويكنزه.
ذكر ابن حجر في فتح الباري (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على رجل ثياباً رثة قديمة، فقال: يا فلان! إذا آتاك الله مالاً فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته عليك) ، وقد قال الله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] ، والتحدث بالنعمة بأن تتحدث عنها، أو هي تتحدث عن نفسها.
فكونك تتحدث عنها أن تقول: الحمد لله.
إن ربنا أنعم علي هذه السنة بكذا.
أو: جاءتني صنعة كذا.
أو: المحصول هذه السنة كثير والحمد لله.
أو: التجارة -والحمد لله- ربحت كذا، لأشياء تتحدث بها إظهاراً للنعمة وشكراً لله، أو أنك حينما تخرجها هي بنفسها تتكلم، كما يقال: أبت الدراهم إلا أن تطل أعناقها.
فهي بنفسها تتحدث عن نفسها.
وإذا كان هذا في باب اللباس فليس معنى ذلك أن نظهر في أبهة وفي زهو وخيلاء، والبخاري رحمه الله صدر باب اللباس في الجزء العاشر من فتح الباري بحديث: (كل واشرب والبس ما شئت في غير مخيلة ولا إسراف) ، قال ابن حجر: مهما لبست من طيب الثياب وأغلاها ثمناً بلا خيلاء ولا إسراف فلا مانع.
وقد قال أحمد بن حنبل رحمه الله: عجبت من الرجل يلبس الصوف والخشن من الثياب ويترك الناعم من الكتان، ويأكل الخشن من العيش ويترك اللين من الخبز! فهذا التقشف مع وجود النعمة يعتبر جحوداً لها وإخفاء لها، وهذا لا يليق، فالمؤلف رحمه الله أتى بهذا الحديث لأن الإنسان إذا حرم عليه الحرير لأنه ناعم ولين ومريح قد يظن أن بقية الثياب أيضاً كذلك، فكأنه قال لك: لا.
بل أظهر نعمة الله عليك في مطعمك، وفي ملبسك، وفي مسكنك، وفي جميع حالاتك، من غير خيلاء، ومن غير إسراف، والله تعالى أعلم.(110/11)
كتاب الصلاة - باب اللباس [2]
إن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده في كل شيء، ومن ذلك اللباس، فأباحت الشريعة لبس أحسن الثياب وأجملها بلا إسراف ولا مخيلة، ومما يدعو إلى المخيلة لبس الحرير والذهب للرجال، وإرخاء الثوب أسفل من الكعبين، ولبس المعصفر، وكل هذا حرمته الشريعة على الرجال.(111/1)
تابع أحكام اللباس(111/2)
حرمة الخيلاء في اللباس
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: إن الله تعالى يحب إذا أنعم على عبده نعمة أن يرى أثر نعمته عليه، فليلبس الإنسان مما أنعم الله عليه من غير خيلاء، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من جر ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة) ، وفي حديث آخر: (بينما رجل يمشي في حلة مرجلاً جمته إذ أعجبته نفسه، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة) رواه البخاري.
فهذا أعجبته نفسه، وهذا هو البطر والخيلاء، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الكبر بطر الحق، وغمط الناس) ، والغمط: هو أن يستخف بالآخرين لقلة ما عندهم.
فإذا وجد نفسه في نعمة زائدة نظر للآخرين بنظرة أقل مما ينبغي، فهو يقيس الناس بالمال، والمال ليس مقياساً، فالله سبحانه وتعالى يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، كما قال سبحانه: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:34-35] .
والرجل المذكور في الحديث هو قارون، وقيل: هذا الرجل مبهم، ولعله قارون حينما خرج في زينته، وأعجب بنفسه، وغمط الناس حقهم.
فالله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده من غير بطر، والصديق رضي الله تعالى عنه حينما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا ينظر الله إلى من يجر إزاره بطراً، قال: يا رسول الله! إن جانب إزاري يرتخي إلا أن أرفعه.
فقال: لست ممن يفعل ذلك بطراً) ، فلابد من نية من يلبس هذا اللباس، فإما أن يلبسه ستراً، أو شكراً، أو بطراً، وقد جاء حديث أكثر توضيحاً، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (الخيل لثلاثة: خيل أجر، وخيل ستر، وخيل وزر) ، فالخيل ما تتغير، ولكن ذلك بحسب قصد صاحبها، فمن اقتناها للجهاد عليها في سبيل الله فهي له أجر، فكل ما علفها وكل ما سقاها ونحو ذلك له فيه كله حسنات وأجر.
وهي ستر لمن يقتنيها للنسل والبيع، ويستتر بمنافعها ونسلها، ويستعفف عن سؤال الناس، ففيها نوع من الربح والتنمية.
وخيل وزر لمن اقتناها بطراً ورئاءً وكبرياءً.
فاختلف الحكم والخيل واحدة، فكذلك الثياب.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إزرة المؤمن إلى نصف ساقه) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (ما أسفل من الكعبين ففي النار) ، ومن جرهما فهو بطر ورياء ومخيلة، يقول ابن حجر: العبرة بما في نفسه.
فلو لبس الثياب الرخيصة بطراً ومخيلة وكبرياءً فهو آثم ولو كان مشمراً ثوبه إلى نصف الساق، وإذا كان الثوب إلى الكعبين ولم يخطر في باله كبر ولا بطر كعامة الناس فهذا أمر عادي، وإذا ما شمر الثوب، وأعجب بنوعه وبغلاء ثمنه، وأخذ يمشي على الناس متفاخراً فيدخل في الوعيد، ويقع في البطر بالثياب والخيلاء، فليست العبرة في الخيلاء بطول الثياب وقصرها، ولكن العبرة بنية اللابس.
قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله يحب إذا أنعم على عبده نعمة أن يظهر أثر نعمته عليه) ، وقد كان أهل المدينة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم في أوائل الصيف إذا ظهرت باكورة الثمرة حمراء أو صفراء، يفرح بها صاحب البستان، ويأتي بها حالاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليريه إياها شكراً لله أن أنعم الله عليه قبل الناس الآخرين؛ لأنه بعد أسبوع الزهو سيمتلأ البلد، فيأخذها صلى الله عليه وسلم ويدعو له بالخير، وينظر إلى أصغر طفل في المجلس فيعطيه إياها ليفرح بها.
فالباب واسع، فإذا أنعم الله على عبد نعمة أحب أن يرى أثر نعمته عليه أياً كان هذا الإنعام، وأياً كان نوعها، فيحب الله تعالى إظهارها.(111/3)
حرمة لبس القسي والمعصفر
قال المصنف رحمه الله: [وعن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نهى عن لبس القسي والمعصفر) رواه مسلم] .
قوله: (القَسي) اختلف في حركة قافه، فقيل بالفتح، وقيل بالكسر وكلاهما صحيح، والقِسّيّ بالتشديد: هو ما غلظ من الثياب وبعضهم يقول: هو الخز أو غيره فيه خطوط وبعضهم يقول: فيه مثل الأترجة من الحرير، مثل هذه الثياب التي تأتي مطرزة، أو يكون بين خيوطها خيط حرير، وتكون جامعة بين الحرير وغير الحرير، فنهى صلى الله عليه وسلم عن هذا النوع، ويتفقون على أن النهي هنا للتنزيه، أي: للكراهة وليس للتحريم؛ لأن أصلها ليس حريراً، ولكنها نوع من نسج الثياب نسبت إلى قرية مصرية تسمى (قسا) أو غير ذلك، والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله: [وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (رأى علي النبي صلى الله عليه وسلم ثوبين معصفرين فقال: أمك أمرتك بهذا؟) ، رواه مسلم] .
تأمل هذا الأسلوب، ف عبد الله بن عمرو يرى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ثوبين معصفرين، و (المعصفر) : كقولك: المزعفر ومثلما تقول: المسكر والمملح فهو شيء يضاف إليه شيء آخر، فالمعصفر: هو الذي أضيف إليه العصفر، والمزعفر: هو الذي أضيف إليه الزعفران، والمسكر: هو الذي أضيف إليه السكر.
والعصفر: هو زهر القرطم، ولونه يشبه الزعفران، وليس له رائحة، والزعفران لونه أحمر يميل إلى الصفرة، وله رائحة عطرية، فلما رآهما عليه سأله النبي صلى الله عليه وسلم هذا السؤال: أمك أمرتك بهذا؟ كأنه يتلقى الأوامر من أمه، والذي يتلقى الأوامر من أمه في أمور عادية فهو من بر الوالدين، وهو واجب إذا كانت الأم حصيفة عاقلة توجه ولدها، لكن هذا المنهج وهذا الأسلوب فيه قرينة كراهية ما رأى عليه من اللباس، وهل يكون مدحاً للأم التي أمرته، أم ذماً له لأنه يتلقى الأوامر من أمه ويترك السنة؟ فمن تلقي الأوامر من أمه، أو من أبيه، أو زوجه وترك السنة النبوية يقال له مثل ذلك، وقد قال تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ} [التغابن:14] ، فهنا الرسول كلمه بهذا لأنه كره هذا اللون.
والحلة التي كساها النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي هي السيراء، وفيها ألوان، فقال: رأيت الكراهة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهبت فقطعتها وقسمتها بين الفواطم زوجته وأمه وبنت جعفر.
فالنبي عليه الصلاة والسلام قال ل عبد الله بن عمرو: (أمك أمرتك؟) ، ولو قال له بأسلوب هادئ: يا عبد الله! هذا لا يجوز ولا ينبغي.
ورده لأمه فأمه يمكن أن تلبس هذا النوع.
فاستنتج العلماء من قوله: (أمك امرتك؟) أن هذا من حلي النساء، وأن أمه هي التي أعطته، وأمه التي كسته، وأمه عندها هذا النوع، وأمه يجوز لها هذا النوع، وفي رواية أنه قال: (فذهبت إلى أهلي وهم مسجرون التنور فسجرتها) ، وفي بعض الروايات أنه قال: أغسلها يا رسول الله؟! قال له: (احرقها) ، وفي بعض الروايات أنه لما رجع قال له رسول الله: (ماذا فعلت الحلة يا عبد الله!) قال: سجرتها التنور، قال: (هلا كسوتها أهلك!) فكيف قال له: (احرقها) ، ثم قال: هلا (كسوتها أهلك) ؟ بعضهم يقول: قوله: (احرقها) نوع من التشديد في النهي عن المنكر، وهذا ما يسمى في القانون الجنائي: مصادرة الآلة التي استعملها في الجريمة.
فلو أن جماعة ذهبوا وسرقوا محلاً بسيارة فالسيارة التي استعملت تصادر؛ لأنها ساهمت في الجريمة، وهذه الحلة للنساء، ولكن لما استعملها في غير محلها صودرت عليه وأحرقت.
وبعضهم يقول: أحرقها عبد الله بنفسه تأثراً وأسفاً عما لحقه من استعمالها، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم له: (أمك أمرتك؟) ، بينما علي رضي الله تعالى عنه رجع وقسمها بين نسائه.
وفي ترجمة عبد الله بن رواحة أمر عجيب في السمع والطاعة، فقد كان ذاهباً إلى المسجد يوم الجمعة والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب في المسجد، فرأى الرسول عليه الصلاة والسلام رجلاً يتخطى رقاب الناس فقال له: (اجلس) ، فسمعها ابن رواحة وهو في الشارع فجلس في مكانه حتى أنهى صلى الله عليه وسلم الخطبة، فقيل لرسول الله: إن ابن رواحة سمعك تقول: اجلس فجلس في مكانه عند بيت بني فلان! قال (رحم الله ابن رواحة! زادك الله طاعة لله ولرسوله) .
وعلي رضي الله تعالى عنه لما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الراية يوم خيبر قال: (أنفذ على رسلك، ولا تلتفتن وراءك) ، فمضى علي بعض الخطوات، ثم وقف ليسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مهمته، ولم يلتفت، بل رجع القهقرى بظهره وقال: يا رسول الله! علام أقاتلهم؟ فهذا هو منتهى الطاعة والامتثال، وما نقول: هي الطاعة العمياء كما يقول العسكريون، بل نقول: الطاعة المستبصرة طاعة لله وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن شعر الشباب الذي كانوا يقولونه: قالت وقد سألت عن حال عاشقها بالله صفهُ ولا تنقص ولا تزد أي: صفه لي فقط، كيف حالته، من زمان ما رأيناه، كيف حالته؟ فقلت لها لو كان رهن الموت من ضمأٍ فقلت قف عن ورود الماء لم يرد أي: لو كان عطشان وهو رهن الموت، والماء أمامه فقلت له: لا ترد الماء؟! لن يرده.
فإذا كان هذا السمع والطاعة فيما بين البشر لأثر المحبة فكيف بالسمع والطاعة لله ولرسوله؟ فلا نستغرب ذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (أمك أمرتك بهذا؟) ، فرجع متأثراً ونادماً على ما وقع منه.
وأبو طلحة رضي الله تعالى عنه قام يصلي في بسان نخل له، فإذا بطائر الدُبس -وهو معروف عند أهل المدينة، رأسه أبيض، صغير الذنب، وهو طويل سريع الحركة- يطير، ويريد أن يخرج من البستان، فلم يجد منفذاً لتشابك أغصان بستانه، قال: فتبعته بنظري معجباً، فانتبهت، فلما انتهيت من صلاتي أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته وقلت: يا رسول الله! كفارة ذلك أني أتصدق ببستاني في سبيل الله.
لقد أعجب بالبستان، وشغل عن عبادته بحسن بستانه، فرأى أن تكفير ذلك أن يخرج عن بستانه.
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إن لي جارية ترعى غنمي، فجاء الذئب وأخذ منها شاة، وأنا بشر من بني الإنسان أغضب فلطمتها، ثم أسفت على ذلك أفأعتقها كفارة لذلك؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعتقها فإنها مؤمنة) ، فهذا وجد أنه أخطأ، وأراد أن يكفر خطأه بما يتناسب مع ذنبه، فأخرج الجارية من ملكه وأعتقها، مع أنه يمكن أن يضربها من باب التأديب أو الحرص أو الشح على المال، لكن شعر بأنه رجل، وهي امرأة ضعيفة، وماذا تفعل مع الذئب؟ لكن الغضب جعله يضربها فتنبه، فوجد كفارة هذه الخطيئة أن يعتقها.
فـ عبد الله بن عمرو هو الذي سجرها بنفسه، وكان يمكنه أن يقسمها بين نسائه.
وقد أخذ العلماء من الحديث منع لبس الثياب المعصفرة، وهي المصبوغة باللون الأحمر، وقد أخبر بعض الصحابة أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلة حمراء، فقالوا: هذا للجواز، وهذا للكراهية وفي الموطأ أن عمر رضي الله تعالى عنه رأى على عبد الرحمن بن عوف ثوباً مصبوغاً بأحمر، فقال ما هذا -يا ابن عوف - وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن المعصفر؟ قال: والله ما هذا بعصفر إنها المغرة.
والمغرة: نوع من الطين يعطي لوناً أحمر، وهو مر، ولذا كان أهل المدينة يجعلونه في خشب النخيل ونحوه، وكانوا يضعونه في الثياب الصوف أو الخشنة حتى لا يأتيها ما يفسدها.
فهذا ليس من المنهي عنه، ولكن عمر رضي الله تعالى عنه أخذ بباب سد الذريعة، فقال: يا ابن عوف! إنكم رهط يقتدى بكم.
فانظر إلى التفريق بين الناس في الأحكام والفتوى، قال: إنكم رهط يقتدى بكم.
أي: فلعل شخصاً يرى عليه هذا اللون، ولا يفرق بين مغرَة وعصفر، فيقول: ابن عوف يصبغ بالأحمر.
فيذهب ويصبغ به إقتداء بالصحابي.
فيجوز هذا اللون بالمغرة من العامة، ولا يجوز من الخاصة؛ لأن الخاصة يجب عليهم أن يبتعدوا عن كل ما به شائبة شبهة، ولهذا قالوا: لا ينبغي لأهل القدوة أو لأهل الخير الذين ينظر الناس إليهم أن يستعملوا الأشياء المنهي عنها ولو للكراهه؛ لأنهم أولى الناس بالابتعاد عنها.(111/4)
صفة جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم
[وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها أخرجت جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم] .
أسماء بنت أبي بكر أخت لـ عائشة بنت أبي بكر، وأسماء هي ذات النطاقين، وكانت جبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند عائشة، فلما توفيت عائشة انتقلت إلى أسماء، فكانت تخرجها للناس، وكان في أكمامها وفي فتحة صدرها ديباج، وتجد أسفل بعض الثياب من الجانب الأيمن والجانب الأيسر فتحة بمقدار عشرين أو خمسة وعشرين سنتيمتراً تعطي الثوب سعة عند مد الخطوة، وهذه تسمى (الفُرَج) ؛ لأن (الفَرْج) هو الفتح، والفرجة: الفراغ في الصف، فكانت تلك الفُرج -أي: فتحات الجبة- في كمها، وفي صدرها، وفي جيوبها، ومن أسفلها عليها من الديباج قدر إصبعين، والذي يرى لباس أهل المناصب في مصر وفي الشام وفي المغرب يجد هذا الشيء موجوداً إلى الآن، ويسمونه (الشريط) ، وهذا لا يوضع إلا في الثياب النفيسة محافظة على الكم حتى لا يتقطع، ومحافظة على الفتحات حتى لا تنشق، ثم في الثياب الفخمة، مثل ما يسمونه (الجوخ) ، ونظير ذلك، يكون خشناً على الجلد، فيجعل في أطراف الفتحة شيء من الديباج يلاصق الجلد، وهو ألين وأنعم، وهذا يبين لنا جواز استعمال هذا الحرير بقدر إصبعين أو ثلاثة أو أربعة أصابع عند الحاجة، وهذا مباح مستثنى من عموم المنع، ومن هنا يقول ابن حجر في فتح الباري: مثل هذا كيس المصحف، وغلاف الكتاب، وخيط السبحة، فهذه الأشياء لو جعلت من الحرير الخالص لا ينبغي تحريمها؛ لأنها يسيرة، وقد رخص في أمثالها بقدر إصبعين في طرف الثوب أو في الفتحة، فلا ينبغي الاعتراض على ذلك، لا سيما إذا استعملت لتكريم المصحف أو حفظ الكتاب.
فكانت جبة النبي صلى الله عليه وسلم في أطرافها قدر إصبعين من الديباج، وهو الحرير المتين.
فـ أسماء تروي أنها أخرجت جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مكفوفة الجيب والكمين، وذلك عند قص المقص من طرف الثوب، فإن من الخيوط ما يتناسل، فإذا ثنيته إلى الداخل وخيطته كف عن أن يتناسل، ولذا يقولون في الخياطة: مكفوف.
أو: غير مكفوف.
قولها: [ (مكفوفة الجيب والكمين والفرجين بالديباج) ] .
الجيب: هو فتحة الصدر.
وقولها: [كانت عند عائشة رضي الله تعالى عنها] كانت جبة النبي عند عائشة أمانة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة) ، ولو كانت ميراثاً لكان لكل زوجات رسول الله مثلها، لكن كانت عند عائشة رضي الله تعالى عنها أمانة، وكونهن سمحن لها وسكتن عنها لا ندخل فيه، وهذا لا يخصنا ولا نتدخل فيه، فالمهم أنها كانت عند عائشة ما تغيرت وما تبدلت، وهي عين جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم انتقلت منها إلى أختها وما انتقلت إلى زوجات رسول الله الأخريات، إنما انتقلت إلى أختها؛ لأنها ليست ميراثاً.
قولها: [وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها، فنحن نغسلها للمرضى يلبسونها] .
كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها مع وجود الديباج في فتحاتها، أي أنه يقر استعمال هذا النوع من الثياب، وهذا فقه الحديث في باب اللباس.
وجاء في بعض الروايات: (كان يلبسها في الأعياد والجمع وللوفود) ، واللباس أنواع، منه ما هو للزينة وشكر النعمة والمناسبات، ومنه ما هو للمهنة، ومنه ما هو لأمور عادية.
وقولها: [فنحن نغسلها للمرضى] ينبغي أن يقف عنده طالب العلم بالعقيدة وبالعقل وبالاقتداء والاتباع، فـ أسماء رضي الله تعالى عنها كانت تأخذ جبة رسول الله التي كان يلبسها، وعرقه فيها، فتبلها في الماء ثم تخرجها، وتأخذ الماء الذي خالط تلك الجبة التي فيها من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعطيه للمرضى يتعالجون به؛ لأن المرضى أحوج من كل الناس.
وبإجماع المسلمين أن الصحابة ومن بعدهم كانوا يتبركون بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي حقاً من آثاره، فكانت أم سلمة رضي الله عنها تخرج جلجلاً -أي: حقاً مثل الجرس- فيه شعرات لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: كنت أغمسها في الماء وأعطيها للمحموم فيشافيه الله.
وقد يقول قائل: هذا من فعل أسماء من بعده، وهذا فعل أم سلمة من بعده، لكن ماذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والجواب: كلنا يعلم أنه في صلح الحديبية جاء سهيل بن عمر ليفاوض المسلمين، أرسلته قريش وقالت: اذهب إلى هذا الرجل، فجاء -وكان رجلاً عاقلاً- ثم كلم رسول الله كلاماً طويلاً، وانتهى الأمر إلى ما هو معلوم، ورجع إلى قريش وقال: يا معشر قريش! والله لقد دخلت على قيصر وعلى كسرى في ملكهما، فما وجدت أمة تعظم سيدها أو ملكها كما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله ما توضأ وضوءاً إلا تسابقوا عليه، وما تفل تفالة إلا وقعت في كف أحدهم يدلك بها وجهه.
وفي حجة الوداع أو في عمرة القضية: (دعا النبي صلى الله عليه وسلم أبا طلحة عندما حلق له الحلاق، فناول الحلاق شق رأسه الأيمن فقال: احلقه.
فحلقه.
فأعطاه أبا طلحة وقال: اقسمه على الناس، ثم حلق شقه الأيسر فقال لـ أبي طلحة: خذه لك) .
وهذا من فعله صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن لإنسان أن يجد منفذاً لإسقاطه، أو لإضعافه، أو لنسبته إلى غير رسول الله، فهو عين فعله صلى الله عليه وسلم.
وجاء عن أم سليم رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم نام عندها، فلما قام وجدها تأخذ في إناء صغير عرقه من الحصير الذي كان عليه وتجمعه، فقال: ماذا تفعلين بهذا؟ قالت: نجعله في طيبنا نتطيب به، وأم أيمن رضي الله تعالى عنها كانت تقم البيت، وفي يوم من الأيام سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ماذا فعلتِ بالقدح الذي تحت السرير؟) -وكان قدحاً من أعواد يبول فيه صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل- فقالت: القدح الذي تحت السرير شربته فقال: (لن تشتكي بطنك بعد اليوم) ، والآن عند الأطباء إذا إنسان شرب البول يأمرونه أن يعمل غسيل البطن؛ لأن البول مليء بالجراثيم، وهذه يقول لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن تشتكي بطنك بعد اليوم) ؛ لأنه بوله صلى الله عليه وسلم.
فما ثبت لنا في هذا الباب فعلى العين والرأس، وقسماً بالله لو وجدنا التراب الذي كان يمشي عليه لاكتحلنا به في عيوننا تبركاً برسول الله، ولكن لا يحق لنا بعد ذلك أن نأتي إلى الحديد ونتمسح به وما باشره، ولم يكن في عهده، إنما وضع بعد مئات السنين من موته، ولم يلمسه، ولم يمس جسده الطاهر، ولا يجوز أن نأتي إلى أبواب المسجد ونتزاحم عندها ونتمسح بها.
ثم بعد ذلك هل نفعل هذا بغير رسول الله، مثل سادة القوم أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي؟ جمهور المسلمين يقولون: لا ينبغي التبرك بهم، ولا بغيرهم من الصالحين، والتابعون أعلم بحق رسول الله وبحق أصحابه، وماداموا لم يفعلوا ذلك بكبار أصحاب رسول الله فلا نفعل ذلك بعلمائنا، لكن يجوز أن نسألهم الدعوة الصالحة، وكل من عرفته صالحاً قد أصلح ما بينه وبين الله فألح عليه أن يدعو لك، فهذا أويس القرني رجل من اليمن قال صلى الله عليه وسلم فيه لـ عمر: (يا عمر! إذا رأيته فاسأله أن يدعو الله لك، وهو بار بأمه، وفي جسده علامة) ، فكان عمر رضي الله تعالى عنه كلما جاء وفد من اليمن يسألهم: أفيكم أويس؟ فيقولون: لا.
حتى قيل له: نعم.
هو فينا.
فطلبه فجاءه، فقال: يا أويس: ادع الله لي قال: أنت أمير المؤمنين، فأنت ادع لي.
قال: لا.
فلما ألح عليه أخبره بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا له.
وكان يتعامل مع الله فقط لا مع الخلق، فجلس فترة فعرفه الناس من خبر عمر فقال: يا أمير المؤمنين! اسمح لي أن أخرج من المدينة.
قال له: إلى أين؟ قال: أريد أن أذهب إلى العراق.
فقال له: إذا أردت الخروج فآذني لأكتب معك كتاباً للوالي هناك.
قال: لا.
لأن أكون في عامة الناس أحب إلي.
وخرج دون أن يخبر عمر، فكان عمر رضي الله تعالى عنه كلما جاء وفد العراق يسألهم عنه، إلى أن لقي رجلاً أخذ أويساً أجيراً عنده، وكان يشق عليه، فقال: أتعرف كذا؟ أتسمع عن كذا؟ قال: عندي رجل مسكين خامل ما يقدر على العمل.
فقال عمر: إذا جئته فقل له: عمر يقول لك: ادع له.
قال: ذاك يدعو لك؟! قال: قل له هكذا.
فلما سافر الرجل قال: يا أويس! اغسل يديك واترك عملك، واجلس هنا وسيأتيك طعامك وشرابك ومن يخدمك.
قال: والعمل أين؟! قال: تستريح.
قال: ألقيت عمر؟ قال: نعم لقيته.
فإذا به يخرج ليلاً ولا يعرفه أحد!.
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لـ عمر بن الخطاب: (إذا لقيته فاسأله أن يدعوا لك) ، وتقدم معنا في باب الاستسقاء أن عمر رضي الله عنه قال: (اللهم! إنا كنا نستسقي بنبيك فتسقينا، وإنا الآن نستسقي بعم نبيك لصلاحه ولصلته برسول الله) ، وفي بعض الروايات: (كان صلى الله عليه وسلم ينزل العباس عمه منزلة أبيه، فتأسوا برسول الله) ، فقام العباس ودعا الله فسقاهم الله.
فالدعوة الصالحة من كل رجل صالح على العين والرأس، لكن لا نتبرك بهم؛ لأننا ليس عندنا اليقين أنه يعطى حق النبي صلى الله عليه وسلم في التبرك به، فهذا ما أحببنا التنبيه عليه عند هذا الأثر، وبالله التوفيق.
قال المصنف رحمه الله: [وزاد البخاري في الأدب: وكان يلبسها للوفد والجمعة] .
أي: كان يلبسها في الجمع والأعياد، وقد أشرنا(111/5)
كتاب الجنائز [1]
خلق الله الإنسان في هذه الدنيا وجعلها دار ابتلاء واختبار، بعدها ينتقل المرء إلى ربه، فعلى المسلم ألا يغتر بالدنيا، وأن يزهد فيها دون رهبانية ولا تواكل.
وعلى المرء أن يستعد للموت بتذكره، وبزيارة المرضى، وزيارة القبور، وذلك يتطلب أن يتعرف الإنسان على آداب زيارة المريض، وزيارة المقابر، وغير ذلك مما لا ينبغي أن يجهله المسلم.(112/1)
كفى بالموت واعظاً
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أكثروا ذكر هاذم اللذات الموت) رواه الترمذي والنسائي، وصححه ابن حبان.
بدأ المؤلف رحمه الله تعالى بهذا الحديث تنبيهاً للحي، كي يتعظ بالموت (أكثروا ذكر هاذم اللذات) وهاذم اللذات كما تبين هو الموت؛ لأن كل إنسان مهما كانت حياته منعمة إذا كان في القمة في العالم كله أغنى أغنياء العالم أقوى أقوياء العالم أسعد سعداء العالم، حينما يتذكر الموت فإنه تنهزم أمامه كل لذة، ولو ذكر العريس ليلة عرسه الموت لما دخل على عروسه.
فذكر هاذم اللذات الذي هو الموت هو أكبر واعظ، وأكبر زاجر، وأكبر دافع لفعل الخير.
وبعض العلماء يفتتح هذا الباب بغير هذا الحديث، ولكن المؤلف من فقهه افتتح كتاب الجنائز بهذا الباب.
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بزيارة القبور أنه قال: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها؛ فإنها تزهد في الدنيا وتذكر بالآخرة) وجاء في بعض الروايات: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات؛ فإنه ما ذُكر في قليل إلا كثره، ولا ذُكر في كثير إلا قلله) بمعنى: إنسان يعيش عيشة كفاف، ولديه القليل القليل من متاع الدنيا، فإذا ما تذكر الموت رأى أن الذي عنده كثير؛ لأنه لا يدري متى يأتيه الموت، وإذا كانت عنده كنوز قارون، وتذكر الموت؛ صارت قليلة في نظره، ماذا يفعل بها؟! لا تنفعه في شيء، وليس هناك أنفع للإنسان من دوام ذكر الموت، يهوّن عليه مصائب الدنيا وشدائدها.
وكنت دائماً أسمع من والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يزهد في الدنيا، ويبسط أمرها في قوله: الجوع يطرد بالرغيف اليابس فعلام تكثر حسرتي ووساوسي كأن الدنيا ما لها قيمة.
وكذلك الإنسان فيما أعطاه الله، إن كان مريضاً مبتلىً متألماً وذكر الموت هان عليه المرض والألم، وإن كان متعافياً وينظر إلى نفسه في حالته، فذكر الموت قامن من رأسه وقامن من تطاوله.
وهكذا أيها الإخوة: المؤمن لابد أن يؤمن بما وراء الموت، فإن الدنيا مزرعة حصادها في الآخرة، والإنسان ما بين أمرين: لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها فإن بناها بشر خاب مسكنه وإن بناها بخير طاب بانيها وكما قال بعض الناس في الزهد وفي الترهيب: إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا(112/2)
الأمة أمة وسط بين الأمم
الدنيا دار ممر، ولكن ليست رهبانية كما عند النصارى، فنترك الدنيا دون أن نعمرها، وأن نسخرها، وأن نستسخر ما فيها، وليست مادية وانهماكاً في موادها أو في مادياتها، بل هو الوسط والاعتدال، والله سبحانه وتعالى قد جعل هذه الأمة أمة وسطاً، فقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143] ، وسطاً بين أمتين: أمة غلبت عليها المادية، وأفلست في المعنوية، وأمة غلبت عليها المعنوية، وأفلست في المادية، وفي سورة الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6-7] ، والمغضوب عليهم هم اليهود، والضالون هم النصارى اليهود مغضوب عليهم؛ لأنهم علموا ولم يعملوا، والنصارى عملوا بغير علم، فأولئك استحقوا الغضب، وأولئك وصفوا بالضلال، وجاءت هذه الأمة فعلمت وعملت.
فالإنسان مكون من عنصرين اثنين: جسم وروح، والجسم مادي منشؤه التراب {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ} [ص:71] ، والعنصر الثاني الروح {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:29] ، فبمجموع الأمرين كان هذا الإنسان، وكل عنصر فيه له مقوماته ومتطلباته، فالعنصر المادي يرجع إلى المادة، {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتاً} [نوح:17] ، ليست له حياة إلا من الأرض، وهو يخلد إليها، والعنصر الروحي عالم ملكوت الملأ الأعلى، بالعبادات وبمعرفة الله يسمو إلى أعلى.
فاليهود أمعنوا في خدمة البدن بالماديات، وأهملوا جانب الروح في العبادات، والنصارى عنوا بجانب الروح والعبادات والرهبانية، وفرطوا في جانب المادة، وتركوا الدنيا، وكانت هذه الأمة الوسط بين الطرفين لا مادية لاهية، ولا رهبانية طاغية.
فمثلاً: ونجد قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} [الجمعة:9] هذه روحانية {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً} [الجمعة:10] ، فالاستجابة إلى النداء لذكر الله غذاء للروح، والانتشار في الأرض بعد الصلاة لمتطلبات البدن، وخدمة الحياة، ومع ذلك تطلب الرزق من فضل الله وتذكر الله وأنت في عملك، تجمع ديناً ودنيا، ومن هنا كانت هذه الأمة هي الوسط بين الأمتين، وكانوا شهداء على الناس، كل المفسرين يقولون: شهداء يوم القيامة على إبلاغ رسلهم رسالة ربهم، ويقولون أيضاً: لا مانع أن يكونوا شهداء على الأمم بأنهم استطاعوا أن يطبقوا عملياً وفاء الإنسان والنفس في جانبي المادة والروح، فاليهود عجزوا عن أن يجمعوا بين الأمرين فجنحوا، والنصارى عجزوا عن أن يجمعوا بين الأمرين فجنحوا، كالطائر يتعطل أحد جناحيه فيجنح ويميل.
أما هذه الأمة فلم يتعطل جناحاها، كلاهما معتدل، فسارت سيراً متوازياً منذ أن جاءها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهي مستقيمة مستقرة في مسيرتها، فهم شهداء على الناس في تطبيق المنهج الإلهي الحق الذي يوفي الإنسان حقه من الجانبين، ولا يطغى جانب على جانب، في الوقت الذي أفلست فيه الأمم التي من قبلنا لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا، كما تكونون شهداء على الناس في الآخرة.
وعلى هذا لا يكون الإنسان المسلم مستقيماً في حياته إلا إذا أيقن بأن الدنيا وراءها آخرة، وأن ما يتصرف به في دنياه سيلقاه في آخرته، أما الذي لا يؤمن ببعث، ولا يؤمن بجزاء، غاية ما عنده دنياه، فهو يريد أن يحصل فيها على كل ما يريد ولو على حساب الآخرين؛ لأنه ليس عنده رقيب ولا حسيب، ولا ينتظر يوم الدين الذي فيه الجزاء وفيه الحساب.
ولهذا نجد بعد قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] الرد إلى الإيمان بالغيب والبعث: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1-2] من هم؟ {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] وهو كل ما غاب عنك، وما جاءت أخباره عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم {وَيُقِيمُونَ الصَّلاة} [البقرة:3] ، إيمان بالغيب وعمل في الحاضر {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:3-5] {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5] وهكذا القرآن يفسر بعضه بعضاً.(112/3)
زيارة المريض حكمها وآدابها
المؤلف هنا بدأ الباب بهذا الحديث: (أكثروا) ، وهناك من العلماء من يبدأ هذا الباب بالحث على عيادة المريض، وعيادة المريض حق للمريض، ولكن هنا حق للإنسان في نفسه، ثم بعد ذلك لما يأتي المرض نقول له: اذهب فعده، ولذا المؤلف كان دقيقاً جداً في ترتيبه وإيراده هذا الباب، وجمعاً بين المنهجين إذا مرض الإنسان كان حقاً على أخيه المسلم أن يعوده، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قاله: (حق المسلم على المسلم ست -وذكر منها-: وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه) بدأ بالسلام، ثم بالإجابة إلى الوليمة، ثم بالنصح إلى آخره.
وجاء في عيادة المريض عدة أحاديث، كما يذكر البخاري في الأدب المفرد (من زار مريضاً في المساء خرج ومعه سبعون ألف ملك إلى الصباح، ومن عاد مريضاً صباحاً خرج ومعه سبعون ألف ملك إلى المساء) وجاء في الحديث أيضاً (من عاد مريضاً فإنما يمشي في مخرفة من الجنة) والمخرفة هي: الأشجار المثمرة تذهب فتخرفها، تمشي بين أشجار من أشجار الجنة المثمرة، تخرف منها من الثمار ما شئت.(112/4)
آداب زيارة المريض
ذكر العلماء في آداب عيادة المريض أن على الزائر أن يغلب عند المريض جانب البشرى، وآمال العافية، وأن يرقيه، ويفسح له في الأجل.
وألا يتبع نظره أثاث البيت الذي هو فيه؛ فإنه ربما تكون الحال متوسطة، أو دون ذلك، فيستضر صاحب البيت من أن تتأمل حالته بأنها رديئة أو قليلة أو غير ذلك.
وألا يطيل الجلوس عنده، فقد يكون في حاجة إلى خدمة أهله فتحجبهم عنه، وقد جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يعود المريض بعد ثلاثة أيام؛ لأنه في أول يوم يمكن أن تكون وعكة خفيفة وتذهب، فليس هناك حاجة في أن تثقل عليه، أو تعطل نفسك، فتكون الزيارة بعد ثلاثة أيام.
ويقول بعض العلماء: لا بأس أن يزور المسلم المريض الكافر لعله يعرض عليه الإسلام في آخر لحظة فينفعه الله بذلك فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان له خادم، يهودي، فغاب الخادم فسأل عنه صلى الله عليه وسلم فقيل: مريض، قال: قوموا بنا نعوده، فيذهب صلوات الله وسلامه عليه إلى خادم، ليس إلى أمير أو رئيس أو نحوه، بل خادم ويهودي!! أي أنه جمع النقيصتين، فلما أتاه وجلس عنده، وكان في لحظاته الأخيرة، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا غلام! قل: لا إله إلا الله، فنظر الغلام إلى أبيه، وكان عند رأسه -كأنه يستشيره- فإذا بالأب يقول: أطع أبا القاسم يا بني!) الله أكبر! وأنت لماذا لا تطعه؟ لنعلم يا إخوان أن قضاء الله، وقدر الله فوق كل شيء، الولد في حالة الاحتضار، والرسول صلى الله عليه وسلم يعرض عليه الإيمان، فيلتفت إلى أبيه كالمستشير، فإذا بالأب يشير عليه أن يطيع الرسول، فلم يقل له الرسول: وأنت أيضاً أطعني، عملاً بسنة التدرج، فقالها الغلام، وسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم والحاضرون من الصحابة، ثم فاضت روحه، فقال صلى الله عليه وسلم لمن معه من المسلمين: (تولوا أنتم أمر أخيكم) انظر محاسن الإسلام! انظر فضل الله على عباده! مجرد أن نطق بها صار أخاً من إخوانهم، صار صحابياً بين يدي رسول الله، وهذا من بركة زيارته صلى الله عليه وسلم.
وهذا باب كما يقولون يأتي في الآداب والأخلاق وحقوق الجوار.
إلى آخره.(112/5)
زيارة القبور
نأتي إلى هذا الباب الذي معنا: (أكثروا) وهذا عام للرجال وللنساء، حتى إن العلماء عندما اختلفوا في زيارة النساء للقبور لحديث: (لعن الله زوارات القبور) وجاء حديث: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها) واو الجماعة في قوله: (فزوروها) هل يشمل النسوة، أو يبقى النسوة على المنع؟ فقالوا: إن في الحديث معنى يجمع بين الرجال والنساء وهو قوله: (فإنها تزهد في الدنيا وتذكر بالآخرة) فكما أن الرجل في حاجة إلى ذلك فكذلك المرأة في حاجة إلى ما يذكرها بالآخرة، فتكون مشمولة بالإذن، والمعروف عند علماء اللغة أنه لو وجد ألف امرأة ورجل واحد فإنهم يخاطبون جميعهم بواو الجماعة تغليباً للمذكر.
وكلمة: (أكثروا) تفيد الأمر بالتكرار، ولا تكون للغفلة، لكن من الصعب أن يوضع شريط على أذن الإنسان ليظل يذكره: اذكر الموت اذكر الموت ولكن لا تطل الغفلة، ومن هنا كلما صلينا على جنازة، فتلك دقة جرس جديدة، وتنبيه جديد، إذاً: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) ألا وهو الموت.
وإذا نظرنا -أيها الإخوة- إلى إلزام الخلق بحق الخالق سبحانه، فلن نجد أقوى من الموت: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة:83-87] ولن يستطيعوا إرجاعها: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] ويقصد المعنى اللغوي بالساعة ستين دقيقة بل تصدق على لحظة، فلا يملكون حتى التأخير ولا التقدم، وأنت لو جلست وتأملت وتذكرت هذه الآية الكريمة {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ} [الواقعة:83] فهناك الحشرجة في الصدر؛ لأن الموت يبدأ من القدمين، ثم يسري إلى الساقين إلى الفخذين إلى البطن إلى الصدر فتحشرج الروح أو النفس في صدره وحلقه، ثم تفيض إلى باريها، في تلك الحالة وهم حوله ينظرون، ولا يملكون له من قطمير، ولا نَفَساً واحداً يستطيعون أن يزيدوه: {فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} [الواقعة:86] مدينين يعني: مغلوبين، مدانين، عاجزين، ومنه: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] يوم الحساب والجزاء {إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} [الواقعة:86] غير ميتين ولا محاسبين، {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:84-85] صحيح نحن لا نرى، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] .
{فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة:86-87] لا والله لا تستطيعون إرجاعها، {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ} [الواقعة:88] ما مصيره؟ {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:89-91] يقول المفسرون: منذ أن تفيض روح المؤمن ويرى النعيم، يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عن طريقه وصل إلى هذا الحد، وبعضهم يقول: هذا سلام من الله باسم رسوله يأتي من الموتى، والأول أظهر وأوضح، والله أعلم.
{وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ} [الواقعة:92] عافانا الله وإياكم.
إذاً: أكثروا من ذكر هادم اللذات.(112/6)
باب كراهة تمني الموت(112/7)
حكم تمني الموت لنزول الضر
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لابد متمنياً، فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي) متفق عليه.
(لا يتمنين أحدكم الموت لضرٍ نزل به) لأن تمني الموت لنزول الضر معناه عدم الرضا بالقضاء والقدر، ومعناه عدم الاستسلام لأمر الله، ومعناه الجزع وعدم الصبر، وهذا لا يتناسب مع الإيمان بالله، وإما إذا كان تمني الموت مخافة فتنة في الدين فبعضهم يقول: لا مانع؛ فإن تمني الموت لميتةٍ كريمة كالشهادة في سبيل الله لا مانع منه.
وقد ورد أن عمر رضي الله تعالى عنه في حجته الأخيرة جاء الأبطح واستلقى على ظهره فسمعه أحدهم يقول: [اللهم كبرت سني، وضعف عظمي، واتسعت رعيتي؛ فاقبضني إليك غير مفتون] .
ما طلب لشيء نزل به، لا، إنما خاف من فتنة في الدين، أو على المسلمين، وقد أصبح الأمر ثقيلاً عليه، فطلب لقاء ربه.
فمثل هذا ليس داخلاً في هذا الأمر، أما لضرٍ نزل به: فقر، مرض مزمن، مضايقة من أي جهة من الجهات، فلا ينبغي أن يتمنى الموت بسبب ذلك، بل يصبر ويحتسب.
والعجيب أن الله سبحانه وتعالى جعل في رسله النماذج للمثاليات الكاملة في كل شيء، فجعل -مثلاً- نأخذ من إبراهيم عليه السلام صبره وصموده؛ حتى كان أمة، وشدة توكله على الله عندما ألقي في المنجنيق ليلقى في النار، فيأتي جبريل يقول له: ألك حاجة؟ فيقول: أما إليك فلا، وإلى ربي بلى.
مثال في أعلى ما يمكن من اليقين بالله والتوكل عليه.
تأتي إلى نوح في صبره، وعزمه، وطول أجله, و.
إلخ.
تأتي إلى موسى تأتي إلى يوسف عليه السلام مثالية نموذجية إلى أقصى ما يمكن أن يتصوره العقل البشري في العفة والطهارة: {وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ} [يوسف:23] .
والرسول صلى الله عليه وسلم هو المثل الأعلى في كل الجوانب، ولا شك في ذلك، كذلك نبي الله أيوب أصبح مثالاً عند الناس في الصبر، صبر على الابتلاء، وعلى فقد أهله، وعلى فقد ماله، و.
و.
والملائكة تقول: يا رب! ارحم عبدك، فيقول: إذا اشتكى لكم فأغيثوه، إن شكى لكم فأجيبوه، وهو ما زال يقول: ما دام قلبي سليماً لا يفتر عن ذكر الله وأخيراً: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص:42] فكان المثل.
فالمؤمن عندما يبتلى بمرض، أو أي شيء الصبر أفضل له، وقد جاء في الحديث: (إن الله ليكتب للعبد المنزلة فلا يصلها بعمله، فيصيب منه ليبلغ تلك المنزلة) يكتب له الأجر مائة في المائة، ولكن عمله خمسون في المائة فليس قادراً أن يصل إلى هناك، فيبتليه بالمرض ليصبر، وليصعد الباقي بالصبر على مرضه.
إذاً: ليس هناك شر عليه، وإذا صبر وجد الخير، وفي بعض الروايات أيضاً أن المريض يئن لمرضه، فالملائكة تقول: (يا رب! عبدك كان يقوم الليل، كان يصوم، كان يفعل، كان يذكر وهو الآن عاجز، فيقول: أنينه -هذا العبد الصالح- في مرضه خيرٌ من صوت الآخرين بالذكر والعبادة) إذاً: لا ييأس الإنسان ولا يجزع، وليعلم أن ربه أرحم به منه، وإذا كان سيد الخلق: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:6] هذا النبي صلى الله عليه وسلم، فما بالك برب النبي؟! إذاً العاقل المؤمن يسلم أمره لله، ويحمل نفسه -عقلاً وإيماناً وعقيدة- بأن ما أتاه الله به فهو الخير؛ لأنه أعرف بعبده من نفسه، ولهذا: لا يتمنين أحدكم الموت لضرٍ نزل به, ولكن إذا ضجر وكان تنفيساً له، فليقل مفوضاً الأمر لله الذي أنزل به الضر: (اللهم أحيني إن كانت الحياة خيراً لي) لم يقل: أحيني لأن الحياة خير لي، لا، أنت الذي تعلم إن كانت الحياة خيراً لي، أي: يطول العمر، ويستقيم في العبادة، ويعمل صالحاً، فخيركم من طال عمره، وحسن عمله.
فقد كان هناك أخوان صالحان، فمات الأول قبل الآخر، وكان الأول أصلح من الآخر، فبقي الآخر بعده، فذكروا ذلك لرسول الله، قالوا: (والله مات الأخ الصالح، قال: والثاني، قالوا: ليس مثل الأول، قال: لعله يصلي بعده، ويصوم بعده، ويذكر الله بعده فيلحقه) إذاً: (اللهم أحيني إن كانت الحياة خيراً لي) أي: وأنت الذي يعلم ذلك، (وتوفني إن كانت الوفاة خيراً لي) حتى لا أفتن؛ لأن الذي يعلم ذلك هو الله، فكأنه أيضاً رجع إلى الله سبحانه وتعالى.(112/8)
باب صفة النزع للمؤمن(112/9)
شرح حديث: (المؤمن يموت بعرق الجبين)
وعن بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن يموت بعرق الجبين) رواه الثلاثة وصححه ابن حبان.
بعدما قدم المؤلف رحمه الله تعالى في أوائل كتاب الجنائز حديث: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) وحديث: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به وإن كان لابد متمنياً أو لا محالة فليقل: اللهم أحيني إن كانت الحياة خيراً لي، وأمتني إن كان الممات خيراً لي) وقد تقدم الكلام على هذين الحديثين أعقب ذلك ببيان حالة موت المؤمن، فأورد قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن يموت بعرق الجبين) هذه حالة يبينها صلى الله عليه وسلم من غالب وأكثر حالات الموتى المؤمنين، ثم نجد العلماء يذهبون في تفسير عرق الجبين إلى جانبين: جانب لفظي في موضعه، ومعروفٌ الجبين، وعرق الجبين يكون في حالة الشدة عند النزع.
وقومٌ يفسرونه بجانب آخر وهو: الكد والكدح، أي أن المؤمن يسعى ويكدح ويعمل حتى يعرق جبينه فيأتيه الموت وهو على هذه الحال، سواءً كان هذا العمل لكسب الرزق، أو كان هذا العمل للعبادة، ولكن هذا الوجه ضعيف، والصحيح الأول؛ لأن الموت له شدة، وقد جاء: (اللهم هوّن علينا سكرات الموت) ولما دخلت فاطمة رضي الله تعالى عنها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في النزع قالت: (واكرباه عليك يا أبتي! فقال: لا كرب على أبيك بعد اليوم يا ابنتي) وتقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مخضب فيه ماء -إناء صغير- إذا اشتد عليه أمر الموت غمس يده في الماء، ثم مسح بها جبينه) وذلك لشدة ما يعاني.
وجاء عند الترمذي: (نفس المؤمن تخرج رشحاً) والرشح وعرق الجبين سيان، فهذا مما يؤيد المعنى الأول، وهو عرق الجبين كناية عن شدة المعاناة، وكذلك أيضاً عن سرعة النزع فلا يطيل إطالةً شديدة حتى يتعذب في ذلك.
ثم قال صلى الله عليه وسلم في حديث الترمذي: (إن نفس المؤمن تخرج رشحاً، وأعوذ بالله من موتةٍ كموت الحمار، قيل: وما موت الحمار يا رسول الله؟! قال: موت الفجأة) فكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ من ميتة المفاجأة.
وقد بين العلماء بأن مفاجأة الموت تفوت على الإنسان أشياء كثيرة؛ فقد يكون في حاجة إلى أن يوصي، فتفوته الوصية، قد يكون يعمل في عمل دنيا بعيد عن ذكر الآخرة أو الموت، فيفوت عليه أن يكون آخر كلامه لا إله إلا الله، وبعض الناس يرى موت الفجأة راحة من آلام النزع، وهذا خطأ؛ فإنه وإن كان في النزع شدة ولكن كما قيل: تزول، فهي آلام مؤقتة، ولكن يكون عند المؤمن فرصة في هذا الوقت الحرج بأن يوادع الدنيا بوصية صالحة، ويستقبل الآخرة بشهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر قوله أو كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) وسيأتي الكلام عليها فيما بعد كما سمعنا إن شاء الله.
إذاً: المؤمن يموت بعرق الجبين، كناية عن الشدة والحالة التي تعتري الإنسان في حالة النزع وخاصةً المؤمن، وقد جاء في الحديث في الابتلاء: (أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل) وهكذا جاء في بعض الآثار (أنه صلى الله عليه وسلم كان يعاني أشد ما يعاني أشد الرجال) وكان صلوات الله وسلامه عليه يصبر على ذلك ويسأل الله سبحانه وتعالى التخفيف.(112/10)
كتاب الجنائز [2]
الموت حق، وهو حتم واقع على كل إنسان، وحدث يتردد على بيوتنا وجيراننا بين الحين والآخر؛ فلذلك كان من الواجب علينا أن نتعلم الأحكام المتعلقة به، لنتمكن من توديع موتانا ودفنهم وفقاً للسنة، ولنتجنب البدع التي كثرت في العهود المتأخرة في مراسم الموت.
وعلى هذا فإن هناك أحكاماً كثيرة متعلقة بالاحتضار، والتجهيز، والدفن، والتلقين، والقراءة للميت، والصدقة عنه وغير ذلك من الأحكام؛ موضحة أحسن توضيح، مدعمة بالأدلة الشرعية، مردفة بأقوال الأئمة والفقهاء.(113/1)
باب تلقين الموتى لا إله إلا اله
وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) رواه مسلم والأربعة.(113/2)
التلقين بين حقيقة الموت ومجازه
في هذا الحديث: (لقنوا) التلقين هو أن تقول الشيء ويقوله غيرك من بعدك، يقول صلى الله عليه وسلم: (لقنوا موتاكم) وموتانا جمع ميت، والميت حقيقة من فارق الدنيا وفاضت روحه، فهل هنا موتاكم على حقيقتها بعد الموت، أو على المجاز: ما قارب الشيء يعطى حكمه باعتبار ما سيكون؟ وعلى هذا يقول بعض العلماء: لقنوا موتاكم، أي: من حضره الموت؛ لأن الذي مات وانتهى وفارق الحياة لا يسمع التلقين، ولا يستفيد منه، ولا يفيده بشيء، إذن الذي يستفيد من موتانا التلقين هو الذي حضره الموت، والذي يمكن أن يسمع التلقين ويعيه ويتلقنه ويقوله، وهذا هو الصحيح.(113/3)
آداب كيفية تلقين الميت لا إله إلا الله
والعلماء في كيفية التلقين يبينون أن السنة في ذلك ألا تتوجه بالأمر فتقول: يا فلان! قل لا إله إلا الله، بخلاف ما يقوله بعض المتأخرين في بعض كتبهم، فإن علماء السلف يقولون: إذا كان الميت مشغولاً بسكرات الموت أو غافلاً عن ذلك مشغولاً بنفسه فحينئذ يذكّر حتى يقول: لا إله إلا الله.
ويقولون: لا ينبغي التكرار المتوالي، ولا ينبغي توجيه الأمر إليه بقل؛ لأن الإنسان في حال الحرج والضيق لا يتحمل؛ لأن صدره ضيق، وهو مشغول بنفسه، فإذا أكثرت عليه ربما ضجر لهذا الإكثار، وربما كره أن يقول ما تلقيه عليه، وربما تكلم بكلام من منطلق تعبه وضجره فتكون أنت السبب، فقالوا: لا ينبغي أن يوجه إليه الأمر، ولا ينبغي أن يكثر عنده.
وإذا قال: لا إله إلا الله، تلقيناً من الحاضر وسكت بعدها فإنه لا ينبغي أن يعاد التلقين؛ فإن مات في هذا السكوت كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله، أما إن تكلم بعد ذلك وأطال الكلام فإنك تعيدها وتقولها أيضاً دون أن توجهها بأمرٍ إليه، ودون أن تكثر عنده.
ولهذا على من يحضر عند الميت أن يكون حكيماً رفيقاً، حتى قالوا: ينبغي له أن يعرض على الميت محاسن أعماله؛ ليعظم جانب رجائه فقد ورد عند الترمذي أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو يحتضر فقال: (كيف أجدك يا غلام؟ قال: أرجو الله وأخاف ذنوبي، قال صلى الله عليه وسلم: ما اجتمع هذان في مثل هذا الموطن في قلب رجل إلا أعطاه الله مأمنه، أو أعطاه الله مطلبه) والذي ينبغي على الإنسان في تلك اللحظات أن يغلّب دائماً جانب الرجاء، يقول العلماء: الإنسان في حياته دائماً وأبداً بين الخوف والرجاء، بين الطمع والعطاء، فهو يخاف من الشر ويرجو الخير، فإذا كان الأمر كذلك فهو يعمل لتحقيق ما يرجوه ويعمل لاتقاء ما يخافه، فإذا كان في سعةٍ من الدنيا فالأولى أن نغلّب جانب الخوف؛ لأن دفع المضار مقدم على جلب المنافع، فإذا قدم جانب الخوف كان دائماً وأبداً على حذر {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] .
وإذا كان في اللحظات الأخيرة يجب أن يغلب جانب الرجاء؛ لأن الخوف الآن ليس له مجال، وقد جاء في الحديث القدسي (أنا عند حسن ظن عبدي بي) وجاء في الأثر أيضاً: [إذا عرجت الملائكة بروح العبد وصحيفته فكان في أولها كلاماً حسناً وفي آخرها كلاماً حسناً يقول الله سبحانه: أشهدكم بأني قد غفرت له ما بين هذين] وهكذا قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم غلَّب للغلام جانب الرجاء، ما اجتمع هذان في قلب مؤمن في هذا الوقت إلا أعطاه الله ما أنال وإلا غفر له.
فجانب الرجاء مقدم في تلك اللحظة.
ولما أصيب أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه دخل عليه شاب قال: يا أمير المؤمنين! والله لا أسفاً على أمرك، إنك قسمت بالسوية، وعدلت في الرعية.
وكذا وكذا، وذكر له محاسن أعماله، وعزاه في نفسه في حياته بحسن فعاله، فلما ولى الشاب قال: ردوه، فجاءه قال: يا ابن أخي! ارفع ثوبك -لأن ثوبه طويل، تحت الكعبين-؛ فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك.
أنقى للثوب؛ لأنه إذا جره على الأرض فإنه يجمع كل ما علق به، وأتقى لربه؛ وفي الحديث: (ما جاوز الكعبين فهو في النار) فـ عمر وهو في تلك الحالة لم يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع أن الشاب جاء يعزيه بأحسن شيء، وما جامله في أمر نفسه بل نصحه أيضاً.
ونحن يهمنا في هذه الحال أنه يجب على من يحضر الميت من أن يغلب عنده جانب الرجاء، يذكره بحسن أفعاله التي يعرفها عنه، يذكره بأن رحمة الله وسعت كل شيء، يذكره بأن يحسن الظن بالله، ويتحين الفرص لتلقينه: لا إله إلا الله.(113/4)
التزام الحكمة والصبر وقول الخير عند خروج الروح
من الآداب أيضاً أنه حينما تصعد الروح إلى باريها ينبغي على الموجودين تعزية الحاضرين وحثهم على الصبر، وعدم التكلُّم بكلمات غير لائقة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال (قولوا خيراً، ولا تقولوا إلا الخير؛ فإن الملائكة تؤمن على ما تقولون) وقد جاء عن بعض السلف بأنه كان يحذر وينهى ويوصي أهله إذا هو مات ألا ينعوه نعي الجاهلية، وجاء عن ابن رواحة رضي الله تعالى عنه لما أغمي عليه ثم أفاق أنه رأى الملائكة تقول له ما كان يقوله بعض أهله: كنت لنا كنت لنا كنت لنا، أهكذا كنت؟ أهكذا كنت؟ يعاتبونه على ذلك، فلما أفاق نهاهم عن هذا كله.
إذاً: ينبغي على الحاضر أن يلتزم الحكمة والصبر، وحسن اللفظ، وتثبيت الحاضرين، وأن يقول قولاً طيباً، وأن يحملهم على الصبر وحسن العزاء.
والله تعالى أعلم.(113/5)
حكم التلقين للميت بعد الدفن
يقول بعض الناس بعد الدفن: يا فلان ابن فلان! اذكر ما كنت عليه عندنا في الدنيا من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإذا أتاك ملكان يسألناك: من ربك؟ وما نبيك؟ وما دينك؟ .
إلى آخره، فيرى بعض الناس أن هذا من البدع، وينهى عن ذلك، وربما تخاصموا في المقبرة، في الموضع الذي تذرف فيه الدموع، والذي تخشع فيه القلوب، والذي هو موضع الموعظة والعبرة (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) فتجدهم يتخاصمون، ويتناكرون في أمر هل هو سنة أم بدعة؟ والسلف رضوان الله تعالى عليهم منهم من فعل هذا ومنهم من تركه، ويروون عن أحمد رحمه الله أنه مر على رجل يلقن إنساناً فقال: أسكتوه، ثم أدركه رجل وقال: إن شعبة قد فعل، وسفيان قد فعل وكذا، قال: اتركوه يقول ما يقول.
فالمسألة خلافية من سابق الأمر، وجاء في العموم أنه صلى الله عليه وسلم لما دفن الميت قال: (سلوا الله له الثبات؛ فإنه الآن يسأل) فهذه وصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن نسأل الله أن يثبته عند السؤال: اللهم ثبته، اللهم ارحمه، اللهم أفسح له في قبره، على ما سيأتي من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي سلمة عندما أغمض عينيه، ودعا له الدعوات الكريمات، وسواء فعل ذلك بعض السلف أو لم يفعلوه، وقد جاء عن عمرو بن العاص أنه طلب من أهله فقال: [إذا مت ودفنتموني فانتظروا عند قبري قدر ما تنحر الجزور وتقسم؛ فإني أستأنس بوجودكم عند سؤال الملكين] ، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (إن الميت ليسمع حفيف نعالكم) إذاً: هناك عمومات صريحة أن ندعو للميت بأن الله يثبته.
وبعض السلف أوصى أن ينتظر عند قبره بقدر قراءة سورة (يس) ، وسيأتي الكلام على قراءة (يس) .(113/6)
حكم قراءة يس على الموتى
أما حديث (اقرءوا يس على موتاكم) فقد جاء الخلاف: هل نقرأه على موتانا بعد أن يموت، أو نقرأه على موتانا بعد أن يدفن، أو نقرأه على موتانا حينما يحضره الموت؟ جاءت بعض النصوص تؤيد المعنى الثاني، وهو (ما من إنسان يحضره الموت وتقرأ عنده (يس) إلا خفف الله عنه النزع) إذاً: قراءة (يس) على موتانا تكون على من حضره الموت.
والحكمة في ذلك أن الروح تنشط ويخف عليه نزعات الموت، ويكون أخف عليه مما لو ترك.
إذاً: (موتاكم) هنا تصرف إلى المعنى الثاني المجازي بقرينة يخفف عنه سكرات الموت، أما أن نذهب إلى الميت، أو إلى القبر ونقرؤها فبعض العلماء يقول: كان بعض السلف يحب أن يقرأ عنده يس، وبعضهم يحب أن تقرأ عنده سورة الرعد، وبعضهم سورة البقرة، كل ذلك من أقوال السلف ومن أفعالهم، فلا ينبغي الإنكار في ذلك إلى حد الخصومة، ولو أن إنساناً عرض وجهة نظره واكتفى بذلك فقد أدى ما عليه، لكن أن تؤدي إلى الخصومة والمنازعة والمدافعة فهذا ليس من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيان، وفي الدعوة إلى الله أو إلى سنة رسول الله.(113/7)
حكم إهداء ثواب الأعمال من الحي إلى الميت
هل يستفيد الميت من قراءة الحي لـ (يس) أو غيرها أم لا؟ هذه مسألة يمكن إدراجها تحت عنوان: ما علاقة الميت بفعل الحي؟ هناك فريقان: أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها ومن وافقها أخذوا بقوله سبحانه: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم:39] فليس للميت من الحي أي شيء إلا ما جاء به النص.
وفي الحديث: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له) فقال أولئك: ينتفع بهذه الثلاث: ولد صالح يدعو له، صدقة جارية، علم ينتفع به.
وجمهور العلماء يقولون: إن عمل الحي -كما هو معروف- في العبادات ينقسم إلى قسمين: - عمل بدني محض: كالصلاة، والصيام وقراءة القرآن، والدعاء.
- وعمل مالي بحت: كالصدقة، والكفارة، وسداد الدين، والحج يجمع بين الأمرين.(113/8)
حكم وصول العبادات المالية إلى الميت
قال بعض العلماء: ما كان من عمل مالي فهو يصل إلى الميت قطعاً، فهو داخل في عموم الصدقة، وقد كان صلوات الله وسلامه عليه بعد الهجرة ربما ذبح الشاة وقسمها صدقة عن خديجة لصاحباتها، حتى قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: خديجة، حتى بعد الممات خديجة.
فهذا فعله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك سداد الدين؛ فإن المرأة التي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجها عن أمها: [إن فريضة الله في الحج، أدركت أمي أفأحج عنها؟] كان الجواب يكفي: نعم أو لا، ولكن يأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المقام بقياس؛ لنأخذ نحن الحكم من أنفسنا: (أرأيتِ -أخبريني وأعلميني- لو أن على أمك دين فقضيتيه -أي: عنها- أكان ينفعها؟ قالت: بلى.
قال: كذلك فدين الله أحق) إذن قضاء الدين ينفع.
وكما جاء عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه كان في بادئ الأمر إذا قدمت جنازة يسأل: (هل على ميتكم دين؟ إن قالوا: نعم، قال: صلوا عليه أنتم، وإن قالوا: لا.
صلى عليه.
فأتي بميت فسأل قالوا: عليه ديناران، قال: صلوا عليه، قال أبو قتادة: يا رسول الله! صلِّ عليه وديناراه عليَّ أنا، قال: في ذمتك؟ قال: نعم.
قال: برئت منهما ذمة الرجل؟ قال: بلى.
قال: عليك أنت؟ قال: نعم.
فصلى عليه) فهنا بين يدي رسول الله لم يسدد، لكن التزم واعترف وقال: (برئت منهما ذمته - أي بضمانك وكفالتك؟ - قال: بلى) وفي نفس الخبر أنه لقيه رسول الله من الغد فقال له: (ماذا فعل الديناران؟ قال: يا رسول الله! الرجل مات -بالأمس فقط- من الغد، قال: ماذا فعل الديناران؟ -يعني يطالبه- قال: سددتهما، قال: الآن بردت جلدته من النار) لأن الميت يرهن في قبره بدينه.
ثم لما وسع الله على المسلمين وجاءت الفتوحات والغنائم، وبقي عند المسلمين بيت مال، قال صلى الله عليه وسلم: (من مات وله مال فماله لورثته، ومن مات وعليه ضياع أو دين فعليَّ) فكان صلى الله عليه وسلم يصلي على المدين وغير المدين، والمدين يوفي دينه من بيت مال المسلمين.
والذي يهمنا هنا بيان أن العبادة المالية: الصدقة سداد الدين الكفارات المالية.
إلى غير ذلك، تصل إلى الميت.(113/9)
حكم وصول العبادات البدنية إلى الميت
العبادات البدنية تبدأ من الذكر باللسان: الدعاء، الاستغفار، تلاوة القرآن، البدن: صلاة، صيام، فجاءوا في الأذكار والدعاء وقالوا: لا شك أن الدعاء يصل الميت، وقد وجدت للإمام ابن تيمية نحواً من المائة صفحة في هذا الباب يدلل على وصول عمل الحي للميت بدنياً كان أو مالياً، والدعاء -يقول- أكبر شاهد، حيث إنه يؤتى بالميت ونقوم فنصلي عليه، وفيها قراءة الفاتحة، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ندعو للميت، ولولا أن الميت ينتفع بدعاء المصلين له لما كان له فائدة {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا} [الحشر:10] إخواننا من؟ {الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10] يدعون الله بالمغفرة لهم ولمن سبقهم من إخوانهم بالإيمان، فهذا نص القرآن الكريم بأنهم يدعون لأنفسهم بالمغفرة، ولمن سبقهم من إخوانهم بالإيمان، أي: الذين ماتوا قبلهم، فالدعاء لا شك فيه ولا غبار.
أما الصلاة فجاء الحديث: (كان لي أبوان أبرهما في حياتهما فكيف لي ببرهما بعد موتهما؟ فذكر صلى الله عليه وسلم: تتصدق عنهم، وتدعو لهم مع دعائك، وتصلي لهم مع صلاتك) فقالوا: هذا بيان منه صلى الله عليه وسلم أنه يصلي لوالديه مع صلاته.
ونجد في الحج أن يُحج عن الميت، وبعد الطواف هناك صلاة ركعتي الطواف، فهذا طواف عن الميت، وهذه الصلاة عن الميت، نقول: هو الذي طاف، ليس هناك مانع، لكن باسم غيره.
أما الصوم، فقد جاء في الحديث الصحيح: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه) وعليه الأئمة الثلاثة ما عدا المالكية يقولون: إن كان الصوم نذراً فإنه هو الذي أوجبه على نفسه فيقضيه، أما إذا كان صوم رمضان فالله هو الذي كلفه وهو الذي أماته فليس عليه قضاء، لكن الحديث عام وصريح: من مات وعليه صوم} بالتنكير دون تعيين نوع من أنواع الصيام.
والحج جاء فيه: (أحج عن أبي؟ قال: بلى) (أمي ماتت أحج عنها؟ قال: نعم ... ) والحج عن الغير أمر مشهور عند الجميع.
لكن بقي الخلاف والنزاع الطويل في قراءة القرآن، فمن يرجع إلى الإمام ابن تيمية رحمه الله في المجموع وفي كتاب الجنائز يجده رحمه الله يرتب الموضوع فيقول: نحن اتفقنا على أن الميت ينتفع بدعاء الحي: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، وهذا متفق عليه، ما معنى: اللهم ارحمه؟ معناه: يا رب! أنا ليس عندي شيء، ولكن أتوجه إليك، وأسألك من عندك رحمة للميت، فإذا كان الله سبحانه يرحم الميت برحمة من عنده بسؤالك أنت إياه، فرحمة الله نزلت على الميت فضلاً من الله وليس لك في ذلك شيء إلا المسألة، فالرحمة من الله لعبده ماذا فعلت أنت؟ دعوت.
يقول: نأتي إلى القراءة حينما تقرأ الفاتحة يس آية من كتاب الله، لك بكل حرف عشر حسنات، فأنت عملت وبعملك وعدك الله الأجر، فأصبح لك -بمقتضى وعد الله وإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم- بكل حرف عشر حسنات تكتب في صحيفة أعمالك، فأنت تقول: يا رب! هذا الذي عملت، وهذا الذي وعدتني وهو حق لي، أسألك أن تعطيه لفلان، فإذا كان الدعاء وهو طلب الرحمة من الله وأنت لا تملك منها شيء يصل إلى الميت، فكيف بالحسنات التي استحققتها أو التي وعدت بها وتكتب في صحيفتك فأنت تقول: أنت وعدتني به وأنا أتبرع به للميت، أيهما أولى بالقبول الشيء الذي كان عن عمل منك، أو الشيء الذي هو مجرد سؤالك رحمة من الله؟ الذي كان عن عمل منك؛ لأنك عملته، وبوعد من الله كنت تستحقه، ويكتب لك في صحيفة أعمالك، فهو موجود عن سبب منك أنت.
وبهذا المنطق يسترسل رحمه الله في إثبات انتفاع الميت بعمل الحي.
ثم نحن نقول: هل نحن نحجر فضل الله؟ هل نمنع رحمة الله عن عباده؟ فإنك إذا ما عملت عملاً وطلبت من الله أن يجعل ثوابه لوالديك أو لمن شئت من المسلمين، فإنه يكون صدقة جارية ذا ثمرة تدوم بعدك، مثل بناء مدرسة، أو مسكن للمساكين، أو حفرت قناة، أو بنيت جسراً، أو مهدت طريقاً، أو بنيت مسجداً، أو ورثت مصحفاً، فأنت بصلاحك وبفعلك الخير لهذا الرجل بقي من أثر عملك عنده ما جعله يدعو الله لك، إذن لك أثر في هذا العمل؛ لأنه لا يوجد أحد يقرأ لك قرآناً ويهب ثوابه إليك وبينك وبينه عداوة، بل لابد أنه كانت هناك صلة، كان لك عمل من الخير يجعله باقٍ عنده يعطفه عليك حتى يهب لك من عمله الخير.
إذاً: الصدقة الجارية باقية.
وكذلك عمل الولد: (ولد صالح يدعو له) (ولد الرجل خير كسب أبيه) فإذا دعا الولد أو عمل الولد صالحاً فإنه داخل لا يمنعه.
وأما قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم:39] فقد أجاب ابن تيمية رحمه الله حيث قال: الآية تقول: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ} [النجم:39] أي: من نفسه إلا ما سعى هو به، فالآية ما منعت أن يكون له من سعي غيره، نعم.
سعيه انقطع لحديث: (إذا مات العبد انقطع عمله) لكن إذا انقطع عمله فإنه لا يمنع أن يستمر له عمل من غيره، إذن الميت انقطع عمله، لكن هذا لا يمنع أن يأتيه من عمل الغير خير له.
وأرجو من كل طالب علم أن يرجع من هذا الموضوع إلى هذا المرجع المجموع ليرى الأسلوب والمنهج والهدوء، وعدم الخصومة، وعدم النزاع، وليرى أسلوب السلف في معالجة الأمور، وكيف كانوا يقيمون الأدلة عليها، وأرى إن شاء الله أنه ما من طالب علم يقرأ هذا البحث إلا سيجد الخير الكثير، وبالله تعالى التوفيق.(113/10)
باب القراءة عند الميت
وعن معقل بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقرءوا على موتاكم يس) رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان.
على ما تقدم في معنى (موتاكم) أنه حين الاحتضار أو بعد الوفاة، والجمهور على أن هذا الحديث بالذات إنما يراد به عند الاحتضار؛ لأن القرائن في النصوص الأخرى تؤيد ذلك (فإنه ما قرئت يس عند محتضر إلا خفف عنه) وهذه قرينة على أنها تقرأ عند احتضار الموت وعند النزع.(113/11)
تسبيح الجمادات
قد يتوقف بعض الإخوان في بعض النصوص، ولكن أكرر وصيتي مرة أخرى لكل طالب علم أن يرجع في البحث إلى الإمام ابن تيمية رحمه الله.
مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، بلى إنه لكبير، أما أحدهما فكان لا يستتر -أو لا يستنزه- من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة) إلى هنا الحديث متفق عليه، وهناك زيادة في الحديث: (فأخذ جريدة رطبة فشقها ووضع على كل قبر شقاً منها وقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا) فقالوا: هذا يدل على انتفاع الميت بشيء خارج عن عمله، وأين عمل الغير؟ وإنما هو انتفاع بالرطوبة الموجودة، وقالوا: إن النبات والشجر ما دام رطباً يسبح الله، فلعل الله يخفف عنهما بالتسبيح الصادر من هذه الأغصان، مع أنه جاء في القرآن الكريم: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ} [الإسراء:44] أخضر أو يابس، نبات أو جماد أو حيوان أو أياً كان: {إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] .
وجاء عند بعض السلف أنهم كانوا جالسين على خوان فقال أحدهم لصاحب البيت: أيسبح هذا الخوان؟ -على عموم قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44]- قال: نعم.
كان يوماً يسبح، يعني حينما كان نباتاً أخضر.
وقد جاءتنا حادثة معجزة محسوسة ملموسة شاهدها الناس، وسمعوها بآذانهم، وهي حينما كان النبي صلى الله عليه وسلم نطق الحصى وسبح في كفه صلى الله عليه وسلم، وأيضاً لما كان يخطب متكئاً على الجذع ثم انتقل إلى المنبر، فلما تحول صلى الله عليه وسلم إلى المنبر حن الجذع لرسول الله حنين الناقة العُشَراء، حتى سمعه كل من في المسجد، فأتى إليه صلى الله عليه وسلم وربت عليه وقال: (إن شئت أخذتك فغرستك فعدت نخلاً غضاً تثمر، وإن شئت كنت من غرس الجنة، فقال: -والكل يسمع- بل أكون من غرس الجنة، فحفر له في أصل المنبر ودفنه) فهذه الجمادات الله سبحانه وتعالى أعلم بأمرها، ولكن ثبت في العيان أنها تسبح الله، وأنها تتكلم ويسمعها الناس، أنطقها الله الذي أنطق كل شيء إذاًَ: نترك الأمر لله سبحانه وتعالى.(113/12)
باب إغماض عيني الميت
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه، ثم قال: إن الروح إذا قبض تبعه البصر، وقد جاء ناس من أهلي فقال: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير؛ فإن الملائكة تؤمن على ما تقولون، ثم قال: اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، وأفسح له في قبره، ونور له فيه، واخلفه في عقبه) رواه مسلم.(113/13)
الصلاة على الجنازة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول ابن أبي شيبة في تاريخه: كانوا في سابق الأمر، أول مجيئهم إلى المدينة، إذا مرض إنسان واحتضر آذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمره، فيأتي إلى بيته، ويجلس معهم ينتظر، فإذا ما قضى الله أمره، جهزوه، وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في محله، وذهبوا إلى دفنه، فقالوا: لقد أكثرنا على رسول الله، وقد يحضر الميت الوفاة بالليل، فيشق ذلك عليه صلى الله عليه وسلم، ولكن لندع رسول الله يستريح، وإذا ما جهزنا ميتنا حملناه إليه، وهناك يصلي عليه.
فكان بداية مصلى الجنائز من ذلك الوقت إلى الآن، ومصلى الجنائز هو السور الصغير، أو الحوش الصغير الذي ما بين باب جبريل، وغرفة المشايخ التي يصلي فيها الإمام هناك، وهو الجانب الشرقي من المسجد.(113/14)
حقيقة الروح
حضر صلى الله عليه وسلم عند أبي سلمة، فأغمض عينيه، وبيَّن: (إن الروح إذا قبض تبعه البصر) وهنا وقفة استسلام ماذا يرى هذا البصر؟ يرى الروح، {قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] ، وهل الروح جرم وجسم له حيِّز يرى، أم أنها أمر معنوي لا نعلم كنهه، أم هي جسم شفاف، أم هي متوزعة في جميع خلايا الجسم، تحت كل شعرة جزء منها، وتكون بها الحياة، أم ما أمرها؟ نقف موقف العاجز الذي لا يدرك، كما قال سبحانه: {قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] .
جميع ما يتعلق بها: بكنهها بتصرفها في الجسم بخروجها منه بمصيرها إلى الآخرة كل ذلك من أمر ربي؛ قال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:29] ، النفخ من روحه سبحانه وتعالى، وهو نفخ جبريل أو أن (روح) مضاف، وياء المتكلم مضاف إليه، كل ذلك أمره ومرجعه إلى الله.(113/15)
استحباب تغميض الميت عند خروج الروح والحكمة منه
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا عملياً أن نغمض العينين عند تلك الحالة، قبل أن تستكمل الروح خروجها؛ لأن العين إذا شخصت وذهب أثر الحياة منها، يصعب أن تنطبق؛ لأن الباقي جرم مادي ليس فيه أثر الحركة، فلا يمكن أن يرجع الجفن على ما كان عليه، وإذا بقي الميت على تلك الصورة ربما أفزع النساء أو الأطفال أو بعض الأشخاص، فالنبي صلى الله عليه وسلم أغمض عينيه؛ ليبقى في صورة النائم على وضع طبيعي، وقال: (إن الروح إذا قبض) إذاً: الروح تصعد إلى الله، وكل روح تصعد سواء كانت مؤمنة أو كافرة، ولكن هناك روح تتفتح لها أبواب السماء، حتى تصعد إلى الجنان، ويأمر الله بها أن توضع في طيور خضر.
إلخ، وهناك -عياذاً بالله- من توصد دونها الأبواب، وترد إلى سجين.
إذاً: ينبغي على الحاضر عند الميت أن يلاحظ تلك الحالة، فإذا وجد الميت يشخص ببصره إلى السماء، في تلك اللحظات يغمضه برفق، لا بشدة ولا بعنف، حتى يصبح الميت كأنه إنسان نائم.(113/16)
حقيقة الموت
ما هي حقيقة الموت؟ نجد أن الأطباء يقولون: الموت موت الدماغ، وليس موت القلب؛ لأن القلب عضو يعمل آلياً، وبقية الأعضاء تعمل ميكانيكياً، بمعنى: أن اليد منفردة لأن العضلة منبسطة، فإذا أراد الله لليد أن تنقبض جاءت هناك عملية مواصلات واتصالات، فتنقبض العضلة فتسحب الذراع، كما لو كان هناك ذراع مربوط ببكرة بها حبل، فإذا ارتخى الحبل نزل الذراع، وإذا شُدَّ الحبل ارتفع، فهذه عملية ميكانيكية، وكذلك الحاجب، فكل عضو متحرك إلا القلب فإنه يعمل آلياً، أي: أن حركته منبعثة من داخله هو، وليس هناك عضو يسيطر عليه؛ لأن حياة الإنسان بحركة القلب، فإذا ما توقف لحظات مات الإنسان.
وآخرون يقولون: يعمل آلياً بعمل الروح، والروح ساكنة في القلب، ومنتشرة في الجسم كله بأحاسيس.
إلخ، وهذا أمر في التشريح لا ندري عنه.
إذاً: هم يقولون: حقيقة الموت موت الدماغ، وذلك بأن يصبح الدماغ لا يدرك ولا يدير شيئاً في الجسم، وتتعطل إشاراته إلى الأعضاء، أما القلب فهو مضخة تعمل، يجمع الدم ويدفعه، مثل أي دينامو يسحب من الخزان الأسفل ويدفع للخزان الأعلى، ومن هنا يمكن الاستعاضة عن القلب في الجسم بقلب صناعي، ويكون القلب الصناعي يعمل دورة في الدم في الجسم بدلاً من القلب الطبيعي، وعلى هذا باستطاعتهم الآن تحت آلات الإنعاش أن يديموا حركة القلب بعد وفاة الدماغ لمدة يوم إلى أسبوع إلى شهر، ولعلكم سمعتم عن بعض العظماء في أنفسهم أو عند قومهم، أنه عند وفاة أحدهم بقي قلبه يعمل تحت الآلات إلى ستة أسابيع، وأخيراً ليس هناك أي فائدة، ما دام أن الدماغ قد مات فإن الحياة قد انتهت.(113/17)
علامات الموت
للموت علامات عند الفقهاء تدل عليه، حيث لم يكن عندهم موت الدماغ ولا موت القلب، إنما إذا توقف النفس علموا أن الموت قد حصل، إلا موت الفجأة، فينتظرون له ست ساعات أكثر أو أقل، وأحياناً يأتون بالمرآة ويضعونها عند فم الميت، فإذا كان هناك نفس فإن البخار يتكاثف على المرآة في شكل الماء، فيعلمون أن النفس ما زال موجوداً وأحياناً يضعون آذانهم على القلب لعلهم يسمعون شيئاًً، وهو بدل السماعة وأحياناً تميل أرنبة الأنف إلى جانب، أو تظهر زرقة في الأنف، أو زرقة في القدمين، أو تميل القدمان إلى غير ذلك من العلامات التي يعرفونها بالعادة، وهذا كله راجع إلى التجارب.
إذاً: من حضر عند المريض وهو في آخر اللحظات، ورأى بصره شاخصاً، فعليه أن يغمض عينيه، وذلك حينما يرى تلك العلامات أو تلك الأمارات.(113/18)
إحساس بعض العباد بدنو أجله
من نوادر الأمور: أن الله سبحانه قد يجعل عند بعض الأشخاص إحساساً بقدوم الوفاة، فقد جاء في بعض التراجم لـ فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها في يوم وفاتها بعد أن صلت العصر حضَّرت الماء، واغتسلت، ولبست ثيابها النظيفة أو الجديدة، وقالت لمن عندها: لقد اغتسلت والآن قد حضر الموت.
ثم نامت على فراشها بثيابها، وما أذن المغرب إلا وفاضت روحها.
ويذكرون أخباراً نسمعها من أناس كثيرين، يقول بعضهم: يا بني! قد حضر الأوان يا بني! إن الشمس على أطراف الجريد يعني في آخر النهار وهكذا.
وهذه أمور نوادر قد يطلع الله بعض عباده بشيء من الإحساس بشيء من الخواطر بشيء مما يكشفه لبعض العباد، وهذه أمور لا حكم لها؛ لأنها نوادر، وقد يجعلها الله إكراماً لمن شاء من عباده.
ثم قال: (إن الروح إذا قبض تبعه البصر) .
الروح إذا قبضت صعدت، وتبعها البصر إلى أعلى.(113/19)
كراهية البكاء والعويل عند الميت
قالت أم سلمة: (فضج ناس من أهله) لما رأوه يغمض بصره عرفوا أنه قد مات فضجوا، فهناك قال لهم: (لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير) أي: لا تقولوا إلا خيراً، كما في بعض الروايات: (لا تقولوا إلا خيراً؛ فإن الملائكة تؤمن) أي: أن الملائكة تحضر عند الميت، إما ملائكة الرحمة، وإما ملائكة العذاب، عياذاً بالله! إذاً: الملائكة تحضر عند الوفاة، وتؤمن على ما يقول أهل بيته.(113/20)
الدعاء للميت
ثم دعا لـ أبي سلمة فقال: (اللهم اغفر لأبي سلمة) وههنا لطيفة، وهي أنه كان يمكن أن يقول: اللهم اغفر له اللهم ارحمه ولكنه سماه باسمه فكأنه نوع من التلطف، ونوع من المواساة، بحيث أبرز الظاهر بدل الإضمار عنه، وهذا فيه شدة عناية به؛ لأنه يحب أبا سلمة.
ولا شك أن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم مستجاب، ولهذا قال بعض الصحابة لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم لميت: حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت.
وذلك لمكان دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.(113/21)
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وارفع درجته في المهديين)
ثم قال: (وارفع درجته في المهديين) .
من هم المهديون؟ لو تأملنا قوله تعالى في سورة الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:6-7] أي: أنعمت عليهم بالهداية، وقوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69] .
فالنبي صلى الله عليه وسلم دعا لـ أبي سلمة أن يرفع الله درجته في المهديين، ليس فقط: وألحقه بهم، أو أن يكون معهم، بل أن يكون معهم في درجة رفيعة، وهذا والله هو سيد الدعاء.
وفاز بها أبو سلمة رضي الله عنه، وهو حري بذلك، ومن قرأ ترجمته في هجرته وفي حياته وجهاده عرف أنه يستحق فعلاً (وارفع درجته في المهديين) .(113/22)
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وأفسح له في قبره)
ثم قال: (وأفسح له في قبره) .
القبر محدود، وهو على قدر الإنسان، فكيف يفسح له فيه أو يضيق عليه؟ هذا أمر غيبي، وأمور البرزخ غيبية لا يمكن إدراك شيء منها قط.
وهناك محاولات عديدة رغبة في الاستطلاع، ولكنها باءت بالفشل.
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن القبر أنه بين أحد أمرين: إما روضة من رياض الجنة، ورياض الجنة لن تكون ضيقة بل فسيحة، وإما حفرة من حفر النار، عياذاً بالله! ولا مجال للعقل أن يتدخل في الكيفيات، لكنه يتدخل في التصور، فيتصور روضة الجنة، ويتصور حفرة النار، لكن كيف يصير القبر واحدة من هاتين؟ هنا يعجز العقل؛ لأننا نجد الموتى في المقبرة متجاورين، وهذا في نعيمه وذاك في جحيمه، عياذاً بالله! فدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم أن يفسح الله له في قبره يدل على أن هذا ممكن؛ لأنه لو لم يكن ممكناً لما كان لسؤاله حاجة.
وقد ذكرنا فيما سبق ما جاء عند ابن كثير في قصة العلاء بن الحضرمي، لما رجع من البحرين، وفتح الله على يديه، أصيب بعد عبور النهر، فتوفي فدفنوه في مكانه، فأتاهم أناس من أهل ذلك المكان وقالوا: إن كان صاحبكم عزيزاً عليكم فلا تتركوه في هذا القبر، فإن هذه الأرض لا تقبل الموتى، تلفظهم على وجهها!! ماذا فيها؟! والله سبحانه وتعالى يقول: {أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتاً} [المرسلات:25] {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} [المرسلات:26] ؟ فالله جعل الأرض أماً للإنسان، في حياته تطعمه وفي مماته تؤويه، وهذه الأرض خرجت عن القاعدة، فكيف أعطاها الله هذه الحالة؟ لا ندري، فقالوا: والله ما من حق ابن الحضرمي أن نتركه نهباً للسباع.
ما دامت الأرض سوف تلفظه ستأتي السباع وتأكله، ومن حقه علينا أن نكرمه، فرجعوا إلى القبر وحفروه وهم حديثو عهد به، فلما فتحوا القبر لم يجدوا فيه أحداً، ووجدوا القبر ممتداً على مرمى البصر.
وقد ذكرت لكم مصدر هذا الخبر؛ لأن الروايات التاريخية مبناها على الإثبات، وابن كثير ليس رجلاً عادياً، بل هو محدث، ومفسر، وهو سلفي، وبعيد عن الترهات.
وقد جاء في الحديث الآخر ما يتعلق بسؤال الملكين، وأنه أول ما ينزل الإنسان القبر يأتيه الملكان ويسألانه، ثم إن كان صالحاً فتحت له نافذة إلى النار، وقيل له: هذا مكانك لو لم تؤمن، ثم تغلق، وتفتح له نافذة إلى الجنة، ويقال له: هذا مكانك، ويفسح له في قبره مد البصر، فيقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة.
فجاء الإخبار عنه صلى الله عليه وسلم بأن القبر يفسح فيه ويضيق، وهنا يدعو النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي سلمة أن يفسح الله له في قبره.(113/23)
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ونور له فيه)
ثم قال: (ونور له فيه) .
لا شك أن القبر مظلم، وهو أشد ظلمة من ظلمات الدنيا، لا يأتيه ضياء ولا هواء، إلا رحمة الله، وهنا يدعو النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي سلمة أن ينور الله له في قبره ومن أين يأتي هذا النور؟ لا توجد شمس، والعالم كله يقول بأن الشمس هي مصدر النور، حتى القمر يقولون: يستمد ضوءه من الشمس، وقد خالف في ذلك بعض العلماء، ونحن لسنا بفلكيين في هذا الموضوع.
وقد جاء عن علي رضي الله عنه لما رتب أمير المؤمنين عمر صلاة التراويح في المسجد جماعة، وأمر بإسراج المساجد في رمضان، فدخل علي رضي الله عنه فقال: نور الله عليك قبرك يا ابن الخطاب كما نورت مساجدنا.
وتنوير القبر إنما هو من رحمة الله، فنحن لا ندري، وليس لنا طريق أن ندري كيف يكون نور القبر؟ إنما هو من رحمة الله بالعبد، وما دام أن قبره روضة من رياض الجنة فإن الجنة ليس فيها ظلام.
إذاً: يأتيه النور من رحمة الله وجزاءً لحسن عمله، وهو إكرام من الله مهما يكن له من عمل، وهذا النور إلى أن تقوم الساعة، ولو حسبنا كل أربعة وعشرين ساعة بدرهم لما وفى حقها، لكنها رحمة الله.
هذا هو دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ولعل في جهره صلوات الله وسلامه عليه بالدعاء ليسمعه الحاضرون فيتذكروا ويعلموا أن الإنسان أحوج إلى أن يكون مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين، وأن أخوف ما يكون عليه ضيق القبر وظلمته، كي يعمل لذلك اليوم، ويرجو في الله خيراً.
وقد جاء عن بعض السلف أنه كان يداوم على صلاة ركعتين من صلاة الأوابين، وهي كما قيل ما بين المغرب والعشاء، فكان يصليها بنية أن ينور الله عليه قبره.
ومهما يكن من شيء؛ فقد جاء الحديث يبين حالات غيبية من خصائص ذلك اليوم، وجاء القرآن {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد:12] ، وجاء الحديث: (إن أمتي يبعثون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء) وتتمة الآية: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} [الحديد:13] .
إذاً: الله سبحانه وتعالى ينير القبر للمؤمن، ويرزقه نوراً يوم القيامة، وكذلك تنور مواطن الوضوء، نسأل الله أن يرحمنا جميعاً.(113/24)
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (واخلفه في عقبه)
ثم قال: (واخلفه في عقبه) دعا له بشخصه بالرحمة، وبسعة القبر وبنوره، فلا تحزن - أبا سلمة - فالقبر فسيح، ولا تخف فالقبر مضيء لك لا تخف فإن دعوة رسول الله لك بالرحمة مستجابة.
وأهلك وعقبك لا تخف عليهم، فإن الله يخلفك فيهم، ومن أخلفه الله في عقبه فلن يضيعوا.
ولقد خلفه الله في عقبه، نعم.
إنه تصديق للدعوة؛ فإنه لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة، وقال لها: (قولي: اللهم اؤجرني في مصيبتي، واخلفني خيراً منها، قالت في نفسها: ومن سيكون خيراً من أبي سلمة؟) ولكن امتثالاً وطاعةً قالتها، فأخلفها الله خيراً من أبي سلمة.
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد حقق بعض هذه الدعوات المباركات؛ فإنه دليل على تحقيق بقية الدعوات التي صدرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي سلمة.(113/25)
تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه
نظرة سريعة أيضاً في أمر أبي سلمة، لنرى الروابط والصلة الإسلامية والدينية والروحية بين سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وأفراد أمته: لو أن إنساناً قرأ جميع سجلات التاريخ في العالم، فلا يمكن أن يشم رائحة هذا العطف، ولا هذا التراحم، والتلاحم، بين قمة الأمة وأفرادها وآحادها، كما نجد هنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكرنا في عيادة المريض من مكارم أخلاقه صلوات الله وسلامه عليه أنه كان له خادم يهودي ذمي، وأنه مرض، فكان يذهب إليه ليزوره، ويعرض عليه الإسلام، ويكرم الله ذلك الغلام بالإسلام بعرض رسول الله عليه فمن يفعل هذا؟! أعتقد أنه لو لم يأت نص في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله، ولا وصية من صحابي من أصحاب رسول الله بوجوب محبة رسول الله على النفس والمال والولد؛ لكان حرياً بذلك، قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] .(113/26)
كتاب الجنائز [3]
من أصابته مصيبة، أو مات له قريب، فليتذكر مصابه برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها مصيبة عظيمة، وفيها من العبر والعظات ما يذكر المرء بحقارة الدنيا.
وقد استنبط الفقهاء من حادثة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً من الأحكام الشرعية في أبواب الجنازة.
ومن الأمور التي لابد للمسلم من الاهتمام بها، قضاء دينه قبل موته أو الوصية بذلك، ودين الميت تتعلق به أحكام وضح الشيخ حفظه الله كثيراً منها في هذه المادة.(114/1)
باب تسجية الميت(114/2)
شرح حديث استحباب تسجية الميت
عن عائشة رضي الله تعالى عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي سجي ببرد حبرة) متفق عليه.
ننتقل إلى شرح هذا الحديث وهو إخبار أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قبض سجي ببرد حبرة، والتسجية هي: التغطية، بـ (برد حبرة) : هو نوع من نسج اليمن فيه خطوط، وكانت -كما يقول بعض العلماء- من أحب أنواع اللباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والسنة في الميت أن يُسجى من قدمه إلى شعره، بحيث يُغطى جميعه؛ وذلك أستر له وأوقى وأحفظ، سواء سجي ببردٍ، أو سجي بقطن، أو سجي بصوف أو بأي شيء موجود -ما لم يكن الحرير؛ فإنه محرم على الرجال.(114/3)
شرح حديث: تقبيل أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته
وعن عائشة: أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه قَبَّل النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، رواه البخاري.
هذا الأثر ساقه المؤلف رحمه الله في باب الأحكام، وهو يدل على جواز تقبيل الميت بعد موته، وهذا موقف تتحكم فيه العاطفة؛ لأنها أواخر لحظات الميت من أهله، والعاطفة تدفع أهل الميت لتوديع صاحبهم؛ فلا مانع أن يقبل الإنسان الميت في الموضع الذي قبل فيه النبي أبو بكر رضي الله تعالى عنه.
بل في الموطن هذا -أيضاً- حديثٌ للنبي صلى الله عليه وسلم: (أنه قبل عثمان بن مظعون وقال: أخي، وقال: رحمه الله) .
إلخ؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، وأبو بكر رضي الله تعالى عنه فعل ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءت نصوص في صفة ذلك بأن أبا بكر رضي الله تعالى عنه قبل بين عينيه ثلاثاً، وقبل رأسه ثلاثاً، إلى غير ذلك.
وهذا المشهد في الواقع لا يكفي أن يمر عليه الإنسان، ولكن لابد أن يعرف دواعي هذا التقبيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما آنس الوجع، تقول عائشة (كان صلى الله عليه وسلم يمر بي -أي: في غير نوبتها- فيقول كلمة ينفعني الله بها -سواء مؤانسة في الدنيا، أو تنبيهاً للآخرة- فمر مرةً فلم يقل شيئاً، ومر ثانية فلم يقل شيئاً، فأخذت في نفسي؛ فقلت: يا جارية! قدمي الوسادة عند الباب، وشددت عصابة على رأسي -استدراراً للعطف- فمر فرأيته؛ فقلت: وارأساه؛ فقال: يا عائشة! وارأساه أنا، وتكلم خيراً وذهب، ثم نزل به المرض، ثم استأذن أن يكون عند عائشة رضي الله تعالى عنها) ثم أمر أبا بكر أن يصلي بالناس، وقال في أول الأمر: (مروا من حضر للصلاة، فأمروا عمر، ولم يكن أبو بكر موجوداً، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت عمر حينما كبر، فرفع الستار وقال: يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر -ثلاث مرات- ثم جاء بعد ذلك أبو بكر، وأخذ يصلي بالناس) كم صلى أبو بكر رضي الله عنه؟ خلاف: فقيل: خمس صلوات، وقيل: عشر صلوات، وقيل: عشرين صلاة، وفي يوم الإثنين في اليوم الذي قُبض فيه صلى الله عليه وسلم قام أبو بكر يصلي صلاة الصبح، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم الستار، وتبسم معجباً بما يراه من انتظام المسلمين في الصلاة، نعم إنها بمثابة الثمرة لجهاد ظل ثلاثاً وعشرين سنة، من أول البعثة إلى ذلك التاريخ، وإذا بالأمة قد تقبلت الإسلام، وإذا بأصحابه قد قاموا بواجبهم على أكمل صورة.(114/4)
نعي النبي صلى الله عليه وسلم في سورة النصر
في حجة الوداع نزلت عليه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] ، وهنا لفتة بسيطة عن ترتيب السور، لو قرأ.
بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] ثم: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} [النصر:1] لو تأملنا قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] وجدناها تميز الأمة الإسلامية عن غيرها من الأمم، ففيهما: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:2] {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:3] أي: كل في جانب، وبعد التميز ما كانت النتيجة يأتي نصر الله والفتح.
وتقدم مراراً ما قاله ابن عباس في تفسير سورة النصر لما سأله عمر بحضرة الشيوخ الكبار من الصحابة؛ فقال: نعي لنا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرنا، قال: وكيف ذلك؟ قال: قد جاء بالرسالة، فبلغها، وأدى الأمانة، وانتشر الإسلام، وأصبح الناس يدخلون في الدين أفواجاً، فلم يبق إلا أن يلقى ربه؛ فيجتهد في عبادته لله، ولذلك قال: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:3] ، قال عمر: وأنا أقول ذلك.
تقول أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: لما رفع الستار تبسم ضاحكاً استحساناً لما يفعل المسلمون، فسمع الناس ذلك، فكادوا أن تصيبهم فتنة؛ فرحاً بسماعهم صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأشار إليهم أن مكانكم، وأتموا صلاتهم، وكان آخر عهد العامة به صلى الله عليه وسلم.(114/5)
موت النبي صلى الله عليه وسلم كما روته عائشة رضي الله عنها
أما أبو بكر رضي الله تعالى عنه؛ فإنه لما صلى الصبح دخل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لـ عائشة رضي الله تعالى عنها: (ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بارئاً، وقال: يا رسول الله! أراك بخير والحمد لله، إن هذا اليوم يوم بنت خارجة -زوجه التي تزوجها من الأنصار- أفأذهب إليها؟ قال: نعم) وكانت زوجته رضي الله عنه بالسنح، والسنح من العوالي، وهو في المثلث ما بين ما يسمى اليوم بمستشفى الزهراء وبلاد السديري، وبلاد الخريجي -في هذا المثلث تقع السنح- فذهب بإذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن في ضحى ذلك اليوم قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء الخبر إلى أبي بكر فأسرع بالعودة.
وهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تحكي أحداث ذلك اليوم، فتقول: مات في يومي، في بيتي، لم أظلم فيه أحداً، أي: لم يكن في نوبة واحدة أخرى وهو عندها في بيتها، مع أنه صلى الله عليه وسلم من وفائه ومكارم أخلاقه لما اشتد به الأمر، استأذن زوجاته أن يمرض عند عائشة فأذنّ له، وكن يأتين لزيارته عندها.
وتقول: قُبض في دولتي ما ظلمت فيه أحداً، ومات بين سحري ونحري.
وتذكر قضيتها مع السواك؛ فتقول (سمعته يقول: في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى، ويشخص بصره إلى السماء، وقلت: والله لقد خير ولن يختارنا أبداً، وذلك أنها سمعت منه صلى الله عليه وسلم قبل ذلك يقول: ما قبض الله نبياً إلا بعد أن خيره وأراه مصيره، فقالت: والله لقد خُير، ووالله لن يختارنا بعد ذلك أبداً؛ فعلمت أنه ميت) وهكذا ذكرت وفاته صلى الله عليه وسلم، ومن أراد زيادة التفصيل فليرجع إلى كتب السيرة في هذا الحدث، وأكثر من ذكر الأخبار والصور والأحداث ابن كثير في التاريخ.(114/6)
موقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه من خبر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم
من خبر أبي بكر رضي الله تعالى عنه -من شدة هول المصيبة على المسلمين- أنه حينما جاء إلى المسجد، ليدخل إلى حجرة عائشة وطريقها من المسجد، وجد الناس مضطربين، وعمر قائم يقول: والله ما مات رسول الله، وإنه غاب كما غاب موسى عن قومه وسيرجع، وسيقطع أيدي وأرجل رجالٍ قالوا إنه مات، ولن يموت حتى يقضي على المنافقين، فلما سمع أبو بكر ذلك ورأى تلك الحالة، ترك الناس ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الروايات: وحوله نسوة، فخمرن وجوههن، إلا ما كان من عائشة؛ لأنها ابنته، وهذه الكلمة يستفاد منها في مسألة كون الوجه عورة أو ليس بعورة- فكشف الحبرة ونظر إليه، وقبل الرسول صلى الله عليه وسلم بين عينيه، ثلاث مرات على الجبين والرأس إلى أن رق ورد الغطاء كما كان، وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! أما الميتة التي قد كتبها الله عليك فقد متها، ودعا بخير.
ثم خرج، فوجد عمر على حاله والسيف بيده، فقال: اجلس يا عمر! فلم يجلس، ثلاث مرات، فوقف عند المنبر، وقيل: صعد المنبر؛ فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: [أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وإنا والله لعلى ما كنا عليه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن بغى أو حدَّثته نفسه شيئاً لنقاتلنه كما قاتلنا مع رسول الله، ولسيوفنا بأيدينا -هذا موقف الثبات- ثم تلا قوله سبحانه: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144] إلى آخر السياق، فيقول عمر: هي في كتاب الله؟ والله لكأني لم أسمعها إلا اليوم، وعقرتني قدماي] أي: سقط من شدة ما سمع.
وفي هذا الموقف يقال: هل عمر ينكر الموت؟ الجواب: لا، ولكن عظم عليه المصاب في رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمصيبة إذا عظمت أذهلت، وقد يتوقف العقل -كما يقولون: انشل التفكير- وعمر له نظرة بعيدة فيما يتعلق بنصرة الدين، ويرى في موت رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة المصاب، يقول بعض الصحابة -وأظنه أبو سعيد -: [لقد قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأنارت واستنار فيها كل شيء، وقُبض فأظلمت وأظلم منها كل شيء، والله لقد أنكرنا قلوبنا قبل أن نفيض التراب عليه] .
فلا شك أن وجوده صلى الله عليه وسلم في أصحابه له أثر عظيم، فقد كان مرجع أصحابه في جميع أحوالهم، فهذا حنظلة يأتي ويقول (نافق حنظلة -لماذا؟ - قال: يا رسول الله نكون عندك فتذكرنا، فتخشع قلوبنا، وتذرف عيوننا، فإذا انقلبنا إلى أهلينا، وعافسنا أموالنا ذهب عنا كل ذلك، قال: ساعة فساعة، لو دمتم على ما كنتم عليه عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات، ولزارتكم في بيوتكم) فلا يمكن للإنسان أن يقوى على تلك الحال.
وهذا عمر لما سمع قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ.
} [آل عمران:144] قال: ما كنت أظن أنها آية من كتاب الله، وما كأني سمعتها قبل ذلك.
ذهل عنها.
ثم بعد ذلك شرعوا في تجهيزه صلى الله عليه وسلم، وقيل: قد بايع البعض أبا بكر في ذلك الوقت، ثم كانت سقيفة بني ساعدة، ثم كان تجهيزه صلى الله عليه وسلم وتتمة البيعة، وهذا خبر طويل، ويهمنا أن أبا بكر رضي الله عنه لم يكن حاضراً ساعة وفاته صلى الله عليه وسلم، وكان قد ذهب لزوجه، واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما رآه نشطاً، وفي حالة أحسن من ذي قبل، ثم لما قدم كان منه ما ذكر لنا المؤلف رحمه الله أنه قبّل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عينيه.
وهنا يقول الفقهاء: إذا مات الميت، وأراد أهله أن ينظروا إلى وجهه ويقبلوه فلا يمنعون من ذلك، وخاصة من كان غائباً فحضر، فهذا مشروع من فعله صلى الله عليه وسلم ومما فعله أبو بكر برسول الله صلى الله عليه وسلم.(114/7)
باب نفس المؤمن معلقة بدينه
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه) رواه أحمد والترمذي وحسنه.
بعد أن بين المؤلف رحمه الله تعالى حق الميت عند احتضاره من تلقينه لا إله إلا الله، وإغماض بصره، وجواز تقبيله، وقد يذكر بعض الناس استقباله إلى القبلة، أي: جعل قدميه إلى القبلة، ومنهم من ينكر ذلك، إلى آخر هذا مما ينبغي أن يعمل للميت في شخصه وذاته انتقل المؤلف رحمه الله إلى حقوقه، وما ينبغي للأحياء بالنسبة لميتهم، فجاء بهذا الحديث، وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن معلقة في دينه)(114/8)
الخلاف في النفس
فقوله: (نفس المؤمن) يحتار العلماء في مدلول النفس، فمثلاً: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس:7] {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] أهو البدن أم البدن مع الروح؟ الله تعالى أعلم، وقوله: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} [الفجر:27-28] هل ترجع الروح والبدن أم الروح فقط؟ وكذلك السؤال، العذاب، النعيم هل هي للروح فقط، أم للروح والبدن؟ تجدون الكلام في هذا كثير، ولكن الذي يعنينا هنا أن المؤمن مرهون بدينه، والتعبير بالنفس ليشمل الروح، وأما البدن فقد يفنى، ولكن الله سبحانه وتعالى يجمعه: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق:4] .
والرجل الذي أوصى أهله إن هو مات أن يحرقوه، ثم يسحقوه، ثم يأتون به في يوم شديد الريح، وعلى حافة البحر فيذرونه في الهواء، فجمع الله جسده، وقال له: ما حملك على هذا؟ قال: يا رب! خوفاً من عذابك، قال: قد غفرت لك، فمهما تنقص الأرض من أجسادهم يجمعها الله، نحن نعلم شخص المؤمن بروحه وببدنه، ولكن النقاش قائم فيما يتعلق بعذاب القبر وفي نعيمه إلى أن تقوم الساعة، أعني: هل هو للروح أم للبدن، ما عدا الشهداء والأنبياء؛ لأن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لا تأكل الأرض أجسادهم، وحياتهم في قبورهم فوق مستوى الإدراك، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج أنه لقي جميع الأنبياء، بل أكثر من هذا: مر على موسى وهو قائمٌ يصلي في القبر الذي هو ذارع في ذراع! أي أنه وسع له في قبره! ثم إذا به يلقاه مع الرسل في بيت المقدس، ثم لقيه في السماء السادسة حينما عرج به، فهل عنده براق آخر وبأي صفة بروحه فقط وبدنه؟! كان قائماً يصلي ببدنه أمور لا دخل للعقول فيها، وهذا خصوصية المؤمن؛ أن لديه علوماً كثيرة جداً لا يمكن أن يصل إليها غيره؛ لأنها تأتيه عن الله بالوحي.
في هذا المسجد، وفي هذه الروضة أيام وقعة الحرة سنة ستين من الهجرة، خلت المدينة، وتعطل الأذان والصلاة ثلاثة أيام في هذا المسجد خوفاً من الجيش الغازي، إلا سعيد بن المسيب فإنه ما خرج ولا هرب، ولا ترك المسجد، وكان يأتي وحده، ويجلس بجوار الحجرة الشريفة في الروضة، فيسمع الأذان من الحجرة في الأوقات الخمسة، فمن الذي كان يؤذن هناك بلال هاجر إلى الشام، وأكرر وأقول: لا تحاول أن تسمح للعقل أن يتحكم في هذا ويكفيك أن تؤمن وتسلم لذلك، ولما انتهت الأزمة ورجع الناس، وأذن المؤذن في المسجد اختفى الصوت.
إذاً: هذه أمور لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، فنفس المؤمن مرهونة، وهذا عام لا يخرج منه أحد، حتى المجاهد في سبيل الله يكون شهيداً لكنه محبوس.(114/9)
الحث على قضاء الدين وعدم التهاون به
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً سأله عن الشهادة وما تكفر من الذنوب فقال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي؟ قال: نعم، إن قتلت وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف قلت؟ قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله، أتكفر عني خطاياي؟ فقال: نعم، وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر، إلا الدين؛ فإن جبريل قال لي ذلك) فلو تأملنا يا إخوان! لوجدنا أن الدنيا بكاملها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، فمؤمن يكون مديناً لمؤمن آخر بعشرة دراهم، أو درهمين، أو درهم، يحبس فيها؟! يا سبحان الله! إذا كان الأمر كذلك فينبغي على المؤمن أن يتحرى، وأن يفك نفسه قبل أن يحتاج إلى من يفكه، وإن كان عاجزاً أوصى.
وتقدم لنا أيضاً صلاته صلى الله عليه وسلم على الموتى في أول الأمر، وسؤاله عن الميت فإن كان عليه دين، قال لأهله: (صلوا عليه) حتى جيء بميت وقالوا: عليه ديناران، فقال أبو قتادة: هما عليَّ، وتأكد منه صلى الله عليه وسلم فلما تحملها أبو قتادة صلى عليه النبي عليه الصلاة والسلام.
الحقوق المتعلقة بتركة الميت خمسة، حق الميت في تجهيز كفنه وما يلزم لذلك حتى يدفن حقوق دينية، وتنقسم إلى: دين للعبد، ودين لله سبحانه وتعالى، وسواء كان دين العبد موثقاً برهن أو غير موثق، فعند الشافعي رحمه الله يقدم على كل شيء سداد دينه، حتى يقدم على تجهيزه، وتجهيزه يكون من بيت مال المسلمين، وذلك لأنه لو كان في الحياة معدماً ليس معه ما يأكل، فنفقته من بيت مال المسلمين.
وقال أحمد: يقدم تجهيزه؛ لأنه أحق بنفسه، كما لو كان مفلساً فللغرماء بيع ما عنده ولكن تترك له ثيابه.
إذاً: قضاء الدين أحق، قال به الشافعي، ابدأ بنفسك قال به أحمد، إلى غير ذلك، ثم تأتي بقية الحقوق من وصية وميراث.
فيبادر بسداد دينه قبل تجهيزه عند الشافعي، وإذا كان المال موجوداً فباتفاق الجميع لا نجعله مرهوناً بدينه بل ينادى في الناس: من كان له حق عند فلان فليتكلم، وهذا الذي ينبغي على أولياء الميت أن يبادروا به ليفكوه.
وقضاء الدين له شواهد كثيرة تؤكد أهميته، فهذا ثابت بن قيس خرج في غزوة كان يقودها خالد بن الوليد، فجاء إلى رجل وأيقظه من النوم، قال: يا فلان! أنا فلان فاسمع مني، إن فلاناً مر عليَّ وقد خلع عني درعي، فوضعه في آخر المعسكر، ووضع عليه برمة، وعلى البرمة رحله، فمر خالداً فليأخذ درعي من عنده، وإذا جئت إلى المدينة فأخبر أبا بكر رضي الله تعالى عنه أن لفلان عندي عشرة دراهم في قرن، وعبدي فلان عتيق، فجاء الرجل إلى خالد وأخبره، فدعا الرجل الذي سماه وقال: أين رحلك؟ قال: في مكان كذا، فأرسل خالد رجلاً من الحاضرين وقال: اذهب إلى رحل فلان وانظر ماذا تحته، فذهب فوجد الدرع، فجاء به، فقال خالد: هذه قرينة، فكتب إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه: لقد حدث كذا وكذا، فاستدعى أبو بكر رضي الله عنه الرجل وسأله: ألك دين عند فلان؟ قال: بيني وبينه الله، وقد سامحته فيه، قال: أخبرنا ما هو؟ فأخبره أنه عشرة دراهم، فأمر بسدادها حالاً، ثم دعا العبد فأعتقه.
يقول ابن القيم رحمه الله في كتاب الروح: وهذا من فقه أبي بكر عنه؛ أن أنفذ وصية الميت لما رأى من القرينة.
وهكذا أيها الإخوة! ينبغي على الإنسان أن يعنى بنفسه وأن يتخلص من دينه أولاً وقبل كل شيء، فإذا لم يكن عنده سداد وجب عليه أن يكتب، وهذا من دواعي كون الوصية واجبة، فإنها تكون واجبة، وتكون مندوبة، فحين تكون هناك ودائع، كديون ليس فيها سندات، ولا صكوك، ولا شهود، فعليه أن يكتب ذلك ليتولى أهله إنفاذها.(114/10)
كتاب الجنائز [4]
من إكرام الميت أن يغسل بعد موته، فلا يدخل قبره إلا طيباً، وهذا التغسيل واجب على الأحياء بالقدر الذي يطهر به بدن الميت، ويكون على الصفة الواردة في السنة في الرجل أو المرأة.(115/1)
غسل الميت المحرم
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي سقط عن راحلته فمات (اغسلوه بماءٍ وسدر وكفنوه في ثوبيه) متفق عليه.(115/2)
حكم الغسل والتطيب وتخمير الرأس لمن مات محرماً
يذكر المؤلف رحمه الله تعالى في هذا الكتاب -كتاب الجنائز- أن رجلاً سقط عن راحلته فوقصته فمات، فقال صلى الله عليه وسلم (غسلوه وكفنوه ولا تخمروه ولا تحنطوه وكفنوه في ثوبين) والرواية الأخرى: (في ثوبيه) .
هذا الحديث يسوقه المؤلف رحمه الله تعالى من قصة مشهورة، ذلك أن هذا الرجل كان محرماً وواقفاً بعرفات، فسقط عن راحلته، فوقصته راحلته -أي: رمحته- فمات وهو محرم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعامل معاملة الموتى بأن يغسل ويكفن، ثم نهى عن إلحاق هذا المحرم بعامة الموتى، وألا يقرب بما لا يجوز للمحرم من جانب الطيب وتخمير الرأس، واستدلوا على أن الوجه من الرأس؛ لأن بعضهم يذكر: (ولا تخمروا رأسه ووجهه) والخلاف في ذلك عن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه كان إذا نام وهو محرم خمر وجهه، والجمهور على أنه لا يخمر الرأس ولا الوجه، فقد جاء في الحديث: (فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) وهذه التتمة تبين العلة في سبب النهي عن تغطية الرأس، وكذلك النهي عن الطِيب كما ينبغي التنبيه في الوقت الحاضر على ما يقع من حوادث السيارات -عافانا الله وإياكم- لبعض الحجاج، أو المعتمرين، وينتج عن ذلك الوفاة، فنجد البعض يجهز هذا الميت المحرم، ثم يكفنه ويغطي الرأس ويحنطه كما يحنط الموتى، وهذا لا ينبغي؛ لأن من مات قبل أن يقضي نسكه فإنه يعامل معاملة المحرم الحي، من حيث اجتناب الطيب، وعدم تغطية الرأس.
وقال بعض العلماء: إن هذه إكرامية للمحرم، مثلما أن الشهيد لا يغسل ولا يذهب عنه الدم؛ لأنه يكون شهادةً له عند الله؛ كما جاء في الحديث: (يبعث يوم القيامة، اللون لون الدم والريح ريح المسك) فقالوا كذلك من مات متلبساً بعبادة فإنه يبعث يوم القيامة عليه أثر تلك العبادة، والله تعالى أعلم.
إذاً من مات وهو محرم يغسل ويكفن.(115/3)
صفة الكفن لمن مات محرماً
قال في الحديث: (وكفنوه في ثوبيه) بالإضافة إليه، والمحرم ثوباه الإزار والرداء، فبدأ المؤلف أيضاً ليبين بأنه يمكن الاكتفاء في الكفن بثوبين، وكلمة (ثوب) هنا مجاز، ولكن قالوا: هذا لباس المحرم، ويكفن فيهما ما دام يمكن ستره في ذلك من قدمه إلى رقبته.
وجاء في رواية أخرى: (في ثوبين) وروايتان: (في ثوبين) ، (وفي ثوبيه) لا مغايرة بينهما، ولكن (ثوبيه) إشعار بأنه يكفن في هذا اللباس الذي خالط جزءاً من تلك العبادة، فهو أولى من ثوب جديد لم يشارك في تلك العبادة بشيء، كما في وصية أبي بكر رضي الله تعالى عنه أن يكفن في ثوبه، ويؤتى بثوبين آخرين ويكفن فيها، فقالوا: ربما أوصى بذلك لخصوصيةٍ في هذا الثوب، إما أن يكون قد شهد العبادات معه، وإما أنه كان قد أعطاه إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون تبركاً، أو غير ذلك على ما سيأتي الكلام عنده.
ويستدل أيضاً بقوله: (بثوبيه) أنه كفن في ثوبين ليس فيها قميص، ولا عمامة، كما جاء عن أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أنه صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب، ليس فيها قميصٌ ولا عمامة، وسيأتي الكلام عليه، (ليس فيها) أي: ليس في العدد ثلاث وتكون العمامة والقميص زيادة عن الثلاث، ولكن ليست معدودة فيها، أو ليست فيها بالكلية، فلم يعمم ولم يلبس قميصاً، بل في ثلاثة أثواب.
وسيأتي بيان الكفن في ثلاثة أثواب أو في أكثر من ذلك عند النصوص الأخرى إن شاء الله، وبالله تعالى التوفيق.(115/4)
المحرم الميت يبعث ملبياً يوم القيامة
في الحديث أن هذا الميت قد مات وهو متلبس بهذه العبادة، فإذا بعث يوم القيامة بُعث ملبياً، وفي ذلك إشعار بأنه إظهار لعمله يكون ذلك كرامةً له، وامتداداً لعمله في الدنيا، ويكون في ذلك إمتاعاً له بأنه يلبي كما كان يلبي في الدنيا.
وقد يقول قائل: التلبية عبادة، والعبادة تكليف، والآخرة ليست فيها عبادة ولا تكليف، فكيف يلبي؟ ويجاب عن ذلك: أن الله سبحانه وتعالى قد أعطى أهل الجنة في الجنة ما تشتهيه الأنفس، فلو أن إنساناً في الجنة اشتهى أن يصلي ركعتين فإن الله يعطيه الصلاة؛ لأنه من توابع إرضائه وإكرامه لعبده، ولو أن إنساناً تمنى أو اشتهى أن يقرأ القرآن فإن الله يعطيه أيضاً قراءة القرآن، وقد يؤيد ذلك ما جاء في الحديث: (يقال لقارئ القرآن: اقرأ وارق) (اقرأ) (ارق) هذا تكليف، لكن الغرض منه ليس القراءة، ولكن إلى حيث ينتهي في قراءته ينتهي رقيه في درجاته في الجنة.
إذاً قد تكون هناك قراءة قرآن أو صلاة في الجنة، لا على التكليف بالثواب والعقاب في الامتناع، ولكن تتمةً أو إرضاءً أو إكراماً أو تحقيقاً لما تشتهيه الأنفس، حتى قال بعض العلماء: لو اشتهى الفلاحون أن يزرعوا لمكَّنهم الله من أن يزرعوا ويحصدوا.
إلى غير ذلك من الأقوال.
إذاً المحرم يبعث يوم القيامة ملبياً إكراماً له وإتماماً لعمله وقد يكون إرضاءً له فيما تشتهيه نفسه أن يكمل نسكه، وإن كانت بقية المناسك قد انتهت، وليس هناك مكانٌ لها.
والله تعالى أعلم.(115/5)
تغسيل رسول الله بعدما قبض(115/6)
اختلاف الصحابة في تجريده من ثيابه أثناء غسله عليه السلام
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما أرادوا غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: والله ما ندري نجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نجرد موتانا أم لا؟ الحديث) رواه أحمد وأبو داود.
يأتي بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها بأنهم لما أرادوا غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي بعدما قُبض صلى الله عليه وسلم- وأخبرتنا رضي الله تعالى عنها بأنه خُير فقال: (إلى الرفيق الأعلى، إلى الرفيق الأعلى) فالصحابة عندما أرادوا أن يغسلِّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ترددوا فيما بينهم، فهم يعلمون من حالة الموتى أن يجردوا من الثياب ويغسلوا، وتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم سجي ببرد حبرة -والتسجية: التغطية من الرأس إلى الظفر- والتسجية عادةً تكون بعد تجريد الميت من ثيابه العادية، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجردوه في تلك الحالة، بل سجي مع ثيابه.
والصحابة يعلمون أن من حالات الموتى عموماً أن يجردوا ويغسلوا، ومع التجريد يجعل على العورة ما يسترها، وكان الحاضرون من ذوي القرابة المعروفون بالأمانة، … إلخ، فتهيبوا أن يجردوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هل سنة نبينا كسنة بقية الموتى في التجريد والتغسيل، فنغسله كما نغسل الموتى؟ إن كان الغسل للنظافة فهو أنظف الناس، وإن كان للطهارة فهو أطهر الخلق، وإن إلخ، أم ماذا؟ هل له خصوصية؟ فترددوا؛ لأنه ليس عندهم سنة في ذلك ولم يسبق لها نظائر، ولم يسبق لهم من سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً يخبرهم به.
والواقع -يا إخوان- أنه وقع للصحابة رضوان الله تعالى عليهم في ذلك اليوم اختلافٌ وترددٌ في ثلاث حالات: الحالة الأولى: عندما اختلف الصحابة في تجريد الرسول من ملابسه فجاءهم الحل كما يقول الحديث: (فألقى الله على الحاضرين جميعاً النعاس، ولم يبق أحد منهم إلا وذقنه في حجره -ناموا جميعاً، سبحان الله! - ثم سمعوا من يخاطبهم من جانب البيت ولا يعلمون من هو) هل نستطيع أن نفسر هذا أم لا نستطيع؟ لا شك أنه ملكٌ أرسله الله سبحانه وتعالى يخبرهم، فسمعوا من يقول لهم ولم يعلموا من هو: (غسلوا رسول الله ولا تجردوه) كان من الممكن أن يعفى من التغسيل كما يعفى الشهداء؛ لأن الشهيد لا يغسل، وهو سيدهم وإمامهم، ولكن لما التبس الأمر جاء بالأمرين: الغسل، وعدم التجريد: (غسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تجردوه) فغسل صلى الله عليه وسلم من فوق القميص، والمغسل يحرك يده فوق القميص، وغسله علي، والفضل بن العباس، وأسامة بن زيد، وكان العباس حاضراً ولم يشارك، وهؤلاء خاصته وآل بيته، فغسل صلوات الله وسلامه عليه من فوق القميص دون أن يجردوه، هذه واحدة.(115/7)
اختلاف الصحابة في موضع دفنه عليه السلام
الحالة الثانية: لما أرادوا مكان القبر قالوا: أين ندفن رسول الله؟ هل نرده إلى مسقط رأسه مكة عند إسماعيل، أو نرده إلى الشام عند أبيه إبراهيم، أو نرفعه إلى مقبرة موتى المسلمين في البقيع، أم ماذا نفعل؟ حتى قال الصديق رضي الله عنه: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما قبض الله روح نبي إلا في المكان الذي يدفن فيه) يعني: إذا أريد دفنه لا ينقل من مكان موته إلى مكان آخر؛ لأن الله سبحانه وتعالى اختار له المكان الذي يدفن فيه ويقبض روحه فيه، فعزموا على أن يدفن في مكانه الذي قبض فيه وهو حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها.(115/8)
اختلاف الصحابة في نوع دفنه عليه السلام
الحالة الثالثة: عرفنا كيفية الغسل، وتعين مكان الدفن، بقي نوع الدفن، وكان في المدينة طريقتان: طريقة الشق، وطريقة اللحد.
والشق هو: أن يحفر وينزل بعمق في الأرض إلى مستوى -كما يقولون- صدر الرجل العادي، فيوضع الميت في هذا الشق، ويبنى عليه باللبن على هيئة العقود? ثم يهال التراب فوق تلك اللبنات.
أما اللحد: فبعد أن ينزلوا بالحفر إلى المستوى المطلوب يأتون إلى أحد الجانبين في القبر -وغالباً يوضع الميت على شقه الأيمن ما بين الغرب والشرق في المدينة والقبلة أمامه- فيحفرون من جانب القبر الشمالي بقدر ما يسع جسم الميت، ويدخلونه تحت هذا اللحد المائل، وإذا ما أدخلوه في هذا اللحد وصار مسامتاً لحافة القبر في الشق، سدوا هذا اللحد باللبن، وأصبح الشق خالياً والميت تحت الأرض من جهة ما ألحدوا له، ثم أهالوا التراب في الحفرة على ما كان.
وهنا قالوا: ماذا نفعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أنشق له شقاً، أم نلحد له لحداً؟ لأن الحالتين كانتا موجودتين في المدينة، بعد أن فكروا في هذا -وليس عندهم أيضاً خبر يقفون عليه ليعملوا بمقتضاه- قالوا: أرسلوا رسولاً للذي يشق ويدفن في الشق، وأرسلوا رسولاً للذي يلحد ويدفن في اللحد، أيهما جاء أولاً يبدأ في الحفر، فجاء صاحب اللحد، فلحدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.(115/9)
تعيين مكان قبره عليه السلام
وإلى هنا -أيها الإخوة- يكاد يكون إجماع الإجماع -يعني فوق الإجماع بإجماعٍ آخر- تعيين مكان قبره صلى الله عليه وسلم، ولذا يقال: لا يُعلم على سبيل الجزم على وجه الأرض قبرٌ معين بذاته سوى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وجميع الأنبياء وجميع الرسل لا يُعلم بالتحديد، قد يقال: هذا قبر الخليل، وهذا قبر يوسف، وهذا قبر فلان، وهذا قبر كذا، لكن على سبيل التعيين لا على سبيل اليقين، بخلاف قبره صلى الله عليه وسلم فهو على التحديد يقيناً في حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها.
ثم جاء الصديق رضي الله تعالى عنه، وجاء الفاروق رضي الله تعالى عنه وعُينت أيضاً مواقع القبرين الشريفين من قبره صلى الله عليه وسلم، من أن قبر أبي بكر خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وينزل إلى جهة الشرق بحيث يكون رأس أبي بكر عند كتف النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء عمر وراء أبي بكر ووضع رأس عمر تحت كتف أبي بكر بقليل.
وضعوا بهذا الترتيب حتى لا يكونوا على قدم المساواة، وبهذا تتعين هذه القبور الثلاثة يقيناً جزماً بدون أي ريبٍ ولا شك.(115/10)
حكم تغسيل الميت
يهمنا في موضوع الباب: أنهم عندما سمعوا من يقول لهم (غسلوه ولا تجردوه) فأصبح الغسل هنا واجباً، وهو فرض كفائي إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وقد نجد من يورد بأن الغسل سنة وليس بواجب، ولكن كما قال بعض العلماء: إذا لم يكن واجباً فلماذا هو سنة؟ قالوا: للتطهير والتنظيف -على ما سيأتي (وجعلنا فيه سدراً وكافوراً) ولكن يقول بعضهم: إذا كان سيد الطاهرين، وسيد الطيبين قد غسل ما قيمة الكلام والخلاف في ذلك؟ إذاً: غسل الميت واجبٌ وهو فرضٌ كفائي إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين.(115/11)
أولى الناس بتغسيل الميت
من أولى الناس بتغسيل الميت: نجد هناك من يقول: إن كان قد أوصى بأن يغسله شخصٌ بعينه لا مانع، والفكرة العامة أن يكون أولى الناس به آمنهم وأتقاهم؛ لأن الميت بين يديه أمانة، وقد يوجد من الميت ما لا يحب الميت لو كان حياً أن يرى منه، فينبغي على من يغسل الميت أن يكون أميناً لا يفشي سر الميت، وهذا لا يكون إلا ممن كان أولى الناس به.
ومن الناحية التكليفية، أو ناحية الجواز قالوا: أولى الناس بتغسيل الميت الزوجان أحدهما للآخر، الزوج يغسل زوجته، والزوجة تغسل زوجها، على خلاف عند الأحناف، وأما الحنابلة فقالوا: هو يغسلها وهي لا تغسله؛ لأنها لو قدر بأنها في الحياة وفارقها فإنها في العدة، وفي العدة تكون تابعة للزوجية، والآخرون قالوا: العكس، والأحناف قالوا: إنه بالموت انقطعت الصلة، وأجابوا عن ذلك بأجوبة نقلية وعقلية.
أما انقطاع الصلة فليس بصحيح؛ لأن الميراث عقب الوفاة بصلة الزوجية، ولأنه جاء عنه صلى الله عليه وسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (رجع النبي صلى الله عليه وسلم من جنازة بالبقيع فمر عليَّ فقلت: وارأساه، قال: بل أنا يا عائشة وارأساه، وماذا عليكِ لو مت قبلي فقمتُ عليكِ فغسلتكِ وكفنتكِ وصليتُ عليكِ ودفنتكِ) فهذا نصٌ صحيح صريح في أنه صلى الله عليه وسلم يغسل زوجه، وجاء عنها رضي الله تعالى عنها قالت: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله إلا نساؤه) .
وجاء عن أسماء بنت عميس زوج أبي بكر رضي الله تعالى عنهما لما توفي وغسلته هي وخرجت على الناس في يومٍ شديد البرد فقالت: (ماذا ترون، هل عليَّ من غسلٍ وقد غسلت أبا بكر؟ قالوا: لا.
ليس بواجبٍ عليكِ) وقد جاء في ذلك حديث متكلم فيه: (من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ) فـ أسماء أخبرت بأنها غسلت زوجها، وهذه أم المؤمنين تقول: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله إلا زوجاته) وهو صلى الله عليه وسلم يقول لـ عائشة (وماذا عليكِ لو متِ قبلي وقمتُ عليكِ فغسلتكِ وكفنتكِ وصليتُ عليكِ) فهذا منه صلى الله عليه وسلم لزوجه.
إذاً: غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتولى غسله خواص آل بيته.
ابنا عمه علي رضي الله تعالى عنه، والفضل، وأسامة حِب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه، والعباس عمه كان حاضراً، ولهذا قالوا: يغسل الميت أولى الناس به، وإذا لم يكن من أهل الميت من يحسن تغسيل الميت؛ لأنه في بعض البلاد لا تجد في القرية بكاملها من يحسن تغسيل الميت إلا شخصاً واحداً أو شخصين، والبقية لو مات عندهم ميت لا يعرفون كيف يغسلونه، وهذه من المشاكل.
إذاً: يتعين على كل مسلم ما دام أنه واجب كفائي أن يتعلم تغسيل الميت؛ لأنه قد يصادف أنك تجد ميتاً فيكون متعين عليك أنت غسله، أو كان هناك ميت ولا أحد يحسن التغسيل، فكن أنت متعلماً عارفاً، وعلى هذا سيأتي بيان كيفية تغسيل الميت في تغسيل ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(115/12)
باب كيفية غسل الميت
.(115/13)
عدد غسلات الميت
وعن أم عطية رضي الله عنها قالت (دخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن نغسل ابنته، فقال: اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو أكثر من ذلك، إن رأيتن ذلك بماءٍ وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور) يأتي المؤلف رحمه الله -بعدما قدم لنا ما يتعلق بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم في غسله وعدم تجريده- بما يتعلق بغسل عامة المسلمين، ويأتي بحديث أم عطية رضي الله تعالى عنها، قالت: (دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نغسل ابنته) .
فهل معنى قولها: (دخل علينا) أي: عندها، ينظر إليها وهي تغسل؟! لا، بل معنى (دخل علينا) يعني البيت الذي نحن فيه، فقال لهن: (اغسلنها -كم؟ - ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً إن رأيتن ذلك) وهي بعض الروايات أو أكثرها، وهي دليل بعض العلماء حيث يقول: السنة في تغسيل الميت هو تغسيله ثلاثاً، وهذه السنة في الطهارة للحي، وسنة الوضوء التثليث، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه توضأ فغسل مرةً مرة -غسل كفيه مرة، وتمضمض مرة، واستنشق مرة، وغسل وجهه مرة، ويده اليمنى مرة… وهكذا- وقال: هذا الوضوء الذي لا يقبل الله صلاةً بدونه.
-فلا يصح الوضوء بأقل من مرة- ثم توضأ فغسل مرتين مرتين، ثم قال: هذا وضوء الأنبياء قبلي، ثم توضأ وغسل ثلاثة، فقال: هذه سنتي) فتثليث الغسل في الوضوء وغسل الجنابة بأن يفرغ الماء عليه ثلاث مرات -على ما جاء في تفسير الغسل فيبدأ بما ينبغي إزالته، ثم يتوضأ كوضوئه للصلاة، ثم يفيض الماء على شقه الأيمن ثم الأيسر… إلخ ثلاث مرات.
وهنا قال لـ أم عطية ومن معها: (اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً) .
يقول بعض العلماء: خمسة أو سبعة تكريم أو أفضلية أو موجب، قالوا: لقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن رأيتن) ، كأن الزيادة عن الثلاث مرهونة برأي من يتولى التغسيل، على ما يطرأ له حتى يزيد، المهم أن يكون الغسل وتراً: ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً، أو تسعاً، قالوا: إذا غسلوا الميت ثلاثاً ثم كان في حالة ربما خرج منه شيء يحتاج إلى غسل؛ فيعيدون الغسل ويزيدون رابعاً وخامساً؛ فإذا انتهوا ثم رأوا شيئاً آخر، ورأوا أن يزيدوا في الغسل إكراماً للميت وأداءً للواجب، زادوا غسله وتراً بحيث تصير سبعاً… وهكذا، لقوله: (إن رأيتن ذلك) .(115/14)
الحد الأدنى للغسل
إذاً: الحد الأدنى كما يقول بعض العلماء: ما يؤدي الواجب غسله وهو واحدة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال هنا (اغسلنها ثلاثاً) فنقول: ثلاثاً، وجعل الزيادة عن الثلاث لرأي الذين يقومون بعملية الغسل، إذا اقتضى حال الميت أن يزاد في غسله مرة أو مرتين زيادة عن الثلاث إلى خمس أو سبع، ولا يزيدون عن السبع كما يقول البعض، ثم بعد ذلك يتولون ويدبرون أمرهم بما يمكن عمله.
وللعلماء والفقهاء تفصيلات فمن أراد الاستزادة فليرجع لها في كتب الفقه.
واستعمال الطين الحلو، والقطن، والكافور.
إلى غير ذلك في تلك المواطن.(115/15)
مادة السدر وحكم قلع شجرها
ثم قال صلى الله عليه وسلم (واجعلن فيه سدراً) السدر: هو شجر النبق، والمراد بالسدر الورق، وهنا تكلم الفقهاء عن حكم الماء الذي خلط بالسدر، وكيف نعمل بالسدر؟ فبعضهم قال: يفرك باليد حتى يكسر، وبعضهم قال: يدق، وبعضهم قال: يجعل في الماء ويخبط خبطاً شديداً، والسدر من طبيعته أن يخرج رغوة، وهو من أدوات التنظيف، وبعضهم يقول: السدر فيه بركة، وجاء عند ابن ماجة النهي عن قلع شجرة السدر، إلى غير ذلك.(115/16)
بعض خصائص السدر
ذكر ابن القيم رحمه الله في باب فك السحر أن من أخذ عن زوجه أو ظهر به سحرٌ فليأخذ سبع ورقات من سدرٍ ويدقها بين حجرين، ثم يجعلها في ماء ويخبطها ويغتسل به، ثم يكرر ذلك من ثلاث إلى سبع وسوف يفك الله عنه السحر.
إذاً: للسدر خصائص.(115/17)
هل الماء المخلوط بسدر يجزئ في الوضوء؟
وأما كلام الفقهاء عن جعل السدر في الماء، أي: الماء إذا كان مخالطاً هل يرفع حدثاً؟ أو أنه يصبح متغيراً طاهراً غير طهور؟ ويقولون في الماء الطهور: هو ما بقي على خلقته في لونه وطعمه وريحه، ونحب أن نقول للإخوان بأن أوراق السدر لا يغير صفة من صفات الماء، لا ريح له، ولا طعم فيه، ولا لون.(115/18)
قاعدة حول تغير الماء بالمجاورة أو المخالطة
إذاً فالسدر من المجاور لا المخالط، والفقهاء عندهم قاعدة: إذا تغير الماء بمجاور فلا يسلب الماء حكم الطهورية، وإذا تغير بمخالط سلبه، ومثال هذه المجاورة: لو أن هناك -كما يقولون- غديراً صغيراً وعليه أشجار، فتساقط ورق الشجر فيه، فتعفن، هذا الورق لم يخالط الماء ولم يمتزج بذرات قطرات الماء، ولكنه بجواره فتغير برائحته، قالوا: هذا متغير بمجاور وليس بمخالط فلا يسلبه الطهورية.
وقالوا كذلك في النفط، لو وقع القاز في الماء فلا يسلبه الطهورية، وكذلك لو وقع الأزفلت، وكذلك الكافور، فإنه لا يذوب في الماء، وجميع الزيوت لا تذوب في الماء، إنما تكون على وجهه، أو في جانب من جوانبه، ولا تمتزج بالماء أبداً، إلا بطريقة معينة يعرفها أهل الاختصاص في الصيدلة لها طريق خاص، فعلى هذا قالوا: الماء المتغير بمجاور لا يسلبه الطهورية.
إذاً: النقاش في كون السدر في الماء عند غسل الميت يسلبه الطهورية ويجعل الغسل للنظافة لا محل له أبداً, فسيد الخلق صلى الله عليه وسلم أنظف الناس، وقد غسل على تلك الحال.
وهناك من يقول: الأمر تعبدي؛ لأننا لا ندري ما الحكمة، وكونه يقول (اجعلن في الأخيرة كافوراً) لماذا خص الكافور بالأخيرة؟ الآن له رائحة؟ ورائحته نفاذة قوية، كما يقولون: عطر طيار يطير في الهواء، لو تركت قطعة دهن الكافور معراة للهواء فإنك بعد فترة لا تحصلها، مثل (النفثالين) الذي يضعونه لحفظ الصوف، لو تركته لتبخر مع الهواء، فيقول بعض العلماء: إنما جعل في الأخيرة بعد أن استوفى الغسل المشروع بغسلات ماء طهور.
وبعضهم يقول: لأن الكافور له خصوصية تتناسب مع حالة الميت، منها: أنه يلين الجلد، ومنها: أنه يحفظ الجلد من التأثر، ومنها: أن رائحته لا تقوى عليها الحشرات، فلو تأخر دفن الميت وقد جعل في تغسيله كافور فلا تقربه الحشرات، لا نمل ولا ذر ولا شيء يقترب منه؛ لأن رائحة الكافور تطردها.
إلى غير ذلك من التعليلات التي من أجلها جعل الكافور في غسل الميت وفي الغسلة الأخيرة.
والله تعالى أعلم.(115/19)
نقض شعر الميت إذا كان له ظفائر
ثم قالت (ثم ظفرنا شعرها ثلاثة قرون) وفي بعض الروايات (فنقضنا شعرها) أي: أنه كان مظفوراً، وصار شعراً مرسلاً، وبعد أن غسِّل وسرِّح ورجِّل ظفرنه ثلاث ظفائر.
فهنا يقول العلماء: إذا كان الميت رجلاً أو امرأة وله شعر مظفر -بعض أهل البادية قد يعنى بشعره- وكان له ظفيرتان كظفيرتي المرأة، أو ظفيرة واحدة، فإذا كان للمرأة شعرٌ مسترسل ومظفر نقض، ومن المعلوم أنه في غسل المرأة من الجنابة لا تنقض المظفور، بل تجمعه بين كفيها وتضغطه حتى يتخلل الماء بين الشعر، أما في غسل الحيض فإنها تنقضه.
وهنا تقول أم عطية رضي الله تعالى عنها: (فنقضنا شعرها) .
إذاً: غسل الميت آكد من غسل الجنابة؛ لأن نقض الشعر لا يكون في غسل الجنابة، ولكن يكون في غسل الحيض.(115/20)
تظفير شعر المرأة بعد غسلها
ثم بعد ذلك ظفرنه، وهذا يذكرونه خلافاً للأحناف الذين يقولون: إنه لا يظفَّر بعد الغسل، ويلقى على وضعه الطبيعي من جوانبها، أو من خلفها، أو من أمامها؛ حتى ولو على وجهها، ويقولون: هذا فعل صحابية ولا نص عليه من رسول الله، ولكن يقال: لم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، وكذلك الحاضرات ما أنكرن عليها، وإذا كان الأمر يدور بين اجتهاد شخصٍ عادي، وبين فعل صحابية أو صحابيات، فالأولى الأخذ بقول الصحابية أو الصحابيات، كما هو معلوم عند الأصوليين، أن قول الصحابي إذا لم يوجد له مخالف فهو أصل يتبع.
والله تعالى أعلم.(115/21)
استحباب البداية في غسل الميت بالميامن ومواضع الوضوء
وقال في الحديث (ابدأن بميامنها، ومواضع الوضوء منها) التيامن مطلوب في كل شيء، كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي تعالى عنها (أنه صلى الله عليه وسلم كان يعجبه التيامن في كل شيء) فكان يتيامن في لبس النعلين، ويتيامن في لبس القميص فيدخل يده اليمنى، ويتيامن في أول نومه فينام على شقه الأيمن، ويتيامن في أكله الطعام وتناول الشراب بيده اليمنى، ثم قالت (وفي شأنه كله) وهنا قال صلى الله عليه وسلم (ابدأن بميامنها، ومواضع الوضوء منها) وهذه سنة -أيضاً- في غسل الجنابة والحيض، فقد تقدم معنا في باب الغسل أن الإنسان لا يفيض الماء على جسمه مرة واحدة، ولكن يبدأ -كما في غسل الجنابة- بغسل فرجه، ثم يضرب يده بالتراب في الأرض، ثم يتوضأ، وجاء في بعض الروايات (وضوءه للصلاة) وجاء في بعض الروايات: ويؤخر غسل قدميه حتى ينتهي من إفاضة الماء، ثم يتحول من مكانه الذي هو فيه إلى مكان آخر؛ فيغسل قدميه.
إذاً: الوضوء مقدمةٌ للغسل، فهنا أمرهن أن يوضئنها، أي: يبدأن في تغسيلها بالوضوء، وعند الغسل يبدأن بالميامن، ثم يكملن الغسل على ما بين لهن، ثلاثاً، أو خمساً، أو أكثر، قال: (إن رأيتن ذلك) .
ثم قال (فإذا فرغتن فآذنني) من آذن يؤذن، والإذن كله راجع في اللغة إلى مادة الأذن؛ لأن اللغة أول ما توضع توضع للمحسوسات المادية، ثم تنقل إلى المعنويات.
قالت (فلما فرغنا آذناه، حقوه) أي: الإزار الذي على الحقو، والحقو هكذا، محل عقد الإزار، ثم قال (أشعرنها به) وهذا منه صلى الله عليه وسلم عطفاً عليها، وشفقة بها، والتماساً لبركته معها؛ لأن هذا الحقو قد خالطه، وقد يكون مس من عرقه أو غير ذلك.
إلخ، على ما سيأتي في أمر بن أبي، وهذه ابنته رضي الله تعالى عنها زينب، وعطفه على ابنته لا شك فيه، ففعلن وأشعرنها، أي: اللباس يكون قسمين: شعارٌ ودثار، كما جاء في حديث الأنصار لما رجعوا من فتح مكة، وقسم النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم، وأعطى المؤلفة قلوبهم، ولم يعط الأنصار شيئاً، فبلغته مقالة؛ فجمعهم، ثم قال (ما مقالة بلغتني عنكم يا معشر الأنصار؟! أتأخذون عليَّ في لعاعة من الدنيا أتألف بها قلوب أقوامٍ، إني لأعطي أقواماً أتألفهم على الإسلام، وأترك أقواماً لما وقر في قلوبهم من الإيمان، والله يا معشر الأنصار! لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، الأنصار شعار، والناس دثار، لو سلك الناس وادياً وطريقاً، وسلك الأنصار وادياً وطريقاً، لسلكت وادي الأنصار وطريقها) فقوله صلى الله عليه وسلم: (الأنصار شعار) .
الشعار: هو الثوب الذي يلاصق شعر الجلد على الإنسان، والدثار هو ما يتدثر به فوق الثياب، كالمشلح، أو العباية، أو البالطوا، أو أي شيء آخر، هذا دثار يتدثر به، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1] أي: المتغطي، والدثار هو الغطاء فوق اللباس.
فأشعرنها إياه، وكما أشرنا أن هذا من رحمته صلى الله عليه وسلم وشفقته ورغبته في إنالة ابنته البركة.(115/22)
كتاب الجنائز [5]
من الآداب الشرعية الواجبة على الأحياء للميت تكفينه في أثواب تستره، على تفصيل فيما يكون للرجل وما يكون للمرأة، مع استحباب أن تكون بيضاء واسعة بدون مغالاة ولا مباهاة.(116/1)
كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض(116/2)
صفة كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعن عائشة رضي الله عنها قالت (كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف، ليس فيها قميص ولا عمامة) متفق عليه.(116/3)
الفرق بين الثوب والقميص
هذا شروع من المؤلف في بيان كيفية الكفن للميت، وبدأ ببيان كفن النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء بحديث أعرف الناس بذلك، وهي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت (كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثوابٍ بيضٍ سحولية من كرسف، ليس فيها قميص ولا عمامة) ثلاثة أثواب ثم بعد ذلك تقول: (ليس فيها قميص) مما يدل على أن المراد بالثوب هو اللفافة التي يلف فيها الميت، والقميص هو ما كان مخيط الطرفين، أي: لو جئت بطرفٍ من القماش على ما هو معروف الآن، القماش الأبيض عرضه -كما يقال: ياردة (تسعون سنتيمتراً) ، أو عرضه متر، وأخذت منه بقدر طول الإنسان مرتين، أي: أخذت ثلاثة أمتار وثنيت طرفيها معاً ثم جئت في الوسط حيث ثنيت وفتحت فتحة تُدخل الرأس، فأدخلت رأسك -وأنت إنسان على قيد الحياة- وصار النصف أمامك والنصف وراءك، إذا خطت الطرفين من اليمين والطرفين من اليسار، وتركت موضع اليدين سمي قميصاً، فإذا لم يكن مخيطاً لا يسمى قميصاً، فالقميص هو ما كان مخيط الطرفين.
والأثواب: يمكن أن يقال في كل قطعة من لباس المحرم، -الإزار والرداء- أنه ثوب، كما تقدم لنا في الحديث في الرجل الذي سقط عن راحلته فوقصته فقال صلى الله عليه وسلم: (كفنوه في ثوبيه) وثوباه وهو محرم هما عبارة عن الإزار والرداء، أما ما يطلق الآن على الثوب الذي يلبسه عموم الناس فهذا اصطلاح آخر.
قميص طويل، وعند بعض الناس قميص قصير قميص نصف كم قميص كم كامل، فالقميص لغة هو ما كان مخيط الطرفين، وأصبح محيطاً بالجسم بالخياطة.(116/4)
كيفية تكفين الميت
وهنا الثلاثة الأثواب التي تقول عنها أم المؤمنين رضي الله عنها ليس فيها مخيط، لا قميص ولا سروال ولا شيء من ذلك، كيف تكون الثلاثة الأثواب.
يقول ابن قدامة في المغني: يؤتى بالثلاثة الأثواب بعد أن ينتهى من تغسيل الميت، ومما ينبغي التنبيه عليه أن يغسل الميت على شيء مرتفع، لا على الأرض مباشرة، فإذا ما غسل جفف أو نشف، وكذلك يحسن ألا يغسل تحت السماء في الكشف مباشرة، بل يكون تحت سقف في غرفة أو في صالة، وإذا لم يكن ففي خيمة، وإذا لم يكن ظلل بغطاء يحجب بينه وبين السماء، فلا يكون مكشوفاً إلى السماء مباشرة، فإذا ما غُسِّل -على طريقة الغسل التي لها تفصيلات عديدة لم نذكرها، وهي مدونة في كتب الفقه- وانتهوا من تغسيله، نشفوه، فإذا ما انتهوا من تنشيفه، وكان المكان الذي هو عليه مبللاً بسبب الغسل، فإنه يوضع في مكان آخر أو يفرش له فراش في الأرض، ويؤتى بالثلاثة الأثواب، فإن كانت متفاضلة -أي: بعضها أفضل من بعض في الجودة- يجعل الأفضل منها أولاً، ثم يؤتى بالثاني فوقه، ثم يؤتى بالثالث فوقه، فتكون الأثواب الثلاثة قد رصَّت على المكان الذي ينقل إليه، أو على فراش على الأرض، وكل واحد من الثلاثة يسمى ثوباً.
فينقل الميت من موضع غسله، إلى هذه الأثواب الثلاثة، فتؤخذ اللفافة الأولى -أي: الثوب الأول الذي هو ثالث الأثواب من جهة الأخذ- فيثنى عليه الطرفان، فما كان في جهة اليمين، يؤتى به إلى اليسار، وما كان في اليسار يؤتى به إلى اليمين، ويصبح ملفوفاً في الثوب الأول، ثم يجعل فوق هذا الثوب الأول حنوط وطيب وكافور، ثم يؤخذ الثوب الثاني أي الوسط فيفعل به كذلك أيضاً، القسم الذي إلى اليمين يجعل إلى اليسار، والقسم الذي على اليسار يجعل إلى اليمين، وتكون تلك الأثواب الثلاثة زائدة عن طول الميت تتجاوز القدمين وتتجاوز الرأس، ويكون الجزء المتجاوز للرأس أطول من الجزء المتجاوز للقدمين، فلو جعلنا زيادة على القدمين عشرين سنتيمتراً، نجعل أربعين سنتيمتراً من جهة الرأس، ونأتي أيضاً بالحنوط ونجعله على اللفافة الثانية الذي هو الثوب الوسط، ثم يؤتى باللفافة الثالثة وهي الأخيرة وتكون أفضلها وأحسنها أي موضع تجملٍ للكفن، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم (من كفن أخاه فليحسن تكفينه) وجاء في هذا (من كفن مسلماً كان كمن كساه إلى يوم القيامة) وعلى هذا يؤخذ الثوب الثالث الذي هو الأخير، ويفعل به كذلك ويلف على الميت الطرف الأيمن يرفع ويجعل إلى اليسار، والطرف الأيسر يرفع ويجعل إلى جهة اليمين.
إلى الآن أصبح الميت مندرجاً في ثلاثة أثواب، يؤتى بعد ذلك إلى جهة القدمين فتجمع تلك الزوائد بعضها فوق بعض، وقيل: تربط، وقيل: تلف، ثم توضع تحت القدمين، وكذلك من جهة الرأس، تجمع تلك الزوائد بعضها فوق بعض، وتلف من عند الرأس، وتثنى تحت رأسه، أو تربط حتى لا تنفك، حينما يحمل وحينما ينزل في القبر، وحينما يوضع على شقه الأيمن في اللحد، هذه كيفية تكفين الميت في الأثواب الثلاثة.(116/5)
تفصيل الروايات في كفن الرسول صلى الله عليه وسلم
وهذا هو أصح الروايات في تكفينه صلى الله عليه وسلم، وهو أعدل الأقوال وأفضلها عند الجمهور، وقد اتفقوا على أنه عند الحاجة إذا اقتصر على لفافةٍ واحدة على هذا الوضع وسترته من رأسه إلى ظُفر قدمه أجزأت، يعني: أقل المجزء في الكفن ما يستره، والثلاثة هي أقل الكمال، وبعضهم قال هي نهاية الكمال، أي الأفضل.
وكما يقول العلماء، لا ينبغي لأحد أن يزيد في الكفن على كفن النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك روايات جاءت في كفنه صلى الله عليه وسلم سوى ذلك ولم تسلم من مقالات.
ستجدون في كتب الحديث وفي حديث عائشة هنا (.
ثلاثة أثواب سحولية من كرسف) الكرسف: القطن، سحولية: نسبة إلى قرية، وهي ثياب بيض، وهذا صفة الكفن أو أثواب الكفن وأنها من القطن.
قولها هنا: (ليس فيها قميص ولا عمامة) يقولون ليس فيها: يعني في العدد، فهي ثلاثة فقط من غير أن نحسب القميص والعمامة، فيكون القميص والعمامة موجودين لكن ما عدتهم، أو ليس فيها: في جنسها، ولم يتجاوز الكفن الثلاثة الأثواب، والجمهور على أن ظاهر اللفظ ليس فيها -أي في الأثواب الثلاثة- قميص ولا عمامة، يعني ليس قميص وعمامة يكملان العدد، لا.
بل القميص والعمامة منفية الوجود بالفعل.
وسيأتي في بعض الروايات: (كُفِّن في قميصه الذي مات فيه) وفي روايات أخرى: (كفن في حلة حبرة) وفي بعض الروايات: (كفن في حلة لـ عبد الرحمن بن أبي بكر) ولكن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تبين لنا تلك الروايات.
أما موضوع القميص فقالوا: إنه جرد عنه، أي بعد ما غسل وسجي، وبعضهم يقول: موجود، والبعض الآخر يقول: أما الحلة فإن عائشة رضي الله عنها قالت (لقد جيء بالحلة فردوها) إذاً: عند الكفن جيء بالحلة لتجعل في كفنه، ولكن الذين قاموا بتكفينه صلى الله عليه وسلم ردوها، ولم يجعلوها في الكفن، وفي بعض الروايات: (فنشفوه بها، ثم ردوها) إذاً أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تبين قضية الحلة فيما يتعلق بالكفن وأنها فعلاً جيء بها، ولكن لم تكن في الكفن؛ لأنهم ردوها ولم يكفنوه فيها.
وهناك من يقول أن النبي كفن في سبعة أثواب: الثلاثة الأثواب التي في حديث عائشة، والقميص الذي مات فيه، والعمامة والحلة، والحلة من قطعتين، إذاً: مع هذه الروايات ومع توضيح أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في خبر الحلة نعلم بأنه ما كان الكفن إلا ثلاثة أثواب.
والذين يقولون بالقميص، يقولون: تجعل اللفافات اثنتين، ويؤتى بدل الثالثة التي هي الأولى أي التي تكون في الأعلى، والتي تكون كما وصفنا من القماش طول الإنسان مرتين، ويجعل فتحة في وسطه عند الثنية، ويدخل فيها الرأس ويثنى عليه طرفاها، كما يثنى الثوب على التفصيل المتقدم.
ومن يضيف السروال، يقول: يؤتى أيضاً بقطعتين من القماش، ولكن يفتح كما تلك الفتحة ويدخل من الرجلين إلى الحقو، ويكون طرفا القماش واحدة تلف على الساق اليمني والأخرى تلف على الساق اليسرى دون أن تجعل مثل الكم للرجل، أي: لا يوجد خياطة، فعلى هذا الجمهور يقولون: (لا ينبغي التعمق ولا التزيد في الكفن ولا المغالاة) وكما ثبت في أصح الروايات في كفن النبي صلى الله عليه وسلم، الثلاثة الأثواب السحولية البيض التي ذكرتها أم المؤمنين رضي الله عنها.(116/6)
كفن المرأة والصغير
بقي فيما يتعلق بالصغير والمرأة: قالوا: الصغير أي لفافة يلف فيها تجزئه، والمرأة يزاد فيها القميص والمقنعة، والخمار وثالث يلف على وسطها ويربط، فتكون في خمسة: الثلاثة الأثواب المذكورة، والخمار على رأسها وشعرها ووجهها، والثالث في وسطها يشد ويلف عليها، حفظاً لها وصيانة، هذا ما يتعلق بموضوع الكفن.(116/7)
حكم المغالاة في الكفن
واتفقوا على أنه لا يجوز المغالاة في نوعية القماش، فلا نذهب إلى القماش الفاخر الغالي الذي صفته كذا، ونقول إكراماً للميت واعزازاً، لا.
فكل ميت ليس أكرم من رسول الله على الله، ويكفي أنه كفن في هذه الثلاثة الأثواب البيض السحولية كما قالت أم المؤمنين عائشة.
هناك اجتهادات للفقهاء رحمهم الله، في نوعية الثياب، على ما سيأتي التنبيه عليه عند ذكر كفن أبي بكر رضي الله عنه.(116/8)
التبرك بثياب العبادة واتخاذها كفناً
قالوا: لو أن إنساناً، تخير ثوباً يكون لكفنه من الثياب المعتادة، سواء أكان إزاراً ورداء أو قميصاً يلبسه، ثم لبسه ليصلي فيه عدة صلوات، ثم خلعه وركنه ليكون كفنه، وتكون صلاته فيه من باب التبرك ويشهد له، سئل أحمد رحمه الله عن ذلك قال: (لا بأس) وكذلك ما سيأتي عنه صلى الله عليه وسلم أنه أعطى قميصه لـ عبد الله بن عبد الله بن أبي من أجل أن يكفن فيه والده، هذا من سبيل التبرك أو على ما سيأتي العلة مع ابن أبي بأنه كان قد كسى العباس قميصاً حينما جيء به أسيراً من بدر، سيأتي الكلام عليه في محله.
لكن قالوا: لو أن الإنسان اختار ثوباً لكفنه وعمل فيه من القربات، ثم كفن فيه لذلك فلا مانع.
وقد كان كثير من الحجاج قديماً يأتي بكفنه معه من بلده، وذلك لشدة الخوف وعدم الأمان فإذا مات في الطريق كان كفنه معه، وبعضهم كان إذا كتب الله له السلامة يغسله بماء زمزم، ويأخذه معه ويبقيه ليكفن فيه بعد أن غسل بماء زمزم، يفعلون ذلك للتبرك، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم بعض الحالات، من ذلك ما ذكر عنه صلوات الله وسلامه عليه، أنه في يوم بارد شديد البرد، أهديت إليه شملة، مثل الرداء على كتفيه، فقال رجل من الحاضرين (اكسنيها يا رسول الله! فأخذها وأعطاها إياه، فقالوا له بعد ما ذهب النبي: تطلبها من رسول الله وأنت تعلم أنه في حاجتها وتعلم أنه لا يرد سائلاً؟ قال: والله ما طلبتها إلا لتكون كفني) أي ليكفن فيها، وعلى هذا لا مانع أن يتخذ الإنسان الثوب في العبادة.
ونعلم أيضاً ما كان في معتقد الجاهلية بقياس العكس، قبل الإسلام كانوا إذا أراد الإنسان أن يطوف وهو محرم، يعتقدون بأن الثياب التي عليهم، شاركت وحضرت ما ارتكبوا من الآثام من سفك الدماء وأكل الحرام وو إلخ، فيعتقدون بأن من أراد أن يخرج من ذنوبه، يجب أن يفارق هذا الثوب عند الطواف؛ لأن الثوب قد دُنس بتلك الذنوب، فكانوا يطوفون عراة، إلا من كان عنده سعة، فيشتري ثوباً جديداً لم يلبس ولم يدنس بمعصية، فيطوف به، فإذا انتهى من طوافه، خلعه وجعله عند الكعبة، وكان لسدنة البيت، أو يأتي إلى شخص من سدنة البيت ويستعير منه ثوباً يطوف فيه، بناءً على أن سدنة البيت لا يرتكبون الذنوب فثيابهم طاهرة، إذاً كانوا يعتقدون بأن ملابسة الشر في الثوب تؤثر عليه، وكانوا يعتقدون بأن الثوب الذي لم يشارك في معصية، يكون أولى بطوافه، فما بالك إذا كان يشارك في الطاعة، نحن نذكر ذلك من تأثير المعتقدات في أثر الثياب الذي يشهد الخير والذي يشهد الشر.
وعلى هذا ما ذكر عن أحمد رحمه الله تعالى حينما سئل عن الرجل يلبس الثياب ليصلي فيه ثم يجعله كفناً له، قال: لا بأس، لكن لا يطيل اللبس حتى يدنسه، أي يوسخه.
لا؛ لأن السنة أن يكفن الإنسان في ثوبين أبيضين جديدين أو نظيفين غسيلين، كما يتعلق بالإحرام، فما ينبغي أن يبدأ إحرامه في ثياب مدنسة، إما أن تكون جديدة نقية، وإما أن يحتفظ به ويغسله ويحرم فيه كل سنة، فلا مانع في ذلك، هذا ما يتعلق بنوعية الكفن، والسنة فيه الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
هذا والله أعلم.(116/9)
باب تكفين الميت بغير قميصه
.(116/10)
حكم تكفين الميت في قميص غيره
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال (لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ائتني قميصك أكفنه فيه، فأعطاه إياه) متفق عليه.(116/11)
تعريف موجز بعبد الله بن أبي بن سلول ومواقفه
قصة هذا القميص وعبد الله بن أبي بن سلول طويلة، ولكن أقول بإيجاز: عبد الله بن أبي بن سلول هو رئيس المنافقين، وكان أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبين لنا خبره سعد بن عبادة، وعبد الله بن رواحة (ركب النبي صلى الله عليه وسلم ومر على مجلس فيه عبد الله بن سلول، وفيه جماعة من المسلمين، وجماعة من المشركين، وجماعة من جماعة ابن أبي، فلما مر من هناك عرض عليهم القرآن، فقال ابن أبي: يا هذا! والله إنه لكلام حسن لو كان حقاً، الزم رحلك، ومن أتاك فاقرأه عليه، فقال ابن رواحة: لا يا رسول الله! بل اغشنا به في مجالسنا وائتنا واقرأه علينا، فإنا والله نحبه، فتلاحى ابن رواحة ومن معه من المسلمين، وابن أبي وجماعته والمشركون وغيرهم، حتى أخذ صلى الله عليه وسلم يسكت في القوم ويهدئهم خشية الفتنة.
ثم مضى صلى الله عليه وسلم حتى جاء إلى سعد بن عبادة، فقال: ألا ترى ما فعل أبو الحباب؟! -كناه- قال: ماذا فعل؟ فأخبره بما قال، وقال: يا رسول الله! اعذره؛ -وتأمل معي هذا الكلام! - فإنك جئت بما أعطاك الله من الحق، وكانوا قد اجتمعوا على أن يتوجوه عليهم ملكاً، ففات عليه ما كان يريد بالحق الذي جئت به) انظروا -يا إخواني- كيف تكون مراعاة النواحي النفسية، فبعد أن أساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين، نجد هذا الصحابي الأنصاري الجليل يعتذر عنه.
كان قبل أيام على وشك أن يُنصَّبُ ملكاً، فَسُلِبَ ملكه، فهو بهذا لا يحتمل شيئاً بل هو قد فاته الملك بمجيء هذا الدين.
إذن: كان موقفه موقفاً حرجاً في ذاته وفي شخصه.
ثم أسلم إسلام النفاق وهو باقٍ على دينه، يكيد للإسلام والمسلمين.
وهو صاحب المقالة الشنيعة التي قيلت في عودتهم من غزوة بني المصطلق، حينما نزل المسلمون عند ماء، وتلاحى غلام لـ عمر رضي الله تعالى عنه وغلام للأنصار على الماء، فغلب غلام عمر غلام الأنصار، فقال غلام الأنصار: يا للأنصار! وقال الآخر: يا للمهاجرين! فبلغت المقالة ابن أبي فقال: أوفعلوها؟!! والله! ما نحن وإياهم إلا كمثل القائل: سمِّن كلبك يأكلك، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، غلام الأنصار سمع هذه فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم) فشغل الناس بأنفسهم، وحان وقت القيلولة -الوقت الذي ينامون ويرتاحون فيه- وواصل السير إلى الليل وإلى الغد، فقالوا: هذه حالة من رسول الله غير عادية، ما الذي حمله على ذلك؟ فعلموا ما قاله ابن أبي، فذهبوا يعنفونه، فعلم أن الخبر وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء يعتذر: يا رسول الله! سمعت أنه بلغك أني قلت كذا وكذا والله ما قلت، هذا كلام كذب، ما قلت، الغلام يكذب عليَّ، يقول الغلام: والله كدت أن تنشق بي الأرض أن أكذَّب، فنزل القرآن بذلك: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا.
} [المنافقون:8] إلى آخره.
وهنا يقول الأصوليون: قضية القول بالموجب وهي قاعدة أصولية {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8] لم يقولوا من هو الأعز ولم يقولوا من هو الأذل، لكن يزعمون العزة لمن؟ لأنفسهم، بصفتهم أصحاب الأرض وأصحاب المال، فنزل القرآن: (يقولون) ثم جاء القرآن وقلب عليهم القضية، وميز من هو الأعز ومن هو الأذل حقيقة: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] يبقى من هو الذي سيخرج الثاني؟ بمقتضى مقالتهم جاء الحكم عليهم، فجاء الوحي وصدق الخبر.(116/12)
مواقف عبد الله بن عبد الله بن أبي المشرفة
عبد الله بن عبد الله صحابي جليل، وكان من أبر الأبناء بآبائهم -على نفاق أبيه- وكان براً بأبويه، لما حصلت هذه المقالة -وهي ليست بهينة- حينما وصلوا إلى المدينة جاء عبد الله ابن رئيس المنافقين ووقف على باب المدينة، واستلَّ السيف حتى وصل أبوه، فمسك بزمام راحلته وقال: [والله لا تدخلنَّها حتى يأذن لك رسول الله، وتعلم أنك أنت الأذل وأن العزة لله ولرسوله] من الذي وقف لهذا المنافق؟ ولده.
بلغ الخبر رسول الله أن عبد الله منع أباه أن يدخل، قال (مروه فليأذن له فليدخل) فدخل بإذن من رسول الله، وهذه تكفي، ملك الأمس يرده ولده حتى يعلم أنه الأذل وأن العزة لغيره، لمن؟ {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] .
بعد فترة -وأنتم تعلمون أن مثل هذا ليس بسهل، ولا يمر بسلام، بل لا بد أن تكون له بقايا- أشيع -والشائعات دائماً تزيد المسألة قليلاً- أشيع بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيقتل ابن أبي لمقالته، هذه الإشاعة بلغت عبد الله ولده، ماذا يفعل، وهو أبر الناس بأبيه، أبوه يقتل غداًَ أيمنع أمر رسول الله أم ماذا يصنع؟ أمر محرج له جداً!! فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال (يا رسول الله! بلغني -أو علمت، أو سمعت- أنك قاتل ابن أبي -لم يقل: أبي، حتى لا يقول أنه جاء يستعطف، من هو ابن أبي؟ - إن كنت فاعلاً لا محالة -يعني لست عافياً عنه- مرني أنا آتيك برأسه -قتل أبيه مصيبة، وأن يكون بيده مصيبة أكبر، فماذا فعل رسول الله إزاء هذه الشائعات- قال: لا يا عبد الله! دعه) وتركه ولم يقتله، هذا الولد مع أبيه في موقفه في منعه من دخول المدينة حتى يقر ويعرف، يعني: حطم التاج الموهوم الذي كان يتخيله في ذهنه، وأوقفه على باب المدينة، ثم بعد ذلك هاهو مستعد بأن ينفذ أمر القتل لو صدر، أي مكافأة تكون لهذا الابن لو فعل ذلك؟ ماذا تقولون أينصب ملكاً بدلاً عن أبيه؟ لم يعد هناك ملك، الأمر لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، هنا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يراعي خاطر عبد الله في أبيه، أما أبوه فهو الذي رجع بثلث الجيش في غزوة أحد.(116/13)
تكفين رئيس المنافقين في قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبب ذلك
إذاً: مواقف الأب لا نقول: إنها ليست مشرفة! لكنها مخزية، ولكن مواقف ولده مشرفة، من هنا لما مات أبوه جاء وقال (يا رسول الله! أعلم أن قميصك لن ينفعه إذ لم يكن مؤمناً، ولن يضرك إذا أعطيته إياه -انظر العقيدة!! - ولكن أعطنيه حتى لا تكون سُبَّةً علينا مدى الدهر) انظروا السياسة!! ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا هذا كان وكان، وهذا رجع بثلث الجيش، وهذا وهذا، هل عدد له مفاسده، أو أخطاءه؟ لا أبداً، بل رحب بذلك الطلب وأعطاه قميصه.
وقيل: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قميصان فقال (أعطني القميص الذي هو شعارك -ليس الذي فوق بل الذي تحت- فخلعه صلى الله عليه وسلم وأعطاه إياه، وذهب وكفنه فيه) هنا بعض الناس يقول: وهل بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفع المنافق؟ وبعض الناس يقول: ما حابى عبد الله في أبيه المنافق، إنما كان يرد جميلاً، كان ابن أبي حينما جيء بأسارى بدر وفيهم العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان العباس وضيئاً وجسيماً، وكذلك ابن أبي، يقولون كان طويلاً وضخماً، يعني: هيئة الملك موجودة فيه، فكسا العباس من ثيابه، فالرسول كافأ ابن أبي على ذلك القميص، يعني: ما كافأه إلا في ذلك الوقت؟! لو كانت مكافأة كانت في وقتها، بعد الغنائم التي جاءت، وكان يرد الجميل في حينه، ولكن نأخذ من هذا الرفق والرحمة، وإذا قلنا بمعنى المجاملة -وإن كان مجالها واسعاً لا نقدر أن نحدده- ولكن مراعاة وكرامة لهذا الابن البار المؤمن، صاحب المواقف الفاضلة الكريمة، الذي وقف تلك المواقف بجانب المسلمين ضد أبيه عدو الإسلام، ولا بأس بذلك، وكما قال عبد الله بنفسه (أعلم أنه لن ينفعه لأنه لم يؤمن، ولن يضرك، وإنما يرفع عنا سُبَّة الدهر) وكان ذلك مصانعة لـ عبد الله في أبيه.
والله تعالى أعلم.
يهمنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أجاز لـ ابن أبي أن يكفن في قميصه.
إذاً: لا مانع أن يكون في الكفن قميص، ولكن يمكن يقال: إن ابن أبي لا يقاس عليه بقية المسلمين.
والله أعلى وأعلم، والحمد لله رب العالمين.(116/14)
استحباب الكفن الأبيض
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم) رواه الخمسة إلا النسائي، وصححه الترمذي.
هذا توجيه لنوعية ثياب الكفن ولباس الحي، وكما قالوا أيضاً: إن المحرم وهو في حالة الإحرام يكون في أحسن حالاته؛ لأنه متلبس بأفضل العبادات وخامس الأركان، فاستحب له أن يكون في إزار ورداءٍ أبيضين نظيفين جديدين أو غسيلين.(116/15)
استحباب الثياب البيض لطالب العلم
جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه: (أحبُ لطالب العلم بياض الثياب) هذه خصوصية لطلبة العلم، وقد يكون الإنسان صاحب مهنة لا ينفع معها لبس البياض، لكن -كما تقدم- تكون ثياب المهنة للمهنة، وثياب المجتمعات والمناسبات خاصة بها، فلا مانع في ذلك.(116/16)
ميزة الثياب البيض
إن البياض قليل الحمل للدنس، فلو جاءت ذبابة ونزلت على الغترة البيضاء وتركت أثراً بسيطاً فإنه يظهر بوضوح عليها، لكن لو كانت الغترة أو الشماغ ملوناً وجاء ذباب الدنيا ونزل وعشش فيها لا يظهر فيها شيء.
إن بياض الثياب قليل التحمل للأوساخ فأقل شيء يجيء عليه يظهر، فيكون عاملاً مساعداً على نظافته بصفة دائمة، وهنا التوجيه (البسوا من ثيابكم البياض) بصرف النظر عن نوعيتها: (كرسف) أو (كتان) أو أي نوع آخر ما لم يكن حريراً ولا من الممنوع لبسه.
وقوله: (وكفنوا فيها موتاكم) وعلى هذا يستحب في حالة السعة وحالة التيسير أن يكون الكفن من الثياب البيض، أما في حالة الاضطرار؛ فالضرورات لا حكم لها -كما قيل- ولها ظروفها، ولا يقاس عليها حالات السعة واليسر.(116/17)
باب تحسين كفن الميت
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه) رواه مسلم.
إحسان الكفن يكون في طريقة العمل، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه مر بالبقيع فوجدهم يحفرون لجنازة، فوجد في القبر مَيلاً، فأمر بتعديله، وقال: (إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملاً أن يحسنه) وجاء الحديث الآخر: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) ونعلم حديث جبريل عليه السلام في الإسلام، والإيمان، والإحسان، فالإحسان هو أعلى المراتب، والمراحل التي تنتاب العمل.
ومن أجل الإحسان يقول المولى سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:1-2] لم يقل: أكثر أو أقل أو أنقص، بل قال: (أحسن عملاً) .
فكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن) .
والإحسان هنا -في حالة السعة- أن تكون اللفائف واسعة، وأن يُحكم لفها، حينما يأتي بالطرف الأيمن إلى اليسار، والطرف الأيسر إلى اليمين بأن يحكمها على جسم الميت، لا أن يلقيها إلقاءً بدون إحكام، لا، وكذلك إذا وضع الحنوط، وإذا أراد أن يلفها من عند رأسه، ومن عند قدميه فيحسن ذلك، وكما جاء الأثر: (من كفن أخاه كان كمن كساه إلى يوم القيامة) .
إذاً: ينبغي لمن كفن الميت أن يحسن عمل التكفين بإتقان اللفائف عليه، ويحسن الحنوط، كذلك إذا كان هناك ثياب قديمة، رثة، وثياب نظيفة جديدة، فمن الإحسان أن يختار له النظيف الجديد، ولا يبخل عليه.(116/18)
كتاب الجنائز [6]
الصلاة على الأموات فرض كفاية، على خلاف في الصلاة على بعض أصناف المسلمين، فإذا دفنوا فيجعل كل ميت على حدة، إلا في بعض الحالات التي يجمع فيها أكثر من ميت في قبر واحد.(117/1)
تقديم حفظة القرآن في اللحد
وعنه قال (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم يقول: أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟ فيقدمه في اللحد، ولم يغسلوا ولم يصل عليهم) رواه البخاري.(117/2)
كيفية ترتيب الموتى في القبور الجماعية
جميع ما تقدم في طريقة تغسيل الميت وتكفينه هي في الحالات العادية، لكن هناك حالات تطرأ في المجتمع يكثر فيها الموتى، سواء كان في حالات الحروب والكوارث، أو في حالات الأمراض السارية -كما يسمونها- كالطاعون، أو الكوليرا وأنواعها، فقد يبلغ عدد الموتى في القرية في اليوم الواحد عشرة أو خمسة عشر، وكذلك في المعارك والكوارث الأخرى، ماذا يفعلون مع كثرة الموتى في حفر القبور؟ أعتقد أن بعض الإخوة يذكر ما حصل في حدث الطائرة، والتي كان فيها عدد كبير من الناس، فعندما سقطت ماذا فعلوا؟ لم يحفروا لكل واحد قبراً.
الذي يهمنا هنا أن في حالات كثرة الموتى، ومشقة حفر قبرٍ لكل فرد يجمع الاثنين والثلاثة والأكثر والأقل في القبر الواحد.
والآن البقيع موجود فيه غرفتان تسمى في عرف الناس: الفسقية أو الفساقي، وهي غرفة تحت الأرض بعمق القبر، وهي تسع عشرة أشخاص أو خمسة عشر شخصاً متراصين متجاورين، وهذه توجد في بعض البلاد في الأرياف للعوائل الكبيرة، ويكون لكل عائلة فسقيتين: واحدة للرجال وأخرى للنساء، ولهم مدة معينة تفتح الفسقية فيها لا تفتح قبل ذلك، وهم لم يجعلوها للموت الجماعي، وإنما يجعلونها لجمع موتاهم في مكانٍ واحد، ولا مانع في ذلك، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لما صلى على عثمان بن مظعون ودفنه، ووضع الحجر عنده، قال (لأعرفه، لأجمع إليه من أهله) فلا مانع أن يكون للجماعة أو للأسرة مكانٌ يجمع فيه موتاهم، حتى إذا أتوا للزيارة والسلام يكونون في مكان مجموعين فيه.
ففي هذه الحالة لو أتي بعدد من الموتى ووضعوا في تلك الفسقية أو الغرفة تحت الأرض لا مانع.
فإذا لم تكن هذه موجودة وليست معدة من قبل كما هو الحال في غزوة أحد، إذ لا يمكن أن يحفروا سبعين قبراً في وقت وهم على حالتهم -مصابون وجرحى.
إلخ- فكانوا يجمعون الاثنين والثلاثة والأكثر في قبرٍ واحد.
ففي مثل هذه الحالة كيف يكون ترتيب الدفن؟ أولاً: اتفقوا على أنه يجمع الرجال مع الرجال، والنساء مع النساء، والصبية الصغار دون السابعة حيثما دفنوا، وبعد السابعة يأخذ حكم الجنس ذكراً أو أنثى، وبعضهم يقول: لو اقتضت الضرورة وكانت الكارثة كبيرة وفيها رجال ونساء، ولم يمكن أن نميز النساء معاً والرجال معاً! لا بأس أن نجمع الرجال والنساء بحيث تكون النساء وراء الرجال، ويوضع بين النساء والرجال حاجز.
ولكن الجمهور على المنع، ونحن قدمنا بأن حالة الضرورة لها حكمها، ولا يقاس عليها غيرها، فإذا جاء الأمر واضطر الناس على أن يجمعوا العدد من الموتى في قبر واحد للعجز، أو للمشقة، أو لعدم الإمكان بأن يجعل لكل ميت قبر مستقل، فلا مانع.
وعند الوضع في القبر يسأل صلى الله عليه وسلم (أيهم كان أكثر أخذاً للقرآن؟) لم يقل: أيهم أغنى مالاً، أو أيهم أعلى جاهاً، أو أعظم وأفخم نسباً وحسباً؛ كل هذا قد التغى بالموت، انتهى الأمر، وأصبح الشخص بنفسه، فمن يكون أكثر أخذاً للقرآن قُدم إلى جهة القبلة، ثم الذي يليه ثم الذي يليه وهكذا.
وهذا يكون في حالة الضرورة ومشقة أن يحفر قبر لكل إنسان فإنه لا مانع أن يجمع العدد منهم في القبر الواحد.(117/3)
لا ينقل الشهيد في المعركة من قبره حيث مات إلا لمصلحة
وقد جاء عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه أن أباه كان من شهداء أحد، فدفن مع رجل آخر، ثم بعد مدة يقول جابر: (والله عزت علي نفسي أن يكون أبي مع غيره في قبر، فذهبت لأفرده في قبرٍ، قال: فذهبت، فوجدت كأنه مات بالأمس) ، ونقله وأفرده في قبر مستقل، ومعلوم أن الشهداء الذين سقطوا في المعركة وماتوا فيها يدفنون في مكانهم، ولا ينقلون إلى جهة أخرى، اللهم إلا في حالة الضرورة ولمصلحتهم ينقلون إلى أقرب مكان كما وقع لسيد الشهداء حمزة رضي الله تعالى عنه، ومن كان معه دفنوا حيثما أصيبوا وكان في مجرى الوادي.
فلما أجرى معاوية رضي الله تعالى عنه قناته، جاء السيل واحتفر القبور وظهرت الأقدام فضج الناس -وذلك بعد أربعين سنة من وقعة أحد - فذهبوا إليهم فوجدوهم كأنهم دفنوا بالأمس! فما كان إلا أن رفعوهم إلى المكان المرتفع على عدوة الوادي الذي هم فيه الآن، وكان هناك بقايا القبة التي كانت من قديم، وتسمى (المصرع) يعني المكان الذي صرع فيه حمزة رضي الله تعالى عنه ودفن فيه، ثم نقل بعد ذلك إلى المكان المرتفع، فنقله كان لمصلحته؛ لأن السيل قد جرف القبر وظهر، والسيل لا يؤمن في أي وقت يأتي، فرفع إلى مكان بعيد عن السيل.
وقد جاء في غزوة أحد أن بعض القتلى جاء أهلهم وحملوهم إلى المدينة، فردهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (لا.
ردوهم وادفنوهم حيث أصيبوا) وهكذا شهيد المعركة.
أما من صُوب في المعركة ولكنه لم يقتل وذهب به إلى بيته أو إلى مكان آخر، وعاش حتى أكل وشرب فإنه يعامل معاملة جميع الموتى من أن يغسل ويكفن بلا خلاف ويصلى عليه بلا خلاف، ويعامل كما يعامل جميع موتى المسلمين.
وعلى هذا عند الضرورة سواءً كان في حال معركة، أو كان في كارثة، مثل مواضع الزلزال -عافانا الله وإياكم- يكون هناك موتى كثيرون، ومتى يستطيعون أن يحفروا لهؤلاء في وقتٍ واحد؟ فيتخذ لهم هذه الطريقة والله تعالى أعلم.(117/4)
معنى قوله: (يجمع بين الرجلين في ثوب واحد)
قوله رضي الله تعالى عنه (يجمع بين الرجلين في ثوب واحد) يقول بعض العلماء: هل يبقى الثوب على ما هو عليه، ويلف الرجلان بهذا الثوب معاً كأنهما شخص واحد؟ أو أن الثوب الواحد يقسم قسمين ويعطى لكل واحد منهما قسم؟ وهذا يدل على قلة وجود ما يكفن به القتلى عند العدد الكثير، والذين قالوا: إنما يشق الثوب قسمين، قالوا: لئلا يجمع بين رجلين بجسد متلاصق في ثوب واحد، ولكن هذا غير وارد؛ لأن الشهداء لا يغسلون ولا يجردون من ثيابهم، بل يلفون في ثيابهم التي كانت عليهم، ولكن يبعد عنهم ما كان فيه من الجلود أو الحديد، فإذا كان محتزماً بمنطقة جلد، أو ترس فيه جلد، أو درقة فيها جلد، أو قميص فيه شيء من الجلود فهذا يبعد عنه، وكذلك إذا كان هناك شيء من الحديد كالدرع مثلاً أو الخوذة على رأسه أو شيءٌ في يده، فهذه تنزع عنه ويلف في أثوابه التي هي عليه، فيكون الكفن زيادة على ثيابه التي هي عليه.
وتكون مهمة هذا الثوب هو تغطية أطراف الميت أو الشهيد من رأسه إلى قدميه، حتى قالوا: لو أن الثوب الموجود لشخصٍ واحد، وكل واحدٍ له ثوب لكنه قصير لا يبلغ ما بين الرأس إلى القدم، قالوا: يقدم جانب الرأس فيغطى، وبقية الجسم من جهة القدمين يوضع عليه من نبات الإذخر أو نحوه ويغطى في قبره، ولا تترك الجثة مكشوفة.
فقول جابر رضي الله عنه (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجمع بين الرجلين في الثوب الواحد) هذا الحديث يسوقه المؤلف ليبين بأن أقل الكفن هو ثوب واحد، وإن تعذر الثوب فبعض الثوب، وهذا عند الضرورة، وكما تقدم أن الضرورة لا يقاس عليها، كما لو أن إنساناً كان عليه غسل جنابة وعنده ماء لا يكفيه للغسل فعليه أن يتوضأ به، ثم يتيمم بالباقي، وكذلك إذا كان لا يملك ثياباً تستره من السرة إلى الركبة يغطي به السوءة، وكذلك الكفن يكون بقدر المستطاع.
إذاً: يجمع بين الرجلين في ثوبٍ واحد، إما على معنى: يجمعهما في لفافة واحدة، ولا محظور في ذلك؛ لأن ثياب كل منهما تحول بينه وبين ملاصقة جسم الآخر، وإما أن يشق هذا الثوب الموجود ويعطى لكل واحد منهما ما يجزئ عنده، إن كان يكفي طول الجسم فالحمد الله، وإن كان لم يكف عني بجانب الرأس وستر بقية الجسم بالنبات أو بنحوه(117/5)
الصلاة على الشهداء
أما القسم الثالث من الحديث: (ولم يصل) هذا مبحث طويل، هل الشهداء يصلى عليهم أم لا؟.
أولاً: تقدم تقسيم الشهداء إلى قسمين: شهداء المعركة، وشهداء غير المعركة.
قال عمر رضي الله تعالى عنه: (اللهم ارزقني شهادةً في سبيلك ودفناً في مدينة رسولك) ، قالوا: ماذا بك يا عمر! تريد تأتي بالقتل إلى المدينة؟! قال: الله كريم.
فقتل وهو في الصلاة وكتبت له الشهادة، ولكن ليست شهادة المعركة، فهذا يعامل معاملة عامة الموتى.
أما الذي في أرض المعركة فيختلف الفقهاء في كونه يصلى عليه أم لا.
أولاً: وقبل كل شيء: أجمع العلماء على أن شهداء المعركة لا يغسلون، ويقولون: يبقى بدمه ليبعث يوم القيامة كما قال صلى الله عليه وسلم: (اللون لون الدم والريح ريح المسك) ويقولون: هنا قسمان: مداد العلماء، ودماء الشهداء، تأتي يوم القيامة اللون لون الحبر، والريح ريح المسك، فالشهداء لا يغسلون بإجماع المسلمين دون أي خلاف، ولو وجد خلاف لا عبرة له؛ لأن شهداء المعركة لا يغسلون.
أما الصلاة عليه فيقول جابر: (ولم يصل عليهم) إذا جئنا إلى هذه المسألة بعنوان مستقل: (الصلاة على الشهداء) هل يصلى على الشهداء أم لا؟ نجد الآثار الواردة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على شهداء أحد، وجابر يقول (ولم نصل عليهم) ونجد الآثار متعددة، ولا يسلم واحد منها من مطعن ومقال، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على عمه حمزة رضي الله عنه فكبر سبعاً -سبع تكبيرات- ومنها: أنه صلى عليه وبقي في مكانه وكان يؤتى بالشهداء الآخرين فيوضعون بجواره ويصلي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: على الشهيد الثاني وحمزة موجود فيشهد حمزة صلاة على غيره معه- ثم يؤتى بآخر إلى سبعين صلاة بعدد الشهداء في أحد.
ونجد بعض الروايات تقول: كان يؤتى بهم عشرة عشرة، ويصلي على العشرة مرةً واحدة، وتكون صلاته على السبعين سبع مرات يصلي عليهم عشرة عشرة وحمزة موجود، فقال بعض العلماء: صلى على حمزة سبعين مرة، أي: بتكرار الصلاة على الأفراد، سبع مرات أي: بتكرار السبعين وتقسيمهم عشرة عشرة، كبر سبع تكبيرات أي: على صلاته وحده.
والآخرون يقولون: لا، لا نصلي على أحد.
وإذا جئنا إلى مجموع هذه النصوص نجد: أن كل نص جاء بأنه صلى عليهم لا يسلم من مقال أو أنه موقوف على صاحبه كـ أبي أمامة وابن عباس وغيرهم، وإذا جئنا إلى: (لم يصل عليهم) وجدنا الأحاديث الصحاح بأنه لم يصل عليهم.
ولنعلم أن الغزوات التي وقعت من بدر إلى الخندق إلى حنين إلى فتح مكة إلى خيبر لا شك وقع فيها شهداء، يقول الشوكاني: لم يرد نص واحد أنه صلى، ولم يرد نصٌ واحد أنه لم يصل، وإنما النصوص المختلف فيها إنما هي في غزوة أحد فقط، وعلى هذا نجد الأئمة رحمهم الله اختلفوا في كون الشهيد يصلى عليه أم لا، فنجد مالكاً والشافعي والمقدم في مذهب أحمد أنه لا يصلى على شهيد، كما أنه لا يغسل فكذلك لا يصلى عليه.
ونجد الإمام أبا حنيفة رحمه الله يقول: يصلى عليه.
إن جئنا للأحاديث فهي متعارضة: صلى كذا مرة، لم يصل عليهم، وأحاديث الإثبات -كما يقولون- (الإثبات مقدم على النفي) لكنها أسانيد ضعيفة، ونجد للمالكية قول عن مالك: عدم الصلاة على الشهداء لماذا؟ قالوا: لأنهم أحياء عند ربهم والحي لا يصلى عليه، فما داموا أحياء عند ربهم والصلاة شفاعة ودعاء للميت، وصلاة على الميت المفارق للحياة، فقالوا: هؤلاء أحياء ولا يحتاجون إلى شفاعة الناس، شهادتهم تكفيهم.
هذا تعليل قد يكون مناسباً أو الوصف المناسب لحالة الشهداء، فإذا كان الأمر مع تاريخ الجهاد في سبيل الله وجاء بعد ذلك الفتوحات في عهد الخلفاء الراشدين، ونعلم كم من المواقع وكم من الغزوات وكم من الجهاد، ولم ينقل بأنهم كانوا يصلون على شهداء المعارك في ذلك التاريخ.
إذاً الجمهور على عدم الصلاة، والأحناف على أنهم يصلون، فإن وجدنا من يصلي لا ننكر عليه، وإن وجدنا من لم يصل لا ننكر عليه، كما قال بعض العلماء: الصلاة فيها الخير.
ونسأل الله أن يأتي بعهد الشهداء، وأن يرفع راية الجهاد ويعلي كلمة المسلمين ويكون هناك شهداء، أما مسألة أن يصلى أو لا يصلى، عليهم فهم في غنىً عن ذلك.
يهمنا تتمة البحث في هذا الحديث، ولم نكن أكملنا الكلام عليه.
إذاً في ثوب واحد، إما أنه يلفان معاً، وإما إنهم يشق لهما -وهذا بعيد- والثاني: أيهما يقدم في اللحد؟ يجمعهم في ثوب واحد في الكفن، ويجمع أكثر من واحد واثنين في قبر واحد للظروف الطارئة.
قوله (ولم يصل عليهم) تقدم الإيراد فيما هو عند الجمهور من الصلاة على الشهداء وعدم الصلاة عليهم.
ونؤكد مرةً أخرى بأن ينبغي علينا أن نفرق بين الصلاة على شهيد المعركة وغير شهيد المعركة، والخلاف في شهيد المعركة، وبعض العلماء يقدم في هذا الباب الصلاة على الجنائز، الميت في الحالة العادية والشهيد في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
قالوا: لما قُبض صلى الله عليه وسلم، وتم التجهيز ماذا فعلوا؟ قالوا: كانوا يدخلون عليه صلى الله عليه وسلم يصلون لأنفسهم بدون إمام، لم يتعين إمام بعده صلى الله عليه وسلم، ولم تتم البيعة بعد لـ أبي بكر رضي الله تعالى عنه، والبعض يروي بعض الآثار لكنها ضعيفة بأن أبا بكر هو الذي صلى بالناس، ولكن الجمهور على أنهم يدخلون، قيل أفراداً وقيل: جماعات، وقدموا الرجال، فلما انتهى الرجال أدخلوا النساء، فلما انتهى النسوة أدخلوا الصبية المميزين الذين يحسنون الصلاة.
ويمكن أن يقال: كثيراً ما يتساءل بعض الناس: هل المرأة تصلي على الجنازة أم لا؟ سيأتي لنا حديث عائشة في سعد وأبي بياضة أنه صلى عليه في المسجد، وكذلك النسوة في محضر من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، يدخلن أفراداً أو جماعات ويصلين على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بعض الناس كان يقول: أولئك الذين يدخلون، لا يصلون صلاة الجنازة المعروفة، ولكن كان مجرد دعاء.
ولكن كلمة (صلاة) تحمل على معناها الشرعي ولا تحمل على معناها المجازي أو اللغوي إلا لضرورة أو لقرينة، وليس هنا ضرورة ولا قرينة فصلوا عليه صلوات الله وسلامه عليه.(117/6)
باب كراهة المغالاة في الكفن
وعن علي رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تغالوا في الكفن؛ فإنه يسلب سريعاً) رواه أبو داود.
تقدم الكلام على هذا الأثر عن علي رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن الغلو في الكفن؛ لأنه يسلب سريعاً، فلا حاجة إلى المغالاة فيه.
والمغالاة هنا إما بزيادة عدد اللفائف والأثواب بدل ثلاثة سبعة أو تسعة، وإما في نوعية الأثواب.
الرسول صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب من الكرسف سحولية، فإذا كفن الميت في لفائف من الخز -الحرير- أو الصوف أو الأقمشة الثمينة النفيسة في الثمن فهذا من المغالاة!! الغلو يصدق بنوعية الثوب أو بعدد الأثواب، وهذا كله منهي عنه كما تقدم، وعلينا الاكتفاء -بالاقتداء- بما كفن به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحسبنا ما اختار الله لنبيه عليه الصلاة والسلام.
والله أعلم.
والمغالاة في الكفن ليست من السنة، وقد بين صلى الله عليه وسلم سبب ذلك بقوله: (فإنه يسلب سريعاً) أي: تأكله الأرض ويذهب، وجاء عن الصديق رضي الله عنه أنه قال في مرضه الأخير، وكان عليه ثوب فيه زعفران: (اغسلوه وكفنوني فيه مع ثوبين آخرين) فقالوا: كيف نكفنك في هذا وهو قديم وكذا، وجاءوا بجديد؟ فقال: (الحي أولى بهذا، إنما هو للمهلة) أي: هذا جديد تعطوني إياه لماذا؟ أنا ذاهب، وكلمة: (المهلة) قالوا: من الإمهال، يعني: مهلة بسيطة، أي: ليس هناك حاجة أن يكون الكفن جديداً ويضيع عليكم، أو (المهلة) أي: ما يسيل من جسم الإنسان، ويتلف الثوب الجديد ويبليه، ولكن نحن نعلم جميعاً بأن أبا بكر رضي الله عنه وأمثاله لن تأكل الأرض أجسادهم.
فهذا من الصديق رضي الله عنه، ويكفينا قوله: (الحي أولى بهذا) وكونه قال: اغسلوا هذا الثوب وكفنوني فيه فهو على ما تقدم من أنه كان يشهد الخير فيه: كالصلاة، وذكر الله، ومن جانب آخر عدم المغالاة في الكفن، والله تعالى أعلم.(117/7)
باب جواز غسل الرجل امرأته (أوصت فاطمة أن يغسلها علي)
.(117/8)
جواز غسل الزوج زوجته
وعن أسماء بنت عميس رضي الله عنها: (أن فاطمة رضي الله عنها أوصت أن يغسلها علي رضي الله تعالى عنه) رواه الدارقطني.
يأتي المؤلف أيضاً بعد حديث عائشة لقول رسول الله (لو مت قبلي لغسلتك) دل هنا على أنه يجوز للرجل أن يغسّل زوجته، وأن هذا الأمر مستفيض معروف عند الجميع، فهذه فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم توصي إن هي ماتت أن يغسلها زوجها علي.(117/9)
مسألة غسل الميت قبل موته وحكم ذلك
وجاء في ترجمتها في كتب السير والتراجم: أنها يوم أن توفيت بعد صلاة الظهر أحضرت ثيابها، وأحضرت الماء، وتغسلت وغيَّرت ثيابها، وتوجهت على فراشها إلى القبلة، وأخبرت جاريتها وقالت: (أخبريهم إن مت أني قد اغتسلت) ولكن يُجمع العلماء بأن الغسل قبل الموت لا يجزئ عن غسل الميت بعده.
الذي يهمنا في هذا الحديث أن فاطمة أوصت، ومن المعلوم أن عندها رضي الله عنها وأرضاها علماً، والذي تحمَّل الوصية عنده علم، والموصى إليه -وهو علي رضي الله عنه- عنده علم، إذاً تغسيل الزوج للزوجة مستفيض مشهور.
والله تعالى أعلم.
هناك من يقول يا إخوان: إن كان أحد الزوجين يغسل صاحبه فيجب أن يستر العورة، بأن يضع شيئاً ساتراً على العورة، وإذا احتاج موضع العورة لغسل، فمن تحت خرقة أو حجاب عازل عن العورة، ولا يلامس العورة، أما بقية الجسم فله ذلك.(117/10)
باب جواز غسل الرجل امرأته (تغسيل الرجل لزوجته)
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها (لو مِت قبلي لغسلتك) الحديث.
مت: بالضم والكسر والكسر أفصح.
عن عائشة رضي الله تعالى عنها، وفي حديثها الذي أشرنا إليه سابقاً (بأن الرسول صلى الله عليه وسلم رجع من جنازة بالبقيع، فمر عليها عاصبة رأسها تقول: وا رأساه! فقال: بل أنا يا عائشة! وا رأساه، ثم قال لها: وما يضرك إن أنتِ مِت قبلي، فقمتُ عليكِ، وغسلتك، وكفنتك، وصليت عليك؟ قالت: ما إخالك إلا أن تُعرِّس على فراشي من ليلتها) والمؤلف يسوق هذا من حديث عائشة: (لو مِت قبلي غسلتك) وهذا فيه دليل على أن الزوج يغسل زوجته.
إذاً: لم يبق حاجة إلى وجود الخلاف في أن الموت هل ينقضي به العقد الزوجي، أو أنه يرفع المحرمية فيما بين الزوجين؟ فالرسول يقول لـ عائشة: (لو مِت قبلي غسلتك) إذاً أثر الزوجية باقٍ، والذين يقولون هي تغسله وهو لا يغسلها، أو هو يغسلها وهي لا تغسله، كل هذا استنباط بعيد عن هذا النص الموجود، وقدَّمنا بأن عائشة قالت (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسَّل رسول الله إلا أزواجه) إذن من الطرفين.
وأسماء بنت عميس زوجة أبي بكر (لما توفي الصديق رضي الله تعالى عنه غسلته، ثم خرجت على الناس وهم ينتظرون، قالت: ما تَبِعُون عليَّ -اليوم شديد البرد- وقد غسَّلت أبا بكر فهل ترون عليَّ من غسل؟) وذلك لحديث: (من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ) فحمل الجمهور معنى: (من غسَّل ميتاً فليغتسل) على عموم الموتى، لأن الميت عادة ربما يكون عليه أو على ثيابه أشياء إذا جاءها الماء انتشر الرذاذ فيصل إلى الإنسان المغسِّل، فينبغي أن يغتسل من هذا السبب.
وإذا حمل ميتاً فليتوضأ؛ لأنهم كانوا يحملون الموتى من بيوتهم إلى مصلى الجنائز؛ فإذا أراد الحامل له الصلاة عليه فلابد أن يكون متوضئاً من أجل أن يصلي مع الناس، قالوا: وليس حمل الميت من نواقض الوضوء، وليس تغسيل الميت موجباً للغسل، ولكن أعتقد والله تعالى أعلم أن الغسل والوضوء قبل أن يباشر تغسيل الميت؛ لأن ذلك أفضل؛ لأنهم قالوا: لا ينبغي لحائض ولا لجنب أن يغسل ميته.
إذاً: حالة غسل الميت قربة ودعاء يقدم بين يدي الله، فينبغي للشخص الذي يتقدم لهذا أن يكون على حالة طيبة.
وكذلك حمله، إذا حمله وهو متوضئ، ودعا الله له، واستغفر له ولنفسه، فإنه يكون على حالة من حالات التهيؤ للعبادة، فيكون الغُسْلُ ليس بعد الغسْلِ، ولكن كما قيل: ما قارب الشيء يعطى حكمه، مثل (كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) لا يقول ذلك حينما يدخل، بل إذا أراد الدخول وذلك قبل أن يدخل.
ومثله {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل:98] أي: إذا أراد القراءة.
فالذي يظهر لي -والله تعالى أعلم- أن الندب للغسل لمن سيغسل الميت من باب كمال الحالة من ناحية عبادية أو ناحية روحية تكون مصلحة للمغسل.
ويشهد لهذا ما سيأتي في موت إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أرادوا إنزالها في القبر، قال صلى الله عليه وسلم (من لم يقارف الليلة فلينزل) من لم يقارف، معلوم بهذه الكناية أنه يراد بها: من لم يأت زوجته تلك الليلة فلينزل، والذي أتى زوجته يبعد، سبحان الله! لأن الذي قارف زوجته حديث عهد بأمر دنيوي وشخصي، والذي لم يقارف كأنه بعيد عن هذا، مع أن بعض العلماء يقول: الذي قارف زوجته حينما يلحد امرأة يكون أبعد من أي شيء، بخلاف الذي له مدة لم يقارف، وقيل: هذه الحالة خاصة.
فنزل عثمان بن مظعون، وبعضهم قال: الذي نزل كانت مهمته لحد الموتى، وعثمان زوجها كان موجوداً، وبعضهم يقول: إنما أراد الرسول شيئاً آخر بالنسبة لـ عثمان.
الذي يهمنا هنا هو أن الإنسان الذي يغسل الميت يجب أن يكون على حالة تكون أقرب إلى الكمال للإنسان المسلم من غيرها.
وفيه أن الزوج يغسل الزوجة، والزوجة تغسل الزوج، وقد تقدم الكلام على تغسيل النسوة الأجانب للرجل الأجنبي، وعدم التغسيل، وقلنا بأنهم يتفقون بأنه إذا ماتت امرأة في جمع من الرجال، ولا توجد امرأة تغسلها ولو حتى كتابية -فإذا وجدت امرأة كتابيه فإنها تغسليها- وبعضهم يقول: الكافر لا يغسل مسلماً أبداً؛ لأن تغسيل الميت عبادة يحتاج إلى نية، والكافر لا تصح نيته، فنحن ننوي ونغسلها أفضل من أن ندفنها بدون تغسيل، وقال بعض العلماء: الرجال ييممون المرأة، والنسوة ييممن الرجل.
أما الأطفال الذين ليست لهم عورة، وهم من دون السبع سنوات، فمن حضره من رجال أو نسوة فلا مانع من غسله، وإن كان أحمد رحمه الله يكره للرجل أن يغسل الفتاة في سن السابعة فما بعدها.
والله تعالى أعلم.(117/11)
الصلاة على المقتول حداً
.(117/12)
أصناف الموتى بالنسبة للصلاة عليهم
وعن بريدة رضي الله عنه في قصة الغامدية التي أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم برجمها في الزنا، قال (ثم أمر بها فصلي عليها ودفنت) رواه مسلم.
هذا مبحث في الصلاة على عامة الناس في حالات مختلفة، عامة الناس يصلي عليهم -كما تقدم لنا- أولى الناس بهم إن لم يكن الميت قد أوصى، فإن لم يكن أوصى ولم يوجد أولى الناس به فالإمام الراتب، وفي هذا الحديث امرأة أقيم عليها حد، فهل يصلي الإمام الراتب على من أقيم عليه الحد أم لا؟ لنعلم أولاً أن الإمام الراتب لا يصلي على فاجر أو مشهور بالفجور والفسق، أو أنه رُجم حداً بغير توبة، أما إذا تاب وقدم نفسه كـ الغامدية وكماعز وغيرهم، فسيأتي الكلام عليه.
الغالّ الذي أخذ من الغنائم ومات لا يصلي عليه الإمام الراتب؛ لأن في صلاته عليه تشجيعاً على ذلك الفعل، ولكن لا يترك بدون صلاة، إنما يصلي عليه عامة الناس.
إذاً فالموتى على أقسام: عامة المسلمين يصلي عليهم أولى الناس بهم، أو الإمام الراتب، أو من أوصى بأن يصلي عليه.
الشهداء لا صلاة عليهم عند الجمهور.
الذي مات بسبب أو بحادث إن كان فيه خطيئة، كالذي غلّ من الغنيمة، والذي قتل نفسه عمداً -لا أن يكون تسبب في قتل نفسه دون قصد- لأنه وقع في خيبر أن رجلاً قاتل قتالاً شديداً، ثم رجع سلاحه عليه فقتله، فتكلم الناس وقالوا: قتل نفسه بسلاحه.
يعني: شكّوا في شهادته، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال (له أجره مرتين) يعني: له أجر شهيدين.
إذاً: الذي يقتل نفسه عمداً لأمر من أمور الدنيا، فهذا لا يصلي عليه الإمام الراتب، وإنما يصلي عليه أهله، كما تقدم.
المدين الذي ليس عنده وفاء لدينه، ما كان يصلي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يأمر أهله أو يترك غيره يصلي عليه.(117/13)
حكم الصلاة على من قتل في حد
أما الذي قتل في حدٍ بأن أخذ قسراً، أو تقدم بتوبة إلى الله وإلى ولي الأمر وأقام عليه الحد، فهل يصلي عليه الإمام أم لا يصلي عليه؟ الجمهور أنه يصلي عليه، وهذه الغامدية لما جيء بها أول ما جاءت وهي حامل قال لها صلى الله عليه وآله وسلم (اذهبي حتى تضعي حملك) لأنه إذا رجمها مات الحمل، وما ذنب الحمل يموت في هذه الحال فذهبت، حتى وضعت الحمل ثم جاءت، فقال لها: (اذهبي حتى تفطميه) لأنها إذا أقيم عليها الحد فمن سيتولى هذا الطفل؟ فذهبت حتى فطمته، وجاءت به وفي يده كسرة خبز يأكل منها، قالت: قد فطمته، فأقام عليها الحد، فقال رجل كلمة بمعنى أنه ردها وجاءت وجاءت، فهذه تموت كميتة.
، قال كلمة ما كانت تناسب أن تقال، فقال رسول الله (مه! لقد تابت إلى الله توبة لو قسمت على أهل المدينة لوسعتهم) وبعض الروايات (لو قسمت على سبعين رجلاً لوسعتهم، أتجد أكثر من أن تجود بنفسها لله؟!) قالوا: وصلى عليها.
هناك من يقول: لا ينبغي أن يصلى على من مات في حد ولو جاء تائباً؛ لأن في ذلك تشجيعاً على الفعل، والآخرون ينظرون إلى الحالة ما كل من قتل في حد يتساوى مع الآخرين، فهذه جادت بنفسها وتركت حتى تضع الحمل ثم حتى ترضعه حولين كاملين، ثم بعد ذلك ما تركت، وكان يقول الراوي: وكنا نرى لو لم تأت لم يطلبها رسول الله إذاً: في مثل هذه الحالة طرفان: من كان آثماً في موته فلا يصلي عليه الإمام، ومن كان تائباً كهذه الغامدية فبعضهم يلحقها بالتائبين، وكأنه لا أثر لذنبها الأول، وبعضهم يقول: هذه قتلت في غير حالة عادية، أو في حد عليها، فيصلي عليها أهلها والله تعالى أعلم.(117/14)
باب لا صلاة على من قتل نفسه
.(117/15)
مسألة: الصلاة على قاتل نفسه حيث أنه مازال مسلماً
وعن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال (أُتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه) رواه مسلم.
هذا يبين عكس المتقدم (أن رجلاً قتل نفسه بمشاقص) المشاقص جمع مشقص، وهو نوع من آلة الحديد، وجاءت روايات على أن رجلاً هاجر إلى المدينة فاجتوى هواءها ولم يصح، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أقلني بيعتي يا رسول الله -لأنه كان قد بايع رسول الله على الإسلام- قالها مرتين أو ثلاث فلم يجبه، فذهب ووضع ذبابة السيف في صدره وقتل نفسه، فلم يصل عليه صلى الله عليه وسلم) وبعضهم يأتي برواية أخرى: أن رجلاً قاتل ثم قطع إصبعه، فتأذى فأجهد عليه فنزف فمات.
كل هذه الحالات وكل هذه الروايات تبين أن من قتل نفسه لا يصلي عليه الإمام، ولكن لا يترك بدون صلاة؛ لأن قتل النفس لا يخرجه من عموم الإسلام، هو مسلم بصفة عامة، وحقيقة أمره مردها إلى الله.
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أن من قتل نفسه بآلة أو بسبب فهو يعذب بذاك السبب إلى يوم القيامة (من تجرع سماً فمات فهو يتجرعه إلى يوم القيامة من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يُوجأ بها إلى يوم القيامة)(117/16)
الانتحار أو قتل النفس سببه ضعف في الإيمان
فنهى صلى الله عليه وسلم عن قتل النفس -وكما يسمى: الانتحار- والإسلام ليس فيه انتحار قط، والمسلم الحقيقي لا يجد مأزقاً ينتحر فيه؛ لأن الانتحار إما لضيق معيشة، أو لنزول مصيبة، أو لفرار من عدو.
وضيق العيش قد نفاه الله سبحانه وتعالى بقوله: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22] {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:23] .
ويذكرون أن أعرابياً كان يمشي فسمع قارئاً يقرأ: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22] فنحر ناقته وقسمها، ثم مضى بقية العام ثم جاء إلى مكة وعندما كان يطوف سمع ذاك القارئ مرة أخرى يقرأ تلك الآية وقرأ بعدها: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:23] فقال: أغضبوه فأقسموه، أغضبوه فأقسموه، وخر ميتاً! عظم عليه أن يسمع القسم من الله على أنه يرزقهم: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} [الذاريات:23] يعني: في السماء رزقكم حقاًَ فعندما سمع قوله: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الذاريات:23] صعق عندما سمع هذا القسم بعد أن قال: أغضبوه فأحلفوه.(117/17)
عدل الحاكم يساعد على تقليل أو إغلاق باب الانتحار
إذاً: المسلم ليس عنده ضائقة رزقٍ يمكن أن ينتحر بسببها، وقد ضمن بيت مال المسلمين حصة للفقراء والمساكين بما يكفيهم، سواء كان من الزكاة، أو كان من الفيء من الغنائم وغيرها، بل يقول عمر رضي الله تعالى عنه: (لو مات رجل وسط حي من الناس فاقةً وجوعاً، لحملتهم ديته؛ لأنه كان عليهم حقاً أن يطعمونه) .
وعلى هذا ليس هناك انتحار بسبب ضائقة مالية.
وما جعلت العدالة والخلافة والإمامة والسلطان إلا لتأمين الخائف وكذلك رفع الظلم.
إذاً: يكون ضيق في النفس فقط، ولهذا إحصائيات العالم في الانتحار تحصى بالدقائق في أوروبا وفي أمريكا وفي غيرها.
ومن فضل الله ولله الحمد والمنة حالات الانتحار في المسلمين أقل ما يمكن أن تكون نسبة، لماذا؟ لأن المؤمن من قواعد إيمانه الإيمان بالقضاء والقدر، فيؤمن بأنه من عند الله، إذن هو يؤمن بأن قضاء الله ماضٍ، ويعلم بأن الله أعلم له بمصلحته، وعلى هذا لا يتفق أبداً انتحار مع إسلام، إذن لماذا يقتل نفسه؟ يكون في غيبة عن الإيمان، كما جاء الحديث (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) لا يقتل، لا يشرب، لا يسرق وهو مؤمن، كأن الإيمان كما قال ابن رواحة: (الإيمان كالقميص تلبسه فإذا أنت خلعته.
] .
وهكذا يكون الإيمان في وجوده مع الإنسان وفي يقظة ضميره مع الله، مستحيل أن يقدم على انتحار، أما إذا غفا هذا الضمير وغاب هذا الإيمان، وضعف هذا الوازع، هناك يفعل ما قدر له.
والله تعالى أعلم.(117/18)
باب الصّلاة على الميت بعد دفنه
.(117/19)
حكم الصلاة على الميت في قبره
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (في قصة المرأة التي كانت تقم المسجد فسأل عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ماتت، فقال: أفلا كنتم آذنتموني، فكأنهم صغَّروا أمرها، فقال: دلوني على قبرها، فدلوه، فصلى عليها) متفق عليه وزاد مسلم (ثم قال: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم) .
فمن فاتته صلاة على الميت، هل يصلي عليه في قبره، وهل يصلى على الموتى في قبورهم أم لا؟ هذا عنوان المسألة، ولكن جاء المؤلف بهذه القصة، والتي تدل دلالة واضحة على أعلى وأقصى ومنتهى مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم، ومنتهى رحمته ورأفته بالمؤمنين، في الحديث: امرأة سوداء، تقم المسجد، أي: تكنس المسجد، مرضت فافتقدها صلى الله عليه وسلم، ولذا فبعض الروايات تقول (وكان صلى الله عليه وسلم يحب المساكين ويتفقدهم، ويزورهم إذا مرضوا) فافتقد هذه المرأة التي كانت تقم المسجد، ما هي امرأة تطعم المصلين، ولا تكسو العارين، ولا تفعل ولا تفعل، بل تقم المسجد، وفي الحديث (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة؛ أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) وفي حديث (حتى القذاة ترفعها من المسجد) فهذه امرأة تقم المسجد، فمرضت، فافتقدها صلى الله عليه وسلم فسأل عنها، قالوا: مريضة، قال: (إذا ماتت فآذنوني) أي: أعلموني بموتها، قالوا: فماتت ليلاً، فكرهنا إزعاج رسول الله من أجلها.
فهنا تعارض العقل مع العاطفة، العقل يقول: امتثلوا الأمر: (آذنوني) ، والعاطفة تقول: لا تزعجوا رسول الله، فعدم إزعاجه أمر عاطفي ليس عقلياً، وإعلامه بموتها ولو في منتصف الليل، في الليلة المطيرة الباردة أمر عقلي امتثالاً للأمر، وكما يقال في ذلك: إذا تعارض العقل مع العاطفة حصلت الحيرة الشديدة، فقدموا جانب العاطفة؛ لأنهم لم يؤذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إكراماً واحتراماً وإراحة لرسول الله من عناء الليل، فدفنوها، فلما أصبح ما نسيها، فسأل عنها، قالوا: ماتت، قال: (أفلا كنتم آذنتموني، قالوا: كرهنا أن نوقظك ليلاً) فاعتذروا بالعاطفة.
وهنا نجد أن رسول الله لم يعتب عليهم ولم يعنفهم، ولم يعاقبهم، ولم يجعل عليهم إثماً في عدم امتثال الأمر، بل عذرهم بتقديم العاطفة، ولكن ماذا يفعل علاجاً للواقع؟ فقد وقع أمر لم يكن يريد وقوعه صلى الله عليه وسلم، قال: (دلوني على قبرها) تداركاً لما فات، فدلوه على قبرها، فذهب إلى البقيع، ووقف على قبرها، وصلى عليها.
هنا عنوان مسألة: الصلاة على الميت في قبره، والصلاة على الغائب، وهما مسألتان مقرونتان، أما الصلاة على الغائب فسيأتي للمؤلف صلاته صلى الله عليه وسلم على النجاشي، يوم أن مات فنعاه لأصحابه، وخرج بهم وصلى عليه في يومه وهو في الحبشة، وأما الصلاة على القبر فبعض العلماء يقول: لا صلاة على القبر، وبعضهم يقول: يصلي مطلقاً بدون حد، وبعضهم يقول: إلى حدود الشهر، إن كان دفن وهو ممن يحب أن يصلي عليه، أو أنه دفن ولم يوجد من يصلي عليه، فدفن بدون صلاة، قالوا: إنه يصلى عليه في القبر، وإذا دفن بدون غسل أو كفن، وكان الوقت قريباً (قبل أن تتبدد الجثة) نبش وغُسِّل وكُفِّن وصلي عليه، وأعيد دفنه، أما إذا غسل وكفن، ولم يوجد من يصلي عليه، ثم دفن، فيصلى على قبره، بعضهم يقول: إلى ثلاثة أيام قبل أن تتغير الجثة، وبعضهم يقول: إلى شهر، ويستدلون بفعله صلى الله عليه وسلم في الصلاة على القبر.
ثم زادت رواية مسلم عبارة تبيّن ميزة صلاته صلى الله عليه وسلم على الميت (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أصحابها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم) وهذا من فضل دعائه صلوات الله وسلامه عليه للميت المقبور، فالله يستجيب دعاء رسوله، وينور القبر على صاحبه.(117/20)
فوائد مستفادة من حديث الصلاة على المرأة التي كانت تقم المسجد
الحديث من حيث هو يسوقه المؤلف رحمه الله دليلاً لجواز الصلاة على القبر، ثم فيه تكريم أهل الصلاح وفعل الخير، بصرف النظر عن شخصياتهم، ثم فيه عناية النبي صلى الله عليه وسلم بنظافة المساجد، هذه ثلاث نقاط محل البحث في هذا الحديث: أولاً: تكريمه صلى الله عليه وسلم لأهل الخير وفعل الخير، فهذه امرأة من عامة المسلمين، يعنى بها صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في خبرها أنه افتقدها (فقالوا: إنها مريضة، فقال: إذا ماتت فآذنوني -أي: أعلموني- فماتت ليلاً، قالوا: فكرهنا أن نشق على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفناها، فلما أصبح سأل عنها، قلنا: ماتت، قال: هلا آذنتموني؟ -يعني: كما أخبرتكم- فاعتذروا فقالوا: كرهنا أن نشق عليك ليلاً) وفي رواية (كأنهم تقالوا أمرها) يعني: لأنها امرأة من عامة الناس، ما هي من ذوات المناصب، أو الحسب، ولا يوجد من كبار الصحابة من ينتمي إليها فتكرم من أجله، فهي امرأة عادية، فبين أبو هريرة أن فضلها وعناية النبي بها إنما هو لذاك العمل الجليل الذي كانت تقوم به، وهو أنها تقم المسجد، أي: تجمع القمامة من المسجد، أي: تقوم بعمل الكناسين، وتنظف المسجد، ومن هنا كانت عناية النبي صلى الله عليه وسلم بها.
وفيه خدمة النساء للمساجد، ما لم توجد خلوة مع أحد من المصلين، وليس لها عمل أهم منه، فهي تقم المسجد، والمؤلف رحمه الله ساق الحديث لجواز الصلاة على القبر.
أما العناية بالمساجد فقد تقدم في هذا الكتاب المبارك في أول باب المساجد (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ببناء المساجد في الدور، وأن تطيب وتنظف) تلك هي العناية بالمساجد، بل قال صلى الله عليه وسلم (عرضت علي أعمال أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد) وقال (البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها) ، (ورأى النبي صلى الله عليه وسلم نخامة في جدار القبلة في مسجد من المساجد، فأخذ صلى الله عليه وسلم يحتها بطرف ردائه، وقال لهم لا يؤمنكم إمامكم هذا بعد اليوم) أي أنه عزل الإمام عن الإمامة؛ لأنه لم يراع حرمة المسجد، وبعضهم قال: لأنه تنخم وهو في الصلاة أمامه، وقد نهى صلى الله عليه وسلم المصلي أن يبصق أمامه في الصلاة، وقال (فإن الله تجاه وجهه، فليبصق تحت قدمه اليسرى) وقالوا: في المنديل أو في نحو ذلك.
وقبل هذا كله جاء الأمر بذلك في كتاب الله، وذلك في موطنين: منهما قوله سبحانه: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} [النور:36] أن ترفع، أي: حساً ومعنى، لأن رفعة البناء تدل على عظمته وتقديره، والعناية به، وانخفاض البناء يدل على تحقيره وعدم أهميته، وترفع معنوياً أيضاً بالذكر وبالعلم، وبالحفاظ عليها.
والموطن الثاني في مقارنة بين البناء وبين الصيانة والحفاظ، ففي بيت الله الحرام يقول سبحانه: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة:127] يرفع إبراهيم: إسناد رفع القواعد من البيت لإبراهيم وإسماعيل جاء معطوفاً على إبراهيم كالمساعد؛ لأن إسناد رفع القواعد لإبراهيم وحده، {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة:127] لكن في العناية وفي النظافة، وفي الرعاية؛ جاء إسناد ذلك لإبراهيم وإسماعيل معاً على المشاركة، {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} [البقرة:125] أي: وعهدنا إليهما معاً: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي} [البقرة:125] بألف التثنية، فشرَّك بينهما في العناية بالبيت الحرام في تطهيره من الأرجاس، ومن الأصنام، ومن الأوساخ، إلى آخره.
ومن هنا يتضح لنا أن العناية أهم من البناية، لأن البناية تقام مرة واحدة، فهذا المسجد النبوي الشريف، وجدنا هذه البناية الفخمة الضخمة العظيمة، انتهى أمرها بتكاليفها وميزانيتها، وبقيت الصيانة والعناية، فالبناية مرة واحدة أياً كان المشروع؛ محطة تصفية -أي تحلية المياه-، محطة توليد الكهرباء، فإذا انتهت إقامتها بقيت العناية والرعاية بها، مدة تشغيلها طول عمرها، إذاً: العناية والرعاية لكل مشروع أهم من إنشائه، فكان هنا {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا} [البقرة:125] أي: فهذه رعاية البيت أسندت إليهما معاً.
ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم يعنى بالمساجد، بل كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم رجل خاص يجمر المسجد، أي: يأتي بالمجمرة وفيها الجمرة، وعليها العود، ليطيب بها المسجد، وكان هذا الأمر معمولاً به إلى عهد قريب حضرناه، ولا يزال حتى الآن يوم الجمعة، وكان يعهد به الأمير في رمضان في صلاة التراويح، ويطيب المسجد بالعود ويجمر.
إذاً: هذه المرأة لكونها تقوم بهذا العمل، سواء كانت سوداء أو بيضاء أو حمراء، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم عني بها وكرمها، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] كرمها بحسن عملها، وبعنايتها ورعايتها للمسجد في أنها كانت تقمه، هذا من جانب تكريمها.
الجانب الثاني: الصلاة على قبرها، من الناحية الفقهية نجد العلماء قد يختلفون: هل يصلى على القبر بصفة عامة أم لا؟ فأول الأقوال: لا يصلى، والذين قالوا: لا يصلى استدلوا بالزيادة التي زادها مسلم (فإن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم) فقالوا: (بصلاتي) هذه خاصة به صلى الله عليه وسلم، وليست صلاة كل إنسان ينور الله بها قبر من صُلِّي على قبره، والمجيزون قالوا: لقد ذهب معه أشخاص وصلوا معه، فهذه صلاة غير رسول الله من أصحابه معه، فقال المانعون: التابع ليس كالأصيل، هم تبع لرسول الله، والمجوزون قالوا: لو أنه لا يجوز أن يصلى على القبر لبيَّن صلى الله عليه وسلم وقال: لا تفعلوا أنتم، كما جاء في بيان الخصوصيات، فالذين قالوا: يصلى قالوا: لفعله صلى الله عليه وسلم ولتقريره هذا، وهو يعلم أنهم يرونه ويشاركونه في الصلاة، ويتأسون بفعله صلوات الله وسلامه عليه.
ثم اختلفوا: إلى متى يصلي، فبعضهم يقول: إلى ثلاثة أيام، وجاء أيضاً (أنه صلى الله عليه وسلم مر على قبر رطب فصلى عليه) يعني: مدفون حديثاً، ولا يزال ترابه طرياً، وقوم قالوا: إلى شهر، فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم (أن أم سعد توفيت وهو غائب، فلما قدم صلى عليها صلى الله عليه وسلم بعد دفنها) قيل: بشهر.
إذاً: الحديث جيء به لبيان الأحكام من حيث جواز الصلاة على القبر، فهناك من يمنع ويقول: هذه خصوصية، ولكن دعوى الخصوصية تحتاج إلى دليل، والمجوزون يختلفون، فمنهم من يقول: إلى ثلاثة أيام، ومنهم من يقول: إلى شهر، والبعض من يقول: ما لم يترب، أي: ما لم يصر تراباً.
فالجمهور على جواز الصلاة على القبر، ويختلفون في المدة التي يمكن أن يصلى فيها، والكلمة المجملة أن يقال: ما دام يغلب على الظن أن الميت لم يتفسخ.(117/21)
كتاب الجنائز [7]
مسألة نعي الميت لها حالات منتشرة بين الناس: فهو إما لتجهيزه والصلاة عليه، وإما للصلاة عليه فقط، وإما للمباهاة والمفاخرة بهذا الميت، وإما نوحاً عليه وتفجعاً وندبةً، وفي هذه المادة بيان هذه المسألة وما يتعلق بها(118/1)
باب كراهية النعي(118/2)
حكم نعي الميت
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان ينهى عن النعي) رواه الترمذي وحسنه.(118/3)
أنواع النعي والجمع بين النهي والفعل
يلاحظ في هذا دقة العلماء وأن فن التأليف ليس مجرد جمع نصوص! ففي هذا الحديث كان صلى الله عليه وسلم ينهى عن النعي، وبعده مباشرة يأتي المؤلف بحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى، فقد نعى النبي صلى الله عليه وسلم في يوم موت النجاشي، فكيف ينهى عن النعي، وكيف نعى؟! وهذا كما أشرنا سابقاً فيما يظهر ذلك بدقة أكثر في الموطأ وصنيع الإمام مالك في الموطأ في إيراد الأبواب يفسر بعضها بعضها، فهنا اتفق الجميع.
ما هو النعي؟ قالوا النعي: خاص بالإخبار عن الميت، مات فلان، ثم يقول ابن عبد البر: النعي على ثلاثة أقسام: نعيٌ لمجرد إخبار أهل وأصدقاء الميت من أجل القيام بواجبه من تجهيزه والصلاة عليه والدعاء له ودفنه، فهذا لا بأس به.
ونعي للمكاثرة والمفاخرة وأن يذهب أشخاص إلى الأسواق أو إلى غير ذلك، ويعلنون موت فلان، فهذا للمكاثرة والشهرة والكثرة، وهو لا يجوز.
ونعي كنعي الجاهلية: يا سندنا يا سيدنا يا صفوتنا يا كذا، ويصفونه بصفات أكثرها زور وبهتان، فهذا من النعي المحرم الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: النعي إخبارٌ بموت الميت، هذا الإخبار إن كان لمجرد الإعلام بموته عند ذويه وأقاربه وأصدقائه، ومحبيه ليشاركوا في مصالحه: من تجهيز ودفن وصلاةٍ عليه، ودعاء له، فهذه سنة، وما عدا ذلك فهو داخل في النهي؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مع نهيه عن النعي، نعى النجاشي لأصحابه.
إذاً بهذين النصين واقترانهما نجد أن هناك نعياً منهياً عنه، ونجد هناك نعياً واقعاً بالفعل منه صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن أن يجتمع النهي والفعل، كما أن السلب والإيجاب لا يجتمعان؛ لأنهما نقيضان لا يجتمعان.
إذاً النعي المنهي عنه: ما كان فيه من صفات الجاهلية.
والنعي المثبت المشروع هنا: ما كان من حق الميت وفي مصلحته، ثم إن العلماء ذكروا ناحية أخرى وهي أن الميت إذا نعي نعياً كنعي الجاهلية، فإذا وضع في القبر أتاه الملكان يعذبانه ويقولان: أأنت كذا؟ ويضربانه، فيقول: أنا ما قلت، كما جاء عن عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه: (أنه مرض فأغشي عليه، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم وعاده وقال: اللهم إن كنت جعلت له بقية في العمر فعافه، وإن كنت كتبت له كذا فسهل عليه، فتعافى وصح وقال: يا رسول الله! أمي كانت تقول كذا أو أختي كانت تقول كذا، فكنت أعذب على ذلك.
من هنا قالوا: من نعي نعياً كنعي الجاهلية، فإنه يعذب بهذا النعي، فقيل: وما ذنبه وإنما كان النعي من الآخرين، فأجابه: أنه إذا كان يعلم من طبيعة أهله أنهم يفعلون ذلك، فوجب عليه أن يحذرهم، وأن يمنعهم في حياته كما جاء عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه قال: إذا مت فلا تنعوني أي كنعي الجاهلية، فإذا كان يعلم من حالهم أنهم يفعلون شيئاً من ذلك، وأوصاهم أن لا يفعلوا وقال: أنا لا أقبل ذلك، برئت ذمته، ومن فعل أقاربه شيئاً من ذلك بعد هذا فعلى أنفسهم، ويكون هو قد خرج من العهدة.(118/4)
نعي النبي صلى الله عليه وسلم النجاشي وصلاته عليه
نأتي إلى الحديث الثاني وهو (أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي لأصحابه في اليوم الذي مات فيه) وعرفنا بأن نعي النبي صلى الله عليه وسلم، إنما هو مجرد الإعلام ولا شك، والنجاشي كان في الحبشة وهم بالمدينة، لا توجد هواتف ثابتة ولا جوالة ولا وسائل إعلام حديثة، لم يكن إلا الوحي، ولم يكن إلا المعجزة، كما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم، أو ما يقع لبعض صالحي الأمة، كما وقع لـ عمر حين قال: (يا سارية الجبل) وإن كان بعض الناس، يطعن في هذه القصة وفي الرواية ويرتب عليها أشياء لا طائل تحتها، بل قالوا: النبي صلى الله عليه وسلم كشف له ما بينه وبين الحبشة.
نقول: الرسالة والنبوة والأمور الغيبية، لا نتدخل فيها، ويكفي أن نثبت الخبر، وقد جاء في غزوة مؤتة، وكان ثالث الأمراء ابن رواحة وذلك لما أرسل صلى الله عليه وسلم جيشاً قوامه ثلاثة آلاف، وأميرهم زيد بن حارثة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن أصيب: فـ جعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فـ عبد الله بن رواحة، فإن أصيب فليختر المسلمون رجلاً منهم) ثم كشف الله له عن سير المعركة في يومها، فجلس على المنبر ثم قال (أخذ الراية زيد فأصيب، ثم قال: أخذ الراية جعفر فأصيب، ثم قال: أخذ الراية عبد الله وصمت، فلما صمت شك أو توهم الأنصار أنه وقع بـ ابن رواحة ما يكرهون، ثم أعاد وقال: أخذ الراية عبد الله بن رواحة فأصيب) فكان أشد إيلاماً على الأنصار في هذه الواقعة.
فهنا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الذي أخذها أصيب ثم أخذها فلان، وجاء في ترجمة ابن رواحة أيضاً، وفي قصة مؤتة أن رجلاً جاء بخبرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن شئت أخبرتنا، وإن شئت أخبرتك بالواقع، قال: أخبرنا يا رسول الله! فذكر له ما وقع بالفعل، فقال: والذي بعثك بالحق: ما غيرت حرفاً واحداً مما وقع، ثم قال صلى الله عليه وسلم: الآن أخذ الراية سيفٌ من سيوف الله ألا وهو خالد بن الوليد يفتح الله عليه أو يفتح الله إليه) يهمنا بأن الله سبحانه وتعالى يفعل لرسوله ما يشاء، وقد يلهم إنسانٌ عن أمر بعيد عن الواقع، ويكون حقاً، هذه أمور بعيدة عن الحس، وليس للعقل فيها تحكم، ولكن الأمر للواقع الفعلي.
فهنا نقول: نعى النبي صلى الله عليه وسلم النجاشي لأصحابه -أي أعلمهم بموته- والنجاشي كما يقولون، لقب مُلك، وليس لقب شخص، فكل من حكم الحبشة يسمى (نجاشي) .
وكان نجاشي الحبشة آنذاك اسمه أصحمة وقيل بالحبشية معناه: عطية، وقيل: ألفاظٌ أخرى، وقيل: كل من ملك الروم قيصر، وكل من ملك الفرس كسرى، وكل من ملك القبط في مصر فرعون، وكل من ملك مصر في غير القبط يسمى العزيز وكل من ملك اليمن يسمى تبعاً، وهكذا ألقاب للملوك وليس للشخص بذاته.
فـ النجاشي في ذلك الوقت كان لقب ملك الحبشة، فمن كان قبله يسمى نجاشياً، ومن كان بعده يسمى نجاشياً، كما هو معروف عند الناس في كسرى وقيصر.
بقي عندنا ما يتعلق بإخباره صلى الله عليه وسلم عن هذا النجاشي في ذلك الوقت، تجدون في منتقى الأخبار مع شرح نيل الأوطار تأتي روايات (مات اليوم رجلٌ صالح بالحبشة) وفي رواية أخرى (إن أخاكم النجاشي قد مات) فوصفه بأنه كان رجلاً صالحاً، وسماه أخاهم.
وكونه يخرج ويصلي عليه، فهل النبي يصلي على مسلم أم على غير مسلم؟ هذا أكبر دليلٍ على أن النجاشي رضي الله تعالى عنه أسلم وآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد نذكر ما كان من شأنه في السيرة النبوية، بأن النبي صلى الله عليه وسلم في سنة تسع لما اشتد الأمر على المسلمين بموت عمه وبموت زوجه خديجة رضي الله عنها، وكانت تسمى سنة الشدة، أو عام الحزن، واشتد حزنه صلى الله عليه وسلم، وتجرأ عليه بعض من كان لا يتجرأ في حياة عمه، وخرج إلى الطائف ثم رجع ثم قال لأصحابه (إن بالحبشة ملكاً عادلاً، أرى أن تهاجروا إليه لا يضام أحد في جواره) فقال: (ملكاً عادل) لأنه آنذاك، لم يبلغه خبر رسول الله، وفرقٌ بين كلمة (عادل) وبين (عدل) ؛ لأن العادل الذي يعدل في حكمه ويعادل بين المتساويين، وذلك مأخوذ من العِدْلة، والعِدْلة هي ما يكون في أحد شقي البعير، عِدلة عن اليمين وعِدلة عن اليسار، فإن تعادلت العدلتان في الوزن والثقل، وكان الحمل معتدلاً استراح البعير، وإن كانت إحدى العدلتين ثقيلة مال وكان البعير تَعِباً في هذا الحمل.
فالعادل يصدق على كل من عدل في الحكم، وكما هي كلمة عمر رضي الله تعالى عنه: لما بلغه أن عامله في مصر، أخذ دار امرأةٍ حينما أراد أن يبني الفسطاط، وجاءت واشتكت إلى عمر إلخ، كتب إليه كلمة ونصف فقال: (نحن أحق بالعدل من كسرى) المرأة تعجبت، هذا صاحب الهيمنة وصاحب كذا، يعطي هذه الرقعة وفيها هذه الكلمة، ماذا عساها أن تجدي؟!! وكانت تستثقل رحلتها من وإلى مصر، فلما وصلت وأعطتها إياه، وضعها على رأسه، وأمر العمال أن يهدموا كل ما بنوه على أرض المرأة، وأمر أن يقيموا لها بيتها على أحسن ما كان، قالت: واعجباً أميرهم هناك، وبهذه الرقعة يفعل كذا، والله هؤلاء الناس على حق!! وأسلمت! فنحن يهمنا قوله: (نحن أحق بالعدل من كسرى) .
إذاً: العدل صفة في الملك لمن أراد دوام ملكه، ويقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: (الملك يدوم مع العدل ولو لكافر، ولا يدوم مع الظلم ولو لمسلم) .
إذاً ملكٌ عادل: وهذا من عقلاء الملوك، فأشار النبي على أصحابه بالهجرة، فهاجروا إليه، فلما هاجروا أرسل أهل مكة بعد بدر للذين هاجروا إلى الحبشة ليثأروا لقتلى بدر، وأرسلوا عمرو بن العاص وكان من دهاة العرب وصديقاً للنجاشي في ذلك الوقت، أرسلوه بهدايا، فجاءه وسجد له على ما كان يتعامل معه، وقال: يا أيها الملك! إن أُناساً منّاً فارقوا ديننا ودين آبائهم، ولجئوا إلى بلادك وليسوا على دينك، وقد أرسلنا قومهم إليك لتردهم إلى قومهم، فقال: ما كان لي أن أرد قوماً اختاروني على غيري حتى أدعوهم وأسمع ما عندهم، وأعرف ما لديهم، فدعاهم، وكان جعفر رضي الله تعالى عنه، هو خطيب القوم.
وقال: لا يتكلم أحدٌ غيري، فلما دخلوا على النجاشي وعمرو بجانبه، لم يسجد للملك، فقال: انظر! لم يسجدوا لك كما نسجد، -بأسلوب فيه إثارة- فقال النجاشي: ما لك لا تسجد كما يسجد القوم؟ قال: أيها الملك! نحن لا نسجد إلا لله، قال: وما ذاك، قال: كنا في جاهليةٍ جهلاء يأكل قوينا ضعيفنا، ونأكل كذا، ونفعل كذا -وعدد المنكرات- ثم قال: فبعث الله فينا رجلاً منا نعرف نشأته ومولده ونسبه، وصدقه وأمانته، فأمرنا بعبادة الله وحده وبالصدق، وبالأمانة وصلة الأرحام و.
و.
إلخ.
وجد النجاشي كلاماً حسناً، كما قال دريد بن الصمة لما أرسل ولده من الطائف إلى مكة انزل وأتني بخبر هذا الرجل، فرجع إليه وقال: والله إنه ليأمر بالصدق وبأداء الأمانة وصلة الأرحام وكذا وكذا، قال: والله يا بني! إن لم يكن ديناً فهو مكارم الأخلاق.
فهذا قول رجل جاهلي، فكذلك النجاشي سمع كلاماً حسناً فغاظ عمرو بن العاص، وقال: اسأله ماذا يقولون في مريم وابنها عيسى.
انظروا يا إخوان! الأعداء كيف يكيدون للمسلمين، وكيف يثيرون الشبه، ليحرضوا عليهم أعداءهم، فسأله، فقال: أيها الملك! نقول ما قال الله فيه، قال: وماذا يقول الله فيه؟ فقرأ عليه مطلع سورة مريم ثم قال: نقول فيه: إنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم.
إلخ.
فما كان من النجاشي إلا أن أهوى إلى الأرض، وأخذ عوداً ثم قال: والله ما زاد صاحبكم على عيسى ومريم مثل هذه القشة على ما جاء في التوراة والإنجيل.
ومن هناك دخل الإيمان في قلب النجاشي، ثم قال لبطارقته: ردوا عليهم هداياهم، لا حاجة لي في هداياكم -أي: هدايا كفار قريش-، فإن الله لم يأخذ مني الرشوة على أن رد لي ملك أبي، وكانت له قصة مع أبيه ومع أخيه، ثم قال لـ جعفر وأصحابه: سبحوا في بلادي لا يؤذيكم أحد، من اعتدى عليكم كأنه اعتدى عليّ، فصاروا آمنين.
بعد فترة فإذا بـ عمرو يأتي إلى النجاشي مرةً أخرى، ويدخل رجل مُرسَل بكتاب من رسول الله إلى النجاشي، يشكره على ما صنع بالمسلمين، فذهب عمرو مع أصحابه ودخل على الملك، أو كانوا فروا من مكة لما سمعوا بالنصر في بدر، ولما سمعوا بظهور الإسلام، قالوا: نذهب عند النجاشي ليس لنا طريق إلا هو، ضاقت بنا الأرض، واجتمع عدد من الصحابة فراراً بالإسلام عند النجاشي يعيشون في ظل ملكه، فرأى عمرو هذا الرسول، فدخل على النجاشي وقال في نفسه: (لئن طلبت هذا الرجل من النجاشي أضرب عنقه، لرأت قريش أني صنعت شيئاً) ، فدخل على النجاشي، وقال: أيها الملك! أطلب منك أن تعطيني هذا الرجل أضرب عنقه، لترى قريش أني فعلت لها شيئاً! يقول: فما كان منه إلا أن صكني على وجهي، حتى سال الدم من أنفي ولطخ ثيابي، ثم كأنه أسف على ذلك، ثم قال: أتطلب مني رسولَ رسول الله الذي يأتيه الناموس من السماء، قال: أيها الملك! أتعلم بأنه رسول الله؟ قال: يا عمرو! والله إنه لرسول الله، ولينصرنه الله كما نصر موسى وعيسى قال: يا أيها الملك! أتبايعني على الإسلام له، قال: نعم، فبسط النجاشي يده وب(118/5)
صلاة الجنازة على الغائب
ومن فقه الحديث: هل لنا أن نصلي على الغائب أم لا؟ يقولون في الصلاة على الجنازة: (اللهم اغفر له اللهم ارحمه) والجنازة أمامنا وبين أيدينا، فإذا كان غائباً كيف نصلي عليه بالنية أو بالقصد؟!! فهناك من قال: لا يصلى على غائب، وهناك من قال: يصلى؛ لصلاته صلى الله عليه وسلم، وهناك من قال: هذه الصلاة خصوصية لماذا؟ قالوا: لأن الله لما كشف لرسوله موت النجاشي، كشف له عن جنازته، فلكأن النجاشي بين يديه وهو يكبر ويدعو له.
والآخرون يقولون: والذين خرجوا معه، وصفوا خلفه، وكبروا وصلوا على النجاشي هل كانوا يشاهدون الجنازة؟ ما كانوا يشاهدونها، وإنما صلوا تبعاً له، ومن هنا يختلفون في الصلاة على الغائب.
فبعض العلماء قال: إذا مات إنسان في بلد، ويغلب على الظن أنه لا يوجد فيها من يصلي عليه، ودفن بغير صلاة، صلينا عليه، ولكن وجدنا ذلك كما يقول الآخرون مدفوعاً، بأن لا تخلوا الحبشة من بعض المسلمين، وكذلك أيضاً ما دام قد فعل صلى الله عليه وسلم، ولم يخصص ذلك وذكروا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم صلّى على معاذ بن مقرن أو فلان، وهو في تبوك، والميت في المدينة، والحديث تكلم عنه ابن كثير بضعف؛ لأن جبريل أتاه وقال (إن فلاناً قد مات، فأسف عليه، قال: هل لك أن تصلي عليه؟ قال: بلى، فقال: بيده هكذا، وفرج له ما بينه وبين المدينة، فصلى عليه وهو يرى جنازته) .
فقالوا: هذا من خصوصياته صلى الله عليه وسلم، والجمهور على جواز الصلاة على الغائب، وأخذاً من هذا الحديث ومن فعله صلى الله عليه وسلم.(118/6)
من صلى عليه أربعون رجلاً موحداً يشفعون فيه
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول (ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه) رواه مسلم.
بدأ المؤلف يتجه إلى الصلاة على الجنائز، وبدأ ببيان فضل العدد الذين تتاح لهم الفرصة في الصلاة على الجنازة.
أولاً: هذا الحديث (ما من رجل يصلي عليه أربعون رجلاً ... ) جاءت روايات متعددة في هذا المعنى: (لا يشركون بالله شيئاً) وجاء: (مائة رجل) وجاء: (صلى عليه أمة يبلغوا أن يكونوا ثلاثة صفوف) ومن هنا استحب بعض العلماء: إذا كان العدد قليلاً أن يقسمهم الإمام إلى صفوف ثلاثة، ولو كان الصف شخصين فقط، لتعدد الصفوف على رواية ثلاثة صفوف، وجاء: (وصلى عليه أربعة من جيرانه الأدنين) وجاء: (صلى عليه أربعة، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: أو ثلاثة؟ قال: أو ثلاثة، قال: أو اثنان؟ قال: أو اثنان، يقول: وسكت أن أسأله عن الواحد) فهذه النصوص، جاءت أن من صلى عليه أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً أو مائة رجل أو أربعة رجال؛ يشهدون له، أو يشفعون فيه، إلا شفعهم الله فيه، وشفاعتهم فيه قالوا: يخلصون له الدعاء، فيدعون له بالمغفرة، وبحسن الجزاء إلخ، بنية خالصة، وبقصدٍ طيب بأن الله سبحانه وتعالى يغفر له، وبعضهم يقول: يشفعون، أو يشهدون له بالثناء عليه خيراً، وورد (بأن جنازةً مرت، فأثنوا خيراً، فقال صلى الله عليه وسلم: وجبت، وقيل: قالها ثلاث مرات، وجبت، وجبت، وجبت ومرت جنازة أخرى، فأثنوا عليها شراً فقال: وجبت، وجبت، وجبت، فقال عمر: ما وجبت يا رسول الله؟! قال: وجبت الجنة بالثناء عليه، ووجبت النار بذمه، أنتم شهداء الله على خلقه) وبعضهم يقول: هناك رواية الله أعلم بصحتها: (إن لله ملائكة تنفث على ألسنة الخلق بما تشهد به) كل هذه الروايات متكلم فيها، ولا ينبغي تعمد قول: ماذا تقولون؟ أو على ماذا تشهدون؟ لأن هذه أمور فيها إحراج، ولا ينبغي ذلك، إنما يكون عفوياً إذا اجتمع جماعة، وصلوا على ميت، وأخلصوا الدعاء له، هم بأنفسهم كانوا شفعاء له عند الله بدعواتهم وصلاتهم عليه.
فقال صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع أو ما صلى أربعون رجلاً على مسلم، أو على ميتٍ، لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه) وعلى ما تقدم من أن العدد ليس قاصراً على الأربعين ولا على المائة، وبعض العلماء يقول: هذا عدد لا مفهوم له، يعني: ليس له مفهوم مخالفة، فلو جاء عدد مائة ونقص واحد أو عشرة وصاروا تسعين، لا نقول إن هذا يبطل العدد، لا.
وبعضهم يقول: إن تلك الحالات أجوبة عن أسئلة قد صدرت.
بمعنى واحد يسأل: يقول: يا رسول الله! رجل صلى عليه أربعون رجلاً، أيشفعون فيه؟ قال: نعم.
ثم جاء رجل آخر وقال: رجل صلى عليه مائة رجل يشفعون فيه؟ قال: نعم.
يعني لم يكن ذلك ابتداءً وتحديداً من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن كانت أسئلة، والأسئلة مختلفة، تارةً يسأل عن أربعين، وتارةً يسأل عن أربعة، وتارةً يسأل عن مائة، وفي كلٌ يجيب: بنعم يشفعون فيه.
والله تعالى أعلم.(118/7)
كتاب الجنائز [8]
الصلاة على الجنازة حق من حقوق المسلم على أخيه المسلم، لكن لهذه الصلاة أحكام وسنن كثيرة ينبغي على المسلم استكمالها، حتى يحوز الأجر ويفوز بالفضل(119/1)
باب أين يقوم الإمام من الميت للصلاة عليه
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال (صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة ماتت في نفاسها، فقام وسْطها) متفق عليه.
هذا شروع في كيفية الصلاة على الجنازة، وذلك أن الميت إما أن يكون رجلاً أو امرأة أو أن يكون عدد من الموتى رجالاً أو نساءً، أو رجالاً ونساءً، فأين يكون موقف الإمام من الجنازة إن كانت واحدة رجلاً أو امرأة؟ وكيف توضع وترتب الجنائز إن اختلفت وتعددت، هنا يقول: (صليت وراء النبي على امرأة ماتت في نفاسها، فقام وسطها) الوسْط بالتسكين للمحسوس، والوسَط بالحركة للمعنوي، خير الأمور الوسَط، تقول: جلس فلان وسْط الدار، جاء يمشي وسْط رجلين، فبالتسكين للمحسوس، وبالتحريك للمعنوي، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم في وسْطها، لم يقف عند رأسها، ولا عند قدميها، بل في الوسْط، وهذه هي: سنة الموقف عند الصلاة على المرأة.
وإذا كان الميت رجلاً فإنه يقف عند كتفيه، أو في الجانب الذي يلي الرأس وليس في الوسْط، وإذا كان هناك جنازات متعددة، فإن كانوا رجالاً جعلوا الأفضل مما يلي الإمام، وقال قوم: الأفضل يقدم إلى القبلة، كما جاء: (قدموا أكثرهم أخذاً للقرآن) في دفنهم في القبر.
وإذا كان هناك رجال ونساء فإنهم يجعلون الرجال مما يلي الإمام، والنساء مما يلي القبلة، هذا مجمل ما في المسألة، وسيأتي له تتمة إن شاء الله في ترتيب الصلاة على الجنائز المتعددة.
هناك صورة تكلم عنها صاحب وفاء الوفاء، وهو إذا تعددت الجنائز هل نرصهم بالطول، بحيث يكون رأس هذا عند رجلي ذاك، أو نرصهم يميناً ويساراً إلى عرض المسجد، أو نرصهم شمالاً وجنوباً هذا بجانب هذا، ورأس هذا محاذاة لرأس ذاك، وأقدام هذا محاذاة لأقدام ذاك؟ الذي عليه الجمهور أنهم يرصون الأول والثاني مما يلي القبلة في عرض واحد وتكون رءوسهم متساوية من جهة الرءوس، وأقدامهم متساوية من جهة الأقدام، لا أن يمددوا الواحد تلو الثاني إلى اليمين واليسار.
وهناك تتمة لكيفية وقوف الإمام بالنسبة للرجل، وهو أن يكون عند صدره، وهذه المسألة لها صور بالنسبة للواقع مختلفة؛ لأن الجنازة إما أن تكون واحداً: رجلاً أو امرأة، أو متعددة رجالاً أو نساء، أو متنوعة رجالاً ونساء، فإذا كانت الجنازة واحدة فالمرأة يقف الإمام وسْطها، والمصلون يصفون من وراء الإمام، والقاعدة يا إخوان! بهذه المناسبة أن صفوف الصلاة في الجماعة تبنى وتنشأ من خلف الإمام مباشرة، ثم تمتد من اليمين ومن اليسار، لأننا ربما نجد بعض الإخوان في صلاة الجماعة (الصلاة العادية) يصفون من طرف الصف من الميسرة أو من الميمنة، وهذا خطأ، وصحة بناء الصف الجديد أن يبدأ من خلف ظهر الإمام، ثم يمتد يميناً أو يساراً، وهكذا في صلاة الجنازة، الإمام يقف في الموضع الذي بيَّنه الفقهاء ابتداءً من هذه المرأة، يقف وسْط المرأة والمصلون يصفون وراءه يميناً ويساراً.
وتقدم بأنه كلما كثرت الصفوف، ولو لم تكن مكتملة إلى النهاية، فهو أفضل بالنسبة للجنازة، أما الصلوات الخمس فأتموا الصف الأول فالأول.
فالحاصل في الوقوف على الجنازة أن المرأة يوقف عند وسطها، والرجل عند صدره، فإن كانوا رجالاً متعددين، فمهما كان العدد فيصلى عليهم صلاة واحدة بأربع تكبيرات، ولكن كيف يُصَفون أيُصَفون تباعاً من القبلة إلى الإمام ويتأخر الإمام إلى الوراء؟ أم يُصَفون سلسلة، بحيث يكون رأس كل واحد عند قدمي الآخر، ويمتدون يميناً ويساراً بالنسبة للإمام؟ الذي عليه الجمهور أنهم يرصون تباعاً، يبدأ بالأول من جهة القبلة ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، ويكون الإمام عند الأخير منهم، وتتحاذى رءوسهم وأقدمهم، ويصلي على الجماعة كما يصلي على الواحد أربع تكبيرات على ما سيأتي، ويقف أيضاً عند محاذاة صدر الأخير في الرجال، وإن كن نساء كان الوضع أيضاً تباعاً، ويقف وسْط المرأة الأخيرة، هذا إذا كان الجنس واحداً.
فإذا كانت الجنائز رجالاً ونساءً، فالجمهور يقولون: يقدم النساء إلى القبلة، أي: يبعدن عن الرجال، ويكون الرجال وراء النساء مما يلي الإمام، فالنسوة يقدمن إلى القبلة، والرجال يكونون حاجزين بين جنائز النسوة وبين الإمام والمصلين.
وبعضهم يقول وهو خلاف الجمهور: العكس؛ لأن الرجال أفضل، فيقدمون في الصلاة، ولكن المسألة ليست بالأفضلية، لأننا نظرنا المغايرة في الموقف بين الرجل والمرأة، ولم ننظر في الأفضل.
إذاً: ما قاله الجمهور هو السنة المتتابعة أو المنقولة، وعليها عمل الجماهير.
فإذا وجد طفل فأين يوضع؟ قالوا: إذا وجد طفل دون السابعة فإنه يوضع مع تلك الجنائز؛ سواء مع امرأة أو مع رجل، فإن كانت هناك امرأة والطفلة أنثى فتوضع مع المرأة على خشبتها (على جنازتها) وإن كان الطفل ذكراً، وكان الميت رجلاً وضع مع الرجل على جنازته، وإن كانت امرأة وحدها ويوجد طفل وكان صغيراً وضع معها على الخشبة التي هي عليها، وكان تبعاً لها في الصلاة.
هذا هو ترتيب وضع الجنائز في صلاة الإمام عليها، واحداً أو واحدة، أو جماعة ذكوراً أو إناثاً، أو كانوا من الجنسين معاً.
والله الموفق.(119/2)
باب الصلاة على الجنازة في المسجد
وعن عائشة رضي الله عنها قالت (والله لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابني نيضاء في المسجد) رواه مسلم.
هذا الحديث الذي تقسم عليه عائشة رضي الله عنها، ونحن نعلم في سر البلاغة في العربية أن من أساليب الكلام: الأسلوب الابتدائي، والأسلوب الإنكاري، والأسلوب الطلبي، فالأسلوب الابتدائي مثلاً: إنسان يكون له شخص غائب -كأخيه مثلاً-، ويكون جالساً تقول له: جاء أخوك؛ لأنه ليس منكراً لمجيئه، ويترقب الخبر عن مجيئه، تقول: جاء أخوك، وتلقي إليه الخبر بدون عوامل تأكيد، لكن إذا كان هو يشك: هل أخوه يأتي أو لا يأتي، تقول له: لقد جاء أخوك، إذ إن كلمة جاء أخوك لا تكفي، فلذلك تزيد في أسلوب التأكيد ما يعادل التشكيك الذي عنده فتقول: لقد جاء أخوك، باللام و (قد) فإذا استبعد ذلك وقال لك: لا أبداً، أنا عندي خبر أنه لن يأتي، فإنك عندئذٍ تقول له: والله لقد جاء أخوك، وتزيد التأكيد بالقسم.
إذاً: القسم لا يأتي ابتداءً؛ لأن هذا ليس من أسلوب البلاغة العربية.
هناك ناحية أخرى كما يقولون: إذا نُزل غير المنُكِر منزلة المنكر، أو العكس، وهذا فن في البلاغة ليس لنا حاجة للانشغال به الآن، فهنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تأتينا بالجملة الخبرية ابتداءً مقدمة بالقسم، إذاً: لابد من وجود شيء قبل ذلك حملها على أن تُقسم هذا القسم!! وهو أن أصل هذا الحديث أنها قالت لما توفي سعد رضي الله عنه: (مروا به على المسجد لأصلي عليه) فأنكروا عليها، كونهم يدخلون الميت المسجد، فقالت: والله، أي: أقسمت، ترد على المنكرين طلبها إدخاله المسجد.(119/3)
حكم الصلاة على الجنازة في المسجد
وهنا يأتي البحث: هل يصلى على الجنائز في المسجد أو خارج المسجد، أو عند المقبرة، أو في بيته حيثما جهز؟ إذاً: حديث عائشة رضي الله عنها في تحديد أو تعيين أو بيان مكان الصلاة على الجنائز، ويذكر العلماء في أصل هذه المسألة كما أشرنا سابقاً، وقد يكون من زمن طويل، بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء المدينة كان في بادئ الأمر يتفقدهم، وإذا مرض إنسان يسأل عنه ويعوده، فإذا احتضر رغب أن يحضر تجهيزه، ويصلي عليه في بيته، ويحملونه من بيته مجهزاً ومصلىً عليه وينطلقون به إلى البقيع، فكانوا إذا احتضر الشخص آذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأتي ويحضر، وتتم المهمة، ويُحمل ويتبعه من يتبعه إلى البقيع، فلما كثر مثل ذلك قالوا: إننا نشق على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نؤاذنه على جميع موتانا، فالأولى أن نصبر حتى نجهز الميت ونذهب به إلى رسول الله ليصلي عليه هناك دون أن نكلفه المجيء، وقد يكون نزول الموت في الليل أو غير ذلك، فاتفقوا على هذا.
وكلكم يعلم ما يسمى بفرش الحجر، وهو مصلى الجنائز، وهو الحوش الصغير الذي ما بين باب جبريل وباب البقيع الذي فتح مؤخراً، هناك حوش صغير يمتد من باب جبريل إلى الجنوب بجوار المسجد، خارج المسجد -تلاحظون هذا أم لا- هذا قديماً كان يسمى فرش الحجر؛ لأنه مفروش بالحجر المنحوت، فكان هذا الحوش هو مصلى الجنائز، وكان شرقي الحجرات ملاصقاً لها، وليس كالوضع الحالي الآن، والحجرات كانت في السابق جدار الحجرات هو جدار المسجد من الشرق، والطرقة الموجودة الآن ما بين الحجرات، والجدار الذي فيه باب جبريل وباب البقيع ما كانت هذه الطرقة موجودة، إلا بعد ما وقعت قضية الأعاجم الذين جاءوا وأرادوا أن ينقلوا جثمان الرسول صلى الله عليه وسلم، وقصتهم طويلة في السيرة وفي تاريخ المدينة.
فلما حفروا حول القبور الشريفة، وصبوا الرصاص حولها، وأمنوا في ذلك جعلوا هذه الطرقة؛ لأن الذين جاءوا نزلوا في رباط كان ملاصقاً لجدار الحجرات من الجهة الشرقية، فنزلوا في ذاك الرباط، وحفروا في مكانهم، وبعمق حتى وصلوا إلى مستوى القبر الشريف، وهناك أُنذر الخليفة العثماني، ورأى في النوم.
إلى آخر القصة الطويلة، فلما عمروا المسجد بعد ذلك جعلوا هذه الطرقة لئلا يتوصل إنسان بعد ذلك بأن يحفر بجوار الجدار، ويأتي إلى الجثمان الطاهر الشريف.
إذاً: تكون الطرقة مانعة من إمكان الوصول كما وصل أولئك في السابق.
فكان مصلى الجنائز، وفرش الحجر ملاصقاً لجدار الحجرات، وكان صلى الله عليه وسلم إذا جيء بالجنازة خرج إليها وصلى عليها في هذا المكان.(119/4)
حكم إدخال الجنازة إلى المسجد
وهنا اختلفوا في صلاة الجنازة على الميت في المسجد، فقالوا: كان يصلي عليها خارج المسجد، وهذا مصلى الجنائز معروف، والطريق الذي كان قبلي المسجد في المدينة سابقاً يسمى درب الجنائز، يعني: طرق مجيء الجنائز من أطراف المدينة، وتأتي إلى أن تأتي إلى الشرق وتأتي إلى المصلى -مصلى الجنائز الموجود حالياً- فهنا الناس منهم من يقول: لا يدخل الميت المسجد، وهناك من يقول: لا مانع من دخول الميت المسجد.
الذين منعوا الدخول، وأقسمت لهم عائشة، وبينت لهم فعل النبي صلى الله عليه وسلم ليس عندهم حديث يمنع دخول الميت المسجد، ولكنهم يقولون قولاً مردوداً، يقولون: الموت يأتي بالنجاسة، وكل حي مات تنجس.
ويُرد عليهم بأن الإنسان مكرم، والمسلم لا ينجُس حياً أو ميتاً كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه يقول (كنت أتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذكرت أني جنب، فانخنست عنه فذهبت فاغتسلت ثم جئت فلحقت به، فقال: أين كنت؟ قال: كنت نجساً فاغتسلت، ففهم صلى الله عليه وسلم منه أنه أراد نجساً -يعني: جنباً- قال: يا أبا هريرة! إن المؤمن -المسلم- لا ينجس حياً ولا ميتاً) وعلى هذا قالوا: تعليل عدم دخول الميت المسجد للصلاة عليه بموته ونجاسته مرفوض، وهنا عائشة رضي الله عنها تأتينا بفعل رسول الله، فابني بيضاء ماتا في وقت واحد، وجيء بهما إلى المسجد وصلى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد.
أيضاً يذكر علماء الحديث بأن الصديق رضي الله تعالى عنه لما توفي صلى عليه عمر في المسجد، ولما توفي عمر رضي الله عنه صلي عليه في المسجد.
إذاً: الصلاة على الجنازة في المسجد عمل الجمهور، والله سبحانه وتعالى أعلم.(119/5)
حكم صلاة المرأة على الجنازة
بقي هنا سؤال جانبي، ونحن نحتاجه ويكثر السؤال عنه: هل المرأة تصلي على الميت؟ كثيراً ما يسأل بعض الناس عن هذا فيقولون: هل النسوة يصلين على الميت أم لا؟ فهذه أم المؤمنين تقول: (مروا به بالمسجد، ومروا به عليَّ لأصلي) فبعضهم يقول: لا، لا تصلي إنما تدعو، وأولوا الحديث عن ظاهره، ولو كانت هذه المسألة مسألة دعاء فتدعوا له حيث كان، لكن تريد أن يوقف وأن يوضع وأن تصلي عليه كما يصلى على جميع الجنائز، ثم ذكرنا سابقاً انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وأرادوا الصلاة عليه، ما كان هناك من يؤم الناس؛ لأن الخلافة لم تنعقد لـ أبي بكر رضي الله تعالى عنه إلا بعد بيعة سقيفة بني ساعدة، فهنا لعدم وجود إمام كانوا يدخلون عليه فرادى واحداً واحداً كلٌ يصلي وينصرف، وقيل: جماعات عشرة عشرة يدخلون فيصلون بدون إمام ثم ينصرفون، فأدخلوا الرجال، ثم النساء، ثم الصبيان، أي المميزين، وعلى هذا فإن النسوة قد صلين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم المؤمنين تقول: (مروا بـ سعد عليَّ لأصلي عليه) إذاً النسوة يصلين على الميت، باستقلال أم تبع الرجال؟ ما دام أن هناك رجال فالرجال أولى بالإمامة، وهن يكن تبعاً، إذا لم يكن وحضرن وحدهن فلهن أن يصلين على الجنازة وتأمهن إحداهن.
والحمد لله رب العالمين.(119/6)
باب التكبير على الجنازة (عدد التكبيرات على الجنازة)
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال (كان زيد بن أرقم رضي الله عنه يكبر على جنائزنا أربعاً، وإنه كبر على جنازةٍ خمساً، فسألته فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبرها) رواه مسلم والأربعة.
هنا شروع في عدد التكبيرات، وأشرنا في الصلاة على النجاشي رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم صفَّ بهم وكبر عليه أربعاً.
قالوا كان التكبير قبل ذلك أربعاً خمساً سبعاً تسعاً وبعد أن كبَّر النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي أربعاً، استقر الأمر على ذلك، وثبت على الأربع إلى أن انتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى.
نجد هناك روايات عن ابن عمر رضي الله عنهما يقول: (كان التكبير كذا وكذا، واتفقنا على أن تكون أربعاً) وتأتي رواية أخرى بأن عمر رضي الله عنه هو الذي جمع الصحابة على أربع، وليس هناك تعارض؛ لأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم لمن حضر وسمع وعلم به.
ومن لم يحضر ولم يسمع ولم يعلم كان على ما كان عليه الأمر أولاً، من شاء كبر أربعاً أو خمساً أو ستاً أو سبعاً، وقد يزاد على الشخص الواحد في ذاته لخصيصة عنده، فلما كان الأمر كذلك، ورأى عمر أن بعض الناس لم يبلغه اقتصار النبي صلى الله عليه وسلم على الأربع، جمع الصحابة وأقرهم -أو اتفقوا وأجمعوا- على ألا يزاد عن أربع.
وبعد ذلك لم تكن التكبيرات على الجنائز أكثر من أربع، إنما روي عن علي رضي الله عنه أنه كبر على رجل خمساً، ولما سئل في ذلك قال: إنه بدري، يعني: زاده لكونه من أهل بدر، ونحن يهمنا التشريع العام، فليس عندنا الآن أحد من أهل بدر، وإنما عندنا التشريع العام لعامة المسلمين، وإذا كان الخلاف قد وقع قبل عمر، وانتهى الإجماع بعد عمر، وأصبح الأمر مستقراً بإجماع أصحاب رسول الله فلا ينبغي لأحد أن يزيد على الأربع تكبيرات التي توارثها الخلف عن السلف.
هذا مجمل ما يتعلق بهذه المسألة وهو عدد التكبيرات على الجنائز.(119/7)
باب التكبير على الجنازة - التكبير على الجنائز أربعاً
.(119/8)
بيان فقه المؤلف في تأخير حديث جابر
وعن جابر رضي الله عنه قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر على جنائزنا أربعاً، ويقرأ بفاتحة الكتاب في التكبيرة الأولى) رواه الشافعي بإسناد ضعيف.
من فقه المؤلف رحمه الله أنه جاء بالتكبيرات المختلف فيها، ثم ختم في النهاية بحديث جابر رضي الله عنه (كان النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر على جنائزنا أربعاً) فكأن المؤلف يقول: أختم لك البحث، وأقضي لك على الخلاف بما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم.
قوله: (ويقرأ بفاتحة الكتاب في التكبيرة الأولى) رواه الشافعي بإسناد ضعيف.(119/9)
القراءة في صلاة الجنازة
هذا الجزء من الحديث شروع في كيفية الصلاة، فقد عرفنا أن التكبيرات أربع، لكن ماذا يفعل في التكبيرات الأربع؟ بدأ المؤلف في بيان ذلك فقال: في حديث جابر: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر على جنائزنا أربعاً، ويقرأ بفاتحة الكتاب في التكبيرة الأولى) مسألتان: الأولى: أنه يقرأ بفاتحة الكتاب، والثانية: أن ذلك في التكبيرة الأولى.
لأن بعض الناس قد يقول: التكبيرات الأربع تعادل الركعات الأربع في الصلاة الرباعية، فيتوهم بأنه يقرأ في كل تكبيرة فاتحة الكتاب.
فـ جابر بيَّن لنا أنه تقرأ فاتحة الكتاب في التكبيرة الأولى، أما التكبيرات التي بعدها فسيأتي الكلام عما يقال فيها.
فمسألة قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة مسألة مستقلة.
ربما نجد من يقول لا قراءة في صلاة الجنائز؛ لأنها عبارة عن دعاء، وربما يستدلون بما جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه كان ماراً بالمسجد فرأى جنازة في الداخل، فتيمم عند باب المسجد ودخل وصلى، قالوا: كيف تتيمم والماء موجود، أي: ليس هذا محل تيمم؛ لأن الله تعالى قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة:6] ، والماء موجود، قال: إنما هي دعاء، فقالوا: تساهل في ترك الوضوء واكتفى بالتيمم، على أن الصلاة على الميت دعاء، إذاً: فلماذا الفاتحة؟ إذاً القول الأول: أن صلاة الجنازة لا فاتحة فيها.
والجمهور ومنهم الأئمة الأربعة: على أن صلاة الجنازة فيها فاتحة.
تأتي مسألة ثانية: فاتحة الكتاب في الصلوات الخمس معها سورة صغيرة أو آية، فهل فاتحة الجنازة معها كذلك أو يقتصر على الفاتحة.
نجد البعض يقول وهو الجمهور: يقتصر على الفاتحة فقط، ولا يؤتى حتى بدعاء الاستفتاح، ولا يؤتى بسورة معها ولا بآية؛ لأن أمر الجنائز مبنيٌّ على الإسراع، فلا يلائمها تطويل القراءة، فقالوا: يقرأ الفاتحة فقط، تنجيزاً لأمر الميت، والإسراع به إلى مقره.
إذاً الجمهور على أن فيها قراءة، والقول بعدم القراءة مردود؛ لأن حديث جابر يقول: (ويقرأ بفاتحة الكتاب في التكبيرة الأولى) وجاء عن ابن عباس (أنه قرأ الفاتحة وجهر) وبعضهم يزيد: الفاتحة وسورة وجهر، ثم قال: (ليعلموا أنها سنة) ولكن الصحيح: أنه جهر أو رفع الصوت بالفاتحة، ليعلم من خلفه في الصلاة على الجنازة بأن السنة قراءة الفاتحة.
والجمهور على أنه لا يقرأ مع الفاتحة غيرها.(119/10)
ما يفعل المصلي بعد التكبيرات الأربع في صلاة الجنازة
بعد ذلك تأتي التكبيرات الأخرى، وسيأتينا المؤلف رحمه الله بما سُمع وأُثر ونُقل عنه صلى الله عليه وسلم من الأدعية للميت في التكبيرات الأخرى.
والذي عليه الجمهور في ترتيب التكبيرات الأربع، أن التكبيرة الأولى يقرأ فيها المصلي بالفاتحة، والتكبيرة الثانية يأتي بعدها بالصلاة والتسليم على النبي صلى الله عليه وسلم، والتكبيرة الثالثة يدعو فيها للميت، والتكبيرة الرابعة: يدعو فيها لنفسه، ثم يسلم بعد الرابعة، هذه هي التكبيرات الأربع وما يشرع معها من القراءة أو الأدعية أو نحو ذلك.(119/11)
باب التكبير على الجنازة - التكبير على البدري ستاً
وعن علي رضي الله عنه أنه كبر على سهل بن حنيف ستاً، وقال: (إنه بدري) .
رواه سعيد بن منصور وأصله في البخاري.
كبر علي رضي الله عنه على سهل بن حنيف ست تكبيرات، ولما سئل في ذلك قال: (إنه بدري) إذاً الذي سأل يستنكر الزيادة على الأربع، وعلي زاد وأجاب من سأله، لم يقل: هذا هو التكبير المعتاد، كأن علياً قال: نعم أنا أعلم بأن التكبيرات أربع، وأعذرك فيما انتقدتني فيه، أو فيما تساءلت، وقد زدت عن الأربع التي تعرفها ويعرفها غيرك، وأعرفها أنا، لكن هذه الست بخصوص هذا البدري.
فلو توفي أعلم خلق الله على وجه الأرض أو أصلح خلق الله على الأرض، أو ولي من أولياء الله الصالحين أو شيخ العلماء، أو سيد كذا وكذا أنزيد عليه تكبيرات لفضله؟ لا.
لأن الأمة في زمن علي، وفي زمن عمر، وفي زمن الصحابة، وفي زمن التابعين، وتابعي التابعين، فيها من الفضلاء، وأهل الخير، وأهل الصلاح، وأهل العلم ما لا يوجد لهم نظير الآن، ومع ذلك لم ينقل لنا أنهم زادوا على أي شخص كان تكبيرة خامسة، فيكون قد انعقد الإجماع على أربع تكبيرات.(119/12)
قراءة فاتحة الكتاب في صلاة الجنازة
وعن طلحة بن عبد الله بن عوف رضي الله عنه قال (صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ فاتحة الكتاب، فقال: ليعلموا أنها سنة) رواه البخاري.
حديث ابن عباس جاء بعدة روايات: (قرأ الفاتحة وسورة) ، (قرأ الفاتحة وجهر) ، (قرأ الفاتحة وسورة وجهر) .
ولهذا بعض من يرى قراءة سورةٍ مع الفاتحة يستدل ببعض روايات ابن عباس، ولكن رواية البخاري لـ ابن عباس ليس فيها (وسورة) ، وليس فيها (وجهر) ولكن قوله: (ليعلموا أنها سنة) فهم لا يعلمون إلا إذا جهر.
ولذا يقول بعض الشافعية: إن صُلي على الجنازة ليلاً وقت الجهر جهر، وإن صُلي عليها بالنهار وقت الإسرار أسر، ولكن الجمهور على خلاف هذا القول، فهم على أن القراءة في الصلاة على الجنازة كلها سراً، ليلاً كانت أو نهاراً.(119/13)
باب الدعاء للميت في صلاة الجنازة
.(119/14)
الدعاء للميت بالأدعية الجامعة الشاملة
وعن عوف بن مالك رضي الله عنه قال (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظت من دعائه: اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وأدخله الجنة، وقه فتنة القبر، وعذاب النار) رواه مسلم.
هذا شامل جامع لكل ما فيه سعادة المسلم: (اللهم اغفر له وارحمه) الغفر: الستر، ومنه المغفر على الرأس، فمعنى اللهم اغفر لي، أي: استر عليّ ذنوبي وغطها، وقد يكون ذلك بالمحو، ثم يأتي العفو، (واعف عنه) عفت الريح الأثر: أي أزالته، {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ} [آل عمران:134] ، يعني: يزيلون آثار الغيظ من نفوسهم، حتى لا تكون رد فعلٍ فيما بعد.
(اللهم اغفر له وارحمه) الدعاء بالرحمة كما يقول العلماء بالنسبة للآخرة، في قوله سبحانه: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] ، قالوا: الرحيم: صيغة مبالغة، على وزن فعيل، فهذه صيغة مبالغة، قالوا: والرحمن: صفة للدنيا، فهو رحمان الدنيا ورحيم الآخرة، وجاء في الحديث: (إن الله سبحانه وتعالى قسم الرحمة مائة قسم، أنزل قسماً منها إلى الأرض، يتراحم بها الخلائق حتى البهائم، وإن الدابة لتضع حافرها على ولدها فترفعه رحمة به، وادخر تسعاً وتسعين جزءاً يرحم بها عباده في الآخرة) فهنا (وارحمه) : وفي الآية الكريمة: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] ، سواء كانت القسم الواحد من المائة وسعته في الدنيا، أو المائة بكاملها، أو التسعة والتسعون في الآخرة وسعت كل شيء.
(وعافه واعف عنه) والعافية: بدنية، والمعافاة: معنوية، ونحن نعلم بأن هذا الدعاء من أجمل وأشمل الأدعية؛ لأن من عافاه الله فهو سعيد، أي: عافاه في نفسه في ماله في ولده في سلوكه في عقيدته.
إلى ما شاء الله.
وتذكرون في دعاء ليلة القدر لما سألت أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها رسول الله سؤال حبيب لحبيبه: (ماذا أقول إن أنا صادفت ليلة القدر؟ قال: قولي: اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعف عني) وهذا كما أشرنا إليه في محله أن تسأل الله باسم من أسمائه الحسنى بما يناسب المسألة، ولذا يقولون عند قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] وجاء في الحديث أنها تسعة وتسعون اسماً، فهل تسأل الله بتسعة وتسعين اسماً له في مسألة واحدة؟ قالوا: لا.
ولكن تتخير من التسعة والتسعين اسماً من أسماء الله للمسألة التي تسألها، وتسأل بالاسم الذي يتناسب مع حاجتك، فمن يريد الرزق لا يقول: يا منتقم يا جبار ارزقني، ولكن يقول: يا رزاق يا كريم ارزقني، وكذلك المغفرة لا تقول: يا عظيم السلطان، وقل: يا غفور يا رحيم! وكذلك عندما تريد العفو تقول: اللهم إنك عفو، تسأله بالصفة التي تريد مسألة من نوعها.
وهنا: (واعف عنه) ، أي: بلا سؤال ولا حساب ولا شيء؛ لأن من نوقش الحساب فقد عذب، فإذا كان محكوماً عليه بالإعدام أو بالسجن كذا سنة، فجاء له العفو خرج بالعفو، فعفو الله أوسع.(119/15)
معنى إكرام النزل وتوسيع المدخل
(وأكرم نزله) النزل على قسمين: نزل بمعنى المنزل، أي: اجعل منزله كريماً واسعاً طيباً، ونزل بمعنى المقدمة في الضيافة التي تقدم بسرعة للضيف أول نزوله إلى أن تهيأ له المائدة الرسمية ومنه: {نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:32] فأول ما ينزل أهل الجنة، يكرمون بالنزل الخفيف، فكذلك الضيف الكريم عندك لا تقدم له حالاً المائدة، مرة تقدم له فاكهة، مرة تقدم له حلوى تقدم له قهوة إن كان من أهل القهوة، أو (شاي) إن كان من أهل (الشاي) ، هذا معنى النزل.
(وأكرم نزله) أي: اجعل نزله الذي يقدم إليه أول مجيئه إليك كريماً، فسواء على النزل بمعنى الطعام الخفيف المقدم، أو على النزل: بمعنى المنزل الذي ينزله.
(ووسع مدخله) تابعة للنزل، إذاً: القبر ضيق، والرسول يدعو أن يوسع، ولا يمكن أن يسأل رسول الله شيئاً مستحيلاً، فيمكن أن يوسع القبر، وقد جاء في الحديث أنه روضة أو حفرة، والروضة لا تكون ذراعاً، ويكون صاحبها مضغوطاً عليه، بل يفسح له مد البصر، فهنا يتحقق (ووسع مدخله) .
(واغسله بالماء والثلج والبرد) سبحان الله: ماء ثلج برد، قد يكفي الماء، وقد يكفي الثلج، وقد يكفي البرد، يقول العلماء: أوائل درجة النظافة الماء، وهذا الغسل للحسيات، ثم يأتي الثلج والبرد بعد ذلك، ثلج الصدر، وبرد اليقين، كأنه حينما غسل بالماء طهر، لكن بقي بعض الخوف فيغسل بالثلج فيمتلئ صدره أماناً وطمأنينة، ثم يأتي البرد فيكون يقيناً، برد اليقين في نفسه بأنه اجتاز إلى بر السلامة، وهكذا يقولون: الماء يغسل الظاهر، والثلج والبرد يطهر الداخل، ويكسب النفس طمأنينة وارتياحاً، كما أن الماء يكسب الظاهر نظافةً ووضاءة.
إذاً: ليس معناها يؤتى بالثلج ويغسل بعد الماء، ولا يؤتى بالبرد، مع أن بعض العلماء يقولون: البرد أشد تنظيفاً من الصابون، لكن هذا لا يهمنا، الذي يهمنا شرح العلماء لهذا بأنها أمورٌ معنوية، لها أثر عليه كأثر الشيء البارد على القلب الحار.
والله تعالى أعلم.
(ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس) ونقه من الخطايا، ما دام جاء العفو، وجاءت المغفرة، وجاء الغسل، فاغسله بالماء، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس؛ لأن الثوب الأبيض هو الخاص بالنقاء، لو جئت إلى ثوب أسود، وفيه ما فيه وغسلته فلا يحصل عندك العزيمة أو اليقين بأنه صار نقياً، بخلاف الثوب الأبيض الذي تطمئن إليه بالمشاهدة، وقد قيل: إن بياض الثياب هو الحمل للدنس.
وكما أشرنا لو أن ذبابة وقعت على العمامة وأنزلت من بولها ثم ذهبت فلن تشاهد الأثر، فإذا كان أكثر من هذا وغسلته، ستشاهد أنها صارت نقية، بخلاف الثوب الأسود أو الأخضر أو غير ذلك.(119/16)
إثبات عذاب القبر ونعيمه
(وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله) وذلك أن دار الدنيا لو كانت أفخم قصور الملوك فإنها لا تساوي شيئاً من أدنى منازل الجنة، حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها) فأبدله داراً خيراً من داره.
(وأهلاً خيراً من أهله) الأهل يقولون: يشمل الولد، والزوجة، والأقارب، وذوي الأرحام إلخ.
وبعضهم يقول: إذا كانت امرأة يؤنث الضمير في كل ما تقدم فيقول: اغفر لها، ارحمها، اغسلها، وسع لها.
إلى آخره إلا هنا، عند الأهل تقول: جيراناً خيراً من جيرانها، لأن الزوج من الأهل، وقد تكون لزوجها.
(وأدخله الجنة) {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185] .
(وقه فتنة القبر وعذاب النار) ، وهذا من أقوى الأدلة على وجود عذاب القبر، ورداً على منكريه، وتقدم لنا في موطأ مالك رحمه الله المرأة اليهودية التي قالت لـ عائشة: (وقاه الله عذاب القبر، فلما جاء النبي ذكرت له عائشة ذلك، وقالت: أيعذب الناس في قبورهم؟ قال: نعم يا عائشة!) وهنا أيضاً كنت أسمع من والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى عليه يقول: هناك نص في القرآن يدل على ذلك في قوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] فيعرضون عليها قبل قيام الساعة؛ لأن قوله: (ويوم تقوم الساعة) حالة ثانية.
إذاً: فهم يعرضون عليها في القبر.(119/17)
كتاب الجنائز [9]
إن حق أخوة الإسلام بين المسلمين قائم في حياتهم، وبعد مماتهم، ومن حقوقهم بعد الموت شهود جنائزهم، والصلاة عليهم والدعاء لهم، وفيما يلي بيان لهذه المسألة، وما يجده القائم بحقوق إخوانه من الأجر في ذلك(120/1)
باب الدعاء للميت في صلاة الجنازة (إخلاص الدعاء للميت)
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء) رواه أبو داود وصححه ابن حبان.
هذا حق الميت على من يصلي عليه، أن يخلص له الدعاء ولو كان خصماً له؛ لأنه قد أفضى إلى ما قدم، وأنت وقفت مع المصلين، فيجب أن يكون باطنك مطابقاً لظاهرك، وقفت تصلي مع المصلين فيجب أن تخلص الدعاء له، فتؤجر على إخلاصك الدعاء له، وإذا كان بينك وبينه شيء آخر، فهناك في القيامة تتحاسبون.
(من صلى على ميت فليخلص الدعاء له) لأنه تقدم لنا فيمن صلوا عليه من المؤمنين أو من أهل الخير، أو إلخ فشفعوا فيه شفعهم الله، فلا يشفعون إلا إذا أخلصوا الدعاء، والصلاة على الجنازة عبادة، والعبادة يجب فيها الإخلاص، ومن ضمن الإخلاص أن تخلص في الدعاء للميت.
فمن الذي تسول له نفسه أن يرى أخاه مسجى أمامه، ويعلم بأنه سيلحقه على هذا الطريق، ووارد ذلك الحوض، ثم هو يصلي عليه غير مخلص، بأي ميزان؟ هذا لا يعقل أبداً إلا إذا كان خارجاً عن تصورات العقل.(120/2)
باب الدعاء للميت في صلاة الجنازة (اللهم اغفر لحينا وميتنا)
.(120/3)
مشروعية الدعاء لعامة المسلمين في صلاة الجنازة
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى على جنازة يقول: اللهم اغفر لحينا وميتنا.
الحديث) يلاحظ أن الدعاء الأول مخصص بمطالب معينة، و (له) قد يكون ضميراً لشخص معين يعرفه المصلي، ونحن عشرات المرات ومئات المرات نقول: الصلاة على الرجل الصلاة على المرأة، ولا نعرف من هو الرجل ولا من هي المرأة، فإذا كان معروفاً تسميه وبضميرٍ راجع إليه، وإذا لم يكن معروفاً لديك فهذا هو الدعاء، أي يكفي أن تقول: اللهم اغفر لحينا ومتينا، وشاهدنا وغائبنا، وذكرنا وأنثانا إلخ.
ومعنى شاهدنا: الحاضر، وغائبنا: الذي مات وهو غائب عنا، وفي بعض الروايات: (حاضرنا وغائبنا {وصغيرنا وكبيرنا) صغيرنا: الطفل الذي يصلى عليه، وكبيرنا: إلى آخر ما يكون من العمر.
(وذكرنا وأنثانا) إذا صليت على الجنازة ولا تعرف هل هو رجل أم امرأة فهذا الدعاء يجزئ، وبالجملة ليس هناك توقيت في لفظ معين في الدعاء عند الصلاة على الجنازة، فإن حفظت ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله) إلخ فالحمد لله هذا مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أشمل وأبرك.
فإذا لم تكن تحفظ هذا، فأي دعاءٍ تدعو به فإنه يصح، إذا كان يتضمن طلب المغفرة والرحمة بإخلاص، كما تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم (شفعوا فيه إلا شفعهم الله) فإن كنت تعلم الشخص الميت، وتنويه بالضمير (له لها) فبها ونعمت، وإلا فتأتي بالعموم: (حينا وميتنا، وذكرنا وأنثانا، وصغيرنا وكبيرنا) ، وبالمجموع: (ذكرنا أو أنثانا) ويكون على سبيل الإجمال فلا مانع.
(اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان) لاحظ هذين اللفظين: (من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان) هل هما متغايران أم شيء واحد؟ يقول علماء العقائد: الإسلام والإيمان إن افترقا اتحدا، وإن اتحدا افترقا، فهنا ذكرا معاً، فتكون للمغايرة، يدعو للحي أن يحيا على الإسلام؛ لأن الإسلام عملي ظاهري، وأركان الإسلام كلها ظاهرة، وإذا قام بأركان الإسلام كان مسلماً وأدى واجبه أمام المسلمين.
أما (توفه على الإيمان) فهو العقيدة: (من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة) لأن الخلاص من الشرك ليس إسلاماً بل إيماناً، أعني أنه من عمل القلب ويتعلق بالعقيدة، وليس من عمل الجوارح، فالإيمان يقين، والعمل تابع للإيمان، وهو يزيد وينقص بالعمل.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم فرق ودعا للحي أن يحيا على الإسلام، سامعاً مطيعاً مستسلماً لأوامر لله، ودعا للميت أن يميته الله على الإيمان.
(اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تضلنا بعده) رواه مسلم والأربعة.
هذا هو الدعاء للمصلي بعد التكبيرة الأخيرة، أي: اللهم لا تحرمنا أجره في صلاتنا ودعائنا له، ولا تفتنا بعده، فهو قد خرج من الدنيا معافى، فلا تفتنا بفتنة تفتننا عن ديننا بعده، هذا هو مجمل الأدعية التي تكون في صلاة الجنازة: في التكبيرة الأولى: الفاتحة.
في الثانية: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
في الثالثة: الدعاء للميت بما تيسر لك.
وفي الرابعة: لنفسك.
ثم يكون السلام.(120/4)
باب الإسراع بالجنائز
.(120/5)
مشروعية الإسراع بالجنازة
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم) متفق عليه.
والإسراع هنا يحتمل أمرين: سرعة التجهيز، فإذا كان هناك كفن عادي، فلا حاجة إلى أن نؤخره، إلى أن نحضر كفناً فاخراً، وإذا وجد من المسلمين من يؤدي الصلاة فلا حاجة إلى أن نؤخر إلى كثرة العدد، إلا أن يكون للميت من ذوي أقاربه -كأبنائه، وإخوانه، ووالديه- من يريد أن يقدم وكان غائباً ليراه ويشيعه، فلا مانع ما لم يتضرر الميت بالتأخير، أي: يشرع الانتظار بالجنازة لحين قدوم الغائب من ذويه وذوي رحمه ما لم يكن الوقت صيفاً كما هو الحال في الجزيرة، أو يتوقع حصول ضرر على الجنازة، بأن تكون قد توفيت من أول الليل مثلاً، فإنه ينتظر به إلى الصباح، على ما سيأتي في باب النهي عن الدفن ليلاً، لما قد يقع فيه من تقصير.
وهنا مسألة التقسيم الذي يقوله الأصوليون، يقول صلى الله عليه وسلم: (أسرعوا بالجنازة) كلمة (أسرعوا) تحتمل كما أسلفنا: سرعة تجهيزه، ويحتمل الإسراع في المشي به عند حمله، ولكن المعنى الثاني أرجح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (تقدمونها إليه) هذه مشتركة، وقوله (شرٌ تضعونه عن رقابكم) والشر الذي نضعه عن الرقاب هو ساعة الحمل حينما نحمله.
إذاً: السنة في تشييع الجنائز الإسراع بها، وكما يقولون: إكرام الميت دفنه وستره، كما أنهم يقولون أيضاً: إذا مات نهاراً لا ينبغي أن يبيتوه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيت الميت وسط أهله؛ لأنهم يستوحشونه، أو كان ميتهم أخاهم أو أباهم أو ولدهم فإنهم يستأنسون بحضوره ويؤانسهم، ولكن بعد الموت ترى طفله الصغير يخاف أن يدخل عنده، ترى الشخص الكبير قد يخاف أن يدخل عليه، فما ينبغي أن يبيت الميت إلا لحاجة أو لضرورة.
ثم بيَّن صلى الله عليه وسلم حال الميت، إما أن يكون صالحاً، فإنه يحب أن يتقدم للصالح، وإما أن يكون عكس ذلك، فلا ينبغي أن نحمل على رقابنا غير الصالح، فلنضعه لنستريح منه.
وكونه صالحاً (خير تقدمونها إليه) مثل أن يوجد إنسان يريد أن يتزوج، وفي ليلة زفافه نقول له: هيا نذهب معك فسحة، أو نقول له: تفضل أنت ضيفنا الليلة، فالعريس عنده ما هو أهم من هذا كله، وكذلك الميت الصالح: (فخير تقدمونها إليه) ؛ لأنه أحب ما يكون إليه أن خرج من ضيق الدنيا ونكدها وأثقالها، إلى فسيح الجنة ونعيمها.
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قصة وفاة المصطفى صلى الله عليه وسلم، أن العباس كان يعرف حالة بني هاشم عند الوفاة، فلما ثقل المرض برسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمع من بني هاشم العباس وعلي رضي الله تعالى عنهما، ودخل العباس على رسول الله فوجده في الصحوة التي صحاها يوم أن توفي، فإنه صحا بعد صلاة الصبح فقال أبو بكر قال: (أراك اليوم بريئاً يا رسول الله! ائذن لي إلى بيت زيد بن فلان) وذهب إلى العالية، فدخل عليه العباس وعلي فخرجوا، فقال العباس لـ علي: يا علي! ارجع فسله فيمن يكون هذا الأمر بعدك، والله إن لم تؤته لتساقن سوق العبد بالعصا، قال: والله لن أسأله؛ لأنه إن منعنا إياها لن نعطاها أبداً، ثم قال العباس: إني أعرف الموت في وجوه بني هاشم فجلسوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لهم: (ائتوني بقسط وكتاب أكتب لكم، ثم تلاحوا، فقال: قوموا عني فإن ما أنا فيه خيرٌ منكم) وهذا محل الشاهد، وفي آخر الأمر كشف لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصبح ما له حاجة فيهم، ثم أوصاهم: (أوصيكم بكتاب الله وبالصلاة) أوصاهم شفوياً، ولم يكتب لهم شيئاً.
الذي يهمنا قوله: (قوموا عني، فإن ما أنا فيه خيرٌ لي منكم) وهكذا الميت إذا كان في اللحظات الأخيرة، وأمسك اللسان عن النطق، فإنه يرى مصيره، فإن رأى خيراً تجد على وجهه البشاشة والطلاقة، وصباحة الوجه، كأنه إنسان نائم يحتلم في فرح شديد جداً، فيظهر على قسمات وجهه، وكذلك الميت عند الاحتضار، حينما يمسك اللسان يكشف عن مستقبله، وعن حقيقة أمره، فيظهر عليه آثار ما يرى بعينه، إن كان خيراً ظهر عليه فرح وسرور وطلاقة وجه، وإن كان عكس ذلك -عياذاً بالله- ترى وجهاً عبوساً واكفهراراً في الوجه إلى آخره على ما في الحديث: (من أحب لقاء الله، أحب الله لقاءه) وهنا الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: الميت بين أحد أمرين لا ثالث لهما: فإن يكن صالحاً فخير تقدمونه إليه، فلا تؤخروه، وإن كان غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم.
وليس معنى الإسراع أن نجري به، فقد جاء عن بعض السلف: أنهم مروا بجنازة على رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنها شنة، أي وعاء فيه ماء قليل، أو القربة اليابسة الصغيرة فيها قليل من الماء يتراكض له صوت، فكأن الجنازة بإسراعهم شنة فيها قليل من الماء، فقال صلى الله عليه وسلم (ارفقوا بالميت) إذاً: ليس بالإسراع الذي يؤذي الميت لو كان حياً على هذه الخشبة، وأمرنا أن ننقله إلى مكانه بسرعة، فكيفية الإسراع: ألا نسرع كالجري، ولا نتباطأ ونتكاسل ونتمهل في المشي، وعلى هذا يكون الإسراع بينَ بين، ليس هو بالتواني البطيء، وليس هو بالهرولة، ولا بشدة الركض، إنما يكون متوسطاً.
الشيء الثاني: لو أن الذين يحملون الجنازة أقوياء وأسرعوا، فذلك يشق على المشيعين؛ لأن فيهم الكبير، وفيهم المريض، وفيهم العاجز، وفيهم، فيريد أن يتابع الجنازة في تشييعها.
إذاً: (أسرعوا بالجنازة) الإسراع هنا في حدود المعقول، ليس هو بالإسراع المخل بالمروءة، والذي يؤذي الميت، وليس هو بالبطيء المتواني المتكاسل، والله تعالى أعلم.
فائدة أخرى: الحديث يعطي إشارة إلى معنى، وهو أنه منذ أن يوضع في القبر سيجد خيراً أو شراً، ويمكن لإنسان أن يضيف هذا الحديث إلى أدلة إثبات نعيم القبر وعذابه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يقول (إن تك صالحة فخيرٌ تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم) إذاً: الشر موجود والخير موجود، وهذا الحديث يشير بدلالة الإيماء والتنبيه على وجود نعيم القبر وعذابه.(120/6)
باب فضل اتباع الجنازة
وعنه رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شهد الجنازة حتى يصلى عليها؛ فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن؛ فله قيراطان، قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين) متفق عليه، ولـ مسلم: (حتى توضع في اللحد) .
مراحل تجهيز الجنازة ثلاث: الأولى: تجهيزها في مكانها بالغسل والحنوط والكفن.
المرحلة الثانية: الصلاة عليها، وتكون الصلاة إما في بيته في محله، أو ينقل إلى المسجد أو إلى المقبرة؛ فيصلى عليه إما في بيته أو في المسجد أو في المقبرة، والصلاة في المسجد قد تقدم الكلام عليها، والصلاة في المقبرة يشترط لها ألا يكون أمام المصلين قبور، حتى لا يستقبلون القبور بالصلاة، وبعض العلماء قال: لا مانع حتى لو كانت القبور أمامهم.(120/7)
المواطن التي نهى النبي عن الصلاة فيها
نهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في المزبلة، والمقبرة، والمجزرة، وفوق ظهر الحمام، وفوق ظهر بيت الله الحرام، وقارعة الطريق، ومعاطن الإبل.
هذه سبعة مواطن نهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها، وليست كلها للنجاسة كما يظن البعض، بل كل واحدة لها علتها، والنهي عنها في المقابر ليس للنجاسة كما يذكر ذلك بعض المؤلفين في فقه المذاهب كالحنابلة، يقولون: لأن التربة تنبش فتختلط بالنجاسة التي هي بقايا الجسم، لكن يقال: لقد حصلت الاستحالة، والاستحالة تُذهِب النجاسة، والتحقيق أن في النهي عن الصلاة في المقبرة حفاظاً على العقيدة.
وقال بعض الناس: لا يصلى على الجنازة في المقبرة للنهي عن ذلك عموماً، وقال البعض: تجوز الصلاة على الجنازة في المقبرة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى على قبر المرأة، قالوا: ولأن صلاة الجنازة ليس فيها سجود، بخلاف ما إذا صلينا الصلوات المعهودة، فإننا نحتاج أن نركع فيها ونسجد عند جدار القبر، فكأن المصلي يعبد القبر، قالوا: فصلاة الجنائز ولو صليت عند المقابر ليس محظور؛ لأنها ليس فيها سجود، لكن الأولى الحفاظ على عموم النهي، وسلامة العقائد؛ فيكون موضع الصلاة على الجنائز أمام المقبرة بحيث تكون المقبرة خلف المصلين، أو عن يمينهم، أو عن يسارهم، وإذا لم يوجد مكان للصلاة على الجنائز عند المقابر إلا أن تكون المقابر أمامهم، فيرفع جدار صغير بين المصلى والقبور.(120/8)
مراتب أجر اتباع الجنازة
فالرسول صلى الله عليه وسلم جعل الأجر على مرتبتين؛ لأن تجهيزه يقوم به أهله، ثم يبقى تشييعه وحمله ودفنه، فمن حضر الجنازة حتى يصلى عليها، سواءٌ في المسجد أو عند المقبرة، فهذه مرحلة أولى.
والمرتبة الثانية: أن ينتظر عند القبر حتى يفرغ من دفنها، وإذا استطاع أن يشارك في الدفن ولو بحفنة تراب فهو أفضل، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه حضر جنازة، وانتظر حتى انتهوا من الدفن، وجمع التراب عليه، فأخذ قبضة من التراب ووضعها على القبر، كأنه شارك في الدفن.
ومكان القبر قد لا يسع كل المشيعين ليشاركوا، وكثير من الناس يحبون المشاركة، فينبغي الرفق.
والمرتبة الثالثة: أن ينتظر المرء إلى الفراغ من الدفن.
إذاً: المرحلة الأولى خاصة بأهله، والمرحلتان الباقيتان في تشييعه حتى الصلاة، وفي تشييعه حتى الدفن، فمن حضر المرحلة الثانية، وهي تشييعه إلى أن يصلى عليه، ثم يتركه بعد ذلك؛ سواءً تركه لعجزٍ فيه، أو لاشتغال بأمر أهم، أو نحو ذلك، فله قيراط من الأجر، فإذا واصل حتى دفنت فله قيراطان.(120/9)
بيان معنى القيراط
الواقع أن القيراط اصطلاح وزن، واصطلاح نسبة، تقول مثلاً: هذا البيت أربعة وعشرون قيراطاً، الزوجة لها الثمن أي لها ثلاثة قراريط، فهي نسبة حسابية.
والأربعة والعشرون قيراطاً تأتي في الذهب، وتأتي في الفضة، وفي غيرها؛ لأن الأربعة والعشرين عددٌ يمكن أن تؤخذ منه جميع الكسور الموجودة في فروض الميراث (نصف، ربع، ثلثين، ثلث، ثمن، سدس) ، ولهذا اصطلحوا عليها، وكذلك الذهب، عند كونه خالصاً يكون أربعة وعشرين قيراطاً، وعند كونه مضافاً إليه من النحاس أو معدن آخر يقال: فيه قيراط أو قيراطان من النحاس، فإذا قيل: ذهب عيار أربعة وعشرين، فمعناه أنه: خالص، مع أنه ليس هناك ذهب خالص أبداً؛ لأن الذهب وحده لا يصلح للتصنيع إلا قدر اثنين وعشرين قيراطاً، ولابد أن يكون فيه شيء من النحاس حتى يشده؛ لأنه لين.
فإذا قيل: عيار واحد وعشرين، فيبقى فيه ثلاثة قراريط، أي أن: الثمن من معدن آخر، وإذا قيل: عيار عشرين فمعناه أن فيه السدس من معدن آخر.
وهكذا.
وجاء القيراط في الأجور، ففي الحديث (من اقتنى كلباً ليس بكلب صيد ولا حراسة، نقص من أجره كل يوم قيراط) فلا ندري ما القيراط هنا، لكن لو جعلناه من مجموع عمله، فمعناه أنه إذا كان في اليوم ألف حسنة فإنه يسقط منها واحد من أربعة وعشرين، والله تعالى أعلم.
في هذا الحديث بيَّن لنا صلى الله عليه وسلم وزن هذا القيراط، فليس هو بالجرام، لكن قالوا: (وما القيراطان؟ قال: كالجبلين العظيمين) والجبال تختلف: فهل هي جبال الألب أم جبال الحبشة أم جبال الجزيرة، فإنها تختلف، فعين ذلك صلى الله عليه وسلم بأنه كجبل أحد، ويمكننا أن نشاهده، وهذا من فضيلة الدراسة في المدينة المنورة: أن ترى الشيء بعينك، ولا تحتاج أن يصفه لك جغرافي أو جيولوجي، بل تذهب وتشاهده بعينك.
وكذلك في بئر بضاعة، كان يتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها بكذا وكذا، أبو داود عندما جاء إلى المدينة قال: قد ذرعته سبعة أذرع، أما نحن فلا نحتاج أن تذرعه لنا سبعة ولا ثمانية، فبئر بضاعة قريب منا، يمكن أن نشاهده بأعيننا ونعرف ما هو، وكان موجوداً إلى عهد قريب في مكانه وكان الماء فيه إلى أن وضع عليه البستان.
إذاً: هذا من فضائل دراسة السنة النبوية في المدينة، وعلى سبيل المثال أذكر أنا كنا ندرس الحديث على الشيخ عبد الرحمن لفيق غفر الله له، وحصل لي ظرف سفر ورجعت، فسبقوني ببعض الأحاديث؛ فجئت إليه في بيته أتلقاها عنه، وكان بيته يطل على بئر بضاعة، فعندما نقرأ عن بئر بضاعة أنها بئر بجانب المدينة، قال: أغلق الكتاب، وانظر إلى البئر من النافذة.
فدراسة الحديث في المدينة المنورة لها ميزتها، ولذا يقول صلى الله عليه وسلم (من راح إلى مسجدي لعلمٍ يُعلِّمه أو يتعلمه، كان كمن غزا في سبيل الله) بل زيادة على ذلك حصول البركة التي يلمسها طالب العلم، فيحصِّل الكثير في الزمن القليل، ويكون أثبت عنده مما لو درسه في غيره.
ثم كلمة القراريط جاءت في مواطن لا ندري ما معناها، وجاءت هنا مبينة، فهل هذا البيان بجبل أحد هو بيان لجميع القراريط في جميع الأعمال أم خاص بقيراط الجنائز؟ الله تعالى أعلم.(120/10)
تشييع الجنازة من حق المسلم على المسلم
تشييع الجنازة حق للميت على المسلم، فتؤدي الحق الذي عليك وتأخذ قيراطاً مثل أحد! هذا والله فضل عظيم.
جاء في الحديث الصحيح: (حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه) أي: بلفظ: السلام عليكم، ومن آداب السلام: أن يسلم الصغير على الكبير، والراكب على الماشي، والماشي على الجالس.
فإذا لم يسلم من عليه الابتداء بالسلام، فمن حق الثاني أن يقول له: أعطني حقي! لأن عدم السلام يدل على أن في النفس شيئاً، وقد جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه: أنه مر بـ عثمان وهو جالس فسلم عليه، فلم يرد عثمان عليه السلام، فذهب إلى أبي بكر واشتكى، ولما تأيمت حفصة بنت عمر رضي الله تعالى عنها، كان عمر قد عرضها على عثمان، فقال عثمان: ليس عندي نية الزواج الآن، وكان الأفضل أن يقول: جزاك الله خيراً، دعني أفكر في الموضوع، لكن رد ذلك العرض، فكانت هناك سابقة في النفس قليلة.
ثم عرضها على أبي بكر فلم يرد عليه بخير ولا بشر، فجاء واشتكاهما إلى رسول الله، فالرسول صلى الله عليه وسلم طيب خاطره وقال (يتزوج حفصة من هو خيرٌ من عثمان، ويتزوج عثمان من هي خيرٌ من حفصة) فقدر الله أن تزوجت حفصة خيراً من عثمان وهو رسول الله، وتزوج عثمان خيراً من حفصة، وهي بنت رسول الله الثانية.
الشاهد أن عمر سلم على عثمان فلم يرد عليه السلام، فذهب واشتكاه إلى أبي بكر، ولو لم يكن له حق في هذا السلام لما اشتكاه؛ لكنه حق الأخوة.
وتمام القصة: أنه ما وصل عمر إلى أبي بكر إلا وعثمان وراءه يقول: السلام عليكم، فقال أبو بكر لـ عثمان: وماذا وراءك يا عثمان؟! أخوك عمر يسلم عليك فلم ترد عليه السلام، قال: والله ما سمعته ولا شعرت به! فقال أبو بكر: فيم كنت تفكر؟ قال: أمور لو أننا سألنا رسول الله عنها، وذكر غيرها، فقال أبو بكر والله لقد كنت أفكر فيها قبلك.
نعود إلى الحديث (حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم، إذا استنصحك فانصح له، إذا دعاك فأجبه، إذا عطس فحمد الله فشمته، إذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه) فهذه حقوق للمسلم على المسلم من أول ما يلاقيه إلى أن يدفنه، وهي حقوق إسلامية عامة، بخلاف حقوق الجوار، وبر الوالدين، وقضاء الدين الذي عليه، فهذه حقوق خاصة، ليس سببها مجرد أخوة الإسلام.
فهذه الحقوق التي لمطلق أخوة الإسلام، منها أن المسلم إذا مات، فله حقٌ على إخوانه المسلمين أن يشيعوه، ومع هذا فللمشيع إذا قام بهذا الحق قيراطان.
(قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين) متفق عليه، ولـ مسلم: (حتى توضع في اللحد) فإذا شُقَّ له شقاً، فالحكم كذلك؛ لانتفاء الفارق بين اللحد والشق، لأن المعنى: حتى يوضع في مكانه الأخير.
وللبخاري أيضاً من حديث أبي هريرة: (من تبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً، وكان معها حتى يصلى عليها، ويفرغ من دفنها؛ فإنه يرجع بقيراطين، كل قيراط مثل جبل أحد) .
هذا الحديث الثاني بيَّن المجمل في الحديث الأول، حيث أطلق القيراطان عن تحديدها؛ فجاء المؤلف -لفقهه- بالحديث الثاني، وبيَّن لنا الإجمال الموجود في الحديث السابق، بأن الجبلين العظيمين كل منهما كجبل أحد، وهذا مثال على بيان المجمل.(120/11)
كتاب الجنائز [10]
إن من حق المسلم على أخيه المسلم أن يتبع جنازته بعد موته، لما في ذلك من إكرام لهذا الميت عند القيام بحمله والسير به إلى المقابر، ومن ثم دفنه وتسوية التراب عليه.
والسير مع الجنازة له آداب وقواعد ينبغي للمسلم الإحاطة بها، ومن هذه الآداب السير أمام الجنازة للراجل والسير خلفها للراكب، كما أن من الآداب اللازمة على أهل الطريق القيام عند مرور الجنازة من أمامهم، وغير ذلك من الآداب التي تحفظ كرامة المسلم الميت كما تحفظها للمسلم في حياته(121/1)
المشي مع الجنازة
وعن سالم عن أبيه رضي الله عنهما: (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وهم يمشون أمام الجنازة) رواه الخمسة وصححه ابن حبان، وأعله النسائي وطائفة بالإرسال.
هذه مسألة المشي مع الجنازة؛ فهل الأفضل أن يمشي المشيع أمامها، أو يمشي خلفها، أو على الجانبين، ومن حمل الجنازة فهل الأفضل أن يحملها من الأمام أو من الخلف؟(121/2)
مكان سير مشيع الجنازة في حال الركوب أو المشي
أما تشييع الجنازة والمشي معها: فالمشيع إما راكب وإما ماشٍ، وكان الناس قديماً كانوا يركبون على الرواحل وعلى الدواب عند طول المسافة أو بُعدها، أو عند العجز عن المشي، فقال العلماء: إن كان سيتبعها راكباً لظروفه فليكن من ورائها؛ لأن مجيء الجنازة خلف الراكب نوع من التقصير في حقها، أما أن يكون من ورائها فلا مانع، فإن كان راكباً فليمش وراءها.
وإن كان ماشياً: فإن شاء من أمامها وإن شاء من ورائها، وأمامها أفضل.
أما حمله إياها فالبعض يقول: الأفضل أن يعاقِب، بمعنى: يبدأ بالأمام بالجهة اليمنى للجنازة، أو بجهته اليمنى، فيحملها على كتفه الأيمن ثم يمشي قليلاً حاملاً، ثم يأتي إلى الجانب الثاني من الجنازة ويحمل على الكتف الآخر، ثم يتأخر عن الجهة التي كان فيها فيحمل من الخلف على الكتف الذي كان حاملاً عليه، ثم ينتقل إلى الجهة الأخرى من الخلف؛ فيكون شيَّع وحمل من أطراف الجنازة الأربعة.(121/3)
عدد من يحملون الجنازة وكيفية ذلك
إذا لم يكن هناك عدد كافٍ، وكان من يحملانها اثنين فقط؛ فإن الذي في الأمام يدخل بين العودين ويحمل من بينهما، والذي في الخلف يدخل بين العودين ويحمل كذلك.
وإذا حملها أربعة، فلا ينبغي لإنسان أن يدخل بين الشخصين الأماميين ولا بين الشخصين الخلفيين، بل يترك ما بينهما، فمن أراد أن يساعد، فليحمل من جوانب الجنازة دون أن يزاحم الذين يحملون.
والأولى أن يراعى أيضاً التعادل في الطول؛ لأنه إذا كان أحدهما طويلاً والثاني قصيراً، كانت الجنازة غير مستريحة، فيراعى في ذلك ما فيه راحة الميت.
وقوله في الحديث: (رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر يمشيان أمامها) فهذه السنة والأفضل لمن كان ماشياً، وأما إن كان راكباً فليكن خلفها، والماشي أيضاً إن مشى خلفها فلا بأس، وإن مشى في الجانبين فلا بأس.
والذي يريد أن يشارك في الحمل إما أن يقتصر على أحد الجانبين: من الإمام أو الخلف، وإما أن يناوب بين الجهات الأربع؛ لكن يكون ذلك براحة وبهدوء وسكينة، دون مزاحمة أو إيذاء، والله تعالى أعلم.
ولا يجوز المشي تحت الجنازة، ولا حملها بالرأس من تحت، ما دام يوجد أشخاص يحملونها من أطرافها.(121/4)
حكم اتباع النساء للجنائز واتباعها بنار
وعن أم عطية رضي الله عنها قالت: (نهينا عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا) متفق عليه.(121/5)
نهي النساء عن ابتاع الجنائز
حديث أم عطية رضي الله عنها يذكره المؤلف رحمه الله بعد ذكر تشييع الرجال للجنازة، فذكر أم عطية أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى النسوة أن يتبعن الجنائز، تقول: [ولم يعزم علينا] فكأنه نهي للكراهية، ولكن الجمهور يقولون: هو نهي تحريم، ولا ينبغي للنسوة أن يتبعن الجنازة.
هذا النهي ليس ممنوعاً في ذاته، ولكنه ممنوع لما هو متوقع من النسوة، خاصة قريباته، حيث لا تملك المرأة نفسها بأن تتكلم بأن تندب بأن يحصل شيء فإنهم إذا دنو من القبر ورأتهم يدلونه في القبر فإنها تصيح وتبكي، إذاً: فمنعها أولى.(121/6)
حكم اتباع الجنائز بالنار
وقد جاء النهي أيضاً أن تتبع الجنائز بالنار، بأن يفعلوا ذلك تفاخراً، أما لغرض الإضاءة كما إذا كانوا في الصحراء، أو في مكان ليس فيه سرج، حيث -يحتاجون للاستضاءة بنار- فلا مانع أن يشعلوا سعفة من أجل أن يروا كيفية الدفن؛ لكن أن تتبع الجنازة من باب المفاخرة والمكابرة؛ فإن هذا محرم، ومثل هذا حديث أم عطية رضي الله عنها في أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهن عن ابتاع الجنائز.
أما قولها: (ولم يعزم علينا) يقول بعض العلماء: لو كانت هناك حاجة للنسوة، مثل أن يكون في الجنازة فراش ونحوه، فيوجد من النسوة من تأخذه فترجع به إلى بيت أهله فلا بأس، ولكن الأولى ما عليه الجماهير؛ بأنه لا تتبع المرأة جنازة، ويذكرون أشياء عن فاطمة رضي الله عنها حين سألها صلى الله عليه وسلم قال (من أين.
قالت: أشيع كذا.
قال: وصلت المقابر؟ قالت: لا.
قال: لو كنت وصلتيها لكان ... ) إذاً: لا حاجة إلى اتباع النسوة الجنازة، فهن لن يحملن -كما يقول أبو سعيد الخدري - الميت، ولن تدفن في القبر ولن تبني عليه؛ بل تحدث ازدحاماً في الطريق، وهذا ليس داع.(121/7)
باب القيام للجنازة
.(121/8)
شرح حديث: (إذا رأيتم الجنازة فقوموا)
وعن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيتم الجنازة فقوموا، فمن تبعها فلا يجلس حتى توضع) متفق عليه.
هذا الحديث موضع بحث، من حيث قوله صلى الله عليه وسلم: (قوموا) ؛ فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه كان إذا مرت جنازة قام، فقام ذات مرة فقيل: يا رسول الله! إنها يهودية! قال: أليست نفساً منفوسة) وهذا القيام كان إعظاماً لأمر الموت والحياة، وإن كان الميت يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً، فإنه لا فرق بينه وبين المسلم في الخِلقة، أما الإسلام والكفر فعقيدة في القلب، أما هذا الهيكل بكامله فهم فيه سواء، لا فرق بينهم.
فكونها نفساً منفوسة خلقها الله، فيها القدرة الإلهية، وفيها آية التكوين، وقد قبضت، وتغيرت حالتها، فالذي يقوم؛ فإنما يقوم إعظاماً وإجلالاً لله سبحانه وتعالى الذي خلق هذه النفس المنفوسة ثم سلبها الروح.
قال الفقهاء: ثم ترك صلى الله عليه وسلم القيام بعد ذلك، فكان صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يجلس، وعليه: من شاء قام ومن شاء جلس، فإن قام فله حق أن يجلس بعد ذلك لظروفه الخاصة، إما إذا كان يريد أن يشيعها؛ فإذا قام فلا يجلس، بل يتبعها حتى يتم تشييعها، والله تعالى أعلم.(121/9)
باب إدخال الميت القبر من قبل رجليه
وعن أبي إسحاق: (أن عبد الله بن يزيد أدخل الميت من قبل رجليه القبر، وقال: هذا من السنة) أخرجه أبو داود.
يذكر المؤلف رحمه الله تعالى هذا الحديث في كتاب الجنائز، ليبين كيفية إدخال الرجل الميت في القبر، وكذلك المرأة، وهو أنه يدخل من قبل رجليه، أي: من الجهة التي تكون فيها رجلا الميت، وبصفة عامة يستقبل بالميت القبلة، فيضجع على شقه الأيمن في القبر.
والقبلة هنا في المدينة جهة الجنوب -فيما يقابل الشمال- فتكون رجلا الميت إلى الشرق، ورأسه إلى الغرب، وذكر هذا الأثر أنه يدخل من جهة الرجلين، ويعبر عنه الفقهاء بقولهم: يسل من قبل رجليه.
وتقدمت الإشارة إلى ذلك بإيجاز، والحامل أن الجهات التي يدخل فيها الميت إلى القبر ثلاث: إما من جهة الرجلين، فيكون الرأس هو الذي يدخل إلى القبر أولاً، وإما من جهة الرأس فتكون الرجلان هما اللتان تدخلان إلى القبر أولاً، وإما عرضاً أي بعرض القبر، بأن يمدد الميت على حافة القبر من الجهة القبلية؛ لأن اللحد يلحد من الجهة القبلية، ويدخل الميت في اللحد مستقبلاً بوجهه القبلة، ويقف الذي يتناول الميت في القبر مستقبلاً بوجهه القبلة، ويتناول الميت من الحاضرين فوق حافة القبر من القبلة، وينزله حتى يضعه في اللحد.
هذه صورٌ ثلاث، أما هذه الصورة التي فيها أنه يدخل من قبل الرِجلين، ففيها هذا الأثر وغيره، وجاءت رواية أخرى تدل للصورة الثانية، وهو أنه يدخل من جهة رأسه، وتكون القدمان هما اللتان تدخلان في القبر أولاً.
وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه يدخل عرضاً بعرض القبر كما وصفنا؛ ولكن النووي رحمه الله نقل في المجموع عن الإمام الشافعي رحمه الله إبطال ما ذهب إليه أبو حنيفة، من أنه يؤخذ الميت عرضاً، قال: فإما أن يسل من جهة الرجلين، وهذا النص عندنا، وإما أن يسل من جهة الرأس، وهذا وارد أيضاً عنه صلى الله عليه وسلم؛ فقد رأى أناس شعلة في البقيع، فذهبوا، فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم في القبر يمد يديه ويقول: (ناولوني ميتكم، وسله من جهة الرأس) فالحاصل أن في كيفية إدخال الميت في القبر هذه الحالات الثلاث: الحالة الأولى المشهورة: من جهة الرجلين.
والحالة الأخرى أضعف منها: من جهة الرأس.
والحالة الثالثة: ينزل إلى القبر عرضاً.
ولكن يمكن أن يقال: تكون صفة الإدخال بحسب ظروف المكان، فقد يكون المكان ضيقاً، ويكون التراب مركوماً إلى جهة، فيتعذر إنزاله من تلك الجهة، ويتيسر من جهة أخرى.
وتلك الحالات التي ذكرنا إنما هي في الأفضلية، والله تعالى أعلم.
وقبل أن ننتقل إلى مباحث أخرى، ننبه إلى أن بعض العلماء يذكر بعض الآداب فيما يتعلق بقبر الميت، منها: إذا أُدخل ميت في القبر، فعند الإدخال يؤتى بثوب كالخيمة يغطى به القبر، ويمسك من أطرافه، ليستر الميت عند إنزاله القبر عن عيون الناس.
قالوا: لأنه قد تحصل حالة من حالات الموتى التي تطرأ بعد الغسل، أو عند الحمل، أو غير ذلك، أو كان الكفن شحيحاً، فيكون هذا الغطاء ساتراً للميت عن أعين الناس.
وبعضهم يقول: يفعل هذا بالمرأة فقط، ولا يفعل بالرجل، ولكن إذا دعت الحاجة إلى ذلك في الرجل فلا مانع، أما بالنسبة للمرأة فهو أمر معقول المعنى.
كما ينص بعض العلماء أنه يستحب أن يكون للمرأة نعشاً، بخلاف الرجل، والنعش هو القفص الذي يجعل على خشبة الجنازة، وقيل: إن أول من فعل ذلك هو علي رضي الله تعالى عنه، وضعه لـ فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كراهية أن ترى أعضاء جسمها تحت الغطاء على خشبة الجنازة.
فعندما يتخذ هذا القفص يكون المرئي جرم القفص، وليس أعضاء المرأة، وإلى الآن صارت متبعة بأن المرأة يجعل لها نعش، أي: هذا القفص المجوف، ويكون حاملاً للغطاء؛ فلا تُرى أعضاء المرأة وهي على الجنازة، بخلاف الرجل.
هذا ما يتعلق بإدخال الميت وتغطيته.(121/10)
ما يقال إذا وضع الميت في القبر
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وضعتم موتاكم في القبور، فقولوا: باسم الله، وعلى ملة رسول الله) أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي، وصححه ابن حبان، وأعله الدارقطني بالوقف.
يبين لنا صلى الله عليه وسلم ماذا يقول الذين يضعون الميت في قبره، أي: الذين يقفون في القبر ليتلقوا الميت، فحينما يتلقونه من الذين على حافة القبر، فإنهم يقولون: (باسم الله، وعلى ملة رسول الله) ، وفي بعض ألفاظ الحديث: (وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهذا الذي ينبغي على المسلم دائماً في كل أعماله، وهو أن يبدأ بذكر اسم الله، وأن يكون الأمر وفق كتاب الله.
والملة هي الدين، والسنة هي الطريقة، وبينهما تلازم فملة الإسلام هي طريقة المسلمين، وطريقة المسلمين هي ملة الإسلام؛ لكن هذا كأنه دعاء للميت، ومعناه: أودعناه مكانه باسم الله، وأودعناه على ملة رسول الله.
وكأن ذلك يشعر بالشهادة له أنه من أهل هذه الملة، فتكون نوعاً من الدعاء ونوعاً من الشفاعة.
والله تعالى أعلم.(121/11)
تحريم إيذاء الميت بكسر عظمه أو ما شابه ذلك
وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كسر عظم الميت ككسره حياً) رواه أبو داود بإسناد على شرط مسلم، وزاد ابن ماجة من حديث أم سلمة رضي الله عنها (في الإثم)(121/12)
الحكم المترتب على كسر عظم الحي
هذا الحديث أصل عظيم في حسن معاملة الميت، كسر عظم الميت ككسره حياً، والكاف جاءت على سبيل التشبيه والتمثيل، وماذا يترتب على كسر عظم الحي؟ كسر عظم الحي إن كان عمداً ومن مفصل ففيه القصاص.
وإن كان من غير مفصل؛ ففيه دية ذلك العضو، سواء كان عمداً أو خطأً؛ لأن القصاص إنما يكون في حالة يمكن فيها المماثلة، فإذا كسر يد إنسان من المرفق، قطعت يده من المرفق قصاصاً؛ لأنه يمكن أن يفصل الذراع من العضد عند المفصل في المرفق، دون زيادة ولا نقص.
أما إذا كسر الساعد من الوسط ما بين المرفق والكف، فهنا لا يمكن أن تتحقق المماثلة في الاقتصاص، لأن العظام ستنشعب، -أي: تنشرخ وتنصدع- فيعدل فيه عن القصاص إلى الدية، فإن كان عمداً فدية مغلظة، إن كان خطأً فدية الخطأ.
ومعلوم عند الفقهاء أن كل عضوين متماثلين، ففي كل واحد منهما نصف الدية، وفيهما معاً الدية كاملة، ففي اليدين معاً دية كاملة، وفي إحدى اليدين نصف الدية، وكذلك في الرجلين، وفي كل أصبع من أصابع اليد نسبته من الدية، اليد فيها خمسة أصابع، ودية اليد نصف الدية خمسون بعيراً، فيكون الأصبع فيه عشرة من الإبل، وهكذا.(121/13)
حكم كسر عظم الميت
أما في الميت: فتحمل الرواية على أنه في الإثم، أي: لو أن إنساناً كسر عظم ميت، فلا نقول فيه القصاص، سواء كان من مفصل يتأتى فيه القصاص بالمماثلة، أو كان في غيره، لأن الميت لا يتساوى مع الحي.
لكن يأثم الجاني بالاعتداء عليه، كما يأثم في الحي؛ لأن من تعدى على أخيه المسلم الحي الحاضر بكسر يده أو أصبعه؛ فهو آثم مع تحمل الدية: الدية حق لصاحبها، والإثم حق لله في الاعتداء على عباد الله.
فهل الميت يحس بهذا الكسر ويتألم كما يتألم الحي؟(121/14)
وجوب الإحسان في معاملة الميت
وعلى افتراض أن الميت يتألم، فإنه تجب معاملته من أول نزع ثيابه للتغسيل إلى تدليته في اللحد، كمعاملة الأحياء، في الإرفاق به، والتلطف، وحسن المعاملة، فلا ينزع الثوب انتزاعاً يشق عليه، ولو استدعى الأمر أن نقص الثوب قصصناه لئلا نشق عليه.
وإذا وضعناه للغسل أضجعناه برفق.
أما الماء: فإن كان الوقت شتاء أدفأناه، كما لو كان يريد أن يغتسل في الحياة، فيكون الماء مناسباً له، وإذا كان في الصيف أخذنا الماء المعتدل الذي يتناسب معه، كما لو كان يريد أن يغتسل في وقت الصيف وهو حي.
ثم الذي يغسله يجب عليه أن يدلكه برفق، ويقلبه برفق، وإذا أراد أن يرجل شعره فيمشطه برفق، وكذلك تقليم ظفره إلى غير ذلك، أي: أنه يعامل كما يعامل الحي سواء بسواء.
وكل ما يؤذي الحي فإنه يحرم أن يفعل بالميت، وعلى هذا كل ما يتعلق بكرامة الحي، والمحافظة على حقه، وحسن معاملته، يجب أن يكون كذلك مع الميت، إلى أن يلحد في قبره.
إذاً كسر عظم الميت ككسره حياً.(121/15)
حكم الانتفاع بأعضاء الميت
إذا انتهينا من موضوع الجنائز والتغسيل والتجهيز والدفن، في هذه الآونة الحاضرة، رجعوا إلى هذا الحديث في مباحث عصرية حديثة، وهي: إذا مات الميت، وعلى حسب الوضع الحاضر يمكن الانتفاع ببعض أعضائه بالنسبة لحي موجود، فهل نفعل ذلك؟ أعني أنه إذا مات الميت، واحتجنا إلى أخذ الكلية، أو إلى أخذ القلب، أو إلى أخذ القرنية من العين أو أو إلخ، هل نفعل ذلك، أو أن كسر عظمه ككسره حياً.
وهل يرضى حي أن يشق بطنه وتؤخذ الكلية، أو تفقأ عينه وتؤخذ القرنية، أو يشق صدره ويؤخذ القلب؟ الجواب: لا؛ لأن كسر عظمه ميتاً ككسر عظمه حياً، وهكذا جميع الاعتداءات عليه، إذاً: لا يحق لأحد أن يفعل بالميت شيئاً من هذا.
هناك مبحث مفيد في مجلة البحوث العلمية، من هيئة كبار العلماء، أو من إدارة الإفتاء، في هذا الموضوع، إذا توقفت حياة إنسان على هذا العضو، وجاء الخبر اليقين من المختصين بأن حياته متوقفة على ذلك، وتحقيق حياته يحتاج إلى مراحل طويلة، لعدم وجود بديل، وعدم إمكان علاج العضو التالي الذي عند الحي.
وبعد توافق المأخوذ منه والمعطى في أوجه المطابقة المطلوبة؛ لأنه في حالة عدم التوافق يرفض الجسم المعطى ما كان غريباً بالنسبة له، كما في نقل الدم، فإنه إذا لم تتفق الفصيلة بين الطرفين، فلا يمكن أن يعطى ذلك الدم، وقد يكون فيه وفاة المعطى.
إذاً: على فرض وتقدير أن في التبرع بالأعضاء إحياء نفسٍ، وهو أهون وأقرب من تعريض حي للتلف، فيكون في هذه الحالة من باب ارتكاب أخف الضررين، نعم.
إن الاعتداء على جسم الميت جريمة، ولكن المحافظة على حياة الحي وتجنيبه التلف من باب قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32] ، فيكون هذا من باب آخر، مع الاعتراف والإبقاء على القاعدة: (كسر عظم الميت ككسره حياً) .
والله تعالى أعلم.(121/16)
باب كيفية اللحد والدفن وما يتبعه
وعن سعد بن أبي وقاص قال: (ألحدوا لي لحداً وأنصبوا عليَّ اللبن نصباً كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه مسلم.(121/17)
الفرق بين اللحد والشق والتفضيل بينهما
هذا سعد رضي الله تعالى عنه، يوصي لما عرف دنو الأجل، فأوصى أهله عند دفنه، قال: ألحدوا لي لحداً.
إذاً كان هناك الشق، وكان هناك اللحد، ولو كان هناك شيء واحد فقط لما احتاج إلى توصية، ويكون سبيله سبيل الآخرين، لكن وجد الأمران، وتقدم لنا في صفة دفنه صلى الله عليه وسلم، أنهم اختلفوا في اللحد والشق وكان في المدينة رجلان: أحدهما يشق، والآخر يلحد، فقالوا: أبعثوا إليهما، فأيهما جاء أولاً، عملنا عمله، فجاء الذي يلحد، وهو أبو طلحة رضي الله تعالى عنه، فلحدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهنا سعد يقول: ألحدوا لي لحداً، ثم يبين لهم فيقول: كما فعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي اختاره الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، مع تساوي الأمرين من حيث إنه كان يمكن أن يأتي هذا ويمكن أن يأتي ذاك، وهما متساويان، فلما اختار الله لنبيه أحد المتساويين من وجه؛ كان ذلك أرجح وأفضل من الآخر.
ثم قال سعد: وانصبوا عليّ اللبن.
وذلك لسد الفراغ بعد إدخاله اللحد، وإذا وجدت فُرج ما بين اللبنة واللبنة، وضعت فيها الحصيات الصغيرة، وقيل يجعل فيها شيء من كسر اللبنات، وقيل يجعل فيها من الطين ما يمنع التراب أن ينهال عليه.
فإذا وضع في اللحد نصبت عليه اللَّبِن، كما قال سعد: واللبن: مفرده لبنة، وهو الطوب الذي لم يحرق كالفخار، وكانوا يكرهون وجود الطوب المحروق في القبر، فهذا سعد رضي الله تعالى عنه، يوصي أن يجعل له ما جعل مثله لرسول الله صلى الله عليه وسلم.(121/18)
كيفية الدفن
وبهذه المناسبة كان بعض الإخوة يسأل عن حديث (اللحد لنا والشق لغيرنا) هذا الحديث أورده صاحب المهذب، ولكن ذكر النووي في المجموع أنه ضعيف.
ومعنى: (اللحد لنا والشق لغيرنا) ، أن أهل الكتاب يدفنون في الشق، والمسلمين يدفنون في اللحد، ولكن لضعف هذا الأثر؛ فالكل جائز.
فإذا وضع في الشق، فإنه يضجع على شقه الأيمن في طرف الشق، ووجهه إلى القبلة، فقبل إنزال الميت يؤتى باللبن، ويجعل عقوداً بقدر ما يرتفع عن جثة الميت (قرابة نصف المتر) ، ويكون مجافياً للجثة، فقبل أن ينزل ويسل في القبر، يكون الذي يتولى الدفن قد بنى نصف القبر، أي بنى نصف العقد، بحيث إنه حينما يسل في القبر لا يتحرك البناء، فيتساقط على وجهه أو على جسمه من التراب ومن الطين، ومما يتناثر في حالة رص اللبن، فإذا جهز النصف الذي من جهة الرأس، وسل من جهة الرجلين، ووضع الميت في قبره؛ يكون البناء قد عقد إلى النصف، ويكمل بعد بذلك البناء إلى أن يغطي آخر القدمين.
ثم بعد ذلك إن بقيت فجوات وضع من بعض كسير اللبن في تلك الفجوات، أو تملأ بالطين، بحيث لا يسقط شيءٌ على الميت بقدر المستطاع، ثم يهال التراب عليه.
وهنا لا ينبغي أن يزاد في القبر أكثر من التراب الذي أخرج منه؛ فلا نترك شيئاً من تراب الحفرية يضيع في المقبرة، ولا نزيد على التراب الذي أخرجناه من الحفرة.(121/19)
حكم تسنيم القبر، وجعل قبور للأقربين متقاربة
وهل يسوى ويسطح أو يسنم؟ ورد الأمران، فجاء أنه يسنم قدر شبرٍ.
ولا بأس أن يرش عليه الماء لتثبيته حتى لا ينهال، ولا بأس أن توضع شبه العلامة -كحجر عند الرأس- ليعرف، مستطيلاً كان أو مربعاً أو مستديراً، أسود أو أحمر، حتى إذا جاء أهل الميت ورأوا تلك العلامة عرفوه، وذلك كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بـ عثمان بن مظعون، وقال (لأدفن إليه من مات من أهلنا) أي: ليكون معروفاً.
ولا مانع من أن يكون للعائلة أو للجماعة، مكان يجمعون فيه موتاهم متقاربين، وتكون قبورهم متقاربة، حتى إذا جاء زائر من الأقارب يزورهم استطاع أن يشمل الجميع بزيارة واحدة، والله تعالى أعلم.
وللبيهقي عن جابر رضي الله عنه نحوه وزاد: (ورفع قبره عن الأرض قدر شبر) وصححه ابن حبان.
يعني: رفع القبر عن الأرض قدر شبر حتى يكون مميزاً، لا أن يسوى بالأرض فيضيع، أو يكون موضع امتهان بالدهس والجلوس عليه، بل يرفع قدر شبر، وهذا هو الواقع حسب العادة، فإن التراب الذي يخرج من القبر، لا يزيد ارتفاعه فوق القبر أكثر من شبرٍ أو قريباً من ذلك.
ولكن كما يقولون: يحرم أن يسنم فيرفع كثيراً، ويحرم أن يبنى عليه، ويحرم أن يجصص بالجص أو بالأسمنت أو بالطوب الأحمر، أو غير ذلك، أو ينقش أو توجد عليه كتابة، ويقولون: هذا من باب الزخرفة، وهذا من دأب غير المسلمين من أهل الكتاب.
ولا مانع أن تجعل عليه البطحاء، أي: أن يؤتى بالحصباء، وهي الحجارة الصغيرة حمراء أو سوداء، وتجعل على القبر صيانة له، كما هو الحال في البقيع في عدد من قبور زوجات رسول الله أمهات المؤمنين، وبنات رسول الله وعمات رسول الله؛ هذه القبور يوجد عندها أحجار صغيرة عند الرِجل وعند الرأس، والمسطح عليه من الحصباء من الرمل الأحمر الخشن على مسطح القبور المجموعة، فهي قبور منفصلة، ولكنها متراصة متجاورة، والله تعالى أعلم.(121/20)
النهي عن البناء على القبور أو تجصيصها والقعود عليها
ولـ مسلم عنه رضي الله عنه: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه) والجص نوع من الحجر، قريب من الجبس، في بعض المناطق أحجار جيرية إذا أحرقت بالنار ثم دقت، ثم عجن هذا المندق، كان مثل الجبس أو مثل الإسمنت مع الرمل، هذا هو الجص.
فلا تجصص القبور، أي: لا يبنى عليها بنيان، سواء كان كالقبة، أو كان كالغرفة، وسواء كان البناء في ذات القبر، أو كان جرماً عالياً مجسماً بارتفاع قدر متر أو مترين، هذا كله منهي عنه.(121/21)
النهي عن القعود على القبور
قوله: (وأن يقعد عليها) جاء النهي عن القعود على القبر، وعن الاتكاء على القبر، وعن المشي على القبر، وكل ذلك يؤذي الميت في قبره، بل جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه رأى رجلاً لابساً نعلين سبتيتين فقال: يا صاحب السبتيتين قد آذيت) فخلعهما ومشى حافياً.
وفي الحديث الآخر: (إن الميت ليسمع حفيف نعالكم) .
فبعضهم قال: الأولى: إذا دخل المقبرة أن يخلع نعليه، لئلا يطأ على فتات بعض الموتى عند المشي، أو احتراماً للموتى، وذلك أنا نعلم أنه إذا كان مجموعة من الرجال جلوس، وجاء شخصٌ صغير السن، أراد أن يمر ويجتازهم، وكان لابساً نعلين، فإنه يخلعهما ويحملهما في يديه حياءً من الحضور الكبار، واحتراماً لهم، وكما لو مر على جماعة من كبار الناس وهو راكب، فإنه ينزل ويقود مطيته حتى يتجاوزهم، وهذه عادات وآداب أخلاقية ريفية موجودة حتى الآن، فبعضهم يقول: خلع النعلين احتراماً وتوقيراً وتكريماً.
أما النهي عن القعود فباتفاق أن القعود صريح في معنى الجلوس، بقرينة النهي عن الاتكاء عليه، فكانوا في حالة دفن الميت فجلس إنسان واتكأ على القبر، فنهوه عن ذلك فقالوا: لا تؤذِ الميت باتكائك عليه، وهذه القرينة -قرينة النهي عن الاتكاء- تنفي وتمنع تفسير من فسر النهي عن الجلوس على القبر بالجلوس لقضاء الحاجة.
فالنهي عن الجلوس على القبر هو القعود للاستراحة، وقد جاء الحديث: (لئن يجلس أحدكم على جمرة، فتحرق ثيابه وتخلص إلى جلده، خيرٌ له من أن يجلس على قبر) إذاً: النهي عن القعود إنما هو للجلوس والاستراحة، وليس المقصود قضاء الحاجة، وصرفه إليها بعيدٌ جداً؛ لأن هنا نهياً عن الجلوس، ونهياً عن الاتكاء، ونهياً عن المشي، ولكن إذا كان هناك مكانٌ للدفن، ولا طريق إليه إلا أن نتعدى على تلك القبور فماذا نفعل؟ فلابد أن نمشي على تلك القبور لنصل إلى موضع الدفن، قالوا: فحينئذ تكون ضرورة، فيجوز.
فعلى هذا لا ينبغي للإنسان إذا أتى إلى البقيع وشيع جنازة، وانتظر دفنها، أن يطأ قبراً، ولا يتكئ عليه، ولا يجلس عليه.
تقدم لنا الحديث أنه لا يجلس حتى توضع، أي: توضع عن أكتافهم على حافة القبر، ثم توضع في القبر ويبدءون في الدفن، وبعد ذلك يجلسون، حتى يفرغ الذين يتولون الدفن من عملية الدفن، ثم يتلقى أهل الميت العزاء.
أكرر فأقول: تلك الفترة وتلك الجلسة، لا يكون جلوسه على قبر، ولا اتكاؤه إلى قبر؛ فهذا هو محل النهي.(121/22)
كتاب الجنائز [11]
ن الحرص على اتباع جنائز المسلمين وحضور دفنهم لهو مما رتب عليه الشارع أعظم الأجر والمثوبة، فمن حضر دفن أحد المسلمين فيشرع في حقه أمور منها: أن يهيل التراب على الميت ولو بثلاث حثيات، ثم يدعو للميت بعد دفنه ويستغفر له، كما يشرع في حق المسلمين عامة موالاة زيارة مقابر المسلمين للدعاء لهم وأخذ العبرة والاتعاظ من حالهم الذي هم فيه(122/1)
الحثو على القبر ثلاث حثيات
وعن عامر بن ربيعة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على عثمان بن مظعون، وأتى القبر فحثا عليه ثلاث حثيات، وهو قائم) رواه الدارقطني.
هذا ما أشرنا إليه سابقاً من المشاركة في الدفن، من أن النبي صلى الله عليه وسلم، صلى على عثمان بن مظعون، وأتى القبر ثم حثا عليه ثلاث حثيات، والحثية: الغرفة بالكف، ولكن هنا بيديه؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم شارك في الدفن بأن أخذ ثلاث حثيات من تراب القبر ووضعها عليه، كأنه شارك فيمن يهيل التراب عليه بالمسحاة ونحوها.
ولكن هنا لفتة في التثليث، يقولون: لما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55] ؛ فيقول النووي: في كل حثوة يحثوها يقول كلمة من الثلاث: الأولى: منها خلقناكم.
الثانية: وفيها نعيدكم.
الثالثة: ومنها نخرجكم تارة أخرى.
وهكذا الإنسان إن استطاع أن يشارك في إهالة التراب، أو كان العدد قليلاً فيتراوحون فيما بينهم ويساعد في ذلك، وإذا كان العدد كثيراً، وأراد أن يشارك، فقد جاء أن في كل ذرة منها حسنة، فكم في الحثية هذه من ذرة رمل أو غير ذلك، فله أجر في هذه المشاركة، والله سبحانه وتعالى أعلم.(122/2)
باب الاستغفار للميت بعد دفنه
وعن عثمان رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل) رواه أبو داود وصححه الحاكم.
في هذا الحديث يبين لنا المؤلف رحمه الله حقَّ الميت علينا من الاستغفار، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك؛ لأن كلمة (كان) تدل على التكرار والكثرة، لم يقل: (وقف) بل قال: (كان) .
فإذا فرغ الناس من دفن الميت، وأهالوا عليه التراب، ولم يبق إلا أن ينصرفوا؛ وقف وقال للحاضرين: (استغفروا لأخيكم) .
وهذا من أدلة انتفاع الميت بعمل الحي؛ لأن استغفارهم هو طلب المغفرة من الله للميت، وليس للميت في ذلك عمل، ثم يقول صلى الله عليه وسلم، مع طلب المغفرة له (سلوا الله له التثبت) {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27] وهذه في الآخرة.
فهنا: (واسألوا الله له التثبيت، فإنه الآن يسأل) وهذا من أقوى أدلة وجود عذاب القبر ونعيمه، وسؤاله، وقد جاء تفصيل هذه المسألة في حديث، وأنه إذا انصرف الناس عن ميتهم أتاه ملكان، وذكر من صورتهما الشيء الكثير، يقال لأحدهما المنكر وللآخر النكير، فيجلسانه فيسألانه: من ربك؟ ما دينك؟ من هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فالمؤمن يلهمه الله سبحانه وتعالى الجواب، فلا يفزع منهم، ويجيب على ما كان عليه، فإذا قالوا: من ربك؟ يقول: ربي الله رب السماوات والأرض، ما دينك؟ يقول: ديني الإسلام، ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هذا محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولان: نم نومة العروس، ويرى منزله من الجنة ومن رياضها، ونعيمها، ويفسح له في قبره، ثم يفتح له بابٌ أو نافذة على النار، ويقال له: كان هذا مصيرك، لو لم تكن مؤمناً.
أما غير المؤمن -نسأل الله السلامة والعافية- فإذا سئل من ربك؟ يقول: هاه هاه لا أدري! فيقول الملكان: لا دريت ولا تليت.
ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري! يقولان: لا دريت ولا تليت، ثم يضرب ويعذب، نسأل الله السلامة والعافية، ونسأل الله أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وهذا الحديث يستدل به بعض العلماء على ما ينبغي أن يقال ويذكَّر به الميت، وبعضهم يذكر صيغاً لذلك كما ذكرها النووي في المجموع وذكرها ابن قدامة في المغني، وذكرها غيرهما، منها: يا عبد الله، فإنه يسمع: يا فلان بن فلان فإنه يجلس، أو إلى الثالثة يجلس، فيقول له: تذكر ما فارقتنا عليه من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وعلى دين الإسلام، وملة محمد صلى الله عليه وسلم.
إلخ، ويذكرون ألفاظاً يذكرون بها الميت، وجواب الملكين، حينما يسألانه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن موضوع السؤال: من ربك؟ ما دينك؟ ما نبيك؟ فهذه الثلاثة الأصول التي يسأل عنها الإنسان أول ما يسأل في قبره.
والله تعالى أعلم.(122/3)
التلقين بعد الدفن
وعن ضمرة بن حبيب رضي الله عنه أحد التابعين قال: [كانوا يستحبون إذا سوي على الميت قبره وانصرف الناس عنه، أن يقال عند قبره: يا فلان! قل لا إله إلا الله ثلاث مرات، يا فلان! قل ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد] رواه سعيد بن منصور موقوفاً.
بعض العلماء يجعل هذا الحديث من باب تلقين الميت بهذه الأصول الثلاثة، وبعضهم يجعله من باب التذكير فقط والتلقين، وربما زاد عليه بعض الألفاظ، وأعتقد أن هذه المسألة بطولها قد تعرضنا لها، وجئنا فيها بأقوال الإمام ابن تيمية رحمه الله، وذكر الأثر الوارد عن أبي أمامة، وما كان يفعله السلف من تلقين الميت بعد موته عند القبر كما في حديث: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) مما يغني عن إعادته هنا، والجمهور على تلقين الميت هذه الألفاظ، وقد يضاف إليها غيرها، والله تعالى أعلم.
وللطبراني نحوه من حديث أبي أمامة مرفوعاً مطولاً.(122/4)
باب حكم زيارة القبور
وعن بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله تعالى عنه قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها) رواه مسلم، زاد الترمذي: (فإنها تذكر الآخرة) هذه المسألة طويلة الذيل كما يقال، وهي قديمة تتجدد، ويكثر النزاع فيها من آونة لأخرى، ألا وهي زيارة النسوة للقبور، فهل يجوز ذلك أم لا؟ ونجد في هذه المسألة فريقين، يقول: لا تزور، وفريقاً يقول: بل تزور، فهي دائرة بين الجواز والمنع.
وإذا زارت هل تكون الزيارة مكروهة أم محرمة؟ فمنهم من يقول بالكراهية، ومنهم من يقول بالتحريم، وأصل هذه المسألة كما سمعنا الإشارة إليها: (كنت نهيتكم) كانت زيارة القبور ممنوعة على الرجال والنساء سواء، وما كان لأحد حق أن يزور قبراً.
قال المجيزون: كان ذلك في أول الأمر، إبعاداً عن الإمعان في تعظيم الموتى؛ لأن تعظيم الموتى كان هو الخطوة الأولى للمسيرة الطويلة في عبادة الأصنام، في مثل قضية يغوث ويعوق ونسر، وكانوا رجالاً صالحين.
كما هو معلوم في قصة هؤلاء الرجال في زمن نوح عليه السلام.(122/5)
أدلة القائلين بالمنع من زيارة النساء للقبور
نهى الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين عن زيارة القبور سداً للذريعة، من أن يقعوا في تعظيم الأموات، فيطول الزمن، فيئول الأمر إلى عبادتهم.
فلما استقرت العقيدة عند المسلمين، وكان في زيارة القبور مصلحة، جاء الإذن، ولكن لمن كان ذلك الإذن؟ هنا وقع الخلاف فقوله: (ألا فزوروها) الخطاب هنا لواو الجماعة الذكور، فهل يدخل النسوة تبعاً للذكور في: (زوروها) ، ويكون الإذن عاماً للطرفين، أم أن الإذن هنا خاصٌ بواو الجماعة وبقي النسوة على المنع الأول؟ فقومٌ قالوا: إن الإذن هنا لواو الجماعة، ونون النسوة لم تأت، واستدلوا لقولهم هذا بحديث آخر، وهو: (لعن الله زوّارات القبور) وهذا الحديث جاء بلفظين، لفظ صيغة المبالغة: زوارات، ولفظ اسم الفاعل: زائرات.
فزائرات تدل على وجود الزيارة، ولا تدل على الكثرة؛ لكن (زوارات) تدل على كثرة التردد للزيارة، فالمانعون قالوا: الإذن جاء للرجال دون النساء، والوعيد جاء للنسوة في الزيارة.(122/6)
أدلة القائلين بجواز زيارة النساء للقبور
وقال المجيزون: أما واو الجماعة، فإن القاعدة في اللغة العربية تقول: إنه إذا وجدت مائة امرأة ورجلٌ واحد فإنه يخاطب المائة والواحد بواو الجماعة للمذكر، ويدخلن النسوة معه تبعاً، وأيضاً قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة) فإن الواو هنا واو الجماعة، فيدخلن النسوة قطعاً في إقامة الصلاة.
ومثل ذلك مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ} [البقرة:183] فقوله: (آمنوا) دخلت مع واو الجماعة نون النسوة في الصيام، قالوا: فلا دليل للمانعين في ذلك.
ثم إن حديث: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها) جاء فيه التعليل للإذن بالزيارة في قوله: (فإنها -أي: الزيارة للموتى- تذكر الآخرة، وتزهد في الدنيا، أو تذكر بالموت) إذاً: الإذن بالزيارة معللٌ بعلة، وهي أن يتذكر الزائر الموت، ويزهد في الدنيا، ويرغب في الآخرة، وليست تلك العلة خاصة بالرجال، بل إن النسوة أيضاً في حاجة إليها، والحكم إذا كان معللاً بعلة، فإنه يدور معها وجوداً وعدماً، والعلة موجودة في النساء، بل إن المرأة أحوج إلى هذا التذكير.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زوارات القبور) فنقول: نعم، الحديث جاء بصيغة المبالغة؛ لأن المرأة تكثر الزيارة، فيكون هناك بعض المحظورات؛ لأنها قد لا تتحفظ في الذهاب، ولا تؤدي واجب بيتها، وقد تهمل البيت بكثرة الخروج، وقد تتكلم بكلام لا يرضي الله.
وجاء في الحديث السابق: (ألا فزوروها، ولا تقولوا هجراً) يعني: إذا زرت المقابر فلا تقل: يا حبيبي، يا سندي، ونحو ذلك.
فيكون النهي لزوارات القبور لعدم صبرهن عند المجيء إلى القبر، وتكلمهن بأشياء لا ترضي الله عز وجل.
وجاء أيضاً في حديث آخر: (مر النبي صلى الله عليه وسلم بالمقبرة، فوجد امرأةً تبكي عند قبرٍ، فقال: يا أمة الله! اتقي الله واصبري، فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي، فتركها وذهب، فأتيت فقيل لها: إنه رسول الله، فاعتراها ما يشبه الموت، ثم أسرعت ولحقت به، تقول: فما وجدت على بابه بوابين، وقلت: يا رسول الله! أتوب إلى الله وأصبر، قال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى) قال المجيزون: كانت هذه المرأة في المقبرة عند القبر تبكي، فلم يبدأ بنهيها، ولم يقل: أنت ملعونةٌ في زيارتكِ، ولم يقل لها: أنت منهية عن الزيارة، ولكن أرشدها إلى ما هو الأفضل: (اتقي الله واصبري) فقد أقرها على زيارتها ومجيئها إلى القبر.
قال المانعون: وما يدرينا، لعلها ذهبت مع المشيعين وجلست هناك؟ وقد أجاب المجيزون عن ذلك بحديث: (نُهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا) وجاء حديث عن عائشة رضي الله عنها وفيه: (.
ثم انطلقتُ على إثره حتى جاء البقيع فقام فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف فانحرفت، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر فأحضرت، فسبقته فدخلت، فليس إلا أن اضطجعت فدخل، فقال: مالكِ يا عائش حشيا رابية؟ قالت: قلت: لا شيء، قال: لتخبرني أو ليخبرني اللطيف الخبير، قالت: قلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي.
فأخبرته.
قال: فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟ قلت: نعم.
فلهدني في صدري لهدة أوجعتني.
ثم قال: أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله؟ قالت: مهما يكتم الناس يعلمه الله؟ قال: نعم.
فإن جبريل أتاني حين رأيتِ فناداني، فأخفاه منك، فأجبته، فأخفيته منك، ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك، وظننت أن قد رقدتِ، فكرهت أن أوقظك، وخشيت أن تستوحشي، فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم.
قالت: قلت: إذا زرت القبور فكيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون) فهنا أم المؤمنين تسأل: ماذا أقول إن أنا زرت؟ فلم يقل لها: لعن الله زوارات القبور ولم يقل لها: أنتِ منهية عن زيارة القبور، بل أقرها على سؤالها، وعلمها ماذا تقول إن هي زارت القبور، ولهذا يذكر النووي -وإن كان مذهب الشافعي الكراهة- أن مذهب الجمهور الجواز بشرط الأمن من محظورٍ شرعي: مثل أن تتكلم بكلمات لا ينبغي أن تتكلم بها، كأن تقول: يا سندي يا حبيبي أو أنها تخرج من غير تحفظ بتزين أو بغيره، أو تعطل مصالح بيتها من زوجها وأولادها إلى غير ذلك، وكذلك حالة الإكثار.
وعلى هذا استدل المانعون بما ذكرنا، واستدل المجيزون بما ذكرنا، وكلٌ رد على الآخر في رأيه، والأخير ما ذكره النووي: بأن الأكثر على جواز ذلك مع أمن المخالفة الشرعية، في قولها، وفي صورة خروجها.(122/7)
باب النهي عن النوح (النهي عن النياحة)
وعن أم عطية رضي الله تعالى عنها قالت: (أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ننوح) متفق عليه.
هذا الخبر جزء من حديث طويل، تقول أم عطية رضي الله تعالى عنها في أوله (لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، جمع النسوة في بيت، ثم أرسل إليهن عمر رضي الله تعالى عنه؛ فأتاهن عمر فقال: إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكن، لقد بايعكن رسول الله) أي: فلا داعي لمجيئكن إليه.
فالبيعة تكون من الرجال بالمصافحة، أما النسوة فتقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (ما صافح رسول الله امرأة قط) حتى في البيعة لما بايع النسوة في مكة، وقصة هند مشهورة، فقد كان عمر يتكلم عن رسول الله للنسوة، ولم يصافح الرسول صلى الله عليه وسلم النسوة في بيعة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} [الممتحنة:10] إلى آخره.
فهنا قال لهن عمر: (أنا رسول رسول الله إليكن، يقول لكن رسول الله: قد بايعتكن) أي: اقعدن في محلكن، ولا حاجة إلى أن تحضرن إلى رسول الله لتبايعنه، فأنا نيابة عنه أبلغكن بيعة رسول الله إياكن على الإسلام.
وأخذ العهد عليهن، بأن لا ينحن، وذكر أشياء من صدق الحديث، وعدم السرقة، وألا يأتين ببهتان يفترينه.
إلى آخره ما يقال في بيعة النساء.
فهنا أم عطية تقول: وأن لا ننوح، أي: على ميت، وكذلك: أن لا نتبع جنازة، وأشياء عديدة ذكرها عمر رضي الله تعالى عنه.
المهم عندنا قول أم عطية رضي الله تعالى عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ عليهن العهد، أخذه بواسطة عمر رضي الله تعالى عنه حينما أرسله إليهن بالبيعة، وبأوامر بينها صلى الله عليه وسلم، ومنها: أن لا ينحن على ميت.(122/8)
باب النهي عن النوح (لعن النائحة والمستمعة)
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم النائحة والمستمعة) أخرجه أبو داود.
النائحة: هي التي تنوح، أي: تبكي وتندب الميت، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم النهي عن النياحة على الميت، وعن شق الجيب، وعن لطم الخد، وعن أشياء كثيرة كان العرب يصنعونها في الجاهلية، ولا زال بعض الجهلة يفعلون ذلك، حتى كانت تذهب المرأة وتأتي بالطين وتجعله على رأسها، وذلك زيادة في الاستساءة، والفزع بموت من مات من عزيز عليها.
وكل ذلك من عدم الرضا بالقضاء والقدر، وعدم التسليم لقضاء الله سبحانه وتعالى، وفرق بعيد جداً بين هذا العمل، وبين فعل أم سليم زوجة أبي طلحة رضي الله تعالى عنهما؛ حيث: (كان لـ أبي طلحة ولد صغير، وكان عزيزاً عليه جداً؛ فمرض، فكان كلما أراد الخروج ينظر إليه، وإذا جاء فأول ما يسأل عنه، فتوفي في غيبة أبي طلحة، فجاء أبو طلحة فسأل عن الولد، قالت: إنه اليوم أسكن ما كان، وتركته مسجى، ثم قدمت له العشاء، ثم تهيأت له تهيؤ الزوجة لزوجها؛ حتى جامعها.
ثم بعد ذلك قالت له: يا أبا طلحة! أرأيت لو أن أحداً أودع أحداً وديعة، ثم جاء في وقت وطلبها منه، أكان يقدمها إليه أم يمتنع من رد الوديعة؟ قال: لا، بل إنه يرد الوديعة لصاحبها، قالت: فإن الله قد استودعك الغلام، وقد أخذ وديعته، فقم فواره؛ فغضب غضباً شديداً، وقال: تركتني حتى فعلت ما فعلت، ثم أخبرتني بهذا.
ثم لما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشتكى إليه ما فعلت المرأة، فقال: بارك الله لكما في ليلتكما) فكانت ليلة مباركة، وحملت فكان حملاً مباركاً.
فهذه امرأة ولدها الصغير تعتريه الوفاة، ثم تتحمل وتستطيع أن تخفي آثار ذلك، لا تظهر علاماته على قسمات وجهها، ولا فلتات لسانها، بل تعد الطعام للزوج، ويتعشى، ثم تتهيأ في نفسها، وذلك لقوة الإيمان والقدرة على التحمل، والتسليم لقضاء الله.
ثم إذا بها تتلطف في إخبار الزوج بقضية مسلّمة: (وديعة طلبها صاحبها) ، ثم نقارن بينها وبين أولئك النسوة اللاتي ينحن، ويلطمن الخد، ويشققن الجيب؛ فالفرق كبير جداً، فالرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن النعي، وعن النياحة، وضرب الخد، وشق الجيب، بل قال: (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية) والحديث الذي ذكره المؤلف يشمل النائحة والمستمعة، أي: والمستمع أيضاً، ولكن خصص المستمعة بالذكر، لأنها تأتي معها؛ لأنه كان من عادتهن أن يجتمعن في جانب، وينصبن مناحة -كما يقولون- وبعض النسوة تتكلم بعض الكلمات، ومجموعة من النسوة يرددن كلامها، فيكون عملاً مستقلاً خاصاً بالنساء، لا يشارك فيه الرجال، فإذا جاءت النساء مع النائحة ليفعلن ذلك الفعل، فالنائحة والمستمعة في هذا سواء.
وكذلك يقال: لو أن رجلاً يتسمع لذلك؛ فهو تابع في هذا، ما لم ينه عنه، أو يخرج من عهدة الإنكار لهذا المنكر.(122/9)
عذاب الميت في قبره بما يناح عليه
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الميت يعذب في قبره بما نيح عليه) متفق عليه.
هذا الحديث كثير من علماء الحديث يجعله موضع إشكال، لأن الميت ما ناح، والذي ناح إنما هو غيره من الأحياء، فلماذا يعذب الميت، وقد قال الله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم:39] ، وقال: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] ؟ قال بعضهم: إن الميت يعرف طبيعة أهله وذويه، فإذا كان من طبيعة أهله النياحة على الميت، وقد حضرته الوفاة، فإن كان راضياً بما يفعل أهله من النياحة ولم ينههنَّ، فيكون كأنه أمرهنَّ.
أي: أن الساكت عن المنكر مشارك، كما قيل: السامع للذم شريك لقائله، ومطعم المأكول شريك للآكل، فقالوا: إما أن يوصي بأن يناح عليه كما فعل طرفه إذا مت فانعيني بما أنا أهله وشقي علي الجيب يابنة معبد فأوصى زوجته أن تندبه بعد موته، وهذا أمر جاهلي.
فإذا كان الميت يعرف من طبيعة أهله النياحة، فعليه -براءة لذمته وخروجاً من العهدة- أن يمنعهن وينهاهن، ويوصي بعدم النياحة، فإن فعل ذلك زال عنه الحرج والإثم ولو خالفن وصيته، وهن يتحملن إثمهن، ولا يصيبه من فعلهن شيء، أما إذا سكت وهو يعلم أنه سيقع هذا المنكر؛ فإنه يكون مشاركاً، ويعذب بذلك.
وجاء في ترجمة عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، أنه مرض وأغمي عليه، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم يعوده وقال: (اللهم إن كنت أبقيته من العمر فعافه.
، ثم أفاق فقال: يا رسول الله! لقد عوتبت فيما تقوله أمي، كانت تقول: واسنداه! قال: فكلما قالت شيئاً أتى ملك يقول: أأنت كذلك؟ أأنت كذلك) إذاً: إن علم الإنسان من أهله تلك الحالة فعليه أن يوصي بمنعها، فإن فعلن بعد الوصية وبعد النهي، فلا شيء عليه، وإن عرف وسكت، فكأنه راض ومقر على ما يعلم، فيلحقه من ذلك شيء، والله تعالى أعلم.(122/10)
الحزن والبكاء على الميت ليس من النياحة
وعن أنس رضي الله عنه قال: (شهدت بنتاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم تدفن، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس عند القبر، فرأيت عينيه تدمعان) رواه البخاري.
من فقه المؤلف رحمه الله في ترتيب الأحاديث، أنه ذكر حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن النائحة والمستمعة، ثم أعقبه بحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على حافة قبر ابنته فدمعت عيناه.
فكيف يلعن النائحة وعينه تدمع؟ فكأن المؤلف يقول: دمعة العين وبكاء الإنسان على الميت ليس من اليناحة، فإن النياحة قول باللسان.
وبعض النسوة قد تأتي مجاملة، لا هي حزينة ولا أصيبت بشيء، ولكن زوجة الميت صديقة لها أو قريبة لها فتأتي لتنوح مع تلك المرأة مجاملة، أو لأجل أن تقضيها تلك النياحة عند فقد قريب لها.
هذه عادات، ولكن الإنسان من حيث هو بشر يتأثر بالعاطفة، فهذا سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وابنته تدفن، وهو على حافة القبر، فتدمع عينه، وكذلك عن موت ولده إبراهيم عليه السلام، لما بكى ودمعت عينه، قيل له: (أتبكي؟ قال: نعم.
إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون) هل هذا نعي؟ لا.
ولكن تعبير عن الوجدان النفسي، وعن الشعور الإنساني؛ فلا مانع في ذلك.
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما مثل هذا الموقف، قالوا: أتبكي؟ قال: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:43] بمعنى: أن الضحك ليس باختيارك، فإنك إذا رأيت شيئاً يضحك وأردت أن تكتم الضحك فإنك لا تستطيع، وكذلك البكاء، لو وجدت منظراً مؤلماً حساساً، فتدمع العين، ويحزن القلب، فإذا أردت أن تدفع هذا عنك لم تستطع؛ لأنها غريزة متمكنة في الإنسان.
إذاً: ما كان بالجبلة وبالغريزة من الحزن في القلب، ومن الدمعة في العين؛ فهذا لا يلام الإنسان عليه؛ لأنه فوق طاقته، المهم فيما يتكلم به وكان يمكن أن يمسك عنه ويتكلم بغيره.
إذاً: المؤلف رحمه الله جاء بهذا الحديث عقب الحديث الذي قبله، ليبين أن التوجع والألم والبكاء ليس من النعي في شيء والله تعالى أعلم.(122/11)
باب كراهية الدفن ليلاً
وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تدفنوا موتاكم بالليل إلا أن تضطروا) أخرجه ابن ماجة وأصله في مسلم، لكن قال: (زجر أن يقبر الرجل في الليل حتى يصلى عليه) هذا الحديث يمكن أن نضيفه إلى ما تقدم في بيان أوقات الصلاة والأوقات المنهي عنها.(122/12)
الأوقات المنهي عن الصلاة فيها ودفن الموتى
ونعلم أن الأوقات المنهي عن الصلاة فيها سبعة، منها ثلاثة منهي عن الصلاة فيها، وأن نقبر فيهن موتانا: 1- عند طلوع الشمس بازغة حتى ترتفع.
2- وعند قيام قائم الظهيرة حتى تتحول.
3- وعند أن تضيف الشمس للمغيب حتى تغرب.
هذه الأوقات الثلاثة نهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها مع بقية الأوقات السبعة، ونهى عن دفن الموتى فيها.(122/13)
الحكمة من النهي عن دفن الميت ليلاً
وهنا نُهي عن دفن الميت ليلاً حتى يصلى عليه.
يقول العلماء في هذا الحديث: النهي معلل؛ وذلك أن دفن الميت ليلاً كان من الصعوبة بمكان، فلم يكن هناك وسائل إضاءة تمكن الذين يدفنون الميت من أداء الواجب على الوجه المطلوب، وقد تقدم: (أن قوماً مروا على المقبرة فوجدوا ناراً، فيمموها، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر يقول: ناولوني ميتكم.
الحديث) وكانوا يشعلون السعف، فكانت وسائل الإضاءة كما هي اليوم في الأرياف والبوادي نار الحطب، فربما يكون الدفن ليلاً مدعاة إلى التقصير في حق الميت.
إذاً: لا ينبغي التعجل بالدفن ليلاً، وإذا كان ممكناً بدون أن يلحق الميت شيء؛ فإنه يؤجل إلى الصباح ليتمكن الناس من تجهيزه كاملاً، ومن دفنه على ما ينبغي.
ويجوز أيضاً تأخير دفنه لانتظار حضور من يعز عليه من أقاربه أو من الصالحين الذين يحضرون ليصلوا عليه، ويدعوا له ويشيعوه ويحضروا دفنه.
هذا وقد دفن الصديق رضي الله تعالى عنه ليلاً، ودفن عمر رضي الله تعالى عنه ليلاً.
إذاً: إن تمت إجراءات التجهيز كاملة، ولم يبق إلا مجرد ظرف الزمن من ليل أو نهار، فليس هناك مانع من الدفن، ولكن قوله: (إلا أن تضطروا) : الاضطرار يكون إما لخوف، وهذا يكون في الأحوال السياسية الاضطرارية، حيث يكون الميت له أعداء، فيريد أهله أن يواروه قبل أن يشعر به خصمه أو عدوه، أو أن يكون الوقت حاراً، ويكون الميت قد توفي -مثلاً- في الظهيرة وتأخر تجهيزه، ولا يمكن أن ينتظر به إلى النهار لحرارة الجو، وعدم احتمال الجثة الانتظار.
فإن لم يكن هناك اضطرار، ولم يفرغوا من تجهيز الميت تجهيزاً يليق به، فلا يدفن ليلاً وينتظر به إلى النهار، وكذلك إذا كانت هناك عوامل أخرى للتأخير، ولكن في حدود عدم مضرة الميت.
ومن دواعي الانتظار كما أشرنا إلى ذلك، حضور أقاربه، أبنائه، وأصدقائه الصالحين وغيرهم من معارفه الذين: يحضرون فيكاثرون الصلاة عليه، ويدعون له، ويشيعونه ويدفنونه.
، والله تعالى أعلم.(122/14)
كتاب الجنائز [12]
إن القيام بحوائج المسلمين والسعي في مصالحهم مما أكد الإسلام على وجوبه وحث عليه، وما من أهل بيت من المسلمين إلا ويصابون في واحد منهم بمصيبة الموت، فيكون لهم بذلك شغل عما سواه، لذلك فقد شُرع في حقهم القيام على مصالحهم في تلك الأثناء من إصلاح الطعام لهم وغير ذلك من الأمور التي تعينهم على الصبر على مصابهم، ويأتي في هذا الباب عدم الإثقال عليهم بالزيارة وطول الإقامة مما يسبب لهم الحرج في ذلك.
كما أن الشارع الحكيم دعا إلى الموالاة في زيارة المقابر والدعاء لموتى المسلمين بالأدعية المأثورة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم(123/1)
صنع الطعام لأهل الميت(123/2)
مواساة أهل الميت ومعاونتهم
وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال: (لما جاء نعي جعفر حين قتل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد أتاهم ما يشغلهم) فتح راء جعفر لأنه ممنوع من الصفر يجر بالفتحة نيابة عن الكسرة.(123/3)
من سيرة جعفر رضي الله عنه
وهذا الحديث يعيدنا إلى السيرة النبوية، الحديث يقول: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فإنهم قد أتاهم ما يشغلهم) وذلك حينما جاء نعي جعفر، نعي أي: الإعلام بموته، وذلك أن جعفر، وهو: جعفر بن أبي طالب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أحد الأمراء الثلاثة في غزوة مؤتة.
لقد نعي الكثير إلى رسول الله، واستشهد العديد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء في أحد أو في بدر أو في غيرها، ولم نسمع مثل هذا القول (اصنعوا لآل فلان طعاماً، فقد أتاهم ما يشغلهم) ، وجاء هذا في جعفر خصوصاً، ولم أجد جواباً على هذا الخصوص، ولكن على كل مسلم أن يرجع إلى حياة جعفر، ومن هو جعفر؟ وما هي أعماله؟ لعل في سيرته ما يكون شبه الجواب، أو ما يسكن النفس إلى هذا الأمر.
من هو جعفر؟ أولاً: قوله: (اصنعوا لآل جعفر) الآل والأهل بمعنى، وهم عشيرة الإنسان، لكن يقال: الآل للشخص ذي المنزلة الرفيعة في الدنيا، ويقال: الأهل لكل إنسان من أي طبقات المجتمع.
إذاً: الآل تطلق في أعالي طبقات المجتمع، ولا تكون للطبقات النازلة، وهنا جعفر هو ابن أبي طالب، وأخو علي رضي الله تعالى عنهما، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد هاجر الهجرتين، وأسلم سابع سبعة، ونذكر من سيرته من ما رواه علي رضي الله تعالى عنه يقول: (كنت أنا ورسول الله نصلي -أي خفية-، فطلع علينا أبو طالب، ويتبعه جعفر؛ فرآنا نصلي، فإذا أبو طالب يقول لـ جعفر: انزل فصلِّ بجناح ابن عمك -أي بجانبه- فلما أتم رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، التفت إلى جعفر وقال: (وصلك الله بجناحين في الجنة بما وصلت ابن عمك) ، وقال لعمه: انزل صلِّ معنا، فأجابه بالجواب الذي مات عليه) فكان جعفر رضي الله تعالى عنه من أول حياته -كما كان علي رضي الله تعالى عنه- مع رسول الله، وهناك يقول أبو طالب: والله! إني لأعلم يا بن أخي أنك على الحق، ولكني كذا وكذا.
فمن بادئ الأمر اشتد الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه، وكان رسول الله صلوات الله وسلامه عليه في منعة عمه من أن يصيبه الناس، فلما توفي عمه، وكذلك خديجة، واشتد الأمر على أصحابه وعليه صلوات ربي وسلامه عليه، فقال: (إن في الحبشة ملكاً عادلاً لا يظلم عنده أحد، يمكن أن تكونوا بجواره؛ حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً) فهاجر جعفر إلى الحبشة، وكان لـ جعفر رضي الله تعالى عنه موقف مشهود في بلاط الملك، حينما نزلوا بأرض الحبشة، ووقعت وقعة بدر، وأصيب من المشركين ما أصيب، قالوا: نأخذ ثأرنا ممن هم في الحبشة، وأرسلوا عمرو بن العاص، وعبد الله بن ربيعة بهدايا للنجاشي، وأخذوا معهم هدايا لبطارقته أي بطارقة الملك في بلاطه، وأعطوا كل بطريق هديته، وقالوا: نحن جئنا الملك نطلبه أولئك الفتية الذين خرجوا من دين قومهم، ولم يدخلوا في دين ملككم، فإذا كلمناه فصدقونا، ومروه بأن يردهم على أهلهم.
قالوا: نفعل.
فلما دخل عمرو بن العاص ورفيقه، وقال: ما جاء بك يا عمرو؟! وكان صديقه من قبل، قال: جئتك بالهدايا، ثم قال: إن فتية سفهاء خرجوا من دين آبائهم، وقد أرسلني قومهم إليك لتردهم إليهم؛ لأنهم خرجوا من دين آبائهم ولم يدخلوا في دينك.
فقال البطريق: نعم أيها الملك رُدَّهم، فإن قومهم أعلم بأمرهم؛ فغضب الملك، وقال: لا.
والله لا أردهم؛ حتى أستحضرهم وأسألهم ما الذي هم عليه، فدعاهم.
يقولون: ما اشتد علينا أمرٌ كذلك اليوم؛ لأنا سمعنا بمجيء عمرو بن العاص وهو من الدهاة، فحضروا عند الملك، فسألهم ما هذا الدين الجديد الذي دخلتموه وتركتم دين آبائكم، ولم تدخلوا في غيره من اليهودية ولا النصرانية.
كان جعفر رضي الله تعالى عنه لما اجتمعوا عند طلب الملك، قد قال لأصحابه: أنا خطيبكم اليوم عند الملك، فقام جعفر وقال: [أيها الملك! إنا كنا في جاهلية جهلاء، يأكل قوينا ضعيفنا، لا نحل حلالاً ولا نحرم حراماً، ونفعل كذا، ونأتي كذا، ونشرب كذا -وأخذ يذكر مساوئ الجاهلية كلها- حتى أكرمنا الله وبعث فينا رجلاً منا نعرف نشأته، ومولده، وصدقه وأمانته، فأمرنا أن نعبد الله وحده -أي بدل الأصنام- وأمرنا بالصدق، وبصلة الأرحام، وبكذا، وكذا، وكذا] ، فلما سمع الملك ذلك أعجب بهذا، ثم قال: أنتم السيوح، أي: سيحوا في الأرض لا يسبكم أحد إلا عوقب.
ثم قال: أيها القوم! لا حاجة لي في هداياكم، أو أنه انصرف إلى عمرو وقال: يا عمرو! ويحك هذا أمر صفته كذا وكذا، فخرج عمرو وصاحبه من عند الملك بخفي حنين -كما قيل- فـ عمرو قال: والله لأستأصلن شأفتهم، فرجع من الغد إلى الملك، وقال: أيها الملك! أتدري أنهم يقولون في عيسى أنه عبدٌ، عيسى معبود الملك، أو ثالث ثلاثة، أو ابن الله، فدعاهم مرة أخرى فاجتمعوا وقالوا: لماذا دعانا مرة أخرى؟ ماذا تقولون له إن سألكم عن عيسى؟ قال: والله ما نقول إلا ما قاله الله، وليكن ما يكون بعد ذلك، فجاءوا، وسأل أيضاً وتكلم جعفر رضي الله تعالى عنه.
فقال الملك: هل عندكم شيء مما جاء به هذا النبي؟ قال: نعم، وقرأ عليه {كهيعص} [مريم:1] إلخ.
ثم قال: ما تقول في عيسى؟ ما يقول نبيكم في عيسى؟ قال: كما قال الله: عبد الله، ورسوله، وكلمته، ألقاها إلى مريم البتول العذراء وروح منه.
فألقى النجاشي إلى الأرض ورفع عوداً صغيراً بين أنامله -وكان البطارقة موجودين ناشرين صحفهم أي: الأناجيل - قال: والله ما زاد عيسى ولا نقص على ما قال صاحبكم، ولا مثل هذا العود.
فخار البطارقة، فقال: سواء عليكم تخورون أو لا تخورون، هذا هو الحق.
ثم قال لجلسائه: ردوا عليهم هداياهم، والله ما أخذ الله عليَّ الرشوة حين رد عليَّ الملك، ولا أطاع الناس فيَّ، فلن آخذ الرشوة في هؤلاء، ولن أطيع الناس فيهم.
وقوله: ما أخذ الله الرشوة عليَّ في رد ملكي، يقولون في تاريخه: كان أبوه ملكاً على الحبشة، وكان له أخ، وأبو النجاشي ليس له ولد إلا هذا، وأخوه له عشرة أولاد، فقال أهل الحبشة: إن هذا الملك ليس له إلا ولدٌ واحد، فإذا مات وتولى ولده ومات ولده انفلّ أمر الحبشة وضاعت، فلنقتل هذا الملك، وننصب أخاه؛ حتى إذا كان ملكا توارث الملك من أبنائه عشرة أبناء ينتظم أمر الحبشة، ويظل مدة طويلة، ففعلوا، ونصبوا أخاه.
ثم إن النجاشي هذا كان فطناً ذكيا، استسلم للأمر، ولكنه تداخل مع عمه في سياسة الملك، حتى غلب على أمر عمه بالسياسة، فلا يصدر شيئاً ولا يفعل شيئاً إلا بالرجوع إلى هذا النجاشي، فنظر أهل الحبشة وقالوا: والله لقد تحكم أو سيطر على الملك، نخشى فيما بعد أن الملك ينصبه علينا ملكاً، وقد علم أنا قتلنا أباه فينتقم منا، فنأتي إلى الملك.
فأتوه وقالوا: إما أن تقتله حتى لا ينتقم منا فيما بعد، وإما إن تخرجه عنا.
فقال: ويحكم! قتلتم أباه بالأمس، وأقتله اليوم، لا، أنا أبعده عنكم، فأخرجوه إلى السوق، وجاء تاجر وباعوه -كما تقول القصة- بستمائة درهم.
ثم خرج عم النجاشي -الذي هو الملك الحالي- في يوم مطير شديد وفيه عواصف، ففي خروجه نزلت صاعقة وأحرقته، ثم نصب أحد أبنائه، وتولى الملك، فليس فيهم من يصلح لإدارة الملك، فرجعوا واجتمعوا وقالوا: والله لن ينتظم أمر الحبشة إلا على ذاك الذي بعتموه، فأدركوه.
وكان التاجر الذي اشتراه قد ألقاه في سفينة من أجل أن يرحله، فأسرعوا وأدركوا التاجر بسفينته، وفيه هذا الغلام، ثم رجعوا به فنصبوه ملكاً عليهم، وجاء التاجر الذي كان اشتراه، وقال: أعطوني حقي؟ قالوا: ليس لك شيء، قال: والله لتعطوني حقي، أو لأرفع أمري إلى الملك، فأتى إلى الملك، وقال: أيها الملك! تاجر اشترى غلاماً، والذين باعوه استلموا الثمن، ثم إذا بهم أخذوا الغلام من المشتري، ولم يدفعوا إليه القيمة.
قال: والله! إما أن يدفعوا لك القيمة، ويسلموا العبد يداً بيد للمشتري يذهب به، فهناك قالوا: ندفع القيمة.
وهذا معنى قوله: ما أخذ الله عليَّ الرشوة حين رد علي ملكي؛ لأن ملكه لما قتل أبوه كان هو أحق بالملك، ولا أطاع الناس فيَّ فآخذ الرشوة فيكم، أو أطيع الناس فيكم، اذهبوا فأنتم السيوح.
وهكذا كانت قضية جعفر في بلاط النجاشي؛ أعلن عن الإسلام، وصرح للملك بما قال الله في عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وبقي المسلمون هناك إلى فتح خيبر.
ووفد جعفر رضي الله تعالى عنه على النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، واستقبله صلى الله عليه وسلم، وقبله بين عينيه، وقال (والله! لا أدري بأيهما أشد فرحاً بمقدمك أم بفتح خيبر؟) وذكروا مناقب كثيرة بأنه صلى الله عليه وسلم قال فيه: (أنت أشبه الناس بي خلقاً وخلقاً) ، وكانوا يقولون: ما ركب النعل، ولا احتذى النعال، من يشبه رسول الله بعد جعفر.
كان أكرم بني هاشم، وكان أشجعهم، ثم كان موقفه الذي استشهد فيه، وجاء فيه النعي، وجاء فيه هذا الخبر، ألا وهو إمرته ثالث ثلاثة في غزوة مؤتة.(123/4)
استشهاد جعفر رضي الله عنه
(بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن ملوك الغساسنة على حدود الشام يجمعون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فندب الناس، فاجتمع له ثلاثة آلاف مقاتل، فأمَّر عليهم ثلاثة زيد بن حارثة حب رسول الله، وجعفر ابن عمه، وعبد الله بن رواحة، وقال: إن أصيب زيد فالأمير جعفر، وإن أصيب جعفر فالأمير ابن رواحة، وإن أصيب ابن رواحة؛ فليختر المسلمون رجلاً منهم) وخرجوا في يوم الجمعة، ومضوا إلى الشام، فلما وصلوا إلى معان هناك جاءهم خبر من العيون التي أرسلوها بأن ملوك الغساسنة جمعوا مائة ألف ليردوهم، واستنجدوا بالروم بمائة ألف أيضاً، فاجتمع مائتا ألفٍ من الروم ومن العرب المتنصرة ومن تبعهم.
هناك توقف الأمراء الثلاثة؛ لفرق ما بين العددين: ثلاثة آلاف مقابل مائتي ألف، وإذا نظرنا إلى العدد الشرعي في أول الأمر، وإلى ما جاءت الرخصة بعده، نجد النسبة بعيدةً جداً؛ لأن الشرع أو النص القرآني الكريم يقول: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال:65] يعني: الواحد بكم؟ بعشرة، {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً} [الأنفال:65] وبعد ذلك: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ} [الأنفال:66] .
{وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} [الأنفال:66] أو مائة يغلبوا مائتين.
لو جئنا في هذا الموقف لوجدنا النسبة بين ثلاثة آلاف ومائتي ألف تزيد على واحد إلى ستين رجلاً، مع وفرة العدد والعدة عند العدو، ومع طول المسافة وثقل المشقة، ومع قرب ديار العدو؛ هناك تشاور الأمراء الثلاثة، ولهذا في نظري أن مؤتة تشبه بدراً، وقد سميها بدر الشام؛ لأن فيها من المواقف ما يشابه بدراً من جوانب شتى.
تشاور الأمراء فيما بينهم، فبعضهم قال: نبقى في معان، ونخبر رسول الله بالموقف والعدد، إما أن يمدنا بمدد من عنده، وإما أن يأمرنا بما يراه.
فقام عبد الله بن رواحة وتكلم بما يشجع القوم: والله! ما قاتلنا في بدر بعدد ولا بعدة، وإنما قاتلنا بهذا الدين الذي نقاتل عنه، وذكر أشياء عن الشهادة ورغب فيها، فسمع ذلك زيد وهو الأمير الأول، فوافق على أن يقابلوا العدو.
ومشوا إلى مؤتة، والتقى الفريقان: ثلاثة آلاف أمام مائتي ألف، واستمر القتال ستة أيام، وهم يصابرون مائتي ألف مقاتل على تلك الحالة، وفي اليوم السابع بعد الجهد وبعد المشقة استشهد زيد.
ثم أخذ الراية جعفر، فحينما أخذ الراية قطعت يمينه فأخذها بيساره، فلما قطعت يساره ضمها بعضديه، فقطع العضدان وسقط اللواء، فقتل جعفر، وقد كان على فرسه، فنزل عنها وترجل وعقرها، وقيل: أول من عقر في الإسلام هو جعفر؛ لأن الخيل تكاثفت عليه لم يعد لفرسه مجال أن يجول في أرض المعركة، فنزل يقاتل مترجلاً، وقد وجد في جسده قرابة سبعين طعنة، ما بين ضربة سيف، وطعنة رمح ورمية سهم، وقيل: جاء رجلٌ وشقه نصفين، وسقط اللواء في الأرض، فأخذه عبد الله بن رواحة فأصيب، فأخذها خالد.
وجاء النبي صلى الله عليه وسلم في يومها، وصعد المنبر، وخطب الناس وقال (أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ الراية جعفر فأصيب، ثم أخذ الراية ابن رواحة وسكت، فاستاء الأنصار وقالوا: لعله وقع من ابن رواحة ما يؤذيهم، فأعاد الكلام أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها ابن رواحة فأصيب، ثم أخذ الراية سيفٌ من سيوف الله يفتح الله على يديه، وكان الذي أخذها خالد بن الوليد) .
وهنا يرى بعض المؤرخين أن خالداً انحاز بالمسلمين وانسحب، والبعض الآخر يقول كما يرجح ابن كثير: لقد انتصر المسلمون على الكفار؛ لأن خالداً لما أخذ الراية جاء في الليل، وأرسل سرية من الجيش إلى خارج المعسكر، وأمرهم إذا طلعت الشمس، وبدأ الالتحام أن يقدموا وينزلوا إلى المعركة مباشرة، وجعل الميمنة ميسرة، والمقدمة مؤخرة، وغير في تشكيل الجيش، فلما بدأت المعركة رأى الروم ما لم يروه من قبل، وجاء هؤلاء، فظن الروم أن المسلمين قد أتاهم مدد، وقد كانوا قبل ذلك عاجزين عنهم وهم قلة، فكيف بهم إذا جاءهم المدد؛ فبدءوا يتلفتون، ونصر الله المسلمين عليهم.
هنا لما أصيب جعفر، وذكر صلى الله عليه وسلم أنه لما قطعت يداه، وعضداه، قال (لقد أبدله الله جناحين يطير بهما في الجنة، يرتع في الجنة حيث يشاء) .
وذكروا أخباراً عديدة: منها ما يذكر ابن عساكر من أنه صلى الله عليه وسلم كان جالساً فرفع رأسه وقال: وعليكم السلام، وقال: هذا جبريل ومعهم جعفر ذهبوا يبشرون أهل بيشة بالأمطار.
وبيشة بلدة في اليمن إلى غير ذلك من الأخبار عن جعفر، ولذا لقب بـ جعفر الطيار؛ لأن له جناحين يطير بهما حيث شاء.
فإذا كان الأمر كذلك وهذا هو جعفر الذي عقر فرسه في أرض المعركة، وترجل وقاتل، واحتمل فوق السبعين طعنة، ثم شق نصفين، وهو لم يتأخر ولم يتردد، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه رأى الأمراء الثلاثة على أسرة من ذهب في الجنة.
يقول: ورأى في سرير عبد الله بن رواحة وفي سرير زيد إزوراراً في صدورهما إلا جعفر ليس في سريره إزورار، فسئل عن ذلك قال: لما تقدموا باللواء كان عندهم غضاضة من الموت إلا جعفر، أقبل عليه بكل شجاعة وجرأة، وعلى هذا لما عاد المسلمون من مؤتة خرج صلى الله عليه وسلم يتلقاهم، كان أبناء جعفر مع من خرجوا مع المسلمين، فوجدهم رسول الله فأخذهم إليه، وتذكر زوجة جعفر في أخبار أخرى بأن الرسول أتاها في البيت، وكانت تجهز طعاماً، فأستوصاها بأبناء جعفر خيراً.
فقالت: هل سمعت عن جعفر شيئاً يا رسول الله؟! فأخبرها أنه قد أصيب.(123/5)
صنع الطعام لأهل الميت هو المطلوب لا العكس
فهنا يقول صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فإنه قد أتاهم ما يشغلهم) وأقول أيضاً: نفس السؤال: لقد أصيب واستشهد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم العديد من الشهداء، والكثير من القتلى، وما أوصى بهم كما أوصى بـ جعفر وآل جعفر.
والله تعالى أعلم.
والحديث سيق هنا لما يتعلق بصنع أهل الميت طعاماً للمعزين، فيقال: لا، وإنما الذي ينبغي العكس، فعلى ذويهم وجيرانهم ومن يعرفهم أن يصنع طعاماً في بيته ويقدمه لأهل الميت؛ لأن أهل الميت أتاهم ما يشغلهم.(123/6)
السلام على أهل القبور عند زيارتها والدعاء لهم
وعن سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية) رواه مسلم.
قوله: (كان صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر) هذا الحديث يخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم؛ لأن زيارة المقابر والسلام على الموتى عبادة وقربة، والعبادات توقيفية، ومن هنا كان يعلمهم صلى الله عليه وسلم ما يقولون.(123/7)
سماع الموتى السلام والدعاء
قوله للموتى: (السلام عليكم أهل الديار) لو مررت على الجدار فلا تقول: السلام عليك يا جدار؟ لأن الجدار لا يسمع، فحينما تقول لمن أمامك: السلام عليك.
لا تقولها إلا إذا كنت تعلم أنه أهل للسلام وأنه يسمع منك السلام، ومن هنا يستدل العلماء على أن من سلَّم على ميت؛ فإن كان يعرفه باسمه ذكره، وقد جاء الحديث: (من مر بقبر أخيه المسلم وهو يعرفه باسمه وسلم عليه، رد الله عليه روحه فرد عليه السلام) فإذا كان بصفة عامة لا يعرف الأسماء سلم عليهم بصفة الإسلام.
إذاً الموتى يسمعون، ومن أراد كثرة الأخبار في هذا الباب فليرجع إلى كتاب الروح لـ ابن القيم فإنه يجد فيه متعاً وأخباراً وأشياء كثيرة جداً.
وذكر العلماء أن الموتى لا تخفى عليهم حالة من يمر بهم، وأنهم يتزاورون، أو إذا مر عليهم مار فسلم عليهم فدعا لهم وزعت لهم الجوائز ومنحت عليهم المنح، فيقال: من أين هذا؟ فيقال: فلان مر فسلم، فلان مر فدعا.
إلى غير ذلك، فقالوا: هذا من أقوى الأدلة على أن الموتى يسمعون السلام والدعاء ممن يُسلم عليهم ويدعو لهم، وإلا كان السلام سيذهب ضياعاً، فهذا يقتضي بدلالة الالتزام أن الميت يسمع السلام.
قوله: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين) أهل الديار كلمة (الديار والدار) تطلق على الأرض مسكونةً كانت أو غير مسكونة، تقول: ديار ثمود، ديار بني تميم، وقد تكون خالية منها، فتطلق على العامر والدامر.
قوله: (السلام عليكم أهل الديار من المسلمين والمؤمنين) الجمع بين الصفتين يعلم الله تعالى ما الحكمة منه، ولكن غالباً ما يكون ذلك لتفاوت درجات أهل المقابر، فليسوا كلهم على درجةٍ واحدة، فمثلاً لو قال: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين) يمكن أن يقال: هذا لا يصل من هم أقل منهم درجة، فأتى الحديث بسلام يشمل الجميع من المسلمين والمؤمنين.
قوله: (وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون) .
(إنا) ضمير المتكلم ومعه غيره؛ لأن معه من يسمع صلى الله عليه وسلم وهو يعلمهم، أو للمتكلم ومعه غيره إذا خرجوا إلى المقابر فهذا جمع خرج للمقابر من الرجال، (وإنا) يعني معشر الحاضرين المتكلمين.(123/8)
بحث في المشيئة من الحديث
(إن شاء الله بكم لاحقون) التعليق على المشيئة هنا هل هو لأمرٍ ممكن، أو غير ممكن ليمكن؟ تقول: إذا جاء زيدٌ إن شاء الله أعطيه كذا.
(أعطيه) ممكن أن تعطيه ويمكن أن لا تعطيه؛ لأنك قلت: إن شاء الله أعطيه، فيكون العطاء محتملاً للوقوع وعدم الوقوع.
وهنا: اللحوق بهم مقطوع به إذاً: لماذا ذكر المشيئة هنا؟ فبعضهم يقول: لأحد أمرين: للتعليق على سبيل عدم الجزم، وإما لعدم تعليق شيء، وإنما تقال تبركاً على حد قوله سبحانه: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23-24] .
والآخرون قالوا: لا، ليس للإنسان في اللحاق بهم فعل، ولا يملك شيئاً، والمشيئة هنا متعلقة باللحاق بهم في تلك الديار التي مر عليها وسلم على أهلها، يعني: وإنا إن شاء الله بكم لاحقون في هذه المقبرة -أي: بالبقيع بالمدينة-.
ويكون ذلك من باب التمني، أو من باب الترجي، أو الطلب، أو الطمع بأن يلحق بأهل هذه المقبرة فيها، وهذا من الترغيب في الوفاة بالمدينة، وأن يدفن بالبقيع، نسأل الله أن يكرمنا وكل راغب بذلك.(123/9)
فضل الموت في المدينة والدفن فيها
وقد جاء في الموطأ حديثٌ غريب، وهو من أقوى أدلة تفضيل سُكنى المدينة والموت فيها على مكة -والناس يغفلون عن ذلك- جاء عنه صلى الله عليه وسلم (أنه كان جالساً في البقيع وهم يحفرون قبراً لميت، فجاء رجل ونظر في القبر وقال: بئس مضجع الرجل! فقال صلى الله عليه وسلم: بئس ما قلت يا هذا! قال: يا رسول الله! إنما عنيت الجهاد في سبيل الله! -يعني: أريد أن يقتل في سبيل الله، فتلك هي نعم الميتة- قال: لا، ما من بلدٍ أحب إليَّ أن يكون قبري فيها منها) (منها) أي: المدينة.
فيكون قوله: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) تحقيقاً لهذه المحبة وهذه الرغبة، وقد تحققت، فقد جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أنه قُبض صلى الله عليه وسلم في حجرتها، وجاء الصديق رضي الله تعالى عنه: ما قبض الله روح نبي إلا في المكان الذي يدفن فيه؛ فدفنوه في حجرة عائشة.
ولما ذكرت عائشة رضي الله تعالى عنها موت الصالحين من الأمم، ذكرت أنه كان إذا مات الرجل الصالح فيهم بنوا على قبره واتخذوه مسجداً؛ قالت: ولولا ذلك لأبرز قبره مع الموتى؛ لكن لم يبرز قبره مع عامة الناس حراسة للعقيدة وحمايةً للتوحيد، وقد قبر في حجرة عائشة.
ومن هنا يتكلم العلماء عن فضل البقيع بالذات -بقيع الغرقد-؛ لأنه جاء النص بالاستغفار لهم وزيارتهم خاصة، فقد جاء عن أبي بن كعب قال: إنا لنجدها -أي البقيع- في التوراة تسمى كفتة؛ لأنها تؤخذ فتكفت بما فيها في الجنة.
وجاء في الحديث (إن أول من تنشق عنهم الأرض يوم القيامة القبور الثلاثة المشرفة، ثم يليهم أهل البقيع، ثم يليهم أهل المعلاة في مكة، ثم عامة الناس) ثم جاء الحديث (من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها، فمن مات بها كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة) قالوا: قوله: (أو) ليس للتخيير ولكن للتنويع، أي: شهيداً لمن حضرته، شفيعاً لمن كان من بعدي.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يكرمنا بكرامة عباده الصالحين، وأن يختار لي ولمن يرغب البقيع إن شاء الله.(123/10)
سؤال العافية للأحياء والأموات
من السلام الذي كان يعلمهم إياه (السلام عليكم أهل الديار من المسلمين والمؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) ثم يدعو ويقول: (نسأل الله لنا ولكم العافية) .
وقوله: (لنا ولكم) يقول العلماء: ينبغي للداعي أن يقدم نفسه ثم يعطف الآخرين، كما قال نوح: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [نوح:28] وقال تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [محمد:19] .
(ونسأل الله لنا ولكم العافية) العافية -كما يقال في عرف الناس- الصحة، وضدها السقم، والعافية من كل سوء: السلامة منه، والمعافاة كذلك، وفي حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها حينما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة القدر، واختلف الناس فيها: (التمسوها في العشر الأواخر) قالت: (ماذا أقول إن أنا صادفتها؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) السؤال هو: اعف عني، وما قبله مقدمة ووسيلة، أي: أنت يا ربِّ تحب العفو، أنت يا رب عفو، بصفتك عفو وبكونك تحب العفو اعف عني، فتقديم: (إنك عفو) و (تحب العفو) توسل بصفات الله وأفعاله لما تريد أن تطلب، وهو معنى قوله سبحانه: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] يعني: تخير لمسألتك من الأسماء الحسنى ما يناسبها، فإذا كنت تطلب العفو سل الله باسمه العفو، وإذا كنت تطلب الرزق؛ فاسأل الله باسمه الرزاق، أو تطلب المغفرة أو غفران الذنوب، فاسأل الله باسمه الغفار.
وهكذا.
فهنا نجد أحب سائل إلى رسول الله وهي عائشة، وهي تسأل عن أعظم شيء محبوب للمسلم، ويأتيها الجواب من أحب خلق الله إليها، أنه: طلب العفو.
إذاً: طلب العفو أحب ما يكون وأفضل ما يكون في هذا المقام، ويقول بعض العلماء: تأملت هذا على الإيجاز، فوجدت من عافاه الله في الدنيا في بدنه، كان سالماً من مصائب الدنيا، وكان مرتاحاً من العذاب ومن الحساب ومن المناقشة يوم القيامة، وهذا هو الفوز العظيم.
إذاً: السعادة كل السعادة تأتي تحت عنوان العفو والعافية، فقال: (نسأل الله لنا ولكم العافية) والعافية أي: مما ينال بعض أهل القبور العافية مما ينال بعض أهل الموقف العافية مما ينال بعض الناس على الصراط، عند الميزان، عند الحوض.
إلخ.(123/11)
التوجه إلى القبور عند المرور عليها وذكر الدعاء
وعن ابن عباس قال (مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه فقال: السلام عليكم يا أهل القبور! يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن الأثر) رواه الترمذي وقال: حسن.
ذكر في الحديث السابق أنه كان يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر، يعني: إذا أتوا إليها قصداً، فتلك زيارة مقصودة، وهي ليست من شد الرحال؛ لأن البقيع في طرف المدينة، بل أبعد منه قباء، والإتيان إلى قباء ليس شداً للرحال؛ لأنه لا يحتاج إلى طعام ولا إلى ماء وشراب للطريق، فهو في أطراف البلد.
فإذا خرج الإنسان وقصد المقابر بذاتها فقد تقدم الكلام، وقد كانوا كثيراً ما يقصدونها يوم الجمعة ويوم العيد، فيسلمون على الموتى ويدعون لهم، والموتى يستأنسون بهم.
فإذا لم يكن قاصداً، ولكنه مر فرأى في طريقه مر على مقبرة، فهل يمر بها وهو صامت؟ فالمؤلف بين لنا الحالة الأولى وهي: أن يعمد إلى المقابر زائراً فماذا يقول؟ يقول كما تقدم (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية) فإذا مر مروراً عادياً؛ لكنه فوجئ ووجد نفسه يمر على المقبرة، فماذا يفعل؟ قال: (مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه ... ) لأن الإقبال بالوجه من أدب المحادثة والمخاطبة، فلا تسلم وأنت تمشي، بل يجب أن تحترم من تسلم عليهم، فتتوجه إليهم حيث يوجهك، سواء للقبلة أو للشمال أو للجنوب؛ لأنك تستقبل من تسلم عليه.
قال: (فقال: السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم) في الحديث السابق قال: (دار قوم مؤمنين) وهنا قال: (يا أهل القبور) ؛ لأنه مر على قبور، فنحن عندما نمر على القبور، سواء من الطرف أو من الوسط نقول: (السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر) .
السلف: هو الذي يتقدم، وسلف الأمة: الأجيال المتقدمة، (ونحن بالأثر) الأثر: الطريق الذي سلكه أهل القبور، وأولئك كل من على وجه الأرض سيسلكون على أثرهم، ولن يتخلف أحد يتخلف أبداً، ولا هناك أحد له طريق غير هذا الطريق.
أنتم سلفنا، أي: تقدمتمونا، ونحن على أثركم نمشي، وسنلحق بكم إن شاء الله.
والعاقل حينما يأتي إلى المقابر، ويتذكر هذه الدعوات فإنه يتصور مآل الإنسان، كما في الحديث السابق: (ألا فزوروها، فإنها تذكر بالآخرة، وتزهد في الدنيا)(123/12)
باب النهي عن سب الأموات
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا) رواه البخاري.
وروى الترمذي عن المغيرة رضي الله عنه نحوه، لكن قال: (فتؤذوا الأحياء) .(123/13)
الحكمة في النهي عن سب الأموات
هل من حق الميت بعد دفنه، وبعد أن فارق الدنيا وتركها، أن تلحقوه بدعوة خير وثناء عليه، أم أن تنبشوا دفاتر أعماله، وتفتشوا عن سيئاته؟! أليس يكفي أنه ترك الدنيا بما فيها وذهب؟! قوله: (لا تسبوا الأموات) أنت في حياتك مع الشخص وهو حي، لا يحق لك أن تذكر مساوئه في غيبته، قال تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات:12] ، ثم مثل سبحانه غيبة الحي من الحي بقوله: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} [الحجرات:12] ؛ فالذي يذكر مساوئه كأنه أكل لحمه ميتاً؛ ووجه الشبه: أن الغائب لا يستطيع أن يدفع عن نفسه الغيبة، والميت لا يستطيع أن يدفع عن نفسه من يأكله.
ومعنى أن الميت قد أفضى إلى ما قدم، يعني: ليس بزائد على ما كان منه من عمل، وليس بناقص عنه شيئاً، وقد صار بين يدي الله.
وكما يقول الشوكاني: لقد أفضى إلى ربه، وجثا بين يدي مولاه، أفتحاسبه أنت وتناقشه؟ ليس لك حق في ذلك؛ فإنه أفضى إلى ما قدم، وسيلقى جزاء عمله بين يدي ربه، وقد يجد ربه غفوراً رحيماً يغفر له ما تسيء به إليه، ويرحمه فيما تعاتبه فيه، فيكون ربه قد رحمه، وأدركه بلطفه، وأنت هنا تتمسك بمثالبه، فأنت إذاً كالقابض على الريح.
وقد قال بعض العلماء: ذكر مساوئ الأموات كغيبة الأحياء، ولكن الصحيح أنها أشد؛ لأن الحي ربما تصله غيبته فيدفع عن نفسه؛ ولكن الميت لا يستطيع ذلك.
قد يقول بعض الناس: لو كان هذا الميت مجاهراً بالمعاصي، فاسداً فاسقاً، فلا مانع من ذكر مساوئه، ونقول: مهما تصورت من سوء فعاله، فهي معه وقد لقي ربه بها، وربه أولى به منك، فلا حاجة إلى أن تتعرض له.
ولا يدخل في ذلك الجرح والتعديل، كقولهم فلان المدلس، وفلان صفته كذا، لأن هذه فيها فائدة للمسلمين، بأن يحذروا رواياته؛ لأنه يبنى عليها أحكام، وكذلك وصفه بوصف لا يعرف إلا به، كقولهم: فلان الأعرج، أو الأعمش، أو الأعشى، والنهي وارد على السب الذي لا يقصد من ورائه عرض صحيح.
ثم الرواية الأخرى: (لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء) فالميت قد ذهب، ثم يأتي من يقول لابنه: والدك كانت صفته كذا، فهو يقول: لكن يا أخي! لماذا تسيء إليَّ في أبي، وقد انتقل إلى رحمة الله، وأفضى إلى ما قدم.(123/14)
التحذير من الكلام في أعراض العلماء
وهنا أُوجّه التحذير كل التحذير ممن يتناولون سلف الأمة في أي مجال كان: بذكر المثالب، وبذكر النواقص، مثل: فلان ركن في الكذب، فلان مبتدع، فلان فلان؛ فإن فلاناً قد أفضى إلى ما قدم، والطعن -كما يقولون- في مذهبه ومعتقده وطريقته، وهذا كله أشر ما يكون على الإنسان، والعلماء يقولون: لحوم العلماء مسمومة، يعني: من تناول العلماء بالسب والتنقيص لشيء عندهم، فإنما ذلك سم يتناوله.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة) فلا ينبغي طعن في ميت قط، وإذا كان من أهل العلم والفضل فله منهجه، فإذا كان قوله مخالفاً لإجماع المسلمين فتقول: هذه الطريقة فاسدة، هذه الطريقة باطلة، ولا تتناول صاحبها بالسب واللعن والتنقيص، كما إذا وجدت كتاباً لإنسان، ووجدت المكتوب فيه مغايراً لإجماع المسلمين، فليكن نقدك منصباً على المكتوب وليس على الكاتب؛ لأن المنصب على الكاتب لا قيمة له، وإنما التحذير من هذا المكتوب، وإذا نقضت المكتوب فإن ذلك يكفي.
أرجو الله سبحانه وتعالى أن يطهر ألسنتنا من أعراض الناس أحياءً وأمواتاً، من سلف الأمة وخلفها، وأن يطهر قلوبنا من الغل والحقد والحسد، والله أسأل أن يوفق الجميع لما يحب ويرضى.(123/15)
كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [1]
لقد فرض الله سبحانه وتعالى الزكاة، وأظهر الحكمة من ذلك لأجل أن يدفعها العباد طلباً لطاعة الله، وعن طيب نفس، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض على القبائل الإسلام مبتدئاً بالشهادتين، ثم الصلاة، ثم الزكاة، ثم بقية التشريعات.(124/1)
فضل الزكاة في الإسلام
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن -فذكر الحديث- وفيه: إن الله قد افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم، فترد في فقرائهم) متفق عليه واللفظ للبخاري] .(124/2)
الزكاة تطهير للمزكي والآخذ
إن مبحث الزكاة ونظامه بكل جوانبه لهو من أهم مباحث الأموال في الإسلام، والمتأمل لنصوص الشرع في هذا العمل يجد الشمول والترتيب في أدق ما يكون، والزكاة ركن من أركان الإسلام، وكما قال الصديق رضي الله تعالى عنه: (الصلاة حق الله، وعبادة البدن، والزكاة حق المال، وعبادة الأموال) وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم الأموال الزكوية، وبيّن صلوات الله وسلامه عليه الأنصبة فيها وما يخرج منها وإلى من تؤدى.
والبحث في الزكاة يكون في: مشروعيتها، وحكمتها، وأنواع الأموال التي تزكى، والمقادير التي تخرج منها، والجهات التي تعطاها، وحكم من امتنع عنها.
والله سبحانه وتعالى فرض الزكاة، وأشار القرآن الكريم إلى نوع من الحكمة الجامعة في فرضيتها، فقال سبحانه مخاطباً لرسوله صلى الله عليه وسلم: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103] فجعل المولى سبحانه إخراج الزكاة مصلحة للطرفين: للدافع وللآخذ، وفيها الحكمة المزدوجة: تطهير وتزكية.
أما (تطهرهم) فيقول العلماء: تطهر الفقراء من أمراض النفس الداخلية كالحقد والحسد؛ لأن المسكين إذا وجد المال في يد الغني يستكثر به عليه، ولا يصيب منه شيئاً، فإنه يشتد غيظه عليه، وحسده له على ما بين يديه، فإذا أعطي من هذا المال حصته التي أشار إليها قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24-25] ذهب عنه ذاك الحقد وذاك الحسد.
وكذلك الغني عندما يخرج من ماله زكاته ينبغي أن يعلم بأن الزكاة لا تنقص المال ولكن تزكيه، والزكاة بمعنى: النماء والزيادة.
(ما نقص مال من صدقة) ، بل الصدقة تنمي المال وتزكيه: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم:39] أي: تتضاعف أموالهم وتتزايد بسبب الصدقة.
وقد بيّن المولى سبحانه إلى أي حد تتضاعف الصدقات، وأجرها إلى سبعمائة ضعف وزيادة، قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة:261] ومعلوم: أن (7×100 =700) {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261] .
وبين صلى الله عليه وسلم موجب تلك المضاعفة عندما قال صلوات الله وسلامه عليه: (سبق درهم مائة ألف درهم.
قالوا: يا رسول الله! وكيف يكون هذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: رجل عنده درهمان فتصدق بأحدهما، ورجل عنده مال كثير فأخذ من عرض ماله مائة ألف وتصدق بها) ، وهذا في ميزان الحساب والعقل أن صاحب الدرهمين تصدق بنصف ما يملك، وصاحب المال الكثير تصدق بطرف مما يملك، ثم الذي تصدق بمائة ألف بقي في يده الشيء الكثير، والذي تصدق بدرهم لم يبق معه إلا درهم، وهذا فرق بعيد.(124/3)
ميزة الإسلام بالزكاة على نظام الضرائب
وبينت السنة النبوية المطهرة الفرق بين التعامل في المال مع الله سبحانه وتعالى، والتعامل في المال مع الناس، وهذا نقوله للأمم التي تعيش حسب قوانين الضريبة التي يفرضها الإنسان على الإنسان؛ ليروا مدى صدق المسلم في تعامله مع الله في المال، وذلك عندما بعث النبي صلى الله عليه وسلم عامل الصدقة إلى ضواحي المدينة، فمر بصاحب إبل فوجد عليه فيها بنت مخاض لأنها خمس وعشرون بدنة، فقال صاحبها: بنت مخاض! لا ظهر فيركب، ولا ضرع فيحلب، كيف أقدمها لله؟ ولكن هذه ناقة كوماء -عليها اللحم والشحم مثل الكوم- خذها في سبيل الله.
فقال العامل: لا أستطيع؛ لأنها لم تجب عليك، والذي وجب عليك هو بنت المخاض، فأصر الرجل، فقال: إن كنت لا محالة فاعلاً فدونك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، اذهب بها إليه، فإن قبلها أخذتُها، فجاء مع العامل وعرض عليه ما كان بينه وبين صاحب الإبل، فقال صلى الله عليه وسلم: (أطيبة بها نفسك؟ قال: بلى يا رسول الله؛ لأن ابنة مخاض لا تجزئ شيئاً، لا هي ظهر يركب في الجهاد في سبيل الله، ولا عندها ضرع يحلب للفقراء والمساكين، أما الناقة فتنفع.
فقال للعامل: خذها، وقال لصاحبها: بارك الله لك في إبلك) ، فعاش الرجل إلى زمن معاوية رضي الله تعالى عنه، فكان يخرج العشرات من الإبل في زكاة ماله.
فهذه صورة من صور تعامل العبد مع ربه؛ لأنه يعلم بأن الله هو الذي سيجزيه على ما قدم؛ ولهذا يقولون في نظام الضرائب: إن بعض التجار الكبار يصطنع دفترين: دفتراً يقيد فيه مبيعاته ويقدمه لمفتش الضرائب فيرى فيه أنه خاسر؛ ليخفض عليه الضريبة، ودفتراً خاصاً به يبين حقيقة الربح فيما بينه وبين نفسه.
أما المسلم فليس عليه مفتش ضرائب، عليه معاملته مع الله؛ لأنه عندما يخرج شيئاً من ماله يخرجه إيماناً وتصديقاً بوعد الله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة:245] فالذي يتصدق صدقة تطوع، والذي يخرج زكاة ماله فهو متعامل مع الله.(124/4)
الصدقة برهان الإيمان
وهناك قواعد عديدة في نظام المعاوضة؛ لأن الإنسان لا يخرج درهماً من جيبه إلا من عوض يأخذ به سلعة، أو يستأجر به عاملاً، يشتري منفعة أو طاقة، والمتصدق يخرج من ماله ولا ينتظر شيئاً، وليس ذلك ضياعاً للصدقة؛ لأنها بدون عوض، بل عوضها عظيم ومضمون، وهو ما للمتصدق عند الله من أجر؛ ولهذا تجد المؤمن الموقن بالوعد -أي: وعد الله- يتصدق ويزكي بطيب نفس؛ لأنه موقن بأنه سيجد عوض ذلك يوم لا ينفع مال ولا بنون.
وعلى هذا كانت الصدقة برهاناً على صدق الإيمان كما جاء في الحديث: (الطهور شطر الإيمان، وسبحان الله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن -أو تملأ- ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء) والبرهان: الدليل، وهو في أصل اللغة: الدائرة البيضاء التي تكون حول قرص الشمس بعد المطر -وليس قوس قزح المعروف- تظهر بينة، والبرهان: الدليل والحجة الذي يقيمه الإنسان على دعواه التي يناكر فيها.
فالصدقة برهان على صدق المتصدق؛ لأنه يوقن بأن عوضها عند الله؛ ولهذا كان المؤمنون يتصدقون بطيب أموالهم، أما المنافقون فكانوا يعمدون إلى ما لا يقبلونه ولا يرتضونه إلا أن يغمضوا فيه.
إذاً: الزكاة عنصر حيوي في الإسلام، وتنظيمها وبيان مصرفها لله سبحانه، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن شاباً جلداً قوياً وقف على رسول الله وسأله الصدقة، فقال: يا ابن أخي! إن الله لم يدع قسم المال لأحد، لا لنبي مرسل ولا لملك مقرب، وتولى قسمتها بنفسه {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} [التوبة:60] إلى آخره، فإن كنت من أهلها أعطيتك.
فذهب الرجل، ثم جاء آخر وقال: ليس عندي شيء.
قال: ماذا عندك؟ قال: أنا وعجوز في البيت، عندنا حلس نفترش نصفه ونلتحف بنصفه، وقعب نشرب ونأكل فيه.
قال: علي بهما.
فباعهما صلى الله عليه وسلم بدرهمين، وقال: اذهب فاشتر بأحدهما طعاماً لأهلك، واشتر بالآخر فأساً وحبلاً وائتني بهما، ثم وضع عوداً في الفأس وقال: انطلق فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوماً.
فذهب واحتطب وباع، ثم وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثياب نظيفة، وحرك ثوبه فإذا الدراهم في جيبه تتحدث، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لأن يأخذ أحدكم حبلاً وفأساً فيحتطب فيبيع، فيستغني؛ خير من أن يذهب يتكفف الناس أعطوه أو منعوه، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيراً وأجزل من الصبر) .
وهكذا -أيها الإخوة- المال في الإسلام له حيز كبير، سواء كان في الزكاة أو في صدقة التطوع، أو في الغنائم، أو في الأنفال، أو في الميراث أو غير ذلك، وهنا يعقد المؤلف رحمه الله كتاب الزكاة، أي: أحكامها وما جاء فيها من حكمها، وأموالها، ومن أنصبتها، والجهات التي تصرف فيها.(124/5)
حكم الزكاة ومشروعيتها
أما حكم الزكاة: فهو معروف من الدين بالضرورة لأنه ثابت بالكتاب وبالسنة وبالإجماع، ولا يعذر أحد بجهله أن الزكاة ركن في الإسلام.
وأما مباحثها فسيأتي المؤلف رحمه الله على جميع هذه الجوانب بما يورده في هذا الباب من الأحاديث، وهي نحو العشرين حديثاً، وسنجد ما أورده رحمه الله.
بدأ المؤلف رحمه الله تعالى كتاب الزكاة بحديث معاذ، وحديث معاذ من أجمع الأحاديث -في الجملة- في مشروعية الزكاة وتوابعها، أما الأنصبة فلها نصوص أخرى.
وقد فرضت الزكاة في السنة الثانية من الهجرة، وفيها أيضاً فرض الصوم، والخلاف في أيهما كان الأسبق: هل الزكاة فرضت قبل الصوم، أو الصوم قبل الزكاة؟ المهم أنهما فرضا في السنة الثانية من الهجرة؛ لأن بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم بدأ تشريع أركان الإسلام، ففي مدة وجوده في مكة لم يشرع ركن إلا الصلاة عندما فرضت ليلة الإسراء والمعراج، وكانت مدة مكة كلها إنما هي في إرساء العقيدة في توحيد الله سبحانه وحده، وفي الإيمان بيوم القيامة أي: بالبعث، فلما جاء إلى المدينة فرضت أركان الإسلام الأخرى من زكاة وصيام وحج، وغيرها من التشريعات وأحكام البيوع والجنايات وما يتعلق بذلك كله.
وكان مبعث معاذ إلى اليمن سنة ثمان في فتح مكة، وقيل: سنة تسع بعد تبوك، وقيل: سنة عشر بعد الحج، والذي يترجح -والله تعالى أعلم- أنه بعد سنة ثمان؛ لأن معاذاً رضي الله تعالى عنه قد خصه الله بفضيلة وتخصص علمي كما قال صلى الله عليه وسلم: (أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل) ، وكما خص أبا عبيدة بأنه أمين هذه الأمة، وكذلك بعض من خصهم رسول الله كقوله: (أفرضكم زيد) ، فـ زيد أعلمهم بالفرائض، ومعاذ أعلمهم بالحلال والحرام، وابن عباس أعلمهم بتأويل القرآن الكريم وهكذا.
والذي جاء في ترجمة معاذ رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم عام فتح مكة خلفه في مكة يعلمهم أركان الإسلام، وأمور الدين، إذاً: القول أنه بعثه سنة ثمان في فتح مكة يعارضه تخلفه في مكة لتعليمهم، أما بعد ذلك فممكن.
ومعاذ رضي الله تعالى عنه -في نظري- يعتبر بعثة تعليمية متنقلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقره في مكة بعد فتحها يعلمهم، وأرسله كذلك إلى اليمن وحضرموت، وكما أرسل أبا موسى الأشعري مع ستة نفر إلى اليمن، وكان مردهم ومرجعهم في كل الأحكام معاذ، وكان كل له بلد يفتي فيه ويعلم، ويجمع الزكاة ويوزعها، ومعاذاً يطوف عليهم جميعاً.
وفي خلافة عمر أرسل عامل الشام لـ عمر رسولاً: إن أهل الشام يحتاجون إلى من يعلمهم الدين، فبعث إليهم معاذاً، ومكث هناك حتى توفي بالشام رضي الله تعالى عنه.(124/6)
جوانب الحكمة في الدعوة والتعامل من حديث معاذ
وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثه، وجاء في سبب بعثه مع الجانب العلمي قضية عجيبة! وهي أن معاذاً كان شاباً كريماً جداً، وقد لحقته الديون بسبب كرمه، وكان يستدين من اليهود حتى تراكم الدين عليه، وأصبحت أملاكه لا تفي بديونه، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: مر معاذاً فليوفنا بديوننا.
فصار معاذ يتخفى منهم، فأرسل إليه صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! مالي في ديوني.
فقال لهم: خذوا ماله في ديونكم من النخيل أو البساتين أو غير ذلك.
قالوا: لا تفي بشيء.
قال: ضعوا عنه.
قالوا: لا نضع شيئاً، حتى قال الراوي: لو أن أحداً كان يضع لأحد لوضع دائنوا معاذ عنه من أجل النبي صلى الله عليه وسلم، قال: خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك.(124/7)
إجازة النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بأخذ الهدية
ثم قال صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: أبعثك إلى اليمن لعلك تصيب شيئاً.
أي: بصفته عاملاً يصيب شيئاً يرد عليه بدل أمواله التي خرجت من يده.
والعجيب هنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح له أخذ الهدية، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (هدايا العمال غلول) ؛ لأنه لا يهدي للعامل إلا مخافةً منه أو طمعاً فيه، وكذلك العمال يهدون إليهم ليخففوا عنهم فيما يجب عليهم من عمال الزكاة، ولما فتح الله على المسلمين خيبر طلبوا من رسول الله أن يبقيهم فيها، قالوا: نحن أعلم بأمور النخيل، دعها في أيدينا نخدمك فيها.
قال: ندعكم إلى ما شاء الله.
وكان الاتفاق أن يعملوا فيها بالنصف: نصف الثمرة لليهود، والنصف الآخر للمسلمين، والعادة في مثل ذلك بالنسبة للزكاة أنه يخرج العامل ليخرص إذا بدأ نضج الثمرة وأمنت العاهة، أي: احمرت واصفرت الثمرة، فيأتي العامل فيطوف في النخيل فيقدر: هذه فيها وسق، وهذه فيها وسقين، وهذه فيها ثلاثة، وهذه فيها نصف.
حتى يحصي ما في البستان من مظنة الثمرة التي تأتي من مجموع هذا النخل، فإذا وجد -مثلاً- أن مجموع ما في هذا البستان ألف وسق، فقد كان يوصيهم صلى الله عليه وسلم أن يسقطوا الثلث أو الربع، لما يرد من ضيف، ولما تأكل الطير، ولما تسقط الريح، وهذا كله لا يكلف صاحب المال بأن يخرج زكاته وهو قد أتلف بعضه.
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة ليخرص على أهل خيبر، ليلتزموا في النهاية بعد تجفيف التمر بما وجب عليهم، ويقدمونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاءهم ماذا فعلوا؟ جمع اليهود من حلي نسائهم مجموعة، وقدموها لـ عبد الله وقالوا: خفف عنا -يعني: إن كان عندنا خمسة آلاف اجعلها ثلاثة آلاف- فقال لهم كلمته المشهورة: (يا إخوة الخنازير! والله لقد جئتكم من عند أحب خلق الله إلي، ولأنتم أبغض الناس عندي، ووالله ما حبي لرسول الله ولا بغضي لكم بحاملي على أن أجحف عليكم، وهذا المال رشوة وسحت، وهو محرم) .
فقالوا: يا عبد الله! بهذا قامت السماوات والأرض.
أي: بالأمانة ورفض الرشوة، وأقسم ألا يحيف عليهم بسبب البغض، ولا أن يحابي رسول الله بسبب المحبة، وقال: إني خارص وأنتم بالخيام، إما أن تلتزموا ما وجب عليكم، وإما أن ترفعوا أيديكم وأنا ملتزم لكم بما هو لكم من هذا الخرص، فقبلوا وخرص والتزموا.
الذي يهمنا: أن هدايا العمال رشوة وسحت، والرسول أباح لـ معاذ أن يقبل الهدية، وخص معاذاً لأنه صلى الله عليه وسلم علم من معاذ أن نفسه ودينه وأمانته فوق مستوى المحاباة والرشوة والسحت، فإذا ما جاءته هدية لم يقبلها في مقابل حق يتنازل عنه أو في مقابل محاباة في دين الله، فأباحها له وكان بينه وبين أبي بكر وعمر مقالات في هذا الموضوع.(124/8)
مخاطبة كل قوم حسب ثقافتهم العلمية
وهنا التوجيه النبوي الكريم، الذي يمكن في العرف الحاضر أن نسميه (التوجيه الدبلوماسي) بمعنى سياسة الناس ومخاطبتهم بما في نفوسهم، وتنوع الأساليب مع أناس دون أناس، فقال له: (يا معاذ! إنك ستأتي قوماً أهل كتاب) أهل الكتاب ليسوا هم وأهل البادية الأمية سواء.
فالبادية الأمية لا تعرف شيئاً من أحكام السماء، وليس عندهم سوابق علم، أما أهل الكتاب فعندهم من العلم ما جاءهم في كتابهم، وعندهم من التوحيد.
ومن أخبار البعث الشيء الكثير الذي أنزله الله في كتبه المتقدمة من التوراة والإنجيل، وكان في اليمن يهود ونصارى.
إذاً: خذ أهبتك في مقابلة هؤلاء الناس لتتعامل معهم على مستوى علمي، والذي يتعامل مع أشخاص أهل علم يجب أن يكون على مستوى علمي أكثر ممن يتعامل مع بادية أمية لا تعرف شيئاً، فيقودها حيث شاء، أما أهل الكتاب فلن ينقادوا في كل شيء؛ لأن لديهم أصول يتمسكون بها، بصرف النظر عن كونها حرفت أو بدلت.(124/9)
التدرج في الدعوة إلى الله تعالى
(إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه -وفي رواية البخاري رحمه الله وغيره: أن يعبدوا الله وحده لا شريك له- عبادة الله وحده، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم بأن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم بأن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وتعطى إلى فقرائهم) .
إلى هنا يقف طالب العلم والداعية إلى الله ليرى الأسلوب في الدعوة إلى الله مع قوم أهل كتاب، وذوي عقل وفكر، فتكون الدعوة معهم بالتدرج، فأول شيء يدعوهم إليه هو ما لا نزاع فيه؛ وهو عبادة الله وحده.
فالوثنيون قد يعارضون في ذلك أشد من أهل الكتاب؛ لأن أهل الكتاب عندهم مبدأ في التوحيد، والشرك طارئ عليهم، فيدخل في التدرج بعبادة الله وحده، ثم ينتقل إلى العبادة البدنية التي ليس فيها درهم ولا دينار، وهي: الصلوات الخمس في اليوم والليلة، فإن هم استجابوا لذلك فمعناه أنهم على طريق السمع والطاعة، فينتقل بهم إلى عنصر المادة: (أعلمهم بأن الله قد افترض عليهم صدقة -وسمى الزكاة المفروضة صدقة- تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) .
وهنا أيضاً من حسن التنبيه، ومن إعجاز التشريع، أنه افترض عليهم صدقة لا يدفعونها لغيرهم من المسلمين، وإنما تخرج منهم وتوزع فيهم، فتؤخذ من أغنيائهم وترد عليهم، أي: تؤخذ باليمين وتعطى بالشمال ولكن مع اختلاف الجهة، فتؤخذ من أغنيائهم الذين أفاض الله عليهم من ماله، والمال مال الله: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] وترد على فقرائهم، وأيتامهم، ومساكينهم، من آبائهم، وإخوانهم، وجيرانهم، فهي لن تخرج من أيديهم.
فعندما يعلم أغنياء اليمن أن الزكاة التي فرضها الإسلام ليست ضريبة تجبى منهم إلى غيرهم، بل تؤخذ منهم وترد عليهم؛ حينئذ يسهل أمر دفع المال؛ لأن المال صنو النفس، والنفس شحيحة عليه، وحريصة على تحصيله، وشحيحة في إنفاقه.
وهكذا كان بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن، فقالوا: إنه كان جابياً للزكاة والجزية، وكان أميراً، ومعلماً ومفتياً وقاضياً، فكان يؤدي كل هذه المهام، وليس مجرد جامع للزكاة.(124/10)
النبي صلى الله عليه وسلم يغرس الوازع الديني في قلب معاذ
والحديث قد قطعه البخاري فيما لا يقل عن خمسة أو ستة أبواب.
فالرسول صلى الله عليه وسلم لما قال له: (تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) أي: في الجملة، وقال له: (وإياك وكرائم أموالهم!) أي: إذا أعطوا الزكاة فلا تعمد إلى أكرمها وتأخذها؛ لأن صاحبها متعلق بها، وهذا ظلم، كما أنك لا تأخذ العجفاء ولا المريضة؛ لأن هذا ظلم للمساكين، وإنما يكون الوسط: (وإياك -تحذير- وكرائم أموالهم!) أي: احذر أن تعمد إلى أكرمها فتأخذه.
وقد مرت غنم الصدقة على عمر رضي الله تعالى عنه فوجد فيها شاة حافلة -ضرعها كبير- فقال: (ما أظن أن أهل هذه دفعوها عن طيب نفس!) تأسفاً لأخذها، ولا يستطيع أن يردها؛ لأنها جاءت من بعيد.
وهنا تنبيه من النبي صلى الله عليه وسلم على ما يجب على العمال من الرفق بالناس، وعدم الإضرار بصاحب المال ولا بمستحقيه؛ ولهذا يقول العلماء: الزكاة فرضت على الرفق بالطرفين: رفقاً بالأغنياء بأن أخذ منهم (2.
5%) ، ولم يقاسم المالك في ماله على الثلث أو الثلثين، فأربعون شاة من الغنم يأخذ منها شاة إلى مائة وعشرين، فهذه ليس فيها غرامة عليه، ولا فيها ثقل عليه، بل فيها رفق به، وكذلك إرفاق بالمساكين أن ينتفعوا بما يأتيهم من أموال الأغنياء.
وهنا ينبه صلى الله عليه وسلم جميع عمال الزكاة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، أن يكونوا رحماء، وألا يجحفوا بصاحب المال فيأخذوا كرائم الأموال، وألا يجحفوا بالمساكين فيأخذوا لهم العجاف والمرضى.
وعمر يقول لعامله: (اعتد عليهم بالسخلة يأتي بها الراعي بين ذراعيه -يعني: يحملها على صدره- ولا تأخذها منهم) أي: عند عد الرءوس عدها، ولكن في الأخذ في زكاة الغنم لا تأخذها؛ لأنه ليس منها فائدة، وإنما يأخذ الوسط.
(وإياك وكرائم أموالهم) .
بدلاً من إرسال المفتشين على مدراء الضرائب، وبدلاً من المحاسبة والنظر في الدفاتر، يقيم صلى الله عليه وسلم الوازع الذي ينتزع قلب كل إنسان إذا خالف: (واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) نعم ذهب يدعو إلى الله، لكنه سيأخذ الزكاة، والزكاة مال، وحذره من كرائم الأموال، فإذا أخذ كريمة مال إنسان يكون قد ظلمه، والمظلوم لن يبيت غافلاً، وسيدعو على الظالم، فيجب أن تتقي دعوة المظلوم؛ لأنه ليس بينها وبين الله حجاب، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يقول: إني لأنصر المظلوم ولو كان كافراً) يقول العلماء: لأن هذا الكافر عندما أحس بالظلم لم يجد من ينصفه، ولا بينة عنده، أو أنه مضطهد لا يستطيع أن يأخذ حقه، ولن يجد من ينصره وينصفه ممن ظلمه إلا الله، فتوجه إلى الله، فهو في تلك اللحظة مؤمن بالله، وإن لم يقر له بالتوحيد، لكنه مقر بوجود الله وبقدرته على نصرته، وهنا لا يخيبه الله.
ويقولون في خبر موسى مع قارون: لما أدرك قارون الخسف أخذ ينادي: يا موسى! يا موسى! وموسى لم يلتفت إليه، ثم بعد أن انتهى عاتب الله موسى: يا موسى! يناديك قارون عدة مرات فلم تلتفت إليه، لو ناداني مرة واحدة لأجبته.
إذاً (اتق) أي: احذر، واجعل لك وقاية بينك وبين دعوة المظلوم، ألا وهي عدم ظلمه، (فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) ، فلا تحجبها السماوات السبع، ولا الملأ الأعلى، وتصعد إلى الله سبحانه، فيتلقاها وينصف المظلوم ولو كان كافراً.
ويقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: إن الملك ليدوم مع العدل ولو لكافر، ولا يدوم مع الظلم ولو لمسلم.
(والظلم ظلمات يوم القيامة) .
وهكذا نجد في بعث معاذ رضي الله تعالى عنه إلى اليمن، فإن هذه التعليمات أسس قويمة فيما يكون عليه العمال، وفيما ينبغي أن يلاحظوه في حق الرعية.
وبالله تعالى التوفيق.(124/11)
كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [2]
من رحمة الله بعباده أنه ما أجمل شيئاً في كتابه إلا وبيَّنه في سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فالزكاة أمر واجب وركن من أركان الإسلام فصلت وبينت فرائضها وأنصبتها في سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك زكاة الإبل والغنم كما في كتاب أبي بكر الصديق رضي الله عنه.(125/1)
حديث أبي بكر في زكاة الأنعام التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن أنس: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كتب له: (هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله: في كل أربع وعشرين من الإبل فما دونها الغنم، في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمساً وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى، فإن لم تكن فابن لبون ذكر، فإذا بلغت ستاً وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى، فإذا بلغت ست وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الجمل، فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، فإذا بلغت ستاً وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الجمل، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها.
وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاةٍ شاةٌ، فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين ففيها شاتان، فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه، فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة، فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاةً شاةٌ واحدةٌ فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها، ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية، ولا يخرج في الصدقة هرمة، ولا ذات عوار، ولا تيس إلا أن يشاء المصدق.
وفي الرقة في مائتي درهم ربع العشر، فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها.
ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة، وليست عنده جذعة وعنده حقة فإنها تقبل منه، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهماً، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده الحقة، وعنده الجذعة، فإنها تقبل منه الجذعة، ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين) رواه البخاري] .(125/2)
الأموال الزكوية المتفق على أصولها
بعدما قدم المؤلف حديث معاذ رضي الله تعالى عنه في بيان وجوب الزكاة: (ثم أعلمهم بأن الله قد افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم) وانتهى الكلام في ثبوت وجوب الزكاة ومعرفة ذلك من الدين الإسلامي بالضرورة، فهو ركن من أركان الإسلام ثابت بالكتاب والسنة والإجماع؛ جاءنا بحديث أبي بكر رضي الله تعالى عنه في تفصيل وبيان الزكاة في بهيمة الأنعام، وذكر في هذا الكتاب أنصبة الإبل والغنم.
وفي الجملة يوجد من أموال الزكاة ما هو متفق على أصول فيها، كبهيمة الأنعام: الإبل والبقر والغنم، ومن الزروع: التمر والزبيب والحبوب، وكل قوت مكيل مدخر ألحق بالتمر والزبيب، وكذلك النقدان: الذهب والفضة، ويلحق بالنقدين عروض التجارة؛ لأنها تابعة لها، وتدار بالذهب والفضة وتقوّم بهما.(125/3)
زكاة الأموال الزكوية الظاهرة للإمام والباطنة يقسمها المالك
الأموال الزكوية قسمت إلى قسمين: قسم ظاهر يتولى الإمام أمره، وهي: بهيمة الأنعام، والتمور والزبيب.
وقسم خفي وهو: الذهب والفضة وعروض التجارة، وهذا الخفي وكِل وأسند أمره إلى صاحبه، فهو يتعامل بينه وبين الله في إخراج الزكاة.
فهنا نأخذ خطاب أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ومعلوم أن الكتابة لم تكن معهودة، ولكن جاءت في بعض التعليمات العامة، منها ما أملاه الرسول صلى الله عليه وسلم كما نبه أبو بكر رضي الله تعالى عنه في بيان أنصبة الزكاة التي فرضها الله ورسوله، ومنها الكتب التي كتبت فيما يتعلق بالجنايات، كالدية، وأرش الجروح، كما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه، أنه سئل: (هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من العلم لم يخص به أحد غيركم؟ فقال: لا والله، إلا فهم أوتيه أحد في كتاب الله، وما في هذه الصحيفة -وكانت صحيفة يضعها علي رضي الله تعالى عنه معه في قراب سيفه- قالوا: وما في الصحيفة؟ قال: العقل -أي: عقل الجراح- والديات، وفكاك الأسير) وبعضها كخطاب ابن حزم في أنصبة الزكاة يكتب بها إلى العمال يسيرون عليها.
ولعل هذا العمل -وهو الكتابة في أمور جزئية- هو مبدأ تدوين وتنظيم النظم الحكومية، فمنها ما يتعلق بالجنايات، ومنها ما يتعلق بالأموال، وهذا من أهمها، ويتفق العلماء على أن تلك الكتب لا زالت يعمل بها في عهد الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وكان جميع العمال يأخذون بما فيها ويطبقونها كل في مكانه.(125/4)
بيان حديث أبي بكر لمجمل القرآن: (وآتوا الزكاة)
فهذا خطاب أبي بكر رضي الله تعالى عنه يقول فيه: (وعن أنس: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كتب له: هذه فريضة الصدقة) .
هذه الكتابة كتبها أبو بكر من عنده أو مما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا يمكن لـ أبي بكر أن ينظم هذا التنظيم من عنده؛ لأنه يتعلق بأموال الناس، وأموال الناس محترمة، لا يمكن لإنسان أن يتسلط عليها ويأخذ منها، وهي عبادة تتعلق بركن مالي، والعبادة لا يمكن لأحد أن يتحكم فيها.
إذاً: أبو بكر رضي الله تعالى عنه لما كتب لـ أنس كتب له ما حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا صرح بذلك فقال: (التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين) .
وهنا يقف العلماء في مسألة أصولية وهي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم له حق في الفرضية، ولكن هل ذلك له في بيان ما أجمل من كتاب الله أم له أن يستقل به؟ فمما له صلة بكتاب الله أن الله سبحانه وتعالى فرض الزكاة إجمالاً فقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] ، وقال: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [الحج:41] ما هي الزكاة التي آتوها؟ ما هي أنواع الأموال الزكوية؟ ما مقادير أنصبائها، ما مقدار ما يؤخذ منها؟ ولهذا يقول الأصوليون: السنة قاضية على الكتاب، بمعنى: أنها مبينة لما أجمل فيه، ويتعين على كل مسلم أن يأخذ بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتداءً أو بياناً، وقد بين المولى وجوب ذلك: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7] وعصمه الله من الخطأ فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] كما قال السيوطي رحمه الله: الوحي وحيان: وحي أمرنا بكتابته، وتعبدنا بتلاوته الحرف بعشر حسنات، ووحي لم نؤمر بكتابته، ولم نتعبد بتلاوته، وهو السنة.
ولما جاء شخص إلى بعض السلف وقال: ما حاجتنا في السنة والله يقول: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] ؟ قال: نعم، ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهو مما جاء في كتاب الله.
وكان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: السنة كاملة كقطرة من بحر كتاب الله؛ لأن الله قال لنا في حق رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] فهذا متعلق بالسنة بجميع ما فيها.
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يقول: عندنا كتاب الله، ما وجدنا في كتاب الله أخذنا به، وما لم نجد لا حاجة لنا فيه! ألا وإنني أوتيت الكتاب ومثلَه معه) والذي أوتيه صلى الله عليه وسلم مع الكتاب هو السنة.
وهنا لما قال هذا الرجل هذا الكلام لبعض السلف، قال: يا ابن أخي! تعال، لا غنى لك عن السنة، هل وجدت في كتاب الله عند قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43] أن الصبح ركعتان والظهر أربع والمغرب ثلاث؟ قال له: لا.
قال: من أين أخذتها؟ قال: من سنة رسول الله.
قال: إذاً: نحن ملزمون بالسنة.
وكذلك أرأيت أنصباء الزكاة هل وجدت في الذهب (2.
5%) مذكوراً في القرآن؟ هل وجدت في القرآن أن الغنم في كل أربعين شاةً شاةٌ؟ وهل وجدت في القرآن عن الإبل في كل خمس إبل شاة؟ وهل وجدت في الحبوب والثمار في كل خمسة أوسق صدقة؟ الجواب: لا.
إذاًَ: من أين وجدت ذلك؟ الجواب: من السنة.
وعلى هذا جاءت السنة بتفصيل ما أجمل في كتاب الله، وجاءت السنة بتشريع مستقل لكنه تابع لما جاء في كتاب الله، ولذلك لما جاء تحريم النساء: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23] .
الأية، وجاء في القرآن: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء:23] جاء صلى الله عليه وسلم وقال: (لا يجمع بين المرأة وخالتها، ولا بين المرأة عمتها) فحرمة الجمع بين المرأة وخالتها ما جاءت في كتاب الله، وإنما جاء الكتاب بتحريم الجمع بين الأختين.
ووقع النزاع عند الأصوليين، وهل هذا يشمل ملك اليمين أم لا لعموم: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3] وعموم: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء:23] ؟ الأختان من الحرائر لا شك داخلتان في هذا الحكم، والإماء لهن آية أخرى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3] .
ولما سئل عثمان رضي الله تعالى عنه: أيجمع بين الأختين بملك اليمين؟ قال: أحلتهما آية وحرمتهما آية، أحلتهما: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3] فهذا عام، وحرمتهما آية: {وَأَنْ تَجْمَعُوا} [النساء:23] .
ولكن ينظر الأصوليون في أن الآية التي أحلتهما فيها استثناءات، فعمومها قد خرج منه أفراد: فلو امتلك أمه أو ابنته أو أخته لم يجز له التمتع بها، ولذا يقولون في الفقه: من امتلك من تحرم عليه نكاحها عتقت حالاً، فمن اشترى أخته مثلاً، فبمجرد تمام عقد الشراء تصير حرة وتعتق عليه، حتى لا يكون له عليها ملك يمين، وكذلك إذا اشترى أمه، أو اشترى أباه فإنه يعتق حالاً ولا يجري عليه ملك اليمين.
ثم قالوا: الفروج يقدر فيها الاحتياط، والاحتياط المنع حتى لا يقع في محظور.
إذاً: السنة من حيث هي قاضية على الكتاب، بمعنى: إذا وجد إجمال في كتاب الله أو إطلاق أو عموم، ووجد مبين في السنة للمجمل، أو مخصص من السنة للعام في كتاب الله، أو مقيد لمطلق في كتاب الله؛ عمل بذلك.
وهنا يقول أبو بكر رضي الله تعالى عنه: (هذه فريضة الزكاة التي افترضها رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
قوله: (والتي أمر الله بها رسوله) .
أي: في عموم قوله: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] أو أنه أمره أمراً غير ما في القرآن، وقد يكون هناك وحي سوى القرآن.(125/5)
النفث في الروع نوع من الوحي
في علم أصول التفسير أن الله سبحانه وتعالى قد يوحي إلى رسوله بوحي غير القرآن، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها) فهذا النفث في الروع وحي من الله، وهذا القدر قد يشارك فيه بعض عباد الله الصالحين.
قضية الوفد الذين مروا على قوم من المشركين واستضافوهم، قالوا: اذهبوا عنا، فقد جئتم من عند هذا الصابئ، ليس لكم عندنا شيء.
فتنحوا عنهم جانباً ونزلوا، فسلط الله عقرباً على سيد الحي فلدغته، فقالوا: اذهبوا إلى هؤلاء لعل فيهم راقياً، فجاءوا وقالوا: هل فيكم من راقٍ؟ فقال رجل: نعم، أنا أرقي، ولكني لا أرقيه لكم حتى تجعلوا لنا جعلاً، لقد طرقناكم مروءة القِرى -الضيافة- فامتنعتم، فجعلوا له جعلاً من الغنم، فقرأ عليه فاتحة الكتاب، فقام كأنه نشط من عقال، وجاء يسوق الغنم، فلما جاءهم بها قالوا: ما هذا؟! قال: رقيت الرجل بالفاتحة.
قالوا: كيف تأخذ على قراءة القرآن هذا الأجر؟ ثم قالوا: لا نقتسم.
وأبقوه معهم حتى رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (اقتسموه واجعلوا لي معكم سهماً، ثم قال له: وما يدريك أنها رقية؟ -هنا محل الشاهد- قال: شيء نُفث في روعي) أي: أحسست في نفسي ببصيرة وبإلهام من الله، وبحالة إحساس لا شعوري بأن الفاتحة تشفيه، فقرأت فشفاه الله.
ويقولون: إن سورة: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] (اتكأ صلى الله عليه وسلم في المسجد ذات مرة، ثم تنبه يتبسم، قالوا: ما الذي أضحكك يا رسول الله؟ قال: أنزلت علي آنفاً سورة هي أحب إلي من كذا وكذا {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] ) فبعض علماء التفسير يقولون: أعطيها نفثاً في روعه، والآخرون يقولون: لم ينزل من القرآن شيء إلا بالوحي المعتاد: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى:51] فقالوا: إن الإغفاءة التي أغفاها صلى الله عليه وسلم ثم انتبه منها ليست نومة، إنما هي من برحاء الوحي، وكان إذا نزل عليه الوحي غشي عليه.
إذاً: قوله: (والتي أمر الله بها رسوله) من أي أنواع الوحي؟ الله تعالى أعلم.(125/6)
أنصبة الإبل(125/7)
في كل خمس من الإبل شاة إلى أربع وعشرين
قوله: (في كل أربع وعشرين من الإبل فما دونها الغنم: في كل خمس شاة) .
هذا أول تقدير أنصباء الإبل، الأصل في الإبل أن زكاتها منها، والغنم زكاتها منها، وكل مال زكوي زكاته من جنسه إلا عروض التجارة، فزكاتها من قيمتها وليس من أعيانها، وزكاة الإبل التي تخرج منها ما زاد عن أربعة وعشرين رأساً، أي: خمس وعشرون، فالخمس والعشرون فيها بنت مخاض، وما قبل الخمسة والعشرين تقسم إلى خمسات، ثم في كل خمس شاة، ففي الخمس شاة واحدة، وفي العشر فيها شاتان، وفي الخمس عشرة ثلاث شياه، والعشرون فيها أربع خمسات فتكون عليها أربع شياه، فإذا جاءت الخمس الخامسة خرجت الزكاة عن الشياه إلى الإبل فكان فيها بنت مخاض.
ثم من خمس وعشرين فيها بنت مخاض إلى ست وثلاثين، وما بين النصاب والنصاب لا يكون فيه شيء من الزكاة بنسبته، وهذا يسمى وقص، والوقص لا زكاة فيه، فإذا كان عنده -مثلاً- أربع من الإبل فهذا دون النصاب، فإذا كملت خمس من الإبل فهذا نصاب، فعليه فيها شاة واحدة، فإذا صارت ستة أو سبعة أو ثمانية أو تسعة فعليه فيها شاة.
إذاً: الشاة في الأربع التي فوق الخمس هذه وقص لا شيء فيها، فإذا كملت الخمس الثانية صارت عشر إبل ففيها شاتان، فإذا صارت إحدى عشرة، أو اثنتي عشرة، أو ثلاث عشرة، أو أربع عشرة ففيها الشاتان، لأن ما زاد عن العشر وقص يسقط فيه حقه إلى أربع عشرة، وهكذا ما بين خمس وخمس من الأعداد لا شيء فيها.(125/8)
في كل خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين بنت مخاض
قوله: (فإذا بلغت خمساً وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى) .
من خمس وعشرين تبدأ فريضة بنت المخاض، وبنت المخاض عندهم هي: التي أمها ماخض بأختها بعدها، أي: حامل وظاهر حملها، وهي ما كان عمرها سنة ودخلت في الثانية.
فمن خمس وعشرين وجبت بنت المخاض إلى ست وعشرين، سبع وعشرين، ثماني وعشرين ثلاثين، كل هذا العدد فيه بنت المخاض، فلا يزاد على ما زاد عن خمس وعشرين إلى ست وثلاثين، يعني: أنها إذا زادت عشر من الإبل، فلا شيء في هذه العشر، فإن زادت واحدة فصارت ستاً وثلاثين وجب النصاب الثاني.
قوله: (فإن لم تكن فابن لبون ذكر) .
أي: إذا لم توجد بنت المخاض الأنثى يكون بدلاً عنها ابن لبون ذكر، وابن اللبون أكبر من بنت المخاض؛ لأن أمه قد وضعت ما كانت ماخضاً به وصار عندها لبن يحلب، وهنا أيهما أغلى في الإبل: الناقة الأنثى بنت المخاض أم ابن اللبون الذكر؟ الأنثى دائماً أغلى، لأن الأنثى تأتي بالإناث والذكور، ولكن الذكر لا يأتي بشيء.
فهنا تيسير على صاحب المال إذا لم يكن عنده بنت مخاض فنقول له: يجزئ عنك ابن لبون ذكر.(125/9)
في كل ست وثلاثين إلى خمس وأربعين بنت لبون
قوله: (فإذا بلغت ستاً وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى) .
أي: من ستة وثلاثين إلى خمس وأربعين فيها بنت لبون، فابن اللبون الذي هو أخوها وجب في الخمس والعشرين، وبنت اللبون التي هي أنثى وجبت هنا من ستة وثلاثين إلى خمس وأربعين، فإن زادت واحدة وصارت ستة وأربعين انتقلنا أيضاً خطوة أخرى.(125/10)
في كل ست وأربعين إلى ستين حقة
قوله: (فإذا بلغت ستاً وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الجمل) .
زادت هنا أربع عشرة عن النصاب الأول ففيها حقة، وسميت حقة لأنها استحقت أن يطرقها الفحل فتنتج.
إذاً: كلما زاد العدد كبر السن الذي يؤخذ في هذا العدد، ولاحظنا بأن من خمس إلى خمس وقص لا شيء فيه، ومن خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين عشرة لا شيء فيها، ومن خمس وثلاثين إلى خمس وأربعين كان الزائد أيضاً عشرة ولا شيء فيها، وهنا من ست وأربعين إلى ستين زادت أربع عشرة رأساً ولا شيء فيها.(125/11)
في كل واحدة وستين إلى خمس وسبعين جذعة
قوله: (فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة) .
وهذه أيضاً زادت أربع عشرة، ففيها جذعة، وهي أكبر من الحقة، وهي التي جذعت أسنانها، وهي الأسنان البيض المقدمة، جذعتها لينبت لها سنان بدلها.(125/12)
في كل ست وسبعين إلى تسعين بنتا لبون
قوله: (فإذا بلغت ستاً وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون) .
فهو يتدرج، في كل عدد فيه كذا كل عدد فيه كذا إلى أن تصل إلى مائة وعشرين فيتضاعف العدد إلى آخر أنصباء الإبل، ولا حاجة إلى الاسترسال في هذا الموضوع؛ لأن هذا من اختصاص ذوي الإبل، ويكفينا القاعدة الأساسية: فبداية الأنصبة في الإبل خمس، ففي كل خمس شاة إلى خمس وعشرين، فحينئذ يكون فيها الإبل، وبين النصابين يعتبر وقصاً لا شيء فيه، وهكذا تتدرج.
ثم يختلف الفقهاء فيما بعد على ما ترسو الفريضة وعلى ما يكون فيها، والتفصيل والتدقيق في ذلك إنما يرجع إلى ذوي الإبل، والعمال يذهبون إلى أهل الأموال على مياههم، ويحصون عليهم ما عندهم، ويأخذون الفريضة منهم على مقتضى ما في هذا الخطاب من أبي بكر رضي الله تعالى عنه.(125/13)
في كل إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة حقتان
قوله: (فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الجمل) .
من تسعين إلى مائة وعشرين، فإذاً: زادت ثلاثين، ففيها حقتان طروقتا الجمل.
قوله: (فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون) .
النظر في أنصباء بهيمة الأنعام هل هو على سبيل النسبة التصاعدية أو النسبة التنازلية؟ لنقل: الحقة تجب في ستة وأربعين إلى ستين، وهذا مبدؤها وتمشي إلى ستين، ومائة وعشرون فيها حقتان.
مبدأ الحقة في ستة وأربعين، وهنا من الواحد والتسعين إلى المائة والعشرين فيها حقتان، يعني: كأن المسألة تفسحت نوعاً ما، وكلما زادت الإبل كلما خففت النسبة التي تؤخذ منها فليست زكاتها تصاعدية.
قوله: (وفي كل خمسين حقة) .
إذا انتهت إلى مائة وعشرين وقفت الأنصباء والمقادير، ثم ينظر بعد ذلك فيجعل في كل خمسين حقة، وهذا ما يسمى بمتوسط النسبة، فخمسون متوسطة ما بين ستة وأربعين وبين ستين، فيكون في كل خمسين حقة.
(ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها) .
أي: ليس عنده خمس بل عنده أربع فنقول: ليس عليك فيها زكاة.(125/14)
الأنصبة المفروضة في سائمة الغنم(125/15)
في كل أربعين إلى مائة وعشرين شاة
قوله: (وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاةٍ شاةٌ) .
انتهينا من أنصبة الإبل على نزاع فيها -يمكن أن يتعرض له المؤلف أو يتركه- بين الإمام أبي حنيفة رحمه الله هل تنتهي الفريضة عند مائة وعشرين أو تمشي إلى أكثر من ذلك، ثم تعود مرة أخرى بنسب ثابتة؟ ثم دخل في نصاب الغنم، ففي كل أربعين شاةً شاةٌ.
إذاً: الإبل بدأت من خمس، والغنم بدأت من أربعين، بنت المخاض مشت في الإبل من خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين، والشاة في الأربعين تمشي معها إلى مائة وعشرين، فمائة وعشرون فيها شاة، وأربعون فيها شاة، وكذلك ما بينهما، فهذه ثلاث أربعينات أيضاً فيها شاة، فلينتبه لهذا، فإننا نحتاج أن نرجع إليه فيما بعد.
إذاً: في أول أنصباء الغنم أربعون شاة، بصرف النظر عن الشروط التي ستأتي من كونها سائمة وغيرها، وهذا شرط عام في الإبل والغنم والبقر، وأن المعلوفة لا زكاة فيها؛ لأنه يتكلف لها، ويهمنا الآن في بيان أنصباء الغنم أن أول نصاب للغنم أربعون شاة، والأربعون فيها واحدة، والواحدة تمضي مع الأربعين إلى المائة والعشرين، فإن زادت عن المائة والعشرين شاة واحدة، كأن ولدت تلك الليلة، وجاء العامل ووجد عنده مائة وعشرين شاة، ومعها زيادة عليها تلك السخلة التي ولدت بالأمس، فزادت عن العشرين والمائة واحدة ففيها شاتان.(125/16)
إذا زادت على مائة وعشرين إلى مائتين ففيها شاتان
قوله: (فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين ففيها شاتان) .
أي: إذا زادت الغنم عن العشرين والمائة شاة واحدة كان فيها شاتان، والشاتان تمشي من مائة وعشرين، وثلاثين، إلى مائة وخمسين مائة وستين إلى مائة وتسعين فيكون فيها الشاتان، وإذا كملت مائتين ففيها الشاتان، فإذا زادت الغنم عن المائتين شاة واحدة فتكون قد دخلت في المائة الثالثة، فإذاً فيها ثلاث شياه.(125/17)
إذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه
قوله: (فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه) .
أي: حتى تصل إلى الثلاثمائة ففيها ثلاث شياه، ثم تستقر الفريضة في كل مائة شاةٍ شاةٌ.
ونحن نجمل الجميع لنرى أن تلك الأنصباء في الأموال ليست عفوية، وإنما وضعت بدقة وحكمة، وإذا عرضت على شخص يعتبر من كبار المحاسبين فهنا تتضح الحكمة والرحمة: فالشاة فرضت أولاً في أربعين، فلما كثرت الأغنام فوق الثلاثمائة وصارت أربعمائة أو خمسمائة فالشاة التي كانت تفرض في أربعين تجزئ عن مائة، إذاً: نسبة الزكاة في الغنم تنزل ولا تتصاعد؛ لأن التي كانت تجزئ في الأربعين أصبحت تجزئ في المائة.
وقد يتساءل الإنسان هنا: لماذا هذا التنازل؟ مع أننا أشرنا في السابق أن نظام الضرائب يتصاعد، فالمائة الأولى متروكة لصاحبها لأنها قليل، المائة الثانية مثلاً عليها (5%) ، وفي المائة الثالثة (10%) ، وهكذا حتى تصل نسبة الضريبة إلى (100%) من الربح، أي: أنها تتصاعد، فكلما زاد الربح زادت الضريبة، وهنا كلما زادت الغنم نقصت نسبة ما يؤخذ منها، وهذا إرفاق من الشارع بصاحب المال.
هنا قد يقول الإنسان: ما موجب هذا التنازل؟ والجواب: لأن صاحب الأربعين شاة يحاجي عليها ويحافظ بقدر المستطاع، لكن صاحب المائتين والثلاثمائة أصبح في الحي رفيع العماد، وطويل النجاد، وأصبح سيد الحي، وسيد الحي مطروق، وكلما طرقه طارق ذبح له شاة إذاً: صارت عليه تبعات أكثر من صاحب الأربعين، فكلما زاد المال كثرت التبعات عليه، فخفف من جانب الزكاة، وهذا لا يوجد في نظام الضرائب.(125/18)
التناسب والتقارب في أنصبة الغنم والإبل
والنقطة التي نريد أن نشير إليها، ويمكن لبعض الإخوة الذين يشتغلون في المحاسبات والهندسة والضرائب أن يكون لهم فيها دقة أكثر وهي: النظر بين أنصباء الأموال، نحن نشير إلى النسبة التقريبية بين الإبل والغنم، ثم إذا جئنا إلى الذهب والفضة نجمل الجميع إن شاء الله؛ لنرى أن تلك الأنصباء في الأموال ليست عفوية، وإنما وضعت بدقة وحكمة، ولما عرضت ذلك على شخص يعتبر من كبار المحاسبين قال: هذا جديد في الإسلام، قال: ما كنت أحس بهذا أبداً، وكنا نظن أنها أمور توقيفية لا دخل للعقل فيها.
قلت: هذا بمنطق الحساب والأرقام كلها متساوية، وليس هناك عفويات، بل وضعت بترتيب وحكمة متعادلة.
إذا جئنا إلى الإبل وإلى الغنم نجد أول نصاب في الإبل؟ خمس، وأول نصاب في الغنم أربعون، ما نسبة الأربعين شاة إلى الخمس من الإبل؟ نأتي إلى تقييم الإبل بالغنم، كم تقوم الإبل بالنسبة إلى الغنم شرعاً؟ نحن عندنا في الحج ما استيسر من الهدي {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] أقل الهدي شاة أو سبع بدنة، أي أن: البدنة تنوب عن سبع شياه، هذا هو التقدير الشرعي.
تأمل هنا: (5×7=35) ، أي أن الخمس من الإبل تعادل خمسة وثلاثين من الغنم، فلو أننا جعلناها ستاً من الإبل فستزيد لأن (6×7=42) ولو جعلناها أربعة فستنقص لأن (4×7=28) ، فأقرب عدد في المعادلة بين الإبل والغنم هو الخمس من الإبل حيث تعادل الخمسة والثلاثين، وهي قريب من الأربعين، ولو غيرنا عدد الإبل إلى ست أو أربع لحصل ظلم على المالك بزيادة شاتين، أو حصل ظلم على المساكين بتنقيص كذا شاة.
إذاً: أنصباء الإبل مع أنصباء الغنم متوازية.
سنأتي إلى نصاب الذهب مع الغنم ومع الإبل عندما نأتي إلى الذهب والفضة إن شاء الله.
قوله: (فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاةً شاةٌ واحدةٌ فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها) .
أي أن أقل من الأربعين ليس فيها شيء.
قوله: (ولا يجمع بين متفرق) .
المبحث الآتي مترتب على ما تقدم مراعاة لحالات الرعاة، فهم عندما يخرجون إلى البر والمرعى في الصحراء، لا يستطيع الراعي فصل غنمه عن غنم الثاني، ولا إبله عن إبل الثاني، وكلها ترعى في مرعى واحد، وهناك قد يرجع كل راع بما يرعاه لصاحبه، وليست هناك خلطة، أو يكون الرعاة اتفقوا على الخلطة وخلطوا المالين معاً، ولا فرق بين فحل هذه الإبل وفحل تلك: ففحل هذه يطرق نياق تلك، والعكس، ولا في الحلب: فهذا الراعي يحلب هذه، وراعي ذاك يحلب هذه، ويخلطون الحليب سوية، ويرجعون إلى مراح واحد على ما يأتي في شروط الخلطة وأحكامها، وهي من أدق أبواب الفقه في باب الزكاة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.(125/19)
كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [3]
أنزل الله القرآن على نبيه صالحاً لكل زمان ومكان، وجاءت السنة مكملة له، ومبينة وموضحة لمجمله، فكان مما بينته تفاصيل الزكاة ومنها الأنعام، حيث بين النبي صلى الله عليه وسلم أنصبة الإبل ومتى تجب الزكاة فيها، وبين أنصبة الغنم ومتى تجب الزكاة فيها، فهذه معايير وقياسات لا تتغير ولا تتبدل مدى الزمان.
كما بين أحكام الخلطة، واختلاف أسنان المخرج من الإبل عن المطلوب، وكذلك زكاة الفضة، وكل ذلك رحمة بالمزكي والمسكين.(126/1)
حكم الخلطة في الأنعام الزكوية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فيقول أبو بكر: (ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية، ولا يخرج في الصدقة هرمة، ولا ذات عوار، ولا تيس إلا أن يشاء المصَّدق، وفي الرقة في مائتي درهم ربع العشر، فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها صدقة إلا ن يشاء ربها) .
فـ الصديق رضي الله تعالى عنه في هذا الخطاب، بعدما بين أنصباء الإبل وما يدخل فيها، وأنصباء الغنم وما يؤخذ فيها، بقي من بهيمة الأنعام البقر، والجاموس في بعض البلاد، أما البقر فجاء فيه النص في غير هذا الخطاب، وهو: في كل ثلاثين تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعين مسن أو مسنة، والبقر قليل في بلاد العرب، وكانوا يتهاجون باقتنائها، والذي يكثر هو الإبل والغنم.
والفقهاء قاسوا الجاموس على البقر، وألحقوه به في هذا الباب، ولما بيّن الصديق رضي الله تعالى عنه أنصباء الإبل والغنم جاء بالتنصيص على مسألة يكثر وقوعها بين أصحاب بهيمة الأنعام، وهي: الخلطة، وتعريفها: هو أن يأتي صاحب قطيع من الإبل أو قطيع من الغنم إلى شخص آخر له قطيع من الإبل أو من الغنم فيجمعانهما معاً، فهذه خلطة.(126/2)
أقسام الخطلة
والخلطة عند الفقهاء تنقسم إلى قسمين بحسب نوعية التملك: فهناك خلطة أعيان -وهي ما تسمى بشركة الأعيان- وخلطة أوصاف، فخلطة الأعيان: هي الاشتراك بالتملك في أعيان بهيمة الأنعام، مثالها: رجل عنده مائة من الغنم، فتوفي عن ابنين ورثا عنه المائة، فلكل واحد منهما النصف مشاعاً.
أما شركة الأوصاف، فمثالها: رجل هذا عنده خمسون شاة مميزة كل شاة بعينها، فلو اختلطت مع غنم الآخرين استطاع أن يميزها ويخرجها على حدة؛ لأنها معروفة بصفتها.
فالشركة بمقتضى الملك تكون بين جماعة ورثوا رءوساً من الغنم أو اشتروها معاً، أو إنسان نزل إلى السوق بمائة رأس فاشتراها اثنان أو ثلاثة أو أربعة بالشراكة، فصارت المائة من الغنم مملوكة للأربعة المشترين كل بحصته من الثمن، ولو أن كل واحد من الأربعة دفع ربع الثمن فإنهم يكونون شركاء كل واحد بالربع، وكيف يكون شريكاً بالربع؟ كل واحد له في كل شاة ربعها؛ لأنها على المشاع، فإذا ما اقتسموا المائة وكل واحد أخذ خمساً وعشرين شاة أصبحت الخمسة والعشرون في يد كل واحد ملكاً خاصاً، فإذا خلطوها بعد ذلك، صارت شركة أوصاف مشاعة لا شركة أعيان، لأن كل شخص يعرف حقه.
إذاً: خلطة بهيمة الأنعام تنقسم إلى قسمين: خلطة أعيان، كل واحد له نصيب في الجميع مشاعاً، وخلطة أوصاف، فخلطة الأعيان هم شركاء فيها، والزكاة فيها عليهم جميعاً، لكن خلطة الأوصاف هي محل البحث هنا، فعندما يكون أربعة أولاد ورثوا عن أبيهم مائة شاة، وجاء المزكي فوجد المائة الشاة، فقال: لمن هذا؟ فقيل له: لورثة فلان.
فإنه سيأخذ الزكاة من المائة على الجميع، إن كانت أربعين، أو مائة، أو أربعمائة فإنه سيأخذ زكاة الجميع على الجميع، وهذه ليست موضوع بحثنا.
فإذا جئنا إلى خلطة الأوصاف، وجاء اثنان كل واحد منهما له عشرون شاة، والمجموع أربعون، فإنه إذا جاء المزكي ووجد الأربعين، هنا يقول: لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع، ولو جاء عامل ووجد زيداً عنده عشرون شاة، ووجد عمراً عنده عشرون شاة، كلها مفترقة، فلا يجمع بينها، فيها أخوان من منطقة واحدة، على بئر ماء واحد، ويرعيان في مرعى واحد، كل واحد يرعى ملكه، وآخر النهار يرجع بها إلى بيته، فكل واحد من الأخوين يملك عشرين منفردة، فإذا جاء العامل ووجد الأربعين ترعى معاً فلا يقول: مجموع الأربعين نأخذ فيها شاة.
لأنها مفترقة فلا تجمعها، فكل واحد من الأخوين عنده عشرون شاة، وصاحب العشرين لا زكاة عليه، فلا يجمع بين مفترق ليكمل النصاب ويأخذ الشاة، بل يتركها على ما هي عليه، ليس فيها زكاة.(126/3)
شروط الخلطة
فإذا جاء اتفق الأخوان على الخلطة، وصارت الأربعون مخلوطة، وشروط الخلطة التي تؤثر في الزكاة هي تخفيف المئونة، وذلك باتحاد الراعي: واحد يرعى الأربعين، واتحاد الفحل: كبش واحد للأربعين، واتفاق المحلب: تحلب في محل واحد، وإن كان كل واحد يأخذ حليب غنمه في كيس، واتحاد المراح الذي تبيت فيه يكون مراحاً واحداً، والمسرح الذي تسرح إليه في جهة واحدة.
إذاً: صارت الأربعون في حكم المال الواحد، تذهب مع بعضها وتأتي مع بعضها، ولها راع واحد يرعاها، وكبش واحد يلقحها، وتشرب من ماء واحد على حوض واحد، صارت هذه خلطة، واكتملت فيها الشروط، فإذا جاء العامل ووجد الأربعين على هذه الصفة فإنه لا يفرق بينهما فيقول: خذ عشرينك واذهب، وأنت خذ عشرينك واذهب بل يأخذ منهما الزكاة.
فخلطة بهيمة الأنعام تجعل المال المختلط كمال رجل واحد، فإذاً في هذه الحالة يأخذ شاة من الأربعين ولا يفرق بين مجتمع هذه هي الصورة.(126/4)
آراء الأئمة رحمهم الله في الخلطة
نأتي إلى موقف الأئمة رحمهم الله في تأثير الخلطة في الزكاة فيما تجب فيه الزكاة أو لا تجب: عند أحمد رحمه الله مال الخليطين أو الخلطاء إذا كان مجموعه نصاباً، فإنه يزكى ولو لم يكن لكل واحد من الخلطاء نصاب كامل، فلو وجد أربعون شخصاً، لكل واحد شاة، وخلط الأربعون -على ما تقدم- وجاء العامل فوجد أربعين شاة عند راع واحد على بئر واحد وهي خلطة، فإنه يأخذ شاة من الأربعين، وإن كان لا يوجد في الأربعين الخلطاء نصاب مستقل، بل ينص ابن قدامة في المغني: لو أن الأربعين بين اثنين، واحد له تسعة وثلاثون، والآخر له واحدة، أو أجر صاحب الأربعين أجيراً يرعاها على شاة من الأربعين، وجاء العامل فهم خلطاء؛ لأن الراعي له واحدة أكملت الأربعين، فهم خلطاء، فالعامل يأخذ شاة، ولا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة.
إذاً: الخلطة تجعل المال المختلط كمال رجل واحد.
وعند أحمد رحمه الله: حتى لو كان لكل واحد شاة، ولو كان لأحدهما ثلاثون والثاني له عشر، فكذلك.
أما مالك رحمه الله فيقول: لا تأثير للخلطة إلا إذا كان لكل واحد نصاب.
إذا كان ثلاثة أشخاص كل واحد يملك أربعين شاة، ولكن كل يرعى غنمه على حدة، وكل أربعين فيها فحلها، ولها راعيها، ومراحها ومسرحها، وبئرها أو حوضها الذي تشرب منه، حتى وإن كانوا يردون بئراً واحدة، لكن لكل صاحب أربعين حوض من الجلد يملؤه ويسقي غنمه، فإنهم يكونون مفترقين، فإذا جاء العامل أخذ من كل واحد شاة؛ لأن كل واحد امتلك أربعين منفردة عن الأخرى.
وأما إذا جاء ووجد الثلاثة قد خلطوا الثلاث الأربعينات مع بعض، وتمت صفة الخلطة: فالراعي واحد، والفحل واحد، والمحلب واحد، والحوض الذي يشربن منه واحد، والمبيت في محل واحد، أي: أنه تمت شروط الخلطة، فإن العامل على جمع الصدقة يأخذ شاة واحدة.
إذاً: في حالة الافتراق على كل واحد شاة، وفي حالة الاجتماع تخرج شاة عن الجميع، لكن لو زادت واحدة ولو من أحد الثلاثة يكون فيها شاتان، فالثلاث الأربعينات اجتمعت وفيها شاة واحدة، لأن خلطة المال جعلته كأنه الشخص الواحد.
وعندما جاء العامل وأخذ شاة فلابد أن تكون من شياه واحد من الثلاثة، فهل يتحمل عنهم زكاة غنمهم؟ لا.
(ولا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة) أي: لا يأتي هؤلاء الثلاثة ويقولون: والله العام القادم سنخلط.
بالأمس كان كل شخص بمفرده، فيجمع بعضهم إلى بعض من أجل أن يأتي العامل ويجد مائة وعشرين شاة فيقولون له: خذ شاة واذهب.
ثم يرجعون إلى الانفراد، هذا لا يجوز، ولا أن يأتي العامل ويقول: لمن الغنم هذه؟ فيقولون: لزيد وعبيد وعمرو ولكنها هي خلطة، فيقول: فرقوها.
من أجل أن يحصل على ثلاث شياه، فهذا لا يجوز، لأنه إذا تمت الخلطة فلا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين مفترق خشية الصدقة.
وما كان من خليطين فأكثر فإنهما يتراجعان أو يتراجعون بحسب ملكهم، فمثلاً: عندنا ثلاثة، وملكهم متساوٍ، فكل واحد له أربعون شاة، فعلى كل واحد ثلث شاة، فإن كان المأخوذ من مال زيد فله عند كل من الخليطين ثلث شاة، فنقدر قيمة الشاة التي أخذها العامل، فإذا قدرت بثلاثين ريالاً، فكل واحد من الخليطين يدفع له عشرة ريالات.
لو قدر أن المائة والعشرين بين اثنين، واحد له أربعون شاة، وآخر له ثمانون، وتمت الخلطة، وجاء العامل، لا نفرقهم حتى يأخذ شاة من صاحب الأربعين وشاة من صاحب الثمانين، وكذلك هم لا يجتمعون عندما يسمعون بمجيء العامل؛ لأنهم اشترطوا في صحة تأثير الخلطة أن تكون الخلطة طيلة العام، أما إذا كانوا منفردين وفي نهاية العام خلطوا، قالوا: لكي يأتي العامل ونحن مجتمعون فلا يجوز، وإذا جاء العامل وهم على خلطتهم، وتمت شروط الخلطة، فلا يفرق بينهم، بل يأخذ شاة واحدة، ويتراجعان فيما بينهما بالسوية، إن كانت أخذت الشاة من صاحب الأربعين فعلى صاحب الثمانين ثلثي الشاة، وإن كان أخذها من صاحب الثمانين فصاحب الثمانين له على صاحب الأربعين ثلث الشاة.
الإمام مالك يقول: إذا كانت الخلطة بين أربعين وثمانين فهذا صحيح، لكن لو وجد واحد له ثلاثون وآخر له عشر شياه، فهذه ليس لها تأثير؛ لأن كلاً منهما لا يملك النصاب، ولم يعتبر مالك تأثير الخلطة إلا إذا كان فيها ملك نصاب من أحد الخلطاء.
طيب! وجدناها خمسين شاة، أربعون منها لواحد وعشر لواحد آخر، قال: هنا الشاة على صاحب الأربعين، وصاحب العشرة ليس عليه منها شيء.
والإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: لا تأثير للخلطة ألبتة، سواء امتلك كل واحد نصاباً كصاحب الأربعين والثمانين أو لم يمتلك أحدهما نصاباً، فكل زكاته على حدة إلا شركة الأعيان، فهذه شركة مشاعة.(126/5)
تأخير الخلطة في غير بهيمة الأنعام
وهناك من يقول: الخلطة تؤثر في الزكاة في غير بهيمة الأنعام، كعروض تجارة بين شخصين، أحدهما لديه سكر والآخر لديه شاي، فجمعا الشاي والسكر، وأتيا بصبي لهما يبيع في المتجر، فالمتجر واحد، والميزان واحد، والصبي واحد، والخلطة موجودة، ومرافق العمل كلها متحدة؛ فهناك من يقول: هذه الخلطة بهذه الصفة تؤثر، فلو كان مجموع الصنفين قيمته نصاب زكيت على حسبها، وإن كانت قيمة الصنفين لم تصل إلى النصاب فلا شيء فيها، ولو كانت قيمة أحد الصنفين نصاباً والأخرى لم تبلغ النصاب فإنه يشارك في الزكاة؛ لأن عروض التجارة ليس فيها وقص، وإنما إذا بلغ النصاب أخذت الزكاة في النصاب، وما زاد على النصاب فبحسبه.
نحن عندنا في الغنم من الأربعين إلى المائة والعشرين تسمى وقصاً، وتلك الزيادة لا أثر لها، إنما هي شاة واحدة من بلوغ الأربعين، بخلاف الذهب والفضة، فإنه إذا امتلك عشرين مثقالاً تم النصاب، وفيه ربع العشر، فإذا امتلك خمسة وعشرين مثقالاً نقول له: زك الجميع، فلابد أن يزكي الخمسة والعشرين بنسبة زكاة العشرين اثنين ونصف في المائة، فإذا امتلك ثلاثين ديناراً أيضاً زكي الثلاثين بنسبة اثنين ونصف في المائة، إذاً: لا وقص، وحيثما كان لا وقص فالجميع سواء.
وهذا المبحث في كتب الفقه له تفريعات، وله مسائل فرعية عديدة جداً؛ لأن بهيمة الأنعام يشترط فيها الحول، والخلطة يشترط فيها أن تكون حولاً كاملاً، وهي عندهم كالمال المتجدد، فلو ملك ثلاثين في نصف الحول، وعشرة في النصف الثاني، فهل عليه زكاة أو حتى تتم العشرة الحول كاملاً، وكذلك في الخلطة.
فلو أن الخليطين اختلطا في أول الحول، وجاء ثالث وخلط في نصف الحول، فانتهى حول الاثنين وحول الثالث لم يأت بعد، ماذا يكون الحال؟ وهذه تفريعات في الواقع لا يتأتى تناولها بصفة عامة على هذه الحال، وإنما يهمنا بيان الهيكل الأساسي في الخلطة.
ومرة أخرى بالإجمال: الخلطة إما شركة أعيان وإما شركة أوصاف، فشركة الأعيان مشاعة على ما هي عليه، وشركة الأوصاف يكون ملك كل واحد متميزاً بعينه، لكن اختلطا عاماً كاملاً وصحت الخلطة، فيعامل هذا المال المختلط معاملة مال الرجل الواحد، ولو أن كل شخص من الخلطاء امتلك جزءاً من النصاب، وبمجموعهم كمل النصاب أخذت الزكاة، أما لو فرقا وكل امتلك حقه فلا زكاة على واحد منهم.
إذاً: الخلطة قد تنفع الخلطاء وقد لا تنفعهم، بحسب اكتمال النصاب أو زيادته أو النقص منه.
هذا ما يتعلق بخلطة بهيمة الأنعام، أما تأثير الخلطة في غيرها فهذا موضع خلاف فيما يتعلق بعروض التجارة إذا اتحدا أيضاً في الدكان أو المكان، واتحد البائع والميزان أو المكيال أو الذراع أو غير ذلك، ثم يرجع الخلطاء كل على صاحبه بنسبة ملكه في الخلطة.(126/6)
شروط الشاة المأخوذة في الزكاة
ثم بدأ يبين ماذا يأخذ العامل، قال: (ولا تؤخذ في الصدقة الهرمة) ، الهرمة بمعنى: العجوزة؛ لأنها غالباً تكون عجفاء ليس فيها شيء، وهي على وشك الموت.
(ولا ذات عوار) من عور العينين، (أو معيبة) لأن العيب عوار في السلعة، فأي شاة بها عيب فإنها لا تؤخذ في الصدقة؛ لأنه نقص على المساكين، والعوار بمعنى العيب فهو يتفاوت، وبعضهم يقول: العوراء هي الفاقدة إحدى عينيها.
وهذه عند الأصوليين فيها نزاع، فعندما يقال في الأضحية: يجب أن تكون الأضحية سليمة من العور فمن الأصوليين من يقول: هذه معيبة لا تصلح أضحية، وكذلك لا تؤخذ في الزكاة، ومنهم من يقول: العوراء هي التي لا تسرح مع الغنم، ولكن تبقى في البيت، وإذا انفردت في البيت عني بها، وجيء لها بعلف يكفيها وزيادة؛ لأنها أصبحت محل عناية من مالكيها، فلربما تكون أسمن من ذات العينين التي تسرح مع بقية الغنم، ولكن الجمهور على أن العور عيب فلا تؤخذ صاحبة العوار في زكاة الغنم.
ويقاس على ذات العور وعلى الهرمة أي عيب في الشاة ينقص من قيمتها، سواء كان في هيكلها أو في لحمها، فإذا كانت مريضة فلا ينبغي أن يأخذها، وإذا كانت مكسورة لا يأخذها، وعلى هذا فكل شاة معيبة في الغنم لا تصح.
وكيف يأخذ؟ قد تقدم لنا ذلك في حديث معاذ: (وإياك وكرائم أموالهم) ، فالعامل لا يجوز له أن يصطفي كرائم الغنم ويأخذها، ولا أن يقبل من صاحب الغنم أهونها، إنما يقولون: تقسم الغنم ثلاثة أقسام: خيار، وعوار، ووسط، فيأخذ من الوسط، والعامل مؤتمن فلا يجوز له أن يظلم صاحب الغنم بأخذ خيارها، ولا يجوز أن يغش المساكين فيأخذ الضعيف فيها، إنما يأخذ الوسط.
قوله: (ولا تيس إلا أن يشاء المصدق) .
التيس في الغنم هو الذي يعلوها ويطرقها؛ لأن الغنم في حاجة إليه، فيأتي المصدق ويأخذ التيس ويترك الغنم بلا تيس وهذه مضرة، ولا يجوز إخراج التيس في الصدقة إلا أن يشاء المصدِّق، أي: صاحب الغنم؛ لأنه قد يكون معه غيره، أو المصدق هو العامل الذي يأخذ الصدقة؛ لأن التيس -أحياناً- لا يساوي الشاة، والعنز خير منه لأنها تنتج، إلا إذا جاء العامل وجمع غنماً كثيراً وسيسوقها ويحتاج إلى تيوس فيها، فيأخذه منه من أجل مصلحة ما بيده من الماعز.(126/7)
لا زكاة في الخيل والبراذين ونحوها
الأموال الزكوية قلنا: إن المتفق عليها من بهيمة الأنعام: الإبل والبقر والغنم، ومن المختلف فيه: الخيل وما تبعها، فيرجح الجمهور على أن الخيل لا زكاة فيها، وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أن الخيل إذا أفردت للنماء والزيادة ففيها الزكاة، أما إذا كانت لغير ذلك، ولا يتأتى نماؤها، وكما يقول الأحناف: لو كانت كلها ذكوراً، فالذكور وحدها لا تنتج، ولو كانت كلها إناث فالإناث وحدها لا تنتج، فعنصر النماء مفقود فلا زكاة فيها.
ولو كان عنده خيل ذكور وإناث يؤجرها أو يستعملها في جر العربات أو في الحرث فهذه ليست للنماء فلا زكاة فيها.
وعلى رأي الإمام أبي حنيفة رحمه الله أن في الخيل زكاة، فما نصابها وما يؤخذ منها؟ لم يأت في أي كتاب من كتب الصدقة بيان أنصباء الخيل ولا بيان ما يؤخذ فيها، ومن هنا أخذ الجمهور أن الخيل خارجة عن حدود الزكاة، واستدلوا أيضاً بحديث: (ليس على المسلم في فرسه ولا في عبده صدقة) فقوله: (فرسه) وإن كان مفرداً، لكنه نكرة مضاف فيشمل الجنس، فأخذ الجمهور بأن الفرس أو الخيل لا زكاة فيه.
أبو حنيفة رحمه الله يقول: الزكاة مبناها على النماء، فإذا كانت ثلاثين فصارت خمسين، فهي نامية، فتشترك مع الإبل والغنم في عموم النماء، ففيها زكاة.
كم نصابها؟ قال: في كل فرس دينار.
نحن لا نعهد زكاة مال من غير جنسه إلا عروض التجارة وأوائل الإبل، في الخمس منها شاة، فأخذ غير جنسها في حد معين، ثم من خمس وعشرين انتقلت إلى جنسها، وكذلك عروض التجارة؛ لأن العروض هي عبارة عن دكان فيه سكر وشاي وصابون ونعناع أو حتى خضار، فماذا سنعطي المسكين من هذا؟ فيقدر الجميع، وتعطى الزكاة من مجموع القيمة؛ لأنها مصلحة للطرفين.
فإذا قلتم: الخيل فيها زكاة فبينوا نصابها منها، وما يؤخذ منها فيها.
وقال قوم: ليس فيها زكاة، واستدلوا بأن عمر رضي الله تعالى عنه أتاه قوم من أهل الشام، وقالوا: إنا أصبنا خيلاً نريد أن تأخذ زكاتها طهرة لها.
فقال: لم يأخذها صاحباي من قبلي -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله تعالى عنه- فكيف آخذها؟ فاستشار من عنده، فقالوا: خذ منهم ما دام عن طيب نفس، فسأل علياً رضي الله تعالى عنه، فقال علي: لا بأس إلا أن تصبح فيما بعد ضريبة لازمة عليهم، أي: هم الآن جاءوا طواعية ودفعوا، فإذا ذهب هذا الجيل الذي يدفع طواعية، فسيأتي بعدهم أناس معهم خيل، فيقول من كان بعدك: عمر أخذ على الخيل فيأخذ عليهم، وتكون ضريبة لازمة بغير إلزام.
فـ علي قال: لا بأس إذا أخذت ما لم تصبح ضريبة لازمة عليهم.
فقال عمر: نأخذها منهم ونردها على عبيدهم، بمعنى انه أخذ زكاة الخيل وفرض لكل فرس ديناراً، وأعطى عبيدهم من بيت مال المسلمين، فالعبيد ليس لهم شيء؛ لأن بيت مال المسلمين للأحرار، ورزق بيت المال للأحرار، والعبيد تبع للأحرار، فـ عمر فرض لعبيد هؤلاء الناس من بيت المال كأنه عوض عما يأخذ منهم في الخيل.
والجمهور استدلوا بحديث صحيح، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها في قاع قرقر، ثم يؤتى بها وافية فتطؤه بخفافها، وتعضه بأنيابها حتى يقضى بين الخلائق، فيرى مصيره إما إلى جنة، وإما إلى نار، وما من صاحب غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت تطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها، وما من صاحب ذهب أو فضة لم يؤد زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، وكوي بها جبينه وجنبه وظهره إلى أن يقضى بين الخلائق -فذكر صلى الله عليه وسلم هنا الإبل والبقر والغنم والذهب والفضة- فقالوا: يا رسول الله! والخيل ما شأن صاحبها؟ قال: الخيل ثلاثة: هي لرجل أجر، وعلى رجل وزر، ولرجل ستر؛ أما التي هي له أجر: فخيل ارتبطها صاحبها في سبيل الله، وأما التي هي وزر فخيل اقتناها صاحبها بطراً ورياءً) .
وقيل: سمي الخيل خيلاً لأن بها خيلاء، فانظر إلى الفرس عندما تشبع فإنها تمشي على أطراف حوافرها وتتبختر، وأجود الحيوانات في الرقص والرياضيات واللعب الخيل، وهي أشدها طرباً، فصاحبها كذلك.
(والتي هي له ستر رجل اقتناها تغنياً) يعني: للنماء فيبيع ويستغني بنسلها وبيعها عن الناس.
فما ذكر فيها صدقة.
قال: (ولا ينسى حق الله فيها! قالوا: وما حق الله فيها؟ قال: ألا يمنع فحلها عن إناث غيره، ألا يمنع منقطعاً أن يركبه إلى مكانه) ، ولم يبين فيها صلى الله عليه وسلم نصاباً ولا ما يؤخذ منها، فقال الجمهور: هذا دليل على أن الخيل لا زكاة فيها.
(قالوا: والحمر يا رسول الله! قال: لم ينزل علي فيها شيء، إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7-8] ) إذاً: رد ذلك إلى صاحبها، إن فعل فيها خيراً فله، وإن كان عكس ذلك فالعكس.
إذاً: الصديق رضي الله تعالى عنه ذكر أنصباء الإبل، وذكر أنصباء الغنم، وجاءت أنصباء البقر في غير هذا الكتاب، ولم يأت للخيل ولا للبرذون ولا للحمار ذكر في أنصاب الزكاة، وعلى هذا فجمهور العلماء على أن الزكاة في بهيمة الأنعام مقصورة على تلك الأصناف الثلاثة، وأن الأصناف الثلاثة الأخرى لا زكاة فيها: الخيل والبراذين والحمار.(126/8)
زكاة النقدين
ثم انتقل الكتاب إلى صنف آخر من أصناف الأموال الزكوية، وهي الرقة، أي: الفضة قال تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ} [الكهف:19] فالورق بمعنى الفضة والذهب.
قوله: (وفي الرقة في مائتي درهم ربع العشر، فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها) .
هذا جزء من مبحث زكاة الذهب والفضة اقتصر فيه على الفضة، وهي كجملة معترضة بين أحكام الإبل؛ لأنه بقي من أحكام زكاة الإبل ما لو لم توجد العين المطلوبة في عدد الإبل عند صاحبها، فإنه يتقاص هو والعامل على ما سيأتي إن شاء الله.
وهنا يقول: في كل مائتي درهم ربع العشر، فإذا كانت مائة وتسعين، فلا زكاة فيها، لأنها تنقص عن النصاب عشرة، وإذا كانت تنقص واحداً أو اثنين فـ مالك يقول: هذا شيء قليل فلا يؤثر، وفيها زكاة.
والجمهور يقولون: الحد مائتان، فإن لغة الأرقام ليس فيها تقريب، ومفهوم المخالفة أن ما دون المائتين ولو بواحد لا زكاة فيه.
وبالمناسبة هنا: فالفضة توزن بالدرهم وتصك عملة بالدرهم، فالدرهم في الفضة وحدة وزن ووحدة عد، فتقول: يملك مائة درهم.
يعني: نقوداً، أو يملك مائة درهم.
يعني: سبيكة تزن مائتي درهم.
والذهب وحدة وزنه المثقال، والمثقال أيضاً وحدة وزن ووحدة عد؛ فالدينار: اسم للنقد، والمثقال: اسم للوزن، والدينار والمثقال شيء واحد.
والمائتا درهم قد تكون دراهم على حدة، وقد تكون دراهم تجمع في القطعة الواحدة، فمثلاً: الريال السعودي: كان ثلاثة دراهم وثلاثة أرباع، الريال الفرنسي كان بريالين سعودي، وقد توجد القطعة النقدية من الريال والروبية غير هذا على حسب اصطلاحات البلاد كم في هذه القطعة من درهم شرعي، فإذا اجتمع عندهم من الريالات ما يعادل المائتي درهم من الفضة، وهو بالريال السعودي ستة وخمسون ريالاً فيكون قد وجد عنده نصاب، فتجب عليه فيه زكاتها، أي: زكاة الفضة في هذا النصاب، فإذا حال عليه الحول أخرج ربع العشر، أي: (2.
5%) .(126/9)
التقايض بين المالك والمصدق إذا لم يوجد السن المطلوب إخراجه
قال: (ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة فإنها تقبل منه، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له، أو عشرين درهماً، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده الحقة وعنده الجذعة، فإنها تقبل منه الجذعة، ويعطي المصدق عشرين درهماً أو شاتين) .
بين هنا أوضاع الإبل وظروف المالك فيما إذا لم تتح الفرصة لوجود ما يجب عليه من الزكاة، فإذا كان عنده من عدد الإبل ما تجب فيه الحقة، ولم توجد عنده هذه الحقة وكانت عنده جذعة، والجذعة: أكبر منها بسنة، فهي أكثر قيمة، وتؤخذ في العدد الأكثر.
فإذا وجدت عند من وجبت عليه الحقة جذعةٌ فإنها تؤخذ منه، ويعوض عن الزائد في الحقة شاتين أو عشرين درهماً يدفعها إليه المصدق، أي: العامل الذي جاء ليأخذ الصدقة.
وكذلك العكس: إذا وجبت عليه في إبله جذعة، ولم توجد هذه الجذعة -والجذعة: هي التي جذعت سنَّيها الأماميين- ووجدت عنده حقة، الحقة أقل قيمة من الجذعة، فيدفعها صاحب الإبل، ويدفع معها جبراً للنقصان عن الجذعة شاتين أو عشرين درهماً.
وهكذا في جميع ما يؤخذ في زكاة الإبل كما بوب البخاري رحمه الله: من وجبت عليه بنت مخاض ووجدت عنده بنت لبون فإنه يدفع بنت اللبون، ويأخذ فرقاً عن بنت اللبون وبنت المخاض شاتين أو عشرين درهماً من العامل، أو بالعكس: بأن وجدت عنده من الإبل ما فيها بنت لبون، لكنه لا يوجد في إبله بنت لبون، وفيها بنت مخاض، فإنه يدفع بنت المخاض، ويدفع معها جبراناً للنقص عن بنت اللبون شاتين أو عشرين درهماً.
هكذا يقول الجمهور بناء على منطوق هذا الحديث في هذا الكتاب.
وبعض العلماء من غير الأئمة الأربعة يقول: ليس هناك تقييد بالشاتين والدراهم، ولكن ينظر بحسب كل وقت كم فرق ما بين بنت المخاض وبنت اللبون؟ فيقدر ويدفع في الفرق بدلاً من الشاتين وبدلاً من العشرين درهماً؛ لأن قيمة الشياه وتقدير الدراهم تختلف باختلاف الزمان والمكان.
والله تعالى أعلم.(126/10)
كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [4]
زكاة البقر ثابتة في السنة بالنصوص الصحيحة، وهي من الأنعام التي تخرج منها الزكاة، ومن سماحة الشارع أنه أمر العامل ألا يأخذ الزكاة إلا في الأنعام على مياهها، واختلف العلماء في زكاة الخيل، وقد ذكر الشيخ خلافهم وبين أدلتهم.(127/1)
حديث معاذ بن جبل في زكاة البقر
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن، فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعاً أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة، ومن كل حالم ديناراً أو عدله معافرياً) رواه الخمسة، واللفظ لـ أحمد، وحسنه الترمذي وأشار إلى اختلاف في وصله، وصححه ابن حبان والحاكم] .
انتقل المؤلف رحمه الله تعالى بعد بيان أنصباء الإبل والغنم والفضة إلى زكاة البقر، وهذا الحديث الذي ناقش المؤلف سنده في وصله وفي انقطاعه ذكره البخاري رحمه الله تعالى تعليقاً بصيغة الجزم، وذكر البخاري إياه يغني عن مناقشة السند.
إذاً: الحديث في زكاة البقر ثابت؛ لأن بعض المتأخرين إنما يطعن في زكاة البقر، وقد جاء في الحديث الصحيح الذي لا مطعن فيه: (ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر، وجيء بها أوفر ما تكون وأسمن، فتطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها، كلما مر عليه أخراها أعيد عليه أولاها حتى يقضى بين الناس، فيرى مصيره إما إلى جنة وإما إلى نار) وهذا الحديث يرويه البخاري في صحيحه.
إذاً زكاة البقر ثبتت بالنصوص، سواء هذا النص الذي معنا عن معاذ رضي الله تعالى عنه، أو النصوص الأخرى التي ساقها البخاري رحمه الله.
أما في نصابها وما يؤخذ منها فلم يقع في ذلك اختلاف إلا ما روي عن بعض الأحناف، حيث جعلوها كالإبل في كل خمس شاة، ولكن الجمهور على هذا الحديث وأن من امتلك البقر ففي كل ثلاثين تبيع أو تبيعة.
والتبيع: الذي يتبع أمه، والتبيعة كذلك في سنه، أي: ذكراً كان أو أنثى في هذه السنة، فهو يجزئ في الثلاثين رأساً من البقر.
وفي كل أربعين مسنة، وإلى هذا ينتهي نصاب البقر.
بين الأربعين والخمسين من البقر عشرة رءوس، فهل فيها زكاة؟ والجواب: أن هذا وقص، كما بين الخمس والخمس من الإبل، فالخمس من الإبل فيها شاة واحدة، وهي للخمس الأولى، فإذا كملت عشر من الإبل ففيها شاتان، إلى اثني عشر وأربعة عشر من الإبل وليس فيها إلا الشاتان.
إذاً: ما بين النصاب والنصاب في الإبل والغنم والبقر وقص لا حصة للزكاة فيه.(127/2)
مقدار الجزية التي تؤخذ من أهل الكتاب
قال: (ومن كل حالم ديناراً أو عدله معافرياً) .
مما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم، وكلف معاذاً أن يحصله: (على كل حالم دينار -في السنة- أو عدل ذلك معافرياً) ، والمعافري: ثياب تنسب إلى بلدة معافر، وهي معروفة في اليمن، كانت مشهورة ببعض الثياب في الجودة.
والحالم: هو الذي بلغ سن الحلم، سواء احتلم أو لم يحتلم، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة حائض بغير خمار) فالحائض: الفتاة التي بلغت سن الحيض سواء أتاها الحيض أو تأخر عنها، أي: من بلغ سن التكليف، إذاً: ما دون ذلك من الأطفال والصبيان لا شيء عليه، وكذلك النساء.
فقوله: (على كل حالم) أي: محتلم بلغ سن التكليف في الإسلام ولم يكن أسلم، فعليه في الجزية سنوياً دينار أو عدل ذلك الدينار ثياب من هذا النوع المعروف المشهور بالمعافري.
وهنا نفهم من هذا الحديث أن معاذاً رضي الله تعالى عنه لما أتى إلى اليمن -وهم أهل كتاب- أن البعض استجاب له فأسلم وصلى وصام وزكى، والبعض بقي على ما كان عليه في اليهودية، ومن بقي على دينه فإن الإسلام يقره على ذلك مع دفع الجزية سنوياً، قال تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] .
قالوا: ((عن يد)) : إن كل إنسان لزمته الجزية يذهب بها بشخصه ولو كان أمير قومه، ويدفعها للعامل يداً بيد، لا أن يبعث بها خادمه أو جاره أو ولده فلابد أن يرى تلك الصورة، لعله فيما بعد يشمئز منها، أو يتثاقل منها ويرى أن الإسلام عزة له فيرجع إلى الإسلام.
فـ معاذ رضي الله تعالى عنه كان أميراً وقاضياً، وكان مزكياً وجابياً للجزية، وفي هذا الحديث مجال للعلماء في أخذ العروض في الزكاة، ولفظ هذا الحديث قد اختلف فيه، لما قيل لـ معاذ: (خذ من كل حالم ديناراً -أي: جزية- أو عدل ذلك ثياباً) عروض، فتوسع بعض العلماء وقال: يمكن أن يؤخذ في الجزية أي قيمة للدينار، فالحد الرسمي دينار، فإذا رأى الجابي المصلحة في غير الدراهم تخفيفاً على أهل الجزية، أو مصلحة للمسلمين الذين ستوزع عليهم تلك الأموال، فلا مانع.(127/3)
أخذ العروض في الزكاة بدلاً عن الواجب
وجاء عن معاذ رضي الله تعالى عنه: (ائتوني من الثياب اللبيس والخميص -أو الخميس- فإنه أرفق بكم، وأنفع لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم) .
فبعض العلماء يحمل هذا على الصدقة، وبعضهم يحمله على الجزية، فمن حمله على الصدقة قال: يجوز أخذ العروض عن الصدقة بدل المال؛ لأن هذه معاوضة بلباس بدل ما وجب في الصدقة.
ويجيب الذين يمنعون أخذ العروض في الصدقة بأن الأصل أن يقبض الزكاة، فإذا قبض الزكاة من الإبل أو من البقر أو من الغنم، ورأى أن سوقها من اليمن إلى المدينة كلفة ومشقة، وخاف عليها أخطار الطريق من عطش وتكسر وموت، ورأى أن يستبدل بدلاً منها ثياباً، فلا مانع من ذلك؛ لأنه يكون قد استلم الواجب الشرعي من الإبل أو من البقر أو من الغنم، وبصفته مفوض، وهو أمين موكل إليه أن يعمل لمصلحة الفقراء والمساكين؛ فله أن يستبدلها بعدما حصلها من أصحابها على الوجه المشروع.
فعلى رواية: (في الصدقة) يكون قد أخذ الصدقة من أعيانها وأجناسها، ثم استبدلها بعد ذلك من جديد بعد أن دخلت في عهدته.
أما رواية: (في الجزية) فلا علاقة لها بالزكاة، ولا دخل لها في موضوع أخذ العروض أو القيمة فيما وجب من الزكاة.
والله تعالى أعلم.(127/4)
المستشرقون وطعنهم في فريضة الجزية
هناك نقطة بسيطة نحب أن نلفت النظر إليها، وهي: أن بعض المستشرقين والمستغربين، والمستشرقون هم الذين يتناولون الإسلام والعلوم الشرقية، فهم غربيون مسيحيون، لكن يدرسون العلوم الشرقية وخاصة علوم الإسلام، والمستغربون في نظري: هم أهل الشرق الذين يتطلعون إلى علوم الغرب، ويتأثرون بها.
هؤلاء يثيرون الفتن والشبه، خاصة عند الشباب الذين لم يتمكنوا من دراسة الفقه الإسلامي، ومعرفة ما وراء التشريع من الحكم، فيقولون: علام تأخذون الجزية من الناس؟ لماذا تقيدونهم في حريتهم؟ ألم يقل سبحانه وتعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] وأنتم تريدون إما أن تكرهوهم على الإسلام وإما أن تأخذوا منهم الجزية؟ فيقال لهؤلاء: رويدكم! إن أخذ الجزية من هؤلاء، وإبقاءهم على قيد الحياة، واحترام دمائهم وأموالهم وأعراضهم لهي منحة من الإسلام إليهم؛ لأن الأصل: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ... ) {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39] فإذا ما تسامح المسلمون لبعض أهل الأديان، وتركوهم وشأنهم في دينهم بحريتهم، وأخذوا عوضاً عن ذلك ديناراً على الشخص فذلك رفق بهم.
وانظر في المعادلة: بين دينار على الحالم، وبين اثنين ونصف في المائة على المسلم في ماله، هذا الذي يدفع الدينار لو كان يملك الملايين فلا يؤخذ منه إلا الدينار، وبهذا الدينار يكون محفوظ الكرامة في دمه وماله وعرضه، وتحت حماية الأمة الإسلامية؛ لأن الأمة الإسلامية لها السيطرة والسلطان، وأهل الذمة في حمايتها فلو اعتدى عليهم من خارج الأمة لكان المسئول عن حمايتهم هم جماعة المسلمين، فيقاتلون دونهم، ويقدمون أنفسهم من أجل حمايتهم.
بينما المسلم لا ينظر إلى شخصه، وإنما ينظر إلى ما يملك، فكلما كثر ماله كثر ما يؤخذ منه، فإذا كان إنساناً ذمياً عنده مليون ريال، ومسلم عنده نصف مليون ريال، نأتي إلى الذمي فلا نأخذ منه إلا ديناراً، ونأتي إلى المسلم فنأخذ منه ربع العشر، فكم يكون مقدار ما نأخذ من المسلم وهو مسلم؟ وكم يكون مقدار ما نأخذ من الذمي وهو على دينه ذمي؟ والذي يكون كاسباً في هذه الحالة هو الذمي لا المسلم.
إذاً: لا غضاضة على الذمي أن يعيش تحت الحكم الإسلامي وأن يدفع الجزية، وهي أقل بكثير جداً عما يؤخذ من المسلم، في الوقت الذي تقوم الأمة الإسلامية على حمايته وحماية ممتلكاته.
ومن العجب -أيضاً يا إخوان- أن الإسلام يرحم الضعفاء من هذا الصنف، كما جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه مر به رجل عجوز يتكفف الناس، قال له: ما الذي حملك على السؤال؟ قال: أسأل لأجمع الجزية.
فقال عمر: ما أنصفناك إن أكلناك شاباً -يعني: لما كنت شباباً كنت تدفع الجزية ونأخذها- وضيعناك هرماً، ثم فرض له من بيت مال المسلمين ما يكفيه، ورفع عنه الجزية، فهل يجد هذا في دينه أو في ملته؟ هل يجد هذا العطف وهذا الحنان وهذه المساعدة عند قومه؟ والله لا يجدها.
إذاً: كل من تكلم في هذا الموضوع أو أصغى إليه فإنه ما فقه حقيقة الفقه في الإسلام.(127/5)
المكان الذي تؤخذ فيه زكاة الأنعام
[وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تؤخذ صدقات المسلمين على مياههم) رواه أحمد.
ولـ أبي داود أيضاً: (لا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم) ] .
يبين المؤلف رحمه الله بعدما انتهى من أنصباء زكاة بهيمة الأنعام -الإبل والبقر والغنم- كيف نأخذها؟ وكيف يؤدونها؟ فقال: (تؤخذ صدقات المسلمين على مياههم في دورهم) ، فمثلاً: العاصمة هي المدينة، وهناك منطقة حايل، والرياض، وجيزان، وهناك مناطق في أطراف الجزيرة، فهل يجب على أصحاب الأموال في أي مكان أن يسوقوا زكاة أموالهم إلى المدينة ويسلموها للمسئول عنها، أم أن ولي الأمر في المدينة يبعث إلى تلك الأقطار النائية والأماكن البعيدة من يستلم منهم ويأتي بها إلى المدينة؟ أعتقد أنه لو كلف المسلمون في أماكنهم أن يأتوا بزكاة أموالهم إلى المدينة لكانت مشقة عظيمة، فمن كان عنده خمس من الإبل فيحتاج أن يأتي بشاة من جيزان إلى المدينة! وهذه مشقة كبيرة، ولكن تؤخذ زكاتهم على مياههم، يأخذها العامل.
ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يبعث العمال إلى أماكن تواجد بهيمة الأنعام، فيقف عند المياه؛ لأن أصحاب بهيمة الأنعام سيوردونها الماء، ليس لازماً أن يتتبعهم في خيامهم ومبيتهم، فمثلاً إذا جاء إلى منطقة، ولنقدر -مثلاً- منطقة العوالي، أو منطقة قباء، أو غيرها، وهناك الآبار أو الغدران أو العيون التي هي موارد الإبل والبقر والغنم للسقي، فيأتي إلى ماء بني فلان، وهناك ينتظر: فإذا جاء الراعي بإبل فيعدها، ثم يأخذ الواجب فيها.
وعامل الزكاة لا يأتي منفرداً، بل معه من يساعده، وهم الذين يسوقون الأنعام التي تجمع، ومعه الكتاب الذين يحصون ويعدون، ومعه من يخدمه.
فإذا أخذ من هذا بنت مخاض، وأخذ من ذاك بنت لبون، أصبح عنده مراح من الإبل باسم الصدقة، ويتولى سوقها ورعايتها من معه من الأعوان.
إذاً: أخذ زكاة الأموال تكون من أصحابها على مياهها، ولم يكلفهم الذهاب والمجيء بها إلى المدينة؛ رفقاً بأصحاب الأموال.
وهنا يذكر العلماء حق هذا العامل، وواجب أصحاب الأموال في التعامل معه، فنجد التعليم الإسلامي يتناول العامل وصاحب المال، وكل منهما يوقفه عند الواجب الذي عليه، فتقدم لنا في قضية معاذ: (وإياك وكرائم أموالهم!) فيوصي العامل بأن يكون عادلاً رفيقاً، ولا يظلم أصحاب الأموال بأن يأخذ كرائم أموالهم، ولا يأخذ التيس إلا أن يرضى صاحبه، وكان فيه مصلحة، ولا يأخذه رغماً عن صاحب الغنم؛ لأنه قد لا يكون في الغنم إلا هذا التيس فيعطلها.
إذاً: الشارع الحكيم أوصى العامل بالإرفاق بأصحاب الأموال، ومن جانب آخر أوصى أصحاب الأموال كما جاء في بعض الروايات: (إنه قد يأتيكم من تكرهونهم) وهم العمال الذين يأخذون الأموال، فالناس لا يريدونهم أن يأتوا ولكن يأتونهم غصباً عنهم، إلا المؤمن فهو يدفع ذلك طواعية لوجه الله، فقال: (يأتيكم من تكرهونهم فأرضوهم) أي: لا يذهبون عنكم إلا وهم راضون، ومتى ترضونهم؟ إذا كنتم معهم أمناء في العدد، فلا تخفون شيئاً من الغنم وراء الحجر أو وراء الشجر، ولا تدعون الخلطة بغير الخلطة، ولا تدعون الفرقة بغير فرقة خشية الصدقة -كما تقدم- فأوصى أصحاب الأموال أن يحسنوا معاملة العمال وأن يكسبوا رضاهم.
جاء بعض الأشخاص إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: (يا رسول الله! يأتينا عمال فيظلموننا، قال: أرضوهم، وما تحمل فإثمه عليه، لكم أجركم وعليهم وزرهم) وهنا يقال: إذا علمت أن العامل ظالم، فالأمر بين حالتين: إما أن يقع اجتهاد من العامل في أداء الأمانة، فهو مصدق ومقدم.
وإما أن يكون معتدياً اعتداء صريحاً، كأن جاء إلى كرائم الأموال وأخذها، أو جاء وعدها فوجدها خمساً وعشرين، فقال: هذه ثلاثون، هذه خمسة وثلاثون.
فزاد على صاحب المال فيما يتعلق بما يجب عليه، وهذا قل أن يكون.
وتقدمت لنا قصة الرجل الذي وجد العامل عنده خمساً وعشرين من الإبل، وقال له: زكاة مالك بنت مخاض.
فقال الرجل: بنت مخاض لا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب، ولكن هذه ناقة كوماء فخذها.
فأراد صاحب المال أن يدفع أكثر مما عليه، فقال العامل: لا أستطيع أن آخذها؛ لأنها لم تجب، وأنا ممنوع من الظلم ومن التعدي، فإن كنت لا محالة فاعلاً فدونك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فخذ بها إليه.
فيأتي الرجل ويعرض على الرسول صلى الله عليه وسلم فيسأله: (أتعطيها عن طيب نفس؟ قال: بلى يا رسول الله.
فقال للعامل: خذها، وقال له: بارك الله لك في إبلك) فعاش إلى زمن معاوية رضي الله تعالى عنه، وكان يخرج العشرات من الإبل في زكاة إبله.
فهنا: العامل يمتنع أن يأخذ أكثر مما وجب عليه، وهذا هو المظنون في الأمناء الذين يبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما وقع أيضاً لـ ابن رواحة مع أهل خيبر لما ذهب ليخرص عليهم نخيلهم، فجمعوا له من حلي النساء رشوة، فسبهم وقال: إن هذا سحت، والله لقد جئت من عند أحب الناس إلي، ولأنتم أبغض الناس عندي، وما حب رسول الله ولا بغضكم بحاملي على أن أحيف عليكم، إني قاسم، فإن شئتم فخذوا، وإن شئتم فدعوا.
يعني: إن شئتم أخذتم النخيل وسلمتم ما وجب عليكم فيما أقسمه، وإن شئتم رفعتم أيديكم وأنا أعطيكم ما قسمت، قالوا: بهذا قامت السماوات والأرض.
الذي يهمنا أن الصدقة في بهيمة الأنعام تؤخذ على مياهها، أي: موردها من الماء، وفي مواطنها، ولا يكلفون المجيء بها إلى المدينة أو إلى عاصمة الدولة التي تقوم بجمع الزكاة؛ لأن في هذا مشقة عليهم.(127/6)
زكاة الخيل والرد على من أوجبها
[وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة) رواه البخاري، ولـ مسلم: (ليس للعبد صدقة إلا صدقة الفطر) ] .
انتقل المؤلف رحمه الله إلى نوع وقع الخلاف فيه، وهو: العبد والفرس، وهنا الحديث يقول: (ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة) .
فرس: نكرة أضيف إلى الضمير، وبعض العلماء يقول: إذا أضيفت النكرة إلى معرفة فهي عامة، وتدل على الجمع، كما في قوله سبحانه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ} [إبراهيم:34] فـ (نعمة) نكرة أضيفت إلى المعرفة (الله) ، فلو كانت مفردة ما احتاجت إلى إحصاء، ولكن دلت على العموم والشمول لما أضيفت إلى المعرفة.
فقالوا: (فرسه) يعم جنس الفرس وليس رأساً واحداً، إذاً: ليس على المسلم في جنس الخيل صدقة، ولا في جنس العبيد صدقة.
وهنا موضع خلاف يورده العلماء، والحديث أورده البخاري، وفي بعض الروايات: (ولا في غلامه) ويجمعون على أن فرس الخدمة وعبد الخدمة لا زكاة فيهما، إلا زكاة الفطر في العبد؛ لأن زكاة الفطر على الكبير والصغير والحر والعبد، وكل من تلزمك نفقته، ونحن الآن في الكلام على زكاة المال.
فبعض العلماء يقول: لا زكاة في الخيل مطلقاً حتى لو كانت للتجارة كما يقوله ابن حزم، والجمهور يقولون: إذا كانت الخيل للنسل والنماء فلا زكاة فيها، وإن كانت لعروض التجارة كإنسان يتاجر في الخيل، فيبيع ويشتري فيها؛ فالزكاة في قيمتها مثل عروض التجارة، وكذلك الرقيق، لو كان يتاجر في الرقيق فعليه زكاة تجارتها، أي: تقدر فيمتها ويدفع زكاتها من قيمتها، أما أن تتخذ للقنية أو للتناسل فلا زكاة فيها.
والإمام أبو حنيفة رحمه الله اعتبر الخيل من الدواب التي تزكى، وجاء في بعض الآثار -ويتفق العلماء على ضعفها- أن على الفرس ديناراً أو عشرة دراهم.
ويقول الجمهور: كتاب أبي بكر رضي الله تعالى عنه والكتب الأخرى التي جاءت في أنصباء الزكاة لا يوجد منها كتاب واحد ذكر الخيل.
ويذكرون أيضاً في هذا الباب أنه لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها ... ) إلخ -كما تقدم- فلم يذكر الخيل، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم: (والخيل يا رسول الله؟ فقال: الخيل ثلاث: خيل لصاحبها ستر، وخيل لصاحبها وزر، وخيل لصاحبها أجر ... ) فقالوا: هذا رد على من سأل عن سبب عدم ذكر الخيل مع الإبل والبقر والغنم.
وجاء في موضوعها في زمن عمر رضي الله تعالى عنه أن قوماً أصابوا خيلاً، فجاءوا إليه وقالوا: أصبنا خيلاً وعبيداً، نريد أن تأخذ زكاتها طهرةً.
فقال: (كيف آخذ منها زكاة وصاحباي قبل لم يأخذوها؟) يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر.
ثم شاور من عنده حتى سأل علياً فقال: (خذ منهم مادام أنهم أتوا بها طواعية) وقال: (لا مانع ما لم تصبح عليهم ضريبة أو جزية تكون لازمة عليهم من بعدك) أي: أن يأتي من بعده: عمر أخذ منهم، فيلزمهم بدفعها، والمبدأ كان اختياراً.
إذاً: عمر امتنع أولاً ولم يكن يمتنع إلا على ما هو ممنوع زكاته، ثم شاور أصحابه وشاور علياً، وأفاد علي بهذا الجواب، إذاً: فلا زكاة في الخيل، اللهم إلا إذا أصبحت عروض تجارة للبيع والربح والنماء فلا مانع.
وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا زكاة في الخيل إلا إذا كانت للتناسل والتكاثر، أما إذا امتلك مجموعة من الخيل كلها ذكور، أو مجموعة من الخيل كلها إناث؛ فلا زكاة فيها عنده؛ لأن الذكور وحدها لا تنمو ولا تزيد، والإناث وحدها لا تنمو ولا تزيد، أما إذا كانت ذكوراً وإناثاً وتنتج وتنمو وتزيد، فقال: الزكاة تبع للنماء، فتزكي.
والله سبحانه وتعالى أعلم.(127/7)
كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [5]
تجب الزكاة في النقدين الذهب والفضة إذا بلغا النصاب وحال عليهما الحول، ومن منع الزكاة فقد سمح الشارع لولي أمر المسلمين أن يأخذها منه قهراً وزيادة تأديباً على الامتناع، وإن كانوا كثيرين وذوو منعة قاتلهم الإمام.(128/1)
شرح حديث بهز بن حكيم في عقوبة مانع الزكاة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (في كل سائمة إبل في أربعين بنت لبون، لا تفرق إبل عن حسابها، من أعطاها مؤتجراً بها فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا، لا يحل لآل محمد منها شيء) رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وصححه الحاكم، وعلق الشافعي القول به على ثبوته] .(128/2)
اشتراط السوم لوجوب الزكاة في بهيمة الأنعام
جاء المصنف رحمه الله بحديث بهز بن حكيم بن حزام، بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (في كل سائمة الإبل في كل أربعين بنت لبون) ، وقد تقدم لنا أن بنت اللبون تكون من ست وثلاثين إلى خمس وأربعين، أي: أن الأربعين المذكورة هنا داخلة في نصاب بنت اللبون، وعلى هذا يكون الحديث فيه فائدة جديدة، وهي: اشتراط وصف السوم في الإبل.
وهذا الشرط عام في جميع بهيمة الأنعام، فإذا كان يمتلك أربعين من الغنم وهو نصاب، ولكنه يتكلف العلف إليها بأن يزرع لها البرسيم، أو يشتري لها الشعير أو يزرعه، فهذه تسمى معلوفة، والسائمة هي التي يسرح بها الراعي تسوم في أرض الله، تأكل من النباتات والعشب الذي ينبته الله في الأرض عن طريق الأمطار، ولا يتكلف لها علفاً.
وهنا يبحث الفقهاء فيما لو كانت بهيمة الأنعام سائمة نصف الحول؛ بأن جاءت الأمطار ونبت العشب، ورعت بهيمة الأنعام من هذا العشب ستة أشهر، ثم انقضى العشب في الخلاء، واضطر إلى أن يشتري لها العلف، فعلفها ستة أشهر، فيقول بعض الفقهاء: عليه نصف الزكاة؛ لأنها استوفت شرط الزكاة وهو حولان الحول، ونصف الشرط الآخر وهو السوم، فإذا كانت أربعين شاة فعليه نصف شاة، وإذا كانت مائة وواحدة وعشرين شاة فيها شاتان فعليه شاة واحدة.
وهكذا يجزأ الواجب على بهيمة الأنعام بالنسبة إلى السوم والعلف، فإن كانت سائمة طيلة العام فعليه الزكاة كاملة، وإن كانت معلوفة طيلة العام فلا زكاة عليه، وإن كانت سائمة تارة ومعلوفة تارة فبحسب ذلك يؤخذ منه الزكاة.(128/3)
عقوبة مانعي الزكاة والفرق بين الجحد والمنع
ثم في الحديث بيان عقوبة من منع الزكاة، فذكر في هذا الحديث: (من أعطاها مؤتجراً) أي: طائعاً مختاراً، طالباً الأجر من الله لأداء فريضة الزكاة عليه؛ لأن الزكاة ركن من أركان الإسلام، وهي حق المال؛ فإذا أدى ذلك ممتثلاً أمر الله، وطالباً الأجر من الله فبها ونعمت.
قوله: (ومن منعها) : هناك فرق بين (من منعها) و (من جحدها) فالجحود لما ثبت أنه من الدين بالضرورة كفر عياذاً بالله! الامتناع من العطاء أو الامتثال معصية.
ونذكر ما فعله الصديق رضي الله تعالى عنه مع مانعي الزكاة، فبعد انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى كان موقف الناس من الزكاة على عدة أقسام: منهم من كان من قال: انتهى أمر الزكاة فلا زكاة، وجحد استمرار وجوبها، ومنهم لا زال مقراً بالزكاة ولكن قال: أنا أخرجها بنفسي، ولا أدفعها لـ أبي بكر، هذه أموالنا ونحن مسئولون عنها، فنحن نقسم زكاتها.
وكان الأكثر قد جحدوا الزكاة، وصاحب ذلك ردة بعض القبائل.
فقام الصديق رضي الله تعالى عنه وأعلنها قائلاً: (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة) .
وهذا في حق (من جحدها) ، وقال: (والله لو منعوني عَقالاً -أو عِقالاً أو عَناقاً- كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه) .
إذاً: قام بالأمر، وعمر رضي الله تعالى عنه استوضح في الأمر، وقال: (أتقاتل قوماً يشهدون أن لا إله إلا الله! -هذا في غير المرتدين- فقال: يا عمر! أجبار في الجاهلية وخوّار في الإسلام؟! ألم يقل: (إلا بحقها) أي: من قال لا إله إلا الله بحقها، ومن حق لا إله إلا الله إيتاء الزكاة، فيقول عمر: (فرأيت أن الحق مع أبي بكر، فشرح الله صدري لما قال أبو بكر) .
فسموا قتال أبي بكر لمانعي الزكاة مع غيرهم: قتال الردة أو حرب أهل الردة، وليس من منع الزكاة مرتداً كمن قالوا: نحن نخرجها بأنفسنا، ولكنه افتيات على ولي الأمر؛ لأن الله سبحانه أوجب على ولي الأمر أن يقوم فيها؛ لقوله سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103] وهذا فعل أمر موجه للنبي صلى الله عليه وسلم، والخليفة من بعده يقوم مقامه، وهكذا كل من ولي أمر المسلمين فإنه يقوم مقامه صلى الله عليه وسلم فيما يجب على الإمام: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [الحج:41] ، فالزكاة قرينة الصلاة في وجوبها، ومهمة أخذها وتوزيعها على من يتولى أمر المسلمين.
وتقدم لنا بأن صدقات المسلمين تؤخذ على مياههم، يأخذها نواب ولي الأمر، فيذهبون إليهم ويحصون ما عندهم، ويأخذون ما وجب عليهم.
ومعنى (عناقاً) : هو ولد الشاة الصغير، ومعنى (عَقالاً) بالفتح: نصيب الزكاة في السنة، ومعنى (عِقالاً) بالكسر: الحبل الذي يكون في عنق البعير يعقل به حتى لا ينهض قائماً، فلكأنه يقول: لو أعطوني الإبل التي كانوا يعطونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونقصوا عقال واحدة منها لقاتلتهم عليه، فإذا كان سيقاتلهم على الحبل الذي يعقل به البعير هل يتركهم فيما وجب من بنت مخاض ولبون وحقة وجذعة ومسنة؟ ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (من أعطاها مؤتجراً) طالباً الأجر (فبها ونعمت، ومن منعها) -أي: غير جاحد (فإنا) بالتأكيد (آخذوها) أي: بالقوة (وشطر ماله) والشطر: النصف، فلماذا يأخذ شطر ماله؟ قالوا: هذا من باب العقوبة بالمال، والحديث فيه تتمة: (وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد) .
هذا التدليل مهم جداً؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يقول: من منعها أخذناها بالقوة، والقوة تحتاج إلى قتال، والقتال يحتاج إلى رجال، والمقاتلة لابد فيها من ضحايا، فنضحي ببعض المسلمين من أجل دفع الزكاة! فما حظه صلى الله عليه وسلم منها حتى يقاتل عليها؟ يقول: أنا كلفت بأخذها: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [التوبة:103] ، ووجب علي القيام بهذا الواجب، مع أني لا حظ لي فيها، أي: فيقوم فيها لمصلحتكم أنتم، فقيامه صلى الله عليه وسلم في الزكاة فمصلحة لمصلحة الأغنياء والفقراء، فمصلحة الأغنياء: إبراء ذمتهم، ومصلحة الفقراء: إيصال حقهم إليهم.(128/4)
فرض الزكاة حفظ لكرامة المساكين
ومن هنا -أيها الإخوة- نعلم أن فرض الزكاة للفقراء ليس معناه إذلالهم ولا إراقة مياه وجوههم، بل يأخذونها مع حفظ كرامتهم، وقد قال سبحانه: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264] ، ثم بين أيضاً فقال: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263] ، وكل ذلك حفاظاً على كرامة الإنسان؛ لأن الفقر والغناء ابتلاء من الله، لو شاء لحوَّل المال من الغني إلى الفقير: وما يدري الفقير متى غناه ما يدري الغني متى يعيل وما تدري وإن ضمرت صقباً لمن يكون ذاك الفصيل فلو ولدت الناقة وأنت قمت على الفصيل الصغير ونظفته وهذبته وفعلت كل شيء، فإنك لا تدري هو لك أو تذهب وتدعه لغيرك.
إذاً: الابتلاء بالمال في الغنى وفي الفقر امتحان من الله للعبد؛ أيشكر الغني على غناه؟! ويصبر الفقير على فقره؟! فمن هنا كان هذا الحق مع كرامة المسكين، فإنه لم يقل له: اذهب وخذ حقك من الأغنياء؛ لأنهما ربما يعطونه وربما يماطلونه أو يعقدون الوجه في وجهه، ولذا كلف الرسول الكريم -وهي لا تحل له- بأن يقوم عليها ويأخذها، ومن امتنع قاتله وأخذها عنوة، وأخذ شطر ماله.(128/5)
العقوبة المالية
وهنا يبحث العلماء في هذا الحديث: فهو من حيث السند متكلم فيه، ومن حيث المعنى هل في الإسلام عقوبات مالية؟ قالوا: نعم، وهذا دليلها.
ثم قالوا: في الغاصب أيضاً إذا كان قد أنشأ فيما غصب زرعاً أو بناءً هدم عليه؛ عقوبة له على غصبه.
إذاً: العقوبة المالية موجودة، ولكن بعض المتأخرين -وخاصة شارح هذا الكتاب- يقول: إننا إذا وسعنا الأمر لولاة الأمر في العقوبات المالية فلربما تطلعت نفوس الضعفاء منهم إلى أموال الرعية، فتذرعوا بأوهى الأسباب ليأخذوا الأموال قهراً، وليأخذوها بغير حق، وبادعاء أنها عقوبة مالية، ولذا نقول: لا ينبغي أن يتعدى ولي أمر في عقوبة مالية إلا ما ورد به الشرع.
وهنا قال: (أخذناها وشطر ماله) ، الشطر: النصف (عزمة من عزمات ربنا) أي: ليس فيها هوادة ولا تساهل.(128/6)
تعطل حق آل البيت من الخمس هل يبيح لهم الصدقة
وليس لمحمد ولا لآل محمد منها شيء) أي: حتى آل البيت ليس لهم من هذه الصدقات شيء.
ولكن في الوقت الحاضر يوجد أناس من آل البيت، وكان لهم في السابق سهم في الخمس، وكانوا يأخذون ما يكفيهم من خمس الغنائم من سهم الله ورسوله وذوي القربى، وكانوا يستغنون بذلك، فالآن لا خمس ولا سدس، فقد تعطل حقهم في المال.
فإذا وجد من آل البيت من يستحق الصدقة لو لم يكن من آل البيت؛ أنتركه يجوع لأنه من آل البيت، أم أننا نعطيه بصفة الفاقة والحاجة ويكون قد أخذ لا لأنه من آل البيت، بل لأنه فرد مسلم مستحق محتاج؟ والذي حرمها على آل البيت ما قاله صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الصدقة أوساخ الناس) ولا يليق بآل بيت رسول الله الذين يريد الله أن يطهرهم تطهيراً أن يتناولوا أوساخ الناس، ولكن ما دام الحق الأساسي قد تعطل عليهم، وأصبحوا بصفة الفقر أو الحاجة كغيرهم، فإذاً يعطون من الزكاة.
وقد وقع الخلاف في عامل الزكاة إذا كان من آل البيت: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة:60] ؛ أيأخذ أجره من الزكاة؟ فبعض العلماء يقول: لا يكون العامل من آل البيت حتى لا يأخذ أجره من الزكاة التي هي أوساخ الناس.
وبعضهم يقول: هو يأخذ بعمله لا بكونه من آل البيت.
والآخرون قالوا: إذا احتيج إليه فإنه يعمل ويأخذ أجره من بيت مال المسلمين الذي يمون بالفيء والغنائم.
والذي يهمنا هنا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تحل لمحمد ولا لآل محمد) ، وهذا كان معمولاً به في السابق كما في قصة بريرة مولاة عائشة رضي الله تعالى عنهما، حيث اشترتها وأعتقتها، فتصدق بلحم على بريرة؛ لأنها ليست من آل البيت، بل هي مولاة لهم، (مولى القوم من أنفسهم) .
فجاء صلى الله عليه وسلم وطلب الغداء، فقدم إليه الخبز والملح والخل، فتساءل عن سبب تقديم (الخبز والملح والخل وهو يرى البرمة تغط على النار؟ قالوا: إن ما فيها لا يصلح لك؛ لأنه لحم تصدق به على بريرة، فقال صلى الله عليه وسلم: (هو عليها صدقة، ولنا منها هدية.
وأكل منه) .
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم (أنه كان يمشي ومعه الحسن فوجد تمرة في الأرض فالتقطها إلى فيه، فحالاً أدخل صلى الله عليه وسلم إصبعه في فيِّ الصبي وأخرجها وقال: كخ! كخ! ثم قال: لولا أني أخشى أن تكون من تمر الصدقة لتركته يأكلها) ، فإلى هذا الحد كان يتحرز صلى الله عليه وسلم من أكل الصدقة؛ لأنها من أوساخ الناس، فهي لا تحل لمحمد ولا لآله، وأبناء فاطمة من آل محمد صلى الله عليه وسلم.
وهناك من يتكلم على هذه اللفظة (وشطر) فيقول: إن العقوبة بالمال لا تأتي، وإن الرواية (وشُطِرَ ماله) ، بمعنى: قسم ماله قسمين: قسم خيار المال، وقسم رديء المال، ويأتي المصدق ويتخير من خيار المال، يعني: هو كان يمتنع من تقديم الزكاة من وسط المال، فجاء عقوبة له أن تؤخذ من خيار ماله رغماً عنه، ولكن الجمهور على اللفظ الأول: (آخذوها وشطْر ماله) أي: ونصف ماله معها عقوبة له على منعه للزكاة.(128/7)
زكاة الذهب والفضة
قال المؤلف رحمه الله: [وعن علي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كانت لك مائتا درهم، وحال عليها الحول، ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شيء حتى يكون لك عشرون ديناراً وحال عليها الحول، ففيها نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلك، وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول) رواه أبو داود، وهو حسن، وقد اختلف في رفعه] .
انتهى المؤلف رحمه الله من جميع ما يتعلق ببهيمة الأنعام، وجاء إلى النقدين: الذهب والفضة، فذكر هذا الأثر عن علي رضي الله تعالى عنه.
ثم النقاش في هذا الأثر برمته أهو موقوف على علي من كلامه، أم هو مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعلي ينقله عن رسول الله؟ على كلا الحالتين علماء الحديث يقولون: سواء كان موقوفاً على علي أو كان مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن فله حكم الرفع، فهو مرفوع بالفعل أو له حكم الرفع.
قالوا: لأن فيه الكلام على تشريع في ركن أساسي، وبيان أنصباء الأموال وما يجب فيها، وليس هذا محل اجتهاد، فلا يتأتى لـ علي ولا لغيره أن يتكلم في هذا المجال من عنده، والحق في ذلك أنه بيان لمجمل في كتاب الله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:34] ، فمن الذي يبين لهم الزكاة حتى لا تكون كنزاً، ويسلمون من أن تكوى بها جباههم وظهورهم؟ لا يكون ذلك إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: لا حاجة إلى البحث في سند الحديث مادام أنه صح عن علي رضي الله تعالى عنه، فهو إن كان موقوفاً عليه فله حكم الرفع، وإن كان قد رفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فهو المطلوب.(128/8)
اشتراط النصاب في زكاة النقدين
قوله: (إذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول) أي: مضى عليها حول كامل، والحول: هو السنة؛ لأنه يحول ويعود.
قوله: (ففيها خمسة دراهم) فخمسة دراهم تخرج من (200درهم) ، (200÷5=40) ، أي ففي كل (40 درهم) درهم درهماً واحداً، فيكون المخرج (1.
4) فننسبه مئوياً وعشر الأربعين هو (1.
10×40=4) ، وربع الأربعة هو (1.
4×4=1) ، فهو ربع العشر وهو (2.
5%) ، فهذه النسبة ثابتة في الذهب والفضة.
والذي يهمنا هنا: اشتراط بلوغ النصاب في الفضة مائتي درهم، واشتراط حولان الحول، وعليه فلا زكاة في الفضة إلا بامتلاك نصاب كامل، ويبقى هذا النصاب مخزوناً بلا حاجة تدعو إليه سنة كاملة.
إذاً: ما دام أن لديه مائتي درهم، ومرت عليه سنة وما احتاج منها إلى شيء، فهو غني، ولو كان فقيراً لأخذ منها، لكن هذه الدراهم نائمة مستريحة ما حرك فيها ساكناً، فهو في غنى عنها، سواء كانت من صناعة أو تجارة أو زراعة، فمن كان عنده رأس مال نائم لم يحركه لحاجة ولا ضرورة، فهذا غني، وهذا من الإرفاق بالغني فلا تؤخذ زكاة ماله إلا إذا ثبت غناه، وما الذي يثبت غناه؟ وجود النصاب سنة كاملة ما امتدت يده إليه.
ومن ناحية أخرى: عنده مائتان، أخذنا منه خمسة وهي: (2.
5%) ، فهي نسبة ضئيلة جداً لا تؤثر عليه؛ فهذا إرفاق به مرة أخرى.
ومن هنا نجد الزكاة مبنية على الإرفاق بالغني، كما هي مشروعة للإرفاق بالفقير، ومن الإرفاق بالغني اشتراط حولان الحول؛ لأنها علامة على غناه، ومن الإرفاق به أن يكون الجزء المأخوذ ضئيلاً جداً لا يؤثر عليه، وما يؤخذ من الغني كثير أو قليل فهو إرفاق بالفقير كما قيل: بث الجميل ولا تمنعك خلته فكل ما سد فقراً فهو محمود وكما قال صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة) أي: رجل شاة محرقة لا تحتقره المرأة في أن تهديه لجارتها، لتذهب فتشويه أو تسلقه حتى تحصل منه شيئاً، وقد سمعنا في بعض القصص أنه مر على المدينة سنين جوع، كانوا يتبعون جلود الحيوانات فينفضونها ويدقونها، ويصنعون منها طعاماً.
فإذاً: لا تحتقر شيئاً، وفي الحديث: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) .
امرأة مسكينة تأتي إلى بيت رسول الله فتجد أم المؤمنين عائشة وبيدها قطف عنب فتسألها، فتعطيها حبة مما في يدها، فتأخذها المرأة وتنظر فيها تستقلها، فقالت لها عائشة: يا أمة الله! انظري كم فيها من ذرة، والله يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:7] تستكثرها.
والمرأة التي شقت التمرة شقين، وأعطت كل شق لطفلة من بناتها، ثم أخذت النواة تمصها، اجتزأت بهذا.
إذاً: كل ما يؤخذ من الغني للفقير قليلاً كان أو كثيراً فهو كل ما سد فقراً، فهو محمود.
إذاً: يبين لنا علي رضي الله تعالى عنه بأنه لا تجب على الإنسان في الفضة زكاة حتى يمتلك مائتي درهم، ولا زكاة عليه في المائتي درهم حتى يحول عليها الحول.
قوله: (وليس عليك شيء حتى يكون لك عشرون ديناراً وحال عليها الحول، ففيها نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلك) .
جاء علي رضي الله تعالى عنه هنا ببيان نصاب الذهب فقال: (لا شيء عليك في الذهب حتى تمتلك عشرين مثقالاً) ومسمى المثقال والدينار واحد، فالدينار: اسم للوحدة النقدية، والمثقال: اسم للوحدة الوزنية، وكما تقدم بأن نسبة الدرهم إلى الدينار هي: كل عشرة دراهم تزن سبعة مثاقيل، أي: أن المثقال درهم وثلاثة أسباع.
قوله: (ولا زكاة عليك حتى يحول عليها الحول) أي: كشأن الفضة، فإذا امتلكت عشرين مثقالاً وحال عليها الحول فعليك فيها نصف مثقال، النصف في العشرين كم يعادل في المائة؟ واحد في الأربعين، والمائة فيها أربعون وأربعون أخرى، ونصف الأربعين، فتكون هي 2.
5%.(128/9)
اشتراط الحول في زكاة النقدين
قوله: (وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول) .
هذه قضية عامة يذكرها علي رضي الله تعالى عنه، وهذا بالإجماع في بهيمة الأنعام، وفي النقدين (الذهب والفضة) ، وفي عروض التجارة.
أما المال الذي يأتي عن طريق إنبات الأرض فليس فيه حول، قال تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] فيزكى عنه عند حصوله، فإذا استوى التمر وجذ وجفف وكان قد خرص قبل أن يجذ، فيؤدي الزكاة يوم أن جف التمر، وكذلك الحبوب نصابها -على ما سيأتي- خمسة أوسق، عندما يصفي الحب، تخرج زكاته.
إذاً: (ولا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول) هذا عام، ولكن يراد به مخصوص، وهو بهيمة الأنعام، والذهب والفضة وعروض التجارة، وما عداها ففيه التفصيل، أما الزروع والحبوب فيوم حصاده، وأما اللقطة أو الكنز أو ما وجد دفيناً -الركاز أو المعدن- أو غير ذلك فله تفصيل آخر يأتي في محله إن شاء الله.(128/10)
زكاة المال المستفاد أثناء الحول
قال المؤلف: [وللترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما: (من استفاد مالاً فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول) والراجح وقفه] .
هذا الأثر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول: (من استفاد مالاً) هذه المسألة يبحث فيها الفقهاء المال المتجدد أثناء الحول، فمثلاً: عندك مال قدره مائتا درهم، وليكن هذا المال من التجارة، فيزيد ويزيد إلى أن يأتي نهاية الحول وقد صارت المائتان ألفاً، فعند تقدير العروض في نهاية الحول تزكي ما وجد عندك، ولا تقتصر على زكاة أول ما ابتدأت به.
فإذا كنت بدأت الكسب بالتجارة أو الموظف يوفر من راتبه كل شهر شيئاً، إلى أن بلغ التوفير نصاباً، فيبدأ حساب الحول، فإذا وصل إلى نهاية الحول من يوم ما تم عنده النصاب، وفي أثناء ذلك كان يضم توفيراً مع توفير لشهر مع شهر، إلى النصاب، فكل ذلك يتبع الأصل الأول، وفي نهاية الحول ينظر ماذا اجتمع عنده حتى الراتب الأخير الذي هو قبل الحول مباشرة، ويزكي الجميع.
فكذلك التاجر: ينظر ماذا ربح، وماذا وجد عنده من أول ما بلغت تجارته النصاب إلى أن يحول الحول، وفي نهاية الحول ينظر كم وجد عنده؟ خمسة أنصبة أو ستة أو أكثر أو أقل، فيزكي تجارته بما فيها ما دخل عليه قبل الحول بيوم واحد، ولا نقول: له حول جديد؛ لأن أصله واحد وهو التجارة، وكذلك الموظف أصل ماله وهو الوظيفة.
لكن هذا التاجر وذاك الموظف إذا استفاد مالاً آخر أثناء الحول، سوء في منتصف الحول أو قبل تمام الحول بشهرين أو ثلاثة بأن جاءه ميراث مثلاً، فهل المال الذي جاءه من الميراث تابع للتجارة أم مستقل؟ مستقل.
فعلى هذا يقول ابن عمر: يجعل له حولاً جديداً، فحول التجارة وحده ويزكيها في نهاية الحول، وحول الميراث يمضي في طريقه حتى إذا حال عليه الحول عنده زكاه، وبهذا القول يقول الشافعي رحمه الله: أعني أن من استفاد مالاً أثناء الحول اعتبر له حولاً جديداً.
أما الجمهور فيقولون: المال واحد، سواء جاء بالتجارة، أو جاء بالميراث، أو جاء بالهبة، أو جاء بغيره فكله دخل في ملكه وصندوقه، ينظر في نهاية الحول ويزكي الجميع.(128/11)
البقر العوامل لا زكاة فيها
قال المؤلف: [وعن علي رضي الله تعالى عنه قال: (ليس في البقر العوامل صدقة) رواه أبو داود والدارقطني، والراجح وقفه أيضاً] .
تقدم الكلام على أنصباء البقر وأنه في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة، وهذا مطلق في عموم البقر، فجاء المؤلف بأثر علي رضي الله تعالى عنه ليقيد ذاك العموم وهو قوله: (ليس في البقر العوامل صدقة) ، أي: في كل أربعين تبيع إذا لم تكن عوامل.
والبقر العوامل جاء الأثر أنها التي تثير الأرض، أي: تستخدم في الحرث للزراعة، وقد تستخدم في جر العربات أو في السواني -أي: في نضح الماء- إلى غير ذلك، وذلك أن عمل البقر فيما يتعلق بالزراعة سيترتب عليه ثمرة، وهي إما ثمرة الشجر كنخل وعنب وزيتون، وإما حب ذرة وشعير وغيره على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله.
وإذا كان ما تعمله البقر ستؤخذ زكاته يوم حصاده فلا يتأتى أن تؤخذ زكاة الحبوب أو الثمار الناشئ عن عمل البقر، ثم تؤخذ الزكاة من البقر الذي نشأ عن عمله تلك الثمار أو الزروع، وهو ما يسمى يعبر عنه بعض المعاصرين بقولهم: (لا ثنية في الزكاة) يعني: لا تؤخذ الزكاة من مال مرتين.
وكونه يقول: (موقوف على علي) .
تقدم التنبيه على مثل ذلك الموقوف أنه تشريع، والتشريع لا يكون بالاجتهاد ولا بالرأي، فله حكم الرفع، وعليه يكون علياً رضي الله تعالى عنه قد سمع ذلك من الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر ما سمعه دون أن يسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتقدم هذا في عدة أحاديث في باب الزكاة.
ونذكر الإخوة بأن علياً رضي الله تعالى عنه كانت عنده صحيفة، فلما سئل: (هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم آل البيت بشيء من العلم دون الناس؟ -هل أعطاكم علماً لم يعطه لأحد غيركم؟ قال: لا؛ إلا فهم أوتيه رجل في كتاب الله، وما في هذه الصحيفة.
قالوا: وما فيها؟ قال: أنصباء الزكاة، والعقل، وفكاك الأسير) .
إذاً: علي رضي الله تعالى عنه كانت عنده صحيفة كما كتب أبو بكر رضي الله تعالى عنه لـ أنس الكتاب الذي بيَّن فيه أنصباء الزكاة، وما كانت كتابة أبي بكر عن رأيه هو، ولكنه عن سماع سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن إيجاب الزكاة فريضة، وإسقاطها يكون إسقاطاً للحق.
فكون علي رضي الله تعالى عنه يقول: (ليس في البقر العوامل زكاة) فيه إسقاط حق الفقراء في هذه الأبقار، وعلي لا يملك أن يسقط حقاً أوجبه الله في قوله سبحانه: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:19] إذاً: علي لن يقول مثل ذلك إلا إذا كان عن سماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث وإن كان في البقر فإنه يرد قول المالكية بأن في الإبل العوامل زكاة، ووجهة نظر مالك رحمه الله أن الإبل من حيث هي مال ينمو بالتناسل، فإذا ملك منه النصاب فعليه الزكاة، وما كان منها من العمل فـ مالك يقول: هذا العمل من هذه الإبل زيادة منفعة لصاحبها، فالتي لا تعمل ولا يستفيد منها إلا زيادة النماء والنسل فيها زكاة، فمن باب أولى إذا كان فيها النماء والنسل ومع ذلك تعمل، فعملها زيادة فائدة، ففيها الزكاة.
ولكن الجمهور -كما أشرنا- لم يأخذوا من الإبل ولا من البقر العوامل زكاة؛ لأن عملها سيترتب عليه فائدة فتؤخذ الزكاة من تلك الفائدة، فلا نعود عليها بأن نأخذ زكاتها مرة أخرى، اللهم إلا أن تكون عروض تجارة، كأن يتاجر في الإبل ويشغلها، ويتاجر في البقر ويُعملها، فخرجت عن زكاة بهيمة الأنعام بأنصبائها: ثلاثين وأربعين وغيرها، وخرجت عما يخرج فيها من تبيع ومسنة، وعن بنت مخاض وبنت لبون، ودخلت في عروض التجارة، فتقدر قيمتها، ويخرج من مجموع القيمة قدر (2.
5%) ، وليس فيها وقص كما في أصل بهيمة الأنعام، بل تعامل معاملة عروض التجارة.(128/12)
كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [6]
لقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفق باليتيم والإحسان إليه حتى في ماله، بأن يتاجر له فيه حتى لا تأكل ماله الزكاة، وللعلماء خلاف في مسألة إخراج الزكاة من ماله قبل البلوغ.
كما جاء الخلاف في صحة إخراج الزكاة قبل حلول الحول فيها، وهو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه العباس.(129/1)
وجوب الزكاة في مال اليتيم وما يتعلق بذلك
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ولي يتيماً له مال فليتجر له، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة) ] .
هذه القضية وقع الخلاف فيها بين الإمام أبي حنيفة رحمه الله وبين الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد.
فإذا كان المال لإنسان كبير بالغ رشيد مكلف فإن من أركان الإسلام أن يؤدي زكاة ماله، أما إذا كان المال ليتيم، أي: لصبي قاصر عن سن الحُلُم، واليتيم: هو من توفي أبوه قبل بلوغه، واليتيم في الحيوانات: من توفيت أمه، واليتيم في الطيور: من توفي أبوه وأمه.
وإذا كان الطفل يتيماً فلا بد أن يقام عليه ولي يرعى شئونه، ويدبر حاله من تعليمه، والحرص على ماله إن كان له مال، وتنميته ومراعاته حتى لا يضيع.
فيتيم ورث عن أبيه مالاً، هذا المال فيه زكاة، والمال الزكوي على قسمين: مال خفي: وهو ما يتعلق بالنقد من الذهب والفضة، والأوراق النقدية في الوقت الحاضر.
ومال ظاهر: وهو بهيمة الأنعام والزروع.
فالمال الخفي يقول الجمهور: فيه زكاة.
والإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: لا زكاة عليه حال يتمه، ولكنه إذا بلغ ورشد واستلم ماله من الوصي زكاه.(129/2)
استحباب الاتجار بمال اليتيم
وقوله في الحديث: (من ولي يتيماً) أي: صار ولياً عليه، سواء كان أمه أو عمه أو أخاه الأكبر أو شخصاً أجنبياً يقيمه الحاكم؛ فالذي يلي مال اليتيم، وكان لهذا اليتيم مال فلا يجعله في الصندوق، بل يتجر فيه؛ لينمو ويربح، حتى إذا حال عليه الحول وأخرج الزكاة لم ينقص رأس المال الأساسي، وهكذا يحول الحول الثاني ويخرج الزكاة، فيكون نماء المال وربحه ضماناً لرأس المال.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (فليتجر به) أي: برأس مال اليتيم؛ لأنه باتجاره فيه ينمو، فإذا ما أخرجنا الزكاة منه حافظ على مستواه، فلا ينقص، بل يزيد، أما إذا لم نتجر فيه وتركناه في الصندوق، وحال عليه الحول، وأخذنا منه (2.
5%) ، والسنة الثانية أخذنا منه (2.
5%) وهكذا إلى السنة العاشرة؛ فعشر سنوات في اثنين ونصف في المائة ماذا يبقى؟ كأنا تركنا مال اليتيم للزكاة تأكله.
إذاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (فليتجر له، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة) دليل للجمهور على أن مال اليتيم يزكى، لأنه لو لم يزك لم تأكله الصدقة.(129/3)
الدليل على عدم وجوب الاتجار بمال اليتيم
جاء عن علي رضي الله تعالى عنه أن آل أبي أوفى كانوا أيتاماً، ولهم عنده مال وديعة، وبعد أن بلغوا سن الرشد دفع إليهم مالهم، فحسبوه فوجدوه ناقصاً، قالوا: المال ناقص يا علي.
قال: هل حسبتم زكاته؟ قالوا: لا.
قال: احسبوها.
فحسبوا زكاة تلك السنوات فوجدوه تاماً بزكاته، فقال: أترون أن يكون عندي مال ولا أخرج زكاته؟ وهنا أصبحنا في إشكال، فهذا علي لم يتجر بالمال، وتركه حتى أكلت الزكاة منه واستنقصه أصحابه؟ وهنا قال: (فليتجر له) فهل يجب على الولي أن يتجر في مال اليتيم أم أن هذا من باب النصح والرشد؟ نقول: الولي ما تولى لليتيم إلا للعمل على صلاحية حاله، واتفق الأصوليون على معنى قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء:10] فقالوا: كل من أتلف على يتيم مالاً، سواء أكله بفيه أو أحرقه بنار أو أغرقه في ماء، أو سلط عليه بهيمة، فهو داخل في عموم الوعيد: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء:10] .
بقي لنا هذا: هو لم يأكله، ولكن ترك تنميته، فالأصوليون أيضاً يقولون: الترك فعل، كما يذكر والدنا الشيخ الأمين في مراقي السعود: (والترك فعل في صحيح المذهب) ، وكما قال الصحابة: (لئن قعدنا والنبي يعمل -أي: في بناء هذا المسجد النبوي الشريف- لذاك منا العمل المضلل) ، فهم بالقعود ما عملوا شيئاً لكن قعدوا عن العمل، فترك العمل والقعود بدون عمل فعل، كما قال صاحب مراقي السعود: فالترك فعل، بمعنى: لو أن إنساناً على شاطئ نهر، وجاء كفيف ولا يعلم بحافة النهر، وهو يراه متجهاً إلى الماء، فإنه سيغرق، فلو تركه فلم ينبهه حتى سقط في الماء فغرق، هل هو عمل شيئاً في غرقه؟ ما عمل، ولكنه مسئول؛ لأنه ترك إرشاده، وهكذا من ترك شيئاً قادراً على أن يفعله وترتب على تركه مفسدة، فهو مسئول عنها.
وهنا علي رضي الله تعالى عنه ترك العمل في مال الأيتام عنده، فيقال في العمل في مال اليتيم: إن كان العامل من أرباب الخبرة، ولديه المتسع، ويمكن أن يعمل في مال اليتيم وينميه، فعليه أن يعمل، أو يضعه في يد أمين يعمل، أما إذا كان لا يضمن الربح، أو يخشى إن وضعه في يد آخر أن ينكره أو يهمله، فبقاؤه في محله أولى.(129/4)
دليل أبي حنيفة على عدم وجوب الزكاة في مال اليتيم والجواب عليه
والإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: الزكاة عبادة وتحتاج إلى النية، والصغير غير المكلف لا نية له، فكيف يؤدي عبادة بدون نية.
قال: فالزكاة كالصلاة، ولا تجب عليه الصلاة إلا إذا عقل وأدرك وصحت منه النية، وكذلك الصوم.
قال الجمهور: إنما ذلك في العبادة البدنية، أما العبادة المالية فلا تتوقف على النية، ووليه هو المكلف، فهو يقوم بذلك نيابة عنه، أرأيت لو أن هذا اليتيم لحقه دين، وجاء الولي واستولى على هذا المال بولايته ووصايته على هذا الصغير، أترونه يسد الدين عنه أم لا؟ وعلى هذا لو أن اليتيم لحقه حق في المال، وطولب به الولي، فإن الولي يدفع هذا الحق من مال الصبي وفاءً بدينه، ولا يتوقف على كونه صغيراً لا نية له، فقالوا: الزكاة حق في المال، وله تعلق بالذمة -أي: بذمة المالك- ليبرئ ذمته بقصد إخراجه طاعة لله.
وكذلك الحديث الماضي: (أخذناها وشطر ماله) هل كان له نية في هذه أم أخذت بالقوة؟ أخذت بالقوة، قالوا: فتجزئ عنه ولو لم ينو إخراجها، لكن ثوابها على أنها أداء ركن في الإسلام ليس له؛ لأنه لم يدفعها طواعية.(129/5)
تفصيل مذهب أبي حنيفة في زكاة مال اليتيم
إلى هنا الأئمة الثلاثة يقولون: في مال اليتيم زكاة أياً كان نوعها، والولي يقوم مقامه في إخراجها والنية عنه، والإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: الزكاة عبادة، والعبادة لا تتأتى إلا من البالغ المكلف، فيترك المال بزكاته حتى يبلغ ويرشد الصبي، فيدفع إليه ماله ويقال له: الزكاة في مالك من سنة كذا، ويتولى هو إخراج زكاة ماله بنفسه.
هذا عند الإمام أبي حنيفة، وخالفه بعض أصحابه في ذلك.
إلا أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله يستثني من عموم المال ما تخرجه الأرض، فيقول: إذا كان الصبي يمتلك مزرعة، والمزرعة جاءت بما تجب فيه الزكاة، فإن على الولي أن يخرج زكاة ما تخرجه الأرض من ملك اليتيم، ولا ينتظر به إلى أن يبلغ قال: لأن الله سبحانه وتعالى علق زكاة ما تخرجه الأرض بعينه، قال تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] فأمر المولى بإخراج زكاة ما تخرج الأرض يوم الحصاد، واليتيم لا دخل له في ذلك.
وسيأتي ما هي الأنواع التي تزكى مما تخرجه الأرض أو لا يزكى.
ومال اليتيم: إما نقد وإما بهيمة الأنعام وإما زروع، أما النقد وبهيمة الأنعام فالإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: لا يزكى مال اليتيم في النقدين وبهيمة الأنعام، وتترك حتى يبلغ ويستلم ماله، ثم هو الذي يتولى إخراج زكاته، أما الزكوي مما تخرجه الأرض فإن وليه يخرجه يوم حصاده، هذا ما يتعلق بمال اليتيم، والقاصر كالمجنون والمعتوه ونحو ذلك.
والله تعالى أعلم.(129/6)
ترجيح القول بوجوب الزكاة في مال اليتيم
وهذه القضية من القضايا التي تعم بها البلوى، لأنه لا تخلو قرية من يتيم، ولا يخلو يتيم في الغالب من مال، فإذا كانت المسألة على هذه الحال، فربما نجد فيما تقدم لنا من حديث معاذ رضي الله تعالى عنه ما يشهد للأئمة الثلاثة، وهو: أن معاذاً لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال له: (فأعلمهم بأن الله افترض عليهم زكاة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم) .
ونحن نسأل في كلمة (أغنيائهم) : اليتيم إذا كان عنده ألف رأس من الإبل أو من الغنم، وإذا كان عنده ألف دينار أو ألفا درهم من الفضة، فهو غني أم فقير؟ الجواب: هو غني، فيدخل في عموم الأغنياء، فتؤخذ منه الزكاة كما تؤخذ من الأغنياء الكبار.
وإذا جئنا في تقسيم الزكاة: (تعطى إلى فقرائهم) ، هل نعطيها لليتيم الفقير أم نقول: هذا اليتيم ليس مكلفاً، ولا يصح أن يقبض الزكاة؟ الجواب: أنه أحق من غيره، فإذا كان مع اليتم يأخذ من الزكاة، إذاً: مع اليتم يعطي الزكاة، فهذا في عموم (أغنيائهم) وهذا في عموم (فقرائهم) .(129/7)
الصلاة على مخرجي الزكاة والدعاء لهم
قال المؤلف: [وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل عليهم) متفق عليه] .
هذه القضية، وهي الصلاة على غير الأنبياء، جاء في النص القرآني الكريم: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] .
وهنا أنه صلى الله عليه وسلم كان عندما يأتيه قوم بزكاتهم، سواء كانوا من أهل المدينة أو من خارجها يصلي عليهم؛ لأننا عرفنا القاعدة: أن بهيمة الأنعام تؤخذ زكاتها على مياههم هناك، فإذا كانت زكاة مال أو زكاة حبوب وجاءوا بها إلى رسول الله، ودفعها إلى المسئول لتوزيعها أخذها منهم وصلى عليهم، اللهم صل على آل فلان، أو اللهم صل على فلان، أو يقول: صلى الله عليك.
وكونه صلى الله عليه وسلم يصلي على من أتى بزكاته إليه هو امتثال منه لأمر الله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103] فهذا أمر من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليهم عندما يأخذ منهم الزكاة.
وهنا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] .(129/8)
معنى الصلاة
الصلاة في اللغة: الدعاء، كما قال القائل: وقابلها الريح في دنها فصلى على دنها وارتسم أي: دعا على دنها، وكما جاء في حديث الوليمة: (شر الطعام طعام الوليمة، يدعى إليها من يأباها، ويمنعها من يأتيها، ومن لم يأتها فقد عصى أبا القاسم، ومن كان صائماً فليصل) ، فبعض العلماء قال: (فليصل) أي: يرجع ويسجد، وبعض العلماء قال: (فليصل) أي: فليدع؛ لأن أصل الصلاة الدعاء، وانتقل اسمها إلى الصلوات الخمس ونوافلها؛ لأن الدعاء موجود فيها من أول لفظ: الله أكبر ثم دعاء الاستفتاح، إلى أن يسلم.
قالوا: والصلاة من الله على رسوله أو من الله على عباده كما في الحديث: (من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشراً) فقالوا: الصلاة من الله رحمة، فإذا قال صلى الله عليه وسلم: اللهم صل على آل فلان؛ فمعناه: اللهم ارحم آل فلان.
والصلاة من العباد دعاء، فإذا قلت: اللهم صل على محمد، فكأنك تدعو الله بأن يعلي شأن محمد صلى الله عليه وسلم، فتدعو له ولآله بالرفعة والثواب الجزيل.(129/9)
حكم الصلاة على غير الأنبياء
فهنا: هل تجوز الصلاة من الإنسان للإنسان فتقول: اللهم صل على آل فلان؟ فكوننا نقول: اللهم صل على محمد، قد أمرنا بذلك {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا} [الأحزاب:56] فهذا أمر من الله أن نصلي على محمد صلى الله عليه وسلم، فهل نفعل ذلك للخلق فيتساوى أفراد الأمة مع رسولها؟ بعض العلماء قال: لا نصلي عليهم، ولكن ندعو لهم بالخير! بغير صيغة الصلاة، وإنما نقول: اللهم أكرمهم، وبارك لهم فيما رزقتهم، ونمِّ أموالهم، واحفظها، ونحو ذلك.
ومن هنا لما انتقل صلى الله عليه وسلم إلى جوار مولاه قال بعض الناس: أنا لا أعطي الزكاة لـ ابن أبي قحافة.
قال: كنت أعطيها لرسول الله لأنه كان يصلي علينا، وليست صلاة ابن أبي قحافة علينا كصلاة رسول الله، فأنا أؤديها بنفسي.
ولكن كما نعلم أنه لم يقبل منهم ذلك.
ومن الطريف أنه يذكر في ترجمة سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه إلى بيته، فسلم النبي صلى الله عليه وسلم، فرد سعد: وعليكم السلام.
بصوت خفيف لم يسمعه رسول الله، فأعاد: السلام عليكم.
فرد: وعليكم السلام.
وأعاد مرة ثالثة: السلام عليكم.
فرد: وعليكم السلام.
فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه سلم ولم يسمع جواباً ولم يؤذن له، فقيل لـ سعد:ألم تأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما سلم؟ قال: أريد أن يكرر، فلما انصرف صلى الله عليه وسلم لحقه سعد، فقال: والله يا رسول الله! لقد سمعت سلامك من أول مرة، ورددت بصوت خفي لا تسمعه لتكرر (السلام عليكم) ويتكرر لنا سلاماً منك علينا، فرجع معه النبي صلى الله عليه وسلم وأكرمه.
يهمنا أن هذا الصحابي، الذي كان سيد قومه، حضر بيعة العقبة وكان نقيباً فيها، فيسلم عليه الرسول ولا يقول له: تفضل.
ويريد أن يكرر السلام، ألا تأذن لرسول الله؟ قال: دعه يسلم علينا أيضاً.
إذاً: كان أولئك القوم يريدون دفع الزكاة لرسول الله لأنه يصلي عليهم، وصلاة الرسول دعاء، ودعاؤه مستجاب، ولهذا قالوا: لا نعطي أبا بكر؛ لأن دعاءه ليس كدعاء رسول الله.
إذاً: ما دام أنه جاء النص فلا محل للاجتهاد، ولكن هل هذا عام في كل من يأخذ الصدقة من أهلها؟ البعض يقول: نعم؛ تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، والبعض يقول: هذا خاص برسول الله.
لماذا خصصتموه؟ قالوا: لقد كتب أبو بكر أنصباء الزكاة وبينها للعمال، وبعث رسول الله عمالاً يجمعون الزكاة، وبعث أبو بكر عمالاً يجمعون الزكاة، ولم يرد عن مبعوث واحد وعامل في الزكاة أنه أوصي بأنه: إذا أخذت من أحد فصل عليه.
فما داموا عمال الزكاة لم يعملوا بها في عهده صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد الخلفاء من بعده، فقد كانت خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم.(129/10)
حكم تقديم الزكاة قبل حلول الحول
قال المؤلف: [وعن علي: (أن العباس سأل النبي صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل، فرخص له في ذلك) رواه الترمذي والحاكم] .
هذه المسألة: أن العباس رضي الله تعالى عنه قدم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة العام الحالي ومعها زكاة العام الذي لم يأت، فيكون قد قدم زكاة عام قبل حلول وقتها.
وقد تقدم معنا كلام علي رضي الله تعالى عنه: (ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول) ، فالعام الأول حال عليه الحول فنأخذها، لكن العام الثاني لم يدخل بعد، ولا حال الحول على المال، فكيف نأخذ زكاة سنتين؟ وهل يجوز تقديم الزكاة قبل كمال حولها، مع أن الحول شرط في وجوبها؟ فالبعض يمنع مطلقاً، ويقول: تمام وجوب الزكاة بتمام الحول، فتقديم الزكاة قبل الحول كتقديم الصلاة قبل وقتها، والصلاة قبل وقتها لا تصادف محلاً، فكذلك الزكاة قبل حولها لا تصادف محلاً.
والآخرون قالوا: هذا اجتهاد وقياس، ولا اجتهاد ولا قياس مع النص، فإن هذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن اختلفوا: هل العباس رضي الله تعالى عنه هو الذي تقدم وجاء لرسول الله بزكاة عامين في وقت واحد، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي طلب من العباس أن يقدم زكاة سنة لم تأت بعد، بأن يدفع زكاة سنتين في سنة حاضرة؟ الجمهور على أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي طلب من العباس، وجاءت الرواية: (قد احتجنا فطلبنا -أو فاستسلفنا- من العباس زكاة عامين) .
وهنا يقول بعض العلماء: المتوسط في القول أنه إن وجدت حاجة عند الإمام للمال، وزكاة العام لا تكفي، فله أن يستسلف من أرباب الأموال زكاة سنة متأخرة؛ ليسد بها الحاجة الحاضرة، أما في غير وجود حاجة فليس هناك داع لتقديم زكاة لم يأت شرطها بعد.
وعلى هذا فخبر العباس رضي الله تعالى عنه بأنه قدم زكاة سنة متأخرة، لا شك فيه، ولكن البحث في: هل العباس تقدم به لرسول الله، أو أن رسول الله هو الذي استسلف وطلب من العباس، لحاجة حاضرة احتاج فيه زيادة مال؟ هذا هو الأولى والأصح.
بقينا هنا في مسألة يمكن أن يكون للاجتهاد فيها مجال، وهي مسألة واقعة بين الناس: وهي أنه إذا كان هناك شخص عنده زكاة النقدين، واعتبر الحول في رمضان، وكل سنة من رمضان يخرج زكاة ماله، فجاء في شعبان أو في رجب ووجد بعض إخوانه في مسيس الحاجة إلى المال، وهو لا يريد أن يعطي من رأس المال شيئاً، وهو عنده الزكاة، ويعلم بأنه عند مجيء الحول سيخرج عشرة آلاف ريال أو مائة ألف ريال، فقال: هؤلاء الإخوان أو الجيران أو الأرحام في أمس الحاجة إلى الريال، فهل ندعهم يموتون جوعاً حتى يأتي رمضان، أم أنه يقدم من زكاة ماله الذي يجب في رمضان للحاجة الموجودة التي أدركها في هؤلاء الناس؟ الجواب: يقدم من ماله ويعطيهم.
المهم أنه صلى الله عليه وسلم أخذ زكاة سنة مقدمة لحاجة، فماذا يمنعنا أن نقدم جزءاً من زكاة مالنا عن وقته من أجل حاجة حاصلة؟ وهؤلاء في تلك الحالة الاضطرارية لا شك أنهم أشد ما يكونون محتاجين لذلك، وهذا مال ينتظر أوانه، فبدلاً من أن تنتظر أوانه فقد جاءت حاجته، وأنت ما أعددته إلا للفقراء والمساكين تسد به حاجتهم، وهذه حاجة حاضرة، فإذاً: لا بأس في مثل ذلك.
ويقولون عن مالك: إنه كان يجيز تقديم زكاة المال عن حولها إلى نصف شهر.
وعندهم في زكاة الفطر أنها تخرج يوم العيد ما بين صلاة الفجر إلى صلاة العيد، وهناك من يقول: تقدم اليوم واليومين والثلاثة.
والشافعي يقول: إذا انتصف رمضان فلك أن تخرج زكاة الفطر، فأجاز تقديمها على أكثر من أوانها.
على كل المسألة اجتهادية، وأرى -والله تعالى أعلم- أنه يجوز له تقديمها عن موعد حولها لسد الحاجة الموجودة.
والله تعالى أعلم.(129/11)
كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [7]
من رحمة الله بعباده أنه لم يوجب عليهم الزكاة إلا فيما بلغ النصاب الذي هو مقياس الغنى، وكان قد حال عليه الحول، وقد جاء الشرع بتقدير نصاب الفضة بمائتي درهم، لكن الكثير من الناس يجهل مقدار ذلك خاصة بعد ترك التعامل بالدراهم الفضية، وشيوع العملات الورقية، فجاء البيان هنا للطريقة التي يعرف بها نصاب الفضة بالعملات الحديثة المتداولة اليوم.(130/1)
حديث جابر في أنصبة الزكويات
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة، وليس فيما دون خمس أوسق من التمر صدقة) رواه مسلم] .
أتى المصنف رحمه الله تعالى إلى هذه المسألة، وقد أجمعوا على أن الأموال المتفق على زكاتها أربعة وهي: بهيمة الأنعام، والذهب والفضة، والزروع والثمار، وعروض التجارة.
فهذه الأجناس من حيث هي زكوية، ويختلف التفصيل فيها حسب نوعها وطريقة الحصول عليها.
وفي هذا الحديث يبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الأموال الزكوية لها أنصباء، بخلاف من شذ وقال: كل مال يزكى ولا عبرة بنصاب ولا بحولان الحول! وهذا في الواقع فيه إجحاف على المالك؛ لأنه يحمله الزكاة على كل ما يملكه ولو كانت له فيه حاجة.
فاشتراط بلوغ المال الزكوي نصاباً فلأنه يدل على وفرته في يد صاحبه، وكذلك اشتراط الحول يدل على استغنائه عنه حولاً كاملاً، ومن كان في يده مال مستغن عنه لمدة سنة فلا شك أنه غني، أما الفقير فهو إما أنه لا يملك شيئاً، أو إذا ملك شيئاً فإنه لا يستمر في يده إلى حول كامل.
ومن هنا قالوا: مشروعية الزكاة بنيت على الإرفاق والتعاون، فهي إرفاق بالمالك فلا يكلف الزكاة إلا في حالة غنى، وحالة الغنى أن يملك نصاباً من المال الزكوي يستغني عنه سنة كاملة، وحالة الإرفاق بالفقير أن يأخذ جزءاً من مال الغني يستعين به، ومن الإرفاق بالغني أيضاً قلة ما يؤخذ منه في النصاب الذي يملكه.(130/2)
نصاب الفضة
وهنا في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة) ، إذاً الخمس الأواقي هي النصاب، وما كان أقل منها فلا زكاة فيه؛ لأنها قليلة، والورق إنما هو الفضة كما جاء في قوله سبحانه: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ} [الكهف:19] .
والخمس الأواقي: مائتا درهم، وقد جاء النص صريحاً في مائتي درهم، وجاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها فيما يتعلق بالصداق في الزواج بأن الأوقية أربعون درهماً، وخمس أواق في أربعين بمائتين.
وعلى هذا يتقرر عندنا أن الفضة من الأموال الزكوية، وهي من النقدين، وأن لها نصاباً وهو خمس أواق، ثم الخمس الأواقي أو النصاب لا زكاة فيها حتى يحول عليها الحول، وسيأتي النص على أنه يخرج منها ربع العشر، وربع العشر مطرد في الذهب والفضة، والذي يهمنا الأنواع المنصوص عليها في هذا الحديث.(130/3)
شروط زكاة الفضة
إذاً: المبدأ الأساسي في التشريع: أنه لا زكاة في الفضة على من يملكها إلا بشرطين.
الشرط الأول: بلوغ النصاب، وهو خمس أواق، وليس عندنا اليوم أواق، ولكن نحن نقول: هذا المبدأ التشريعي، والخمس الأواقي مائتا درهم؛ هذا الشرط الأول.
الشرط الثاني: حولان الحول على هذا النصاب.
ومعنى حولان الحول: أن يستمر المبلغ نصاباً لا ينقص، وإذا زاد فبحسابه.
وفي ابتداء الحول ننظر في الخمس الأواقي مثلاً، فإن كان اكتسبها مرة واحدة فيبدأ حساب الحول من يوم اكتسبها، وإذا كان يكتسبها على دفعات كل شهر أوقية، كأن يوفر من راتبه، أو يأتيه دخل ما فيوفر أوقية، فيتوفر عنده النصاب على خمسة أشهر، فمن يوم أن اكتمل عنده خمس أواق يبدأ الحول، وإذا كان في ازدياد، وبعد الخمسة الأشهر جاءت خمس أواق ثانية، فأصبح عنده عشر أواق، وبعد شهرين جاءت أوقيتان، فمن أول ما بدأ الحول إلى نهايته صار عنده اثنتا عشرة أوقية، فيزكي الجميع آخر الحول.(130/4)
اشتراط بقاء النصاب طوال الحول دون نقص
إذا اجتمع عنده خمس أواق في شهر خمسة مثلاً، وبدأ الحول من شهر خمسة، فإذا جاء شهر خمسة من السنة الثانية يكون قد اكتمل الحول فيزكي، لكنه في شهر عشرة نقصت عليه أوقية، فهل النصاب باق أم نقص؟ نقص.
وفي شهر أحد عشر جاءته أوقية، فعاد النصاب واكتمل، فهل نزكي هذه الخمس الجديدة على حول الخمس الأولى، أم نبدأ حولاً جديداً من يوم أن اكتملت بعد النقص؟ الجواب: إذا نقص النصاب في أثناء الحول نستأنف الحول من يوم أن يكتمل؛ لأنه إذا استمر على هذا النقص وحال الحول لم نأمره بالزكاة، لأنه لم يملك نصاباً حال عليه الحول، نعم.
كان قد امتلك نصاباً ولكن احتاج فنقص منه، ولهذا جعل الحول لأنه مقياس الاستغناء.
فإذا مرة عليك سنة وما احتجت منه شيئاً تبين أنك مستغنٍ وأنه زيادة، لكن إذا كان ينقص ويزيد! وينقص ويزيد! فعند نهاية الحول ننظر الخمسة موجودة، ولكن النقص الذي طرأ عليها، والزيادة التي اكتملت بها خمس أواق كانت في الشهر الماضي مثلاً، فيكون الشهر الماضي هو بداية الحول.
هذا ما يتعلق بزكاة الفضة؛ لأنها يشترط لها شرطان: ملك النصاب، وأن يستمر هذا الملك تاماً حتى يحول عليه الحول.
فإن طرأت عليه زيادة تلحق بالأصل، فالأصل أن تضم، ولكن الفقهاء لهم في هذا بحث وتفريع: فإن كانت الزيادة من جنس الأصل الموجود عنده فإنها تلحق بالأصل وتزكى معه عند تمام حوله، وذلك مثل عروض التجارة، فهو كل يوم يربح أوقية نصف أوقية ربع أوقية، فعندما اكتمل عنده خمس أواق استمر في الربح إلى نهاية السنة، فصار عنده عشرون أوقية، فإذا حصل من العشرين أوقية على واحدة في الأسبوع الماضي فهل نجعل لها حولاً مستقلاً أم هي تابعة في نماء التجارة عنده؟ تابعة.
إذاً: هذا هو المبدأ عندنا فيما يتعلق بزيادة النصاب وما يتعلق بنقصان النصاب.(130/5)
نصاب الإبل
قوله: (وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة) : الذود: العدد الإبل.
والمعنى أن الذي عنده أربع أو ثلاث من الإبل أنه لا زكاة فيها.
وتقدم لنا في أنصباء الإبل أن في كل خمس شاة إلى عشرين، فإذا بلغت خمساً وعشرين ففيها بنت مخاض، فإذا بلغت ستاً وثلاثين ففيها بنت لبون، إلى آخر الجدول المعروف الذي تقدم معنا.
إذاً: هذا الحديث يبين لنا أنصباء الأموال الزكوية: فنصاب الفضة خمس أواق، ونصاب الإبل يبدأ بخمس من الإبل، وما كان أقل من ذلك فلا زكاة فيه.(130/6)
أهمية معرفة المعايير والموازين وتوحيدها بين المسلمين
قوله: (وليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة) .
تقدم معنا أن الفضة لها نصاب، ونصابها خمس أواق، والأواقي قدرها مائتا درهم، وليس المقصود الدرهم المغربي، فتلك عملة خاصة بالمغرب، كم تكون المائتا درهم؟ ما أحد سأل ولا أحد فتش! نحن -يا إخوان- في هذه الآونة الأخيرة تغيّرت كثير من اعتبارات الشرع عندنا، وخاصة المكاييل والموازين، وكل أمة لها معاييرها الخاصة، وأذكر أن مسمى الرطل كان في مصر يبلغ اثنتي عشرة أوقية، وكذلك في إسطنبول، والرطل في القدس أقتان، مع أن الأقة الواحدة تساوي اثنين كيلوا، والرطل في بغداد قريب من الرطل في مصر، فتختلف الموازين على حسب اصطلاح الأمة؛ لأن لكل أمة أن تأخذ لنفسها وتضع لنفسها معاييرها الخاصة، نحن نسمع الآن: (متر، وياردة، وإنش، وقدم، وفوت) .
فالمقاييس الرسمية المتعامل بها اليوم هي المتر والياردة والإنش، فهذه مقاييس، وعند المساحات (فدان وهكتار، وقيراط) وكذلك المكاييل: (مد، وصاع، وكيلو، وربع، وملوا، وقدح) ، فهذه مكاييل وموازين ومقاييس قد تصطلح كل أمة على ما يصلح عندها.
وقد قال العز بن عبد السلام: على الأمة أن تطيع ولي أمرها في أربعة: أولاً: نوع المكيال، ونوع الميزان الذي يأمر بالتعامل به، فإذا قال: تعاملوا بالأقة، أو قال: تعاملوا بالرطل، أو قال: تعاملوا بهذه الصنجة التي سأصنعها ثم صنع صنجة وسماها، فيجب أن يكون الوزن بها وبأجزائها، ولا يحق لإنسان أن يصنع صنجةً أخرى يزن بها للناس.
ووحدة المكاييل والموازين ضرورية في العالم؛ لئلا يأكل الناس أموال بعضهم بعضاً، فيأتي من يقول لك: هذا وزن، ويأتي آخر يقول لك: هذه أوزن هذه أنقص وأنا لا أدري؟ لا.
ولذا الرسول صلى الله عليه وسلم أشار إلى أنه من السنة وحدة المكيال والميزان؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (المكيال مكيال المدينة) وقال: (اللهم بارك لهم في صاعهم ومدهم) ، والصاع والمد مكيال، وجعل مكة وحدة الموازين فقال: (الميزان ميزان مكة) .
فالعالم الإسلامي عليه بحسب هذا الحديث أن يوحد مكاييله على مكاييل المدينة، وموازينه على موازين مكة، مثل وحدة النقد، فهل يمكن أن يكون في بلد واحد نقدان مختلفان لدولة واحدة؟ لا؛ بل لكل دولة نقد مستقل، فكذلك لكل دولة مكيال وميزان مستقل.
ثم قال العز بن عبد السلام: في إعلان الحرب على عدو محارب، وعقد الهدنة مع مقاتل، فإذا أعلن ولي أمر المسلمين حرباً على عدوه وجب على الأمة أن تقوم معه، وإذا أعلن هدنة مع أمة وجب على المسلمين أن يلتزموا بهذه الهدنة.
فالمكيال والميزان من الأمور الاجتماعية التي يجب توحيدها.
وكان الدرهم أولاً ليس إسلامياً بل كان رومياً.
وكذلك المثقال ما كان موجوداً على عهده صلى الله عليه وسلم، ولكن المثقال لم يختلف وزنه في جاهلية ولا إسلام، أما الدرهم فكان يتفاوت، وجاء في صدر الإسلام التعامل بالدراهم الأجنبية، وفي الدولة الأموية كان الدرهم الصغير والدرهم الكبير، فجمع بعض ولاة بني أمية درهماً صغيراً والآخر كبيراً، ثم قسمهما نصفين، واعتبر الدرهم نصف الكبير ونصف الصغير، وتوحّد الدرهم، وصارت عشرة دراهم تزن سبعة مثاقيل.
والدرهم وحدة ميزان ووحدة نقد، تقول: الأوقية كذا ليرة، ونحن نقول: الأوقية أربعون درهماً، والدينار يصرف بعشرة دراهم، وكان صرفه في زمن عمر ما بين ثمانية إلى اثني عشر درهماً، واستقر الأمر على أن الدينار يصرف بعشرة دراهم، وعشرون ديناراً هي نصاب الذهب، ومائتا درهم هي نصاب الفضة.
يبقى أن الدينار يعادل من الدراهم عشرة؛ لأن عشرين ديناراً تعادل مائتي درهم، إذاً: الدينار وحدة وزن ووحدة نقد، ولهذا ربما نجد في بعض كتب الفقه من يقول: كذا درهماً وزناً، كذا درهماً عدّاً، فإذا قال لك: وزناً، فالمعنى أنه موزون وزنه كذا، وإذا قال لك: عداً، فالمعنى أنه وحدة نقدية يعد كذا درهماً.(130/7)
تقدير نصاب الفضة بالعملات الحديثة
فكما قلنا: إن لكل أمة أن توجد لنفسها من المكاييل والموازين ما ترتضيه، فمع طول الزمن تتغير الدرهم وتتنوع المكاييل، أنت عندك المد في السوق ليس هو المد النبوي، فقد تغير، والمد الذي في السوق يعادل ثلاثة أمداد، والصاع الذي في السوق يعادل ثلاثة صيعان من صاع النبي صلى الله عليه وسلم، بينما المد النبوي يكون ربع الصاع النبوي، والمد التجاري اثنا عشر مداً نبوياً، إذاً: اختلفت المكاييل في المدينة.
كان ريال الفضة السعودي موجوداً وكان وحدة نقد، الآن انتهى عن كونه نقداً وأصبح حلياً وتحفاً وهدايا، ولم يعد يتداول كعملة سائرة بين الناس بوحدة الريال، ووزنه بالدراهم المعروفة عندنا ثلاثة دراهم وثلاثة أرباع الدرهم، بتحرير العلماء بأن المائتي درهم الواردة في نصاب الفضة تعادل ستة وخمسين ريالاً سعودياً، الذي يزن الريال الواحد منها أربعة دراهم إلا ربع، ونحن نأخذ هذا كمعيار موجود عملياً.
يبقى نصاب الفضة بالنسبة للريال السعودي الذي كان يتداول، وهو موجود الآن يصاغ ويستعمل على هيئته ووزنه، لكن لا يتداول بين الناس، لأنه لما جاءت هذه الأوراق أصبحت الفضة تعادل الآن عشرين ريالاً ورقاً، إذاً: لا عبرة بهذا؛ لكن كيف نحدد نصاب الفضة التي نمتلكها على المائتي درهم التي جاء الشرع بها؟ نقول: إن العملة هي وسيلة الشراء، وهي الوسيط في التعامل، فننظر إلى الفضة السعودي التي كانت متداولة والتي تعادل المائتي درهم، فنأتي بالستة والخمسين ريالاً السعودي فننظر كم قيمتها الشرائية في الأسواق؟ فهي أبعدت عن السوق وبقيت سلعة تباع وتشترى، فإذا كان نصاب المائتي درهم يعادل وزناً الستة وخمسين ريالاً سعودياً، والريال السعودي أربعة دراهم إلا ربع وقد عمل حساب الرصاص أو النحاس الموجود مع الفضة ليشدها حتى تصلح في سبكها وصياغتها ريالات قابلة وصالحة للتداول دون أن يسري منها شيء.
فنأتي للعالم كله في أي بقعة فنسأل: كم قيمة الشراء لمائتي درهم فضة عندكم؟ فإذا قالوا لنا: قيمتها خمسمائة ريال، مائتا روبية، عشرون دولاراً، أو أربعون جنيهاً استرلينياً، أو أي عملة في العالم تتداول كنقد، فالقيمة الشرائية لهذه العملة في بلدها ننظر كم منها يعادل المائتي درهم ثمناً! فما يعادل المائتي درهم الأساسية من الفضة بالقيمة الشرائية يكون هو النصاب، إذا جئت في مصر ففيها الجنيه المصري، فتنظر بكم جنيهاً نشتري المائتي درهم؟ إذا جئنا إلى الهند وباكستان نظرنا كم روبية نشتري بها المائتي درهم، وإذا جئنا إلى أمريكا نظرنا كم دولاراً نشتري به المائتي درهم، إذا جئنا إلى بريطانيا وإسكندنافيا نظرنا كم جنيهاً استرلينياً نشتري به المائتي درهم، وهكذا في دول العالم.
وهنا في السعودية نقدر كم ريالاً سعودياً ورقياً يشترى به المائتا الدرهم؛ فيكون النصاب عن الفضة بالعملة الورقية التي هي بديل ما يساوي في القيمة الشرائية مائتي درهم بغير هذا لا يمكن أن تصل إلى تقدير نصاب الزكاة, ولذا لما كثر فيه الأخذ والعطاء في السابق، جاء عن ابن تيمية رحمه الله أنه قال: كل بلد دراهمها بحسبها.
لكن نحن لا نترك المسألة إلى هذا الحد، وينبغي أن تكون هناك قاعدة عامة شاملة، وهي أن ننظر في كل عملة تصدر في العالم: كم قيمتها الشرائية للفضة بمقدار وزن مائتي درهم؟ فما بلغ قيمته الشرائية مائتي درهم للفضة نقول: هذا هو بداية النصاب.(130/8)
مقدار زكاة ما يخرج من الأرض
قال المؤلف: [وعن سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر) ، رواه البخاري، ولـ أبي داود: (إذا كان بعلاً العشر، وفيما سقي بالسواني أو النضح نصف العشر) ] .
هذا تفصيل لما تقدم، فقد عرفنا بأن ما تنبته الأرض وبلغ خمسة أوسق ففيه صدقة، وبصفة عامة: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) وكلمة (صدقة) تشمل صدقة التطوع والزكاة المفروضة وقد قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103] ، فسمى الفريضة التي يأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة.
وعلى هذا: جاءنا التفصيل كم نأخذ مما سقت السماء، أو كم نأخذ مما تنبته الأرض؛ فبين لنا أن ما خفَّت كلفته زادت نسبة صدقته، وما كثرت كلفته نقصت نسبة صدقته، وهذا من الإرفاق، فما سقته السماء أو سقي بالعيون التي تفيض من الأرض وتمشي في السواقي فتسقي الأرض، فزكاته العشر.
فإذاً: النبات إما أن يسقى بدون كلفة بالمطر أو بماء من العيون يسيل، أو سيول تأتي وتسقي الأرض، وإما أن يتكلف لسقي الزرع مئونة بالنضح، والنواضح هي الإبل تنضح الماء فتسحبه من البئر أو الدولاب، وكذلك السواني، فكل ذلك بالآلة أو كما يقال: بالدولاب، والآن أصبحت هناك آلات حديثة (مكاين) ، والمكاين لها كلفة، حيث تحتاج إلى محروقات وقطع غيار.
إذاً: ما كان سقيه بدون كلفة بأن جاء المطر من السماء أو جاء الماء من العيون أو كان عثرياً، ولفظة (العثري) إلى الآن مستعملة، تسمعونها من باعة الحبحب الذين يقولون: حبحب عثري، والعثري: هو أحسن أنواع الحبحب؛ لأن الأصل فيه أن تكون التربة خصبة، فيأتي السيل أو النهر فيغمرها، ويمكث فيها مدة ثم ينحسر عنها، ويتسرب الماء إلى ثقوب بعيدة، فإلى وقت معين يأتون إلى تلك التربة المشبعة بالماء ويضعون فيها الحبوب سواء كانت ذرة أو من هذا الحبحب أو الخضروات؛ فهذا عثري.
وقد شاهدت الذرة العثرية في سامطة تحصد مرتين على مجيء السيل مرة واحدة، فيأتي السيل ويغمر الأرض -والأرض تكون خصبة جداً- ثم بعد ما يمضي عنها الماء وتحتمل مشي الأقدام، يضعون حب الذرة ويحصدونه أولاً، ثم ينبت من محله فيأتي بثمرة ثانية على ذاك العثري.
فالعثري: الأرض التي يغمرها الماء من نهر أو سيل أو نحو ذلك، ثم يفيض عنها وقد تشبعت بالماء، فيزرع الحب ولا تحتاج إلى سقي بعد ذلك حتى تحصد.
إذاً: هذا هو أيضاً مما سقته السماء أو العيون أي: بدون كلفة.
إذاً: ما تخرجه الأرض يشترط فيه أن يكون نصاباً ولا يشترط فيه الحول قال تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] .
ولكن الحصة التي تؤخذ في الذهب والفضة وعروض التجارة متحدة، وهي ربع العشر، لكن هنا إما العشر كاملاً وإما نصف العشر بحسب كلفة السقي، أما مئونة الحرث والزرع فهذه أمر ضروري لا بد منه، ولا ينظر إلى الكلفة إلا بعد عملية الزرع بالذات، فإن كان عثرياً أو سقته السماء أو العيون أو السيول، ولم يتكلف صاحبه في سقيه شيئاً ففيه العشر من خمسة أوسق فما فوقها، وما دون الخمسة أوسق ليس فيها زكاة.(130/9)
كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [8]
اتفق الأئمة الأربعة على وجوب الزكاة في الشعير، والحنطة، والزبيب، والتمر، واختلفوا فيما عدا ذلك كالخضروات والفواكه، وبعضهم قاس على الأصناف الأربعة ما شاركها في العلة والأوصاف كالأرز ونحوه، وقد فصل الشيخ سبب الخلاف وذكر الأدلة، كما تطرق إلى عملية الخرص وما فيها من حكم وفوائد للمالك والمسكين.(131/1)
ما يزكى مما تنبت الأرض
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن أبي موسى الأشعري ومعاذ رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهما: (لا تأخذا في الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة: الشعير، والحنطة، والزبيب، والتمر) رواه الطبراني والحاكم] .
أيها الإخوة الكرام! إن مباحث الأموال الزكوية تتسع فروعها وجزئياتها في كتب الفقه ما لا تتسع في كتب الحديث.
ونذكر الإخوة بما تقدم في أوائل هذا الباب المبارك: أن المسلمين أجمعوا على أجناس أربعة هي محل الزكاة: بهيمة الأنعام، والنقدان: الذهب والفضة، وعروض التجارة، وما تنبته الأرض، فهذه الأجناس الأربعة هي محل الزكاة، ثم اختلفوا في تلك الأصول الأربعة في بعض أفرادها، فمثلاً: بهيمة الأنعام اختلفوا منها في زكاة الخيل، فقال به الإمام أبو حنيفة رحمه الله، ولم يقل به الجمهور.
وفي الذهب والفضة اختلفوا في الحلي، أي: المصنوع والمستعمل، فأوجبه فيه أبو حنيفة رحمه الله ولم يوجبه غيره على خلاف عند الشافعي وأحمد، ولم يوجبها مالك قولاً واحداً.
وعروض التجارة من قال بها قال بالعموم، ومن لم يقل بها فلا كلام معه.(131/2)
الاتفاق على أربعة أصناف زكوية مما تنبت الأرض
واختلفوا فيما تنبته الأرض؛ فأجمعوا على هذه الأصناف الأربعة: الشعير، والبر، والزبيب، والتمر، واختلفوا فيما عدا هذه الأربعة، وهذا الحديث هو الأصل في هذه القضية.
يقول المؤلف رحمه الله: (عن أبي موسى ومعاذ بن جبل رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهما) ، أي: عندما بعثهما إلى اليمن، وكانوا قضاة وأمراء، وجباة زكاة وجزية، وكان لكلٍ مخلاف يعمل فيه، ومعاذ رضي الله تعالى عنه كان يطوف في اليمن بأقسامها كلها إلى حضرموت يعلم ويقضي، وهنا محل التعليم له حاجة، فإنه أرسلهما جباة للزكاة والجزية فعلمهما مما يأخذون الزكاة فقال: (لا تأخذا الصدقة إلا) وهذا الأسلوب في العربية يسمى أسلوب الحصر بالنفي والإثبات، كما قالوا في كلمة الشهادة: لا إله إلا الله، فحصرت الألوهية في الله سبحانه وتعالى.
والحصر يكون حقيقياً ويكون ادعائياً تقديرياً، أي: نسبياً، فتقول: لا شاعر إلا حسان، فحصرت الشعر في حسان، وهل لا يوجد شعراء سوى حسان؟ يوجد ابن رواحة وغيره من الذين ناصروا الإسلام، ويوجد غيرهم من شعراء الجاهلية، فيكون هذا حصراً نسبياً، أي: لا شاعر إلا حسان بالنسبة لخدمته للدعوة الإسلامية.
وهنا: (لا تأخذا في الصدقة إلا من) معنى هذا: ما بعد إلا هو المحصور فيه أمر الصدقة.
وإلى هنا يتفق الجمهور بصفة عامة -وكما قيل إجماع الأمة- على أن هذه المسميات الأربعة زكوية: الشعير، والبر أو الحنطة أو القمح، والزبيب، والتمر، وما عدا ذلك فهناك فواكه تشاكل الزبيب والتمر.(131/3)
اختلاف العلماء في إلحاق أصناف أخرى بالأربعة المتفق عليها
هناك حبوب تشاكل الشعير والبر، فهل يا ترى يؤخذ من تلك الأصناف التي خرجت عن النص قياساً على المنصوص هنا، أم لا؟ فنجد في هذه المسألة بالذات أن العلماء فيها على طرفي الوادي، ولا نقول: على طرفي نقيض: فمن العلماء -من غير المذاهب الأربعة- من وقف عند هذه الأصناف الأربعة فقال: لا زكاة في شيء إلا فيما حصرها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهناك من توسع وقال: كل ما أنبتت الأرض فيه زكاة، وهو أبو حنيفة.
فالذي قال بهذا القول المتوسع هو الإمام أبو حنيفة رحمه الله، وصاحباه محمد وأبو يوسف مع الجمهور، فـ أبو حنيفة رحمه الله قال: كل ما أنبتت الأرض ففيه زكاة إلا الحطب والقصب، ومثل ذلك التبن ونحوه، فهذه لا زكاة فيها عنده، وما بقي من خضروات وبقول وحبوب ففيه الزكاة، وعن الشافعي وأحمد روايتان فيما عدا الأربعة الأصناف.
إذاً: أجمع العلماء على أن الأصناف الأربعة زكوية، وهناك من قال: كل ما أنبتت الأرض ففيه زكاة، وهناك من توسط، ومن هذا التوسط أن الأئمة الثلاثة مالكاً والشافعي وأحمد أخرجوا جميع الفواكه: الرمان والخوخ والتفاح والموز والمشمش وغيرها.
فنجد الذرة والعدس والأرز واللوبيا، والفاصوليا والبزاليا، وأشياء عديدة كلها مأكولات.(131/4)
علة الزكاة فيما تنبت الأرض
هل الأصناف الأربعة التي أوجب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة أوجبها لأعيانها وذواتها أم أنه أوجب الزكاة فيها لعلة موجودة تخصها؟ فالجمهور على أنه أوجب الزكاة فيها لعلة موجودة فيها، فلو قلنا: إن العلة المشتركة بين هذه الأصناف الأربعة أنها مما تنبت الأرض، فكذلك الخضروات والفواكه، فإنها مما تنبت الأرض.
وإن قلنا: العلة كونها تجفف وتدخر، فهناك الأرز يجفف ويدخر.
فقالوا: العلة الجامعة بين هذه الأصناف الأربعة كونها قوتاً، والقوت تدفع به الحاجة، وهو القدر المشترك في الإرفاق بين الغني والفقير، إذاً: وجبت الزكاة في هذه الأصناف الأربعة لكونها قوت العباد.
فإذا كانت العلة الاقتيات فإننا ندخل الأصناف التي تشترك في علة القوت، فالجمهور -خلافاً للشافعي وأحمد في رواية- قالوا: كل ما أنبتت الأرض من حب مكيل مدخر فوق خمسة أوسق، أو مكيل يوزن ومدخر، ففيه الزكاة؛ لأن التمر والزبيب والشعير والبر يخزن في المخازن والبيوت ويدخر، وكان قوتاً؛ فالتمر والشعير والبر قوت، وهل الزبيب قوت مثل التمر أم لا؟ قد يدخل في ذلك وقد لا يدخل، فإذا وجدنا من الحبوب ما يشارك الأصناف الأربعة في العلة ألحقناه بها، فجئنا ووجدنا الذرة تشارك -وفي بعض الروايات ذكرت الذرة ولكن السند ضعيف- الأصناف الأربعة في علة كونها مدخراً، ومكيلاً، وقوتاً، وجئنا إلى الأرز فوجدناه اليوم مقدماً على البر والشعير، وأصبح من عامة أغذية الناس.
إذاً: هل نزكي عن الشعير الذي أصبح الآن علفاً للحيوانات ونترك الأرز الذي هو عمدة طعام البشر؟! ثم وجدنا العدس إداماً وليس قوتاً، وكذلك اللوبيا، فهنا يقولون: ما لم يكن قوتاً وكان إداماً أو دواء فلا زكاة فيه؛ لأن الأصناف الأربعة اجتمعت على علة الادخار والاقتيات، فما كان دواءاً للخصوصيات فقد خرج عن كونه قوتاً لأنه لم يشتمل على الأوصاف الثلاثة: الكيل، والادخار، والقوت.
وما كان دواء مثل: الكمون، والكراوية، والينسول، وكذلك الحبة السوداء فهي دواء، فإنها خرجت عن كونها قوتاً وإن كانت مكيلة ومدخرة، فقالوا: ما لم يكن قوتاً مدخراً مكيلاً، فلا نلحقه بالأصناف الأربعة؛ لأنه من شرط المقيس أن يتفق في أوصافة مع المقيس عليه، فإذا نقص من أوصافه شيء نكون قد قسنا شيئاً على شيء أكبر منه، فيكون ناقص الوصف.
إلى هنا وبصفة إجمالية: هذه الأصناف الأربعة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ معاذ ولـ أبي موسى عند إرسالهما إلى اليمن موضع إجماع، وحصل الخلاف فيما عداها.(131/5)
ما لم تتحقق فيه أوصاف العلة كلها من المأكولات
وننتقل إلى ما كان مكيلاً ولا يدخر، وما كان مكيلاً مدخراً وليس قوتاً، مثل الفواكه: فالفواكه ليست مكيلة ولا مدخرة، فإذا جففت صارت مكيلة مدخرة، ولكن لا تكون قوتاً.
كذلك وجدنا التين غير مدخر وكما يقول بعض العلماء: إن مالكاً ينص على أن التين والتفاح والرمان والخوخ لا زكاة فيه، فقال قائل: لأن التين لم يكن يجفف في بلد مالك، ولو علم أن أنه يجفف لقال به، يا سبحان الله! هو ما يجفف هنا ولكنه يأتي مجففاً من الشام؛ لأن تجارة الشام كانت تأتي إلى المدينة وفيها التين والمشمش مجففاً.
وعلى هذا: من أدخل التين في القوت يقول: ألحقوه بالزبيب، ومن أخرجه عن نطاق القوت جعله مع بقية الفواكه، وهكذا.
ثم جاءت الآثار عن السلف مختلفة، منها المرسل، ومنها المرفوع، ومنها المنقطع، وقد ناقشها العلماء مناقشة كافية، وأنصح كل طالب علم يريد تحقيق هذه المسألة أو يقف على ما قيل فيها من كتب التفسير أن يقرأ كتاب القرطبي، ومن كتب الفقه المجموع للنووي، والمغني لـ ابن قدامة، وبداية المجتهد لـ ابن رشد، فهذه الكتب إن شاء الله ستكفي طالب العلم فيما أوردوا فيها رحمهم الله من الخلاف والنقاش لما تجب فيه الزكاة أو لا تجب بعد هذه الأصناف الأربعة.
والعمدة في ذلك: هل الزكاة في تلك الأصناف الأربعة لذواتها ومسمياتها أو لعلة فيها؟ قال ابن رشد: أما لذواتها فهذا وصف طردي، إذاً: الأرجح أن تكون لعلة فيها، فما هي العلة؟ قالوا: أن تجتمع فيها ثلاث صفات: الكيل، والادخار، والاقتيات، فما ساواها في هذه الصفات الثلاث ألحق بها قياساً، وما لم يساوها في ذلك أخرج عنها، ولا يصح القياس فيها.
وأجمعوا على أن الفاكهة والخضروات لا تدخر وليست قوتاً.(131/6)
زكاة ثمن الخضروات والفواكه إذا حال عليها الحول
ثم بعد هذا إذا حصل على ثمن للخضروات أو على ثمن للفواكه، فإن النص جاء عن السلف بأن قيمة الخضروات والفواكه تزكى، كما تقدم معنا عن عثمان وعمر رضي الله تعالى عنهما لما كتب إليهما عمالهما في الطائف، وذكروا لهما الفواكه والخضروات، وأنها أكثر من النخيل في المدينة، فقال عثمان رضي الله عنه وأرضاه: (لقد كانت المقاشي بالمدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى عهد الشيخين -يعني: أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما- ولم يكونوا يأخذون منهم الصدقة فلا صدقة فيها، ولكن انظر ما باعوا منها فخذ الزكاة في أثمانها إذا بلغت النصاب وحال عليها الحول) .
من العجيب أن القرطبي رحمه الله يقول: قال فلان في تفسيره: إن القائلين بالزكاة في الفواكه والخضروات هم أهل الكوفة، ومعلوم أن الكوفة ما أنشئت بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أنشئت في خلافة عمر، فليس من المعقول أن يوجد تشريع في الكوفة لهذه الأصناف لم يكن موجوداً بالمدينة في عهد رسول الله وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وليس بمعقول أن تكون معطلة من الزكاة زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ثم توجد عند أهل الكوفة؛ من أين جاءوا بها؟ وهذا كلام في الواقع له ثقله ووزنه.
إذاً: لم يكن في عهد رسول الله ولا في عهد أبي بكر ولا في عهد عمر أخذ الصدقة من الفاكهة والخضروات، وعلى هذا اتفق العلماء حتى كان شبه إجماع ما عدا الخلاف المذكور عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله.
ونحن نعلم جميعاً بأنه لا يأتي إمام بقول يخالف فيه الأئمة من هواه، أو من رأسه، وإنما يكون الخلاف بينهم في فهم لنصين تعارضا عندهم، والنصان المتعارضان ما قدمناه (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) ، والحديث الآخر: (فيما سقت السماء العشر) ، و (ما) موصولة أي: في الذي سقته السماء.(131/7)
دليل الحنفية على إيجاب الزكاة في كل خارج من الأرض والرد عليهم
والقرطبي رحمه الله يسوق نقاشاً لطيفاً في قوله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا} [الأنعام:141] ، فيقول: بعض الأحناف تمسكوا بعموم (معروشات) فالعنب يقوم على عريش (وغير معروشات) : النخل والأشجار الأخرى (والنخل والرمان والزيتون، كل هذه) {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام:141] ، (ثمره) : الضمير راجع لكل المذكورات من معروشات وغير معروشات، وإلى الزرع والنخيل والرمان والزيتون.
إلى آخره.
(وآتوا حقه) : الضمير في (حقه) راجع أيضاً إلى جميع المذكورات، وهذا مما استدل به أيضاً أبو حنيفة رحمه الله، ولكنه يجيب عن ذلك ويقول: إن هذا الحق غير فريضة الزكاة، وكان في هذه الأنواع حق قبل فرض الزكاة، كما في الحديث: (في المال حقٌ سوى الزكاة) ، قالوا: إذا حضر الجذاذ فأعطه، وإذا حضر الحصاد فأعطه، ثم إذا حصدت وذريت وكلت ووسقت فأخرج الزكاة المفروضة في الموسق، فيجيبون على أن حقه هنا للنافلة وليس للفريضة.
ويبدو لي والله تعالى أعلم: أن هذا له نظير، وذلك لما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم الحديث الطويل: (ما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها في قاع قرقر فتطؤه بخفافها، وتعظه بأنيابها حتى يقضى بين الخلائق، ثم يرى مصيره إما إلى جنة وإما إلى نار، وما من صاحب بقر وما من صاحب غنم فقالوا: والخيل يا رسول الله؟! قال: الخيل ثلاثة: -وذكرها- ثم قال: ولم ينس حق الله فيها) فقالوا: حق الله في الخيل ليست زكاة، ولكن أن يركب المنقطع، وأن يطلق الفحل على فرس غيره، وأن يساعد بها المسكين أو غير ذلك من باب التطوع.
(قالوا: والحمر؟ قال: لم ينزل علي فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:7] ) .
فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم الحق في الخيل ليس فرض الزكاة، وقد ذكرنا الخلاف في زكاة الخيل.
فقوله: (ولم ينس حق الله فيها) بإجماعهم أنها ليست الزكاة، إذاً: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] إنما هو من باب النافلة وليس من باب الفريضة، والنقاش طويل في هذه الآية الكريمة ساقه الإمام القرطبي في تفسيره.
إذاً: هذه الأصناف الأربعة مجمع على أنها زكوية، ومختلف فيما عداها، فالذي قال بجميع ما أنبتت الأرض الإمام أبو حنيفة رحمه الله، وأما صاحباه محمد وأبو يوسف فمع الجمهور.
ثم أحمد يعجب الزكاة في كل موسق مدخر ولو لم يكن قوتاً، وعند الشافعي ومالك: ما كان بضميمة كونه قوتاً، وأما ما كان دواءً أو فاكهةً أو غير قوت فليس داخلاً في الزكاة، والله سبحانه وتعالى أعلم.(131/8)
الدليل على سقوط الزكاة عن الخضروات ونحوها
قال المؤلف: [وللدارقطني عن معاذ رضي الله تعالى عنه قال: (فأما القثاء والبطيخ والرمان والقصب، فقد عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، وإسناده ضعيف] .
المؤلف رحمه الله يعلم بأن هذا الأثر ضعيف، فـ معاذ يأتي وكأنه يقول: أمرنا أن لا نأخذ الصدقة إلا من الأصناف الأربعة، وكأن هناك سؤالاً مقدراً: وما عدا تلك الأصناف مما تنبت الأرض ما حكمه؟ فقال: (أما القثاء والبطيخ والقصب) .
فالقثاء يلحق به الخيار، والبطيخ يلحق به الشمام والدباء وقصب السكر.
قوله: (فقد عفا عنه رسول الله) معاذ ذكر أنواع الخضروات وأن ما عدا الأصناف الأربعة فإنها لا زكاة فيها، فيكون هذا الخبر من معاذ رضي الله تعالى عنه موضحاً لمفهوم: (لا تأخذا الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة) أي: وما عداها لا زكاة فيه، فالمفهوم أتى مصرحاً به هنا، ولكنه ضعيف.
والخبر الضعيف إنما يبين مفهوم المخالفة فيتقوى في ذاته؛ لأنه لم يكن أصلاً في التشريع، وإنما جاء تابعاً لمفهوم مخالفة الصحيح، فهو يكفي إذا لم يعارضه غيره، وهنا جاء معاذ رضي الله تعالى عنه بالتنصيص على هذه الأصناف الأربعة من الخضروات.
ويذكرون بأن البيهقي رحمه الله قال: وإن كان هذا الأثر ضعيفاً فإنه قد أيد بآثار أخرى عن السلف، وتقدم لنا قصة عثمان مع عامله في الطائف، وكذلك عمر بن عبد العزيز، والخلاف عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضاً.
فعلى هذا ينتهي الأمر في البحث على أن الإجماع على الزكاة في الأربعة الأصناف، والخلاف فيما عدا ذلك، واتفق الأئمة الأربعة -دون النظر إلى مخالفة الشافعي وأحمد في قول آخر - على أن كل مكيل مدخر قوت فهو لاحق بتلك الأصناف الأربعة قياساً، وإذا كان هذا ما اتفق عليه الأئمة، فأعتقد أنه ليس هناك إنسان يجرؤ على أن يرد أمراً اتفق عليه الأئمة الأربعة رحمهم الله، ومهما قدم من أدلة أو نصوص معارضة فلن يأتي بجديد؛ لأن تلك النصوص قد مرت على السلف، وعلموها وفهموها ودرسوها، وبعد هذا كله اتفقوا على إلحاق المكيل والقوت والمدخر بالأصناف الأربعة.
وأما ما لم يكن قوتاً أولم يكن مكيلاً أو مدخراً، فهذا الخلاف فيه قوي، والله تعالى أعلم.(131/9)
خرص الزروع والثمار عند بدو الصلاح
قال المؤلف: [وعن سهل بن أبي حثمة رضي الله تعالى عنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع) ، رواه الخمسة إلا ابن ماجة وصححه ابن حبان والحاكم] .
انتقل المؤلف رحمه الله إلى جزئية تابعة ومتممة لتشريع الصدقة في الحبوب والثمار.
فقوله: (إذا خرصتم) ، يفيد أن هناك خرصاً قبل إخراج الزكاة، فيكون سبقه تشريع للخرص ثم جاء ينبه لهم عن منهج الخرص كيف يكون.
إذاً: الخرص مشروع، وأقوى دليل في ذلك قضية خيبر، لما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم ابن رواحة ليخرص عليهم النخيل.
والخرص في اللغة: التخمين، قال تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات:10] ، لكن قال الإمام أبو حنيفة وداود بن علي: لا خرص لأن الخرص ظن، والظن كما يقولون أصل الكذب، فقالوا: لا خرص، ولكن على صاحب النخل والعنب إذا يبس وأصبح عنده التمر أو الزبيب أن يكيل الذي حصل عنده، ثم يزكيه.(131/10)
الحكمة من خرص الثمار
وتوقيت الخرص قالوا: إذا بدا الصلاح في الثمرة، أما بعد الجفاف والكيل فلا يصلح الخرص، لأنه إذا أمنت الآفة وصلحت الثمرة للأكل امتدت إليها يد صاحبها، فقد يأخذ الثمرة رطبة ويبيع، ويأخذ ليأكل، ويأخذ ليهدي، فهنا لما كان حق الفقراء في الثمرة بمثابة الشريك مع صاحبه: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج:24] ، أي أن الفقراء شركاء للأغنياء بحصة معلومة وهي العشر أو نصف العشر.
فما داموا شركاء فحافظوا على حصتهم، وكيف نحافظ عليها؟ أنتركها لهم يأكلون ويهدون ويبيعون ويقبضون الأثمان؟ وهل نمنع أصحاب البساتين فنقول: لا تأكلوا ولا تبيعوا ولا تعطوا أحداً؟ لا.
أيضاً كذلك.
إذاً: لا بد لصاحب النخيل والعنب أن يتصرف في الثمرة بشخصه أو بغيره.(131/11)
كيفية الخرص وترك الربع أو الثلث للمالك
إذاً الحل الأمثل هو الخرص عندما تبدو الثمرة، فيكون الخارص من طرف ولي الأمر المسئول عن حق الفقراء؛ لأن الله كلف بها رسوله صلى الله عليه وسلم: (خذ) وهذا الأمر تكليف له مع أنه لا حظ له فيها، فهي محرمة عليه وعلى آل بيته، ولكن حفاظاً على حق المساكين وحفظاً لماء وجوههم حتى لا يذهبوا للغني يقولون: أعطنا، فيقول لهم: ائتوني في وقت لاحق عندما نجذ.
فعالج الشرع ذلك بأن أوجب على ولي الأمر أن يأخذها قهراً على صاحبها: (من أداها طيبةً بها نفسه فبها ونعمت؛ وإلا أخذناها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا، ليس لمحمد ولا لآل محمد منها شيء) ، فإذا طابت الثمرة ذهب الخراص -اثنان أو ثلاثة على حسب رأي الإمام- وتمشوا في البستان لينظروا عدد ما فيه من النخل.
فإذا كان فيه مائة نخلة بدأنا بنخلة رقم واحد فقلنا مثلاً: هذه تحمل قنوان والقنو أوقية أو كيلو أو كذا على حسب التقدير برؤية العين، فإذا جففت كم سيكون منها تمراً؟ فمثلاً: سيكون منها عشرون صاعاً، فنكتب ذلك.
ثم النخلة الثانية الثالثة، إلى المائة، فمجموع ما يتوقع منه من تمر لو بقي على تمامه عشرون وسقاً، فننظر: هل الثمرة على النخلة تبقى على تمامها أم أنها سيذهب منها شيء؟ سيذهب، وجاء بيان ذلك في بعض النصوص: ما تسقطه الريح، وما ينقره الطير، وما يأكله الضيف، وما تأكله الهوام والحيوانات التي تدخل النخيل وتأكل مما سقط.
إذاً: هناك عوارض تعرض للثمرة المعلقة.
وصاحب البستان يريد أن يأكل فلا نمنعه من حقه لأجل المساكين، بل حقه هو الأول، والضيف الذي يدخل عليه فلا نقول له: لا تعطه، فنعلمه البخل! وشر خصلة في الإنسان هي البخل، بل نقول: أطعم وأكرم ضيفك إذاً: هناك عوامل تعرض للثمرة التي على النخلة، ونحن خرصناها على تقدير أنها كاملة، فلو قدرنا الصدقة على ما يوجد على أنها كاملة لأجحفنا بمالكها فيما له من حق التصرف فيه، فلذلك قال: (دعوا الثلث) أي لأجل هذه العوارض.
فلو كانت مائة صاع، فإننا ننظر كم ثلث المائة بالتقريب والتقدير، فنقول: احسبوها سبعين بدل المائة.
قال: (فإن لم تسقطوا الثلث فالربع) ، أي أن العامل مخير بين الثلث والربع، أعتقد والله تعالى أعلم: بأن هذا يرجع إلى فطنة العامل الذي يخرص، فإذا كان النخيل في جهة بعيدة من البلد قل الوارد عليه، وكذلك إذا كان الجو معتدلاً، وكان عياله قلة، وضيفه قليلاً، وليس بمشهور عند الناس، فتكون الكلفة عليه قليلة؛ فهذا يكفي أن نترك له الربع.
لكن إذا كان هناك بستان على قارعة الطريق، وصاحبه من أهل الوجاهة، وكل يوم والباب لا يغلق، فهذا ضيف طالع، وهذا ضيف داخل، فهل هذا يستوي مع الأول؟ أعتقد أنهما لا يستويان، وأن القول هنا: الثلث أو الربع ليس للتخيير، وإن كنت لم أجد من نبه على ذلك لكن هذا هو الواقع، فيسقط الثلث لمن كان طارقه كثيراً، ويكون الربع لمن كان طارقه قليلاً.
وهذا هو الإرفاق والعدل، فلا نساوي بين رجل كثير الضيوف يمكن أن يأكلوا عليه النصف، وبين رجل قليل الضيوف، وبعض الروايات: (خذوا النصف، وأعطوهم من النصف وأعطونا النصف فإنهم يسرقون) ، أي: غصباً عنه سيأكل.
إذاً: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الذين يخرصون على الناس أن يدعوا الثلث، فإن لم يدعوا الثلث فالربع، والظاهر أن هذا يترك الخيار فيه للعامل، ولكن في نظري والله تعالى أعلم وأبرأ إلى الله من خطأ: أن ذلك ليس للتخيير وإنما هو للتنويع، والتنويع يكون بحسب حال صاحب البستان وموقعه الاجتماعي، فمن كان كثير الوارد والضيف والاستهلاك والعيال والعمال قلنا: يترك له الثلث؛ لأن الاستهلاك كثير، ومن كان إنما يذهب عنه القليل فإنه يترك له الربع، والله تعالى أعلم.
وهنا قالوا: الخرص أيضاً ليس لمجرد معرفة هذا الموجود، وأنه يأكل أو يكرم ضيفه قالوا: بل يكون لصاحب الثمرة الخيار، فإن شاء أبقى الثمرة إلى أن يأتي الجذاذ فيجذ، ويوضع في الجرين ويجفف ويبيعه تمراً، وإن شاء باعه رطبا ًمبكراً في السوق يوماً بيوم ولو لم يبق في النخيل شيء.
فإذا قيل: فأين زكاة الأوسق نصف العشر؟ لما خرصنا عليه أصبح مديناً للفقراء والمساكين بالمقدار الذي قيدناه عليه، ونحن قيدنا عليه سبعة أوسق صدقة، لكنه باعها كلها رطباً في الصناديق، أو باعها كلها عنباً في الصناديق، ولم يزبب كيلو ولا وسقاً ولا نصفاً.
لكن هذا خرصنا عليه مثلاً: وسقاً ونصف وسق من الزبيب، فليس عنده شيء، لأنه قد باعه عنباً، فنقول: عليه أن يقدم للجهة التي تجمع الزكاة وتوزعها على أصحابها، فيأخذ من السوق المقدار من التمر الذي سجل عليه، ويأخذ كذلك المقدار من الزبيب الذي سجل عليه ويدفعه لأصاحب الحقوق في ماله من الفقراء والمساكين إلى آخره.
إذاً: الخرص يعطي صاحب الثمرة الحرية في أن يستغلها رطباً ويحفظ الثمن، ويلتزم بما ألزمه به الخارصون ويقدمه عيناً، إلا إذا أراد ولي الأمر أن يستبدل بالأعيان نقداً، ويوزعه على الفقراء والمساكين، فهذا لا نعارض فيه.
أما إذا ترك الأمر لصاحب النخل والعنب فله أن يتصرف كيف يشاء، وعليه أن يزكي هذه الثمار من تمر وعنب على قدر ما قدر عليه، فيشتريها من السوق من الشيء الوسط الذي لو كان حاضراً عنده لأخذ من وسط المال، ويقدمه إلى مستحقيه، والله تعالى أعلم.(131/12)
كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [9]
اختلف العلماء في زكاة الحلي الذي تتخذه المرأة للزينة، ويكاد الخلاف أن يكون متكافئاً لتكافؤ الأدلة، وقد بين الشيخ أدلة الطرفين، وأجوبة كل فريق على الآخر، ثم بين الأفضل للمرء في ذلك.(132/1)
أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص التمر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن عتاب بن أسيد رضي الله عنه قال: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص النخل، وتؤخذ زكاته زبيباً) رواه الخمسة وفيه انقطاع] .
هذا الأثر وإن كان فيه انقطاع إلا أنه عليه العمل، فيخرص العنب وتؤدى زكاته زبيباً، كما يخرص الرطب وتؤدى زكاته تمراً، لكن يهمنا في هذا الأثر أن العنب يخرص كما يخرص النخل.
فمن كان يعارض في خرص العنب يقول: لا يتأتى انضباط خرص العنب كانضباط خرص النخل، يقول: لأن النخلة مكشوفة أمام الخارص وأمام الجميع، أما العنب فقد يكون مختفياً بين الأوراق وقد يخفى على النظر، فلا يتمكن الخارص من رؤيته كما يتمكن في النخلة.
ولكن كما جاء في هذا الأثر، وإن كان منقطعاً فقد يكفينا رأي من رواه، فالذين رووه على انقطاعه يقولون به؛ فيكفينا هذا فقهاً، وأنها الطريقة التي يمكن أن يساوى فيها العنب بالرطب.
فهذا النص في العنب: أنه يخرص كما يخرص النخل وتؤخذ زكاته زبيباً، ولماذا لا تؤخذ عنباً؟ لأنه لا يدخر، فلو أعطينا للفقير خمسة صناديق عنباً، هل سيأكلها كلها؟ فلو أكثر من أكلها فإنه سيؤذيه، وهل إذا أكل صندوق عنب يغنيه عن لقمة عيش؟ فربما لا يغنيه، فالعنب ليس قوتاً ولا يدخر.
وهذه الفكرة هي التي عارضنا بها اقتراح بعض الأعضاء في مؤتمر ماليزيا بتنفيذ مذهب أبي حنيفة رحمه الله في الخضروات، ولنسأل: ماذا سيصنع المسكين إذا أخذ قليلاً من الطماطم، أو قليلاً من الباميا، أو قليلاً من الفلفل، أو قليلاً من النعناع إلخ؟ فإذا قلنا: يضعها في الثلاجة، فالفقير ليس عنده ثلاجة، ولو وضعها في الثلاجة فإلى متى؟ فسيأخذ منها كل يوم، فهل ستكون قوتاً أم فاكهة؟ طبعاً ستكون فاكهة، والخضروات مهما كان فلها أجل، سواءً كانت داخل الثلاجة أو خارجها.
إذاً: لا ينتفع بها بقدر ما يمكن أن يبيعها صاحبها، ويجمع القيمة ويأتي بصدقة القيمة للمسكين فيتصرف فيها بما ينفعه.
وقد أوقف القرار بعد ذلك.
إذاً: انتهينا من موضوع زكاة ما تخرج الأرض، وكيفية زكاتها وهو الخرص.
ونحن قلنا بالزكاة في الشعير والبر، فهل يخرص وهو في سنبله عندما يشتد الحب، أو يترك لصاحبه حتى يحصد ويصفى ويكال؟ هناك من يقول بخرص الحب أيضاً، ولكن لماذا نخرصه؟ هل الريح تطيح به في الأرض؟ ليس هناك شيء يضيع منه أبداً.
وهل يبيعه قبل أن يحصده؟ لا.
بخلاف العنب والرطب.
إذاً: الخرص محصور على النخل والعنب، والحب الذي هو متفق عليه من الشعير والبر وما ألحقناه به لا دخل للخرص فيه، وإنما يترك لصاحبه حتى يحصده ويصفيه ويكيله، فهناك يجب عليه أن يزكي ما حصل عنده إن وصل خمسة أوسق فما فوق.
والله أعلم.(132/2)
زكاة الحلي من الذهب والفضة
قال المصنف رحمه الله: [وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهما: (أن امرأةً أتت النبي صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب، فقال لها: أتعطين زكاة هذا؟ قالت: لا.
قال: أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟ فألقتهما) رواه الثلاثة وإسناده قوي، وصححه الحاكم من حديث عائشة] .
لما أنهى المصنف رحمه الله الكلام على زكاة بهيمة الأنعام، ثم ما يخرج من الأرض، جاء إلى زكاة الحلي، وتقدم أيضاً زكاة النقدين: الذهب والفضة، وأنه ليس فيما دون خمس أواقٍ من وَرِقٍ صدقة.
وتقدم البحث في هذه الأصناف، وفي أنواع بهيمة الأنعام ما اتفق عليه وما اختلف فيه، ثم أنواع الزروع والثمار، وما اتفق عليه أيضاً وما اختلف فيه، ثم زكاة النقدين: الذهب والفضة، وبقي معنا عروض التجارة، وسيأتي في سياق هذا الحديث.
فلما كان الذهب والفضة مجمعاً على زكاتهما نقداً؛ لأن كلمة (أواق) جمع (أوقية) ، والأوقية وحدة وزنية، ووحدة نقدية أيضاً، فهذا يتعلق بالفضة، والدرهم وحدة وزنية، ووحدة عددية؛ فكان الحلي من جنس الذهب والفضة، ولكنه اختلف فيه كما اختلف في بعض أفراد الأجناس المتقدمة.
فشرع المصنف يُفصِّل أو يسوق ما عنده من أدلة أو من أقوال العلماء فيما يتعلق بالذهب والفضة إن كان مصوغاً حلياً تلبسه النساء، فأتى بالحديث: أن امرأةً يمانية أتت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يد ابنتها مسكتان -والمسكة هي ما يسمى الآن بـ (الأسور) أو بـ (بالخلخال) في الرِجِل من ذهب- فلما رآها النبي صلى الله عليه وسلم، سألها: أتؤدين زكاة هذا؟، فـ (هذا) اسم إشارة راجع لما فيه الحديث وهو المسكتان.
وفي بعض الروايات: (غليظتان من ذهب، فقال لها: أتؤدين زكاة هذا الذهب الذي في يد ابنتك؟ قالت: لا.
فقال: أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيام بسوارين من نار؟) .
أعتقد أن هذا أسلوب إثارة، أي: أتحبين أن تلبسي سوارين من نار يوم القيامة؟! ومن يحب هذا؟! ومن يسر بهذا؟! ففيه الإثارة إلى معرفة الواقع وبراءة الذمة حالاً، ولهذا كان الجواب أنها خلعتهما من يد ابنتها وألقت بهما، وفي تتمة الرواية: (قالت: هما لله ورسوله) .
هذا الحديث كما ساق المصنف تصحيحه هو الأصل في مبحث زكاة الحلي، وهو الأصل للاستدلال على أن الحلي المستعمل بالفعل فيه الزكاة؛ لأنه ملبوس في يد البنت.
ثم ساق له المصنف شاهداً من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: (اتخذتُ فتخات من وَرِق -الفتخات جمع فتخة وهي ما يسمى الآن بالخاتم- فنظر إليهما صلى الله عليه وسلم وقال: ما هذا يا عائشة؟! قالت: صنعتهما أتزين لك بهما) ؛ لأنه إذا كانت هذه الفتخات في الصندوق أو مرفوعة للحاجة لم تكن زينة، إنما رأى بعينه وسأل وأجابت: (أتزين لك بهما، فقال: أتؤدين زكاتهما؟ قالت: لا.
قال: هما حَسبُكِ من النار) .
وسيأتي لـ أم سلمة رضي الله تعالى عنها أنها: (اتخذت أوضاحاً من ذهب) ، الأوضاح من الوضاحة والظهور، والذهب له بريق ووضوح، ولو كان حتى من الفضة فلها أيضاً وضوحٌ وبريق، والأوضاح كانت في شعرها.
تقول: (فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدتُ في وجهه الأثر) أي: أنه ليس براضٍ؛ فهي صنعتهما من أجله صلى الله عليه وسلم، لكن لم يستقبل ذلك بابتسامة أو بشاشة، وإنما وجدت في وجهه الكراهية، ففطنت فقالت: (أكنزٌ هو يا رسول الله؟!) (هو) ضمير راجع إلى الأوضاح التي في شعرها.
فلم يقل لها صلى الله عليه وسلم لا، أو نعم، وإنما قال: (إذا أديت زكاته فليس بكنز) يعني: وما لم تؤد زكاته فإنه كنز، والحكم على أنه كنز أو ليس بكنز إنما هو لمدلول الآية الكريمة: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ} [التوبة:34] .
إذاً: فلما رأت الكراهية في وجهه صلى الله عليه وسلم فطنت فسألت: ولِمَ الكراهية وإنما هي زينة تتحلى بها لزوجها.
إذاً: هذا القدر ليس فيه كراهية، ولكن الخوف من كونه دخل في معنى الكنز، ويكون هناك الوعيد.
فلما سألت أجابها: (إن كنتِ تؤدين زكاتها فليس بكنز) .
هذه النصوص الثلاثة التي ساقها المصنف رحمه الله هي عمدة من يقول بوجوب الزكاة في الذهب والفضة حلياً كان أو غير حلي، ويضاف إلى هذا أيضاً ما تقدم في أول الباب من الحث على الصدقات والزكاة في جميع الأموال.
وتقدم لنا ذكر الحديث الطويل: (ما من صاحب إبلٍ لا يؤدي زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاعٍ قرقرٍ، تطؤه بخفافها وتعضه بأنيابها، فإذا انتهى أخراها أعيد عليه أولاها حتى يقضى بين الخلائق، فيرى مصيره إما إلى الجنة وإما إلى النار) ، وكذلك ذكر صاحب البقر، ثم صاحب الغنم، ثم صاحب الذهب فقال: (وما من صاحب ذهب -أتى باسم الجنس، ولم يفصِّل بين مصنوع حلي أو آنية مستعمل أو غير مستعمل لا يؤدي زكاته إلا إذا كان يوم القيامة صُفِّح له صفائح من نار، فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره حتى يفصل بين الخلائق، ويرى مصيره إما إلى جنة وإما إلى نار) ، فأخذ البعض من هذا الحديث أن زكاة الذهب واجبة مطلقاً، مع النصوص الأخرى المجمع عليها في غير ما هو حليٌ مستعمل.
والتفصيل في هذه المسألة يطول، وقد كتب والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه عند هذه الآية الكريمة: (َالَّذِينَ يَكْنِزُونَ) فأطال البحث فيها على عادته في أضواء البيان، فذكر أقوال الموجبين للزكاة، وأقوال المانعين من الزكاة، وأخيراً قال: (والأولى الذي به براءة الذمة أن يزكى) ولم يقل: يجب أو لا يجب.
وصنيع ابن رشد في البداية الذي هو مقرر في الجامعة ما تناول هذه المسألة إلا في سبعة أسطر -أي: نصف الصفحة فقط- وذكر مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله، ولم يذكر مذهب أحمد لا بقليل ولا بكثير، فاخترت هذه المسألة بالذات لأجعل فيها مبحثاً نموذجياً لدراسة بداية المجتهد، واستوفيت المذاهب الأربعة بما فيها أحمد، وأخذت من كلام والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه، وما تيسر من المراجع الأخرى وجعلت فيه رسالة، وأخيراً طبعتها بعنوان: (زكاة الحلي) .(132/3)
خلاف العلماء في زكاة الحلي
وإذا جئنا من بداية التشريع فسيطول علينا المشوار، وإذا أخذنا النتيجة والنهاية وما استقر عليه الأمر عند الأئمة الأربعة نكون قد اختصرنا الطريق، ولكي نجمل المسألة، ويسهل استيعابها نقول وبالله التوفيق: أجمع جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، والأئمة الأربعة وغيرهم ممن اندثرت مذاهبهم، وكل عالمٍ في صدر الإسلام وفيما بعد إلى اليوم بأن الذهب والفضة غير الحلي الملبوس فيه زكاة.
ثم جاء الخلاف فيما هو حليٌ ملبوس بالفعل.
إذاً: دخل في العموم السابق غير حلي النساء كأن يكون هناك أوانٍ من ذهب أو فضة للزينة، أما للاستعمال فمحرم: (الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) ، فإذا كان اتخذها للزينة واتخذها للعوز ليبيعها عندما يحتاج، فهذه أوانٍ وليست حلياً، أو اتخذت ملاعق من ذهب أو فناجين، كل هذه داخلة في جنس الذهب غير حلي النساء.
فإذا جئنا إلى الحلي الذي فيه البحث: فإذا كان الحلي مكسراً غير صالحٍ للزينة، فأجمع أيضاً الأئمة الأربعة على وجوب زكاته، وذكر ابن عبد البر في الاستذكار بدون خلاف حتى عن مالك، كالتبر غير المصنوع المصوغ، والحلي المكسر الذي لا يصلح للاستعمال، فيكون خارجاً عن الحلي المستعمل، فإذا كان الذهب والفضة نقداً أو مصوغاً مباحاً، أو مصوغاً غير مباح مثل الأواني للأكل، فبإجماع المسلمين أن فيه الزكاة، مع حرمة استعماله.
ولم يبق الخلاف إلا في الحلي المصاغ للنساء خاصة، فلو أن رجلاً اتخذ أساور من ذهب ففيه الزكاة بالإجماع، سواء وضعها في الصندوق لوقت الحاجة يريد بيعها، أو يريد لبسها؛ وإن لبسها كان حراماً وعليه وفيها الزكاة، وإن وضعها في الصندوق كان قُنية، مثل الجنيه، فيجب عليه فيها الزكاة.
فلذلك ما كان مباح الاستعمال، ومحرم الاستعمال، ما لم يكن حلياً للنساء فليس فيه خلاف.
وإذا كان صاحب الذهب قد رفعه على نية أن يصلحه ليُلبس، فيكون هذا في نطاق الاستعمال، فهذا داخل في الحلي المستعمل.(132/4)
ذكر مذهب الأئمة الأربعة في زكاة الحلي
وعلى هذا المبدأ والأساس نأتي إلى الأئمة الأربعة رحمهم الله، فنجد الخلاف في هذه المسألة مستوي الطرفين، وعلى أشده نجد إماماً من الأئمة رحمهم الله يقطع بالزكاة في الحلي المستعمل، لقوله: (في يد ابنتها مسكتان ... ) (أتؤدين زكاته؟) فهذا صريح.
ونجد إماماً آخر يقابله بقوله: لا زكاة فيما هو مستعمل.
ونجد واحداً من الأربعة ورد عنه روايتان: إحداهما أن فيه الزكاة، والأخرى ليس فيه الزكاة.
ونجد الإمام الرابع له وجهان أو قولان، والخلاف عند الفقهاء في الفرق بينهما قديمٌ وحديث؛ فالقديم فيه زكاة والجديد ليس فيه.
فهذا على سبيل الإجمال حتى نحصي الأقوال.
فالإمام أبو حنيفة رحمه الله أوجب الزكاة في الذهب والفضة مطلقاً، نقداً، مصوغاً، تبراً، مستعملاً، مكسراً، بأي حالة من الحالات.
يقابله مالك رحمه الله فقال: لا زكاة في الحلي المستعمل المباح.
وهو ينصب على حلي المرأة الذي تستعمله، ويخرج عن ذلك حلي المرأة الذي لا يستعمل؛ وحلي المرأة غير المباح الذي يلبسه الرجل، وآنية الأكل والشرب، فهذا حليٌ غير مباح، فالحلي الغير المباح مزكىً عند مالك، والحلي المباح والمستعمل بالفعل غير المعطل هو الذي يقول مالك: لا زكاة فيه.
وكلمة (حلي، مباح، مستعمل) منصبة على الذهب والفضة، أما إذا كان هناك لؤلؤ، جواهر، ياقوت، فيروز، ماس، فهذه لا زكاة فيها بالإجماع، وإن تحلت بها المرأة أو اقتناها الرجل.
أما الإمام الشافعي رحمه الله فعنده قولان: قولٌ قديم أنه يزكى، فيكون هذا القول موافقاً لقول أبي حنيفة، وقولٌ جديد: أنه لا يزكى، وهذا القول موافق لقول مالك.
فيذكر ابن عبد البر عن الشافعي في هذه المسألة أنه فعلاً في القديم يقول بزكاته كما يقول أبو حنيفة، وينقل عنه: أنه لما ذهب إلى مصر قال: أستخير الله في الحلي المستعمل، ثم اختار القول بعدم الزكاة، أي: أنه كان متردداً، ولكن اختار عدم الزكاة.
نأتي إلى الإمام أحمد رحمه الله، فيذكر صاحب الإنصاف والمغني -وكل مراجع الحنابلة المتوسعة- عن أحمد رحمه الله روايتين: روايةً نُقل عنه فيها: أنه يزكى، وروايةً نُقل عنه فيها: أنه لا يزكى.
فنحن عندنا منهج: إذا وجدنا مسألة خلافية -وأعتقد أن هذا الخلاف معتدل أو متساوٍ- فيهما قولان، أو روايتان، فخذ القول الذي يقول: تزكى مع من قال: تزكى، والرواية دعها مع القول بالزكاة، فيكون عندنا: قولٌ ورواية وقولٌ في مذهب، قولٌ في مذهب ورواية بعدم الوجوب، ومذهب وقولٌ ورواية في مذهبٍ على مذهب الوجوب، فيكون الخلاف معتدل التوازن.(132/5)
مناقشة أدلة العلماء في زكاة الحلي
نستطيع أن نعتبر المسألة طرفين؛ طرف يقول بالوجوب، وطرف يقول بعدم الوجوب، فالذين يقولون بالوجوب -بصرف النظر عن مسميات الأئمة: أدل وأوضح دليلٍ في المسألة حديث المرأة مع ابنتها، فسألوا الآخرين: لماذا لم تقولوا بوجوب الزكاة مع أن هذا الحديث صريح (أتؤدين.
أيسرك) ؟ قالوا: هذا ليس فيه دليل، إذاً بماذا تجيبون عليه؟ فنحن هنا الآن نبدأ بهذا الدليل، وهو صريح صحيح لا لبس فيه، فسألنا الذين قالوا: لا زكاة في الحلي، ما تقولون في هذا الحديث؟ قالوا: كما نقل البيهقي رحمه الله: كان مجيء المرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكلامه معها عندما كان الذهب محرماً بالكلية.
وقالوا: فعلاً قد كان الذهب في بادئ الأمر محرماً على الرجال والنساء، حتى صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر في المدينة، وأخذ الذهب والحرير وقال: (هذان حرامٌ على رجال أمتي، حلالٌ لنسائها) .
أقول وباستحياء: عندما كنتُ أدرس هذه المسألة في سبل السلام في الرياض بكلية الشريعة كان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يكتب على هذه الآية في أضواء البيان، وجاءته الملازم من مصر لتصحيح الخطأ فيها، وكان من عادته رحمه الله إذا تغدينا وجلسنا لشرب الشاي أن يأخذ يصحح في الملازم، ولتلهفي أو تطلعي إلى مبحثٍ في هذه المسألة أخذت الملازم وقرأت، فذكر جوابهم على ذلك، فلما قرأتها أردت أن أسأله.
والشيخ الله يغفر له كان يفتح لي صدره قليلاً، وأنا كنت طويل اللسان قليلاً، فقلت: يا شيخ! هذه المسألة يحوك في صدري شيء منها لا أستطيع أن أعبر عنه، قال: ما هو؟ قلت: أتساءل لاستيضاح جواب هؤلاء: بأن ذلك كان وقت تحريم الذهب مطلقاً.
أترى يا شيخ! أن الرسول صلى الله عليه وسلم يرى استعمال المحرم، ويترك الإنكار عليه ويذهب يسأل عن الزكاة، أم أن المتبادر أن ينكر على استعمال المحرم أولاً، ثم يأتي إلى موضوع الزكاة؟ فقال: أعد عليَّ مقالتك، فأعدتها عليه.
فقال: أتدري أن ما قلتَه صحيح، ولكنني رأيت فلاناً وفلاناً وفلاناً وسلسل القول إلى البيهقي، فسرت معهم، ولئن أحياني الله -وهذه أمانة ألقيها- إلى إعادة الطبع لأصححن ذلك، أما الآن فإن الكتاب قد طبع، وهذا لوضع الصواب وتصحيح الخطأ فلا يمكن تصحيح عدة آلاف قد طبعت، وهذه أمانة ألقيها للجميع.
إذاً: استدلالهم أو ردهم الحديث بأن ذلك كان حين حرم الذهب أو كان الذهب محرماً للاستعمال مطلقاً فيه نظر.
نأتي إلى حديث فتخات عائشة وأوضاح أم سلمة، ماذا يقال فيها؟ قالوا: هذا لا يستقيم، لماذا؟ قالوا: الفتخات هي خواتم، وليس معقولاً أنها ستلبس خواتم قدر مائتي درهم، فهذا ضعيف وأوضاح أم سلمة كذلك، ليس معقولاً أن تلبس أوضاحاً قدر عشرين مثقالاً.
لكن أجاب عن ذلك ابن مسعود رضي الله عنه: بأن تلك الفتخات، أو هذه الخواتيم أو الأوضاح تضم إلى جنسها فيكمل به النصاب، فإذا كان عندها من الأوضاح ذهب وفضة وكل منهما ناقص النصاب فإنه يضم بعضه إلى بعض ويزكى.
إذاً: هي ليست زكاةً في عينها الموجودة بالفعل، ولكن في جنسها وهو الحلي المستعمل.
وهناك أثرٌ عن عائشة يغاير ذلك -ساقه مالك في الموطأ- أنها كانت تلي أيتاماً ولهم حلي فلم تؤد زكاته.
وعن عبد الله بن عمر أيضاً في الموطأ أنه كان يحلي بناته وجواريه ولم يخرج الزكاة عن حليهن، ويذكر ابن عبد البر -ولأول مرة أقرؤها-: كان ابن عمر يزوج بناته بأربعة آلاف دينار، ولم يخرج الزكاة، ويحليهن بها، أي: بهذا المبلغ ولم يؤدِ زكاته.
ونأتي إلى الرواية الأخرى عن ابن عمر أنه ممن يقول بزكاة الحلي، فأجابوا عن ذلك: بأن عائشة رضي الله تعالى عنها كانت تلي أيتاماً، فلعلها كانت تترك زكاة أموال اليتيم حتى يبلغ، وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله، ولكن الرواية الأخرى في قضية الفتخات فيها: (أتؤدين زكاته؟) ، فيكون ورد عن عائشة روايتان: رواية في الفتخات، ورواية في الأيتام، فأي الروايتين أصرح في القضية؟ الجواب: رواية فتخات يدها، فبعضهم يرجح تلك الرواية وبعضهم يرجح هذه.
نأتي أيضاً إلى قول جابر رضي الله تعالى عنه: (ليس في الحلي زكاة) وهذا أخذ به مالك، ولكن المذكور عن جابر رضي الله تعالى عنه في كتاب الأموال: أن جابراً سُئل عن حلية السيف بالذهب؟ الحلية، (ال) هنا هل هي للعهد فيكون المراد حلية السيف، أم (ال) للجنس فيكون المراد مطلق حلية على صفةٍ عامة؟ ونجد البيهقي في أثر جابر هذا يقول: إنه منقطع أو إنه معضل، فمن احتج به كان داخلاً فيمن يغرر بدينه، فلا يصح.(132/6)
القول بزكاة الحلي أبرأ للذمة
وفي نهاية المطاف نجد هذه الآثار المتقاربة، والمتضادة، والمتقابلة؛ تدور بين الجواز والمنع، ونأتي إلى كتب الحديث أو علماء الحديث فنجد كل من بحث هذه المسألة يذكر الخلاف ويجبن أن يحكم جازماً ويقول: الأولى أن تؤدى الزكاة براءةً للذمة، وهذا أيضاً ما قاله والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه.
والعجيب أن ابن عبد البر في نهاية المطاف من بحث هذه المسألة يقول: والخلاصة: أن من أوجب الزكاة في الحلي المستعمل، وفي الإبل العوامل فقد صح قياسه، ومن أبطل الزكاة في الحلي المستعمل، وأبطلها في الإبل العوامل اضطرب قياسه، ومن أوجب الزكاة في الإبل العوامل، ومنع الزكاة في الحلي المستعمل فقد اضطرب قياسه، وهذا القول لـ مالك رحمه الله.
والمأثور عن مالك رحمه الله في زكاة بهيمة الأنعام أنه لا يشترط السوم، ولا يشترط أن تكون غير عوامل، مع أن الأئمة الثلاثة رحمهم الله على أن الإبل العوامل لا تزكى، وهو يقول: هي إبلٌ وله فيها زيادة نفعٍ وهو عملها.
فمثلاً: الإبل تستعمل للحرث، وتستعمل لنقل البضائع، وكانت تسمى الإبل: القطار، وإلى الستينات كانت السيارات نادرة، حتى (الجاز) يحمل في التنك من ينبع على ظهور الإبل، وكذلك الحبوب وكل البضائع، فيأتي قطار الإبل فيه حوالي خمسين أو ستين بعيراً مربوطة ومقطورة بعضها في بعض، فتدخل من باب العنبرية وتأتي إلى المناخة، ثم يأتي التجار فيأخذون بضاعتهم.
فهذه إبل عوامل، فهي عند مالك تزكى؛ وهنا ابن عبد البر لم يقل: مالك أو عمر، وإنما قال: (ومن أوجب الزكاة في الإبل العوامل، ومنعها في الحلي المستعمل فقد اضطرب قياسه) .
إذاً: هذا خلاصة ما يمكن أن يأتي به إنسان في عجالة مثل هذا الوقت، ويلقي الضوء على الخلاف الموجود، وجوانب الاستدلال لكلا الطرفين.
وفي النهاية نقول بما قال السلف رضوان الله تعالى عليهم: بأن الأحوط في ذلك إنما هو الزكاة.(132/7)
كيفية إخراج زكاة الحلي والذهب المعروض للتجارة
مسألة: كيف نزكي الحلي؟ قالوا: إنها في تقدير نصابها تقدر بالوزن، هل بلغت وزن العشرين مثقالاً أم لا؟ وفي زكاتها تقدر بالقيمة، وكذلك ما أعد للتجارة من الذهب والفضة، فهي عند التاجر يقدر نصابها بالوزن، وتخرج زكاتها بقيمتها في السوق؛ لأنها عروض تجارة، والنصاب قدره مائة جرام، والتاجر عنده مئات الآلاف، فينظر كم قيمتها تجارياً وكم تباع اليوم، ثم تزكى قيمتها على أنها عروض تجارة.
وأجمعوا على أن حلي الذهب والفضة إذا لابسه جواهر أخرى: فصوص من الياقوت أو الفيروز أو الزمرد أو الماس، فتقدر الجواهر النفيسة على حدة، ويقدر وزن الذهب على حدة؛ حتى إذا استكمل وزنه نصاباً زكي، ويعمل في ذلك بالتحري؛ فإنه يزكى على أنه حلي مستعمل على قول من يقول بزكاته.
وبالله تعالى التوفيق.(132/8)
كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [10]
لقد كثرت أنواع التجارات في عصرنا الحاصر، وتنوعت طرقها وأساليبها، وتداخلت معاملاتها، فيحتاج المرء إلى فقه صحيح حتى يعرف ما تجب فيه الزكاة وما لا تجب، وكذلك استحدثت المصانع الاستثمارية والاستهلاكية، والتي تحتاج إل بيان ضوابط الزكاة فيها.(133/1)
زكاة عروض التجارة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن أم سلمة رضي الله عنها: (أنها كانت تلبس أوضاحاً من ذهب، فقالت: يا رسول الله! أكنز هو؟ قال: إذا أديتِ زكاته فليس بكنز) رواه أبو داود والدارقطني وصححه الحاكم] .
فمفهوم: (إذا أديتِ زكاته فليس بكنز) أن ما لم يؤد زكاته فهو كنز، ولما سئل ابن عباس رضي الله تعالى عنه -وهو من الذين يقولون بزكاة الحلي المستعمل-: (ما هو الكنز يا ابن عباس؟! قال: ما لم يؤد زكاته ولو على وجه الأرض، وما أديت زكاته فليس بكنزٍ ولو كان مدفوناً تحت الأرض) .
إذاً الكنز في اللغة: المكنوز الموجود دفيناً في الأرض.
وفي الشرع: ما أديت زكاته فليس بكنز، وما لم تؤد زكاته فهو كنز.
قال المصنف رحمه الله: [وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع) رواه أبو داود، وإسناده لين] .
بعدما أنهى المصنف رحمه الله تعالى بيان زكاة الأموال الزكوية المجمع عليها جاء بهذا النوع من أنواع الأموال الزكوية، وإن كان انتهى الخلاف فيها، وصار الأمر فيها إلى الإجماع، لكنه أخرها تبعاً لما قبلها، وتقدم البيان في زكاة بهيمة الأنعام، وفي الذهب والفضة، وفيما تنبته الأرض من حبوب وثمار، على ما فيه خلاف واتفاق.
وهنا ما يسمى عند الجمهور بزكاة عروض التجارة، فيأتي المؤلف رحمه الله بهذا الحديث عن سمرة بن جندب: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن نخرج الصدقة مما نعده للبيع) والذي يعد للبيع هو عروض التجارة، وفرق بين ما يكتسبه الإنسان ويقتنيه لشخصه، وبين ما يقتنيه ليتاجر فيه وينتظر الربح، وعروض التجارة كان يوجد فيها خلاف سابق، وقد انتهى الخلاف وحكى ابن المنذر الإجماع على وجوب الزكاة فيها.(133/2)
الأدلة على زكاة عروض التجارة
ومما يستدل به على وجوب زكاة عروض التجارة قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ} [البقرة:267] فالطيب: هو الحلال، والخبيث: هو الحرام.
والآخرون يقولون: الطيب: الجيد الذي ترتضيه النفس، والخبيث: هو الرديء الذي لا تستطيبه النفس.
وذكروا في أسباب نزولها: أن الأنصار كانوا في أول الأمر إذا طابت الثمار يأتي الواحد منهم بالقنو ويعلقه لأهل الصفة يأكلون منه، وكان عامة الناس يأتون بالجيد من أنواع التمر أو الرطب، وكان بعض الناس -كما يقولون- يرائي الآخرين فيأتي بالحشف، وبالنوع الذي ليس مقبولاً أو محبوباً عند الناس، فأنزل الله هذه الآية.
وقوله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة:267] قالوا: الحرام، وقيل: إنه رديء التمر.
وقوله سبحانه: {أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:267] وطيبات الكسب قالوا: عطف عليه: {ممَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ} [البقرة:267] وهذا هو زكاة المزروعات أو ما تخرجه الأرض من حبوب وثمار، أو من نبات على التعميم، و (مَا كَسَبْتُمْ) يختص بالتجارة؛ لأنه العمل الذي يكتسب به الإنسان منفرداً بخلاف ما تخرج الأرض؛ لأن إخراج الأرض فيه جانبٌ آخر: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ} [البقرة:267] ، فهناك عامل آخر وهو أن المولى سبحانه وتعالى هو الذي يعطي: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:63-64] فالله سبحانه وتعالى يعطي العبد من خيرات الأرض.
وليس ما تنبته الأرض خالص عمل الإنسان وحده، بخلاف التجارة، وإن كان الكل من عند الله، والربح رزق من الله، والتوفيق في التجارة من الله، لكن السبب المباشر أو اليد المباشرة في التجارة هي الإنسان، والشيء المباشر في الأرض هو الإنسان ومن ورائه القادر سبحانه وتعالى على إنبات النبات وعلى إتيان النبات بالحب، وكذلك إنبات الشجر، وإتيان الشجر بالثمر، فهذا فيه صنع المولى سبحانه وتعالى.
إذاً: (ما أخرج الله من الأرض) قسم، و (طيبات ما كسبتم) قسم، فيكون (طيبات ما كسبتم) المراد منه التجارة، والصناعة، ومن هذا القبيل، وقد انتهى الأمر عند العلماء وأصبح كما قال ابن المنذر: إجماع المسلمين على وجوب الزكاة في عروض التجارة.
ومن العمومات أيضاً قوله سبحانه مخاطباً سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103] ، والأموال جمع مال، وأبرز أنواع الأموال التجارة، وهي كما يقال: العنصر الفعال في تنمية الأموال من حيث هي، فـ (مِنْ أَمْوَالِهِمْ) تشمل كل الممتلكات بما فيها مبدئياً وأولياً أمر التجارة.
وجاء عنه رضي الله تعالى عنه: أنه لقي فلاناً، فقال: (يا فلان! أدِ زكاة مالك، قال: ما عندي إلا جعاب أذن، قال: قدِّرها وأد زكاتها) ، أي: كان الرجل يحمل جلوداً، فقال: أد زكاة مالك، قال: ما عندي إلا هذه الجلود أعملها حقائب وأبيعها، قال: أدِ زكاتها.
وهناك أيضاً آثار ومنها: (كان يأمرنا صلى الله عليه وسلم أن نؤدي زكاة البز) ، والبز: بالباء والزاي نوع من القماش بين الحرير والقطن، أو مختلط منهما، وبعض العلماء يقولون: إنما هي محرفة عن البر، والبر مما تنبت الأرض، وليس داخلاً في عروض التجارة، فأجيب عن ذلك: إن التحريف بعيد؛ لأن الأحاديث إنما تروى بالسماع ولا تروى بالكتابة، وما كانت الكتابة إلا متأخرة فيما بعد، وكانت كتابة الحديث في أول الأمر نادرة، فكانت تلقى الأحاديث سماعاً، وفرقٌ بين سماع البر (بالباء والراء) والبز (بالباء والزاي) .(133/3)
ما أعد للقنية فلا زكاة فيه، وما أعد للتجارة ففيه الزكاة ولو عقاراً
وأجمعوا على أن ما اشتري للقنية ولو كان كثيراً فلا زكاة فيه، فمثلاً: إنسان اشترى مائة كيس ووضعها في البيت، ولديه أولاد وعوائل يأخذون منها السنة والسنتين، فلا زكاة في هذه، وإن كان أخذ عشرة أكياس ووضعها في دكان من أجل أن يبيع فيها ويشتري بأثمانها غيرها، يقصد بذلك الربح والبيع والشراء فإن فيها الزكاة.
وأجمعوا على أن كل ما اتخذ للتبادل التجاري بقصد النماء وهو الربح وإن احتمل الخسارة أنه زكوي، أي: من عروض التجارة، سواء كان ذلك من الأراضي البيضاء كأن يتاجر مثلاً في عقار مخطط، فيشتري قطعتين أو ثلاثاً من أجل أن يبيعها فيما بعد عندما ينتهي الحراج، وتنتهي القطع الموجودة وتبدأ الرغبات، فيبيع بما فيه ربح، أو كان من عمائر، كأن اشترى عمارة لا ليسكنها ولا ليؤجرها، ولكن وجدها رخيصة وعلم بأن العمائر والعقار سترتفع أثمانها فاشترى عمارة أو عمائر من أجل أن يبيعها، وسواء كان المالك شخصاً واحداً أو كانوا جماعة اشتركوا في الأرض أو في العمارة؛ ففيه الزكاة.
أما إذا اشترى الأرض لنفسه؛ أو ليعطي فيما بعد كل واحد من أولاده قطعة، أو تركها للزمن، حتى إذا احتاج باعها أو عمرها فهذه التي للقنية وللتعمير لا زكاة فيها، والتي للتجارة فيها الزكاة، وإذا اشترى العمارة لا للبيع ولا للشراء، ولكن للاستثمار، كأن يؤجر شققاً ويأخذ أجرتها، وليس عنده نية بيع العمارة بذاتها، ومن بعده يرثه أولاده ويستفيدون من إيجار شققها كمورد رزق لهم، فهذه لا زكاة فيها، وإنما ينظر إلى الأجرة التي تأتيه على حسب رصد البلد، إن كانت تؤخذ الأجرة في أول السنة، أو تؤخذ في آخر السنة، فمطلق أجرة العمارة أو أجرة الأرض، تدخل في الكسب وتكون من نوع زكاة الأموال غير التجارية.
إذاً: الأعيان التجارية سواء كانت أرضاً بيضاء أو عمائر، أو سيارات، أو بواخر، أو طائرات، أو من المواد الغذائية، من الملح إلى العسل، كل ذلك إذا أخذه ليبيع ويشتري فإنه عروض تجارة، فلو اتخذ غنماً للبيع والشراء، كهؤلاء الذين يتاجرون بها من خارج المملكة، الذين لا يأتون بها للقنية والحليب والنسل والزيادة، وإنما يأتون بها ليكتسبون بأثمانها، فهذه عروض تجارة، فلا تزكى على عدد الأربعين شاة على أنها بهيمة أنعام بشرط السوم وحولان الحول، بل تزكى على أنها عروض تجارة فتزكى قيمتها، لأنها ليست مقصورة للقنية والنماء والنسل، ولكنها جلبت لتكون عروض تجارة، وكما تقدم أنه لا ثنائية في الزكاة، فلا يؤخذ منها الزكاة باعتبارين: اعتبار القنية، واعتبار التجارة.
وكذلك الإبل والبقر إذا جلبها ليبيعها فإنها تعتبر عروض تجارة، فلا تزكى زكاة بهيمة الأنعام، حتى قالوا: لو تاجر في التراب، وقد يكون التراب موضع بيع وشراء، وقد يصنع تراباً مثل الإسمنت، والجبس، والجص؛ فهذا أيضاً إذا عد للتجارة، كأن اتخذ المصنع واكتسب من ورائه، فهذه عروض تجارة.
إذاً: عروض التجارة بدون استثناء كل ما أعد للبيع والشراء بقصد الربح.(133/4)
أقسام عروض التجارة
وهنا قبل الدخول في التفصيل يعتبر العلماء عروض التجارة بالنسبة لصاحبها -صاحب عروض التجارة- على قسمين: تاجرٌ مدير، وتاجرٌ محتكر، وفرق بين المدير والمحتكر، والمحتكر على قسمين: محتكرٌ خاطئ ومحتكر مأجور.(133/5)
التاجر المدير
فالمدير هو الذي يبيع السلغ يومياً سواء كان بالجملة أو التجزئة، فالمستودع مفتوح يبيع منه بالجملة، أو المعرض والدكان مفتوح يبيع بالتجزئة، بالكيلو، بالحبة، بالدرزن، فهذا كله يسمى مديراً؛ لأن عروض التجارة عنده ليست واقفة بل متحركة، فيبيع هذه السلعة ويشتري بثمنها سلعةً أخرى، مثل الدولاب الذي يدور بحركةٍ دائمة.
فهذا النوع من التجار كيف يزكي ما بيده إذا اكتسب ما يساوي النصاب، لأنه يشترط في زكاة عروض التجارة ملك النصاب حولان الحول، فإذا كان هذا التاجر المدير امتلك ما قيمته نصاب الذهب والفضة، وهو عشرون مثقالاً، أي: أحد عشر جنيهاً سعودياً، أو مائتا درهم فضة، أي: ستة وخمسون ريالاً فضة أو ما يعادلها، وحال عليها الحول في يده وهو يدير فيها، نظرنا في نهاية الحول كم يوجد عنده من عروض التجارة، مقدراً موجوداً في المحل من كل صنف، ولا ننظر إلى أعيان الأصناف.
فمثلاً: بقالة فيها السكر والشاي والكبريت والملح والصابون.
إلخ، فكل ما في البقالة مما يديره للبيع والشراء يقدر، ثم ننظر مجموع قيمته، المجموع ولا ينظر إلى قيمة الشراء ولا إلى تقديرها أو تقييمها عندما اشتريت، بل ينظر لو لو أراد أن يبيعها الآن بمجموعها فبالمقدار الذي تقدر به في نهاية الحول يزكيه.
فإذا بدأت تجارة المدير بعشرة آلاف فإنها قد تجاوزت النصاب، ولو كانت نقداً لوجبت زكاتها، فإذاً: نحسب الحول من أول يوم بدأت فيه التجارة إلى أن يحول عليها الحول، فعند نهاية الحول نفترض أنها صارت عشرين ألفاً، إذاً نزكي العشرين الألف الآن، فهذه هي زكاة عروض التجارة التي يديرها صاحبها.
وسواء باع بالجملة أو التجزئة فالكل فيه زكاة.(133/6)
التاجر المحتكر
القسم الثاني من أصحاب عروض التجارة: المحتكر.
والاحتكار هو الجمع، فحكرها بمعنى: جمعها، وهو الذي يشتري السلع لا ليبيعها ولا ليعرضها للبيع يوم أن اشتراها أو فيما بعد، وإنما يشتري السلعة ويخزنها وينتظر بها مناسباتها، أي: مناسبة ارتفاع السعر في السوق، فمثلاً: التمر في المدينة من رأس المال الموجود، ومن أهم إنتاجها، فيأتي عند الجذاذ ويكون الصاع رخيصاً، فيجمع ويوضع في المخازن، فلا يباع حتى تنتهي فترة الصيف، ويبدأ الشتاء فيحتاج الناس التمر للتدفئة والتغذية، فيبدأ يبيعها، فهو ينتظر الموسم حتى يأتي الحاج؛ لأنه أربح له وأكثر بيعاً، فيحبسها في المستودع، ثم يبدأ بالبيع في الموسم، سواء باع جملة أو تجزئة.
إذاً: استمر وجود السلع في المخزن خمسة أو ستة أشهر فيكون قد احتكرها، ثم بدأ يتعامل ويبيع بالجملة، أو بدأ هو بنفسه يبيع بالتجزئة، بأكثر أو بأقل، فهذا يسمى محتكراً.
والمحتكر إن كان يجمع السلعة لا ليبيعها عند الموسم، ولكن عندما يصبح الناس بحاجة إليها، فإذا أمسكها حتى أصبح للناس فيها حاجة، وضمن بها فلم يخرجها، واشتدت حاجة الناس إليها وكانت السلعة من الأشياء الضرورية كمواد الغذاء أو الألبسة، أو ما هو ضروري لحياة الناس، كأن اختزن الدقيق، أو السمن، أو التمر، أو الأرز، والسوق ماشٍ وهو منتظر حتى يشح الصنف في البلد، يريد أن يكون هو صاحب الامتياز، والمتحكم في السوق، فيأتي يتحكم بأسعار السلعة في السوق على ما يشاء.
ففي هذه الحالة يثبت عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (المحتكر خاطئ) ، والخاطئ غير المخطئ، فالمخطئ الذي لم يتعمد الذنب، ولكن الخاطئ هو المتعمد قال تعالى: {لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:37] ، (الخاطئون) ولم يقل: (المخطئون) ، فهذا المحتكر آثم؛ لأنه يتحكم في حاجيات الناس عن قصد، ففي هذه الحالة يتفق العلماء على أن لولي الأمر أن يتدخل بإلزامه بإخراج السلعة، ويبيع بما لا ضرر فيه ولا ضرار.
فلو كانت معروضة فهو أمرٌ طبيعي، فيسعر ويحدد له جزءاً من الربح، وهذا ما يسمى بالتسعير، فحينئذٍ يكون التسعير واجباً وجائزاً على حسب رأي ولي الأمر، وشدة حاجة الناس إلى ذلك، كما قالوا في امتناع أصحاب الأعمال الضرورية للأمة؛ فإن ولي الأمر يتدخل ويلزمهم بالعمل حتى لا يتحكموا في حاجة الناس كما ذكر ابن تيمية رحمه الله.
فمثلاً كان الماء في السابق لا يأتي للبيوت إلا عن طريق السقاء يحمله على كتفه ويدخله البيت، والخبز الآن في الأفران، والبريد الآن لمصالح الناس، والكهرباء، والسباكة، فهذه حاجات متواصلة، فمثلاً قائد السيارات الأجرة في الخطوط الطويلة، لو أن طائفة من هؤلاء امتنعوا عن العمل من أجل مصلحة خاصة، نظر ولي الأمر في أمرهم، وفي شكايتهم؛ فإن كانت عليهم مظلمة رفعها، وإن لم تكن مظلمة وأرادوا تحكماً ألزمهم بالعمل إجبارياً؛ حتى لا تتعطل مصالح الناس، وعلى مبدأ: (لا ضرر ولا ضرار) .(133/7)
كيفية زكاة تجارة التاجر المحتكر
نأتي إلى هذا التاجر المحتكر، كيف يزكي تجارته؟ فلم يبع ولم يشترِ، وبضاعته مخزونة، فماذا يفعل؟ يقول الجمهور كـ أبي حنيفة والشافعي وأحمد رحمهم الله: عليه أن يقدر ما عنده من عروضِ احتكرها في نهاية الحول ويخرج زكاتها، فإذا جاء حولٌ آخر ولم يبعها قاصداً للاحتكار، فإنه يقدرها مرةً أخرى ويزكي، وهكذا ما دامت موجودة وهو ممتنع عن إخراجها لأيدي الناس فإنه يزكيها كل سنة.
وهذا مذهب الأئمة الثلاثة.
والإمام مالك رحمه الله يقول: هذا المحتكر -على أساس أنه ليس بخاطئ- الذي أمسكها وليس بالناس الحاجة الضرورية إلى ما بيده، ليس متعمداً إضرار الناس، فما دامت السلعة متوفرة في السوق يخرجها المحتكرون كرهاً أو رضاً، اضطر إلى القيمة أو قنع بالسعر الموجود، وبقي بعض الأشخاص محتكراً، فإنه ينتظر حتى ينتهي هؤلاء، فما دام لا يدخل في نطاق الخاطئ باحتكاره، حتى يقول بعض العلماء: قد يؤجر في ذلك؛ لأنه حفظ للناس السلعة يخرجها عندما يحتاجونها، وحينما يحتاجها السوق، فليس متعمداً التحكم فيهم.
إذاً: هذا الشخص إذا حال الحول على عروض تجارته، هل يقدرها ويزكيها؟ فالإمام مالك يقول: المحتكر له حقٌ شرعي في أن يكتنز هذه السلعة، فلا يزكيها إلا إذا باعها.
فمثلاً: يكون السعر في السوق منخفضاً، وهو جمعها في وقت الموسم بألف، لكن ورد من خارج البلد من نفس السلعة الكثير، وأصبح ذو ألف يساوي خمسمائة، فانتظر حتى يتوقف الوارد من الخارج ويعتدل السوق ثم باع، فهذا ليس متحكراً خاطئاً، وإنما ينتظر بسلعته السوق النافقة التي يحصل فيها على رزق؛ فهذا الشخص لا يلزمه مالك أن يقدر في نهاية كل حول ويخرج الزكاة، بل يقول: ينتظر الحول بالقيمة؛ لأنه انتظر حولاً وأحوالاً وهي عروض، فالزكاة واجبة فيها من أول، لكن لا نلزمه لأنه لم يبعها، ولو قدر أننا ألزمناه وانخفضت السلعة وكانت أنقص مما قدرها عندما زكاها، فنكون ألزمناه بزكاتها وهو لا يملك الألف.
فـ مالك رحمه الله يعتبر في ذلك نفاذ السلعة، وهذا في الواقع قد ينفع بعض الناس؛ لأننا جربنا في المدينة وسمعنا أن بعض الناس كان هناك ما يسمونه (طفرة) في الأراضي، وكانت تقع صفقات في المجلس الواحد للقطعة الواحدة أو للمربع الواحد أو للأرض الكاملة، وتتضاعف القيمة، فهذا إذا اشترى في هذه الطفرة والسعر مرتفع، ثم وقف وانتبه الناس وبدأ السعر ينخفض، ولم يعد هناك سوقٌ نافقة، وأصبح يدل بها عند الناس فلا يجد من يشتري، فعند ذلك لو ألزمناه أن يقدرها في كل حول، ومكثت خمس أو عشر سنين، نقول: في تلك العشر السنوات التي نزلت فيها قيمة الأرض قد أخذنا منه زكاةً عليها يمكن أن تقارب قيمتها أو نصف القيمة.
فـ مالك يقول: المتحكر غير الخاطئ والذي ينتظر السعر المناسب فإنه لا يزكي عروض تجارته التي احتكرها إلا إذا باعها.(133/8)
زكاة الدين
وهذه القاعدة عند مالك تطرد في الدين، فلو كان لإنسان دينٌ عند الناس، فجاء الحول على تلك الديون، فالجمهور يقولون: عليه أن يحسب هذا الدين الذي له عند الناس ويزكيه فهو ملكه، وليس على المدين أن يخرج زكاة الدين الذي لغيره، وإلا فسيكون رباً.
فإذا كان الدائن له أموال بأيدي الناس، فالأئمة الثلاثة أبو حنيفة والشافعي وأحمد رحمهم الله قالوا: يقدر الدين ويضمه إلى ما بيده وفي صندوقه ويزكي عن الجميع.
فـ مالك رحمه الله فصَّل في الدين، فقال: زكاة الدين بحسب المدين وحالته، والمدين عند مالك موسر قادر، أو معسرٌ عاجز، أو مماطل.
قال: فالدين إذا كان على موسر قادر غير مماطلٍ بحيث لو أتاه في أي ساعة أعطاه ماله؛ فهذا الدين يعتبر مضمون السداد وكأنه في يد الدائن، وذلك كما في الودائع المصرفية والبنكية، حيث يمكن أن تذهب إلى المصرف أو البنك وتطلب طلبك من رصيدك فيعطيك في الحال؛ قال: هذا النوع من الدين عليه أن يزكيه في نهاية كل حول؛ لأنه في متناول اليد.
أما الدين الذي ليس في متناول اليد، وصاحبه معسر ليس عنده، أو موسر مماطل، أو موسر ولكن لا يستطيع أن يستدعيه عن طريق السلطة، لأنه هو السلطة بنفسها، فلا يجرؤ على شكايته أو رفع دعوى عليه في المحكمة، أي: لا يستطيع أن يأخذ حقه منه، فهذا يسميه مالك دينٌ ضمار، أي: لا يستطيع أن يصل إليه، ولا يستطيع أن يستثمره، بخلاف المضمون، فإنه ولو لم يستثمره فهو الذي كف يده عنه، كأمانات في البنوك أو في المصارف فإنه لا أحد يمنعك أن تأخذها وتشغلها، لكن أنت بنفسك آثرت أن تكون أمانة بدلاً من أن تعرضها للتجارة، فإذا كان المال مضمون الدفع فكأنه في يدك، أو كأنك وضعته في صندوقك، أو كأنك دفنته في الأرض، فهو مالك وتحت يدك، فعليك أن تزكيه في نهاية كل حول.
أما إذا كان دينٌ لك في يد الغير وهذا الغير مماطل، أو ليس عنده سداد، أو لا تستطيع عن طريق السلطة أن تأخذ حقك منه، فحينئذٍ في هذه الحالة يقول الجمهور: يقدره في نهاية كل حول ويزكيه لأنه ملكه، ومالك يقول: هذا النوع من الدين لا يزكى إلا إذا حصل في اليد، وكلما قبض من هذا الدين شيئاً زكاه في وقته، سواءً استلم في اليوم نصاباً أو أقل من النصاب، ما دام أن مجموع القرض في الأصل نصاب، فإذا كان مجموع القرض ألفاً أو ألفين أو عشرة آلاف وأصحابها معسرون، وبدأ شخص اليوم فأدى خمسة، وآخر أدى عشرة، وآخر أدى سبعة بعد الحول الأول، فعليه أن يزكي كل ما وصل إليه حتى ولو كان عشرة ريالات؛ لأنه زكوي، والزكاة واجبة فيه من وقت بلوغ الحول والنصاب، فعليه أن يزكي كل حصةٍ جاءت في يده بحسبها، فيخرج منها ربع العشر، فلو أعطاه عشرة ريالات فإنه يخرج ربع ريال.
وعلى هذا زكاة الدين وكذلك زكاة عروض التجارة.(133/9)
توجيه تفصيلات الإمام مالك في الدين الضمار والتاجر المحتكر
بقي عندنا: توجيه تفصيلات مالك: لماذا اختلف مالك مع الجمهور في الدين الضمار، وفي التاجر المحتكر غير الخاطئ.
يروي مالك رحمه الله في الموطأ بأن أشخاصاً أتوا إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه لما ولي الخلافة، واشتكوا بأن الخليفة الأموي الأول كان قد صادر لأبيهم أموالاً في بيت مال المسلمين، وجاءوا يشتكون ويطلبون هذه الأموال كورثة، فكتب عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه إلى عامله أن أخرج إليهم مالهم وخذ منه زكاة السنوات الماضية، فهو -أي المال- قد مكث في بيت مال المسلمين سنوات.
ثم أعقبه بكتابٍ آخر: خذ منه زكاة سنةٍ واحدة؛ لأنه كان مالاً ضماراً.
واعتبر مالك رحمه الله هذه القاعدة في كل ما غاب عن اليد ولم تستطع الوصول إليه كدين مغصوب، أو دين على مماطل، أو وديعة نسيت عند من هي، أو دفين دفنته ونسيت المكان الذي هو فيه، وبعد عشر سنين وجدته مفاجأة، فكل مال لإنسان كانت يده قاصرة عن الوصول إليه، سواءً كان بيدٍ أقوى منها، أو كان بنسيانٍ، أو كان بجهالة أو نحو ذلك فحكمه ما ذكرنا عن مالك، فهذه وجهة نظر مالك أو استدلاله على تقسيم الدين إلى ضمار، وغير ضمار.
وبعضهم يذكر ذلك رواية عن أحمد رحمه الله.(133/10)
تحويل المال من قنية إلى تجارة بالنية أو العكس
ونذكر في هذا المجال: لو أن إنساناً اشترى مائة كيس أرز ووضعه في البيت له ولأولاده على أنها تمويل سنة أو سنتين، ثم بدا له، فقال: لماذا أنا أدخر المائة؟! فيكفي عشرة، وهذه التسعون الباقية أبيع وأشتري فيها، ولما تنتهي العشرة أخذ عشرة أخرى.
فهو مبدئياً اشتراها للقنية، ثم بدا له أن يحول تلك القنية إلى تجارة، قالوا: فيحسب من تاريخ نيته وقصده تحويلها إلى عروض تجارة، فمن تاريخ دخولها في أمر التجارة تحولت من قنية إلى عروض، فعندما فمن تاريخ التحويل يبدأ الحول، فإذا اكتمل الحول زكاها، ولا ينظر إلى تاريخ شرائها؛ لأن المدة التي مضت كانت على نية القنية فلا زكاة فيها، وبعد سنة أو أكثر أو أقل نوى أن تكون للتجارة وأخذ في طرق التجارة وأسبابها فتحولت من قنية إلى تجارة.
شيء آخر: اشترى محلاً، وهو سعيد بالمحل الجديد، وعنده رأس مال، فقال: سأذهب قبل أن يرتفع السعر فآخذ خمسين كيس أرز، وعشرين كيس سكر، وكذا صندوق تايت، ثم إنه رأى أن الدكان لا يتحملها قال: سأتركها للبيت.
فمن يوم أن اشتراها للدكان فهو اشتراها للتجارة، فمكثت هذه البضاعة في الدكان ستة أشهر، وبعدها وجد أن الدكان ليس بمربح، فتحولها للاستهلاك المنزلي في بيته، وستظل معه سنتين أو ثلاث سنوات، فهذه تحولت إلى القنية، فإذا حال عليها الحول فليس عليها زكاة؛ لأن الشرط في عروض التجارة والنقدين أو في الأموال التي فيها الحول أن يمر عليها حولٌ كامل وهي في طريقها.
فهذا مما يتعلق بالقصد في اتخاذ العروض للتجارة أو للقنية.(133/11)
حكم زكاة ما يتبع السلعة من الآلات والمصانع
يبحثون أيضاً في عروض التجارة، هل الذي يزكى من عروض التجارة هو للسلعة فقط، أم أنه يتبعها شيء؟ ومعنى (يتبعها شيء) أن السكر إذا كان في حوض أو كومة من الأرض أو في أكياس، وهذا الصابون يكون في كراتين وهذه السلعة في صناديق، وهذه في مكاييل، فأدوات التجارة: من الميزان والمكيال وأدوات البيع والشراء، فهذه الأدوات الموجودة في الدكان، والديكور أيضاً الذي صُنع، هل هذا يدخل في عروض التجارة أم أنه خاص لقنيته؟ فهذه أمور ربما تجدون من يبحث في هذه الناحية من أدوات التجارة ومكاييلها وموازينها، أو آلات أو أجرام، أو أظرف توضع فيها أدوات التجارة فهل هذه الأدوات تتبع عروض التجارة فتجب فيها الزكاة؟ الجواب: لا.
والخلاف الشديد فيما يتعلق بالمصنع وآلات الإنتاج، فعندنا مثلاً مصنع سكر، ومصنع نسيج، ومصنع صابون، فهل الآلة المصنعة تقدر مع السلعة أم لا؟ الآلة التي تنتج هي عروض تجارة ثابتة، ونحن نقدر إنتاجها، فإذا جئنا إلى مطبعة تطبع الكتب، المطبعة فيها حروف، وفيها مكائن تطبع، وفيها مكائن ترص الورق، وفيها مكائن تجلد، وفيها أشياء عديدة، فهل يا ترى الآليات التي تصنع وتنتج نقدرها مع الأوراق والكتب التي تطبع؟ فالورق الموجود في المستودع للمطبعة، الحبر الموجود في المستودع للمطبعة، والخيط الموجود في المستودع، والصمغ، فكل هذه الأشياء من عروض التجارة، لأنها تباع؛ لكن الآلات التي تصنع ذلك، هل هي تجارية أو غير تجارية؟ فبعضهم يقول: إن أنشئ المصنع من مبدأ الأمر فكل ما فيه للتجارة، والجمهور يقولون: الآلات الثابتة غير الفنية بذاتها قد تُستهلك، والزكاة في إنتاجها يكفي عن الزكاة في ذاتها.
والله تعالى أعلم.(133/12)
كتاب الزكاة - مقدمة كتاب الزكاة [11]
قد أودع الله في الأرض من الكنوز والمعادن شيئاً كثيراً يمكن الاستفادة منه، والإنسان قد يجد ذلك كنزاً جاهزاً، وقد يحتاج في استخراجه وتصفيته إلى عمل، وما حصل من ذلك فللزكاة منه نصيب بشرطه على ما بينه الشيخ هنا.(134/1)
حديث زكاة الركاز
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (وفي الركاز الخمس) متفق عليه] .
حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه الذي ساقه المؤلف هنا جزء من حديث يشتمل على زيادة، وإن كان موضوعها غير موضوع الزكاة؛ لأن الحديث فيه: (العجماء جبار، والبئر جبار، وفي الركاز الخمس) .(134/2)
جرح العجماء جبار
(والعجماء جُبار) في بعض رواياته كما يسوقه صاحب المنتقى: (جرح العجماء جبار) والجبار: هو المجبور الذي لا دية ولا قيمة.
والعجماء: هي الدابة لكونها لا تعرب عما في نفسها، وقالوا: إن كون العجماء جباراً فيه تفصيل؛ لأنها إما أن تكون مروضة كما يقال: مؤدبة، أو لا زالت لم تدرب، وكذلك إما أن تجني بمقدمها أو بمؤخرها، وإما أن تجني وعليها قائدها أو صاحبها، أو تجني وليس عليها أو معها أحد.
وكذلك قد تكون جنايتها بالليل أو بالنهار، وكل هذا مما تتطلبه الحياة، وخاصة عندما كانت العجماء وسيلة النقل والحمل دون غيرها.
فقالوا: إذا كان إنسان يركب دابة أو يقودها فجنت بمقدمها فإن راكبها أو قائدها مسئول عن جنايتها؛ لأن بيده مقودها، أما إذا جنت بمؤخرها وهو لا يدري، فجرحها جبار، بمعنى: إذا رمحت إنساناً فجرحته فليس على صاحبها شيء.
وقالوا: إذا كانت مؤدبة وربطها في طريق عام والطريق واسع، فجاء إنسان ونخزها فرمحته فهي جبار، وإذا كانت غير مؤدبة وربطها في طريق عام ومر إنسان ولم ينخزها ولم يؤذها فرمحته فهو مسئول؛ لأنه يعلم منها أنها ليست مروضة ولا تألف الناس، وتؤذي من يمر بها، فيكون قد عرض الناس لإيذائها فهو مسئول.
وهكذا إذا جنت ليلاً أو جنت نهاراً وليس عليها أحد أو لا يقودها أحد، فإن جنت ليلاً فعلى صاحبها جنايتها، وإن جنت نهاراً فليس في جنياتها نهاراً شيء، كما في ناقة البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه، أكلت حرث قوم فحكم صلى الله عليه وسلم أن على صاحب الناقة حفظها ليلاً، وعلى صاحب الزرع حمايته نهاراً.
وهكذا يذكرون ما يتعلق بجناية الدابة مروضة أو غير مروضة، معها إنسان أو ليس معها إنسان، وكذلك إذا كان يعلم منها أنها غير مروضة ومر بها داخل الأسواق والأسواق مزدحمة فآذت أحداً فهو ضامن، أما إذا كانت مروضة ومتعودة دخول الأسواق فلا تؤذي أحداً، ودخل بها سوقاً فآذت إنساناً، فإن كان بمقدمها فهو ضامن، وإن كان بمؤخرها فليس بضامن.
هذا ما يذكره العلماء رحمهم الله في قوله صلى الله عليه وسلم: (العجماء جبار) .
ومن هنا -يا إخوان- ننظر إلى مدى شمول السنة النبوية فيما يتعلق بالتعامل بين الناس، سواء كان مباشراً أو عن طريق بهائمهم العجماوات.(134/3)
البئر جبار
(والبئر جبار) أي: إذا استأجر إنساناً ليحفر له بئراً أو ليصلح له خراباً في بئر، فإن كان هذا الأجير عاقلاً مكلفاً مميزاً فأصابه شيء من عمله في البئر، بأن سقط منه عليه حجر أو انهار البئر عليه، فهذا جبار ولا دية له، أما إذا استعمل مجنوناً أو صغيراً أو معتوهاً أو من لا يتحمل المسئولية، فهو مسئول عنه؛ لأن ذاك -كما يقولون- عديم الأهلية أو ناقص الأهلية، كما لو كلف الصغير أو المجنون أن يطلع شجرة ليجني له منها ثمراً فسقط، فهو مسئول عنه، أما إذا كلف عاقلاً بالغاً مميزاً رشيداً فطلع كالعادة فسقط، فليس عليه في ذلك شيء.(134/4)
تعريف الركاز في الشرع
قوله: (وفي الركاز الخمس) هذا محل الشاهد والعلاقة بباب الزكاة، والخمس: هو الحصة التي تؤخذ مما لا عناء في تحصيله، وهو تابع للغنيمة؛ لأن قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41] الخمس في الأموال التي تؤخذ بدون عناء، والركاز: مأخوذ من ركزت الرمح إذا غرزته في الأرض، وتوجد مسميات: الكنز، والركاز، والمعدن، هذه المسميات الثلاث قد يتداخل بعضها مع بعض، وخاصة الركاز، فالركاز أعمها، يطلق على المعدن؛ لأنه مركوز في الأرض، وقد يتميز المعدن بجنسه عن الركاز.
والفرق عند المحققين: أن الركاز ما كان من فعل الآدمي فركزه في الأرض، والمعدن ما كان من فعل الله سبحانه وتعالى، وهو ما خلقه في الأرض يوم خلقها من أنواع المعادن أو الأجناس المغايرة للتربة.
فهنا الركاز والكنز والمعدن، فالركاز: هو ما وجده الإنسان مركوزاً في الأرض، وشبيه به الكنز، وقد يتعاوران ويطلق بعضهما على الآخر، والركاز أعم.(134/5)
الأصل أن الركاز لمن وجده واستخرجه
إذا جاء إنسان وكان يعمل في أرض فوجد فيها مالاً مركوزاً، أي: مدفوناً، سواء كان هذا المال ذهباً أو فضة، أو كان جوهراً، أو شيئاً له قيمة، فيقولون باتفاق: إن وجده في ملكه فلا نزاع في شيء، فإنه يؤخذ منه الخمس ويترك له الأربعة الأخماس ملكاً له.
وإذا كان يعمل في أرض بيضاء ليست ملكاً له ولا لغيره فوجده فكذلك؛ لأن الأرض التي وجد فيها هذا الركاز ليست مملوكة لأحد.
أما إذا عمل في أرض مملوكة للغير فوجد فيها هذا الركاز، فهل يا ترى هذا الركاز للعامل الذي وجده أو لصاحب الأرض؟ فالأكثرون على أنه للذي وجده، وصاحب الأرض لا يعلم عنه شيئاً، فإذا وجد إنسان ركازاً في أي نوع من أنواع الأراضي، فبعضهم يقول: هو لواجده، حتى قالوا: لو أن إنساناً استأجر أجيراً يحفر له بئراً في أرضه فعثر الأجير على ركاز، فإن هذا الركاز للأجير؛ لأنه هو الذي وجده.
والآخرون يقولون: هو لصاحب الأرض؛ لأنه يملك الأرض وما فيها.
وبعضهم يقول: إن استأجره لحفر بئر فوجد ركازاً فهو للأجير، وإن استأجره للبحث عن ركاز فوجد الركاز فهو لصاحب الأرض بلا خلاف؛ لأنه يكون قد استأجره لعمل مباح له كما لو استأجره في أن يحتطب، فإنه يكون الحطب أو الماء لمن استأجره، وليس للأجير إلا أجرة يده.
إذاً: الركاز مأخوذ من ركزت الرمح إذا غرزته في الأرض وهو يكون من المعدن ولا يحتاج إلى عمل يستخرجه منه كما سيأتي في موضوع المعادن.
فإذا وجد إنسان معدناً ذهباً أو فضة أو ما له قيمة كجواهر ويواقيت مدفونة، فتسمى: مركوزة، فما حكم هذا الذي وجده الإنسان؟ إن كان وجده في ملكه فلا نزاع في ذلك، وعليه أن يؤدي الخمس، وإن كان وجده في مكان ليس ملكاً لأحد فهو كذلك؛ لأنه ليس هناك من يدعيه ملكاً له في أرضه، فهو لواجده، فعلى هذا: يعطيه الإمام الخمس ويرد عليه الأربعة الأخماس، وجاء في ذلك آثار عن علي رضي الله تعالى عنه: عن رجل وجد ألف دينار فأخذ منها مائتي دينار وأعطاه الباقي، وعن عمر أيضاً رضي الله تعالى عنه أنه أخذ الخمس ورد إليه الباقي.
وعلى هذا يتفق الجميع على أن الركاز فيه الخمس.
واختلفوا فيمن وجد هذا الركاز إذا كان ذمياً، هل يملكه أم لا؟ فقالوا: إنه يمتلكه.
وكذلك العبد إذا وجد الركاز هل يمتلكه أو يكون لسيده (العبد وما ملكت يده لسيده) .
وعلى هذا فحكم الركاز الذي يجده الإنسان مدفوناً في الأرض من جواهر ومعادن نفيسة كالذهب والفضة، فإن هذا لواجده ما لم يكن أجيراً للحفر عن ركاز.
ومما فيه خلاف: من وجده في أرض الغير، واحتفر فيها حفراً مباحاً فوجد ذلك الكنز، فإنه أيضاً يملكه على خلاف فيما إذا كان يملكه هذا الواجد؟ أو يعود ملكاً لصاحب الأرض.
وكذلك يذكرون فيما لو استأجر إنسان داراً ثم أخذ يصلح فيها فوجد ركازاً، هل يكون هذا الركاز الذي وجده المستأجر للمستأجر الواجد أو يكون لصاحب الدار؟ يذكرون عن أحمد روايتين، وكذلك عن الشافعي، ويختلفون لأن صاحب الدار لا يعلم عنه، وليس هو الذي ركزه.(134/6)
الفرق بين حكم ركاز الجاهلية وركاز الإسلام
ويختلفون أيضاً في موضوع الكنز -النقد- الذي وجده إنسان، إن كان من ركاز الجاهلية أو من ركاز الإسلام، ويعلم ذلك بالأمارات التي توجد على القطع النقدية، بأن كان عليه علامات الجاهلية من صور الأصنام، ومن عبارات أسماء ملوكهم؛ فإن ذلك له فيه الخمس، فيعطي الخمس ويتملك الباقي، وإذا وجد عليه علامات إسلامية بأن كان عليه (لا إله إلا الله محمد رسول الله) أو كان عليه نقش آية من كتاب الله، أو ما يدل على أنه لمسلم؛ فإنه يكون بمنزلة اللقطة، يعرفها سنة وبعد ذلك هو وشأنه بها.(134/7)
إذا وجد الركاز في قرية مسكونة أو خربة
قال المؤلف: [وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في كنز وجده رجل في خربة: (إن وجدته في قرية مسكونة فعرفه، وإن وجدته في قرية غير مسكونة، ففيه وفي الركاز الخمس) أخرجه ابن ماجة بإسناد حسن] .
هنا يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بالمكان الذي وجد فيه الكنز، أهو في قرية مسكونة؟ فهذا مظنة أن يكون أهلها هم الذين دفنوه وركزوه، أو في قرية مهجورة خربة قديمة لا ندري متى عمرت ومتى خربت؟ فإنه يكون كدفن الجاهلية ففيه الخمس.
وإذا عرفه السنة فإن وجد من تعرف عليه وأتى بأماراته كما جاء في اللقطة: (احفظ عفاصها ووعاءها ثم عرفها سنة) ، فإذا وجد لقطة في كيس عرف الكيس أهو من صوف أو قطن أو جلد، والرباط أهو من حرير أو من خيوط أو من جلد، فإذا جاء إنسان وذكر الأوصاف المطابقة لهذه اللقطة فهي له، وإذا لم يأته أحد أو جاء بوصف مغاير للحقيقة، فإنها تبقى عنده إلى تمام الحول.
وبعد تمام السنة مع تعريفها كما يقولون: في الأسبوع الأول كل يوم، وفي الشهر الأول يوماً كل أسبوع، ثم بعد ذلك في كل شهر يوماً حتى ينقضي الحول، فإذا لم يجد من يتعرف عليها فهي ملكه، ولكن كما يقولون: هو ملك غير تام، بأن يتصدق بها، وإن شاء تملكها ديناً في ذمته، فلو جاء إنسان يطلبها وصدق في تعريفها وجب أن يردها إليه.
أو إذا كان بعد هذه المدة لا يريد أن يتحملها في ذمته، وإذا جاء صاحبها ربما لا يجد ردها، تصدق بها على ذمة صاحبها، فإذا جاء صاحبها أخبره، أنه قد عرفها لمدة سنة فلم يأت أحد، فتصدقت بها على ذمة صاحبها، إن قبلت الصدقة على ذمتك فهي ماضية لك، وإن لم تقبلها فتكون الصدقة على ذمتي وأنا أدفع لك بدلها.
وهكذا إذا وجد في قرية مسكونة أو طريق مطروق، أو وجد في قرية خربة غير مسكونة، أو طريق مهجور لا يسلكه أحد، وكذلك الأرض إن كانت محياة لأحد أو ميتة لا يملكها أحد.(134/8)
المعادن وحكم زكاتها في الشرع
[وعن بلال بن الحارث رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ من المعادن القبلية الصدقة) رواه أبو داود] .
صاحب هذا الحديث بلال بن الحارث وفي بعض الروايات هلال بن الحارث: أن النبي صلى الله عليه وسلم: أقطعه معدن القبلية، والقبلية: مكان معين في جنوب المدينة من أعمال وادي الفرع، وبينه وبين المدينة كذا ميل، فيقولون: هذا لعله المهد الموجود الآن، وفيه المعدن، وفي هذا الحديث مبحث أو مباحث من عدة جهات: أولاً: ما هو المعدن؟ ثم: ما يؤخذ من المعدن؟ وما هو حكمه من حيث المكان؟ ومن هو مصرف ما يؤخذ منه؟(134/9)
المفهوم الشرعي للمعدن
المعدن من مادة عَدَن، وعَدَنَ بمعنى: أقام، ومنه كما يقولون: (جنة عدن) بمعنى: دار الإقامة، وهذه المعادن مقيمة في الأرض من يوم أن خلقها الله حتى يكتشفها الإنسان.
ولولي الأمر أن يقطع من شاء ما شاء ما لم تتعلق به منفعة الجماعة.
فإذا كان هناك ماء يسقي عدة مزارع، فليس لولي الأمر أن يقطع هذا الماء لشخص وحده؛ لأنه يفوت المنفعة على الآخرين، وفيه مضرة، فكذلك المعدن الذي فيه منفعة عامة، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: أنه أقطع فلاناً ملحاً، أي: معدن ملح، ثم قيل له: يا رسول الله! أتدري ما أقطعت فلاناً؟ قال: أرضاً، كان يعتقد صلى الله عليه وسلم أنه أقطعه الأرض ليزرعها ويستثمرها، قالوا: إنك أقطعته الماء العدة، والعد أي: الذي يستخلف، وكلما ذهب شيء جاء شيء آخر كالبئر الذي تأخذ الماء ويستخلف غيره، فاسترجعه صلى الله عليه وسلم ممن أقطعه إياه؛ لكونه يستفيد منه الجميع فلا يحصره على فرد؛ لأن الذي يستفيد منه الجميع هو ملك للجميع.
ولهذا قالوا: إن الإمام يقطع من المواد ما لا يتعلق به مصلحة لفرد أو لجماعة، فإذا كان المعدن يستفيد منه الجماعة كالماء والملح أو الكبريت أو الشيء يرجع على أهل الحي أو أهل المنطقة، فلا ينبغي أن يقطعه الإمام لشخص معين، وإذا أقطعه وهو لا يدري عن حقيقته استرجعه وتركه عاماً لجميع المسلمين، وهنا معدن القبلية.
والمعدن ما حكمه وما هو؟ يقول الإمام الشافعي رحمه الله: المعدن خاص بالذهب والفضة، وما عداه لا يعتبر معدناً ولا يطالب صاحبه بشيء.
وعند الحنابلة أن المعدن كل ما كان في الأرض من غير جنسها وله قيمة، كما يقول ابن قدامة في المغني، فهو عندهم كل ما كان في الأرض من غير جنسها، أي: من غير التراب.
ويوجد فيها من غير جنسها: الذهب، الفضة، النحاس، الكبريت، الزئبق، القصدير، الكحل، وعدد أشياء كثيرة حتى من الجواهر الألماز يكون أيضاً من الأرض، والأحجار الكريمة إذا كانت في باطن الأرض، حتى الأمور السائلة ومثَّل بالقار وبالنفط والكبريت إذا كانت سائلة في بطن الأرض، فكل ذلك يسمى عند الحنابلة معدناً؛ لأنه عدن في الأرض وهو من غير جنسها وله قيمة.
وعند الأحناف أن المعدن: ما كان صالحاً للذوبان والطبع، كأن يطبع سبائك أو قوالب، فيخرج عن ذلك الكبريت والزئبق والقار والنفط، ويخرج عن هذا ما ليس بمعادن؛ لأنها غير قابلة للإذابة بالنار وطبعها سبائك أو قوالب، ويصدق هذا على الذهب والفضة والرصاص والنحاس والقصدير، فهذه كلها تذاب وتصب في قوالب وتكون سبائك أو أحجاماً.(134/10)
خلاف العلماء فيمن يتملك المعدن
المعادن التي توجد في الأرض لمن تكون؟ فهناك من يقول: هي كالركاز، والفرق بين الركاز والمعدن: أن الركاز وجده على حالته دون عمل، أما المعادن: فهي عروق في الأرض لا يحصل عليها إلا بتصنيع وعمل يجمعها ويصهرها في النار، فيحترق التراب ويذوب المعدن، وتجتمع فلزاته بعضها إلى بعض حتى يخرج منها كتلة، وهذه الطريقة معروفة في الجاهلية ومعروفة في الإسلام، ومعروفة في البادية وفي الحضر، ففي بعض بوادي أفريقيا تعرف بعض المعادن خاصة الحديد في بعض الأماكن، فتجمع التربة وتوقد عليها نار قوية، فتجتمع فلزات الحديد بعضها إلى بعض، ويخرجون بكتلة يصنعون منها الآلات التي ينتفع بها الإنسان.
وعلى هذا: فالمعدن من حيث هو هل يقطعه الإمام لأحد؟ الجمهور ما عدا مالك يقولون: كل معدن وجده الإنسان على ذاك التعريف، سواء قصرناه على مذهب الشافعي أو وسعناه على مذهب الأحناف، أو عممنا كل ما تتضمنه الأرض حتى الكحل والكبريت أو الملح، فالجمهور يقولون: إن هذا لواجده.
وإن كان على وجه الأرض مثل الملح قالوا: كذلك هذا لصاحبه الذي حصل عليه، وخاصة إذا كان في أرض موات، والآن مجريات الملح، ما اجتمع في أرض سبخة فتجففه فيخرج منه الملح الصالح للطعام، وهناك مواطن أو مياه يستخرجون منها ملح البوتاسيوم كالبحر الميت، فإنه يستخرج منه أملاح البوتاسيوم، وتنوع إلى أنواع، وهناك بحيرات صغيره تجمع فيها المياه وتترك للشمس لتبخرها، ويتجمع الملح الموجود فيؤخذ، ويصنع منه عدة أنواع من الأملاح المعدنية، فهذه يقولون: هي لواجدها ما دامت على وجه الأرض.
أما المعادن التي تحتاج إلى كلفة وعمل فبعض العلماء يقفل الباب، ويقول: هي لمن وجدها.(134/11)
حكم زكاة المعادن
من وجد المعادن وعثر عليها فإنه يستطيع أن يصنعها ويستفيد منها، قالوا: إن استطاع فله ذلك، وكيف يزكي ما يحصل عليه؟ قالوا: الركاز فيه الخمس قليله أو كثيره، وفي المعادن كذلك الخمس، وبعضهم يقول: فيه العشر، بمعنى أنه يعامل معاملة الغنائم ومعاملة الركاز فيؤخذ منه الخمس.
وهناك من يقول: ربع العشر.
أما الخمس فقياساً على الركاز مع وجود الفارق؛ لأن هذا يحتاج إلى عمل، ومن يقول: العشر فقياساً على ما تنبته الأرض من الحبوب والنبات والثمار: فإن فيه العشر، ومن قال: فيه ربع العشر قياساً على زكاة الذهب والفضة، فإن كان ذهباً وفضةً وأخذ منه ما يؤخذ من الذهب والفضة فيكون مالاً زكوياً، والجمهور على أنه مال زكوي.
ويقولون: لا يشترط للحصول عليه وتزكيته حولان الحول ولا بلوغ النصاب.
والآخرون كالحنابلة ومن وافقهم والمالكية يقولون: يشترط فيه النصاب، وليس المراد بالنصاب في كل دفعة يحصل عليها، كأن يكون اكتشفه اليوم وبدأ يعمل ويصفي فوجد ربع نصاب، فاحتفظ به، ثم عمل غداً وأخذ ربع نصاب، ثم بعد شهرين أو ثلاثة اكتمل عنده النصاب، فحينئذ يزكي في الحال ولا ينتظر الحول.
ثم بعد اكتمال النصاب يزكي كل ما حصل عليه يومياً، ولا ينتظر نصاباً للجديد الذي جاء بعد اكتمال النصاب الأول، فإن استمر العمل فعلى هذا الحال، وإن انقطع العمل أو انقطع النيل منه: فإن كان الانقطاع لعذر ممن وجده كمرض أو سفر أو عجز عن النفقة، وطال انقطاع العمل فإنه يستأنف من جديد، وإن تركه وجاء غيره فإنه يبتدئ ويستأنف من جديد، وإن كان الانقطاع لعدم وجود المعدن لكونه ليس متصلاً كبحيرة أو جبل، وإنما هو أجزاء في أماكن مختلفة، فإذا انقطع نيل المعدن لعدم وجوده في منطقة العمل واستمر يفتش وكان انقطاعه قريباً، فإن هذا الانقطاع لا يقطع حكم الزكاة على ما كان سابقاً، وإن طال الانقطاع وأصبح كأنه وجد معدناً من جديد بعد زمن طويل وعمل طويل، فحينئذ يستأنف النصاب ويبدأ يحسب من جديد كما لو كان قد وجده الآن.
الإمام مالك رحمه الله يقول: الأمور العامة التي ترجع إلى الأمة لا يملكها واجدها ويمثل بالنفط وبالقار ويقول: إن استخراجها يحتاج إلى نفقات كبيرة، وإن عائداتها لترجع للأمة بأجمعها، وللأمة فيها نصيب، وهنا يقول: إن ولي الأمر يضع يده عليها، وهو الذي يستخرجها، ومصرفها هي المصارف العامة للدولة، كمصرف الفيء الذي يغاير الغنيمة في مصرفه، فالفيء: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر:7] ، فهنا يكون مصرف هذا المعدن العام الذي تتعلق به مصالح الأمة لولي الأمر ينفقه في المصالح العامة.
والمصالح العامة في الدولة هي التي توضع لها الميزانيات، فهناك من المصالح العامة: التعليم، وتموين الجيش، والصحة، والطرق، والبريد وكل ما تلتزم الدولة بإقامته لمصلحة العامة جميعاً، ولا يؤخذ عليه زكاة؛ لأن ولي الأمر أو المسئولين يجمعون المال من الأفراد كزكوات أو ضرائب، يفرضونها في حالة الحاجة أو غير ذلك، وتتكدس عندهم هذه الأموال، فلا يؤخذ عليهم فيها زكاة؛ لأنهم امتلكوها للمصالح العامة.
إذاً: لا نأخذ منهم لنرد عليهم، فهذه الفكرة العامة عما يتعلق بأمور المعادن.(134/12)
المعدن الذي تتعلق به الزكاة
ما هو المعدن الذي تتعلق به الزكاة؟ الشافعي رحمه الله قصره على الذهب والفضة.
وأبو حنيفة رحمه الله جعله كل ما يذاب ويطبع ويكون سبائك، وكذلك المالكية والحنابلة عمموا كل معدن في الأرض من غير جنسها وله قيمة، وأدخلوا في ذلك كل المعادن حتى الكحل، والكبريت، والمضرة، والمضرة: تربة حمراء تكون في بعض الأماكن تؤخذ ويصبغ بها الثياب، وشاهدناها إلى عهد قريب بالمدينة يطلى بها الخشب في السقوف حتى لا تأتيها دودة الأرض التي تسمى الأرضة؛ لأن طعمها مر فلا تعيش فيها الدودة التي تفسد الأخشاب، وعمر رضي الله تعالى عنه لما رأى على عبد الرحمن بن عوف ثوباً أحمر، قال: أتصبغ بالزعفران؟ قال: يا أمير المؤمنين هذا ليس بورس ولا زعفران إنه المضرة، قال: إنكم رهط يقتدى بكم، أي: فيراه جاهل فيقول ابن عوف يصبغ بالزعفران؛ لأنه لا يفرق بين الزعفران وبين المضرة.
ومن هنا نعلم أن على السادة أو موضع القيادة والاقتداء أن يراعوا ما يقلدهم فيه العامة، فيتحرزون مما فيه شبهة؛ مخافة أن يقع العامة فيما هو محرم بناءً على ما يتقلده هؤلاء الناس.
إذاً: يهمنا نوعية ما يسمى معدناً عند الأئمة الأربعة رحمهم الله: وهذا مجمل ما يمكن أن يقال في موضوع المعادن وما يزكى منها وما لا يزكى.(134/13)
زكاة مزارع الدواجن وشركات الأسماك ونحوها
ونحب أن ننبه على بعض الأشياء وهي: في خصوص عروض التجارة، أنه قد تجدون في بعض المؤلفات الحديثة: أنها لم تكن موجودة من قبل لا في العصر النبوي الشريف ولا في عصر الخلفاء ولا فيما بعدهم، وإنما استجدت في العصور المتأخرة.
وأقول قبل أن نناقش أقوالهم: إن كل ما يستجد أو كل ما استجد اليوم في عصر الحضارة والمدنية وما استجد من أنواع الاستثمار ليس بجديد على الإسلام، بل يوجد له أصل ونظير، والمتحفظ من المتأخرين لا يخرج عما كان قديما ويرد المستحدثات إلى نظائرها التي كانت من قبل، والبعض الذي يريد أن يبرز ربما أغفل ذلك، وحاول أن يجتهد فيلحقها بالزكاة.
ومن ذلك نجد من يقول: إن هنالك أموراً استثمارية لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تغل على أصحابها النماء والغلة الوفيرة، فيجب أن نجعل فيها زكاة، ويمثلون مثلاً بمزارع الدواجن، يقولون: إنها تغل على أصحابها من البيض ومن لحوم الدجاج والسماد ومن الشيء الكثير، وكذلك شركات صيد الأسماك، لأنها تستثمر فتحصل الشيء الكثير بالآلاف والملايين، خاصةً الآلات المستحدثة كالبواخر أو السفن.
وهناك أيضاً: ما يتعلق بمعادن البحر أو غير ذلك، وهناك العمارات الشاهقة كناطحات السحاب تستثمر بالملايين، ويقولون: يجب أن نجعل في أعيانها الزكاة.
ونقول: أيها الإخوة! إن من يقول بذلك يفوته الأصل الأساسي إذا قال: إننا نزكي البيض والدجاج والسمك، وهل هناك نصاب للبيض بالعدد أو بالكيل؟ هل هناك نصاب للدجاج بالوزن أم بالحبة؟ وكذلك السمك.
وإذا قلنا على قولهم بزكاتها فهل نعطي المسكين طبق بيض أو طبقين؟ ماذا يصنع بها؟! إن ادخرها فسدت، وإن سلقها لم يقدر على أن يأكلها! فسيضيع حقه فيها، وكذلك اللحوم والأسماك.
فهذه الأنواع من الأموال المستحدثة لها نظائرها في الخضروات، وكذلك فالأسماك موجودة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك اللؤلؤ يستخرج من البحر، والعنبر يستخرج من البحر، كل ذلك كان معلوماً وما سن فيه رسول الله زكاة.
وإذا أرجعناه إلى القواعد الأساسية وقلنا: هذا الذي استخرج اللؤلؤ واصطاد السمك وجاء بالعنبر وأقام مزرعة الدواجن، إنه يبيع ويدخل عليه من ثمنها، فيكون ذلك (من طيبات ما كسبتم) ، فأثمان هذه المنتجات الحديثة على رأيه سيكون كسباً ونماءً يدخل في ملكه وفي خزينته، فإذا حال عليه الحول زكاه، كما أنه لا تزكى الخضروات ولكن تزكى قيمتها إذا حال عليها الحول، فنقول: كذلك، صاحب البيض والدجاج وصاحب السمك وصاحب العنبر وصاحب اللؤلؤ، إذا اجتمع عنده بعد نفقته نصاب وحال عليه الحول زكى، فيزكي قيمة ما حصل عليه من تلك الأشياء التي لا أصل للزكاة في أعيانها.
أما قيمتها فكما تقدم لنا: لو أنه استثمر التراب لكان عليه من قيمته الزكاة، وبالله تعالى التوفيق.(134/14)
كتاب الزكاة - باب صدقة الفطر
فرض الله زكاة الفطر طهرة للصائم وطعمة للمساكين، وقد حدد الشرع مقدارها ومحل وجوبها، وأشار إلى ما يمثله أداؤها من صور التكافل الاجتماعي التي ندب إليها الشرع وحض عليها.(135/1)
أهمية صدقة الفطر
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فيقول المؤلف: [عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة) متفق عليه.
ولـ ابن عدي والدارقطني بإسناد ضعيف: (أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم) ] .(135/2)
زكاة الفطر طهرة للصائم
بعدما أنهى المؤلف رحمه الله تعالى بيان زكاة الأموال بأجناسها المتفق عليه والمختلف فيه جاء إلى هذا الباب العام الشامل، وهو: زكاة الفطرة، ويقال لها أيضاً: زكاة الفطرة، فعلى أنها زكاة الفطر -أي: الفطر من رمضان- حينما يفطر الصائمون يخرجون هذه الزكاة كما بين صلى الله عليه وسلم الغرض منها من جانبين: طهرة للصائم، وكما يقول بعض العلماء: زكاة الفطر بالنسبة إلى الصوم كسجدتي السهو، فسجدتا السهو تجبر ما كان من نقص أو خلل في الصلاة بالزيادة أو النقص، وصدقة الفطر تجبر أيضاً ما كان من الصائم من خلل في صومه، فهناك بعض الأمور التي يغفل عنها الصائم: كلمة بلسانه، أو نظرة بعينه، أو حركة بيده أو نحو ذلك.
يقول جابر رضي الله تعالى عنه: (لا يتم صوم الصائم حتى تصوم جوارحه) ، وكذلك الحديث الآخر: (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) .
كذلك جاء في الحديث: (الصوم جنة ما لم يخرقها، قالوا: بم يخرقها يا رسول الله؟ قال: بكذب أو بسباب) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، والصائم أو المسلم ليس معصوماً، فقد يقع منه بعض تلك الأشياء التي لا تبطل الصوم، ليست بأكل ولا شرب ولا وطء، فصومه صحيح، ولكنه مجروح، فتأتي زكاة الفطر وتعالج تلك الجراح التي وقعت على صومه في نهار رمضان.(135/3)
صدقة الفطر طعمة للمساكين
والجانب الثاني: طعمة للمساكين في يوم العيد كما سيأتي (أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم) .
هذا معنى زكاة الفطر: أي الفطر من رمضان.
وسميت زكاة الفطرة، والفطرة: الخلقة {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:1] أي: خالقها، وقال تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] أي: خلقهم جبلة عليها، وفطرة الإنسان بمعنى: صدقة عن بدنه وخلقته في جسمه، ويؤيد هذا أيضاً الحديث الآخر: (على كل سلامى كل يوم تطلع فيه الشمس صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وتعين الرجل على دابته صدقة، وأن تلقى أخاك بوجه طلق صدقة، ويجزئ عن هذا كله ركعتان من الضحى) .
فالرسول صلى الله عليه وسلم جعل على الإنسان في أعضائه وحركاته صدقة لكل عضو يتحرك، ولعل هذا في مفهوم العصر الحاضر من عوامل الصيانة، فهذا الجسم فيه ثلاثمائة وستون مفصلاً، من فقار الظهر إلى أنامل اليد إلى حركة الفك إلى الأسنان.
إلى غير ذلك، وكل عضو يتحرك يحتاج إلى صيانة، فتكون الصدقة هي عوامل الصيانة لجسم الإنسان، وهي شكر لله سبحانه وتعالى على سلامى من بدنه بعد أداء فريضة الصوم.
وسواء سميت صدقة الفطر أو سميت صدقة الفطرة، إلا أن بعض العلماء علق تسميتها صدقة الفطر حكماً في وقت وجوبها، لأن معنى صدقة الفطر، أي: الفطر من رمضان في آخر يوم يفطر فيه الإنسان، وذلك عند غروب الشمس، فقال: تجب بغروب الشمس من ليلة العيد.
والآخرون يقولون: تجب بطلوع فجر يوم العيد، أي: فالخلاف في مدة الليل فقط من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، هذا محل الخلاف، ويترتب على هذا الخلاف أمر بسيط، وهو: أن من قال بغروب الشمس لو ولد مولود بعد الغروب، أو مات ميت بعد الغروب فمن قال بغروب الشمس قال: إنها وجبت عليه، ومن قال بطلوع الفجر قال: لا تجب عليه؛ لأنه لم يدرك الفجر حياً.
المهم أن نتيجة الخلاف نتيجة بسيطة وخفيفة وعلى القول بأن زكاة الفطر تكون متعلقة بصوم رمضان.
وجاءت بعض الآثار تفيد أن الصوم معلق بين السماء والأرض بزكاة الفطر، وعلى أنها زكاة الفطرة تكون شكراً لله على سلامة البدن.(135/4)
فرضية صدقة الفطر
وبدأ المؤلف رحمه الله بحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بقوله: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً وذكر الأشياء الثلاثة: التمر والزبيب والشعير.
عند قوله: (فرض رسول الله) الفرض: بمعنى القطع، تقول: فرض الحبلُ الحجر بمعنى: حز فيه ولم يفصله، ومنه الفرائض: القطعة من الواجبات، وتقول فرض، بمعنى ألزم، أي: أوجب، فهنا الجمهور يقولون: فرض بمعنى أوجب وألزم، كما تقول: فريضة الصلاة، فريضة الصيام، فريضة الحج؛ بمعنى الوجوب، فمعناه: أوجب صدقة الفطر صاعاً، ويكون في هذا الحديث الحكمان: وجوب زكاة الفطر ومقدارها.
وبعضهم يقول: فرض بمعنى: قدر، ومنه الفرائض: أي بيان قدر استحقاق الورثة، كل بحسبه وبفرضه، ولكن الجمهور على أن فرض بمعنى أوجب وألزم، والفرق بين القولين: هو الحكم على زكاة الفطر، أهي فريضة واجبة كزكاة المال والصلوات الخمس أم هي ليست واجبة؟ فمن حمل كلمة (فرض) على ظاهرها، وقال: معناها أوجب، تكون فريضة، والأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد لهم أقوال في هذه الناحية، والقول المشهور: أن زكاة الفطر واجبة، وواجبة على رأي الجمهور مع اختلافهم في اصطلاح الوجوب، فالأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد أن الفرض والواجب والركن سواء إلا في الحج، فالفرض فيه شيء والواجب شيء آخر، فالواجب فيه يجبر بدم أو نحوه، والفرض أو الركن لا يجبر ببديل عنه، بل لابد من الإتيان به.
والأحناف عندهم فرق عام بين الفرض وبين الواجب في الصلاة وفي الزكاة وفي الصيام وفي الحج، يقولون: هذا فرض، ويقولون: هذا واجب.
في كل التكاليف، وهذا اصطلاح خاص بالأحناف، وعندهم أن الفرض: ما ثبت بدليل قطعي الثبوت، فالثابت بخبر قطعي وهو نص القرآن الكريم أو السنة المتواترة يعتبر فرضاً، وما ثبت بأحاديث الآحاد فهذا واجب، أي أنه دون الفرض بشيء.
فالأحناف يقولون: صدقة الفطر واجبة، أي: ليست فريضة.
والمالكية لهم أقوال وتفصيلات في ذلك، وأما الحنابلة فالثابت عندهم أنها فرض بمعنى الوجوب واللزوم، وكذلك المالكية المشهور عنهم هذا.
وبعضهم يورد بعض النصوص فيقول: زكاة الفطر وجبت أولاً، ثم جاءت زكاة الأموال ثانياً، فبعضهم قال: زكاة الأموال نسخت وجوب زكاة الفطر، ولكن حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في هذا الباب: محمول على الإيجاب ولم يرد له ناسخ، وعلى هذا يمكن أن نقول بعد مضي هذا الزمان، وبعد طول الوقت وعمل المسلمين: الكل يتفق على أنها واجبة، سواء قلنا: وجوب الأحناف، أو قلنا: وجوب الجمهور، فهي واجبة ومن لم يؤدها فهو آثم.
إذاً: حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما هو الأصل في هذا الباب، ويبحث في باب زكاة الفطر: فرضيتها -وقد تقدم شيء من ذلك- ومقدارها، وعلى من تجب، وعمن تجب، ولمن تجب، ومتى وجوبها، ومما تجب أيضاً، هذه النقاط الرئيسية -سبع نقاط في هذا الباب- يتناولها الفقهاء، ويبينون ما جاء فيها على اتفاق أو على اختلاف.
فقول ابن عمر رضي الله تعالى عنه: (فرض رسول الله) أسند الفرض هنا -وهو الإيجاب والإلزام- لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذاً: في ظاهر هذا اللفظ أن الفرضية والتشريع والإيجاب من رسول الله، وإذا شرع أو فرض رسول الله يكون هذا من عند رسول الله، وهو بلغ عن الله، لأنه لا شك أنه لا ينطق عن الهوى، ولكن هل له حق الفرض والتشريع والندب أم ليس له حق؟ له حق في ذلك، والله سبحانه وتعالى أمر بطاعته صلوات الله وسلامه عليه فقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] .
وقد جاءت نصوص فيها تشاريع منها عن الله، ومنها عن رسول الله متممة لما جاء عن الله، فمثلاً: جاء عن الله سبحانه وتعالى في المحرمات من النساء الأمهات والبنات والأخوات.
{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء:23] بصرف النظر عن النقاش في الأختين بالعقد أو الأختين بملك اليمين، فالجمع بين الأختين محرم بكتاب الله، ثم جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (نهى أن تنكح المرأة مع خالتها، أو مع عمتها) ، فالقرآن جاء بالنهي عن الجمع بين الأختين، وهنا السنة زادت: الجمع بين المرأة وخالتها، والمرأة وعمتها، إذاً: هذه المحرمات في السنة زائدة عما جاء في القرآن، إذاً: له صلى الله عليه وسلم أن يفرض وأن يوجب وأن يندب إلى الفعل؛ لأن له حق التشريع؛ ولأنه لا ينطق عن الهوى؛ ولأنه إنما هو وحي {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] .
وعلى هذا سواء قلنا: إن الأصل في الفرض كان من الله أو من الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهناك العموم: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] ثم في بعث معاذ إلى اليمن صرح الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله الذي فرض الزكاة، والمقصود هنا في بعث معاذ زكاة الأموال: (إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم) ، قد يقول قائل: هذا في زكاة الأموال، وهذا الذي قام به معاذ وأبو موسى الأشعري في اليمن، لكن يقال: عموم الزكاة في أموالهم تشمل زكاة الفطر أيضاً لأنها زكاة.
إذاً: المشروعية أساساً كانت من الله سبحانه وتعالى، والرسول مبلغ عن الله، سواء ذكر لنا المصدر من الله أو منه صلى الله عليه وسلم، فهو لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.
ثم جاء بالمقدار وبالأصناف التي تخرج منها زكاة الفطر، وإذا أراد إنسان أن يتكلم في النواحي الجانبية أو الاجتماعية أو الأخوية يجد أن هذا التشريع الكريم قوى عوامل ارتباط المسلم بأخيه؛ لأنه العامل الذي يجمع بين طبقات المجتمع على اختلاف أنواعها، فنجد التعميم والشمول: الذكر والأنثى والحر والعبد والصغير، الكبير، فهي أشمل من زكاة المال في من تجب عليه، فكل مسلم عليه زكاة الفطر، ولو كان رقيقاً لا يملك شيئاً، فسيده يدفع عنه، والصغير لا يملك شيئاً فوليه يدفع عنه.
وقد يقول بعض القائلين: هي طهرة للصائم، والصغير ليس عليه صيام، فلماذا نخرج الزكاة عنه؟! وقد نقل عن بعض السلف أنه لا زكاة عليه، ولكن نقول: ليست المهمة طهرة للصائم الفعلي فقط، بل إنها لعامة أفراد الأمة المسلمة: الذكر، الأنثى، الحر، العبد، الصغير، الكبير؛ لشمول العطاء.
وإذا نظرنا إلى المجتمع الفقير والغني، الأغنياء فيهم كبار وفيهم أطفال صغار، والفقراء فيهم كبار وفيهم أطفال صغار، فتكون زكاة الصغار من الأغنياء تقابل الصغار من الفقراء، ويكون الشمول عاماً، وسيأتي الحديث عنه إن شاء الله عند قوله: (أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم) .(135/5)
الصاع النبوي والمسائل المتعلقة به
أما قوله صلى الله عليه وسلم: (صاعاً) فالصاع وحدة مكيال، وهو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان في زمن النبي صلوات الله وسلامه عليه المد، وهو ربع الصاع، والصاع هو المكيال العام، وما كان يوجد أنواع من المكاييل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذين النوعين: الصاع والمد النبويين.
والصاع كان معروفاً ومتداولاً، ولا حاجة إلى بيان الرسول لكميته أو مقداره، وكما يقول صلى الله عليه وسلم: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) ، فلا حاجة إلى التعريف بأن يقول: بيتي يقع في الشرق، المنبر يقع في الغرب، طوله كذا وعرضه كذا لا حاجة لهذا؛ لأنها معروفة بالتواجد والمشاهدة والحس، فكذلك الصاع، ولكننا مع طول الزمن وتغير الأحوال أصبحنا الآن قد لا نجد الصاع، وقد لا يعرفه إنسان، فكيف نعرف هذا؟ سبق أن نبهنا مراراً بأنه واجب على كل مسلم، أو كل حارة، أو كل بيت كبير أن يوجد الصاع لديهم؛ لأنه على هذا الصاع تتوقف أحكام كثيرة: الإطعام في الكفارة، الفطر في رمضان، أنصبة الزكاة، خمسة أوسق، والوسق ستون صاعاً، فإذا فقد الصاع كيف نعرف أنصبة الحبوب والتمور؟ وكيف نعرف مقدار صدقة الفطر؟ وكيف نعرف الإطعام في الكفارات على من كفارته الإطعام؟ فهذه أمور شرعية يكلف بها الإنسان ويضطر إليها، فلابد أن يكون عند كل شخص صاع، وخاصة في المدينة؛ لأنها الأصل الذي يرجع إليها عامة بلاد المسلمين، الذي في الأندلس، والذي في أوروبا أو في أي جهة كانت، وأراد أن يطبق الشريعة الإسلامية فيما يجب عليه من ناحية المقدار بالمكيال، فإنه سيأتي ويسأل أهل المدينة: ما هو الصاع عندكم يا أهل المدينة؟ ولهذا لما اختلف أبو يوسف مع مالك رحمهما الله، وذلك حين جاء أبو يوسف من العراق إلى المدينة وسأل عن الصاع؛ لأن المدينة هي الأصل في ذلك، فالمكيال مكيال المدينة، والوزن وزن مكة، ولهذا ذكرنا سابقاً ضرورة توحيد المكيال والميزان في الدولة، سواء اتفقوا على الصاع أو على الرطل أو على الأوقية -أي: الكيلو- يجب أن تكون الموازين والمكاييل موحدة في الدولة، حتى لا يختلف الناس.
ولما جاء أبو يوسف إلى المدينة وكان مع هارون الرشيد سأل مالكاً: كم الصاع عندكم؟ قال: خمسة أرطال وثلث، أي: بالرطل العراقي.
قال: لكنه عندنا ثمانية أرطال.
يعني: هناك فرق زائد، وهو رطلان وثلثان زيادة، فبماذا أجابه مالك؟ طلب من الحاضرين أن من كان عنده صاع في بيته يخرج عليه زكاة الفطر فليأتنا به غداً، ومن الغد يأتي الآتي ويخرج من تحت ردائه مكيالاً ويقول: حدثني أبي عن جدي أنهم كانوا يخرجون الزكاة به على عهد رسول الله، واجتمع عند مالك في الحلقة نحو خمسون صاعاً، وأبو يوسف حاضر وشاهد، وما هناك اتفاق ولا تواطؤ على أن نصنع صياعاً ونقدمها، فهي موجودة قبل الطلب، وهذا يأتي من يمين وهذا يأتي من يسار، وهذا يروي عن أبيه عن جده عن جدته، فوجد أبو يوسف الأمر قطعياً، وهذا هو مدلول التواتر.
فيقول أبو يوسف: فنظرت في تلك الصيعان فوجدتها متحدة.
يعني: في مقاس واحد، فأخذت واحدة منها -لأن الواحد يغني عن الجميع- فذهبت إلى السوق فعايرته بعدس الماش فإذا وزنه خمسة أرطال وثلث.
ولما رجع إلى العراق قال لهم: أتيتكم بعلم جديد.
قالوا: وما هو؟! قال: وجدت الصاع خمسة أرطال وثلث.
قالوا: خالفت شيخ القوم! يعني: خالفت الإمام أبا حنيفة رحمه الله، فقال: رأيت أمراً لم أجد له مدفعاً.
وهذا هو العلم الضروري الذي يقول عنه علماء الحديث: إن التواتر يفيد العلم بخلاف الآحاد فإنه يفيد غلبة الظن، وغلبة الظن يمكن أن تنفيها، ويمكن أن تشكك فيها، لكن علم اليقين لا يمكن أن تدفعه عن نفسك، لأنه علم ضروري.
ومعنى (ضروري) : لو أردت أن تدفعه عن مخيلتك لم تستطع، هذا رجل وتلك امرأة، لا تستطيع أن تدفع عن ذاكرتك الفارق بين الرجل والمرأة؛ لأنها حقيقة واقعية.
وهنا: الصاع كان معلوماً زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا ذكره دون أن يتعرض إلى مقداره، وظل الصاع موجوداً دائماً إلى عهد بني أمية فجعلوا صاعاً للسوق، يسع ثلاثة آصع من صاع النبي صلى الله عليه وسلم، والصاع النبوي أربعة أمداد، وهؤلاء جاءوا بمد يعادل ثلاثة صيعان، يعني: اثني عشر مداً بالمد النبوي، فاختلفت المكاييل.
ثم لا زال الناس يتوارثون الصاع في المدينة إلى عهد قريب لا يزيد عن عشر سنوات، وكان هو وحدة المكيال في السوق في البيع والشراء، إلى أن دخل تلاعب في التمور في الأسواق مع الحجاج، فجاء الأمر بإبدال الكيل إلى الوزن، وأصبح الوزن بوحدة الكيلوجرام هي المقدار الذي يتبايع عليه الناس، سواء كان المبيع الأصل فيه الكيل كجميع الحبوب والتمور، أو كان الأصل فيه إنما هو الوزن فهو على طريقه.
وجاء عن العز بن عبد السلام رحمه الله أنه قال: يجب على الأمة اتباع ولي أمرها في أربعة أمور: وحدة الكيل، ووحدة الوزن، ونوعية النقد، وأمر الحرب إعلاناً أو هدنة: فإذا اختار ولي أمر أمة نوعاً من المكيال سواء الصاع النبوي، أو مكيالاً يسع صاعين أو ثلاثة، أو غير ذلك، وجب اتباعه، وكذلك وحدة الوزن من أوقية أو رطل أو كيلو فعلى الأمة أن تمتثل بذلك لتحقيق وحدة الوزن في الدولة، وهكذا أصبحت كل دولة لها وحدة مكيال تتعامل به في الأسواق، وهذا لا غبار عليه، يبيع الناس كيف شاءوا، إذا قيل: مقدار هذا الوعاء يسع خمسة آصع بعشرة ريال، وجيء بنصفه وبربعه واعتبرت هذه وحدة مكاييل تجزأ بالأنصبة نصف وثلث وربع.
إلخ فلا مانع من ذلك؛ لأنها معاوضة سلعة بمال، ولكن إذا جئنا إلى الحكم الشرعي فلابد من تعيين المقدار الذي عينه الشارع، والشارع عين بالصاع.
ولهذا نحث الإخوة على أن يكون الصاع موجوداً في بيوتهم، بل إن أهل المدينة إلى العهد القريب -كما قلنا- كانوا يجعلون الصاع في بيوتهم، وعلى موضع الدقيق أو البر أو الأرز يغرفون به التماساً لبركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا) فكان بدلاً من أن يأتي بإناء يغرف به أو يغرف بيده، يأتي بالمد ويغرف به من الدقيق إلى الوعاء الذي يريد أن يصنع فيه الطعام، ويقول: اللهم بارك لنا في مدنا، فاغترافه بالمد يلتمس بركة دعوة رسول الله.
ولما أوقف التعامل بالصاع والمد تغافل الناس عن ذلك، وأصبحوا يتعاملون بالوزن على وحدة الكيل كوحدة مئوية -يعني: ألف جرام- وأصبحت وحدة عالمية يتعامل بها العالم كله أو يعرفها العالم كله.
والوقت الحاضر بالبحث عن أجرام الصيعان التي كانت موجودة، ووجود بعض النوادر عن بعض من يحتفظ بها، قد يقع بعض الاختلاف، وهناك لجنة المواصفات في الرياض عملت مسحاً لجميع أطراف المملكة، وأخذت نماذج مما يوجد من الصيعان، فتقاربت؛ لأن أصل التقدير التقارب.
فالصاع أربعة أمداد، والمد ملء كفين متوسطتين لإنسان متوسط، وطبعاً لا يمكن أن تتعادل جميع الحفنات بالجرام، أنت بنفسك لو حفنت مرة وجعلتها في كفة، ثم حفنت مرة أخرى في كفة ثانية ستختلف، إذاً: المسألة تقريبية، والصيعان التي وجدوها في مناطق المملكة متقاربة، تختلف في مائة جرام في خمسين في مائة وخمسين في مائتين جرام، يعني: حفنة يد لا أقل ولا أكثر.
فمما وجدناه بالتجارب أن مكيلة الصاع نوعان: مكيلة تملأ إلى الحافة وتزيد فيها التسنيم الذي فوق حافة الصاع، كالشكل الهرمي الذي يكون على حافة الصاع من فوق، فتبدأ قاعدته بسعة فتحة الصاع وينتهي إلى أعلى على شكل الهرم، هذه التي فوق فتحة الصاع على شكل الهرم تختلف باختلاف فتحات الصيعان، فهناك صاع يكون طويلاً وفتحته قطرها (5 سم) ، فطبعاً قاعدة هرمها ستكون صغيرة، ومساحة المثلث -كما يقولون- نصف القاعدة في الارتفاع، فإذا كانت فتحة الصاع كبيرة سيكون التسنيم فوق الفتحة كبيراً بلا شك، إذاً: العبرة هنا في التعبير أو في التعيير أو في المعايرة تكون على فتحة الصاع بدون تلك الزيادة، وبتجربة ذلك: أنواع الحبوب يختلف وزنها، كما يقول الفقهاء: فيوجد فرق بين التمر وبين الحمص، فليس الحمص في رزانة وثقل التمر، لأن التمر أثقل.
فقالوا: هناك أمور تقديرية؛ لأن بعض الحبوب أرزن وأثقل من بعض، وكذلك بعض الحبوب يكون مرصوفاً، وبعض الحبوب يكون متجافياً -فيه فجوات وفراغ- فعندما تكيل صاعاً من الشعير وتكيل صاعاً من الأرز، هل فجوات الأرز بعضها مع بعض تكون مثل فجوات حبات الشعير، أم أن حبات الشعير فيها فراغ أكثر؟ فيها فراغ أكثر، إذاً: يرجع إلى الرزانة وإلى تلاصق الحبات التي تكيلها.
إذاً: المسألة تقريبية، ولكن لو كان التعيير بالماء، فالماء وحدة تتفق في المقياس وفي الوزن، أي: المقياس التعكيبي وهو الجرم، والوزن بالجرام، فبالتجارب وجدنا أن الصاع الذي يتفق مع غلبة الظن بالصاع النبوي الذي كان يتعامل به في المدينة المنورة، وكان الملك عبد العزيز رحمه الله إذا صنع الصاع من الخشب، ختم عليه إذا عوير بالصاع المعترف به عند العلماء، ولذلك كانوا يقولون: الصاع المختوم.
يعني: الذي ختم بختم الدولة بأنه مطابق للصاع الشرعي.
الآن وجدت صيعان من الحديد، ومن الزنك، ومن النحاس، فبتعيير تلك الصيعان التي صنعت جديداً على الصيعان التي وجدت قديماً مختومة، وجدنا سعة الصاع بالماء ثلاثمائة وثلاثة آلاف جرام، فإذا كنا وجدنا أي مكيال: (جلن) ، أو علبة حليب، أو علبة سمن، وكان سعتها بالماء ثلاثة كيلو فهذا أول وزن الصاع، فثلاثة كيلو أحياناً يكون فيها زيادة مائة جرام أو خمسين جراماً على ما أظن، وهذا أمر تقريبي، ومساحتها بالعدس اثنين كيلو وستمائة جرام، فإذا وجدنا أي ظرف، أو أي وعاء يحمل من الماء ثلاثة كيلو ومائة جرام على التحديد فهذا هو الصاع، ثلاثة كيلو وخمسين جراماً، ثلاثة كيلو تنقص شيئاً بسيطاً، فلا يضر، والحق المعتدل: ثلاثة كيلو من الماء، وإذا كان يحمل من العدس خاصة -لأنهم يقولون العدس المجروش يتلاصق ولا(135/6)
الأصناف التي تُخرج منها زكاة الفطر
وعلى هذا إذا عرفنا مقدار الصاع فإن مكيلة الصاع من الأصناف التي سميت في الحديث هو مخرج زكاة الفطر، والحديث جاء فيه تمر، وجاء فيه زبيب، وجاء فيه طعام، وجاء فيه شعير، وجاء فيه أقط، وجاء فيه دقيق، وجاء سويق، كل هذه المسميات يخرج منها زكاة الفطر.
ثم نجد بعض الناس يتكلم على الدقيق أو الأقط، ومنهم من يقول: إن إخراج الأقط يكون إذا كانت الزكاة في البادية؛ لأن أهل البادية هم الذين يستفيدون منه دون أهل الحاضرة، ويلاحظ عند الدقيق أن يكون الكيل زائداً عن الحب؛ لأن الحب إذا طُحن يزيد في مكياله، وإن كان لا يزيد في وزنه، لكن في المكيال قد يختلف، فإذ كان سيكيل دقيقاً فإنه يزيد في المكيال ما يعوض الفرق بين الحب المضغوط وبين الدقيق المنفوش.
والله تعالى أعلم.(135/7)
إخراج الزكاة من غالب قوت البلد
وهنا مسألة: هذا الحديث نص على أعيان بذاتها، إذا لم توجد هذه الأصناف أو وجد غيرها معها، فهل يتعين إخراج زكاة الفطر من المسميات: تمر، زبيب، شعير، قمح، أقط، دقيق، سويق، أو يجوز إخراجها مما يأكل منه الناس؟ نجد الفقهاء يقولون: تجب من غالب قوت البلد، فإذا وجد صنف جديد لم يكن موجوداً من قبل، فمثلاً: الآن وجد الأرز والذرة والدخن، وكل هذه مطعومات، فإذا لم توجد تلك الأصناف المسماة في الحديث فهل تجزئ من هذه الأصناف الجديدة أم لا؟ الجمهور على إجزائها؛ لأنها تتفق مع الأصناف الأخرى في أنها قوت المواطنين، وعلى هذا يجوز إخراج الأرز، بل هو الآن أكثر وأغلب أنواع الأقوات الموجودة، ويجوز إخراج الذرة إذا كانت تستعمل في الخبز، وكذلك الدخن، وكل ما استجد من حبوب تكون قوتاً للناس ومن غالب قوت البلد.(135/8)
إخراج الزكاة من غالب قوت المزكي
وبعضهم يقول: من غالب قوت المزكي، فإذا كان المزكي يأكل دُخناً، ويوجد البر والشعير والذرة والتمر، فهل يتعين أن يخرج مما يأكل منه؟ قالوا: إن كان يأكل من الأدنى وترك الأعلى شحاً وبخلاً لم يجزئه إلا الأعلى، وإن كان يأكل ذلك لنزوله في البلد فهو كسائر الناس، فإنه يجزئ ذلك.
وابن عمر رضي الله تعالى عنه كان يتحرى إخراجها من التمر؛ لأنه عنده أفضل من غيره، وهو في الواقع طعام جاهز لا يحتاج إلى طحن كالبر، ولا إلى عجن وخبز كالحبوب، وكما قيل: (هو طعام المسافر، وفاكهة المقيم، أو: طعام الفقير وفاكهة الغني) فالتمر طعام جاهز، ولهذا كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يزكي كل سنة بالتمر إلا سنة واحدة أعوز فيها التمر فأخرج البر.(135/9)
حديث أبي سعيد الخدري في زكاة الفطر
قال المؤلف: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنا نعطيها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام أو صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير أو صاعاً من زبيب) ] .
قول أبي سعيد رضي الله عنه: (كنا نعطيها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم) ، أي: وهذا هو زمن التشريع؛ لأنه بإشراف وتوجيه من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصلح آخر الأمة إلا بما صلح عليه أولها، وهذا من ميزة المدينة وسكانها زمن النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده؛ لأنهم يأخذون مباشرة عن رسول الله، أو يعملون ويقرهم على عملهم رسول الله، ثم بعد ذلك خلفاؤه الراشدون، ثم بعد ذلك التابعون لهم بإحسان، وهلم جرا.
فهنا يذكر الشعير مع الحنطة (الطعام) ، وأنه يخرج منها صاع، إذاً: هذا العمل يخالف ما رآه معاوية، ولكن لا ينبغي أن نكثر القول على معاوية؛ لأنه لم يقل: (سمعت رسول الله) فيتعارض مع قول أبي سعيد أو مع قول غيره، وإنما قال: (أرى) ، وما دامت القضية قضية رأي، والرأي متبادل إما قبلتموه أو رفضتموه، فإذا وجدتم غيره أفضل فأنتم ترفضونه، وقد وجدنا هذا الأثر عن أبي سعيد، وأثبت أنه كان يعطي زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعاً من البر الذي يرى معاوية أن نصف الصاع منه يجزئ، وهذا كاف في رد الرأي الذي رآه معاوية بما ذكره غيره مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال المؤلف: [وفي رواية: (أو صاعاً من أقط) قال أبو سعيد: أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولـ أبي داود: لا أخرجه أبداً إلا صاعاً] .
هذا الأسلوب له دلالته البلاغية، يقول: (أما أنا) ، أي: أنا أتحدث عن نفسي، إذاً: هناك من يتحدث عن غيره.
أما قوله: (أما أنا) فهو رد على رأي معاوية لأنه يقول: أنا أرى أن نصف صاع من البر يكفي، أي: فأنت ترى نصف صاع من البر يكفي (أما أنا فلا أزال أخرجها كما كنت أخرجها زمن النبي صاعاً) .
إذاً: نعلم من هذا الأسلوب (أما أنا) بأن هناك رأياً مقابل رأي، وهذا المقابل مغاير، إذاً: تقابل رأي برأي، وأحد الرأيين مجرد رأي واجتهاد، والرأي الثاني مبني على العمل الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإذاً: لا شك أننا نأخذ برأي أبي سعيد الخدري، وهذا لم يعد رأياً، بل أصبح قولاً ينقله وخبراً يسوقه إلينا، كأنه يقول: لا تأخذوا برأي معاوية؛ لأننا كنا زمن النبي صلى الله عليه وسلم نخرج صاعاً، لكن تأدباً مع ولي الأمر معاوية فلا ينبغي أن يجابه بهذه الصيغة ولا بهذا الأسلوب، ومن أساليب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون بالحكمة والموعظة الحسنة.
فكأنه قال: يا معاوية! لك رأيك، ويا من أخذتم برأيه لكم آراؤكم، ولكن أنا في خاصة نفسي، ولا أملك إلزاماً عليكم، ولا أطاوعكم فيما أعتقد خلافه.
إذاً: هذا المنهج يعطينا طريقة المغايرة، وطريقة الإنكار بأدب وبحكمة دون تجريح أو مجابهة، فقال: أما أنا، أي: في حد نفسي، والذي يريد أن يأخذ بكلامي فهو حر، والذي يريد أن يأخذ برأي معاوية فهو حر.(135/10)
حديث ابن عباس في زكاة الفطر
قال المؤلف: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) رواه أبو داود وابن ماجة، وصححه الحاكم] .(135/11)
زكاة الفطر تجبر الصوم الناقص
حديث ابن عباس هذا رضي الله تعالى عنه قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين) .
إذاً: صدقة الفطر لها مهمة مزدوجة، مهمة للمعطي ومهمة للآخذ، فمهمتها مع من يعطيها سلامة صومه، وجبر ما عساه قد طرأ عليه من نقص، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الصوم جنة ما لم يخرقه.
قالوا: بماذا يا رسول الله؟ قال: بسباب أو فسوق أو شتام أو نحو ذلك) .
إذاً: الصوم قد يكون درعاً سابغاً سليماً وافراً، وقد يكون مخرقاً يحتاج إلى ترقيع وتلحيم، فتأتي زكاة الفطر وتلحم هذه الثقوب أو تصلح هذا الفساد الذي طرأ على الصوم من لغو أو رفث.
فالزكاة من حيث هي عبادة تجبر النقص، وتكفر المعصية؛ لأن ما خرق جنة الصوم إلا بعصيان، والعصيان يحتاج إلى تكفير، فكانت زكاة الفطر تكفر أخطاء الصائم، قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] .
وهكذا كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بربط نافلة الصلاة مع فريضتها، وكذلك نافلة الصوم مع فريضتها، ويأتي هذا العامل الجديد وهو زكاة الفطر مع الصوم وهي من غير نوع الصيام، فنافلة الصلاة كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه حينما يحاسب العبد على الفريضة في الصلاة ويوجد فيها نقص أو خلل، يقول المولى سبحانه للملائكة: (انظروا هل لعبدي من نوافل؟ فيقولون: بلى يا رب.
فيقول: اجبروا فريضته من نوافله) .
إذاً: هذه النافلة جبرت نقص الفريضة من نوعها، وجاء خبر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيه: (وكذلك الصيام) ، يعني أنه ينظر في فريضة الصيام، فإذا كان فيها نقص سأل المولى سبحانه الملائكة -وهو أعلم بذلك-: هل له من نافلة في الصوم؟ فيقولون: بلى.
فيقول: اجبروا فريضته من نوافله.
وسيأتي في نافلة الصدقة المقارنة بينها وبين الفريضة، وفي الحديث: (ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) وسيأتي التنبيه عليه في باب صدقة التطوع.(135/12)
كيف تكون الفطرة طهرة للصغير وليس عليه صوم؟
قوله: (طهرة للصائم) يفيد أن زكاة الفطر تعمل لمعطيها أعظم نعمة عليه، وهي: أنها تجبر صومه مما يكون قد ألم به.
وهنا يقول بعض العلماء: صدقة الفطر طهرة للصائم، وأول حديث سمعناه في هذا الباب: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر على الصغير والكبير، والذكر والأنثى) فالصغير ليس عليه صيام؛ وفي الحديث الآخر: (طهرة للصائم) فماذا تفعل زكاة الصغير؟ ولماذا نزكي عن الصغير زكاة الفطر؟ فأجابوا عن ذلك بأنه كما يوجد صغير غني لم يصم، هناك صغير فقير لم يصم يحتاج إلى أن يطعم، وجعل الله سبحانه وتعالى على ولي هذا الصغير القادر وطعمة للصغير المحتاج الذي يعوزه الطعام، ونحن قلنا: تسمى زكاة الفطر الذي هو ضد الصوم، وتسمى زكاة الفطرة التي هي الخلقة، فعلى تسميتها زكاة الفطرة فالصغير مفطور ومخلوق، عليه شكر النعمة في سلامته، وفي وجوده، والذي يؤدي على الصغير وليه، إذاً: لا اعتراض على ذلك، وتعميم التشريع يكون على الصغير والكبير، وهو له حظ أيضاً في قوله: (طهرة للصائم) .
فإذا زكى ولي الصغير عن صغيره، وصغيره ليس يصوم ولا يحتاج إلى طهرة صومه، فيعود أثر هذه الفطرة وهذه الزكاة على ولي الصغير، والله تعالى أعلم.(135/13)
علاقة الزكاة بتطهير الغني والفقير
قال: (طهرة للصائم وطعمة للمساكين) أي: مقابل ما يحصل عليه المتصدق يحصل عليه الآخذ المتصدق عليه، فتكون الفائدة مشتركة بينهما، وطعمة المسكين في ذلك اليوم هي ما جاء بقوله: (اغنوهم) .
وإذا نظرنا إلى القرآن الكريم نجد هذه الازدواجية في مهمة الزكاة العامة وهي زكاة الأموال؛ لأن المولى سبحانه وتعالى يقول لرسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103] فاسم الصدقة شمل زكاة المال، وشمل صدقة الفطر، فماذا تصنع هذه الزكاة؟ قال: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ} [التوبة:103] قالوا: ((تطهرهم وتزكيهم)) البعض يقول: تطهر الأغنياء في نفوسهم، وتزكي أموالهم، والآخرون يقولون: لكل واحدة من هاتين الكلمتين جهة، فعندما ينظر الفقير إلى مال الغني، ويذهب الغني ويجني ماله، وليكن مثلاً مما تنبت الأرض، وذهب صاحب البستان وجذ نخله، وأخذ التمر إلى مخازنه، والمسكين يتطلع إليه ولم يجد تمرة واحدة منه، فالذي يحدث في نفس المسكين بغريزته وطبيعته أنه يحسده ويحقد عليه؛ لأنه يرى بعينه ما يتمتع به هذا الغني مما أعطاه الله، وهو والله ما أنبت النخلة حينما غرسها، ولا أطلع طلعها حينما أطلعت، ولا أنضج ثمرتها حينما طابت، ولا أتى بثمارها وتمرها، بل الله الذي صنع له كل ذلك وهو نائم في بيته، نائم في ظل النخلة وهي تعمل كل ذلك بإرادة الله.
فهذا الفقير الذي بجانبك هو عبد لله مثلك، صلته بالله كصلتك، وهو مخلوق مثلك تماماً فلماذا لا تفيض عليه مما أفاض الله عليك؟! فإمساك الغني لماله وعدم إخراج زكاته، والفقير يرى بعينه، يجعله يحقد عليه ويحسده؛ ولهذا جاءت المبادئ الإسلامية تلزم الغني أن يشرك الفقير في ماله بقدر معلوم وهو الزكاة.
فهنا الفقير إذا تعطلت فريضة الزكاة حقد على الغني، وتدنس الغني بحق الفقير الذي في ذمته، وأصبحت الجريمة في الجانبين، فتأتي الزكاة وتصلح هذا الفقير وتطهره من حقده وحسده ونظرته وعداوته إلى الغني؛ لأنه أخذ حقه وافياً، فيقف ويقول: اللهم بارك له فيما أعطيته، اللهم بارك له في ثمره وفي ماله.
((وتزكيهم)) أي: وتنمي أموال هؤلاء، ولقد علمنا -يا إخوان- وجاءتنا الأخبار الصادقة من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقة بعينها، بل نجد القرآن الكريم يذكر قصة أصحاب الجنة: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم:17-18] ماذا كانت النتيجة؟ {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ * فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} [القلم:19-24] فهؤلاء منعوا الصدقة، فماذا كانت النتيجة؟ {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم:19] ، إلى أن قال: {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} [القلم:26-28] .
وهناك في السنة النبوية: قصة الرجل الذي كان يمشي في فلاة من الأرض فيسمع صوتاً في السحاب: (اذهبي فأمطري في مزرعة فلان) ، فتطلع إلى أن يرى من هو فلان الذي يسوق الله السحاب إلى مزرعته لتسقيها، ولأي شيء؟ فيسير في ظل السحابة، فإذا بها تأتي إلى حرة وإلى مكان متسع فتمطر، والماء يتجمع ويتحول ويمشي في طريقه ويصب في مزرعة فلان، وفلان قائم يحول الماء بمسحاته في الأحواض، فقال له: السلام عليك يا فلان.
نظر إليه فلان هذا فلم يعرفه، قال: وكيف عرفت اسمي وأنا لم أعرفك؟! قال: أخبرني أولاً ماذا تفعل في مزرعتك هذه؟ قال: ولماذا تسأل؟ قال: سمعت صوتاً في السحاب.
وأخبره بالخبر، قال: فجئت حتى وصلت إليك وعرفت اسمك من صوت السحاب.
قال: إن كان الأمر كذلك فإني عندما أحصد أقسم الغلة ثلاثة أقسام، قسم أحتفظ به لأرده فيها، وقسم أدخره لنفسي وأهلي سنة، والقسم الثالث أتصدق به.
قال: بهذا سقيت.
فهنا المسكين إذا لم يأخذ شيئاً فنار حقده في قلبه تحرق هذا المال؛ لأن فيه حقاً له، وإذا أخذ حقه بات ليله يحرس مال جاره؛ لأنه اطمأن أنه سيأتيه منه الرزق.
إذاً: هي طهرة للصائم وطعمة للمساكين، وهما متقابلان، وكذلك هناك: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] .(135/14)
وقت وجوب زكاة الفطر
قال: [ (فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات) .
رواه أبو داود وابن ماجة وصححه الحاكم] .
هذا القسم من الحديث أشكل على كثير من الناس، هي طعمة وهي طهرة، ومع ذلك قال: (فمن أداها قبل صلاة العيد فهي زكاة، ومن أداها بعد صلاة العيد فهي صدقة من الصدقات) فهذه صدقة والأخرى صدقة! لكن قال: صدقة من الصدقات، يعني: كمن تصدق في أي وقت كان وبأي شيء كان قليلاً أو كثيراً، فإنها خرجت عن خصوص فريضة الزكاة إلى مطلق الصدقة، فكأن صاحبها متطوع بها، ومعلوم أن هناك فرقاً بين صدقة الفرض كما تقدمت الإشارة إليه: (ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب مما افترضته عليه) وإذا كانت خرجت عن حدود الفرض دخلت في النوافل، وهي صدقة من الصدقات.
وهل تبرأ ذمته من فرضية زكاة الفطر أم لا؟ البعض يقول: نعم، لأنه أداها، ولكن أجرها لا يحتسب له كغيره الذي أداها في فترة الفرضية، إنما تحسب له صدقة من الصدقات التي تحسب الحسنة فيها بعشر أمثالها، أما كونها فريضة فلا يعلم أجرها إلا الله.
وهل تسقط الفريضة أم لا؟ الأكثرون على أنها تسقط فريضة زكاة الفطر.
وبعض العلماء تباعد وقال: زكاة الفطر لم تؤد وهي باقية في ذمته؛ لأن وقتها خرج، ولا يجزئ عنها صدقة من الصدقات، إذاً: يترك إخراجها؛ لأنها صدقة من الصدقات إن شاء تصدق وإن شاء أمسك! لكن الأكثرين على أنه يخرجها، ولو تأخر في إخراجها إلى ما بعد العيد فهي دين في ذمته وعليه أن يخرجها، مع أنه لن يحصل على الأجر كما لو أداها قبل صلاة العيد في وقتها.
والله تعالى أعلم.(135/15)
كتاب الزكاة - باب صدقة التطوع [1]
حديث: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) من أعظم المواعظ التي تحث على الخير، وقد شمل هذا الحديث الأمة من القاعدة الأساسية إلى القمة العالية، فشمل مجموع طبقات الأمة، وقد بسطه العلماء بالشرح، وبينوا فوائده وآثاره في صلاح الأمة والفرد.(136/1)
مقدمة باب صدقة التطوع
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [باب صدقة التطوع] .
هذا الباب الجديد في صدقة التطوع، والذي قبله صدقة الإلزام، أي: ليس فيها تطوع ولا اختيار، لكن هنا يتطوع بها.
وقبل الكلام على هذا الباب ننظر في معنى ومغزى هذا العنوان: فالإنسان من حيث هو يرغب في المال، ويحرص على جمعه: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر:19-20] فالإنسان حريص شديد الحرص على الدأب في جمع المال، فإن كان يخاف الله تحرى الحلال، وإلا فلا يبالي من أين أتى، فعلى أنه يتحرى الحلال ويجمع المال (لو كان لابن آدم وادياً من ذهب لابتغى إليهما ثالثاً) ، فإذا ما حصل على المال وتوفر عنده يكون شحيحاً به، يضن بإخراجه، فجاءت الفريضة في زكاة المال وصدقة الفطر، وألزمته رغماً عن شحه، فإذا أدى الواجب عليه برئت ذمته وطهر ماله، ولكن هل الإنسان يقف عند أدنى الحد؟ الواجب هو أدنى الحد في بذل المال، لكن الإنسان يسمو ويتعاطف مع أوامر المولى سبحانه وتعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة:245] ؛ فهنا تأتي صدقة التطوع لأنها من دافع الإنسان نفسه، أي: من دافع إيمانه ورغبته في الخير، وإيثاره الآخرة على الدنيا؛ لأنه يدفع هذه الصدقة متطوعاً.
فالأولى أخرجها فريضة عليه: (فإن أداها طيبة بها نفسه فبها ونعمت! وإلا أخذناها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا) يعني: يخرجها غصباً عنه، لكن في صدقة التطوع ليس هناك جبر عليه ولا غصب له! هل هناك عقوبة على تركها وعدم فعلها؟ لا، لكن هناك الرغبة في الأجر، وإيثار الآخرة على الدنيا، والتعامل مع الله سبحانه وتعالى.
وقدمنا مراراً بأن قانون الحياة يمشي على مبدأ المعاوضة: خذ وهات، ثمن وسلعة، فتتبادل مع غيرك وتتعاون معه، أما الصدقة إذا أخرجتها فأين العوض عنها؟ قد يبلغ الأمر بالإنسان السوي المؤمن بالله أنه يخفي صدقته على المسكين، بل يخفيها على نفسه كما سيأتي في حديث: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: وذكر منهم: رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله) وهناك الآية: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] .(136/2)
صدقة التطوع دليل على صدق الإيمان
إذاً: صدقة التطوع عنوان على أن المتصدق موقن بالأجر من الله، وموقن بالعوض عند الله، وعلى قانون المعاوضة المادية كذلك؛ لأنه يدفع التمر أو يدفع الأرز ويحتسب الأجر عند الله: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89] فإنه يأخذ العوض هناك، فهو رصيد مضمون ينفعه يوم يفر المرء من أخيه، وأمه أبيه، فيجده عند المولى سبحانه مضاعفاً كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم ليتصدق بالصدقة فتقع في كف الرحمن فينميها له كما ينمي أحدكم فلوه -أي: ولد الفرس- حتى تكون مثل جبل أحد) .
والصدقة والصدق مادتهما اللغوية واحدة: (صدقة، تصدق) ، وتاء الافتعال هذه زائدة، فالصدقة في التطوع دليل صدق المسلم في إيمانه بالله؛ لأنه يدفع الثمن الآن ويترقب العوض فيما بعد، ولا ينتظر ممن أعطاه معاوضة، ولا ينتظر من أحد جزاءً ولا شكوراً: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً ولا شكورًا} [الإنسان:9] أي: ولو جازيتمونا فإلى أي حد يكون الجزاء منكم؟ عبد الرحمن بن عوف لما جاءت تجارته ودقت طبولها، فجاء التجار وقالوا: نعطيك (10%) زيادة في الربح، فرفض! (50%) فرفض، (100%) فرفض وقال: أعطيت أكثر!! قالوا: نعطيك الضعف ضعفين، قال: أعطيت أكثر!! قالوا: نحن تجار المدينة، وليس في المدينة من يعطيك أكثر من ذلك، فمن الذي أعطاك أكثر من ذلك؟ قال: الله أعطاني الحسنة بعشر أمثالها، أعطاني عشرة أمثال قيمتها، فالعير وما تحمل في سبيل الله!! إذاً {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان:9] لأنكم لا تستطيعون أن تجازونا كما يجازي الله سبحانه.(136/3)
شرح حديث: (سبعة يظلهم الله في ظله)
قال المؤلف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله -فذكر الحديث وفيه-: ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) متفق عليه] .
تقدم التنبيه على منزلة الصدقة والتطوع بها، وأن ذلك من منطلق الإيمان واليقين بما عند الله، وأن المتصدق ينتظر العوض من الله سبحانه، ولا يرجو ممن يتصدق عليه جزاءً ولا شكوراً، كما نوه بذلك سبحانه بقوله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الإنسان:9] ؛ لأنه تصدق لوجه الله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة:245] ، وجاءت الأحاديث متعددة في أن الصدقة تعود على المتصدق بأشياء عديدة: منها ما تقدم في زكاة الفطر أنها: (طهرة للصائم) ، وكذلك ما جاء في الأحاديث الأخرى أن (صدقة السر تطفئ غضب الرب) .
وجاءت أيضاً أحاديث أخرى تحث على الصدقة منها: (المرء في ظل صدقته يوم القيامة) ، والآثار في هذا الباب كثيرة.(136/4)
منزلة هذا الحديث عند العلماء
وهذا الحديث الذي بدأ به المصنف في هذا الباب يعتبر من جوامع الكلم، ومن أمهات الأحاديث النبوية الشريفة، قال عنه ابن عبد البر: إنه أعظم حديث جاء في الحث على عمل الخير، والمتأمل لهذا الحديث في أسلوبه، وفي موضوعه يجد أسلوبه مرتباً ترتيب النتائج على أسبابها، ومن نظر في موضوعه يجده قد شمل الأمة من القاعدة الأساسية إلى القمة العالية، فشمل مجموع طبقات الأمة.
(سبعة يظلهم الله) : هذا اللفظ المتفق عليه، أما بالنسبة إلى العدد فإنه مما قد أُلِّفَ فيه، وقد كتب فيه السخاوي والسيوطي رحمهما الله، واطلعنا على رسالة بعنوان: مُنِيْلُ البَشِّ لمن يظلهم الله في ظل العرش، للشيخ مائل عينين وهو متأخر.
ويقولون: إن السبعة هي نهاية العدد، وما بعدها مكرر لها أو لأجزائها، وعني شراح هذا الحديث بكل من جاء فيه نصٌ بأنه ممن يظلهم الله تحت ظله، حتى أوصلوها إلى سبعين صنفاً، ولكن قال المناوي: الزائد عن السبعة المتفق عليها إما داخلة تحت هذه الأصناف السبعة، وإما أن أسانيدها لا تنهض للاحتجاج بها.
أيها الإخوة! هذا الحديث شامل لطبقات المجتمع من الشاب وبقية الأفراد إلى الإمام العادل، كما أشرنا: من القاعدة إلى القمة، وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم نجدها قسمين: فقسم مختص بمادة وموضوع، وهذا غالباً في أحاديث التشريع في الحلال والحرام، وفي الواجب والمندوب.
وقسم يشمل عدة أصناف، وإذا وجدنا حديثاً يشمل أكثر من معنىً واحد فبالتأمل نجد أن هناك روابط بين تلك الموضوعات الذي انتظمت في سلك ذلك الحديث! فمن أحاديث الأحكام ما تقدم في الزكاة: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة) ، فهذا حديث مستقل بموضوع واحد، وهو تقدير النصاب في الحبوب، وحديث: (في كل أربعين شاة شاة) .
ولكن الأحاديث التي تشمل العديد من المواضيع غالباً ما تكون للتوجيه والموعظة والإرشاد، ومن أهمها هذا الحديث، وإني قد مكثت زمناً طويلاً أبحث مواضيع هذا الحديث، وأخيراً جمعت فيه رسالة، وشدني إلى الكتابة فيه قول ابن عبد البر رحمه الله: لو أن كل صنف من هذه الأصناف السبعة أفرد برسالة لكان حرياً بذلك، فجمعت لكل موضوع بحثاً مستقلاً بقدر ما في وسع الإنسان في هذا الموضوع، وحرصت أن يكون معيناً للطالب إذا أراد أن يعظ أو يذكر أو يدعو إلى فضائل الأعمال الواردة في هذا الحديث النبوي الشريف، وكذلك الإنسان الذي يريد أن يتزود، أو يتثقف، أو يوسع مداركه في مدلول هذا الحديث.
هذا الحديث يشتمل على المباحث الآتية: أولاً: لفظه.
ثانياً: أسانيده.
ثالثاً: ترتيبه.
رابعاً: معاني أصنافه.
أما سنده: فقد رواه الشيخان وأصحاب السنن، وذكر المؤلف هنا أنه متفق عليه، واكتفى بذلك، وهو موجودٌ أيضاً في موطأ مالك وعند أبي داود والنسائي وابن ماجة، وكل هذه الصحاح قد أوردت هذا الحديث.
وبالمقارنة بين ألفاظه في هذه المراجع نجد مغايرات يسيرة، وكذلك في ترتيبه تقديم أو تأخير، واللفظ الذي ساقه المؤلف هنا: هو لفظ البخاري رحمه الله، ولفظ مسلم يتفق معه إلا أن مسلماً ذكر فيه الرجل الذي تصدق بيمينه فأخفاها بلفظ: (حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله) ؛ وفي رواية أخرى: (رجل تصدق بشماله -أو رجل تصدق بصدقة- فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله) وأسند الإنفاق للشمال بدلاً من اليمين، وأعتقد أن هذا يكون أدعى وأبلغ في معنى الإخفاء، وقد نبهنا عليه مراراً.(136/5)
من يظلهم الله في ظله غير السبعة المذكورين في الحديث
وموضوع الحديث هؤلاء السبعة، وقد نظمهم أبو شامة في بيت واحد في قوله مشيراً إلى الحديث: قَاْلَ النَّبِيُّ المُصْطَفَىْ إِنَّ سَبْعَةً يُظِلُّهُمُ المَوْلَىْ الكَرِيْمُ بِظِلِهِ مُحِبٌّ عَفِيْفٌ نَاْشِئٌ مُتَصَدِّقٌ وَبَاْكٍ مُصَلٍ وَالإِمَاْمُ بِعَدْلِهِ هذه السبعة الأصناف التي اشتمل عليها هذا الحديث النبوي الشريف.
وإذا جئنا إلى اللفظ الأول: (سبعة) : يقولون: إن العدد لا مفهوم له، ولهذا بحث العلماء فيمن يشملهم هذا المعنى ويظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وذكروا منهم: رجلاً لحق القوم، وأدركهم العدو، وكان في مؤخرتهم؛ فدافع عنهم، وذكروا امرأة تأيمت على أيتامها حتى كبروا واعتمدوا على أنفسهم، وذكروا أشياء عديدة، حتى أوصلوا السبعة إلى السبعين، وأقرب مرجعٍ لهذا العدد ما نقله الزرقاني عمن تقدم نظماً ونثراً في شرحه على الموطأ عند هذا الحديث.
فإذا كان العدد ليس له مفهوم فهناك سبعات عديدة أوصلها العلماء إلى السبعين، وإن كان له مفهوم فيكون مقصوراً على هؤلاء السبعة، وسواء كان له مفهوم أو ليس له مفهوم فيهمنا الآن هؤلاء السبعة، إذ إن هذا الحديث جمع جميع طبقات المجتمع، وما ذكر فكما قال النووي والمناوي: قد تكون مندرجة تحت صنف من هذه الأصناف السبعة.(136/6)
معنى (يظلهم الله في ظله)
(يظلهم الله) هذا اللفظ متفق عليه، وكل من خرَّج هذا الحديث رواه بهذا اللفظ.
(في ظله) أو (في ظل عرشه) : تختلف الروايات، فتارة تأتي: (في ظله) ، وتارة تأتي: (في ظل عرشه) .
(يوم لا ظل إلا ظله) أو (يوم لا ظل إلا ظل عرشه) على حسب الروايتين المتقدمتين، وليس هناك إشكال أن العرش جرم محسوس يتصور أن يكون له ظل، ولكن الإشكال الذي لم أجد له جواباً، هو أن الظل ناتج عن الشمس، ويوم القيامة تكور الشمس، وتبدل الأرض غير الأرض والسموات، وثمة حديث آخر، وهو عن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل -قال سليم بن عامر: فوالله! ما أدري ما يعني بالميل: أمسافة الأرض، أم الميل الذي تكتحل به العين؟! قال:- فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، قال: وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه) رواه مسلم.
إذاً: كيف تأتي تلك الشمس؟ وأي نوع هي؟ هذا الذي يقف عنده الإنسان مستسلماً مصدقاً بما قال صلى الله عليه وسلم، ولم أجد من تكلم على ذلك بما فيه الكفاية.
وإذا كان الله يظلهم في ظله، فهناك كلام كثير للعلماء، لكنه يدور بين الحقيقة والمجاز، ومعنى الحقيقة: في ظله سبحانه، والله أعلم بكيفية تظليلهم في ظله، ولا نستطيع أن نتصور للمولى جرماً وظلاً -حاشا لله- ولكن يقولون: في ظله، أي: في عنايته، ورعايته، ورحمته، كما يقولون: فلان يعيش في ظل فلان وفي كنفه، وحملوا ذلك على المجاز بعداً عن التشبيه أو الوقوع في محظور بالنسبة للمولى سبحانه.
ونحن إذا أخذنا اللفظ على وضعه نستشعر عاطفياً وعقلياً وعلمياً أن هؤلاء السبعة يخصهم الله سبحانه وتعالى بتلك الفضيلة، وفي بعض الزيادات: (في ظله حتى يقضى بين الخلائق) ، وفي الحديث: (إن العبد في ظل صدقته يوم القيامة) ، ويمكن أن نقول: الصدقة تجسمت، أو تجسم ثوابها وتحول إلى مظلة تظل صاحبها حتى يقضى بين الخلائق، ولا يناله ما ينال عامة الناس من حرارة الشمس التي تدنو منهم فيعرقون.
إذاً: الأولى لنا أن نترك تعمق البحث في مدلول قوله: (في ظله) ، ونفوض ذلك إلى ما يعلمه المولى سبحانه، ويكفينا أن نقول: إن هذا أعظم موعظة وأعظم مرغب؛ لأنه يحاول الإنسان أن يكون واحداً من هؤلاء السبعة إن لم يجمع أكثر من صنف.(136/7)
هل يمكن أن تجتمع هذه السبع الخصال في رجل واحد؟
وهل يمكن للإنسان أن يجمعها؟ لا مانع من ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أبواب الجنة الثمانية فقال: (من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب: يا عبد الله! هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام -وهو باب الريان- فقال أبو بكر: ما على الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة.
فهل يدعى أحد منها كلها يا رسول الله؟! قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر!) والحديث متفق عليه عن أبي هريرة.
وهناك حديث آخر: (إذا توضأ المسلم فأسبغ الوضوء، ثم تشهد فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء) .
وفي الحديث المتقدم نجد الصديق يسأل: هل يمكن أن تجتمع في فرد واحد موجبات عدة؟ قال: (نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر!) ، ولا شك أنه أولى الناس وأولهم سبقاًَ إلى الجنة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه الأصناف السبعة المذكورة في الحديث اجتمعت في نبي الله يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام؛ لأنه ذكر عنه أنه في شبابه نشأ في طاعة الله، وذكر الله عنه أنه دعته امرأة ذات منصب وجمال: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23] ، وذكر عنه أنه كان يتصدق، حتى قال بعض المفسرين في قوله تعالى: {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:77] : كذبوا والله، بل كان يأخذ الطعام ويتصدق به سراً، وكان إماماً عادلاً، وكان محباً للخلق، ملازماً للمساجد، ذاكراً لله، قالوا: اجتمعت هذه في نبي الله يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة السلام، ولم يذكروا غيره، مع أنه ليس من أولي العزم من الرسل.
ولم يذكر لنا تاريخياً أن أحداً من الأنبياء الكرام امتحن بما امتحن به يوسف في قضية امرأة العزيز، فلما اختص بهذه القضية كان أدعى لأن يصفوه بأنه هو الذي اجتمعت فيه الخصال الواردة في هذا الحديث، ولا حرج فهذا فضل الله، ولا نستبعد أن الله سبحانه يكرم بعض الشباب الذين أودعهم الله هذا السر، فينشأ في عبادة الله مع إخوانه أو مع أهل بيته، ثم يكون أيضاً عفيفاً، ويبادر أهله بزواجه مبكراً، ويكون محباً للمساكين يتصدق ويخفي صدقته، ويكون قلبه معلقاً بالمساجد، ثم إذا ولي أمراً كان عادلا ً فيه، لا حرج فهذا فضل الله.(136/8)
اهتمام الإسلام بالشباب
أشرنا إلى أن هذا الحديث المبارك قد شمل طبقات المجتمع، فبدأ بـ (شاب نشأ في عبادة الله) ؛ لأن الشاب غداً يصير رجلاً، ويصير متعلق القلب بالمساجد، وقد يكون إماماً.
إذاً: البداية من الشباب، ولذا وجب الاهتمام والعناية بشباب الأمة، والمتأمل في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية يجد العناية بشباب الأمة عجيباً جداً، وسبق أن قدمنا محاضرة في ذلك، وقلنا: إن الإسلام قد عني بالشباب قبل وجودهم إلى الدنيا؛ فمهد لوجودهم بالعناية الكاملة.
و (الشباب) : هو النشيط من كل كائن حي، سواء كان من الحيوانات، أو الإنسان، أو الطيور، ومنه قولهم: شبت النار، إذا ارتفعت وعلت بعد الضعف.
ومن عناية الإسلام بالشباب أنه بدأ بالحث على اختيار الزوجة التي تنجبه، ففي الأثر: (تخيروا لنطفكم؛ فإن العرق دسَّاس) ، ثم وضع الإسلام منهج بناء الأسرة الإسلامية في قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه) ، فبناها على أساس من الدين والتقى والصلاح.
وقال: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها؛ فاظفر بذات الدين تربت يداك) متفق عليه عن أبي هريرة، فذكر من المرغبات حسب الجبلة: حسب، نسب، جمال، دين، ثم قال: (فاظفر بذات الدين تربت يداك) ، والقرآن الكريم حث كذلك على اشتراط الإيمان: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة:221] ، إذاً: عني الإسلام بالشاب قبل مجيئه بحسن بناء الأسرة، والتقاء الأبوين على مبدأ الإيمان.
ثم راعى أول لقاءٍ بين الأبوين بأن يبدأ بذكر الله، فيضع الرجل يده على ناصيتها ويقول: (اللهم! إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ماجبلتها عليه) ، ومع المباشرة يقول: (اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا) ، فإذا ظهر الحمل؛ أعفيت من كثير من التكاليف حفظاً لهذا الحمل، فسمح الشرع لها أن تفطر إن كان الصيام يضر بها أو بجنينها: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] .
وأول ولادته يقابل بذكر الله: الأذان في اليمنى، والإقامة في اليسرى، ثم يعق عنه يوم سابع الدورة الأولى من حياته؛ لأن الدورة الزمنية للطفل عند الأطباء أسبوع، ولهذا يقدرون الحمل بكذا أسبوع لا بالشهر، فإذا أكمل الدورة الزمنية الأولى وهي أسبوع كان له شأن آخر: عق عنه، وأزيل عنه الأذى، واختير له الاسم الطيب، ثم بعد ذلك يكون موضع العناية والرعاية حتى إكمال إرضاعه؛ سواء اتفق الأبوان أو اختلفا، فلزم الأب بالإنفاق عليه فيما يحتاج إلى الفطام، ولا يعجل عليه حتى يتم حولين كاملين.
ثم ينشأ إلى حد التمييز فيعلم الإسلام، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( {مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع) رواه أحمد وأبو داود.
والشاب الذي نشأ في عبادة الله قطعاً لا يكون على رأس جبل، ولا في وسط أمة كافرة، ولا في وسط أمة مهملة، بل لابد أن تكون نشأته في موطن إسلامي، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه) ، ومن هنا إذا نشأ الشاب في مجموعة من الشباب الخيرين فلابد أن يؤثر عليه محيطه، ومن هنا يتحتم على الأبوين تعليمه صغيراً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم راعى ذلك، فـ عمرو بن أبي سلمة لما جلس يأكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلت يده تطيش في الصحفة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا غلام! سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك) ، ولم تخرج آداب المائدة عن هذه الكلمات: (سم الله) ، أي: اشكر الله على النعمة، وقل باسم الله تنفعك ويبارك لك فيها، وتؤدي شكر المنعم عليك بهذه النعمة.
(وكل بيمينك) وكما يقولون: اليمنى للمكرمات، والأخرى لبقية الحاجات.
(وكل مما يليك) : ليس من هنا ومن هنا، إذ هي إساءة أدب.
فتعين على الأبوين أن ينشِّئا صغيرهما على تعاليم الإسلام، ولا يكون إلا إذا كان الأبوان مسلمين متعلمين عالمين بحق هذا الطفل الذي هو ضيف عليهما، أما إذا كانا هما في حاجة إلى من يعلمهما؛ ففاقد الشيء لا يعطيه، ومن هنا كانت العناية بالتعليم بصفة عامة هي سيما الإسلام، فالإسلام دين العلم والتعليم، ويكفي أن أول الوحي على النبي الأمي قوله سبحانه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5] ، نبي أمي لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، وخوطب أول ما خوطب بالوحي بالعلم والتعلم! إذاً: هذه الرسالة رسالة علم قبل كل شيء.
(شاب نشأ في عبادة الله) : فالأبوان عليهما المسئولية الأولى، وهذا الشاب الذي نشأ في عبادة الله إنما كان بأثر الأبوين أولاً، ثم المجتمع.
نرجع إلى لفظ الحديث؛ لأن ترتيب أصناف الحديث -فعلاً- ترتيب مبني على ارتباط النتائج بأسبابها.(136/9)
أهمية الإمام العادل للأمة
أول هؤلاء السبعة: الإمام العادل، وفي بعض الروايات: (إمام عدلٌ) ، وفي روايات أخرى: (إمام عادل) .
العادل: هو الذي يسوي بين المتفقين: كالزوجين، والخصمين، والشريكين، والصنفين، في القسمة بالوزن والكيل؛ هذا عادل، وهذا الوصف من العدل أو من العدالة يتفق فيه المسلم والكافر؛ لأننا نجد ولاة من غير المسلمين يحكمون بالعدالة في شعوبهم، ونجد معاملات عديدة من غير المسلمين تتصف بالعدالة، وقال صلى الله عليه وسلم حينما وجه أصحابه إلى الحبشة: (لو خرجتم إلى الحبشة؛ فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجاً) ، وكان النجاشي على دين النصارى، لكنه عادل ذو مروءة، إذاً: تلك الأخلاق يتفق فيها الجميع.
على رواية: (إمام عدل) ، فالعدل: هو من اكتملت فيه أمهات الأخلاق الفاضلة فهو متصف بالصدق، بالأمانة، بالورع، بمخافة الله، بفعل الخير، لا يحابي أحداً على الآخر، فهو عدل في ذاته، قال الله عز وجل: {وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] ، أي: ذوي صدق وأمانة ووفاء.
وهذا الإمام العدل: أتظنون أن يكون عادلاً أم غير عادل؟ أيكون عادلاً في حكمه أو يكون جائراً؟ لابد أن يكون عادلاً، ولكن العادل في حكمه، هل يكون عدلاً في ذاته أم لا؟ لا يلزم ذلك؛ فقد يكون كافراً أو فاسقاً، ولكن يضطر إلى العدالة في الحكم ليبقى ملكه، قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: الملك يدوم مع العدل ولو لكافر، ولا يدوم مع الظلم ولو لمسلم، والظلم ظلمات يوم القيامة.
إذاً: هذا اللفظ جمع الصنفين: (إمام عادل) أي: في حكمه، (إمام عدل) أي: في شخصه، وبالتالي سيكون عادلاً في حكمه، وإذا كان الإمام عدلاً تقياً زاهداً فيما بأيدي الناس، ورعاً يخشى الله، تقياً في أعماله، مصلياً صائماً مزكياً حاجًّا بيت الله، يخاف الله في كل تصرفاته، هل سيقر ظلماً في ملكه؟ هل يقر فسقاً أو أية أعمال مخلة بالدين؟ الجواب: لا، بل سيعمل على أن تكون الرعية مثاليةً في حياتها، وفي أعمالها، ولن يقبل من أحد أن يخرج عن قانون العدل.
إذاً: سيعمل على إصلاح الجميع، وسيقيم شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وستكون الأمة في ظله أمة مثالية، ونحن وجدنا مصداق ذلك في صدر الإسلام بعد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وذلك فيما كان عليه الناس في خلافة أبي بكر وخلافة عمر استدعى أبو بكر رضي الله تعالى عنه عمر فقال: يا أخي! أعني في بعض المهام، قال: وما تريد؟ قال: تتولى القضاء بين الناس؛ لأن القضاء من مهمة الإمام، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قاضياً، وقال لبعض الصحابة: (اكفني مئونة بيت المال) ، فقام عمر وتولى القضاء، ومكث سنة كاملة أو أكثر، ثم جاء إلى أبي بكر، وقال: خذ عملك، قال: ولِمَ أتعبتَ؟ قال: ما تعبت، ولكن من يوم أن وليتني القضاء ما جاءني أحد! أمة عرف كل واحد فيها ما له فأخذه، وما عليه فأداه.
فرد عمر القضاء على أبي بكر لعدم وجود متخاصمين، فكانت الأمة بهذه المثابة؛ لأنها تخرجت من مدرسة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتولاها أبو بكر رضي الله عنه من بعده، وسارت على المنهج الأول.
فإذا كان الإمام عدلاً عادلاً فإن الأمة كلها على خير، وكما يقال: الناس على دين ملوكهم، وهذا من نتائج عدالة الإمام في ذاته، وعدله في رعيته، وإقراره للحق وإبطاله للباطل، ونشره للفضيلة، وقضائه على الرذيلة.
قال أحد الناس: كنا نمشي بعد العشاء بمسافة قليلة عن باب المسجد، وثمة أشخاص جالسون ممن انقطعوا لذكر الله، فقال لي أحد رفاقي: يا فلان! تعرف أهل الجنة؟ قلت: ما رأيتهم حتى الآن! قال: هؤلاء ما بينهم وبين الجنة إلا الموت؛ لا يظلمون أحداً، ولا يسرقون أحداً، ولا يعتدون على أحد، مكتفين بذكر الله، وما يسر الله لهم من لقمة العيش، وهم كبار في السن، فقد كان الناس في السابق بعيدين عن المشاكل وعن اقتراف المظالم.
ففي ظل الإمام العادل العدل لابد أن ينشأ الصغير على عبادة الله، وكذلك يكون الكبير على الطاعة والامتثال وعبادة الله.(136/10)
شمول الأمانة لكل عمل وتكليف
وقد بيَّن المولى سبحانه والرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه أن هذا الإمام العادل تجب طاعته، فإذا خرج عن العدالة، وخرج عن منهج القرآن والسنة النبوية؛ فلا طاعة له، كما قال الصديق: (أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم) .
ومن مبادئ المنهج الإلهي في الدولة الإسلامية قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58] ، الأمانات: جمع أمانة، وليست مقصورة على الوديعة التي تودعها أمانة لدى جارك أو صديقك أو أي إنسان ترتضيه، بل كل التكاليف أمانة، فمن الأمانة العبادة بينك وبين الله، كما قال بعض المفسرين في قوله سبحانه: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:10] ، قال: ما ائتمنوا عليه غيباً كصحة الوضوء من الحدث، والغسل من الجنابة، فهي أمانة في عنق كل إنسان بينه وبين الله.
والإمام مالك: في مسألة أكثر الطهر وأكثر الحيض وأقله قال: إن الله قد وكل أمر النساء إليهن، يشير إلى قوله: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة:228] ؛ لأن هذه أمانة بينها وبين الله.
ومن الأمانة وضع الأستاذ الدرجات للطلاب، فالأستاذ حاكم: يعطي هذا خمس درجات، وهذا ستاً، وهذا سبعاً، وهذا كذا يحكم على هذا بالنجاح، ويحكم على هذا بالإعادة؛ فهذه أمانة، فتدريس الأستاذ في الفصل أمانة، فلا يعتني بجماعة ويهمل جماعة، ولا يجيب سائلاً ويترك آخر، وتصحيحه للأوراق أمانة.
والإنسان في بيته مسئول كغيره: (كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته) ؛ لأن الرعية أمانة، فالله يأمركم أن تؤدوا الأمانات، وهي عامة، وأهم أمانة: (الحكم) ؛ لأن الحاكم في الإسلام ليس فوقه إلا الله، وليس لأحد في دولة مسلمة سلطان على القاضي المسلم إلا سلطة المولى سبحانه، كما يسمى حاليًّا (حرية واستغلال القضاء) .
وقوله: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58] ، أي: سواء بين اثنين أو حكم في أمة.(136/11)
وجوب طاعة الإمام بالمعروف
ثم قال الله سبحانه وتعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] ، فيأمر الله الحكام والمسئولين بأداء الأمانة والحكم بالعدل، ويأمر الرعية بالسمع والطاعة: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ) ، وهنا جاء فعل الأمر بالطاعة مكرراً: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) فأبرز فعل الطاعة مع لفظ الجلالة ولفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما أولو الأمر فلم يقل: (وأطيعوا أولي الأمر) بل قال: (وأولي الأمر) ؟ وفي هذا إشارة إلى أن الطاعة أساساً لله ولرسوله، أما أولو الأمر فطاعتهم تبع لذلك، أي: فإن أطاعوا الله وأطاعوا الرسول فأطيعوهم، وإن لم يطيعوا الله ولم يطيعوا الرسول فلا طاعة لهم.
إذاً: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58] موجهٌ للحكام، وقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] موجه للأمة لتوثيق ارتباطها بالحكام، فالإمام العادل له حق السمع والطاعة، وغير العادل الذي خالف الكتاب وخالف السنة ليس له ذلك الحق، لكن بشرط أن تكون المخالفة كما بينها صلى الله عليه وسلم: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان) .
فلو كان الإمام عدلاً ونقص عن العدالة شيئاً ما، كارتكاب بعض الصغائر والتقصير في بعض الواجبات التي لا تبلغ به حد الكفر فطاعته واجبة.
أما إذا ارتكب ما يعتبر ردة عن الإسلام؛ فلا طاعة له، ولا كرامة! كأن يشرع ما يخالف الإسلام، وكذلك إذا عطل حكماً في الإسلام، فهذا لا طاعة له: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) ، وقد أشرنا أن الصديق رضي الله عنه قال: (وُلِّيْتُ عليكم ولست بأفضلكم، فأطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم) ؛ لأن طاعته فرع عن طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فإذا وجد الإمام العادل في الأمة فالأمة كلها بخير؛ لأن عدله وعدالته ستأخذ الأمة إلى الصراط السوي، وتمنع من يجنح يميناً أو يساراً، ولا يسمح لأحد بتجاوز حدود الله، ولا يعطل حداً من حدود الله، ولا يحكم بشيء يخالف أوامر الله؛ ولذلك قالوا: الإمام العادل ظل الله في أرضه، وقالوا: عدل ساعة خير من عبادة ستين سنة، وإقامة حدٍ من حدود الله في الأرض خيرٌ لأهلها من أن يمطروا أربعين يوماً.
إذاً: إذا وجد الإمام العادل كان هناك الخير كل الخير، وقد جاء عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: لو علمت أن لي دعوة مجابة عند الله لجعلتها للسلطان؛ لأن في صلاحه صلاح الأمة.
وفي سير الملوك والأمراء وولاة الأمر نجد القيام بالعدل وبالعدالة وإن لم يكن عادلاً في ذاته؛ كأن يكون فيه جرح وتقصير، لكنه عادلٌ يقيم شرع الله، ولا يسمح بما يخالف كتاب الله، فهذا فيه البركة.
إذاً: (إمام عادل) : هو المبدأ، وفي مظلة عدالته ستنتشر الفضائل، وتختفي الرذائل، وفي هذا المجال ستنشأ الناشئة على عبادة الله.
وكلمة: (عبادة الله) ، ليس معناها مجرد المساجد، ولا مجرد الصلاة، ولا مجرد الصيام، وإنما العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، يقال: طريق معبد، أي: مذللٌ مسهل، فالعابد هو المطيع الملتزم، والشاب الذي نشأ في عبادة الله، ونشأ على السمع والطاعة وعلى مكارم الأخلاقخ؛ إنما هو أثر من آثار عدالة الإمام.(136/12)
نموذج للعدالة الإسلامية
في الواقع أن الحديث عن جوانب عدالة الإمام والأمثلة على ذلك مما نقرؤه في التاريخ من بعد الخلفاء الراشدين رضوان الله تعالى عليهم، يضيق المقام عن أن نسرده في جلسة أو في ناحية، وقد أشرنا إلى ذلك بقدر ما توصلنا إليه في تلك الرسالة التي جمعناها بعنوان: من يظلهم الرحمن في ظل العرش.
والعدالة التي قرأنا عنها في زمن الصحابة -خاصة في باب القضاء- فيها نماذج عجيبة، ومما يذكر وكيع في أخبار القضاة: أن شريحاً وكان قاضياً بالكوفة في خلافة علي رضي الله تعالى عنه؛ دخل عليه علي وهو الخليفة، ومعه يهودي يخاصمه في درعه، فقال القاضي: ما تقول يا يهودي؟! قال: هو درعي، وفي يدي، فقال شريح لـ علي: ما بينتك على أن هذا الدرع لك؟ قال: الحسن بن علي وقنبر، قال: أما قنبر فنعم؛ لأنه مولاه، وأما الحسن فلا نقبل شهادته لك، قال: ويحك يا شريح! أما سمعت أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: (سيدا شباب أهل الجنة الحسن والحسين) ؟ كيف ترفض شهادة سيد شباب أهل الجنة؟ قال: لا أرفضها؛ لكنها تُرفض إذا كانت لك أنت؛ لأنه ولدك! انظروا إلى هذه المواجهة! ثم قال: هل لك شاهدٌ آخر؟ قال: لا، قال: إذاً: اذهب -يا يهودي- بدرعك، فخرج علي وحينما وصل إلى الباب استوقفه اليهودي، وقال: قف يا علي! والله إن الدرع لدرعك، كان على راحلتك فسقط فأخذته، وأنا أنكرتك فيه لتذهب بي إلى القاضي؛ لأنظر كيف يفعل قاضي المسلمين مع يهودي، أما والحال كذلك فخذ درعك، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ففرح بذلك علي؛ لأن دعواه كانت غير ثابتة، أما الآن فصدقه في دعواه، فقال: الدرع لك ومعه مائتا درهم! فأية عدالة بعد هذا؟! يوجد نماذج كثيرة -يا إخوان- ويكفي التنويه، ونحيلكم على بعض النماذج في تلك الرسالة التي أشرنا إليها، وبالله تعالى التوفيق.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.(136/13)
كتاب الزكاة - باب صدقة التطوع [2]
الإسلام دين رحمة ورأفة، وقد حث الأغنياء على مواساة الفقراء والمحتاجين بالصدقة، وجعل الصدقة عامة في كل ما يسد الحاجة، ورتب على ذلك عظيم الأجر، بل ربما كانت صدقة التطوع في بعض الأحوال خيراً من صدقة الفرض.(137/1)
المسلم في ظل صدقته يوم القيامة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (كل امرئٍ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس) رواه ابن حبان والحاكم] .
هذا الحديث ضمن معنى الحديث الأول؛ لأن الحديث الأول: (سبعة يظلهم) وهنا: (المرء في ظل صدقته) ، فالحديثان متفقان في المعنى في هذه الجزئية.
وفي بعض روايات هذا الحديث: (المرء في ظل صدقته يوم القيامة حتى يقضى بين الخلائق) ، وقدر ذلك كما بينه الله في قوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] ، ويبين مكانة هذين الحديثين التأمل في حالة ذلك اليوم، يوم الفرار، يوم الهروب، كلٌ يقول: (نفسي نفسي) حتى الأنبياء والرسل حينما يطلب منهم الشفاعة إلى الله؛ ليأتيَ لفصل القضاء، فكلٌ يعتذر ويقول: (نفسي نفسي؛ إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله) ، ويعتذر بما كان منه في دنياه، وهم رسل معصومون، ولكن الموقف فوق المستوى العادي، فكل يحيل إلى الآخر، حتى يصلوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتكون الشفاعة العظمى التي يشفع فيها لأهل الموقف جميعاً بما فيهم الأنبياء والرسل.
وهذا اليوم وصفه الله بقوله: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] ، فتأتي الصدقة التي أراد بها صاحبها وجه الله، فأخفاها عن المتصدق عليه، بل أخفاها عن نفسه هو، حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله؛ تأتيه في ذلك اليوم وتظله، وهو يوم لو كانت الدنيا بكاملها تحت يديه كما كانت تحت يد ذي القرنين؛ لفادى نفسه بعشرات أمثالها في ذلك اليوم، ولكن لا ينفع ذلك، والدنيا مزرعة الآخرة.
ولهذا مر الحسن على رجل يعظ الناس بالتزهيد في الدنيا، فقال: على رسلك، وهل تحصَّل الجنة إلا بالدنيا؟! وهل يتصدق المتصدقُ إلا من الدنيا؟! وهل ينفق في سبيل الله إلا من الدنيا؟! عليك أن تزهد في الحرام منها، أما الحلال فكلنا يعلم أن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه مون جيشاً بكامله، وابن عوف تصدق بقافلة من الإبل وما تحمل، والرسول صلى الله عليه وآله سلم يقول: (لو أردت أن تسير خلفي الجبال ذهباً لفعلتُ!) .
إذاً: يتحرى الإنسان الحلال، ويتحرى من يتصدق عليه من كرام الناس ذوي الحاجة؛ من الذين تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً كما قال تعالى: {لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:273] ، والكلام في هذا الصنف طويل، ويكفينا هذا القدر، وبالله تعالى التوفيق.(137/2)
الجزاء من جنس العمل
قال المؤلف: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أيما مسلم كسا مسلماً ثوباً على عريٍ كساه الله من خضر الجنة، وأيما مسلم أطعم مسلماً على جوعٍ أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مسلم سقى مسلماً على ظمأٍ سقاه الله من الرحيق المختوم) رواه أبو داود، وفي إسناده لين] .
في إسناده لين أو ضعف!! الحديث عليه رونق النبوة، وله حلاوة في السماع، ويرتاح القلب إليه، وهو واقع طبيعي: (من كسا مسلماً على عريٍ كساه الله من خضر الجنة) ، فالجنة كبيرة، وخضر الجنة ليست قميصاً ولا ثوباً، بل هي حلل مقابل أن تكسو مسلماً على حاجة.
ودرهم قد يسبق مائة ألف درهم من الناس، لأنه ليس عنده إلاّ درهمان فتصدق بواحد، وهذا كسا إنساناً على عريٍ، وليس معناه أنه مكشوف العورة يمشي بين الناس عارياً، وإنما: ليس عنده من الثياب ما يكفيه، كالرجل الصحابي الذي زوجه الرسول عليه الصلاة والسلام بالمرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، قال: (فماذا تصدقها؟ قال: أصدقها ردائي، قال: فإن أعطيتها رداءك جلستَ ولا رداء لك، اذهب والتمس شيئاً، فذهب فلم يجد شيئاً، فقال: التمس ولو خاتماً من حديد) ، فهذا عنده رداء فقط، فهل يعتبر عارياً؟ نعم يعتبر عارياً، وأعتقد أنه لا أحد من هؤلاء الموجودين إلا وعنده أكثر من خمسة أثواب، فضلاً عن الفنايل والسراويل وغيرها.
فقوله: (كسا مسلماً على عري) : يعني أنه يستر عورته بصعوبة، فيأتيه بثوب، وهذا بيان لتنوع الصدقة، وأنها لا تتوقف على ما يطعم الفم، وإنما هي بحسب حاجة الإنسان، فكل من له حاجةٌ لشيء تتصدق عليه به، لو كان عندك بيوت كثيرة وتصدقت على عائلة بأن تُسكنها في دارك فذلك أعظم من أن تكسو واحداً من الأسرة بثياب.
إذاً: التنبيه بالأدنى على الأعلى، فلو أن واحداً يكد على عياله، ويحتاج إلى مواصلات، وعندك عدة سيارات، وقلت: هذه السيارة تساعدك على عملك، لأن عملك بعيد، فخذ هذه السيارة؛ فهذه صدقة عظيمة، وهكذا كل ما يمكن أن تقدمه لإنسان: سواء كان في الملبس أو في المطعم.(137/3)
فرح الفقير بالصدقة
قوله: (وأيما مسلم أطعم مسلماً على جوعٍ أو سقاه على ظمأ) : كل هذا يقدمه إليه؛ لأن العاري حينما يأتيه ثوب يفرح به فرحاً عظيماً، ولو كان هذا الثوب لا يعادل عند الأغنياء المال الكثير، والغني لو جاءته حلة -بدلة-، أو حتى خمسة أثواب أو عشرة لم يفرح، ولا يكون لها الوقع والحلاوة واللذة مثل هذا الثوب الذي يهدى لهذا العاري؛ لأنه في أمس الحاجة له.
وكذلك الجائع إذا اشتد به الجوع تختلف حاله عن حال شخص منعم في قصره، ولديه جميع الأطعمة، ولو قدمت إليه مائدة مكتملة بكل أنواع الأطعمة والفواكه، فما قيمة هذا عند صاحب (العمارة) التي فيها كل ما تشتهي النفس؟ لذا تجد بعض الأغنياء يأتي إلى موائد الأفراح، وفيها ما لذ وطاب، والبعض منهم يخرج وهو يقول: والله! لو كان فيها كذا أو كذا، كالكاره لتلك المائدة؛ لأن عنده في البيت مثل هذا، لكن المسكين لو حصل على صحن بيض من هذه المائدة، وأشبع جوعته؛ فإن فرحه يساوي الفرح بالعرس كله! ولذا جاء في حديث الموائد: (شر الطعام طعام الوليمة؛ يدعى إليه من يأباه، ويمنعها من يأتيها) ، فالجوع يدفعه فيأتي إليها طمعاً في أن يشبع جوعه، فيقال له: تنح عن الناس، تنح عن الطريق!! يا سبحان الله! والله -يا إخوان- حدثت حادثة مع بعض الإخوان، وقد كانت هناك خطة لتصريف الأطعمة التي في موائد الأفراح، فيذكر لي الشخص الذي كان يقوم على ذلك، أنه كان يأخذ القدر بما فيه بالسيارة، ويأتي إلى محل فيه فقراء، ويقف ويقول: أحضروا قدوراً وصحوناً، ويقسم بالله! إن البعض منهم كان لا يجد صحناً ولا قدراً! ويأتي بورقة كيس الإسمنت ويقول: ضع لي في هذا، فما قيمة هذا الذي سيضعه له في ورقة كيس الإسمنت مع شدة جوعه؟ وهذا قدر فايض عن حاجة الذين شبعوا وزاد عنهم، فيأتي إلى أولئك الفقراء، ويوزع عليهم، فيأتيه شخص -امرأة أو رجل- بورقة كيس الإسمنت، ويقول له: ضع لي فيها!!(137/4)
استحباب البحث عن المساكين لإعطائهم الزكاة
وقد سألني سائل من قبل عن زكاة الفطر: هل ندفعها لمؤسسة أم لا؟! فقلنا: إن هذا يفقدك فضيلة البحث والتفتيش عن المحتاجين حقاً، والتعايش والتعاطف معهم؛ لأنك بعيد عنهم، أما إذا خالطت وفتشت فسيظهر لك الشيء الكثير، وستجد المتعة الروحية في أنك تقدم لمستحق لا يعلم أحد عنه.
وهذا الحديث يدعو إلى تحري المحتاج، سواء كان عارياً فتكسوه، أو جائعاً فتطعمه، أو ظمآن فتسقيه.
وما هناك أعظم أجراً من سقي الماء، كما في قصة سعد بن عبادة لما توفيت أمه، وهو غائب في غزوة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما جاء سأل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (يا رسول الله! إن أمي ماتت، أفأتصدق عنها؟! قال: نعم، قال: فأي الصدقة أفضل؟ قال: سقي الماء.
قال: فتلك سقاية أم سعد بالمدينة) .
وجاء أنه قيل لها: تصدقي أوصي، قالت: المال لـ سعد، وماذا أوصي؟ وأن سعداً قال: (يا رسول الله! أينفعها إن تصدقت عنها؟! قال: نعم، قال: وما خير الصدقة؟ قال: سقي الماء) ، فكانت سقاية أم سعد معروفة في المدينة، وكانت إلى عهد التابعين.
وحبذا لو أخذت ثلاجة تبريد وجعلتها في مسجد من المساجد، وليس بلازم أن يكون مسجداً، فلك أن تجعلها في ملتقى شوارع، أو في ميدان، أو في منطقة ليس لأهلها ثلاجات في بيوتهم، فإذا جئت بهذه البرادة، واتفقت مع صاحب بيت بجوارها أنك تدفع له كلفة الكهرباء والماء شهرياً، بشكل تقريبي بقدر ما يستهلكه في بيته لكان خيراً، وما الذي يمنع من أن يشترك اثنان أو ثلاثة في برادة واحدة؟! فسقي الماء أثره وأجره عظيم جداً.(137/5)
حكم الصدقة على الحيوانات والكافر غير الحربي
وسقي الماء للحيوان فيه أجر، فيه أجر، فامرأة دخلت النار في هرة حبستها ولم تطعمها، وامرأة بغي دخلت الجنة في كلب سقته، كانت تمشي في الطريق واشتد عليها الظمأ فوجدت بئراً، فنزلت فشربت، فخرجت فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من شدة العطش، فقالت: يا ويلتاه! لقد بلغ به الجهد من العطش مثلما بلغ بي، فخلعت خفها، ونزلت البئر وملأته وأمسكته بفمها حتى صعدت، وسقته الكلب، فشكر اللهَ فشكر اللهُ لها، أي: الكلب شكر اللهَ على أنه شرب، أو أن الله شكر لها صنيعها فغفر لها.
وفي الحديث: قالوا: (ألنا في البهائم أجر يا رسول الله؟! قال: في كل ذي كبد رطب أجرٌ) ، حتى الكافر، إذا كان معك زيادة ماء، ووجدت كافراً يموت عطشاً وليس حربياً، فاسقه، فإذا كنا نؤجر في الحيوان ألاَ نؤجر في الإنسان؟! والله سبحانه وتعالى أعلم.
والمتأمل لحالة المتطوع بالصدقة لربما وجده أفضل من فاعل الواجب للزكاة؛ وإن كان الواجب أفضل من النافلة، إلا أن مخرج الزكاة إنما يخرجها عن غنى، لأنه امتلك نصاباً، وبقي عنده النصاب عاماً كاملاً لم يحتج إلى شيء منه، ثم إنه يخرج الزكاة ووراءه من يطالبه بها، وفي الحديث: (من أداها طيبة بها نفسه فبها ونعمت، ومن منعها أخذناها وشطر ماله) .
أما المتطوع فليس هناك من يلزمه، وقد لا يكون مالكاً نصاباً ولا نصف نصاب، فقد يتبرع أو يتطوع بما في يده، فصدقة التطوع يفعلها طاعة لله ابتداءً من نفسه، وإن كانت أيضاً الزكاة المفروضة إنما يخرجها طاعة لله، لكن الزكاة فيها إلزام، وأما التطوع فلا إلزام فيه، إنما هو من دوافع نفسه ويقينه بالله بأنه سيعوضه عن ذلك، وتقدم في الحديث الأول: (سبعة يظلهم الله -وفيه:- ورجل تصدق بصدق فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) ، وهذا بيان لفضل الصدقة وأنها تكون مدعاة أو مستوجبة لأن تجعل صاحبها في ذلك الموقف العظيم وفي تلك النعمة؛ حينما يلجم الناس العرق، وتدنو الشمس من الرءوس، فيكون المتصدق في ظل عرش الرحمن بسبب الصدقة الخفية، وفي الحديث الذي بعده: (المرء في ظل صدقته يوم القيامة) .
فمُخْفِي الصدقة يظلل بعرش الرحمن، ومن آداب الصدقة في كتاب الله إخفاؤها والتلطف بها، وإبداء المعروف معها، وحفظ كرامة المسكين، فيكون المتصدق لطيفاً عفيفاً كريماً يراعي حرمة الإنسان الذي أعوز المال، وقد بيّن سبحانه ذلك فقال: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة:264] ، وقال: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً} [البقرة:263] ، وكان بعض السلف يرى للمسكين الذي يقبل صدقته فضلاً عليه؛ لأنه يكون سبباً في حصوله على مرضاة الله، وعلى مضاعفة ماله والزيادة فيه، فينبغي على الإنسان أن يتحرى، وأن يبحث، وأن يتعرف على مستحقي الصدقة أولاً.
وقوله: (أيما مسلم كسا إنساناً على عريٍ) أعتقد أنه لا يوجد إنسان يمشي في الطريق عريان؛ لأن هذا ممنوع ومحرم، وكان بعض السلف إذا لم يكن عنده إلا ثوبٌ واحد فإنه إذا احتاج إلى نظافته، يغسله ويبقى في البيت إلى أن يجف الثوب فيلبسه، وقد سمعت قصةً -لو صحت هذه! وحاولت بكل جهد أن أصل إليها، ولكن للأسف لم أصل- وهي: أن طالبين كانا في مدرسة واحدة، وفي فصل واحد، وهما توأمان، يحضر أحدهما يوماً، ويغيب الآخر، ثم يحضر من غاب، ويغيب من حضر وهكذا، فعنفهم المدير، وضربهم، وهم يعتذرون: سنأتي لن نغيب، ويتعللون، ولما كثر عليهما الإيذاء والكلام صارحا المدير، وقالا: نحن نصارحك فيما بيننا وبينك فقط، نحن أخوان لا نملك إلا ثوباً واحداً، يأتي به أحدنا، ويجلس الآخر عريان في البيت، فإذا كان الغد تبادلنا الثوب.
فإذا كان الناس بهذه المثابة، ويثابرون على طلب العلم والدارسة، فهذه صورة من كسا مسلماً على عري، فلا يخرج المرء إلى الطريق عارياً، ولا يفعل ذلك إلا المجانين، ولكن تصدق على من كان ذا قلة، وهو من أحوجته الثياب وأحوجته الكسوة، بعض الناس في الحالة العادية ربما عنده الخمسة والستة والسبعة الأثواب، وأتباعها مما تحت الثياب، وقد يكون الشخص ذا ثوبٍ واحد.
وقد قرأنا في تاريخ عمر رضي الله تعالى عنه: أنه كان يرقع قميصه، بل تأتي الرقعة فوق الرقعة، وفي قصة ذهابه إلى بيت المقدس ليستلم مفاتيح المدينة أنهم قالوا: إننا وجدنا في كتبنا أن نسلمها إلى رجل صفاته كذا وكذا، فكتب إليه القواد بذلك، وذهب ومعه خادمه، وكانا يتعاقبان في الركوب، يركب أحدهما ويمشي الآخر، ثم يمشي من ركب منهما ويركب الآخر، فلما دنا من بيت المقدس لقيه الأمراء، وقالوا: يا أمير المؤمنين! إنك تلبس هذا القميص المرقع، وتقدم على غير العرب، وهم يفخرون بالثياب، ويخدعون بالمناظر، دعنا نكسوك قميصاً، فقدموا له قميصاً من الكتان، فلما لبسه نزعه وقال: ردوا عليَّ قميصي، قالوا: فاسمح لنا أن نغسله لك؟ قال: لا بأس، فغسلوا له قميصه المرقع، وكانوا لا يريدون أن يقدم على غير المسلمين بذلك اللباس، وجاءت نوبته في المشي فقال له الخادم: اركب أنت! لقد وصلنا إلى القوم، ولا ينبغي أن نقدم عليهم وأنا راكب، وأنت تقود البعير، فاركب أنت لأنك أمير المؤمنين، قال: لا، هذا حقك، ولابد أن تستوفيه، وكان من فائدة ذلك أنه حينما قدم عليهم قالوا: نعم، هذا الوصف الذي رأيناه عندنا: قميصه مرقع، ويخدم خادمه! أيها الإخوة: ربما يكون الإنسان في حاجة ماسة ولا يعلم حاله إلا الله، وأقول: إن الذي يعرف حقيقة صدقة التطوع هو الفقير؛ لأنه يحس بحاجة أخيه الفقير، أما الأغنياء فهم في حال حسنة، وربما لا يشعرون بغيرهم، وقد قيل: إن السر في صوم نبي الله داود يوماً وإفطاره يوماً أنه سئل عنه فقال: أما اليوم الذي أصوم فيه فأجوع وأتذكر المساكين، وأما اليوم الذي أفطر فيه فأشبع فأشكر نعمة الله عليَّ، وهكذا هنا: (أيما مسلم كسا مسلماً على عري) يعني: أنه فتش، وتحرى، ووجد من يستحق.
إذا كان بيدك قميص تريد أن تتصدق به، فهل تعطيه لمن يجر ثوبه خيلاء، أو لمن يلبس الحرير والكتان؟! أو لمن تكاثرت لديه الملابس، أو على إنسان في برد الشتاء يتأثر بالبرد، ويحتاج إلى هذا الثوب؟ لا شك أنك تبحث عن صاحب الحاجة وتقدمه إليه، وكما قيل: إن الصنيعة لا تعد صنيعةً حتى يراد بها طريق المصنعِ يعني أن توضع في محلها، ومن هنا بيّن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ما يعامل به هذا النوع من الناس: كساه الله من حلل الجنة، أو من خضر الجنة، والجزاء من جنس العمل.
(وأيما مسلم أطعم مسلماً على جوعٍ أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مسلم سقى مسلماً على ظمأٍ سقاه الله من الرحيق المختوم) : الرحيق هو أفضل أنواع الشراب، وقيل: العرب تسمي أعلى أنواع الخمر رحيقاً.
والمختوم أي: المحفوظ المعظم المكرم بخلاف الأشياء العادية التي لا تختم، فتوضع في إناء ولا يعبأ بها؛ لأنها غير كريمة أو غير ذات قيمة، أما الشيء النفيس الكريم فيحافظ عليه، ويختم عليه زيادة في العناية والحفظ.
وهكذا يبين لنا صلى الله عليه وآله وسلم أنك ما دمت متصدقاً وأخرجت الصدقة من ملككَ، وجادت بها نفسك، فانظر أين تضعها؟!(137/6)
الصدقة تعم كل ما يسد حاجة الإنسان
وفي هذا الحديث: بيان أن صدقة التطوع لا تتوقف على الدرهم والدينار، بل تعم كل ما يسد حاجة للإنسان، فعريان يحتاج إلى قميص، وجائع يحتاج إلى طعام، وظامئ يحتاج إلى شراب.
شربة الماء صدقة، وقد قيل: إن أفضل التطوع وأفضل الصدقات سقي الماء.(137/7)
فضل التصدق بالماء
كان سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه في غزاة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتوفيت أمه في غيبته، فلما جاء سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن تصدقت عنها هل ينفعها؟ وقيل: إنها كانت تكلمت في مرض وفاتها، لو تملك شيئاً لتصدقت به، أو سألوها: لو تصدقتِ؟ فقالت: المال مال سعد، وليس لي مال أتصدق به، فعلم ولدها أنها كانت ترغب في الصدقة، فسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: نعم، قال: أشهدك أن مال كذا -بستان له في المدينة- صدقة في سبيل الله، قال: في أي شيء أضعه؟! قال: (في سقي الماء) ، فكانت لها سقيا في المدينة، تسمى سقيا أم سعد.
ومن حكم العوام: اسق الماء وأنت على الماء، أي: وأنت واقف على سبيل أو جالس عند ماء زمزم، فجاء إنسان وسقيته، فهذه صدقة منك عليه، ولك فيها أجر، وكذا لو كنت على نهر وإنسان يمشي فطلب أن تسقيه، فناولته من النهر وأعطيته؛ فهذه صدقة أيضاًَ، وروي أن جبريل عليه السلام قال: (يا رسول الله! إن الملائكة لتعجب من ثواب عملين من أهل الأرض، تمنت لو أنها عملت مثل ذلك، قال: وما هما؟ قال: سقي الماء، وإصلاح ذات البين) .
وسبق -يا إخوان- أن قلنا: إذا وجدنا الحديث يجمع بين أمرين فيجب أن نفتش ما هي الرابطة بين هذين الأمرين؟ لا يمكن أن تأخذ بلبلاً يغرد وتربطه مع غرابٍ يصيح؛ لأنهما غير متناسبين، لكن عندما تأخذ بلبلاً يغرد وشحروراً يصدح؛ فهذه متناسبة، وجمع الجواهر النفيسة في عقد واحد متناسب، لكن أن تأخذ من الجواهر، وتأخذ من نوى التمر أو من الحصى وتنظم منه عقداً! هذا غير متناسب.
إذاً: إذا رأيت أمرين فأكثر في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فانظر ما هي المناسبة؟ وما هو العامل المشترك الذي جمع بين هذه الأمور في حديث واحد؟ فلو نظرت هنا: سقي الماء وإصلاح ذات البين، فإنك تجد الرابطة بينهما قوية؛ لأن سقي الماء به حياة النفس، وإصلاح ذات البين به حياة المجتمع؛ لأنه إذا ترك وقع الفراق أو النزاع أو الخصومة بين الناس؛ وكانت الحالقة، وصارت فتنة أكلت الأخضر واليابس، فكان فيها الهلاك.
إذاً: هذا الحديث يعطينا المنهج الذي ينبغي على المتصدق، وفاعل الخير أن يسير عليه.(137/8)
الصدقة بغير المال
من جانب آخر صدقة التطوع ليست قاصرة على ذوي الأموال واليسار، ففي الحديث: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حث الناس على الصدقة، فجاء رجل بدنانير، وجاء رجل بدراهم، وجاء رجل بثياب، وجاء رجل بتمر، وجاء رجل بقبضة دقيق، وجاء رجل وقال: يا رسول الله! ليس عندي ما أتصدق به، ولكني تصدقت بعرضي على كل من اغتابني أو سبني، فلما جاء قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والله! لقد تصدق رجل منكم بصدقة عمت جميع الناس!) ، ليس عنده مال، لكن تصدق بأن سامح وعفا وصفح عن كل من اغتابه؛ لأنه أصبح له حق يستوفيه يوم القيامة، فهو تصدق بهذا الحق على صاحبه، من باب قوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134] .
إذاً: الصدقة لا يتقاصر عنها إنسان، فتصدق بكل شيء أمكنك أن تفعله ولو شربة ماء، قال الناظم: بث الجميل ولا تمنعك قلته فكل ما سد فقراً فهو محمودُ وليس معنى الفقر هنا: فقير المسكين الذي ليس عنده شيء، وإنما الفقر الاحتياج، فأنت -مثلاً- تفتقر إلى خيط تخيط به خرقاً في ثوبك، أو تفتقر إلى إبرة ليست عندك، وجيبك مملوء نقوداً، لكن عندك الثوب مشقوق، والفلوس لا تخيط مخيطة للثوب، وصاحبك عنده إبرة، وأنت مفتقرٌ إلى إبرته.
إذاً: فكل ما سد فقراً، ولو إبرة تخيطُ بها ثوباً، ولو خيطاً تربط به شيئاً فهو محمودُ، يحمدك صاحب الخرق على أنك أعطيته الإبرة، وهكذا.
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن جارة لجارتها، ولو فرسن شاة) ، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك) .
وقوله: (فرسن شاة) ، هي ما دون الرسغ من يدها، وقيل: هو عظم قليل اللحم، والمقصود المبالغة في الحث على الإهداء ولو بالشيء اليسير، وخصَّ النساء بالخطاب لأنه يغلب عليهن استصغار الشيء اليسير، والتباهي بالكثرة عائشة رضي الله تعالى عنها جاءتها المسكينة وهي تأكل عنباً، فأخذت حبة وأعطتها إياها، فأخذت المسكينة تقلبها مستقلة إياها، فقالت: انظري كم فيها من ذرة! والله يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة:7] .
إذاً: باب المعروف واسع، وليس له حدٌ، وفي استطاعة كل مسلم أن يتصدق يومياً، وقد جاء حديث أعم من هذا: (كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس قال: تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة) ، فحتى البشاشة في وجه أخيك تلقاه بوجهٍ طلق؛ صدقة، هل هناك أحد يعجز عن أن يبش في وجه أخيه؟ وهل هناك أحد يعجز عن أن يقول كلمة طيبة، أو يلقي السلام؟ فكل هذا من باب صدقة التطوع(137/9)
كتاب الزكاة - باب صدقة التطوع [3]
الشريعة الإسلامية تحث على الكسب الحلال، وتكره البطالة، ولذا فضلت اليد العليا على اليد السفلى، ويشرع للمنفق آداب وأحكام بينتها الشريعة، ومن ذلك أن يبدأ بنفسه ثم بالأقرب فالأقرب ممن تلزمه نفقتهم.(138/1)
اليد العليا خير من اليد السفلى
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسولنا محمد، وعلى آله وصحبه.
وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغنِ يغنه الله) متفق عليه، واللفظ للبخاري] .(138/2)
معنى اليد العليا واليد السفلى
حديث حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه يرتبط مع الحديث الذي بعده بعين الموضوع، وللعلماء فيه كلام، يقول رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى) .
يقولون: اليد العليا عليا في الهيئة وفي الواقع؛ لأن السائل يقول: أعطني، والثاني يقول: خذ، فاليد العليا هي المعطية، والسفلى هي الآخذة، وهذا يطابق الواقع عملياً، ومن ناحية المعنى: لا شك أن اليد ذات الغنى أعلى من اليد ذات الفاقة، فذات الفاقة متدنية، وذات الغنى مستعلية.
وبعضهم يقول: اليد العليا هي المستعلية على الأغنياء بعفتها، فهو فقير، لكنه متعفف، فصارت يده عليا مستعلية على من يعطيها بعفتها، كما قال الله: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة:273] ، ولكن المعنى العام على ظاهر الحديث هو الأول، وهو الواقع الحسي المتداول المعروف، وهل هذا فيه مذمة لليد السفلى أو تفسير واقع وحثٌ للفقراء والمساكين بأن يستعفوا، ويرفعوا أيديهم عن منزلة السفلى؟ هذا حثٌ للفقير وحثٌ للمسكين بأن يستعف، وأن يعمل حتى يرفع يده عن منزلة السفلى، وقد جاء عنه صلى الله عليه وآله وسلم تفسير ذلك عملياً حينما جاءه شابٌ قويٌ جلدٌ يسأل الصدقة، فنظر إليه صلى الله عليه وآله وسلم وقال له: (إن الصدقة لا تحل لقويٍ ذي مرة، قال: ماذا عندك؟ قال: حلسٌ نفترش نصفه، ونلتحف بنصفه، وقعبٌ نأكل ونشرب فيه) .
هذا هو أساس بيته، فليس له غرفة نوم، ولا غرفة ضيوف، ولا صالة، أثاثه كله محصور في بطانية أو حنبل يفرش نصفه ويتغطى بنصف، والقعب، هذا هو أدوات المطبخ.
فقال: (علي بهما) ، فأخذهما صلى الله عليه وآله وسلم وقال: من يشتري مني هذا؟ فقال رجل: بدرهم -ولعلها لا تبلغ قيمة الدرهم- فقال: من يزيد؟ -حتى لا يكون هناك مماكسة في حقه- فقال رجل: بدرهمين -وأعتقد أن الذي يزيد (100%) إنما هو مجاملة مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: خذ، ويعطي الشاب الدرهمين، ويقول: اشترِ بدرهمٍ طعاماً وضعه عند أهلك، واشترِ بدرهمٍ فأساً وحبلاً.
فإذا كان فأس بدرهم فمعناه أن الدرهم كانت له قيمة؛ لأن القيمة الشرائية للنقد حينما يكون النقد عزيزاً، أما إذا كان النقد هابطاً فلا قيمة له، فبعض الجهات عملتها لا تساوي شيئاً، ونحن شاهدنا ارتفاع وانخفاض العملات في الأسواق.
المهم أنه ذهب واشترى الفأس والحبل، وجاء فأخذ الفأس، ووضع عوداً فيه، وقال: اذهب فاحتطب، وبع واستغنِ، ولا أرينك خمسة عشر يوماً، فيذهب، ثم يأتي، ويقف على رسول الله والدراهم في جيبه، فيتبسم صلى الله عليه وآله وسلم ويقول: (لأن يأخذ أحدكم حبلاً وفأساً، فيذهب فيحتطب فيبيع فيستغني، خير له من أن يتكفف الناس أعطوه أو منعوه) .
وقوله عليه الصلاة والسلام: (ومن يستغنِ يغنه الله، ومن يتعفف يعفه الله) ، أي: من يستغنِ بالله يغنه، ومن يستعفف في جانب الله يعفه، ويرزقه القناعة والصبر، وهكذا.(138/3)
دخول كل معروف في اليد العليا
قوله عليه الصلاة والسلام: (اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى) ، أعتقد أن هذا ليس قاصراً على الصدقة بالمال، والغني والفقير، بل يؤجر كل من أسدى لإنسانٍ حاجة، فلو كانت لشخص حاجة في جهة من الجهات، أو عند إنسان من الناس، فذهبت وقضيت له حاجته، فممكن أن يدخل ذلك في قوله: (اليد العليا خير من اليد السفلى) ، ويكون في ذلك أجر وفضل لمن أسدى لأخيه معروفاً، وأصبح له يدٌ عنده.
كما في قصة المغيرة بن شعبة وهم تحت الشجرة في الحديبية الرضوان عندما كتبت الصحيفة، ولما جاء أحد المشركين يفاوض، أخذ بيده لحية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان المغيرة بن شعبة واقفاً على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: كف يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ألاَّ ترجع إليك! وكان السيف في يده.
فقال: من هذا يا محمد؟! قال: هذا فلان.
قال: يا غدر! ما غسلت غدرتك إلا بالأمس، ثم قال الرجل: يا محمد! ما أظن أن هؤلاء يثبتون معك، ما أظنهم إلا ينفضّون عنك، فقال له أبو بكر: امصص بظر اللات! أنحن ننفضُّ عن رسول الله؟ قال: من هذا يا محمد؟! فقال: هذا أبو بكر قال: لولا يد لك عندي، لرددتها عليك، ولكن هذه بتلك، يعني: أن أبا بكر سبق أن عمل له معروفاً، حتى صارت له يد عليه، أي: منة ونعمة.
وهكذا اليد العليا في كل شيء يحتاجه الإنسان، ويتقدم إليه الآخر بقضائها، سواء منه شخصياً أو عن طريقه، فهي يدٌ عليا على من أنعم عليه بذلك المعروف.(138/4)
البداءة في الصدقة بالأقربين
وقوله: (وابدأ بمن تعول) قرينة تدل على أن اليد العليا هي المعطية.
والعيال هم من يلزم الإنفاق عليه، وساقها المؤلف في باب الصدقة للمناسبة، فتكون لك يدٌ عُليا على الغَير، بمعنى أنك تتصدق من مالك، وكيف تفعل ذلك؟ علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث السابق أن نبحث عن ذوي الحاجات، فنضع المعروف في محله، نضع الكساء للعريان، ونعطي الطعام للجائع، ونعطي الماء للعطشان، وهكذا نعطي الدلو لمن ليس عنده دلو، ونعطي الحبل لمن لا حبل له، ونعطي البعير لمن يحتاج إلى ركوبه، ونعطي القلم لمن لا قلم عنده، فنضع الشيء في موضعه.
وهنا يعلمنا صلى الله عليه وآله وسلم الترتيب والأولوية، كما قال الله: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة:215] فقال: (وابدأ بمن تعول) ، وأولى ما يكون للإنسان نفسه، فأولاً: تكفي نفسك، فلو كان عندك ثوب وأنت عريان، هل تعطيه لغيرك؟ لا، ومن أمثلة العوام: مطابق وأخوه عريان؛ والمطابق هو الذي يأخذ ثوبين وأخوه عريان، فهنا يعطي كل واحد منهما ثوباً.
وأما من له الأولوية في الإنفاق، بعد النفس، فبعض العلماء يقول: الزوجة، ولكن القرآن يقول: {فَلِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة:215] ، ونفقة الوالدين هل تكون إجبارياً، أو تطوعاً؟ إذا كان الوالدان مستغنيين فليس لهما حق النفقة على الولد، وكذا الولد، لكن الزوجة مهما كان غناها، فنفقتها واجبة على زوجها على كل حال.
إذاً: نفقة الزوجة في الدرجة الأولى بعد النفس؛ لأنها واجبة في حال غناها وفقرها، لكن الأبوين والأولاد، لا تجب النفقة عليهم إلا عند الحاجة، إذاً: من كانت النفقة واجبة له على كل حال؛ فهو أولى ممن كانت واجبة له في بعض الأحوال، فالنفقة على زوجك أولى.
جاء أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (يا رسول الله! سمعت ما أنزل الله سبحانه وتعالى في قوله: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] ، وإن أحب مالي إلي بيرحاء) ، والعامة تقول: بير حاء، وكان هنا عند باب المجيدي، ودخل في توسعة المسجد، وكان فيه ماء يستعذب، وكان بجوار المسجد، وكان أحسن أو أعز أو أحب ماله إليه، فقال: يا رسول الله! هو صدقة؛ ضعه حيث شئت، فقال: (اجعله في أهلك) .
محل الشاهد قوله: (اجعله في أهلك) ، وهكذا يكون الإنسان صاحب خير؛ سواء كان فقيراً أو غنياً، فيسد من حوائج الناس، والأقربون أولى بمعروفه، ثم بعد ذلك الأدنى فالأدنى.(138/5)
خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى
لاحظوا يا إخوان: (ابدأ اليد العليا) ، فاليد العليا تبدأ بمن تعول، فهناك عطاء، وهناك صدقة، ثم يأتي في الدرجة الثالثة التوجيه: (وخير الصدقة) أي: الناشئة عن اليد العليا، التي تتوجه للأدنى فالأدنى من الأقربين (ما كان عن ظهر غنى) .
فقوله: (ما كان عن ظهر غنى) كناية عن المال الزائد المستغنى عنه، فهذا يشعرنا بأنه يبدأ بنفسه هو؛ لأن خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وأول من يستغني المتصدق؛ فإذا كان عندك ما يغنيك، فالزائد عن الحاجة تكون منه الصدقة، وهذا حفاظ على حياة المتصدق وعلى نفسيته.
و (خير) من صيغ التفضيل حذفت منه الهمزة، وأصلها (أخير) ، ونظيرها: (شرٌ) ؛ وأصلها (أشر) ، لكن حذفت الهمزة تخفيفاً لكثرة الاستعمال.
إذاً: خير الصدقة ما كان حينما يتصدق بها المتصدق عن ظهر غنى، أي: وهو مستغنٍ في نفسه، كما أن الزكاة لا تجب إلا عن ظهر غنى؛ لأنه لا تجب إلا على من يملك النصاب، وهو مستغنٍ عنه طيلة العام، فهكذا تكون الزكاة، وكذلك صدقة التطوع.(138/6)
الغنى غنى النفس
وقوله عليه الصلاة والسلام: (ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغنِ يغنه الله) ، هذا موجهٌ لصاحب اليد السفلى، ونحن عندنا طرفان: معطٍ وآخذ، ويدان: يدٌ عليا ويدٌ سفلى، فكان صدر الحديث مع (اليد العليا) ، وذلك في قوله: (ابدأ بمن تعول) ، وهكذا (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) موجه للمتصدق صاحب اليد العليا.
ويأتي الحديث للجانب الثاني (ومن يستعفف يعفه الله) ، هل قال: (يستعفف) أو قال: (ومن يتعفف) ؟ هذه الحروف الزائدة حروف استفعال، وكما يقول الزمخشري: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، وهذه قاعدة في فقه اللغة.
فقوله: (يستعفف) أبلغ من (يتعفف) فالمعنى: أنه يتكلف العفة ولو لم يكن في شخصه عفيفاً، فهو يتصنع ذلك، ويفتعل ذلك، ويحمل نفسه على العفة ولو كان محتاجاً، وهو متطلِّع إلى الصدقة وينتظرها ولكنه لا يطاوع نفسه ويسير وراءها.
فهنا (يستعف) على وزن (يستفعل) أي: أن الفعل ليس موجوداً لكنه يستجلبه، فهو يستجلب العفة لنفسه، وليحمل نفسه عن منزلة (سفلى) ، لتساوي يده الأخرى في علوها، (ومن يستعفف يعفه الله) .
قوله: (ومن يستغنِ يغنه الله) ، وهذا كما في الحديث: (ليس الغنى بكثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس) ، وكما يقول القائل: علل النفس بالقناعة وإلا طلبت منك فوق ما يكفيها فالغنى والفقر في نفس الإنسان، (فعلل النفس بالغنى) أي: احملها على الغنى، (وإلاَّ) إن لم تحملها على الغنى (طلبت منك فوق ما يكفيها) ، قال عليه الصلاة والسلام: (لو أن لابن آدم وادياً من ذهب لتمنى ثانياً، ولو أن له واديين من ذهب لتمنى ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب) .
إذاً: النفس من طبيعتها التطلع، ومن جبلتها الجمع والحرص، {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} [الفجر:20] ، {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} [آل عمران:14] فهذه أمور جبلت عليها النفس.
(ومن يستغنِ) أي: يستجلب الغنى لنفسه (يغنه الله) ، قال والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه في جلسة خاصة -جزاه الله عني أحسن الجزاء- قال: يا فلان! إني متخوف خوفاً شديداً، قلت: علامَ؟ وكنا في الرياض، وكان الملك عبد العزيز -الله يغفر له ويرحمه- يجتمع العلماء عنده كل ليلة خميس كما هو الآن، وهذه كانت عادة من زمن الملك عبد العزيز، أنه في ليلة من الأسبوع يستقبل المشايخ، وكذلك كانت تأتي مناسبات ويبعث إليهم بهدايا، فكان -الله يغفر له ويرحمه- إذا جاءه شيء ما يمر عليه أربع وعشرون ساعة، ويقول لي: تعال يا فلان! اكتب ويحولها إلى بعض (العوائل) في مكة والمدينة.
ومرة كنت عنده أكتب أسماء العوائل، فقال: والله يا فلان! أنا خائف خوفاً شديداً، قلت له: حصل خير، أنت في أمن، والحمد لله نحن في راحة وأمان، قال: عندي شيء كبير جداً، أخاف أن يذهب عليَّ، قلت: عندك العلم؛ وأنت تبذل منه ويزيد، وما عندك مال تخاف عليه.
قال: لا لا، غير هذا، قلت: أيش هو؟ قال: أنا جئت من البلاد بكنزٍ كبير جداً، قلت: يا شيخ! أعرف أمورك قبل أن تجيء إلى الرياض، فأين الكنز؟! قال: القناعة، كنا قانعين بما كنا فيه، ومطمئنين، والدنيا لا تساوي شيئاً، وبدأت الأموال تجري في أيدينا، فأخاف أن تمتد اليد، وتنقبض عليها، ونحرص عليها، وتذهب عنا القناعة التي كنا نعتز بها، فقلت له: مثلك لا يخاف عليه، مادام كلما جاءك شيء، قلت: تعال يا عطية! اكتب، وحول، ولا تترك عندك شيئاً، فاطمئن ولا تخف من شيء.(138/7)
دفع التعارض بين حديث (أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى) وحديث (أفضل الصدقة جهد المقل)
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قيل: يا رسول الله! أي الصدقة أفضل؟ قال: جهد المقل، وابدأ بمن تعول) ، أخرجه أحمد وأبو داود، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم] .
لاحظوا -يا إخوان- الحديث السابق: (وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) وهنا: (أفضل الصدقة جهد المقل) والمقل هو قليل المال، وجهده غاية وسعه واستطاعته، فهو مقل، ويجهد فيما يخرج من القليل الذي عنده، فبين الحديثين تعارض، وليسا سواء بل هما على طرفي نقيض.
فعلى حديث: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) تعطي، وتبقي عندك ما يغنيك، وعلى حديث: (جهد المقل) يعطي من جهده، أي: نهاية قدرته فيما هو قليل في يده.
ومن هنا قال العلماء: هذان الحديثان ظاهرهما التعارض، ولكن أجمع العلماء الذين يعنون بمختلف الحديث أن الحديثين لا تعارض بينهما، وكلٌ يمشي في طريقه المهيأ له، فحديث (ما كان عن ظهر غنى) للشخص الذي لا يستطيع أن يعيش عيشة المقل، وحديث (جهد المقل) لمن كان يستطيع أن يعيش ولو بلا شيء.
وقد جاءت الأمثلة على ذلك في الصدر الأول حينما: (حث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين على الصدقة، فقال عمر: لأسبقن أبا بكر، وكان أبو بكر سباقاً.
فلما أصبحوا جاء عمر بنصف ماله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا تركت لعيالك يا عمر؟ قال: تركت لهم مثل ذلك، قال: بارك الله لك، ثم جاء أبو بكر بكل ماله!! فقال: ماذا تركت لعيالك يا أبا بكر؟! قال: تركت لهم الله ورسوله، فقال عمر: والله! لا أسابقك بعد ذلك يا أبا بكر!) .
فهنا هل كان أبو بكر (عن ظهر غنى) أو (جهد المقل) ؟ لم يبقِ شيئاً، وعمر أبقى نصف ماله، ومن هنا يقول العلماء: جهد المقل لمن لا يندم على فعله، ولمن ليس عنده عيال يضيعهم ويعطي غيرهم، ولمن ليس مطالباً بواجبات خاصة، ولكن (عن ظهر غنى) لمن كان ذا عيال، ومن كان ذا التزامات، ومن كان عليه واجبات، ولا ينبغي أن يخلي نفسه من المال، بل تلك الواجبات قد تكون أولى وأحق.
إذاً: يختلف الحال باختلاف الناس، ولذا وصل الحد بالأنصار رضي الله تعالى عنهم إلى جهد المقل، وتصدقوا، فقال الله: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] .
إذاً: الحديثان يبينان لنا منازل الناس في هذه الدنيا، وعفة النفس وغناها، وقوة اليقين مع الله، فكل بحسب ميزانه، وبحسب طاقته وقوته اليقينية بالله.
وهذه أم المؤمنين عائشة تصوم، ويأتي سائل فتقول لـ بريرة: أعطي السائل، فقالت: والله! ما عندنا إلا قرص شعير تفطرين عليه، فقالت لها: أعطي السائل، وإذا جاء الإفطار يرزق الله، فتمشي بريرة تقول: يرزق الله! سيأتي المغرب كيف يرزق الله؟ مستبعدة! فلما أذَّن المغرب وجاء الإفطار ما رزق الله!! فقامت عائشة تصلي، وقبل أن تفرغ من صلاتها التفتت؛ وإذا بجانبها شاة مطبوخة! قالت: ما هذا يا بريرة؟! قالت: رجل أهداه، والله ما قد أهدى إلينا من قبل شيئاً، فقالت: كلي؛ هذا خيرٌ من قرصكِ، والله! لا يكمل إيمان العبد بالله حتى يكون يقينه فيما عند الله أقوى من يقينه بما في يده.
وهكذا يختلف الناس، وتختلف الدرجات، وتختلف النفوس؛ فكلٌ في طريقه، فإذا أراد الإنسان منا أن يتصدق، فعليه أن ينظر: هل هناك التزامات؟ هل هناك حقوق؟ وعلى حسب ذلك يتصدق، (وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول) ، فلا تأخذه الحماسة ويخرج كل شيء، وبعد ذلك يبحث عمن يقرضه! إذاً: هذان الحديثان مقياسان لنفوس الناس، وقدر استطاعتهم وقدرتهم وقوة يقينهم، ومدى حقوق الآخرين عليهم، وبالله تعالى التوفيق.(138/8)
الأولوية في النفقة والصدقة
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (تصدقوا.
فقال رجل: يا رسول الله! عندي دينار قال: تصدق به على نفسك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على ولدك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على زوجك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على خادمك، قال: عندي آخر، قال: أنت أبصر به) رواه أبو داود والنسائي، وصححه ابن حبان والحاكم] .
هذه مسألة جديدة وهي: بيان الأولوية في الصدقة: أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصدقة، وكثيراً ما كان يحث أصحابه على ذلك، والصدقة بمعنى الصدق، وقد قدمنا الإشارة بأن فقه اللغة يقول: إذا اشتركت مادتان في أكثر الحروف، واختلفتا في حرف واحد؛ كان بين المعنيين صلة قوية، وكان الفرق بينهما بقدر الفرق في الحرف الذي اختلفتا فيه.
ومثلوا لذلك بمثال واضح، فقالوا: مادة (خبن) ، ومادة (غبن) ، خبن: الخاء والباء والنون، وغبن: الغين والباء والنون؛ فاشتركتا في الباء والنون، واختلفتا في الخاء والغين، فقالوا: بين الخبن والغبن قدر مشترك، وذلك أن الخبن هو تقصير ونقص في الثوب الطويل، والغبن نقص في الثمن.
فيكون غبن على البائع إذا باع بأقل من الثمن، فيكون نقصاً عليه، ويكون الغبن في الثمن إذا اشترى بأكثر من القيمة، فيكون نقصاً عليه، وقالوا: الخاء أظهر من الغين في المخرج، وهم يقولون: إذا أردت أن تعرف مخرج الحرف، فائتِ بالهمز، وسكن الحرف، وقف عليه، ففي الخاء تقول: أخْ، فهي من سقف الحلق، والغين تقول: أغْ، كأنها داخلة إلى الحلق، فلما كانت الخاء أظهر في الحروف جعلوها في المعنى الأظهر؛ لأن خبن الثوب تشاهده بعينك، وتخبنه بالخيط، وتعرف الزائد من الناقص، أما الغبن فهو أمر خفي قد يخفى على بعض الناس، ولا يدرك مقدار هذا الغبن في هذه السلعة.
من هنا يقول العلماء: إن الصدقة والصدق اتفقتا في المادة في الحروف الثلاثة، وزيدت التاء للتأنيث، فالصدق مادته: (الصاد، والدال، والقاف) ، والصدقة مادتها: (الصاد، والدال، والقاف) ، إذاً: كلاهما بمعنى: الصدق، بمعنى: التصديق، والتصديق في الصدقة هو: أن الإنسان في حياته لا يبذل شيئاًَ إلا عن عوض، وقدمنا ذلك مراراً، وقلنا: إن الحياة مبناها على قانون المعاوضة، والأمر الطبيعي بين الناس أنك لا تدفع درهماً واحداً بغير عوض، وتدفع الملايين في عوض يعادلها، وهنا حينما تدفع الصدقة فأنت لا تأخذ عوضاً عليها ممن تتصدق عليه، إذاً: أين المبادلة؟ أين المعاوضة؟ بل إنه من كمال الصدقة أن تخفي الصدقة حتى عن نفسك: (حتى لا تعلم شمالك ما تنفق يمينك) .
إذاً: أين قانون المعاوضة هنا؟ قالوا: قانون المعاوضة هو أن المعاملات المادية بين الناس معاوضة فيما بينهم: خذ وهات، ولكن الصدقة معاوضة بين المتصدق وبين رب العالمين، فهو يتصدق ويدفع مصدقاً بوعد الله، {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة:245] ، {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ.
} [البقرة:261] ، ومن هنا فالمؤمن مصدق بوعد الله؛ فهو يدفع الصدقة لمن يعرف ومن لا يعرف، ولا ينتظر منه شيئاً: {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الإنسان:9] ؛ لأنه يتعامل مع رب العالمين، ورب العالمين لا تخفى عليه خافية، ولا يضيع عنده معروف.
وفي الحديث: (والصدقة برهان) ، أي: على إيمانه وتصديقه بأن الله سيعوضه عن تلك الصدقة، فالحد الأدنى بعشرة أمثالها، والحد الأعلى لا نهاية له، إلى سبعمائة ضعف، (وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261] ، فكان صلى الله عليه وآله وسلم يحثهم على الصدقة، ويحثهم على ألاَّ يستقل إنسان شيئاً؛ لأن العبرة ليست بالكثرة؛ وخزائن الله ملأى، وما عند الله أكثر مما عند البشر، ولكن العبرة بتعاطف المسلم مع أخيه، والشفقة والرحمة وحب الخير والمساعدة، هذا هو الأصل الأساسي في تبادل الصدقة بين الغني وبين الفقير.(138/9)
البدء بالنفس في النفقة
وهنا حثهم النبي عليه الصلاة والسلام على الصدقة، فقال رجل: عندي دينار، قال: (أنفقه على نفسك) ، فأول ما يبدأ الإنسان بنفسه؛ لأنه ألزم ما يكون عليه نفسه، فهل تتصدق بقرص خبز ليس معك غيره فيقتلك الجوع؟! لا يجوز هذا، إنما تبدأ بنفسك، وما زاد عن حاجتك تفيض به على غيرك الذي يليك في المرتبة.
جاء في الحديث: (أنه مر رجل شاب على قومٍ مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال أحدهم: لو كان جلد هذا وشبابه هذا في سبيل الله! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إن كان خرج على نفسه يعفها، فهو في سبيل الله) ؛ لأنك تعمل وتعف نفسك عن سؤال الناس، فهذه صدقة على نفسك تصدقت بها.
قال: (وإن كان خرج يتكسب ليعف أهله أو زوجه، فهو في سبيل الله، وإن كان خرج بطراً ورئاءً فهو في سبيل الشيطان) .
وأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تقول: (من بات كالًّا من عمل يده) مثل إنسان يعمل في النهار في البناء بحجر وطين، أو في حصاد حب، أو في تأبير نخل، أو في أيّ عمل مثل: نجارة، حدادة، زراعة، صناعة، وبات كالاً من العمل (بات مغفوراً له) .(138/10)
أيهما يقدم في النفقة: الزوجة أم الأولاد؟
قال: (تصدق به على نفسك.
قال: عندي آخر) انظر التدرج في السؤال! قال: (تصدق به على ولدك) .
الحديث هنا جاء بالزوجة في الترتيب الثالث، وهناك روايات أخرى تفيد أن الزوجة في الترتيب الثاني، أي: بعد نفسه تكون الزوجة، وهكذا حكم زكاة الفطر، فلو أن إنساناً عنده زوجه ووالداه وولده، فهم خمسة أشخاص، وليس عنده إلا صاع واحد زائد عن قوت هؤلاء الخمسة، فيخرج الصاع عمن؟ هل يخرجه عن أبيه، أو عن أمه، أو عن زوجه، أو عن ولده، أو عن نفسه؟ عن نفسه أولاً، فإذا رزق صاعاً آخر فالجمهور يقولون: الزوجة قبل الوالدين؛ لأن الزوجة نفقتها لازمة في الغنى والفقر، بخلاف الأبوين والولد، فنفقتهم في حالة الغنى ليست بواجبة، وفي حالة الفقر تجب.
إذاً: من وجبت نفقته بصفة دائمة أولى ممن وجبت نفقته بصفة مؤقتة، وقد جاء في بعض الروايات: (تصدق به على زوجك) ، وهنا قال: (على ولدك) ، والأمر سيان تقدم أو تأخر فإن الإنفاق على الزوجة أولى، وهي كما في الحديث الصحيح: (حتى اللقمة تضعها في في امرأتك صدقة) .
قال بعض أدباء الفقهاء: لو أنه أطعم الزوجة ممازحة فأخذ التمرة ووضعها بيده في فيها -يمازحها- فإنها صدقة؛ لأن هذا من باب تقوية الصلة والرابطة، وجبر الخاطر، وإذا وجدت الصلة القوية بين الزوجين طابت الحياة، أما إذا لم يكن هناك ترابط بينهما، ولا مودة ولا محبة؛ فإن الحياة بينهما لن تطيب، وتكون هناك الشكليات، فينفق عليها حتى لا تشتكيه أو غير ذلك.
والجمهور على أن اللقمة تضعها في في امرأتك من النفقة على زوجتك، وسواء أعطيتها بيدك أو تناولتها هي بيدها.
(قال: عندي آخر، قال: تصدق به على ولدك) إذاً: الولد حينما تنفق عليه وهو في حاجة إلى ذلك، تكتب لك صدقة، وهذا من أهم ما يلزم على الناس أن تراعيه ففي الوقت الحاضر، في بعض البيوت يكون الولد ليس لديه مورد في نفسه، مثلاً لم يتمم الدراسة، أو لم يجد مجالاً للعمل، فلا تستكثر أن تنفق عليه، فإنها صدقة.
وبعضهم أنهى دراسته، وطلب العمل، ولا مجال للعمل -كما يقال: البطالة- ولا يوجد مجالات لوظائف الحكومة، وما عنده القدرة على أن يشق طريقه في الأعمال الحرة، وهو في حاجة إلى النفقة، وليست النفقة مجرد إشباع جوعه، وكسوة بدنه، فقد يحتاج إلى غير ذلك، قد يحتاج إلى فاكهة، وإلى أشياء من المباحات.
والولد يشمل الذكر والأنثى، وبالأخص الأنثى؛ لأنه ليس لها خروج، وليس لها مجال، ونفقتها واجبة إجبارياً على وليها الذي هو الأب أو الزوج، فإذا كان الولد في البيت، وليس له دخل من جهة ما، أو كان عاجزاً عن الكسب؛ فتلزم نفقته.
قد يكون الولد قاصراً سواء كان قاصر الأهلية أو قاصر المسئولية، فلا يستطيع أن يدخل في المشاريع والمقاولات ويلتزم للناس بأعمال، وقد يكون قاصراً خلقاً، بأن يكون من ذوي العاهات.
إذاً: النفقة على مثل هذا الصنف من الأولاد إنما هي صدقة، فلا تتأفف من ذلك، ولا تقل: كيف أنفق عليه وهو قوي جلد ولا يعمل؟! أوجد له سبيل العمل وساعده على إيجاد العمل الذي يستغني به عنك، فإذا لم يجد، أو أنه يبحث ويطلب؛ فأنفق عليه إلى أن يجد ذلك ويستغني بما وجد، فحينئذٍ تترك النفقة عليه.(138/11)
خطر البطالة
والإنفاق على الأولاد واجب، لاسيما في الأوقات التي تكثر فيها البطالة أو العطالة، وهذه البطالة من أشق ما يكون في الدول، وهي أخطر حالة اجتماعية في الدول بصفة عامة، لا يقال: النامية أو المتحضرة، بل كل الدول تشتكي وفرة العطالة في رجالها.
وقدمنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى على البطالة بعمل فعليٍ سريع في الشاب الذي جاء يطلبه الصدقة، ونظر إليه فوجد فيه قوة، فقال: (لا تحل لك) ، قال: ليس عندي شيء أي أن يده عاطلة، وليس هناك مجال للعمل.
وبالمناسبة يجب على ولاة الأمور في العالم كله دون استثناء أن يوفروا فرص العمل للشباب في حدود إمكانات الدولة، سواء في القطاع الخاص أو في القطاع العام، وتستطيع الدولة أن توجد مجالات للعمل، ولتشغيل الأيدي الخالية الفارغة، وهذا مكسب للدولة، ومكسب للأمة؛ لأن هذه طاقة معطلة، فإذا وجدت لها فرص العمل فالدولة تستفيد من تلك الطاقة في الإنتاج.
فلما قال: ليس عندي شيء ولا أجد شيئاً، عذره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يتركه، فقال: (ماذا عندك؟) ، قال: عندي حلسٌ وقعب، فقال: (علي بهما) ، وأمره أن يذهب ويحتطب ويأتي ويبيع؛ لأن هذه الطاقة البدنية إذا عطلت فهو خطر، خطر على نفسه وعلى المجتمع، لكنه يصرفها في صعود الجبال، وتكسير الحطب، وحمله وبيعه في السوق وحصوله على المادة.
حزمة الحطب التي سيأتي بها ليبيعها ليست قيمتها في حمل الحطب وأعواده، ولكنها في الطاقة التي ستحدثها في المدينة أو في القرية، ستأخذ العجوز منها، وتغسل ثيابها بماءٍ حار، وتخبز عجينها، وتنضج طعامها، وكذلك الرجل، وكذلك أهل البيوت الأغنياء والأثرياء يستدفئون منها، ويخبزون عجينهم، كل هذه الطاقة تتوزع في البلد، وتدير إنتاجاً، وتحصل فائدة عامة على الغني وعلى الفقير وعلى القوي وعلى الضعيف بتلك الطاقة الحطبية! ونحن عندنا الآن الطاقة الكهربائية، إذا تعطل التيار ساعة أو ساعتين صاح الناس: الثلاجة وقفت، الثلاجة فيها خضار، فيها لحوم؛ ستفسد الأشياء الموجودة، عجلوا اتصلوا!! كل هذا لأنها طاقة كانت تعمل وكانت تنتج ثم تعطلت، وهكذا الطاقة البشرية، وهي أغلى ما يكون في العالم؛ لأنها هي الطاقة الإنتاجية، فمن الذي يحرث الأرض؟ ومن الذي يغرس الشجر؟ ومن الذي يجني الثمر؟ ومن الذي يدير المصانع؟ ومن الذي يدير المتاجر؟ ومن الذي يعلم الجاهل؟ ومن؟ ومن؟ كل ذلك بالطاقة البشرية.
وكنت في مجلس الوزراء، فسمعت كبيراً من الكبراء يقول: نحن نستورد حتى الطاقة البشرية؛ لأننا في حاجة إليها، فالطاقة البشرية هي أعزُّ وأغلى ما يكون، فالطاقة الكهربائية والطاقة الاقتصادية الطاقة وجميع الطاقات مدارها على اليد العاملة، وعلى استخدام الطاقة البشرية؛ لأنها هي المنتجة.
إذاً قوله: (على ولدك) يدل على الإنفاق عليه، فإذا وجد الولد ما يعمل واستغنى فالحمد لله، وإذا لم يجد فواجب علينا أن نكفيه، وإذا لم نكفِه وننفق عليه ماذا سيفعل؟ الجواب معروف للجميع، ويكون هذا دفع منا له إلى طريق الشر حتى يحصل على النفقة التي يحتاجها، ولا يبالي من أين يأتي بها، فإذا أبطلنا اليد ولم نسخرها ونيسر لها العمل النافع، والعمل المنتج، والعمل المشروع، فستنقلب عكساً على الأمة وعلى المجتمع وعلى شخصه، فهو إذا انحرف في سلوكه فأول من يضر نفسه، فيسلط على نفسه المسئولين والشرطة، ثم يضر المجتمع في سلوكه.
وإذا لم يكن عندي نفقة للولد فيمكن أن أيسر له العمل بقدر المستطاع، ولهذا كان لابد من العناية بالأولاد، والعناية بالإنفاق على العاطلين أو تشغيل اليد العاطلة، وتعتبر هذه من أهم قضايا المجتمعات بدون استثناء.
وفي بعض الإحصائيات: كذا مليون في أمريكا يدٌ عاطلة، كذا مليون في كذا هذه مصائب! وترجع بالعكس كما أشرنا على المجتمع، ونحن في غنى عن أن نذكر الأحداث والإحصائيات التي تنشرها الجرائد أو تذيعها الإذاعات بسبب تلك الأيدي العاطلة، وما تعكس من أضرار على مجتمعاتها، بل قد ينعكس على بيته وأهله.
إذاً قال: (على ولدك) ، حتى لا يكون عالة، وحتى لا يكون آلة إفساد، وحتى لا تنطلق تلك اليد بقوة إلى الشر، ويفسد في الأرض، ويفسد نفسه، ويضر أباه بالذات، فقد يرجع وباله على أبيه وعلى بيته، ومن هنا كان الإنفاق على هذا الولد صدقة: (تصدق به على ولدك) .
وأعتقد أن هذا المجال واسع، ويكفي الإشارة والتنبيه إلى رءوس المواضيع في هذا، والله تعالى أعلم.(138/12)
كتاب الزكاة - باب صدقة التطوع [4]
أمر الله بالصدقة على الفقراء والمحتاجين؛ درءاً للمفسدة وصوناً لأنفسهم من ذل السؤال والحقد على الأغنياء، وأباح للمحتاج السؤال بقدر حاجته، ولكن لا يجوز لأحد أن يسأل الناس أن يتصدقوا عليه وهو قادر على الكسب، ويتخذ ذلك مهنة له، فسؤال أموال الناس محرم إلا للضرورة، وبهذا التشريع الحكيم تستقيم أمور الناس، ويصلح المجتمع بالأخذ بأسباب التقدم، مع عدم إغفال الإحسان والشفقة على العاجزين.(139/1)
وجوب النفقة على الزوجة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: ما زلنا في شرح حديث: (أنفقه على زوجك) ، وقدمنا بأنه سواء قدمت الزوجة أو الولد، فإن لهما الأولوية في الإنفاق، والزوجة مطلقاً لها حق النفقة على زوجها سواء كانت غنية أو فقيرة.
ويقولون: على زوجها صدقة فطرتها، إلا الأحناف فيقولون: إنها إذا كانت غنية فعليها أن تزكي عن نفسها صدقة الفطر؛ لأنها صدقةٌ عن ذاتها ولديها المقدرة على أن تزكي فلتكن زكاة فطرها من مالها.(139/2)
حكم النفقة على الخادم
قوله: (قال: عندي آخر، قال: تصدق به على خادمك) : الخادم: يطلق على الأجير، وعلى المملوك، فإذا كان مملوكاً فنفقته واجبة عليه، وإن كان أجيراً فبحسب الشرط، وهناك الأجير الخاص والأجير العام.
فالأجير العام مثل أرباب الصنائع، كالنجار في الورشة، تأتي له بالخشب وتقول: أريد أن تصنع لي من هذا باباً، أو عنده الخشب، وتقول له: اصنع لي باباً مقاساته ومواصفاته كذا، ويأتي غيرك، ويقول له مثلك، وهكذا، فيتعاقد في الوقت الواحد مع عدد من الناس، فهذا أجير عام، ومثله الخياط تأتيه بالقماش ليفصل لك على مقاسك، ويأتي غيرك كذلك ويجتمع العديد، وكلٌ له ثيابٌ عنده يخيطه، فهذا أجير عام، وليس له على المؤجرين نفقة.
والأجير الخاص: هو الذي استفرغ وقته في خدمتك، بأن يكون معك، وأجرته على زمنه لا على عمل يده، أما الأجير العام فيأخذ الأجرة على عمل يده لا على الزمن، تقول له -مثلاً-: فصل الثياب بريالين، أو بعشرة، أو بعشرين، وسواء خاطه في ساعة أو أخره إلى أسبوع، ما لم يكن هناك شرط في موعد التسليم، فلا ينظر إلى الزمن في حق الأجير العام، ولكن ينظر فيما استؤجر عليه، هل أحسن خياطة الثوب أو أساء؟ هل أصلح الثوب أو أفسده؟ فهو المسئول عن ذلك.
بخلاف الأجير الخاص فأجرته على زمنه، لك عليه الأربع والعشرون الساعة، وله حق المنام والطعام، فهو يعطيك وقته كله، وأنت تأمره: افعل هذا، افعل هذا، وليس مشروطاً عليه عملٌ بعينه.
إذاً: الأجير الخاص -خادمك- نفقته عليك، ولهذا عليك أن تخرج زكاة فطرته في رمضان؛ لأن الزكاة -زكاة الفطرة- تابعةٌ للنفقة، واليوم أصبحت البيوت مليئة بالخدم والخادمات، وأصبح لهم عقود على أن الشهر كاملاً بكذا، فهذا الخادم إن كنت علمت بأنه في حاجة فعليك نفقته، ونحن نجزم بأنه ما تغرب، وترك بلده وربما ترك عياله، وربما ترك زوجه إلا للحاجة، وكذلك الخادمة ما تركت زوجها، وخرجت من بلادها إلا للحاجة والفاقة التي دفعتها، فإذا كنت تصدقت على الخادم أو الخادمة بما هو زائد عن النفقة، بثياب، بلوازمها، بدنانير من زكاة مالك، فهو أيضاً صدقة، وهذا يجبر خاطرها، ويشجعها على العمل.
لكن لا تعط الخادمة -مثلاً- صدقة من الصدقة لتزيد في عملها؛ لأن هذه مؤاجرة، فلا تعطها صدقة حتى تدفعها على الحماس في العمل، بل تصدق عليها لأنها محتاجة، ولأنك مشفقٌ عليها، وتعلم أن لها عيالاً في بلادها، وتريد أن تحول إلى أولادها أو والديها مصاريف، فزدتها من عندك عند التحويل، فهذه صدقة.
قال: (تصدق به على خادمك) وقد كثر الحث على الإحسان إلى الخدم، وسيأتي بيان حق الخادم؛ وأن له كسوته، وله طعامه، وله الإرفاق به، وأنه لا ينبغي أن يكلف من العمل فوق طاقته، (وإذا كلفتموهم فأعينوهم) .
وجاء أن أبا مسعود رضي الله تعالى عنه رآه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضرب خادماً له، فذكر له النبي صلى الله عليه وسلم أن الله أقدر عليه منه على ذلك العبد، أي: أنت لك القدرة عليه لأنه خادمك، ولا يستطيع أن يواجهك، ولكن الله أقدر عليك من قدرتك على خادمك؛ لأنه خالقك، فنظر أبو مسعود فإذا الذي يخاطبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتأثر وقال: هو حرٌ لوجه الله يا رسول الله, فجعل كفارة ضربه أن يطلقه، وأن يجعله حراً في سبيل الله.
وأيضاً هناك آثار في معاملة الخدم في البيوت: (لا تضربوا خدمكم على كسر الأواني، فإن لها آجالاً كآجالكم) ، البعض إذا كسر خادمه الكأس أو الصحن يضربه مستعلياً عليه، وهو غريب ضعيف في يدك، فلا ينبغي ذلك، لأن لها أجلاً، والبعض ربما يخصمها من أجرته؛ إن كان مفرطاً فاتركه يذهب لحاله؛ لأنه متعدٍ، أما إذا لم يكن مفرطاً ولا متعدياً فلا، فلو أنه انكسر في يدك أنت، ماذا تفعل؟ أو انكسر في يد زوجك أو ابنتك، ماذا تفعل؟ فهذه أمور تدخل تحت قضاء الله وقدره، ولا ينبغي أن يصب جام غضبه على خادمه من أجل شيء قدره الله سبحانه دونما تفريطٍ ولا تعدٍ.
قوله: (فقال: عندي آخر.
قال: أنت أبصر به) وفي بعض الروايات: (شأنك به) ، أي: ما دمت قد قدمت نفسك، ثم زوجك، ثم ولدك، ولم يذكر الوالدين، مع أن الوالدين بعد الزوجة والولد إذا كانا محتاجين، وفي الحديث: (أنت ومالك لأبيك) ، لكن بشرط ألاَّ يضر بالزوجة، ولا يضر بالولد، ولا بشريكٍ في المال، ولا أن يأخذ من مالِ ولدٍ يعطي لولدٍ آخر؛ لأن ذلك يوغر الصدور، حيث لم يكن قد أخذ من مال ولده لنفسه، بل أخذ من مال الولد لولد غيره، ولا يحق له ذلك، فإذا أدى الحقوق والواجبات التي عليه، الأول فالأول وكفى ذلك؛ فهو حر في الباقي، فإن أراد أعطاه صديقه، أو جعله في بناء مسجد، أو لفاعل خير، أو لطالب علم منقطع أو محتاج.
فما دام أن دائرة الواجبات قد كفيتها، فما وراء ذلك لك أن تنظر من أحق به، ومن أولى أن تعطيه إياه، وقدم الأهم فالأهم، أو الأحوج فالأحوج.(139/3)
إنفاق المرأة من بيت زوجها
قال المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة، كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما اكتسب، وللخادم مثل ذلك، لا ينقص بعضهم من أجر بعضٍ شيئاً) متفق عليه] .
هذا من سعة فضل الله سبحانه (إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها) لم يقل: هل قال: من مالِ، بل: من طعامِ، فالحديث ينصبُّ على الطعام، والطعام في العرف: ما يطعم سواء كان خبزاً، أو إداماً، أو فاكهةً، أو ما هو أصله للطعام كالتمر والدقيق والحب، فهذا يسمى طعاماً.
ولم يقل: من مال؛ لأن المال عزيز، والإنفاق من الطعام نوع من المشاركة؛ فهو قابل للاشتراك، فلو طبخت قدراً، وغرفت لمسكين منه في صحن، ما نقص ذلك شيء، وإن قل على المجموعة لكن لن يضرهم، لكن لو كان عنده ألف دينار، وأخذت منها ديناراً واحداً ضر على الألف، والدينار معدٌ لنوائب الزمن وللحاجات وللمهمات، لكن الطعام إذا لم يؤكل فسد، ولذا قال: (من طعام بيته) .
وقوله: (غير مفسدة) ، فلو كان الطعام هذا معداً على قدر حاجة زوجها وأولادها، فلا ينبغي لها أن تتصدق منه؛ لأنها ينبغي أن تراعي أهلها أولاً، والمرأة راعية في بيتها ومسئولة عما استرعيت عليه، إلا إذا كان زوجها وأولادها في مستوى الإيثار، ويرضون غيرهم ممن هو أشد حاجةً منهم، كما جاء في الحديث أنه جاء ضيفٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسل لزوجاته كلهن: هل عندكن عشاء لهذا الضيف؟ وكل واحدةٍ تعتذر بأنه لا شيء عندي، فقال صلى الله عليه وسلم ( {من يستضيف هذا، وله الجنة) ، الجنة في عشاء ضيف! لكن قد فتشنا تسعة بيوت وما فيها عشاء، وإذا كان الشيء مفقوداً يصير غالياً جداً، لو أن عندك الدنيا بحذافيرها وأنت في صحراء، واشتد بك الجوع، وجاء إنسان عابر سبيل، فقلت له: عندك طعام؟ قال: عندي قرص أقسمه بيني وبينك، فلو قال: بكم تشتريه؟ ستشتريه بدينار، بعشرة، بألف، بل ستقول: بكل ما أملك في بلدي، ومثل ذلك كأس من الماء في الصحراء، يدفع المضطر في شرائه كل ما يملك.
إذاً: قوله: (من يضيف هذا الليلة، وله الجنة؟) هذا الثمن متعادل، وإن كان الجنة لا يثامنها شيء، لكن بحسب التسعير عندنا؛ لأن الشيء المعدوم يبذل فيه الإنسان طاقته وجهده، (فقال رجل: أنا، فأخذ الضيف، وذهب به إلى البيت، ودخل على زوجه، وقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: والله! ما عندي إلا عشاؤك وعشاء العيال، قال: أما العيال فعلليهم حتى يناموا) ، فأخذت تعللهم حتى أخذهم النوم وهم جياع! قال: وأما أنا فعندما تقدمين الطعام وأمد يدي مع الضيف، فتأتين أنتِ، وتعمدين إلى السراج كأنك تصلحينه فتطفئينه، ونبقى في الظلام، فيستمر الضيف على أكله، وأنا أمد يدي معه لتختلط بيده، وأرفعها خالية، وأوفر الطعام للضيف.
انظروا هذه الحيلة يا جماعة! يعملها لماذا؟ هل ليستحل بها الربا؟ هل يخدع مغفلاً؟ لا والله! لكنها حيلة ليحصل على الثمن النفيس! ففعلت المرأة، وشبع الضيف، وبات الرجل والمرأة والعيال بدون طعام، هل هذه ستميتهم؟ هل هذه كل ليلة؟ لا، هي ليلة نادرة يتحملونها، ويصبرون عليها، فكان جزاؤه أن لقيه صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح، وبادره النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: (لقد عجب ربنا من صنيعكما البارحة!) ؛ لأنها -والله- حيلة لطيفة جداً، فهو اتفق معها على هذه الحيلة، ونِعمَ الزوجة الصالحة، فلو كانت غيرها ستقول: لا، أنا ما يخصني عشاؤه، اذهب ابحث له عن عشاء، أنا لا أبيت جائعة، ولا أترك الأولاد يبيتون جائعين، ليس هو أولى من عيالي، هذا قاموس معروف، لكنها امرأة مؤمنة في بيت صالح، فتعاونت مع زوجها على مطلوبه، وباتا طاويين، وبات الضيف شبعان، فعجب ربنا من صنيعهما هذا!(139/4)
اشتراط عدم الإفساد عند إنفاق الزوجة من بيت زوجها
إذاً: حينما يتصدق الإنسان مع قلة الشيء يعظم الأجر.
هنا بيَّن صلى الله عليه وسلم أن (المرأة إذا أنفقت من طعام زوجها غير مفسدة فلها أجر) ، وغير مفسدة: يعني أنها مراعية لظروف العائلة، وظروف البيت، وظروف الأسرة، وظروف الأفراد، فإن كانوا على شاكلة من عجب ربنا منهم، فالحمد لله، وإلا فتراعي الظروف، ولا ينبغي أن تضيع من تعول، وفي الحديث أن: (امرأة قالت: هل للمرأة أن تتصدق من مال زوجها؟ قال: لا، إلا بإذنه، قالت: ولو من طعامه؟ قال: الطعام أعز مالنا) ؛ لأن الطعام هو القوت، وبه الحياة، ولذا يقول العلماء: إذا أرادت المرأة أن تتصدق من مال زوجها، فلابد من إذنه، وأطال العلماء البحث في ذلك كـ ابن حجر في فتح الباري، ويدور البحث على قوله: (غير مفسدة) .
فإذا أذن لها إذناً فعلياً فلا مانع من أن تعطي المسكين، أو أذن لها إذناً اعتبارياً، بأن علمت من زوجها أنها إذا أعطت السائل تمرات أو قرص خبز أو شيئاً من الإدام فإنه لا يغضب، لأن ذلك لا يضره ولا يضر عياله، فهذا إذنٌ اعتباري فلا مانع، وتقدمت لنا قصتان عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، الأولى: أنها كانت تأكل من قطف عنب، وأعطت السائلة حبة، وما استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، والثانية: أن امرأة جاءت تحمل طفلتين، فأعطتها تمرة، وما استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، وكذلك شاةٌ ذبحوها فوزعت وبقي ذراعها، فقال عليه الصلاة والسلام: (لقد بقيت كلها إلا الذراع!!) فالذي بقي هو الذي ضاع، ولكن الذي تصدق به فهو الباقي عند الله.
إذاً: إذا تصدقت المرأة من طعام زوجها بطيب نفسها، غير مفسدة على أهل بيتها طعامهم ومعاشهم، بإذن زوجها الاعتباري أو الحقيقي؛ فلا مانع من ذلك.
ومما يوضح قوله (غير مفسدة) حديث هند، لما قالت: (إن أبا سفيان رجلٌ شحيح، لا يعطيني ما يكفيني أنا وعيالي، هل آخذ من ماله ما يكفيني وعيالي؟ فقال: خذي ما يكفيك بالمعروف) ، أي: لأن النفقة واجبة لكِ ولعيالكِ، ولكن بالمعروف، لا تأخذي هذا الإذن وتفسدي، فتصنعين طعاماً يكفي عشرين وأنتم خمسة، ثم يرمي الباقي أو يفسد، هذا هو الإفساد، بل خذي بقدر ما يكفيكِ بالإحسان وبالمعروف.
وهكذا بين صلى الله عليه وسلم، أن هذه المرأة لها من الأجر مثل ما لزوجها، وفي الحديث الآخر الصريح: (إن الله يدخل باللقمة ثلاثةً الجنة: صاحب الطعام، وطاهيه، ومناوله) ، صاحب الطعام هو صاحب البيت -رب البيت- وطاهيه سواء كانت الزوجة، أو كان الخادم، أو الطباخ في البيت، أو غيره، والخادم الذي يناوله، فإذا كان الطاهي، أو الزوجة، أو الخادم؛ يقدم ذلك بطيب نفسٍ لا مكرهاً، ولا مجاملة، ولا إلزاماً عليه، ولا كراهية لرب البيت، بأن يخرج الطعام باسم الصدقة، وهو يريد أن يؤذيه أو يضيق عليه أو يفسد عليه ماله، بل يؤجر إذا كان يفعل ذلك طواعيةً، وفي حديث آخر (والخازن) ، وهو الذي يكون على المخازن، يخرج من المخزن الدقيق ليعجن ويخبز، أو يخرج السمن ليطهى به، فيعطي المسكين من هذا الطعام، فإن للخازن مثل أجر المالك، فيكون لصاحب المال، وللطاهي، وللخادم وللخازن أجرٌ متعادل سواء بسواء.
إذاً: العبرة ليست بالكثرة، ولكنها بما وقر في النفس من طيبها، وحب المسكين والإشفاق عليه والرحمة به، والله تعالى أعلم.
قال عليه الصلاة والسلام: (كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجره بما اكتسب، وللخادم مثل ذلك؛ لا ينقص بعضهم من أجر بعضٍ شيئاً) .
فلو كان الحساب أن الحسنة بعشر أمثالها، فنقول: نقسمها على الأربعة وكل واحد له حسنتان ونصف، لكن الرسول يخبر أن كل واحد له عشر حسنات، ولا ينقص واحدٌ من أجر صاحبه شيئاً، فتكون الحسنة لهم بأربعين حسنة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: جاءت زينب امرأة ابن مسعود فقالت: (يا رسول الله! إنك أمرت اليوم بالصدقة، وكان عندي حليٌّ لي، فأردت أن أتصدق به، فزعم ابن مسعود أنه وولده أحق من أتصدق به عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق ابن مسعود؛ زوجك وولدك أحقُ من تصدقتِ به عليهم) رواه البخاري] .(139/5)
عدم الإسراف في النفقة على الأولاد
تقدم الكلام على حديث الرجل: (عندي درهمٌ يا رسول الله! قال: تصدق به على نفسك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على ولدك ... ) ، وتكلمنا على حقوق الأولاد، وأنه ينبغي معاونتهم ومراعاتهم وتوفية حقوقهم والإنفاق عليهم ما داموا لا يجدون أسباب الرزق ولا مجالات عمل، وهناك ناحية تركناها سهواً، وهي: أن بعض الناس قد تدفعه الشفقة والعطف على الولد بأن يغدق عليه المال بلا حساب، ويستجيب لجميع طلباته، وهذا في الواقع مفسدة، كما أن ترك الولد دون الإنفاق عليه مفسدة، ويدفعه إلى الإساءة، وهكذا الإغداق عليه بدون حساب يكون فيه الإفساد أيضاً، وأول ما يكون الضرر على الولد: إن الفراغ والشباب والجده مفسدةٌ للمرء أي مفسده ونسمع أن بعض الناس لديه الولد المدلل، فيشتري له السيارة، وعند مجيء موديل جديد يستقذر الأولى، ويصر على أبيه أن يشتري له أخرى، ويرضخ أبوه لطلبه، ويأتيه بأخرى جديدة، ثم لأنه لم يتعب فيها، ولم يدفع من ثمنها شيئاً؛ لا يبالي بها، ولا يهتم بالحفاظ عليها، وهذا كمثال.
فكثرة المال في يده بغير حساب تدفعه إلى تصريف المال في غير طريقه، وقد يصيبه المفاسد من الآخرين، وجاءت في السنة النبوية قصة ينبغي للمجتمع كله أن يتعظ بها، حتى تكون للعاطفة حدود، وهي ما ثبت (أن رجلاً يهودياً رض رأس فتاةٍ بين حجرين، من أجل أوضاح لها على رأسها، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، وجيء إليه بالفتاة، وهي في الرمق الأخير، فقيل لها: من فعل بك هذا؟ فلان؟ فلان؟ فلان؟ حتى ذكر الجاني حقيقة؛ فأومأت برأسها أي: نعم هو، فأتي به فاعترف، فاقتص منه، ورضَ رأسه بين حجرين) .
فهذه القصة تعطينا دراسات واسعة في باب الأمن الجنائي؛ لأن هذه طفلة صغيرة، يحبها أهلها، ولشدة محبتهم لها زينوها بالحلي، ورصعوا رأسها بقطع الذهب، وهذا الذهب بريقه يخلب عيون ضعاف النفوس، فسولت لليهودي نفسه بقتلها، وجاء في بعض طرق الحديث: (فاستدرجها إلى ضاحية المدينة، وأدخلها خربة، ورض رأسها) ، وقد سبق أن شرحنا هذه القصة بكتابة تحليلية طويلة، ونشرت في مجلة الجامعة، بأن أهل هذه الفتاة شاركوا في الجناية عليها، لأنهم وضعوا عليها ما لا تستطيع حفظه ولا حراسته ولا صيانته، ووضعوا عليها ما يطمع فيها الأشرار، فهم الذين سلطوا عليها هذا اليهودي، ولولا تلك الأوضاح التي على رأسها ما التفت إليها! ثم أيضاً: يجب على البلديات، وعلى ولاة الأمور؛ ألاَّ يتركوا في أطراف المدن أماكن خربة تكون مأوى لمثل هؤلاء الناس، وتكون موطناً لتنفيذ خططهم الإجرامية، وكان بسبب هذه المقالة بحث مع المسئولين في بعض الخربات، وعولجت قضيتها تجنباً لوجود مأوى لهذه الأعمال.
والذي يهمنا أن زيادة التعاطف مع الأولاد وإعطاءهم أكثر مما يستحقون؛ فيه مفسدة، كما أن عدم الإنفاق عليهم فيه مفسدة، ولا شك أن الفضيلة هي التوسط، كما قيل: الفضيلة وسطٌ بين طرفين.
وكذلك قوله: (تصدق به على زوجك) ؛ بعض الزوجات قد تدل على زوجها من الجوانب التي يتأثر بها، فتكثر عليه الطلبات ويرضخ لها، ويستجيب لعواطفها، وفي كل مناسبة تحتاج إلى لباس جديد، وكل ما يظهر نوع من الألبسة بما يسمى (الموضة) تحمل زوجها فوق طاقته، ولربما حملته على الاستدانة من أجلها! وهذا لا يتفق مع الأخلاق الفاضلة، ولا مع المروءة، ولا مع حسن العشرة، فلا ينبغي التطرف، لا في الإمساك والتقصير في أداء الواجب، ولا في البذخ الزائد عن الحاجة، فيكون ذلك إطغاءً للولد أو للزوجة، هذا ما أحببنا التنبيه عليه؛ تتمةً لما جرى عليه الحديث البارحة فيما يتعلق بالإنفاق على الولد.(139/6)
صدقة المرأة على زوجها وأولادها
وهنا ذكر المؤلف رحمه الله حديث ابن مسعود أنه ذكر لزوجه زينب أن صدقتها عليه وعلى أولادها منه أولى من الغريب، وسياق هذا الحديث: أن زينب بعد صلاة الصبح ذهبت إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدت عند الباب امرأة حاجتها كحاجتها، فجاء بلال، وقالت له: قل لرسول الله: زينب في الباب، فلما ذكر ذلك لرسول الله قال: أي الزيانبِ؟ يعني: أية زينب تعني؟ وهذا تعليم نبوي، فعلى الإنسان إذا عرف نفسه أن يعرِّف بما يكشف عن شخصيته، كمن يطرق الباب، فيقال: من؟ فيقول: أنا، (أنا) هذا ضمير للمتكلم، كل متكلم يقول: أنا، فإذا قيل: من أنت؟! فينبغي أن يقول: فلان ابن فلان، وهنا كذلك: لما قال:: زينب، قال: أي الزيانب؟ فالزيانب كثر، وهي كانت قد قالت: (ولا تسمني له) ، لكن لما سأله، من هي؟ قال: زينب، استجابة لطلب رسول الله، فقال: أي الزيانب؟ فهي أرسلته ليسأل لها، وهنا في الرواية أنها سألت مباشرة، وسواءً كان السؤال منها مباشرةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كان السؤال لها من بلال، أي: بالواسطة.
وقولها: (عندي حلي) جاء في كتاب الأموال: أنه كان عندها طوقٌ من ذهب تزكيه كل سنة، حتى أخذ عليها أكثر من قيمته، ثم جاء هذا التساؤل، فقال لها ابن مسعود: إن زكاةَ مالك وصدقتك عليَّ وعلى أولادي منكِ؛ أولى من الغريب، فهي استبعدت أن تتصدق على زوجها وولدها؛ ومعلومٌ عند الجميع أن الصدقةَ لا تجوز للأصل وللفرع، يعني: لا تصح على الأبوين ولا على الأولاد؛ لأنهم إن كانوا محتاجين فنفقتهم واجبة من رأس المال، وإذا تصدق على أبويه أو على أولاده فكأنه يؤدي واجباً عليه من صدقة هي حقٌ المساكين، فترددت في ذلك، فقالت له: اسأل رسول الله، فقال: اسأليه أنتِ، فسألت، فقالت: (عندي حلي أردت أن أتصدق به) ، وظاهر هذا اللفظ أنها تتصدق بعين الحلي، ولكن رواية أبي عبيد في الأموال: أنها تريد أن تتصدق، أي: تخرج زكاة حليٍ عندها.
وهنا سؤال: كيف لا يجوز للرجل أن يتصدق على زوجه وعلى أولاده، ويجوز للمرأة أن تتصدق على زوجها وأولاده منها؟ قالوا: إن هذا تابعٌ لوجوب النفقة، فالزوجة إذا كانت غنية غير ملزمة بنفقة زوجها، وهي حينما تعطي الزوج، لا تسقط حقاً واجباً عليها، وكذلك إذا أعطت الأولاد، لكن والزوج إذا امتلك الصدقة أنفقها على الأولاد، بل وعليها هي نفسها، فالزوج يأخذ الصدقة من زوجته، فإذا ذهب واشترى بها طعاماً، وأتى به إلى البيت، وأكل الجميع -ومنهم الزوجة- فلا مانع من ذلك؛ لأنها حينما أعطتها أعطتها بحق، وحينما أكلتها أكلتها بحق، وهو حق الإنفاق ثابت لها على زوجها، كما قالوا: في صدقة الفطر أو صدقة المال: لو أنك أعطيت جارك زكاة الفطر تمراً تعرفه من تمر بستانك، ثم جئت تزوره في العيد، فقدم لك القهوة والتمر، فنظرت! فإذا التمر الذي قدمه إليك من تمرك أنت، هل تقول: أنا لا آكل الصدقة؛ لأن العائد في صدقته كالكلب؟ لا، أنت لم تعد فيها، ولكنها وصلت محلها، واستلمها مستحقها، ثم قدمها إليك باسم الإكرام.
ومن ذلك ما وقع في قصة بريرة: (لما دخل صلى الله عليه وسلم، وقال: أعطوني الغداء، فأعطوه خبزاً وإداماً، قال: ألم أر البرمة فيها لحم؟! قالوا: هذا لا يصلح لك، إنه لحمٌ تصدق به على بريرة، وأنت لا تأكل الصدقة، فقال: هو لها صدقة، ولنا منها هدية) ، أي: بريرة أخذته باسم الصدقة، أما أنا ما أخذت صدقة، لكن بريرة ستقدمه إلي باسم الهدية.
إذاً: العين واحدة لم تختلف، ولكن اختلف الاعتبار، فباعتبار الصدقة من المتصدق إلى بريرة هي في مجال الصدقة، وباعتبار نقلها من بريرة إلى رسول الله، فهي هدية بريرة ليست متصدقة على رسول الله، إنما تهدي إليه، فاختلف القصد، واختلف الحكم.
وكذلك الزوج لا يعطي صدقته لزوجته؛ لأن نفقتها واجبةٌ عليه، وكذلك أولاده، لكن هي كزوجة لا تجب عليها النفقة لا للزوجِ ولا للأولاد، فأعطتها للزوج.
وإذا كانت الزوجة غنية، والزوج فقيراً، وبينهما أولاد، ولا يستطيع الزوج أن ينفق على أولاده، فهل الأم تنفق على الأولاد لغناها أم لا؟ هذا بحث يتطرق إليه الفقهاء، ويختلفون في ذلك، قالوا: إذا لم تنفق الأم الغنية عليهم، مات الأولاد من الجوع، وهل يذهب الزوج يتدين؟ لا، بل عليها أن تشارك في مثل هذه الحالة، أو تنفق عليهم ويكون ديناً عليه.
الذي يهمنا هنا أنها كزوجة لا تجب عليها النفقة للزوج ولا للأولاد، فصح منها الصدقة عليهم، والقاعدة: لا تصح الصدقة على من تجب عليك نفقته، وإن كان الإمام أبو حنيفة رحمه الله يجوِّز ذلك في الأخ والعم ونحوه، والأخ يختلف: إذا كان بينك وبين الأخ توارث؛ فلا يصح أن تتصدق عليه، وإذا لم يكن بينك وبينه توارث، فإنك تتصدق عليه؛ لأنه إن كان للأخ ابن فهو يرثه، ولا صلة لك بإرثه، فلك أن تتصدق عليه، أما إذا كان يرثك وترثه فإن الغرم بالغنم، فكما أنك ترثه إن مات غنياً فتنفق عليه إن كان فقيراً.
فتتعلق الصدقة على الآخرين بقاعدة: من وجبت عليك نفقته لا يصح أن تعطيه صدقة.
لأنك تكون كأنك تجبر ما وجب عليك من النفقة بما تعطيه من الصدقة، وهنا لما قالت: (إن ابن مسعود قال لي كذا، قال لها صلى الله عليه وسلم: صدق ابن مسعود) ، أي: يجزئكِِ ويجوز لكِ، وقيل: إن الصدقة على الغريب صدقة، وعلى القريب صدقةٌ وصلة، أي: وصلة رحم، وفي الحديث: (ابدأ بمن تعول، ثم الأقرب فالأقرب،) ، إذاً يجوز أن تتصدق المرأة على زوجها وأولادها منه.(139/7)
حرمة سؤال الناس تكثراً
قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعةُ لحم) متفق عليه] .
بعدما ذكر المؤلف أحاديث الحث على الصدقة، وفضائلها، و (اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى) ، جاء هنا بهذا الحديث ينفر من سؤال الناس تكثراً، وسؤال الناس عند الحاجة بما يسد الجوع والفاقة لا مانع منه، لكن يمنع إذا كان تكثراً، (من سأل وعنده أوقية لقي الله وليس في وجهه مزعة لحم) .
ومعنى: (سأل الناس تكثراً) أي: زيادةً عن حاجته في اليوم والليلة، وهذا تشنيع على من سأل وهو في غنىً عن ذلك.(139/8)
سبب استمرار بعض الناس في السؤال
وقوله: (لا يزال الرجل يسأل الناس) ، أي: فهو مستمر في سؤال الناس، ولماذا هذا الاستمرار؟ هذا على قسمين: قسمٌ بدافع الحاجة، فالحاجة مستمرة وبالتالي السؤال مستمر، ولكن لا تكثراً، بل تكففاً أو تعففاً.
القسم الثاني: تعودًّا، أي أنه تعوَّد السؤال، وهذا كما يقول بعض الناس: من استمرأ السؤال وأخذه مرة ومرتين، ورضيت به نفسه، قل أن يترك ذلك، بل يستمر، وإذا أراد أن يمتنع صعب عليه الامتناع؛ لأنه وجد حلاوة الكسب بدون كدٍ ولا تعب، وهذه والله! ما هي حلاوة، إنما هي عين المرارة والغضاضة، لكن إحساسه الشخصي ذهب، وليس في وجهه مزعة لحم، كما يقول العوام: أراق ماء وجهه فلم يبقَ في وجهه ماء الحياء، فإذا كان الأمر كذلك، فسواء عنده، إن سأل أو لم يسأل، أعطاه الناس أو لم يعطوه، ابتسموا في وجهه أو تجهموا في وجهه، أصبحت هذه الأمور عنده عادية.
ومن زمن قريب سمعنا أو قرأنا في الصحافة اكتشاف بعض شخصيات لها مكانة، ينتهون من أعمالهم، ويذهبون يمتهنون السؤال! ووجدوا أن دخلهم من هذا أضعاف أضعاف راتبهم، ولما سئلوا عن سبب ذلك قالوا: تكاليف الحياة زادت، ونحن نحتاج إلى مسايرة الناس! وأغرب ما سمعت في هذا أن أسرة كريمة جداً وقع بينهم نزاع، فقتل شخصٌ شخصاً من هذه الأسرة، وحكم بالقصاص، فجاء أهل القاتل وعرضوا على ولي الدم الصلح بديتين، بثلاث، بأربع، فامتنع؛ لأن ولي القاتل لا يهمه أن تتضاعف الدية عشرة أضعاف، فقال أبو المقتول: أنا أقبل دية واحدة لكن بشرط: أن يحصلها والد القاتل -ووالد القاتل ذو منزلة رفيعة في مجتمعهم- أي: بالسؤال من الناس، لا برصيده في البنك، ولا بما يملكه في بيته، ولكن يحصلها من القرش والقرشين والأكثر والأقل بسؤال الناس، قال: هذا صعب، وكيف أن يقف هذا الموقف، والناس يعرفونه؟ قال: يذهب إلى أي مدينة من المدن التي لا يعرفه فيها أحد، ويأتي بها بهذه الطريقة، قال: متى أجمعها؟ قال: حتى بعد عشر سنين، أنا راضٍ بهذا، وأمام هذا النزاع وخطورة هذه القضية وافق الرجل، وكان بعد أن ينتهي من وظيفته يذهب إلى مدينة لا يعرف فيها، ويلبس لباس السائلين، ويتكفف الناس، وفي زمنٍ قريب جداً جمع الدية، فسلمت وجرى الصلح، ثم بعد ذلك فإذا بالرجل على طريقته، يذهب إلى بعض المدن ومعه لباس السائلين، ويسأل الناس، فجاءوا إليه، وقالوا: ماذا تفعل؟ قال: لا أستطيع أن أترك هذا، وقالوا لفلان: لمََ طلبت هذا الطلب، وقد عرضت عليك الدية مضاعفة؟ قال: أردت أن أقتله قتلةً وهو حي، فيبقى بهذه الحالة؛ لأني أعلم أنه إن استمرأ سؤال الناس لا يترك ذلك أبداً.
ولهذا -يا إخوان- الشخص في أول مرة: إذا أصيب بحاجة أو بفاقة، ثم مد يده، ووجد من يعطيه، وكثر في يده ذلك، وقضيت حاجته، إن كان ذا نفسٍ كريمة ووجهٍ حيي اكتفى بذلك وكفَّ حالاً، وإن مات إحساسه، ومات شعوره، وأريق ماء وجهه، فإنه يستمرئ ويعيش بها.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (ومن يتصبر يصبره الله، ومن يستعفف يعفه الله) ؛ ففي هذا إبقاء على شخصيته، وإبقاء على معنويته، وإبقاء على إحساسه وشعوره، حتى لا يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحمٍ، يعني: تهلهل لحم وجهه بسبب مده يده إلى الناس، فمات إحساسه، ومات شعوره، ولهذا تجد بعض السائلين -نسأل الله السلامة- يأتيك فتقول: والله! الآن ما عندي فكة، يا أخي: كذا يا ابن الحلال! أنا الآن ما أنا مستعد، أنا قادم للمسجد، ما أنا قادم للصدقة، لا يخفى عليك أني ما أتيت بشيء من المال، وكأنه يطالبك ديناً ويفترض عليك أن تدفعه إليه، كان يكفيه الإشارة، لكنه تعود، وصار السؤال مهنة له! إذاً: التربية النبوية والتربية الإسلامية لمصلحة شخصية الإنسان نفسه، لأخلاقه، لإحساسه، لشعوره؛ ليبقى إنساناً كريماً فعلاً، ويبقى بعيداً عن مذلة السؤال، ولهذا حث النبي صلى الله عليه وسلم على العمل والاستغناء، ويكفينا أنه أرسل الشاب خمسة عشر يوماً إلى الجبل ليحتطب، وقال: (ولا أرين وجهك خمسة عشر يوماً) ، ويسمح له بالتخلف عن الجماعة في المسجد النبوي، ويذهب ويصلي هناك، وعنده مسجده وطهوره؛ ليحفظ ماء وجهه، وليحفظ كرامته، وليصونه عن مذلة السؤال، ونسأل الله السلامة والعافية!(139/9)
سؤال الناس تكثراً سبب لدخول جهنم
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يسأل الناس أموالهم تكثراً؛ فإنما يسأل جمراً، فليستقل أو ليستكثر) رواه مسلم] .
بعض السائلين يسأل الناس أكثر من حاجته، هو في حاجة إلى قوت اليوم، ويسر الله له عشرة ريالات أو خمسة ريالات أو أكثر أو أقل بحسب حالة البلد، ومعه ما يكفيه اليوم، فلماذا يطوف على الناس؟ ولماذا يلح على الناس؟ كان يكفيه هذا، وغداً ييسر الله له الأمر، لكن نسأل الله السلامة! (من يسأل الناس تكثراً) أي: يكفيه عشرة ريالات، ولكنه يطلب عشرين وثلاثين وأربعين وكلما جاءه أخذه وأكله {أَكْلاً لَمّاً} [الفجر:19] ، هذا الذي يسأل الناس تكثراً إنما يأكل جمراً، فليستكثر من ذلك أو ليستقل.
وهل الرسول يأمره هنا أن يستكثر أو هذا من باب: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً} [الكهف:29] ؟ فهذا ليس تخييراً، بل هو تهديد، أي: فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، ونحن قد أعددنا للظالمين وللكافرين ناراً، فليس المعنى: من شاء آمن ومن شاء كفر فلا عليه، المعنى: اعمل الذي تريده، ونحن عندنا الجزاء، فهذا تهديد وليس تخييراً، لكن الأسلوب أسلوب التخيير، والله سبحانه وتعالى لا يضره كفر الكافر، ولا ينفعه إسلام المسلم، ولكن هذا راجع للإنسان بنفسه، فقوله: (فإنما يسأل الناس جمراً) أي: وما دمت قد عرفت أنها جمر؛ فإن أحببت فتكثر أو تقلل، وهذا في نهاية الزجر.(139/10)
الحث على الاستعفاف عن سؤال الناس
قال المصنف رحمه الله: [وعن الزبير بن العوام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لأن يأخذ أحدكم أحبله، فيأتي بحزمةٍ من الحطب على ظهره فيبيعها فيكف بها وجهه، خيرٌ له من أن يسأل الناس؛ أعطوه أو منعوه) رواه البخاري] .
قبل شرح هذا الحديث، مما يتعلق بـ (إنما يأخذ جمراً) ورد أنه ( {توفي رجل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعرفه، فسأل ماذا ترك؟ -وكان فقيراً يسأل الناس- قالوا: ترك دينارين، قال: كيتان من نار) ، سبحان الله! فالناس يخلفون الملايين والأموال الطائلة، والله سن الميراث للمال المتروك بعد الميت، إذاً: فيجوز اقتناء الدينارين، والألفين والمليونين، لكن لما كان يسأل الناس، فكان الواجب أن يسأل بقدر حاجته، لكن أن يتكثر حتى يتوافر عنده ديناران، فهذا هو المستكثر، ولذا قال صلى الله عليه وسلم في حقه: (كيتان من النار) ، كل دينار بكية من النار، والدينار نصف اسمه نار، وبهذه المناسبة كان في اختبار قول القائل: كأن وجهه دينارٌ جلته حدائق الضرابِ فبعض الطلاب سأل: ما لون الدينار؟ نحن ما رأينا الدنانير، فقال القائل: نصف اسمه يدلُ عليه، لكن كان الطلاب أغبياء ما فهموها، وإلا كان غشاً في الاختبار.
إذاً: المسألة بقدر الحاجة لا مانع منها، فالله سبحانه وتعالى جعل حقاً للفقراء والمساكين شرعاً، وفرض على النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوم بجمع الزكاة وتوزيعها عليهم؛ ولا عيب في سؤال المحتاج الفقير، والله سبحانه وتعالى يمتحن عباده بالغنى كما يمتحنهم بالفقر، لينظر: أيشكر هذا أم لا؟ وهذا أيصبر أم لا؟ فالغرض من هذا التنفير، وتقبيح السؤال تكثراً، لكن لو طرأت على الإنسان حاجة فلا مانع أن يسأل؛ لأنه حقٌ له.(139/11)
ذم احتقار المهن والأعمال
ثم جاء هذا الحديث ليرشد إلى العمل المنتج عيب في عمل اليد الذي يستعف به صاحبه؛ لأن بعض الناس يعيبون بعض المهن، ويحتقرون الأعمال اليدوية، ويزدرون أشياء لا عيب فيها، فبعض الناس لو قلت له: تعال تعلم السباكة، قال: السباكة! تعال تعلم الخرازة، قال: الخرازة! هذه صفات كذا كذا، تعال تعلم النجارة، تعالَ خذ مكنسة واكنس في الشارع، وخذ راتباً وعش به، قال: أنا آخذ مكنسة وأكنس في الشارع؟! نعم لأنك ستموت جوعاً، أو تسأل تكثراً، فأيها أولى لك: أن تستغل طاقتك وصحتك في تنظيف الشارع للمسلمين، أو تتكفف الناس السؤال؟ وكيف تستعيب المكنسة ولا تستعيب من مد اليد؟! فيجب أن يكون عندك قانون مطَّرد، أنت تستحي من أخذ المكنسة؛ فيجب أن تستحي من مد يدك، اليد التي تمتد لسؤال الناس الأولى لها أن تمسك المكنسة، فهنا قال: (لأن يأخذ أحدكم حبلاً وفأساً فيحتطب) في ذاك الوقت المهن قليلة، مثل البناء والنجارة فلم تكن كثيرة، بل هي نجارة بلدية كل واحد يقدر أن يعملها، فكانت المهن محدودة، لكن الاحتطاب أمر عام، ومثله أن يحتش الحشيش من الوديان ومن الأراضي البيضاء، ويبيعه علفاً لأصحاب الدواب.
فأي مهنة يجب ألا يحتقرها إنسانٌ، مادام أن هذا العمل يعفه عن تكفف الناس السؤال، وسمى لي بعض المشايخ - الله يغفر له ويرحمه- شخصاً كنت أعرفه، وكان يعمل في السمكرة، وكان هناك الصفيح تُعمل منه أباريق للحمامات، وتعمل أوعية للسمن من الصفيح (التنك) ، وهكذا تنك التمر وتنك الزيت، وكانت براميل البترول أو الغاز يصنعون منها أدوات، وكان هذا الشخص جالساً وجواره جماعة يخرزون ويخيطون الأحذية القديمة ويصلحونها، فجاء رجل تركي، ومعه نعل من الخشب والجلد، وفيه وساخة، والسير مقطوع، فجاء لهؤلاء الذين يصلحون الأحذية ليصلحوه له، فامتنع كل واحد منهم عن ذلك لأنه وسخ! وهذا السمكري شغله في التنك، وليس في الأحذية، فنادى الرجل: تعال، تعال، ما عندك؟ قال: عندي كذا كذا، قال: هاته.
فأخذ القبقاب من طرف، وحك الوساخة التي فيه في الأرض حتى زالت عنه، ثم طلب من هؤلاء مسمارين فأعطوه فسمر الجلد في القبقاب، وأصبح صالحاً، وأعطاه نصف ريال، ونصف ريال في ذاك الوقت له قيمة كبيرة.
وهو لم يعطه نصف ريال على كونه دق المسمارين، لكن على كونه قبل أن يعمل هذا في الوقت الذي رفضه الآخرون، فقام هذا الرجل واشترى بنصف الريال تميزاً وسكراً وشاياً، واشترى جبناً، ثم أفطر هو وزملاؤه وجيرانه من نصف ريال، ثم قال لهم: لمَ تردون هذا؟ النصف ريال هذا خسارة أن تضيعوه، ونحن جلسنا هنا لخدمة الناس.
فهذا -يا إخوان- كنموذج، فأنت في صنعتك لا ترفض أن تعمل هذا؛ لأنه وسخ، الأرض -يا أخي- تنظفه، أو خذ خرقة ونظفه، فهذا الرجل ما ترفع أن يفعل هذا الفعل، وحصل من ورائه ما أفطر هو وجيرانه به.
إذاً: لا ينبغي لإنسان أن يترفع عن الأعمال، ما نشتكي من شبابنا السعودي إلا ترفعه عن كثير من مجالات الأعمال العامة، والشاب السعودي إذا تخرج وحمل شهادة -أياً كان مستواها- لا يريد إلا طاولة وتلفوناً وفنجان شاي وجريدة، هذا الذي يريده! وأما الأعمال الحرة فلا يريدها، مع أنها تدخل عليه أكثر من راتبه أضعافاً، لكن يريد أن يقال عنه: ذهب الدائرة، وجاء من الدائرة، ذهب الوظيفة وجاء من الوظيفة!! وقد شاهدنا في هذا المسجد النبوي بعض زملائنا في الدراسة، كان يصبح الواحد منهم في السوق متحزماً ويحمل على رأسه، ويساعد الفلاحين في إنزال البضائع، ويأخذ من هذا شيئاً ومن هذا شيئاً، ويجمعها ويبيعها، ويرجع إلى بيته بما يحتاجه منها، وبما اشتراه من حاجات البيت، وإذا كان بين المغرب والعشاء تجده أميراً من الأمراء، عليه ثياب مكوية نظيفة، وكوفية مكية، وغترة مهذبة، جالس أمام الشيخ، فهذا من خيرة الناس لا يترفع أن يعمل في الصباح، فهو طالب علم لا يرضى لنفسه أن يمد يده.
الحديث ليس مقتصراً على حزمة حطب لمن يريد أن يتعفف، بل الحديث مبدأ عام، وينبغي على كل إنسان عاقل أن يستعف بأي عمل، وقد ذكرنا أن على المسئولين إيجاد مجالات للعمل وللقضاء على العطالة والبطالة، لكن إذا لم يكن هناك مشاريع عند الدولة، وإذا لم تكن لديها إمكانات، فالعمل الحر واسع، من بيع وشراء أو صناعة أو غير ذلك.
قوله: (لأن يأخذ أحدكم حبلاً فيأتي بحزمةٍ) يأخذ حبلاً وفأساً كما في بعض الطرق، ولابد من فأس ليكسر به الحطب، وحبل يحزمه فيه، ويحمله على ظهره، وكان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أميراً على بلدة، فكان يذهب إلى السوق، ويأتي بحزمة الحطب يحملها على ظهره ويقول: افسحوا الطريق لأميركم، فهو أمير ويحمل الحطب؟! لعله ليس عنده ما يستأجر به أحداً، وكما قيل: رب السلعة أولى بحملها.
إذاً: لا يوجد عيب في العمل، كلمة (عيب) في عمل هي العيب، ولا ينبغي للإنسان أن يحتقر شيئاً، وهؤلاء الذين يغسلون السيارات لو تركناهم مفلتين في البلد ضائعين، لكانوا شراً على الناس، فهو يغسل السيارة ويأخذ له عشرة ريالات، يغسل سيارتين، ثلاثاً، أربعاً، أو أكثر أو أقل، فيقضي وقته وينفع الآخرين، ويكسب قوته، فأياً كان العمل -دون تسمية نوعٍ بذاته- فاعمله مادام ليس فيه حرام، وقد جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: (من بات كالاً من عمل يده؛ بات مغفوراً له) ؛ لأنه يعمل بطاقته.
وأعتقد أني أكثرت عليكم في هذا المجال؛ لأننا -فعلاً- في حاجة ماسة إلى هذا المنهج، بصرف النظر عن حزمة الحطب، أو عن سقية الماء، وقد رأينا طلاب علم كانوا يحملون الماء في أول النهار، ثم إذا جاء وقت الدرس حضروا كما ذكرت لكم، ولا يمدون أيديهم إلى الناس، وهكذا كثير من الناس من يبدأ حياته عاملاً صغيراً، ثم يتدرج ويبارك الله في عمله، ويصبح من كبار الأغنياء.
يا جماعة! وجدنا جمعيات خيرية كثيرة، وجمعيات نسائية، وجمعيات لفئة كذا، ألا يمكن أن نوجد جمعية لإيجاد عمل للعاطلين أو للبحث عن عمل لهم أو مساعدتهم أو لإرشادهم لما ينفعهم؟ الإمكان يمكن، لكن هل يقبل أحد على هذا؟ حبذا لو أن جهة من الجهات تبنت هذه الفكرة، وكل من ليس عنده عمل يأتي إليهم، ويقول: أنا إمكاناتي كذا، أنا متعلم كذا، أنا أحسن كذا، أنا مستطيع أن أعمل كذا، وإذا كان إنسان يحتاج إلى عامل في شيء ما، يتصل بهم ويحصل على ما يريد من طريقهم، فتكون هذه الجمعية كواسطة بين المواطنين المحتاجين لعمال وبين الفارغين من العمل، وهذا يسهل الطريق، ويقرب الاتصال بين، العامل وبين الذي يريد أن يعمل عنده، لعل الله أن ييسر هذا، إن شاء الله.(139/12)
جواز السؤال عند الضرورة أو سؤال السلطان
قال المصنف رحمه الله: [وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسألة كدٌ يكدُ بها الرجل وجهه، إلا أن يسأل الرجل سلطاناً أو في أمرٍ لابد منه) رواه الترمذي وصححه] .
هذا كالحديث المتقدم ما عدا هذا الاستثناء: (المسألةُ كدٌ) ، والكد مثل الخمشة، فهو رضة أو حفرة في الوجه.
فتجوز المسألة للسلطان، وسؤال السلطان ليس داخلاً في هذا، ولماذا السلطان لا يكون داخلاً في هذا؟ لأنك إن سألت السلطان، والحالُ أن البلد مسلم، فالسلطان تحت يده بيت مال المسلمين، ولكل فردٍ حقٌ فيه، فإذا أعطاك السلطان، فإنما يعطيك من حقك الذي في بيت مال المسلمين، فلا يكون في ذلك كدٌ ولا خدوشٌ؛ لأنك لم تسأله ماله الخاص، كما تسأل عامة الناس فتكون ممن سأل الناس أموالهم تكثراً.
أما إذا سألهم غير أموالهم، فإنسان عنده مثلاً وقف خيري على الفقراء أو على الغرباء، أو على الطلاب، وجاء واحد من هؤلاء المنطبق عليهم الوصف الموقوف عليهم، وجاء للناظر وقال: أعطني من حقي، أنا لي حق في هذا الوقف، فهو لم يسأل الناظر ماله، إنما سأله ما تحت يده، وللسائلِ حقٌ فيه؛ فليس في ذلك شيء، وكذلك سؤال الإنسان للسلطان؛ لأن السلطان يعطي الجميع، والسلطان تحت يده بيت مال المسلمين، فهو يعطي منه، وله أن ينظر من يعطي ومن لا يعطي، ومن يعطي الكثير ومن يعطي القليل على حسب ما يترجح عنده من مصلحة الشخص السائل.
ومن باب الطرافة: أن أعرابياً جاء إلى معاوية وقال: أسألك بالرحم الذي بيني وبينك إلا أعطيتني، فقال: هل يوجد رحم بيني وبينك وأنا قاطعها؟! قال: نعم، قال: ذكرني بهذه الرحم! قال: أنا وأنت أولاد آدم؟ قال: والله! أنت صادق، أتسألني بالرحم الذي تتصل إلى آدم؟ قال: نعم، قال: والله! هذه رحم يجب أن توصل، ولك حق، وكتب إليه كتاباً لعامله على بيت المال: ادفع إليه درهماً، وصك الكتاب، وقال له: اذهب بالكتاب إلى عامل بيت المال، فذهب الرجل ومعه كتاب من أمير المؤمنين معاوية، ففض الكتاب، فدخل وأعطاه درهماً! قال: ما هذا؟ قال: الذي كتب لك معاوية، قال: ألا تستحي؟! معاوية يكتب بدرهم؟! قال: هذا كتابه الذي أعطاك، خذه وارجع له، فرجع إليه، وقال: ما هذا يا معاوية؟! تكلف نفسك، وتكتب كتاباً إلى عاملك، وترسلني على درهم! قال: يا أخا العرب: والله! لو وصلت الرحم التي تصل إليَّ بها بمثل هذا ما بقي في بيت المال درهم! وهذا صحيح.(139/13)
كتاب الزكاة - باب قسم الصدقات [1]
إن من حكمة الله عز وجل أن جعل الناس طبقات مختلفة ومتفاوتة في الرزق، فجعل منهم الأغنياء والفقراء لينظر الشاكر من الكافر، وجعل للفقراء في مال الأغنياء نصيباً، ثم قسم هذا النصيب عليهم، وجعله محرماً على الغني، فلا تحل الصدقة لغني إلا في خمسة أحوال، وقد وضح الشيخ وجه حلها لهم وحكمة ذلك.(140/1)
شرح حديث: (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحل الصدقة لغنيٍ إلا لخمسة: لعاملٍ عليها، أو رجلٍ اشتراها بماله، أو غارم، أو غازٍ في سبيل الله، أو مسكينٍ تُصدق عليه منها، فأهدى منها لغني) رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجة وصححه الحاكم وأُعل بالإرسال] .(140/2)
حسن ترتيب المصنف لأحاديث الكتاب
نلاحظ أن المصنف رحمه الله رتب هذا الكتاب ترتيباً عملياً، فذكر أولاً كتاب الزكاة، ثم بيَّن لنا ما هي الأموال الزكوية، فبين أنها من بهيمة الأنعام، ومن الذهب والفضة، ومن عروض التجارة، ومما تخرجه الأرض، وبيَّن لنا أنصباء كل نوعٍ من الأموال الزكوية، سواء في بهيمة الأنعام المختلفة، ففي الإبل أول نصابٍ خمس وفيها شاة، وفي الغنم أول نصابٍ أربعون وفيها شاة، وفي البقر ثلاثون وفيها تبيع.
ثم بيَّن لنا أن نصاب الذهب عشرون مثقالاً وفيها ربع العشر، وأن نصاب الفضة مائتا درهمٍ وفيها ربع العشر، ثم بيَّن لنا أيضاً عروض التجارة، وأنها تُقوَّم بالأحظ للمساكين بالذهب أو بالفضة وفيها ربع العشر، ثم بيَّن لنا نصاب الحبوب والثمار التي تزكى، وأن أول نصابها خمسة أوسق، وأن ما سقي بماء السماء أو العيون بغير كلفة ففيه العشر، وما سقي بالكلفة ففيه نصف العشر.
ثم عقَّب على ذلك بزكاة الفطر، وهي صاعٌ على كل إنسان سواء كان صغيراً أو كبيراً، ذكراً أو أنثى، حراً أو عبداً من المسلمين.(140/3)
تولي الله تعالى لقسمة الصدقات
وبعد أن بيَّن هذا كأنه يقول: لقد عرفنا الأموال الزكوية وعرفنا أنصباءها، فلمن تعطى تلك الزكوات التي جمعناها؟ فجاء بـ (باب قسم الصدقات) ، والأصل في هذا ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم من أن الله لم يكل قسم الصدقات إلى أحد، لا إلى صاحبها، ولا إلى نبيٍ مرسل، ولا إلى عالم فاضل، إنما تولاها سبحانه بنفسه، وكذلك الأموال المكتسبة بغير كدٍ ولا جهد، مثل الميراث، فقد تولى الله قسمته، وبيَّن أنصباء الورثة من الأقارب، كالأبوين والزوجين والأولاد، وبيَّن لكل صاحب فرض فرضه؛ لأن الميراث كسبٌ إجباري، ولا يملك إنسان أن يقول: أنا لا أرث، أو لا أريد الميراث، فنقول له: بل تمتلكه رغماً عنك، ثم بعد أن تمتلكه بالتوريث فتنازل عنه لمن شئت، فهو يدخل في ملكك بالقوة.
فإذا قالت الأم مثلاً: لا أريد، فاجعلوا نصيبي وهو لأولادي، نقول: جزاكِ الله خيراً، نصيبك يدخل في ملككِ ثم يتحول عنكِ إلى أولادك، وهكذا الزوج لو قال: لا أريد من زوجتي ميراثاً، فنقول: جزاك الله خيراً، بعد أن يدخل في ملكك اعتباراً يتحول إلى أولادها منك أو من غيرك.
إذاً: الميراث ملكٌ إجباري، ولهذا تولى الله قسمته.
والصدقات كذلك، وقد بيَّن الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم المبادئ في قسمتها، فأما القرآن الكريم فقوله سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} [التوبة:60] .
و (إنما) كما يقول علماء البلاغة: أداة حصر، فبين سبحانه القنوات التي تسير فيها الصدقات، وهي ثمانية أصناف، وجاء في الصفة العامة فيمن يستحق الزكاة عن الرسول صلى الله عليه وسلم حديث معاذ عندما بعثه إلى اليمن فقال له: (أخبرهم أن الله افترض عليهم زكاةً في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) .
إذا نظرنا إلى الأصناف الثمانية في الآية الكريمة فسنجد أن عنصر الافتقار موجودٌ فيها كلها بدون استثناء.
في الآية الكريمة: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ) قال: (الصدقات) ولم يقل: (صدقة) ؛ لأنها بالنسبة لتنوع الأموال الزكوية فهي صدقات: صدقة الإبل، صدقة الغنم، صدقة البقر، صدقة الحبوب، صدقة النقدين، صدقة التجارة، فهي صدقات ولهذا جمعت (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ) ، وأداة الحصر تمنع دخول غير المحصور عليهم، فالذي يلي (إنما) هو المحصور، والمحصور عليه يأتي بعد المحصور.
إذاً: (إنما) أداة حصرٍ بإجماع أهل اللغة، و (الصدقات) محصورة على من يأتي بعدها من الأصناف الثمانية.
ومن هنا يتبين أنه لا صدقة على غنيٍ؛ لأنه خرج عن نطاق الفقر والحاجة، وهما عنصران موجودان بقوة أو بضعفٍ في الأصناف الثمانية المذكورة في الآية الكريمة.(140/4)
الأغنياء المستثنون من تحريم الصدقة عليهم
هنا بدأ المصنف رحمه الله ببيان من لا تصح لهم الصدقة؛ لأن الذين تصح لهم الصدقة أصناف ثمانية، وأما الذين لا تصح لهم الصدقة فهم صنفٌ واحد وهم الأغنياء، وكما يقال: (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) ، والشيء الذي يمكن حصره في التعليم والبيان ذكره أولاً أولى من الذي لا يمكن حصره، ومن ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل: (ماذا يلبس المحرم يا رسول الله؟ ... ) فالسؤال كان عن الذي يلبسه المحرم، فقال: (لا يلبس المحرم ... ) ، فنحن نسأل عن الملبوس، فأفادنا ما هو الذي لا يلبس؛ لأن ما يلبس لا حصر له، ولكن المراد هو اجتناب ما لا يلبس، واجتناب ما لا يلبس معدود.
إذاً: لا يلبس القُمص ولا العمائم ولا البرانس، ولا السراويل ولا الخِفاف، فهذه أشياء محدودة، أي: فاجتنبها والبس بعد ذلك ما شئت.
فيكون ذكر ما هو محصور أسهل وأيسر في التعليم من ذكر وتعداد ما لا حصر له، ولهذا بدأ المصنف رحمه الله كتاب تقسيم الصدقات بذكر من لا تحل لهم.
قال: (لا تحل الصدقة لغنيٍ إلا لخمسة) : (لا تحل) أي: تحرم ولا تجوز.
من هو الغني ومن هو الفقير؟ يختلف العلماء في حد الغني والفقير، فبعضهم يقول: الغني هو: من عنده قوت يومه وليلته؛ لأنه ليس محتاجاً، وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أن الغني هو من يملك نصاباً؛ لأنه يعطي، والناس أحد قسمين: إما غنيٌ يزكي، أو فقيرٌ يأخذ، فالقسمة ثنائية، فالغني الذي تجب عليه الزكاة هو من امتلك النصاب، والفقير الذي يحق له أن يأخذ الزكاة هو من لم يمتلك نصاباً، ولهذا يجوز عند أبي حنيفة رحمه الله أن تعطي من الزكاة شخصاً يملك مالاً أقل من النصاب قليلاً؛ لأنه بهذا الوصف فقير وليس بغني.(140/5)
الصنف الأول: العامل عليها
فهذه الزكاة أو الصدقة لا تحل لغنيٍ، ولكن هناك حالات اعتبارية تستثنى ولا تكون أساساً في أخذ الصدقة، ولكنها أمور اعتبارية تكون مع الأغنياء، فتحل لهم أخذ الصدقة وأكلها وهي: قال: (لعاملٍ عليها) العامل عليها هو من الأصناف الثمانية، والعاملون عليها هم الذين يكلفهم الإمام أن يخرجوا إلى البوادي ومواطن الأموال يحصون ويخرصون الأموال على أصحابها، ويأخذون منهم الزكاة نيابةً عن الإمام؛ لأن التكليف بجمع الزكاة من الأغنياء ابتداءً كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الرسول صلوات الله وسلامه عليه ليس لديه من الوقت والإمكانيات ما يكفيه لكي يذهب إلى المياه والبوادي وإلى أصحاب الأموال حتى يجمع الزكاة، فكان ينيب عنه من يقوم بذلك؛ لقوله سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103] .
فـ (خذ) هنا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (من أداها طيبةً بها نفسه فبها ونعمت، ومن منعها أخذناها) ، و (نا) هنا ضمير المتكلمين، والمراد النبي صلى الله عليه وسلم ومعه غيره: (ومن منعها أخذناها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا، لا يحل لمحمدٍ ولا لآل محمد منها شيء) .
لو وقفنا هنا لوجدنا كم كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتحمل من أجل الأمة!! يقول: إن الذي يمتنع عن أداء الزكاة سنأخذها منه بالقوة، ونأخذ نصف ماله، وهل سيسلم نصف ماله أو سيقف دونه؟ الجواب: سيقف دونه، وإذا وقف دونه قاتلناه حتى نأخذه بالقوة.
هذا التكليف من الله في تحميل الرسول صلى الله عليه وسلم مسئوليتها، من أجل ان يقوم بها من يأتي بعده، ولهذا قام الصديق رضي الله تعالى عنه بهذا التكليف حينما امتنع قومٌ من دفع الزكاة إليه، بحجة أنهم مسلمون يصلون ويصومون، وسيزكون أموالهم بأنفسهم.
فما الفرق بين أن كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين أن يؤدوها إلى خليفته أبي بكر؟ أجابوا وقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يأخذها منا، قد قال الله له: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] ، وهنا أبو بكر لا يصلي علينا، ولو صلى فصلاته علينا ليست كصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: فاتت صلاة رسول الله علينا عند إعطائه الزكاة، فلا نعطيها غيره، فهم مقرون بها، فأقسم أبو بكر وقال: (والله! لو منعوني عَقَالاً أو عِقَالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه) ، فهو لن يأخذها لنفسه وإنما سيأخذها ويقسمها أيضاً على الأصناف الثمانية.
وهكذا يُحفظ ماء وجه الفقير، فلا يذهب إلى الغني ويقول: لي حقٌ في مالك فأعطنيه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24-25] ، فقد يماطله ويقول: تعالى إلينا غداً أو نحن مشغولون الآن، فيبقى المسكين يتردد عليه من أجل أن يحصل على حقه.
فحفظ الله كرامة المسكين في الإسلام ولم يعرضه لمذلة السؤال في حقٍ هو واجبٌ له، وكلف رسوله صلى الله عليه وسلم بجمعها، وهكذا الخلفاء من بعده، ومن بعدهم، فكل من قام بأمر المسلمين عليه أن يقوم ويجمعها بنفسه، أو ينيب عنه من يجمعها ويأتي بها ليصرفها في مصارفها، كما فعل صلى الله عليه وسلم.
فالعاملون عليها هم الذين ينيبهم ولي الأمر بأن يذهبوا ويجمعوا الصدقات من الأغنياء ويعطوها الفقراء، فهذا الذي قام وعمل لن يعمل مجاناً، وإنما هو عامل كالموظف، ومثل هذا يكون غنياً في نفسه، وليس في حاجة إلى الصدقة، ولكن ولي الأمر هو الذي كلفه بجمع الزكاة على أن يعطيه أجره، فيكون العامل على جمع الزكاة أجيراً للفقراء والمساكين وليس لولي الأمر؛ لأن الأجير لم يجمع الزكاة لولي الأمر ليأخذها لنفسه، بل ليوزعها على الفقراء والمساكين، فيأخذ العاملون على جمع الزكاة أجرهم من حق الفقراء.
إذاً: العاملون على الزكاة هم أجراء وموظفون لحساب المساكين أصحاب الزكاة ليجمعوا الزكاة ويحضروها، فيجب أن يقتطع من حق أصحاب الزكاة أجر الأجراء، ولكن إن تحملت الدولة أجور العاملين على جمع الزكاة من عندها فجزاها الله خيراً، وإن لم تتحملها واقتطعتها من حق الفقراء فلها ذلك؛ لأنهم عملوا من أجلهم وجمعوها إليهم فلهم الحق فيها، فهذا العامل لو كان غنياً يخرج الزكاة عن ماله ويخرج زكاة أشياء عديدة، ولكن له حق من الزكاة؛ لأن ما يأخذه لا يأخذه لفقرٍ ولكن لأجرة العمل، فهو مثل أي موظف، فأعلى موظفٍ في الدولة يأخذ راتباً مقابل عمل، وهذا يأخذ أجراً مقابل عمل.
ولهذا منع النبي صلى الله عليه وسلم بني هاشم أن يكونوا من العاملين على جمع الزكاة؛ لأنهم سيأخذون أجرهم من حق الفقراء، من الصدقات، ولذا يقول بعض الفقهاء: يجوز لبني هاشم أن يكونوا عاملين عليها إن أعطاهم ولي الأمر أجراً من بيت المال، لا من الصدقات التي يجمعونها.
إذاً: لا تحل الصدقة لغنيٍ.
هذه قاعدة عامة، يستثنى منها العاملون عليها؛ لأنهم يأخذونها أجراً على عملهم.
فالعامل له أن يأخذ أجره مقاطعةً، كأن يكون له في اليوم كذا، أو في الشهر كذا، أو يجعل له نسبة فيما يجمعه، مثلاً: (1%) ، أو (0.
5%) يجمعه من الزكوات، وهذا يرجع إلى نظر الإمام؛ لأنه يعمل لما فيه مصلحة الطرفين، (الغني والفقير) ، والمصلحة مراعاة للجانبين ابتداءً: جانب الفقراء، إن وجد أن من مصلحة الفقراء أن يجعل الإمام للعامل حصةً مقطوعة كنسبة مئوية، أو أجراً معيناً في الشهر أو الشهرين أو في مدة جمع الزكاة، فله ذلك.(140/6)
الصنف الثاني: رجل اشتراها بماله
قال: (أو رجلٍ اشتراها بماله) أي: أو رجل غنيٌ اشترى الزكاة بماله، كأن يكون هناك إنسان فقير وجاءته زكوات وكثرت عن حاجته، وكان يحتاج إلى شيءٍ آخر سوى ما جاءه من الزكوات، كأن جاءته عشر شياه وهو يكفيه خمس أو ست يشرب حليبها، والباقي ليس عنده راعٍ يرعاها ولا يريد أن يكلف نفسه الرعي، ويحتاج إلى ملابس لأولاده، ويحتاج إلى الأرز والسكر والشاي، فيبيع من تلك الشياة التي جاءته صدقة؛ لأنها زائدةٌ عن حاجته وقد اقتصر على حاجته ليوجهها في حوائج أخرى.
فجاء إلى جاره وقال له: جاءتني شياه وهذه زائدة عندي، فإن كان لك رغبة في شاة أو شاتين أو ثلاث بعتها لك، وجاره الغني يعلم أنها جاءت لجاره الفقير صدقة فاشتراها، فهو لم يأخذها على أنها صدقة وإنما اشتراها بماله، ولا فرق عند دفع الثمن بين أن يشتريها من فقير جاءته صدقة، وبين أن يذهب إلى السوق ويشتريها من التاجر.
إذاً: هذا الغني الذي اشتراها بماله لم يأكلها صدقة، ولم يُتصدق بها عليه، وإنما هي بمقابل ماله ولو كان يعلم بأنها من الصدقات التي تُصدق بها على جاره.(140/7)
الصنف الثالث: الغارم
قال: (أو غارم) .
الغارم ينقسم إلى قسمين: غارمٌ لنفسه، وغارمٌ لغيره.
والغارم لنفسه تحته قسمان: غارمٌ في وجهٍ شرعي، وغارمٍ في وجه غير شرعي.
فالغارم في وجهٍ شرعي: مثل إنسان متزوج امرأتين أو ثلاثاً أو أربعاً، وكل امرأة في كل سنة تلد توأمين، فأصبح في أربع سنين أو خمس سنين عنده عدد كبير من الأولاد، وإمكانياته لا تفي بحاجات هؤلاء، وهو مكلف بأن يسعى لسد حاجاتهم، فأخذ يستدين، والناس يعرفون ظروفه فأقرضوه وداينوه، حتى كثرت عليه الديون وأصبح غارماً لأصحاب الديون، فهذه الديون لحقته بسبب شرعي؛ لأنها لإعالة نفسه وأولاده.
والغارم لنفسه في وجهٍ غير شرعي: مثل إنسان أخذ يبذر بماله الذي في يده في أمور غير مشروعة، إما أنها من باب التبذير في الحلال أو من باب الإنفاق في الحرام حتى فني ماله، ثم أخذ يستدين، فإذا كان يستدين لينفق في وجوهٍ محرمة لحقته الديون وأصبح غارماً، والديون التي لحقته وأصبح غارماً بسببها لأصحابها أنفقها في وجهٍ محرم، فحينئذٍ ذاك غرم في وجهٍ شرعي لحظه وحظ عياله، وهذا غرم في وجهٍ غير شرعي.
فالغارم لنفسه غرماً شرعياً له حق أن يأخذ من الزكاة من أجل أن يسدد دينه الذي ركبه بسبب الحاجة وبالوجه الشرعي، وفي ذلك إعانة له على حياته، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] .
أما الغارم في وجهٍ غير شرعي فلا يعطى من الزكاة؛ لأنه يدفعها في محرم، ويضعها في غير طريقها، ولو أعطيناه لكنا قد أعناه على الإثم والعدوان، والله قد نهى عن ذلك.
إذاً: الغارم لحظ نفسه تحته هذان القسمان، أحدهما يأخذ والآخر لا يأخذ.
والغارم لحظ غيره: مثل: رجل من أهل المروءات والنجدة والإحسان والإصلاح بين الناس، وجد عائلتين أو شخصين قد وقع بينهما نزاع وخصومة، والنزاع والخصومة في أموال، والأموال ملتبسة مشتبهة، وكلا الفريقين يدعي على الآخر وأدلتهم غير واضحة.
فجاء يصلح بينهم بعد أن وقع بينهم النزاع والقتال والقطيعة والخصومة، فقال: أنا أتحمل لكم المال الذي تختلفون فيه مقابل الكف عن النزاع، فكفوا وتصالحوا وكونوا إخواناً، وهذا المال الذي هو سبب النزاع أنا أضمنه، فطالبوه فقال: أنا أجمعه لكم؛ لأنه ليس عنده مقدار المال الذي ضمنه للطرفين، فله الحق أن يأخذ من الزكاة ما يسدد ما ضمنه في ذمته للمتخاصمين؛ لأن في ذلك إصلاحاً بين الناس، حتى أن بعض العلماء قال: ولو كان غنياً فيعطى ولا نرهقه في ماله، حتى لا يتوقف بعد ذلك عن الإصلاح بين الناس.
فإذا علم أنه سيسدد عنه من مال الزكاة ما ضمنه للغرماء الذين أصلح بينهم، فلن يتأخر في قضيةٍ أخرى أن يدخل فيها بالإصلاح.
إذاً: الغارم لغيره يُسَاعد ويعطى ولو كان غنياً، ولا نرهقه في ماله؛ لأنه فاعل خير، وما دام فاعل خير فإنه يجب أن نعينه على فعل الخير.
وأعتقد أن هذا كان معروفاً في الجاهلية عند العرب، فقد كانوا إذا تقاتلت قبيلتان وطال القتال بينهما يأتي شخص ذو نجدة ومروءة ويسعى بين الفريقين بالصلح فيكفوا عن القتال ثم ينظر: ماذا لكل قبيلة عند الأخرى من الدية؟ فتكون هناك المقاصة وما زاد يتحمله هو، سواء من ماله إن كان ذا مالٍ وفير أو يتعاون معه العرب ويجمعون له ما تحمل في ذمته، فيوفي ما التزم به للغرماء.(140/8)
الصنف الرابع: الغازي في سبيل الله
قال: (أو غازٍ في سبيل الله) .
كأن يدعو الإمام إلى النفير العام، وأن كل من كان ذا قوةٍ على القتال فليتقدم.
فإذا تقدم رجل غني، وقال: أنا أريد سلاحاً، أعطوني سلاحاً وفرساً، ولوازم القتال، فله أن يأخذ من الزكاة ما يجهزه، قيل: لأول غزوة؛ لأنه بعد ذلك إن استشهد فإلى رحمة الله، وإن عاش فله من سهم الغنائم ما يغنيه.
وإن كان فقيراً لا مال عنده، فعلى ولي الأمر أن يزوده إن استطاع، وإن لم يكن عند ولي الأمر ما يزوده فالكل معذور كما قال الله: {تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:92] ، فهو أدى ما عليه وتطوع بنفسه، ولكن لم يجد آلة القتال، ولا يمكن أن يذهب أعزل ليقابل مسلحاً، فهذا تهور وليس بقتال ولا شجاعة.
إذاً: الغازي في سبيل الله إما فقير وإما غني، فإن كان فقيراً تعين على ولي الأمر أن يزوده بما يحتاجه من نفقةٍ في السفر، ومن سلاح وملبس ومركب وكل ما يحتاجه المقاتل، وإن كان غنياً فإن تبرع من عنده فهو غازٍ بماله ونفسه، وإن لم يتبرع فهو غازٍ بنفسه دون ماله، وله أن يأخذ من الزكاة ما يجهزه.
وهنا يقول بعض العلماء: لو أننا قدَّرنا له في هذه الغزوة مسيرة شهر -الذهاب مع المعركة والعودة- ولكنه ذهب وقاتل ورجع في مدة عشرين يوماً، فهل نسترجع من هذا الغازي ما يقابل العشرة الأيام التي كنا قدَّرناها زيادة أم لا؟ ولو أننا قدَّرنا له في اليوم عشرة ريالات، واستغرق الشهر المقدر له، لكنه بدل أن يصرف عشرة ريالات في اليوم صرف خمسة ريالات، فرجع بنصف المبلغ الذي أعطيناه إياه، فهل يستحق الباقي الذي وفرَّه مما قدرناه له وأعطيناه إياه أم أنه لا يستحقه وعليه أن يرده إلى بيت مال المسلمين؟ الجمهور على أنه إن كان قد قتر على نفسه وضيق عليها في نفقته وما يلزمه حتى وفَّر شيئاً، فقد وفر من ملكه الذي أعطيناه إياه وامتلكه بوجهٍ شرعي، فما زاد فعليه وما نقص فله ولا يطالب بإعادة شيء؛ لأننا أعطيناه شيئاً مقطوعاً وقلنا: هذا مقابل ذاك.
فالغارم إذا كان الدين الذي ركبه غرمه لنفسه في الخير أو لغيره، فإن كان لنفسه في نفقته ونفقة عياله، إن أعطي تطوعاً دونما حساب أو تقدير فكل ما جاءه يملكه، وإن كان غارماً لدينٍ أصلح به بين فريقين وتعين الدين الذي غرمه مائة ألف مثلاً وجاءه مائتا ألفٍ أو ثلاثمائة ألف، فعليه أن يرد الباقي إلى بيت مال المسلمين؛ لأنه غنيٌ في ذاته وقد أعطيناه ما لحقه للمتخاصمين، فهو لم يُعط لكي يُتصدق عليه فهو غني، لكنه تصدى للإصلاح بين الفريقين، والإصلاح احتاج إلى مائة ألف، وعلم الناس بذلك فأخذوا يعطونه من حساب الزكاة حتى زاد على الدين الذي هو مطالبٌ به، فما زاد عن الدين الذي هو مدينٌ به وملتزم به بين الفريقين يرده؛ لأنهم لم يعطوه ليتملك ويستغني بمال الزكاة.(140/9)
الصنف الخامس: الهدية للغني من الفقير المتصدق عليه
قال: (أو مسكينٌ تُصدق عليه منها فأهدى منها لغني) .
مثل أن تتصدق على جارك بزكاة الفطر تمراً أو براً أو زبيباً أو غير ذلك، فجئت يوم العيد تزوره فقدم إليك القهوة مع التمر -كما هي العادة- فنظرت وفطنت بأن التمر الذي قدمه إليك هو من تمرك الذي تصدقت به عليه، فهو عنده تمر كثير، وتُصدق عليه بتمور متعددة، ولكن حينما جاء بالقهوة وجاء معها بالتمر صادف أن جاء بالتمر الذي جاءه من عندك أنت، فحينما يقدم لك التمر مع القهوة هل تنظر وتقول: أنا لا أكل هذا؛ لأن هذا من صدقتي عليك، وأنا غني عن أكل الصدقة، أم أنك لا تأكل صدقةً ترجع فيها، ولكن قرىً وضيافة؟ الجواب: أنك تأكل؛ لأنك حينما تأكل من التمر لا تأكله على أنه منك، بل على أنه منه هو؛ لأنه قد امتلكه بوجهٍ شرعي وأصبح في ملكه يتصرف فيه تصرف الملاك، إن شاء دفعه في صدقةٍ عنه وعن عياله، وإن شاء باع الزائد، وإن شاء أطعمه فقراء آخرين، وإن شاء ضيفك به.
إذاً: هذا غني، وهذه الصدقة تصدق بها بالأمس وقُدمت إليه وهو غني، فلا مانع أن يأكلها، فهي تحل له؛ لأنها قدمت إليه لا في إطار الصدقة، ولكن في إطار الضيافة والقِرى.
ومن هنا -كما يقولون- اختلف الاتجاه واختلف الاعتبار، واختلفت اليد فاختلف الحكم كما جاء عنه صلوات الله وسلامه عليه: (أنه أصبح ذات يوم وقال: ائتوني بغدائي -والغداء كان في الضحى- فقدموا إليه خبزاً وخلاً وملحاً، فقال: لماذا الخل والملح وأنا أرى البرمة تغط باللحم؟ فقالوا: يا رسول الله! إن ما في البرمة لا يحل لك، قال: ولماذا؟ قالوا: إنه لحمٌ تصدق به على بريرة وأنت لا تأكل الصدقة -فهذا كلام فقهي صحيح- فقال: هو عليها صدقة ولنا منها هدية) ، فيكون قد اختلف الاعتبار واختلفت اليد، مع أن اللحم واحد، فهذه فخذ شاة، وضعت في يد بريرة، فامتلكتها بريرة، ثم طبختها، فلها بعد ذلك أن تهدي منها لمن تشاء، فحينئذٍ أكل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتبار أنها هدية من بريرة، والمتصدق ذهب لحاله، والصدقة وصلت محلها وانتقلت من المتصدق عليه إلى الآخرين هديةً.
وهكذا هذا غنيٌ تصدق على فقيرٍ بتمرٍ أو بلحمٍ أو بخبزٍ أو بأي شيء، ثم جاء الغني يزوره فقدم إليه طعاماً ومن ضمن الطعام ما كان تصدق به بالأمس عليه، فحينئذٍ تحل له تلك الصدقة؛ لأنها قدمت إليه باسم الضيافة لا باسم الصدقة.(140/10)
تحريم الصدقة على الغني بمال أو تكسب
قال المصنف رحمه الله: [وعن عبيد الله بن عدي بن الخيار رضي الله عنه: (أن رجلين حدثاه أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألانه من الصدقة، فقلَّب فيهما النظر فرآهما جلدين، فقال: إن شئتما أعطيتكما؛ ولا حظ فيها لغني، ولا لقويٍ مكتسب) رواه أحمد وقوّاه أبو داود والنسائي] .
بعدما بين المصنف رحمه الله أن الصدقة لا تحل للغني الذي عنده من المال ومن الطعام ما يغنيه عنها، جاءنا بنوعٍ آخر من الغنى، وهو غنى غير مباشر، فجاء بحديث أن رجلين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألانه الصدقة، فنظر فيهما فوجدهما جَلِدين، - (الجَلِد) القوي- فنظر فيهما وصوب النظر وتأمل، ثم قال لهما: (إن شئتما أعطيتكما) ، ثم بيَّن لهما أن الصدقة التي يطلبانها لا تحل لغنيٍ ولا لقوي مكتسب.
يعني: إذا كان قوياً في بدنه فهذه طاقة يستطيع أن يستعملها ويتكسب بمقتضاها، فهو غنيٌ بطاقته، وبقوته، وباستطاعته أن يجد طريقاً للتكسب بهذه القوة، فإذا كان قوياً جَلِداً لكنه طلب مجالاً يصرَّف فيه هذه القوة ويتكسب عن طريقها ويستغني بما يتكسب فلم يجد؛ فالقوة وحدها لا تكفي، فهو فقير.
فالقوي المتكسب لا تحل له الصدقة؛ لأنه بتركه التكسب مقصرٌ في حق نفسه، وكان عليه أن يُعمل تلك القوة في مجال التكسب ويستغني بما يتكسبه، وهذا في حدود الطاقة البشرية للإنتاج، فإذا كنت قادراً على العمل ولديك طاقة، فلا تهملها وتعطلها والناس في حاجةٍ إليها! وكما جاء أن شاباً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله، فوجده جَلِداً قوياً، فسأله عما يملك، ثم أرشده إلى الاحتطاب والبيع.
وقد نبهنا سابقاً على أن ما تعانيه كثيرٌ من الدول الصناعية وليست النامية فقط؛ هي مشكلة البطالة، ففي بعض الدول في أوروبا توجد ثلاثة ملايين يد عاطلة.
فكيف تعطلت طاقة ثلاثة ملايين؟ فلو اجتمعت هذه في جهاد، أو في حفر الأنهر، أو في بناء الجسور، أو في رصف الطرق، فكم ستنتج قوة الثلاثة الملايين هذه؟ إذاً: الطاقة البشرية هي أعز ما تكون في الأمة، فإذا تعطلت تعطل كثير من رأس مالها، ولهذا لما قال الشاب: ليس عندي شيء، وليس عندي عمل، وليس عندي مجال، وجهه صلى الله عليه وسلم إلى العمل الحر، فقال: (من عندك في البيت؟ قال: أنا والعجوز، قال: ماذا عندك من أثاث البيت؟ قال: حلسٌ نفترش نصفه ونلتحف بالنصف الآخر، وقعبٌ نأكل ونشرب فيه، قال: عليَّ بهما) فأخذهما وقال: (من يشتري مني هذين؟ فباعهما بدرهمين، وأعطى الشاب الدرهمين، وقال: اذهب فاشتر بدرهم طعاماً واتركه عند أهلك، واشتر بدرهمٍ فأساً وحبلاً وائتني بهما، فذهب وأحضر الفأس والحبل، فأخذ صلى الله عليه وسلم عوداً ووضعه في الفأس وقال: خذ واذهب واحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوماً، فذهب واحتطب وباع - ثم أتى فقال صلى الله عليه وسلم: لأن يأخذ أحدكم حبلاً وفأساً فيحتطب فيبيع فيستغني، خيرٌ من أن يتكفف الناس السؤال أعطوه أو منعوه، ومن يتصبر يصبره الله، ومن يستغن يغنه الله) .
وهكذا أيها الإخوة! الصحة والقوة والطاقة غنىً، فعلى صاحبها أن يصرفها فيما يعود عليه بما يغنيه عن الناس، وجميع أعمال الناس في هذه الحياة إنما هي بتصريف الطاقة البشرية، فالموظفون في مكاتبهم وفي جميع دوائرهم يتقاضون مرتباً على الطاقة البدنية أو الفكرية التي يبذلونها كل على حسب موقعه، ولهذا كانت المعاوضة على قدر العطاء.
فالذي لديه وسيلة التكسب وله مجالٌ في إعمالها يعتبر غنياً بوجود هذه الطاقة، ووجود ما يوجهها فيه ويعود عليه ذلك بالكسب.
أما إذا كانت الطاقة موجودة ولكن ليس لها مجال، ولم يجد ما يوزعها أو يصرفها فيه، فهو فقيرٌ يحتاج إلى العطاء، وبالله تعالى التوفيق.(140/11)
كتاب الزكاة - باب قسم الصدقات [2]
إن من محاسن شريعة الإسلام أنها حفظت كرامة الإنسان، وصانته عن الابتذال، فإذا كان الإنسان محتاجاً فقد جعل الله عز وجل له نصيباً في الزكاة، وأمر ولاة الأمر أن يعطوه نصيبه دون أن يحيجوه إلى إراقة ماء وجهه؛ لأن في المسألة ذلة وإراقة لماء الوجه ولهذا حرمها الشرع إلا لمن كان مضطراً إليها فرخص فيها لثلاثة أصناف فقط، ولما كانت الصدقة هي أوساخ الناس حرمها الله عز وجل على نبيه وآل بيته تطهيراً لهم وتكريماً، وفي هذه المادة بيان لآل البيت ولمن يحل له أخذ الزكاة.(141/1)
الأصناف الذين تحل لهم المسألة ويصح إعطاؤهم من مال الزكاة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن قبيصة بن مخارق الهلالي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجلٍ تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك) ] .
هذا حديث قبيصة يبين النبي صلى الله عليه وسلم فيه أن الصدقة لا تحل إلا لواحد من ثلاثة أصناف:(141/2)
الصنف الأول: رجل تحمل حمالة
الصنف الأول: رجلٌ تحمل حمالة.
والحمالة تكون بأن يحمِّل المرء ذمته حقوقاً لغيره، ليس له فيها شيء -كما أسلفنا- كأن يجد طرفين متنازعين على مال، ويقوم النزاع على تحصيل هذا المال، وكلٌ يدعي المال لنفسه، وليس هناك طريق لفض هذا النزاع إلا الصلح؛ لأنه ليست هناك بينة، ولا طريقة يعتمد عليها لإحقاق الحق لصاحبه، فيأتي هذا الشخص ويتدخل بينهما بالصلح فيتحمل المال المتنازع عليه بينهما في ذمته، ويصطلحان على ذلك، فهذا الشخص المصلح ليس عنده مال يدفع منه تلك الحمالة، أو أن عنده مالاً ولكن لا يريد أن يرهق نفسه، ففي هذه الحالة يجوز له أن يسأل الناس ليجمع مقدار الحمالة التي تحملها.
فهذا الشخص نحن نعرف أنه غني بأملاكه، وبكسبه، وبمزروعاته، وبعمائره، فيأتي ويقول: أنا يا جماعة الخير! تحملت بين فلان وفلان مبلغ كذا، أريد أن تجمعوا لي منه، فحينئذٍ يجوز لكل إنسان يستطيع أن يدفع شيئاً أن يقدم إليه مساعدةً في حمالته.
ومعلوم أنه لن يعلم أحد مقدار ما جمع بالنسبة للحمالة، فقد تكون الحمالة مائة ألف وهو يسأل، ثم لا يعلم أحد كم جمع في هذا المجلس، ولا في ذاك المجلس؟ ولا كم حصل عليه؟ فتكون حاجته للمسألة أمر بينه وبين الله.
فإذا جمع بالمسألة التي حلت له بموجب الحمالة مقدار الحمالة فليمسك، ولا يحق له أن يأخذ شيئاً زائداً عن حمالته؛ لأن الناس لا يعطونه لشخصه، إذ هو غني في الأصل، ولا يحق له أن يأخذ لشخصه شيئاً، إنما أخذ من أجل الحمالة، ومن أجل الإصلاح، وقد حصل على مقدار الحمالة فانقطع سبب السؤال الذي أحل له المسألة.
وهنا كما قالوا: يُعطى ولو كان غنياً، من أجل مساعدة أهل المروءة وأهل النجدة، وأهل المعروف، حتى لا يتكاسلوا ولا يتراجعوا عن التدخل في الإصلاح بين الناس، قال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] ، ولهذا حل له أن يطلب ويسأل ويصرح، سواء أخذ من بيت مال المسلمين من الزكاة، أو أخذ من الأفراد، فكل ذلك جائز له، فإذا حصل على مقدار الحمالة فليمسك عن السؤال.(141/3)
الصنف الثاني: من أصيب في ماله بجائحة
قال: [ (ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش) ] .
الصنف الثاني: رجل أصابته جائحة، والجوائح كثيراً ما تكون في الزروع، وقد تصيب غير الزروع، والأصل فيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح.
ومثال الجائحة أن يأتي إنسان إلى مزرعة بعد أن ظهر في ثمرها الصلاح وحلّ بيعها، فاشتراها على أنها مبقاة في أرضها أو في نخيلها، حتى ترطب، ثم يأخذها إلى السوق، فجاءت جائحة: كرياح عاتية، أو برد شديد، أو أي آفة من آفات الزراعة وأفسدت تلك الثمرة، وأصبح المشتري لا يستطع أن يستفيد مما اشتراه شيئاً.
فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح، بمعنى أن على صاحب البستان أن يرد الثمن للمشتري؛ لأن المشتري لم يستفد شيئاً، وقد ثبت في الحديث: (فبم يأكل أحدكم مال أخيه؟) .
أنت بعتها عليه مثلاً بعشرة آلاف، فجاءت الجائحة وأفسدتها، فبأي وجهٍ تأخذ العشرة آلاف هذه وتأكلها؟ ليس لك وجه حق؛ لأن المشتري لم يستفد من الثمرة شيئاً، فالجائحة لم تنزل عليه إنما نزلت على مزرعتك وفيها الثمرة المباعة.
والجوائح ليست من الأرض أو من فعل الخلق، إنما هي من فعل الله سبحانه وتعالى، فهي آفات سماوية كما يقولون.
ومثال آخر للجائحة: لو كان هناك سفينة في عرض البحر فهاج بها البحر وتلاطمت بها الأمواج من كل جانب فغرقت، فهذه أيضاً تكون جائحة.
فالإنسان إذا أصيب بجائحة في ماله، بعدما كان يعد من كبار التجار والأغنياء، وكانت سفنه تعبر المياه، وكانت سياراته تعبر الصحراء بالبضائع، لكنها أصيبت بجائحة، وذهب رأس ماله في هذه التجارة، ففي هذه الحالة يجوز له أن يسأل لكن هل له أن يسأل حتى يصيب العوض لكل ما ذهب منه؟ كالسيارة التي فيها مائة ألف، والباخرة التي فيها من البضاعة ما قيمته نصف مليون، والبستان الذي فيه ما يعادل خمسمائة ألف، فهل يسأل حتى يصيب قيمة ما تلف عليه، سواء كان في البستان أو في الباخرة، أو في السيارة؟ الجواب: لا؛ لأنه ليس في باب معاوضة ومثامنة مع الله، وإنما نظراً لاجتياح ماله، ولأنه أصبح صفر اليدين؛ فإنه يسأل حتى يصيب قواماً من عيش، أي: الذي يقيم معيشته، والذي يقيم حاجته، ويستغني بما يجمعه عن تكفف أيدي الناس، فإذا أصاب قواماً من عيش فليمسك، وله أن يبدأ تجارته من جديد، والله هو الرزاق.
إذاً: هناك فرقٌ بين الأول والثاني، فالأول له أن يسأل حتى يستوفي كامل حمالته، وأما الثاني فإنه يسأل إلى أن يصيب قواماً من عيش، وهو الذي تكون به معيشته، ويصبح كما يقال: كعامة الناس، ثم يمسك عن المسألة.(141/4)
الصنف الثالث: من أصابته فاقة
قال: [ (ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش) ] .
الصنف الثالث الذي تحل له المسألة: شخصٌ أصابته فاقة، لا بجائحة وقعت عليه، ولكن بطبيعة حاله، كما لو كان يشتغل بالبيع والشراء والسوق ينشط ويكسد، والتجارة ربح وخسارة، فكسد بيعه وخسر في التجارة، فهو بهذا أصابته فاقة وفقر.
ومثل هذا لو عجز عن العمل في وظيفته أو صناعته فتركها، أو أن صناعته لم يبق لها سوق، واستبدلها الناس بأخرى تغني عنها، وأصبح لا يحسن شيئاً غير الذي كان يحسنه أولاً، وجاءت هذه الأشياء المستحدثة وعطلت صناعته، مثاله: ما كنا نشاهد قبل زمن من صناعة الجلود الوطنية، كالقراب، والنعال، وأشياء أخرى، والآن أصبحت هذه الأشياء مستوردة وبربع القيمة وتؤدي خدمة أكثر من الصناعات الأولى، وأصبح لا يستعمل المصنوعات المحلية إلا بعض أهل البوادي، فجاءت الآن الثلاجة، وأصبحت هذه القربة الآن -كما يقولون- من التراث القديم.
فإنسان كانت صنعته أن يعمل القراب ويبيعها، ويصنع النعال ويبيعها، وهذه صناعة وطنية، لكنها أصبحت الآن ليس لها رواج، وبالتالي يصاب صاحبها بالفاقة بسبب تعطيل مهنته.
ومثل هذا أيضاً الوراقون الذين كانوا يكتبون الكتب لطلبة العلم، فقد كسدت حرفتهم؛ لأن المطابع الحديثة الآن صارت موجودة، وهي تدفع بالكتب إلى الأسواق بكميات كبيرة.
فإذا كان هناك إنسان أصابته فاقة سواء بسبب كساد عمله وتفويت باب رزقه الذي كان معتاداً عليه، أو أن السوق هبط ولحقته الفاقة بعدم وجود الربح في سلعته أو في السوق بصفةٍ عامة، وأصبح فقيراً ذا فاقة، ففي هذه الحالة تحل له المسألة إلى أن يصيب قواماً من عيش.
كذلك هنا لا نقول: إنه قد حلت له المسألة إلى أن يعوض كل ما فقده، أو إلى أن يرجع إلى ما كان عليه في نشاط تجارته؛ لأن المقصود أن لا يبقى يتكفف الناس بالسؤال، بخلاف الزكاة؛ لأن الزكاة مفروضة له، فلو أعطي من الزكاة بدون مسألة عطاء أياً كان مقداره فلا شيء عليه، ما دام لم يتكفف الناس السؤال، ولم يرق ماء وجهه أمام الناس لما جاء عن عمر رضي الله عنه: (أنه أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم عطاءه، فقال: يا رسول الله! أعطه من هو أحوج إليه مني) ، أي: أنا في غنىً عن هذا والمحتاجون كثير، فأعطه من هو أحوج مني، (فقال: يا عمر! ما أتاك من هذا المال من غير مسألة ولا إشراف نفسٍ إليه فخذه، فإن شئت تمولته، وإن شئت تصدقت به) ، أي: فأنت تملكه وليس عليك في ذلك شيء؛ لأنه جاءك من غير مسألة.
إذاً: في هذا الحديث بيان متى يجوز للإنسان أن يقوم ويتكفف ويسأل: يا فلان! أعطني، يا أيتها الجمعية الفلانية أعطيني، أنا حالي كذا وكذا، إلا أنه جاء فيه القيد في الصنف الثالث الذي أصابته فاقة.
قال: [ (حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقة) ] .
نحن عندنا ثلاثة أصناف: صنف تحمل حمالة، وصنف اجتاحت ماله جائحة، وصنف أصابته فاقة، ولم يأت قيد الإشهاد من ثلاثة من ذوي الحجى إلا على من أصابته الفاقة، فلماذا جاء هذا القيد؛ وهو أن يأتي بثلاثة شهودٍ ليسوا عاديين، ولكن من ذوي العقل والفطنة والمعرفة بحياة الناس؟ وما الفرق بين الأصناف الثلاثة، حتى يشترط للثالث الذي أصابته الفاقة أن يشهد له ثلاثة من أرباب الحجى، من أهل محلته الذين يعيشون معه؟ ولماذا الذي تحمل حمالة والذي أصابته جائحة لم يطالبا بأن يقدما شهوداً؟ الجواب: الجائحة لا تحتاج إلى إشهاد عليها، فهي بنفسها شاهدة على نفسها، كإنسان كانت بساتينه قائمة والثمرة موجودة فيها، فأتت عليها رياح شديدة، فأفسدتها؛ فسيقول الناس عنه: مسكين! كسرت الرياح نخله وأطاحت بثمره؛ فهذه الجائحة بنفسها ظاهرة لا تحتاج إلى إثبات ولا تحتاج إلى إشهاد عليها.
وكذلك الذي تحمل حمالة، ليس عمله في السر، فهؤلاء أناس متنازعون، والنزاع معروف عند الجميع، فهذا جاء وأوقف النزاع، وعلم الجميع أنه كان سبب إيقاف النزاع، وأنه تحمل لهم.
إذاً: الذي تحمل حمالة، ومثله الذي أصابته جائحة لا يحتاج إلى الإشهاد؛ لأن حالته شاهدةٌ عليه وشاهدةٌ له، أما من كان ظاهره اليسر بين الناس، ويلبس كالمعتاد، ولكن شأنه في بيته لا ندري عنه، ولكنه في الواقع من الذين قال الله تعالى فيهم: {يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ} [البقرة:273] ، فهو يبعد عن نفسه منظر الفقر والحاجة؛ إعزازاً لنفسه وكرامةً لشخصه وابتعاداً عن التهم، وهو في حقيقة الأمر محتاج وعنده فاقة.
فهنا لما كانت حالة الفاقة خفية احتجنا فيها إلى إشهاد ثلاثة أشخاص معروفين من ذوي الحجى -أي: العقل- يعرفون مكسبه ومصرفه، وأن مصرفه أكثر من مكسبه، ونحن الآن نجد صوراً عديدة وكثيرة جداً من هذا الباب، ولكنها قد تكون خفية في أبناء المجتمع، فقد تجد إنساناً في الصباح وتسأله أين تذهب؟ يقول لك: أذهب إلى العمل، وفي الظهر تلقاه وتقول: من أين أتيت؟ يقول لك: من العمل، وتراه يركب سيارته وثيابه نظيفة ومتميزة، ولكن راتبه على هذا العمل أربعة أو خمسة آلاف، وعنده زوجتان وكل واحدة عندها خمسة أو ستة أولاد، ويحتاج إلى شقتين، ويحتاج إلى كذا وكذا، فماذا يصنع براتبه بجانب هذه التبعات؟ فهذا أصبح مصرفه أكثر من مورده وأصبح في فاقة، ولذلك يعطى من الزكاة؛ لأن المسكين عند العلماء من كان دخله أقل من مصرفه.
وعلى كلٍ: فهذا الشخص يحتاج إلى ثلاثة عقلاء يشهدون لله أن مرتبه كذا، وإذا كان في آخر النهار فهو يتسبب في كذا، مثلاً: يذهب يبيع ويشتري في السوق، أو يعمل سواق (تاكسي) أو يعمل عملاً حراً، فيشهدون أنهم يعرفون دخله ويعرفون مصرفه وكثرة نفقاته، وأنه ليس عنده ما يوفره، وليس عنده ما يكمل حاجة أولاده وعياله، فهذا في فاقة؛ فإذا كان مديناً فإنه يوقف الطلب عنه، وهذا ما يسمى (بإثبات الإعسار) ، إذا استدان وجاء الدائنون يطالبونه فاعتذر وقال: ليس عندي ما أوفيكم به فأنا في فاقة، ومدخلي لا يفي بمصرفي، فإذا شهد ثلاثة من ذوي الحجى على تلك الحالة أُوقف عنه الطلب، وأنظر إلى ميسرة، كما قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] .
فهذا هو الصنف الثالث الذي يحق له أن يسأل الناس وله عليهم أن يعطوه؛ لأنه ممن يستحق، وقد يكون أولى بعشرات المرات من الشخص الذي لا تعرفه ويطوف على الناس، متخذاً المسألة مهنة.
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سأل الناس تكثراً لقي الله وليس في وجهه مزعة لحمٍ) ، وفي قصة الرجل الذي مات وقدم للصلاة عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: (هل ترك شيئاً؟ قالوا: نعم، ثلاثة دنانير، قال: ثلاث كيات من نار) ، لماذا هذا الوعيد والناس قد تترك مئات الملايين؟ والجواب: أنهم ما كانوا يتكففون الناس بالسؤال، وما كانوا يتكثرون بالمسألة، بل كانوا يعملون، وكانوا يديرون أموالهم ويربحون، ولا مانع يمنعهم فهذا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه تصدق بقافلة بكاملها، وعثمان رضي الله تعالى عنه موَّن جيش العسرة بكامله، فهذا إذا مات كم يكون قد ترك في تركته؟ لكن هذا الرجل الذي دعا عليه صلى الله عليه وسلم بثلاث كيات من النار مقابل الثلاثة الدنانير، كان يسأل الناس، والذي يسأل الناس لا يجوز له أن يسأل إلا مقدار حاجته يومياً، فإذا مات وكفن عنده رأس مال قدره ثلاثة دنانير، فيكون معنى هذا أنه كان يسأل آخر مسائله عن غنىً؛ لأنه لديه ثلاثة دنانير، ولا يحق له أن يسأل وعنده مثل هذا.
إذاً: هذا الذي أصابته فاقة يحتاج إلى إقامة الشهادة، والشهادة فيها شهادة خاصة بأن تكون من ثلاثة من ذوي الحجى ممن يعرفون حالته، فإن شهدوا على أنه أصابته فاقة فحينئذٍ له حق المسألة، وإن كان مديناً أُوقف الطلب عنه حتى يُيسر، والله تعالى أعلم.
[ (قال: فما سواهن من المسألة يا قبيصة! سحت يأكله صاحبه سحتاً) رواه مسلم وأبو داود وابن خزيمة وابن حبان] .
أي: وما سوى هذه الثلاث الحالات فما يأكله -أي ما يأخذه- صاحبه يكون سحتاً، والسحت: هو أشد ما يكون من أكل أموال الناس بالباطل.(141/5)
تحريم الصدقة على آل البيت
قال المصنف رحمه الله: [وعن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس) .
وفي رواية: (وإنها لا تحل لمحمدٍ ولا لآل محمد) رواه مسلم] .
هذا البحث يأتي به المصنف رحمه الله تتمةً لمن لا تحل لهم الصدقة، وقد عرفنا فيما تقدم أن الصدقة لا تحل لغنيٍ ولا قويٍ متكسب، وتحل لثلاثة نفر وهم الذين ذكرهم في حديث قبيصة.
فجاء المصنف بهذا الحديث وفيه: (أن الصدقة لا تحل لمحمدٍ ولا لآل محمد صلوات الله وسلامه عليه) ، والأخبار في هذا كثيرة، وقد تقدم حديث: (من أداها طيبةً بها نفسه فبها ونعمت، ومن منعها أخذناها وشطر ماله، عزمةً من عزمات ربنا، لا يحل لمحمدٍ ولا لآل محمدٍ منها شيء) .
وقد سبق التنويه في أول كتاب الزكاة إلى أن الله سبحانه وتعالى كلف رسوله بجمعها وتقسيمها، مع أنه لا يحل له منها شيء، وقلنا: إن في عفة الرسول صلى الله عليه وسلم عن أموال الناس -وآل بيته تبعاً له- سداً ومنعاً لتلك السهام الآتية ممن في قلوبهم المرض، فلو قام وجمعها وأخذها وشطر المال إذا امتنع صاحبها من أدائها، وكان له من الزكاة ما شاء، كالربع أو الخمس، لقال القائلون من مرضى القلوب: ما قام ولا تعب ولا تكلف جمعها إلا لأن له حظاً فيها، ولكن حينما يُمنع منها بالكلية وتحرم عليه صلى الله عليه وسلم، فإذا قام صلى الله عليه وسلم واجتهد فيها وجمعها فلا يمكن لأي نفسٍ مريضة القلب أن تتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أخذها وجمعها بأي تهمةٍ أو شبهة؛ لأنها محرمة عليه.
إذاً: فلماذا يفعل هذا؟ الجواب: يفعله طاعةً لله، وحفظاً للمسكين من أن يريق ماء وجهه عند الناس.
ومما جاء أنه فعله صلى الله عليه وسلم تحرزاً وتحفظاً في هذا الباب: (أنه كان يمشي ومعه الحسن رضي الله عنه -وهو طفل صغير- فرأى تمرةً في الأرض فالتقطها ووضعها في فيه، فنهاه وقال له: كخ كخ وأدخل إصبعه في فيه وأخرجها منه، ثم قال: لولا أني أخشى أن تكون من تمر الصدقة لتركتها له يأكلها) .
فهنا قال: (أخشى أن تكون) ، فما بالك بالتي هي من الصدقة يقيناً! فهي محرمة عليه من باب أولى.(141/6)
سبب تحريم الصدقة على آل البيت
ثم بين هنا في هذا الحديث سبب التحريم فقال: (إنما هي أوساخ ... ) ، يا سبحان الله! هذه تمرة تشتهيها النفس، فكيف تكون أوساخاً والدينار الأحمر الذي يلمع وله بريق يخلب الأنظار، كيف يكون أوساخاً الثوب الجديد الذي لم يلبسه أحد، يشتريه المزكي من الدكان من النوع الجيد وهو جديد، من المصنع إلى الدكان إلى يد المسكين، فكيف يكون أوساخاً؟ قالوا: الصدقة تكفر الذنوب، والصدقة تطهر المال، فكأن الصدقة بطيبها تحمل عن صاحبها كل أوساخه المعنوية، ومن هذا قول الإمام أبي حنيفة رحمه الله بنجاسة الماء الذي يمر على البدن، ويُرفع به الحدث الأصغر أو الأكبر، فاعتبره متنجساً بما حمل من الحدث، فلو أن إنساناً دخل الحمام ومكث فيه ساعة، وجعل يتليف بالصابون والشامبو، ثم خرج من أحسن وأنظف ما يكون، ولكن عند خروجه أراد أن يلبس ثيابه وفي حركةٍ ما مس فرجه، فانتقض وضوؤه، فتوضأ، فماء الوضوء الذي مر بهذا الجسم الذي مكث ساعةً في الحمام، ولم يخرج ولم يعرق، ما الذي نجسه؟ يقول الإمام أبو حنيفة: حلَّ فيه الحدث الذي من أجله توضأ، والحدث نجس.
هكذا يقول رحمه الله، وإن كان العلماء ناقشوه في هذه المسألة، والذي يهمنا هنا أن الصدقة أوساخ الناس، والمراد بالوساخة وساخة معنوية.
إذاً: مقياس الحلال والحرام ومقياس الطيب والخبيث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم له اعتبار فوق اعتبارات كل المقاييس؛ لأنه مقياسٌ معنوي لا يصل إليه الإنسان العادي؛ لأن الأوساخ العادية تدرك إما بالعين وإما بالشم، وإما بالإخبار، ولكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم المقياس أعمق من هذا كله: (إنما هي أوساخ الناس) وهي أطيب ما تكون في ذاتها وفي نوعيتها، ولكنها لما دخلت في قناة الصدقة أخذت تطهر المال من كل شائبة، وأخذت تزكي صاحبها كما في الآية الكريمة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] ، أي: من كلا الطرفين، فتطهر الفقير من دنس الحقد والكراهية للأغنياء الذين يعطون الزكاة، فلا يكون حاقداً عليهم، وتزكي الغني بما يدفع من ماله.
ومعنى (تزكي) : أي: تنمي ماله عوض ما أخرج من المال في الزكاة، ففيها تطهير، وما دامت كذلك فهي أوساخ الناس، ولهذا لا تحل للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا لآله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
وسيأتي المصنف بزيادة كلام في هذا الباب، وقد سبق أن أشرنا إلى أن آل البيت إذا لم تعد هناك غنائم، ولم يكن هناك الخمس، فهل يُعْطون من الزكاة إذا كانوا أصحاب فاقة وحاجة؟ أشرنا بأنه من الضروري أن يُعطوا؛ لأنهم حينئذٍ يأخذون بوصف الحاجة لا بوصف القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم.(141/7)
آل البيت هم بنو هاشم وبنو المطلب
قال المصنف رحمه الله: [وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: (مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقلنا: يا رسول الله! أعطيت بني المطلب من خمس خيبر، وتركتنا ونحن وهم بمنزلة واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيءٌ واحد) رواه البخاري] .
تقدم في الحديث الذي قبل هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الصدقة لا تحل لمحمدٍ ولا لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس) ، ثم جاء المصنف رحمه الله بهذا الحديث ليبين من هم آل محمد صلوات الله وسلامه عليه.
وآل الرجل هم أقاربه من العصبة، فيقول: (ذهب جبير بن مطعم وعثمان بن عفان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالا: يا رسول الله! أعطيت بني المطلب ولم تعطنا ونحن وإياهم سواء) ، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيءٌ واحد وذلك أن) جبير بن مطعم وعثمان بن عفان يلتقيان مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف،فـ عثمان، هو عثمان بن عفان بن عبد شمس بن عبد مناف، وكذلك جبير بن مطعم، فنسب عثمان يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجد عبد مناف، ولكن هاشم أقرب من عبد مناف إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وبنو المطلب وبنو هاشم لم يفترقوا، بل هم شيءٌ واحد، فقد جاء في بعض الروايات: (لم نفترق في جاهلية ولا إسلام) ، وقد بيَّن أصحاب النسب والسيرة أنه لما كتبت الصحيفة الظالمة بمقاطعة بني هاشم انضم بنو المطلب معهم ودخلوا الشعب، سواء من كان مسلماً ومن كان غير مسلم، ولم يخرج عن ذلك إلا أبو لهب لما كان منه من عداوةٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم يشترك معه في جده عبد المطلب، وهكذا العباس وحمزة وأبو طالب، يشتركون مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجد عبد المطلب.
ثم جاء لـ أبي طالب علي وجعفر وعقيل، وجاء للعباس عدة أبناء، فـ العباس رضي الله تعالى عنه عم رسول الله، وحمزة رضي الله تعالى عنه عم رسول الله، وكذلك أبو لهب عمه، ولكنه لم يسلم ولم يكن له شيءٌ من الفيء أو من خمس الخمس، وليس ممن تحرم عليهم الصدقة.
وقيل: إن أبناء أبي لهب منهم من أسلم في حياته صلى الله عليه وسلم وشهد خيبر، وقيل: إنهم أسلموا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فمن أسلم من أولاد أبي لهب فيدخل في آل البيت نسباً، وأما من لم يسلم فإن الإسلام قد فرق بينهم.
إذاً: من ثبت أنه يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في هاشم أو في عبد المطلب؛ فإنهم يكونون سواء وتحرم عليهم الصدقة، هذا الذي أراده المصنف رحمه الله في إيراد حديث جبير بن مطعم.
وقد سبق أن قدَّمنا أن آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لهم خمس الخمس، فكان يغنيهم عن الصدقة، وأشرنا إلى أن هناك من قال: إنهم إذا انقطع عنهم ما كان لهم من خمس الخمس؛ فإنه لم يبق لهم واردات، فيأخذون كما يأخذ عامة الناس لوجود وصف الحاجة فيهم.(141/8)
جواز أخذ آل البيت من صدقة التطوع بعد تعطل الخمس
وجاء عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله ومن وافقه: أن آل البيت لا يأخذون الصدقة التي هي الفريضة، التي جاء فيها أنها أوساخ الناس، أما صدقة التطوع فيأخذونها لأنها كالهدية، فلا بأس أن يُعطوا من الصدقة التي ليست بفريضة وليست بنذر ولا بكفارة، وإنما هي تطوع من صاحبها، فإنها تشبه الهدية فلا تحرم على آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك إذا تعطل نصيبهم من الغنيمة أو من الفيء فلم يبق لهم إلا بيت مال المسلمين، فلهم أن يأخذوا من الزكاة سواء من الفريضة أو التطوع لحاجتهم وانقطاع موردهم، فهذا هو ما يقتضيه الواقع، ولا ينبغي أن يترك آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم للفاقة والحاجة على أنهم لا تحل لهم الصدقة، فالصدقة لا تحل لهم حينما كان هناك عوضٌ عنها، أما إذا لم يكن هناك عوض فإنهم يستحقون منها، بل هم أولى من غيرهم لصلتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يعرفون لآل البيت مقدارهم ويكرمونهم ويعظمون شأنهم في سبيل الله، محبةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واعترافاً بفضل صلتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونحن نعلم جميعاً ما جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه حين خرج بالمسلمين ليستسقوا، فقال عمر: (يا عباس! قم فادع لنا، ثم قال: اللهم! إنا كنا نستسقي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد توفي رسول الله ونحن نستسقي بـ العباس عم رسول الله) ، فلكونه رضي الله تعالى عنه عم رسول الله اختاره عمر، مع وجود عمر بذاته ووجود عثمان وغيرهما من الصحابة الكرام الأجلاء رضوان الله عليهم، فلم يختر عمر أحداً، بل ولم يتقدم هو بنفسه مع أنه هو الخليفة، ولكن قال: (نستسقي بـ العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، فعرف للعباس مكانته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدمه ليستسقي لهم وقال: (قم يا عباس فادع ونحن نؤمن) .
وتجدون في بعض الآثار: (إن الأئمة وفداؤكم إلى الله سبحانه وتعالى، فانظروا من توفدون إلى الله) ، فالإمام الذي يؤم الجماعة هو وافد القوم إلى الله؛ لأنهم قدموه بين أيديهم إلى الله ليسأله، وليؤمهم ويدعو ويشركهم في الدعاء، وهكذا قال صلى الله عليه وسلم: (أحقهم بالإمامة أقرؤهم لكتاب الله) ، وهنا عمر رضي الله تعالى عنه قدم العباس؛ لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونحن الآن إذا كنا في أمر فيه المفاضلة بين الناس كالإمامة، والقضاء والتعليم ونحو ذلك، ووجد من آل البيت من يساوي غيره، فقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجحه على غيره ما دام مساوياً له.(141/9)
موالي آل البيت منهم فتحرم عليهم الصدقة
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي رافع رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على الصدقة من بني مخزوم، فقال لـ أبي رافع: اصحبني؛ فإنك تصيب منها، فقال: لا، حتى آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله) ] .
بعد أن بين المصنف رحمه الله من هم آل البيت؟ أتبع ذلك ببيان من هم أتباع آل البيت، وذلك في قوله: (إن رجلاً بعثه النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة ... ) ، أي عاملاً له على جمع الزكاة.
ونحن نعلم أن العاملين عليها لهم أجرهم منها، فقال لـ أبي رافع: اصحبني، واذهب معي لعلك تصيب من مال الزكاة، أي: من سهم العاملين عليها.
فهنا توقف أبو رافع، وقال: لا، حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسأله، وهذه هي النعمة الكبرى على الرعيل الأول، أن ما يطرأ لهم من أحكام أو ما يطرأ لهم من أحداث أو من مسائل مستجدة يحوك في نفوسهم منها شيء أو يجهلونها، فإنهم سرعان ما يرجعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبين لهم الحكم فيها.
ولهذا كان وجوده صلى الله عليه وسلم في الصدر الأول نعمة عظيمة؛ لأنه كان يبين لهم الأحكام في الأحداث التي كانت تستجد، فهذا الرجل الذي كُلف بالعمل على الصدقة لقي في طريقه أبا رافع، فقال له: تعال معي لعلك تصيب من العمالة، وهنا أبو رافع لا يعلم هل يصح له أن يذهب مع هذا الرجل أم لا؟ وهل يسمح له بأن يذهب معه أم لا؟ وهل هذا التكليف خاصٌ بهذا الرجل فلا يحق لأحد المشاركة فيه، أم أنه يجوز أن يشاركه؟ وبعضهم يقول: كان الرجل يريد أن يولي أبا رافع العمالة على جهة من الجهات التي ولي عليها، فتكون هذه تولية من الرجل لـ أبي رافع في عملٍ قد كلَّف به رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك الرجل نفسه، فـ أبو رافع لو ذهب فستكون ولايته على الجانب الذي يوليه إياه ذاك الرجل وليست ولاية من الرسول صلى الله عليه وسلم، وهل الرجل أعطي الحق في أن يولي غيره؟ لأنه إذا وكل إنسانٌ إنساناً فيجب أن يباشر الموكل العمل الذي وكل فيه بنفسه، إلا الأمور التي لا تتأتى من مثله، أما أن يوكل شخصاً آخر لينوب عنه في بعض الأعمال فليس له حقٌ في ذلك؛ لأن من وكله لم يعطه صلاحية التوكيل عنه.
وأيضاً: أبو رافع رضي الله تعالى عنه يحتمل أنه ظن أن تولية الرجل إياه في العمالة على الصدقة ولايةٌ في جمع أموال الناس، وأموال الناس معصومة ولا يحق لأحدٍ أن يأخذها إلا بولايةٍ شرعية، وهل هذا الرجل يملك بأن يولي شخصاً آخر في شيء لم يأذن له فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فتوقف أبو رافع لذلك.
وقال: لا أصحبك حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسأله.
قال: [ (فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله، قال: لا تذهب معه؛ لأن مولى القوم من أنفسهم أو منهم، وإنها لا تحل لنا الصدقة) رواه أحمد والثلاثة وابن خزيمة وابن حبان] .
إذاً: أبو رافع هذا مولى لآل البيت، كما يذكرون في التاريخ أنه كان مملوكاً للعباس قبل إسلامه، فأهداه العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أسلم العباس جاء أبو رافع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يبشره بإسلام العباس؛ لأنهم كانوا يتوقعون ويرجون إسلامه، فمن فرحه صلى الله عليه وسلم بإسلام عمه العباس قال: (أنت حرٌ لوجه الله) ، فأعتقه لكونه بشره بإسلام العباس، وهكذا الجبلة: أن كل من جاءك بخبرٍ سار في أمرٍ شديد عليك أو في أمرٍ تتوقعه أنك ترضيه، فكما سرك وشرح صدرك فأنت تسره تشرح صدره بما تيسر لك.
وفي قصة توبة الثلاثة الذين خُلِّفوا، كان كعب بن مالك في بني سلمة -عند مسجد القبلتين- وكان أحد الثلاثة الذين خلفوا وكانوا قد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وقد هجرهم أقاربهم وأرسلوا زوجاتهم إلى أهاليهن، وأصبح الواحد منهم يمشي في السوق ينظر في وجه قريبه أو صديقه فلا يلتفت إليه ولا يسلم عليه، كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} [التوبة:118] ، فلما نزلت توبتهم بالليل، وأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بها بعد صلاة الفجر ركب رجلٌ فرساً وركض إليه ليبشره، وذهب رجلٌ فصعد على جبل سلع في أول المدينة وصاح بأعلى صوته: أبشر بتوبة الله عليك يا كعب! فسمع صوت المتكلم قبل أن يصله صاحب الفرس، فوصله صاحب الصوت، وكان عليه رداء فخلعه وأعطاه إياه، وذلك مقابل ما بشره به من نزول توبة الله سبحانه وتعالى عليه.
فلو جاءك إنسان وأنت تنتظر نتيجة ولدك في الجامعة أو في معهد أو في دراسة مهمة، والنتائج تأخرت، فجاءك هذا الإنسان وقال لك: كنت في الإدارة وسمعت بعض أسماء الناجحين وابنك منهم، فأنت في هذه الحالة ستلتفت حولك لتنظر ماذا تعطيه مقابل هذه البشرى.
فـ أبو رافع كان مملوكاً للعباس رضي الله تعالى عنه قبل إسلامه، وأهداه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أسلم العباس جاء أبو رافع وبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومجيء أبي رافع ببشرى إسلام العباس كأنه لأجل ما سبق من الصحبة، فهو كان مملوكاً للعباس، وكان يتتبع أخبار العباس، ويتشوق إلى إسلامه، يعني: أنه كان له اهتمام بـ العباس أكثر من اهتمامه بالآخرين بحكم الصلة السابقة بالملك، فلما علم أنه قد أسلم، وعلم أن هذا يسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره، فلما أخبره بذلك أعتقه مقابل هذه البشرى السارة التي ألقاها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما أعتقه صار مولىً له، والولاء يكون للمُعتق على المعتَق لقاء عتقه، يرثه به إذا لم يوجد له وارث فرضاً أو تعصيباً.
فلما جاء أبو رافع وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الرجل الذي أرسلته عاملاً على الزكاة طلب مني أن أصحبه، لعلي أصيب من سهم العاملين عليها، قال له صلى الله عليه وسلم: (مولى القوم من أنفسهم) أي: فلا تذهب.
إذاً: مولى بني هاشم من بني هاشم فلا تحل له الصدقة، وهذا هو الذي أراده المصنف رحمه الله في إيراده حديث أبي رافع بعد بيان آل بيت محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليبين أن مولى القوم من أنفسهم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.(141/10)
حكم أخذ الصدقة من غير سؤال ولا استشراف وإن كان غير محتاج لها
قال المصنف رحمه الله: [وعن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي عمر بن الخطاب العطاء، فيقول: أعطه أفقر مني، فيقول: خذه فتموله أو تصدق به، وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك) رواه مسلم] .
في هذا الحديث قاعدة عامة لجميع الأمة باختلاف طبقاتها وأنسابها، يقول ابن عمر: إن أبي كان يعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم العطاء، والعطاء في هذا الباب يحتمل احتمالين: أنه عطاء العمالة على الزكاة، فيكون قد استعمله، أو أنه العطاء الذي كان يعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه عند مجيء مال إليه من أي جهة كانت.
ونذكر بهذه المناسبة قضية مال البحرين حينما جيء به ووضع في المسجد النبوي، وكان كل من أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه من هذا المال، وجعل أبا هريرة حارساً له، ونعلم قصة الجني الذي كان يأتيه ويأخذ من هذا المال، ليتحقق الذين يتشككون في وجود الجن أو مخالطتهم للإنسان، فقد كان يأتي شيطان في صورة إنسان ويأخذ من هذا المال، فأمسكه أبو هريرة في أول ليلة، فشدد عليه الخناق، فقال الشيطان: أنا من كذا، ودعني فإني ذو عيال وحاجة وفاقة، وأعاهدك ألا أعود، فَرَق له أبو هريرة وأشفق عليه -وهذا خطأ في النظاميات أن يتأثر الإنسان بالعاطفة فيما وكل إليه رسمياً- فتركه.
وفي الليلة الثانية جاء أيضاً فأمسكه، فأخذ يعتذر ويكذب ويعطي العهود والمواثيق، وأنه ذو عيال، وذو فاقة، ولن يعود، فأشفق عليه وتركه.
وفي الليلة الثالثة أتى فأمسكه أبو هريرة، وقال: لن أطلقك بعد المرتين السابقتين، وسأحتفظ بك إلى أن آتي بك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرى رأيه فيك، فقال لـ أبي هريرة: ألا تطلقني وأعلمك فائدة؟ قال: وما هي؟ قال: إذا أردت أن تحفظ مالك من الجن فاقرأ عليه آية الكرسي؛ فإنه لا يمسه ولا يقربه جني، فقبل أبو هريرة منه ذلك وتركه، وقرأ آية الكرسي على المال الذي يحرسه.
وفي صلاة الصبح أقبل أبو هريرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فابتدره متبسماً وقال: (ما فعل الله بأسيرك البارحة يا أبا هريرة؟! فقال: فعل كذا، وفعل كذا، قال: أتدري من تعاني في الليالي الثلاث يا أبا هريرة؟! قال: لا.
قال: ذاك شيطان، وقد صدقك وهو كذوب) ، انظر إلى هذا الأسلوب النبوي الذي تظهر فيه المقابلة حيث قال: (صدقك) وقال: (كذوب) ، أي: صدقك فيما أخبرك به عن آية الكرسي، وكذوب في مواعيده التي أوعدك إياها من قبل.
وهنا هذا المال كان موجوداً، ومن أخباره أن العباس رضي الله تعالى عنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أعطني، قال: خذ الذي تريد، فجاء بردائه ووضعه وحمل عليه فلما أراد أن يحمله عجز عن حمله، فقال: عاوني عليه يا رسول الله! قال له: (خذ على قدر طاقتك) ، قال: فمر أحد أصحابك يعاوني عليه، فقال له: (خذ قدر طاقتك) ، فوضع منه قليلاً، وأتى ليحمله فلم يستطع، وهكذا ثلاث مرات، وهو يقول: عاوني مر أحد أصحابك، فيقول له: (خذ قدر طاقتك) ، حتى صار المال الذي في ردائه قدر ما يستطيع أن يحمله فأخذه وذهب، وتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمات.
قال تعالى: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال:70] ، وكان العباس يقول: (والله! لقد وجدنا الأولى، ونحن ننتظر الثانية) .
فعطاء النبي صلى الله عليه وسلم للعباس هو من مال المسلمين، وعطاء عمر قد يكون من هذا الباب وأنه عطاء كعطاء عامة المسلمين، أو أنه عطاءٌ خاص بالعمالة.
وقول عمر: (أعطه من هو أفقر مني) ، كأن عمر رضي الله تعالى عنه ينظر إلى أن الأحق بالعطاء من الصدقات هم الفقراء، ومن كان غنياً عن هذا العطاء من الصدقة فليستعفف، فقال له صلى الله عليه وسلم: (خذه فتموله) ، أي: امتلكه وضع يدك عليه، ليكون مملوكاً لك، وبعد أن تمتلكه فشأنك به، إما أن تتموله وتجعله من رأس مالك، وإما أن تتصدق به على غيرك، فتكون هذه صدقةً مستجدة منك أنت.
قوله: (أو تصدق به) .
أي: تصدق به إذا كنت لا تريد أن تتموله، وتكون هذه الصدقة منك وأجر مالك.
ولما كان عمر يرد العطاء؛ لأنه متعفف عنه وقانعٌ بما عنده، بين له صلى الله عليه وسلم متى يأخذ ومتى يرد، قال: (وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرفٍ ولا سائلٍ) ، أي: إذا جاء العطاء مثلاً فجاء إنسان وقال: متى سيقسم هذا؟ وكم سيخص الإنسان منه؟ فاستشرفت نفسه إليه بسؤاله عن المال: متى جاء هذا المال؟ ومن أين؟ وأمثال هذه الأمور التي فيها تطلع؛ فإذا كنت جالساً وحولك أناس من ذوي الحاجة، وجاء من أعطاهم لحاجتهم، وأنت تنتظر أن يعطيك كما أعطاهم، فهذا هو تطلع واستشراف النفس للمال، وهذا كأنه سؤالٌ بالمعنى؛ لأن نفسك تريده، وهي تتطلع إليه.
وأما ما أتاك من هذا المال من غير استشراف نفسك، ولا تطلعك، بل جاء إنسان ووضع في حجرك مالاً، وقال: هذا هدية مني لك، وعطاء مني لك، وأنت لا تعلم به ولا تدري عنه، ولا تطلعت لماله، ولا استشرفت نفسك إلى ما عنده، فأخذته وقلت: جزاك الله خيراً، فهنا تنظر: إن كنت في حاجة إليه، فبارك الله لك فيه، وإن كنت في غنىً عنه فتصدق به على من هو أحوج منك إليه.
قوله: (ما أتاك من هذا المال وأنت غير مشرفٍ ولا سائل) ؛ في هذا تربية نفسية إسلامية عالية تجعل الإنسان غنياً بنفسه، مترفعاً عن أن يتطلع إلى أموال الناس، فضلاً عن أن يأتي ويصرح ويقول لأحد: أعطني، أو يأتي إلى إنسان ويقول: والله! الآن الحاجات في الأسواق غالية، وأصبح المرتب لا يساوي شيئاً، والأولاد يذهبون المدارس، وهي تريد كذا وكذا، فهو لا يقول له: أعطني، ولكنه يشتكي عنده، وهذه الشكوى مقتضاها العطاء.
إذاً: أيها الإنسان! شكواك حالك لغيرك ممن هو ذو مالٍ كأنه سؤال؛ لأنك استشرفت إلى ما عنده، وتطلعت إلى أن يعطيك.
ومن التطلع إلى مال الناس أن تكون من الناس ولديك لباس لا بأس به، فتتعمد أن تأتي إلى هذه التجمعات بلباس رث، وبحالة سيئة، وبحالة بئيسة تستعطف الناس الذين ينظرون إلى حالك، فيقولون: والله! فلان هذا مسكين، والله إن حاله سيئ فيعطونك؛ فهذا تعرض للناس بالحالة وبالصورة، وكما يقال: لسان الحال أفصح من لسان المقال.
فإذا كان الإنسان في غنىً وفي سعة فلا ينبغي أن يستشرف إلى ما في أيدي الناس، ولا أن يتطلع إليه، ولا أن يظهر بمظهر الذي يحتاج، وكأنه يسأل الناس بمظهره بدلاً من سؤالهم بلسانه.
فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: أن ما أتاك من هذا المال يا عمر! من غير أن تستشرف له نفسك أو تتطلع إليه فخذه؛ لأنك ما عملت من أجله شيئاً، ولا استجلبته لنفسك، ولا أهنت نفسك لأجله، ولا أظهرت نفسك في مظهر الفاقة، فأنت عزيز النفس مكرم، وهذا كرمٌ ممن أعطاك المال وفضلٌ منه، سواءٌ عرفك أو لم يعرفك، فما دام أنه أعطاك بدون سؤالٍ منك وبدون استشراف نفسك إليه وبدون تطلع إلى العطاء منه؛ فليس هناك ما يمنعك من أخذه.
فإذا أخذته فإن شئت تمولته وجعلته في رصيدك ورأس مالك؛ لأنه جاءك بوجهٍ شرعي طاهر نقي، وإن شئت تصدقت به، وتصدقك به لنفسك أنت لا لمن أعطاك إياه، وإن كان له في ذلك أجرٌ على مساعدتك، ولكن الأجر يكون لك أنت.
قوله: (وما لا فلا تتبعه نفسك) .
أي: وما لم يأتك من غير استشراف نفسك أو تطلعك إليه، فلا تتبعه نفسك، فلو جاء إنسان وأعطى الحاضرين وأنت لم يعطك، ولم يعط فلاناً وفلاناً، فلا تتطلع إليه، ولا تتبعه نفسك، ولا تقل: لماذا لم يعطني بينما أعطاهم؟ ونفسك تتبعه وكأن أشعة ترسلها من قلبك إليه: لماذا لم تعطني؟ وكأن لسان حالك يقول: عد وأعطني.
فإذا لم يأتك المال بعفة نفس وعدم تطلع وعدم استشراف فلا تتبعه نفسك، أي: لا تظل تفكر: لماذا لم يعطني؟ ولو أعطاني لكنت فعلت، ولكان كذا، فهذا الذي لا ينبغي ولا يليق بذي المروءة، فأنت ليس لديك دين عليه حتى تطالبه، وليس هو ملزم أن يعطيك، وما دام أنه لم يعطك من نفسه ابتداءً وأنت ليست لك عليه طريق بالعطاء، كدين ملزم، أو بجميلٍ يكافئك عليه، أو بشيءٍ من ذلك، وهو في حاله وأنت في حالك؛ فلا تستشرف نفسك إلى هذا المال الذي رأيته ولا تتبع نفسك إياه؛ لأنه لا حق لك به أصلاً، فإذا أعطاك من نفسه بطيب نفسٍ فخذه، وإلا فلا.
والله تعالى أعلم.(141/11)
كيفية تقسيم الزكاة على الأصناف الثمانية
مما بقي من مباحث هذا الباب أن الله سبحانه وتعالى لما عدد مصارف الزكاة، قال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} [التوبة:60] .
علماء التفسير والفقهاء يقولون: هل يتعين تعميم الصدقة على هذه الأصناف الثمانية فيقسم بيت المال الصدقة إلى ثمانية أقسام ويعطي كل قسمٍ حظه؟ أو يجوز أن نعطيها كاملةً لبعض الأصناف ولو لواحدٍ منها فقط؟ الشافعي رحمه الله يقول: يتعين على مسئول بيت المال، أو المسئول عن قسمة الصدقات أن يقسمها على الأصناف الثمانية، ويعطي كل صنفٍ سهمه، إلا من تعطل سهمه فيرده على الأصناف السبعة الباقية.
والصنف الذي يرد سهمه على بقية الأصناف كما جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه هو صنف المؤلفة قلوبهم.
فقد جاء المؤلفة قلوبهم إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: (أعطنا سهمنا كما كان رسول الله يعطينا) ، فكتب إليهم بسهمهم إلى عامله.
وقال: اذهبوا به إلى عمر ليوقعه، فذهبوا به إلى عمر رضي الله تعالى، فلما قرأه الكتاب قطعه، فرجعوا إلى أبي بكر وتبعهم عمر، فلما وصلوا إلى أبي بكر قالوا: أنت الأمير أم عمر؟ قال: هو الأمير إن شاء -إن شاء ترك الإمارة لي وإن شاء أخذها فلا مانع عندي، يعني: إنما هي مسئولية وتكليف بخدمة المسلمين- فدخل عمر، فقال له أبو بكر: (لِمَ مزقت الكتاب يا عمر؟! قال: لا حق لهم الآن في شيء، كنا في بادئ الأمر نعطيهم سهم المؤلفة قلوبهم، أما الآن وقد أعزنا الله بالإسلام فلسنا بحاجة إليهم، فإما أن يبقوا على إسلامهم وإلا فالسيف بيننا وبينهم) ، فتركوا الأمر وذهبوا.
وبهذا ندفع ما يقوله بعض المغرضين بأن مما أُخذ على عمر أنه عطل كتاب الله؛ لأنه أوقف سهم المؤلفة قلوبهم بعد أن كان ماضياً، والصحيح أن عمر لم يوقفه، ولكن علَّقه؛ لأن الحاجة إليهم أصبحت منفية، ولم يعد المسلمون في زمن أبي بكر وعمر بحاجة إلى المؤلفة قلوبهم ليدافعوا عنهم، أو ليحموا الثغور التي عندهم، أو ليدفعوا شرور قبائلهم، إنما كان هذا عند أن كان المسلمون ضعفاء، أما الآن وقد أعز الله الإسلام والمسلمين فلا حاجة إلى هذا الصنف؛ فإن بقي على إسلامه ففيه صيانة لنفسه وماله ودمه، وإن عارض في ذلك فالسيف بين المسلمين وبينه.
كما أنه رضي الله تعالى عنه أوقف حد السرقة عام المجاعة.
يهمنا هنا أن الشافعي رحمه الله يقول: إذا تعطل سهم فإن حصته ترد على السبعة الباقية.
وبعضهم يقول أيضاً: من قسَّم صدقته بنفسه فليس هناك سهمٌ للعاملين عليها؛ لأنه هو بنفسه قام بتقسيم صدقته.
وأما الجمهور فيقولون: يجوز إعطاء الزكاة للأصناف الثمانية بالتساوي ولا يشترط التساوي، ويجوز إعطاء الزكاة لبعض هؤلاء الثمانية، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم لـ معاذ حينما بعثه إلى اليمن: (فأعلمهم بأن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم) ، ولم يقل: على الأصناف الثمانية، ولم يقل: ترد على الفقراء والمساكين والعاملين عليها وفي الرقاب.
، وإنما قال: (ترد على فقرائهم) ، فقالوا: إذا جاز أن تعطى لفريقٍ واحد جاز أن تعطى لبعض الفرق.
والنووي رحمه الله في هذه النقطة يقول: لو افترضنا كما قال الشافعي رحمه الله: لزوم تجزئة الصدقة إلى ثمانية أسهم: سهم للفقراء، وسهم للمساكين، وسهم للمؤلفة قلوبهم … إلى آخره، فهل يشترط على بيت مال المسلمين في سهم الفقراء أن يعم به جميع الفقراء المسلمين؟ أو لو أعطاه لبعض الفقراء أجزأ ذلك؟ قال: فهم متفقون على أنه إن أعطاه لبعض الفقراء أجزأ، فقال النووي رحمه الله: فما دام أنه يجوز أن نعطي سهماً من أسهم الزكاة لبعض أصحابه فلا مانع أن نعطي الصدقة لبعض أصنافها، وأن نفرد بها صنفاً واحداً، وهذا يرجع إلى نظر الإمام في هذه الأصناف الثمانية، فيقدم الأحق فالأحق.
ولهذا يرى العلماء أن من أخرج صدقته بنفسه فلينظر في هذه الأصناف ويعطي الأولوية لمن كان يستحقها، وليس بلازمٍ عليه أن يتتبع تلك الأصناف ويجعل كل جزءٍ لصاحبه.
والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.(141/12)
كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [1]
التنطع لا خير فيه، وقد زجرت عنه الشريعة وحرمته، ومن ذلك تقدم صوم رمضان بيوم أو يومين احتياطاً، فهذا لا يجوز، والشريعة مبنية على التيسير، والعبادات مبنية على التوقيف، وقد بين أهل العلم ذلك بياناً شافياً.(142/1)
شرح حديث: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه) متفق عليه.
وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم.
ذكره البخاري تعليقاً، ووصله الخمسة، وصححه ابن خزيمة وابن حبان] .
كتاب الصيام من أعظم كتب الفقه دراسة وتحصيلاً وعملاً وتطبيقاً، والمؤلف ابن حجر رحمه الله ساق في هذا الكتاب نحواً من خمسين حديثاً، اشتملت على كل ما يتعلق بالصيام فرضاً أو نفلاً أداءً أو قضاءً.
وبدأ هذا الكتاب بهذا المبحث، وهو: النهي عن أن يتقدم أحد رمضان بصوم يوم أو يومين من شعبان.
وعادة العلماء أن يعرفوا الباب لغة واصطلاحاً، فقالوا: الصوم لغة: مطلق الإمساك: إمساك عن طعام، إمساك عن كلام {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:26] ، خيل صيام وخيل غير صائمة، أي: صيام تمسك عن الجري، ويقول العرب عن الثريا: كأنها علقت بمصام في مصامها، أي: في موقفها عن الحركة والسير.
والصوم شرعاً: مأخوذ من معنى الصوم لغة، وهو: إمساك مخصوص عن شهوتي الفرج والبطن في زمن مخصوص، ألا وهو نهار رمضان، أو غيره إن كان نافلة.
البخاري رحمه الله بدأ في كتاب الصيام بإثبات المشروعية، ثم تكلم عن أحكام الصيام فيما بعد، وعقد فوق الستين باباً لأحكام الصيام، وخمسة أحاديث في ليلة القدر، وتسعة أبواب في الاعتكاف، ومجموعها حوالى ثمانين باباً، فما توسع أحد في باب الصوم كتوسع البخاري رحمه الله.(142/2)
متى شرع الصوم؟
متى بدأ الصوم؟ قالوا: أول ما شرع الصوم بعد الهجرة في يوم عاشوراء، (لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألهم: لم تصومونه؟ قالوا: هذا يوم نجى الله فيه موسى من فرعون، فصامه شكراً لله، فنحن نصومه، فقال صلى الله عليه وسلم: نحن أحق بموسى منكم -أي: لأنكم غيرتم وبدلتم ما جاءكم به موسى، ونحن لا نغير ولا نبدل- فصامه وأمر الناس بصيامه) ، وفي بعض الروايات: (أنه صلى الله عليه وسلم لما نوى صيامه بعث إلى مياه أهل المدينة منادياً: من كان ممسكاً فليبق على صيامه، ومن أكل أو شرب فليمسك بقية يومه) ، وكان ذلك في السنة الأولى، ثم في السنة الثانية فرض رمضان، ونسخ فرضية يوم عاشوراء، وأصبح على النافلة والندب والاستحباب.
ولا يعني سؤال النبي صلى الله عليه وسلم اليهود عن صوم يوم عاشوراء أنه صامه تبعاً لهم، لا، فصوم يوم عاشوراء كان معلوماً عند العرب قبل الإسلام، كانوا يصومونه ويجددون فيه كسوة الكعبة، فكان معلوماً لديهم، ولكن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لليهود -وهم أهل كتاب- ليعلم ما هو السبب عندهم، فذكروا له نجاة موسى من فرعون، فبين لهم أنه أحق بموسى منهم فصامه.
ويمكن أن يقال من جانب آخر: كان النبي صلى الله عليه وسلم أول ما جاء المدينة مهاجراً يحب أن يوافق اليهود من باب المسايرة، وليبين أنه أتى بما جاء به الأنبياء قبله، فكان يصلي ستة عشر شهراً من أول مقدمه المدينة مستقبلاً لصخرة بيت المقدس، حتى أن اليهود استدلوا بذلك على أنه تابع لهم، وكانوا يحتجون بصلاته صلى الله عليه وسلم إلى قبلتهم، ويقولون: يصلي إلى قبلتنا ويعيب ديننا!! فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يقلب وجهه في السماء يتطلع إلى تغيير هذا الحال، ويحب أن يوجه في صلاته إلى الكعبة، فجاء قوله سبحانه: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة:144] ، وتم بذلك استقلالية الإسلام بكامله في معناه وفي شكله عما يتعلق باليهود.
أيضاً لما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم يصومون يوم عاشوراء صام، ولكن لم يكن صيامه متابعة لهم حاشا وكلا، بل كان يُصام قبل ذلك، ويقولون: إن يوم عاشوراء رست فيه سفينة نوح على الجودي، وهو اليوم الذي أخمدت نار النمرود التي رمى فيها الخليل إبراهيم عليه السلام، وهو اليوم الذي نجى الله فيه موسى من فرعون، وهو اليوم الذي أخرج الله فيه ذا النون من بطن الحوت، ويذكرون في التاريخ أحداثاً عديدة، والله تعالى أعلم، والذي يهمنا ما جاء ثابتاً، وهو سبب صوم اليهود إياه؛ لأنه يوم نجى الله فيه موسى من فرعون.
وهنا نقطة أرجو أن ننتبه لها، وأن نأخذها بعين الاعتبار، فيوم نجى الله فيه موسى من فرعون يوم مبارك ومناسبة سعيدة ففيه نصرة الحق على الباطل، فحينما تتجدد للمسلمين نعمة كهذه فإنها تستحق الشكر، ويغبط الإنسان فيها، فمن شكرها أن تقدم للمولى سبحانه طاعة، لا أن تجعلها يوم لهو ولعب، وتخرج عن الآداب الإسلامية.
ذكر ابن هشام في السيرة: أن النجاشي لما هاجر إليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من أمرهم ما كان، وأعطاهم الأمان والحرية في بلاده، فإذا في يوم من الأيام يستدعيهم، فخافوا ما الذي حصل؟! فلما دخلوا الديوان أذن لهم في الدخول عليه في المجلس الخاص الذي هو فيه، فلما دخل أصحاب رسول الله على النجاشي، وكانوا يظنونه في الهيئة والهيبة والسلطة والسلطان؛ فهو ملك، فإذا بهم يجدونه جالساً على التراب، لابساً المسوح، والمسوح نوع من اللباس خشن يتخذه بعض العباد للعبادة، ابتعاداً عن ترف القطن والكتان والحرير المحرم، زيادة في الخشوع والخضوع بين يدي الله، ورءوه حاسراً رأسه، فلما رءوا هذا المنظر ظنوا أن الملك قد وقعت به مصيبة، فقال: أتدرون لم دعوتكم؟! قالوا: لا -والله- عجِّل، لماذا دعوتنا؟ قال: في هذا اليوم أتاني خبر بأن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم قد لقي عدوه من المشركين في أرض يقال لها: بدر، كثيرة الأراك، ترعى فيها الإبل، ونصره الله على عدوه، وقد جاء عن عيسى عليه السلام أنه قال: إن الله يحب من عبده إذا أنعم عليه نعمة أن يظهر منه التواضع، فلهذا تجدونني على ما أنا عليه على تراب بدون فراش، وفي مسوح لا في لباس الملك، حاسر الرأس لا ألبس عمامة، فمظاهر الذلة والخضوع إلى الله كلها تجمعت فيه.
وهكذا: إذا تجددت للمسلمين نعمة فيها نصر الحق على الباطل، كنعمة نجاة موسى من فرعون، وقد يقول إنسان: لقد تجددت النعم في الإسلام زمن رسول الله، فهذا يوم بدر يوم الفرقان، جعله الله فتحاً، وجعله الله فرقاناً بين الحق والباطل، فإذا كان الأمر كذلك فهل الرسول صام يوم بدر؟ نقول: لا، هذه أمور يتوقف فيها على الشرع، إثباتاً أو نفياً، فهو مقدم على كل رأي، وما لم يكن فيه نص، ولم يكن فيه أمر أو نهي، وكان مجرد تجدد نعمة؛ فإن على الإنسان أن يشكر الله على هذه النعمة بالقيام بطاعة لله، لا كما نجعل بعض المناسبات أعياداً بلعب وبطرب وبلهو!! لا، ليس هذا من باب التعبير عن شكر النعمة، بل التعبير الحقيقي عن شكر النعمة وشكر المنعم سبحانه هو أن نذل إليه، ونخضع بنوع من أنواع العبادات التي يحبها، والتي قد شرعها.
إذاً: كان صوم يوم عاشوراء هو بداية الصيام، ثم فرض صوم رمضان ونسخ فرضية عاشوراء، وبقي صيامه على الندب.
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه أراد مخالفة اليهود في صوم هذا اليوم، فندب إلى صوم اليوم التاسع مع اليوم العاشر؛ ليكون مغايراً في الصورة والهيئة لما كان عليه اليهود في صومهم.
ولما شرع الصوم في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] بين أنه كتب على من قبلنا ثم بين عدده: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184] ، فبعض العلماء يقول: أياماً معدودات هي سوى رمضان، كما جاء في الأحاديث: صوم الثالث والرابع والخامس عشر من كل شهر، أو صوم ثلاثة أيام من كل شهر على ما في رواية أبي هريرة، ومالك يقول: ثلاثة أيام من كل شهر، من كل عشرة أيام يوم: يوم واحد، ويوم إحدى عشر، ويوم إحدى وعشرين، والحسنة بعشر أمثالها.
والبعض يقول: (أياماً معدودات) هي بعينها شهر رمضان، ولكن جاء التكليف أولاً بصورة التخفيف: (أياماً معدودات) ، عليك الصيام، فتقول: سيكثر الصيام؟ قال: لا، لا، بل أيام، فيستقبله المكلف في صورة التقليل؛ لأن الأيام جمع قلة، فتهون عليه، كما في قصة يوسف: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف:20] ، ثم لما اطمأنت النفوس، وأحبت الصوم جاءهم بكماله: ((شهر رمضان)) ، وبين سبحانه أحكام هذا الشهر وفضله.
إذاً: كانت بداية الصوم بالتخفيف والتدريج، ثم أكمل الشهر وأكملت الفرائض، وانتهى الأمر كما جاء في قوله سبحانه في ختام عمره صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3] ، ومن هنا يقول مالك رحمه الله: ما كمل لا يحتمل زيادة، ولا يجوز فيه النقص؛ لأنك إذا زدت عليه كأنك تقول: الخبر بالإكمال غير صحيح، فبقي عليه هذه حتى يكتمل اكتمالاً تاماً، فهذا خطأ، ولهذا كان مالك يقول: من سن سنة وظن أنها حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة؛ لأن الله يقول: ((وأكملت)) ، وهذا يأتي ويقول: بقي هذه، فهذه الذي جئت بها أنت هل محمد صلى الله عليه وسلم يعرفها أو لا يعرفها؟ إن كان يعرفها ولم يخبرنا بها فيكون قد كتم، وإذا كان لا يعرفها، فشيء لم يعرفه محمد بن عبد الله هل تعرفه أنت؟! إذاً: شهر رمضان لا يقبل نقصاً ولا يقبل زيادة، ومن هنا افتتح المؤلف مبحث باب الصيام.(142/3)
حرمة تقدم رمضان بصيام يوم أو يومين احتياطاً
يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تقدموا -أو لا تتقدموا، المعنى واحد- رمضان بصوم يوم أو يومين، إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه) مثلاً: كان لك أمر مهم جداً، ونذرت لله إن قضاه الله لك فثاني يوم تصوم، ولا تدري متى يأتي، ولا متى يقضى، فقضي لك يوم السابع والعشرين من شعبان، ففي الغد سيكون يوم ثمان وعشرين، وفي الحديث: (لا تقدموا رمضان بيوم أو يومين) ، لكن يجوز لك الصيام بصفة خاصة؛ لأنك ستصوم قبل رمضان بيوم أو بيومين لا لرمضان، وإنما لنذرك الأول الذي التزمت به، فلا دخل لصومك مع رمضان.
إذاً: لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إذا كان نافلة في شعبان، فهذا ممنوع؛ لأنه إذا فتح باب النوافل قبل رمضان بيوم أو يومين، واستمر الناس على ذلك؛ سيظن الناس بعد زمن طويل أن اليوم واليومين من رمضان، فيزيدون فيه، والزيادة مرفوضة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) ، لا يتطوع من نصف شعبان، من خمسة عشر شعبان إلى رمضان لا يتطوع، إلا إذا كانت له نافلة ثابتة، كان يصوم الإثنين والخميس، والإثنين والخميس ستأتي في الأسبوع الأخير من شعبان، فيصوم؛ لأنه صامه على نافلة سابقة، أما إذا كان لا يصوم الإثنين والخميس، ولا كان يصوم نوافل، ويوم أن انتصف شعبان قال: أريد أن أصوم، نقول له: لا.
وقد جاء التشديد كما سيأتي في الحديث الذي بعد هذا: من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم، ونبقى مع حديث: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين) .
جميع أركان الإسلام محفوفة بزمن، فمثلاً: الصلاة قال الله عنها: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78] ، {كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] فلا يصح أن تصلي قبل دخول الوقت، ولا يجوز لك أن تؤخرها حتى يخرج الوقت، فإن خرج الوقت تكون قضاءً وليست أداءً، كذلك الحج قال الله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] ، وكذلك الزكاة {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] ، وفي الحديث: (إذا حال عليه الحول) ، وبعض العلماء يقول: لا يجوز إخراج الزكاة قبل حولان الحول؛ لأنها لم تجب، ومالك يقول: يجوز تقديمها لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من العباس زكاة سنة مقبلة، فأخذ منه زكاة السنة المقبلة لحاجة طرأت، وهذه على غير العادة.
فجميع الأركان محددة ومقيدة بزمنها، فرمضان مقيد بالزمن، وقد حدث في الأمم الماضية أنهم صاموا اليوم واليومين المنهي عنهما هنا، وقالوا: نصوم يوماً قبله احتياطاً له، ونصوم يوماً بعده احتياطاً له، فكان الصوم الرسمي ثلاثين، وقالوا: للاحتياط نصوم يومين: يوم في الأول، ويوم في الآخر، ومضى الزمن، وطالت المدة، فدخل الاحتياطي في الأصل، وصار الصوم الرسمي اثنين وثلاثين، ثم جاء من بعدهم وهم لا يعلمون بدخول الاحتياطي، وظنوه أنه رسمي، فقالوا: نصوم قبله يوماً احتياطاً، ونصوم بعده يوماً احتياطاً، فصاموا أربعة وثلاثين يوماً، اثنين وثلاثين رسمي، ويومين احتياطاً، فطال الزمن حتى دخل الاحتياطي الثاني في الرسمي، وظن الناس أن الصوم أربعة وثلاثون يوماً، فقالوا: فلنحتاط، فصاموا يوماً قبله ويوماً بعده، وهكذا خمس مرات، حتى زادوا عشرة أيام.
والأهلة تدور مع فصول السنة، فرمضان تارة يأتي في الربيع، وتارة يأتي في الشتاء في شدة المطر، وتارة يأتي في الصيف، وأذكر في هذه البلدة المباركة أن الناس مرة كانوا يصومون ستة عشر ساعة، كان النهار طويلاً والليل قصيراً في شدة الحر.
وبعض الأمم السابقة زادوا في رمضان حتى صار أربعين يوماً، فجاءهم في شدة الحر، فعجزوا عن الصيام، فقالوا: الحر شديد، ونحن لسنا قادرين على صيامه، فننقل الصوم عن الأشهر القمرية إلى الأشهر الشمسية، ونزيد عشرة أيام، فصار خمسين يوماً، وجعلوا الصيام عن أشياء معينة عن كل ما فيه الروح: الغنم والدجاج والسمك، والأشياء النباتية يأكلونها، يعني: صيام لعب، يأكل من النباتيات، ويأكل من الخبز، ويأكل من الفاكهة، فكيف هذا الصيام؟! فعندما أخطئوا بالزيادة في رمضان، وعجزوا عنه، تحيروا ماذا يفعلون؟ فانتقلوا إلى الأشهر الشمسية فضاع عليهم الشهر، فخوفاً من أن تقع الأمة في مثل هذه الخطيئة وضع لرمضان سياج؛ لا أقول: من حديد أو من فولاذ، بل أقوى من ذلك كله، في أوله لا يمكن أن تتخطاه، ممتد إلى السماء، وآخره لا يمكن أن تزيد فيه، فجعل اليوم الذي يشك فيه محرم صومه، فلا يصام المتردد بين شعبان ورمضان، وجعل في نهايته يوم العيد، ويحرم بالإجماع صوم يوم العيد، إذاً: سلم رمضان من الزيادة في أوله، وسلم من الزيادة في آخره، ولهذا -أيها الإخوة- بفضل من الله ونعمة من الله أنه قد تكرر رمضان أكثر من ألف وأربعمائة سنة، ويأتي وكأنه شرع، لا زيد فيه ساعة، ولا نقص منه ساعة، وإنما حفظ بهذه السنة النبوية الكريمة فلا يتقدم بصوم، وكذلك لا يتبع بصوم، ولابد أن يفصل بين رمضان وغيره كما جاء في حديث: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال) ، ليست متابعة ملازمة، بل لابد أن يفصل بينهما، وأقل شيء بصوم يوم العيد، وإن زاد الفصل فلا مانع، ويهمنا أن هذه السنة النبوية جاءت حفظاً لرمضان عن أن يدخله زيادة في أوله، أو يتبعه زيادة في آخره، (لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، إلا رجل كان له صوم فليصمه) ؛ لأنه إذا كان له صوم يصومه فهو في هذه الحالة سيصوم يوم ثمانية وعشرين أو تسعة وعشرين من شعبان، ولا دخل له في رمضان، إنما يصومه لصومه الذي التزم به، كالنذر يصادف هذا اليوم الثامن أو التاسع والعشرين من شعبان، وبهذا حفظ رمضان، ونحن على هذا النعمة، ولله الحمد.(142/4)
حرمة صوم يوم الشك
الحديث الثاني: (من صام اليوم الذي يشك) ، يقول علماء المنطق: التشكيك هو دوران المعنى على أمرين متساويين، انظر إلى توءمين متشابهين، أقول: هذا علي، لا، هو أحمد، تساويا في الشكل، والذي لا يعرفهما حقيقة كالأم والأب يتردد، لأن بين أحمد وعلي مائة في المائة تشابه، لكن لو كانت هناك قرينة فلا إشكال، فإن ناداه: ما اسمك؟ قال له: علي.
زال الشك، وتميز، فإذا كان الشيء لا يحتمل إلا أمراً واحداً فهذا علم، أي: أن المعلوم لا يحتمل إلا معنىً واحداً، فحينما نظرنا إليه دون أن نسأله عن اسمه، كنا مترددين شاكين بين علي وأحمد، فنميز بالتدريج، فإذا تكلم وكان الصوت بينهما متفاوتاً، فلما سمعنا الصوت بدا لنا أنه علي، لوجود قرينة، فوجود القرينة في أحد الجانبين المتساويين تجعل أحدهما ظناً، والثاني وهماً، لما سمعنا صوته، وكنا نعرف صوت علي الذي نعرفه، لكن ما زالت الشبهة قائمة، فكونه علياً هذا ظن، والظن قريب من العلم، وكونه يحتمل أن يكون أحمد هذا وهم، فقوي جانب كونه علياً، إذاً: القرائن ترجح أحد الطرفين، وترفع الشك، ويكون الراجح ظناً، والمرجوح وهماً.
وإذا لم يكن هناك اشتباه فلا إشكال: من هذا؟ هذا صبري، ليس له توءم، ولا نختلف فيه، فصبري هو صبري، فهذا هو علم.
وعلى هذا فاليوم الذي يشك فيه هو اليوم الدائر باحتمالين متعادلين بين كونه نهاية شعبان أو كونه بداية رمضان، ويوضح هذا أنه معلوم بالإجماع أن الشهر القمري لا ينقص عن تسع وعشرين يوماً، ولا يزيد عن ثلاثين، فإذا تيقنا دخول شعبان، ورأينا الهلال يوم واحد شعبان، ومشينا معه إلى أن أكملنا تسعة وعشرين من شعبان، فلما أكملنا تسعة وعشرين من شعبان فاليوم الذي من غد، يمكن أن يكون ثلاثين شعبان، ويمكن أن يكون واحد رمضان، فيكون عندنا شك، ولكن متى يقع الشك؟ هل كل يوم ثلاثين شعبان يحصل فيه شك؟ لا، يكون الشك إذا كان ليلة الثلاثين من شعبان فيها غيم، ولم نر الهلال، فلو رأينا الهلال لكان يوم غد رمضان يقيناً، وارتفع الشك، فإذا كان في ليلة الثلاثين من شعبان الجو صحو لا غيم فيه، فنحن بين أحد أمرين: إما أن نرى الهلال ولا شيء يحجبه، وإما ألا نراه، فإن رأيناه فلا شك عندنا، وإن لم نره فلا شك عندنا؛ لأن السماء صحو، فإن قدر وجود الهلال رؤي، فلا يكون هناك شك، وإن لم يظهر الهلال علمنا أن الغد تتمة شعبان، وليس عندنا شك.
إذاً: إذا كانت السماء صحواً ليلة الثلاثين من شعبان فلا شك؛ لأنه إما رمضان بالرؤية، وإما شعبان لعدم الرؤية.
إذاً: ليلة الثلاثين من شعبان إذا كانت صحواً فلا شك، فإذا كانت ليلة الثلاثين من شعبان فيها غيم يحجب السماء، فيمكن أن الهلال ظهر ولكن يحجبه السحاب، ويمكن أنه لما يظهر، فالاحتمال متعادل، فهنا يكون الشك، فإن رئي زال الشك، وإن لم ير بقي الشك على ما هو عليه، ففي هذه الحالة ماذا نفعل غداً؟ هل نصوم أو نترك الصوم؟ إن صمنا غداً نكون قد صمنا يوم الشك، ومن صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، يا سبحان الله! عبادة ويكون من يقوم بالعبادة عاصياً! نعم؛ لأنه لم يوقعها في محلها؛ لأنه أتى بها على غير ما شرعت، والعبادة إذا لم تكن مشروعة فهي باطلة.
فأعظم ذكر لله هو قراءة القرآن، وما عبد الله بشيء أحب إليه مما خرج منه، فهو كلام الله، وأقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد، فهل يجوز لك وأنت أقرب ما تكون إلى الله أن تتعبد الله بالقرآن وأنت ساجد؟ أليس أحب شيء إلى الله كلامه؟ لكن نهيت عن قراءة القرآن في السجود، فإذا قرأت القرآن في السجود، فهل تقول: أنا أعبد الله بأحب شيء إليه؟! لا، أنت جئت بما يكره، فيجب أن تكون العبادات على قاعدة التوقيف كما قال الفقهاء، يعني: نتوقف فيها إلى أن يأتي النص: افعل، لا تفعل.
فهنا: (من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى) ، وهل عصى أميراً أو مأموراً أو ملكاً أو وزيراً؟ عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] أي: ومن عصى الرسول فقد عصى الله، وطاعة الرسول من طاعة الله {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] .
إذاً: لماذا هذا التشديد، وجعل العبادة معصية؟ لئلا يدخل في رمضان ما ليس منه، هذا تقرير المبدأ، ولكن نحن كطلبة علم، قد نرجع إلى المكتبة ونجد أقوالاً أخرى، ونقرأ في الموسوعات فنجد أن البعض يقول: يصام اليوم الذي يشك فيه احتياطاً لرمضان، وقال بعض السلف: لأن أصوم يوماً من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوماً من رمضان، إذا جئنا إلى الفلسفة العقلية يمكن أن نجد لها مجالاً، ولكن لا، حتى العقل يردها، فأنت أتريد أن تجعل احتياطاً لرمضان؟ جزاك الله خيراً، وبارك الله فيك، فهل أنت أشد حرصاً على رمضان من رسول الله؟ إذاً: العقل يقول لك: لا، أنت غلطان؛ لأن الرسول أشد احتياطاً منك، والرسول أشد حرصاً على رمضان منك، وقد نهاك أن تصوم هذا اليوم احتياطاً كما تقول، إذاً: لا نحتاط بصيامه.(142/5)
كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [2]
الشريعة الإسلامية مبنية على السماحة والتيسير، ومن ذلك جعلها العبادات علامات يعرفها العامة والخاصة، فالصوم لا يجب إلا برؤية الهلال، فإن لم يُر فقد أغلقت الشريعة باب التنطع، وأوجبت أن يتم شعبان ثلاثين يوماً، وبهذا ينتظم الصوم، ويزول الشك والارتياب، وتحصل الطمأنينة والانشراح.(143/1)
بطلان صوم يوم الشك
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: الإمام مالك رحمه الله يقول: يمتنع صوم يوم الشك، حتى لو أن إنساناً قال: أنا أصومه على أنه إن كان من رمضان فقد صمت رمضان، وإن لم يكن من رمضان وثبت أنه من شعبان فأنا أعتبره نافلة، يقول مالك: لو فعل ذلك لا يصح له رمضان إن كان رمضان، ولا يصح له نافلة إن كان من شعبان، يعني: أتعب نفسه بالجوع والعطش بدون فائدة وبدون مقابل، لماذا؟ قال: لأن صوم الفرض لابد فيه من تبييت النية جازماً، أما أن تقول: إن كان وإن لم يكن فلا يصلح، مثل أن تأتي في الصلاة وتكبر تكبيرة الإحرام: الله أكبر.
ولو أنك قلت: الله أكبر.
ونويت لو دق إنسان الباب لتركت الصلاة، وذهبت إليه، أو قلت في نفسك: لو ناداني إنسان لانصرفت من الصلاة وذهبت إليه، لو حضر هذا الاعتقاد عند تكبيرك للإحرام لا تنعقد الصلاة؛ لأنها مفروضة على الجزم والقطع، وأنت هنا تنوي إن كان من رمضان فرمضان! لا يا أخي! لا يقبل الله منك هذا، يجب أن تكون النية لرمضان قطعاً، وأنت لست جازماً أنه رمضان قطعاً، أنت عندك شك.
فإن قال: أجعلها نافلة.
قلنا: كلا، أنت لم تنو النافلة، أنت شركت بين النافلة والفرض، وهذا لا يصلح.
إذاً: لا ينبغي لأحد أن تحدثه نفسه أن يصوم اليوم الذي يشك فيه احتياطاً أو تقديراً أو استعداداً أو بأي معنى يخطر بالبال؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم اليوم الذي يشك فيه.
هذا ما يتعلق باستقبال رمضان وحفظه وصيانته من أن يتطرق إليه زيادة في أوله أو زيادة في آخره، فيضيع عنا الشهر، وبحمد الله أنه بهذه السنة المتواترة بقي رمضان على ما هو عليه، ونعمة من الله أن تظل الحالة على ما هي عليه، يتطلع الناس إلى الرؤية، ويوجد من يعرف مطالع القمر ويتحرى رؤيته، ونصوم على الرؤية، ونفطر على الرؤية.(143/2)
لا تجوز الزيادة في الفرض
ومن فوائد هذين الحديثين: أنه لا ينبغي أن يزاد في الفرض باسم التطوع، كما سئل مالك رحمه الله: أراد إنسان أن يخرج زكاة الفطر -وهي صاع- فأراد من باب القربة أن يخرج صاعاً ونصف؟ قال: لا، ليفصل الفرض -وهو الصاع-، ثم يتطوع بما شاء.
وهذا من بُعد النظر والفقه؛ لأننا لو تساهلنا وقبلنا الزيادة على الفرض، ستأتي زيادة أخرى، ويزيد آخر، حتى يضيع الحد الأساسي المفروض، وتصبح المسألة اجتهادية لا فرضية، وهكذا إذا أراد في الطواف أن يزيد شوطاً، أو في السعي أن يزيد شوطاً تطوعاً، فيقال له: لا، أد الفرض الواجب أولاً، ثم افعل ما شئت من نوافل، وينبغي الحفاظ على ما هو مشروع في حدوده.
والأصوليون يبحثون هذه المسألة فيما إذا كان الفرض والنفل مندمجين ولا فصل بينهما، فهل الجميع يكون فرضاً أو يجزئ من مجموع ذلك الفرض ويلغى الباقي؟ ومثلوا لذلك في الركوع والسجود، فالقدر الواجب في الركوع هو قدر الطمأنينة، وقدره بعض العلماء بثلاث تسبيحات، فإذا أطال في ركوعه بما يسع ثلاثين تسبيحة فهل هذا الركوع الطويل كله هو الفرض في الصلاة أو أن الفرض منه مقدار الثلاث تسبيحات والباقي يعتبر تطوعاً؟ الأصوليون يختلفون في ذلك، وأكثرهم يقول: الفرض معتبر بقدره، وما زاد عنه فهو تطوع.(143/3)
اليقين لا يزول بالشك
حديث: النهي عن صوم يوم الشك؛ هناك قاعدة أصولية أخرى، وهي: أن اليقين لا يرفع بشك، فإذا كنا في شعبان فنحن على يقين من الفطر، فإذا حصل شك في يوم الثلاثين من شعبان، ولم نتبين دخول رمضان من غيره، فنحن على يقين سابق وهو: فطر شعبان، فنستمر على هذا اليقين حتى يأتي يقين آخر ينقلنا عنه، واليقين الآخر إما برؤية، وإما بإكمال العدد كما سيأتي.
وفي نهاية رمضان إذا حصل غيم كما حصل في دخول رمضان فاليقين لا يرفع بشك، فنحن في رمضان على يقين من الصيام، فإذا لم يأت يقين ينقلنا من الصوم إلى الفطر فنبقى على اليقين وهو الصوم، حتى نستيقن ثبوت شوال بعدد أو برؤية، وقدمنا عن مالك رحمه الله أن من بيّت النية لليوم الذي يشك فيه على أنه إن كان رمضان فلرمضان، وإن لم يكن رمضان فنافلة في شعبان، لو ثبت أنه من رمضان لم يجزئه صوم هذا اليوم؛ لعدم اعتبار تلك النية؛ لأنه لم يجزم ولم يقطع بها، ولم يكن على يقين من رمضان، ولا يحسب له صوم نافلة؛ لأنه أيضاً لم يجزم بنية النافلة.(143/4)
متى نصوم رمضان؟
نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتقدم رمضان بصوم، ونهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصوم اليوم الذي يشك فيه، فمتى نصوم؟ هنا نذكر منهج الإسلام في بيان التوقيت لكل عبادة مؤقتة، العبادات المؤقتة بالنص هي الصلوات الخمس، وشهر رمضان، والحج، والعمرة لا توقيت فيها، ولكن جاء توقيت فيها بالمنع: فتمنع العمرة للحاج في يوم عيد الأضحى، وفي يومين من أوائل أيام التشريق باتفاق، والخلاف في ثالث أيام التشريق، والمانعون يقولون: هذا اليوم ثالث أيام التشريق، والحاج مشغول فيه برمي الجمار.
وبعضهم توسط وقال: إن هو قد رمى وانتهى وتعجل فلا مانع، والمانعون يقولون: لا، وإن تعجل فقد تأخر غيره، فهو يوم محسوب للرمي، فلا يعتمر في ذلك اليوم، أما ما عدا ذلك فالسنة كلها وقت للعمرة، سواء تكررت على رأي المالكية أو لم تتكرر، إذاً: العمرة لا وقت لها.
والحج -كما أخبر الله- سبحانه أشهر معلومات، ومن هنا نتأمل علامات التوقيت، فنجد أن المولى سبحانه ربط المفروض بالتوقيت بعلامات كونية يستوي فيها العامي والمتعلم، بل إن البدوي أعرف بها من الحضري؛ لأنها ألصق بها في حياته، أما رمضان فجعل الله سبحانه وتعالى لثبوته الهلال، والهلال أمر كوني يظهر في كبد السماء، ويراه القاصي والداني، فكل من أعطاه الله نعمة البصر يراه، والأعراب أقدر على رؤيته من الحضر؛ لأن أهل الحضر قد تحجبهم عن رؤيته أنوار الأجهزة الحديثة، أما الأعرابي فإذا غربت الشمس فليس عنده مصابيح كهربائية ولا غيرها، فتستمتع عينه بظلام الليل، وذلك أقوى لها؛ ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته) ، على ما سيأتي تفصيل الكلام في الرؤية وغيرها.(143/5)
التوقيت الهلالي
التوقيت الهلالي هو المعتبر في جميع معاملات المسلمين وعباداتهم؛ ولذا نجد في القرآن بيان تشريع الصوم وتوابعه، من أول قوله تعالى: ((كتب عليكم)) إلى قوله: ((شهر رمضان)) إلى قوله: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [البقرة:187] ، ثم يأتي الصوم الأعم: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] ، ثم يأتي الكلام عن الأهلة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة:189] أي: في معاملاتهم {وَالْحَجِّ} [البقرة:189] أي: في عباداتهم، ويلحق بالحج من حيث التوقيت كل العبادات، فالمطلقات يتربصن ثلاثة قروء، فإن لم يكن لها قروء فثلاثة أشهر، وهل هي أشهر إفرنجية أو أشهر عربية هجرية قمرية؟ الثاني، وكذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة:2] ، ثم يأتي بعد ذلك: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة:4] هل صيام الكفارات يكون بالأشهر القبطية أو بالأشهر القمرية؟ وكذلك بقية العدد: أربعة أشهر وعشراً، تعتبر بالأشهر القمرية، والعالم الآن فيه سنوات متعددات: شمسية، وقمرية، وميلادية، وكل هذه اصطلاحات عند أصحابها، والمولى سبحانه وتعالى بين للعالم في كتابه الكريم {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة:36] ، وهل يمكن أن نحافظ على الأشهر الحرم في سنة ميلادية أو قبطية أو شمسية؟ لا يمكن، فهي أربعة حرم من الاثني عشر، وهكذا بين سبحانه: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36] ، وهذا يعني: حافظوا عليها، وتعاملوا بها.
وهذه الاثنا عشر شهراً من أين تبدأ؟ العرب اختاروا أن تبدأ من محرم؛ لأن السنة العملية عندهم تنتهي بذي الحجة؛ لأنهم كانوا يسيحون في الأسواق، ويقول علماء الأدب: أسواق العرب: شحر ومجاز ومجنة وعكاظ ومنى.
كل هذه كانت أسواقاً تجارية للعرب، يأتون من حضرموت وينزلون في نجد، ثم إلى الحجاز ليحجوا ويحضروا مواسم عكاظ في الحجاز، فإذا انتهوا من هذه الدورة بدءوا سنة جديدة، واعتبروا أول السنة شهر محرم، وكانوا لا يعتبرون سنة بحد معين، وكانوا يؤرخون بالأحداث العظام، نحن في هذه الآونة نسمع الناس يقولون: سنة كسوف الشمس سنة كذا، مثلاً: كسفت الشمس هنا في المدينة عام [1363] هجرية كسوفاً نصفياً، فصار أهل المدينة يؤرخون بذلك، فكانوا في السابق يؤرخون بالأحداث، كما أرخوا -مثلاً- بعام الفيل؛ لأنه كان حدثاً عظيماً جداً في تاريخ مكة، وجعل الله سبحانه وتعالى فيه آية وعبرة، وعظم العرب جميعاً أهل البيت، وجاءت الآية الكريمة تقرر ذلك: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} [قريش:1-3] أي: الذي حماه الله من الفيل {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:4] ، وما علاقة البيت بذلك؟ لأن أهل البيت -وهم قريش- كانوا يرحلون شتاءً إلى اليمن، وصيفاً إلى الشام، فكانت القبائل تنهب من يمر بها إلا قريشاً تسلم، يقولون: هؤلاء جوار البيت، حماه الله من الفيل وجيشه، فكذلك نحميهم ولا نعتدي عليهم، فكان حفظ الله للبيت من أبرهة وجيشه سبب لحماية العرب لأهل البيت لمجاورتهم له.(143/6)
بدء العمل بالتاريخ الهجري
رفع إلى عمر رضي الله تعالى عنه سند بدين يدفع في شعبان، فتساءل: أي شعبان: الماضي أو الحاضر أو المستقبل؟ فقيل: لابد أن نجعل لنا بداية تاريخ ليضبط لنا هذه الأمور، فاجتمعوا وتشاوروا، فبعضهم أشار إلى عام الفيل، فقالوا: هذا يوم جاهلي، فجاءوا إلى أحداث الإسلام، فمنهم من ذهب إلى مولده صلى الله عليه وسلم، فقالوا: مولده لم يظهر أثره بعد، وجاءوا إلى بعثته، فقالوا: أثرها لم يأت بعد، وأعظم حدث في الإسلام هو الهجرة؛ لأن بها انتقلت الدعوة من موضع الضيق إلى السعة والمواساة، وبعدها انطلق الإسلام في العالم شرقاً وغرباً، فكانت الهجرة أعظم منة من كل ما سواها، وتلك الأحداث الكبرى كغزوة بدر -يوم الفرقان-، وفتح مكة، والحديبية، قالوا: هي آثار الهجرة، فهي نتجت عن الهجرة، وما حدث للمسلمين من تجمع؛ فاختاروا أن يكون عام الهجرة بداية التاريخ الإسلامي.
وكان وصوله صلى الله عليه وسلم المدينة في ربيع الأول، فقالوا: لا نخرج عن العرف، ولا نجعل أول السنة ربيع، بل نعتبر أول السنة المحرم.
ومضى التاريخ الإسلامي على التوقيت الهجري إلى اليوم بحمد الله، قال سبحانه: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة:36] فإذا كانت عند الله فلا ينبغي الإعراض عنها، وعلينا أن نأخذ ما هو معتبر عند الله، ونحن نعلم أن ما حدث من الأشهر ومن السنوات السابقة على التاريخ الهجري هي أيضاً عند الله، وحسابها عند الله، ومجراها من عند الله، فهي باعتبار حركة الشمس في الفلك، ولكن المعتبر القمرية، ولماذا؟ نسأل عامة الحاضرين: أولئك الذين يعتمدون التواقيت غير الهلالية بم يعرفون الشهر؟ لا يمكن أن يعرفوه إلا بتخصص جماعة يعينون دخول الشهر وخروجه، ومن هنا عجزوا عن ذلك، واتفقوا على أن يجعلوا شهورهم متفاوتة ما بين ثلاثين وواحد وثلاثين، يقبضون الكفين، فالعظم الناتئ واحد وثلاثون، والمنخفض ثلاثون، وهكذا فاختلف العدد عندهم في عدد أيام السنة، وكما يقال: سنة كبيسة وغير كبيسة، والفرق عندهم يومان، فجعلوا فبراير -شهر الكذب- ثمانية وعشرين، ما وصل إلى الثلاثين، يهمنا أنهم وقعوا في حيرة، واستمر الأمر عندهم على ذلك، أما نحن -بحمد الله- فلم نحتج إلى هذا ولا إلى ذاك، ولا إلى أن ننقص شهراً عن حسابه، إنما القمر آية كونية يضيء بالليل، ويراه القاصي والداني، كل من أنعم الله عليه بنعمة البصر يعرف أن الشهر قد جاء، وسمي الشهر شهراً للشهرة، فهو يشتهر بظهوره، وسمي الهلال هلالاً؛ لأنهم كانوا من عادتهم إذا طلع الهلال رفعوا أصواتهم، ورفع الصوت يسمى إهلالاً وتهليلاً، هلل فلان أي: رفع صوته، ويقال: التهليل والتحميد والتسبيح، من باب نحت الكلمتين في كلمة، التهليل: قولك: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، والتكبير: الله أكبر، والتسبيح: سبحان الله، والتحميد: الحمد لله، وهذا اصطلاح آخر.
جعل المولى سبحانه وتعالى الأهلة علامة للشهور فيما نحتاج إليه، وفي هذا مبحث بسيط، وهو: المرأة إذا طلقت وعدتها ثلاثة أشهر، -مثلاً-: طلقت يوم خمسة عشر في الشهر، هل ينتهي الشهر الأول بخمسة عشر في الشهر الثاني وتنتهي من الشهر الثاني في خمسة عشر في الشهر الثالث؟ قالوا: لا؛ لأن الأهلة تزيد وتنقص، بمعنى: أن الشهر يكون تسعاً وعشرين ويكون ثلاثين، إذاً: كيف تفعل؟ قالوا: تلتزم بالأهلة.
وماذا تفعل في هذا الكسر من الشهر؟ قالوا: إذا طلقت يوم خمسة عشر، تعد الأيام الباقية من الشهر، فمضى عليها خمسة عشر، ودخل الشهر الثاني وظهر هلاله، الخمسة عشر التي مضت تجعلها على جهة، وتأخذ الهلال والهلال شهران، بقي الشهر الثالث، عندها من الثالث خمسة عشر، فتكمله من الشهر الذي يليه، وتكون بذلك قد اكتملت عدتها ثلاثة أشهر، فتعتبر الأهلة في الشهرين السليمين، وتعد الأيام للشهر الذي حدث فيه الطلاق، وهكذا بقية المواطن التي يحتاج فيها المكلف إلى عدة أشهر.(143/7)
سهولة المواقيت الزمانية الشرعية
من توقيت الإسلام للعبادات الصلاة، فربط مواقيت الصلاة بحركة الشمس، فلماذا ذهبنا للشمس؟ قالوا: شهر الصوم حركة شهرية وليست يومية، فكان القمر مجزئاً فيها، أما وقت الصلاة فحركة يومية، والشمس يومية، فربطت مواقيت الصلاة اليومية بحركة الفلك اليومي كما قال الله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78] ، فلا يخفى على إنسان قط دخول الفجر؛ لأن انفجار الفجر من ظلام الليل واضح، حتى الطيور تحس به وتستيقظ قبل الإنسان، والنبات يحس به.
وإذا زالت الشمس عن كبد السماء دخل وقت الظهر، فالشمس من شروقها تدور في منتصف الدائرة إلى الزوال، وتكون متعامدة مع الأرض، فإذا تحولت إلى النصف الثاني إلى جهة الغرب تحول الظل من الغرب إلى الشرق، ولما أشرقت وفي طريقها إلى منتصف السماء كان الظل غرباً، لما وصلت إلى المنتصف وبدأت تتحول إلى الغرب تحول الظل شرقاً.
إذاً: لو لم ننظر إلى الأفق، ولم يكن عندنا مقياس سنتيمتر أو ميل أو غير ذلك يحدد موقع الشمس من السماء فعندنا ظل في الأرض يحدد لنا موقع الشمس من السماء.
وإذا جئنا إلى وقت العصر إذا كان ظل كل شيء مثله، وإذا جئنا إلى المغرب هل نحتاج إلى شيء؟ الكل يرى الشمس قد غابت في الأفق والحمد لله.
وإذا جئنا إلى العشاء فعلاقته ذهاب الشفق، والشفق هو الحمرة على ما عليه الجمهور، وبهذا تكون مواقيت العبادات في الإسلام طبيعية، أي: مرتبطة بآيات كونية يدركها العامي قبل المتعلم.
ويبحث العلماء توقيت الصوم، ومتى يدخل الشهر، وما رمضان إلا دورة أيام من دورات الفلك، ليست لأيامه ألوان خاصة، ولا أطوال متخصصة، ولا رياح معهودة، إنه يوم من الأيام، ومعرفة ذلك ببداية الشهر.
وسيأتي المؤلف بالأحاديث التي تدور حول رؤية الهلال، وهل الرؤية تثبت بواحد أم اثنين؟ وهل الرؤية خبر أم شهادة؟ وهل دخول رمضان كخروجه أو لا؟ وهذه مباحث باب الصيام فيما يتعلق بدخول شهر رمضان.(143/8)
شرح حديث: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا)
قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له) متفق عليه، ولـ مسلم: (فإن أغمي عليكم فاقدروا له ثلاثين) ] .
عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا رأيتموه) ما هو الذي رأيناه؟ الهلال، وأصل حديث ابن عمر طويل، واقتصر المؤلف منه على موضع الحاجة، وفيه أنهم تراءوا الهلال -تطلبوا رؤية الهلال- قال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: تراءى الناس الهلال فرأيته، وأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر الناس بالصيام، فالنبي صلى الله عليه وسلم علمهم: (إذا رأيتموه) ، أي: الهلال، وهو معلوم من السياق بالضرورة، مثل قوله تعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة:83] أي: الروح، فهنا يبين لنا صلى الله عليه وسلم بما يثبت عندنا دخول رمضان، فقال: (إذا رأيتموه) ، ولم يقل: إذا رأيته.
فالخطاب هنا للجمع، فهل يتعين على كل واحد أن يراه ليصوم؟ بعض الناس ضعيف النظر، سيصوم على رؤية غيره، إذاً: (إذا رأيتموه -أي: في مجموعكم، بمعنى: لو رآه واحد منكم فكأنكم جميعاً رأيتموه- فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا) ، وفي بعض روايات حديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب رضي الله تعالى عنه زيادة: (فانسكوا) ، من النسك وهو العبادة، ويشمل ذلك الحج، أي: إذا رأيتم هلال ذي الحج، فإنكم تعرفون يوم الوقفة، وتعلمون دخول الحج برؤية الهلال في أول ذي الحجة، والنسك: مطلق العبادة.
فلو لم نره، كانت السماء مغيمة، ويوجد رعد وبرق ومطر، والسماء لا ترى، فماذا نفعل؟ وهذا أمر واقع، فهل انتظر أن يسألوه؟ هل قالوا: وإذا لم نره لغيم أم أنه صلى الله عليه وسلم ابتدأهم بذلك؟ هو ابتدأهم؛ لأنه يعلم أن هذه أمور واقعية، فماذا يكون الحكم؟ أتاهم بالحل والجواب مقدماً: (فإن غم) ، يقال: الغمام لأنه يغم الجو، (فإن غم) أي: ستر وغطى، إما بغمام وهو السحاب، وإما بقتر، وهو: الغبار التي تثيره الرياح أو الأحداث، فيكون في الأفق طبقة رمادية لا تبصر معها، ولهذا أحياناً حينما تتلقى ماء المطر في إناء نقي تجده معكراً، من أين أتاه هذا التعكير وهو الآن نازل من السماء؟ الرياح أثارت التراب فعلق في الهواء لخفته ونعومته، فإذا ما نزل الماء أنزله معه؛ ولذا ترى السماء بعد المطر نظيفة نقية، كأنك أخذت مرآة ومسحتها، لماذا؟ لأن قتر الغبار كان يحول دونها، فلما نزل المطر أنقاها.(143/9)
معنى (فاقدروا له)
قال: (فإن غم عليكم -بشيء ما- فاقدروا له) ما معنى (فاقدروا) ؟ المعنى اللغوي يدور على معنى التضييق والقلة، {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:7] ، فبعضهم يقول: (نقدر له) نضيق، أي: نحتاط ونصوم في اليوم الذي يشك فيه إقداراً للشهر، هذا مدلول فاقدروا وحدها، ولكن لم تقتصر الرواية على قوله: (فاقدروا) بل فسرت بقوله: (أكملوا العدة ثلاثين) .
والمؤلف جاء براوية (فاقدروا) عن عبد الله بن عمر وانتهى، وهذا عند البخاري، قال: ولـ مسلم: (أكملوا العدة ثلاثين) ، ويريد المؤلف بهذا أن قوله: (فاقدروا) مجمل يحتاج إلى تفصيل، ووجد عند مسلم التفصيل بعدد الأيام، ولهذا يقول ابن عبد البر في الاستذكار: إن من حكمة مالك وفقهه أنه لما بحث هذا الباب أورد حديث عبد الله بن عمر هذا، ثم أورد حديث ابن عباس الذي فيه: (فاقدروا له ثلاثين يوماً) ، قال ابن عبد البر: لقد ساق مالك حديث ابن عباس بعد حديث ابن عمر وأخره عنه؛ لأن فيه بيان ما أجمل في حديث ابن عمر؛ ولهذا مراراً نقول: إن من تأمل إيراد مالك للأدلة في الباب، وأمعن النظر فيها بملكة فقهية، يستطيع أن يعرف مراد مالك، فيشرح الموطأ بالموطأ، وهذه من دقة ملاحظة الفقهاء، حديث ابن عمر وحديث ابن عباس كلاهما في معنى واحد، فكان من الممكن أن يقدم حديث ابن عباس لأنه أبين، لكن قدم حديث ابن عمر الذي فيه الإجمال، وأردفه بحديث ابن عباس ليرفع الإجمال الموجود في حديث ابن عمر.
وبعض العلماء فسر كلمة (فاقدروا له) بأنه بالحساب، قدروا أي: خمنوا، وكيف يقدرون؟ قالوا: بعلم الفلك، وأجمع العلماء عل عدم حساب الصوم بالحساب إلا ما روي عن ابن سيرين، وما روي عن الشافعي قد كذبه ابن عبد البر، فقال: ما ذكر عن الشافعي أنه قال: من كان يعلم علم الحساب وثبت عنده رمضان فله أن يصبح صائماً، بناءً على يقينه بعلمه، رد ابن عبد البر هذا النقل، وقال: الذي وجدناه في كتب الشافعي خلاف ذلك.
يعني: أنه لا يقول بالحساب.
والذين يقولون: (فاقدروا له) أي: فاحسبوا له، ويذكرون قاعدة عجيبة، وهي من علم الفلك، يقولون: يقدرون لهلال رمضان إذا علموا يقيناً بهلال شعبان باليقين.
فكيف يعرفون رمضان بهلال شعبان، وشعبان يمكن يكون تسعة وعشرين أو ثلاثين؟ قالوا: القاعدة الفلكية في حركة القمر وظهوره وغيابه أنه أول ما يرى الهلال في أول الشهر يمكث في الأفق ستة أسباع الساعة، ثم في الليلة الثانية يطول مكثه ستة أسباع الساعة مرة ثانية، وفي الليلة الثالثة يزيد مكثه، وهكذا إلى الليلة السابعة، وفيها غياب القمر في منتصف الليل.
نعيد هذا مرة ثانية، يقولون في علم الفلك بالنسبة للقمر: أول ما يظهر لا يغيب حالاً، يمكث ستة أسباع الساعة، نحو الأربعين دقيقة؛ لأننا لو قلنا: تسعة في سبعة، ستكون ثلاثة وستين، وثلاثة زائدة، وإن قلنا: ثمانية في ستة ستكون ثمانية وأربعين، وتسعة في ستة بأربعة وخمسين، إذاً ننزلها ونقول: ستة في ثمانية بكم؟ بثمانية وأربعين، إذاً: ثمانية ونصف، ستة في ثمانية ونصف حوالى الأربعين دقيقة، فلنصطلح على أربعين دقيقة، فالليلة الثانية يمكث في الأفق أربعين مرتين، أي: ثمانين دقيقة، والليلة الثالثة يمكث أربعين ثلاث مرات، ويغيب في ليلة سبعة من الشهر في منتصف الليل.
ثم يظل في مكثه ستة أسباع الساعة إلى أن تأتي ليلة أربعة عشر، ويظل طيلة الليل لا يغيب، وهي ليلة بدر التمام.
إذاً: ليلة أربعة عشر يظهر القمر من أول الليل إلى آخره، وبعد أربعة عشر يتأخر طلوعه ستة أسباع الساعة، وليلة ستة عشر يتأخر طلوعه ستة أسباع الساعة -مرة ثانية- وهكذا، فكل ليلة من النصف الثاني من الشهر يتأخر طلوعه ستة أسباع الساعة عن الليلة التي قبلها، إلى ليلة ثمانية وعشرين في الشهر، ففي ليلة ثمانية وعشرين المفروض أن يرى في الصبح عند الفجر، فإن رؤي فالشهر كامل أي: ثلاثون يوماً، وإن لم ير عند الفجر ليلة ثمانية وعشرين فالشهر ناقص أي: تسعة وعشرون يوماً، فإذا علمنا بدخول شعبان وتتبعنا هلاله، وزدنا في كل ليلة ستة أسباع إلى أن يغيب في منتصف الليل في الليلة السابعة، ثم يبدأ يزيد إلى أن يستغرق الليل كله، وهي ليلة بدر التمام، ثم يبدأ في النقصان إلى ليلة ثمانية وعشرين، فإن لم يظهر فيها فالشهر ناقص، فإذا عرفنا أن شعبان ناقص فيوم غد رمضان، هكذا يقولون في علم الحساب، ولكن البعض يقول: قد يختلّ هذا النظام، ونحن لسنا مكلفين بهذا العناء، وستة أسباع الساعة نحن محتارون فيها، فكيف نتتبع ذلك طيلة الشهر، ثم نحكم بأن شعبان خرج، ورمضان جاء؟ وقد قدمنا أن اليقين لا يرفع بشك.(143/10)
كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [3]
شهر رمضان تتعلق به أحكام كثيرة، وهو أفضل شهور السنة، وفيه فضائل عديدة، ومن الأحكام المتعلقة بدخول رمضان: بيان كيفية ثبوته، واعتبار اختلاف المطالع فيه، وحكم تبييت الصيام من الليل، بالإضافة إلى الاكتفاء بنية واحدة لجميع أيام الشهر، وهذه المسائل اختلف العلماء فيها، فينبغي فهمها لمعرفة الراجح من الأقوال فيها.(144/1)
أنواع العلوم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: قال الغزالي رحمه الله: العلوم أربعة: علوم عقلية، وعلوم تجريبية، وعلوم ظنية، وعلوم توقيفية.
أما التوقيفية: فهي كل ما يتعلق بالغيب من صفات المولى سبحانه، وأحوال القبر، وأحوال القيامة، ونعيم الجنة، وعذاب النار -عياذاً بالله-، فكل ذلك توقيفي لا نجزم بشيء منه إلا بخبر يقين عن صادق، فلا نستطيع أن نحكم بشيء، بل نتوقف، مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (مررت بأخي موسى في قبره قائماً يصلي، ولو كنت هناك لأريتكم قبره بجانب الكثيب الأحمر) ، بالتحديد، ثم إذا به يرى موسى يستقبله مع الأنبياء في بيت المقدس، ثم إذا به يرى موسى في السماء السادسة يستقبله، فهل العقل يستطيع أن يحكم بذلك؟ لا، بل هو توقيف، ومثله قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد:15] ، هل نستطيع أن نحكم أن حقيقة الخمر واللبن والعسل في الجنة كما هو عندنا؟ والميزان الذي يزن الأعمال، هل هو ميزان حرارة أو ميزان كذا أو كذا؟ والبطاقة التي فيها "لا إله إلا الله" ترجح بسجلات مد البصر، هذه أمور غيبية لا دخل للعقل فيها.
العلوم التجريبية: مثل علم الطب؛ لأن الصيدلة ومعرفة خواص الأشياء من نباتات أو معادن أو كيماويات إنما هي بحسب التجربة، ويقال في علم الصيدلة: إن أكثر من خمسين في المائة من الأدوية المتداولة اكتشفت عن طريق الصدفة أثناء التجارب! ينتقل الصيدلي أو الكيميائي في معمله من قصد إلى قصد آخر لشيء فاجأه في بحثه.
أما العلوم العقلية: مثل الرياضيات -الحساب والهندسة- لا يمكن أن قضية رياضية تخطئ؛ لأن القواعد الرياضية لا خطأ فيها، وإنما يأتي الخطأ من العقل الذي يعملها.
مثلاً: (5×6=30، 6-5=1، 1+5=6) فهذه لا تتغير، مهما حورت ومهما دورت في عمليات الأرقام؛ ولذا جعلوا لها الآن قواعد جمادات، فالآلة الحاسبة نظموها على تلك العقليات الرياضية فلم تخطئ، الإنسان يخطئ عشرين مرة، والآلة الحاسبة لا تخطئ لماذا؟! لأنها لا تملك الخطأ، وتعجز عن الخطأ؛ لأن الخطأ نتيجة اجتهاد، والآلة لا اجتهاد لها.
أما العلوم الظنية: مثل العلوم الفلكية، وإن كان الفلكيون الآن سيروا المراكب في الفضاء، وأرسلوا الصواريخ، وفعلوا وفعلوا، لكن لا زالوا في دائرة الظنيات.
إذاً: إذا اعتمدنا في الصوم على الحساب فلن نخرج عن نطاق الظنيات؛ ولهذا جاء الحديث صحيح: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة) ، إن كنا في أول رمضان أكملنا عدة شعبان ثلاثين، وإن كنا في آخر رمضان وغم علينا أكملنا عدة رمضان ثلاثين يوماً، وانتهت القضية، والحمد لله.(144/2)
هل يثبت الشهر برؤية عدل؟
من الذي يعتمد عليه في الرؤية؟ إذا رآه مسلم عدل في أول دخوله اكتفي به، وهناك من ينقل عن الشافعي أنه يقول: لابد من شاهدي عدل.
وهل الإخبار عن رؤية الهلال شهادة أم إخبار؟ والفرق بين الخبر والشهادة دقيق جداً؛ لأن كلاً منهما يخبر عن مغيّب، والفرق بينهما: إذا كان مضمون الكلام -أي: مضمون الخبر- له علاقة بشخص ثالث غير المتكلم والسامع فهو شهادة؛ لأنه يشهد على إنسان ما، وإن كان موضوع الكلام لا يتوقف على شخص ثالث فهو خبر، حينما يقول: طلعت الشمس.
يريد أن يخبر السامع بطلوعها، فهل هناك شخص آخر يعنيه ذلك في هذا الخبر؟ لا، وإذا قال: سمعت زيداً يقول عند طلوع الشمس: أعط فلاناً كذا.
فهل هذا خبر أو شهادة؟ شهادة؛ لأنه يتعلق بحق شخص ثالث، ومن هنا: من اعتبر رؤية الهلال شهادة قال: لابد من اثنين {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ} [الطلاق:2] ومن اعتبر رؤية هلال رمضان خبر فيكتفي بواحد، حتى المرأة، فخبر المرأة وخبر الرجل في باب الأخبار سواء، ونحن تأتينا الأحاديث برواية النساء، فهل نقول: هذه امرأة لا نقبل شهادتها؟ لا، فهي تقول: أنا لا أشهد، بل أخبرك بما سمعت؛ ولهذا ورد في الحديث: (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم عشية وقال: أشهد بالله أني رأيت الهلال.
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً أن ينادي: ألا فافطروا وامضوا إلى المصلى غداً) ، وابن عمر قال: (تراءى الناس الهلال، فرأيته فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر الناس بالصيام) ، وكل هذا من باب الإخبار.
ومذهب الجمهور قبول خبر الواحد في دخول رمضان، ويتفقون على وجوب عدلين في خروج رمضان إلا من شذ، والفرق عندهم هو ما قدمنا أن اليقين لا يرفع بشك، كما سأل النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي الذي شهد برؤية الهلال: (أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم.
قال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟) سبحان الله! لم يقل: أتشهد أني، بل قال: أتشهد أن محمداً؛ لأن شخصية الرسالة ليست بالأنية، ولكنها المحمدية، قال الله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة:285] ، ولم يقل: آمنت بما أنزل إليك من ربك، فقال: (نعم أشهد، فقبل منه ذلك واكتفى بهذا، وأمر الناس بالصيام) ففي دخول رمضان الأحوط أن نقبل خبر الواحد؛ احتياطاً لرمضان، وأما الخروج فنحن على يقين من صومنا، فلا يخرجنا خبر الواحد، ونحتاج إلى زيادة تأكيد، فإذا شهد عدلان خرجنا عن الصيام، وكان الشهر تسعةً وعشرين يوماً.(144/3)
خلاف العلماء في اعتبار المطالع
قوله: (صوموا لرؤيته) خطاب لأهل المدينة في ذلك الوقت أو خطاب للأمة كلها؟ من قال: هو خطاب لمن كان موجوداً في ذلك الوقت، قال: خاص بهم.
ومن قال: هو عام للأمة كلها، قال: إذا رئي في بلد وجب على جميع بلاد العالم الإسلامي أن يصوم.
ولكن وجدنا الأخبار والعمل على اعتبار كل قطر لمطلعه، كما في قضية ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مع كريب، فـ كريب أرسلته بعض أمهات المؤمنين إلى معاوية رضي الله تعالى عنه وهو خليفة بالشام، فأدركه رمضان بالشام، ورءوا الهلال ليلة الجمعة، وأصبحوا صائمين يوم الجمعة، ثم جاء كريب إلى المدينة وهم في رمضان، فتحادث هو وابن عباس عن أهل الشام، وعن معاوية وعن رمضان، فقال كريب: أما رمضان فقد رأينا الهلال ليلة الجمعة.
قال: أنت رأيته؟ قال: نعم، رأيته وصمنا وصام معاوية وأمر بالصوم.
فقال ابن عباس: أما نحن -وكان في المدينة- فلم نره إلا ليلة السبت.
فقال: ألا تكتفي برؤية معاوية وصومه؟ قال: لا، بهذا أمرنا رسول الله، فقوله: (صوموا) خطاب لكل قطر على حدة.
بقي الخلاف والنزاع في تباعد الأقطار وتقاربها، وبعضهم يقول: السياسة تدير الأمر، فإذا تقاربت السياسة صمنا برؤية البلد الفلاني، وإذا تباعدت السياسة، يقولون: لم يثبت عندنا.
يا سبحان الله! ونجد كثيراً من طلبة العلم يشغلون أنفسهم بهذه المسألة، فالآن السعودية ثبت عندها رمضان يوم الثلاثاء، من الذي يمنع العالم كله أن يأخذ بهذه الرؤية؟ هل هناك مانع؟ لا يوجد مانع، هل هناك ملزم يجبرهم بالصيام معنا؟ لا، لا يوجد ملزم، فهي أمور شخصية، فهم يقولون: لا نقبل، لا نثق، إذاً: سندخل معهم في ملاحاة، فنقول: حينما يثبت عندكم رؤيته صوموا، وحينما يثبت عندكم رؤيته أفطروا، ونصيحتي: أن هذه القضية بالذات لا ينبغي أن تكون مجالاً للبحث وللنقاش، ولا نتهم الأمة بالفرقة من أجل هذا، أو ندعو الأمة إلى الوحدة في هذا، فلا يوجد حاجة إلى هذا كله؛ لأنه لا تكون هذه الوحدة أبداً، نحن الآن في هذا الوقت هنا، ولو سألت عن بلد يقع شرقاً عنا على بعد ألفين ميل لوجدتهم قد أفطروا من قبل ساعات، وصلوا العشاء، ولو أنك أفطرت هنا وسألت عن بلد في الغرب: هل أفطرتم؟ يقولون: لا، نحن لم نصل العصر بعد! فالتوقيت -مثلاً- بينك وبين الدار البيضاء في المغرب ثلاث ساعات، فنحن نفطر، ونصلي العشاء، ونصلي التراويح، ونرجع إلى بيوتنا، ثم هم يقولون: باسم الله، اللهم! لك صمنا، وعلى رزقك أفطرنا.
إذاً: لا يوجد وحدة في هذا، وهل هذا يعيب العالم الإسلامي؟ لا، الوحدة تكون عملياً في غير ذلك، الوحدة تكون على تحكيم كتاب الله، الوحدة تكون في نظام الإسلام وفي تشريعه، الوحدة تكون في أعمال المسلمين بما فرض الله، نوحد الزكاة، نوحد الأموال، هل استطاعوا أن يوحدوا العملة النقدية؟ ما استطاعوا؛ لأنها أمور تختص بالبلد، ولا حاجة لكثرة الكلام في هذا، وإذا ما اتحدت قلوب المسلمين، فبنعمة من الله يستطيعون أن يوجدوا الوحدة بأبسط من ذلك، الآن بدءوا يقولون: وحدة التعرفة الجمركية، وحدة التعرفة البريدية، وحدة كذا، وهم الآن مضطرون إلى أن يوحدوا وسائل المواصلات، وتتبادل الشركات تذاكر بعضها بعضاً اضطراراً.
إذاً: النزاع في كون رؤية الهلال رؤية للعالم كله أو ليست رؤية للعالم كله، هذه أمور نظرية وليست عملية، وعلى هذا فكل بلد له مطلعه، والذي يهمنا أن العالم الإسلامي ينبغي أن يرتبط في دخول رمضان وخروجه بهذه الآية الكونية الكبيرة، ألا وهي: رؤية الهلال، فإن غم عليكم فأكملوا العدة، أما أن نحسب مقدماً، ونعلن الصوم قبل مجيئه بأيام، ونقول: سيكون يوم كذا، والعيد سيكون يوم كذا، على أساس الحساب والتقدير، فالحساب والتقدير قطعاً لا يخلوان من الخطأ، والله ما تعبدنا ولا كلفنا أن نتحمل هذه المشاق، وإذا عرف الحساب بعض الأفراد فمن الذي يحسب لأهل البادية، وأهل الأرياف الذين لا يعرفون حساباً؟ إن قلت: إن الدولة ستخبرهم.
فكيف بالذين لم تصلهم مواصلات الأخبار؟ وكم يوجد من أهل البادية في الجبال وفي الكهوف! كم يوجد من البوادي بعيدة عن المواصلات! فهؤلاء عندهم توقيتهم، إذا رءوا الهلال لا يحتاجون إلى إخبار ولي أمر، فيصومون لرؤيته، وإذا رءوا الهلال يفطرون لرؤيته، وهكذا.
إذاً: قضية الحساب، وقضية تعميم الرؤية، فيها نظر، والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، وأن يأخذ بنواصينا ونواصي ولاة أمورنا إلى الحق، وإلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(144/4)
شرح حديث: (تراءى الناس الهلال ... )
قال رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (تراءى الناس الهلال، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه) رواه أبو داود، وصححه الحاكم وابن حبان] .
أتى المؤلف رحمه الله بحديث ابن عمر؛ لأن فيه أن الذي أخبر بالرؤية واحد، وهو ابن عمر، (تراءى الناس) ، أي: كل يرى لعله يراه، لكن ما رآه أحد إلا ابن عمر، وللأحناف هنا مباحث: إن كانت السماء صحواً فلم لم يره إلا ابن عمر؟ فهم لا يقبلون واحداً، وإن كان في السماء غيم فلا مانع، وقد يخفى الهلال على بعض أولي الأبصار القوية، ومن الضروري للتمكن من رؤية الهلال أول ليلة أن يعلم الرائي أين يكون الهلال في أول ليلة؛ ولذا يتتبعه بعض الناس في خط سير الشمس؛ لأنه يتبعها، فإذا كان يتتبع مجراها فحري أن يرى الهلال، فهو لا يذهب إلى يمين أو إلى يسار مجرى الشمس في غروبها، فإذا كان إنسان يعرف ذلك فلربما يراه، والآخرون لا يرونه لوجود الغيم، وهذا الذي ساقه هنا عن ابن عمر يوافق عليه الجميع.
إذاً: حديث ابن عمر يثبت قبول خبر الواحد، ونبهنا على الفرق بين أن يكون الأمر خبراً وبين أن يكون شهادة، مواطن الشهادة كما قال تعالى: {ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2] ، أما الإخبار فيكفي فيه الثقة، حتى لو أن امرأة أخبرتنا بخبر فلا نرد ذلك الخبر، وكما قيل: وعند جهينة الخبر اليقين.
ومن قصص الجاهلية أن امرأة أخبرتهم أن القاتل ظفر به ولي المقتول فقتله، وكانوا يتشاورون: ماذا نصنع؟ وماذا نعمل؟ نقاتل أو لا نقاتل؟ ندفع دية أو لا ندفع؟ وبينما هم على ذلك، قالت لهم: صاحب الدم قتل صاحبه، فقالوا: قطعت جهيزة قول كل خطيب، فالخبر يكفي فيه الثقة، لا مجنون ولا سفيه ولا غبي، فإذا أخبر واحد برؤية الهلال؛ قبل ذلك ولي الأمر، وأمر بالصيام.(144/5)
شرح حديث: (فأذن في الناس أن يصوموا غداً)
قال رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال.
فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم.
قال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم.
قال: فأذن في الناس -يا بلال - أن يصوموا غداً) رواه الخمسة، وصححه ابن خزيمة وابن حبان، ورجح النسائي إرساله] .
أتى المؤلف رحمه الله بهذا الخبر، وماذا فيه من زيادة على حديث ابن عمر؟ ابن عمر يقول: تراءى الناس، ورأيت، وأخبرت، فصاموا، والأعرابي يقول: إني رأيت، فأخبره، فقال: (فأذن في الناس -يا بلال - أن يصوموا غداً) ، الناحية الموضوعية في الحديثين واحدة، وليست هناك زيادة إلا أن ابن عمر صحابي جليل ثقة، حريص على اتباع سنة رسول الله أكثر من غيره، لكن الأعرابي هذا يسكن البادية، ولا نعرفه، وقد قال الله: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} [التوبة:97] ، {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ} [التوبة:98] ، فالأعراب فيهم وفيهم، فجاء المؤلف بحديث شهادة الأعرابي، وهل تثبت شهادته؟ هل قال له: أحضر لي شهوداً، أحضر لي مزكين، أين شيخ القبيلة حتى أسأله عنك؟ لا، بل قال: (أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم أشهد.
قال: أتشهد أن محمداً -وهذا التجريد كما يقولون- رسول الله) ، ونبهنا على أن الرسالة ليست أنية، لم يقل: أتشهد أني رسول الله؟ لا، محمد بن عبد الله هو الذي أرسله الله قال الله: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا * مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:28-29] ، لم يقل: وكفى بالله شهيداً أنك رسول الله، لا، مع أن هناك قوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1] ، لكن هنا في معرض التقرير قال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم أشهد.
ويتفق العلماء على أن هذا وحده يكفي للعدالة، قالوا: لأن الإسلام يجب ما قبله، فهذا الأعرابي مهما كانت درجته في سلوكه وانحرافه فأسلم، فقد محا الله عنه كل آثار الماضي قبل ذلك، وهكذا التوبة كما نعلم بقضية الرجل من بني إسرائيل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، فتداركه الله بلطفه، وهداه إلى التوبة، فذهب إلى عابد من العباد ليس فقيهاً، فقال: هل لي من توبة بعد التسعة والتسعين؟ قال: أعوذ بالله! قتلت تسعة وتسعين وتريد توبة أيضاً؟! قال: يعني ما هناك فائدة؟ قال: لا.
قال: إذاً نكمل المائة، وقتله.
فحدثته نفسه بالتوبة مرة أخرى، فذهب إلى عالم من العلماء، فقال: يا سبحان الله! ومن يحول بينك وبين الله؟ تب إلى الله يقبل توبتك، ولكن اخرج من هذه القرية التي ارتكبت فيها هذه الجرائم إلى تلك القرية الفلانية ففيها أناس صالحون، فتعبد الله معهم.
فخرج فأدركه الموت في منتصف الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة لأنه مقبل عليهم، وملائكة العذاب لأنه مجرم من سابق، فبعث الله ملكاً يحكم بينهم: أن قيسوا بين البلدين، وألحقوه بأقربهما منه، وفي بعض روايات الحديث الصحيحة: (أن الله أوحى إلى هذه أن اقتربي -أي: التي خرج إليها-، وأوحى إلى تلك أن تباعدي) -ورواية أخرى (أن الله سبحانه قربه بصدره - يعني: انقلب وهو ميت ليكون أقرب- فقاسوا فكان أقرب إلى البلد التي خرج إليها قدر ذراع) .
والذي يهمنا: أن الصحابة مهما كانوا فكلهم عدول؛ لأن الله قد شهد لهم بالعدالة، ولذا يقول بعض علماء الحديث: إن المرسل في الحديث يقبل، وهو الذي سقط منه الصحابي، والتابعي يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن التابعي لم يلق رسول الله، ولو لقيه لكان صحابياً، فيقولون: غاية ما في الأمر أن الصحابي غير مذكور وغير معلوم لنا، وعموم الصحابة عدول، فعدم ذكره لا يضر في الحديث شيئاً.
فهذا الأعرابي مسلم، وثبتت له الصحبة بأنه رأى رسول الله وخاطبه، ولا يشترط في الصحبة طول الملازمة كما يقول بعض العلماء، فاكتفى منه بالشهادتين فقبل خبره، وأمر بلالاً أن يؤذن في الناس بأن يصوموا غداً، ولم يكن عندهم مدافع، ولا برقيات، ولم يكن هناك إذاعة، والأذان كان أكبر وسائل الإعلام.(144/6)
شرح حديث: (من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له)
قال رحمه الله: [وعن حفصة أم المؤمنين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له) رواه الخمسة، ومال الترمذي والنسائي إلى ترجيح وقفه، وصححه مرفوعاً ابن خزيمة وابن حبان، وللدارقطني: (لا صيام لمن لم يفرضه من الليل) ] .
كأن المؤلف رحمه الله يذكر الأحاديث بالتسلسل التشريعي، فذكر أولاً: (لا تصوموا قبل رمضان بيوم أو يومين) ، قبل أن يأتي الشهر، فإذاً: ما صمنا اليوم ولا اليومين، ثم جاء اليوم الذي يشك فيه فقال: (لا تصوموا يوم الشك) ، ثم تعدى يوم الشك، قال: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته) ، فهذا تسلسل حدثي ماض، وبعد أن رأينا الهلال، وصمنا لرؤيته، بدأ في بيان الصوم، فإذا كنت رأيت الهلال وثبت عندك وستصوم، فلابد أن تبيت النية بليل.
وهذا الحديث عن حفصة رضي الله تعالى عنها، وهي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عمر يروي عن أخته هذا الحديث، وبعضهم يقول: هذا موقوف عليها، أي: من قولها هي.
والبعض يقول: لا، لقد رفعته إلى النبي صلى الله عليه وسلم في غير هذه الرواية.
إذاً: حديث تبيت النية للصوم جاء عن حفصة تارة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتارة موقوفاً صناعة أو شكلاً على حفصة، ومهما يكن من شيء، فتصحيح الصوم بالنية، وعدم تصحيحه بدونها هل هذا من حق أحد سوى الوحي المنزل؟ فكون الصوم يشترط فيه تبييت النية أو لا يشترط هل من حق أحد أن يجتهد فيه؟ هل من حق أحد أن يتدخل فيه؟ لا، إنما ذلك لا يكون إلا توقيفاً عن الله أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً حفصة رضي الله تعالى عنها حينما قالت: لا صيام لمن لم يبيته بليل.
لم تأت به من اجتهادها ولا تفكيرها، بل نجزم يقيناً أنها ما قالته إلا بعد أن سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤكد هذا أنها زوجه، ومن أقرب الناس إليه، ولا يفوتها مثل هذا، وعلى هذا فهو وإن كان موقوفاً شكلاً على حفصة؛ لعدم ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو مرفوع حكماً؛ لأنه ليس مما يحتمل الاجتهاد.
وعلى هذا يكون صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يُجمع -من لم يزمع، من لم يبيت.
كل هذه ألفاظ جاءت في هذا الحديث وغيره- الصوم بليل فلا صوم له) ، وكلمة (ليل) هنا: ظرف لنية الصوم نهاراً، ومتى تكون النية إذاً؟ قالوا: من بعد غروب الشمس أول الليل إلى قبيل أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، وهذا كله ليل، إذاً: من غروب الشمس إلى طلوع الفجر ليل.(144/7)
حكم النية في الصوم
وهنا يبحث العلماء عن حكم النية في الصوم، فيقسمون الصوم إلى صوم رمضان وما في حكمه: صوم النذر، صوم الكفارة، والقسم الآخر صوم التطوع، والجمهور على أن صوم رمضان وما يلحقه في الحكم لا يصح إلا إذا بيت النية من الليل، ومن أي جزء من الليل؟ قالوا: من عند غروب الشمس إلى طلوع الفجر، ففي أي لحظة من ذلك الوقت نوى الصوم فقد حصل المطلوب.
وقوله: (يبيت) هل يشترط أن يأتي بهذه الألفاظ والقوالب لمعانيها، فيقول: نويت الصوم يوم غد الخامس عشر من رمضان سنة ألف وأربعمائة وخمسة عشر بالمدينة المنورة؟ هل يلزم هذا كله؟ لا أبداً، ونويت الصوم غداً.
هل تلزم هذه؟ أيضاً لا، وكونه بعد غروب الشمس علم بثبوت رمضان، وحمد الله أنه أدركه، وغداً سيصوم الناس، وهو مع الناس، فهذه نية، وهذا الإدراك في نفسه هو بنفسه نية، ولو كان نائماً، ولا يدري عن مجيء رمضان، وأيقظه أهله وقالوا: قم! قال: ما الأمر؟! قالوا: قم تسحر.
قال: لماذا؟ قالوا: جاء رمضان.
قال: الحمد لله، وقام فتسحر معهم للصيام غداً، فهذه نية، فالنية في الصوم هو ورود الصوم على خاطره بالجزم أنه صائم غداً.
وهل يتعين كل ليلة نية لصيام نهارها أم يكفي من أول ما ثبت رمضان أن ينوي أنه صائم الشهر إن شاء الله، وتكون نية بالجملة تشمل الشهر كله؟ بعض العلماء كالحنابلة يقولون: تجزئ.
ويأتون بقاعدة: هل رمضان بأيامه الثلاثين عبادة واحدة أو كل يوم عبادة مستقلة عن الآخر؟ فمن نظر إلى أن رمضان فرضاً واحداً قال: تجزئه نية واحدة.
ومن نظر إلى أن كل يوم فرضاً مستقلاً بذاته قال: لابد لكل يوم من نية.
والنية على ما تقدم بيانها.
وهل صيام رمضان عبادة واحدة أم أن كل يوم عبادة مستقلة؟ يترجح لي -والله تعالى أعلم- ما ذهب إليه المالكية من أن كل يوم عبادة مستقلة بذاتها.
ولماذا؟ يقول المالكية: من أفسد صوم يوم من رمضان، -مثلاً- يوم تسع وعشرين من رمضان، فهل أفسد رمضان كله أو هذا اليوم فقط؟ هذا اليوم فقط، إذاً: هذا اليوم عبادة مستقلة بذاتها، فالأولى تبييت النية لكل يوم.
وكما أشرنا أن مجرد خطور الصوم على باله ليلاً يجزئ.
وينبه العلماء على أنه من كان عازماً على سفر، وحجز في الطائرة، والموعد غداً في التاسعة صباحاً، والحجز مؤكد، والتذكرة في جيبه، والسيارة ستوصله إلى المطار، إذاً: السفر بالنسبة لهذا (99.
9%) ، فهذا الشخص يتعين عليه ما دام في بلده أن يبيت الصوم لذلك اليوم الذي هو غداً مسافر فيه، ولماذا؟ لهذا الواحد من عشرة من مائة، لاحتمال أن يتخلف السفر، -مثلاً-: ألغيت الرحلة غصباً عنه، جاء الذي كان سيسافر من أجله، كأن يكون طلب شيئاً من جدة أو من خارج البلاد وتأخر عليه، وعزم أن يسافر ليأتي به، ففي الصباح الحجز الساعة التاسعة، وفي الساعة سبعة جاء الذي يقول له: خذ حاجتك.
فهل سيسافر أم يمتنع؟ سيمتنع لانتهاء المهمة.
إذاً: عليه أن يبيت النية، حتى إذا تعطل السفر يكون قد احتاط ومعه شرط صحة صوم يوم غد، وإن حصل سفر فمع السلامة.
وكذلك المرأة التي تعلم من نفسها مجيء الدورة، ومتعودة أنه يوم كذا تأتي الدورة، وتعلم أن غداً موعد الدورة بعد الظهر، فعليها أيضاً أن تبيت النية للصوم؛ لأن الدورة ليست حركة ميكانيكية مثل الساعة، قد تتأخر إلى ما بعد غروب الشمس، إذاً: تبيت النية للصوم، فإن جاءت الدورة خرجت من الصوم، وإن لم تأت الدورة واصلت الصوم، وصح صومها لهذا اليوم.(144/8)
عدم اشتراط تبييت النية في صوم التطوع
الصوم منه فرض ومنه نافلة، هل يشترط لصحة صوم النافلة أن يبيت الصوم بليل أيضاً أو يصح للإنسان أن ينشئ نية الصوم للنافلة في النهار بعد طلوع الفجر؟ الجمهور على أنه بالنسبة للنوافل له أن يعقد الصوم في النهار ما لم يكن قد أكل.
إذاً: تبييت الصوم بليل عام، ويستثنى منه النوافل، وما الذي أخرج النوافل من عموم الصوم؟ قالوا: حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا فقال: هل عندكم من شيء؟ قلنا: لا.
قال: إني إذاً صائم) (إني إذاً) أي: في هذا الوقت نويت الصوم، فما دام لا يوجد أكل فسأصوم، وهذا بشرط ألا يكون أكل قبل ذلك.
وبعضهم يقول: لو أكل في يومٍ صومه واجب، وهو غافل عنه، فيمسك حينما تبين له، ويقضي يوماً آخر، فمثلاً: الصبي يبلغ في نصف النهار، احتلم وأصبح مكلفاً، فيمسك عن الطعام في ذلك اليوم، ولأنه قد أكل فعليه قضاء يومه، وإذا لم يكن قد أكل فكثير من العلماء يقول: يجزئه؛ لأنه قبل البلوغ غير مكلف، واليوم سليم لم يقطعه بطعام.
والآخرون يقولون: لا، يقضي يوماً غيره؛ لأنه لم يبيت الصوم بليل، ومثل ذلك الكافر إذا أسلم أثناء النهار.
والحائض إذا طهرت أثناء النهار، فإنها تمسك لحرمة رمضان، ولأنها أمسكت وصامت نصف نهار، والنهار لا يتجزأ، فعليها أن تقضي هذا اليوم المجزأ.
هذا ما يتعلق بوجوب تبييت النية للصوم.
بعض العلماء يقول: بالنسبة للنية الإجمالية من أول الشهر، لو قدر أن هذا الذي نوى إجمالاً طرأ له سفر يبيح الفطر، لكنه اختار الصوم، فهل تجزئه نية الإجمال الأولى أو يتعين عليه لكل يوم نية؟ قالوا: المسافر عليه أن يبيت النية لكل يوم، وما الذي أخرج المسافر على القول بأن الشهر كله تكفيه نية واحدة؟ لأن المسلم مكلف أن يصوم الشهر كاملاً، لكن المسافر جاءته رخصة، فله أن يصوم، وله أن يفطر، والمقيم ليست عنده رخصة، وليس مخيراً، بل عليه الصوم، فتكفيه النية الأولى، أما إذا أنشأ سفراً، فالسفر يعطيه حق الصوم وحق الفطر، فهذه الليلة لا ندري هل هو في الغد صائم أم مفطر؟ فيتعين على المسافر عند الجميع أن يبيت النية لكل يوم؛ لأنه دائر بين جواز الصوم وجواز الفطر، فلا بد أن يحدد.
هذا ما يتعلق بمبحث تبييت النية في الصوم ما بين فرض وما بين نفل، وما بين سفر وحضر.(144/9)
كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [4]
إن مما يشرع للصائم في صومه تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من لوازم بقاء الخير في هذه الأمة حرص أفرادها على هذا الأمر.(145/1)
شرح حديث: (فإني إذاً صائم)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: هل عندكم شيء؟ قلنا: لا.
قال: فإني إذاً صائم.
ثم أتانا يوماً آخر فقلنا: أهدي لنا حيس.
فقال: أرنيه، فلقد أصبحت صائماً، فأكل) رواه مسلم] .
بعدما قدم لنا المؤلف رحمه الله تعالى وجوب تبييت النية في الفرض، جاء بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها الذي يخصص ذاك العموم، ويتعلق بنية النافلة، فتقول رضي الله تعالى عنها: (دخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال: هل عندكم شيء؟ قالت: قلنا: لا.
قال: فإني إذاً صائم) .
قبل الحديث عن النية، وعن نوافل الصيام، وعن أحكام الفطر، ننظر إلى هذا الحديث في مدلوله، سيد الخلق صلى الله عليه وسلم الذي عرض عليه أن تكون جبال الدنيا ذهباً في يده، يسأل أهله: هل عندكم طعام؟ فيقولون: لا، ليس عندنا! هل ذلك لهوانه على الله؟ هل ذلك لنقصان ما عند الله؟ لا والله! بل هو ابتلاء وامتحان لآل بيت النبوة، وقد تحلوا بالصبر والعفة والرضا والقناعة بما لا يقوى عليه أحد في الدنيا.
قد يقول قائل: هذه عائشة ليس عندها شيء، وقد يكون عند بعض زوجاته طعام، فيأتي حديث ضيف رسول الله، عندما أرسل إلى جميع زوجاته يسألهن: هل عندكن ما تعشين به الضيف؟ وكل واحدة تعتذر: ليس عندي.
فيقول صلى الله عليه وسلم: (من يستضيف هذا الليلة وله الجنة؟) يا سبحان الله! الجنة بعشاء ضيف ليلة! ليس لهوان الجنة، ولكن لعظم قري الضيف، بيوت رسول الله التسعة ليس فيها ما يعشي به الضيف؛ وذلك لندرة الطعام وقلته، ولماذا صار الذهب غالياً؟ لقلته وندرته، فيذهب به الرجل إلى بيته، فيقول لزوجه: أكرمي ضيف رسول الله.
فتقول: والله ما عندي إلا عشاء عيالك! فيقول لها: علليهم حتى يناموا، ثم قدمي الطعام لي وللضيف، ثم اعمدي إلى السراج، كأنك تصلحينه فأطفئيه، فإني سأمد يدي في القصعة لتلتقي بيد الضيف فيظن أني آكل معه وأرفعها خالية؛ لأوفر الطعام لضيف رسول الله! وبات العيال والرجل والمرأة خماصاً، وشبع ضيف رسول الله وهو لا يعلم، فما كان لهذا الرجل الذي احتال على الضيف طاعة لله ومرضاة لرسول الله إلا أن استقبله رسول الله في صلاة الصبح قائلاً: (لقد ضحك ربنا من صنيعكما البارحة!) .
فهذا رجل من عامة الناس، والطعام الذي عنده إن عشّا به عياله لا يعشي الضيف، وإن عشا به الضيف لا يجد ما يعشي عياله وأمهم ونفسه.
أيها الإخوة الكرام! إن أوجب ما يجب على المسلم وعلى العاقل -لو لم يكن مسلماً- أن يحفظ نعمة الله عليه، وإن أعظم أسباب حفظ النعم الشكر لله سبحانه، فهذا الرجل ليس عنده إلا عشاؤه وعشاء عياله، وكم الذين يتجاوزون الحد في إهمال شكر النعمة، ولا يضعونها في مواضعها! فنسأل الله تعالى أن يردهم إلى الصواب، ونوصيهم أن يفيضوا بما أفاض الله عليهم على أولئك الذين يبيتون طاويين لا طعام لهم.
يقول: (هل عندكم من شيء؟ قالت: قلت: لا) !! بل تقول رضي الله تعالى عنها: كان يمر بنا شهران هلال وهلال وهلال، ولم يوقد في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار.
فقيل لها: فما كان طعامكم حينئذ يا أماه؟! قالت: الأسودان: الماء والتمر.
يا سبحان الله العظيم! لما أراد أمير المدينة عمر بن عبد العزيز أن يدخل الحجرات في المسجد النبوي، وكان لإدخالها سبب سياسي ومنافسة، بكى أهل المدينة، وقام سعيد بن المسيب يعارض ذلك، فقال عمر: والله! ما هي إلا عزمة أمير المؤمنين -أي: لا أستطيع أن أخالف ذلك- فقال سعيد: وددت لو بقيت حتى يأتي الناس من كل مكان فيروا كيف كانت حالة رسول الله، وكيف كان يعيش، وكيف كان يبيت، وكيف كان يسكن، يقول أنس: إذا مددت يدي نلت سقفها! (هل عندكم من شيء؟ قالت: لا.
قال: إني إذاً صائم) ، أعتقد أن هذا الموقف لا يمكن أن تترجم عنه الكلمات، ولا يمكن أن يدركه إلا ذو حس رهيف، وحساسية شفافة يستطيع أن يقايس بين حياة الناس وحياة سيد الناس صلى الله عليه وسلم.
يذكر العلماء خلافاً ضعيفاً، وهو: أن النفل والفرض يستويان في وجوب تبييت النية، ولكن الجمهور على أن النافلة تغاير الفرض، ويجوز للإنسان إن لم يأكل أن ينشئ نية صوم من ضحى النهار، وبعضهم يقول: إلى زوال الشمس، وابن عبد البر يذكر في "الاستذكار" عن البعض: ولو إلى قبل الغروب.
ثم البعض يقول: هذا الذي أخر تبييت الصيام وأنشأه من النهار له ثواب من وقت إنشاء النية إلى غروب الشمس، والجمهور يقولون: له ثواب اليوم كله.
وبعضهم يستدل بما وقع عملياً حينما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء من ينادي: (من كان أكل فليمسك، ومن لم يكن أكل فليصم) فقالوا: هذا إعلام وإلزام بالصيام في وضح النهار، ولم يعلمهم بالليل، ولم يبيتوا الصوم بالليل، وإنما أنشئوه نهاراً، وبعضهم يقيس الفرض على عاشوراء، وبعضهم يجعل ذلك للنافلة فقط، فالذين يقيسون يقولون: صوم عاشوراء في بادئ الأمر كان فرضاً، ولكنه نسخ لما جاء ما هو أهم منه وهو رمضان.
وبعض العلماء يناقش في كلمة (إني إذاً) ، (إذاً) ظرف، فهل معنى (إذاً) يعني: الآن أنشأت نية الصوم أو أني كنت قد بيت النية لصوم، وإذا وجدت شيئاً أكلت، فلما لم أجد شيئاً فأعلمكم أني صائم، يعني: مبيت للصوم من الليل؟ كل هذه أشياء فيها تكلف، وإذا ثبتت لفظة (إذاً) فهي تدل على إنشاء النية نهاراً، وعلى هذا يكون سياق المؤلف رحمه الله تعالى لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها إنما هو بيان لما يستثنى من عموم (لا صيام لمن لم يبيته بليل) ، فيخصص هذا العموم بصحة صيام النافلة لمن لم يبيته بليل.(145/2)
حكم الفطر في صيام التطوع
جاء في حديث عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي عليه الصلاة والسلام جاءها في يوم وسأل: (هل عندكم من شيء؟ قالت: بلى، أهدي إلينا -تعني: ليس من عندنا، الله أكبر! - حيس) والحيس من الحوسة: الدقيق مع التمر مع الأقط مع السمن، الكل يخلط ويعرك ويصير طعاماً، وهو طعام جيد، والنسوة يصنعن ذلك للنفساء؛ لأنه ينفعها لما فيه من التمر والسمن، فقال: (أرنيه، فأكل) ، وأخبر أنه كان صائماً، فقالت: كنت صائماً وتأكل؟! قال: (يا عائشة! إنما صاحب التطوع كرجل أخرج من ماله جزءاً ليتصدق به، فإن شاء أمضاه وتصدق به كله، وإن شاء أمضى البعض وأمسك البعض) ، وفي الحديث الآخر: (الصائم المتطوع أمير نفسه: إن شاء صام، وإن شاء أفطر) .
ولكن المالكية ينصون عن مالك رحمه الله أنه لا ينبغي للمتطوع أن يفسد تطوعه، والمالكية يشددون في هذا، وينقلون عن مالك: أن من أفطر في التطوع قضى يوماً مكانه.
ويذكرون حديثاً عن عائشة وحفصة رضي الله تعالى عنهما فيه: (كلا، وصوما يوماً مكانه) ، والجمهور على أن النوافل لا تقضى، والقضاء للفرائض.(145/3)
شرح حديث: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر)
قال رحمه الله: [وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر) متفق عليه، وللترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: أحب عبادي إلي أعجلهم فطراً) ] .
في الحديث السابق: (إني إذاً صائم) ، جاء عن أبي أيوب وأبي طلحة أنهما كانا يفعلان ذلك، يصبح أحدهم فيسأل أهل البيت: عندكم شيء؟ فإن وجد أكل، وإلا صام، وذلك بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يفيدنا أن إنشاء النية في النهار ليس خاصاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو تشريع عام، بدليل فعل بعض أصحابه رضوان الله تعالى عليهم.
انتهينا من مسألة تبييت النية، وما بعد النية إلا الصوم، وما بعد الصوم إلا الإفطار، فجاءنا المؤلف رحمه الله بآداب الإفطار، فذكر حديث: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر) ، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: أحب عبادي إلي أعجلهم فطراً) .
إذا صمنا اليوم، واستقبلنا المغرب، هل نبادر بالفطر أو نتأخر عنه احتياطاً؟ جاءنا المؤلف رحمه الله بهذا الحديث القدسي عن الله سبحانه: (أحب ... ) (أحب) أفعل تفضيل، أصلها: أحبب، وأدغم المتماثلين: (أحب عبادي إلي -يعني: عبادي كلهم محبوبون عندي، لكن أشدهم حباً إلي، وخاصة من الصائمين - أعجلهم فطراً) الذي يتأخر ويقول: أنتظر بعد غروب الشمس قليلاً حتى أتأكد زيادة، وزاد في صومه نصف ساعة من الليل، فصام النهار، وزاد نصف ساعة، فهل هذا أحب إلى الله أم الذي وقف عند نقطة الصفر؟ تأملوا في أصول التشريع، وسيأتي الحديث الآخر: (لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر) ، ما الفرق بين تعجيله وتأخيره؟ وما المشكلة لو جاع الرجل ساعة أو ساعتين زيادة على الوقت المحدد، ففعله هذا على نفسه؟ نقول: لا، قدمنا سابقاً تنبيه العلماء على ضرورة الوقوف عند حد المفروض، ولما سئل مالك رحمه الله: هل يجوز أن يعطي في زكاة الفطر صاعاً وزيادة؟ قال: لا، احص الصاع أولاً وحده، ثم زد ما شئت في غير هذا الحال.
لماذا؟ حتى لا يضيع حد الصاع، ويبقى المشروع محدوداً منتظماً، فإن كان هذا يزيد، وهذا يزيد، وهذا يزيد؛ ضاع الأصل، وهكذا هنا، الله تعالى يقول: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] ، وبمجرد اكتمال غروب الشمس تحقق الليل، إذاً: هذا حدك، فعجل الفطر بعد ثبوت دخول الليل لا أن تتعجل قبل الغروب، فإذا حافظ الإنسان وحافظت الأمة على هذا، ووقفت عند حد الله في هذا العمل؛ ظل هذا العمل محفوظاً بدون زيادة ولا نقص؛ لأنه لا يقبل الزيادة ولا يقبل النقص، ولهذا قال: (أحب عبادي إلي أعجلهم فطراً) ، وجاء في الحديث: (إذا أدبر النهار من هاهنا، وأقبل الليل من هاهنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم) ، وبعض العلماء يقولون: أكل أو لم يأكل، وبعضهم يقول: وجب عليه الفطر، كقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} [البقرة:233] يعني: أرضعن، وهنا قال: (أفطر الصائم) ، وفي بعض الروايات: (ولو لم تجد إلا لحا شجرة فامضغه) ، حتى لا تحسب نفسك على إمساك وصيام؛ لأن الليل ليس وقتاً للصيام ولا يصلح له، إذاً: إمساكك جزءاً من الليل مع النهار ليس إلا زيادة جوع وعطش وليس لك فيه أجر.
فحفظ النهار يكون من أوله من حين يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ويكون من آخره إذا غربت الشمس.
وجاء في بعض الأخبار والروايات: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر؛ لأن اليهود تؤخر الفطر حتى تشابك النجوم في السماء) .
في وقت الفطور يتوجه للصائم أمران: فطره من صومه وصلاته المغرب، فأيهما يقدم؟ هل يقدم الفطر ثم يصلي أو يقدم الصلاة ثم يفطر؟ يذكر العلماء رحمهم الله عن عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما أنهما كانا يصليان المغرب ثم يفطران، ولا يكون ذلك تأخيراً للفطر لاشتغاله بالركن.
ويذكر ابن عبد البر رحمه الله أن الجمهور على الفطر ثم صلاة المغرب، ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يأكل ثلاث تمرات ثم يصلي المغرب) ، ولعل هذا أقرب؛ لأن صلاته للمغرب إذا لم يفطر ستكون وهو في صيام، وهذا ليس مشروعاً، وفعل عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما يخالف فعل الجمهور، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على كل فعل، فهو (كان يتناول ثلاث تمرات ثم يقوم ويصلي المغرب) ، فهذه السنة، ثم العشاء بعد صلاة المغرب.(145/4)
شرح حديث: (إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر)
قال رحمه الله: [وعن سليمان بن عامر الضبي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر) ] .
يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا أفطر أحدكم فليفطر على -سبحان الله! الإرشاد حتى في نوع الفطور رطبات، فإن لم يجد فتمرات، فإن لم يجد فليحسو حسوات من ماء) ، وجاء عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه يحسن أن يفطر الإنسان على شيء لم تمسه النار، وبعض الناس أول ما يفطرون على (السمبوسة) ، وهي مما مسته النار، ويقول العلماء: هذا تفاؤل بأن يجنبه الله النار.
أرشد صلى الله عليه وسلم أن يفطر الصائم على رطبات، يعني: إذا كان الرطب موجوداً، وإلا فعلى تمرات، والله لا أدري أيهما أقوى مادة غذائية: الرطب أم التمر؟ يختلفون في هذا، الرطب فيه رطوبة زيادة، والتمر تخلص من كل الرطوبات، وفيه جميع المواد الغذائية، والعرب كانت تعتقد أنه خال من الدهونات، فكانوا يضيفون إلى التمرة الزبدة، والآن اكتشف بأن التمر فيه المادة الدهنية أيضاً، ولا يوجد ثمر يمكن لإنسان أن يعيش عليه المدى الطويل مثل التمر، وتقدم حديث عائشة: هلال فهلال فهلال، شهران طعامكم التمر والماء، وهو كما قالوا: زاد المسافر، وفاكهة المقيم.
وهنا يتكلم علماء الطب النبوي، وسبحان الله! يا إخوان: كان السلف يدرسون الطب والفلك كما يدرسون الصيام والزكاة، وكان غالب العلماء أطباء، جاءنا حافظ من باكستان، كان صاحب مصحة في كراتشي، وصحيح البخاري عنده كصورة في مرآة، حينما تسأله: الحديث الفلاني في البخاري؟ إن غيرت حرفاً قال لك: ليس هذا في البخاري، تزيد هذا الحرف يقول: هذا نعم موجود! فكانوا يدرسون الطب، وانظر كتاب الطب النبوي لـ ابن القيم، والطب للسيوطي، والطب للذهبي، وهو ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في الطب، وتأملوا قصة مريم عليها وعلى نبينا الصلاة والسلام، كانت في ذلك الموقف الحرج {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:23] ، أجاءها غصباً عنها، إلى أن أرشدها الله: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:25] ، امرأة في النفاس هل عندها القوة لكي تهز الجذع؟! لكن تهز بقدر ما تستطيع {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم:25] ، ولم يذكر تمراً، إذاً: الرطب أحسن في تلك الحالة؛ لأنه أبرد من التمر، ويتفق الأطباء على أن الرطب في تلك الحالة أحسن ما يمكن أن تستقبله المعدة الخالية، وأشد ما يستفيد من حواس الإنسان البصر؛ لأن الجوع يضعف قوة الإبصار، فإذا ما تناول الحلو -وخاصة الرطب- استفاد البصر أكثر من جميع أعضاء الجسم.
ويقول الأطباء: حينما يكون الإنسان جائعاً ظامئاً فهو في لهفة إلى أن يأكل ويشرب كثيراً، وهذا على المعدة الخالية مضر، فإذا أكل الحلو -مطلق الحلو عندهم- فإنه يكسر شهوة النهم، ويجعل الإنسان يكتفي بالقليل من الطعام، فإذا كان جائعاً عطشاناً وأكل الرطبات انكسرت حدة الجوع، واكتفى بما تيسر، فيكون أنفع له.
إذاً: هذا إرشاد من النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخير الإنسان عند فطره أحد هذه الأنواع.
قد يقول إنسان: هناك مناطق باردة لا توجد فيها النخل، ولا يوجد فيها رطب ولا تمر، وعندنا فواكه متنوعة من حمضيات وحلويات.
إلخ، فنقول: إن لم تجد هذا، فلتأخذ أقرب ما يكون إليه، إن وجدت الزبيب، إن وجدت التين، إن وجدت البرتقال، إن وجدت التفاح، إن وجدت هذه فهو أولى من أن تذهب إلى الماء.
وهنا لفتة بسيطة: أولاً: ينبغي للإنسان ألا ينسى نفسه عند الإفطار من دعوة خير؛ لأن الدعاء عند الإفطار مستجاب.
ثانياً: لا ينسى أن يفطر أخاً له، غنياً كان أو فقيراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من فطر صائماً فله كأجره، ولا ينقص من أجره شيء.
قالوا: يا رسول الله! ليس كل واحد منا يجد ما يفطر الصائم.
قال: يؤتي الله ذلك على تمرات أو على قبضة سويق أو على جرعة لبن أو على جرعة ماء) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، يا سبحان الله! أجر إنسان صائم طول النهار تحصل مثله على تمرات تقدمها له: شيء من سويق، جرعة ماء، جرعة لبن؟! هذا فضل الله.
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليدخل باللقمة ثلاثة الجنة -لقمة واحدة يدخل الله بها ثلاثة-: صاحبها -الذي يمتلكها-، وطاهيها -الذي طبخها-، ومناولها للمسكين) ، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله الذي لم ينسَ خدمنا) ، الخادم يناول اللقمة للمسكين على الباب فيدخل الجنة، هذا إذا احتسب ذلك لوجه الله.
إذاً: إذا أفطر أحدكم فليفطر على رطبات أو تمرات أو حسيات من ماء.(145/5)
شرح حديث: (تسحروا فإن في السحور بركة)
قال رحمه الله: [وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تسحروا فإن في السحور بركة) متفق عليه] .
إذا فطرنا، وأكلنا طوال الليل أو نمنا، فبقي السحور، هل أقول: أنا شبعان، أو ما عندي غرض في الأكل؟ لا، لابد من السحور، وليس بلازم أن تمد الموائد، وتعرض الأصناف، بل ولو تمرات، المهم أن تعمل بهذه السنة، وجاء في الحديث أيضاً: (فرق ما بين صيامنا وصيامهم: أكلة السحر) .
إذاً: (تسحروا فإن في السحور بركة) ، ومن الذي لا يريد هذه البركة؟ الكل يريدها، والبركة تحصل ولو بتمرات وجرعة ماء.
ثم من مباحث السحور: تأخيره وعدم تعجيله، هل تعجيله تورع وتحفظ؟ لا، بعض الناس يقول: أنا أكلت ونويت، وبقي على الأذان ساعة، ثم يعرض عليه الماء، فيقول: لا، لا، أنا نويت، ماذا يعني هذا؟! هل سيبطل نيتك؟! هل سيبطل صومك؟! مادام الوقت باقياً، ولم يتبين الفجر إلى الآن، فكل واشرب ما شئت، وقد يبيت النية للشهر كله من أول يوم، وكل يوم يأكل ويشرب.
إذاً: عقد النية لصوم الغد لا يمنع الإنسان من أكل ولا شرب ما دام الخيط الأبيض لم يتبين.
سئل بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم: كم كان بين سحوركم والصلاة؟ قال: قدر خمسين آية، أي: بقدر ما يقرأ الإنسان خمسين آية كنا نمسك عن الطعام والشراب، ويأتي وقت الصلاة، لا كما يفعل بعض الناس: يؤخر شرب الماء إلى أن يسمع طقطقة الميكرفون للأذان فيبادر إلى الماء، وبعضهم إلى أن يسمع المؤذن يقول: الله أكبر!! لماذا؟! الله جعل حداً لا تتعداه.
ويؤسفني أن البعض يحتج على ذلك الخطأ بحديث أبي داود رحمه الله: (إذا كان القدح على كف أحدكم فسمع النداء فلا يضعه حتى يقضي حاجته) ، والجمهور على أنه لابد أن يمسك جزءاً من الليل ليضمن إمساكه كامل النهار، على قاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فمثلاً: قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] ، وحد الوجه: منابت الشعر من الجبهة، ولكن قالوا: يزيد قليلاً فوق منابت الشعر؛ ليتأكد أنه قد استوعب الوجه، فكذلك قالوا: يمسك قبل تبين الخيط الأبيض ولو بدقائق، ويفطر بعد أن يكتمل غياب قرص الشمس ولو بدقيقة واحدة، لا أن يكون فطره مع نقطة الصفر أول سقوط القرص، لا، هذا مشترك، ولا يصلح.
وقد ناقش البعض هذه المسألة ليلة طويلة مع أفاضل العلماء في المدينة جزاهم الله خيراً، وتمادى الحديث بهم، وأطالوا الأمر، وقال بعضهم: لو كان يأكل والمائدة موجودة وسمع النداء، فلا يقوم عن المائدة حتى يشبع.
فقال لهم شيخ ذاك المجلس: الله يقول: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ} [البقرة:187] ، والحديث يقول كذا، فقلت: لو سمحتم! إذا أخذنا بنص الحديث فهو يقول: (والقدح على كفه) ، لا والمائدة بين يديه، وروح اللغة العربية وجمالها في ألفاظها وتعبيرها؛ لأنه قال: (والقدح على كفه) ولم يقل: في الأرض يتناوله، أو في الثلاجة، أو في الترامس يذهب يبحث عنها، بل قال: (والقدح على كفه) ، وهل وضع القدح على كفه ليراه؟! وهل وضعه على كفه ليرى كم ثقله؟! إنما تناول القدح من الأرض ليشرب، وفي منتصف المسافة ما بين الأرض وفمه فاجأه الأذان، فلا ترده، خذ غرضك منه؛ لأن تبين الخيط الأبيض فيه من النسبية ما يحتمل شرب الماء الذي في القدح، ولو كنا جميعاً في الصحراء نترقب الفجر، فهل كلنا في لحظة واحدة سنقول: طلع الفجر؟ لا يمكن، سيطلع الفجر ونختلف فيما بيننا؛ فطلوع الفجر وتبين الخيط الأبيض ليس كطلوع الشمس، وليس كغروبها؛ لأن الشمس جرم أمامنا، يبتدئ الطلوع ويبتدئ بالنزول، لكن الفجر خيط، ورؤية الخيط دقيقة، وليس كل الناس يرون هذا الخيط رؤية كاملة.
إذاً: إلى أن نقول ظهر أو لم يظهر يكون هذا قد شرب القدح كله، ولا يضر ذلك صومه.
إذاً: هذا الحديث في حالة ضرورية: رجل رفع القدح من الأرض ليشرب ليصوم غداً، فالرسول قال: لا بأس، خذ حاجتك، فلا ينبغي أن نمطط فيها ونزيد حتى نأتي بالمائدة ونأتي بأنواع الطعام، حتى قال له شيخ ذلك المجلس: يمتد إلى متى؟ قال: إلى أن يشبع، قال: حتى تطلع الشمس؟! قال: ولو! هذه -يا جماعة- هفوة، ونصف العقل لا يقبل ذلك.
فنصيحتي للإخوان: كل شخص بيده ساعة، والجدران معلقة بالساعات والإمساكيات، ومعلن متى يكون الإمساك، ومعلن متى أذان الفجر، ولا يعذر في هذا أحد بجهالة، فليحتط المرء لدينه، وليمسك قبل طلوع الفجر بزمن احتياطاً للنهار.
قد يأتي واحد يقول: هذا الاحتياط من الذي أتى به؟ ابن أم مكتوم وبلال ما كان بين أذان هذا وهذا إلا أن يصعد هذا وينزل ذاك.
فنقول: أنت جعلت وقتاً للصعود والنزول، فاجعل فرقاً بين أكلك وإمساكك، فكفيف البصر عندما يطلع إلى السطح، ويستقبل القبلة، ثم يؤذن؛ سيأخذ دقائق.
يا إخوان: السنة ما كان عليه سلف الأمة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وما كان أحد منهم يفعل مثل هذه الفعلات، وينبغي أن يكون مع تأخير السحور احتياط لأول النهار؛ حفظاً للصوم.
وبالله تعالى التوفيق.(145/6)
كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [5]
إن الله عز وجل إنما يريد بعباده اليسر، وهذه الشريعة مبنية على التيسير، ولن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه، ولهذا حرمت الشريعة الوصال في الصوم، ومن استشهد على ذلك بوصال النبي صلى الله عليه وسلم فيرد عليه: بأن وصاله كان مما اختص به صلى الله عليه وسلم دون سائر الأمة.(146/1)
شرح حديث: (نهى عن الوصال)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال.
فقال رجل من المسلمين: فإنك تواصل يا رسول الله! فقال: وأيكم مثلي؟! إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال، واصل بهم يوماً ثم يوماً ثم رءوا الهلال، فقال: لو تأخر الهلال لزدتكم.
كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا) متفق عليه] .
بعد أن ذكر المؤلف رحمه الله تعالى آداب الفطر والحث على السحور، جاء بهذه المسألة المشهورة في الصيام، وهي: الوصال، والوصال: مأخوذ من الوصل، وأصله: وصل الشيء بغيره كما تصل طرفي الحبل، وهو في العرف الشرعي: أن يصل صوم النهار بالليل، ويصير صائماً نهاراً وليلاً، وهذا يسمى وصلاً، ولأنه يتكرر مرة ومرتين سمي وصالاً.
ساق المؤلف رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال) أي: نهى الصائم أن يصل النهار بالليل سواء مرة واحدة أو كرر ذلك، ولما نهى والحال أنه صلى الله عليه وسلم يواصل، وجد المسلمون نهياً يغاير فعلاً! فقال رجل من المسلمين: نهيتنا عن الوصال وأنت -يا رسول الله- تواصل! ونحن إنما نستن بسنتك ونقتدي بهديك.
وهذا فعلاً سؤال في محله، ولكن بين النبي صلى الله عليه وسلم أنهم ليسوا مثله، فقال: (لست كهيئتكم أو لستم مثلي) .
ومن هنا يقول الأصوليون: يشترط لصحة القياس أن يستوي الطرفان، فكأنه قال: تقيسون أنفسكم بي، والحال أن هناك فرقاً بيني وبينكم، وما هو الفرق في هذا الباب؟ قال: (إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني) ، وفي بعض الروايات: (لستم مثلي؛ فإن لي طاعماً يطعمني، وساقياً يسقيني) .(146/2)
الحكمة من تحريم الوصال
يبحث العلماء حكم الوصال، وقبل أن نذكر الحكم الفقهي -كما جرت العادة- نذكر ما يستفاد من الحديث ومدلوله العام.
الوصال هو زيادة عبادة، فبدلاً من أن يصوم النهار اثنتا عشرة ساعة، فسيصوم الليل معه أيضاً اثنتا عشرة ساعة، ويكون قد صام أربعاً وعشرين ساعة مرة واحدة، وهذه عبادة فيها زيادة حمل النفس على الصبر وتهذيبها وإلخ، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يرد هذا، والغاية البعيدة من تحريم ذلك لها جهتان، وينضمان أو يصبان في غاية واحدة: الجهة الأولى: لئلا يحمل المكلفون أنفسهم فوق طاقتهم تحت عاطفة حب العبادة، فيأتي الإنسان يعمل عملاً بعاطفة وانفعال، وهو مندفع، وبعد أن يمشي قليلاً يحس بالكلفة، فيريد أن يتراجع لكن بعد أن فات الأوان، ولكن من هنا من البداية لا تواصل.
الجهة الأخرى: لحفظ الدين؛ لأن الذي يحمّل نفسه الوصال، تتكرر عليه السنوات والأيام، ويتقدم في السن، ثم يحصل هناك عنده كراهية للعمل الذي شق عليه، وبعد أن كان يعمله بسهوله صار يعمله بتكلف، وهذا من التشدد المنهي عنه، كما في حديث النفر الثلاثة الذين ذهبوا إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها ليسألوها عن أعمال رسول الله في البيت، قالوا: أعماله في البيت لا نراها، نراه في الصلوات الخمس، وتعليم الناس، وذكر الله، لكن ما العمل الخفي الذي يعمله في البيت حتى يتأسى به؟ فعندهم زيادة رغبة في الخير.
فلما سألوها قالت: في الليل أحياناً يقوم وينام، وفي النهار أحياناً يصوم ويفطر، وأحياناً يكون في شغل أهله في البيت -يساعدهم: يحلب الشاة، يخصف نعله صلوات الله وسلامه عليه-، فهؤلاء سمعوا هذا الشيء، ولما لم يكن هناك جديد قالوا: إنه عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، لكن نحن في حاجة إلى الإكثار من العبادة، فلنبحث، دعنا نبحث عن عمل نلتزم به ونجتهد فيه، فقال أحدهم: أما أنا فأقوم الليل ولا أنام.
والثاني قال: وأما أنا فأصوم النهار ولا أفطر.
والثالث قال: وأما أنا فلا آتي النساء، أي: أتبتل إلى الله بأنواع العبادات.
وكانت أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها حكيمة، لما سمعت هذا لم تناقشهم من وراء الحجاب، فذهبوا، وجاء الرسول صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما سألوا، وبما أجابتهم، وبما قالوا فيما بينهم.
ونستطيع أن نقول: نموذج جديد في الاجتهاد في العبادة حصل في ذلك اليوم، وعلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل فرح الرسول بوجود مثل هذه النوعية في الأمة، يحبون الاجتهاد في العبادات، والرغبة في الخير، وإلخ؟ لا والله! بل غضب، هل يغضب لزيادة الخير؟ نعم؛ لأن الزيادة إذا كانت ستأتي بنقص فهي ناقصة، فيأتي المسجد ويصعد المنبر، وكان صلى الله عليه وسلم إذا كان هناك أمر أمر بالمنبر، فينبه بعضهم بعضاً ويجتمعون، فحمد الله وأثنى عليه وقال: (ما بال رجال -وهذه كانت عادته صلى الله عليه وسلم يكني عن الرجال ولا يعرفهم بالذات، ولا يحب أن يسميهم ويحرجهم، والغرض الفائدة- يقولون: كذا وكذا وكذا -وذكر للناس ما ذكر هؤلاء الثلاثة- أما إني والله! لأعلمكم بالله، وأتقاكم لله -ولن تكونوا أحسن مني- وإني والله! -مع أفعل التفضيل هذه- أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) صلوات الله وسلامه عليه.(146/3)
خير الأمور أوسطها
هذه الأمة وسط كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143] بأقواله وأفعاله، ما زاد ولا نقص، وقلنا: إنها وسط بين ماذا؟ الوسط: الشيء المتوسط بين طرفين، يقول علماء التفسير: الأمم التي سبقتنا عندهم إما تفريط وإما إفراط، وعلماء الأخلاق يقولون: الفضيلة وسط بين طرفين، وبها جاء القرآن، فالبخل طرف مذموم، والتبذير طرف مذموم، والوسط وهو الإنفاق باعتدال هو الكرم {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء:29] بخيل شحيح إلى أقصى حد {وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء:29] يعني: كن معتدلاً {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67] .
وهكذا يقولون في الشجاعة، الجبن والخور طرف مذموم، والتهور وعدم النظر في العواقب طرف مذموم -أيضاً- كما قال الشاعر: قدر لرجلك قبل الخطو موضعها فمن علا زلقاً عن غرة زلج انظر في العواقب، فوسطية هذه الأمة بين الأمم الماضية هي: أن الإنسان -كما يقول العلماء- مركب من جسم وروح، يعني مادة ومعنى، فالجسم له متطلبات الحياة من أكل وشرب ونساء وتوالد وتكاثر.
إلخ، والروح لها الغذاء الروحي من الذكر والتلاوة والتأمل والخوف من الله والرغبة في الله.
إلخ.
والإفراط: هو أن يفرِط في إشباع أحد الجانبين الجسم أو الروح، ويفرِّط في الجانب الآخر، وهذا الذي وقع من اليهود والنصارى، فاليهود أفرطوا جداً في جانب المادة، واحتالوا للوصول إلى المادة المحرمة بالحيل، لما حرم الله عليهم الصيد يوم السبت احتالوا في حصولهم على الحوت يوم الجمعة ويوم الأحد، ولما حرم عليهم الشحوم إلا ما استثني احتالوا فجملوا الشحوم وباعوها وأكلوا الثمن، وقالوا: ما صدنا يوم السبت، ولا أكلنا شحماً، وفرطوا كل التفريط في جانب الروح، فجنحوا ومالت بهم السفينة.
والنصارى بالعكس: فرطوا في أمر الدنيا، وأفرطوا في جانب الروح، واتخذوا رهبانية، وابتدعوا عبادات {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] ، فجنحوا إلى الجانب الآخر.
ومن هنا وقفت مسيرة الدعوة الإسلامية، ما استطاع اليهود أن يواصلوا بها السير، ولا استطاع النصارى أن يواصلوا بها السير، فجاء الإسلام ووضع الموازنة المعتدلة بين الجانبين، ونقرأ قوله سبحانه: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة:9] هذا النداء روحي أم مادي؟ روحي {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] البيع هذا روحي أم مادي؟ مادي {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة:9-10] هل قال بعدها: امكثوا في المصلى، امكثوا في الأديرة، اعتكفوا في المساجد، اتركوا الدنيا؟ لا، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10] ، انتشروا وابتغوا من الدنيا مع ذكركم لله سبحانه وتعالى، يعني: فاجمعوا بين الدين والدنيا.
وقد شاهدنا هنا في المدينة في الستينات صاحب الدكان والبقالة أو القماش في رمضان يفتح المصحف ويقرأ، وعنده ريشة، وإذا جاء زبون يطلب شيئاً من البقالة أو القماش وضع الريشة حيث انتهى من القراءة وأغلق المصحف وباع واشترى، فإذا ذهب الزبون رجع إلى المصحف، دين ودنيا.(146/4)
النهي عن الغلو
لما كان الاهتمام بأحد الجانبين مضر بالجانب الثاني كان الغلو في الدين أضر من التقصير؛ ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم عن كل باب يدخل الإنسان في الغلو في الدين.
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتعرف إليه، وسلم عليه، وأسلم ورجع، وبعد سنة جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه رداً عادياً، فقال: ألم تعرفني يا رسول الله؟! قال: (لا، ما عرفتك.
قال: أنا الذي جئتك العام الماضي بكذا وكذا وكذا.
قال: ما الذي غيرك بعدي؟ كنت نضر الوجه، غض الجسم، ما الذي غيرك؟ قال: منذ فارقتك -يا رسول الله- ما أفطرت يوماً -أسرد الصوم- قال: لا، أتعبت نفسك، أين أنت من الأشهر الحرم؟ صم من الأشهر الحرم وأفطر) ، ما رضي له أن يظل صائماً، فإن ضعفت من الذي سيحرث الأرض؟ من سيصنع في المصنع؟ من الذي سيقاتل العدو؟ من الذي سيرعى الأولاد والزوجات والأبوين؟ لا، ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم عن الوصال.
وكذلك عبد الله بن عمرو بن العاص كان يقوم الليل كله، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء وقال: (بلغني عنك كذ وكذا، قال: نعم يا رسول الله! قال: إن لعينك عليك حقاً، ولجسمك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً - وفي بعض الروايات: ولزوجك-) .
وسلمان الفارسي لما جاء إلى أبي الدرداء وجد أم الدرداء مبتذلة، كأن ما عندها رجل، فقال: ما هذا يا أم الدرداء؟! ما عندك رجل ينظر إليك؟! ما عندك واجب تؤديه لزوجك؟! قالت: لا، أخوك أبو الدرداء لم يعد له حاجة في النساء، ولما رأى هذه الحال لم يكن أبو الدرداء موجوداً، فانتظر حتى جاء وبات عنده، فلما صلوا العشاء وتعشيا وأخذا في النوم قام أبو الدرداء يصلي في البيت، فأمسكه وقال: نم.
فلم يقدر على مخالفته فنام قليلاً وقام، لا يستطيع أن يصبر، فأمسكه وقال: نم.
حتى ما بقي إلا ثلث الليل الأخير، فقام يصلي فقال له: قم فصل إذا أردت.
وقام هو أيضاً فتوضأ وصلى ما تيسر.
وفي الغد أم الدرداء أتت بالفطور، فـ أبو الدرداء قال: كل أنت، أنا صائم.
فأخذ سلمان يده في الإدام وقال: كل، فأكل.
وقال له سلمان: إن لنفسك عليك حقاً، ولعينك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً.
إلخ، فأعط كل ذي حق حقه.
فذهب أبو الدرداء في الظهر إلى رسول الله واشتكى وقال: يا رسول الله! سلمان صنع معي كذا وكذا، وعطل علي كذا وكذا وكذا.
فقال: (صدق سلمان) .(146/5)
الإفراط في العبادة له آثار سيئة
الإفراط في جانب يؤثر على الجانب الثاني، جاءت امرأة إلى عمر رضي الله تعالى عنه، وقالت: يا أمير المؤمنين! إن زوجي نهاره صائم، وليله قائم.
فقال: مثلك يثني بخير.
يعني: جزاك الله خيراً، مدحت زوجك، وكان بجانبه كعب بن سور، فالمرأة غطت وجهها وانصرفت، فقال كعب لـ عمر: المرأة تستعديك على زوجها وتشتكي.
قال: هي تشتكي؟! بل هي تمدح زوجها.
قال: لا، بل أتت تشتكي.
فناداها: تعالي، قال: هذا الرجل يقول: إنك جئت تشتكين زوجك، قالت: إي والله! يا أمير المؤمنين! أنا امرأة شابة، وأنتظر ما تنتظر النسوة، وزوجي يصوم النهار ويقوم الليل، ولم يبق له حاجة فيَّ، فعرف أمير المؤمنين.
لكن أنا أسأل: هل عمر ما فهم دعواها؟! عمر بصفته كخليفة وكحاكم وكأمير لا يقف ضد إنسان في غيبته، بل يأخذ الأمور على ظواهرها، وفي فن الأدب يذكرون هذه الأبيات: قبيلة لا يخفرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل وما سمي العدلان إلا لقولهم خذ القعب أيها العبد واعجل تعاف الكلاب الضاريات لحومهم وتأكل من لحم كعب بن نهشل فجاء رجل إلى عمر وقال: إن الشاعر هجانا.
قال: وماذا قال؟ قال: يقول: قبيلة لا يخفرون بذمة.
قال: نعم الوفاء، عندهم وفاء.
قال: ولا يظلمون الناس حبة خردل.
قال: إن الله حرم الظلم.
قال: وما سمي العدلان إلا لقولهم خذ القعب أيها العبد واعجل.
قال: خادم القوم سيدهم.
قال: ويقول: تعاف الكلاب الضاريات لحومهم -أي: لحومهم زفرة- وتأكل من لحم كعب بن نهشل.
قال: كفى بالأمة أن تأكل الكلاب لحومها، فصرف الهجاء إلى مدح، فـ عمر بليغ، وكان السفير لقريش في المناسبات، وكانت قريش إذا أرادت أن تهنئ قبيلة بنبوغ شاعر أو فارس فيها تبعث عمر، وإذا أرادت قريش أن تعزي قبيلة في سيد مات فيها تبعث عمر، وهو القائل: إذا أتتك كلمة من صديقك لها خمسون معنىً سيئاً، وفيها معنى واحد حسن، فاحملها على الواحد الحسن.
إذاً: عمر ما خفي عليه شكوى المرأة.
ولما تكلم الرجل أصبح مسئولاً، فاستدعاها عمر رضي الله عنه فأقرت، فقال: يا كعب! أنت فهمت قضيتها فاحكم بينها وبين زوجها.
فأحضر الزوج، وجلسا، فقال: يا أمير المؤمنين! أقضي أمامك وبين يديك؟ قال: نعم.
القضاء مبناه على الفهم، أنت فهمت القضية وأنت الذي تستطيع أن تحكم فيها، وهذا تفويض من ولي الأمر إلى أحد الأفراد للقيام بالقضاء، وهذا عين تنصيب القاضي نائباً عن الخليفة.
سأل الرجل: لماذا أنت كذا؟ قال: والله! أنا أخاف من الله، وأخاف من البعث وأخاف.
وأخاف.
إلخ.
فقال: اسمع يا أمير المؤمنين! أنا أحكم بينهم بأن يكون لزوجها ثلاث ليال يتهجد فيها، ويتعبد فيها كيفما شاء، وثلاثة أيام يصوم ويفطر كيفما شاء، والليلة الرابعة واليوم الرابع لا يتهجد ولا يصوم ويكون من حقها هي.
فقال له: ومن أين أخذت هذا الحكم: ثلاثة وواحد؟! قال: الله أعطى للرجل حق التزوج بأربع، فلو كان مستوفياً لحقه من أربع زوجات لكانت لها مع الزوجات واحد من أربعة، فحق الزوجات الثلاث أعطيته إياه، ويوم من الأربعة أعطيتها للمرأة، فقال عمر: والله! لا أدري هل أعجب من فهمك لشكواها أو من حسن قضائك؟! كلاهما.
وقد قال عمر في كتابه لـ أبي موسى الأشعري: الفهم الفهم، وأول باب القضاء الفهم.
إذاً فرط إنسان في جانب المادة، واجتهد في جانب الروح أفسد الجانب الآخر، ولهذا جنحت سفن الأمم الماضية، أما الإسلام فكالطائر يحلق بجناحيه في الأفق، ولا زال بحمد الله يحلق بتشريعاته خمسة عشر قرناً، وكأنه اليوم أنزل، بأي سبب؟ بالاعتدال، بالتوازن، بعدم طغيان جانب على جانب.(146/6)
حكم الوصال
نهى صلى الله عليه وسلم عن الوصال، هل هذا النهي يقتضي الفساد أم الكراهية أم التحريم؟ ماذا يكون الحال فيه؟ نجد العلماء يبحثون ذلك، فمنهم من يقول: النهي للكراهية.
لماذا والأصل في النهي التحريم؟ قالوا: لأن النهي لعلة ولحكمة يناط بها وهي: الإشفاق على الناس؛ لأن الوصال فيه صعوبة، فنهاهم أن يشقوا على أنفسهم، كما قالوا في صيام يوم عرفات لمن في عرفات، فبعضهم قال: هذا شفقة بهم.
بالأمس كانوا في منى واليوم في عرفات، وفي الليل في مزدلفة، ومن الفجر في منى ورمي ونحر وحلق، ثم طواف إفاضة، فالصوم يشق عليه، ويجعله يقصر في بعض هذه الواجبات التي هي أهم، فمن استطاع ووجد في نفسه قوة صام، وهذا اجتهاد منهم، فكذلك هنا.
والآخرون قالوا: لا، النهي يقتضي التحريم، فلا يجوز أن يواصل.
وجاءت بعض الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر) ، لا يكمل إلى الليل، فوقت يأتي السحور يتسحر، يعني: يقطع صومه بأكلة السحور، وهذه رخصة وإباحة، ومواصلة صوم الليل كله مع النهار لا يجوز.
وبعض السلف كـ ابن الزبير وطلحة كانوا يواصلون، وينقلون عن ابن الزبير عجائب: كان يواصل خمسة أيام وستة أيام بلياليها! ولكن فعلاً كان يجد العنت، وإذا انتهت مدة وصاله لا يستطيع أن يأكل ولا يشرب نظراً لحالة المعدة، فكانوا يذيبون له التمر في السمن، ثم يلعق من مجموع التمر والسمن إلى أن يلين المعدة ويرطبها، وتمتص هذا الخليط شيئاً فشيئاً، ثم بعد ذلك يأكل الطعام.(146/7)
الوصال من خصوصيات النبي عليه الصلاة والسلام
لما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال وهو يواصل تساءلوا -وهم محقون في ذلك-: نهيتنا والأصل أننا نتبعك ونستن بسنتك، ونهتدي بهديك وأنت تواصل! فمن حقنا من باب اتباعك أن نواصل لمن قدر عليه.
فبين لهم الفرق، فقال: (لا، لست مثلكم، إني أبيت -وأكثر الروايات ليس فيها: عند ربي- يطعمني ربي ويسقيني) ، (إن لي طاعماً يطعمني، وساقياً يسقيني) ، هذا اللفظ في هذا الحديث احتار العلماء فيه وإلى الآن، ولم نجد جواباً شافياً في ذلك، إنما هي معجزة لرسول الله، والمعجزة -كما يقال- فوق الطاقة الإدراكية، فوق طاقة العقل؛ لأنها لو نزلت لمستوى إدراك العقل خرجت عن كونها معجزة، جميع المعجزات لا يحيط بها العقل: نبع الماء بين أصابعه، تسبيح الحصى في كفه، تفتيت الصخرة بضربات وهم قد عجزوا عنها، تكثير الطعام القليل حتى يكفي ثمانين شخصاً أو ثلاثمائة شخص، هذه أشياء لا تقاس بمقاييس العقول، هي معجزات.
وهنا قال بعض العلماء: يطعمني ويسقيني من طعام وشراب الجنة، فقيل: وهل طعام وشراب الجنة لا يفطر؟ قالوا: لا، لا يفطر؛ لأنه ليس من الدنيا، قيل: إذاً ما واصل، وكل الناس ستواصل ويأتيها طعام من الجنة.
فهل نحمل (يطعمني ويسقيني) على حقيقة الطعام والشراب أو نحمل (يطعمني ويسقيني) على أمر معنوي؟ القضية دائرة بين هذين، فإن حملناه على أكل وشرب حقيقة فليس هناك وصال، ولماذا لست مثلنا؟ ما دام أنك تأكل وتشرب فليس هناك وصال.
وإن حملناه على الأمر المعنوي فما هو إذاً؟ أكثر من أطال في هذا ابن القيم رحمه الله، ونقل عن العلماء، وتوسع في هذه المسألة، وقال: إن العبد إذا اشتد حبه لله، وقويت صلته بالله، كان دوام ذكره لله غذاء له، ولربما يكتفي بأبسط الأشياء من الطعام، ويغذي الجانب الروحي، وإذا تغذت الروح ساعدت الجسم، بخلاف الجسم، فإذا تقوى الجسم ضعفت الروح، وإذا تقوت الروح قوت معها الجسم، وقد وجدنا نماذج ليست في نفس المستوى ولكن للتقريب: السرية التي كان أميرها أبا عبيدة، فقل طعامهم فقام بتموين إجباري، فجمع كل ما في أيدي أصحابه من الزاد وجعله عنده، وصار تموين منظم، يعطي كل واحد تمرتين أو ثلاث أو كذا حتى قل التمر فصار الواحد يأخذ تمرة في اليوم، غزاة في سبيل الله وزادهم وتموينهم تمرة! والله! لو كان واحد نائماً في الفراش وتقول له: هذا طعامك اليوم، لا يصبر على هذه الحال، ولكنهم لما كانوا في سبيل الله، وأحسوا أن جوعهم قربة لله، وأحسوا أنهم يتحملون في جانب الله؛ هانت عليهم الشدائد، وأحسوا بالشبع والقوة.
تقول القصة: وفي آخر يوم نقصت تمرة عن عددنا، فوجدنا لها وجداً شديداً -حزنا عليها؛ لأن واحداً منا سيظل بدون أكل، سبحان الله! - ثم ساق الله لهم حوت العنبر، وقعدوا عليه شهراً كاملاً يأكلون من لحمه، ويدهنون من ودكه، ويتفكهون أربعة وعشرين قيراطاً.
فهذه الحالة عندما يقوي الإنسان صلته بالله، ويشفف روحانيته، فإن هذه الشفافية، وهذا القرب من الله، غذاء له، أليس بعض الناس تحصل لهم غيبوبة ولا يدركون ما حولهم استغراقاً في التفكير في ذات الله؟ يحصل لبعض الناس هذا، ونقول: مغمى عليه، وليس مغمى عليه، بل هو في غيبوبة القرب من الله سبحانه وتعالى، ولا يدرك ذلك إلا بعض الخواص.
إذاً: قوله: (أبيت يطعمني طاعم، ولي طاعم يطعمني) نحاول أن نفهمها، ولكن نعترف بأننا لن نفهمها.
الذي يهمنا: أنهم يغايرونه، له طاعم وله ساق، وكيف يكون ذلك؟ نتركها لله ثم لرسول الله.
إذاً: في بادئ الأمر إذا أمر صلى الله عليه وسلم أمراً أو نهى نهياً، وإن كان هو المتكلم فهو داخل تحت الأمر والنهي؛ لأنهم قالوا: تنهانا عن الوصال: (لا تواصلوا) ، وأنت تواصل، فلولا أنه داخل تحت النهي لما حق لهذا السائل أن يقول: أنت تواصل، وكان يمكن أن يقول لهم: أنا خارج عن هذا، لا، فهو المتكلم، وهو داخل في النهي.
وهكذا يقول الأصوليون: الآمر يدخل تحت الأمر، والناهي يدخل تحت النهي إلا إذا جاء صارف.
وعلى هذا، يذكر ابن عبد البر عن الشافعي رحمه الله أنه قال: الوصال مكروه لمن شق عليه، ومن قدر فليواصل.
ويقول ابن عبد البر: الجمهور أنه لا يجوز لأحد الوصال، وما ذكر عن بعض الأفراد فهذا اجتهاد شخصي لا يكون حجة على الآخرين، والله تعالى أعلم.(146/8)
كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [6]
الحكمة من فرض الصيام هي التقوى، فعلى الصائم أن يحرص على تحقيق التقوى حال صومه، ومن لم يدع قول الزور والعمل به والجهل؛ فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه.(147/1)
شرح حديث: (من لم يدع قول الزور ... )
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) رواه البخاري وأبو داود واللفظ له] .
ما مناسبة مجيء قول: (من لم يدع قول الزور) بعد النهي عن الوصال؟ لماذا ما أتى به في الأول حتى نحتاط لصيامنا؟ ولماذا جعله في الأخير؟ لماذا أتى به بعد حديث النهي عن الوصال؟ ما السر في هذا؟ أم هو مجرد رص؟ في الحديث السابق، قالوا: إنك تواصل، قال: لست كأحدكم، لكنهم ما اكتفوا بهذا، وطمعوا ورغبوا أن يحصلوا الفضل، وما دام أنهم لا يستطيعون أن يواصلوا وهو يواصل فقالوا: دعنا نواصل، فأرشدهم ألا يواصلوا، ولا يكلفوا على أنفسهم، قالوا: لا، قال: (أنتم لستم مثلي) أي: أنا عندي استطاعة ليست لديكم.
قالوا: لا.
فواصل بهم يوماً، واليوم إذا أطلق يشمل الليل والنهار، ثم يوماً، فصارت ثمانية وأربعين ساعة، فرءوا الهلال، يعني: ربنا رحمهم، لما رءوا هلال شوال انتهى الصيام، ولم يعد هناك وصال، فقال لهم: (لو لم نر الهلال لواصلت بكم يوماً آخر) ، كان يقول لهم: لا تواصلوا، والآن يقول: أريد أن أواصل بكم، هذا الأسلوب ماذا نسميه؟ هذا تشديد أو تخفيف؟ تشديد، والتشديد من ورائه التنكيل، الراوي يقول: ينكل، أي: يشدد عليهم ويعزرهم حتى لا يعيدوا الكرة مرة أخرى، كما أنك تنهى إنساناً عن شيء مصلحةً له، ولكنه يتطلع ولا ينتهي، تقول له: تعال، -مثلاً-: تقول له: أنا ذاهب إلى قباء ماشياً.
فقال: أمشي معك.
قلت له: أنت لا تستطيع، أنا أقوى على المشي أما أنت لا تقوى.
قال: لا، بل أقوى.
فقلت له: هيا نمشي، وفي نصف الطريق قعد وأخذ يفرك رجليه.
ماذا بك؟ قال: يكفي.
قال: لا، لابد أن تواصل، لابد أن تمشي.
قال: أنت قلت من قبل: لا تمشِ أنت لست تقوى، والآن تقول: لا، لابد أن تمشي!! لماذا؟ حتى لا يعود إلى هذا الإلحاح، كالمنكل بهم، والتنكيل: التعذيب، كأنه يحمل عليهم نتيجة لتشددهم وعدم قبولهم الرخصة في أول الأمر، ولم يقبلوا اللين فكأنه قال: تعالوا، تحملوا.
ومن هذه الجزئية قال الشافعي: لو كان الوصال حراماً ما واصل بهم اليوم واليومين؛ لأنه لا يجوز التنكيل بمحرم.
وإلى هنا عرفنا أنه مكروه، وأنه جائز لمن يستطيع.
إذاً: لا ينبغي لإنسان أن تأتيه الرخصة في الإسلام ويرفضها، وهو في حاجة إليها، زيادة ورغبة في الخير، قبولك الرخصة رغبة في الخير، إلا إذا لم يكن هناك أية مشقة، وكان أمراً عادياً، وكان اتباعاً للأصل على ما سيأتي في الصوم والفطر في السفر إن شاء الله.
إذاً: واصل بهم اليوم واليومين على غير ما كان يريد، كان لا يريد أن يواصل بهم، لكن فعل ذلك تأديباً، كما يقال: قسا ليزدجروا ومن يك حازماً فليقسُ أحياناً على من يرحم لم جاء المؤلف بحديث: (من لم يدع) بعد حديث النهي عن الوصال، وجعلهما مقترنين؟ فما العلاقة بينهما؟ التأليف فن وحكمة، وأشرنا إلى ما قال ابن عبد البر في إيراد مالك لنصوص رؤية الهلال، حيث قدم حديث ابن عمر: (فاقدروا له) ، ثم جاء بحديث ابن عباس: (فاقدروا له ثلاثين) ، وقال: حديث ابن عمر مجمل، وحديث ابن عباس يفسره، فأخر المفسر ليكون بياناً للمطلوب، يعني: أن العلماء حينما يوردون الأدلة في الأبواب يكون إيرادهم إياها عن حكمة وعن دلالة خاصة، وليست مجرد رصف أحاديث ونصوص، والله سبحانه وتعالى أعلم.
كنا تساءلنا ما هي العلاقة بين مجيء هذا الحديث وبين النهي عن الوصال؟ وكما قال الأخ: لما نهاهم عن الوصال وهم يرغبون في الوصال زيادة في الخير، فكأنه يقول لهم: إذا كنتم تريدون الخير بزيادة فليس في نوعية زيادة العمل، ولكن في إحسانه وفي جودته، وهو أن تحافظوا على صوم النهار من الفجر إلى الليل، وأن تصوموا عما لا يليق بالصائم.(147/2)
معنى الزور
قال في الحديث: (من لم يدع) يدع: فعل مضارع، وأمره دع كحديث: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) بمعنى: الترك، من لم يترك قول الزور.
والزور -كما يقول علماء اللغة-: هو ملتقى نهاية الفم بأول البلعوم، ففيه زاوية، هذه الزاوية هي الزَور، والعلماء يطلقون عليها الزُور، زَور الإنسان، زَور الحيوان، وسمي الزور زوراً لأنه جاء جانبياً؛ لأن فتحة الفم كان مقتضاها الاعتدال إلى الرقبة، لكن انحنت ونزلت إلى الحلقوم وإلى المعدة.
فالزور: هو ما انحنى عن طريق الاستقامة، ومنه الزائر يأتيك من جانب البيت، لا يأتيك عامداً بطول، مثلاً: يأتي في الشارع، وإذا وصل إلى بيتك انحنى وانعطف على باب مزوره.
وقول الزور: هو القول الذي ينعطف عن الطريق المستقيم، فكل قول انحرف عن الصراط السوي فهو زور، أكبر ما يكون في ذلك شهادة الزور -أي: الكذب- يليها بعد ذلك الكذب في القول، يليها أيضاً النميمة، الغيبة، التنابز بالألقاب.
كل هذه قول الزور؛ لأن التنابز بالألقاب يسيء إلى صاحب اللقب، فكان هذا من قول الزور؛ لأنه مغاير للطريق الذي يحبه أو يرضاه صاحب اللقب.
فقول الزور: هو كل قول جانب الحق، وكما أشرنا: أعلاه شهادة الزور؛ لما جاء عنه صلى الله عليه وسلم (أنه كان متكئاً بين أصحابه، وحذر من الكبائر، ثم اعتدل وقال: ألا وشهادة الزور، وأخذ يكررها حتى قلنا: ليته سكت) .
ونحن نعلم -يا إخوان- أن شهادة الزور وقول الزور يكفي في تقبيحها أنها تغير الحقائق، وتقلب الأمور، وتبطل الحق، وتحق الباطل، وتضلل العدالة، وأشياء كثيرة جداً، ومن هنا اهتم لها صلى الله عليه وسلم، وكذلك الكذب، ففرق بين الكذب والصدق كما بين الظلام والنور، وما بين الحق والباطل، وما بين الليل والنهار؛ لأنه أيضاً يغير الوقائع، ويحق الباطل، ويبطل الحق.
ما الفرق بين شهادة الزور والكذب؟ شهادة الزور تتعلق بحق لثالث، والكذب يكون مطلق إخبار، مثلاً: جاء زيد؟ لم يجئ، وهو قد جاء ورآه، فهذا كذب.
وفي الحديث: (إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق) ، الرفث: من الزور أيضاً، وهو الحديث عن النساء بحضرة النساء، (ولا يفسق) : الفسوق الخروج عن الطاعة، كما يقول العرب: فسقت النواة عن الرطبة، أي: خرجت عنها، وفسقت الحبة عن الرحا، أي: نقزت من تحتها ولم تطحن، ومنه الفويسقة، وهي الفأرة تخرج بالخفاء ليلاً وتفسد أو تضرم على الناس بيوتهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أوكئوا السقاء، وخمروا الإناء، وأغلقوا الأبواب، وأطفئوا السراج، فإن الفويسقة تضرم على الناس بيوتهم) وقوله: (تضرم على الناس بيوتهم) لأنهم كانوا يستصبحون بالسرج، والسراج: عبارة عن إناء صغير يوضع فيه الزيت، وفتيل يأتي إلى الزيت، وعلى حافة هذا الإناء مثل الكأس، يشعل الفتيل فيظل يضيء ويستمد من الزيت إلى أن يفرغ الزيت وينطفئ، فتأتي الفأرة تريد أن تلحس هذا الزيت، ولكن إشعال طرف السراج بالنار يضايقها، فتدخل ذنبها تحت الفتيل هذا وتخرجه عن إناء الزيت، والحال أنه مشتعل، فينزل هذا الفتيل بما فيه من الشعلة على الفراش فتضرم النار في بيوتهم، فسميت فويسقة بخروجها للإفساد.
إذاً: الفسق يكون بالقول بما يغاير الحق، ويكون بالعين بالنظر إلى ما لا يحل له، ويكون بالسمع حينما يتسمع إلى قول خطأ، اثنان يتكلمان على شخص ثالث بالغيبة أو بالنقيصة، واستمع إليهما، هو لم يتكلم ولكن مجرد سماع، فكما قيل: وسامع الذم شريك لقائله ومطعم المأكول شريك الآكل فإذا تسمع إنسان لاثنين أو جماعة يتكلمون على شخص في عرضه، بنميمة أو بذم أو بكذا، ولم يشارك في الحديث، ولكنه يستمتع بالسماع أو يصغي إليه دون أن ينكر عليهم، فهو مشارك معهم.
والفسق باليد يكون بالبطش وامتدادها واكتسابها ما لا يجوز شرعاً، وكذلك بالقدم حينما يسعى إلى أمر منهي عنه محرم، فكل هذا من أنواع الفسق بالجوارح التي يكون عن طريقها.(147/3)
معنى العمل بالزور
قوله: (من لم يدع قول الزور، والعمل به) العمل بالزُور يشمل كل عمل منهي عنه؛ لأن الزور باطل، وكل عمل منهي عنه فهو باطل، يبدأ الإنسان في معاملاته أولاً في بيته مع أهله، إذا لم يفِ بالوعد، أو كانت معاشرته فيها نوع من التعالي، أو نوع من الامتنان، أو نوع من التقصير.
فكل ذلك عمل بالزور، أو إذا خرج إلى السوق يتعامل بالمعاملات المنهي عنها، وأعلاها: الربا، ثم التدليس، الغش، فالصانع في صنعته، والأجير في عمله، إذا لم ينصح ولم يؤدِ الواجب الذي عليه فهو عامل بالزور؛ لأنه يأخذ أجراً على غير ما عمل، مثلاً: كان مؤاجراً على يوم كامل، واليوم عمله ثمان ساعات أو عشر ساعات حسب العرف، وهو أخذ يراوغ حتى لم يعطِ من العمل إلا نصف الوقت، أو استئجر على بناية جدار أو صناعة شيء فدلس في البناء ولم ينصح، فمثلاً ربط اللبن بعضه ببعض، ولم يحسن العمل، أي نوع من الغش في الصنعة فهو عمل بالزور.
إذاً: الحديث يحث الصائم على أن يكون صومه -كما قال بعض السلف- عفيفاً كريماً، كما قال جابر: لا يصوم الإنسان حتى تصوم جوارحه.
وصوم الجوارح -كما أسلفنا - هي أن تصوم العين عن التطلع إلى المحرم، وإذا صادف أمامه شيئاً فجأة غض البصر، ولم يتبع النظرة النظرة، وكذلك إذا سمع قوماً يخوضون في حديث لا يرضي الله أعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، وإذا رأى جماعة يشتركون في عمل فيه فساد، سواء كان لفرد أو للجماعة أو للأمة من إتلاف المرافق العامة أو نحو ذلك فإنه إن سكت عن ذلك فهو أيضاً داخل في هذا الباب.(147/4)
عظم ارتكاب الصائم للذنب
هذا الحديث يحمل الصائم على أن يكون مسلماً مثالياً؛ ولهذا يقول العلماء: هل النهي عن قول الزور به خاص برمضان فقط؟ يعني: هل بعد رمضان يكون كيفما شاء، ويعمل كيفما شاء؟ لا، هو محرم قبل أن يأتي رمضان، ومحرم في رمضان وفي غير رمضان، ولكن حرمته في رمضان أشد.
ويقول ابن عبد البر في "الاستذكار": قال العلماء: الكبر محرم في كل وقت، والزنا محرم في كل وقت، لكن جاءت شدة تحريم في أوصاف مناسبة كحديث: (إن الله سبحانه وتعالى يبغض الفقير المتكبر) ، وفي الحديث القدسي: (الكبرياء ردائي) ، فأي إنسان فقير أو غني لا يجوز له أن يتكبر، لكن يكون فقيراً ومتكبراً! لو تكبر إنسان غني معافى فإن الله تعالى يقول: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-7] ، فالجبلة والغريزة حملته على ذلك، لكن الفقير الذي لا يجد شيئاً ما الدافع له على الكبر إلا خبث النفس.
ومثل ذلك: (وشيبة زان) ، فالشاب إذا زنى فلديه دوافع، وغره الشيطان، مع أنه لا عذر في محرم، لكن عجوز شائب بالكاد يمشي على عصاتين ويذهب يزني أيضاً! هذا منه أكثر قبحاً.
فكذلك قول الزور والعمل بالزور طيلة العام محرم، لكن إذا دخل رمضان فيجب أن يكون أطهر منه في غير رمضان، فإذا كان مرتكباً للزور في غير رمضان فيجب أن يستحي في رمضان ويتركه، وإذا لم يكن مرتكباً له في غير رمضان فمن باب أولى أن يحافظ على صومه، وأن يبتعد كل البعد عن قول الزور والعمل به.
وإذا أخذنا في الجملة بهذا، صار المجتمع الإسلامي في رمضان مجتمع حق، ومجتمع صدق، لا زور فيه، أفراده كلهم على الصدق، أفراده كلهم صادقون، وأفراده كلهم عفيفون، وأفراده كلهم كرام بررة، بعيدون عن الهزل، بعيدون عن المزاح، بعيدون عن الزور، كيف نتصور هذا المجتمع؟! أعتقد أنه يكون مجتمعاً مثالياً وفوق المثالية؛ لأنه تخلق بأخلاق الإسلام.
ويمكن أن نقول أيضاً: من معطيات الصوم تربية النفس على مكارم الأخلاق، وكل ركن في الإسلام نجد له معطيات أخلاقية، ففي الصوم في أول تشريعه في كتاب الله قال سبحانه: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] ، وهنا: ترك الزور قولاً وفعلاً.
إذاً: سيصبح الصائم -كما قلنا- النموذج المثالي.
وإذا جئنا إلى الصلاة نجد لها أيضاً عطاء وأثراً {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] ، وإذا جئنا إلى الزكاة نجد لها عطاءً مزدوجاً {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] ، وإذا جئنا إلى الحج فكذلك الحال، وعلى كل فعطاء الصيام في الناحية النفسية وفي سلوك الإنسان أخلاقياً؛ عطاءً عظيماً.(147/5)
معنى الجهل
قوله عليه الصلاة والسلام: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل؛ فليس لله حاجة ... ) الجهل له مدلولان: جهل ضد العلم، وجهل ضد الحلم، فالجهل ضد العلم هو جهل الإنسان بما لا يعلم ويعلمه غيره، فنحن مثلاً نجهل علوم الفلك، ونجهل علوم الذرة، هذا جهل ضد العلم، وليس كل جهل مذمة، إذا كان في حدود الطاقة، وفي حدود العامة، هذا أمر عادي؛ لأن الناس كلهم لن يكونوا سواء في العلم، وهذا ليس مطلوباً؛ لأن العلم موجود في الأمة في أفرادها، وفي بعض الجماعات، ولكن الجهل أمر نسبي، ولا ينبغي للمسلم أن يكون جاهلاً جهلاً ضد العلم فيما يلزمه من ضروريات الدين، لا يحق لإنسان أن يدعي الجهل بأحكام الصلاة؛ لأنها ضرورية وفرض عين، كذلك لا يصح لإنسان أن يدعي الجهل أو يكون فعلاً جاهلاً بأحكام الصيام أو جاهلاً بأحكام الزكاة، ومعرفة الأنصباء إذا كان من أهلها، وكذلك من أراد أن يحج لا ينبغي له أن يكون جاهلاً بأحكام الحج، هذا من الناحية الدينية، ووجوب طلب العلم لما يلزمه عمله.
والجهل الثاني ضد الحلم، وهو -كما يقولون-: التعدي، الحماقة، إساءة الأدب، انتهاك الحرمات، وقد قال الشاعر الجاهلي: ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا الجهل هنا ضد الحلم، ومراده: لا يأتي إنسان يغضب علينا، فإذا غضب علينا إنسان غضبنا عليه أكثر من غضبه، فتكون: المقابلة بالمثل وزيادة، وهذا الجهل هو المراد هنا: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل) أي: ضد الحلم، ومنه تسمية ما قبل البعثة بالجاهلية، فكلمة (الجاهلية) ليست جهلاً عن كل علم، فالعرب كانت عندهم علوم الطب، وعلوم النجوم، وعلوم السير.
فهذه أشياء كانوا يعلمونها، ما وصفوا بالجهالة التي ضد العلم، ولكن وصفوا بالجهالة التي ضد الحلم، على أتفه الأسباب تقوم الحروب بينهم، حرب داحس والغبراء كانت على فرسين، وحرب يوم ذي قار، وغير ذلك، كانت العرب في الجاهلية قد تقوم الحرب بينهم على أتفه الأسباب، وهذا من الجهل الذي هو ضد الحلم.
إذاً: فليدع الصائم العمل بالجهل، ولذا في الحديث: (إذا سبه أحد أو شاتمه أحد فليقل: إني صائم) ؛ لأنه إذا رد عليه خرج عن كونه حلم عنه إن جهل عليه، فيكون الجهل مسايرة من يشاتمه، ومن يسبه، ومن يعتدي عليه، لكن إذا انصرف عنه وقال: إني صائم.
ترك الجهل.
أيها الإخوة! هذه الصفات: قول الزور، والعمل به في جميع الشئون، والعمل بالجهالة التي هي ضد الحلم، يجب أن يكون الصائم بعيداً منها، وأن يكون على سعة بال وسعة صدر، وحسن أخلاق؛ ليكون ذلك أدعى لكمال صومه، والله تعالى أعلم.(147/6)
معنى قوله: (فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)
من لم يدع هذه الأشياء فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، إذا لم يتركها فليس لله حاجة في أن يصوم؛ لأنه صام عن جزئية من الصوم، والصوم صوم عن كل شيء نهى الله عنه، فمن لم يدع هذه الأشياء فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه.
سؤال: إذا تركها الإنسان، وأصبح المسلمون على أعلى مثالية في الآداب والأخلاق، فهل لله حاجة في ذلك؟ يقول الفقهاء: هل مفهوم المخالفة مراد في قوله: ليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه؟ أي: فهل لله حاجة فيمن لم يرتكب ذلك؟ الجواب: لا، فالله سبحانه وتعالى غني عن عبادة العباد، وغني عن عمل العباد، وإنما مردود العمل راجع إليهم (إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها) والله غني عن ذلك، لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين.
إذاً: (فليس لله حاجة في أن يدع ... ) لا مفهوم لذلك؛ لأنه ليست له حاجة فيما لو ترك الصائم هذه الخصال الذميمة، ولكن المراد بهذا: أنت تركت الطعام والشراب، وهذا أنت مأمور به، ولكنك تذهب وترتكب قول الزور والعمل به والجهالة، وأنت منهي عنه، فهل إذا لم تأكل ولم تشرب وعملت بالزور، وفرت في خزائن الله زيادة؟ لا، لم يكن تركك الطعام والشراب لحاجة عند الله أو قلة في العطاء، أو لأنه يزيد في خزائنه، كل ذلك لا أصل له، إنما ليس هناك داع أو ليس هناك موجب لأن تبقى على ترك الطعام والشراب وأنت أفطرت بغيره، كما جاء في حديث المرأتين اللتين صامتا في يوم حار، وسألتا رسول الله أن يسمح لهما بالفطر فأبى، وسمح لغيرهما ولم يسمح لهما، ثم استدعاهما وأحضر قدحاً وأعطاه للأولى وقال: قيئي في هذا.
فتقيأت، وما تقيأت طعاماً: دماً ولحماً عبيطاً -أي: طرياً- حتى تناصف القدح، ثم أعطاه للثانية ففعلت كذلك، ثم قال: (تصومان عن الحلال -أي: الطعام والشراب- وتفطران على الحرام) ، أي: على غيبة الناس، كانتا تأكلان لحوم الناس، فهذا الدم العبيط واللحم العبيط الذي قاءتاه من الغيبة: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12] ، فهما صامتا عن الطعام والشراب، وأكلتا لحوم المسلمين.
إذاً: هذا تناقض؛ ولهذا جاء الحديث بالعموم: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) ؛ لأنه لا فائدة له.
وبعض العلماء يقول: الغرض من هذا هو إبطال هذا الصوم وإن أسقط الفرض عنه، ولا نقول: عليه القضاء.
والعجب أن بعض الطوائف -وهم موجودون الآن- يقولون: من كذب على الله أو على رسوله في نهار رمضان فعليه القضاء والكفارة، ومن كذب على أحد من عامة الناس في نهار رمضان فعليه القضاء! ويدينون بذلك نظراً لهذا الحديث: (فليس لله حاجة في أن يدع) ويقولون: أي: ليس له حاجة في صومك، فصومك مردود، ويقولون: الكذب يبطل الصوم، فإن كذب على الخلق فعليه القضاء، وإن كذب على الله أو على رسوله فمع القضاء كفارة.
والله أسأل أن يحفظ لنا صيامنا.(147/7)
تهذيب غريزة الغضب
يا إخوان! هل العالم كله معصوم من قول الزور أو العمل به أو الجهل؟ قد يأتي إنسان يمتحن الإنسان -كما يقولون- ويغضب عليه ويصيح، هذه جهالة، ولكن هل أحد يسلم من هذه؟ الرسول لما قال للرجل: (لا تغضب) هل معنى ذلك: أن تخلص من غريزة الغضب؟ لا يمكن، من تخلص من غريزة الغضب فلا خير فيه؛ لأن غريزة الغضب تحمي الإسلام؛ لأن من لا غضب عنده ولا غيرة يرى المنكر أمامه ولا يحس به ولا يتغير له، فإذا كانت الغيرة والغضب والحمية موجودة فإنه لحميته ولغضبه ولغريزته تلك يتحرك، حمزة رضي الله تعالى عنه أول إسلامه حمية لرسول الله، قالت له المرأة: انظر ماذا فعل فلان مع ابن أخيك! قالت: رأيت أبا جهل يسب ابن أخيك، وكان آت من القنص بأداة الصيد، فذهب إلى الكعبة ووجد أبا جهل في نادي القوم، فضربه بالقوس على رأسه فشجه، وقال: أتسب محمداً وأنا على دينه؟ منذ متى كنت على دينه؟ الآن فقط، فهذه حمية وغيرة حركته إلى الخير.
وهكذا من فقد الغيرة وفقد غريزة الغضب فلا خير فيه، فهو ميت، لكن لا ينبغي التجاوز في ذلك؛ لأن التجاوز يأتي بضد النتيجة، يغضب لأقل شيء، يثور لأقل شيء، تأتيه الحمية لأبسط الأشياء لا، يجب أن يكون مع الاعتدال والوسطية، وكذلك المرأة إذا تسلطت عليها الغيرة من ضرتها أفسدت حياتها وحياة زوجها، لكن إذا كانت بقدر، وكانت بأمر في حدود الجبلة، فلا بأس، الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاءته قصعة الطعام من عند حفصة في بيت عائشة، وعائشة تعرف بأن حفصة كانت تحسن الطهي، فلما جاء الجارية بالقصعة ضربتها بيدها فسقطت القصعة فانكسرت، وتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: (غارت أمكم) .
فهذه غيرة، لكن ما تجاوزت حدها، صبت غضبها على القصعة، وما لمست حفصة بشيء، ولا لمست جانباً آخر بشيء، ولكن موضوع الغيرة هو القصعة، فجمع الطعام وأخذ قصعة من بيت عائشة وقال: (قصعة بقصعة) .
وتدارك المسألة.
إذاً: الجهالة لا ينبغي أن تتجاوز حدها، ولا ينبغي أيضاً أن تُطفأ وتُخبأ نارها؛ لأن الإنسان إذا فقد الحمية والغضب يكون فاقد الدفاع أو فاقد الإحساس.
إلخ.(147/8)
شرح حديث: (كان النبي يقبل وهو صائم)
قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم، ويباشر وهو صائم، ولكنه كان أملككم لإربه) متفق عليه واللفظ لـ مسلم، وزاد في رواية: (في رمضان) ] .
المناسبة بين هذا الحديث والذي قبله، أنه لما نهى عن قول الزور والعمل به والجهالة ربما يظن بعض الناس بأن ملاطفة، ومداعبة الزوجة من هذا الباب، ويجب أن يترك، فجاء المؤلف بهذا الحديث ليبحث حكم ملاطفة الزوجة بصفة عامة، والملاطفة لا حد لها، ما دامت بعيدة عن علبة اللؤلؤ كما يقولون.
والرسول صلى الله عليه وسلم كان وهو معتكف يقدم رأسه لـ عائشة، سريره في الروضة ورأسه في البيت، وتمشط شعره وتدهنه، وهذا العمل من أحسن المداعبة أو المؤانسة للزوجة، ويعجبها أن تجد فرصة مع زوجها بهذه الحالة.
نأتي إلى حكم التقبيل، عن عائشة قالت: (كان صلى الله عليه وسلم يقبل بعض زوجاته وهو صائم) وضحكت، وما الذي يضحكك؟ كأنه من حلاوة النسبة إليها هي؛ لأن الحدث كان معها هي، وما كان أحد يراه يقبل زوجاته في بيوتهن، إذاً: أخبرت بما وقع معها، وكونه صائماً ويقبلها هذا معناه زيادة معزة ومحبة لها، لكن أم المؤمنين حكيمة، ما قالت: كان يقبل؛ لكي تتأسوا به، وتذهبون تقبلون ثم تزل قدم أحدكم، لا، بل نبهت بقولها: (وأيكم أملك لإربه) ، والإرب الحاجة، وهي في هذا المقام معلومة، فكأنها تبين المشروع، وتنبه عن المحظور.(147/9)
اختلاف العلماء في حكم القُبلة للصائم
اختلف العلماء في القبلة للصائم، فهناك من منعها كلية، وقال: من قبل فقد بطل صومه وعليه القضاء مطلقاً، وهناك من قال: القبلة ليست ممنوعة لذاتها، لو أن امرأة قبلت يد زوجها أو رأس زوجها ماذا في هذا؟ ولا شيء، لكن القبلة في محل التقبيل هي محل التماس كما يقولون، ويقولون: القبلة من حيث هي ليست ممنوعة وليست محظورة، وليست مبطلة للصوم، ولكنها منعت من باب سد الذرائع، القبلة ماذا بعدها؟ وقد قال القائل: نظرة فابتسامة فكلام فموعد فلقاء، وأظن هذا من شعر شوقي، يقول: نظرة فابتسامة فكلام فموعد فلقاء.
وما بعد اللقاء؟ الالتقاء.
فالأمور تأتي بالتدرج، وكما يقولون: بعضها يجر بعضاً، فقالوا: إن النهي عن التقبيل إنما هو من باب سد الذرائع.
والآخرون قالوا: لا، نحن ننظر إلى هذا الشخص الذي يريد أن يقبل، إذا كانت حرارته زائدة، وبمجرد التقبيل يقع منه الخطأ، فهذا نقول له: ابتعد بعيداً جداً.
ومن كانت حرارته منطفئة، وليس هناك إلا العاطفة، وليس هناك إلا المودة، فنقول: دونك! وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما موقوفاً ومرفوعاً، جاء عنه مرفوعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان في مجلس أصحابه، فجاء رجل فسأله عن القبلة، فنهاه، ثم جاء آخر وسأله عن القبلة فرخص له) ، ولهذا مالك بوب في الموطأ: باب الرخصة في القبلة، ثم جاء بعده بباب آخر: باب التشديد في القبلة.
الترخيص والتشديد! الترخيص لمن؟ والتشديد على من؟ على هذه الصورة التي ذكرها ابن عباس، وهي أنه صلى الله عليه وسلم لما منع الأول وأباح للثاني، التفت لأصحابه وقال: (لكأنكم تعجبون أني منعت الأول وأجزت الثاني؟! قالوا: إي والله -يا رسول الله- نتعجب! قال: نظرت إلى الأول فإذا به شاب فخشيت عليه، وإلى الثاني فإذا به شيخ لا يخشى عليه) .
ونقول: هذا التشريع يكون عاماً؛ لأن أحكام التشريع لا تنظر إلى الأفراد، تنظر إلى العمومات كما قال الشاطبي رحمه الله: تكون شاملة عامة، ولكن يختلف الأفراد في هذا الشمول، قد يكون شائباً ولكنه أنجح من الشباب، فإذا كان شخص في مشيبه، ولكنه في هذا الباب شباب، هل نقول: نرخص للشيوخ ونمنع الشباب على أنه شيخ وشاب أم ننظر إلى مظنة المنع في حالة الشباب؟ قد يكون شاباً عنيناً لا يصلح للنساء، وقد يكون الشيخ منجباً، ونسمع قصصاً كثيرة عن أشخاص أنجبوا بعد المائة سنة! تزوج بعد المائة وجاء بأولاد! إذاً: المسألة شخصية، التشريع عام، والتطبيق خاص، أي: جزئي من هذا العموم، وأنت أعرف بنفسك، فإذا عرف الإنسان من نفسه أنه أملك لإربه فنقول: إنه جائز.
وأبعد ابن حزم وقال: إنه مستحب؛ لأن الرسول قبل، لكن عائشة قالت: أيكم أملك لإربه؟ فلينظر الإنسان في خاصة نفسه.
جاء في بعض الروايات أن (الرسول صلى الله عليه وسلم لم يلمس وجه عائشة وهي صائمة) ، إذاً: فمتى قبلها؟! هو يمكن وهو صائم وهي مفطرة؛ لأن عائشة تأتيها الدورة، وإذا جاءتها الدورة منعتها من الصيام، فيكون هو صائم وهي مفطرة، فلماذا لم يلمس وجهها وهي صائمة؟ هذا ينبغي أن يلاحظ، هي زوجة شابة، ومع المداعبة قد تغلبها نفسها، وكما قال صلى الله عليه وسلم لما سألته المرأة: (إن الله لا يستحيي من الحق يا رسول الله! فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ قال: نعم؛ إذا رأت الماء) إذاً: المرأة عندها ماء، وهو يأتي بالمداعبة أو باللقاء، وإذا خرج منها وهي نائمة فتكون قد احتلمت، وعليها الغسل.
إذاً: في حالة اليقظة هي شابة، وكان الزوج يملك إربه وهي لا تملك، ويقولون في بعض كتب الأدب: الشهوة مائة جزء، تسع وتسعون للمرأة، وواحد للرجل، ولكن المرأة يمنعها حياؤها، فإذا كانت المرأة لا تستطيع مسايرة الزوج في المداعبة فيجب أن يعرف طاقتها، ويحجب عن ذلك؛ لئلا يفسد عليها صومها.
إذاً: حكم القبلة للصائم هناك من يمنع مطلقاً، ويقول: من قبل فعليه القضاء، وهناك من يبيح مطلقاً دون أن ينظر إلى شيء، بل قال: إنه مستحب كما قال ابن حزم، وهناك من يقول: ليس على الإطلاق، إنما ينظر الشخص في حالة نفسه، وكذلك المفتي يجيز للبعض بنظره واجتهاده، فتباح لمن يملك إربه، وتمنع لمن لا يملك إربه.
والله تعالى أعلم، والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وبالمناسبة هذه يذكر الفقهاء أشياءً عميقة -لا أظن أن عندنا نسوة يسمعن هذا-، يذكرون تبعاً للقبلة: أنه من دواعي المؤانسة مع المرأة أن يمتص لسانها، فإذا امتص لسانها هل له أن يبتلع ريقه بعد هذا الامتصاص؟ قالوا: لا؛ لأن هذا إدخال شيء غريب إلى جوفه.
إذاً: القبلة من الخارج ليس فيها ريق، وليس فيها سائل، وليس فيها شيء، لكن إذا امتص لسانها فيحتاط، ولا يبلع الريق في هذه الحالة.
والله أعلم.(147/10)
كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [7]
اختلف أهل العلم في حكم الحجامة للصائم، ومعرفة أدلة كل قول، ووجه الجمع بين أدلة المسألة؛ يفيد طالب العلم زيادة في العلم، وسعة في الصدر.
هذا وللحجامة فوائد كثيرة، وورد في الترغيب فيها أحاديث عديدة.(148/1)
شرح حديث: (احتجم وهو صائم)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم) رواه البخاري] .
انتقل المؤلف رحمه الله تعالى إلى مفطرات الصوم، ما يكون منه الفطر وما لا يكون، أو ما يجوز فعله للصائم وما لا يجوز، وبدأ بالحديث عن الحجامة، وقدم حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم، واحتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم) ، وعلى هذه الراوية يكون الحديث عن الحجامة مرتين: مرة في الصيام، ومرة في الإحرام، وهناك رواية أخرى: (احتجم وهو محرم صائم) فتكون الحجامة مرة واحدة في حالة الإحرام ومعه الصيام.
والحجامة من المسائل التي يتناولها الباحث من جهتين: جهة المعالجة، وجهة الفقه.
ويتفقون في الجملة أن للمريض الصائم أن يتداوى كيفما شاء ما لم يصل الدواء إلى الجوف، فإذا كان الدواء يصل إلى الجوف من أي منفذ فلا يجوز للصائم إلا إذا كان يحتاجه ويفطر، وكذلك قال البعض: دواء الشجاج -وهي الشجة في أم الدماغ من الداخل- يبطل الصوم؛ لأن الرأس مجوف، والنووي ينص على أنه لا يبطله.(148/2)
معنى الحجامة
وقبل الكلام على الحجامة للصائم ينبغي أن نعلم ما هي الحجامة، ولعل البعض لم ير حجاماً ولا محجوماً ولا آلة حجام، وكانت الحجامة منتشرة بكثرة في المدينة، وكان لهم موطن معروف، والآن لا نجدها في ذلك الموطن الذي كان معروفاً للناس، ولا في غيره، وكأنها لم تكن! الحجامة: هي استخراج الدم من الجسم بواسطة شرطة موس، وشفط الدم بالقرن أو ما يماثله، إذاً الحجامة: إخراج الدم من الجسم عن طريق الجلد، وهناك إخراج الدم عن طريق العرق مباشرة، ويسمى الفصد، وهناك إخراج الدم أيضاً عن طريق الجرح أو عن طريق الرعاف، وكل أنواع إخراج الدم من الجسم ما عدا الحجامة يتفق العلماء أنه لا يفطر، ما عدا الحجامة عند الحنابلة كما سيأتي بيانه عند الكلام على الحجامة للصائم إن شاء الله.(148/3)
فوائد الحجامة
الحجامة معروفة من القدم أنها من أنواع العلاج، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم الحث عليها، حتى جاء عند أبي داود أن جبريل أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالحجامة، وهناك: (لو أن دواء يصل الداء لوصلته الحجامة) ، وهناك: (احتجموا لا يتبيغ بكم الدم فيقتلكم) .
والحجامة من الناحية الطبية يتكلمون عنها من حيث الزمن، ومن حيث الشخص الحاجم والمحجوم، أما من حيث الزمن فإنهم يستحبونها أن تكون في ساعات النهار ما بين الثانية والثالثة بالتوقيت الغروبي -يعني: عند الضحى-، وأما في أيام الأسبوع فيكرهونها يوم الأربعاء ويوم السبت، وأما من حيث الشهر فإنهم يكرهونها في أول الشهر وفي آخره، ويمتدحونها من منتصف الشهر فما بعده، وينصون على السابع عشر والتاسع عشر والواحد والعشرين، ومن العجب أن الفقهاء فطنوا إلى مسألة عجيبة جداً! وهي: أن الحجامة في السابع عشر والتاسع عشر تكون عند هيجان الدم، وينص الفقهاء على أن هذا الوقت هو بتأثير اكتمال ضوء القمر، وهو الذي يعبر عنه الآخرون بالمد والجزر؛ لأن المد والجزر في البحار أشد ما يكون عند اكتمال ضوء القمر في ليلة الرابع والخامس والسادس عشر، ومن هنا قال بعض العلماء الحكماء: إن من حكمة صوم الثلاثة الأيام البيض من كل شهر: اليوم الثالث والرابع، والخامس عشر؛ لأنها تصادف شدة مد الدم في الجسم، والصوم يخفف ويلطف ذلك؛ لئلا يؤثر على الإنسان أكثر، وقالوا: إن الإنسان بحر دم، فكما أن البحر يتأثر مداً وجزراً باكتمال ضوء القمر فكذلك الدم في الإنسان في تلك الآونة تشتد حركته على صاحبه، فإذا صام خفف من هذه الآثار ومن تلك الإثارة.
إذاً: الحجامة من جهة الطب ومن جهة المداواة يختار لها زمن، ثم من حيث المواضع في الجسم يحدده المختص في ذلك، سواء في نقرة القفا، أو على الركبة، أو في الفخذ، أو.
إلخ، بحسب الحاجة التي دعت إلى استعمال الحجامة.
وينبهون على أن من لم يحتجم قبل الأربعين لا يحتجم بعدها؛ لأنه لا يتحمل ذلك، ويفرقون بين الحجامة والفصد في العلاج بأن الحجامة علاج للدم في خارج الجسم -أي: الجلد وتحته-، والفصد علاج لداخل الجسم كما هو في الأعضاء الداخلية كالكبد والمعدة والكليتين وغير ذلك.
هذا ما يتعلق بالحجامة، وكان استعمالها سابقاً بكثرة، وأما الآن فتكاد تكون قد تلاشت بالكلية.(148/4)
حكم الحجامة للصائم
في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم، وذكر لنا وقت حجامته: احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم، ويستدل العلماء به على جواز تداوي المحرم حالة إحرامه، سواء كان إحرامه بالحج أو بالعمرة، فالتداوي جائز، والحجامة لا تضر الإحرام بشيء.
بقي الكلام على حكم الحجامة في الصوم، وسواء كانت حجامة النبي صلى الله عليه وسلم في حال كونه محرماً، أو صائماً بدون إحرام، ونجد العلماء يناقشون في ذلك ويقولون: ما صام صلى الله عليه وسلم في سفر فيه إحرام قط؛ لأنه ما سافر محرماً إلا في حجة الوداع وفي عمرة القضية، أما عمرة ذي الحليفة فما كانت في رمضان، وعمرة حنين أيضاً لم تكن في رمضان، فإذا احتجم وكان قد خرج صائماً محرماً فمتى ذلك؟ قالوا: لم يثبت أنه صام في حال إحرامه، سواء كان إحرام حجة الفرض -وهي حجة الوداع- أو كان إحرامه في عمراته الثلاث التي اعتمرها.
وعلى هذا قالوا: لعله كان صائماً صوم تطوع، وهذا ممكن في بعض أسفاره تلك، فيكون صائماً صوم تطوع، ثم يحتجم وهو صائم، أما رواية: (احتجم وهو صائم) ، لم تحدد المكان، فمن الممكن أن يكون احتجم وهو صائم وهو مقيم، وحينئذ يحتمل أن يكون في رمضان أو في غير رمضان.
والمهم إثبات فعله صلى الله عليه وسلم للحجامة وهو صائم، وبهذا أخذ جمهور العلماء، وقالوا: الحجامة لا تبطل الصوم بصفة إجمالية، لكن جاء عن رافع وعن أوس بن شداد وعن غيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفطر الحاجم والمحجوم) وقال أنس في حديثه: (أول ما كرهت الحجامة للصائم أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بـ جعفر وهو يحتجم فقال: أفطر هذان -أي: الحاجم والمحجوم-) وفي الحديث الآخر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بالبقيع فوجد رجلين يحتجمان، فقال: أفطر الحاجم والمحجوم) ، والكلام على (أفطر الحاجم والمحجوم) من جانبين: الجانب الأول: معناه أساساً، والجانب الثاني: معارضته لحديث ابن عباس.
أما الكلام على نفس الحديث: (أفطر الحاجم) ، الحاجم: هو الشخص المداوي الذي يشرط الجلد ويضع القمع، ويشفط من منسم فيه الدم، هذا هو الحاجم، والمحجوم هو الذي يشرط جلده، ويعالج بالحجامة، ويخرج الدم من جلده، فقال العلماء: هل أفطر الحاجم والمحجوم على الحقيقة أو على المجاز؟ ومعنى المجاز هنا: أن يكون مآلهما إلى الفطر، يعني: أخذا بأسباب الفطر، أو تسببا بالفطر وسيفطران، أما حمله على الحقيقة بأنهما أفطرا فعلاً فهذا فيه نظر؛ لأن الحاجم لم يخرج منه دم، هو شرط الجلد، وشفط بفيه الدم، فبم يفطر؟ قالوا: (أفطر) يعني: كاد أن يفطر؛ لأنه لا يسلم أحياناً من كونه يشفط الدم من الجلد إلى المحقن ثم يغلبه الدم ويدخل إلى فيه، فيسبق إلى حلقه فيفطر، قالوا: إذاً: لم يفطر بنفس الحجامة؛ ولكن يفطر بما يغلبه من الدم ويصل إلى جوفه، فإذا لم يصل إلى جوفه شيء فلم يفطر على الحقيقة.
أما المحجوم فإن فطره بخروج الدم.
والحنابلة يقولون: إذا شرط وشفط ولم يخرج دم فلا فطر؛ لأن الأصل في ذلك خروج الدم.
إذاً: الذين قالوا: إن الحجامة تفطر أخذوا بظاهر هذا النص، وسواء كان الفطر على الحقيقة أو على المجاز.(148/5)
خلاف الأئمة في الفطر بالحجامة
الأئمة الثلاثة رحمهم الله أبو حنيفة ومالك والشافعي يقولون: الحجامة لا تفطر، ولكن يخشى منها أن تئول إلى الفطر، ومن هنا ينبغي أن يتجنبها الصائم سداً للذريعة؛ لأنه إذا فعل ذلك فقد يفطر، منعت القبلة لمن يخشى عليه منها مخافة أن يقع فيما هو أبعد من ذلك، فيكون منعها سداً للذريعة.
ومذهب أحمد رحمه الله وتبعه أكثر أصحابه -كما في المبدع والإنصاف- أن الحجامة تفطر، قال في الإنصاف: وهو من مفردات المذهب، واختار بعض الحنابلة أنها لا تفطر، وذكر الخلاف بين علماء الحنابلة في أن الحجامة تفطر أو لا تفطر، ولكن الراجح عندهم في المذهب أنها تفطر.
ثم ذكر الفصد، وذكر الخلاف فيه، ورجح أنه لا يفطر، والفصد -كما أشرنا-: هو أن يقطع العرق، ولا يجرح الجلد، يقطع العرق فيتقاطر الدم منه، كما في عملية نقل الدم وأخذ الدم، فإن الطبيب يأتي إلى العرق مباشرة ويدخل فيه تلك الإبرة، ويسحب الدم من العرق مباشرة.
فهذا الفصد فيه خلاف عند الحنابلة في كونه مفطراً أم لا، والصحيح عندهم أو المقدم عند أكثرهم: أنه لا يفطر.
وكذلك ينصون على أن من لم يرد أن يحتجم، ولكن جرح نفسه بدلاً من الحجامة، وليس هناك شفط، وخرج الدم من الجرح فإنه لا يفطر.
واختلفوا فيمن أخرج الدم عن طريق الرعاف من الأنف عامداً متعمداً، هل يفطر أو لا يفطر؟ وعلى هذا فالحجامة للصائم عند الأئمة الثلاثة رحمهم الله أنها لا تفطر، وبالتالي الفصد، وبالتالي الرعاف، وبالتالي الجرح، وأن للصائم أن يبط الدمل، ويقلع السن إذا احتاج إلى ذلك، وليس فيه إبطال للصوم، وكذلك له أن يعطي الدم لغيره إن كان يستطيع ذلك، فالذي يعطي الدم أو يأخذ الدم لا علاقة لصومه بالدم الذي يعطيه أو يأخذه، هذا عند الأئمة الثلاثة رحمهم الله.
أما عند الحنابلة فالحجامة والفصد والرعاف والجرح موضع اختلاف بينهم، وأما الحجامة فالراجح فيها عندهم، وهو المقدم عندهم في المذهب أنها تفطر، وهذا القول من مفردات المذهب، واختلفوا في الفصد، والراجح عندهم أنه لا يفطر، فإذا كانت العلة خروج الدم فخروج الدم من العرق أكثر وأغزر من خروجه من الجلد، فلم تفطر الحجامة ولا يفطر الفصد؟ وكذلك إذا لم تحصل الحجامة، ولم يأت بحجام، ولكن جرح جلده وخرج الدم كما لو كان يخرج من الحجامة بمقداره أو أكثر أو أقل، فإذا كانت العلة خروج الدم فلم لم يفطر بتعمده جرح يده؟ وهل الفطر يختص بشرط الجلد؟(148/6)
الجمهور على أن أحاديث الفطر بالحجامة منسوخة
الحنابلة يعولون على هذا الحديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) ، وهذا نص صريح، ويناقشون في الجمع بين الحديثين، والجمهور يقولون: إن أحاديث الحجامة منسوخة بفعله صلى الله عليه وسلم.
وابن القيم في زاد المعاد يقول: إن دعوى النسخ لا تثبت حتى نعلم تاريخ الحديثين، وأيهما متأخر؟ هل فعله صلى الله عليه وسلم أم قوله لـ جعفر أم قوله للرجلين عند البقيع؟ التاريخ غير معروف، ثم لا نعلم في أي سفر كان، وهل هذا الصوم كان نافلة أو فريضة؟ ويذكر نقاطاً، واستبعد أن حديث ابن عباس يكون ناسخاً لأحاديث الحجامة، ويقول: دعوى النسخ لا يمكن أن نثبتها، وبقي الحديثان متعارضان: حديث من فعله صلى الله عليه وسلم، وحديث من قوله، وإذا تعارض القول والفعل قدم القول على الفعل.
فالحنابلة يأبون دعوى النسخ، ويقدمون أحاديث الحجامة على حديث ابن عباس، وبعضهم يقول: أفطر الحاجم والمحجوم لا لكونهما يحتجمان، ولكنه رآهما يغتابان وهما يحتجمان، كانا يتكلمان وقت الحجامة، فكان حديثهما غيبة للآخرين، فقال: (أفطرا) .
أي: بالغيبة.
وكثير من العلماء يتندر بهذه العلة، ويقول: وهل كل من اغتاب إنساناً يفطر؟! وأحمد رحمه الله لما سمع هذا القول قال: لو أن العلة هي الغيبة لما سلم صوم أحد أبداً.
إذاً: كونهما يغتابان لا دخل له في هذا الموضوع.
إذاً: من الناحية الصناعية الحديثية يكون الحديثان أحدهما فعلي، والآخر قولي، والقولي مقدم، فإذا لم نعرف التاريخ لا نستطيع أن ندعي النسخ، وإذا وجد الفعل منه صلى الله عليه وسلم، ووجد أن الأئمة الثلاثة على أنها لا تفطر، فلابد لترجيح مذهب الأئمة الثلاثة من مرجح، قالوا: جاء عن أنس رضي الله تعالى عنه أنه سئل: (أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال: لا، ولكن من أجل الإرفاق به أو الإبقاء عليه) ، وجاء عن أنس أيضاً قال: (ما نهى صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصوم والحجامة للصائم إلا إرفاقاً بأصحابه) ، وجاء أيضاً: (ثلاث لا تبطل الصوم: القيء، والحجامة، والاحتلام) ، والقيء سيأتي فيه تفصيل، والاحتلام مفروغ منه، فبالإجماع أن من نام في نهار رمضان فاحتلم فلا شيء عليه، بخلاف من تسبب في إخراج المني، وهذا محله في بحث القبلة، ولكن أخرناه إلى حديث الأعرابي الذي قال: واقعت أهلي، وستأتي تتمة البحث هناك إن شاء الله، ومن هذه الثلاث التي لا تبطل الصوم الحجامة، وهذا محل الشاهد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتبرها مفسدة للصوم، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يحتجم في نهار رمضان، فلما تقدمت به السن وكبر صار يؤخر حجامته إلى الليل، ومن هنا أخذ الأئمة الثلاثة -من فعله صلى الله عليه وسلم، ومن فعل أصحابه رضي الله تعالى عنهم- أن الحجامة لا تبطل الصوم، ولكن -كما قال الشافعي رحمه الله- يُنظر إلى الشخص في ذاته، إن كان ضعيف البنية، وإن احتجم زاد ضعفه، واحتاج إلى أن يتناول ما يعوض ما خرج من دمه، ويلجئه ذلك إلى الفطر؛ فهي محرمة عليه، وإن كان معتدل الصحة، لا تؤثر عليه الحجامة، ولا تلجئه إلى الفطر فلا شيء في ذلك، وهذا أعدل الأقوال في قضية الحجامة، والله سبحانه وتعالى أعلم.(148/7)
شرح حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم)
قال المصنف رحمه الله: [وعن شداد بن أوس (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى على رجل بالبقيع وهو يحتجم في رمضان، فقال: أفطر الحاجم والمحجوم) رواه الخمسة إلا الترمذي، وصححه أحمد وابن خزيمة وابن حبان] .
قوله عليه الصلاة والسلام: (أفطر الحاجم والمحجوم) ، حُمل على أنه فطر حقيقي، ومشى على هذا الحنابلة، وحمله الجمهور على أنهما أوشكا أن يفطرا، أما الحاجم فلإمكان سبق الدم إلى حلقه فجوفه، وهذا نظيره حديث لقيط بن صبرة حيث جاء في باب الوضوء: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) لماذا؟ لأن المبالغة في الاستنشاق قد تنزل الماء إلى داخل أنفه، فيصل إلى الدماغ، فينزل إلى الحلق فيبطل صومه، فالنهي عن المبالغة في الاستنشاق للصائم تحفظاً على صومه من أن يسبقه الماء إلى حلقه فجوفه فيبطل صومه، وكذلك هنا منع الحاجم أن يحجم أحداً تحفظاً على صومه من أن يسبقه الدم إلى حلقه فإلى جوفه فيفسد صومه.
أما المحجوم فهو تحفظ عليه؛ لأن في الحجامة إخراج الدم، والإنسان إنما يسير بالدم، فالدم في الجسم هو حياة الإنسان، ويسمى الدم نفْساً كما في قولهم: (ما لا نفْس له سائلة إذا مات في السمن لا ينجسه) مثل: الذباب إذا وقع في الشراب تغمسه في السائل ثم تشربه إن شئت؛ لأن موته فيه لا ينجسه؛ لأنه لا نفس له سائلة، فالدم يطلق عليه النفْس، وإذا خرج الدم من الإنسان اصفر وصار كالشن، أي: كالقربة الفارغة لا قيمة له، وفارق الحياة، فإذا احتجم الإنسان يضعف قليلاً، وقد يحجمه من لا يعرف قانون الحجامة، فيسحب كل الدم، فحينئذ ينهي دم صاحبه، وقد يموت بين يديه! ولكن الخبراء في عمل الحجامة يعرفون المقدار الذي يؤخذ، وفي أي موضع من المواضع، إما بتغير لون الدم، وإما بتغير ريحه، ويعرفون الموضع الذي يحجم فيه كم يمكن أن يؤخذ منه، ويراعون سن المحجوم، فهؤلاء لهم خبرة، فإذا لم يكن الحاجم ذا خبرة، أو أخطأ في خبرته، وتجاوز حد ما يؤخذ من الدم، فحينئذ يكون المحجوم على خطر.
فـ (أفطر الحاجم والمحجوم) أي: أوشكا أن يفطرا.(148/8)