كتاب الصلاة - باب المساجد [1]
إن للمساجد في الإسلام أهمية عظيمة، فلذلك حث الإسلام على بنائها وتكريمها وتنظيفها، ومن نظر في المصادر التاريخية فسيجد أن للمساجد تاريخاً عظيماً، فأول بيت وضع للناس هو الكعبة المشرفة، وقد قام بتجديد بنائها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وأُمرا بتطهيرها، وكذلك جدد بناء بيت المقدس داود عليه السلام بأمر من الله، وهكذا بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده، فهذا حال الأنبياء مع المساجد، ولقد كانت المساجد في بداية الإسلام مركزاً للقيادة والعلم، ومنها انطلقت الدعوة، وعن طريقها عُرف الإسلام وانتشر.(52/1)
المساجد وأحكامها(52/2)
الأمر ببناء المساجد في الدور
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب) رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصحح إرساله] .
والمساجد: جمع مسجد، والمسجد لغة: هو موضع السجود، بوزن (مفعِل) بكسر العين، أي: الجيم من الكلمة، واصطلح العلماء على تقسيم المساجد إلى قسمين: مسجد، وجامع، فالجامع ما تقام فيه الجمعة لتجمع المسلمين، والمسجد ما تقام فيه الصلوات الخمس، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) ، وهذا لغة وشرعاً.
والمساجد عند الفقهاء إنما يقصد بها ما أقيم بناؤها للصلوات الخمس، وللمساجد تاريخ طويل عريق يجب على المسلمين العناية به، وهذا الحديث الأول منطلق للتحدث عن المسجد، ثم عن رسالة المسجد.
تقول أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: (أمر -والأمر للوجوب- رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور) .
الدور: جمع دار والدار قد تطلق على محل سكنى الإنسان بأهله، وتطلق على الضواحي والناحية، فتقول: هذه ديار بني فلان.
أي: محل سكناهم، ويقول العلماء: إن المراد ببناء المساجد في الدور يحتمل الأمرين، فيحتمل أن الإنسان يجعل له مسجداً في بيته في داره يصلي فيه النافلة، ويصلي أهله فيه الفرائض ويستدلون بما جاء عن أم ورقة وغيرها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاها، ثم قال: أين تريدين أن أصلي لكم؟) ، وكذلك عتبان بن مالك حين اعتذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأن بينه وبين المسجد وادياً، وقد يتعذر عليه المشي ليلاً، فطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيه ويصلي له في بيته ليتخذ ذلك المكان مسجداً.
وفي هذين الأثرين دلالات واسعة، ومنها اتخاذ المسجد لأهل البيت، وقد يقال: لماذا هذا مع أن البيت كله يكون صالحاً للصلاة، ما عدا الأماكن الممنوعة الصلاة فيها؟ يقول العلماء: إن وجود الإنسان في المسجد العام يجعل عنده إحساساً بأنه يقوم في مكان مخصص للعبادة، فيكون أجمع لحسه وشعوره في أداء صلاته، ونحن نحس من أنفسنا ذلك حينما نكون في البيت ونصلي -مثلاً- النافلة، وحينما نأتي إلى المسجد ونصلي فيه، فإن إحساسنا بصلاتنا في المسجد غير إحساسنا بصلاتنا في بيوتنا، وهكذا لو دخلت غرفة النوم للصلاة فليس الحال كما لو صليت في فناء البيت، بخلاف ما لو صليت في المجلس العام لاستقبال الضيوف؛ لأن لكل مكان إيحاءاته، ومن هنا قالوا: ينبغي أن يخصص الإنسان في بيته مكاناً لصلاته حتى يجد شعوراً بأداء الواجب وإحساساً بوقوفه بين يدي ربه.
ويحتمل أن المراد أن تبنى المساجد في الدور -أي: في الضواحي والناحية من البلد-، لكي يتجمع أهل كل ضاحية في مسجدهم للصلوات الخمس، بخلاف الجمعة، وقد جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه أنه لما مُصِّرتْ الأمصار كتب إلى أبي موسى الأشعري في البصرة، وكتب إلى عمرو بن العاص في مصر، وكتب إلى عماله أن: ابن مساجد للقبائل.
أي: ابن لكل قبيلة في منزلها مسجداً يصلون فيه الصلوات الخمس، وابن مسجداً في المدينة، فإذا كان يوم الجمعة اجتمع الجميع في هذا المسجد -أي: مسجد المدينة-، ولا تتفرقوا.(52/3)
تنظيف المساجد وتطييبها
جاء عنه صلى الله عليه وسلم من الأمر ببناء المساجد، وذلك لأهمية المسجد، على ما سيأتي بيانه إن شاء الله، ثم جعل لهذه المساجد حقوقاً، منها أن تنظف من كل القاذورات، فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (تعرض علي أعمال أمتي، حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد) ، فلو رأيت قذاةً في المسجد، كريش طائر، أو نواة، أو شيئاً مما يستقذر وأخرجته من المسجد كتب لك بذلك أجر، وهذا من حق المسجد علينا؛ لأننا لا نرضى بالقذاة في بيوتنا، فلا ترضى بقذاةً في مجلسك، ولا في غرفة نومك، ولا وفي مطبخك، ولا في غير ذلك، فلابد أن تنظف المساجد من كل قذاة.
قولها: (وأن تطيب) التطييب: هو تفعيل من الطيب، سواءٌ أكان دهناً، أم كان دخاناً من الأخشاب ذات الروائح العطرية، كالعود ونحو ذلك.
وقد كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم رجل اسمه: نعيم المجمر، كما ساق ذلك مالك رحمه الله في الموطأ، وكانت مهمة هذا الرجل أن يأتي بالمجمرة وبالطيب ليطيب المسجد، وكانت هذه سنة وعادة في المسجد النبوي إلى عهد قريب، بل وإلى الآن أحياناً، وكانت هناك مخصصات من العود للمسجد في السنة، ففي يوم الجمعة وليلة الإثنين يؤتى بالمجامر وبالعود، وتطيب نواحي وأروقة المسجد، وكان هذا في عهد قريب في أوائل قيام الدولة السعودية، فكان يأتي الأمير في رمضان، ويصلي التراويح مع الناس، ويأتي معه بالمجامر وبالعود، وبالقهوة للمصلين، وكانوا يطيلون الجلوس بين كل أربع ترويحات.
وتقدم لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في جدار القبلة فحتها بحجر، أو بيده صلى الله عليه وسلم، وعزل إمامهم أن يصلي بهم مرة ثانية لأنه لم يحترم طهارة المسجد ونظافته وتطييبه.
فمن حقوق المساجد أن تنظف وتطيب، وجاءت الآثار بأنه منع أن يبول إنسان على جدار المسجد من الخارج تكريماً لجدار المسجد، مع أنه لن يصل أثر البول إلى الداخل.
وينبغي أن يعتنى بإقامة دورات المياه على أبواب المساجد ليكون ذلك أيسر على المصلين، خاصة الغرباء، ويمكن أن يستدل لذلك -أيضاً- بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم حين حانت صلاة العصر فطلب الناس ماءً فلم يجدوا، فطلب النبي صلى الله عليه وسلم ماء فأتي بشن -وقيل: بقدح وقيل: بغير ذلك- فيه ماء قليل، فوضع كفه صلى الله عليه وسلم فيه ودعا الله، يقول أنس: فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه، فتوضأوا عن آخرهم.
وقد تكررت -أي: في ذلك اليوم- هذه الحادثة -أي: الوضوء عند المسجد- بتكرار العدد الذي كان موجوداً، فبعض الروايات أن العدد: سبعون، وبعضها ثمانون، وبعضها ثلاثمائة، وبعضهم يقول: ولو كنا ألفاً لكفانا.
فطلب الماء عند المسجد ييسر للمصلين مهمة الطهارة، ومهمة أداء الصلاة في المساجد.
ولا يبعد إذا قلنا: إن من التهيئة أن يوفر لرواد المساجد كل ما يمكن أن يوفر لهم الراحة، وييسر لهم الطمأنينة -كما هو الحال الآن بحمد الله- من التبريد، أو التدفئة إذا أمكن ذلك، وكذلك الفرش الميسرة، والمصاحف، والماء الذي يشرب منه العطشان، ولو أمكن أيضاً أن يكون في جوانب المسجد المكتبات أو الكتب، فلو أراد طالب العلم كتاباً أو مصحفاً يكون كل ذلك ممكناً ميسراً.(52/4)
جوانب مهمة في قضية المساجد(52/5)
العناية بالمساجد
والبحث في المساجد يتناولها من عدة جوانب: الجانب الأول: في تاريخها، والجانب الثاني: في مهمتها ورسالتها وآثارها، والجانب الثالث: في فضل بنائها والعناية بها.
أما العناية بها فقد كانت امرأة تقم المسجد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فمرضت، فانقطعت عن عملها، فسأل عنها صلى الله عليه وسلم فقيل: إنها مريضة أو: محتضرة.
قال: إذا ماتت فآذنوني.
فتوفيت ليلاً، فكرهوا أن يشقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل، فجهزوها ودفنوها، فلما أصبح سأل عنها: ما شأنها؟ قالوا: توفيت البارحة ودفناها.
قال: ألم آمركم أن تؤاذنوني؟ قالوا: يا رسول الله! توفيت بالليل، وكرهنا أن نشق عليك.
قال: دلوني على قبرها فذهب إلى البقيع ووقف على قبرها وصلى عليها، فلماذا كانت تلك الصلاة؟! ولماذا كانت تلك العناية؟! إنها لعنايتها بالمسجد بنظافته، فإنها كانت تقمه، أي: تجمع القمامة منه.(52/6)
تاريخ المساجد العريق
أما تاريخ المسجد فهو تاريخ عريق، وكل من كتب عن المساجد فإنه يبدأ بمساجد بلده، فأهل القاهرة يذكرون مساجد: عمرو بن العاص، وأحمد بن طولون، الشافعي، والليث وغيرهم، وأهل المغرب يذكرون جامع قرطبة، وجامع الزيتونة وغيرها وهكذا، ولكن المنصفين منهم إنما يكتبون عن المساجد الثلاثة أولاً، كما فعل الزركشي في كتابه (إعلام الساجد بأحكام المساجد) ، فذكر المشهور منها، وأفرد المساجد الثلاثة بأبوب مستقلة، أي: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، والمسجد النبوي الشريف.
والمتأمل في تاريخ المساجد -كما أشرت- يجد أن المسجد هو أول حركة عمرانية على وجه الأرض، وبعض الناس يقول: أول مسجد.
ونقول: أول عمران؛ لقوله سبحانه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} [آل عمران:96] ، وهو البيت الحرام كما نعلم، وأما الذي وضعه فقيل: الملائكة وضعته لآدم، وقيل غير ذلك، والذي بأيدينا من كتاب الله هو التاريخ الإبراهيمي -إن صحت هذه التسمية-، كما بين سبحانه بقوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة:127] ، فإبراهيم وإسماعيل رفعا قواعد البيت، فهي موجودة قبل أن يرفعاها، ومهمتهما تجديد البناء ورفعه، كما جاء في قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم:37] ، فكان وادياً غير ذي زرع، وغير ذي ماء، وليس فيه ساكن، ولم يكن البيت موجوداً في ذلك الوقت، ولكنه كان أكمة، ثم تولى الله سبحانه وتعالى تعيين مكانه لإبراهيم، كما قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج:26] .
وكذلك في الإسلام كان المسجد هو أول ما يكون في المدن، وإذا أريد إنشاء مدينة جديدة كان المسجد هو قصبتها، وهو نقطة مركزها، كما هو الحال في المسجد النبوي الشريف، وفي غيره في التاريخ الإسلامي.
وامتازت المساجد الثلاثة بأن الله سبحانه هو الذي اختار أماكنها، وكذلك بالذين قاموا ببنائها ابتداءً؛ فإنهم رسل الله، ومن أجل ذلك كانت الصلاة فيها مضاعفة، ما بين خمسمائة وألف ومائة ألف، باختلاف المساجد الثلاثة.(52/7)
تجديد إبراهيم لبناء الكعبة
قلنا: إن الله هو الذي أرى إبراهيم مكان البيت وبوأه له، ولما أراد الله بناء البيت -أي: الكعبة- وأمر إبراهيم بذلك قال: يا رب! وأين أبني؟ قال: حيث ترى السحاب فخط عليها فجاءت سحابة وقت الزوال على سمك الكعبة طولاً وعرضاً، فخط على ظلها، ثم بدأ بالحفر حتى وصل إلى القواعد، وهناك رفع القواعد، وفي تحديد شخص الذي وضع تلك القواعد ابتداءً تذكر كتب التاريخ أخباراً عديدة، ويهمنا الخبر القرآني في هذا التاريخ الإبراهيمي.
وهنا لمحة قرآنية فيما يتعلق بإقامة المسجد وبنائه، وما يتعلق بتنظيفه وتطييبه، وأن العناية بالصيانة أشد من العناية بالبناية، فنجد في البناية قوله سبحانه: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلَُ} [البقرة:127] ، فأسند رفع القواعد إلى إبراهيم، وجاء ذكر إسماعيل كالمساعد لإبراهيم، وأما في العناية والصيانة فنجد قوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} [البقرة:125] ، فإسناد البناية ابتداءً كان إلى إبراهيم، فكأن إبراهيم مكلفاً بها، وتكليف إسماعيل يأتي بعد تكليف إبراهيم، أما في الصيانة والتطهير والعناية فتسند ابتداءً لإبراهيم وإسماعيل، فقال تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125] .
وهكذا قام إبراهيم عليه السلام بما أمره الله ومعه إسماعيل، ونعلم جميعاً المعجزة الأبدية فيما كان من شأن إبراهيم وإسماعيل، فهما رجلان -فقط- يقومان ببناء بيت ارتفاعه نحو عشرين ذراعاً، فيأتي الحجر ويكون بمثابة المصعد الذي يضع عليه إسماعيل الحجر، ويرتفع الحجر بحجر البناء إلى أن تم هذا البناء، ويبقى في مقام إبراهيم آية.
يقول الفخر الرازي: إن الآية في مقام إبراهيم الذي كان يقوم عليه في البناء معجزة أبدية؛ لأن قدماه عليه الصلاة والسلام -حينما كان يقوم عليه- غاصتا في الحجر فيا للعجب! حجر أصم صلب تغوص فيه قدمان من دم ولحم فسمى ذلك آية؛ لأن الحجر فيه آيات، وليست آية واحدة، كما قال تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} [آل عمران:97] ، فما هي الآيات؟ قال: الحجر الأصم؛ لأن منه جزءاً -وهو موضع القدمين- غاصت القدمان فيه، وبقية أجزاء الحجر ما زالت على صلابتها وقوتها، فليونة الجزء الذي تحت قدمه آية، وبقاء الجزء الآخر على صلابته آية، وفي عمله في رفع حجارة البناء آية.
فبناه إبراهيم وأسماعيل وعناية الله معهما بما أوحى إلى هذا الحجر، وبما سخر وأعطى من قوة حركة لا يعلمها إلا الله، ولا يهبها إلا هو سبحانه، وهكذا كان بناء البيت وأول تاريخه، فهو أول عمران في الأرض، ثم جدده إبراهيم عليه السلام.(52/8)
تاريخ بيت المقدس وتجديد بنائه
ويلي المسجد الحرام في الوجود التاريخي بيت المقدس، فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول المساجد فذكر أمر البيت، قيل: ثم ماذا؟ قال: بيت المقدس؟ قيل: كم بينهما؟ قال: أربعون عاماً.
فبعضهم يأتي بالتاريخ، ويقول: إن سليمان وداود كانا بعد إبراهيم عليهم السلام بزمن طويل أكثر من أربعين عاماً! ويهمنا أنه كان بعد البيت الحرام بأربعين عاماً كما أخبر صلى الله عليه وسلم، أما داود وسليمان فهما مجددان أيضاً، وقد حدد الله مكان بيت المقدس لنبي الله داود حينما أوحى إليه أن ابنِ لي بيتاً.
قال: وأين -يا رب- أبنيه؟ قال: حيث ترى الفارس المعلم شاهراً سيفه فرأى فارساً على فرسه شاهراً سيفه، في مكان لرجل من بني إسرائيل، فاستدعاه وطلب منه أن يبيعه المكان، فقدم إليه مائة ألف، فقال: بعتك.
ثم قال الرجل: يا نبي الله! أستنصحك -والدين النصيحة-: الثمن خير أم الأرض؟ قال: الأرض خير من الثمن.
قال: أقلني بيعي.
قال: اشتري من جديد.
قال: مائتي ألف.
قال: بعتك.
ثم قال: يا نبي الله! أستنصحك: الثمن خير أم الأرض؟ قال: بل الأرض.
قال: أقلني وتكرر ذلك خمس مرات، ووصلت المساومة إلى خمسمائة ألف، وبعد الخامسة استنصحه أيضاً، واستقاله فأقاله، ثم قال له نبي الله داود: اختر أنت ما تريد، وسمِّ ما شئت أدفعه إليك.
قال: أو تفعل؟ قال: نعم.
قال: تملأه لي نعماً إبلاً وبقراً وغنماً.
قال: أفعل.
ونادى في بني إسرائيل أن يملأوه له كما قال، فعدوا على الرجل ليلاً وأرادوا أن يقتلوه ويأخذوا الأرض، فأصبح الرجل وذهب إلى نبي الله داود، فقال: يا رسول الله! غصباً أم شراء ورضىً؟ قال: بل شراءً ورضىً.
قال: إن بني إسرائيل أرادوا قتلي وأخذي.
قال: لا.
فعرف مكان المسجد الذي أراده الله، وبنى بيت المقدس حيث رأى الفارس المعلم شاهراً سيفه.
فكان تحديد بيت المقدس من الله، وكان بناؤه على يد نبي من أنبياء الله.(52/9)
بناء المسجد النبوي واختيار موقعه
وأما ثالث المساجد فحين قدم صلى الله عليه وسلم مهاجراً نزل بقباء، وليست قباء هي محل النزول، وإنما كانت بمثابة المهلة، أو الاستقبال، أو التروي والتأني، ثم أخذ في طريقه إلى المدينة، وكان الطريق من بطن الوادي، وليس الطريق الموجود حالياً؛ لأن هذا أنشئ قريباً، وكانت قبائل المدينة من الأوس والخزرج تمتد من قباء إلى جهة الغابة، إلى رومة -بئر عثمان رضي الله تعالى عنه، فما مر بحي من الأحياء بين قباء والمدينة إلا كان أهل ذلك الحي في أهبة الاستعداد على الطريق، فيأخذون بزمام راحلته ويقولون: هلم إلينا يا رسول الله، هلم انزل عندنا، هلم إلى العدد والمنعة، والعدد والمنعة هما سر بيعة العقبة الثانية، وفيها أنه يأتي إليهم في المدينة فيحمونه ويمنعونه مما يحمون ويمنعون منه نساءهم وأبناءهم، فقولهم: هلم إلى العدد والمنعة أي: إلى البيعة التي بايعناك عليها، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن يجيبهم برفق ويقول: خلوا سبيلها؛ فإنها مأمورة.
وكانت كل قبيلة تقف هذا الموقف الشريف الكريم، ويجيبها بهذا الجواب اللين الرحيم، إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه في مكان المسجد أو بجواره، وبركت، فلم ينزل عنها أول الأمر، ثم قامت -وهو عليها- فدارت واستدارت والتفتت، ثم رجعت إلى المكان الأول وأناخت فيه، ومدت عنقها وحركت صدرها بمعنى أنها لن تقوم، وأن هذا هو المكان المعين، فقال صلى الله عليه وسلم: (هو المنزل إن شاء الله) ، ونزل عنها، وكان هناك بيت أبي أيوب فنزل فيه.
والكلام عن هذا الذي فعله صلى الله عليه وسلم في طريقة نزوله، حيث أخبر أن الناقة مأمورة، فإنه نبي يوحى إليه، وجاء بدين إلى وطن جديد، وإلى أمة كانت مختلفة فيما بينها، فترك أمره إلى ناقة عجماء وقال: إنها مأمورة، فكيف يفعل هذا؟ والجواب: أن هذا هو الحكمة النبوية؛ فإنه قدم المدينة وكان الأوس والخزرج في المدينة كفرسي رهان، وقد استمرت الحرب بينهما مائة سنة، وما وضعت أوزارها إلا قبل مجيئه صلى الله عليه وسلم بخمس سنوات فقط، كما تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: كان الحيان متنافسين على الخير، وكانا متنافسين -قبل ذلك- على الشر في القتال.
فهداهم الله إلى الإسلام، واتحدوا على دين واحد، فجاء صلى الله عليه وسلم إليهم بناء على بيعتهم وعلى ما تعاهدوا عليه، فلو أن الأمر كان له والاختيار من عنده وجاء ونزل عليهم فإما أن يكون نزوله على الأوس فهو على حساب الخزرج، أو أن يكون نزوله على الخزرج فيكون على حساب الأوس، ومن نزل عندهم سيعتزون بذلك ويفتخرون به على غيرهم، وتكون الحزازة في نفوس الآخرين والحسرة على ما فاتهم، وناله غيرهم، وهم في المنافسة سواء، وحينئذ تكون النفوس غير راضية أو غير طيبة، فيجد الشيطان مدخلاً لمنافسات أخرى، فإذا ما ترك أمره لغيره، لاسيما لناقة عجماء، وقال: إنها مأمورة فقد سد على الشيطان باب شر؛ لأن الذي يأمر الحيوان هو الخالق سبحانه، فمضت حيث أراد الله، ونزلت حيث أمرها الله.
فإذا نزلت عند هذا الحي من العرب أو ذاك، سواءٌ أكانوا أوساً أم خزرجاً فهل يعترض أحد أو يجد في نفسه من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً؟! والجواب: لأنه لم يختر طريقاً على طريق، وإنما الناقة المأمورة، والآمر لها هو الله.
فبهذه الطريقة قضي على المنافسة، وقضي على المشاحة، وخرج صلى الله عليه وسلم من ذلك الموقف بحكمة.
وأما الحي الذي نزل فيه، فقد اجتمعوا عليه، وكل أهل بيت يقولون: عندنا يا رسول الله! وكل يقول: هذا بيتي، هذا بيتي.
فعند من ينزل؟ وعلى حساب من؟ والواقع أنه هنا أيضاً لم يكن له اختيار، فقد نظر إلى ناقته فوجد الناقة عارية عن الرحل، فسأل: أين رحلي؟ قالوا: احتمله أبو أيوب إلى بيته.
فقال: المرء مع رحله فانتهت أيضاً مشكلة البيوت في الحي الواحد.
ونزل صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب، وكانت أمام البيت ساحة ونخيل وماء، فقال: لمن هذا النخيل؟ قالوا: لـ سعد وسهيل يتيمان عند أبي عتبان أو عند غيره، فاستدعاه فقال: ثامنيِّ على هذه الأرض.
قال: يا رسول الله! إنها لأيتام في حجري، وهي لك بلا ثمن، وأنا أعوضهم عنها أرضاً خيراً منها ثمناً.
قال: لابد أن تثامنني عليها.
وتمت المثامنة بعشرين ديناراً، ودفعها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فشرع صلى الله عليه وسلم -حالاً في قطع- النخيل، وتسوية الأرض، وإقامة المسجد، فأقيم لأول مرة على جذوع من نخل، ويمكن أن يُعرف حد المسجد الأول بالحد الموجود الآن، فسعى خلف الروضة أعمدة فيها خطوط مستطيلة مذهبة، وفي وسطها مثل الورد أو الزهرة، وتمتد بعد المنبر إلى الغرب سارية واحدة إلى الحجرة الشريفة، فهذا هو حد المسجد النبوي الأول.
ثم بعد ذلك -بعد العودة من خيبر، في السنة السابعة- جدد النبي صلى الله عليه وسلم المسجد بزيادة أخرى، ثم في عهد عمر رضي الله تعالى عنه، ثم عثمان، وهكذا إلى أن وصل المسجد إلى ما هو عليه الآن.
وأردنا بهذه المقدمة أن نبين أن الله سبحانه وتعالى أولى المساجد عناية، وأن أول بيت وضع للناس هو البيت الحرام أو الكعبة المشرفة، وبتحديد وبيان من الله لإبراهيم، وبناه الخليل عليه السلام مع ابنه إسماعيل، ثم بيت المقدس أيضاً بعناية من الله، وبناه نبي الله داود، ثم المسجد النبوي الشريف، وبناه وشارك في بنائه صلى الله عليه وسلم، ثم تسابق الملوك والسلاطين في أن ينال الواحد منهم شرف عمارة أو تجهيز أو إصلاح أو غير ذلك في المسجد النبوي.
أما مهمة المساجد في الإسلام فهي عظيمة، ويتضح لنا ذلك من مهمة أهم المساجد في الإسلام، أو أول مسجد بناه الرسول صلى الله عليه وسلم، والأولية هنا هي الأحقية، أما الأولوية الزمنية فقطعاً كانت لمسجد قباء، والأولية الأحقية لهذا المسجد النبوي الشريف، وقد ورد في فضل مسجد قباء: (من تطهر في بيته، وأتى مسجد قباء وصلى صلاة -أو: وصلى ركعتين- كانت له كأجر عمرة) ، وخص المسجد النبوي بحديث: (صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة -أو خير من ألف صلاة- إلا في المسجد الحرام) ، فهو المعبد الذي تتضاعف فيه الصلاة إلى ألف صلاة، والألف صلاة تعدل صلاة عدة شهور، وإن شئت فاقسم الألف على خمسة، ثم اقسمها على ثلاثين، لتعرف كم تعدل الصلاة الواحدة من شهور.
والذي يهمنا أن المضاعفة ذاتية وليست عددية، بمعنى أنه لو أن إنساناً عليه صلاتان فائتتان، وصلى صلاة الفريضة في المسجد النبوي لصلاة يومه، وكانت تعدل ألف صلاة فإنها لا تسقط الفريضتين اللتين في ذمته لله؛ لأن الصلاة التي وصلت إلى الألف إنما هو في ذاتها، وفي ثوابها، وفي نورها، وفي بركتها، أما إجزاؤها عن صلوات أخرى فلا.(52/10)
توسعة المسجد النبوي ومضاعفة الأجر فيها كبقية المسجد
هنا بحث للمتقدمين والمتأخرين في مسألة مهمة جداً، وهي قديمة متجددة، فقوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة) كان قبل الزيادات التي زادها غيره صلى الله عليه وسلم من بعده، وأول الزيادات زيادة عمر، ولها قصة طويلة.
فإنه لما أراد عمر أن يزيد في المسجد ندب الناس، وقال: لقد ضاق المسجد بالمصلين، ونريد أن نوسع في المسجد للناس، فجاء إلى العباس، وكانت بيوت العباس في جهة الغرب، وكذلك خالد بن الوليد، وكانت ديار آل عمر في القبلة، وبقايا حجرة حفصة رضي الله تعالى عنها مقابلة لحجرة عائشة، وكانتا تتبادلان الحديث من كوة -أي: من طاقة- في الجدار، وتتناولان الحاجة بأيديهما لقرب ما بينهما.
ولما توفي عمر رضي الله عنه اشترى أمير المدينة الأول لبني أمية دار عمر، وجعلها سكناً له، ثم رأى المؤذن ينظر إلى بيته فترك السكنى، وجعلها دار الإمارة، ثم جعلها دار القضاء، وكانت في محل المحكمة الأولى بجانب مكتبة المدينة، وهي المكتبة التي كانت في القبلة.
فأول من زاد في المسجد عمر رضي الله تعالى عنه، فزاد من القبلة ومن الغرب، ولما أراد الزيادة من الغرب كانت هناك دور للعباس، فأتاه وقال: نريد بيتك نوسع به المسجد.
قال: لا.
وقال: لابد؛ لأن المسجد فيه الحجرات، ولا يمكن أن نمسها، ولابد أن نتوسع إلى الغرب.
فامتنع عليه، وقال: ألأنك أمير المؤمنين تغصبني؟! قال: لا أغصبك، واختر من نحتكم إليه.
فاختار أُبي بن كعب، فذهبا إليه، فقال: هلم يا أمير المؤمنين.
قال: ما جئتك أميراً للمؤمنين، جئتك متقاضياً مع العباس، فقال: ما أمرك؟ قال: كذا وكذا وكذا.
وذكر له أنه قال للعباس: أعطني بيتك، أقطعك أرضاً أو أبني لك بيتاً، أو أعطيك من بيت المال ما يرضيك.
فامتنع العباس عن كل ذلك، فقال له أُبي: ألا أخبرك؟ وذكر له قصة داود عليه السلام في بناء بيت المقدس ومساومته للرجل، فقال عمر: والله ما أردته لنفسي، وإنما أردته للمسلمين، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر التوسعة ما فكرت في توسعته.
فلما خرجوا قال له العباس: يا عمر! أنتهيت؟ قال: نعم.
قال: ألك عندي شيء؟ قال: ليس لي عندك شيء.
قال: البيت لوجه الله، وأدخله عمر ووسع فيه.
وحينما وسع عمر المسجد وأدخل فيه دار العباس، وجزءاً من جهة القبلة في حدود بيت عمر، رأى عمر بعض الناس يتجنب الصلاة في تلك الزيادة، فوقف خطيباً وقال: إني لأرى كذا وكذا وكذا، ووالله إنه لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: الشامل لتلك الزيادة-، وهي ضمن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: (صلاة في مسجدي خير من ألف صلاة) ، إنه لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو امتد إلى ذي الحليفة -وفي بعض الروايات: إلى صنعاء-، وليس بمعقول أن المسجد سيمتد إلى صنعاء، ولكن من باب المبالغة والتأكيد.
ومن هنا علمنا أن كل زيادة أضيفت إلى المسجد النبوي في أي زمان كان فإن المسجد النبوي يتناولها، وفضيلة المسجد من أول ما بني تشملها، وهي الأجر بألف صلاة.(52/11)
حال المساجد في صدر الإسلام
المسجد معبد تتضاعف فيه الصلاة، والمضاعفة شاملة لكل الزيادات، وكان المعهد الأول والجامعة الأولى في كل علوم الدين والدنيا، وكان -كما يقول بعض الكتاب- المدرس الأول هو جبريل عليه السلام، فالآن في نظم الجامعات، كل مادة لها مدرس أول صاحب كرسي، وهو المسئول عن تلك المادة، فمادة الفقه أو مادة الحديث التوحيد أو الأصول يكون لها عدة أشخاص يدرسون المادة لكثرة الفصول والطلاب، ولابد في كل مادة من مدرس أول، مسئول عنها، فإذا اختلف مدرسوها في جزئية يكون هو المرجع فيها.
فيقول بعض الكتاب: كان المدرس الأول في الجامعة المحمدية جبريل عليه السلام، وكان صلى الله عليه وسلم يتلقى عن جبريل، وجبريل يتلقى عن رب العالمين، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تلقى عنهم التابعون، وانتشر الصحابة في العالم، فانتشر العلم من المسجد النبوي الشريف، وفي مكة كانت مدرسة ابن عباس، وبعده تلاميذه كـ عطاء وغيره، وكان في الشام الأوزاعي وغيره، وفي مصر الليث بن سعد، وفي البصرة الحسن البصري، وفي العالم كله انتشر العلم الإسلامي والديني بما في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومبدأ انتشاره من هذه الجامعة الأولى.
وكان المسجد -أيضاً- داراً للقضاء، يقضي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده، وكان كذلك بيت مال المسلمين، فحينما جاء مال البحرين وضع في المسجد، وقام عليه أبو هريرة حارساً، وحصلت له قصته مع الجني الذي كان يأتي بالليل ليسرق منه، وأخذه مرتين وأمسكه، واعتذر إليه، فأطلقه، وفي المرة الثالثة أقسم ليذهبن به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يعلم أنه جني، فقال: دعني فإني أعلمك كلمات ينفعك الله بها.
ثم قال له: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي؛ فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح.
فتركه، فلما غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد المرة الثالثة قال: (ما فعل أسيرك البارحة؟ فأخبره أبو هريرة فقال: صدقك وهو كذوب، ثم قال: أتدري من تخاطب منذ ثلاث يا أبا هريرة؟ فقال: لا.
قال: ذاك شيطان) .
والكاذب قد يصدق، ثم بدأ صلى الله عليه وسلم يقسم ذلك المال.
ويقول بعض الكتاب أيضاً: لقد تولى المسجد مهمة المستشفى العسكري، وذلك أن سعداً رضي الله عنه لما أصيب بسهم في الخندق نصبت له خيمة في هذا المسجد ليكون قريباً فيعوده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سأل ربه: (إن كنت أبقيت حرباً لقريش فأبقني إليها، وإن لم يكن ذلك فاجعل إصابتي شهادة، وأن تقر عيني في بني قريظة) ، فلما نقض بنو قريظة العهد في الخندق، وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: ننزل على حكم سعد، فلما جاء سعد حملوه من المسجد إلى محلهم هناك، فقال: حكمي على من كان هاهنا؟ قالوا: نعم، وحكمي على من كان هنا؟ قالوا: نعم.
والرسول صلى الله عليه وسلم في إحدى الجهتين، قال: كلكم رضيتم بما أحكم به؟ قال الجميع: نعم.
قال: حكمت فيهم.
بأن تقتل مقاتلتهم، وتسبى نساؤهم، وذراريهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع طباق، -أي: السماوات السبع-) ، ثم رجع فانتقض عليه جرحه فمات رضي الله تعالى عنه.
وكان المسجد -أيضاً- موضعاً للفتوى، وكان فيه عدة مهام يؤديها، وكذلك المساجد التي أنشئت فيما بعد، وأولى تلك المساجد الكبيرة أو الجوامع كانت في مصر، فكان مسجد عمرو بن العاص، جامعة ترتب فيه الدروس والعلوم، وانتشر العلم من تلك الجوامع، وكذلك في قرطبة، وكذلك في تونس، وكانت تبنى المساجد على أنها مدارس، ولطلاب العلم فيها حظ كبير.
إن للمسجد في الإسلام دوراً عظيماً، ورسالته عظيمة، فإمامه يكون صاحب علم، ويكون مفتياً للحي، ويمكن أن ينظم شئون المنطقة، ويمكن أن يصلح بين من تخاصم فيها، ويصلح ذات البين، ويمكن أن يرجعوا إليه فيما نابهم، وكذلك يعلم الجاهل.
إلخ.
وكانت المساجد -أيضاً- تشتمل على الكتاتيب لتحفيظ الصغار القرآن الكريم.
ولعل هذا القدر يعطينا أهمية المسجد في الإسلام، وما ينبغي علينا من العناية برسالته، سواءٌ أكان للجمعة، أم كان للقاءات أخرى، أم كان للتعليم، أم كان للإصلاح بين الناس، أم كان لتلاقي أفراد المجتمع، وذلك بتلاقي أفراد كل حي في مسجدهم، فيتعرف بعضهم على أحوال بعض.
ومن هنا نعلم أهمية هذا الحديث: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهذا أمر إلزام- أن تبنى المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب) ، وذلك لأهميتها ولعظم رسالتها(52/12)
فضل طلب العلم في المساجد، وفضله في المسجد النبوي
ليعلم الجميع أن طلب العلم في المساجد محاط بالبركة؛ لأن الإنسان إذا جلس في بيت من بيوت الله، وتذكر عظمة المكان، وسمع الشيخ يقول: قال الله قال رسوله صلى الله عليه وسلم.
كان على استعداد أكثر لاستقبال المعلومات، وقد خص النبي صلى الله عليه وسلم المسجد النبوي الشريف بطلب العلم، فقال فيه: (من راح إلى مسجدي هذا لعلم يُعلِّمُه أو يتعلمه كان كمن غزا في سبيل الله) فخص المسجد النبوي الشريف؛ لأن المسجد النبوي كان مقراً لقيادة الإسلام، فكانت تعقد فيه الألوية للسرايا، وكانت تعقد فيه ألوية الجيوش، وكان يعقد فيه عهد الصلح.
وقد نص القرآن الكريم على أن طلب العلم قسيم للجهاد في سبيل الله، فقال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة:122] ، فالذين ينفرون يجب أن ينقسموا قسمين: قسم في سبيل الله للقتال، وقسم لحلق العلم والتعلم لينذروا قومهم، وليعلموا قومهم، ومن هنا أخبر صلى الله عليه وسلم عن مسجده -حيث كان مقراً للقيادة وتوجيه الجيوش وعقد الصلح- بأن طلب العلم فيه كالجهاد في سبيل الله، ولقد جربنا ولمسنا مدى البركة في هذا المسجد، سواءٌ أكان في الطلب أم في غيره، والله أسأل أن يعيد المساجد إلى رسالتها، وأن يعيد المسلمين إلى بيوت ربهم.
وبالله تعالى التوفيق(52/13)
كتاب الصلاة - باب المساجد [2]
إن الإسلام قائم على أساس إخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى، ولما كان أهل الكتاب قد انحرفوا في هذا الباب فبنوا المساجد على قبور الأنبياء والصالحين، وأخل كثير منهم بمبدأ الإخلاص، شدد الإسلام في ذلك خشية على أتباعه من أن يقعوا فيما وقع فيه من قبلهم، فشدد في تحريم اتخاذ القبور مساجد، ولعن فاعل ذلك، وحذر منه أشد التحذير، وكل ذلك صيانة لجناب التوحيد، فلا يجتمع في الإسلام قبر ومسجد أبداً، وإن وجد ذلك فلابد من هدم أحدهما، فيهدم الطارئ ويكون الحكم للسابق.(53/1)
تابع أحكام المساجد(53/2)
حكم اتخاذ القبور مساجد
قال رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) متفق عليه، وزاد مسلم: (والنصارى) .
ولهما من حديث عائشة: (كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً) ، وفيه: (أولئك شرار الخلق) ] .
أن ذكر المؤلف رحمه الله الأمر ببناء المساجد في الدور ذكر بعض المخالفات المنكرة المتعلقة بتشييد المساجد، ثم ذكر بعد ذلك بعض الأحكام التي تتعلق بحرمة المسجد.
ثم جاء بعد ذلك بالتحذير مما كان من الأمم قبلنا، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ، وزاد مسلم: (والنصارى) .
الطرد، وفي هذا الأمر ينظر في الفعل واستحقاق فاعله اللعن، وينظر في لعن المعين كيهودي أو نصراني وهو ما زال على قيد الحياة.
قالوا: اللعن لا يتأتى إلا إجمالاً، فتقول: لعن الله الكافرين، والمشركين، واليهود، والنصارى، والمجرمين، والظالمين، والطغاة، أما الشخص المعين فلا يجوز لك أن تلعنه، ولو كان كافراً مشهراً كفره، أو ظالماً معلناً ظلمه؛ لأن اللعن بالوصف يعم، ولا يتقيد بشخص، فما دام الوصف موجوداً توجه إليه، أما الشخص بذاته فقد يتوب الله عليه، وأنت قد عينته فألحقت به اللعنة، وقد يتوب عن موجبها، فتكون وصمته بذلك، والله سبحانه وتعالى قد تاب عليه مما كان فيه.
أما إذا مات على ذلك الحال -على الكفر خاصة- فهو كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48] ، فمن مات على الإسلام -مهما كانت حالته، من تقصير أو عدم أداء لواجب- لا يجوز لعنه؛ لأن أمره مفوض إلى الله وما دام أمره لله، فلا نتدخل نحن في ذلك، ولا نحكم عليه بخير ولا بشر، نعم نحكم بأنه كان على وصف كذا، أما مصيره في الآخرة فليس لنا ذلك.
فهنا اللعن على جملة اليهود، وعلى جملة النصارى جاء مسبباً، بقوله صلى الله عليه وسلم: (اتخذوا -أي: ابتدعوا، وابتكروا، وفعلوا- قبور أنبيائهم مساجد -وتأتي التتمة- وصالحيهم) .(53/3)
إشكال وجواب
وهنا إشكال يرد على قوله: (اتخذوا قبور أنبيائهم) ، فالأنبياء: جمع نبي، أما اليهود فقد جاءتهم رسل وأنبياء، ولكنهم كانوا يكذبونهم ويكفرون بهم ويقتلونهم، كما قال تعالى:: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة:87] يعني: أن اليهود أتتهم رسل عديدة، أما النصارى فلم يأتهم إلا رسول واحد، وهو عيسى عليه السلام، فما هو التوجيه لقوله صلى الله عليه وسلم: (اتخذوا قبور أنبيائهم) بالجمع، وكيف يصدق على النصارى؟ قيل: هذا اللفظ صادق على واحد لا بعينه، فهو دائر بينهما، وهو يصدق على اليهود، فيكفي ذلك.
وقيل: إن مجموع أنبياء اليهود، أو أنبياء بني إسرائيل يعتبرون أنبياءً للنصارى؛ لأن النصارى مكلفون بالإيمان بالنبي الذي أتاهم -وهو عيسى عليه السلام- وبالأنبياء الذين جاؤوا من قبل، فأنبياء بني إسرائيل يعتبرون أنبياءً للنصارى، كما أن الإسلام أمر المسلم أن يعلن إيمانه بجميع الرسل، كما قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285] ، ولهذا كان الحكم في الإسلام أن من كفر برسول واحد فكأنما كفر بجميع الرسل؛ لأن أمرهم واحد، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (نحن معاشر الأنبياء آبناء علات، ديننا واحد) ، والعلات: جمع علة، وهي الزوجة بعد الزوجة، أي: إن الرجل يكون تحته عدة نسوة، وتأتي كل امرأة بولد، فهؤلاء الأولاد أبناء علات والأب واحد، وهذا التشبيه منه صلى الله عليه وسلم معناه أن الرسل وإن تعددوا في أممهم فإن مرجعهم واحد، وهو الوحي من الله واصطفاء الله إياهم، وهم رسل الله سبحانه جل جلاله.
فقالوا في قوله:: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم) الجمع في الأنبياء يعم اليهود بالواقع والمطابقة، ويشمل النصارى بالعقيدة واللازم؛ لأنه يلزمهم الإيمان بجميع أنبياء بني إسرائيل، وجاء الأمر إلينا، وألزمنا بالإيمان بجميع رسل الله من علمنا ومن لم نعلم، قال تعالى عن الأنبياء: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78] ، فنحن نؤمن بكل رسول أرسله الله سبحانه وتعالى، ولو لم نعلمه.
قوله: (اتخذوا قبور) القبور: جمع قبر.
قوله: (مساجد) معناها: أن القبر قد وجد، ثم جاءوا إلى هذا القبر واتخذوه مسجداً، وعلى هذا يقول العلماء -في حكم المسجد مع القبر-: الحكم للأسبق، فاليهود لعنوا لأنهم جاءوا إلى القبور واتخذوها مساجد، أما لو كان المسجد موجوداً، ثم جيء إلى المسجد واتخذ فيه القبر، فيكون المسجد هو الأسبق، والحق له، ولا حق للقبر.(53/4)
الغلو في تعظيم الصالحين طريق إلى الشرك
قالوا: ما اتخذ اليهود قبور أنبيائهم إلا تعظيماً لهم، وتعظيم الأنبياء باتخاذ القبور مساجد سيؤدي إلى الانحراف في العقيدة، وقالوا: إن أول ما أشرك بالله إنما كان بسبب الغلو في الصالحين، كما حصل في يغوث ويعوق ونسر، وكانوا رجالاً صالحين، فجاء الشيطان إلى أبناء أولئك الناس، وقال لهم: إن آباءكم وأجدادكم كانوا رجالاً صالحين، ولهم عليكم حق، فعليكم أن تدعوا لهم، فكانوا يدعون لهم، ثم جاء إلى الجيل الثاني وقال: لا يكفي هذا الدعاء، إنما عليكم أن تشركوهم في العبادة.
ففعلوا، فقال: إنكم لم تفعلوا مثل من كان قبلكم.
فقالوا: كيف نفعل؟ قال: مثلوا لهم تماثيل واجعلوها في مساجدكم، حتى إذا رأيتموهم نشطتم في العبادة وعبدتم الله كما كانوا يعبدونه، ففعلوا على حسن النية، وتركهم، حتى جاء جيل ثالث فقال لهم: أنتم عاصون لآبائكم؛ لأن آباءكم ما صوروا هذه التماثيل للناس الصالحين في المسجد إلا ليجعلوا لها جزءاً من صلاتهم، فعليكم أن تجعلوا لها جزءاً من الصلاة، فجعلوا لها جزءاً من الصلاة مع صلاتهم لله سبحانه، ثم تركهم على هذا الشرك الأولى، وهو أول افتراقهم عن الصراط السوي، فجاء بعد ذلك وقال للأجيال بعدهم: أنتم تكلفون أنفسكم شططاً، فلماذا تتكلفون وتأتون إلى المعابد؟! خذوا هذه التماثيل واجعلوها في بيوتكم، وكل قبيلة تجعل لها تمثالاً، وكل أسرة تجعل لها تمثالاً، وتؤدي حقها في بيتها، ولا حاجة إلى المجيء هنا، فاتخذت القبائل الأصنام، واتخذت الأسر الأصنام، وانصرفت العبادة كلها للأصنام من دون الله، أي أن الشيطان صبر في دعوته على أربعة أجيال في أربعة قرون، وأخذ يحولهم ويزحزهم حتى ذهبوا عن الطريق السوي.
فمن هنا كان اتخاذ القبور مساجد ذريعة إلى الشرك والوقوع فيه، ومن هنا نعلم سبب النهي عن الصلاة في المقابر، وتقدم لنا أن المقابر من المواطن السبعة التي نهي عن الصلاة فيها، اللهم إلا صلاة الجنازة؛ لأن صلاة الجنازة ليس فيها ركوع، وليس فيها سجود، أما الصلوات الخمس أو النوافل فإنك إذا جئت عند القبر، واستقبلته وركعت وسجدت في أصله، فما كان للمشاهد إلا أن يقول: إنه يركع ويسجد للذي أمامه، فتكون صورة شرك، ولو لم يكن الشخص يقصد الشرك، كما نهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها؛ لأنها تكون حينئذ بين قرني شيطان، فإن الشيطان عند شروقها وعند غروبها يأتي ويستقبلها بقرنيه، وهناك عباد للشمس يسجدون لها عند الشروق، ويسجدون لها عند الغروب، فيُرى الشيطان وقد قرن قرنيه بالشمس، فيوهم أتباعه وجنوده أن أولئك الذين يسجدون للشمس إنما يسجدون له هو، وهذا تدليس منه وإيهام.
ويتفق العلماء على أن النهي في هذه المسائل إنما هو لسد الذريعة، ولحماية جناب التوحيد، كما يقول السلف رحمهم الله.(53/5)
حكم الصلاة في المساجد التي توجد فيها قبور
بقي عندنا حكم ما لو جئنا إلى مسجد ووجدنا فيه قبراً.
في هذه الحالة: إذا وجد القبر أولاً ثم بني عليه المسجد فلا تصح الصلاة فيه.
أما إذا كان المسجد أولاً، وجاء صاحب المسجد وأوصى أن يدفن فيه، أو دفن فيه أباه، أو دفن شخصاً عزيزاً عليه، فالمسجد سابق، والدفن فيه لاحق، ثم ينظر إلى هذا القبر الذي دخل على المسجد أين موقعه من المصلين؟ فإن كان في قبلة المصلين مباشرة فلا تصح الصلاة إليه، وإن كان في مؤخرة المسجد والسجود بعيد عنه فالصلاة صحيحة، وإن وجد مسجد آخر فهو أولى، وإن كان القبر عن يمين المصلين أو عن يسار المصلين وليس هناك استقبال للقبر فالصلاة صحيحة، فهذا ما يتعلق بهذا الحديث، والنهي عن اتخاذ القبور مساجد.
فإذا كان ذلك في قبور الأنبياء والمرسلين إلى أممهم، فكيف بقبور غيرهم، فإن النهي عن اتخاذها مساجد من باب أولى، واستحقاقهم اللعن بذلك ما قاله صلى الله عليه وسلم إلا تعليماً للأمة، فمعنى ذلك أن اللعن لليهود والنصارى بسبب فعلهم، والتعليم لنا، وإلا لما كانت هناك فائدة من هذا الإخبار.
وهنا مأخذ دقيق جداً، يبدو لي أنه أقوى دليل في هذا الموضوع، ولو لم يأت هذا الحديث، فإننا نقرأ في صلاتنا سورة الفاتحة، وبعد المقدمة والثناء على الله سبحانه والإقرار له بالربوبية والإقرار بعبوديتنا له واستعانتنا به نتوجه بطلب هو أعز ما يكون على الإنسان في حياته، فنقول: {اهْدِنَا} [الفاتحة:6] والهداية ضد الضلال، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] ثم جاء التفصيل نوعاً ما: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] وقد جاء بيان الذين أنعم عليهم بقوله: {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] .
فقوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] يعتبر كافياً في بيان الحق الذي يجب على المسلم لزومه، ولكن لشدة الحاجة إلى الإيضاح والتأكيد على البعد عن الباطل بين سبحانه الطريق المخالف للحق، فقال سبحانه: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] ، فكأن الاستقامة أو الهداية إلى الاستقامة إنما هي طريق معتدل بين طرفين مختلفين هما: فريق المغضوب عليهم، وفريق الضالين.
ومن هنا نعلم أن من وافق كلتا الطريقتين، أو أحد الفريقين فيما كان من خصوصياته فقد جانب الصراط المستقيم، ولحق بأولئك الذين وافقهم أو تابعهم، أي: في الجزئية التي تابعهم فيها، فكل من بنى على قبر مسجداً فهو بهذا النص الكريم لم يتبع الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، ولكن اتبع أحد الطريقين: إما المغضوب عليهم، وإما الضالين.
ويقول العلماء: كل من ترك العمل بما علم فهو مغضوب عليه، وكل من عمل بغير علم فهو ضال، ولهذا خصّ اليهود بالغضب، والغضب أشد من الضلال؛ لأن الضلال قد يكون لجهالة، وقد يكون لعذر، والضال قابل للتعليم، وقابل للرجوع، وقابل للهداية، أما المغضوب عليه فقد انتهى أمره بما هو فيه من الخطأ والإصرار على ما هو عليه.(53/6)
الفضيلة وسط بين رذيلتين
وعلماء الأخلاق يقولون: إن الفضيلة وسط بين طرفين، وهذا في جميع الأمور، فإذا جئت في الإسلام فالصراط المستقيم وسط بين الإفراط والتفريط، ومن هنا لا يجوز للإنسان أن يفرط أو يقصر، أو أن يزيد فيما شرع الله، ولما جاء النفر الثلاثة إلى أم المؤمنين عائشة، وسألوها عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، وأخبرتهم أنه ينام ويقوم، ويفطر ويصوم تقاّلوا ذلك، وقالوا: عبد غفر له ما تقدم من ذنبه، وأين نحن؟ فقال أحدهم: أما أنا فسأصوم ولا أفطر.
وقال الثاني: وأما أنا فسأقوم الليل ولا أنام وقال الثالث: أما أنا فلا أتزوج النساء.
فسمعت ذلك من وراء الحجاب، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته، فصعد إلى المنبر، وقال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، أما أنا فإني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) ، فهذا إفراط في العبادة، والإفراط في العبادة ينقطع بصاحبه، (إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى) .
فإذا ركبت جوادك تريد مكة أو نحوها، فأجهدت الجواد بأقصى قوته، فسيتعب ويهلك، فلا أنت قطعت مرحلة سفرك، ولا أنت أبقيت على جوادك، ولكن إذا أخذته بالرفق، ومشيت بقدر استطاعته، وإذا وجدت مرعى تركت له الفرصة ليشبع، وإذا وجدت ماء سقيته، وإذا شعرت بشدة الحر آويته إلى الظل، فإنك تستطيع أن تواصل السير عليه، ولو مشيت به الأرض كلها؛ لأنك تأخذه على طاقته.
ولما جاء الأعرابي وسأل عن الصلاة وسأل عن الصيام قال: والذي بعثك بالحق لا أزيد على ذلك ولا أنقص.
فقال عليه الصلاة والسلام: أفلح إن صدق.
فالفضيلة وسط بين الطرفين، لا أن يقصر فيما وجب عليه، ولا أن يزيد فيما لم يكلف به كما في الحديث: (اكلفوا من العمل ما تطيقون، فلن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه) .
فالفضيلة وسط بين طرفين، فالبخل والتبذير طرفان مذمومان، والكرم وسط بينهما، فالكريم ليس ببخيل ممسك، وليس بمبذر متلف، ولكنه في وسط، كما قال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء:29] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67] فهذه هي الوسطية في هذا الباب.
وكذلك الشجاعة وسط بين الجبن والتهور، فليس الشجاع بجبان يمتنع عن المصارعة والمقاتلة، وليس بمتهور إذا جاء إلى القتال يرمي بنفسه، ولا يدري من أين المخرج، وكذلك في العبادات، فالتوسط: عدم الإفراط والتفريط فاليهود فرطوا لأنهم قصروا في أمور العبادات واحتالوا على المحرم، كما في عملهم في يوم السبت، فلما حرموا على أنفسهم يوم السبت امتحنهم الله، كما قال تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} [الأعراف:163] ، فما استطاعوا أن يصبروا، فاحتالوا وألقوا الشباك يوم الجمعة، فعلقت فيها الحيتان يوم السبت، فأخذوها يوم الأحد، وقالوا: نحن في السبت لم نعمل شيئاً، وكنا في بيوتنا.
وكذلك لما حرم الله عليهم بعض الشحوم أخذوها فجملوها وأذابوها، فباعوها وأكلوا ثمنها، وقالوا: نحن لم نأكل الشحم.
ففرطوا في العبادات.
وانظر أيضاً إلى ما قالوه في عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام لما جاءت به مريم عليها السلام، قومها تحمله كما قال تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم:27-28] ، فانظر إلى أي حد ذهبوا، بينما النصارى قالوا: هو ابن الله، هو ثالث ثلاثة.
فأي فرق بين القولين؟ فبينهما ما بين السماء السابعة وتحت الثرى.
والإسلام قال: هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم ولذا فـ النجاشي لما سمع ذلك من جعفر الطيار في الهجرة إلى الحبشة الأولى هبط إلى الأرض، وأخذ قشة من الأرض وقال: ما زاد صاحبكم على ما جاء في عيسى ولا مثل هذه القشة.
فالإفراط والتفريط متغايران، فاليهود أخذوا جانب التفريط، والنصارى أخذوا جانب الإفراط.
والتوسط في العبادة إنما هو في الإسلام، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا} [الجمعة:9-10] ، فساعة الذكر تذهب إليها، وساعة عمل الدنيا تذهب إليها.
ثم إن الإنسان يتكون من مادة وروح، والمادة هي الجسم، وهو بيت تسكنه الروح، وكل له غذاؤه، فالجسم يحتاج إلى الطعام والشراب؛ لأنه من الأرض ومن مادتها، ويخلد إليها، والروح تحتاج إلى العبادة والذكر؛ لأنها نورانية تسموا إلى الملأ الأعلى، وغذاؤها العبادة، وفمن غلب جانب المادة على الروح ففيه شبه من اليهود، ومن غلب جانب الروح على المادة ففيه شبه من النصارى.(53/7)
وصف الصحابة في التوراة والإنجيل قائم على وسطيتهم بين الإفراط والتفريط
نجد القرآن الكريم يصف أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم بما وصفوا به في التوراة والإنجيل- لأهل التوراة والإنجيل، وذلك الوصف قائم على أساس هذا المبدأ، وأن النصارى مفرطون واليهود مقصرون.
قال الله سبحانه: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ} [الفتح:27] ، ثم قال سبحانه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الفتح:29] .
فانظر إلى هذا الوصف: (ركعاً سجداً) ، فهل اليهود ركع سجد؟ وقال الله: (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا) وهل اليهود يبتغون ما عند الله، أو يبتغون الدنيا؟ وقال تعالى: (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) بخلاف القترة والغبرة على وجوه اليهود عياذاً بالله.
وقال تعالى: (ذَلِكَ مَثَلُهُمْ) أي: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم (فِي التَّوْرَاةِ) ، والتوراة لليهود؛ ليعلموا أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ليسوا كمثلهم.
قال تعالى: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ} [الفتح:29] والإنجيل للنصارى.
{كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] .
فانظروا إلى هذا المثل، هل هو مثل عبادة، أم مثل عمل واستثمار وإنتاج؟ إنه عمل واستثمار وإنتاج، فهو زرع يخرج شطأه يؤازر بعضه بعضاً، فيعجب الزراع ويبتهج به الزارع إذا رآه؛ لأن النصارى أهملوا أمور الدنيا وأمعنوا في أمور الروح كما قال تعالى عنهم: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] .
فالنصارى ذهبوا في الرهبانية، وتركوا الدنيا، فجاء مثل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل بالعمل الدائب، والإثمار والإنتاج، ليردهم عما هم عليه، وجاء في حق اليهود أن مثل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ما قاله تعالى عنهم: {رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} [الفتح:29] ، وهذان مثلان يبينان أن كلتا الأمتين قد غايرت الطريق فأفرطت في جانب، وفرطت في جانب آخر، وعلى هذا جاء في هذا الحديث أن اليهود لعنهم الله؛ لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وكان ذلك سبباً في التوصل إلى عبادة غير الله.
والله سبحانه وتعالى أعلم.(53/8)
كتاب الصلاة - باب المساجد [3]
إن المساجد معظمة ومحترمة عند المسلمين، فلا يجوز للمشركين دخولها إلا لحاجة وبإذن من المسلمين، وهذا على رأي بعض العلماء، وأما المسجد الحرام فلا يجوز لغير المسلمين دخوله أبداً، وما ذلك إلا لعظمته عند الله، وهناك آداب خاصة بالمساجد منها: أن لا يُنشد فيها الشعر إلا ما كان مباحاً ولغرض شرعي، وأنه لا يجوز إنشاد الضالة في المساجد، فإن المساجد لم تجعل لذلك.(54/1)
تابع أحكام المساجد(54/2)
حكم دخول الكافر إلى المسجد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلاً فجاءت برجل، فربطوه بسارية من سواري المسجد.
الحديث) متفق عليه] .
هذا الحديث -كما يقول الشراح- له قصة، وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل، -وسمي في غير هذا الحديث- وهو ثمامة بن أثال، وكان سيداً من سادات وادي بني حنيفة في نجد، فأخذ أسيراً، فجيء به فربط في سارية المسجد، وهذا هو موضع الدلالة، حيث أن ثمامة رجل مشرك أخذ أسيراً وأدخل المسجد وربط فيه، وهذا حكم من أحكام المساجد.
فلما ربط في سارية من سواري المسجد كان صلى الله عليه وسلم يأمر له بحلب سبع شياه فيشربه، ويمر عليه كل غداة ويقول: كيف بك يا ثمامة؟ فيقول -وهو في الأسر-: يا محمد! إن شئت مالاً أرضيتك، وإن مننت مننت على كريم، وإن قتلت قتلت ذا دم لأن الله قد قال في حق الأسير {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد:4] ، فالأسير إما أن يفادى بالمال، وإما أن يمنَّ عليه ويطلق سراحه بلا فداء، وإما أن يقتل، وكونه يسترق شيء آخر.
فكان يقول: إن ترد مالاً -يعني: فداءً- أرضيتك، أي: أعطيتك الذي ترضى.
وإن تمنن -أي: تطلق سراحي بدون فداء- مننت على كريم -والكريم لا تضيع عنده الصنيعة-، وإن قتلت قتلت ذا دم.
أي: فدمي لن يذهب سدى، بل ستجد من يطالب به، فهو يهدد وهو في الأسر؛ لأنه سيد من سادات قومه، فتركه على هذه الحالة ثلاثة أيام.
ثم مر عليه في اليوم الرابع فقال: أطلقوا ثمامة.
فأطلقوه، فجاء إلى بعض الحاضرين في المسجد وقال: ماذا يفعل من يريد أن يدخل في دينكم؟ قالوا: تذهب فتغتسل، وتأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتشهد بشهادة الحق.
فذهب إلى بيرحاء -وبيرحاء كان شمالي المسجد، وكان يبعد عن باب المجيدي حوالى ثلاثين أو أربعين أو خمسين متراً، وكان بستاناً قريباً- فاغتسل في الضحى، وفي صلاة الظهر استقبل النبي صلى الله عليه وسلم وشهد شهادة الحق.
ثم قال: يا رسول الله! أخذتني خيلك وأنا في طريقي إلى العمرة، فما ترى علي؟ قال: امض وأكمل عمرتك.
فمضى إلى مكة، فبلغ مكة خبر إسلامه، وهناك ضيقوا عليه وآذوه لأنه أسلم، فلما رجع إلى وادي بني حنيفة منع الميرة أن تأتي من هناك إلى مكة، وكان وادي بني حنيفة في ذلك التاريخ يمول الحجاز، فقد كان مخصباً ومنتجاً وذا زرع، فمنع الميرة أن تصل إلى مكة، فأحس أهل مكة بالحاجة والجوع، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا محمد! مر ثمامة أن يسمح بالميرة لمكة؛ فإن لك فيها الخالات والعمات.
فكتب إليه أن: اسمح بالميرة لمكة.
فسمح بها.
ولما غدا صلى الله عليه وسلم وقال: أطلقوا ثمامة أتي في الليلة التي أسلم في نهارها بحلب شاة -مع أنه قبل إسلامه كان يشرب حلب سبع شياة- فشرب فشبع، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الكافر ليشرب في سبعة أمعاء، والمسلم -أو المؤمن- يشرب في معى واحد) ، وقالوا: لأنه لما أسلم قال: (باسم الله) ، وببركة (باسم الله) جعل الله في حلب الشاة الواحدة ما أشبعه نيابة عن السبع الشياه.
ويؤخذ من ذلك مواقف النبل في الرجال، أو مواقف عظماء الناس، فقد قيل له: يا ثمامة! ما دمت فكرت في الإسلام فلماذا لم تسلم من أول يوم، ومكثت في الأسر مربوطاً ثلاثة أيام؟! قال: لئلا تقولوا: أسلم خشية السيف.
أي: فلما أطلقت وصرت حراً طليقاً حينئذ أسلمت.
ونظير هذا الموقف أيضاً موقف زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو العاص بن الربيع فقد أخذ أسيراً في بدر وافتدي هو وأخوه، ثم بعد الفداء سافر بتجارة إلى الشام، وهو عائد أخذ هو وتجارته، فلما أخذ هو وتجارته استطاع أن يفلت منهم، ودخل على زينب رضي الله تعالى عنها واستجار بها فأجارته، فأطلت على الناس في صلاة الفجر وقالت: أيها الناس! إن عندي فلاناً -أي: زوجها- وقد أجرته.
فقال صلى الله عليه وسلم: أو تسمعون ما أسمع -وما كان يعلم بذلك-؟ قالوا: نعم.
قال: والله ما علمت بذلك إلا كما علمتم أنتم الآن، وإنا قد أجرنا من أجرت لأنه قد جاء في الحديث: (يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أحدهم) .
ثم قال صلى الله عليه وسلم: إن رأيتم أن تعيدوا عليه تجارته وتطلقوا سراحه فأعيدوا وأطلقوا سراحه، فأعادوا إليه تجارته وأطلقوا سراحه، فذهب إلى مكة -والتجارة التي كانت معه عبارة عن مضاربة لأهل مكة، فأعطيت له الأموال ليتاجر بها- فلما وصل ووزع الأموال على أصحابها وبرئت ذمته قال: يا أهل مكة! أشهدكم أني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقالوا له: ولماذا لم تعلن ذلك وأنت في المدينة؟ قال: أخشى أنكم إن سمعتم بإسلامي تقولون: أسلم ليذهب بأموالنا، ولما جئت بأموالكم وأعطيت الحقوق لأهلها، ولم يبق لأحد عندي شيء أسلمت بدون أي دافع آخر.(54/3)
حكم دخول غير المسلمين إلى المسجد
والناحية الفقهية في هذا الباب -باب المساجد- ظاهرة في قوله: فجاءت -أي الخيل- برجل أي: جاءت به أسيراً، فهو ليس مسلماً، ودخل المسجد، فما حكم دخول غير المسلمين المساجد؟ هذه مسألة -كما يقولون- فيها قليل من التطويل، وأخونا الشيخ عبد الله ولد والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه -في الآونة الأخيرة- جمع رسالة صغيرة في هذه المسألة.
ووالدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في أضواء البيان تكلم عنها عند قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] ، والمسألة تتلخص في الآتي: يقول تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28] ، والمشركون جنس معين، وهم أهل الأوثان، بخلاف أهل الكتاب.
وقال تعالى: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة:28] ، فجعل مالك رحمه الله أصل المسألة في المشركين، وقاس عليها أهل الكتاب: يهوداً ونصارى، وأخذ المسجد الحرام كأصل، وقاس عليه جميع مساجد العالم، فقال مالك: لا يدخل كافر مطلقاً -سواءٌ أكان مشركاً، أم وثنياً، أم كتابياً يهوياً أو نصرانياً، أم بوذياً- أي مسجد من المساجد نصاً وقياساً.
والإمام أبو حنيفة رحمه الله جعل المسألة خاصة بالمشركين وبالمسجد الحرام فقط على نص الآية.
والشافعي وأحمد رحمهما الله جعلاها في عموم الكفار، وبخصوص المسجد الحرام.
فهذا خلاصة خلاف الأئمة رحمهم الله، وإذا جئنا إلى قصة ثمامة نجد أنه رجل مشرك أدخل المسجد، وربط في السارية، فهذا ينقض على مالك اعتبار عموم المساجد بالمسجد الحرام؛ لأنه قال: جميع المساجد يمنع منها جميع الكفار والمشركين فهذا مشرك دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالتعميم في المساجد ينقضه دخول ثمامة.
وهنا أيضاً دليل آخر، وذلك لما جاء وفد ثقيف، ووفد ثقيف من الطائف وكانوا مشركين، جاءوا في السنة التاسعة من الهجرة -عام الوفود-، ونحن نعلم ما فعلت ثقيف برسول الله صلى الله عليه وسلم حينما جاءهم إلى الطائف سنة تسع من البعثة، فأساءوا إليه صلوات الله وسلامه عليه، ولما جاءوا سنة تسع من الهجرة -عام الوفود- أنزلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، وبنى لهم خياماً في المسجد، وكان ذلك في رمضان، وكانوا يرون الناس يصلون، وكان صلى الله عليه وسلم هو الذي يشرف على خدماتهم، وكانوا من شدة خوفهم لا يأكلون طعاماً جيء به إليهم حتى يأكل الذي جاء به منه أمامهم، وكان صلى الله عليه وسلم -من مكارم أخلاقه وحسن ضيافته- يأتيهم بعد العشاء، ويقف على خيمتهم، ويتحدث معهم في أيام العرب وفي أحاديثهم، ويراوح بين قدميه، فمرة يقف على اليمين، فلما يطول القيام قليلاً يريحها، ويقف على اليسار من طول ما يقف عند خيمتهم متحدثاً معهم.
فهذا وفد من المشركين نزل في المسجد النبوي.
وأما غير المشركين فأهل نجران، وليسوا وثنيين، ولما جاءوا المدينة جاءوا إلى المسجد، ولما جاءوا وطلب الرسول صلى الله عليه وسلم منهم المباهلة قالوا: أمهلنا إلى الغد.
فكان فيهم السيد العاقب، فقال لهم: والله ما باهلت أمة نبياً إلا أخذوا عن آخرهم، ولو باهلتموه والله لن يبقى حتى الطير يطير في بلادكم، فأصبحوا وقالوا: يا محمد! نعتذر عن المباهلة، ونحن على السمع والطاعة لك، واتركنا على ما نحن عليه، وابعث معنا رجلاً أميناً يحكم بيننا في أموالنا إذا اختلفنا فيها.
قال: نعم.
لأبعثن معكم رجلاً أميناً.
يقول عمر رضي الله تعالى عنه: فبت أتطلع.
أي: لينال شرف هذا الوصف ويبعث معهم، ولكن دعا بأمين هذه الأمة أبي عبيدة، فهؤلاء نزلوا في المسجد.
وعلى هذا يكون القول الراجح أنه لا يسمح لغير مسلم، أو لا يحق لغير مسلم أن يدخل المسجد بسلطة، وبنوع من التحكم، أما أن يدخل بأمان من المسلمين، وبعهد من ولي أمر المسلمين لحاجة نحن نحتاجه فيها، أو هو يحتاج إلينا فيها، كما كان اليهود يدخلون المسجد ويتحاكمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يستفتونه فلا مانع.
فغير المسلم يدخل المسجد للحاجة، فحاجته في التقاضي والقاضي في المسجد، أو الاستفتاء والمفتي في المسجد، أو للماء والماء في المسجد، أو لحاجة المسجد إليه لعمارة، أو لتدارك أمر ما، فحينئذ يسمح له بالدخول.
والقضية تدور حول قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28] ، وبعض علماء اللغة يفرق بين (نَجَس) و (نَجِس) فيقول: نجَس (بالفتح) : نجاسة اعتقاد، ونجِس (بالكسر) : نجاسة مادية، كالبول والعذرة، فهنا نجس المشركين في اعتقادهم، وكان بعض السلف -كـ الحسن - يقول: من صافح مشركاً فليتوضأ؛ لأنهم نجس.
ولكن يستدل الجمهور على أن نجس المشركين نجس اعتقاد بأنه لو أخذت سبية من العرب، وكانت تلك السبية على دين قومها.
فإذا لامسها السيد فهل لامس نجاسة؟ وقد كانوا يضاجعونهن، وكانوا يستمتعون منهن بملك اليمين، ولم يُؤمر أحد منهم أن يغسل ما لامس النجس، فهو على التحقيق نجَس اعتقاد.
وبعضهم يقول: (نجَس) باعتبار الشرع؛ لأنهم كانوا يصيبون الجنابة ولا يغتسلون، فالنجاسة نجاسة معنوية، أو نجاسة حكمية، وليست حقيقة مادية.
والذي يهمنا في هذا أنه لا يُمكَّن غير المسلم من دخول المسجد لغير حاجة.
وهنا قضية محزنة مؤسفة، ففي بعض البلاد أصبحت بعض المساجد متاحف أثرية، فهجرت الصلاة فيها، وأصبح السُّواح يرتادونها على أنها آثار، فهل تدخل في هذا المعنى أم لا؟ الله تعالى أعلم، والواقع أن هذا تقصير من المسلمين.(54/4)
صحة صلاة المسلم في الكنيسة والبيعة دون بيت النار
وهناك مسألة في المقابل تهمنا في الفقه، وهي أنه إذا كان غير المسلم لا يدخل المسجد إلا لحاجة، فهل يدخل المسلم الكنيسة ويصلي فيها أم لا؟ يتفق العلماء على أن المسلم إذا دخل كنيسة أو بيعة -بخلاف بيت النار؛ لأن بيت النار يعبدون النار فيه- وحانت الصلاة، وأراد أن يصلي فله أن يصلي في تلك الكنيسة ما لم ير نجاسة؛ لأن الأصل في الأشياء الطهارة ما لم تتحقق النجاسة، وهذه قاعدة إسلامية، وعند أهل الكتاب الأصل النجاسة ما لم تتحقق الطهارة.
ولكن إذا كان في الكنيسة تماثيل وصور، كالتي ذكرتها أم سلمة رضي الله تعالى عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تصح الصلاة هناك، لا لكونها كنيسة، ولكن لكونها فيها التماثيل والصور.
ويذكر البخاري رحمه الله في قصة عمر لما ذهب إلى الشام أنه حينما حوصر أهل الشام واشتد الحصار عليهم أرادوا أن ينزلوا على الصلح -وقيل: كان نصفها صلحاً، ونصفها عنوة.
وقيل: كلها عنوة.
وقيل: كلها صلح- فكتبوا إلى أمير المؤمنين عمر إنا نريد أن ننزل على الصلح، ولكن تكون أنت طرفاً فيه.
فخرج عمر رضي الله تعالى عنه، هو وغلام معه فقط، وكان يتعاقب الركوب مع الغلام، فمرحلة يركب هو ويمشي الغلام، ومرحلة يمشي هو ويركب الغلام، إلى أن اقتربا من دمشق، وكان قميصه مرقعاً، فقالوا: لا يليق بك أن تدخل على الروم بهذا القميص فيقولون: هذا أميركم بهذه الثياب! وهذا قميص تلبسه.
فنظر فيه فلم يقبله، وقال: ردوا علي فميصي، قالوا له: تمهل.
دعنا نغسله.
فغسلوه وردوه عليه، ولما جاء ودخل على الروم عرفوه بشكله وبوضعه فقالوا: والله هو هذا الذي نجده في كتبنا.
وتمت المفاوضة على الصلح، فجاء رجل من ذوي القسطنطين، وقال لـ عمر رضي الله تعالى عنه: صنعت لك طعاماً وأريد أن تحضره فحضر، ثم دخل الكنيسة، ثم قال: أريد أن أصلي.
فقال: صل مكانك.
قال: لو صليت في الكنيسة لانتزعها منكم المسلمون وكان في عهد الصلح ألا تنقض لهم كنيسة، ولا تؤخذ أموالها، ولا يتعرض لصلبانهم، وأحوالهم تبقى على ما هي عليه، واشترط عليهم شروطاً وحقوقاً للمسلمين.
فقال: لو صليت هنا لجاء المسلمون من بعدي وقالوا: هذا مصلى عمر فينتزعونه منكم، فينقضون الصلح، وجاء عند العتبة وصلى.
ثم جاء ابن عمر، وجاء عمر بن عبد العزيز وغيرهما وقالوا: إذا كان فيها التماثيل أو الصور فلا تجوز الصلاة فيها، وإذا كانت خالية من تلك الموانع فلا مانع ما لم توجد فيها نجاسة أو موانع وعوارض أخرى.
وكما ربط ثمامة وهو مشرك ربط أبو لبابة نفسه وهو مسلم، فحين ذهب إلى بني قريظة سألوه عما سيفعل بهم، فأشار بيده إلى حلقه، أي: الذبح، ثم قال لنفسه: والله لقد علمت أني خنت الله ورسوله، فرجع وربط نفسه في سارية المسجد.
فالمسجد: معتقل للأسارى وسجن للمخطئين، فأدى رسالة بجانب المعبد، وبجانب المعهد؛ لأنه على رءوس الأشهاد وتحت أنظارهم، فاتسع نطاق رسالة المسجد إلى خطوة أخرى.(54/5)
الشعر وإنشاده في المسجد
قال المؤلف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنه: (أن عمر رضي الله عنه مرّ بـ حسان ينشد في المسجد، فلحظ إليه، فقال: قد كنت أُنشِدُ فيه، وفيه من هو خير منك) متفق عليه] .
يقول: إن عمر رضي الله عنه مر بالمسجد، وعمر دائماً كان دقيق الملاحظة، فوجد حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه -وهو شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاعر الإسلام- ينشد شعراً، فلحظ إليه، واللحظة من عمر ليست بالهينة، ففهم حسان فواجهه: بأن عليك ألا تلحظ ولا تهتم، وما علي منك، فقد كنت أنشد الشعر فيه -أي: في المسجد- وفيه من هو خير منك.
والذي هو خير من عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن لـ عمر جواب، والحقُ يسكت.
وما هو الإنشاد الذي كان ينشده حسان في المسجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إن المؤلف ساق هذا ليبين لنا أن المسجد لا يصلح لإنشاد الشعر، ولكن سيأتي التفصيل في الإنشاد الذي كان ينشده حسان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل هو الوصف والغزل والتشبيب والهجاء، أو هو شعر معين؟! لقد جاء الأثر بأن حسان رضي الله تعالى عنه قال: ائذن لي -يا رسول الله- بهجوهم -يعني: المشركين-، قال: كيف تهجوهم وأنا منهم؟! قال: أسلك منهم كما تسل الشعرة من العجين، ولا يلحقك من ذلك شيء.
قال: اهجهم.
فهجاهم، فنصب له كرسياً أو منبراً وقال له: اهجهم، فوالله لوقع كلامك عليهم أشد من وقع السهام في غلس الظلام.
فالسهم لما يأتي في النهار معلوم من أين أتى، أما في الليل فلا يعلم مصدر إتيانه، أمن يمين أو يسار، ولذلك لما تكلم أبو سفيان وهجا الرسول صلى الله عليه وسلم، رد عليه حسان قائلاً: ألا أبلغ أبا سفيان عني فأنت مجوف نخب هواء أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء فمن هو شر الفريقين ومن هو أخيرهم؟ لا شك أن المشرك شر الفريقين، وأن المسلم خير الفريقين، قال حسان: أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء لساني صارم لا عيب فيه وبحري لا تكدره الدلاء في أبيات عديدة امتدح فيها المسلمين وهجا المشركين، وخرج صلى الله عليه وسلم بقوله: شركما لخيركما الفداء.
وهذا -كما يقول نقاد الأدب- مأخوذ من القرآن، ولهذا القرآن عدّل في شعر الإسلاميين، فقوله: فخيركما لشركما الفداء، مأخوذٌ من قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24] ، وعلى هذا فـ حسان رضي الله تعالى عنه كان ينشد الشعر في المسجد النبوي أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم يؤيده ويقول: (اهجهم وروح القدس يؤيدك) ، وكان هجاء حسان على المشركين أشد من السهام في ليلة ظلماء.
إذاً فلا نقول: كل شعر ممنوع، ولا نقول: كل شعر جائز، فإذا كان الشعر لخدمة الإسلام والمسلمين -كهذا-، أو أنشد إنسان أبياتاً يظهر فيها ظلامته، أو أنشد شيئاً يمتدح فيه إنساناً فعل خيراً فذلك لا بأس به.
وربما يأتينا إنسان ويقول: ماذا تقولون في قول كعب بن زهير: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يفد مكبول وما سعاد غداة البين إذ رحلت إلا أغن غضيض الطرف مكحول أليس هذا غزل في سعاد؟! يقول نقاد الأدب الإسلاميون: إن افتتاح الشاعر قصيدته بالغزل الرفيع المستوى في غير معين يعتبر من باب التشويق وتوجيه الأذهان إلى الموضوع الأساسي؛ لأن الشاعر انتقل من ذكر سعاد إلى قوله: نبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول وذكر صفات الناقة، وذكر غير ذلك، وانتهى إلى موضوعه بأنه يلتمس العفو من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هناك الغزل، وهناك النسيب، وهناك التشبيب، فهذه أنواع من أنواع الشعر الغزلي بصفة عامة، أو ما يتعلق بالنساء، فإذا كان الغزل في امرأة غير معينة كسعاد فكلمة (سعاد) عند الشعراء رمز لمجهول، كما يقولون في العصر الحاضر: الجندي المجهول، فهم يأتون بها كوصف لتهييج السامع إلى ما وراءه، فيسهل الانتقال إلى الموضوع المقصود والذهن قد تهيأ لتلقيه، وهو هنا الاعتذار عن تأخره في الإسلام، وأنه مخافة أن يهدر دمه، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأعلن إسلامه، وقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا في الغزل، أما النسيب فهو في امرأة معينة بذاتها بأبيها وجدها، وأما التشبيب: فهو مأخوذ من شب يشب شبوباً وشباباً، تقول: شبت النار: أي: ارتفعت.
وتقول: الشباب قوة غريزة وفتوة، فكذلك التشبيب هو إثارة الغرائز بأوصاف خاصة بالنسوة، خاصة في ما تحت الثياب، فهذا محرم وممنوع، وكعب بن الأشرف ما قتل إلا لذهابه إلى مكة يستعدي قريشاً على المسلمين، وتشبيبه ببعض نساء المسلمين.
فالغزل من حيث هو إذا كان لغرض ينتقل منه إلى غرض مباح إسلامي شرعي، وليس فيه النسيب ولا التشبيب فلا غبار عليه، وعلى هذا فإنشاد الشعر في المسجد إن كان لغرض ديني فلا مانع، وإن كان لهوى نفس فممنوع، فـ عمر رضي الله تعالى عنه لما وسع المسجد بنى رحبة في الجهة الغربية، وقال: أيها الناس! من أراد الدين والآخرة فعليه بالمسجد لذكر الله، ومن أراد حديث الدنيا فليخرج إلى تلك الرحبة.
وبعض الروايات فيها: من أراد سوق الآخرة فليجلس، ومن أراد سوق الدنيا فليذهب إلى الرحبة.
وهذا في الكلام العادي فضلاً عن كونه شعراً.
والشعر من حيث هو جاء فيه الحديث: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً) ، وسئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها -وهي التي يذكرها ابن رشيق العزي في عدة الأدب- عن الشعر؟ فقالت: الشعر كلام موزون حسنه حسن، وقبيحه قبيح.
والوزن لا يغير ولا يبدل في المعنى، إنما هو في الصناعة وجرس السمع، فإذا كان الشعر كلاماً حسناً فهو حسن، وهناك شعر الحكمة والمواعظ والتعليم ونظم العلوم، وإن كان نظم العلم ليس بشعر؛ لأنه لا يخاطب الشعور، بل يخاطب العقل، كألفية ابن مالك، والرحبية، والبيقونية، وغيرها، فهذا يسمى نظماً وليس شعراً.
وبالله تعالى التوفيق.(54/6)
حكم إنشاد الضالة في المسجد
قال رحمه الله تعالى: [وعنه -أي: عن أبي هريرة رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سمع رجلاً ينشد الضالة في المسجد فليقل: لا ردّها الله عليك؛ فإن المساجد لم تُبن لهذا) رواه مسلم] .
هذا العمل مما ينبغي أن تصان المساجد عنه، فإذا من ينشد دابة -أو حاجته بصفة عامة- في المسجد فقل له: لا ردّها الله عليك.
والله هذا رد عجيب، ولم يقل: أسكتوه.
ولم يقل: امنعوه.
ولم يقل: أفهموه بأنه لا ينبغي هذا هنا، ولكن: (يدعن عليه: (لا ردّها الله عليك) ، فيعامل بنقيض قصده، هو ينشد: من رأى لي دابة، صفتها كذا وكذا، يريد بذلك الحصول عليها، وأن ترد إليه، فيعامل بنقيض قصده، والذي يعلم أنه إذا أنشد ضالته في المسجد ردّ عليه المسلمون بقولهم: (لا ردها الله عليك) هل سيأتي وينشدها في المسجد ليسمع هذا الجواب؟ لا والله وقاس العلماء على الدابة كل ضائعة.
ثم قالوا: وإذا ضاعت الضائعة في المسجد، كإنسان جاء بما يسجد عليه فضاع منه، فبحثت عنه فلم يجده، أو سقطت منه محفظة ماله، أو سقطت ساعته من يده، أو سقط منه شيء كان يحمله، فليس له أن ينشده في المسجد، فأي ضائعة ضلت عليه في المسجد، أو في غير المسجد فهي كذلك، إلا أن بعضهم قال: إن كانت الضالة ضلت عليه في المسجد فلا مانع من إنشادها في المسجد.
والآخرون قالوا: لا؛ فإن الحديث لم يخصص: (إذا سمعتم من ينشد ضالةً في المسجد) والضالة: الضائعة؛ لأن الضلال: الضياع والتلاشي وعلى هذا فإن قوله: (ضالته) يشمل كل ضالة، سواء كانت دابة، أم متاعاً، أم سلعة، أم أي شيء قليل أو كثير ضل على صاحبه في المسجد أو في غيره، فلا يجوز له أن ينشده في المسجد.
ثم قالوا: فأين ينشدها والمسجد موضع التجمع؟! قالوا: يقف على باب المسجد، وعند خروج الناس من الصلاة ينشد ضالته، فيقول: من رأى لي ضالتي أو: ضل علي كذا.
فمن رآه؟ فيكون إنشاده للضالة خارج المسجد.
ثم التعليل في الحديث: (فإن المساجد لم تبن لذلك) أي: لم تبن للبحث عن الضوال؛ لأن هذه أمور دنيوية.
ونظير ذلك ما فعله الأعرابي، فقد جاء أعرابي إلى المسجد فأناخ راحلته ودخل المسجد، ثم تنحى جانباً وجلس يبول، فقام الحاضرون ليخرجوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتركوه، ولا تزرموه) وأي: لا تحملوه على قطع البول؛ لأنه يؤذيه، وسيعدد مواضع البول؛ لأنه إذا أراق البول وهو جالس في مكانه انحصر البول في مكان محدود، لكن إذا أزرموه، وقام وهو يبول ستتسع المسافة إلى مقدار كبير، فنهاهم عن ذلك، فلما قضى بوله دعاه، وأمر بذنوب من ماء فأُهريق عليه، والذنوب: الدلو الكبير، وهذا تقدم في مبحث تطهير الأرض من البول بمكاثرة النجاسةَ بالماء.
فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا أخا العرب! إن هذه المساجد لم تبن لذلك -كما قال في الأول-، وإنما بنيت لذكر الله وما والاه) ، فذكر الله كقول: (لا إله إلا الله) ، (أستغفر الله) ، (الحمد لله) ، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، وكل ما كان فيه ذكر الله، وما والاه حلق العلم، من المدارسة، ومن المذاكرة، ومن الموعظة، فكل ذلك داخل في ذكر الله وما والاه، كما قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] .
فالأعرابي لما رأى الفارق الكبير بين جماعة يريدون أن يضربوه ويهيجوه ومن يقول: يا أخا العرب! إنها لم تبن لذلك، إنها لكذا وكذا قام في الحال، ورفع يديه وقال: اللهم ارحمني وارحم محمداً، ولا ترحم معنا أحداً.
فقال صلى الله عليه وسلم: (لقد حجرت واسعاً) ، فالله تعالى يقول: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] ، وأنت تريد أن تحصرها عليّ وعليك! والأمة هذه كلها ما مصيرها؟! ويهمنا قوله: (إن هذه المساجد لم تبن لذلك، إنما هي لذكر الله وما والاه) .(54/7)
حكم مذاكرة العلوم الدنيوية في المساجد
وفي واقع الحياة عندنا نشاهد في أواخر السنوات الدراسية أن الطلاب يكثرون في المساجد، ويعمرونها مع الصلوات، فكل معه دفاتره، وكل معه كتبه جماعات جماعات، فلا نقول: هذه أمور الدنيا، ولا ينبغي أن يشغلوا المساجد بذلك: لا والله؛ فكل العلوم -أياً كانت- إذا كانت في يد المسلمين فهي تخدم الإسلام.
فعلم الذرة والطاقة النووية، وعلم الفضاء، والغوص في المحيطات، والجيولوجيا في بطن الأرض، وكل ذلك حين يكون في يد المسلم، إنما هو خدمة للإسلام؛ لقوله سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [الأنفال:60] .
ونقول أيضاً: تلك القوى الفتاكة إذا كانت في يد المسلم فهي كالسيف في يد العاقل، أما إذا كانت في يد الكافر فهي كالسيف في يد الأحمق.
ففي قضية كوبا حصل أنه نصبت روسيا فيها صواريخ، وكان كنيدي هو رئيس الولايات المتحدة، فأنذر إن لم تفكك هذه الصواريخ في ست ساعات فإن الولايات المتحدة على أهبة الاستعداد لاستعمال السلاح بقدر ما في طاقتها لتدميرها، فماذا قال خروشوف -؟ قال: إن هذا شاب متهور قد يفعلها.
وبادر بتفكيك تلك الصواريخ من كوبا.
والذي يهمنا قول هذا العسكري في حق الآخر: شاب متهور.
فالقوة مهما كانت في أي علم إذا كانت في يد المسلم فهي كالسيف في يد العاقل لا يستعمله إلا في موضعه، وتلك القوة في يد الكافر كالسيف في يد الأحمق لا نأمن فيمن يستعملها.
وهكذا إذا كان أبناؤنا الطلاب في أي حالة من الحالات يدرسون، وفي المساجد أياً كانت، فقد يجدون من الرفقة في المسجد ما لا يجدونه في البيت، وقد تكون في البيت مشاكل وأصوات ومشاغل، لكن في المسجد يوجد الهدوء وتوجد الراحة، وربما كانت مكيفة، وربما كان فيها الماء مبرداً، وقد لا يجد ذلك في بيته.
وقد لاحظنا في عهد قديم قبل تعميم الكهرباء في المدينة أن سبعين إلى تسعين في المائة من العمال في المدينة وفي رمضان يأتون للنوم في المسجد؛ لأنه كان مكيفاً بالمراوح، وكان ألطف مما يوجد في بيوتهم.
فالمساجد تكون مأوى الجميع، وتكون مرفقاً عاماً، فإذا كانت مذاكرتهم لا تشويش فيها ولا تضييق على المصلين، وإذا أقيمت الصلاة قاموا في صفوفهم وصلوا، لا أنهم عند الإقامة يتسربون من الأبواب إلى بيوتهم، وكأنهم لا يعرفون الصلاة، فإذا أتوا إلى المساجد لأداء الصلوات، وجلسوا لمذاكرة دروسهم في هندسة أو رياضيات أو جغرافيا، أو أي شيء فهم كمن يذاكر الفقه والحديث والتوحيد؛ لأن الكل يلتقي على خدمة هذا الدين، وخدمة الإنسان المسلم.
إذاً فإنشاد الضالة في المسجد لا ينبغي؛ لأنها مصلحة خاصة بصاحبها، وفيه تشويش على المسلمين، ولم تبن المساجد لذلك.
والله تعالى أعلم.(54/8)
كتاب الصلاة - باب المساجد [4]
الإسلام دين الخلق، فما تكاد تجد أمراً من الأمور إلا وله آداب وأحكام، وبيان لما يجوز فعله فيه وما لا يجوز، ومن ذلك المساجد، فمن آدابها: أن لا تتخذ مكاناً للبيع والشراء، فلا يجوز عقد البيع والشراء فيها، كما لا يشرع إقامة الحدود في المساجد، ولا بأس بإقامتها بجوار المساجد؛ للجمع الذي يكون عند المسجد، فتكون على مرأى ومسمع من الناس، فتعم الفضيلة وتقل الرذيلة.(55/1)
تابع أحكام المساجد(55/2)
حكم البيع والشراء في المساجد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: [وعنه -أي: وعن أبي هريرة رضي الله عنه-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيتم من يبيع، أو يبتاع في المسجد، فقولوا له: لا أربح الله تجارتك) رواه النسائي والترمذي، وحسنه] .
هذا الحديث مع الذي قبله من باب واحد، فهناك ينشد الضالة لاسترجاع ما ضاع منه، وهنا يتعاطى البيع والشراء، وقد تقدم أن عمر رضي الله تعالى عنه قال: من أراد سوق الدنيا فليخرج، ومن أراد سوق الآخرة فهنا.
فلم تبن المساجد لتنقلب أسواقاً للبيع والشراء، وكما قيل: الأسواق مساكن الشياطين، كما أن المساجد مساكن الملائكة؛ لأن الأسواق غالباً يوجد فيها الضجيج، ويوجد فيها التدليس، ويوجد فيها الأيمان المروجة للسلعة، وتوجد فيها مخالفات كثيرة، إلا من عصم الله، ولهذا سد النبي صلى الله عليه وسلم الباب أمام التجار، والذين يتخذون المساجد مكاناً للبيع والشراء.
ويقال للمبتاع والمشتري في المسجد: لا أربح الله تجارتك.
وقد يقول بعضهم: إن قول: (لا أربح الله تجارتك) إنما يقال لمن اتخذ ذلك عادة، أما إذا تبايعا في سلعة بينهما، وليس من عادتهما التبايع في المسجد فهل يتسامح معهما؟! والجواب: لا؛ لأن الحديث سدّ الباب، فإن تبايعا اليوم في قلم، ففي الغد سيتبايعان في الساعة، وبعده في الكتاب وهكذا، فيتسرب البيع والشراء إلى المساجد.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (فقولوا له) أي: أسمعوه لا أن تقولوها سراً؛ لينزجر بذلك، وإذا علم البائع الذي يريد الربح أنه إذا عقد عقد بيع في المسجد قيل له: لا أربح الله تجارتك فإنه لن يقدم على مثل هذا العقد، المدعو عليه بمحق الربح؛ فإنه -ولو ربح- لا خير فيه، كما قال سبحانه: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276] فكذلك هذا العقد، وإن كان فيه ربح فهو ممحوق؛ لأنه منهي عنه.
وهنا يأتي الفقهاء رحمهم الله، ويفسحون لنا المجال نوعاً ما، فلو أن إنساناً اشترى من إنسان سلعة، وكان الثمن مؤجلاً، فوجد الثمن عند المشتري، ولقي البائع في المسجد، فهل يجوز له أن يقول: خذ ثمن سلعتك الذي عندي.
أم لا يجوز؟ والجواب: لأن عقد البيع قد مضى، وهنا سداد الدين، وسداد الدين -إن أخلص في النية- عبادة؛ لأنه يخرج من عهدة المطالبة بالدين، فلا مانع من ذلك.
ومثل هذا أيضاً رد الوديعة، فلو أن إنساناً أودع إنساناً آخر وديعة، وأراد المستودَع أن يسافر، وتعذر عليه لقاء صاحب الوديعة إلا في المسجد، فأتى بالوديعة معه ولقي صاحبه، وقال: خذ وديعتك.
فإني مسافر فلا إشكال في هذا؛ لأن المنهي عنه إنما هو التبايع، سواءٌ أكان لمرة واحدة نادرة، أم مراراً قليلة أو كثيرة.(55/3)
حكم عمل المعتكف صاحب الصنعة داخل المسجد
وهنا مسألة قد يثيرها بعض العلماء، تجدونها في مبحث الاعتكاف، وهي إذا لم يكن للمعتكف رأس مال، وإنما يعيش من صنعته، أو بيعه وشرائه، فهل يجوز له -وهو معتكف- أن يزاول مهنة البيع والشراء، أو يخرج إلى الخارج ويبيع ويشتري ثم يأتي إلى مسجده، أو إلى معتكفه؟ فبعضهم يقول: لا مانع إذا كان في طرف من المسجد.
والجمهور يقولون: لا؛ لأن الحديث لم يفصل.
فإذا كان صاحب صنعة لا يبيع ولا يشتري، ومنها عيشه، ويمكن أن يجمع بين الأمرين حاجته في معيشته، وعبادته في اعتكافه، فبعضهم -كالأحناف أو غيرهم- قالوا: يجوز له إن لم تكن صنعته تقذر المسجد، أو تضيق على الناس، ومثلوا بنسخ الكتب، إذ نعلم جميعاً أنه لم تكن في السابق مطابع، ولكن كانوا يعولون على نسخ الكتاب بأيديهم، فإذا كان الشخص وراقاً، ومشهوراً بخطه، وبكتابته للكتب، واعتكف يكون في معتكفه، وعنده حبره وقلمه وأوراقه، فله أن ينسخ وهو في محله، فإنه لا يقذر المسجد، ولا يضيق على المصلين، ولا يشوش عليهم، فمثل هذا قالوا: لا مانع في حقه؛ لأنه يجمع بين الحسنيين، ولا يضر، ولا يترتب عليه أذى.
وبعضهم قال: هذه الصناعة تابعة للبيع والشراء؛ لأنه يبيع خبرته في كتابته لمن يكتب له.
ويقال: إن كان ذا ضرورة، وليست له مهنة، فلا ينبغي أن يحرم، ما دام يؤدي هذا العمل بعيداً عن التشويش على الناس، ونحن الآن، لو وجدنا طالب علم، جالساً في جانب، أو عند سارية، وعنده مخطوطة يريد أن ينسخ منها، أو ينقل منها فلا غبار في ذلك.
فهذا ما يتعلق بمسألة النهي عن البيع والشراء في المسجد، فعلى كل من سمع أو رأى من يبيع أو يبتاع في المسجد: أن يجابهه بهذه الكلمة (لا أربح الله تجارتك) ؛ لينزجر عن ذلك.
والله تعالى أعلم.(55/4)
حكم إقامة الحدود في المساجد
قال رحمه الله تعالى: [وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقام الحدود في المساجد، ولا يستقاد فيها) رواه أحمد وأبو داود بسند ضعيف] .
إقامة الحدود من أعظم شعائر الله، وفي بعض الآثار: (إقامة حد في الأرض خير من مطر عشرين -أو ستين- عاماً) ، فإقامة الحدود منزل للبركة والرحمة؛ لأنه تطبيق لشرع الله، والحدود -كما يقولون- منها ما هو محض حق لله، ومنها ما هو محض حق للعبد، ومنها ما هو مشترك بين العبد وربه، كما في السرقة وفي الزنا وفي القذف، وفي شرب الخمر، فكل ذلك عقوبته حد، سواءٌ أكانت الحدود فيها جلداً، كالخمر، وزنا البكر، أو إتلافاً، كالرجم والقطع والقود، والقود حق للإنسان، بمعنى أنه إذا اعتدى إنسان على إنسان -سواءٌ في جراح، أم في نفس- فإن من حق المجني عليه أن يقتاد، أو يقتص من الجاني، وسواء في العضو، أم في النفس، فالحدود على ذاك التقسيم جلد، أو إتلاف، ومهما كانت فلا يقام الحد بالجلد أو بالقطع في المسجد؛ لأنه قد يحدث من المجني عليه، أو ممن يقام عليه الحد -سواءٌ بالجلد أم القطع- ما لا يتناسب مع المسجد، فإنما تقام الحدود على أبواب المساجد، في موضع التجمعات، لقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2] .
وكذلك القود، والقود في النفس بالقصاص، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179] أما في الجراح فيتفق العلماء على أن القود في الجراح يشترط فيه أن يكون الجرح والاعتداء في مفصل؛ لأن القود في المفصل ممكن، أما إذا كان الجرح في الفخذ -مثلاً- أو في وسط اليد فإنه لا يتأتى فيه قود مماثل؛ لأن القصاص معناه أن تأخذ بحقك دون زيادة أو نقص، كما إذا قصصت الورقة أو الثوب بالمقص، فإن طرفي المقصوص متساويان، ولو مال المقص يميناً أو يساراً لظهر هذا الأثر في جانبي المقصوص، فيكون القص متعادلاً تماماً، سواءٌ في الاستقامة، أم في الأخذ يميناً أو يساراً، ومن هنا إذا كان الجرح في مفصل -كمرفق اليد والعضد والركبة والحقو- فهنا يكون القصاص.
أما إذا كان الجرح، أو الكسر في غير مفصل، فلا يمكن أبداً أن يقتص بكسر، نظير كسر في وسط العظام؛ لأن الكسر الأول قد أخذ شكلاً معيناً، والكسر الثاني -كسر القصاص- لا يمكن أن نضمن أنه بحدوده، وأبعاده، وأجزائه، يكون مماثلاً للكسر الذي سبق، فهنا لا يكون القصاص، وتكون الدية، دية الجرح، أو دية كسر العظم، وهذه كلها مقدرة في كتب الفقه.
فما كان حقاً لله، من الحدود، فلا يقام في المسجد، وكذلك أيضاً ما كان حقاً للآدمين، من قود، وقصاص، فلا يستوفى في المسجد، إنما يكون في الخارج؛ لأنه في الجلد، ربما يحدث من المجلود، في حالة شدة الجلد، ما يخشى منه على المسجد، وكذلك عند القطع، حيث يكون هناك الدم ويتناثر، فلا يناسب أن يكون في المسجد.
وإذا قلنا: إن المسجد موضع الرحمة، وتنزل الرحمات، فلا يمكن أن نجعله موضع النقمة، وموضع التعذيب، وإن كان حداً من حدود الله؛ لكن فيه التعذيب وفيه الآلام، فينبغي أن يكون بعيداً عن حدود المسجد، ويبقى المسجد لطلب الرحمة والمغفرة.
فنهى صلى الله عليه وسلم أن تقام الحدود أو يقتاد في المسجد.
وأما القصاص في مكة فبعضهم يقول: لا يقام حد القصاص في حرم مكة، وحدود الحرم جميعاً؛ لقوله سبحانه: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:97] ويقولون: نتركه حتى يخرج خارج الحرم، وهناك نقتص منه ونقتله، وإذا لم يخرج قالوا: يمنع من البيع، والشراء، والمعاطاة، ولا يعطى شيئاً حتى يضيق من نفسه، ويخرج يطلب لقمة العيش، فهناك نقتص منه.
والبعض الآخر يقول: قال تعالى: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة:191] وإذا اعتدى إنسان وقتل إنساناً في الحرم فيكون القاتل هو الذي انتهك حرمة الحرم فنقتله فيه، أما إذا جنى خارج الحرم ودخل لاجئاً إلى الحرم فلا نقيم عليه الحد في الحرم؛ لأنه لم ينتهك حرمة الحرم، بل لجأ إليه يحتمي فيه، وهنا يقول تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:97] وحرم مكة له أحكامه الخاصة، ويهمنا هنا فيما يتعلق بعموم المساجد في الدنيا وأنه لا تقام فيها الحدود، ولا يقاد فيها بين الناس.
والله تعالى أعلم.(55/5)
التمريض وحكمه في المسجد
قال رحمه الله تعالى: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (أصيب سعد، يوم الخندق، فضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب) متفق عليه] .
يسوق لنا المؤلف رحمه الله تعالى قضية سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه، وسعد له تاريخ عريض في الإسلام، وكان سيد بني عبد الأشهل، ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير مع أصحابه بعد بيعة العقبة، ليعلمهم الإسلام، كان يتتبع الأنصار على مياههم، فجاء إلى ديار بني الأشهل يدعو الناس، فكان سعد جالساً وراء هذا العمل، فأرسل ابن أخته، وقال: اذهب إلى فلان ومن معه، وقل له: فليكف ذلك عنا، ولا يفسد سفهاءنا.
فلما جاء إلى مصعب وصاحبه هددهما وشتمهما، وقال: قوما عنا.
فقال له مصعب رضي الله تعالى عنه: أو غير ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: أعرض عليك الذي جئت به، فإن رضيته وقبلته فبها، وإن لم ترضه، ولم تقبله رحلنا عنك، قال: أنصفت، وركز حربته وجلس.
فقرأ عليه مصعب شيئاً من القرآن؛ فاستحسنه، فقال: ماذا يفعل من يريد أن يدخل في دينكم؟ قال: يغتسل -أو يتوضأ- ويصلي ركعتين، ويشهد شهادة الحق ففعل، فرجع إلى سعد ومن عنده، فقال من كان عند سعد: والله لقد رجع إليك قريبك بوجه غير الذي ذهب به عنا.
فقال له سعد: ماذا فعلت؟ قال: أمرتهما بما أمرتني به، وعند عودته من عند مصعب قال له: إن ورائي رجلاً لو اتبعك سيتبعك أهل الحي هذا جميعاً.
فكأن سعداً لم يقنع بكلام هذا الرجل، وذهب بنفسه، فلما وقف عليهما أتكاً، ارتكز على حربته، وكلمه بمثل ما كلمه الأول، فأجابه مصعب كذلك بمثل ما أجاب الأول، فقال: أنصفت والله.
فقرأ عليه ما تيسر من القرآن، ودعاه إلى الإسلام، فقال: ماذا يفعل من يريد أن يدخل في دينكم؟ فأخبره، وصلى الركعتين، وشهد شهادة الحق، ورجع إلى قومه، فقال: يا بني عبد الأشهل! كيف ترونني فيكم؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا، وميمون الطليعة، ومبارك النجيبة،.
إلخ، فقال: والله إن كلامكم رجالاً ونساءً عليّ حرام ما لم تسلموا.
فبات الحي كله مسلماً.
وهكذا كان له رضي الله تعالى عنه شأن عظيم في غزوة بدر، وفي غزوة الأحزاب أصيب بسهم في أكحله، فعز على النبي صلى الله عليه وسلم أن يبعد عنه، وأراد أن يكون بجواره من قريب، فضربت له خيمة في المسجد، يُمرّض فيها، وليعوده النبي صلى الله عليه وسلم من قريب، أي: من حجرته إلى المسجد، فرقع جرحه واستراح، فجاءت قضية بني قريظة الذين نقضوا العهد في غزوة الأحزاب، وشدة الأمر على المسلمين حتى بلغت القلوب الحناجر، وفي ذلك الموقف الرهيب الصعب قال الله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب:10] ، فمن فوقهم اليهود، ومن أسفل منهم الأحزاب قريش، وغطفان، ومن معهم، وأصبح المسلمون -كما يقال- بين فكي الأسد.
فـ سعد رضي الله تعالى عنه لما أصيب قال: اللهم إن كنت أبقيت حرباً لقريش فأبقني إليها، وإن لم تكن أبقيت حرباً لقريش فاجعلها شهادة، ثم قال: اللهم أقر عيني في بني قريظة، فلما ذهب صلى الله عليه وسلم وحاصرهم، كان من قصتهم أن طلبوا أن ينزلوا على حكم سعد؛ لأنهم كانوا حلفاءه قبل الإسلام، وظنوا أنه سيرفق بهم، فأرسل إليه صلى الله عليه وسلم -وهو هناك يباشر الحصار-، وجيء بـ سعد على حمار، فلما وصل، وقال لهم صلى الله عليه وسلم: قوموا لسيدكم فأنزلوه، فلما أنزلوه قال صلى الله عليه وسلم: لقد نزل اليهود على حكمك يا سعد! فوقف وأشار بيده وقال: أحكمي نافذ على كل من كان هنا؟ قال الجميع: نعم.
وأشار إلى اليهود: تنزلون على حكمي؟ قالوا: نعم.
وأشار إلى الجهة الأخرى بتأدب وقال: ومن هنا؟ قالوا: نعم، فقال: يا رسول الله! أحكم فيهم بأن تقتل مقاتلتهم -أي: كل من كان قادراً على حمل السلاح- وتسبى نساؤهم وذراريهم، فأخذ اليهود يصيحون، وقال صلى الله عليه وسلم: (والله لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع طباق) يعني: من فوق السماوات السبع، ونفذ ذلك، فقُتلت المقاتلة، وسُبي النساء والصبيان.
والذي يهمنا أنه في هذه الوقعة -ومعها غزوة الأحزاب- كان لـ سعد رضي الله تعالى عنه موقف نبيل، وكانت حياته كلها لله سبحانه وتعالى، ونصرةً لرسوله صلى الله عليه وسلم، فلما أصيب عزّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُترك ويُمرَّض في بيته في بني عبد الأشهل، وهم في العوالي، فنصب له خيمة في المسجد وصار يعوده من قريب، فلما انتهى من التحكيم المذكور نقض عليه جرحه في الليل، ومات في الصباح، وأقر الله عينه فيما أراد، وكما يقولون: لما أصبحوا وجدوا دماً وماءً يسيل من تحت الخيمة، فنظروا فإذا بجرحه قد نقض عليه ونزف ومات.
وهنا يقول العلماء: هل ذلك الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم خاص بـ سعد، ومن أجل أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعوده من قريب، أو أننا إذا احتجنا، وحدث -لا قدر الله- مرض، وضاقت المستشفيات، وعجزت الدور المخصصة لذلك فلنا أن نستعمل المساجد مأوى للمرضى؟ الجواب: نعم، مع الحفاظ على أرض المسجد من أن يأتيها شيء مما يكون من المرضى، وإذا كان ولابد فليكن في مكان في جانب من المسجد، ثم بعد ذلك يطهر ما وقع في أرض المسجد.
ويقول المتأخرون: إن من المهام التي أداها المسجد -أو على الأخص المسجد النبوي- مهمة المستشفى العسكري، أي: تمريض من أصيب في القتال داخل المسجد، ويقصدون به قصة سعد رضي الله تعالى عنه، والمؤلف يسوق لنا قصة سعد في باب المساجد ليبين لنا أنه عند الحاجة وعند الضرورة، لا مانع أن يمرض المرضى في المساجد؛ لأنها خدمة عامة، ومصلحة للجميع، فلا مانع من ذلك.
والله تعالى أعلم.(55/6)
حكم اللعب في المسجد
قال رحمه الله تعالى: [وعنها قالت: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني، وأنا أنظر إلى الحبشة، يلعبون في المسجد.
الحديث) متفق عليه] .
يأتينا المؤلف بهذا الحديث، أو بهذه القصة عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، حيث قالت: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني وأنا أنظر إلى الحبشة -أي: رجال من الحبشة- يلعبون في المسجد) وهذا جزء من مشهد كبير طويل، وهو: أنه كان في يوم عيد، فأخذ الأحباش الموجودون بالمدينة، في تلك السنة، يلعبون بحرابهم لعبة القتال، في المسجد النبوي، فرغبت عائشة رضي الله تعالى عنها أن ترى هذه اللعبة؛ لأنها لم ترها من قبل.
وهنا يلبي لها النبي صلى الله عليه وسلم رغبتها، فيقف ويسترها من الناس، وتتمكن من الرؤية، فصارت تَرى ولا تُرى، وقد جاء في خبرها، أنه لما طال وقوفها، قال: أرضيتِ؟ فقالت: لا، أريد زيادة.
ويهمنا في سياق هذا الحديث السماح للأحباش باللعب بتلك الحركات الميدانية في المسجد النبوي، وهل يجوز لنا في الوقت الحاضر أن نفعل ذلك؟ يقولون: إذا كان مجرد لعب، أو لهو، أو مسابقة، أو مناضلة، -أي: مسابقة بالسهام- فلا، أما إذا كانت حركة فيها تدريب على الجهاد، ونوع من أنواع القتال، ومن يراه يستفيد، ومن يزاوله يحسن أكثر، فلا مانع، وفي يوم العيد؛ لأن يوم العيد في الإسلام فيه بهجة وسرور ولعب.
فقد جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه دخل عليها والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ على فراشه، وعندها قينتان -جاريتان- تغنيان، وتضربان بالدف، فنهر عائشة وقال لها: أمزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال له صلى الله عليه وسلم: (دعها -يا أبا بكر -؛ إنه يوم عيد) .
أي: أن يوم العيد يغتفر فيه ما لا يغتفر في غيره، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه أتى المدينة ولهم أعياد كثيرة، لاسيما اليهود، فكل مناسبة عندهم يتخذونها عيداً، فلهم أيام متعددة، يتخذونها أعياداً إلى الآن، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أبدلكم -يخاطب المسلمين- يومي عيد خيراً من هذا: عيد الفطر، وعيد الأضحى) .
ويقول العلماء -من باب الالتماس-: جعل الله سبحانه وتعالى العيدين عقب عبادتين عظيمتين، وقد يستأنس الإنسان لهذا من سياق تشريع آيات الصيام، في قوله سبحانه: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185] ، ثم يقال: يسّر الله مع الفرضية والإلزام، فجاءت الرخصة لمن يشق عليه، ثم جاء تعليل التيسير بقوله: (لتكملوا العدة) ؛ لأن التشريع إذا كان شاقاً ملزماً وليس فيه ترخيص يعجز الناس عنه، فإذا كان التكليف شاقاً فمع المشقة رخصة للعاجز، فيمكن للمكلفين أن يكملوا العدة التي كلفوا بها؛ لأن مشقة التكليف يصحبها الترخيص والتخفيف.
ثم قال تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ} يقول بعض العلماء: هو التكبير الذي يكون يوم العيد؛ لأنه جاء بعد إكمال العدة -أي: إكمال عدة رمضان- {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي: تشكرون الله.
فقوله تعالى: {عَلَى مَا هَدَاكُمْ} أي: لأداء الواجب عليكم، وامتثال أمره، فكأنه قال: كلفتم بالصيام فأديتموه، وأكملتم العدة، فهلموا إلى تكبير الله، وإلى بهجة وفرحة العيد، بإكمال هذا التكليف الشاق العظيم.
وكذلك عيد الأضحى بعد الحج، والحج عبادة فيها مشقة، ففيها السفر والتنقل بين المشاعر، والسفر وحده -كما قيل-: لسفر قطعة من العذاب؛ لأن الإنسان يتحمل فيه تغير طبيعة حياته في نومه، وفي طعامه، وفي شرابه، فيختلف عليه نظام حياته في الإقامة، ويتحمل ذلك في سبيل أداء هذه العبادة العظيمة.
ومن هنا كان العيدان -عيد الفطر وعيد الأضحى- بهجة بعد أداء واجب فيه مشقة، فعيد الفطر بعد الصوم، وعيد الأضحى، بعد الحج، ومن هنا رخص النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء القوم أن يظهروا فرحتهم وبهجتهم بما يطيب لهم، وهي -كما يقال- لعبة القتال أو رقصة القتال، فيفعلونها تعبيراً عن شعورهم وفرحتهم في ذلك اليوم، فلا مانع في ذلك.
ويهمنا أنه سمح لهم أن يفعلوا ذلك في المسجد، أما بقية أنواع اللعب فلا يسمح بها، كما تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: (إن هذه البيوت -أو المساجد- لم تبن لذلك، إنما هي لذكر الله وما والاه) ، فكما أن الشعر الذي يخدم الدعوة الإسلامية ويخدم المسلمين مما يوالي ذكر الله؛ لأنه تأييد لهم، فكذلك مثل هذه الحركة ففيها تدريب، وفيها تعليم لمن لم يرها من قبل، وفيها تشويق لمن لم يعرف ذلك، فتكون فيها خدمة دينية، فلا مانع منها، ولا يسمح بها في غير يوم العيد، فهذا ما يؤخذ من هذا الحديث.
وهنا ناحية اجتماعية أخرى، وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم ستر عائشة حتى لا يراها الناس، وهي رأت الناس ولا يمكنها مشاهدة ذلك إلا بأن تراهم، فهناك فرق بين أن يرى الرجل المرأة وأن ترى المرأة الرجل، ولكن -كما يقولون- الأفضل للطرفين ألا يرى أحدهما الآخر، فهذا هو الأسلم والأفضل، كما جاء في قصة ابن أم مكتوم حيث دخل على بعض زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهن: (احتجبن.
فقلن له: إنه أعمى لا يرانا.
قال: أوعمياوان أنتما؟) فهو لن يراهما لأنه أعمى، وهما سيريانه، وهذا من باب الرفعة أو السمو، أو علو درجات أمهات المؤمنين، فيحملن على أكمل الصور وأكمل الحالات.
والآن -بطبيعة الحال وضرورة الحياة- المرأة تخرج إلى السوق، ولها أن تخرج إلى المسجد، ففي الحديث: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) ، فستخرج من بيتها إلى المسجد، فهل تخرج مغمضة عينها أو ترى الطريق؟! إنها سترى الطريق، والطريق فيها الرجال والنساء، فسترى المار في الطريق، فهذا من الضرورات، ولا يمكن أن نمنعها من رؤية الرجال؛ لأن هذا معناه منعها من الحركة خارج بيتها، مع أنه يجوز لها أن تخرج إلى قضاء حاجتها، حتى المعتدة لها أن تذهب في النهار لتقضي حاجتها وترجع، ويكون مبيتها في بيتها.
فهذه ضرورة، ولا يمكن القضاء عليها، وليس هناك بديل عنها.(55/7)
كتاب الصلاة - باب المساجد [5]
إن المساجد شعار المسلمين، وما من مسلم إلا ويتردد عليها أو يكثر المكث فيها، لذلك فقد شرعت آداب وأحكام للمساجد حتى يُحافظ على نظافتها وتكريمها، ومن ذلك: أنه يجوز للمرأة أن تتخذ بناءً في المسجد فتأوي إليه وذلك عند الحاجة، ومن أحكام المساجد أيضاً: أن تصان عن الأقذار لاسيما البصاق، وبخاصة إذا كانت أرضية المساجد كما هو الحال اليوم (مفروشة) فلا يشرع للمسلم أن يبصق إلا في طرف رداءه أو في منديل.(56/1)
تابع أحكام المساجد(56/2)
حكم مكث المرأة في المسجد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة: (أن وليدة سوداء كان لها خباء في المسجد، وكانت تأتيني تتحدث عندي.
الحديث) متفق عليه] .
هذه المرأة -سواء أكانت هي التي تقم المسجد، أم كانت امرأة غيرها- جعل لها خباء في المسجد تأوي إليه، ويقال أيضاً: هذا في حالة الضرورة، وقد وجدنا بعض زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ضربن لأنفسهن الخيمة في المسجد ليعتكفن، وذلك لما استأذنت بعض زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتكف معه، وضربت لها خيمة، فقام بعض الزوجات الأخريات، ونصبن خيمة، فلما غدا صلى الله عليه وسلم إلى معتكفه رأى ثلاث خيام منصوبة، فقال: ما هذا؟! قالوا: فلانة وفلانة وفلانة ضربن خياماً ليعتكفن قال: (آلبر ترون بهن؟) -يعني: الذي حملهن على هذا هو البر وفعل الخير، أم المنافسة فيما بينهن؟ ثم قال: (قوضوا خيمتي) فقوضوا خيمته، ولم يعتكف تلك السنة، وقضى اعتكافه بعد ذلك في شوال، وهل كان بصوم أو بغير صوم؟ لم يثبت في ذلك شيء، ولم يعلم العلماء كيف كان اعتكافه بعد ذلك.
وعلى هذا يجوز عند الحاجة إقامة خباء لامرأة في جانب من المسجد بعيداً عن الرجال، ولا مانع من ذلك، وهذا الذي ساقه المؤلف من أجله.
والله سبحانه وتعالى أعلم.(56/3)
حكم البصاق في المسجد
قال رحمه الله تعالى: [وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها) متفق عليه] .
من آداب المسجد ما تقدم في أول حديث من هذا الباب: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب) ، وجاء في حديث سمرة -وهو من أحاديث (المنتقى) الذي شرحه الإمام الشوكاني في كتابه (نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار-) : (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نبني المساجد في ديارنا) ، وهذا يوضح معنى الدور؛ لأنهم قالوا: الدور قد تكون جمع دار، وقد يكون المراد بها الديار.
فحديث سمرة فيه: (أمرنا صلى الله عليه وسلم أن نبني المساجد في ديارنا، وأن نحسن صنعتها) يعني:تكون في حالة حسنة، وليست في حالة رديئة أو حالة ليس فيها اعتناء، بل علينا أن نحسن صنعتها، فإذا أمر بحسن صنعة المسجد ففي هذا تعظيم للمسجد، واحترام للمسجد، وهو داخل ضمن قوله سبحانه: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] ، فالمساجد بيوت الله وشعائره، وسيأتي الكلام على تشييد المساجد، وعلى زخرفتها، والحديث فيه مقال.
قوله: (البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها) .
يقف العلماء أمام هذا الحديث من جانبين، فما دام أن البصاق خطيئة فلماذا تتعمد ارتكاب الخطيئة؟ بل اتركها، فإذا وقعت اضطراراً فليكفر عما ارتكبه اضطراراً، بأن يدفنها في التراب إذا كان المسجد تراباً، وقد جاء الحديث أيضاً: (إذا كان أحدكم في الصلاة فلا يبصق تلقاء وجهه؛ فإن الله تلقاء وجهه، ولا عن يمينه فيؤذي جاره، ولكن عن يساره وتحت قدمه) ؛ لأنه يستطيع بقدمه أن يدفنها.
وجاء في الحديث الآخر: (إذا كان أحدكم في الصلاة فلا يبصق كذا وكذا، ولكن يفعل كذا، وأخذ صلى الله عليه وسلم طرف ردائه وبصق فيه، ثم دلك جانبيه) ؛ وذلك ليتشرب الرداء رطوبة البُصاق، وهذا في حالة ما إذا كان المسجد تراباً، وقد كان المسجد تراباً، كما جاء في خبر ليلة القدر: (.
وأريت أني أسجد صبيحتها في ماء وطين) ، قال الراوي: فأمطرت السماء ليلة كذا، ووكف المسجد، وكان السقف من الجريد، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في ماء وطين -يعني: أثره-، ولقد رأيت أثر الطين على أرنبة أنفه، فكانت أرضية المسجد من تراب، وبعد ذلك أتى الصحابة رضوان الله تعالى عليهم بالحصباء -وهي: الرمل الخشن- بأطراف أرديتهم، ويأتي كل واحد منهم إلى مكانه في موقفه من الصف، ويفردها ويقعد عليها، حتى تم فرش المسجد بالحصباء، فنظر إليه صلى الله عليه وسلم فقال: (نعم هذا) .
وكان صلى الله عليه وسلم يتخذ الخمرة ليصلي عليها في المسجد، ويختلفون في معنى الخمرة، فبعضهم يقول: هي القطعة من سعف النخل التي تكون على قدر صلاة الإنسان.
وبعضهم يقول: بل هي على قدر ما يسجد عليه بكفيه وجبهته وأرنبة أنفه، فيكون بعض جسمه على التراب، أو على شيء آخر.
والخمر ما يخمّر الوجه، أي: يغطيه.
ويذكر مالك في الموطأ عن وقت يوم الجمعة أنه كان لـ جعفر بن عقيل أو غيره طنفسة عند الجدار الغربي، فإذا علاها الفيء أذن المؤذن، أو جاء الإمام للخطبة، فكان توقيت الجمعة بعد الزوال؛ لأن ظل الجدار الغربي قبل الزوال يكون إلى الغرب؛ لأن الشمس ما تزال في الشرق، فإذا ما زالت عن كبد السماء إلى الغرب، انتقل الظل أو الفيء إلى الشرق، فإذا امتد الظل عند الجدار الغربي إلى الشرق حتى يغطي طنفسة -وهي سجادة صغيرة- دخل وقت الجمعة.
فكانوا يتخذون الفرش والخمر والطنافس ويصلون عليها، وكان بقية المسجد في تراب.
والأولى بالإنسان ألا يبصق في المسجد، لا في الصلاة ولا في غيرها تطهيراً للمسجد، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي أعمال أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد) ، وسيأتي إن شاء الله، والقذاة: القشرة الصغيرة يخرجها من المسجد تطييباً وتنظيفاً للمسجد، والمرأة التي كانت تقم المسجد قد تقدمت قصتها مراراً.
فالبصاق في المسجد خطيئة، ومن هذا نعلم أنه لا ينبغي التعمد؛ لأنه لا يحق لإنسان أن يأتي الخطيئة عن عمد ولو كانت صغيرة، فإن إصراره عليها يحولها إلى كبيرة؛ لأن فيها امتهاناً للمسجد، إلا إن اضطر، خاصة إذا كان في الصلاة، ولا يستطيع أن يذهب يميناً ولا يساراً، ومن هنا نعلم ضرورة حمل المنديل مع الإنسان؛ لأنه بدلاً من أن يجعلها في ردائه ويبقى برداء فيه البصاق فالأولى أن يكون المنديل في جيبه فيبصق فيه، ثم بعد ذلك يغسله، وغسله أيسر من غسل الرداء.
والآن تطورت الأمور، فبعد أن كانوا يسمونه منديل اليد أو منديل الجيب، ويغالون في جنسه من حرير أو من خز، ويشتغلون فيه النقوش أصبحت مناديل الورق تجزئ عن هذا كله.
ففي هذا الحديث تأكيد لما تقدم في أول الباب أن من حق المساجد أن تنظف، وأن تطيب، فإن وقع من إنسان بغير اختياره أن بصق، وكانت الأرض تراباً فإنه يدفنها حتى لا تؤذي غيره؛ لأنها إذا بقيت على وجه التراب، وجاء إنسان وجلس، أو وطئها بقدميه سيتأذى، فدفنها يجنب الآخرين إيذاءها، وهذا -كما أشرنا- تتمة وتأكيد، لأول حديث ورد في هذا الباب، وتقدمت الإشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في جدار القبلة في بعض المساجد فحتها بيده، أو حتها بحجر، ولا نزاع، فهو أخذ الحجر بيده وحتها، فلا مانع، ثم قال: (لا يصلين بكم هذا الإمام بعد اليوم) ، فكانت هذه النخامة في جدار القبلة موجبة لعزله عن الإمامة؛ لأنه ما عظم حرمة القبلة، وانتهك حرمة المسجد وهو القدوة، فينبغي أن يكون على أمثل ما يكون في احترام المسجد وتوقيره.(56/4)
المباهاة في المساجد وحكمها
قال رحمه الله: [وعنه -أي: عن أنس - رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس بالمساجد) أخرجه الخمسة إلا الترمذي، وصححه ابن خزيمة] .
هذا الحديث يعده العلماء من علامات الساعة السابقة، أو الصغرى، فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه قبل أن تقوم الساعة يتباهى الناس بالمساجد بكثرتها وفي صنعتها.
ويقول بعض العلماء: ما ضيع الناس دينهم إلا تباهوا بالمساجد وزخرفوا المصاحف.
وجاء عن بعض السلف: يقيمون المساجد ولا يصلون فيها، ويزخرون المصاحف ولا يقرءون فيها.
ويقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: يتخذ أحدهم السجاد والسبحة والمصحف قنية وزينة، فالسجادة لا يصلي عليها، والسبحة لا يسبح الله بها، والمصحف لا يقرأ فيه، إنما هذه -كما يقال- عادة.
ويذكر علماء الأدب أن في بعض البلاد كانت هناك المنافسة في العلم، وفعلاً كانت تلك البلد -كما يقال- مهبط علم، وتخرج منها كبار العلماء، فكان عوام الناس يتشبهون بالعلماء، ويريدون أن يحاكوا حالة العلماء؛ لأن العلماء كانت لهم عزة وكرامة، فكان الأغنياء يتشبهون بالعلماء، فلربما لبس الواحد منهم لبس العلماء، ثم يقتني مكتبة في بيته، ويعنى بها في شكلها وتجليدها، وتصبح كالتحفة، وهو لا يعرف شيئاً مما فيها، وهمه أن يقال: فلان عنده مكتبة صفتها كذا.
لأن هذا من شأن العلماء، فهذه مباهاة في المكتبات، وزي العلماء، وكذلك التباهي بالمساجد.
فقد يكون هناك مسجد في حي، فتأتي جماعة جديدة، وتبني لها مسجداً، ويقولون: كما أن لهم مسجداً فنحن أيضاً صار لنا مسجد، وتأتي جماعة أخرى غير الذين تقدموا وتقيم لها مسجداً مع عدم الحاجة لذلك، فليست بينهما مسافة كبيرة، وليست هناك مشقة، والمسجد الأول يسع الجميعفهذه مباهاة، والفضيلة في هذا للأقدم، أي: في حالة المنافسة.
وهكذا تصبح المساجد في معرض المنافسة في شكلها، ولكن الله سبحانه وتعالى ما جعل المساجد ليتفاخر بها الناس، وإنما جعل إعمار المساجد لذكر الله، قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:36-37] .
وعلى هذا إذا وجدنا من يتباهى بالمسجد، وزاد فيه سعة أو رفعة أو تشييداً منافسة لغيره، فقد دخل في هذا الحديث، وهو المباهاة بالمساجد.
ويذكرون عن بعض المذاهب -وهو معروف- أن إمام المذهب يجيز ذلك، ويقول: إنه من باب تكريم المسجد والعناية به، وكما يحتفي الإنسان ببيته يحتفي ببيت الله.
لكن بيت الإنسان لمعيشته ولنومه وجلوسه وأمور دنيوية، وبيوت الله ليست من هذا القبيل.
وبعضهم أيضاً يستدل بعموم الحديث: (من بنى لله مسجداً بنى الله له مثله في الجنة) إلا أن المثلية نحن لا نعرفها على حقيقتها؛ لأن الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وبناية الجنة غير بناية الدنيا، كما في حديث خديجة رضي الله تعالى عنها لما جاء جبريل وقال للرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقرئ خديجة السلام، وبشرها يبيت في الجنة من قصب -أي: من لؤلؤ- لا تعب فيه ولا نصب) ، فقصب من لؤلؤة واحدة، وأين بناء الجنة من بناء الدنيا؟! وقد جاء في بعض الروايات: (ولو كمفحص قطاة) ، والقطا طائر معروف أقل من الحمامة، وأكبر من العصفور، إذا أرادت أن تبيض تفحص الرمل حتى تجد مكاناً تجعل بيضها فيه، ومفحص القطاة لا يسع القطاة نفسها، فكيف يكون محلاً للصلاة؟! فالمثلية يعلمها الله سبحانه وتعالى.
فقالوا في حديث: (بنى الله له مثله في الجنة) لا مانع أن يزخرف ويحسن، حتى يكون البيت الذي يبنيه الله له في الجنة مثله.
فهل الله يكون خسراناً إذا كان البيت الذي سيبنيه الله له في الجنة مثل المسجد الذي بناه هو في الدنيا؟ فنعيم الجنة فوق التصور، أتنزل به إلى مثلية الدنيا! لقد ضيعت على نفسك الشيء الكثير، دعه لكرم الله.
والحديث هنا: (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس بالمساجد -أو في المساجد-) فتكون المباهاة في أي شكل من أشكاله، في سعته، وفي ارتفاعه، ونوع بنائه، وزخرفته، فكل هذه الأشياء هي موضع المباهاة، أما إذا كانت المباهاة في كثرة صلاتهم فيه وإعماره بذكر الله، فهذه منافسة حميدة، فلو أن أهل كل ديار نافسوا الآخرين فقالوا: نحن مسجدنا يصلي به عشرون صفاً، ويصلي به ألف مصل، ومسجدكم لا أحد يصلي فيه، فهذه تكون منافسة في الخير، وليست مباهاة.
فهذا الحديث بمنطوقه يحذر من المباهاة في المساجد، وبمفهومه النهي عن ذلك، فلا ينبغي أن تُجعل المساجد موضع مباهاة، كما يتباهى الناس في بناء الفلل والعمائر، ونوع السيارة الفاخرة؛ لأنه ينقل المساجد عن موضوع رسالتها لذكر الله وما والاه إلى أمور أخرى لأغراض شخصية.
والله تعالى أعلم.(56/5)
كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [1]
درج النبي صلى الله عليه وسلم على تعليم أصحابه كل ما لا يحسنون فعله بالقول والفعل ولو تطلب ذلك منه إعادته عدة مرات، وقد اشتهر عند أهل الحديث حديث: المسيء صلاته، وفيه جمع الرسول عليه الصلاة والسلام أركان الصلاة التي لا تصح إلا بها، وأكد في ثنايا الانتقال من ركن إلى آخر على أهمية الاطمئنان فيه إشارة منه إلى أن الصلاة ليست مجرد حركات بلا معنى، ولكنها أفعال خاصة يراد بها نيل رضا الرب عز وجل.(57/1)
شرح حديث المسيء في صلاته
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، أما بعد: فقال المؤلف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها) ، أخرجه السبعة، واللفظ للبخاري، ولـ ابن ماجة بإسناد مسلم: (حتى تطمئن قائماً) .
ومثله في حديث رفاعة بن رافع عند أحمد وابن حبان: (حتى تطمئن قائماً) .
ولـ أحمد: (فأقم صلبك حتى ترجع العظام) .
وللنسائي وأبي داود من حديث رفاعة بن رافع: (إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى، ثم يكبر الله تعالى ويحمده ويثني عليه) وفيها: (فإن كان معك قرآن فاقرأ، وإلا فاحمد الله وكبره وهلله) .
ولـ أبي داود: (ثم اقرأ بأم الكتاب، وبما شاء الله) .
ولـ ابن حبان: (ثم بما شئت) ] .
يقول المؤلف رحمه الله تعالى: باب صفة الصلاة، أي: من مباحث الصلاة بيان صفتها، وصفة الشيء: هيئته التي يكون عليها، وبيان صفة الصلاة جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم بوسائل البيان المعروفة بالقول وبالفعل، أما بالفعل فكما جاء عنه صلوات الله وسلامه عليه: أنه صعد المنبر -وكان من ثلاث درجات- واستقبل القبلة وهو على الدرجة الثالثة فقرأ ثم ركع، ثم رفع من الركوع، ثم رجع القهقرى حتى نزل إلى الأرض وسجد في أصل المنبر؛ لأن الدرجة التي كان عليها لا تتسع للسجود، ثم رفع من السجود وهو في الأرض، ثم سجد السجدة الثانية، ثم قام وصعد المنبر، وقرأ وركع ورفع، ثم رجع القهقرى وسجد السجدتين، ثم تشهد وسلم ثم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) .
فهذا بيان لصفة الصلاة بالفعل، وهي الحالة التي تكون أيسر تعلماً؛ لأننا وجدنا أن الطفل يرى أبويه يصليان وهو لا يعرف شيئاً، فيأتي يحاكي كلاً منهما في الفعل وإن كان لا يعرف القبلة من غيرها، فربما واجه أباه وسجد تجاهه وليس تجاه القبلة، لأنه يرى حركات فيقلدها.
وهكذا الحيوانات الراقية قد تقلد ما ترى من حركات؛ فالتعليم إما بالرؤية وإما بالسماع، والرؤية أقوى أثراً؛ لأن الإنسان بإمكانه أن يرى عدة مرئيات في وقت واحد، بينما لا يسمع عدة أصوات في وقت واحد أبداً، ولهذا أمثلة مما جاء في كتاب الله من إفراد السمع وجمع البصر كقوله: {السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} [النحل:78] ، ونجد علماء التفسير يقولون: في اللغة العربية السمع مصدر، والمصدر يستعمل للمفرد والمثنى والجمع، ونقول بجانب ذلك: إن طبيعة الإنسان في السمع لا تمكنه من أن يصغي لصوتين أو ثلاثة في وقت واحد ويعي ما قيل، بخلاف الرؤية، انظر إلى البساط الذي تجلس عليه، في وقت واحد ترى لوناً أحمر وأخضر وأصفر وأسود وأبيض في نظرة واحدة.
ولذا تهتم دور التعليم بوسائل الإيضاح المرئية أكثر من المسموعة، فهنا صلى الله عليه وسلم بين صفة الصلاة فعلاً، وكذلك في الحج قال: (خذوا عني مناسككم) ، فكانوا ينظرون كيف يطوف، ويسعى، ويقف بعرفات، ويبيت بالمزدلفة، ويرمي الجمرات، وينحر الهدي.
إلى آخره.
فيكون فعله صلى الله عليه وسلم مصداقاً لقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] .
وهذا الحديث بيان بالقول، ويعتني به علماء السنة والحديث، ويسمونه حديث المسيء في صلاته؛ وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً دخل المسجد فصلى، ثم جاء وسلم على النبي صلى الله عليه وسلم في مجلسه، فقال له صلوات الله وسلامه عليه: (ارجع فصل فإنك لم تصل) ، فرجع فصلى كما صلى أولاً، ثم جاء فسلم فقال: (ارجع) ، وفي المرة الثالثة قال: والذي بعثك بالحق! لا أعرف غير هذا فعلمني، فالرجل اجتهد ثلاث مرات وصلى كما يعلم.(57/2)
إسباغ الوضوء
في هذا الحديث بدأ صلى الله عليه وسلم بتعليمه لازم الصلاة، وهو الطهارة لها فقال: (إذا قمت إلى الصلاة؛ فأسبغ الوضوء) ، فالرجل لم يتوضأ عندنا، ولم يره الرسول يتوضأ، ولكن من حكمة المفتي وفقهه وفطنته أن يراعي مصلحة المستفتي وكما تقدم حديث: (إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟) فماء البحر يصلح للوضوء ولا يصلح للشرب، فكان السؤال في خصوص الوضوء بماء البحر، فكان الجواب أبعد من ماء البحر: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) ، ما الذي أتى بالميتة هنا والسؤال إنما هو عن طهارة ماء البحر؟ لماذا أفتاهم بحكم الماء وزادهم حكم ميتة البحر؟ وهل هذا غير مطابق للسؤال؟ بل هذا هو الجواب الحكيم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك من حال السائل أنه إذا التبس عليه الوضوء من ماء البحر وهو يداوم ركوب البحر، فمن باب أولى أن يلتبس عليه حكم ميتة البحر، أو أنه في حاجة إلى معرفة حكم ميتة البحر؛ بحكم طول ركوبه البحر، فبيّن له حكم ما لم يسأل عنه؛ لأنه من لوازم المسئول عنه.
وهنا الرسول صلى الله عليه وسلم رأى الرجل في المسجد لم يحسن الصلاة، فبدأه بتعليم لازم الصلاة، فإذا كان لا يحسن الصلاة فلعله أيضاً لا يحسن الوضوء، فقال له: (إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ) والإسباغ التعميم، مثل قولك: صبغت الثوب، أي: عممته بالصبغ، والدروع السابغات هي التي تغطي المقاتل وما يخشى من إصابته في المعركة، ولما قالت بعض زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتصلي المرأة في درع وخمار يا رسول الله؟! والخمار هو ما تخمر المرأة به رأسها ووجهها، والدرع هو ما تلبسه على جسمها كاملاً، فقال: (نعم، إذا كان الدرع سابغاً يغطي ظهور القدمين) ، إذاً: الدرع يكون سابغاً إذا كان يغطي ظهور القدمين، فإذا كان مرتفعاً عنها فليس بسابغ.
(فأسبغ الوضوء) أي: توضأ وضوءاً سابغاً، وفي غزوة تبوك توضئوا على عجل فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في أعقاب بعضهم لمعاً بيضاء، والعقب هو: مؤخر القدم عند التقاء الساق بالقدم عند العرقوب، وهذا التجويف قد لا يغسل عندما يمر عليه الماء، وقد يكون تجمع الهواء يمنع الماء من النزول إلى البشرة، فنادى صلى الله عليه وسلم وقال: (أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار) ، (أسبغوا الوضوء) ، أي: اجعلوا الوضوء سابغاً على أعضائه بحيث لا يكون فيه عضو منكشفاً، ولا يترك جزء من العضو المراد غسله لا يصل إليه الماء، ولهذا رأى المالكية وجوب الدلك؛ حتى يتأكد من أن الماء قد لمس جميع البشرة.
إذاً: (أسبغ الوضوء) بمعنى: أن تجعل غسل الأعضاء كاملاً، فإذا أسبغ وضوءه تمت الطهارة، ولم يذكر له عدد الغسلات، وجاء في تعاليمه صلى الله عليه وسلم: مرة ومرتين وثلاث، وأقل ما يجزئ في الوضوء مرة، وأكمل الغسلات ثلاث.(57/3)
اشتمال الحديث على أركان الصلاة
قال عليه الصلاة والسلام: (ثم استقبل القبلة وكبر) ، هذا الحديث يقول فيه بعض العلماء: هو أصل وأساس ما لا تصح الصلاة إلا به، وكل ما ذكر فيه واجب في الصلاة، وتبطل بتركه؛ لأنه جيء به في معرض التعليم، والتعليم أهم ما يكون لما تصح به الصلاة، ولا يجوز تأخير البيان للأمر الواجب عن وقت الحاجة؛ لأن هذا الرجل لم يحسن الصلاة، وهو في حاجة إلى أن يتعلم ما يصححها؛ فلا ينبغي أن يترك بيان شيء له يتعلق بصحتها، ولذا قالوا: كل ما ذكر في هذا الحديث فلا تصح الصلاة إلا به، وهل ما لم يذكر فيه تصح الصلاة بتركه؟ قالوا: إذا وجدنا عملاً زائداً عما جاء في هذا الحديث، وصح سنداً، ولم يتعارض مع ما جاء في هذا؛ فنضيفه أيضاً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر له ما يشترط في الصلاة، وترك ذكر بعض الأشياء التي تركها لا يبطل الصلاة.
وتوسط قوم فقالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم علم الرجل ما رأى أنه لم يحسنه، وما رآه يحسنه سكت عنه، وذكر له الوضوء على مظنة أنه في حاجة إلى تعليمه.(57/4)
استقبال القبلة
قال صلى الله عليه وسلم: (ثم استقبل القبلة) ، ومعلوم أن الرجل كان يصلي إلى القبلة؛ لأنه رأى الناس يصلون إليها، ويعرف أن الصلاة تكون باتجاه القبلة، لكن لما كان الحديث في سياق التعليم شملها، وجاءه بمقدمة الصلاة وهو إسباغ الوضوء، ثم بأول حركة في الصلاة للإنسان وهي: استقبال القبلة.
وبالإجماع أن الصلاة لا تكون إلا للقبلة، ما عدا في بعض الأحوال الاضطرارية أو التي يكون فيها تسامح، مثل النافلة في السفر، والفريضة في السفينة والطائرة في الوقت الحاضر، فقد يتعذر على الإنسان استقبال القبلة، فيتسامح فيها، {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] .
إذاً: الأصل استقبال القبلة في الفريضة، ويسقط هذا الأصل في النافلة، كما كان صلى الله عليه وسلم في سفره يصلي ورده بالليل على راحلته حيث توجهت به، فقد تكون القبلة وراءه، مثل أن يأتي من مكة إلى المدينة ويريد أن يصلي صلاة الليل، فلن يوقفها، وليس هو ذاهب ناحية مكة، فيصلي وهو مستدبر القبلة، وهذا لظروف السفر، وهذه الصلاة نافلة، أما الفريضة فلا تكون على ظهر الرواحل، ولا لغير القبلة، فينزلون ويصلون على الأرض، ويتمكنون من السجود، بخلاف الراحلة فإنه سيومئ عليها إيماءً، اللهم إذا كان هناك مطر وطين ولا يستطيعون السجود حتى في الأرض، فإذا كان ليس هناك سجود في الأرض فإنهم يبقون على رواحلهم، ويومئون على الرواحل بدلاً من أن يومئوا على الأرض؛ بسبب المطر والطين، وقد تقدمت التفصيلات في استقبال القبلة، وأن الفرض على البعيد هو استقبال الوجهة: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة:144] {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144] ، فمن كان في المدينة، لا يتأتى له أن يستقبل عين الكعبة، ويكون مسامتاً لها كالسهم، ثم إن خطوط الأرض بطولها وعرضها لا يمكن أن تحصر في سمت الكعبة، فيكون هناك مشقة بتكليف البعيد استقبال عين الكعبة، والفقهاء يقولون: الناس بالنسبة إلى الكعبة من حيث القرب والبعد ثلاثة أقسام: القسم الأول: قسم يصلي في داخل المسجد الحرام، فهذا يتعين عليه أن يكون مسامتاً للكعبة، الصف حلقة دائرة، وحيثما كان يكون صدره مقابلاً لبنية الكعبة، هذا إذا كان في نفس المسجد.
القسم الثاني: من كان في بيوت مكة، فيجب أن يستقبل المسجد لا عين الكعبة.
القسم الثالث: من كان آفاقياً خارج مكة إلى آخر محيط الدائرة في الكرة الأرضية، فإن قبلته شطر المسجد الحرام.
نحن الآن في المدينة شمال مكة، ومكة في الجنوب، فكل من توجه إلى الجنوب فهو مستقبل القبلة؛ لأن الشطر الجهة، أو نصف الكرة، النصف التي هي فيه من هناك، والنصف الذي نحن فيه من هنا.
(فاستقبل القبلة) ، أي: بالقدر الذي تستطيعه، بما يتوجب في حقك بالنسبة إلى بعدك أو دنوك من الكعبة؛ لأن هذا تعليم عام؛ فيتوجب على كل من كان داخل الحرم أن يستقبل عين الكعبة، ومن كان بمكة إلى موطن الحرم، ومن كان بعيداً إلى شطر مكة.(57/5)
تكبيرة الإحرام
وبعد استقبال القبلة يكبر، وهو المعروف عند الفقهاء بتكبيرة الإحرام؛ لأنها تجعل المصلي في حرم الصلاة، وأصبح محرماً عليه ما كان جائزاً خارجها، فيحرم عليه الكلام والطعام والشراب والمشي والالتفات، وكل هذا يحرم بمجرد التكبير.
ومن هيئة التكبير: أن يكون مع التكبير رفع اليدين حذو المنكبين.
وهناك من يناقش في هندسة التكبير مع الرفع، هل أو يرفع ثم يكبر، أو يكبر ثم يرفع، أو يرفع مع التكبير؟ الذي عليه الفقهاء: أن كل ذكر جاء مع حركة في الصلاة، فإن الذكر الوارد يشغل بالحركة، فإذا كان قائماً يقرأ وأراد أن يركع وسيكبر للانتقال، لا يقول: الله أكبر، ثم يركع، أو يركع ثم يقول: الله أكبر، وإنما يكون نطقه: بـ (الله أكبر) مع حركته إلى تمام الركوع، قالوا: ليشغل فراغ الوقت في الحركة بالذكر الوارد لها.
ويرفعهما: حتى يحاذي بهما منكبيه، وبعضهم يقول: إلى شحمتي أذنيه، وكما يقول علماء الحديث: ليس هناك اختلاف؛ لأن من نظر إلى شحمتي الأذن نظر إلى أطراف الأصابع، ومن نظر إلى المنكبين نظر إلى منتهى الكف، فإذا رفع الإنسان يديه وكان منتهى الكف عند الكتف، كانت الأنامل عند شحمتي الأذن، فسواء قلنا: عند منكبيه، فيكون فالنسبة لمنتهى الكف، أو قلنا: لشحمتي الأذن؛ فالنسبة لأطراف الأصابع، وكلاهما سواء.(57/6)
ما يقرأ في الصلاة
قال عليه الصلاة والسلام: (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) ، وذلك بعد أن تكبر، وجاء الوصف برفع اليدين في نص آخر مصاحباً لها، (ثم) كما يقولون: للترتيب والتراخي، ولكنها هنا للترتيب، استقبل القبلة أولاً، ثم كبر، ولا تكبر وأنت على الشرق ثم تستقبل القبلة، أولاً استقبل القبلة، ثم يترتب على الاستقبال التكبير، ثم بعد التكبير القراءة، فتكون القراءة بعد أن يستوفي استقبال القبلة والتكبير.
(ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) ، وجاء في بعض الروايات: (إن كانت الفاتحة معك تقرؤها، ثم ما تيسر من القرآن) ، وهنا ما تيسر، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] ، فالقرآن كله ميسر، ولكن التيسير نسبي، فشخص يسر الله له حفظ القرآن كله، وأنت تمكث مدة حتى تحفظ الفاتحة، ما تيسر لك، وما استطعت أخذه وحفظه، وبعض العلماء يقول: أيسر المتيسر في القرآن الفاتحة، وبعضهم يقول: الفاتحة مفروغ منها، ولكن ما تيسر معك بعد الفاتحة، والنص هنا بعد التكبيرة مباشرة، على الترتيب: (اقرأ ما تيسر معك) .
فنقول: إن كان حافظاً للفاتحة فهي المتيسر، وهي المقدمة، وإذا لم يكن يحفظ الفاتحة ويحفظ غيرها مثل: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:1-3] ، فهل يقرأ بها أم لا؟ نعم، إذا لم يكن يحفظ الفاتحة، وقرأ سورة غيرها من سور القرآن فتجزئه، فإذا لم يكن حافظاً للفاتحة ولا غيرها من سور القرآن القصيرة، فماذا يفعل ولابد من ذكر هنا؟ إذا لم يكن يحفظ شيئاً من القرآن فليحمد الله ويسبحه ويهلله ويكبره، هذا عندما يذكر المؤلف تلك الروايات، فهنا العمل مسترسل، استقبل وكبر واقرأ ما تيسر معك من القرآن.
في الحج ما ما استيسر من الهدي وهو شاة، وهنا ما تيسر من القراءة وهي الفاتحة؛ ولهذا يقول الشافعي رحمه الله: إن حفظ الفاتحة فرض عين على كل إنسان، فإلى أن يتعلمها لا يقول: أنا لا أعرف ولا أحفظ ويسكت، فإلى أن يتعلمها يأتي وينتقل إلى التسبيح والتحميد كما سيأتي.(57/7)
كيفية الركوع والسجود والطمأنينة فيهما
قال عليه الصلاة والسلام: (ثم اركع حتى تطمئن راكعاً) ، لاحظوا هنا يا إخوان: (كبر، ثم اقرأ ما تيسر، ثم اركع) هل هناك شيء من عمل الصلاة متروك؟ دعاء الاستفتاح بعد التكبير، وهذا وارد عنه صلى الله عليه وسلم؛ فـ أبي هريرة سأل الرسول صلى الله عليه وسلم في سفر: أراك تسكت بعد التكبير وقبل القراءة، (قال: أقول: ... ) فهنا لم يذكره في هذا الموطن لأنه ليس بواجب، فالرسول لم يعلمه للمسيء صلاته، ولكن ما دام قد جاء بنصوص أخرى ننظر في هذه النصوص، وهل هي في درجة الإيجاب أو الندب أو غير ذلك؟ المهم هنا في هذا السياق ترك ذكر دعاء الاستفتاح، فقال: (ثم اركع حتى تطمئن راكعاً) ، هنا وصف الركوع بأنه ملازم ومصاحب للاطمئنان، فقال: (حتى تطمئن) أي: وأنت في حالة الركوع، وسيأتي حديث: (حتى يعود كل فقار إلى مكانه) ، وسيأتي أيضاً أنه لم يصوب رأسه ولم يشخصه، يقول بعض السلف: حتى لو وضع القدح على ظهره صلى الله عليه وسلم وهو راكع لم يتدفق، فقد كان معتدلاً اعتدالاً مثل الزاوية القائمة، فاعتدال الظهر لم يكن فيه انحناء، فاركع واستمر راكعاً حتى تطمئن، وليس بمجرد الهوي والوصول إلى مستوى الركوع ترفع، فإذا ركعت واستوى الظهر منحنياً ووصلت إلى حد الركوع فعلاً انتظر قليلاً، واطمئن واصبر في حالة ركوعك، يعني: انحناء في الحركة حتى تصل إلى درجة الركوع، ومع هذا الانحناء والوصول إلى درجة الركوع تظل ثاتباً تنتظر مطمئناً في هذه الحالة، إذاً: الطمأنينة تساوي الانحناء.
ثم قال: (ثم ارفع حتى تعتدل قائماً) ، أي: ثم ارفع من الركوع حتى تعتدل قائماً، وهذه النقطة ينبغي على بعض الإخوان أن يراعيها، وهي الرفع من الركوع، والجلسة بين السجدتين؛ لأننا نجد في كتب بعض المذاهب من يقول: هو ركن خفيف، ولم يأت خفيف ولا ثقيل في الصلاة، فالرسول صلى الله عليه وسلم علّم الرجل أن يطمئن بعد أن يركع، وعلمه أن يرفع حتى يعتدل وبعض الناس ليس عنده طمأنينة في القيام، فبمجرد أن يصل إلى الاعتدال يهوي إلى السجود، وهذا لا يصح، فالاطمئنان في الاعتدال بعد الركوع كالاطمئنان في الركوع نفسه، فالركوع ركن، والطمأنينة في هذا الركن ركن.
ثم قال: (ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً) ، وهنا أراح الناس من معركة شكلية، وهي: هل يبدأ يسجد بيديه أم بركبتيه؟ الصحيح أنه يسجد كيفما يتسهل له، والمهم أن يسجد على الأعظم السبعة، ينزل بركبتيه أو بيديه على ما تيسر له، بعض الناس ما شاء الله! رياضي ينزل بأطراف أصابعه على ركبتيه، ويقوم مثل الغزال، وبعض الناس يريد من يساعده، فلا نضيق على الناس، ولا نحجر واسعاً، واسجد كيفما تيسر لك، أما إذا كان الكل عندك سواء: فننظر ماذا صح من الكيفيتين: هل ينزل على ركبتيه أو على يديه؟ لا يبرك كبروك البعير، وكيف يبرك البعير؟ وهل ركبتاه في الأمام أم في الخلف؟ مسألة طويلة عريضة، ومتفقون بالإجماع أنه كيفما نزل إلى الأرض فقد سجد.
فهنا قال: (ثم اسجد) ، ولم يذكر له التفصيلات، والسجود: هو تمكين الجبهة من الأرض، لكن جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم) ، أي: القدمين، واليدين، والركبتين، وهذه ستة، والجبهة وهي السابعة، لكن جاء هنا ركن خفيف على ما قال الأحناف: (وأشار بإصبعه إلى الأنف) ، أي: أن الأنف لا تساوي الجبهة في أعضاء السجود، لكنها لا تترك، كما جاء في حديث ليلة القدر: (فأراني في صبيحتها أسجد في ماء وطين) ، ويقول الراوي: والله! لقد رأيت الطين على أرنبة أنفه، إذاً: وصلت الأنف إلى الأرض.
ويفسر العلماء كيفية السجود على سبيل الإجمال: أن يكون باسط الكفين، فلا تضم، وبعض الناس يقول: يعجن، ووالله ما أدري ما هذا العجن! لكن حينما يكون الإنسان طاعناً في السن، ويريد أن ينهض، فيضمها من أجل أن يستطيع النهوض، لكن في كل الحالات سواء إذا كان مثل المرأة عندما تعجن، أو مثل الإنسان عندما يعجن في العجين، فهذه لم يقل بها أحد من الأئمة الأربعة، إنما قال بها بعض العلماء لوجود حديث عند أبي داود في ذلك، ولكنها حالة رئيت وصورة نقلت! واتفقوا أنه في حالة السجود يكون باسطاً لأصابع كفه، ناصباً لقدميه على رءوس الأصابع.
وهنا نرجع إلى سبعة أعظم، فقد ذكر القدمين وهما اثنان، مع أن كل قدم فيه خمسة أصابع، لكن ليست هي المقصودة، فالقدمان عشرة أصابع، والكفان عشرة، فصارت عشرين، فالرسول ذكر سبعة، وذكر اليدين والكفين وهي المعتبرة، وأن تكون القدمان منتصبتين، وأطراف أصابع القدمين متجهة إلى القبلة، فإذا كان يصعب عليه هذا الشيء، بأن كانت أصابعه قصيرة، فلا مانع لو ظلت قدمه على رءوس أصابعه ولم يثنها إلى القبلة، ولو صعب عليه وثناها إلى الخلف فليس هناك مانع، لكن إن أمكنه ذلك فهو الأفضل.
(ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً) ، وليس بمجرد أن تصيب جبهتك الأرض فترفعها، ولكن تطمئن، وحد الاطمئنان في السجود والركوع إلى متى؟ عن عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن الرسول سجد وأطال في السجود، ثم همت أن تغمزه، قالت: ظننت أنك قبضت) ، أي: لطول سجوده، وهل كل إنسان يستطيع ذلك؟ لا، فإذا كان الإنسان يصلي وحده فيطول كما شاء، لكن لا ينعس! والمالكية يقولون: إذا نعس وهو راكع لا تبطل الصلاة، وإذا نعس وهو ساجد بطلت، قالوا: لأن النعاس مع الركوع يكون خفيفاً، ولو زاد لسقط على الأرض، بخلاف النعاس مع السجود، فيوجد سبعة أركان يعتمد عليها؛ فيشبع نوماً ولا يسقط.
فإذا كان الإنسان وحده فلا حد للطمأنينة، أما إذا كان يصلي بالناس فكيف يكون الحال؟ يرى العلماء رحمهم الله أن أقل الطمأنينة بقدر ثلاث تسبيحات، وأذكر عالماً كان في زمن الملك عبد العزيز، وكانوا ثلاثة من العلماء، واحد في مكة واثنان في المدينة، وكان أحدهم مسئولاً عن التفتيش في التدريس، وواحد ندبه للصلاة، فقال: بشرط أني في السجود والركوع أسبح ثلاث عشر تسبيحة، فالملك عبد العزيز يغفر الله له قال: هذا تطويل على الناس، فجاء الرجل وسألته: لماذا اشترطت هذا الشرط وفي السنة: (من أمّ بالناس فليخفف) ؟ فقال: أنا لا أريد أن أصلي بالناس، ولذا اشترطت هذا حتى يقولون لي: أنت لا تصلح للصلاة! وفعلاً ما تولى الإمامة.
فجعلوا حد الطمأنينة أن الجسم -والعمود الفقري مركب من عدة فقرات- حينما يكون قائماً ويتحرك الظهر إلى الركوع، فإلى أن تطمئن الفقرات في أماكنها وتستقر هذه طمأنينة، وكذلك في السجود.
وهناك بحث أصولي: الزائد عن الواجب واجب أم ليس بواجب؟ فمثلاً: أقل الواجب ثلاث تسبيحات، فإذا سبح عشرة وكان وحده وليس إماماً، فهل العشر تسبيحات واجبة أم الواجب الإتيان بثلاث، والسبع ليست بواجبة؟ وماذا يترتب على هذا؟ هل يثاب على العشر تسبيحات ثوابه على الواجب؟ في الحديث القدسي: (أفضل ما تقرب العبد إلي بما افترضته عليه) ؛ لأن أجر الواجب أعظم من أجر التطوع، أو أن الكل واجب لأنه متصل ولا فاصل بينها، يهمنا أن أقل ما يصدق عليه طمأنينة في الركوع والسجود والجلسة بين السجدتين قدر ثلاث تسبيحات، وفي الاعتدال من الركوع إذا أتى بالزمن الذي يسع الثلاث يكون قد اطمأن، وإن زاد زاد الله له في حسناته.
(ثم ارفع حتى تطمئن جالساً) ، أي: من السجود حتى تطمئن جالساً، ولا تقل: هذا ركن خفيف، وترفع وتعود إلى السجود دون أن يستقر الجسم قاعداً، لابد أن توجد هيئة الجلوس ومعها طمأنينة.
(ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً) ، أي: اسجد السجدة الثانية كما سجدت الأولى حتى تطمئن ساجداً.
(ثم افعل ذلك في صلاتك كلها) ، وإذا فعل هذا في صلاته سواء كانت ركعتين أو أربع، فهل بمجرد ما فعل هذا انتهت الصلاة؟! أين الجلسة للتشهد الأوسط والأخير؟ وأين التسليم؟ فهل ذكر له جلستي التشهد؟ لم يذكرهما، وهل ذكر له التسليم؟ لم يذكره؛ ولذا قال الأحناف -وإن كان هذا لم يتفق عليه في مذهبهم-: أنه إذا انتهى من التشهد، وصدر منه ما ينافي الصلاة فقد تمت صلاته؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يذكر له السلام كعلامة على الخروج من الصلاة، والجمهور يقولون: افتتاحها التكبير، واختتماها التسليم.
فهنا يقول العلماء: إنما ذكر له الطمأنينة لما رآه يتعجل ولا يقيم للصلاة طمأنينتها، وسكت عن الجلوس للتشهد السلام؛ لأنه رآه جلس وتشهد وسلم، فهو ليس بحاجة إلى تعليم التشهد ولا السلام، فيكون حديث المسيء في صلاته إنما فيما رآه صلى الله عليه وسلم من تقصير الرجل، وسكت عن الباقي المجزئ، وهذه وجهة نظر من يرى أن هذا الحديث خاص بما جهله الرجل، وبما لم يحسنه في صلاته التي رآه فيها صلى الله عليه وسلم.
وإلى هنا انتهى شرح الحديث في الجملة.(57/8)
كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [2]
ورد في وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث، ومن أجمعها وأشملها حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه، فقد ذكر فيه دقائق صفة صلاته عليه الصلاة والسلام، سواء في القيام أو الركوع أو السجود أو حتى الجلوس للتشهد الأخير.
ثم أتى المصنف رحمه الله بحديث علي في دعاء الاستفتاح للصلاة، وهو حديث عظيم يحمل معالم الاستسلام والتوحيد لله عز وجل.(58/1)
شرح روايات حديث المسيء صلاته
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
المؤلف رحمه الله أتى بروايات أخرى لحديث المسيء صلاته، فقال: [ولـ ابن ماجة بإسناد مسلم: (حتى تطمئن قائماً) .
ومثله في حديث رفاعة بن رافع عند أحمد وابن حبان: (حتى تطمئن قائماً) .
ولـ أحمد: (فأقم صلبك حتى ترجع العظام) ] .
أي: حتى ترجع العظام إلى مواقعها، فقد كان راكعاً والظهر معتدلاً، فإذا ما تحرك للرفع تحركت العظام؛ فيجب أن يظل قائماً حتى ترجع العظام إلى أماكنها مستقرة، لأنها مفاصل والمفاصل قابلة للحركة عدة درجات، فإذا اعتدل يجب أن يظل قائماً أو معتدلاً -على حسب الروايات- حتى ترجع العظام في أماكنها وفقراتها.
قال: [وللنسائي وأبي داود من حديث رفاعة بن رافع: (إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى) ] .
في الحديث المتقدم قضية وهي: أن رجلاً رآه النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على حالة لا تجزئ، ويحكى في بعض الروايات: (لو مت على ذلك لم ترح رائحة الجنة) ، وفي بعضها: (دخلت النار) ؛ ولهذا يقول العلماء: إن هذا الحديث أشد ما يكون تحذيراً من التراخي والتهاون في أداء الصلاة، والصلاة التي لا يتم ركوعها وسجودها تلف كما يلف الثوب الخرق ويرمى بها في وجه صاحبها، ولا تفتح لها أبواب السماء.
إذاً: يلزم كل إنسان في أداء صلاته أن يطبق هذا الحديث، وكله يدور على الطمأنينة، وقراءة ما تيسر من القرآن.
وفي رواية النسائي توجيه الخطاب للعموم: (إنها لا تتم صلاة أحدكم) ، وقوله: (أحدكم) ، تشمل الجميع بسبيل البدلية من الأحدية، أحد، أحد، أحد أحدكم: كل واحد منكم.
وقال: (حتى يسبغ الوضوء) ؛ لأن الوضوء هو مفتاح الصلاة، وعليه تنبني، فإذا كان الوضوء غير سليم بأن كان الماء متنجساً، أو مغصوباً -كما عند الحنابلة- أو كان الغسل غير سابغ للأعضاء -كما عند الجمهور- فليس هناك فائدة من صلاته حتى يسبغ الوضوء.
وقوله: (حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى) ، بم أمره الله؟ {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] ، وهذا الحديث نص صريح في قضية يتنازع فيها العلماء: هل الترتيب شرط في صحة الوضوء أم لا؟ الشافعي يرى أن الترتيب واجب، وأخذ ذلك من إدخال الممسوح بين مغسولين في الآية {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة:6] ، فـ الشافعي قال: إذا كانت المسألة ليس فيها ترتيب كان سيجعل الممسوح على حدة بعد أن يكمل المغسولات؛ وذكر غسل الرجلين أنسب مع اليدين، ثم يذكر مسح الرأس، أو يقدم مسح الرأس مع الوجه؛ لأنه أقرب إلى الوجه، ثم يأتي باليدين وينزل إلى الرجلين، فلما أدخل مسح الرأس بين اليدين والقدمين وهما مغسولان وجب أن نضع المسح في مكانه، ومن هنا وجب الترتيب.
وهنا الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى) ، وبماذا أمر الله؟ وجوهكم، وأيديكم، ورءوسكم وأقدامكم، إذاً: من غير هذا الترتيب لم يتوضأ كما أمره الله، ولا حاجة إلى ذكر ما روي عن علي على خلاف: (لا أبالي إن غسلت قدمي قبل أو وجهي قبل) ، ولو صح هذا ونقل فيكون شاذاً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم طيلة حياته ما توضأ إلا كما أمره الله، يبدأ بالوجه ويختم بالقدمين.
(ثم يكبر الله تعالى ويحمده ويثني عليه) ، ثم يكبر الله تعالى ويحمده بقوله: الحمد لله، ويثني عليه، والثناء هو مدح المثنى عليه، ويقولون: هناك فرق بين الحمد والثناء، وبعض العلماء يفسر الحمد لغة بالثناء، لكن الحمد شيء، والثناء شيء آخر، فالحمد هو: ثناء على المحمود لكمال ذاته وصفاته، أما الثناء على المحمود أو على المثنى عليه فلحسن صنيع صدر منه، ولو لم يصل إليك، والشكر: ثناء عليه في مقابل نعمة أسداها إليك، فتحمد وثني وتشكر.
فالحمد لا يكون مطلقاً إلا لله، ولذا يقولون: (ال) في قوله سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة:2] للاستغراق، فقد استغرقت جميع المحامد لله؛ لكمال ذاته وصفاته، ولو لم يصل إلى الخلق منه شيء، فهو في ذاته كامل الذات والصفات، فكان الحمد كله إليه.
أما الثناء في اللغة فهو لحسن صنيع ممن يثنى عليه ولو كان غير مسلم، مثلاً: سمعت بطبيب ماهر عالج المرض الفلاني، أو اخترع الدواء الفلاني، ونفع الله به الخلق، وهو غير مسلم، هل تثني عليه أم تسبه؟ لاشك أنك تثني عليه؛ لأنه صنع صنيعاً حسناً، سواء كان مسلماً أم كافراً.
إنسان صنع لك معروفاً وأوصله إليك فعلاً، ضاع ولدك مثلاً وأتاك به، سقط منك شيء مهم وجاء إليك به، دفع عنك ضراً، ولو كان غير مسلم تشكره على هذا الصنيع أم تجحده؟ تشكره.
طبيب يهودي أو نصراني، وعندك مرض خطير، وليس في العالم أحد يعالج هذا النوع من المرض إلا هذا الطبيب، وهو على دينه الذي هو عليه، فعالجك، وأجرى الله لك الشفاء في علاجك على يديه، هل تذكره بالخير أم بالسوء؟ تذكره بالخير، وتدعو الله له بالإسلام.
إذاً: الحمد والثناء والشكر كلها أعمال في مقابل، فالحمد المقابل لكمال الذات والصفات، والثناء لإحسان وإجادة فعل، والشكر لمن أسدى إليك معروفاً وصل إليك عنه، فاحمد الله واثن عليه، وهل المراد بهذا في الفاتحة؟ الفاتحة فيها حمد وثناء لأنك تقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:2-4] ، وكل هذا ثناء على الله.
وقوله: (وإن كان معك قرآن فاقرأ، وإلا فاحمد الله وكبره) ، هذا التفسير في رواية النسائي: (إن كان معك قرآن) ، وقرآن يشمل ما بين دفة المصحف الأولى إلى دفته الأخيرة، من فاتحة الكتاب إلى سورة الناس، معك شيء من هذا القرآن ولو آية اقرأ بها، ولو لم يكن معك شيء من القرآن؛ فيجزئك أن تقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وتذكر الله بالتسبيح والتحميد إلى أن تحفظ الفاتحة.
ولـ أبي داود: (ثم اقرأ بأم الكتاب وبما شاء الله) ، اقرأ بأم الكتاب إن كنت تحفظها، وإن كانت معك، وليس هناك معارضة مع ما قبلها: (إن كان معك من القرآن) ، والفاتحة إن كان يحفظها فهي من القرآن.
ولـ ابن حبان: (ثم بما شئت) ، ثم بما شئت بعد الفاتحة من آية أو سورة صغيرة.(58/2)
شرح حديث أبي حميد في صفة صلاة النبي
قال رحمه الله: [وعن أبي حميد الساعدي رضي الله تعالى عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر جعل يديه حذو منكبيه) ] .
حديث أبي حميد الساعدي هذا يكاد يكون أجمع الأحاديث في بيان صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ساقه ابن القيم رحمه الله تحت قوله: صفة صلاة رسول الله من أول استقباله القبلة إلى أن يسلم كأنك تراها.
وساقه بزيادة على بعض الألفاظ الموجودة هنا نوعاً ما، لكن بروايات أخرى.(58/3)
رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام
يقول: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر) ، وتقدم التنبيه على أن هناك كلمات منحوتة من أكثر من لفظ، كبر: أي قال: الله أكبر، وسبح قال: سبحان الله، وهلل: قال: لا إله إلا الله.
وأخذ العلماء فيه أن افتتاحية الصلاة إنما هي بقول: الله أكبر، وأشرنا إلى مذهب أبي حنيفة رحمه الله في ذلك، وأنه يرى صحة افتتاح الصلاة بأي لفظ فيه تعظيم لله؛ ونظر في ذلك إلى معنى التكبير، لكن الجمهور يقولون: الصلاة تعبدية، والرسول صلى الله عليه وسلم علم المسيء في صلاته أن يكبر، وهنا كان صلى الله عليه وسلم إذا كبر رفع يديه حذو منكبيه، ويبين الغزالي رحمه الله في هذه الحالة: أن رفع اليدين حذو المنكبين بجعل بطون كفيه إلى القبلة، وظهورهما إلى الوراء، ويقول: فيه الإشارة إلى أن المصلي حينما يقف بين يدي الله ويرفع يديه على هذه الحالة كأنه يشير إلى إقباله على الله، ورفض الدنيا وراء ظهره؛ لأنه يجعل ظهور كفيه إلى الوراء، فكأنه يقول: أنا تركت أمور الدنيا، وأقبلت على الله.
وتقدم أيضاً التنبيه على كلمة: (حذو منكبيه) ، وفي الرواية الأخرى: (شحمتي أذنه) ، والجمع بين ذلك: أن حذو منكبيه لأول الكفين، وشحمتي أذنه لأطراف الأنامل، وبعض العلماء يقول: المرأة كالرجل في ذلك، ولكن الأولى لها ألا تتجاوز حذو منكبيها، لئلا يكون هناك مبالغة في رفع اليدين.(58/4)
هيئة الركوع
قال: (وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر ظهره) ، ولم يذكر لنا القراءة؛ لأنها معروفة، وغيره يذكر قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفريضة، والاقتصار على المفصل، سواء من طوال المفصل أو قصاره أو أوسطه، وأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تذكر لنا قراءته في قيام الليل، وأنه ربما خفف القراءة، وربما أطال فيها، وربما قرأ البقرة وآل عمران والنساء في ركعة واحدة.
إذاً: أبو حميد يذكر لنا الهيئة والكيفية العملية، فإذا ركع ماذا فعل بركبتيه؟ (أمكن يديه من ركبتيه) ، ولم يستند على الركبتين ولكن أمكن، وكيفية الإمكان كما يقول العلماء: ألقم كفيه ركبتيه، ويفرج الأصابع ويقوسهما بحسب حالة الركبتين، وكأنه يمسك على الركبتين بأصابعه، فيصير متمكناً من إمساكه الركبتين بكفيه، لا مجرد استناد أو وضع، ولكن بالتمكين؛ وذلك بتفريج الأصابع وقبضها على الركبتين.
(ثم هصر ظهره) ، هصر بمعنى: مداً معتدلاً، ليس فيه تقويس، ولا ارتفاع، قالوا: لو أن إنساناً أتى بقدح من ماء ووضعه على ظهره صلى الله عليه وسلم وهو راكع لم يتدفق القدح، لاستواء الظهر تحت هذا القدح.
(فإذا رفع رأسه استوى حتى يعود كل فقار مكانه) ، فإذا رفع رأسه من الركوع اعتدل، بمعنى: استوى قائماً معتدلاً لا منخفضاً إلى الركوع، ولا هوياً أكثر من ذلك بل اعتدل، وفي حالة هذا الاعتدال تأتي الطمأنينة، وعبر عنها بقوله: (حتى يعود كل فقار مكانه) أو يعود كل عظم مكانه، وأشرنا إلى أنهم يقولون: إن ظهر الإنسان فيه ما يسمى العمود الفقري، وهو مركب من عدة فقرات، ومن الممكن فصل بعضها عن بعض، وترى ذلك بوضوح في الهيكل العظمي، سواء كان في الإنسان أو الحيوان، والنخاع الشوكي يمر في هذه الفقرات، فمراده بقوله: (حتى يعود كل فقار إلى مكانه) ، أن يستوي ويستقر في موضعه.(58/5)
هيئة السجود
قال: (فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما) ، في عرض أبي حميد رضي الله عنه لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لنا من الحركات: رفع اليدين حذو المنكبين، وتمكين يديه من ركبتيه، وهصر ظهره، ورفعه من الركوع، وبعد الرفع من الركوع سجد! إذاً: ليست هناك حركة بعد الرفع من الركوع ورجوع كل فقار مكانه وبين السجدة، رفع وانتظر حتى يرجع كل عظم مكانه، ولم يذكر وضع اليمين على اليسار بعد الرفع من الركوع، وممكن أن نقول: لم يذكره أيضاً عند قيامه للقراءة، قال: إذا كبر رفع، وإذا ركع أمكن، فلم يذكر وضع اليمنى على اليسرى عند القراءة، مع أن ذلك من السنة.
فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابض، والافتراش منهي عنه كما في الحديث: (نهى أن يفترش المصلي ذراعيه افتراش السبع) ، والافتراش هو: أن تجعل الذراع كاملاً على الأرض، والصحيح أن ترفع مؤخر الذراع، فالمرفق لا يكون ملاصقاً للأرض، وتضع اليدين فقط، أي: الكفين، وبقية الذراع لا تلصقه بالأرض؛ لأن التصاق الذراع بالأرض هي صفة السبع حينما يكون باركاً، فيقول العلماء: جاء النهي عن أن يتشبه الإنسان في صلاته بكثير من الحيوانات، فنهي عن افتراش السبع، وإقعاء الكلب، ونقر الديك، والتفات الثعلب، وأن يقف وقوف الفرس الشموس، وهو: أن يبادل بين قدميه؛ فمرة يعتمد على هذه ويرفع الأخرى، ثم يعتمد على الأخرى ويرفع تلك، أو ربما رفع إحدى قدميه عن الأرض، فكل ذلك جاء النهي عنه للمصلي، فلا يتشبه في صلاته بتلك الحيوانات.
(غير مفترش) أي: غير ممكن ذراعيه من الأرض، بل يكون مرتفعاً من الخلف، (ولا قابض) أي: لا يكون قابضاً لهما إلى جنبه، ويسجد بين يديه، وليس مفترشاً كالسبع، ولا ماددها طويلاً، ولا قابضها إلى جنبه.
وبعض الناس قد يغالي في وضع اليدين وعدم افتراشهما، وعدم قبضهما، ويجافي بيديه عن ضبعيه، ويكون ما بين منكبه وشاكلته قدر الذراع، وهذا إذا زاد عن الوضع الطبيعي يكون فيه شذوذ، لكن يكون معتدلاً، بخلاف المرأة فإنها تضم نفسها؛ لأنه أستر لها، ونقول لهذا الذي يفعل هكذا: المجافاة لها حد، فإذا كنت في الجماعة تفعل هكذا، والذي بجانبك يفعل هكذا، فأين يذهب الناس؟! إن كنت منفرداً فنعم، ولكن بغير صورة خارجة عن المألوف؛ لأن هذا يستدعي الانتباه، ويلفت النظر، وكل شيء جاوز حده فليس مطلوباً، لا إفراطاً ولا تفريطاً، لا تضمها إلى جسمك، ولا تجافي بها إلى حد النشوز والشذوذ، فكان صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع يديه لا ذراعيه، ولا يفترش افتراش السبع.
قال: (واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة) ، أي: عند السجود يستقبل بأطراف أصابع قدميه القبلة، فينصب القدمين، ولا يضع رءوس أصابع القدمين على الأرض، فتكون الأظفار هي المرتكزة على الأرض، ولكن تنحني أصابع القدمين معها، هذه هيئة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(58/6)
هيئة الجلوس بين السجدتين والتشهد
قال: (وإذا جلس في الركعتين: جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى) ، وإذا جلس بين السجدتين جلس على رجله اليسرى، أي: على بطن قدم رجله اليسرى، ونصب اليمنى على أطراف أصابعها إلى القبلة، وهذه الجلسة بين السجدتين، وعند التشهد الأوسط.
(وإذا جلس في الركعة الأخيرة: قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى، وقعد على مقعدته) ، في الجلسة الأخيرة التي فيها نهاية الصلاة والسلام لا يجلس على قدمه اليسرى كما جلس بين السجدتين، ولا كما جلس في التشهد الأول، ولكن يقدم رجله اليسرى، وينصب اليمنى كما نصبها في الجلسات الأول، وإذا قدم رجله اليسرى عن مستوى جلوسه الأول، فسوف يجلس على إليته مباشراً للأرض، والرجل اليسرى التي كان يجلس عليها خرجت من تحت اليمنى، واليمنى على ما كانت عليه، وهذه يسمونها جلسة التورك، والعلماء يستنتجون من هذه الهيئة أنه كيفما فعلت في هيئتك في الصلاة لا يستطيع إنسان أن يقول: إن صلاتك باطلة، فمن لم يمكن يديه من ركبتيه ووضعهما على ركبتيه فقط، أو لم يجلس على اليسرى، وينصب اليمنى، أو نصب ثنتين ولم يجلس على إليته في التشهد الأخير، وجلس كما يجلس في التشهد الأول، فباتفاق العلماء أن الصلاة صحيحة، لكن لا ينبغي أن يتعمد ترك السنة وهو يستطيع فعلها.
لماذا فرق بين الجلسة في التشهد الأوسط والجلسة في التشهد الأخير؟ قالوا لأمرين: الأمر الأول: أن الجلسة في التشهد الأول خفيفة، ويمكنه أن يجلس على قدمه اليسرى ولا يتألم لذلك ولا يحصل عليه ثقل، بخلاف الجلسة في التشهد الأخير فإنها أطول، فيحتاج إلى جلسة أكثر راحة، والتورك لو أطال بهيئته الجلوس لا يشق عليه، هذا من جهة المصلي.
الأمر الثاني: إذا جاء المسبوق ورأى الإمام جالساً، فهو لا يدري: أهو في الجلوس الأوسط أم الجلوس الأخير؟ فإذا رأى هيئة الجلسة ميز بينهما، فإذا كان على رجله اليسرى فهو في الأوسط، وإذا تورك وجلس على الأرض فهو في الأخير، فهذه الهيئة تعطي المتأخر المسبوق إشارة في أي أنواع الجلسات، وفي أي فترة من فترات الصلاة، والله أعلم.(58/7)
قدر قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة
يقول أهل العلم: إن حديث أبي حميد هو أوفى وأوسع حديث في بيان صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن العلماء يجمعون في ذلك أطراف الأحاديث، وابن القيم رحمه الله في كتاب الصلاة -وهو كتيب صغير- يقول: وإليك صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول استقباله القبلة إلى أن يسلم، وما ترك جزئية ترد في الصلاة إلا وذكرها، وذكر سندها، واعتمد في عرضه على حديث أبي حميد هذا، وعند كل حركة يأتي بما أتى فيه، فيأتي عند استقبال القبلة، والتكبير ورفع اليدين، ثم ينتقل إلى الأذكار، ودعاء الافتتاح.
إلخ.
ومعلوم أن أي صيغة افتتحت بها الصلاة أجزأت، والمؤلف هنا لم يذكر لنا في حديث أبي حميد صيغة من صيغ افتتاح الصلاة، وإنما أتى في ذلك براوية عن علي وعمر رضي الله تعالى عنهما، ثم بعد التكبير وفي حالة الافتتاح يأتي ابن القيم أيضاً وغيره بما ورد عنه، وقد ألفت كتب في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أدعية الافتتاح حديث أبي هريرة أنه سأل رسول الله: ما هذه السكتة بعد تكبيرة الإحرام وقبل القراءة؟ لأنه إذا كانت الصلاة جهرية فكبر لم يباشر القراءة بعد التكبير بل هنا سكتة، فيقول: سألت رسول الله عن هذه السكتة، فقال: أقول.
، وذكر دعاء الافتتاح بعد تكبيرة الإحرام، وقبل أن يبدأ بالقراءة، ثم يذكر الركوع، وأنواع القراءة، وينبه على أنه صلى الله عليه وسلم في غالب أحيانه لا يأتي بآية من نصف السورة ويركع، ولكن إما أن يقسم السورة بين الركعتين، وإما أن يبتدأ بأول السورة، ويقول: لم يأت عنه أنه أخذ آيات من آخر أي سورة، إما من أولها وينتقل إلى أخرى من أولها، أو يقسم السورة بين الركعتين، أو يأخذ سورة من سور المفصل بكاملها في الركعة، وهذا عند مالك هو الأحب: ألا يجتزئ ببعض الآيات، ويقول: الأولى أن يأخذ سورة كاملة.
وهذه في الواقع نظرة دقيقة جداً؛ لأن السور الصغار تجدها موضوعية في ذاتها، وانظر مثلاً إلى (لإيلاف قريش) ، موضوعها مطالبتهم بعبادة رب البيت في مقابل أنه أطعمهم وآمنهم، يعني قضية مستقلة بأدلتها، وكذلك: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1] ، قضية في قصة مكتملة في هذه السورة، وخذ مثلاً: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، موضوعها توحيد الباري سبحانه وتعالى، خذ (الفلق) ، (الناس) ، (الكوثر) ، (التكاثر) ، (القدر) ، كل سورة من السور الصغيرة تجدها تشتمل على موضوع مستقل مكتمل، ولكن لما تأتي وتأخذ من سورة الرحمن ستأخذ وصفاً جزئياً، وتأتي إلى سورة الواقعة ستأخذ مثله أيضاً، وتأتي إلى سورة البقرة وتأخذ أيضاً قضية جزئية؛ ولذلك مالك رحمه الله استحب أن المصلي يقرأ مع الفاتحة سورة كاملة، فكونه وحده يأخذ سورة طويلة أو إمام يأخذ سورة صغيرة، فهذا أولى عنده من أن يأخذ بعض آيات من بعض السور.
ويذكر ابن القيم رحمه الله وغيره أن قراءته صلى الله عليه وسلم لم تكن على وتيرة واحدة، ولم يلتزم سورة معينة في صلواته الخمس، ولكن ربما أخذ شكلاً معيناً في صلاة الصبح يوم الجمعة: (السجدة، وهل أتى) ، ويقولون: المناسبة أن يوم الجمعة هو اليوم الذي فيه خلق آدم، وأسكن فيه الجنة، وأنزل إلى الأرض، وتاب الله عليه، وفيه تقوم الساعة، وسورة السجدة فيها تذكير بيوم القيامة، وكذلك سورة هل أتى على الإنسان فيها تذكير بحياة الإنسان ابتداءً ومنتهاه في يوم القيامة، فتناسب الزمان مع موضوع القراءة، وكذلك يمكن في الجمعة قراءة سورة ق وغيرها، وفي العيدين سبح والغاشية، وهذا كان يتكرر منه صلى الله عليه وسلم.
أما في الصلوات الخمس فلم يكن يعتاد قراءة سورة بعينها ويكثر من إيرادها في الصلاة، وسورة (ق) كان يقرؤها صلى الله عليه وسلم في الخطبة يوم الجمعة، وبعض الصحابيات تقول: ما أخذت (ق) إلا من رسول الله على المنبر، تعني يوم الجمعة، وكان كثيراً ما يقرأ بالطور في المغرب، لكن لا يلزمها في كل الصلوات.
إذاً: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على وتيرة واحدة، بل جاء عنه قوله: (كنت أدخل في الصلاة بنية الإطالة فأسمع بكاء الأطفال فأخفف شفقة بالأمهات) ؛ لأن الأم إذا سمعت طفلها يبكي لم يعد يبق في الصلاة.
إذاً: مما يذكرونه في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: موضوع القراءة.
ثم يركع، والذكر الوارد في الركوع: سبحان ربي العظيم، وفي السجود: سبحان ربي الأعلى، وإذا رفع من الركوع قال: سمع الله لمن حمده.
ربنا لك أو ربنا ولك.
ويناقش بعض العلماء: هل هما سواء، أم أن زيادة الواو تدل على زيادة معنى؟ فبعضهم يقول: الواو عاطفة على جملة محذوفة: (سمع الله لمن حمده) ربنا اغفر لي ولك الحمد، ما دام يسمع من حَمِده فنحمده ويسمعنا، وهناك من يزيد بعض الألفاظ الأخرى، وكل هذا مدون ومذكور في كتب الحديث والأدعية: (حمداً طيباً طاهراً مباركاً فيه، ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد ... ) مما يشعر بأن الرفع من الركوع يستغرق زمناً لمثل هذا الدعاء، وفي هذا رد على من يقول: إنه ركن خفيف بمجرد الاعتدال منه يمكن أن يهوي للسجود.(58/8)
شرح حديث: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً)
قال رحمه الله: [وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض، إلى قوله: من المسلمين) ] .
هذا يذكره علي رضي الله تعالى عنه إذا قام إلى الصلاة، وهل يقوله في الصلاة أم خارجها؟ يقوله: في الصلاة بعد أن يكبر تكبيرة الإحرام.
و (فطر) أو (خلق) كلاهما ورد في الشرع، وفطر بمعنى: أوجد على غير مثال: {فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعام:14] ، وكذلك: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:117] ، بأن أوجد الشيء على غير مثال يحاكيه، فطر السماوات والأرض، وفي هذا تعظيم لله واعتراف بربوبيته وقدرته سبحانه وتعالى وجهت وجهي لمن يستحق أن أتوجه إليه بسبب عظمته وقدرته.
حنيفاً: أي: مائلاً عن الشرك مسلماً لله، (وما أنا من المشركين) يتبرئ من الشرك في هذا المقام: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] ، والنسك كل العبادات، ومحياي، أي: مدة حياتي وما أتصرف به في الحياة.
إن بعت، أو اشتريت، أو كافأت، أو عاملت يكون كل تعاملي لله، بمعنى: أن أراعي فيه ما شرع الله، وأقصد فيه رضا الله، وأتبع فيه ما شرع الله حياتي لله، العالم كله لله رب العالمين، فهذا الإنسان يجدد الإقرار والشكر لله.
(محياي) مصدر ميمي أو اسم زمان أيضاً، وحياة الإنسان كلها لله، إن نام لله، وينوي بذلك شكر الله على نعمة الصحة والعافية، والاستعانة على ما سيأتي من عمل آخر، وإن قام وسعى لله، وإن اكتسب لله؛ لأنه يصرفه في سبيل الله.
ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً مع أصحابه، فمر شاب فتى قوي، فقال أحد الحضور: لو كان هذا النشاط في سبيل الله؟! يعني: بقوته ينكأ في العدو، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله -أي: خير من أن يتكفف الناس السؤال- وإن كان خرج يسعى على أبويه فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على زوجه وعياله فهو في سبيل الله) .
إذاً: معنى محياي: أنني ما تحركت حركة ولا اكتسبت مكسباً إلا لله، ولأجل أن يصرف في سبيل الله سبحانه وتعالى، وكذلك مماتي مرده لله رب العالمين لا شريك له.
{وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:163] {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] ، وبذلك أمرت بأن تكون حياتي كلها لله، كما في الحديث: (حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يسعى بها) ، هل الله سبحانه وتعالى سيحل في الإنسان، ويكون عينه وسمعه وبصره ويده ورجله؟! حاشا لله! لكن المعنى: أنه لا يسمع إلا ما يرضيني، فلا يتصنت إلى ما لا يجوز له، ولا يستمع إلى ما حرم الله، ولا يشارك في غيبة ولا نميمة، وبصره لا ينظر به إلى الحرام، بل ينظر نظرة اعتبار وتأمل في خلق الله: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} [آل عمران:191] ، فإذا عرض له محرم غض بصره، وكذلك يده لا تمتد إلى ما حرم الله، ولكن تعمل وتسعى فيما هو لله، وكذلك محياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك، وبذلك أمرت، وأنا من المسلمين أو وأنا أول المسلمين، إن قال: أول المسلمين فلا بأس تبعاً للنص، وإن قال من المسلمين على العموم فلا مانع من ذلك، والله تعالى أعلم.
هذا من صيغ الافتتاح ولك أن تأخذ بهذه الصيغة، أو أن تكتفي في افتتاح صلاتك بما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه.
وفي رواية: (إن ذلك في صلاة الليل) ، وسواء في صلاة الليل، أو النهار أو أي حالة من الحالات فإن هذا نوعاً من الدعاء الذي يأتي به الإنسان في افتتاح صلاته.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبيه وحبيبه محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(58/9)
كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [3]
كما وجد الأذان في الشرع لتهيئة العبد إلى ما هو مقبل عليه من أداء للفرائض؛ كذلك شرع دعاء الاستفتاح لتهيئة أخرى؛ فهو يجمع في طياته جملاً عظيمة من التوحيد تهيئ العبد للإقبال على الله تعالى بكل معاني الإخلاص والتجرد له سبحانه، وتجعله يستقبل صلب الصلاة بنفس مطمئنة راضية، قد خلف وراءه كل المعاصي وابتعد عنها واغتسل منها كل ذلك ليكون أهلاً لمغفرة الله ورضوانه لما سيكون منه فيما بعد من دخول في الصلاة بخشوع.(59/1)
شرح حديث: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي ... )
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر للصلاة سكت هنيهة قبل أن يقرأ، فسألته فقال: (أقول: اللهم باعد بين وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد) ، متفق عليه] .
يذكر المؤلف رحمه الله تعالى ما جاء في دعاء الافتتاح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، فقد لاحظ أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر تكبيرة الإحرام يسكت هنيهة، فسأل: ما تقول في هذه السكتة يا رسول الله؟! فبين له ما يقول في هذه السكتة.
وفي هذا الحديث يبحث العلماء في سكتات الإمام في الصلاة، فبعضهم يقول: الأولى: السكتة للاستفتاح، وهي محل اتفاق، والثانية: بعد قراءته سورة الفاتحة وقبل قراءة السورة التي بعدها، والثالثة: بعد قراءته السورة، فهذه ثلاث سكتات: بعد تكبيرة الإحرام، وبعد قراءة الفاتحة، وبعد الفراغ من القراءة كلية وقبل أن يركع، وبعضٌ ينازع في الثانية ويقول: إذا أنهى قراءة الفاتحة شرع في قراءة السورة أو الآية التي بعدها، وبعض يثبتها حتى يعطي المأموم الفرصة ليقرأ الفاتحة، وبعض يذكر الخلاف في السكتة الأخيرة قبل الركوع، والسكتة التي قبل الركوع أثبت من السكتة بين الفاتحة والسورة التالية.(59/2)
طلب المباعدة بينه وبين الخطايا
قوله: (أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب) .
هذا الدعاء يسأله النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل وهو لا خطيئة له: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2] ، وجاء التنبيه على لفظ (اللهم) : بزيادة الميم في الأخير بدل ياء النداء، أي: (يا الله باعد) فيحذف ياء النداء ويأتي بالميم في الأخير: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي) ، وهذه المباعدة لتلك الخطايا في الماضي أم للمستقبل؟ إن كانت عن الماضي فهي بمعنى: اغفر لي وارحمني واصفح عني، ولا تجعل بيني وبينها اختلاط ولا اجتماع بأن تغفرها لي: فإذا كان قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ فماذا يباعد؟ قالوا: هذا تعليم لنا، وهي زيادة رفع له في درجاته صلى الله عليه وسلم، كما لو فرضنا أن إنساناً يستغفر الله بكثرة وليس عنده ذنوب؛ فيكون استغفاره رفعه له في درجاته، والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (توبوا إلى الله؛ فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة) ، سبحان الله! الرسول يتوب إلى الله في اليوم مائة مرة! والتوبة لا تكون إلا من ذنب، قالوا: ربما أن بعض التقصير يعتبره صلى الله عليه وسلم ذنباً، ولذا فإنه يتوب منه، كما ثبت في دعاء الخروج من بيت الخلاء: (غفرانك) ، غفرانك من ماذا؟ لأنه لما دخل بيت الخلاء امتنع من ذكر الله، فلما خرج اعتبر فترة وجوده في بيت الخلاء المانع من ذكر الله خطيئة، فقال: غفرانك ربي عن هذا الوقت الذي ذهب من غير ذكرك! ولكن هذا شيء.
والتحقيق: أنه تعليم للأمة، كما تقدم في الخطاب الذي يوجه إليه صلى الله عليه وسلم، وليس هو المقصود به أبداً، كما في قوله سبحانه وتعالى في حق الوالدين: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23] ، لمن يقول؟ أبوه قد توفي وهو في بطن أمه، وأمه توفيت وعمره سبع سنوات، من سيبلغ عنده الكبر من والديه؟ ليس هناك أحد منهما، فيكون هذا قطعاً المراد به الأمة، فقد خوطبوا في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاًَ: هنا كذلك: (باعد بيني وبين خطاياي) ، والحال ليس هناك خطايا، يقول: (أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة) ، والحال ليس هناك ذنوب يتوب منها؛ إنما يكون تعليماً لنا، ورفعاً لدرجاته صلى الله عليه وسلم.
وهنا المباعدة إن كان المراد بها خطايا متقدمة يكون المراد غفرانها وسترها ومحوها، لأن المشرق والمغرب لا يلتقيان أبداً، فكذلك هو والخطايا لا يلتقيان، وإن كان للمستقبل فالمراد بها: باعد بيني وبين أسباب ارتكاب الخطايا؛ حتى لا أخطئ كما باعدت بين المشرق والمغرب، فلا أجتمع أنا وخطيئة أبداً كما لا يجتمع المشرق والمغرب أبداً.(59/3)
التنقية والاغتسال من الذنوب
قال: (اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس) ، كما قيل: إن البياض لا يحتمل الدنس، فالغترة البيضاء إذا جاءت ذبابة ووضعت عليها نقطة ظهرت فيها، أما الملونة لو جاء الفأر ما كان ليظهر فيها شيء، فهنا التشبيه: (نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض) الذي لا يحتمل دنساً أبداً، وكما ينقى الثوب الأبيض من الدنس نقني أنا أيضاً من خطاياي، واجعل صحيفتي بيضاء نقية.
ثم قال: (اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد) باعد، نقي، اغسل، كل أنواع الابتعاد من الخطايا يكررها ويجمعها صلى الله عليه وسلم، وإذا كان هذا في حقه، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما بالنا نحن؟! ولهذا في الحج حينما يطوف الحاج طواف الوداع يأتيه ملك يربد بين كتفيه ويقول: استقبل عملاً جديداً فصحيفتك بيضاء نقية، وهنا يقول: (اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد) ، وكان يكفي الماء فهو يغسل كل شيء، لكن معه الثلج، ومعهما البرد، وما الذي أوجب مجيء الثلج والبرد؟ بعض العلماء يقول: إن الخطيئة عند المؤمن تسبب له الندم، والندم يجعل عند الإنسان حرارة، فإذا غسلت بالماء زال أثرها كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، لكن تبقى حرارتها فتغسل بالثلج فتذهب حرارة الخطيئة في نفسه، ويأتي البرد زيادة على ذلك، ويمكن أن يقال: حبيبات البرد أقوى في إزالة الدنس، فعندما يكون لديك زجاجة فيها زيت وغسلتها بالماء فإنه لا يذهب، فإذا أخذت قليلاً من الرمل ووضعتها في الزجاجة ورجيتها، فالرمل بحركته في جدران الزجاجة يأخذ الزيت، فكأن أجرام الرمل داخل الزجاجة تساعد على نظافتها، فكأن إمرار البرد على الصحيفة يساعد على إنقائها أكثر من مجرد إمرار الماء.
فيقول العلماء: الحكمة من جمع الثلج والبرد: أن الماء منقٍ، والثلج والبرد لأمر معنوي في أثر الخطيئة عند المؤمن؛ لأنه يشعر بأنه ارتكبها، والارتكاب يجعل عنده الندم، والندم يبعث على الحرارة والأسى على ذلك؛ فيكون الثلج والبرد يطفئ حرارة الأسى والندم من الخطيئة؛ فينمحي أثرها بالكلية.
نسأل الله أن يغسلنا من الذنوب، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.(59/4)
شرح حديث: (سبحانك اللهم وبحمدك ... )
قال رحمه الله: وعن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جَدُّكَ، ولا إله غيرك) ، رواه مسلم بسند منقطع، ورواه الدارقطني موصولاً وموقوفاً] .
هذه صيغة أخرى من صيغ الاستفتاح، وهل كان يجمع الجميع، أو تارة يقول هذا وتارة يقول هذا؟ يتفقون على أن الصيغ كلها مشروعة، وإن أتيت بالبعض، أو الكل، أو اكتفيت برواية منها فإن ذلك جائز.
قوله: (سبحانك الله وبحمدك) ، مادة التسبيح كما في تتمة أضواء البيان عند أول سورة الحشر جاءت في القرآن بكل تصاريفها: (سبح لله، يسبح لله، سبح اسم ربك) صيغ الأفعال الثلاثة: الماضي والمضارع والأمر، وسبح الله نفسه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1] ، وتسبح له الملائكة والرعد بحمده، ويسبح له الجماد: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44] ، فالتسبيح عبادة جميع الكائنات، بل إن رب العزة قد سبح نفسه كما تقدم.
والتسبيح معناه عظيم جداً، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) ، وعند مسلم: (الحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض) ، وهل ثواب كلمتين خفيفتين على اللسان تملآن ما بين السماء والأرض -ومسيرة ذلك خمسمائة عام- لمجرد أنها مرت على طرف اللسان: سبحان الله والحمد لله؟ بل لما تضمنته كلمة: (سبحان الله) من جليل المعاني، ويذكر علماء اللغة أن الحروف قوالب المعاني، بمعنى: أن الحروف تكوّن الكلمة، والمعنى في قالب، وكل معنى له قالب يناسبه، كما أن كلنا له ثوب يناسبه، فالألفاظ بالنسبة للمعاني كالثياب بالنسبة للإنسان.
يقول بعض فقهاء اللغة: كلما وجدت كلمتين متفقتين في أكثر الحروف فبينهما صلة وارتباط في أصل المادة، ويقولون: الأصل في وضع اللغة للمادي المحسوس، ثم ينتقل منه إلى المعنوي، فسبحان على وزن فعلان، والألف والنون زائدتان، وأصل المادة: (سَبَحَ) وإذا جئنا إلى المعنى المحسوس في (سَبَحَ) ؛ فإن سبح يسبح بمعنى الذي نزل إلى الماء ليسبح لئلا يغرق! فالسباحة وسيلة للنجاة، والسباحة وسيلة لعبور النهر، لذا قالوا: المعنى الذي في سبحان مأخوذ من أصل الوضع والترتيب للسباحة، فكما أن السابح في الماء بسباحته ينجو من هلاك الغرق، فمن يسبح الله ينجو من هلاك التشبيه ووصف الله تعالى بما لا يليق به، والسباح ينجو بنفسه، فكذلك المسبح لربه ينزهه عما لا يليق بجلاله، وكذلك السابح يصل إلى غايته، وكذلك من يسبح ربه يصل إلى مرضاة الله.
إذاً: (سبحان الله) تنفي عن الله كل ما لا يليق بجلال الله.(59/5)
الفرق بين الحمد والشكر والثناء
قوله: (سبحانك اللهم وبحمدك) ، ما معنى الحمد؟ الحمد: ثناء على المحمود لكمال ذاته وصفاته، واللغة فيها: حمد وشكر وثناء، والحمد المطلق لا يكون إلا لله سبحانه، ولذا يتفقون على أن (ال) في قوله سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة:2] للاستغراق، أي: استغرقت جميع المحامد كلها لله، ولا يحمد لكمال ذاته إلا الله، بخلاف الشكر والثناء؛ إذ الشكر يكون في مقابل نعمة: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] ، يزدكم من نعمه، أي: ينعم عليك فتشكره، وفي الحديث: (من لم يشكر الناس لا يشكر الله) ، فالشكر مقابل نعمة أسديت إليك، أما الثناء: فتثني على من فعل الجميل ولو لم يكن لك أنت، فأنت ترى العمارة من الناحية الهندسية فيها إبداع، وجمال، وقوة، فعندما تثني على المصمم والمنفذ لهذا العمل، وهل وصلك شيء من ذلك؟ لا.
قد تسمع بطبيب يعالج أمراضاً نادرة مثل: جراحة المخ، وزرع القرنية، قام بعدة عمليات ونجح فيها، فتقول: من هذا؟ فيقولون: الطبيب الفلاني، فتثني عليه، مع أنك -الحمد لله- في عافية، ولست بحاجته في شيء، لكن سمعت بأنه فعل فعلاً جميلاً فتثني عليه لجميل فعله؛ فالشكر في مقابل نعمة أسديت إليك أنت، والثناء بسبب جميل فعله فتثني عليه، أما الحمد فلكمال الذات، سواء نظرت إلى جميل فعله أم لا، وسواء أسدى إليك نعمة أم لا؛ فأنت تحمده لكمال ذاته، فهو مستحق لكمال النعوت.
فإذا اجتمعت (سبحان الله) التي تنفي عن الله كل ما لا يليق بجلاله، وتنزهه عن كل نقص وعيب، معها (الحمد لله) التي تثبت له جميع صفات الجلال والكمال، فقد اجتمع طرفا التوحيد لله في قولك: سبحان الله وبحمده، ومن هنا كانتا مع خفتهما على اللسان ثقيلتان في الميزان، تملآن ما بين السماء والأرض.(59/6)
أسماء الله مباركة دلالة ومعنى
وأما قوله: (وتبارك اسمك وتعالى جدك، ولا إله غيرك) ، فإن البركة تعني: الزيادة، والمبارك كثير البركات، تقول: طعام مبارك، أي: كثير وفيه خير، واسمه سبحانه مبارك، فإذا سألته باسمه أعطاك، وإذا دعوته باسمه أجابك، وهنا: (تبارك اسمك) ، هل هذا خاص بمجرد لفظ الاسم (الله.
الرحمن.
الرحيم.
الملك.
القدوس.
السلام.
إلخ) ، أم أن المراد المسمى المعبر عنه بالاسم، ولا نريد أن ندخل في غمار مخاضة: هل الاسم غير المسمى، أو المسمى غير الاسم، فهذه مناقشة لا طائل تحتها، ولكن الاسم من حيث هو لفظ مركب غير المسمى، والاسم من حيث هو دال على مسماه هو عينه.
وأي اسم من أسماء الله فهو مبارك، كـ: (الرحمن) ، وبركات الرحمن لا يحصيه إلا الله، (إن لله مائة رحمة أنزل واحدة إلى الأرض فبها تتراحمون، ويتراحم أهل الأرض، حتى إن الدابة لتضع حافرها على ولدها فترفعه رحمة به) ، وقوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] ، داخل تحت رحمة واحدة من المائة، عطف الأم على ولدها، عطف الكبير على الصغير، شفقة الصغير على العجوز الكبير، كل ما رأيت وما سمعت من معاني ومظاهر الرحمة فهي جزء من مائة من رحمة الرحمن، أي بركة ممكن أن يحصيها الإنسان في هذا؟! (الرحيم) قالوا: رحمان الدنيا ورحيم الآخرة، وتجدون هذا في أول كتب التفاسير فكلها تنقلها عند البسملة، ولا شك أن رحمة الآخرة دائمة وباقية، بينما الدنيا تنتهي، وفي الآخرة: (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها) ، فهذا من بركة اسم الرحمن الرحيم، ولو جئت إلى كل اسم من أسماء المولى سبحانه وتعالى: كـ: (الحي) ، فمن بركته وجود هذا العالم، وهو أثر من آثار الحي، وتنظيم هذا العالم وإيجاد كل ما يحتاجه الإنسان في هذا المعنى أيضاً، وإذا كان اسم الله مباركاً وتبارك في دلالاته ومعانيه هل نتجه إلى غير الله؟! لا.
وقوله: (وتعالى جدك) ، تعالى بمعنى: تقدس وتنزه عن كل نقص، والجد يقولون فيه: إنما هو الحظ، ويقولون: إنما هو العطاء، والله أعلم بالحقيقة.
(ولا إله غيرك) ، ما دام الأمر كذلك: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، نتجه إلى من؟ والله لا إله غيرك، وليس لنا مألوه نعبده ونقصده ونرجوه ويستحق منا العبادة له وحده إلا أنت يا الله.(59/7)
شرح حديث: (كان يقول بعد التكبير: أعوذ بالله السميع العليم ... )
قال رحمه الله: [ونحوه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً عند الخمسة: (وكان يقول بعد التكبير: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم؛ من همزه ونفخه ونفثه) ] .
المؤلف رحمه الله يريد بإيراد تلك الروايات أن يبين لنا بأن الأمر فيه سعة، كان يقول، وكان يقول، وما قال: إنه كان يجب أن يقول هذا كله، لا، فمما كان يقوله صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بالله السميع العليم) ، {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف:200] ، سميع حتى لوساوس الشيطان، عليم بما يكون منه، ولا يمكن أن ينجيك من الشيطان إلا رب العزة جل وعلا.
يقول والدنا الشيخ الأمين: بين لنا المولى كيف نتقي شيطان الإنس وشيطان الجن، وذلك في قوله سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:33-34] ، أي: عامل الناس بالتي هي أحسن، وادفع السيئة بالحسنة؛ فهي الحرز من شيطان الإنس، فإذا عاملته بالمعروف كفيت شره، وينقلب من عداوة إلى ولاية، {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] .
وبعض عشاق الأدب الغربي أو بعض الكتاب المشهورين يقولون: نراك تصانع أعداءك، قال: ألست بمصانعتهم كفيت شرهم؟ قالوا: بلى، قال: وهذا هو المطلوب، يعني: بدلاً من أن تدخل معه في حرب وتغلبه بالقوة، لكن بالمسالمة، {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] ، وليست المسألة سهلة، وليس كل إنسان يقدر عليها: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] ، إلا ذو حظ عظيم أكرمه الله بذلك.
{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:36] ، فهنا يقول صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بالله السميع العليم) ، {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} ، فإذاً: أنت كفيت عداوة شيطان الإنس بحسن المصانعة، بل وينقلب صديقاً لك، وكيف تتجنب أو تتقي عداوة الجن (الشيطان) ؟ لا تستطيع أن تصانعه، وليس عندك طريقة له، ولو أنك صانعته زاد عليك، ولكن تلجأ إلى ربك: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
وهذا كما يقول الشافعي رحمه الله: (ما من حديث سمعته إلا وله شاهد من كتاب الله) ، وهذا لا يستطيع أن يطبقه إلا مثل الشافعي، فيرد كل حديث سمعه من رسول الله إلى ما يدل عليه من كتاب الله، (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم) ، هو نفس نص الآية: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت:36] .
وقوله: (من همزه ونفخه ونفثه) ، من همزه ونفخه ونفثه كل ذلك يدور حول الوسوسة والتشكيك، والنفث هو الإيذاء وكما يقولون: به مس من الشيطان، وكذلك نزعة الإنسان إلى الشر، كل هذا من أعمال الشيطان في كل مجالاتها ومعانيها.(59/8)
شرح حديث: (كان يستفتح الصلاة بالتكبير ... )
قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بـ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] ، وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه، ولكن بين ذلك، وكان إذا رفع من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائماً، وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالساً، وكان يقول في كل ركعتين التحية، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى، وكان ينهى عن عقبة الشيطان، وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع، وكان يختم الصلاة بالتسليم) ، أخرجه مسلم وله علة] .
هذا الحديث مع حديث المسيء في صلاته يعتبران أصلاً في بيان كيفية الصلاة، ومن حسن ترتيب المؤلف أنه أتى به بعدما بين حالات دعاء الاستفتاح وأطال فيها، ومن الناحية الفقهية: فإنهم يجمعون على أن كل هذه الأدعية إنما هي من باب الاستحباب، فلو كبر وقال: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، فالصلاة صحيحة، ما عدا ابن حزم رحمه الله فيرى أن دعاء الاستفتاح واجب كالقراءة، ويتخير أي دعاء من هذه الأدعية الواردة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا، وينقل بعضهم عن بعض الهادوية أن هذه الأدعية عندهم تبطل الصلاة، ويقولون: لأنها من كلام البشر، وخارجة عن موضوع الصلاة، إلا أن ما يثبت بحديث رسول الله ويفعله رسول الله هل نقول: إنه خارج عن الصلاة؟ هذا تطرف زائد.
وبالتأمل نجد أن كل هذه الصيغ التي وردت تعطي الإنسان تهيأة، وتجعله يستقبل صلب الصلاة بنفس مطمئنة راضية، فقد تباعد من ذنوبه وخطاياه، وطلب غسله وتنقيته منها، وسبح ربه، وحمده، وتهيأ بعوامل متعددة ليصبح في وقفته بين يدي الله مستعداً لكل تلقي فيوضات الرحمة في هذا الموقف العظيم، يعني ليس الذكر مجرد ذكر، ولكنه تهيئة للإنسان.
وكما أشرنا سابقاً في حديث الأذان: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول) ، لماذا، فهو يؤذن للناس ونحن نسمع؟ قال العلماء: لأن الإنسان يكون في أمور الدنيا مستفرغاً حسه وشعوره في عمله مهندس في هندسته، صانع في مصنعه، زارع في مزرعته، بأي حالة من الحالات، فهل نقول للإنسان: تعال صلِّ، ونأخذه من الدوامة التي هو فيها ونوقفه في المحراب مباشرة؟ لا، وهذا انتقال مفاجئ ليس له تمهيد، لكن لما يردد كلمات المؤذن، ويستشعر أن الله أكبر من كل شيء، وينفض يديه عما هو فيه، ويسمع إلى داعي الله: (أشهد أن لا إله إلا الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، إلى آخره) يتوجه إلى الله، ويتوضأ وهو مع الله، فيكون هناك تحويل وتغيير في التفكير، فبعد أن كان متجهاً للدرهم والدينار ومنغمساً في أشغاله إذا بنا نجده قد توجه إلى الله، وانقلبت الصفحة إلى ناحية أخرى، وأصبح كأنه جزء من المسجد، ويحط خطاه في المسجد ويدخل في المناجاة مع الله.
ولزيادة تهيئة عملية فعلاً، يأتي بهذه الأدعية الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يأتينا المؤلف بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، وبدأ المؤلف يبين عملياً كيفية الصلاة.(59/9)
ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم افتتاح الصلاة بالتكبير
عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها ما أحد أعرف بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، فطول الليل وهو عندها يصلي في حجرتها، والمسجد بجانبها يصلي فيه، وسوف نأخذ هذا الحديث -إن شاء الله- جملة جملة؛ لأن كل جملة فيه غالباً ركن من أركان الصلاة.
(كان صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير) ، لاحظوا كلمة (كان) ، فهي تدل على التكرار والدوام وتقدم لنا استقبال القبلة فكبر، والتكبير والتحميد والتهليل كلها ألفاظ منحوتة، التكبير من قولك: الله أكبر، والتهليل من قولك: لا إله إلا الله، والتسبيح من قولك: سبحان الله، والتحميد من قولك: الحمد لله، فيفتتح الصلاة بالتكبير، أي: بقول: الله أكبر.(59/10)
الخلاف في الجهر بالبسملة والإسرار في الصلاة
قالت: (والقراءة بالحمد لله رب العالمين) ، وهنا وقفة طويلة نأخذ منها بقدر المستطاع، فعند هذه اللفظة من هذا الحديث وأحاديث وآثار أخرى نبحث هذه المسألة ليسهل علينا ما بعدها.
نحن عندنا في الصلاة قراءتان، قراءة عامة وقراءة خاصة، القراءة الخاصة: فاتحة الكتاب، لحديث: (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) .
إذاً: عندنا قراءتان، قراءة خاصة وهي: الفاتحة، وقراءة عامة وهي: ما يمكن أن يقرأه المصلي بعد الفاتحة، فأم المؤمنين تقول: (كان يفتتح القراءة) ، وهل هي قراءة الفاتحة الخاصة أم القراءة العامة بالنسبة للفاتحة وغيرها؟ إذا قلنا: كان يفتتح القراءة بمعنى الفاتحة، فلا يوجد في قولها: بسم الله الرحمن الرحيم، معنى ذلك: أنها أسقطت البسملة، ومن هنا يؤخذ دليل من يقول: البسملة ليست من الفاتحة.
ومن يقول يفتتح القراءة العامة معناها: أنه يقرأ أولاً بفاتحة الكتاب المعنون عنها بالحمد، ولا يقدم السورة الصغيرة ولا الآية على الفاتحة، فيفتتح القراءة في الصلاة من حيث هي بالفاتحة أولاً، ويثني بما تيسر معه من القرآن، وإذا قلنا: يفتتح القراءة بمعناها العام، بأن يقدم الحمد لله رب العالمين؛ تكون أم المؤمنين عنت بقولها: (الحمد لله) اسم السورة لا مستهلها وأولها والآية الأولى منها، أي: كان يفتتح القراءة بسورة الحمد، والفاتحة اسمها: الفاتحة، والحمد، والصلاة، والإيمان، والنعمة، والتامة ولها أكثر من عشرين اسماً.
فإذا حققنا هذا الموقف في المراد من قول أم المؤمنين: (يفتتح القراءة) هانت علينا المسألة، لأننا وجدنا من يقول: إن المراد بالقراءة الفاتحة فيدخل فيها البسملة، ثم بعد هذا يأتي نقاش طويل جداً، حتى إن ابن عبد البر أفردها برسالة خاصة موجودة في الرسائل المنيرية، ومن أرادها فليرجع إليها، ونأتي في الموطأ وغيره ونجد من يذكر قول أبي هريرة لـ سلمان: (ائت بها سراً يا فارسي، ومن يقول: (صليت خلف أبا بكر وعمر فكانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين) ، و: صليت خلف فلان وفلان فلم أسمعهم يذكرون البسملة) ، وليس معنى عدم السماع عدم القراءة، والجمع بين الأمرين أن تأتي بها سراً.
إذاً: النقطة التي منها الانطلاق لطالب العلم خاصة أن نقول: المسألة مفروغ منها وانتهينا، ولكن حيث أوردها المؤلف نذكرها من ناحية منهجية كمسألة خلافية لنتوصل إلى النتيجة بسرعة، ونخرج بنتيجة علمية: (كان يفتتح القراءة) أي القراءتين؟ عندنا قراءتان في الصلاة: خاصة بالفاتحة، وعامة بما تيسر بعدها، وإن حملناه على الخاصة أسقطنا البسملة، وإن حملناه على العامة تكون أرادت اسم السورة، وعلى أنها الخاصة تنازعوا في البسملة، ما عدا الشافعي فإنه يقول: البسملة آية من الفاتحة، ويروي عن ابن عباس: (من ترك البسملة في الفاتحة فقد أسقط مائة وأربعة عشر آية من كتاب الله) ، أي: بعدد السور، ويجمعون على أن بسم الله الرحمن الرحيم آية مستقلة من كتاب الله في سورة النمل: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30] .
وإذا جئنا إلى التحقيق من جانب عد الآيات، قال: أبي بن كعب (لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في المسجد فقال: ألا تريد أن أعلمك أفضل سورة في كتاب الله قبل أن تخرج من المسجد؟ قلت: بلى يا رسول الله! فأخذ بيدي وسار إلى الباب، فأخذت أبطئ في الخطا أنتظر السورة، حتى قارب الباب فقلت: السورة يا رسول الله! قال: فاتحة الكتاب، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته) .
نعد سبع آيات من الفاتحة: إن قلنا من: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] إلى الأخير صارت ست آيات، وإذا بدأنا بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) وجدناها سبع، وخذ المصحف تجد ذلك في الفاتحة خاصة، أنتم تعرفون في العد لآي المصحف أن الرقم يوضع في آخر الآية، ولا تجد رقماً في الأول، فإذا أخذت المصحف تجد بسم الله الرحمن الرحيم بعدها علامة الآية رقم واحد، ثم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:1-7] ، تمت السبع.
فالذين يقولون: إن البسملة ليست من الفاتحة يقسمون الآية الأخيرة قسمين، ويجعلونها آيتين، {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] ، ويأتون بآية، لكن الرسم العثماني لا يمكن أن نغفله، وإن كان البصريون والكوفيون والحجازيون يختلفون في عد الآي، والفرق بينهم حوالى ست أو عشر آيات في كتاب الله كله، لكن في المصاحف الأم ما يجمع ذلك، فقال المثبتون: البسملة آية من كتاب الله، وآية في الفاتحة خاصة، ثم يكون الخلاف بعد ذلك في بقية السور، هل هي آية كما يقول الشافعي، أو تنزل فواصل لتبين اختتام السورة وافتتاح سورة جديدة؟ سبق ما يجعل كلا الفريقين على حق في كونها منها أو ليست منها؛ وبصرف النظر عن موضوع الصلاة، فالبسملة في موضوع الصلاة حققته الأحاديث الثابتة من أنه يأتى بها سراً ولو في الجهرية، ويقول والدنا الأمين رحمة الله علينا وعليه: بعض السور أو بعض الآيات قد تنزل مرة واحدة، وقد تنزل السورة الكاملة فيها الخمسون والستون والسبعون آية مرة واحدة دفعة واحدة، وقد تنزل الكلمة مستقلة بذاتها، قال: والفاتحة أنزلت مرتين، مرة بمكة، ومرة بالمدينة، وفي كلتا المرتين مرة نزلت ومعها البسملة آية منها، ومرة نزلت وليست معها البسملة آية منها، فيقول: من قال: إنها آية، نظر لبعض النزلتين، ومن قال: ليست آية، نظر لبعض النزلتين، وإذا كان الأمر كذلك من جهة النزول، وجئنا إلى الصلاة نجد النصوص موجودة وصحيحة وثابتة بين الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، لما قال القائل: (صليت خلف أبي بكر وعمر وعثمان ولم يكونوا يقرءون بسم الله الرحمن الرحيم، وكانوا يفتتحون القراءة بالحمد) ، كما قالت عائشة، لكن عندما يصرح: ما كانوا يقرءون بسم الله الرحمن الرحيم، يأتي الآخر ويقول: كانوا يأتون بها ولكن في السر؛ ولهذا سلمان لما سأل أبا هريرة ووقع النقاش قال له: (ائت بها سراً يا فارسي) .
وسيأتي لهذا زيادة روايات متعددة بأن القراءة في الصلاة على قسمين: قراءة عامة، وقراءة خاصة، فإذا حملناها على الخاصة ننفي البسملة، وإذا حملناها على البسملة يكون مرادها تسمية السورة باسم الحمد، ويأتي قوله صلى الله عليه وسلم: (هي السبع المثاني وهي القرآن العظيم) ، وسميت بالمثاني لأنها تثنى في كل ركعة من الصلاة، وسيأتي الخلاف أيضاً في قراءة الفاتحة للمأموم خلف الإمام، والله تعالى أعلم.
إذاً: أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أعطتنا الافتتاحية في القراءة، وهل الأحسن أن نحملها على العام أو الخاص؟ على العام وسيأتي زيادة بحث لهذا، ونصوص أخرى في الموضوع توضحه لنا أكثر.(59/11)
كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [4]
نقل لنا الصحابة رضوان الله عليهم صفة صلاة النبي عليه الصلاة والسلام، وبتعدد روايات هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم يتبين لنا صفة صلاته وكأننا نراها؛ ولهذا اهتم العلماء بتدوين الأحاديث الواردة في ذلك.(60/1)
تتمة وصف عائشة لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الرسول الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: عائشة رضي الله عنها، وقولها: (كان يفتتح القراءة بالحمد لله رب العالمين) .
وهل الأولى حملها على القراءة العامة أو القراءة الخاصة؟ العامة، وهذا أصح، وهذا يجنبنا مشاكل كثيرة، ويقرب الطريق عندنا، فإذا قرأ سورة الحمد لله وما تيسر معها، فبعد القراءة سيكون الركوع، وكيف كان ركوع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قالت: (فإذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه) ، تقول: هذا الشاخص، والعمود هذا يسمى شاخصاً، ويشخص بمعنى: يرفع، ويخفض بمعنى: ينزل، إذاً لا هذا، ولا ذاك، ولكن بين الأمرين، يستوي رأسه صلى الله عليه وسلم مع ظهره، حتى قالوا: لو وضعت قدحاً على ظهره صلى الله عليه وسلم وهو راكع لم يتدفق القدح لاعتداله.
(فإذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه؛ ولكن بين ذلك) ، بين أن يشخص وبين أن يصوب، ومعناه: الاعتدال، لا زاوية منحرفة، ولا زاوية حادة، بل زاوية قائمة.
(وكان إذا رفع من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائماً) ، وهكذا بعد الركوع لا يهوي إلى السجود حتى يستوي -والاستواء الاعتدال- قائماً، وهذا نص على الذين يقولون: ما بين الركوع والسجود ركن خفيف، ويكفي فيه مجرد إشارة اللفظ، فيكون راكعاً ثم يهوي إلى السجود، والحركة لم تنقطع بعد، وعند نقطة الصفر من الاعتدال يبدأ بالنزول، لكن قول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (إذا كان راكعاً لم يسجد حتى يستوي -أي: يعتدل- قائماً) يعني بعد الركوع.
إذاً: الاعتدال بعد الركوع ركن، وتأتي موضوع الطمأنينة، فليست مجرد اعتدال إلى نقطة الصفر، بل طمأنينة مع هذا الاعتدال.
(وكان إذا رفع رأسه من السجدة؛ لم يسجد حتى يستوي جالساً) ، كذلك بين السجدتين، وهو مثل الاعتدال ما بين الركوع والسجود؛ لأن البعض أيضاً يقول: الجلسة بين السجدتين ركن خفيف، فلو سجدت ثم رفعت رأسك وقبل أن تعتدل رجعت وسجدت فلا بأس، والبعض ما يرفع يديه من الأرض بعد حتى يعود، وهذا خطأ في الصلاة؛ إذ لابد أن يعتدل قاعداً بين السجدتين، ولابد أن يظهر منه هيئة الجالس بين السجدتين.
(وكان يقول في كل ركعتين التحية) ، وهذا وصف عام، في كل ركعتين سواء كانت الصلاة كلها ركعتين، أو كانت الصلاة ركعتين وزيادة، فكل ركعتين فيها تحية، الصبح ركعتان وفيها تحية، والظهر أربع، وفي كل ركعتين تحية، تحية بعد الركعتين الأوليين، وتحية بعد الركعتين الأخريين، والمغرب ثلاث، فيها تحية بعد الركعتين الأوليين، وتحية عند الأخيرة ويسلم.
انظروا إلى هذا الإجمال في الصلاة! يقرأ التحية، وما هي التحية؟ لم تذكر، ولها نص مستقل، كذلك يركع ويسجد، وماذا يقول في ركوعه وسجوده؟ لها نصوص مستقلة، وإنما هي تصف الحركات الظاهرة من أعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم.(60/2)
الافتراش والتورك في الصلاة
قالت: (وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى) ، معنى يفرش: أي: يجعل ظهر القدم على الأرض، ويجلس على بطن القدم اليسرى، ورجله اليمنى ينصب قدمها، ويلاحظ في نصب القدم اليمنى: أن تكون أطراف أصابع القدم اليمنى متجهة إلى القبلة، لا أن يجعلها مدبرة إلى الخلف، ما لم يكن هناك صعوبة أو مشقة، فبعض الناس يكون الله معطيه بسطة في الجسم، وإذا أراد أن يجلس هذه الجلسة تصعب عليه، فيجلس كيفما تيسر له، لكن الهيئة الأساسية من سنة النبي صلى الله عليه وسلم هي هذه الحالة.
وهل هذا الصنيع في التشهدين معاً أم في التشهد الأول؟ هذا يكون في التشهد الأول باتفاق، ويقولون: السنة في التشهد الثاني الذي يعقبه السلام والخروج من الصلاة أن يتورك، بمعنى: أنه يدخل قدمه تحته ويفضي بإليته إلى الأرض، ولماذا يغير في الجلسة؟ هكذا فعل صلى الله عليه وسلم، لكن الفقهاء بحثوا عن العلة والسبب والحكمة من وراء ذلك.
نقول: أولاً: أيهما أطول في الجلوس؟ التشهد الثاني؛ فهل نظل في التشهد الثاني الطويل ناصبين للقدم وعاكسين الأصابع وننتظر متى يسلم أم نجلس مرتاحين؟ الجلسة في التشهد الأخير تعطي فرصة راحة وطمأنينة، ويستطيع الإنسان أن يدعو في التشهد بما يسر الله له.
هذه ناحية.
الناحية الثانية: لو أنك جئت والإمام في التشهد، فإنك لا تدري هل الإمام في التشهد الأخير أم في الأوسط؟ قالوا: تنظر إلى هيئة الجلسة، فتعرف إن كان هذا التشهد هو الأول أو الأخير، فإن كان متحفزاً للقيام ومستعداً لأن يقوم علمت أنه في التشهد الأول، ولو رأيته جالساً على هدوء وهون علمت أنه ما بقي إلا أن يسلم، وما هي الفائدة من هذه؟ وهل ندخل معه في الصلاة أو ننشئ جماعة جديدة؟ الصحيح أننا ندخل معه.(60/3)
أحكام عقبة الشيطان والافتراش كالسبع
في آخر هذا الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن عقبة الشيطان، وأن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع، وفي لفظ: افتراش الكلب.
أما صفة عقبة الشيطان كما يفسرها علماء الحديث فهي أن ينصب ساقيه ويثني ركبتيه، ويجلس على الأرض على إليتيه، كالذي يعقد الحبوة، وعقد الحبوة هو: أن يأخذ الإنسان حزاماً أو نوعاً من الخيوط ويجعله خلف ظهره ثم يديره على ساقيه ويعتمد عليه، وكان هذا المنظر كثيراً ما يرى في المسجد النبوي، ويفعله الشيوخ وكبار السن خاصة بعد صلاة الصبح حينما ينتظرون في مجلسهم يذكرون الله حتى تطلع الشمس، وأحياناً بعد المغرب والعشاء، وحينما يفعل مثل هذا ويجعل يديه إلى الأرض، وركبتيه إلى الأعلى؛ فهذه عقبة الشيطان، وليس فيها حبل ولا حبوة، وبعضهم يصف عقبة الشيطان بأن ينصب القدمين، ويجلس على العقبين، ولكن هذه مردودة لأنها هيئة رواها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وفي قول أم المؤمنين: (كان ينهى عن عقبة الشيطان) ، ما خصصت رجلاً ولا امرأة، فالنهي في هذه الهيئة في الجلوس ممنوع بصفة عامة، وافتراش الرجل ذراعيه افتراش السبع يظهر هذا، ويتبين أكثر ما يكون في الكلب -أعزكم الله-، والسبع يطلق على كل حيوان مفترس، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم في دعائه على رجل: (اللهم سلط عليه كلباً من كلابك) ، فقالوا: الكلب يطلق على السبع، والسبع يطلق على الكلب، وقالوا: الكلب سبع؛ لأنه يفترس بنابه ويأكل اللحوم، وافتراش الذراعين كافتراش السبع هو: أن يمكن ذراعيه مع المرفق على الأرض؛ فطبيعة السجود أن يسجد بباطن الكفين على الأرض، والمرفق مرتفع عنها، ولا يكون ملامساً لها، والسنة أن يرفع المرفقين عن الأرض، ويكون معتمداً على الكفين فقط.
وإذا كان معتمداً على الكفين فأين يكون المرفقان؟ يرفعهما، ويجافي بينهما وبين ضبعيه، ولا يلصقهما بجانبيه، وتنصيص أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها على الرجل يدل بمفهومه على أن المرأة بخلاف ذلك، وهو مفهوم المخالفة وليس مفهوم صفة، والفرق بينه وبين مفهوم الصفة أن مفهوم الصفة لا حكم له في التشريع، ومفهوم الصفة إنما يتعلق باسم الجنس، فعندما تقول: أكلت تفاحاً لا يمنع أن تكون أكلت معه موزاً، وهل الإخبار بأكل التفاح يمنع أن تكون أكلت غيره معه؟ لا، ولكن لم آكل إلا التفاح! هنا جاء الحصر، ومنع أن تكون أكلت مع التفاح غيره.
لكن عندما تقول: بنى هذا البيت رجل، فمفهوم المخالفة: ليس امرأة، وإذا قيل: من يوجد في هذا البيت؟ توجد فيه امرأة، ومفهوم المخالفة: أنه لا يوجد فيه رجل، فإذا قلت: فيه امرأة، قالوا: هنا مفهوم الصفة، ومفهوم الصفة له عكسه، وينفى عنه الحكم، تقول: الصغير لا تكليف عليه، إذاً: الكبير عليه تكليف؛ لأن مفهوم صفة الصغير عكسها الكبير، فيكون له عكس الحكم.
وأنصح الإخوة طلبة العلم أن يرجعوا في هذه النقطة -وهي موضع خلاف عند الأصوليين- لأضواء البيان لوالدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في قوله سبحانه: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36-37] ، بعض الناس يقول: هذا مفهومه مفهوم اللقب، ولا يمنع أن يسبح له فيها نساء، والشيخ يقول: التحقيق: أن المفهوم هنا مفهوم صفة لا مفهوم لقب؛ لأن حضور الجماعات وإقامة الصلاة في المساجد إنما هو من خصائص الرجال، فكون المرأة تحضر لا بأس وتصح صلاتها، ولكن صلاتها في بيتها خير من حضورها المسجد، إذاً: هي ليست مرادة أصالة في هذه الآية الكريمة، لمجيء امرأة من بني سليم إلى النبي صلى الله عليه وسلم تقول: (يا رسول الله! إني أحب الصلاة معك، قال: قد علمت ولكن صلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك معي) ؛ لأن فيه تقريب المشوار، واختصار الطريق (وصلاتك في عقر دارك خير من صلاتك في مسجد قومك) ، فإذا كان هذا شأن المرأة فهل يناط بها الحكم {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} ؟، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا تمنعوا إماء الله بيوت الله) ، وجعل لها شروطاً.
وأم المؤمنين رضي الله تعالى عنها تنبه هنا: أنه نهى عن عقبة الشيطان، لكن نهى من؟ لم تعين المنهي المتوجه إليه النهي، فيكون عاماً في الرجال والنساء، ولكن في افتراش السبع قالت: (نهى الرجل) ، إذاً: المرأة لها حكم آخر، وما دامت المرأة لها حكم آخر، فذكر الرجل مفهوم صفة له عكس الحكم؛ ولذا اتفق العلماء على أن المرأة لا تفعل كما يفعل الرجل في الصلاة، الرجل يجافي بين عضديه، وبين منكبيه وعضديه، ويكون هناك فجوة، وإن كان بعض الإخوة ربما بالغ في ذلك، إذا صلى في الجماعة تمدد بيديه ونزل على كفيه، وجنح بيديه يميناً ويساراً فيضايق من بجواره، وليس الأمر كذلك؛ إن كنت منفرداً فلا بأس وافعل ما شئت، لكن مع عدم الخروج عن اللياقة، وإن كنت في الجماعة فيجب أن تحافظ على الجماعة الذين يصلون عن يمينك ويسارك، فالسنة في الرجل مهما كان ألا يلصق منكبه بجانبه، بخلاف المرأة فإنها تضم نفسها وتفرش ذراعها، فالمرأة حكمها: أن تفترش الذراعين وتضمها إلى ضبعيها؛ لأن في تفريجها شيئاً من إظهار جسدها، أما ضمها نفسها ففي ذلك زيادة في تسترها.
إذاً: نهي الرجل خاص به، بخلاف المرأة فلها أن تفترش افتراش السبع، ويكون ذلك نوع من سترها في صلاتها، وكما يقال: كل له حكمه.(60/4)
كيفية التسليم
قالت: (وكان صلى الله عليه وسلم يختتم الصلاة بالتسليم) وهنا مبحث من جهتين: كيفية التسليم، ونوعيته.
تسلم بعد التشهد والدعاء الذي يسره الله لك، أو ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في الدعاء بعد التشهد، مثل التعوذ بالكلمات الأربع: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وعذاب النار، وفتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال) وقد قال ابن حزم: إنها فريضة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بهذه الكلمات الأربع، وبعضهم يقول: إنها من التوجيهات والتعليمات لما يقال من الأدعية في الصلاة، وبعضهم يقول: إذا انتهيت من التشهد وذكرت الدعاء الوارد تمت صلاتك، وتخرج كيف شئت، والجمهور على أن المصلي لا يعتبر خرج من صلاته وأتمها إلا بالتسليم، وهذا نص الحديث: (كان يفتتح الصلاة بالتكبير ويختتمها بالتسليم) ، وهنا كيف يسلم؟ هناك من يقول: يكتفي بسلام واحد، فيجلس مستقبلاً القبلة ويقول: السلام عليكم ورحمة الله، وبعضهم يقول: لابد أن يسلم عن اليمين وعن اليسار، فإن كان في الجماعة فعن يمينه أخ مسلم، وعن يساره أخ مسلم، فيسلم على من بجانبيه، وإذا كان منفرداً أو في الخلاء وليس عنده أحد فإنه يسلم على الملائكة؛ لأن الملائكة تحضر صلاته، وقالوا: الكيفية أن يبدأ بالسلام: السلام عليكم -ويبدأ بالالتفات يميناً- ورحمة الله، ويعود إلى ما كان عليه، ويبدأ بالسلام عن اليسار أيضاً مستقبلاً القبلة، ثم يلتفت يساراً ويكمل الصيغة في السلام.
وأما عن حكم السلامين معاً: فكلاهما واجب؛ لأنهما ورد عنه صلى الله عليه وسلم، حتى قيل: (كان يلتفت حتى نرى بياض خديه) ، إذا التفت يميناً رءوا بياض الخد اليمين، وإذا التفت يساراً رءوا بياض الخد اليسار، إذاً: هناك التفاتة وصورة واقعية، وكانوا يجعلون السلامين معاً.
وهناك من يقول: الأول فرض وبها يخرج من الصلاة، والثاني سنة، وعلى كل سيأتي تفصيل السلام في آخر الباب، إلا أنه كما تقدم في هذا الحديث عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: أنها أوردت لنا صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إجمالية: يفتتح الصلاة بالتكبير، وما قالت ما هي صيغة التكبير.
وكان يفتتح القراءة بالحمد، ولم تفصل لنا ما هي القراءة.
وإذا ركع، وإذا رفع، وجلس بين السجدتين، ثم نهى عن كذا وعن كذا، ويختتم الصلاة بالتسليم، ما هو نوع التسليم؟ لم تفصل، وأشرنا إلى أن هذا الأسلوب من الإجمال؛ ثم يأتي بعد ذلك التفصيل، وهو من أرقى أنواع الأساليب البيانية؛ لأن في الإجمال إيجازاً واختصاراً؛ فيقع هذا المجمل في ذهن السامع، ثم يأتي بعد ذلك التفصيل، ونستطيع أن نقول: هذا منهج الفقهاء، فهم يكتبون المتن مجملاً، ثم يأتي بعد ذلك الشرح مفصلاً، وبعض يزيد بالحواشي.
إذاً: يهمنا الأسلوب العلمي الناجح القريب السهل، وهو أن يؤتى بالموضوع مجملاً ثم يؤتى به بعد ذلك مفصلاً، وهذا ما سلكته أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، وكل جزئية من تلك الجزئيات إما أن تقدم بيان لها، وإما أن يأتي لها تفصيل وتحقيق وزيادة روايات في بيانها تفصيلياً.(60/5)
شرح حديث: كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة ... )
قال رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع) ، متفق عليه.
وفي حديث أبي حميد عند أبي داود: (يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يكبر) ] .
هذه التكبيرات في حديث ابن عمر رضي الله عنهما يقولون عنها: تكبيرات الانتقال، ورفع اليدين عندها سنة، والتكبيرات واردة عند الانتقال من كل ركن في الصلاة ما عدا الرفع من الركوع، فإن الذكر فيه: (سمع الله لمن حمده) ، (ربنا لك) أو (ربنا ولك الحمد) ؛ على كلا الصيغتين.
عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع يديه حذو منكبيه) ، والمحاذاة: المقابلة، والمنكبان هما: الكتفان عن اليمين واليسار، فيرفع يديه حذوهما، ولا يرفعهما عند رأسه، ولا ينزلهما عند صدره، وذلك في ثلاثة مواضع: عندما يفتتح الصلاة، وتقدم أيضاً في الصلاة، وسيأتي زيادة إيضاح في رواية: (حذو منكبيه) ، ورواية: (أوائل أذنيه) ، وأوائل الأذنين في الرأس، وأعلى الأذنين أي أواخرهما في الأعلى عند الرأس، ولا خلاف بين رواية: (حذو المنكبين) ، وبين رواية: (أوائل الأذنين) ؛ لأن من لاحظ الكف نظر لمحاذاة الكف إلى المنكب، ومن نظر إلى أطراف الأصابع فلن تذهب الأصابع إلا إلى أوائل الأذنين، فقيل: الروايتان تصدق كل منهما الأخرى، فهذا نظر إلى أدنى الكف، وهذا نظر إلى أعلى الأصابع، فأدناه منكبي الإنسان وأعلاه أدنى الأذنين، هذا في الموطن الأول.
(كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة) ، وإذا افتتح الصلاة يقول: الله أكبر، وتقدم شيء من التنبيه على ما يقوله العلماء في افتتاح الصلاة، يقول: الله أكبر، فلدينا نطق باللسان: تكبير، وحركة باليدين: رفع، وهل هما متلازمان أم أن أحدهما يسبق الآخر؟ تقدم بأنهما معاً سواء؛ فيبدأ بلفظ الجلالة عند بداية الحركة، ويشغل زمن الحركة بالتكبير.
الموطن الثاني: إذا كبر للركوع، فإذا أراد أن يركع رفع يديه، ويكبر إذا أراد أن يركع، وهذه تكبيرة الانتقال، والأولى تكبيرة افتتاح، ونلاحظ في كتب الفقه التدقيق، فلو أن إنساناً كان متأخراً وأدرك الإمام ليركع وركع معه، فكبر، هل نوى بتكبيرته تلك افتتاح الصلاة أو الانتقال والهوي إلى الركوع؟ إن نوى بتكبيرته افتتاح الصلاة فقد افتتح الصلاة وجاء بالتكبيرة التي هي افتتاحية الصلاة وواجبة، وإن نوى الدخول في الركوع وتكبيرة الانتقال فلا تجزئه، وإن نوى الأولى اندمجت معها تكبيرة الانتقال، وسيأتي هذا في الذي يدرك الإمام راكعاً ماذا يكون حاله؟ إذاً: يرفع يديه حذو منكبيه مع التكبير عند افتتاح الصلاة، ويكبر عند الهوي إلى الركوع.
(وإذا رفع رأسه من الركوع) ، الوارد في الرفع من الركوع: (سمع الله لمن حمده) ، وهنا ابن عمر يريد رفع اليدين لا التكبير، فالمراد أن رفع اليدين ورد في ثلاثة مواطن: عند تكبيرة الافتتاح، والتكبير للركوع، ورفع الرأس من الركوع.
إذاً: في الافتتاح: الله أكبر، ويقرأ، وعند الركوع: الله أكبر، ويرفع يديه ويركع، وكذلك عند الرفع من الركوع، وليس معنى ذلك أنه يكبر ويرفع، لا، المراد أن هذا هو الموطن الثالث الذي ترفع فيه اليدان عند الانتقال، وهو الرفع من الركوع، لكن هل يكبر عند الرفع؟ لا.
والوارد في ذلك: (سمع الله لمن حمده) ، يقولها المنفرد، ويقولها الإمام، أما المأموم فله أن يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، وله أن يكتفي بقول الإمام: سمع الله لمن حمده، ويجيب على ذلك: ربنا ولك الحمد.
والواو مجيئها وعدم مجيئها نقطة بلاغية، ويتفقون على أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، فالذي يقوله الإمام: سمع الله لمن حمده، ويقول من خلفه: ربنا لك الحمد، إجابة على قول الإمام: سمع الله لمن حمده، فأنا حمدته وسمع، والذي يقول: ربنا ولك الحمد، الواو عاطفة على تقدير معنى جديد، ربنا استجب لنا ولك الحمد على استجابتك لدعائنا أو لتحميدنا.
وبعد حركة الرفع من الركوع يأتي الهوي إلى السجود، هل يرفع يديه للهوي إلى السجود؟ الحديث لم ينص عليها، ولم يصفها ولم يقل فيها شيئاً.
فإذا سجد وأراد أن يجلس بين السجدتين هل يرفع يديه كما رفع عند الرفع من الركوع؟ ما ثبت شيء من هذا في هذا الحديث، وهل في تلك الحركات رفع لليدين؟ لا.
ولكن وردت حركة أخرى غير تلك الثلاث ألا وهي: حينما يقوم من تشهده الأوسط، وهي قاعدة يذكرها الفقهاء: عند قيامه لركعة وتر في صلاته، وركعة الوتر في صلاته هي الثالثة من الرباعية أو الثلاثية، فإذا أنهى التشهد الأول وأراد أن يقوم للركعة الثالثة؛ سواء كانت هي الأخيرة في المغرب أو الثالثة في الرباعية، فحينئذٍ يستوي قائماً للركعة الثالثة ويرفع يديه حذو منكبيه؛ لأنها في منزلة الصلاة الجديدة، لأن الصلاة أول ما فرضت ركعتين ركعتين، فأقرت في السفر وأتمت في الحضر، وعلى هذا جاءت السنة، والقول برفع اليدين عند هذه المحلات الثلاث هو قول الجمهور، وهناك من يعارض فيها، وصاحب سبل السلام يعزو ذلك للهادوية، ويرد عليهم رداً شديداً، ويعرض بمن يقول بعدم رفعها، أو من يقول: إنها حركات زائدة تبطل الصلاة، ولا عبرة لشيء من هذا كله ما دام أن النص قد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعمل به الصحابة رضوان الله تعالى عليهم.
قال: [وفي حديث أبي حميد عند أبي داود: (يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ثم يكبر) .
ولـ مسلم عن مالك بن الحويرث نحو حديث ابن عمر لكن قال: (حتى يحاذي بهما فروع أذنيه) ] .
المؤلف رحمه الله يعدد هذه الروايات ليستكمل صورة رفع اليدين إلى حذو المنكبين، وفروع الأذنين، وكل ذلك في منطقة واحدة، وكل الروايات يؤيد بعضها بعضاً ولا خلاف بينها.(60/6)
كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [5]
ضم اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة من السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد اختلف العلماء في مشروعيته، فالجمهور يقولون بالضم، بينما الإمام مالك لا يرى الضم، وهذه المسألة ومثيلاتها فيها دلالة على لزوم معرفة وجهة نظر المخالف، وعدم التشنيع عليه في المسائل الاجتهادية.(61/1)
شرح حديث: (صليت مع النبي فوضع يده اليمنى على اليسرى على صدره)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: [وعن وائل بن حجر قال: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فوضع يده اليمنى على اليسرى على صدره) ، أخرجه ابن خزيمة] .
وائل بن حجر له خصيصة من بين الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، ولم تكن العادة أن نترجم لأحد، وإنما نحفظ أسماءهم فقط ولا نذكر تراجمهم، لكن يلفت النظر هنا: أن وائل بن حجر من أبناء ملوك حضرموت، وأخبر صلى الله عليه وسلم عن مجيئه قبل أن يصل، فقال: (يأتيكم وائل بن حجر وهو من بقايا أبناء الملوك، جاء راغباً طالباً يبتغي فضل الله، وجاء إلى الله وإلى رسوله راغباً في الإسلام) ، ولما وصل أفسح له النبي صلى الله عليه وسلم في المجلس، وافترش له رداءه وأجلسه عليه، لماذا؟ في السنة النبوية مناهج عديدة، ونأخذ من هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل الناس منازلهم، وليس في هذا محاباة ولا مغايرة، ولكن إكراماً، ويذكرون عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنه أتاها مسكين فأعطته كسرة خبز، ثم أتاها رجل ذو هيئة يسأل، فأجلسته وقدمت له طعاماً، فقيل لها في ذلك، فقالت: إن ذاك يكفيه تلك الكسرة، وهذا ممن يصدق فيهم قوله: (أنزلوا الناس منازلهم) .
وهذا من مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم، ومن محاسن الآداب التي علمنا إياها، ونقول: الأصل أن الناس سواسية! وليس هناك مانع، فهم سواسية فيما يتساوون فيه، ألا تراهم في صف الصلاة: أمير ومأمور، وغني وفقير، وصغير وكبير، وكلهم في صف واحد سواسية، ليس هناك اختلاف، ورمضان يأتي على الجميع فيصومون، لكن في أمور الدنيا هناك أمور يكون التفاوت بسببها؛ ثم أليس في فعله صلى الله عليه وسلم ترغيباً له؟! هو من أبناء الملوك ويترك الملك ويأتي وتقول له: اذهب أنت مثل فلان وفلان، أقل ما فيه شيء من المجاملة ومن الترغيب، وفي تكريمه تكريم لمن وراءه.
ويهمنا أنه يذكر لنا هيئة من هيئات الصلاة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من حسن ترتيب المؤلف؛ فقد جاء عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في ثلاثة مواضع إذا رفع يديه حذو منكبيه عند افتتاح الصلاة، ثم عند الركوع، وقبل أن يركع، ونحتاج إلى معرفة موقع اليدين بعد هيأتهما في الافتتاح، فهل جعلهما حذو منكبيه حتى يركع؟ لا، فإما أن يسدلهما أو يضمها، فجاء بحديث وائل هنا ليبين لنا موقع اليدين عند القيام.(61/2)
هيئة وضع اليدين على الصدر
ذكر رضي الله عنه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره في الصلاة، لا كما يفعل بعض الناس كأنه يخنق نفسه، وكمن يدليها على بطنه.
ويذكر ابن رشد في (بداية المجتهد) قاعدة فقهية عند قوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6] ، وهي: هل العبرة بأوائل الأسماء أم بأواخرها؟ بمعنى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} هل يجزئ أن أمسح أول الرأس أم لابد أن أذهب إلى آخره؟ وينطبق ذلك أيضاً: أن يأتي إنسان ويقول: فلان له عليّ ألف ريال أدفعها إليه في رمضان، وفي أي يوم من رمضان؟ لفظ عام، فصاحب الدين في رمضان قال: أعطني الألف، قال: لا، في آخر يوم من رمضان، فأول يوم يصدق عليه أنه رمضان، وآخر يوم يصدق عليه أنه رمضان.
إذاًً: العبرة بأوائل الأسماء أم بأواخرها؟ الواقع أنها قضية ليست مطردة، ففي بعض الأشياء لا تحتمل تردد، وفي بعضها تحتاج إلى قيد وتحديد.
وهنا: (يضع اليمنى على اليسرى على صدره) : هل في أول الصدر من جهة البطن أم في آخر الصدر من جهة العنق؟ يحتمل الحديث الوجهين، ولكن جاءت النصوص الأخرى بالوضع الطبيعي، لا يرفعها إلى ترقوته، وهو العظم المستدير بالعنق، ومن بعده الضلوع، فإذا رفعه إلى الترقوة خرج عن الصدر، وإذا نزل عن الضلوع فقد نزل إلى القفص الصدري ومنه إلى البطن، وتأتي نصوص أخرى: فوق السرة، وعند السرة، وكلها تدور حول وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة.
إذاً: نرجع إلى الهيئة المعتادة، والشيء العرفي الذي يتعارف عليه الناس، والصورة التي ليست مستنكرة، فبعض الناس يكون مسترخي الأعصاب فيضعهما على البطن، وكأنه تعبان أو كسلان، وبعضهم يضعها وكأنه لا يستطيع أن ينهض، وبعض الناس يتعنت ويتشدد ويضع الأصبع على الأصبع، وبعضهم يذهب إلى نصف الساعد، وبصورة لو رأيتها تستنكر أن تكون هذه هيئة للصلاة.
والأمر الوسط هو الوضع على وسط الصدر، وألا يكون على هيئة مستنكرة.(61/3)
خلاف المالكية في الضم
وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة يتفق عليه أصحاب المذاهب الثلاثة: أبو حنيفة والشافعي وأحمد رحمهم الله، أما مالك رحمه الله وهو إمام المذهب المالكي فإنه ينص على ذلك في الموطأ، فهو مذهبه، وأعتقد أن أسانيد أحاديث الموطأ فوق التهمة وفوق البحث والتنقيب عنها، وإذا ذكر مالك فهو النجم، والحديث الوارد عندنا هنا في السنن، فإذا كان مالك رحمه الله يذكر ما يسمى بالقبض في الصلاة، ومع هذا نجد بعض المالكية يقول: هذا في النوافل وليس في الفرائض، فله أن يقبض في النافلة ولكن يسدل في الفريضة، ولماذا؟ يروون في ذلك أثراً عن مالك، وأنه في رواية عنه سدل اليدين، أو أنه صلى سادلاً لهما، وأنه سئل عن القبض فقال: لا أدري، وكل هذه الأخبار ناقشها ابن عبد البر وهو من كبار أئمة المالكية، ثم نصر القبض، جاء آخر وقال: يفعل ذلك في النافلة وفي الفريضة بشرط: أن يفعل ذلك في الفرض استناناً، أي: عملاً بالسنة -لأن أمامه الحديث كالجبل، وهو في الموطأ، ولا يستطيع أن يحيد عنه- ولكن لا يفعله استناداً، وكيف استناداً؟ تعبان أو كسلان ويسند نفسه بهذا، فيقول: إن فعلها استناناً وامتثالاً لسنة رسول الله فلا مانع، وإن فعلها استناداً فهذه حركة زائدة عن الصلاة.
إذاً: نرجع ونقول: لا حاجة إلى هذه التفريعات، وما دام ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة وليس هناك فرق في الحديث بين نافلة وفريضة، وأخذ بذلك الأئمة الثلاثة، ومالك نص على ذلك في الموطأ، فلم يبق لهذه المسألة موضع للخلاف فيها، ولكن وجد تدوين هذا الخلاف في كتب المالكية، ويكون النقاش بين المالكية مع غيرهم، لا مع مالك.(61/4)
كيفية التعامل مع الخلافات الفقهية
بهذه المناسبة، ونظراً لآثار الخلاف في الفروع، فقد يتخذ البعض هذه المسألة بالذات -لأنها واضحة وعملية- سبباً للشقاق والفرقة بين المسلمين، ونسمع من الإخوة الأفارقة أنه في بعض الأماكن يوجد هناك الخصومة، أو النزاع، وقد يكون هناك التبديع، لماذا؟ لأنه خالف المذهب أو الإمام، أو لأنه خالف الحديث؛ لأن الحديث يقول بالقبض، وهم يقولون بالسدل.
أقول: هذا الوضع وهذه الكيفية هيئة من هيئات الصلاة، وبإجماع المسلمين ومنهم أئمة المذاهب الأربعة أن الفريضة والنافلة صحيحة؛ سواء قبض اليمنى على اليسرى أو سدل اليدين بجانبيه، فإذا كانت الصلاة صحيحة على كلا الحالتين فلماذا نختلف ونفترق، ونجعل جزئية فقهية في فرع من فروع الإسلام سبباً للخلاف والشقاق والخصومات والفرقة؟ هذا غرض عدو الإسلام، أن يشغل المسلمين بجزئيات عن أساسيات الدين، سواء عن جهاد، أو صلاة بعينها، أو طلب العلم حقيقة، أو بحث العقائد والتوحيد وضرورة ذلك، ويشغلهم بجزئية يدورون فيها، وخصومات، لماذا هذا كله؟ لا حاجة لهذا.(61/5)
حكم الضم بعد الرفع من الركوع
في هذا الحديث يقول الراوي فيه: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يضع يده اليمنى على اليسرى على صدره، ولكن متى يضع؟ نجد الجمهور يتفقون على أن هذا الوضع على الصدر بعد تكبيرة الإحرام حين القراءة قائماً، ثم جد أمر جديد، وهو بعد الرفع من الركوع هل يضع اليمنى على اليسرى على صدره أو يرسل يديه؟ هذه مسألة جديدة، وسبق أن طلبت من الإخوة طلبة العلم أن ينقبوا في بطون الكتب الفروع والأصول، والحديث، والتفسير، وأصول الفقه، والفقه؛ ليوجدوا لنا نصاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صريحاً ولا أقول صحيحاً؛ فلو وجدوا ضعيفاً لقبل؛ فلم يجدوا نصاً صريحاً بأنه صلى الله عليه وسلم كان يضع اليمنى على اليسرى بعد الرفع من الركوع.
إذاً: توجد مواضع في الصلاة لا توضع اليمنى على اليسرى فيها، وإنما توضع اليدان في مواضع منصوص عليها: أما في الركوع فيلقم يديه ركبتيه، أما في السجود فيضع يديه على الأرض، أما في جلسة التشهد فيديه على فخذيه.
إذاً: بقي عندنا الموضع الذي يمكن أن توضع اليمنى على اليسرى فيه في الصلاة: إما قائماً للقراءة، وإما بعد الرفع من الركوع؛ فهل كان يضعهما في الموقفين أم في موقف واحد؟ نختصر الطريق، وأمامنا أئمة أجلاء أوسع مجالاً، وأتقى لله، وأصفى أذهاناً، وأطهر قلوباً، وأوعى للعلم، وهم أئمة المذاهب الأربعة، فأولاً مالك: المالكية يقولون: حتى عند القيام للقراءة يسدل يديه، فإذا كانوا يقولون بالسدل عند موضع الاتفاق فهل يقبضون بعد الرفع؟ هذا مسقوط من الحساب.
نأتي إلى الأحناف والشافعية -وبدون تفصيل في المذاهب- يقولون: إن وضع اليمنى على اليسرى بعد الرفع بدعة، ولا أصل له، وبعضهم لم يذكره ولم يتعرض له.
وأما عند الحنابلة فقد نص صاحب المغني وصاحب الإنصاف على الروايات المختلفة عن أحمد، فتوجد عن أحمد رواية بوضع اليمنى على اليسرى على الصدر بعد الرفع من الركوع، وإن شاء ترك، وأما صاحب الإنصاف فرجح الترك، ووافق الجمهور في عدم القبض بعد الرفع من الركوع.
أرجع إلى التنبيه الأول وهو: أن وضع اليدين في القيام للقراءة، أو وضع اليدين بعد الرفع من الركوع، أو سدل اليدين في الموضعين، لا علاقة له بصحة الصلاة وبطلانها.
وثم نقطة أخرى: من اختار لنفسه وضع اليدين على الصدر بعد الرفع لا يحق له شرعاً أن يعيب من لم يفعل ذلك، أو أن يراه متعصباً جاهلاً، ولا ينبغي أيضاً لمن لم يفعل ذلك أن ينظر لمن يفعل ذلك بأنه مبتدع، أو بأنه متعصب، والمسألة خلافية، والخلاف فيها ضعيف جداً، وليس فيها سوى رواية عن أحمد مرجوحة، لكن قولهم موجود، ولو نظر إنسان في القواعد وفي الأدلة وفي الأقوال واختار لنفسه، فلا ينبغي أن نعيب عليه، لماذا؟ لأن له سلفاً، ولو أنه مرجوح، ولأن الأمر لا يتعلق بصحة ولا بفساد.
والذي يهمنا كطلبة علم وكمسلمين في أي عمل من أعمال الصلاة: ألا نتخذ الجزئيات مثار خلاف ونزاع وتفرق بيننا، هذا في الصف يقبض يديه بعد الركوع، وإذا سلم نظر لصاحبه كأنه أخطأ! وهذا يسدل يديه بعد الركوع، وبجانبه أخ له يقبض؛ فإذا خرج من الصلاة لا يسلم عليه! كل اختار لنفسه قولاً بعد أن سمع، أو قرأ، أو وقف على ما يسر الله إليه، ولعل في هذا القدر كفاية فيما يتعلق بوضع اليمنى على اليسرى في الصلاة.(61/6)
صور وضع اليد في هيئات الصلاة
لو تفقدنا حالة الصلاة وكيفيتها نجد لكل ركن من أركان الصلاة هيئة: تكبيرة الإحرام وهي الدخول في الصلاة هيئتها رفع اليدين إلى المنكبين، ولو كبر سادلاً اليدين أخل بالهيئة في هذا الركن، وبعد تكبيرة الإحرام يأتي ركن القراءة باتفاق، ويضم يديه خلافاً لبعض المالكية، هيئة الركن الأول حركة اليدين للمنكبين، وهيئة الركن الثاني القراءة قائماً واليدان على الصدر، وهيئة الركوع اليدان مقبوضتان على الركبتين، وتكبيرة الانتقال فيها حركة اليدين إلى المنكبين، وبعد ركن القيام والاعتدال بعد الركوع نعيد اليدين إلى موضعهما، فيتشاكل هذا المنظر مع المنظر الأول، أو هيئة هذا الركن مع الذي قبله، أو نسدلهما ليفارق بينهما، وفي حركة السجود اليدان إلى الأرض، وفي الجلوس بين السجدتين اليدان على الفخذين.
إذاً: بقي حالة الرفع وحالة القيام، فإذا قبضنا بعد الرفع شاكلنا هذا الركن مع ركن القيام، وإذا سدلنا غايرنا وأعطينا كل ركن هيئته التي تميزه عن غيره، أرأيت لو أن إنساناً دخل المسجد وإمامه ممن يقبض في الموضعين، ودخل الداخل والناس قيام، ووجد اليدين على الصدر مع قيام الناس، أيخطر بباله أنه في القراءة أم قد رفع من الركوع؟ سيظن أنه في القراءة وينتظر الركوع، فهذا كبر ودخل وأخذ يقرأ على أن الإمام في القيام في الركوع، فإذا به يهوي إلى السجود، لكن إذا جاء ووجده واقفاً سادلاً يديه يعرف بأن الإمام في الرفع من الركوع.
على كل هذا القدر والموقف أطلنا فيه، لا لمناقشة صحة وضع اليدين بعد الرفع من الركوع وعدم الصحة، ولكن للنهي عن اتخاذ هذه الحالة موضع نزاع ونفرة بين طلبة العلم، والعامة ليس لهم دخل في هذا، فكل يفعل ما تيسر له أو اقتنع به، والعامة يقلدون غيرهم، إنسان تقول له: اسدل يديك! يقول لك: لا، رسالة عن الشيخ ابن باز يقول فيها كذا، الحمد لله، ولكن ليس عند العامة أي نظرة لتغليط الآخرين؛ لأنه يرى أن هذا صوابه، لكن طلبة العلم ربما يكون في نفوسهم نظرات إلى الآخرين؛ لأنهم يريدون من كل الناس أن يكونوا مثلهم، والآخرون أيضاً يريدونكم مثلهم، وهذا الذي حملنا على الإطالة في هذه الجزئية، وإن لم تكن ركناً في الصلاة؛ لأن سلامة الصدور والألفة والتقارب بين الجميع أهم من هذا كله، وبالله تعالى التوفيق.(61/7)
شرح أثر: (صليت وراء أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم)
قال رحمه الله: [وعن نعيم المجمر قال: (صليت وراء أبي هريرة رضي الله تعالى عنه فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن] .
يسوق لنا المؤلف رحمه الله هذا الأثر عن نعيم المجمر وهو مولى لـ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، ووصف بالمجمر؛ لأنه كان يأتي بالجمر، ويجمر -أي: يطيب- المسجد كل يوم جمعة عند منتصف النهار.
يذكر لنا ما وقع له من صلاة خلف أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وهذا تتمة لإثبات قراءة البسملة مع الفاتحة، فيذكر لنا نعيم أنه صلى خلف أبي هريرة وسمعه يقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، ويقرأ الفاتحة، وبعد الفاتحة يقول: آمين.
ثم إن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يخبر المأمومين خلفه، و (يقسم على ذلك ويقول: (إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه النسائي وابن خزيمة؛ لكأنه يقول: ما سمعتم وما رأيتم من صلاتي فليس من عندي إنما هو اقتداء واتباع، وصورة لما رأيت وسمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ينقلون لمن بعدهم ما أخذوه قولاً وعملاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(61/8)
تطهير المساجد وتطييبها
ذكر نعيم المجمر يستوقفنا عند العناية بالمساجد وأنها تطيب، وجاء في الحديث: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور -كما في رواية عائشة رضي الله تعالى عنها- وأن تطيب) ، وجاء القرآن الكريم في قوله سبحانه: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] ، ترفع حساً ومعنى: حساً بالبناء، ومعنىً بالتكريم والحفاظ والصيانة، وإبعاد ما لا يليق ببيوت الله، وجاء في الحديث: (عرضت علي أعمال أمتي؛ حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد) ، والنصوص في هذا كثيرة، وأعظم من هذا كله ما جاء في كتاب الله من عناية المولى سبحانه بالبيت الحرام؛ بما عهد به إلى الخليل وإسماعيل عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام في هذا الباب، فقال سبحانه: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125] ، حيث أن عباد الله يأمون بيوت الله لعبادة الله؛ فيجب أن تتوافر لهم عوامل الراحة والطمأنينة، وأن تنزه المساجد عن كل ما يشوش على المصلي، (طهرا) : حساً ومعنىً من الأوثان ومن غير ذلك مما يغاير معتقد المسلمين، ويكدر خاطرهم.
وقد جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه أنه رأى امرأة مجذومة تطوف بالبيت فهمس إليها: يا أمة الله! لو جلست في بيتك لا تؤذي الناس، فانصرفت حالاً ولم تكمل شوطها، وبعد أن توفي عمر رضي الله تعالى عنه أتاها آتٍ فقال: اخرجي! إن الذي كان قد منعك قد مات.
فقالت -وتعطي العالم درساً في السمع والطاعة وحقيقة الامتثال-: ما كنت لأطيعه حياً وأعصيه ميتاً.
هكذا الأمة تحترم الكلمة، وتحترم العلم والعلماء، وتوقرهم في الحياة والممات.
وقد سمعت من ينقل عن الشافعي رحمه الله أنه حينما دخل بغداد إلى محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة رحمهما الله قالوا: إنه صلى في الأعظمية، أي: محلة الإمام الأعظم، وهي نسبية أي: بالنسبة للأئمة المذهب الحنفي: محمد وزفر وأبو يوسف وأبو حنيفة، يقولون: إنه صلى الصبح ولم يقنت، فقالوا: لم تركت القنوت في الصبح وهو مذهبك؟ قال: احتراماً لـ أبي حنيفة رحمه الله، أو احتراماً لصاحب هذا القبر، وهذه آداب فوق المستوى، وهكذا ينبغي احترام الرأي، واحترام الكلمة والعلم، وتوقير العلماء.
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم في عدم إيذاء الناس والملائكة: (من أكل من هذه الشجرة -البصل أو الثوم- فلا يقربن مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنسان) ، وفرع العلماء على هذا: كل ذي رائحة مؤذية مطلقاً، وعلماء العصر الحاضر يمثلون ذلك برائحة التبغ والدخان، وبعضهم ينبه على الجوارب إذا طالت مدته، وكثر فيه العرق وعفن، وبعض الفقهاء يقول: صاحب الجرح الذي أنتن، وصاحب ثوب المهنة إذا كانت له رائحة، ومن هنا نجد الأمر بالاغتسال يوم الجمعة.
ويروي الشافعي رحمه الله عن أم المؤمنين عائشة قالت: (كان الغسل للجمعة في أول الأمر واجباً كغسل الجنابة) ، وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان الناس في أول الأمر يلبسون الخشن من الثياب، وهم في أرض حارة، ويزاولون أعمالهم بأنفسهم؛ فيأتون وقد فاحت منهم روائح العرق، فأمرهم أن يغتسلوا، ثم لما وسع الله عليهم، وجاءتهم العلوج، وكفتهم مئونة العمل؛ صار الغسل يوم الجمعة سنة) ، وذلك نظراً للحديثين: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) ، يعني: من بلغ سنه الحلم، لا لمجرد الاحتلام؛ لأن الاحتلام موجب للغسل مطلقاً.
ثم جاء الحديث الآخر: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) ، وهكذا يحث صلى الله عليه وسلم على العناية بالمظهر والمخبر في المجتمعات العامة، ويقول صلى الله عليه وسلم: (ماذا على أحدكم لو اتخذ ثوباً لجمعته سوى ثوبي مهنته) ، ثوب المهنة اجعله للمهنة، جزار أو حداد أو في أي عمل كان، قد يكون الثوب طاهراً، ولكن قد يؤذي الجليس أو المجاور، فلا ينبغي أن يؤذي الناس بمثل ذلك، وكما روى البخاري في الأدب المفرد: (حسن السمت جزء من النبوة) .
والعناية بالمساجد عناية بالمسلم وبالإسلام، وهي تعظيم لحرمات الله، فها هو نعيم كان يجمر المسجد كل يوم جمعة عند منتصف النهار، وحث النبي صلى الله عليه وسلم المسلم إذا غسل واغتسل أن يصيب من طيب أهله، وقد كانت امرأة تقم المسجد فمرضت، فسأل صلى الله عليه وسلم عنها فقالوا: إنها مريضة مرضاً شديداً، فقال: (إذا ماتت فآذنوني) ، فماتت ليلاً ودفنوها، ولما أصبح صلى الله عليه وسلم سأل عنها قالوا: إنها ماتت ودفناها ليلاً، فقال: (ألم آمركم أن تؤذنوني؟ قالوا: كرهنا أن نشق عليك بالليل، قال: دلوني على قبرها) ، ثم ذهب صلى الله عليه وسلم إلى قبرها، وصلى عليها بعد أن دفنت، لأي شيء؟ لخدمتها للمسجد.
وهكذا ينص المؤلف هنا على عمل هذا الراوي بأنه كان يجمر المسجد يوم الجمعة، ولا زالت السنة في هذا المسجد إلى اليوم، وللمجمرة في هذا المسجد النبوي ميزانية خاصة للعود، بل كانوا في أوائل الستينات يؤتى بالمجامر في صلاة التراويح وتجمر الصفوف بين كل ركعتين.
إن العناية بالمساجد باب واسع لنظافتها وصيانتها من العبث، بل بوب البخاري رحمه الله: (الغلق للمساجد) ، وساق حديث الكعبة ومفتاح الكعبة.(61/9)
سنية التأمين في الصلاة
يذكر لنا المصنف هذا الحديث عن أبي نعيم رضي الله تعالى عنه أنه صلى وراء أبي هريرة فسمعه يقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، ومبحث بسم الله الرحمن الرحيم وهل هي من الفاتحة تقدم الكلام عليه، والجديد في هذا الحديث: أنه إذا فرغ من قراءة الفاتحة يقول: آمين.
ومبحث التأمين في الصلاة قد أخذ حيزاً أيضاً ليس بالقليل، وناقشه كثير من علماء الحديث والتفسير، فتجدون أن القرطبي وابن كثير قد أفردا له فصلاً خاصاً في تفسير سورة الفاتحة، وأوسع من تكلم عنها في كتب الحديث لعله ابن حجر في فتح الباري فيما بوب عليه البخاري: (الإمام يجهر بآمين) .
وجاء في فضل (آمين) نصوص سيذكر المؤلف بعضاً منها، فمما جاء فيها عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما حسدتكم يهود ما حسدتكم على آمين، وفي صفوف الصلاة، وفي السلام) ، أي: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعض الروايات تزيد: (وفي الجمعة، ضاع عليهم يوم الجمعة، وهديتم إليه) ، فقد بين صلى الله عليه وسلم: أن اليهود والنصارى أضاعوا يوم الجمعة، فاختار اليهود السبت، واختار النصارى الأحد، وهدى الله المسلمين إلى يوم الجمعة، وكذلك ضيعوا موعد الصيام بالتقديم والتأخير.
إلى آخره.
وجاء في (آمين) أيضاً عند البخاري وغيره: (إذا قال الإمام: ولا الضالين، فقولوا: آمين) ، أو: (إذا أمَّن الإمام فأمنوا) ، وكلها تلتقي عند معنى واحد؛ (فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه) ، ويبحثون في تأمين الملائكة، أي نوع من الملائكة هم، وأية موافقة؟ قيل: الملائكة هم الحفظة الذين مع الإنسان يكتبون عليه أعماله، وقال الجمهور: الملائكة، عالم السماء عامة، وجاء اللفظ صريحاً: (من وافق تأمينه تأمين من في السماء) ، يعني: الملائكة، والموافقة كما يصححه الباجي: إنما هي في الزمن، وغيره يقول: وافق تأمين الملائكة في الإخلاص في الاجتهاد في حسن النية.
إلى آخره، ولكن كما بين الباجي وغيره: يصعب أن تكون الموافقة تامة في ذلك، ولكن الذي يمكن أن تكون هي الموافقة الزمنية.
إذاً: قول القارئ خلف الإمام: (آمين) ثابت بالسنة، والشوكاني في نيل الأوطار يذكر عشرة أحاديث مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في التأمين، ويقول: وثلاثة أخبار عن الصحابة موقوفة عليهم، ومما جاء موقوفاً: أن عبد الله بن الزبير كان يقول: آمين، وكان من خلفه يقولون: آمين، حتى يسمع للمسجد رجة، وجاء أيضاً عن أم المؤمنين عائشة في هذا المسجد، وسيذكر المؤلف رحمه الله النصوص الواردة.
أما موقف العلماء من قول المأموم: (آمين) ، فيذكره شراح الحديث والمفسرون: أما الشافعي وأحمد رحمهم الله فيقولان: يقولها المأموم والإمام جهراً في الجهرية وسراً في السرية، وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله: لا يقولها الإمام، ولكن يقولها المأموم، وعن مالك رحمه الله روايتان: رواية توافق الشافعي وأحمد، ورواية توافق أبي حنيفة بأن الإمام لا يقولها، والروايتان بحسب علماء الأمصار، أما علماء المدينة فيروون عن مالك مثل الشافعي، أما أهل الكوفة ومصر فينقلون عن مالك: أن الإمام لا يقولها وإنما يقولها المأموم، وما عدا ذلك من الأقوال فهو خارج عن دائرة الأئمة الأربعة، ولا حاجة إلى إطالة الكلام فيها.
يقول الشوكاني وابن عبد البر: النصوص الواردة تدل على أنها مشروعة، وأنها سنة، وأن الإمام والمأموم يقولانها، ويتحرى المأموم تأمين الإمام ليكونا معاً في وقت واحد؛ ليوافق ذلك تأمين الملائكة.(61/10)
معنى قول: (آمين) وموضعها
أما قول: (آمين) ففيها لغتان: الأولى المد (آمين) ، والثانية القصر (أمين) ، وبعضهم ينقل لغة ثالثة هي: (آمّين) بتشديد الميم، ولكنها شاذة وإن صحت لغة، إلا أنها لا تتفق مع السياق والمعنى، لأن (آمّين) بمعنى قاصدين، كما قال تعالى: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة:2] ، والجمهور على أن معنى (آمين) : اسم فعل بمعنى استجب، أي: استجب الدعاء المتقدم؛ لأن الفاتحة حمد لله، ثم نعته بصفات الجلال والجمال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:2-5] ، ثم تأتي أعظم مسألة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6-7] ، فهذه مسألة عظمة تتوقف عليها سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، وهي منهج المسلم في حياته.
والسر في كون تأمينك يوافق تأمين الإمام مع الملائكة: أن تكون مترقباً القراءة لست غافلاً ساهياً عما يقرأ الإمام، فتكون متابعاً للإمام من أول تكبيرة الإحرام إلى أن يفتتح القراءة، وتتابعه كلمة كلمة، آية آية؛ حتى تكون مترقباً لقوله: (ولا الضالين) ، فتنطق بـ: (آمين) .
وعندما يسمع المأموم الإمام يقول: (ولا الضالين) لا ينتظر حتى يقول الإمام آمين؛ لأنه إن انتظر فاتته موافقة الإمام، إذاً: آمين بمعنى استجب، وآمّين قالوا: قاصدين الهداية إلى الصراط المستقيم، لكن المشهور ما عليه الجمهور وهو أن التأمين إنما هو بدون تشديد الميم، فهو: إما أن يكون بالمد وهو ما عليه الجمهور، وإما أن يكون قصراً كما يرويه البعض.
وينبه بعض العلماء على أن المأموم إذا قرأ وكان منفرداً، أو أن الإمام إذا قال: (ولا الضالين) يفصل بين نون (الضالين) وبين مد (آمين) ، لئلا يظن الظان أن آمين جزء من الآية؛ لأنها ليست من السورة.
وجاء عنه صلى الله علي وسلم أنه قال: (أهدى إليّ جبريل آمين بعد الفاتحة) ، إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ الفاتحة وأمنّ ببيان من جبريل عليه السلام، وأمر الناس أن يقولوا: آمين، على ما تأتي النصوص الواردة عند المؤلف رحمه الله.(61/11)
كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [6]
قراءة سورة الفاتحة هي العمل الثالث في الصلاة بعد التكبير ودعاء الاستفتاح، وهي ركن بدونه لا تجزئ الصلاة، يضاف إلى ذلك استحباباً ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قراءة سور زيادة عليها؛ فقد كان يطيل بحسب الصلاة سرية أو جهرية وبحسب من خلفه من الناس، ورغم كل ما تحمله هذه السورة من معان عظيمة إلا أن الشرع قد رخص لمن أسلم ولم يتسع الوقت له لحفظها ودهمه وقت الصلاة أن يأتي بدلاً منها بأذكار تتضمن ما فيها من حمد وثناء ودعاء لله عز وجل.(62/1)
شرح حديث: (إذا قرأتم الفاتحة فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن واله وبعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (إذا قرأتم الفاتحة فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم؛ فإنها إحدى آياتها) ، رواه الدارقطني وصوب وقفه] .
نعلم جميعاً أن ابن حجر من أئمة الشافعية، وهم من أشد الناس في إثبات الجهر بالبسملة؛ ولهذا يورد نصوصاً عديدة ليثبت مذهبه، فهذا الحديث: أن أبا هريرة يقول -ورفعه إلى رسول الله-: (إذا قرأتم الفاتحة فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم؛ فإنها إحدى آياتها) ، ثم بين ابن حجر بأمانة العالم من روى هذا الأثر، وبين بأن الصحيح وقفه على أبي هريرة، وفي المصطلح: أن الحديث المرفوع هو ما أسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم صادراً عنه، والموقوف هو ما قاله الصحابي وليس معزواً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن هذا الموقوف عند العلماء قد يأخذ حكم المرفوع؛ وذلك حينما لا يكون للرأي والاجتهاد فيه مجال، ولا يتأتى الإتيان به من عند نفسه، كما لو كان من أخبار يوم القيامة، أو من أخبار الماضين وبعيداً عن الإسرائيليات، أو عملاً يترتب عليه جزاء وثواب معلوم؛ فلذا قالوا: لن يتأتى لإنسان أن يخبر به من عنده، ولابد أن يكون سمعه من النبي، ولو لم يقل فيه: قال رسول الله! وأما هذا الحديث فقد صح عند علماء الحديث أنه موقوف على أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وإذا كنا في معرض خلاف بين قراءة البسملة في الفاتحة وعدم قراءتها، وجاءنا عن أبي هريرة حديث موقوف فما موقفنا؟ كما لو جاءنا أبو هريرة اليوم ووقف على المنبر وقال: يا مسلمون! إذا قرأتم الفاتحة فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم فإنها آية منها، هل هناك شخص يستطيع أن يقول له: من أين أتيت بهذا يا أبا هريرة؟ لا يستطيع، وليس له حق في ذلك؛ لأنه صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبرنا أنه قرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ولما انتهى من صلاته قال: (والذي نفسي بيده! إني لأشبهكم بصلاة رسول الله) ، فذاك الحديث يقوي هذا.
وإن لم يكن سمعه من رسول الله فقد سمع ما يؤيده، فلما ذكر صلى الله عليه وسلم أعظم سورة قال: (هي السبع المثاني والقرآن العظيم) ، والفاتحة لا تكمل السبع إلا بالبسملة، فسواء قاله استنتاجاً من هذا الحديث أو سماعاً من رسول الله، ولم يذكر رسول الله في الرواية، أو أنه مرفوع لكن كما قال المؤلف: الصحيح أنه موقوف على أبي هريرة، وهذا مما يؤيد ما قال به المؤلف والجمهور من أن البسملة آية من سورة الفاتحة.(62/2)
شرح حديث: (قل: سبحان الله ... )
قال رحمه الله: [وعن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئاً، فعلمني ما يجزئني منه، فقال: قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) ، الحديث رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وصححه ابن حبان والدارقطني والحاكم] .
المؤلف رحمه الله بعد مبحث قراءة الفاتحة بما معها من البسملة والتأمين يأتي بهذا الحديث الذي فيه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أنا لا أحفظ شيئاً من القرآن، وكأن الرجل علم بأن الصلاة لابد فيها من قراءة قرآن، فقال: أنا لا أحسن ماذا أفعل؟ ولعله سمع خبر المسيء في صلاته: (فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) ، المهم أنه علم، ووجد في نفسه العجز عن هذا، فهل قال له رسول الله: لا صلاة إلا بعد أن تحفظ؟ لا، فسماحة الدين ويسر الإسلام، ومكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم في تعليم الجاهل لا تتناسب مع هذا الموقف، وهل سيظل طوال عمره عاجزاً أن يحفظ الفاتحة؟ ليس بمعقول، فهذا عربي وذكي ويحفظ، فهو يحفظ: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والفاتحة سبع آيات، وهذه خمس جمل، ويمكنه أن يحفظها، لكن في الوقت الحاضر هل يترك الصلاة حتى يحفظ؟ لا، وهكذا التيسير في التعليم، والتدرج مع الجاهل، فالذي يجزئ في الصلاة نيابة عن الفاتحة هو هذا.
الفاتحة كلام الله، والرسول صلى الله عليه وسلم نظر إلى حال الرجل، ونستطيع أن نقول: الفاتحة كتاب الله، وهي سبع من المثاني والقرآن العظيم، وفي حديث أُبي: (لن تخرج من هذا المسجد حتى أخبرك بأفضل سورة نزلت في التوراة والإنجيل والقرآن) ، فتباطأ في المشي خوفاً من أن تفوته، (قال: فاتحة الكتاب) ، أي: أنها أفضل ما نزل في الكتب السماوية.
إذاً: البديل عن هذا ماذا يكون؟ أعلى ما يكون في المنزلة من الذكر والدعاء، وهذا شيء بديهي، يعني: لو أن إنساناً مطالب بجنيه ذهب فعجز عنه فهل يأتي بحصاة؟ لا، لكن بفضة، أو بحديد أو نحاس.
بالتدريج، قال علمني ما يجزئ، أي: ما يقارب الإجزاء بدلاً عن الفاتحة، قال: (قل: سبحان الله، والحمد لله.
إلخ) .(62/3)
معنى التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير
هل تعلمون مكانة سبحان الله والحمد لله؟ ورد في نصوص خاصة بها: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) ، وقدمنا مراراً بأن العبرة ليست بمجرد خفة اللسان، فالببغاء يقولها، ولكن يجب أن تربط اللفظ بمحتواه، كما يقول علماء العربية: الألفاظ قوالب المعاني، فالمعاني جواهر توضع في ألفاظ تصونها، فإذا كانت لديك جوهرة نفيسة أو حجر كريم غالي من زمرد أو ياقوت هل تضعه في علبة كبريت وتضعه في جيبك؟ لا، بل تنظر له علبة مطعمة منظمة، بل يمكن أن تأتي له بعلبة ذهبية تتناسب مع علو مكانة هذا الجوهر، فتخير الألفاظ للمعاني من أسرار العربية.
وأما معنى (سبحان) ؛ فيقول علماء فقه اللغة: الأصل في وضع الألفاظ للمعاني الأشياء المحسوسة الملموسة، ثم ينتقل بها إلى المعنويات، نعلم أن سبحان الله هو تنزيه الله عما لا يليق بجلاله، ومادة (سبحان) أصلها من سبح، وسبح المحسوس الذي يسبح في الماء، ولماذا يسبح الإنسان في الماء؟ لئلا يغرق، فكذلك المسبح لله؛ لئلا يغرق في بحار الشرك، ولينزه الله ويبعده عما لا يليق بجلاله كما يبعد نفسه عن مهالك الغرق.
والحمد لله: الحمد ثناء على المحمود لكمال ذاته وصفاته، ولا ينبغي هذا أبداً ولا يجمع إلا للمولى سبحانه؛ لأنه كامل الذات والصفات، فإذا قلت: (سبحان الله) نزهته عن كل ما لا يليق بجلاله، وإذا قلت: (الحمد لله) أثبت لله جميع صفات المحامد والكمال، وهذا أقصى منتهى التوحيد.
و (لا إله إلا الله) : في حديث البطاقة في الرجل الذي يأتي يوم القيامة ولديه سجلات من الذنوب والخطايا قد ملأت الميزان وليس عنده شيء؛ فيظن أنه هالك إلى النار، فيقال: لك عندنا أمانة، فيؤتى ببطاقة فيها (لا إله إلا الله) ، فتوضع في كفة الحسنات فيقول: ماذا تفعل هذه بتلك السجلات التي كالجبال؟ فيقول: اصبر، فتوضع تلك البطاقة التي في عينه ولا شيء في كفة الحسنات فترجح لا إله إلا الله.
(والله أكبر) ؛ أكبر من كل كبير.
(ولا حول ولا قوة إلا بالله) ، وزاد المؤلف كلمة (العلي العظيم) ، ورواية الصحيحين ليس فيها ذلك، وإنما توجد في بعض السنن.(62/4)
صلاة من أسلم حديثاً
هل يظل الرجل على هذا الذكر طيلة حياته أم أن هذا أمر مؤقت إلى أن يتعلم سورة الفاتحة؟ يأتينا بعض الناس إلى المحكمة ليسلم من جنسيات متعددة، وبالكاد ينطق بالشهادتين، ولم يحفظ الفاتحة بعد، فنقول له: اذهب مع الناس الذين معك وصلِّ معهم ولو حتى تركع وتسجد بدون ذكر؛ ليرتبط مع جماعة المسلمين، واليوم يحفظ كلمة وغداً ثانية إلى أن يحفظ الفاتحة، ولو قال: لا إله إلا الله ومات في حينه يحكم له بالإسلام.
إذاً: لو أسلم إنسان ولم يحفظ شيئاً من كتاب الله نقول له: انطق بالشهادتين، ويجب أن ينطق بهما باللفظ العربي ولو لم يفهم المعنى، ثم بعد ذلك يذكر الله بما شاء بلسانه وبلغته إلى أن يتعلم الفاتحة، ومن هنا يقول الشافعي رحمه الله: تعلم العربية فرض عين على كل مسلم بما يصحح به صلاته: (الله أكبر، سمع الله لمن حمده، السلام عليكم، سورة الفاتحة) ومن نعم الله وآلائه ومن خصائص القرآن: تيسيره على الجميع، ولعلكم تجدون هذا جلياً في مسابقات حفظ القرآن عندما يأتي أفراد من العالم كله إلى مسابقات حفظ القرآن الكريم في مكة؛ فنجد أشخاصاً إذا قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، وقرأ من أي سورة من القرآن أحسن قراءة من بعضنا، وإذا سألته عن كلمة واحدة مما قرأ لا يفهم معناها، سبحان الله!! إذاً: حفظ القرآن ميسر: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر:17] ، والفهم من الله! إذاً: هذا من باب الإرفاق والتيسير في التعليم، وأخذ الجاهل بقدر ما يستطيع، وتدرج وبديل عما يمكن {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] .
وهل يقول ذلك مرة واحدة في صلاته كلها أو في كل ركعة بدلاً من الفاتحة؟ بل في كل ركعة بدلاً من الفاتحة؛ لأنه تقدم لنا في حديث المسيء في صلاته في قراءة الفاتحة: أن كل ركعة صلاة بذاتها، أي: محسوبة صلاة، وفي الحديث: (ثم افعل ذلك في صلاتك كلها) .
وقوله: (إني لا أحسن شيئاً من القرآن فعلمني ما يجزئني) الحديث، كلمة (الحديث) ، تعني: إلى تمام الحديث، كما تجد في بعض العبارات: كذا وكذا.
إلخ، يعني إلى آخره، فكلمة (الحديث) يعني هذا الخبر في حديثه بقية، ما هي تلك البقية؟ موجودة في الشرح.(62/5)
حظ المصلي من الدعاء في الصلاة
الرجل لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله -وعلى الروايةالأخرى-: العلي العظيم) ، قال: يا رسول الله! هذا لله، فماذا لي؟ هذا لله: سبحان الله، تسبيح لله، الحمد لله، حمد لله، لا إله إلا الله، والله أكبر كذلك، لا حول ولا قوة إلا بالله تذهب أيضاً لله، كلها تذهب لله؛ فما حظي؟ وهذا مما يدل على أن الرجل عاقل وفاهم، فمثل هذا هل يعجز عن حفظ الفاتحة؟ لا، ولكن الوقت ضيق، فبم أجابه صلى الله عليه وسلم؟ قال: (قل: اللهم ارحمني وارزقني وعافني واهدني) ، الرجل لما تأمل في هذا الذكر الذي علمه إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفقهه، وعلم أنه ليس مجرد لفظ فقط، فهو يعلم أن هذا من حق الله سبحانه، وماذا يعود علي؟ وهذا طمع.
ألا يكفيك أنك أديت حق الله عز وجل؟ أنت تقول: إنك عاجز وتريد ما يجزئ، ولكن انظر إلى السماح! فقد جعل الرجل ينفسح أمله عند الله أكثر، علمه كيف يصلي، وأعطاه ما يجزئ، فلم يقل: جزاك الله خيراً، ولكن أريد زيادة، هذا هو التعليم وفضل الله.
قال: (إذا انتهيت من هذا قل: اللهم ارحمني وارزقني وعافني واهدني) ، وهذه له هو، الرحمة، والرزق، والمغفرة، (وعافني واهدني) ، لما سأل الرجل: ما هو حظه من هذا الذكر؟ وجهه إلى جماع أبواب الخير: ارحمني، اغفر لي، وهل هذا من أمر الدنيا أم الآخرة؟ وماذا بقي إذا غفر له ورحمه؟ والرزق مضمون في الدنيا لكنه زيادة طلب، وإذا هداه إلى ما يرضاه فيكون مع الذين أنعم الله عليهم، (وعافني) أما هذه فقد جمعت كل الخير، أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أحب الناس إلى رسول الله من النساء، في أشرف ليلة -في ليلة القدر- تقول: (يا رسول الله! ماذا أقول إن أنا صادفتها؟) فالسؤال من أحب إنسان لأحب إنسان في أفضل الليالي، فإذا به صلى الله عليه وسلم يقول: (قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) .
المسألة في ليلة القدر أعظم مسألة وما عداها مقدمة وسيلة وقربة إلى الله عز وجل، وهذا الواجب عندما يكون لك حاجة عند عظيم: هل تمسك به فتقول: أعطني؟! لا، ولكن: اعمل معروفاً، انظر إلى حالتي، أنت كريم، أنت لا ترد أحداً، قد لا يكون كذلك لكن أنت تأتي بها من أجل أن تغريه أن يعطيك (ولا أحد أحب إليه المدح من الله) تأتي بالأول: (اللهم) ، يعني: يا الله، (إنك عفو) ، الأصل أنك عفو لا تعاقب، (تحب العفو) ، قد يعفو الإنسان برغم عنه، إذاً: ما دمت أنك عفو وتحب العفو فأنا أسألك العفو، سألتك ما تحب وهو من فعلك وصفتك.
يقول بعض العلماء: كنت أعجب من هذا اللفظ، فلما تأملته فإذا به جماع الخير كله، من عوفي في بدنه ماذا يريد؟ ومثله من عوفي في دينه من الآفات والبدع، من عوفي في ولده وماله، من عوفي يوم الحساب، ماذا يبحث بعد ذلك؟ قال: فتأملته فوجدته جامعاً لكل خير.
ربما نجد شاهداً لفهم هذا الرجل من الحديث القدسي، وفي خصوص الصلاة وفي عين الفاتحة؛ لأنه ثبت في الصحيح: أن الله سبحانه وتعالى قال: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، إذا قال العبد: الحمد لله، قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله: مدحني عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال الله: أثنى علي عبدي، وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال الله: هذه بيني وبين عبدي وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل) ، العبد يسأل فماذا يقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] ؛ فكأن الفاتحة تشتمل على حق لله وحق للعبد المصلي.
هذا الرجل وإن كان لم يحسن الفاتحة لكنه فقيه رشيد، أنار الله بصيرته؛ لما سمع من رسول الله المجزئ والبديل عن الفاتحة، وتأمّل ذلك، وجد أن كله لله فطلب حظه، فأرشده صلى الله عليه وسلم إلى ما فيه حظه من الدنيا والآخرة، والله المستعان.(62/6)
شرح حديث: (كان رسول الله يقرأ في الظهر والعصر ... )
قال رحمه الله: [عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا؛ فيقرأ في الظهر والعصر -في الركعتين الأوليين- بفاتحة الكتاب وسورتين، ويسمعنا الآية أحياناً ويطول الركعة الأولى، ويقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب) متفق عليه] .
رغم تنوع الصلاة إلا أن لكل منها نصوصها، فبدأنا بالظهر والعصر؛ لأن أول صلاة جماعة في الإسلام هي الظهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أسري به ليلاً، وفرضت الصلوات الخمس بليل، نزل الصبح، وجاءه جبريل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام الظهر وصلى به، فكانت أول صلاة جماعة بعد فرضية الصلاة ليلة الإسراء هي الظهر، فيقول أبو قتادة: (صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر) فماذا قرأ؟ (بفاتحة الكتاب وسورتين) ؟ يقرأ أين؟ أجملها، ما دام بفاتحة الكتاب وسورتين، أي: مع كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة، هذا في الأوليين؛ لأن الظهر والعصر أربع ركعات، فالفاتحة في كل ركعة مع سورة، الفاتحة مكررة ومعها سورتان في كل ركعة؛ مع أنه سيأتي أنه يجوز أن يجمع السورتين في الركعة الواحدة، ولكن ذلك ليس مراداً هنا.
(ويسمعنا الآية أحياناً) مع أن الظهر والعصر سرية، وهل الجهر من الفاتحة أم من السورتين؟ من السورتين، ومن هنا علموا أنه كان يقرأ مع الفاتحة سورة أخرى.
(وكان يسمعنا الآية أحياناً) ، يقول العلماء رحمهم الله: هذا منه صلى الله عليه وسلم ليس على سبيل الصدفة، ولكن على سبيل التعليم، كأنه يعلمهم بأنه يقرأ مع الفاتحة سورة وها هو يسمعهم الآية منها، ويقول: (أحياناً) يعني: ليس بصفة دائمة؛ لأن التعليم يحصل بمرة أو بمرتين، ويذكرهم في بعض الحالات.
(ويطول الركعة الأولى، ويقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب) ، مفهوم ذلك: أنه لا يطيل في الثانية ولا الثالثة ولا الرابعة، وجاء التعليل عند بعض العلماء: بأنه صلى الله عليه وسلم كان يطيل في الأولى قالوا: (كنا نظن أنه يفعل ذلك ليدرك المتأخر الركعة الأولى) حتى جاء في بعض الروايات عند مسلم: (كانت تقام الصلاة فيذهب الرجل إلى البقيع فيقضي حاجته، ويتوضأ، ويأتي فيدرك الركعة الأولى) .
(ويقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب) ، وهما الثالثة والرابعة، كان يقرأ فيهما بفاتحة الكتاب، ثم سكت الراوي، وفهم من هذا: أنه يقرأ في الأوليين مع الفاتحة سورة، وسكوت أبي قتادة عن ذكر قراءة سورة أو آية أو شيء سوى الفاتحة في الأخريين أخذ بعض الناس منه بأن الركعتين الأخريين يقتصر فيهما على الفاتحة وكفى.
إذاً: من يقول: لا يقرأ في الركعتين الأخريين سوى فاتحة الكتاب هذا دليله، ولكن إذا جاءتنا نصوص أخرى تدل على أن في الركعتين الأخريين قراءة، فبأي الحديثين نعمل؟ القاعدة عند الأصوليين والمحدثين: إذا تعارض ناف ومثبت فإننا نعمل بقول المثبت، وهذا لم ينف ولم يقل: لم يقرأ فيها، ولكن سكت، والسكوت عن العلم ليس بعلم، فإذا جاء غيره وأثبت لنا قراءة في الركعتين الأخريين عن النبي صلى الله عليه وسلم فالواجب أن نعمل بقول من أثبت قراءته في الركعتين الأخريين، لكن المؤلف رحمه الله إنما ألف الكتاب لا ليناقش ولكن ليبين أدلة الأحكام عند الفقهاء، ولذا سماه: بلوغ المرام من أدلة الأحكام، فيأتي بالأحاديث التي استدل بها كل إمام في مذهبه، أو كل عالم فيما ذهب إليه، وكأنه يقول لك: من قال: لا يقرأ في الركعتين الأخريين إلا بفاتحة الكتاب فقط؛ فهذا دليله، ثم يأتيك بالأحاديث الأخرى ليبين أدلة الأقوال الأخرى.(62/7)
شرح حديث: (كنا نحزر قيام رسول الله في الظهر والعصر ... )
قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنا نحزر قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر؛ فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر: {الم * تَنزِيلُ} [السجدة:1-2] ) .
أبو قتادة يقول: (ويقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب) ، وأبو سعيد الخدري يقول: (كنا نحزر) أي: نقدر، والحزر أو الحرز أو الخرص: التقدير، فنحزر أي: نقدر قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل قيامه في نافلة خاصة به أم في صلاته بهم؟ النافلة ليس لنا دخل فيها؛ لأنه بإجماع المسلمين لا حظر عليك فيما تقرأ فيها، فإن شئت قرأت القرآن كله في ركعتين، وإن شئت قرأت الفاتحة والإخلاص؛ لأن المتطوع أمير نفسه، اللهم إلا في تطوع الجماعة مثل التراويح، فيراعى فيها ظروف الناس، فإذا كان متطوعاً لنفسه فليصلي ما شاء.
والمقصود بصلاة رسول الله هنا الفريضة؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الليل في بيته، قال أبو قتادة: (صلينا مع رسول الله) ، وهنا أبو سعيد رضي الله تعالى عنه كأنه يقول: صلينا مع رسول الله وحزرنا قراءته في الظهر والعصر، فالقضية لا زالت في الظهر والعصر، فـ أبو سعيد يقول: قدرنا ما يقرأه في الركعتين الأوليين بـ {الم * تَنزِيلُ} [السجدة:1-2] ، هذا في الركعتين الأوليين، (وفي الأخريين قدر النصف من ذلك) ، والنصف من قراءة (الم تَنزِيلُ) هل سيكون النصف فقط أم الفاتحة ومعها غيرها؟ قطعاً: الفاتحة ومعها غيرها، وهذا الحديث يدل على أن المصلي في الفريضة يقرأ في الركعتين الأخريين بالفاتحة ومعها شيئ آخر، مع تطويل الأولى على الثانية، فيقرأ في الركعة الأولى بقدر، وفي الثانية بقدر النصف من ذلك، وسيأتي قدر القراءة في العصر.
فـ أبو سعيد يبين لنا مدى قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، ويفسر التطويل الذي جاء في حديث أبي قتادة؛ فهو يطيل في الأولى إلى حد أن الثانية بقدر النصف من الأولى، وسيأتي أنه يقارن بين الأولى والثانية من الظهر، والأولى والثانية من العصر كما في نهاية حديثه.
وإذا جئنا إلى سورة السجدة فعددها (30) آية، وفي بعض الأحاديث: (سورة ثلاثون آية شفعت لصاحبها يوم القيامة) ، فهل هي السجدة أم أنها تبارك؟ كلاهما ثلاثون آية.
إذاً: حديث أبي سعيد يبين لنا قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأوليين قدر السجدة، وفي الأخريين قدر النصف، إذاً: الأخريان هل فيهما قراءة مع الفاتحة أم ليس فيها كما قال أبو قتادة؟ فيها، ولكن مع التفاوت، فالأوليان بقدر (السجدة) ، والأخريان بقدر النصف.
قال: (وفي الأوليين من العصر على قدر الأخريين من الظهر، والأخريين على قدر النصف من ذلك) رواه مسلم، ففي العصر الأوليان منه بقدر الأخريين من الظهر، قال: (والأخريين على قدر النصف من ذلك، والأخريين من العصر على قدر النصف من ذلك) أي: نصف السجدة، وهو الربع.(62/8)
كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [7]
سنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لكل صلاة ما يناسبها من طول أو قصر في القراءة، مراعياً فيها جانب المأمومين، وجانب الوقت الذي تكون فيه الصلاة.(63/1)
شرح حديث: (ما صليت وراء أحد أشبه صلاة برسول الله من هذا)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن سليمان بن يسار قال: (كان فلان يطيل الأوليين من الظهر، ويخفف العصر، ويقرأ في المغرب بقصار المفصل، وفي العشاء بوسطه، وفي الصبح بطواله، فقال أبو هريرة رضي الله عنه: ما صليت وراء أحد أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا) أخرجه النسائي بإسناد صحيح] .
بدأ المؤلف يفصل مقدار ما يقرأ الإنسان في الصلاة، وذلك ابتداء من حديث أبي سعيد؛ حيث بين لنا القراءة في الأوليين من الظهر بقدر سورة السجدة، وفي الأخريين نصفها، وفي الأوليين من العصر نصف سورة السجدة، وفي الأخريين قدر ربعها.
وهنا المسألة الثانية، ونقدم لها بمقدمة بسيطة: نعلم جميعاً -يا إخوة- أن الإسلام بصفة عامة مبناه على التيسير، والصلاة كذلك مبناها على التخفيف والتيسير، ومعاذ رضي الله عنه لما طول وقرأ البقرة، وخرج الرجل من الصلاة وصلى منفرداً، وبلغ الخبر رسول الله قال: (أفتان أنت يا معاذ؟! من أم بالناس فليخفف) ، وقال: (أين أنت من الشمس وضحاها، وسبح اسم ربك الأعلى، والضحى والليل إذا سجى) ؟ وتقدم لنا مبدأ في حديث المسيء في صلاته: (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) ، إذاً: بداية تبدأ بما تيسر، وتنتهي بما لا مشقة فيه؛ حتى وجدنا من لم يستطع أن يأخذ من القرآن شيئاً أنه يجزئه قول: سبحان الله، والحمد لله.
إلى آخره.
إذاً: هذه المسألة، وهي: مقدار ما يقرأ المصلي في صلاته من سور مع الفاتحة سرية أو جهرية إنما هو بحسب البيئة أو فئة الموجودين، ومقتضيات الحال، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني لأدخل في الصلاة بنية الإطالة؛ فأسمع بكاء الأطفال فأخفف رحمة بقلوب الأمهات) .
إذاً: هذه المسألة لا حد فيها، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في المغرب بالطور، وقرأ فيها بالمعوذتين، فليس هناك حد، وكم هو الفرق بين الطور وبين الفلق والناس، قالوا: يفعل ذلك أحياناً، ويفعل ذلك أحياناً؛ لأنه ربما علم بكثرة الناس خلفه، وكثرة العدد موحية بوجود ذوي الأعذار، بخلاف إذا ما وجد عشرة أو خمسة عشر معروفون، وكلهم على نشاط، وكلهم يرغب في الإطالة، فلا مانع من ذلك.
إذاً: كل النصوص التي تأتي في هذه المسألة من تحديد ما يقرأه الإنسان مع الفاتحة مرجعه إلى حالة المصلين، فتارة جاء التطويل، كما جاء في بعض الروايات: أنه قرأ الأعراف في ركعتين، إذاً: ليس هناك ضابط معين يلتزم به الإنسان، وهذا الحديث يفصل بعض التفصيلات.
وعن سليمان بن يسار قال: (ويقرأ في المغرب بقصار المفصل) .
القرآن منه الطوال، ومنه المفصل، والطوال هي السور الطويلة، وفصل ما بين السورة والسورة بعيد، فتجد البقرة جزئين ونصف، والفاصل في سورة آل عمران كذلك، ولما تأتي إلى آخر المصحف تجد ثلاث سور في صفحة واحدة: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ، (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) ، (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ؛ فتجد ثلاث فواصل في صفحة واحدة.
وما هي طوال المفصل؟ لا تجد نصاً متفقاً عليه بين الفقهاء أو القراء أو المفسرين فيه حد لبداية المفصل، ولكن بعضهم يقول: أوله الصافات، وقيل: أوله الحَواميم من (غافر) ، وقيل: فصلت، وقيل: القتال، وقيل: سورة الفتح، ولكن الذي في ذهني أن الجمهور على أن أول المفصل هو سورة الحجرات، وما يليها هو من طوال المفصل، ويتفقون على أن قصار المفصل من الضحى، وعلى هذا: فقد كان يقرأ بقصار المفصل، وهو ما جاء في بعض الروايات: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) ، (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ، وهذا في المغرب، بينما الرواية الأخرى: (يقرأ بالطور) .
إذاً: هذا بيان لبعض حالات ما يقرأه الإنسان مع الفاتحة.(63/2)
استحباب قراءة سورة كاملة في الصلاة
كل ما سبق إنما جاءنا بسور كاملة، وجاءنا ما يوحي بأنه تنقسم السورة الواحدة بين الركعتين، وأما قراءة بعض الآيات من سورة في ركعة، وبعض الآيات من سورة أخرى في ركعة، فـ مالك رحمه الله في مبحث سجود التلاوة يكره أن يقتصر الإنسان على بعض آيات من سورة طويلة، والأفضل عنده سورة قصيرة بقدر تلك الآيات أولى من أن تأخذ بعض آيات من سورة، وما وجه النظر في هذا؟ وجهة النظر عميقة جداً؛ لأنك إذا جئت وأخذت خمس أو أربع أو ثلاث آيات من سورة من السور الطوال ربما تكون تلك الآيات التي أخذتها جزءاً من موضوع طويل، لكن حينما تأخذ سورة صغيرة فكل سورة من القصار هي موضوع مكتمل بذاته، وحتى لو طالت قليلاً فسوف تجدها تدور حول موضوع واحد، وقد أشرنا سابقاً إلى هذا، وأن هذا يحتاج إلى تأمل.
فلو جئت من أول المفصل وأخذت من سورة تبارك، انظر إلى افتتاحية السورة فسوف تجد موضوعها يدور حول افتتاحيتها، {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك:1] ، فكل ما يأتي بعد الافتتاحية يدور حول القدرة والعظمة الإلهية: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:3-4] ، إلى آخر السياق، وإذا جئت إلى الجزء الأخير فأوله: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} [النبأ:1-3] ، وما هو النبأ العظيم الذي اختلفوا فيه؟ قيل: هو القرآن، وقيل: هو البعث، وهو الصحيح، ثم تأتيك بعد هذا أدلة البعث مكتملة في سورة النبأ: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} [النبأ:6-10] ، إلى قوله: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا * يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} [النبأ:17-18] ، فكل السياق في هذه السورة يمشي تباعاً على النبأ العظيم ويبينه.
وإذا جئت إلى قصار السور مثل الضحى، رأيتها تدور حول تسلية النبي صلى الله عليه وسلم، وتعداد النعم عليه، وتأتي بعدها سورة الانشراح وهي تابعة لما قبلها بصيغ الاستفهام المتتالية، وهكذا تجد (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) تدور حول وحدانية المولى سبحانه، و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) تدور على الاستعاذة بالخالق من المخلوقات، فوجهة نظر مالك رحمه الله فيما يقرأه القارئ مع الفاتحة أنه يختار سورة قصيرة خير من أن يختار عدة آيات من سورة طويلة، مع أن الكل جائز لعموم ما تيسر، والذي تيسر آية أو أكثر.(63/3)
مقدار القراءة في صلاتي العشي والصبح
قوله: (وفي العشاء بوسطه) ، إذا اتفقنا على أن أول المفصل سورة الحجرات، فإن وسطه من عم إلى الضحى، هذا من وسط المفصل.
(وفي الصبح بطواله) وطواله طوال المفصل، إن قلنا: من الصافات أو غافر أو القتال أو الفتح كل هذا من طواله، يعني من السور الطويلة التي هي في أوائل المفصل.
إذاً: هناك مغايرة، وعلى هذا التقسيم فأطول صلاة هي الصبح، لماذا؟ يقول بعض العلماء: الصبح يكون عند قيام الناس من النوم، والناس في غفلة، فإذا قرأ الفاتحة و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ثم سلم فالذي في بيته يكون لم يتوضأ بعد، لكن إذا قرأ من طوال المفصل فتوجد فرصة للذي يتأخر؛ عله إن لم يدرك الأولى أن يدرك الثانية، فقالوا: إطالة القراءة بغية أن يدرك المتأخر الصلاة، ولكن أعتقد -والله تعالى أعلم- أن الصبح ليست وقت عمل، وهو أرجى أوقات العبادة، حتى أن علماء الاجتماع يقولون: أقوى ما يكون الذهن والذاكرة في الصباح؛ لأنك تنام ليلاً طويلاً وتستريح عن التفكير، والعقل في راحة، وكلما أخذ الجسم راحته كلما كانت جميع أعضائه أقوى على ما يقوم به فيما بعد؛ لأنها في فترة راحة؛ فإذا استيقظ من النوم يكون أقوى وأشد استعداداً لتلقي كل خير، ولذا يوصون الطالب إذا أراد أن يحفظ الدرس أن يحفظه بعد صلاة الصبح؛ فالمذاكرة والفهم يكون في وقت خال، وفي جو هادئ.
فإذا كان الأمر كذلك فيكون صلى الله عليه وسلم يطيل القراءة في الصبح؛ لأن الناس لديهم استعداد أكثر لسماع القرآن، وهذا بخلاف العصر ويقولون أيضاً: وقت الظهر وقت القيلولة، وكانوا يفطرون في الضحى، ويقيلون قبل الصلاة، فيقومون أيضاً على نشاط، ولكن صلاة العصر أكثر الناس في أعمالهم، فهم في حالة انشغال فيخفف عليهم، وإذا جاء إلى العشاء يعقبها النوم وليس هناك عمل، فكان هذا مراعاة لحالات الناس لئلا يشق أو يضيق عليهم.
إذاً: يذكر لنا أبو هريرة بصلاة هذا الرجل أن الصلاة في الصبح بطوال المفصل، والصلاة في المغرب بقصارها، والعشاء بأوسطها، وهكذا يقولون في تفاوت القراءة ما بين صلاة وأخرى.
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: (ما صليت وراء أحد أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا) أخرجه النسائي بإسناد صحيح.
وهذا مما يعطي الحديث حكم الرفع، وكأن أبا هريرة يقول: هكذا كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال رحمه الله: [وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور) متفق عليه] .
أين قصار المفصل من الطور؟(63/4)
شرح حديث: (كان رسول الله يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة ... )
قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة: ((الم)) * ((تَنزِيلُ)) و ((هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ)) ) متفق عليه] .
كأن المؤلف يقول: صلاة الرجل التي قال عنها أبو هريرة أشبه بصلاة رسول الله، وأنه يقرأ في الصبح بطوال المفصل، ما عدا صبح الجمعة؛ لأن للرسول فيها قراءة مستقلة، ما هي؟ (الم) السجدة، و (هَلْ أَتَى) ، وهل يقرأهما معاً في ركعة أم يقسمها في ركعتين؟ هما سورتان، والصلاة ركعتان، إذاً: كل واحدة في ركعة، وتأتي بعض النصوص في أنه كان يديم ذلك، ويرى بعض العلماء عدم الاستدامة.
ولماذا خص صبح الجمعة بهاتين السورتين؟ لأن كلتا السورتين تتحدث عن خلق الإنسان ابتداءً، وعن مآله انتهاء: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة:8-9] ، ثم بين حالة الإنسان في آخرته وما يؤول إليه، وفي السورة الثانية: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:1-2] إلى آخر السورة، ويقولون: يوم الجمعة هو يوم خلف آدم، كما أن يوم الإثنين هو يوم محمد صلى الله عليه وسلم، فيوم الجمعة فيه خلق آدم، وفيه أسكن الجنة، وفيه نزل منها، وفيه تاب الله عليه، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة لا يصادفها عبد قائم يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه.
إذاً: يوم الجمعة يدور معه أخبار خلق الإنسان والجنة والنار والبعث؛ فهي فرصة لتقرأ فيها هذه السورة على مسامع المسلم فيتذكر بدايته، ونهايته، ويتهيأ للجنة التي أخرج منها أبوه آدم ليعود إليها، وهكذا السورة الثانية.
إذاً: نستطيع أن نقول: إن هناك اختيار لبعض السور لبعض المناسبات، لكن لا نستطيع أن نقرر أو أن نقول: إن هذه سنة، وهذه بدعة، ولكن هذا من عمل النبي صلى الله عليه وسلم الذي شرعه للأمة، فقد كان يقرأ في الصبح من يوم الجمعة بهاتين السورتين، وتأتي بعض النصوص بالمداومة عليها، ولكن نجد بعض الأئمة لا يداوم عليها، وخاصة أيام الموسم، وإذا سألته قال لك: هناك بعض الناس لا يعرف هذه السورة ولا القراءة فيها، ولم يعودهم أئمتهم، فإذا كبر الإمام وسجد للتلاوة ركعوا، فيكون ساجداً وهم ركوع، وإذا قام من السجود رفعوا من الركوع، وإذا كبر للركوع كانوا هم سجود؛ فيحصل اختلال في الصلاة، فإذا وجدت شدة زحام، والوافدون كثر، وخيف الارتباك؛ فلا مانع من الترك؛ حفاظاً على صحة الصلاة واتباع الإمام، أما في الأيام العادية فلا مانع من قراءتها، وبعض العلماء يقول: لا ينبغي الاستدامة عليها؛ حتى لا يظن العامي بأنها فرض في كل يوم جمعة، وأن صبح الجمعة لا يصح إلا بهما.
فينبغي أن يتبين للناس أنها سنة في هذا اليوم، وأن الغرض منها ليس مجرد السجدة، ولا أن أي آية من آيات السجدة أو سورة من سور السجدة تجزئ، والقرآن فيه عشر سجدات متفق عليها، والباقي مختلف فيها، ولكن المراد موضوع ومضمون السورتين، وهو التذكير ببدأ خلق الإنسان وبعثه ومآله يوم القيامة ليتأهب لذلك، وخاصة في يوم الجمعة الذي تتضاعف فيه الأعمال، ويندب فيه فعل الخير، وهذه من السنة المعمول بها، وهو فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: [وللطبراني من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (يديم ذلك) ] .
هذه الزيادة يأتي بها المؤلف، وهو شافعي المذهب، والشافعية يؤكدون عليها ويرون دوامها، ولو اقتصر على آية السجدة منها فقط لأجزأ، إلا أنه لو اقتصر على آية السجدة فإنه يضيع الغرض المطلوب من قراءة سورة السجدة؛ لأن الغرض هو عرض السورة بكاملها لتمام موضوعها في خلق الإنسان وبعثه.(63/5)
أحكام سجود التلاوة
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فما مرت به آية رحمة إلا وقف عندها يسأل، ولا آية عذاب ... ) .
هناك مباحث عديدة فقهية تتعلق بالسجود في التلاوة في سورة السجدة، ملخصها: أن ما ثبتت فيه سجدة عنه صلى الله عليه وسلم إذا قرأها الإنسان وحده فهو بالخيار؛ فإن شاء سجد، وإن شاء لم يسجد، والسجود ليس بواجب، ولا فرض عليه؛ أخذاً بعمل أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه عندما خطب وقرأ آية سجدة، فنزل من المنبر وسجد وسجد الناس معه، ثم قرأ مرة أخرى بتلك الآية، وتهيأ الناس للسجود، فلم ينزل ولم يسجد، وقال: هي آية سجدة فمن شاء فعل، ومن شاء ترك.
أما إذا كان الإنسان يستمع، فيقولون: القارئ والسامع كلاهما يسجد إلا أن القارئ على نفسه، وبعضهم يجعل سجدة التلاوة كالصلاة يشترط فيها: الطهارة، واستقبال القبلة، ويرون عدم السجود في وقت النهي عن الصلاة، وآخرون يقولون: هي عبادة مستقلة لا علاقة لها بالصلاة، فحيثما سجد ولو بغير وضوء فلا بأس، أما المستمع فهو بين حالتين: أما القاصد فهو متابع للقارئ فإن سجد القارئ سجد معه، وإن لم يسجد فلا سجود عليه، وأما من استمع عفواً بدون إلقاء سمع فلا سجود عليه.
ويذكرون في ذلك: أن رجلاً قرأ آية سجدة عند عثمان رضي الله تعالى عنه، فسجد القارئ فسجد معه، ثم جاء شخص آخر وقرأ السجدة من أجل أن يسجد عثمان ولكن هذا القارئ لم يسجد فما سجد عثمان، فقال: يا أمير المؤمنين! قرأ فلان فسجدت وقرأت فلم تسجد؟ قال: لأنه قرأ فسجد فسجدنا معه، وأنت قرأت فلم تسجد فلم نسجد معك، ومن هنا قالوا: المستمع الملقي السمع للقارئ إن سجد القارئ سجد معه.
وهنا نقطة عند الأحناف دقيقة جداً: قالوا: لا سجود لسامع الصدى، والصدى هو: رجوع الصوت من جرم يصطدم به، وهذا يظهر عند الجبال، إذا كان الجبل مرتفعاً، وخاصة إذا كان قائماً ليس مدرجاً ولا بسفح طويل، أو إن كنت تمشي وأمامك جدار، فإذا اقتربت من الجدار تسمع صوتك، من أين جاء هذا الصوت؟ الصوت يذهب مع الهواء فيصطدم بالجرم الذي أمامه فيرجع، وكذلك الأذن إنما تأخذ صدى الصوت؛ لأن الصوت يأتي مع الهواء فيصطك بطبلة الأذن من الداخل، وكما يقول الأطباء: هناك شاقوص وسندان، فتتحرك إبرة الأذن بهذا الصدى فتنقل الصوت إلى الدماغ، والآن الصدى موجود معك في كل بيت، وهو: المذياع أو (الراديو) ، وهو عبارة عن جهازين: جهاز استقبال وجهاز إرسال، وجهاز الاستقبال يأخذ الصدى من المحطة التي ترسل، وجهاز الإرسال الذي يسمعك، فعند الأحناف لا سجود مع الصلاة هنا، فلو سمعت عبد الباسط أو الحصري يقرأ آية سجدة ومشى، فليس عليك سجود؛ لأنه هو بنفسه ليس ساجداً في الإذاعة ولا في القراءة.
مبحث سجود التلاوة مبحث واسع، وكنا قد جمعنا فيه بعض الأبحاث، وخلاصة ما يدور حوله في سجود التلاوة: أواجب هو أم سنة؟ ويذكرون في ذلك أخباراً عديدة منها: أن أبا قتادة أو غيره قرأ بسورة فيها سجدة، فسجد وكان بالدار شجرة فسجدت بسجوده، فقال صلى الله عليه وسلم: (نحن أحق بالسجود من الشجرة) ، لكن الحديث فيه مقال.
ويهمنا: أن سجود التلاوة مشروع، وقد ورد في القرآن في خمسة عشر موضعاً ويختلف الأئمة في موضع الآية؛ أهو قبلها بآية أو بعدها بآية؟ وهذا بحث فقهي توجد مباحثه في كتب الفقه جميعاً.(63/6)
شرح حديث: (كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: اللهم لك الحمد ملء السموات والأرض ... )
قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: (اللهم لك الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد) ، رواه مسلم] .
هذا الإعجاز النبوي بهذا الأسلوب العظيم نجد بعض العلماء يقول فيه: إن الدعاء والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم والتسبيح بمثل هذه العمومات لا يصلح؛ لأنك بكلمة واحدة تريد أن تملأ السماوات والأرض؟ (الحمد لله ملء السماوات والأرض) ، وإذا ورد النص في هذا لم يبق لأحد مقال، والباب هو باب فضل الله سبحانه وتعالى، وقد جاء في الحديث الآخر عند مسلم: (الحمد لله تملأ الميزان) ، هذه كلمة واحدة ملأت الميزان، وجاء في وصف الميزان: (لو أن السماوات السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة؛ لمالت بهن لا إله إلا الله) .
إذاً: لا نستطيع أن نتحكم بالعقل ما دام قد ثبت هذا بالنص.
(والحمد لله تملأ ما بين السماء والأرض، والحمد لله وسبحان الله تملآن ما بين السماء والأرض) ، (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) .
إذاً: ما دام النص ثابت فلا كلام لأحد، وهنا في الحديث: (ملء السماوات وملء الأرض) .
تصور بإدراك العقل أن هذا الحمد ملأ السماوات والأرض، ثم قال: (وملء ما شئت من شيء بعد) ، وهنا يتساءل العقل عند قول: (ما شئت من شيء بعد) ماذا بعد السماوات والأرض؟! هل يمكن لنا أن نتساءل هذا التساؤل ونحاول أن نصل إلى جواب، أم نترك ذلك إلى علم الله سبحانه وتعالى؟ ما دام أن النص يقول: (وملء ما شئت من شيء بعد) ، فلا مانع، وأوسع من هذا كله قوله تعالى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران:133] ، إذاً: يوجد شيء آخر غير السماوات وغير الأرض وهي الجنة، وهل هناك شيء آخر؟ في الحديث الآخر: (ما السماوات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في فلاة، وما الكرسي في العرش إلا كدراهم في ترس، وما العرش في كف الرحمن إلا كحبة خردل في كف أحدكم) .
إذاً: عالم الملكوت لا يمكن لعقل أن يحيط به، وهذا الذي جاءتنا به النصوص، ولم يقل: ملء السماوات وملء الأرض، وانتهينا، ولكن أين الكرسي؟ وأين العرش؟ وأين ما وراء ذلك؟ الله أعلم.
المهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم يوسع مجال الذكر إلى هذا الحد؛ فهل فكرت في هذا حينما ترفع من الركوع وتقول: (سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد) ؟ هل تتذكر هذا المعنى؟ وليس مجرد السعة فقط، ولكن نتذكر عظمة هذا الكون وبالتالي عظمة الخالق.
(أهل الثناء) : يا رب أنت أهل للثناء، هناك الحمد وهنا الثناء؛ لأن ملء السماوات فيه بيان القدرة لخلق السماوات، والخالق بديع السماوات والأرض، وقد تثني على مهندس صمم هذا المسجد، أو على طبيب ناجح، وبديع السماوات والأرض أحق بالثناء سبحانه جل جلاله، فتجمع الحمد أولاً لكمال ذاته، وتأتي بالثناء ثانياً لملء السماوات والأرض وما شئت من شيء بعد، وأنت تعلم بذلك، فيكون اجتمع منك لله الحمد والثناء.
(أهل الثناء والمجد) : المجد: العزة، والسلطان، والقدرة، مثلما يقولون: سهل ممتنع.
(أحق ما قال العبد) : هذه الألفاظ أحق ما يقولها العبد لمعبوده؛ أن يحمده بهذا الحمد المتسع، وبكل ما يمكن أو هو كائن في الوجود، والثناء على الله بما هو أهله من حسن الفعال والقدرة والإيجاد والإبداع.
إلخ.
فإذا كان الله خلق السماوات ودبر أمرها، وسير فعالها، وما فيها من ملائكة كواكب، ليس فقط مجرد سماء وبنيت، وأديرت، وكذلك الأرض وما فيها من عوالم، حق الثناء لله، وأحق ما قاله العبد لربه مقابل هذا الملك بكامله.
(وكلنا لك عبد) ، أحق ما قال العبد -وأنا منهم- (وكلنا لك عبد) ، وبهذا في هذه الحركة أعتقد أنه لا يتأتى لإنسان أن يقول: الله أكبر، ثم ينزل إلى السجود ويفوت على نفسه الخير الكثير، وهذا يبين خطأ من يقول: أركان الصلاة ركن طويل وركن قصير، أو ركن ثقيل وركن خفيف، بل كلها أركان مستوية، وتقدم لنا مبحث الطمأنينة، وأن الإنسان يطمئن في كل أركان الصلاة.
(اللهم لا ما نع لما أعطيت) : عطاء المولى سبحانه وتعالى عظيم، وإذا أراد الله سبحانه وتعالى لإنسان عطاء فلا راد له، وقد جاء هنا عطاء مطلق: (لا مانع لما أعطيت) ، سواء كان العطاء مادياً محسوساً من غنى وصحة وولد ومنصب.
إلخ، أو كان عطاء معنوياً من مكارم أخلاق وتوفيق للعبادة وعلم نافع،.
إلخ.
لا مانع يا رب لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، فالعطاء من الله، ولا موجود في هذا الوجود يمنع عطاء الله عمن أراد له خيراً، كما في الحديث: (لو اجتمع أهل الأرض على أن ينفعوك بشيء ما نفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمع أهل السماء والأرض على أن يضروك بشيء لن يضروك بشيء إلا قد كتبه الله عليك) ! إذاً: في هذا الجزء من هذا الحديث وأنت قد توجهت إلى الله سبحانه وتعالى، وحمدته ملء السماوات والأرض، وأثنيت عليه سبحانه؛ تقف مقراً بين الرجاء والخوف، ولا تتوجه في حاجة أياً كانت إلا له سبحانه، إذ لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، وقد جاء في الحديث: (كل شيء بقضاء الله وقدره حتى العجز والكيس) ، يعني الذكاء والغباوة، الفطنة والجهالة، كلها بعطاء من الله وبقدر منه.
والقرآن الكريم فيه توبيخ لعباد الأصنام وبيان لباطلهم: {أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء:73] ، لماذا تعبدونهم؟ هل لديهم منفعة ترجونها؟ هل تخافون من ضر يوقعونه بكم؟ هم لا يملكون نفعاً يجلبونه إليكم، ولا يقدرون على ضر يوقعونه بكم، فما هو موجب العبادة؟ وتقدم مراراً الإشارة إلى قول العلماء: كل عاقل في هذه الدنيا إنما يسعى لأحد أمرين: إما لجلب نفع، وإما لدفع ضر، قال الشاعر: إذا أنت لم تنفع فضر فإنما يرجى الفتى كيما يضر وينفع مع ملاحظة اختلاف الجهة وانفكاكها، إذا أنت لم تنفع صديقك تضر عدوك، يعني لابد أن تفعل شيئاً، فإذا كنت لا تستطيع نفعاً ولا ضراً، {كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ} [النحل:76] ما قيمة هذا؟ وفي هذا الموقف بين يدي الله الاعتراف بأنه: لا مانع لما أعطيت قليلاً كان أو كثيراً، ولا معطي لما منعت قليلاً كان أو كثيراً، إذاً: وأنت بين يدي الله في الصلاة تزداد رغبة وإيماناً ويقيناً بأن العطاء من الله ولا يدفع الشر إلا الله، وهذه أيضاً وقفة جديدة مع الوقفة الأولى: (ربنا ولك الحمد؛ حمداً طيباً طاهراً مباركاً فيه، ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد) .
ثم يعقب ذلك بما يشبه التذييل والتكملة، لا معطي لما منع، ولا مانع لما أعطى، ولا ينفع ذا الجد، والجَد بمعنى الحظ، تقول لإنسان: فلان محظوظ، ومن أين جاء له الحظ؟ صاحب الحظ مهما قلت فيه فإن حظه لن يأتيه بشيء إلا من عند الله، وبالكسر (الجِد) بمعنى الاجتهاد، والمعنى الآخر (للجَد) الذي هو أبو الأب؛ لا دخل له في هذا.
(ولا ينفع ذا الجد منك الجد) ، يعني: ذا الحظ والذكاء والفطنة، عقله وفطنته وحظه لا ينفعه بشيء.
ولو كانت الأرزاق تأتي على قدر الحجى لماتت من جهلهن البهائم والغنى والفقر ليسا بالذكاء أو بالحظ، والآن يوجد جهاز بحجم الكف يحسب قدر مائة شخص، ومائتا ألف كلمة تترجم في جهاز مثل الكف من الإنجليزي إلى العربي ومن العربي إلى الإنجليزي، ويُخزِّن أرقام أكثر من مائتي رقم تلفون، وآلة حاسبة، وكلها قدر الكف، أين ذهبت عقولنا؟ مائتا ألف كلمة تترجم من الإنجليزي إلى العربي ومن العربي إلى الإنجليزي، وأكبر شخص مترجم الآن لا يحفظ مائتي ألف كلمة.
إذاً: العقل كآلة إذا كان أوتي شيء من الذكاء فمن الله، هذا الذي ركب أو اخترع هذا الجهاز من أين؟ من العقل والعقل مَنْ خلقه ووهبه وأعطاه هذا إلى أن توصل إلى ذلك؟ الله، إذاً: الكل راجع إلى الله.
قال قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] ، والعلم من أعطاك إياه؟ {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:78] من الذي علمك بعد أن خرجت من بطن أمك؟! إذاً: العاقل يتأمل حقيقة وجوده، وحقيقة وجود الكون من حوله، وهذه لفتات أو لمسات تأتي من الرسول صلى الله عليه وسلم في ساعة توجه الإنسان بكليته إلى الله، واستعداد استقبال هذا التوجيه أكثر مما لو جاءه وهو ماش في السوق، أو ذاهب إلى البيت، أو نائم في غرفته، أو جالس يأكل ويشرب، لكن يصلي ويناجي ربه، فيعلمه حقيقة علاقته بالله: يا رب! أنا جئت إليك وأقررت أنك رب العالمين، تصرفهم كيفما شئت، وأنا فرد من أفراد تلك العوالم كلها، وأقررت بأنك مالك يوم الدين ومآله إليك، ثم رجوت وسألت بذله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ، اعتراف، {اهْدِنَا} [الفاتحة:6] ، فيبين حقيقة علاقة الإنسان بالله في هذا الحديث.
ولهذا نقرأ: (الدعاء مخ العبادة) ؛ لأنك لو تأملت في ألفاظ الدعاء الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم لوجدت العمق والبعد إلى حد بعيد جداً، ولا ينفع ذا الجد منك الجد.(63/7)
كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [8]
في كل هيئة من هيئات الصلاة لابد أن تكون الأعضاء بشكل يناسب تلك الهيئة، ما لم فلن تتم هذه الهيئة، ففي السجود لابد من تمكين الأعضاء السبعة من الأرض، وكان صلى الله عليه وسلم في السجود يفرج بين عضديه وجنبيه حتى يرى بياض إبطيه، بينما المشروع للمرأة في السجود عكس ذلك.(64/1)
شرح حديث: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله.
أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة -وأشار بيده إلى أنفه- واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين) متفق عليه] .
بيّن المؤلف كيفية الصلاة، وبدأ بتكبيرة الإحرام، ثم جاء بقراءة الفاتحة، ثم الخلاف في البسملة، ثم التكبيرات: تكبيرة الإحرام، وتكبيرة الانتقال، وما يقول حال رفعه من الركوع، وما يقول وهو قائم بعد الرفع، ثم سيهوي إلى السجود، فكيف يكون السجود؟ هناك حديث في كيفية الهوي إلى السجود، ولكن الحديث هنا في كيفية السجود.
قال: (أمرت) ، وهذا الحديث ورد بصيغ ثلاث: (أمرت) ، (أمرني ربي) ، (أمرنا) ، كل هذه من صيغ هذا الحديث، وأصحها هذه الرواية: (أمرت) ، وهذه عند علماء اللغة من صيغ المبني للمجهول أو ما لم يسم فاعله، (أمر) من الأفعال المتعدية، تقول: أمر زيد عمراً بفعل كذا، فهنا الفعل يحتاج إلى فاعل، ويحتاج إلى مفعول به، وما هو مأمور به، أمر علي زيداً: فهنا الفاعل علي، والمأمور زيد، والمأمور به موضوع الأمر.
وهنا: (أمرت أن) ، ومعلوم أن ما بني للمفعول يكون قد حذف فعله، وأغراض حذف الفاعل تدرس في علم البلاغة، إما لمعرفته أو لا يذكر اختصاراً، كما جاء: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:32] ، لم يذكر الفاعل، وليس هناك مبني للمجهول ولا للمعلوم، ولكن حذف الفاعل لبيان السياق للمطلوب، بدليل الحجاب، توارت يعني الشمس.
وهنا: (أمرت) ، إما أن يكون لمعرفته ولا يحتاج إلى تنصيص عليه، وإما لعدم إرادة ذكره، وحذف الفاعل: لعدم إرادة ذكره، أو عدم معرفته؛ حفاظاً عليه، أو خوفاً منه، وقد يكون لحقارته، وقد يكون لإعظامه وعدم تسميته باسمه، كل ذلك من أغراض حذف الفاعل، وإقامة المفعول به مقامه، وهنا من باب حذف الفاعل للعلم به، لما المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (أمرت) ، من في الدنيا له أن يأمر رسول الله؟ أظن ليس هناك حاجة إلى سؤال؛ لأن الذي يأمره هو المولى سبحانه، إذاً: أمرت، معناها: أمرني ربي.
(أن أسجد) ، السجود هو: وضع الجبهة على الأرض، وقد يسمى الركوع سجوداً، وقد يسمى السجود ركوعاً، {وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43] .
قال: (على سبعة أعظم) وأعظم جمع عظم، والعظم واحد العظام في الجسم، ثم ذكر وفسر، وهذا من الأساليب البليغة، وهي كثيرة في أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن يأتي بالمجمل ثم يفصل، (أمرت أن أسجد على سبعة) فتعد السبعة على يدك ثم تنتظر تفصيلها، فتحفظ السبعة لأنها سهلة، ثم تبدأ بالجزئيات التفصيلية.(64/2)
ذكر الخلاف في السجود على الجبهة والأنف
(الجبهة) أعضاء الجسم كلها معروفة ومحددة ومسماة حتى موضع الشعرة، والجبهة من المجابهة، والوجه من المواجهة، والقفى من التقفية، كل هذه عرفت من واقع الحال، والجبهة والجبين سواء، والجبهة مقدم الرأس، أو العضو الفاصل ما بين الوجه والرأس.
(وأشار بيده إلى أنفه) ، هنا البيان اشتمل على أسلوبين: أسلوب قول، وأسلوب فعل إشارة، والجبهة فوق والإشارة إلى الأنف، وكأنه في هذه المغايرة يقول: السجود على الجبهة والأنف، ولكن هل هما يستويان في الأمر بهما؟ أي: هل الجبهة والأنف مستويان في حكم السجود سواء أم هناك مغايرة بينهما؟ ولو كان هناك مغايرة فأيهما مائة بالمائة؟ الجبهة؛ لأنه نص صريح في العضو، وأشار إلى الأنف لأنها تتبع الجبهة في السجود، لكن هل هي تساويها في كل شيء؟ لا، لأنها لو كانت تساويها لقال: على الجبهة وعلى الأنف؛ فيكون هناك عضو ثامن؛ وقوله: (سبعة) ، تمنع وجود عضو ثامن، وكذلك يمنع من نقص عضو فيصير ستة، فالتنصيص على سبعة يمنع من أن يكونوا ستة أو ثمانية.
إذاً: الأنف ليس عضواً مستقلاً، وليس مساوياً للجبهة، ومن هنا وقع الخلاف؛ فنجد من العلماء من يقول: يجزئ أحد العضوين؛ لأنه ذكر الجبهة وأشار إلى الأنف؛ فهما سواء، وعلى أيهما سجد أجزأ.
وقال الآخرون: لا؛ لأنه لم يكتف بواحد منهما، ولم تأت (أو) التي هي للتخيير، فما قال: على الجبهة أو الأنف، وإنما قال: (الجبهة) بلفظ صريح، وأشار إلى الأنف على أنها معها، وهناك من أوجب السجود عليهما معاً، فلو اقتصر على الجبهة فقط ما صح سجوده.
القول بإجزاء الجبهة فقط يروى عن الشافعي رحمه الله، والقول بأنه يجزئ على الأنف يروى عن أبي حنيفة، ويناقش هذا القول بأن: أبا حنيفة رحمه الله ما قال: إنه يجزئ عن الأنف وحده، وإنما قال هو مخير بينهما، ولكنا وجدنا فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه يسجد على الجبهة والأنف ويلامس الأرض، وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) .
وجاءت الأحاديث عن أبي هريرة وعن ابن عباس: (أنهما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم يسجد على أنفه وجبهته) ولما ذكر صلى الله عليه وسلم ليلة القدر قال: (أريت أني أسجد في صبيحتها في ماء وطين) ، وجاء في الحديث: (ورأيت الطين على أرنبة أنفه) ، والأنف من أول الجبهة إلى الشفة، والأرنبة في المحل المرتفع من الأنف، فلابد من السجود عليها حتى في وقت الطين.
فإذاً: ليس هناك حاجة للخلاف الطويل، والقول بأن الأنف تجزئ وحدها قول مطروح، لكن هل تجزئ الجبهة وحدها؟ هذا هو الخلاف الصحيح، والصحيح أنه يجمع بين الجبهة والأنف.
ولو جئنا إلى معنى جانبي الجبهة هي الناصية، والناصية هي موضع الشرف والرفعة من الإنسان؛ ولذا قال الله في تبكيت الكفار: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق:16] ، فوصف الناصية وأراد صاحبها، فالسجود على الناصية فيه كمال الخضوع للمولى سبحانه، وهو أن تعفر الجبهة -وهي أعظم وأشرف عضو عندك- بالتراب؛ تواضعاً لله، وكذلك الأنف كما يقال: (رغم أنف فلان) فرغم من الرغام، والرغام هو التراب الحار، فإذا أرادوا مذلتك قالوا: رغم أنفك تفعل كذا، يعني: تفعل وإلا وضعنا أنفك في التراب الحار، وليس بعد هذا إهانة، فالمصلي يفعل ذلك طواعية؛ وخضوعاً لله سبحانه وتعالى، فكأنه يقول: يا رب أضع جبيني وأغبر أنفي في التراب تواضعاً لك، وشكراً على نعمائك، ولا يوفي بذلك.
إذاً: جيء بالأنف مع الجبهة لأنهما العضوان اللذان بهما يشرف الإنسان أو عليهما تقع الإهانة، فبدل ما يرغم على ذلك من خصم أو عدو، فهو يفعلها طواعية لوجه الله تعالى.
النجاشي لما انتهت غزوة بدر، دعا المهاجرين الذين عنده فاشتد عليهم الأمر: ماذا يريد منا؟ فلما دخلوا عليه وجدوه جالساً على التراب حاسر الرأس لابساً حلساً قديماً واضعاً يديه إلى الأرض، في حالة في غاية من التذلل والتواضع، فقال له جعفر: أيها الملك! دعوتنا وجئنا ووجدناك على هذه الحالة، ما الذي حدث؟ يريد: هل حدث مصيبة أم ماذا؟ قال: دعوتكم لأبشركم بأن النبي صلى الله عليه وسلم التقى مع قريش في واد يقال له: بدر، ونصره الله على أعدائه، ومما جاء عن عيسى عليه الصلاة والسلام: (إن الله يحب من عبده إذا أحدث له النعمة أن يحدث له تواضعاً) ، ونحن بفضل الله في كل لحظة نعم المولى تتوالى علينا، فجلوسك فقط معافى نعمة كبيرة، ولذا تأتي الصلوات الخمس في أوقات متفاوتة تجديداً للصلة بين العبد وبين ربه، وتجديداً للعلاقة بينهما.
وعلى هذا يشرع ضم الأنف إلى الجبهة وما نقول من جهة العقل معقولة، لكن حكمة التشريع فيها واضحة.(64/3)
كيفية تمكين الجبهة من الأرض
بقي عند الفقهاء تحقيق المناط وهو: كيف يتم السجود حقيقة على الجبهة؟ إذا كانت الغترة، أو عمامة، أو قلنسوة أو أي شيء على الحواجب، وسجدت على الأرض، فهل الجبهة باشرت الأرض أم أن بينهما حائل؟ الفقهاء يبحثون عن أثر وجود عازل أو حاجز بين الجبهة وموضع السجود على السجادة أو التراب أو الحصى، هل هو سجود على الجبهة أم سجود على الحائل دون الأرض؟ فنجد النزاع أو الخلاف يرجع إلى تحقيق المناط في حقيقة السجود، فنجد بعض العلماء وخاصة الشافعية يشددون في هذا ويقولون: لا يصح السجود إلا على الجبهة، ولا يصح على خارج عن الجبهة أو شيء يتحرك بحركة المصلي، هل تتحرك معك الغترة أم لا؟ نعم، إذاً: لا يصح أن تسجد على طرف الغترة، لابس درّاعة كبيرة واسعة أو برنس أو ثوب البادية وكمه يُدخل اثنين معك، أو أي شيء يتحرك بحركتك في قيامك وقعودك؛ لا يحق لك أن تسجد عليه عند الشافعي.
وغيره يقول: الأمر أوسع من هذا؛ لأن السجود يتحقق بالانحناء ووضع الجبهة إلى الأرض، وكونه يوجد حائل أو لا يوجد حائل فإن ذلك لا يمنع من كونه سجد، لكن يذكر الصنعاني في شرح هذا الحديث، وابن حجر في شرحه في الفتح روايات -وإن كان يضعفها البيهقي رحمه الله-: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن يسجد على كور العمامة) ، والكور: هو التكوير، والعمامة تلف مثل عمامة الرجل السوداني وأمثالها، فالاستدارة التي توجد على الرأس إذا كانت إلى الجبهة وسجد، فهل سجد على الأرض أم على كور العمامة؟ يقولون: هذا سجد على كور العمامة، وفي الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً سجد على كور العمامة فأشار إليه أن يرفع) ولكن كما قلنا: البيهقي ضعف كل هذه الروايات.(64/4)
حكم كشف أعضاء السجود في الصلاة
بقية الأعضاء السبعة التي جاء ذكرها هل يجب كشفها حتى تباشر الأرض كما تقولون في الجبهة: لا يصح السجود عليها مع وجود حائل؟ قالوا: لا، فيستحيل كشف الركبتين للسجود؛ لأن فيه كشفاً للعورة وإبطالاً للصلاة، ولا تنسوا القاعدة التي يقولها ابن دقيق العيد: الفرع إذا عاد على الأصل بالإبطال كان باطلاً.
إذاً: هذا الفرع باطل لأنه سيبطل الأصل.
إذا قلتم بأن الركبتين كشفها عورة؛ فإذا كان لابساً الخف ومسح عليه، وله يوم وليلة أو ثلاثة أيام، ومعلوم أنه سيصلي في اليوم والليلة خمس صلوات؛ فهل يصح أن ينزع الخفين ليباشر بقدميه الأرض؟ لا؛ لأن من نواقض الوضوء لماسحٍ على الخفين نزع الخفين، هذا عند الجمهور بصرف النظر عن المخالف، فهل تقولون لمن لبس خفين: انزعهما لتباشر بالقدمين الأرض؟ لا.
إذاً: تسامحتم مع صاحب الشراب، ولو توضأ وغسل القدمين، لا تقولون: اخلع الشراب حتى تصح الصلاة.
فإذاً: يجوز ستر الركبتين والقدمين، وهل يمكن لإنسان يهذي ويقول: إذا لبس قفازات ما جاء النص أن يخلعها حتى تباشر بيديه الأرض، ولكن جاء حديث آخر يذكره ابن حجر، ويذكره في نيل الأوطار بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون وأيديهم في ثيابهم، وكون اليد من داخل الثياب وهو ساجد، فالثياب حائلة بين يده وبين محل السجود، وهذا نص مختلف في رفعه ووقفه، والموقوف أصح، وسواء كان مرفوعاً أو موقوفاً على الصحابة؛ فإذا فعل ذلك أصحاب رسول الله، فليس من المعقول أن يفعلوا ما يبطل الصلاة.
والرد على من يقول: لا يصح السجود على متحرك بحركة المصلي يذكره مالك في الموطأ قالوا: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة الحر فلم يشكنا) ، أي: لم يسمع شكوانا، بمعنى: كان المسجد تأتيه الشمس فتكون أرضه حارة، فإذا سجدوا كانت حرارة الحصوة على الجبهة لا تحتمل، (فكان أحدنا يسجد على طرف ثوبه -أي: على كمه- وكان بعضنا يأخذ القبضة من الحصباء) ، أي: إذا سجد وقام للركعة التالية ملأ يده حصباء وأبقاها في كفه حتى يقرأ ويرفع ويركع (فإذا أراد السجود بسطها وسجد عليها) وهذه متحركة بحركته وهي أيضاً حركة زائدة، فالثوب لعله بضرورة الحال، لكن هذه قصداً يحملها معه في كفه، ثم يطرحها ويسجد عليها؛ لأنها تكون بعامل وجودها في كفه قد بردت من تلك الحرارة الشديدة.
وخروجاً من هذا الخلاف، وتحقيقاً للمعنى، وإبعاداً لشبهة احتمال الكبر كما في قصة الغرانيق، فالمشركون كلهم سجدوا مع رسول الله إلا واحداً رفع قبضة من الأرض ووضع جبهته عليها، فكان ذلك كبراً منه عن السجود؛ فنقول: إن كشف الجبهة أولى، خروجاً من هذا الخلاف، وتحقيقاً لمعنى الخضوع والخشوع بين يدي المولى سبحانه، وإبعاداً عن احتمال الكبر، وحتى لا يتذرع البعض بأن فلاناً يفعل كذا، وفلان يفعل كذا، وهذا جائز، وهو لا يفعلها على سبيل الجواز، ولكن يفعلها كبراً، خروجاً من هذا كله، فإنه يبتعد عن تغطية جبهته عند السجود.(64/5)
معنى قوله: (أعظم)
قوله: (أسجد على سبعة أعظم) ، صريح كلمة: (أعظم) ، وإن كان العظم ليس بظاهر فالمراد به: الجلد واللحم، ولكن حقيقة العضو العظم: {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} [المؤمنون:14] ، فالأصل في خلقة الإنسان الهيكل العظمي، وليس هناك هيكل لحمي؛ فحقيقة هيكل الإنسان وتكوينه الهيكل العظمي، مثلما يقولون على المسلح غير المشطب: عظم، وليس فيه ولا حتى قد درهم واحد من عظم، ولكنه حديد وأسمنت، لكن لشبهه بالهيكل العظمي في الإنسان شبهوه به ثم يأتي الجسم ويكسى لحماً.
إذاً: الحديث ممكن نقول: فيه نوع تجوز.
وهل في اليدين عظم واحد؟ كل إصبع فيها ثلاثة مفاصل، وأكثر سلامى الجسم في القدمين والكفين، وسمى اليدين عظمين، وفيهما عشرات العظام، إذاً: الحديث فيه مجال للتجوز والتوسع.
ونص على العظم الأول بأنه الجبهة، فالأولى أن يحاول الإنسان أن تكون الجبهة مكشوفة ما أمكن كشفها، ولا محذور فيها كالركبتين، وكالقدمين عند لبس الخفين، والله تعالى أعلم.(64/6)
كيفية السجود على الكفين
قال: (واليدين) ، نعرف بأن جسم الإنسان فيه تسمية مجملة ومفصلة، فاليد من المنكب إلى الظفر، والرجل من الفخذ أو المفصل الذي بين الحوض والفخذ إلى أصابع القدمين، وكل جزء من اليد له اسم مستقل، فلدينا العضد، ثم الساعد، ثم الكف، وفيه عدة عظام تتحرك، ثم الأصابع، ولكل إصبع عظام، وكذلك الأصابع كل إصبع له اسم، حتى الإصبع الواحدة أجزاؤها لها أسماء: الأنملة والوسطى.
إذاً: لفظ اليدين هنا مجمل كما جاء الحد في قطع يد السارق، والتيمم، وجاءت مفصلة في الوضوء، قال في الوضوء: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] ، لكن في التيمم قال: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:6] {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] ، ثم تأتي السنة وتبين إلى أين؟ وما المراد بمسمى اليد؟ هل هي بكاملها نبطحها ونمدها على الأرض؟ لا قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ، ووجدنا أن المقصود بالعضوين هنا الكفين فقط، وستأتي نصوص تمنع أن يلامس الزند الأرض، وأن يفترش ذراعيه.
وهنا أيضاً مباحث للفقهاء في الكفين: كيف تسجد على الكفين: أتطبق يديك؟ لا، بل تبسط أصابعك، مفرجة أم مضمومة؟ مضمومة؛ لأن في تفريجها انحراف لبعض منها عن القبلة؛ لأن زاوية الأصابع زاوية حادة، وهذه الزاوية الحادة لو قسناها يمكن أن تكون ثمان درجات أو سبع، وستكون المسألة سهلة إذا كان الفارق عشرة سم، الآن الإصبع يتجه ربما إلى ركن المسجد هذا، وسيذهب إلى الشرق عن نقطة تلاقي الإصبع من هنا، إذاً: لو أن الإصبع الوسطى تلقاء الكعبة فعلاً كما هو محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فستكون التي تليها منحرفة عنها فعلى ذلك قالوا: ببعد المسافة يكون الانحراف بعيد جداً، يمكن أن تذهب أصبع إلى بلاد المغرب والأخرى إلى الهند.
فإذا كان مضموم الأصابع وسجد بسط كفيه وضم أصابعه، بخلاف وقت الركوع: فإن الأصابع تفرج وتقبض على الركبة، كما جاء: (كأنه قابض على الركبة) .
إذاً: وضع الأصابع بين الضم والتفريج يختلف بوضعهما في مكانهما.
وهنا أيضاً بحث آخر: أين تكون الكفان من الجبهة؟ هل بعدها أم قبلها، أم على مساواتها؟ تكون الكفان مضمومتا الأصابع مقاربة للصدغين، لا تتقدم على الجبهة، ولا تتأخر بعيداً عنها؛ لأن هذه هيئة تنافي طبيعة الإنسان في سجوده العادي، وفيه تكلف أو تقصير.(64/7)
هيئة الركبتين وأطراف القدمين في السجود
قوله: (والركبتين) ، تقدمت الإشارة بأنه لا يشترط أن تكون مكشوفة أو مباشرة للأرض في حالة السجود، فلو نزل على اليدين وأطراف القدمين ورفع ركبتيه كحركة رياضية ما تم السجود، فلابد من وضع الجبهة والكفين والركبتين.
قال: (وأطراف القدمين) ، لم يقل: والقدمين؛ لأنه لو قال: (القدمين) فحيثما كانت القدمان أجزأا، وأطراف القدم هي الأصابع، وأحياناً ترى -وخاصة في مواسم الحج والعمرة- بعض الناس لم يتمرن كثيراً على الصلاة، وربما أنه بدأ يصلي لما عزم على الحج، فتجده يسجد ويرفع قدميه من الخلف، فهذا ما أكمل السجود؛ لأن عضوين من أعضاء السجود لم تستخدم في السجود.
وأطراف القدمين في السجود لها ثلاث حالات: إما أن يسجد على الأصابع، وإما أن يثنيها متجهة إلى القبلة ناصباً القدمين، وإما أن يثنيها إلى الخلف، وأي الأوضاع مطلوب؟ أن تكون الأصابع مثنية إلى الأمام متجهة إلى القبلة، ولو جعلها واقفة على أطراف الأصابع على الأظافر فقد سجد لكنه ترك الأولى، كما لو ثناها إلى الوراء، وما دام أنه معتمد في السجود على الأصابع، فالسجود وافي، لكن الهيئة الأكمل أن تكون الأصابع متجهة إلى القبلة.(64/8)
شرح حديث: (كان إذا صلى وسجد فرج بين يديه)
قال رحمه الله: [وعن ابن بحينة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى وسجد فرج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه) ، متفق عليه] .
إذا عرفنا أن المراد بالكفين اليدين، وأن نص الفقهاء على أن تكون منضمة الأصابع، وجئنا إلى القدمين؛ وعرفنا بأن موضع السجود هو أطراف الأصابع وهناك حركة وهيئة تتعلق باليدين مرة أخرى جاءت هنا: يقول ابن بحينة: (كان إذا صلى وسجد فرج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه) ، ما المراد باليدين؟ انظر إلى قوله: (حتى يبدو بياض إبطيه) ، أي جزء من اليد الذي يغطي الإبطين؟ إنه العضد، فإذا سجد الإنسان وضم عضديه على الكتاب أو العصا أو أي شيء، تضم العضدين على الجانبين فتلصقهما، ولا يمكن أن تسجد هكذا، لكن فرج بينهما حتى يبدو بياض الإبطين، وبعض الإخوة -أكرمنا الله وإياهم- يأتي فيصلي فإذا بهذا المرفق هناك، وهذا الآخر هنا، وآخذ نصف متر عن اليمين، ونصف متر عن الشمال، تعود هذا منفرداً، وإذا كنت منفرداً لك حرية، ويجب أن يكون المظهر بصفة عامة مظهر لائقاً، ولا يكون فيه تكلف، فتجد البعض قد يشدد على نفسه أكثر من اللازم في سجوده؛ حتى يكون الوركان منفرجان، واليدان ممدودتان، ويكون على سبيل الفطرة غير لائق، فإذا صلى في جماعة يظن أن السنة أن يفرج ليرى بياض إبطيه؛ فيؤذي هذا، ويؤذي هذا، وإذا كنت منفرداً أو إماماً فبقدر المستطاع، فالغاية القصوى من تفريج اليد عن الجنب حتى يُرى بياض الإبط، ولو فعل أقل من ذلك لأمكن، والمحظور هو أن تسجد ملصوق العضدين بالجانبين؛ لأنه لما تأتي تسجد وأنت هكذا تكون هيئتك هيئة هرة، دعك من الهرة لكن أنت تحكم عليه في شخصيته كأنه كسلان يصلي وهو عاجز، كأنه يقول: دعني أنتهي منها، لكن يفرج العضدين، والفقهاء يقولون: ليتميز كل عضو بسجوده لله سبحانه، وأحسن من هذا ما ذكره صاحب سبل السلام الصنعاني: لئلا يكون في مظهر الكسلان، فالغرض من هذا ألا تكون في صورة العجز والكسل، وليس الغرض من هذا كما يقولون: فتل الأعضاء والعضلات، لا، الصلاة خشوع، والصلاة خضوع، ومراعاة اللائق.
والحديث يشير: (حتى يُرى) رؤية الإبطين كانت سهلة؛ فلم يكن هناك ثوب وفنيلة كم، بل كان هناك الإزار والرداء والقميص، وكم القميص كان قصير وواسع، وأقل لفتة تبين الإبطين، والإبط ليس بعورة، ونحن الآن لا يستطيع أحد أن يرى إبط الثاني وهو ساجد، وأصبحت الثياب على وضع آخر بحسب ظروف الحياة، فلو كان رأساً إزاراً ورداءً أو محرماً فسوف يرى بياض إبطيه، وسيكون من السهل جداً أن يراه، وأدنى تفريج ولو سنتيمتر واحد سيرى بياض الإبط.
إذاً: ليست المسألة مغالاة ولا تفريطاً، وإنما المراد هو الخروج عن هيئة الكسلان الذي يأتي الصلاة بدون نشاط، وهذا خاص بالرجال، بخلاف المرأة فهي تضم نفسها، لما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه رأى امرأتين تصليان فقال: (ضما اللحم إلى اللحم) ؛ لأن ذلك أستر للمرأة.(64/9)
شرح حديث: (إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك)
قال رحمه الله: [وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سجدت فضع كفيك، وارفع مرفقيك) رواه مسلم] .
معنى الحديث: أن يبقى الكفان مرفوعين ولا يضعهما على الأرض؛ لأنه تقدم أن أعضاء السجود سبعة كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم) ، فذكر الجبهة وأشار بإصبعه إلى الأنف، وذكر الكفين واليدين والركبتين والقدمين، (ضع كفيك) ، أي: على الأرض، (وارفع مرفقيك) ، المرفق: هو المفصل الذي يفصل بين العضد والزند، وهو المنصوص عليه: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] ، وسمي هذا العضو مرفقاً؛ لأن الإنسان إذا أراد أن يستريح ارتفق على هذا العضو، وجعله على وسادة أو الأرض أو غير ذلك، فهو من الارتفاق والمساعدة في راحة الإنسان، ورفع المرفقين، أي: لا تكون اليد بكاملها مسطحة على الأرض، ويكون المرفق واصلاً إلى الأرض كما تصل الكف، هذه الصورة منهي عنها، بل يضع الكفين، ويرفع المرفقين بحيث لا يكونان ملامسين للأرض، وهذه الصورة جاء النهي عنها بصريح العبارة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن افتراش كافتراش السبع، والسبع إذا ربض بسط يديه من المرفق إلى المخالب على الأرض، وفي الحديث: أنه إذا رفع المرفقين لا يلصقهما بعضديه، ولكن يجافي بينهما، كما تقدم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجافي بين العضدين حتى يرى بياض إبطيه.
إذاً: من هيئة السجود: أن الساجد يضع كفيه على ما يسجد عليه سواء كان في الأرض أو على فراش أو نحو ذلك، وأن يرفع المرفق من أعلى لا أن يجعله مساوياً للكف على الأرض، فيسجد يضع الكفين ويرفع المرفقين، وأن يجافي بين العضدين لا أن يضمهما.
وتقدمت الإشارة إلى أن مجافاة العضدين على سبيل الاعتدال، وأن من سجد ضاماً عضدية يكون كالمنكمش في نفسه، ويكون في هيئة الكسلان؛ لأن هذه الحالة لا تصلح لمن أتى الصلاة عن رغبة ونشاط، كما بين صلى الله عليه وسلم وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) .
ونبهنا على أن هذا بالنسبة للرجال دون النساء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى امرأتين تصليان، فأمرهما أن يضما العضدين إلى الجنبين، وقال: (ضمَّا اللحم إلى اللحم) ، فكلما كانت تضم بعضها إلى بعض كان ذلك أدعى إلى سترها، ولو كانت مغطاة.
وأشرنا إلى أن الإنسان إذا كان منفرداً أو كان إماماً فإنه يجافي العضدين مع رفعهما في هيئة معتدلة، لا إفراط ولا تفريط، وإذا كان في صف الجماعة فإنه يراعي من على جانبيه؛ فلا يجافي بين العضدين مجافاة تؤذي الجار، وتجعل الفجوة بين الأفراد، ولا يضمهما كما تفعل النسوة، والله تعالى أعلم.(64/10)
كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [9]
لقد نقل الصحابة رضوان الله عليهم لمن بعدهم كل هيئات النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة؛ حتى إنهم نقلوا شكل الأصابع ووضعها في حال الركوع والسجود.
وبعض هيئات الصلاة اختلفوا فيها، مثل: جلسة الاستراحة، والقنوت في الفجر والوتر، والظاهر أن هذا كله من خلاف التنوع، وعلى ذلك فكله جائز.(65/1)
شرح حديث: (كان إذا ركع فرج بين أصابعه)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن وائل بن حجر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع فرج بين أصابعه، وإذا سجد ضم أصابعه) ، رواه الحاكم.
هنا هيئة الأصابع في حالة الركوع والسجود، يقول وائل بن حجر رضي الله عنه وهو من أمراء اليمن: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع ألقم كفيه ركبتيه، وفرج بين الأصابع.
إذاً: وضع الأصابع على الركبتين حال الركوع تكون مفرجة، ليتمكن من قبض الركبة كاملة، وليس هذا من باب الاستناد على الركبة، ولكنه هيئة من هيئات الصلاة، وهو أدعى لمن يطيل الركوع أن يساعده، وعلى هذا: إذا سجدت فضع كفيك مضمومة الأصابع.
ومن مجموع الحديثين نأخذ هيئة وضع الكفين على الأرض مع الأصابع.
فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقلون لنا من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزئيات: كيف كانت أصابعه حال الركوع مع الركبتين؟ كيف كانت أصابعه حال السجود مع الكفين؟ وقد تكون تلك الحالات خفية؛ فمفرج الأصابع وضامها مسائل لا يدركها إلا من تأملها وقصدها، فهم ينقلون إلينا ذلك حتى إنه ليرى بياض إبطيه، إذاً: هذه صورة من الصور المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم تأتي صورة أخرى وقد تكون أدق، وتَقدَّم لنا في قراءة الفاتحة وبعض الآيات أو السورة بعد الفاتحة: أنه كان يقرأ بعد الفاتحة سورة صغيرة أو ما تيسر من القرآن في السرية، أما الجهرية فهي مسموعة، قالوا: كيف كنتم تعلمون قراءته في السرية وأنتم لا تسمعونها؟ قالوا: نعرفها بتحرك لحيته، وكان يرفع صوته أحياناً، فنقلوا لنا تحرك اللحية، ورؤية بياض الإبط، ووضع الأصابع على الركبة، وضع الأصابع عند السجود؛ فهل هذه الأشياء أظهر أم وضع اليمنى على اليسرى بعد الرفع من الركوع؟ وأيهما أوضح؟ وضع اليمنى على اليسرى بعد الرفع من الركوع أوضح بلا شك، حتى إن ضعيف النظر يدركها، لكن الأصابع مفرجة ومضمومة واللحية تتحرك لا يدركها إلا من تأملها، وكان قوي النظر.
ولذا نقول: لا تشددوا فيما لم يثبت به أثر، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم مفصلاً، فكل ما جاء في وضع اليمنى على اليسرى هو في حالة القراءة، أما نص صريح ولو حتى ضعيف في أنه كان صلى الله عليه وسلم بعد أن يرفع من الركوع يضع اليمنى على اليسرى، فأعتقد لو بحثا ليلاً ونهاراً فلن نجد ذلك، وطلبنا من الإخوة أن يبحثوا في كتب الحديث والفقه، وأن يأتونا بنص صريح ولو ضعيف على أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع من الركوع وضع اليمنى على اليسرى فلم نجد، وسننتظر لعل الله ييسر لأحد ولو في مخطوطة من المخطوطات.
إذاً: الأمور الفقهية تجمع لها أطراف الصور، وصفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم نقلت لنا بهيئاتها، ونعلم أنه إذا لم يقبض بعد الركوع ولا قبل الركوع فالصلاة صحيحة، لكنه ترك هيئة من هيئات الصلاة، أو فعل شيئاً ظنه هيئة من هيئاتها، والذي نؤكد عليه: أنه لا ينبغي لمن رأى وضع اليمنى على اليسرى بعد الرفع من الركوع وفعل ذلك أن يعترض على من لم يفعل، ولا من لم ير ولم يفعل أن يعترض على من فعل، لماذا؟ لا من جهة الثبوت وعدمه ولكن من جهة صحة الصلاة.(65/2)
شرح حديث: (رأيت رسول الله يصلي متربعاً)
قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي متربعاً) رواه النسائي، وصححه ابن خزيمة.
] .
المتأمل في ترتيب هذا الكتاب المبارك يرى أنه كان من الأولى تأخير هذا الحديث إلى ما بعد عدة أحاديث؛ لأنه سيأتي بيان كيفية صلاة العاجز عن القيام، ومجمل ذلك إلى أن نصل إليه إن شاء الله.
تقول أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي متربعاً) ، ولم تُعْلمنا هل كانت تلك الصلاة فريضة أو نافلة، ولكن إذا كان الخبر عن أم المؤمنين عائشة فإن تلك الصلاة تكون في البيت، والقرائن تدل على أن رؤيتها إياه صلى الله عليه وسلم في البيت، وصلاته في البيت هي نافلة.
إذاً: نحمل هذا الحديث على صلاة النافلة، وبإجماع المسلمين أن النافلة تصح من مؤديها قائماً وقاعداً، وجاء الحديث بأن: (صلاة القاعد على النصف -أي: في الأجر- من صلاة القائم) وهذا في النافلة بلا نزاع.
أما الفريضة فيجمعون على أن القيام ركن فيها: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] .
على هذا بقي الكلام في هيئة: (متربعاً) ؛ لأنه سيأتينا البحث فيما بعد عمن عجز عن الصلاة قائماً ماذا يفعل، وستأتي النصوص في بيان الهيئة والكيفية لصلاة المريض أو العاجز عن القيام، وهي عدة روايات وأحاديث مفصلة سيتم الكلام عندها إن شاء الله، لكن يهمنا صورة التربع في الصلاة.
أنت لو كنت قائماً منتصباً شاخصاً، أو نائماً متمدداً أيضاً كخط مستقيم، لو جلست كجلسة التشهد وأرجلك تشكل حرف (L) أو كما يقولون: زاوية، لكن إذا ثنيت الساقين أمامك، وجئت بمقياس؛ وجدت جلستك على هيئة تربيع؛ الطول بعرض الفخذ، والعرض بطول الساق، والظهر تجد الجلسة على شكل مربع، هات مقياس وقس من الأربع الجهات، ستجد أن المقياس متقارب، هذا هو الجلوس متربعاً، ولكن عند الفقهاء: أن هيئة التربيع أن تضع قدم الرجل اليمنى تحت فخذ اليسرى، ظهر القدم إلى الأرض، وبطن القدم تحت الفخذ، والساق اليسرى تجعل قدمها تحت الفخذ اليمنى، جاعلاً ظهر القدم إلى الأرض، وبطن القدم إلى الفخذ، هذه صورة الجالس المتربع.
أما حالة العاجز والمريض فكما أسلفنا سيأتي لها نصوص تبيّن حالة العاجز والمريض عن القيام كيف يصلي، ولا تسقط الصلاة بحال من الأحوال، ولو متكئاً على عصاً أو مستنداً على جدار على تفصيلات جزئية يذكرها العلماء في كتب الفقه، وعلماء الحديث في شرح الأحاديث الواردة، ولعلها تأتي بعد عدة أحاديث إن شاء الله.
وقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (رأيت رسول الله) ، من نعم الإسلام، ومن النعم علينا أن يكن أمهات المؤمنين ينقلن لنا ما كان في داخل بيت النبوة، من كان سيراه داخل ذلك البيت؟ حتى أخص أصحابه ممن يصحبه في المسجد لن يراه، ولكن من فضل أمهات المؤمنين علينا أن يذكرن لنا هذا، كما قال الله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34] ، والحكمة هي: ما يتلقونه قولاً أو فعلاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترجح عندنا بالقرائن: أن هذه الصلاة التي رأته فيها عائشة إنما هي نافلة.(65/3)
شرح حديث: (اللهم اغفر لي وارحمني ... )
قال رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني) ، رواه الأربعة إلا النسائي، واللفظ لـ أبي داود وصححه الحاكم.
] .
المؤلف رحمه الله بعد أن بين لنا السجود (إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك) ، بين ما سيفعله من سيرفع من السجدة الأولى، وقبل أن يعاود إلى السجدة الثانية؛ فجاءتنا الصلاة بهذا الترتيب الفعلي، وهيئة السجدة: أن يضع كفيه مضموة الأصابع رافعاً مرفقيه، فإذا رفع من السجدة وجلس تلك الجلسة ماذا يقول؟ هنا جاء الدعاء: (اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني) ، وهناك ألفاظ أخرى (واجبرني) بدل: (وارحمني) .(65/4)
طلب المغفرة والرحمة من الله
هذه الجمل الخمس لو نظرنا في مجموع دلالتها: نجد المغفرة وهو طلب أخروي شامل، وارحمني: زيادة في المغفرة؛ لأن الغفران هو الستر والتغطية، والرحمة إنما هي إغداق النعمة على العبد، شاءت رحمة الله إدخاله في رحمة الله، فيمكن كما يقال: المغفرة أمر سلبي، والرحمة أمر إيجابي.
(واهدني) : الهداية أمر عام في أمور الدنيا والآخرة، والهداية في الدنيا هي: التوفيق لأعمال الخير والنجاح والمساعي، يهدى إلى طريق البر، وإلى فعل الخيرات مع الناس، والهداية في أمور الدين هي: التوفيق بالعمل الصالح والنتيجة كما جاء القرآن الكريم في أعظم مسألة في أعظم سورة في كتاب الله، وفي أعظم موقف بين يدي الله، وبعد التحميد والتمجيد والثناء على المولى سبحانه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] .(65/5)
طلب العافية من الله
قوله: (وعافني) : العافية أعظم مطلوب للإنسان، وكما جاء في ليلة القدر؛ لما سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: ماذا أقول إن أنا صادفتها؟ قال: (قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) ، تأمل هذا الموقف! أحب الناس إلى رسول الله، وتسأله عن أعظم مطلب عند المسلم وفي ليلة القدر: ماذا تقول فيها؟ وخير الخلق صلى الله عليه وسلم يقول هذا لأحب الناس إليه، أي: أنه سينصح لها كامل النصح، (قولي: اللهم ... ) ، وهذا التعليم ليس خاصاً بها، وإنما نقلته لنا لنتأسى بها فيكون للجميع، كما جاء الحديث: (قولي لواحد منكم كقولي لألف واحد) ، تشريع عام، ونجد أيضاً المقدمة بين يدي الحاجة والسؤال: (اللهم إنك عفو ... ) ، هذا ثناء على الله بالصفة التي تريد الباب منها، كأنك عندما تريد أن تطرق باب العفو عند الله، فإنك تثني عليه بهذه الصفة، فلا أقول: اللهم يا رزاق اعف عني، يا رحمان يا رحيم اعف عني؛ لأن هذه لها أبواب مستقلة، يا رحمان يا رحيم ارحمني، يا رزاق يا كريم ارزقني، يا هادي اهدني، فتكون هذه من بابها، فجئت إلى باب العفو وطرقته وأثنيت على الله بتلك الصفة التي تريد أثرها يصل إليك أنا عفو ماذا تريد؟ أريدك أن تعفو عني.
وإذا تأملنا هذا المطلب! فإن الإنسان في الدنيا والآخرة يريد المعافاة، والمعافاة: السلامة من الابتلاء، ويكون في عافية، والإنسان بماذا يبتلى؟ يبتلى إما في بدنه بالمرض، أو ولده وماله وزوجه بالفتنة، فإذا عوفي في بدنه فالحمد لله، وإذا عوفي في ولده بأن كان رضياً موفقاً مهدياً، وعوفي في زوجه: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ} [التغابن:14] ، وإذا عوفي في سلوكه مع الآخرين وفي كل أمور دنياه، فإذا جاء إلى الآخرة وحظي بعفو الله سبحانه كان مآله إلى الجنة، إذاً: هو في دنياه معافى من البلاء، وفي أخراه معافى من العذاب؛ فتكون قد جمعت له هذه الكلمة خيري الدنيا والآخرة.
وقد جاء في الحديث: (من أصبح معافى في بدنه، آمناً في سربه) ؛ لأن الأمن في السرب أيضاً من المعافاة، معافى من اللصوص والاعتداء والظلم، (عنده قوت يومه وليله؛ فقد حيزت له الدنيا بحاذفيرها) ، وماذا في الدنيا أكثر من هذا؟ البدن متعافٍ، والقوت الذي يشبعه عنده، والمأوى موجود فهو آمن مطمئن، ولو بحث وراء ذلك من متعة لم يجد بعد ذلك شيئاً، فالدنيا كلها بين يديه بمتعها.(65/6)
طلب الرزق من الله وعلاقته بالقدر
قوله: (وارزقني) : هذا الرزق مضمون فعلاً عند الله، قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6] {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:57-58] ، (لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها) ، وفي الحديث الآخر: (إن الرزق ليطلبك كما تطلبه، ولن تموت نفس من الدنيا حتى تستوفيه، فأجملوا في الطلب) اجعل الطلب جميلاً، والله سبحانه وتعالى قد وعد بالرزق عنده: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122] ، ومع ذلك يأمرنا بأن نسأل الرزق، ونقول لأولئك الذين يتكلمون في القدر: إنما قدره الله سبحانه وتعالى وخفي علينا، وما شرعه الله فهو واضح إلينا، ونحن مكلفون بأن نأخذ ونعمل بما كلفنا به، أما ما وراء ذلك فلا دخل لنا فيه.
كم شوشت على كثير من الناس علاقة العلم والقدر من المولى والأمر والتكليف من العبد، والله يقول: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22] إن الله سبحانه قد قدر كل شيء قبل إيجادك بآلاف السنين، {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:23] ،.
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد:25] ، وهي المعجزات الموضحة لصدق رسالتهم، {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد:25] .
{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [الحديد:22] ، هل اطلعنا عليها؟ أرسل الرسل بالبينات ومعهم الكتاب يقرأ، وميزان العدالة يطبق، ماذا علينا نحن في هذا الموقف؟ هل نحن مأمورون بمقتضى ما كتب في اللوح المحفوظ، أم أننا مطالبون بتطبيق ما في الكتاب والميزان؟ بالكتاب والميزان، وهنا الرزق مضمون، ويكلفنا المولى أن نسأله الرزق، فهل هو تحصيل حاصل؟ لا والله، هناك أمر وقدر في علم المولى سبحانه، وهنا تشريع يجب الامتثال له، وهناك صورة قد يتيه الإنسان سنوات حتى يحصل عليها، وهي أن يكون الأمر عند الله وفي قدر الله على خلاف ما أمر به، وإنما يأمر به لتظهر نواحي اختيار العبد في القبول أو الرفض.
الخليل إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام لما جاء إلى إسماعيل وقال: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] ، وفي هذا تكليف لإبراهيم أن يذبح إسماعيل؛ فهل امتثل إبراهيم وأطاع إسماعيل أم رفضا؟ بل شهد الله لهما بالطاعة: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات:103] ، أي: استسلما لأمر الله {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] ، إلى الخطوة الأخيرة في عملية التنفيذ لأمر الله، ولم يبق إلا جرة السكين: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:104-105] ، افتحوا آذانكم يا إخوان! واتجهوا إلى المولى أن يشرح صدورنا، إن المولى عز وجل حينما أمر إبراهيم أن يذبح إسماعيل عليهما السلام كان في علمه وقدره أنه لن يذبح، ومع ذلك يقول له: اذبح! كيف يقول له: اذبح وهو يعلم أنه لا ذبح، وهو لم يقدر ذلك؟! حينها علمنا بأن الله يعلم بأنه لا ذبح، ولم يقدر الذبح، وأمر إبراهيم بأن يذبح حال علمه سبحانه أن لا ذبح؛ لتظهر تلك الوقفة الكريمة من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:102-103] ، وكانت النهاية: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} [الصافات:104] ، وهناك: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:105] {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107] ، إحسان إبراهيم وإسماعيل على أي شيء وهو لم يفعل؟ في القدر أنه لن يذبح، وهو نفذ خطوة القدر، وكان من المحسنين؛ لأنه أجاب وأطاع الله في الأمر الذي وجه إليه، وأمر القدر كان غائباً عنه.
إذاً: الأمر والقدر من جانب الله، والتكليف والفعل يختص بالعبد، وإثابة العبد أو عقوبته على اختياره لأمرين هما سواء: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] ، لو كان غير إبراهيم وقيل له: اذبح! لقال: ما أنا بذابح! ولو كان غيره إسماعيل لقال: لست بمذبوح، ولن أسلم نفسي لك! ولكنهما تلقيا أمر الله التكليفي كأنه أمر كوني لا محالة منه، فكانا من المحسنين.
وهنا الرزق مضمون: (ويؤمر بكتب أربع كلمات: أجله، ورزقه، وعمله، وشقي أم سعيد) ، رزقه مكتوب قبل أن يولد وهو نطفة في الرحم، وهنا قال: (وارزقني) ، وإذا كان رزقك مكتوباً فلِمَ تسأل الله؟ نعم، أنا أُِمرت أن أسأل الله الرزق مع أنه مكتوب لأكون ممتثلاً أمر الله فيما كلفني به.
ومن هنا نجد أن الصلاة من أولها إلى آخرها ذكر ودعاء؛ ولذا جاء: (الدعاء مخ العبادة) ، وليس هناك عبادة تخلو من الدعاء، لا صلاة ولا صيام ولا زكاة ولا حج ولا جهاد، ولا أي عمل من العبادة لله إلا الدعاء فيه مثل تيار الكهرباء في الجهاز مخ العبادة، والإنسان بلا مخ هيكل، والعبادة بلا ذكر ولا دعاء هيكل، لذا كان الدعاء مخ العبادة، وجاء في الحديث: (الدعاء هو العبادة) ؛ لأنه إنابة إلى الله سبحانه وتعالى.(65/7)
الرد على من يقول بخفة ركن الجلسة بين السجدتين
هذا الدعاء الذي مر بنا بين السجدتين كم يستغرق من الوقت؟ لو قلتها بالسرعة المتوسطة لا بطيئة ولا سريعة هل يستغرق ذلك نصف دقيقة؟ أريد أن أقول: هذا يرد على من يقول: الجلسة بين السجدتين والرفع من الركوع ركن خفيف، وتقدم لنا أنه جاء عنه صلى الله علي وسلم بعد الرفع من الركوع: (سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، حمداً طيباً طاهراً مباركاً فيه ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد) وفي هذا أيضاً رد على من يقول: إنه ركن خفيف، ونجد من يقوم قائماً للقراءة فيركع، ثم عند الرفع لا يستقر قائماً ولا ثانية واحدة! وهذا مخالف لهذه السنة النبوية الكريمة، وكذلك يكون ساجداً ويرفع من السجدة، وقبل أن يستقر جالساً يهوي مرة أخرى، متى دعا؟ لم يدع بشيء، إذاً: المحروم من حرم نفسه من هذا الدعاء في هذين الركنين.(65/8)
شرح حديث جلسة الاستراحة
قال رحمه الله: [وعن مالك بن الحويرث رضي الله عنه: (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعداً) ، رواه البخاري.
] .
هذه يسمونها جلسة الاستراحة، يقول: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فإذا كان في وتر) بمعنى: الصبح ركعتين شفع، والركعة الأولى وتر، فالأولى من الصبح وتر، والظهر أربع ركعات، والأولى والثالثة منه وتر، والثانية والرابعة منه شفع، وهكذا، فالأولى من الصبح والأولى والثالثة من الرباعية والأولى والثالثة من المغرب هذه وتر، فتأتينا قاعدة: لم يقل الأولى من الصبح والظهر والعصر والمغرب والثالثة من كذا وكذا لا هذه جملة قاعدة مطردة: (إذا كان في وتر من صلاته) ، والوتر في الصلاة يتحقق بالأولى في الصلوات الخمس، وفي الثالثة من غير الثنائية.
(لم ينهض حتى يستوي قاعداً) ، هذه يسميها الفقهاء جِلسة الاستراحة، ولا مشاحة في الاصطلاح، لأننا لو قلنا: لماذا الاستراحة؟ أين التعب الذي جاء؟ ما زلنا في الركعة الأولى، وليس هناك موجب للتعب الآن؛ لأن الاستراحة تكون نتيجة للتعب، فهي ليست الجلسة بين السجدتين بل بعد سجود السجدتين في الركعة الأولى، ويريد أن ينهض ليأتي بالركعة الثانية، ولكن قبل أن ينهض ويستوي قائماً فإنه ينهض من سجوده إلى قعود، ثم ينهض إلى القيام من قعود لا من سجود.
ونجد بعض الفقهاء يقول: هذه الجلسة لا يجوز فعلها؛ لأنها زيادة في الصلاة، وكلمة استراحة تكون عن كسل، ولكن لا ينبغي وجود خلاف؛ لأنهم متفقون على أن هذه الفعلة هيئة من فعله صلى الله عليه وسلم، وعلى كل فإن السنة في هذه الصورة إذا سجد السجدتين في الركعة الأولى وأراد أن ينهض فلا ينهض من سجوده إلى قيامه، ولو تأملنا الحركة الطبيعية لإنسان ساجد: الجبهة والكفين في الأرض، ثم أردنا منه أن ينهض من سجوده قائماً، هل كل إنسان يستطيع أن يفعل هذا؟ ليس من السهل، لكن حينما ينهض من السجود إلى قعود؛ فهذه هيئة تتناسب مع طبيعة الإنسان، وأيسر له في قيامه من كونه يقوم من سجوده، والذين قالوا: إنها لا تجوز، وأنها عمل زائد عن الركوع والسجدتين، يجاب عنهم بأن النص جاء عنه صلى الله عليه وسلم وهو يتمشى مع الإرفاق بالمصلي، ولا ينبغي أن يقال فيه: إنه عمل خارج عن الصلاة أو زائد عن الصلاة، بل نقول: إنه السنة، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) .(65/9)
شرح حديث: (قنت شهراً بعد الركوع)
قال رحمه الله: [وعن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهراً بعد الركوع؛ يدعو على أحياء من العرب ثم تركه) ، متفق عليه] .
حديث أنس هذا أصح الأحاديث التي وردت في الباب، وأنس له عدة روايات في النوازل وفي غير النوازل، وله حديث أنه بعد الركوع، وحديث أنه قبل الركوع، فـ أنس له دور كبير في باب القنوت، وهذا الحديث هو من المتفق عليه.
(قنت صلى الله عليه وسلم شهراً) ، أي الشهور هذا؟ إذاً: قبل ذلك لم يكن قنوت، وعليه فالقنوت ليس مشروعاً ابتداءً مع الصلاة، وإنما هو أمر عارض، وتاريخه أشار إليه أنس، ولكن في الجملة: (يدعو على أقوام) .(65/10)
سبب قنوت النبي صلى الله عليه وسلم على أحياء من العرب
يتفق الجميع بأن سبب مشروعية القنوت في النازلة التي قنت فيها صلى الله عليه وسلم شهراً في الصلاة: أنه كان يدعو على أقوام، وتاريخ هذا القنوت وتلك النازلة بعد غزوة أحد بأربعة أشهر، وهي حادثة القراء، عندما جاء رجل من قبل نجد وعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام فلم يقبله ولم يبعد، ثم قال: يا رسول الله! لو أرسلت رجالاً قبل نجد يدعون إلى ما تدعو إليه لعلهم يجيبونك، قال: (أخشى عليهم أهل نجد؟ قال: أنا كافل لهم) ، فتخير صلى الله عليه وسلم أربعين رجلاً من القراء، وليس معنى القراء: أصحاب التجويد المحترفين القراءة، لكن كان يقال لطلبة العلم ولحملة كتاب الله قراء؛ فأرسل صلى الله عليه وسلم أربعين بإمرة رجل منهم، فلما جاءوا إلى بئر معونة قدموا خطاباً لـ أبي الطفيل، فلما رأى الخطاب وقبل أن يقرأه قتل هذا الصحابي، ثم استعان على الرفقة البقية بجماعته فأبوا عليه، وقالوا: قد أعطينا فلاناً عهداً في حفظهم يعنون الصحابة، فاستعان برعل وذكوان وعصية، فأجابوه، وكان القوم في مقيلهم، فإذا بهؤلاء الناس يحيطون بهم، فتناولوا سيوفهم وقاتلوا حتى قتلوا جميعاً، ما عدا رعيان الإبل ورجل كان ضمن الجرحى، فالرعيان رءوا الطيور تحوم حول المكان؟ فقالوا: ما حامت هذه الطيور إلا على شيء، فجاء اثنان ووجد أصحابهم على تلك الحالة، فقال واحد: نرجع إلى رسول الله نخبره، وقال الآخر: والله ما أذهب وأترك أصحابي، بل أموت على ما ماتوا عليه، وأخذ يقاتل القوم حتى قتل، والثاني أخذ أسيراً، والذي كان في الجرحى حسبوه من القتلى، ففي الليل تحامل على نفسه وجاء وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أخبر رسول الله حزن حزناً شديداً -كما في رواية البخاري رحمه الله- ثم أخذ يدعو عليهم.
وتعددت الروايات في هذا، فمنهم من يقول: (في الصلوات الخمس) ، ومنهم من يقول: (في المغرب والفجر) ومنهم من يقول: (في الفجر فقط) ، فنجد الروايات متعددة في موضع قنوت تلك النازلة.
إذاً: مبدئياً سبب وتاريخ مشروعية القنوت كان بعد أحد بأربعة أشهر، وبسبب مقتل القراء، فحزن عليهم صلى الله عليه وسلم، وأخذ يدعو على الذين قتلوهم.
وحديث أنس هذا أول حديث يورده المؤلف، وفي هذا لفت نظر طيب جداً؛ فبدأ بحديث بدء المشروعية، وعرفنا متى وجد القنوت ولأي سبب، ومما يتعلق بعلم الحديث: أن لفظ الحديث هنا يدعو على أحياء من العرب، وأحياء فيها عموم وخصوص عام من جهة عموم أفراد الحي، وخاص من جهة أنه ليس على العرب جميعاً.(65/11)
بحث فيمن يحق له القنوت
هنا يأتي بحث الفقهاء: هل في القنوت يدعو الإمام على مجمل جماعة أم يسمي أفراداً بأعيانهم؟ هذا خاص بالإمام؛ لأن الرسول بصفته إمام المسلمين هو الذي دعا، ولا يجوز لفرد من أفراد الناس أن يدعو أو أن يقنت في النوازل بمفرده؛ لأن الرسول لم يأمر الناس أن يفعلوا، وفعله بنفسه، وهذه من أبحاث الحديث وفيها الخلاف، وجاء في بعض الأحاديث الأخرى: أن الرسول صلى الله عليه وسلم في قنوته في بعض النوازل سمى أشخاصاً، مثل نازلة سلى الجزور في مكة، وفي أحد سمى: أبا سفيان وصفوان، فسمى أشخاصاً بأعيانهم، وقد يكون الدعاء في نازلة للمؤمنين بنصرهم وتأييدهم، وقالوا: روت عائشة وغيرها: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم قنت لغيبة عثمان حينما قيل: إنه قتل) ، فقنت ورفع يديه، ودعا لشخص بعينه.
(يدعو على أحياء من العرب) : أحياء جمع حي، وهم الجماعة القاطنون بمنزل مستقل، وجاءت تسميتهم بـ: رعل وذكوان وعصية.
وهم قبائل تلك المنطقة الذين طوقوا أولئك القراء وقتلوهم.(65/12)
تحرير النزاع في حكم القنوت في الفجر
قال رحمه الله: [ولـ أحمد والدارقطني نحوه من وجه آخر، وزاد: (وأما في الصبح؛ فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا) .
] .
في حديث أنس: (قنت شهراً ثم ترك) لماذا؟ انتهت المهمة، وإلى هنا محل اتفاق، لكن بجمع أطراف الحديث وطرقه ورواياته زيادة على ما اتفق عليه البخاري ومسلم، فروى أحمد رواية أخرى: (أما الصبح ... ) ، ولماذا ذكر الصبح هنا، نفهم من قوله: (أما الصبح) أن القنوت السابق لمدة شهر في جميع الصلوات ثم ترك، أما الصبح وهو إحدى الصلوات الخمس فلم يزل يقنت فيها حتى فارق الدنيا.
إذاً: حديث أنس خاص في النوازل، وقوله: (حتى فارق الدنيا) عام في نوازل وغير نوازل، وحديث أنس فيه عموم الصلوات الخمس، وفيه خصوص صلاة الصبح، لكن نجد علماء الحديث يقولون: إن القنوت في النوازل فقط على ما جاء في المتفق عليه من حديث أنس، وينفون القنوت في غير النوازل، ففريق قال: أما الصبح فلا زال يقنت بصفة دائمة نوازل أم غير نوازل حتى فارق الدنيا، والآخرون يقولون: انتهت بانتهاء الشهر، ونتنبه إلى دقة مآخذ الفقهاء من الألفاظ في هذا السياق.
إذاً: انتهينا إلى مسألتين: الرواية المتفق عليها، وفيها القنوت في النوازل فقط، وهذا مما لم يختلف فيه أحد، والرواية التي عند أحمد زيادة على ما عند الشيخين، وفيها إثبات القنوت في الصبح خاصة، وهذا الذي أخذ به من أخذ أن القنوت في الصبح، وستأتي الأحاديث الأخرى تبين أن القنوت كان في الوتر، والشافعي والمالكية أخذوا من هذه الرواية القنوت في الصبح، وإن اختلفوا هل هو قبل الركوع كالمالكية، أم بعد الركوع كالشافعية، وسيأتي تفصيله إن شاء الله.(65/13)
شرح حديث: (كان لا يقنت إلا إذا دعا لقوم)
قال: [وعنه رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقنت إلا إذا دعا لقوم أو دعا على قوم) صححه ابن خزيمة.
] .
أنس رجع مرة أخرى لقنوت النوازل، وهناك: (أما الصبح فلا زال يقنت حتى فارق) ، من هنا قال بعض العلماء: أنس يقول: ما كان يقنت إلا إذا دعا في النوازل، ولكن هذا الأثر يُعارض بآثار أخرى على ما سيأتي إن شاء الله، ويهمنا الروايات المختلفة عن أنس نفسه، وهنا قال: (إلا إذا دعا على قوم من الأعداء، أو دعا لقوم من المسلمين والمستضعفين) ، وكونه صلى الله عليه وسلم يدعو على قوم في نازلة؛ فهذا محل اتفاق بين العلماء، وعلي رضي الله تعالى عنه كان في حربه مع أهل الشام، وعمر رضي الله تعالى عنه كان إذا أرسل جيشاً يدعو له ويقنت.
إذاً: القنوت في النوازل عند الدعاء لقوم أو على قوم ماضٍ في طريقه، وهو من عمل الخلفاء الراشدين.(65/14)
شرح حديث: (أي بني! محدث)
قال: [وعن سعد بن طارق الأشجعي رضي الله عنه قال: (قلت لأبي: يا أبت! إنك قد صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، أفكانوا يقنتون في الفجر؟ قال: أي بني! محدث) رواه الخمسة.
] .
هنا سؤال: أكانوا يقنتون في الفجر؟ وهو سؤال عن القنوت في تلك الأزمنة، وعن خصوص القنوت في الفجر، فقوله: (أي بني محدث) هل هو في الفجر أم في عموم القنوت؟ في الفجر؛ لأن عموم القنوت ثبت عندنا، إذاً: قوله: (أي بني محدث) منصب على كونه في الفجر، ولذا قال قوم: القنوت دعاء، وكلام البشر ينبغي أن يكون في النافلة لا في الفريضة، لكن إذا ثبت بأنه صلى الله عليه وسلم كان يقنت في الصلوات الخمس، وليس في صلاة واحدة فلا حاجة لرده، ولذا يتكلم المؤلف وغيره على ضعف هذا الأثر.(65/15)
شرح حديث: (علمني كلمات أقولهن في قنوت الفجر)
قال: [وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه قال: (علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر) .
] .
هذه لطيفة من لطائف المؤلف، فلما أورد (أي بني محدث) موجهة للصبح؛ أراد أن يبين لنا متى يكون، فجاء بحديث الحسن بن علي، وقنوت الوتر إذا ثبت لا ينفي قنوت الصبح، ولكن يهمنا أنه أثبت قنوتاً في الوتر، ومن هنا: أخذ الأحناف والحنابلة أن القنوت محله الوتر، وأخذ المالكية والشافعية أن القنوت محله الصبح، وبهذا يكون التسلسل مع المؤلف على هذا السياق.
ومن قوله (علمني كلمات أقولهن) : قال بعض العلماء: ينبغي ألا يتعدى الإنسان في قنوته على هذه الكلمات التي علمها رسول الله للحسن، وقالوا: هذا دعاء في الصلاة ينبغي أن يتقيد به المسلم، والآخرون قالوا: وهل نهى عن غيرها؟ قالوا: لا، قالوا: إذاً: علمنا، كما جاء في التشهد كان يعلمنا التحيات كما يعلمنا السورة من القرآن، ولما جاء معها (كما يعلمنا السورة من القرآن) هل تكون مثل هذه المطلقة؟ لا، هناك يجب أن يتقيد؛ لأن السورة من القرآن، لا يصح فيها الزيادة ولا النقص، بخلاف علمني، لا مانع أنه علمه هذه وقد يعلم غيره غيرها، لكن يهمنا ثبوت القنوت في الوتر، وبه أخذ من قال من الأئمة رحمهم الله.
قال: (اللهم اهدني فيمن هديت) ، هذه ألفاظ يحفظها الشافعية خاصة ومن أخذ بهذا الدعاء، ومن أخذ بدعاء علي فإنه أوسع من ذلك، والذي يهمنا أنه جاء تعليم كلمات تقال في قنوت الوتر، وجوهر الموضوع عندنا إثبات القنوت في الوتر، وأن الرسول علم الحسن كلمات فيه، فإذا كان علم كلمات في قنوت الوتر فهذا دليل على إثبات القنوت في الوتر.
ومثله: (ماذا أقول إن أنا زرت المقابر؟ قال: قولي: ... ) وعلمها ما تقول، فهذا أخذ منه العلماء تقرير جواز زيارة النساء للمقابر ما لم يتكلمن بما هو مناف للشرع.
قال:: ( [اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، تبارك ربنا وتعاليت) ، رواه الخمسة.
] .
أعتقد أن أمثال هذه الألفاظ مرت علينا مراراً، ولكن يهمنا الجديد فيها: (فإنك تقضي ولا يقضى عليك) ؛ لأنه سبحانه مالك الملك، وهو يجير ولا يجار عليه، فهذا من هذا الباب، ومن أجاره الله لا أحد يستطيع أن يصل إليه بشيء، (ولا يجار عليه) : لا يمكن لكل الخلائق في الدنيا أن يجيروا إنساناً من عذاب الله على الله، لا يقولون: يا رب لا تعذبه ونحن أجرناه! من أنت حتى تجير على الله؟.
قال: [وزاد الطبراني والبيهقي: (ولا يعز من عاديت) ، وزاد النسائي من وجه آخر في آخره: (وصلى الله تعالى على النبي) .
] .
كل هذه الزيادات موضع خلاف؛ فهناك من يقتصر على ما اتفق عليه ويترك ما انفرد به الراوي، ولكن القاعدة الأصولية والحديثية: زيادة الثقة مقبولة، فإذا جاء النسائي بزيادة: (وصلى الله على النبي) فهي مقبولة، وإذا وجدت قرائن وشواهد لها تكون مؤيدة أكثر، ونحن عندنا من آداب الدعاء ومن شروط قبوله: أن تبدأ فتحمد الله وتصلي على رسوله، وتختم أيضاً بالصلاة على رسوله؛ فإنه حري أن يستجاب لك.
إذاً: الزيادة التي زادها النسائي لا تعارض معها بل يوجد في عموم الأحاديث ما يؤيدها.(65/16)
شرح حديث: (كان رسول الله يعلمنا دعاء ندعو به)
قال رحمه الله: [وللبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا دعاء ندعو به في القنوت من صلاة الصبح) ، وفي سنده ضعف] .
الحسن يقول: (علمني كلمات أقولهن في قنوت الوتر) ، وهذا يقول: (ندعو به في القنوت من صلاة الصبح) ، وكما ذكرت لكم أن مبحث القنوت وجدت فيه آثار شبه متعارضة، منها ما يصح سندها، ومنها ما لا يصح، وما يثبت في موضع ينفى في موضع آخر، فهذا بعدما أثبت لنا كلمات في قنوت الوتر يأتينا بكلمات في قنوت الصبح.
ونجد الأئمة رحمهم الله يختلفون في مواقع القنوت، وهل يكون اختلافهم هذا من عندياتهم ومرئياتهم أم إزاء هذا السيل من الأحاديث؟ بل إزاء هذه الروايات، ومن أخذ برواية الوتر أو برواية الصبح هل يعاب عليه؟ لا، وهذا أهم ما يكون في المسألة.
وكنت أود لو تضاف هذه لمسائل ابن القيم رحمه الله التي قال فيها: (ألفاظ الأذان والإقامة وأنواع -النسك الثلاثة- وضربات التيمم، لا ينبغي لإنسان أن يعترض على من أخذ ببعض الروايات فيها) ؛ فمن أخذ بالإفراد لا يعاب عليه، ومن أخذ بالتمتع لا يعاب عليه، ومن أخذ بالقران لا يعاب عليه؛ لأن في كل نوع من أنواع هذه الأنساك الثلاثة أحاديث صحيحة، وكذلك ألفاظ الأذان: جاء الأذان بالتربيع وبالتثنية، وجاءت الإقامة شفعاً ووتراً، فمن أخذ بالتثنية فلا يعاب عليه، ومن أخذ بالتربيع لا يعاب عليه، ومن تيمم بضربة فلا يعاب عليه، ومن تيمم بضربتين فلا يعاب عليه، وأقول كذلك: تضاف إليه هذه المسألة: من قنت في الوتر لا يعاب عليه، ومن قنت في الصبح لا يعاب عليه، والله تعالى أعلم.(65/17)
كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [10]
التشهد في الصلاة ركن من أركانها أو واجب من واجباتها على خلاف بين العلماء، وقد اشتمل على معان عظيمة ينبغي للمسلم تأملها وتدبرها.(66/1)
شرح حديث: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه) ، أخرجه الثلاثة، وهو أقوى من حديث وائل بن حجر: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه) ، أخرجه الأربعة، فإن للأول شاهداً من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وصححه ابن خزيمة، وذكره البخاري معلقاً موقوفاً] .
هذا الحديث وما يأتي بعده يتناول هيئة من هيئات الصلاة ألا وهي: حالة الهوي إلى السجود، وقدم المؤلف رحمه الله تعالى حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير) ، إلى هنا نص الحديث، وإلى هنا أداء المعنى المطلوب في هذا التشبيه، تأتي الزيادة: (وليضع يديه قبل ركبتيه) ، هذه الزيادة أوجدت عند العلماء الخلاف، حتى قال ابن القيم: إن في الحديث قلباً، ودعوى القلب أو الغلط في الحديث تشوش، وإذا انقلب اللفظ في هذه الرواية فقد ينقلب في غيرها، ونأتي إن شاء الله بشيء من التفصيل في هذه المسألة.
ونقدم قبل كل شيء: بأن هوي المصلي بعد رفعه من الركوع إلى السجدة بأية حالة من الحالات لا يتعارض مع صحة الصلاة في شيء، إن نزل على ركبتيه أو كفيه فالصلاة صحيحة، ولا يمكن أن ينزل على رأسه أو مرفقيه؛ إما أن ينزل على كفيه أو ركبتيه، ولا تخرج حالة المصلي من هذه، والحالات الأخرى التي للرياضيين غير داخلة في الصلاة.
قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير) ، لو جئنا إلى هذه الصورة فقط: كيف يبرك البعير؟ في هذه الصورة التشبيه العملي بصورة البعير، وكل إنسان قد رأى بعيراً يبرك، وكل حيوان من ذوات الأربع عنده أربعة أرجل، لكن نحن نسمي المقدمتين اليدين، والمؤخرتين الرجلين، ويقولون في الزرافة: طويلة اليدين قصيرة الرجلين، وكلهن أرجل.
فإذا كان البعير بصورته العملية عند بروكه لا ينزل بالخلفيتين ولكن ينزل بالمقدمة، نسميها رجلين، فبروك البعير: أن يقدم المقدمتين اللتين نسميها في غيره اليدين، إذاً: هو لا يبرك كما يبرك البعير، فمن نزل إلى السجدة على يديه يكون برك بروك البعير وخالف الحديث؛ فإذا نزل إلى السجدة بركبتيه وبدأ بالخلفيتين، -أي: القدمين المقابلة في البعير بالخلفيتين- فإذا نزل على ركبتيه من قدميه خالف البعير وصادق الحديث.
إذا اكتفينا إلى هذا القدر نكون قد انتهينا من المشكلة وتم الحديث، ولكن جاءت عبارة: (وليضع) ، وكأنها تفصيل للمنهي عنه، (وليضع يديه قبل ركبتيه) فإذا وضع يديه قبل ركبتيه يكون شابه البعير وكأن الحديث يناقض آخره أوله، (لا يبرك كما يبرك البعير وليقدم يديه) ؛ لأن البعير يقدم يديه.
ولهذا التعارض يرى بعض الناس أن قوله: (وليضع) سائلة فيحاول أن يلغيها؛ لأنها ستأتينا بإشكال فتتعارض مع المتفق عليه عندهم وتنقض الصورة المتقدمة، وبعضهم أعلّ الحديث بها، وهو ظاهر البخاري رحمه الله في صنيعه كما أشار إليه المؤلف بأن حديث وائل بن حجر له شاهد، وحديث وائل يتعارض مع حديث أبي هريرة في: (وليضع) ، ولكن البخاري قال: وابن عمر كان يضع يديه قبل ركبتيه، إذاً: هناك مناقشة، وإيرادات على كلمة: (وليضع) ، فمنهم من يلغيها، ويقول: إنها مدرجة في الحديث، ومنهم من يُعل بها الحديث، وذكروا ذلك ونسبوه للبخاري، وهو لم يذكر الحديث ولكن نسب إلى ابن عمر الفعل موقوفاً عليه، وسنأتي له على الكلام على حديث وائل لاحقاً.
فنحن الآن نأخذ الجزء الأول من الحديث وندع لفظه: (وليضع) ، مع حديث وائل، مع ما نسب إلى ابن عمر موقوفاً عليه، ونص الحديث: (إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير) : يقتضي أن الإنسان لا يقدم يديه، وبهذا النص يأتي حديث وائل بن حجر: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه) ، ووضع الركبتين مخالف البروك البعير.
إذاً: حديث وائل يتفق مع حديث أبي هريرة في أن الإنسان لا يقدم اليدين، قبل: (وليضع) .
فإذا جئنا إلى كلام المؤلف قال: وإن الأول -يعني: حديث أبي هريرة - له شاهد مما ساقه البخاري تعليقاً بدون سند: وكان ابن عمر يضع يديه، أعتقد أننا كطلبة علم فعلاً نتساءل، هل هذا فعل عموم الصحابة أم خاص من ابن عمر؟ النص هنا: (وكان ابن عمر) أين بقية الصحابة؟ إذاً ممكن أن نقول: إن هذا الصنيع من البخاري يشعر بأن فعل ابن عمر إما أنه مقصور عليه أو أنه قليل جداً، وأنه تخير ابن عمر من ضمن من يرى ذلك، ويكون بقية الصحابة على خلاف هذا، وإلا لو كانوا يفعلون مثله ما خصينا ابن عمر بالذكر، ويقال: (وكانوا يضعون) كما هو الحال في كثير من العبارات عندما يكون العمل عاماً، وعلى هذا يكون فعل ابن عمر في جانب، وحديث أبي هريرة دون (وليضع) مع حديث وائل بن حجر معاً في جانب، وبقي كلمة: (وليضع) فإن قلنا: إنها مدرجة، ولما سببت هذا الاضطراب نلغيها، وإن قلنا: واردة لا يمكن أن نلغيها، ولا نملك أن نلغي شيئاً ثابتاً ولو عن الصحابي، واضطروا إلى أن يقولوا -كما يذكرون عن ابن القيم في الهدي- وقع في الحديث قلب والأصل فيه (وليضع ركبتيه قبل يديه) ، لكن نحن عندنا النص: (وليضع كفيه) ، فنحن نأتي بالقلب حتى يتفق معنى الحديث آخره مع أوله، ويتفق حديث أبي هريرة مع حديث وائل، وعندها لن يبقى أي مخالفة إلا فعل ابن عمر، ويمكن أن نقول: هذا رأي ابن عمر، ورأي بقية الصحابة مع الحديثين، والقضية منتهية على هذا الحد، وتكون المسألة قريبة، ولا خلاف فيها بعيد.
وإذا قفزنا قفزة إلى الأمام وجئنا إلى المذاهب الأربعة: وجدنا الأئمة الثلاثة أبا حنيفة والشافعي وأحمد رحمهم الله على حديث أبي هريرة وحديث وائل، والرواية عن مالك مختلفة، فأصحاب مذهبه -كما ينص في الشرح الصغير- على أن من مندوبات الصلاة: أن يضع كفيه قبل ركبتيه، فلنجعل هذا الرأي مع ابن عمر ونجعل المذاهب الثلاثة مع الحديثين.
ونعلم جميعاً كما قدمنا: أنها هيئة من هيئات الصلاة، ولكن هل كل الناس في هويهم إلى السجود سواء، وهل الإنسان في ذاته وفي جميع حالاته سواء، ولذا يقول العلماء: إن هذه الحالة ينظر فيها إلى ما يناسب المصلي، ولو أن إنساناً بدين الجسم كبير السن وحركة النزول على أعصابه صعبة، ويشد أرجله حتى ينزل على ركبتيه، وأراد أن يقدم كفيه ليستريح في النزول، وهل نقول له: لا، قدم ركبتيك؟ لا، إنسان نشيط وبحركة عادية يمكن أن يفعل هذا ويفعل هذا، نقول له: ماذا ترجح عندك؟ عندك حديث أبي هريرة بدون (وليضع) وحديث وائل، وعندك انفراد ابن عمر فقط بأنه كان يضع كفيه قبل ركبتيه، ماذا تختار؟ لو أن المسألة بالمكيال أو بالميزان نجد كفة أوفى في الكيل وأرجح في الوزن.
إذاً: على هذا لا ينبغي أن نطيل النقاش في هذه المسألة، ولا حاجة إلى أن نكثر ونقول: حصل في الحديث قلب أو انقلب على الراوي، وأهون عندي أن نقول: إن الرواية مضطربة من أن ندعي بأن هناك انقلاباً في الرواية من حديث رسول الله يقلبه الصحابي علينا؛ لأنه يفتح باب شر في تغيير الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول الحديث يغني عنها، والله تعالى أعلم.(66/2)
شرح حديث: (كان إذا قعد للتشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى)
قال رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قعد للتشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، واليمنى على اليمنى، وعقد ثلاثاً وخمسين، وأشار بإصبعه السبابة) رواه مسلم، وفي رواية له: (وقبض أصابعه كلها وأشار بالتي تلي الإبهام) ] .
هذه هيئة الجلوس في التشهد (وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، واليمنى على اليمنى) ، ولم يجلس على فخذه لا قابضاً ولا مرسلاً ولا بين فخذيه.
(وعقد) العقد في الحساب عند المتقدمين، هو علم قد اندثر، وكان لهم في الحساب من بُعد بالإشارة رموز لم يبق عندنا منها إلا ما حفظه لنا هذا الحديث، والأصابع الخمسة كل واحد عقد فهو عشرة، عشرين، ثلاثين، أربعين، خمسين، (ثلاثاً وخمسين) ، والثلاث دون العقد كانوا يرمزون إليها، كما جاء في الحديث، والإبهام مع الوسطى تلي السبابة، والوسطى بالنسبة للأصابع هي الثالثة، فلما جاء العقد بالإبهام وهو الخامس كان العقد خمسين، فيأتي بالإصبع الذي هو العقد على المفردات، ويضع الإبهام على الوسطى وينصب السبابة، وفي بعض الروايات: (حلّق بين الإبهام والوسطى) ، حلّق، أي: عمل حلقة، والأولى أن تكون بطن الإبهام على جانب الوسطى أو تحتها، والمشهور فوقها، فالإبهام مع الوسطى تشكل العدد، والسبابة يشير بها، بقي عندنا الخنصر والبنصر، كيف يكون وضعهما؟ بعضهم يقول: مقبوضتان على الركبة، وبعضهم يقول: أصل اليد اليمنى على الركبة مفرجة الأصابع، فإذا عقد يبقى الإصبعان الأول والثاني منفردين ويقبض الإبهام والوسطى ويشير بالسبابة، ولكن قبض الإصبعين مع هذا العقد والإشارة بالسبابة قد يكون أيسر.
ويأتي خلاف عند الفقهاء هو: متى يعقد وإلى متى؟ والسبابة هل تتحرك أم أنها ساكنة؟ ونجد للأسف أن هناك في بعض الجهات من يرى في إشارة السبابة جناية، وقد يسيئون إلى من يفعل ذلك، وقد يدعون بطلان الصلاة، ولكن الآخرون يقولون: هذا العمل للسبابة لأنها في اتصال خلقتها بعروقها وأعصابها لها علاقة في التكوين بنياط القلب، فإذا ما تحركت نبهت القلب حتى لا يقع في غفلة ولا نسيان وهذا داخل في علم التشريح، والله تعالى أعلم.
إن لم يكن هناك نص صحيح صريح مرفوع إلى الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فهي قابلة للنقاش، والبعض الآخر يقول: هي حركة لئلا يغفل أو ينام؛ لأنه ما دام يحرك أصبعه فإنه ليس بنائم؛ لأن النوم يغطي الأعصاب، ولكن لا نقول هذا ولا ذاك، نقول: السنة جاءت بهذه الصورة وبهذه الهيئة: أن الإنسان في التشهد إذا جلس فيده اليسرى على ركبته اليسرى، ويده اليمنى على ركبته اليمنى عاقداً (ثلاثاً وخمسين) ، وأخذها لاحق عن سابق بأن وضع الإبهام ببطنها على جانب الوسطى، وإصبع يقولون فيها أكثر من عشر لغات: أُصبع، وإِصبع، وأُصباع، وأصبوع.
إلخ.
وبعضهم يقول: يضع يده إلى أن يقرأ في التشهد أشهد أن لا إله إلا الله، وعندها يرفع إصبعه كأنه يشير بالإصبع الواحدة إلى حقيقة الوحدانية، وإذا كان الأمر كذلك فلعل هذا التعليل يكون أقرب ومناسب للفظ، أما كونه متعلق بنياط القلب أو كونه لا يغفل أو لا ينعس فهذه أشياء الله أعلم بها، فهو يشير إلى الوحدانية، كما أشارت الجارية لما سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أين الله؟ أشارت إلى السماء) ، فتكون الإشارة رمز وبيان للاعتراف عملياً بالنطق مع الفعل: أشهد أن لا إله إلا الله.
وإلى متى يظل هذا الإصبع هكذا؟ قالوا: حتى إذا انتهى من التشهد، وبعضهم يقول: ينتهي من الشهادتين يرد الإصبع إلى ما كانت عليه، والبعض يقول: إلى أن يسلم، ومهما يكن من شيء أيها الإخوة -كما أشرنا- فإنها هيئة من هيئات الصلاة لا يتوقف عليها صحة ولا بطلان، ولكنها السنة وينبغي على المسلم أن يتحرى في صلاته فعل السنة لقوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) .(66/3)
شرح حديث تشهد ابن مسعود
قال رحمه الله: [وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (التفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إذا صلى أحدكم فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك -أيها النبي- ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو) متفق عليه، واللفظ للبخاري.
وللنسائي: (كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد) .
ولـ أحمد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه التشهد وأمره أن يعلم الناس) ] .
التشهد جاءت فيه أحاديث تعليمية، منها حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، بعض روايته: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن) ، وجاءت ألفاظ عديدة في التشهد، ومن الروايات المتعددة أيضاً صيغة الصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيأتي زيادة إيضاح فيما يتعلق بلفظي الصلاة والتسليم، كما جاء عن كعب بن عجرة: أنه أتى أهل قباء فقال: (يا أهل قباء! ألا أهدي لكم هدية؟ قالوا: بلى، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله رجل: يا رسول الله! عرفنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟) ، وكانوا في السابق يقولون: السلام على الله، السلام على عباد الله الصالحين، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا السلام على الله؛ فإن الله هو السلام، قولوا: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فقالوا: عرفنا كيف نسلم، فعلمنا كيف نصلي -وفي بعض الروايات: كيف نصلي عليك- إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا فقال: قولوا) وعلمهم الصلاة الإبراهيمية، فهنا فضيلة العلم والتناوب فيه، فهذا رجل من أهل قباء حضر مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع فيه علمه، فذهب به وأهداه إلى أهله وقومه، وأي هدية أعظم من التعليم في الدين.
إذاً: التحيات أو التشهد أخذ حيزاً في النصوص.(66/4)
معنى (التحيات) ولزوم صرفها لله خاصة
التحيات: جمع تحية، والتحية التكريم قولاً وفعلاً، وهو في الصلاة قول، وتشمل كل عبارات التحية من الحمد والثناء والعرفان بالجميل والتكريم كل أنواع التحيات لله وحده، والتحية لله موقعها موقع الحمد لله؛ فهو لا يكون إلا لكامل الذات والصفات، وليس ذلك إلا لله سبحانه؛ لكمال ذاته وصفاته، وكذلك التحيات لله، وموجب ذلك موجود؛ لأن الله سبحانه وتعالى صاحب الإنعام، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] والإنس فرد من أفراد العوالم، والجن فرد من أفراد العوالم، والنباتات، والحيوانات، فربوبية الله للمخلوقين كلها لله، فاستحق الحمد، وكل ما جاء للإنسان من إنعام ابتداء من إيجاده من العدم ثم هدايته أو إنعامه عليه بالإسلام والتوفيق إلى تلك الصلاة التي هو يصليها، وكل ما كان من إنعام في الدنيا وفي الآخرة من الله {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ} [النحل:53] ، وكما أنك في الفاتحة تقول: {الْحَمْدُ} [الفاتحة:2] ، أي: كل الحمد مجموع لله رب العالمين؛ فأنت في التحيات تقول: التحيات لله.(66/5)
معنى قوله: (والصلوات الطيبات)
قوله: [والصلوات والطيبات] .
الصلوات: جمع صلاة، كما قال الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} [الأحزاب:56] ، وأصل الصلاة في اللغة الدعاء، كما قال ذاك: وقابلها الريح في دنها وصلى على دنها وارتسم يعني: دعا عليه ألا يفسد، وكذلك {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] ، يعني: وادع لهم، فالصلاة من العبد دعاء، فتدعو الله لمن تصلي عليه، (اللهم صلِّ على آل أبي أوفى) ، يعني: ارحمهم وأكرمهم، والصلاة من الله على العبد رحمة وإكرام، (من صلى عليّ مرة صلى الله عليه بها عشراً) .
وجاء معها الطيبات، وهي كل الأفعال الطيبات من عبادة بدنية، أو مالية، أو كلمة طيبة كل الطيبات ترجع إلى الله، والله هو الذي يثيب عليها، وهي أيضاً لله يمنحها من شاء والطيبات لله.(66/6)
السلام على النبي صلى الله عليه وسلم ومعانيه
قوله: [السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته] .
هذه الجملة تكلم بها الرسول أمام ابن مسعود، ولماذا لم يقل بدلاً عنها: (السلام عليّ) ، عليك راجعة لمن؟ وعليّ راجعة لمن؟ لأن عليك كاف خطاب من المتكلم إلى المخاطب، وعليّ من المتكلم إلى نفسه، وهنا يعلمهم ماذا يقولون، فلو قال: السلام علي، فلو أن إنساناً قال: السلام عليّ، يكون بهذا سلم على نفسه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم هنا ما قال: (ثم صلوا عليّ) ، فهو يعلمنا أنه جرد من نفسه شخصية التعليم، بالنسبة لصاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم، فقال: قولوا: (السلام عليك أيها النبي) ، صحيح أنا النبي، ولكن واجب عليكم أنتم أن تسلموا على النبي عليه الصلاة والسلام.
إذاً: علمهم عندما كانوا موجودين أن يخاطبوه، سواء كان موجوداً عنده أو من غاب عنه، وكيف يخاطب من انتقل إلى الرفيق الأعلى، والخطاب لكل موجود؟ قال بعضهم: نقول: (السلام على النبي ورحمة الله وبركاته) ولا تقل: (السلام عليك) ؛ لأن هذه كاف الخطاب، وتكون للحاضر الموجود.
لا والله؛ لأنك حينما تقول: السلام عليك أيها النبي، ذهنك وشعورك وقلبك وروحك وإحساسك يتصور شخصية رسول الله وكأنك تخاطبه، وتجدد العهد بإيمانك، وتقوي الصلة برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو وإن لم يكن حاضراً عندك في مجلسك فهو حاضر في قلبك وإيمانك حيثما كنت في الدنيا كلها، فأنت تخاطب من آمنت به: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ولا تصح عبارة أخرى قطعاً.
ثم نجد أن بعض العقلانيين يقولون: أنتم في القرآن في السور الثلاث تقرءون: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1-2] {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] ، وليس هناك داعٍ لكلمة: (قل) ، ابدأ بسم الله الرحمن الرحيم، أعوذ برب الفلق ((أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)) لأنها تحصيل حاصل وأنت قائلها.
هل هذا العقل سليم؟ لو قلت: بسم الله الرحمن الرحيم أعوذ بالله، إذاً: (أعوذ بالله) .
جاءت منك أنت أو من وحي سبق؟ عندما نقول: بسم الله الرحمن الرحيم أعوذ، كأنه منك أنت، لماذا تتعوذ؟! قال: لأني أريد أن أعوذ، لكن لو قلت: بسم الله الرحمن الرحيم.
قل.
فهذا أمر من الخالق سبحانه الموحي، فلكأنك تقول: أنا أقول ما أمرت أن أقوله.
إذاً: الرسول ما أتى بشيء من عنده، بل هو مأمور بأن نقول: هو الله أحد، فكلمة (قل) جاءت بالوحي نصاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليكون في موقف المنفذ لما قيل له، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ويكون القائل هو الله سبحانه، وأنت تقول ما قال الله سبحانه وتعالى.
وهكذا هنا: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) .
ونحن نقول لهؤلاء العلمانيين: في حياة رسول الله وهو إمامهم في الصلاة ويصلي خلفه آلاف الرجال كما في فتح مكة، إذا صلى النبي صلى الله عليه وسلم، من في آخر الصفوف يقول سراً: السلام عليك أيها النبي، هل أسمع رسول الله؟ وهل خاطبه بذاته؟ لا والله، إنما يقول ما أمر أن يقوله، وحتى في المسجد الأول كما ترونه من خلف المنبر بسارية واحدة إلى الحجرة، كان سبعين ذراعاً في سبعين ذراعاً، وفي الصف الأخير النسوة اللاتي خلف صفوف رجال لما يقلن: السلام عليك، هل كان يسمع أصواتهن؟ والذي في الصف الأول في طرفه من هناك هل الرسول يسمع صوته حينما يقول: السلام عليك أيها النبي؟ لم يسمع منه، إذاً: هذه ألفاظ تعبدية يجب أن يقولها الإنسان ويلتزم بها ولا تتعارض مع العقل الصحيح.(66/7)
من معاني السلام بين المسلمين
قوله: [السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين] .
كان يقول الصحابة: السلام على الله، السلام على رسول الله، السلام على فلان فعلمهم أن يقولوا: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا) ، والسلام: هو الدعاء بالأمان، وهو تحية الإسلام، وتحية أهل الجنة في الجنة، وهو شعار المسلم، مع المسلم بأن يعلن له أنه آمن، السلام عليك: أي أنت سالم مني، وكأنه أعطاه عهد بالأمان والسلامة فلا يخاف شراً.
وهذا أعظم ما يكون بين المتلاقيين ولو لم يعرفه، ولذا معلوم في الفطرة والجبلة: لو أن إنساناً لقي آخر ولم يسلم عليه عرف أن عنده نية شر؛ لأنه ما بدأ بالسلام.
والسلام في التحية له آدابه، وقد عقد له البخاري باباً في الأدب المفرد، وجاءت النصوص في السلام العادي والتحية بين الناس بـ (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) ، وهي أكملها، جاء أن رجلاً مر بالنبي صلى الله عليه وسلم وهم جلوس فقال: (السلام عليكم، وجلس، فردوا عليه، وقال الرسول: عشر -أي: عشر حسنات-، وجاء الثاني وقال: السلام عليكم ورحمة الله، فردوا عليه، فقال الرسول: عشرون -أي: عشرون حسنة- وجاء الثالث وقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فردوا عليه التحية، فقال صلى الله عليه وسلم: ثلاثون، قالوا: ما عشرة وعشرون وثلاثون يا رسول الله؟! قال: الأول قال كلمة واحدة: السلام عليكم، والحسنة بعشر أمثالها، والثاني قال: السلام عليكم ورحمة الله، فقال كلمتين، والحسنة بعشر أمثالها، والثالث قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فهي ثلاث كلمات بثلاث حسنات، والحسنة بعشر أمثالها) .
أو كما قال رسول الله.
ودائماً يا إخوان! إذا وجدت في الحديث النبوي متفرقات فاعلم بأن هناك رابطة، كحديث: (آمين آمين آمين) على درجات المنبر الثلاث، وهنا: (السلام عليك أيها النبي، السلام علينا وعلى ... ) ، موجود الارتباط القوي، بل هو أقوى ما يكون، وظاهر وواضح جداً.
وبدأ بالنبي؛ لأن الفضل كله من الله على يديه، وجلوسنا في التشهد وتلفظنا بالتحية وسلامنا المبدأ الأول فيه من الله على يدي رسول الله فهو الذي علمنا ذلك.
يلي هذا (علينا) ، وفي الحديث لما جاء رجل وقال: (عندي دينار، قال: أنفقه على أهلك، على زوجك، على على وقال: أولاً: ابدأ بنفسك) ، وهنا الحديث بدأ بالرسول، ولِم لم يقل: السلام علينا، والسلام على النبي، والسلام على عباد الله؟ كما هو الترتيب الطبيعي، لا، {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6] (والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه) ، فهو مقدم على النفس.(66/8)
شرح حديث: (عجل هذا؛ إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه)
قال رحمه الله: [وعن فضالة بن عبيد رضي الله تعالى عنه قال: (سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته، ولم يحمد الله؛ ولم يصلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: عجل هذا! ثم دعاه فقال: إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو بما شاء) ، رواه أحمد والثلاثة، وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم] .
كيف تكون الصلاة؟ وما الصيغة التي يلتزمها الإنسان فيها؟ النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يصلي، وهذه الصلاة إما أن تكون نافلة وهو الأغلب، وإما أن تكون فريضة فاتته، المهم: أن هذا الرجل دعا الله في صلاته دون أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم قبل الدعاء، فقال صلى الله عليه وسلم: (عجل هذا) ، أي: تعجل في الدعاء ليحصل على الإجابة المطلوبة، ثم دعاه فقال له: (إذا صلى أحدكم فليبدأ بالثناء على الله، وليصل على النبي) انظروا الصيغة هنا ما هي؟ (وليصل على النبي) ، ولم يقل يصل عليّ؟ لأن الغرض ليست الصفة الشخصية الذاتية لمحمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، ولكن الغرض الصفة المندمجة من شخصيته الذاتية وصفته النبوية.
انظروا يا إخوان هنا! لتنظروا المغايرة، وما يسمى في البلاغة بالتجريد في قضية الحفاظ على الحدود وإقامتها لما قال: (أتشفع في حد من حدود الله، لو أن فاطمة بنت محمد) لم يقل بنت النبي؛ لأن النبوة بعيدة عن هذا، ولأنها ستكون حالة شخصية، ومن محمد يا رسول الله؟ أليس أنت؟ لا، هنا الحدود ليس فيها نبوة ولا رسالة ولا شيء، النبوة رسالة معصومة من ذلك، ولكن محمد الذي تعرفون نسبه وشرفه ومنزلته بغض النظر عن جانب النبوة.
قال: [إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه] .
يبدأ بتحميد ربه سواء أراد البداءة في الفاتحة أو التحيات؛ لأنه حمد لله، وهذه مقام: (التحيات لله) .
قوله: [والثناء عليه] هذه مقام: (الطيبات المباركات) .
[ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم] .
هنا الحديث: (إذا صلى أحدكم) : تعليم متعلق بالدعاء في الصلاة: بأن يحمد الله ويثني عليه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسأل الله حاجته، وجاء هذا التعليم أيضاً خارج الصلاة مطلقاً، مثلاً: مشيت في الطريق ولك حاجة، وتريد أن تسأل الله إياها: ابدأ فاحمد الله واثن عليه، وصل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سل الله حاجتك، واختم الدعاء بالصلاة على النبي، وهذا.
(قمنٌ أن يستجاب له) أي: حري بالإجابة، ويقول العلماء: لأن الحمد لله والثناء عليه، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم القربات إلى الله، ويكفينا قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيُِّ} [الأحزاب:56] ، ويكفينا بأن الله يصلي عليه بالمرة عشر مرات، فهي من أعظم القربات إلى الله، وورد حديث في الصلاة، (أجعل نصف صلاتي لك، أجعل كل صلاتي، فقال: كفيت أمرك) ، وهذا باب واسع مستقل لا يحتاج إلى إيضاح، فإذا قدّم بين يدي حاجته هذه القربات لله سبحانه بالحمد والثناء عليه، والصلاة على رسوله، ودعا وختم بالصلاة قالوا: هذا الثناء في أول الدعاء والصلاة في أولها وآخره كالجناحين يرتفع بهما السؤال إلى الله، فإذاً عنده آلة رفع ترفعه إلى المولى سبحانه، فإذا قُدم السؤال في باقة من الزهور والورود بين دعاء وثناء على الله سبحانه معطر ومطيب بهذه الطيبات حري أن يستجاب، لكن جئت ورفعت يدك وقلت: اللهم اغفر لي، حسناً، دق الباب واستأذن، تلطف قليلاً، استعطف، أظهر الحاجة والفاقة.
مثاله: (اللهم إنك عفو تحب العفو) .
فهنا قدمت مقدمة لحاجتك وسؤالك، وهي قولك: (اللهم) ، وتريد عافني واعف عني، ولكن أيها ألطف؟ يا رب! أنت عفو وتحب العفو، وبعفوك ومحبتك للعفو اعف عني، يكون السؤال ملطفاً ومقدماً له بمقدمة، وحري بإجابته هكذا.
إذاًَ: المقام هنا يتعلق بالصلاة، وجاء المقام عاماً خارج الصلاة، فإذا كان الأمر كذلك تكون قاعدة مطردة في الصلاة وفي غير الصلاة: إذا سأل الله أحد من الناس فليقدم بين المسألة ما يقربه إلى الله، وبيّنه صلى الله عليه وسلم بالحمد والثناء والصلاة على النبي، هذا عام وإذا كان في الصلاة كذلك، وبيّن صلى الله عليه وسلم أنه لا يعجل، بل يحمد الله ويثني عليه، ثم يصلي على النبي، ثم يتخير المسألة.
وبعد أن قدم المؤلف رحمه الله هذا الأمر كأنه يشعر بفعل النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل، هو سمعه في الصلاة أو خارج الصلاة؟ أين سمعه؟ الرجل يصلي، قال: (عجل هذا ثم دعاه فأخبره) هل رده ليعيد الصلاة لعدم صلاته على النبي أو أقره على صلاته؟ إذاً: الصلاة على النبي التي تركها في تلك الصلاة مندوب إليها، ومن هنا قدم المؤلف هذا الحديث ليعطي مقدمة فقهية، وهي: أن الصلاة ليست واجبة مع الخلاف الموجود عند العلماء.
إذاً: أخذنا من هذا الحديث ما ينبغي على الإنسان أن يُقدم على الدعاء من الصلاة على النبي والثناء على الله.
(ثم يدعوا بما شاء) .
وتقدم في حديث ابن مسعود: (وليتخير من المسألة أعجبه) ، وتقدم أيضاً التنبيه على قوله: (يتخير) وهنا: (بما شاء) ، ولكن هل المشيئة مطلقة أو مقيدة بأقل شيء بالأدب الشرعي؟ المشيئة مقيدة، وفي الحديث: (والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون هواه -مشيئته، إرادته، رغبته- تبعاً لما جئت به) .(66/9)
كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [11]
الصلاة الإبراهيمية في التشهد، والاستعاذة بعدها من أربع، من أعظم الأذكار والأدعية؛ ولذا شرعا في كل صلاة، وينبغي للمسلم تدبر ألفاظهما، ومعرفة معانيهما، حتى يدعو الله بهما بخشوع وخضوع، ولمعرفة المعاني التي يشتملان عليها يرجع إلى كلام أهل العلم الذين بينوه.(67/1)
شرح حديث: الصلاة الإبراهيمية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: قال رحمه الله: [وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: (قال بشير بن سعد: يا رسول الله! أمرنا) ] .
كثيراً كانوا ينبهوننا عن الفرق بين ابن مسعود وأبي مسعود، وأبو مسعود يقولون فيه: أبو مسعود البدري، ونسبته إلى بدر بالسُكنى وليس بحضور الغزوة، وهو أنصاري.
يقول: بشير: (كنا في مجلس سعد -أبوه- فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله! أمرنا الله أن نصلي عليك) أين أمرهم الله؟ في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا} [الأحزاب:56] ، وهنا للأصوليين مجال واسع، فأمره سبحانه هنا مجمل، كيف نصلي؟ ومن الذي يبين هذا المجمل؟ النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا يكون بيان النبي صلى الله عليه وسلم لما أُجمل في كتاب الله واجب الاتباع، ويقولون: حكم المبيِّن من حكم المبيَن، المبيَن مجمل فيأتي المبيِّن ويفصل، إن كان المبيَن سنة فالبيان سنة والأخذ به سنة، وإن كان المبيَن واجب فالمبيِّن واجب والأخذ به واجب.
فمثلاً: قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة، وعندما دخل ابن عمر وسأل: أين صلى؟ قيل: هنا، فصلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة مجملة، وفعله إياها في المكان المعين بينه، وكذلك الصلاة في البيت مسكوت عنها؛ ففعلها صلى الله عليه وسلم لبيان المشروعية، وهكذا فيما يتعلق بنوافل العبادات، فلما جاء هنا: (أمرنا الله أن نصلي عليك، فكيف نصلي عليك؟) ، والسؤال بالكيفية يكون عن حقيقة الماهية ووصفها، فهل هنا استفهام: كيف نصلي عليك؟ أو لماذا نصلي عليك؟ أو أنه علمنا الكيفية التي أمرنا بها؟ وهذا هو المطلوب، ليس سؤال استعجاب ولا استغراب، ولكن سؤال استيضاح عن الكيفية والصورة التي بها ينفذون أمر الله.(67/2)
اجتهاد النبي عليه الصلاة والسلام في الشرع
جاء في الرواية: (سكت طويلاً حتى تمنينا أنه لم يسأله) ، ولكل إنسان أن يقف عند هذه السكتة الطويلة، لأن هذا أمر يتعلق به صلى الله عليه وسلم، وقد أشرنا إلى نظير لهذا، وهو: الصلاة مكتوبة، جاء في القرآن: {إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة:9] ، فالنداء موجود، وأخذوا يصلون مدة طويلة، ويُنذر بعضهم بعضاً لوقتها، ثم تعبوا من هذه الطريقة وقالوا: تعالوا نتخذ علامة تنبه الجميع، ندق الناقوس، قال: لا، هذا حق النصارى، ننفخ في البوق، قال: لا، هذه حق اليهود، نشعل نار: قال، لا، هذه للمجوس.
هذه هي الشعارات الموجودة عند الآخرين، الآن يضربون المدفع من أجل الإعلام بوقت الإفطار والإمساك، وهذه أمور يتفقون عليها لكن كره صلى الله عليه وسلم أن يُحاكى أو يشابه الأمور الباطلة، من الأديان الباطلة أو المنتهية، وقاموا ولم يتفقوا على شيء، يعني: الجلسة كلها والرسول معهم، والخلفاء الراشدون والصحابة بكاملهم يجتمعون ويتآمرون وينفضون على غير نتيجة، نحن الآن نقول: اجتمعت اللجنة الفلانية وخرجوا بدون أي نتيجة، ولم يتوصلوا إلى قرار حاسم، ونعيب ذلك عليهم، وهنا رسول الله وخيرة الصحابة اجتمعوا من أجل أمر في الدين، ومع ذلك انتهى الاجتماع ولم يتوصلوا إلى قرار، ماذا كانت النتيجة؟ أتى عبد الله بن زيد يقول: يا رسول الله! رأيت كأني في المنام -يعني: بين النوم واليقظة- ورأيت رجلاً عليه حلة خضراء يحمل ناقوساً، وقلت له: ألا تبيع هذا الناقوس؟ فقال: ماذا تصنعون به؟ قلت: نعلن به للصلاة، قال: ألا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ -وذكر الأذان- ثم تنحى قليلاً وقال: ثم تقولون: وذكر له الإقامة.
الرسول صلى الله عليه وسلم لما سمع هذا من عبد الله قال: إنها رؤيا حق، قم فألقه على بلال فإنه أندى منك صوتاً، فصعد بلال ونادى، فإذا عمر يأتي يجر رداءه، ويقول: والله! لقد رأيت مثلما سمعت.
اجتمعوا ليصلوا إلى وسيلة فلم يتوصلوا ويترك الأمر، أبو بكر مع ما بينه وبين رسول الله ما رأى شيئاً، عثمان صهر رسول الله ما رأى شيئاً، عمر فيما بعد حفصة لم تأت إلى الآن، فإذا عبد الله بن زيد رجل من الأنصار يقول: أنا رأيت كذا وكذا، وهو شعار المسلمين في صلاتهم، وأهم ركن في الإسلام، يُترك ليراه إنسان بين النوم واليقظة، قالوا: نعم، وهذا عين الواقع والحقيقة المناسبة، لماذا؟ لأن في ألفاظ الأذان أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وليس هناك إعلان بعلو منزلة النبي وعظيم شرفه كقران اسم رسول الله باسم الله المولى سبحانه، وذلك في الشهادتين على المنارة ينادى به في كل مسجد في كل يوم خمس مرات، بل في بعض المساجد كل منارة ينادي عليها مؤذن، ثم تثنى في الإقامة، لو أراد إنسان أن يحصي هذا في العالم لا يقدر أن يحصيه، فهذا العمل لما كان متعلقاً بشخصية رسول الله، والمدينة فيها من أهل الشر الذين يترقبون زلة أو ثُلمة فيها أدنى شبهة ليشككوا المسلمين في رسول الله؛ سد عليهم هذا الباب، والله أنا لم آت به، ولم أقل لكم: أوحي إليّ بهذا؛ مع أنه لو قاله فهو صادق، ولا أحد يستطيع أن يرد عليه قوله، لكن عندما يأتي به رجل من عامة المسلمين، هل أحد يستطيع أن يلوح بشبهة في الأفق؟ لا أحد يستطيع.(67/3)
حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد
قال: (أمرنا الله أن نصلي عليك) جاء التعليم، فسكت طويلاً؛ لأن فيه أمراً يتعلق بشخصيته صلى الله عليه وسلم، وأين؟ في العبادة التي هي خاصة لله، الصلاة لله ويأتي فيها ذكر رسول الله.
إذاً: هذا أمر خطير، {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ} [الأنعام:162] ، فخطورة ذكر رسول الله في الصلاة جعلته صلى الله عليه وسلم يسكت، ولكن هذا مما يستنتج من السياق والموقف العام، حتى إن الصحابة قالوا: ليته لم يسأله؛ لأنهم ظنوا أن هذا يُثقل رسول الله.
ثم قال: (قولوا) وهذه العبارة صيغة أمر، أخذ منها بعض العلماء أن الأمر للوجوب، ولكن المؤلف قدم لنا: (عجل هذا) ، ولم يأمره بالإعادة، ولا بسجود سهو، وأقره على تلك الصلاة التي عجل فيها عن الصلاة على رسول الله، والعلماء بالإجماع يقولون بأنها مطلوبة، لكن على أي مستوى: الوجوب أو الندب؟ الجمهور يقولون: الندب، ونجد الشافعي رحمه الله يقول: الوجوب، ويختلف في مذهبه: هل الوجوب في التشهد الأول (إذا صلى أحدكم) ، أو الوجوب في التشهد الأخير؟ ويروى عن الشافعي رحمه الله أنه فرق بين الجلوسين؛ فالصلاة على محمد دون الآل في التشهد الأول، فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، اللهم صل على محمد ثم ينهض، والصلاة على محمد وعلى الآل يكون مجموعاً في التشهد الأخير.(67/4)
حكم زيادة لفظ: (سيدنا)
بقي عندنا مناقشة العلماء في الأسلوب والتركيب: عرفنا بأن الصلاة من العباد دعاء، ومن المولى رحمة، ومن الرسول شفاعة.
أما قول: (سيدنا) فلم يتعرض لها المؤلف، ولكن تعرض لها غيره، وبعض الناس في هذا المقام يقول بالتسييد (اللهم صل على سيدنا محمد) ، وقد رأيت رسالة مخطوطة قديمة سابقاً، وفي ذهني بعض منها وهي للشافعية، ويرون بأن لفظ: (السيد) من باب التكريم والتأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجمهور يقولون: جاءت الصيغة في معرض التعليم جواباً على سؤال؛ فلا تحتمل الزيادة ولا النقصان، فيجب الالتزام بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم وهو يُعلم الأمة سواء في الصلاة أو خارج الصلاة.
ولا شك أنه سيد الأولين والآخرين، كما قال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) ، وقال: (إن الله اختار العرب من الناس، واختار من العرب قريشاً، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم؛ فأنا خيار من خيار من خيار) .
إذاً: خارج الصلاة قل: سيدي وسيدنا وسيد الثقلين وسيد الأولين والآخرين، لا أحد يعارضك، لكن في الصلاة لا تقل لأمرين: الأمر الأول: أنهم قالوا: الصلاة حق لله، وهي تعظيم لله بالحمد والثناء والركوع والسجود، وتقول: الله أكبر، أي: من كل كبير جاء في خاطرك، فما دام أنها للتعظيم والتمجيد والثناء للمولى سبحانه، فما تحتمل أن تثني على غيره معه، فقولك: سيدنا، معناه: أنك دخلت في باب التكريم والتعظيم بغير الله مع الله، وهذا لا يصح، بل أفرد التكريم والتكبير والإجلال في الصلاة لله.
والأمر الثاني: قوله: (وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) جاءت بصفة العبودية لتلتزم بها، والجمهور يقولون: تقولون: إنكم تُسيدون إكراماً لرسول الله؟ قالوا: نعم، قالوا لهم: لا، التكريم الحقيقي هو الالتزام واتباع ما علمنا به، يُعلمك كذا وأنت تفعل كذا، هذا ليس تكريماً، لأنك خرجت عن التعليم، وحقيقة التكريم هي: أن تمتثل ما أمرك به، والبحث قد يتوسع فيه بعض الناس، واخترعوا له قاعدة: هل الأدب الأولى أم الامتثال؟ والصحيح أن الامتثال أولى.(67/5)
توجيه قوله: (كما صليت على إبراهيم ... )
الصيغة التي جاءت منه صلى الله عليه وسلم تعليماً للسائلين: (قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد) ، من هم آل محمد؟ بعضهم يُجمل ويقول: كل من حرمت عليه الزكاة، وبعضهم يقول: بنو هاشم وبنو المطلب، وهل الزوجات من الآل أم لا؟ الجمهور يخرجونهم من ذلك لحديث غدير خم.
إلى آخره، وهذه مسألة جانبية.
(اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد) .
المعروف في قانون البلاغة: أن المشبه به أقوى من المشبه، تقول: زيد كالأسد في الشجاعة، المشبه زيد، والمشبه به الأسد، وجه الشبه الشجاعة، وهل الشجاعة أقوى في زيد المشبه أو في الأسد المشبه به؟ في الأسد وتقول: فلان الأمير أكرم من حاتم، أفعل التفضيل، فتكون نسبة الأفضلية للأمير على حاتم، ويبقى الأمير أكرم من حاتم، فإذا جاءوا هنا يقولون: من أفضل محمد أو إبراهيم؟ بإجماع المسلمين أن محمداً أفضل الخلق بلا شك ولا نزاع، فإذا كان هو الأفضل كيف يقال: صلِّ على الأفضل كما صليت على المفضول.
والغرض من التشبيه: إلحاق المشبه بالمشبه به في الصفة، يعني المشبه أقل صفة من المشبه به، وأنت تقول: (صلِّ على محمد) وتلحقه به (كما صليت على إبراهيم) ، فأنت هنا جعلت المشبه وهو محمد أقل وتلحقه بإبراهيم، فجعلت إبراهيم هو الأفضل والصلاة عليه أكثر، وكيف يصير هذا؟ وأخذوا يحاولون الإجابة إلى ما شاء الله، ولكن: هل الصحابة عندما سمعوا هذه الصيغة ناقشوا هذه المناقشة؟ قولوا فقالوا وانتهى، والذي قالها سيد الخلق وسكت طويلاً، ونجزم بأنه كما قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] ، إذاً: لا حاجة إلى النقاش، ولكن من باب ما قيل: هي صلاة مستقلة لا علاقة لها بإبراهيم ولا إسماعيل، ويبقى التشبيه منصب على آل محمد كما صلى على آل إبراهيم، وهذه فيها تكلف، ولكن للخروج من هذه الورطة التي أدخلوا فيها أنفسهم، من الذي قال لكم تناقشوا؟ (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) ومن هم آل إبراهيم؟ قالوا: جميع الرسل من ذرية إبراهيم، فتكون الصلاة على آل إبراهيم، ومن ضمنهم محمد، ألم يقل: إن جده إبراهيم؟ أليس هو ولد إسماعيل, وإسماعيل ولد إبراهيم؟ فمحمد من آل إبراهيم، وآل يعقوب كلهم من آل إبراهيم، فتكون الصلاة على محمد وآله كالصلاة على إبراهيم وعلى جميع الأنبياء من ذريته ومنهم محمد، إذاً: صارت الصلاة الأكثر على محمد.
إذاً: ليس هناك مناقشة، ولعل هذا يكفينا في هذه المسألة.
(في العالمين إنك حميد مجيد) وهذه جاءت في بعض الروايات.
(والسلام كما علمتم) .
والسلام كما علمتم أو كما عُلِّمتم؛ لأن السلام كانوا يقولونه قبل أن تفرض التحيات: السلام على الله، السلام على النبي، على جبريل، على ميكائيل، فقال: (لا تقولوا: السلام على الله، ولكن قولوا: السلام عليك) كما تقدم في الدروس الماضية، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رواه مسلم وزاد ابن خزيمة فيه: (فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟) .(67/6)
شرح حديث: (إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع)
قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع: يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال) .
متفق عليه، وفي رواية لـ مسلم: (إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير) ] .
ولعله من باب الإرشاد لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (فليتخير من السؤال أعجبه) ، أو: (من السؤال ما شاء) قد يقف الإنسان حائراً بماذا أدعو؟ ماذا أسأل؟ فقال: (إذا تشهد أحدكم) ، وفي بعض الروايات: (في آخر التشهد) ، وفي بعضها: (في الصلاة) واتفقوا جميعاً: على أنه يكون في التشهد الأخير وقبل السلام.
(فليستعذ بالله من أربع) أربعة أمور، وهذه الأمور الأربعة يطول فيها الكلام، ولكن نأخذ بعضها على سبيل الإجمال، والبعض قد يحتاج إلى إرجاء إلى أن يأتي محل أوسع منه، فنأخذ قدراً من الوقت المتبقي.(67/7)
الاستعاذة من عذاب جهنم
قوله: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم) .
أعوذ: بمعنى ألجأ وأحتمي وألوذ؛ لأن هذه الأمور الأربعة لا يُجير الإنسان منها ولا يُعيذه إلا الله، وكلها أمور غيبية، والأمور الغيبية لا قدرة للإنسان فيها، لا في جلبها ولا في دفعها، وكلها مرجعها إلى الله، أمور جهنم والجنة والصراط والآخرة كلها أمور غيبية لم يشاهدها إنسان، اللهم إلا إذا قلنا: لقد أكرمنا الله برؤيتها عن طريق رؤية رسول الله في الإسراء والمعراج وهو الصادق المصدوق.
أما جهنم: فيقولون أصلها كهنم، بالكاف، ولكن بالجيم من التجهم، والتجهم: هو انكسار الوجه عند رؤية ما يسوء، والشخص إذا استقبل صديقاً أو عزيزاً هش له وبش له وجهه واستبشر أمامه، وإذا كان العكس تجهم في وجهه ليكفحه عن نفسه، وقد تكون جبلة وبغير اختيار؛ حينما يرى شيئاً يكرهه أو إنساناً لا يستريح إليه فلا يملك نفسه؛ لأنه عامل نفسي، فجهنم تتجهم للناس، وسُميت بذلك من هذا الوجه، والله أعلم، ولا يعيذ من عذاب جهنم إلا الله، سواءً كان برحمة من الله، أو توفيقاً للعبد في الدنيا، أو بشفاعة من رسول الله، أو بشفاعة من الله كما جاء في الحديث: (شفع النبيون والصالحون والأولون والآخرون وبقي أرحم الراحمين، أخرجوا من النار كل من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان) ، فيخرج من النار كل مؤمني الأمة برحمة الله سبحانه.
إذاً: لا يجير من النار إلا الله، حتى الشفاعة {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} [الزمر:44] .
إذاً: الأمر كله لله، ولذا يلجأ الإنسان إلى الله بأن يستعيذ من جهنم، وسبحان الله! في كل صلاة تقولها حتى لا يغيب عن ذهنك ذكرها، فتكون دائماً على حذر منها، وتكون دائماً ملتجئ إلى الله في شأنها.
هذه الجملة الأولى.(67/8)
الاستعاذة من عذاب القبر
قوله: (ومن عذاب القبر) .
عذاب القبر يثبته كل طوائف المسلمين، ولم ينفه إلا المعتزلة، وقيل: البعض منهم فقط، وهذه مسألة مفروغ منها، ويذكر كثير من العلماء بأن النصوص في إثبات عذاب القبر تصير إلى حد التواتر، وسمعت من والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: عذاب القبر يثبته العلماء من القرآن الكريم في قوله سبحانه في حق فرعون وآله: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] ، وإدخالهم غدواً وعشياً متى يكون؟ قبل يوم القيامة، وهو في القبر, وقد جاء الحديث صريحاً: (القبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار) ، وروى مالك في الموطأ حديث عائشة، في اليهودية التي جاءت تسألها، وقالت: (أعاذك الله من عذاب القبر، فجاء الرسول وسألته، وقال: صدقت، يا عائشة!) .
إلى آخره.
أريد أن أقول: يا إخوان! عذاب القبر، ونعيم القبر، وسؤال القبر كل أحوال القبر، رغماً عنا جميعاً نقر بأنها أمور غيبية، وعالم البرزخ عالم غيب، وليس للعقل ولا للتجربة ولا للمعمل ولا لجانب من جوانب الدنيا حتى أشعة الليزر وكل ما اخترعه الإنسان طريق إلى التوصل إلى شيء من أمره، وقد جاءتنا نصوص فيما يتعلق بما لا يمكن أن يتكلم به إنسان، جاء في حق موسى عليه السلام: (مررت على موسى في قبره قائماً يصلي) فهل كان له غرفة يصلي فيها؟ أو هل يوجد لحد عليه طوب اللبن، ويسعه وهو نائم؟ كيف يقوم يصلي فيه؟ تنص كُتب شرح العقيدة الواسطية على وقعة الحرة التي امتدت ثلاثة أيام، وعطل فيها الأذان والصلاة في المسجد النبوي، ولم يقو أحد أن يأتي إلى المسجد إلا سعيد بن المسيب، فهو أربعون عاماً لم تفته الجماعة، ولم ير قفا إنسان أمامه، دائماً في الصف الأول، يقول: كنت أسمع الأذان من الحجرة، من كان يؤذن؟! لا تقدر أن تقول شيئاً.
ويذكر ابن كثير في البداية والنهاية في فتح البحرين أن العلاء بن الحضرمي لما كانوا راجعين أصيب بالغدة فمات، فلما مات دفنوه حيث مات في الدهماء، فجاء أهل تلك الأرض فقالوا: يا أيها القوم! إن كان ميتكم عزيزاً عليكم فلا تتركوه؛ فإن هذه الأرض تلفظ موتاها، لا تقبلهم تردهم، والله امتن على الناس بالأرض كما قال: {أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتاً * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} [المرسلات:25-26] ، وهذه الأرض لا تقبل الموتى، فقالوا: ما من حق ابن الحضرمي علينا أن نتركه نهباً للسباع، فرجعوا يحفرون القبر لينقلوه إلى أرض تقبل الموتى، فإذا بهم يجدون القبر خالياً من صاحبه، وإذا به امتد مد البصر، أنا أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، أنا لا أتدخل في هذا، هذا قول ابن كثير، وهو عالم سلفي، وهو تلميذ ابن تيمية.
لقد جاء في الحديث: (ثم يمد إليه مد البصر) ، (إما روضة من رياض الجنة وإما ... ) إذاً: عالم البرزخ لا يقوى إنسان أن يتكلم فيه بالعقل، ولكن بمقتضى ما جاءت به النصوص الصحيحة، وهنا يأمرنا صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ بالله من عذاب القبر كما نستعيذ من عذاب جهنم، ولا يشك أي عاقل حتى في الديانات الأخرى النصرانية واليهودية بأن النار موجودة: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً} [البقرة:80] ، فكما أننا أُمرنا أن نستعيذ بالله من النار، أمرنا أن نستعيذ بالله من عذاب القبر، فهما قرينان.(67/9)
موضع الاستعاذة في التشهد
يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا تشهد أحدكم) ، جاء هذا مطلقاً، ثم جاءت الرواية الثانية: (إذا فرغ من التشهد الأخير) ، والمؤلف رحمه الله جاء بقيد التشهد الأخير؛ لأن بعض العلماء من غير الأئمة الأربعة يرى الاستعاذة من تلك الأربع في التشهدين الأول والأخير، ولكن الذي عليه الجمهور: أن المطلق يحمل على المقيد، عندنا تشهدان، وهذا مطلق، ولكن جاء القيد في التشهد الأخير، إذاً: محل الاستعاذة من تلك الأمور إنما هو في التشهد الأخير، وأيضاً القيد الثاني: (إذا فرغ من التشهد) ، وبعض العلماء يرى أن قوله: (إذا فرغ من التشهد فليقل أو فليستعذ) قيد أيضاً فيما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود: (ثم ليتخير من المسألة أعجبه) قالوا: يتخير بعد الاستعاذة؛ والاستعاذة محلها إذا فرغ من التشهد، وعلى هذا الترتيب إذا فرغ من التشهد يستعيذ بالله منها، ثم يتخير من المسألة ما شاء، وأشرنا بأن مجيء عموم: (يتخير من المسألة ما شاء) يترك للإنسان الاختيار، ولكن اختيار المسلم مرتبط ومشروط لما اختاره له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) ، وهواه بمعنى اختيار رغباته تبعاً لما جئت به؛ فكأن الاستعاذة بالله من تلك الأمور توجيه لأن يكون مجال استعاذته، وسؤاله، واختياره يدور في فلك مصلحة الدين والدنيا والآخرة، ولا ينزل إلى مستوى لا يليق بأمر الصلاة.(67/10)
نزغ الشيطان بين بني آدم
تقدم بأن الإعاذة هي الالتجاء واللواذ؛ ولذا الأمور العظام التي لا يقوى عليها الإنسان ليس له ملاذ ولا ملجأ إلا الله، ويقولون: عدو الإنسان إما من الإنس وإما من الجن شياطين الجن والإنس، وقد علمنا الله سبحانه وتعالى كيف نتقي شر عدو الإنس، وعلمنا كيف نتقي شر عدو الجن، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:34] ، ادفع من؟ الإنسان الذي يريدك بشر، إساءته وحسنتك لا يستويان، هو يسيئ إليك، وأنت ادفع إساءته بالتي هي أحسن، ماذا تكون النتيجة؟ {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] .
إذاً: تتقي عداوة الإنسان بالإحسان إليه، ولذا يقولون: مصانعة العدو وقاية من شره، ويذكرون عن شخص أوروبي مشهور عند أهله، أنه قيل له: نراك تصانع أعداءك، قال: أليس واجبي أن أتقيهم وأتقي شرهم؟ قالوا: بلى، قال: ما وجدت أحسن من اتقائي شر العدو من مصانعته، أي: إذا صانعته صار صديقاً {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] ، ولكن بيّن القرآن الكريم أنها منزلة وليس كل إنسان يقوى عليها، {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا} [فصلت:35] ، صبر على أذية الخصم، ولجأ إلى الله سبحان وتعالى لكي يعينه على الإحسان إليه، {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] .
وكما جاء في الحديث: (تهادوا تحابوا) ، لو كان لك خصم ألد، وجئت في مناسبة وقدمت إليه هدية بسيطة جداً، تجدها تسقط ثلاثين في المائة أو أربعين في المائة مما في قلبه من شحناء عليك، وعندها يذهب وحر الصدر.
ثم جاء إلى القسم الثاني: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف:200] ، لماذا؟ لأنك لا تستطيع أن تصانع الجن، ولا تنفع معه المصانعة؛ لأنك كلما صانعته كلما استضعفك، إذاً: لا ينفع معه إلا السلاح، ولا تنفع معه مصانعة، إنما تلجأ من شره ومن كيده إلى الله {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف:200] {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] ، يلجئون إلى الله سبحانه وتعالى حالاً، وهنا الاستعاذة بالله سبحانه وتعالى هي اللجوء إليه بأن يحميه ويقيه ويدفع عنه ويرعاه مما استعاذ به منه، ونجد الأمور الأربعة كلها خفية وغيبية لا يقوى كل من على وجه الأرض أن يحفظ الإنسان أو يعيذه منها، ولا يقوى على ذلك إلا الله.
إذاً: فاستعذ بالله، وبدأ أولاً بعذاب جهنم، وفي بعض الروايات: (من عذاب النار) ، وتقدمت الإشارة إلى أن لفظ جهنم مشتق من التجهم، وهو عبوسة الوجه وهي كذلك، ومن يقي الإنسان من عذاب النار إلا الله سبحانه وتعالى.(67/11)
من عجائب عذاب القبر
أمر البرزخ أمر غيب، ولا يعلم أحد حقيقة أمر البرزخ إلا الله، ولم نقف على شيء من أخباره إلا ما جاءنا عن الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه أمر غيب، ولا أحد يعلم الغيب {إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} [الجن:27] ، فقد يطلع الله بعض رسله على بعض الغيب، فما أخبرنا به المصطفى صلى الله عليه وسلم من أحوال القبر وأحوال البرزخ فعلى العين والرأس، وقد أخبرنا بما يسعه العقل حينما وقف على أهل قليب في بدر، فقال: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، فقال عمر: يا رسول الله! أتخاطب قوماً قد جيفوا؟! -بعد ثلاثة أيام تخاطبهم- قال: ما أنتم بأسمع منهم ولكنهم لا يجيبون) .(67/12)
كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [12]
شرع النبي صلى الله عليه وسلم أن يختم المصلي الصلاة بدعاء مهم فيه الاستعاذة من أربعة أشياء من الغيبيات، ولا يقدر دفعها عن الإنسان إلا الله عز وجل، ويشرع بعده أن يسأل العبد ربه من خيري الدنيا والآخرة، ولا يشترط في ذلك التقيد بالألفاظ الواردة.(68/1)
عذاب القبر حق
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: من الغرائب ما يذكره بعض المتوسعين في السيرة في غزوة بدر: أن ابن عمر كان مر ببدر بعد الوقعة، فرأى رجلاً يخرج من الحفرة ويقول: يا عبد الله! وخلفه رجل يضربه بسوط ويجره بسلسلة، ويقول: يا عبد الله! لا تسقه إنه كافر، فيقول ابن عمر: فوالله لا أدري أعرفني أني عبد الله بن عمر أو ناداني بنداء العرب، يا عبد الله! وكل الناس عبيد الله، فذكر ابن عمر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (أنت رأيته؟ قال: نعم، أنت سمعته؟ قال: نعم، قال: ذلك أبو جهل يعذب بذلك إلى يوم القيامة) ، وأخبار القبر من أراد أن يتوسع فيها فليراجع فيها كتاب ابن أبي الدنيا، وكتاب الروح لـ ابن القيم، وأحوال أهل القبور فيها أشياء مسطرة كثيرة جداً، منها ما صح سنداً، وما ضعف فيه السند، أشياء فوق العقل، وليس لنا إلا أن نسلم لكل ما صح سنده، وقد جاءت النصوص الصريحة عنه صلى الله عليه وسلم في أن القبر أحد أمرين: إما روضة من رياض الجنة، وإما -عياذاً بالله- حفرة من حفر النار، وفي الحديث: (إذا وضع المؤمن، جاءه الملكان وسألاه -في باب طويل جداً- فإن كان مؤمناً وأجاب، فتحت له فتحة من النار، ويقال: ذاك مقعدك لو لم تكن آمنت، ثم يقفل عنه ويفتح له باب من الجنة، ويقال: ذاك مقعدك يوم القيامة، فيقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة) ، وإن كان العكس بالعكس.
وما أنكر عذاب القبر إلا بعض من يُلغي الغيبيات غير معقولة المعنى، وهذا خطأ، وبعضهم ينسب ذلك إلى عموم المعتزلة، وبعضهم يقول: إنه رأي للبعض منهم وليس للجميع، ومما يوردون من الشبه: كيف يكون القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار والقبور متقاربة متلاصقة؟ وفي بعض الروايات: (يمد له مد البصر) ، كيف يمد مد البصر والمقبرة مائة متر في مائة متر؟ واحد فقط لو مد له مد البصر أخذ المقبرة كلها، ثم أين يذهب البقية؟ ولكن ما دام الأمر غيباً والله لا نستطيع أن نقول: كيف يمد؟ ويستحي الإنسان الآن أن يقول هذا، نحن في الوقت الحاضر ربما نجلس أمام الشاشة، ونجد منظر بواخر في المحيطات، وطائرات تطير، وغواصات في باطن الماء، ونجد ونجد والشاشة كلها أربعة وعشرون بوصة، فهل نقول: كيف جاءت هذه؟ لا والله ما نقول، وهذا تقريب للواقع، وقد توجد شاشة ثانية بجوارها فيها خلاف ذلك، ونحن لسنا في حاجة إلى هذا كله، ولكن نقول: يجب على المسلم إذا سمع خبراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: سمعاً وطاعة، كيف نؤمن بالجنة والنار؟ {جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران:133] ، الروم تساءلوا: إذا كان عرضها السماء والأرض فأين تكون النار؟ فجاءهم الجواب.
إذاً: كل ما كان غيباً لا يمكن للعقل أن يدركه؛ لأنه إذا أدركه لم يعد غيباً، وكل المغيبات فوق قانون التصور العقلي، وهنا فرق بين المسلم وغير المسلم، فالمسلم بإيمانه ويقينه وتصديقه بالوحي عن الله يقول: سمعاً وطاعة، وكما نقل عن كعب الأحبار عندما سأله عمر: ما هذا العلم الذي تعرفون به محمداً أكثر من أبنائكم؟ كما قال الله: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] ، قال: والله! إن لمعرفتي بمحمد أشد من معرفتي بولدي، قال: كيف ذلك؟ قال: لأن نعت محمد وتعريفه جاء بالوحي، والوحي صادق، أما ولدي فإن النسوة يُحدثن -انظر إلى أي مدى- فيخطئن، وأنا لا أحرس امرأتي وآخذها معي، فهي تغيب عني ولا أدري ما يكون، ولكن الوحي لا يعتريه شك، فأنا أعرف بمحمد لصفاته عندنا بالوحي، وأشد اطمئناناً إليه من اطمئنان نسبة ولدي إليّ.
إذاً: نحن نستيعذ بالله من عذاب القبر، وأشرنا لما قاله والدنا الشيخ الأمين: إن العلماء يقولون: عذاب القبر ثابت بنص القرآن، كما جاء في حق آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا} [غافر:46] ، وهذا العرض غدواً وعشياً قبل أن تقوم الساعة، ولا يكون ذلك في الحياة وهم أحياء، إذاً: لم يبق إلا فترة البرزخ، ونسأل الله جميعاً أن يعيذنا من جهنم ومن عذاب القبر، ونسأل الله السلامة والعافية، والعالم مهما اجتمع وأوتي من قوة وإمكانيات ومستحدثات لا يمكن أن يدفعوا عذاب القبر عن صاحب القبر وأرادوا مرة أن يقفوا على سؤال منكر ونكير، وفي بعض البلاد لا يوضع لحد ولا قبر إنما توجد غرف يضعون فيها الموتى، وهذا موجود في البقيع في حالة -عافانا الله وإياكم- الطوارئ، عندما يحدث موت بالجملة، ولا يستطيع الناس أن يحفروا حالاً لكل شخص قبراً، فيجعلون مكاناً واسعاً ويرصون فيه الموتى، وكل مقبرة كبيرة فيها شيء للطوارئ من هذا، فبعض البلدان يجعلون هذا للأسر، وقد تكون هناك بعض البلاد فيها تكليف، المهم جاءوا بجهاز تسجيل ووضعوه في تلك الغرفة وسحبوا السماعة إلى الخارج، وجلسوا ينتظرون ما يسمع بعدما دفنوا ميتهم، والمسجل يسجل، لكن لا يوجد أي شيء، إلى أن مضت أربعة وعشرون ساعة، ورجعوا فوجدوا المسجل على ما هو عليه، والشريط انتهى ولم يلتقط أي شيء.
إذاً: شيء فوق تصور العقل، والميت يسمع ويعقل، والأحاديث في سؤال القبر شبه المتواترة، ومن ينفي عذاب القبر يلزمه أن ينفي عذاب جهنم؛ لأن الحديث جاء بالاستعاذة منهما معاً، فإذا كان يؤمن بعذاب النار، ويستعيذ بالله من عذاب جهنم؛ فما الذي يجعله يمتنع من أن يثبت عذاب القبر، ويستعيذ بالله من عذاب القبر؟ إن أثبت هذا فليثبت هذا معه، وإن نفى هذا يلزمه أن ينفي الثاني معه، ولا أحد ينفيهما حتى أهل الكتاب.(68/2)
الاستعاذة من فتنة المحيا والممات
قال: (ومن فتنة المحيا والممات) .
هناك عذاب وهو شيء واقع، وهنا فتنة، ويقول علماء اللغة: أصل الفتنة: إدخال الذهب في النار لتخليصه من الشوائب العالقة به؛ لأن الذهب لا تحرقه النار، وإنما تحرق ما علق به؛ ولهذا حينما يريدون معرفة عيار الذهب في المصاغ يأخذون جزءاً من المصاغ وليكن سنتي من مائة سنتي من الجراب، ويدخل هذا الجزء إلى نار حرارتها فوق المائتين لكي تذيب كل المعادن الموجودة مع الذهب، وقد يكون معه نحاس أو قصدير أو النحاس الأحمر وأشياء كثيرة، فتذوب ويبقى الذهب خالصاً بعد إدخاله في تلك الدرجة العالية من الحرارة؛ فيعيدون وزنه بعد ذلك.
وبقدر ما نقص بعد الوزن الأول وقبل الإحراق فيقولون: عيار كذا، فتكون السبيكة أو الجرم الذي أخذ منه العينة فيها من المعدن غير الذهب بقدر ما أحرقته النار وبقي الصافي، وعلى هذا قالوا: استعملت الفتنة ونقلت من الاسم المادي؛ على قواعد فقه اللغة، فأصل المادة اللغوية توضع للمحسوس أولاً، ثم تنتقل من المحسوس إلى المعقول المقارب لها، كما قالوا في الصلاة والصيام والزكاة: كل هذه وضعت للأمر اللغوي أولاً.
فالصلاة مأخوذة من الصلوين، أو من المصلي وهو الفرس الثاني، الأول مجلي والثاني مصلي؛ لأن عنقه عند صلوي الفرس، وهما مؤخر الفرس، وصلو الإنسان عند حقوه؛ لأنه يثني ظهره إلى حقوه في الركوع، ثم جاء أصلها الدعاء ونقلت إلى الصلاة.
وكذا الأُذن، أصل مادة الأذان والآذن والمأذون والإذن راجع إلى حاسة الأذن؛ لأن الخبر يلقى فيها، إلى غير ذلك من علم أصل الاشتقاق، فهنا الفتنة الأصل فيها لأمر محسوس وهو إحراق الذهب لمعرفة خالصه من شائبه، ثم انتقلت بعموم الاختبار، وأصبحت الفتنة الامتحان والاختبار، ولذا جاء في قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج:10] ، قيل: أحرقوهم؛ لأن أصل الفتنة الإحراق بالنار، وقيل: فتنوهم عن دينهم بهذا التعذيب، والعامل المشترك بين معاني الفتنة: الشدة والعجز عن التحمل.(68/3)
حقيقة فتنة الدنيا
يستعيذ الإنسان بالله من فتنة الدنيا، وهل في فتنة الدنيا إحراق أو شدة؟ قالوا: لا، لكن بجامع الشدة في التحمل، والفتنة في الدنيا، انتقل استعمالها مرة ثالثة فيما يختبر به الإنسان ويُمتحن من التكاليف أو مما يعرض له من ظروف الحياة من شدة ورخاء، قد يفتن بالمال: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] ، وقد يفتن بالغنى: {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-7] ، وبعض العلماء يقول: الصبر على العافية أشق على النفس من الصبر على المرض والضعف؛ لأن المريض خامد ليس عنده شيء، لكن المتعافي يتحرك بالقوة وقد يعتدي بأدنى مناسبة، وهكذا زيادة المال تُطغي.
يقول ابن دقيق العيد: كل ما يرد على الإنسان من خير أو شر لامتحانه، وهنا يأتي مبحث بعض المربين: أيهما أفضل: الغني الشاكر الذي يصبر على النعمة التي افتتن بها لكنه يحفظها ويشكر الله عليها فلم يفتن أو الفقير الصابر الذي اختبر وامتحن بقلة المال فصبر؟ يُرجح الغني الشاكر؛ لأن الغني الشاكر شكره لغناه يجعله يعدي تلك النعمة إلى الآخرين، ويحسن إليهم بصدقة وبفعل الخير، لكن الفقير الصابر هو صابر، والناس ما نالهم من صبره شيء، وكما قالوا: الخير المتعدي أولى من الخير اللازم على صاحبه، وعلى هذا قالوا: فتنة المحيا كل ما يعطاه الإنسان من خير أو شر؛ فإن كان خيراً امتحن فيه، هل يؤدي شكر النعمة؟ وإن كان شراً؛ هل يصبر عليه؟ كما جاء في حديث عيادة المريض: (انظروا ماذا يقول لعواده؟ هل يشتكيني عليهم: أمرضني وأسقمني وسوى وسوى معي؟ أم يحمد الله على ما أعطاه، فإذا سمعوا منه أنه يشتكي الله عليه قال: دعوه مع الذي اشتكى لهم، وإذا سمعوا منه أنه يحمد الله على ما أصابه، وأنه رضي بقضاء الله وقدره فيقول: أمهلوه) فالله قد يحب أنين العبد الصالح في ابتلائه فيتركه على حاله ليصعد هذا الأنين الصادر من القلب إلى الله وحده.
يهمنا هنا أن فتنة المحيا تشمل كل شيء، وكما قدمنا في المال والولد: أنه قد يكون فتنة ولا يدري الإنسان ما هو الخير.(68/4)
فتنة الممات وما تطلق عليه
فتنة الممات تحتمل أمرين: إما فتنة ما يقع فيه الإنسان عند آخر حياته، وبما يُختم له به، ونسبت إلى الممات؛ لأنها قريبة في مماته، وما قارب الشيء أعطي حكمه، وفي الحديث: (منكم من يعمل بعمل أهل الجنة حتى لم يبق بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، ومنكم من يعمل بعمل أهل النار حتى لم يبق بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) ؛ ولذا قالوا: الافتتان هنا عند آخر حياته، هل يكون آخر كلامه لا إله إلا الله؛ أم أنه يعجز عنها وينصرف ويشغل بأمور أخرى؟ فبعضهم يقول: وفتنة الممات تحتمل أن تكون عند لحظة النزع والاحتضار فهناك يفتن، وقد يأتيه الشيطان ويسول له أشياء كثيرة، وإما الفتنة بعد الموت فهي السؤال في القبر، لما ورد من الأحاديث الصحيحة في ذلك: (إذا وضع العبد في قبره أتاه ملكان فأجلساه) ، وجاء أن الملكين يسألانه: عن ربه ودينه ونبيه؛ فإذا كان مؤمناً صالحاً وفق للجواب، وقد جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم (حضر جنازة وبعد أن انتهوا من دفنها قال: سلوا الله لأخيكم التثبيت فإنه الآن يسأل) ؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يحضر دفن الجنازة بعد أن يفرغوا من دفنه وتسوية التراب عليه أن يسألوا الله له الثبات في الجواب عن السؤال.
عمرو بن العاص أوصى عند موته فقال: (إذا أنتم دفنتموني، فأقيموا عند قبري بقدر ما تنحر الجزور، -يعني: تذبح وتسلخ وتقسم- فإني أستأنس بوجودكم عند سؤال الملكين) .
إذاً: عند السؤال الله أعلم بمن كان مخلصاً في دينه، صادقاً في إيمانه، فيلهمه الله الجواب الصحيح، ومن كان منافقاً -عياذاً بالله- أو كان أو كان، قال: هاه هاه لا أدري، هاه هاه سمعت الناس يقولون فقلت، وهنا الفتنة حقاً.
ويقول بعض العلماء: هل هذا السؤال وتلك الفتنة عامة في جميع البشر من آدم إلى الآن وفي جميع الأمم؟ قالوا: لا، هذا خاص بهذه الأمة فقط، وما كان أحد من الأمم يسأل عن هذه الأمور في قبره، ولماذا امتحنت هذه الأمة مع أنها خير الأمم؟ ولماذا فتنت في قبرها؟ قالوا: لأن الأمم السابقة كانت إما أن تستجيب لنبيها فتسلم، وإما أن تعاند فيعاجلها العذاب، وكم من أمة جاءها العذاب واستأصلها لأنهم كذّبوا، أما هذه الأمة فقد رفع الله عنها العذاب إلى يوم القيامة، فهم يمضون في طريقهم الصادق على صدقه، والكاذب على كذبه، والمنافق على نفاقه، ومن هنا تأتي الفتنة والسؤال والفرز الأول في القبر، نسأل الله السلامة والعافية.
في القبر من يمكن أن يساعد الإنسان هناك؟ لا أحد، وكما قيل: ثلاثة تصحب الميت، اثنان يرجعان، ويبقى واحد، ماله وأهله وعمله، ماله يذهب في فخر الناس ومجاملاتهم، وأهله يحزنون عليه، وعمله هو الذي يصحبه ويلازمه في قبره، فلا يملك أحد له شيء إلا الله.
كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ من هذه الأربع في كل صلاة، وعلمنا ذلك؛ لئلا تغيب عن البال، دائماً وأبداً إذا استعذنا بالله من عذاب النار تجنبنا موجبه، إذا سألنا الله الاستعاذة من عذاب القبر أيضاً تجنب سببه، وقد جاءت بعض الأحاديث تؤكد على بعض أسباب عذاب القبر، مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، بلى إنه كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول) ؛ يعني: ليس بكبير لأنه يستطيع أن يتحرز منه، (بلى إنه كبير) ؛ لأن عليه تتوقف صحة الصلاة، والصلاة عماد الدين، (وأما الثاني فكان يمشي بالنميمة بين الناس) ، ليس بكبير، يستطيع أن يمسك لسانه ويكفه عن الغيبة، ولكنه كبير؛ لأن الغيبة تفسد ما بين كل اثنين أو جماعة أو الجميع، والحديث هنا صحيح الإسناد، وهناك زيادة فيها مباحث (فأخذ جريدة فشقها نصفين، فوضع على كل قبر شقاً، وقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا) ، ويأتي بحث العلماء: هل لنا أن نفعل ذلك اقتداء به صلى الله عليه وسلم، الكثير يقولون: نعم، والبعض يقول: لا، لأننا لم نطلع كما اطلع صلى الله عليه وسلم على أهل القبر، ولا ندري أنه يعذب أو ينعم، لذا لا نضع احتياطاً، قالوا: وهل وضعنا نحن بأيدينا كوضع رسول الله؟ قالوا: لا، والمسألة تدور بين جواز فعل مثل ذلك عند القبور ومنعه، والذي عليه الاتفاق: أن ندعو له، وعند الدفن نسأل الله له التثبيت، وهذا ما يتعلق بفتنة الممات على إحدى المعنيين: إما أن يكون عند احتضاره مخافة سوء الخاتمة -عياذاً بالله- وإما ما يتعلق بسؤال القبر وهو فتنة عظيمة، نسأل الله السلامة والعافية.(68/5)
الاستعاذة من فتنة المسيح الدجال
قال: (ومن فتنة المسيح الدجال) .
مسيح على وزن: فعيل، من المسح، ويقول بعض العلماء: لقد جمعت له وجه في الاشتقاق ولم نقف على ذلك، ولكن كلمة المسيح من حيث اللغة يقول بعضهم: المسِّيح بتشديد السين تكون للدجال، والمسيح بدون أي وصف آخر هو عيسى بن مريم عليه السلام، قال الله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ} [المائدة:75] وكيف نسبة الاسمين لهذين مع بعد ما بينهما؟ قالوا: المسيح تطلق بالتخفيف على الجانبين، ولكن إذا أُريد به عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام جاءت مجردة وإذا أُريد الدجال لابد من القيد، كقولنا: جاء بأن المسيح الدجال يفعل كذا، فقالوا: سبب التسمية من أصل مادة المسح.
أما الدجال: فلأنه يمسح الأرض كلها، ويأتي على جميع أماكن الأرض، ويطوف الكرة الأرضية ما عدا مكة والمدينة فلا يدخلهما، وقد جاء في رواية الموطأ في حق المدينة أن بها ملائكة لا يدخلها الدجال ولا الطاعون؛ فالله سبحانه وتعالى حفظ المدينة من أن يدخلها الدجال، ولكن فتنته تصلها، بمعنى يأتي فينزل بملتقى الأسيال وراء بئر رومة -كما جاء في نص الحديث- فينصب خيامه ويدق طبوله، ويخرج له من المدينة كل منافق يخرجون إليه والمدينة معصومة منه وهي حرام عليه، وكذلك مكة المكرمة.
إذاً: سمي المسيح لأنه يطوف في العالم بالمساحة السطحية ويجوبها كلها ما عدا الحرمين الشريفين.
أما عيسى ابن مريم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فقالوا: مسيح بمعنى فعيل، ومسيح بمعنى فاعل، فقالوا: بمعنى فعيل ممسوح؛ لأنه نزل ممسوحاً، وما معنى ممسوح؟ قالوا: لأن النصارى من مبادئهم: أنهم يمسحون الطفل بما يسمى المعمدانية، فعيسى نزل ممسوحاً من عند ربه ولا يحتاج إلى مسحهم، وقيل: مسحه وعمده زكريا، وقيل: مسيح بمعنى فاعل أي: ماسح؛ لأنه كان يمسح المعتل فيبرأ.
واللفظ هنا جاء مقيداً بالدجال، واللفظ يطلق فيشمل عيسى عليه السلام ويشمل الدجال، ولكن إذا أريد بالاستعمال المسيح الدجال لابد أن يأتي بهذا القيد.(68/6)
تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من فتنة الدجال
شدد النبي صلى الله عليه وسلم في التحذير من فتنة المسيح الدجال وقال: (إن ظهر فيكم وأنا بينكم فأنا حجيجه، وإن يظهر وأنا لست فيكم؛ فامرؤ حجيج نفسه) وبيّن صلى الله عليه وسلم أنه: (مكتوب بين عينيه: كافر، يقرؤها كل مؤمن) ، وبأي لغة أو بأي حروف أو بأي مداد تكتب؟ الغ العقل هنا، وصدق الخبر، فسوف تراها في جبينه، وكيف كتبت وكيف رضي بذلك؟ هذا رغماً عنه.
إذاً: فتنته بينها صلى الله عليه وسلم، وقضية تميم الداري مشهورة، حينما نزل بالسفينة وانكسرت بهم وجاء إلى جزيرة ورأى ورأى إلى آخره، وكتب الحديث والفتن والملاحم مليئة بأخباره، وفتنته: أن يأتي والناس في محل وشدة فيقول: يا سماء! أمطري فتمطر، يا أرض! أنبتي فتنبت، يا زرع! استوي فيستوي اطحنوا كلوا، في موقف واحد: تمطر السماء وتنبت الأرض ويطحنون ويأكلون، ويقول: أنا إلاهكم، أنا ربكم ها قد فعلت، أما المؤمن فيقول: لا، إنك كافر، قد أخبرنا بذلك رسول الله، وأما الكافر فلا يدري، ويقول: نعم، إنك كذلك؛ لأنك فعلت وفعلت، ثم يأتي بمسلم ويشقه نصفين بالسيف، ويمشي بين شقيه، ثم يقول له: قم، فيقوم ملتحم الشقين إنساناً سوياً، ويقول: أنا ربكم أُحيي وأميت، فالكافر يفتن به -عياذاً بالله- والمؤمن يقول: لا، قد أخبرنا بذلك رسول الله ولا يفتن به، ولأن المسألة تتعلق بلقمة العيش وبالحياة والموت كانت الفتنة به خطيرة، وتخشى على كثير من الناس، ومن هنا من يستطيع أن يدفع تلك الفتنة؟ إنه الله، فكانت الاستعاذة من المسيح الدجال بالله سبحانه وتعالى؛ لأنها فوق مستوى العقل، وفوق قدرة البشر، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيذنا جميعاً من عذاب النار، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال، ومن كل فتنة تقع بالناس، والله تعالى أعلم.
قال رحمه الله: [وفي رواية لـ مسلم: (إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير) ] .
تقدمت فائدة هذه الزيادة، وبأن موضع الاستعاذة يكون بعد الفراغ من التشهد الأخير، وقبل سؤال الله ما أعجبه.
ومن الناحية الفقهية: يرى بعض العلماء كالظاهرية: بأن الاستعاذة من هذه الأربع واجبة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا فرغ فليقل أو فليستعذ) ، وهذه صيغة أمر، وصيغة الأمر تقتضي الوجوب، ولكن الجمهور على أنها ليست على الوجوب، ولكنها للتعليم والإرشاد؛ فهي للندب، وأعتقد أن العاقل لا ينبغي له أن يتركها إذا علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشدنا إليها، وبيّن لنا صلى الله عليه وسلم أنسب وقت لها، وهو: إذا فرغ من التشهد؛ فكيف يتركها الإنسان؟ وهل أمن على نفسه؟ لا والله، إذاً: لا ينبغي له أن يتركها.(68/7)
شرح حديث: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ... )
قال رحمه الله: [وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (علمني دعاءً أدعو به في صلاتي، قال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت؛ فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم) ، متفق عليه] .
كأنه يقول: كل ما أعلمه لا يساوي ما يعلمنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه من خصائص الصحابة رضي الله تعالى عنهم مع رسول الله، فقد كانوا يتلقون الأمر عنه مباشرة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
ويقول العلماء: الإنسان مهما كانت منزلته، ومهما بلغ فضله؛ فليس في غنى عن التعليم، فها هو أبو بكر الصديق رضوان الله تعالى عليه، وقد شهد له الله في كتابه، وأخبر عنه صلى الله عليه وسلم: (لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان الأمة لرجح بها) ها هو في حاجة إلى من يعلمه، ولكن من؟ رسول الله؛ لأنه لا يوجد أحد أعلم منه إلا رسول الله، فأدرك الحاجة إلى التعليم، وأدرك أنه ليس هناك أحد يعلمه إلا رسول الله، فقال: (علمني كلمات أقولهن في الصلاة) ، والرسول صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك؛ لأنه طلب وجيه.
وكلمة: (به في صلاتي) تدل أن الدعاء في الصلاة عقب التشهد ليس مقيداً بالأربع، وليس مانعاً من غيرها، وكلمة في الصلاة مطلقة.
(قال: قل اللهم إني ظلمت نفسي) .
هل حدد له موطناً في الصلاة؟ لم يحدد، يكون في سجوده، بعد الفراغ بعد التشهد، ضمن: (تخير من المسألة ما تشاء) ، الرسول صلى الله عليه وسلم أخبره بعموم.
أبو بكر الصديق ظلم نفسه، وعلي وحسين وعطية ومحمد وحسن عملوا ماذا؟ ظلموا أنفسهم وظلموا الناس معهم، من أحق وأولى بهذا الدعاء أبو بكر الصديق الذي قال الله فيه: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40] أو كل الحثالات الذين جاءوا من بعده؟ ولذا يقول العلماء: لا يسلم مخلوق مهما كان على وجه الأرض بعد الرسل من ظلم النفس، الرسول يقول له: (قل يا أبا بكر: (اللهم إني ظلمت نفسي) ، وكيف يقع الظلم من الإنسان لنفسه؟ قالوا: أصل الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، فهنا العبد مكلف، ضع العبادة هذه هنا، ابتعد عن المعصية هذه هناك، فإذا لم يضع العبادة في موضعها فقد وضع الشيء في غير موضعه؛ وبذلك ظلم نفسه؛ لأنه قصر في حق نفسه، وإذا لم يتباعد عن المعصية ظلم نفسه؛ لأنه وضع نفسه في غير ما ينبغي أن يوضع فيه، ولهذا قالوا: ظلم النفس إما بتقصير فيما يجب أن يفعله، أو في اعتداء بفعل ما لا يجوز أن يفعله، فهذا ظلم نفسه بحرمانها من فعل ما أمر به، وهذا ظلم نفسه بفعل ما نهي عنه، فحملها ما لا تطيق، ولهذا يأتي إنسان ساعة الاحتضار وهو حزين أسف، لماذا؟ إن كان محسناً حزن على التقصير في الإحسان، وإن كان مسيئاً حزن على التفريط في الإساءة.
ولكن الظلم يتفاوت {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] ؛ فأعلاه الشرك، وأدناه اللمم.
(ظلماً كثيراً) ليس مرة أو مرتين، بل ظلم متوالي، قد يرى العبد الصالح التفريط في المندوبات، أو الإفراط في المباحات؛ ظلماً، كما يقال: حسنات الأبرار سيئات المقربين، الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدخل الخلاء لقضاء الحاجة وهو أمر جبلي، فيخرج فيقول: (غفرانك) ، وما موجب طلب المغفرة هنا؟ وما الذنب الذي يحتاج إلى مغفرة؟ قالوا: لامتناعه من ذكر الله أثناء وجوده في الخلاء، فكأنه يرى جزءاً من عمره خلا عن ذكر الله، فيطلب مغفرة من الله لذلك، سامحني في هذه اللحظة؛ لأنها كانت لحظ نفس، وبعضهم يقول: لأن ما يحصل للإنسان في ذاك المكان تتوقف عليه حياته، ولا يقوى على شكر نعمة الإخراج، كما لا يقوى على شكر نعمة الإدخال؛ لأنه لو حبس فيه مات، فكأنه يقول: هذه أيضاً نعمة أعجز عن شكرها فغفرانك، ولكن الأول أولى، والله تعالى أعلم.
وفي بعض الروايات: (ظلمت نفسي ظلماً كبيراً) ، فنجد بعض العلماء يقول: نجمع بينهما: (ظلماً كثيراً كبيراً) ، والبعض يقول: تارة تقول: كبيراً، ولا تأتي بكثيراً، وتارة تقول: كثيراً، ولا تأتي بكبيراً؛ لأن الرسول لم ينطق بهما معاً في وقت واحد، وإنما جاء تعليمه مرة ظلماً كثيراً وحدها، أو جاء تعليمه ظلماً كبيراً وحدها، فأنت لا تجمعهما؛ لأنه لم يجمعهما، فتأتي بهذا تارة، وتأتي بذاك تارة أخرى، والله أعلم.
(ولا يغفر الذنوب إلا أنت) ، أنا رجعت إليك؛ لأن ظلمي لنفسي هو بحق التشريع الذي أمرتني أو نهيتني، فالمرجع إليك أنت.
(فاغفر لي مغفرة من عندك) .
لا بعملي، ولا باجتهادي، ولا بعباداتي، سبحان الله! أبو بكر الذي يخرج من الدنيا بكاملها لله ولرسوله، ويأتي بكل ما يملك من ماله، يخرج به مهاجراً إلى الله ورسوله، يأخذ كل ما يملك في مكة -أربعمائة درهم- ولم يترك لعياله شيئاً، ثم يأتي إلى المدينة، وبعد أن يأتي ويجتمع عنده المال، ويحض النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، يأتي بكل ماله فيقال له: (ماذا تركت لعيالك يا أبا بكر؟ فيقول: تركت لهم الله ورسوله) ، هذا أبو بكر مع عمله هذا كله الشخصية الصادقة في الرسالة، وفي صحبته له في مكة، وعرضه على القبائل، وتهيئته للهجرة، وخروجه معه إلى الغار، ومجيئه إلى المدينة، ومؤازرته، وشراء أرض المسجد الذي بني فيه، ومرافقته في كل غزواته، ولم يتخلف عنه قط ولا في غزوة من غزواته، ومع هذا كله: (واغفر لي مغفرة من عندك) ثم هذا الذي قدمته ما هو؟ قال: لا، كله من عند الله، هدايته، وتوفيقه لصحبة رسول الله، وجوده بنفسه وبماله، كل ما فعله الأصل فيه أنه من الله.
(لن يدخل أحدكم الجنة بعمله قيل: ولا أنت، قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته) ، قال عبد الرحمن بن عوف: (رأيت كأني مت، وكأن القيامة قامت، وقد جئت ونوقشت الحساب؛ حتى ظننت أني هالك، وما أنجاني إلا صحبتي لرسول الله) ، ابن عوف الذي يأتي يتصدق بالعير وبما تحمل في سبيل الله، ويأتيه التُجار لشرائها بربح عشرة في المائة، وهو يرفض ويقول: هناك من أعطاني ألف في المائة، قالوا: ليس هناك تاجر في المدينة حاضر يعطيك هذا، قال: الله أعطاني،،الحسنة بعشرة أمثالها، هي بما فيها في سبيل الله، ومع ذلك يقول: (نوقشت الحساب حتى ظننت أنني هالك، وما أنجاني الله إلا صحبتي لرسول الله) ، هذا فضل من الله.
ولهذا لا ينبغي أبداً أن يرى الإنسان لعمله قدراً، ويعقد رجاءه وأمله وحسن ظنه بالله، ويذكرون عن شخص كان مسرفاً على نفسه، فحضرته الوفاة فبكى الحاضرون عنده، فقال: ما يبكيكم؟ قالوا: والله! نخشى عليك لأنك كنت وكنت، قال: أرأيتم لو عدت ورجعت إلى والدتي أكانت تحرقني بالنار، قالوا: لا والله، قال: الله أرحم بي من أمي، انظر الرجاء! والصديق بنفسه يقول: (والله! لو أن إحدى قدمي في الجنة، والأخرى خارجها ما أمنت مكر الله) .
إذاً: في هذه الكلمات التي علمه رسول الله إياها وهي تعليم لنا: بيان وتوجيه فيما ينبغي أن يعقد العبد مع الله من قوة الرجاء، ويجتهد بقدر ما استطاع لطلب المغفرة من الله.
(وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) متفق عليه.
انظروا الترتيب والمقابلة، (اغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم) ، وهكذا في الدعاء: الإنسان يسأل الله من أسمائه الحسنى بما يتناسب مع حاجته؛ لأن الصديق طلب المغفرة والرحمة فقال: اغفر لي وارحمني إنك أنت غفور رحيم، ولم يقل: رزاق كريم، ولا قادر علي عظيم؛ لأن حاجته المغفرة، وكأن كل اسم من أسماء الله باب مفتوح للخير، فتطرق ذلك الباب بتلك الصفة وبهذا الاسم.
وبالله تعالى التوفيق.(68/8)
كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [13]
الدعاء هو العبادة، والصلاة هي الدعاء؛ ولذا شرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته أدعية كثيرة في الصلاة، منها ما يكون في كل صلاة، ومنها ما يمكن التناوب في الإتيان به، وعلى كل مسلم الحرص على الإتيان بها؛ لأن الدعاء خير كله.(69/1)
شرح حديث: (اللهم إني أعوذ بك من البخل ... )
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله؛ والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بهن دبر كل صلاة: اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من أن أُرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر) ، رواه البخاري.(69/2)
تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم من الجبن والبخل
تقدم الكلام على طرفٍ من هاتين الخصلتين المقترنتين: البخل والجبن، وتبيّن لنا أن البخل من أشد الأدواء، ويذكر بعض الناس عوامل قد تطرأ على الإنسان تُبخله، إما كثرة عيال وإما قلة المال، ولكن الحد الوسط في هذا هو: ألا يمتنع عن حق شرعي يتعلق بالمال؛ فإذا كان يؤدي حقوق الله فيما في يده من المال من زكاة أو مساعدة ضعفاء أو إحسان إلى الجار أو صلة ذي رحم؛ فلا يقال: إنه بخيل، ولكن إذا كان يمسك عن الواجب الذي أوجبه الله عليه شحاً بماله فهذا هو البخيل، كما أن الإسراف هو: أن يُبذر المال في غير وجهه، كأن ينفقه في أدوات لهو أو لعب، أو ما لا يجوز له شرعاً، أو يعطيه السفهاء يبذرونه ويضيعونه، فهذا تبذير ولا يجوز.
وكلا طرفي الأمور ذميم إفراط أو تفريط هذا مذموم، لكن توسط واعتدال هذه هي الفضيلة.
أما الجبن: فيرى بعض الناس أنه لا يستطيع الجبان أن يتكلف الشجاعة، ولا أن يتدرب ويكتسبها، قد يستطيع البخيل أن يتخلص من بعض شدة الشح عليه ويبذل، ولكن الجبن غريزة ذاتية لا يستطيع أن ينفك عنها، ويذكرون عن حسان رضي الله تعالى عنه الجبن، وهو الذي يُظهر الشجاعة في أشعاره، وهو القائل: عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء يتهدد قريشاً، وهو لا يستطيع أن يقتل إنساناً، ويذكرون في غزوة الخندق لما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخرج بالصحابة إلى حفر الخندق، خافوا على النساء والأطفال من اليهود؛ لأنهم كانوا لا زالوا موجودين، وكان لـ حسان حصن منيع؛ فجمعوا النساء والأطفال في ذلك الحصن، ولفت نظر صفية رضي الله تعالى عنها أن رأت يهودياً يطوف بالحصن، فقالت لـ حسان: هذا يهودي يطوف بالحصن أخشى أن يطلع على ثُلمة فيؤذينا، انزل إليه فاقتله، فقال لها: ما أنا هناك يا ابنة عمي! وهي خافت على من عندها، فاحتزمت واعتجرت عمامة، وأخذت خشبة، ونزلت وترصدت به، فضربته على رأسه فقتلته، ثم قالت لـ حسان انزل وخذ سلبه، والله ما منعني أن آخذ سلبه إلا أنه رجل، قال: لا حاجة لي بسلَبه، فهذه حالة ما استطاع أن يتخلص منها.
ويذكرون في بعض مواقف الشجعان أن الشخص يكون من أشجع خلق الله، لكن في البداية قد يكون من أجبن خلق الله، فإذا ما زج به إلى الخطر كان كالأسد الهصور، ويقولون: إن بعض الصحابة كان في بعض الغزوات، وحاصروا أهل تلك الجهة، فإذا بهذا الشخص يقول: لفوني في لفائف وألقوا بي إلى العدو، فلما لفوه في اللفائف، أحدث على نفسه من شدة الخوف، ولكن لما ألقوا به وراء السور قام وقاتل العدو حتى فتح الباب للمسلمين، فهذه مسائل هبة لا يستطيع إنسان أن يتحكم فيها، ولا ينبغي أن يُعاب على إنسان ابتلي بشيء غريزي لا يستطيع أن يتخلص منه.
والذي يهمنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم تعوذ من هاتين الخصلتين مما يدلنا على أنها صفات مذمومة، ولكن يقول العلماء أو الأدباء -وهو عجيب-: البخل والجبن منقصة في الرجال ممدحة في النساء، ما كان نقصاً في الرجال يعابون به، فهو مدح في المرأة، كيف هذا؟ قالوا: المرأة البخيلة تحفظ مال زوجها في غيبته؛ لأنها تشح به، والمرأة الجبانة تخشى أن تخرج من بيتها فتبقى في بيتها، إذاً: الرجل البخيل مذموم، والمرأة البخيلة ممدوحة، وليس فقط بخيلة على عيالها أو زوجها، بل تكون بخيلة على الأجانب، وكذلك الرجل الجبان مذموم؛ لأنه يجب أن يكون شجاعاً ويقاتل ويحمي عرضه وماله ووطنه، إلى غير ذلك، والمرأة الجبانة هذه صفة مدح فيها؛ لأنها تخشى على نفسها أن تخرج ليلاً، أما في النهار فهي تحت أعين الناس، أما في الليل فالمرأة الجريئة تخرج ولا تدري ماذا يصادفها، إذاً: هما خصلتان مذمومتان في الرجال ممدوحتان في النساء.(69/3)
الاستعاذة من أرذل العمر
الخصلة الثالثة التي كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله منها، هي: أن يُرد إلى أرذل العمر، أي: يمضي به العمر، وامتداد العمر يرد الإنسان إلى أوله؛ لأن من وصل إلى أرذل العمر، يصبح قليل الإدراك، قليل القوى، ضعيفاً كالطفل سواء بسواء؛ فإذا وصل إلى ذاك الحد كان امتداد العمر به ومضيه به إلى الأمام كأنه في حلقة بدأ بالصفر وهو طفل لا يعي شيئاً، ومشى في الدائرة حتى جاء إلى القمة؛ فكان في قوته ومنعته وذكائه وفطنته بلغ جهده كاملاً، ثم بدأ ينحرف مع الدائرة حتى إذا وصلت به إلى نقطة البداية رد إلى ما كان عليه في ضعفه لا يفقه شيئاً، والشخص إذا كبر لا يحسن التصرف، وربما يبكيه الشيء القليل كالطفل، ولا يستطيع أن يُحكم أمره، ويكون في حاجة إلى قوامة عليه في أكله وشربه وما يحتاجه، فاستعاذ صلى الله عليه وسلم أن يمتد به العمر إلى أن يواصل السير حتى يعود إلى ما كان عليه في بداية عمره، وهي حالات الطفولة، وإذا كان الأمر كذلك، فطول العمر مذموم: (خيركم من طال عمره وحسن عمله) ، ما دام أنه في حسن العمل فالحمد لله، وإذا وصل إلى حد يسقط عنه القلم لا يُحسن أن يصلي ويعقل أو يصوم ولا يدرك أن يزكي؛ فحينئذ لا يوجد عمل، ويكون طول العمر حينئذ عبئاً عليه، ونسأل الله السلامة والعافية.
والعمر رزق من عند الله، وليس لأحد فيه تصرف، ربما نسمع أن بعض الأشخاص تجاوز المائة، وهناك من عاش إلى مائة وخمسين إلى مائتين إلى ثلاثمائة سنة، ولا نبعد فنوح عليه السلام ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعو قومه فقط، وقبل هذا كم؟ لا نعلم، ويقولون: كلما طال الزمن كلما قصرت الآجال، فكانوا في السابق يعيشون المائة والمائتين والثلاث والأربع، والآن تقاصرت الأعمار، والله تعالى أعلم.
يهمنا في هذا: إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستعيذ من تلك الحالة، إذاً: وأنت في شبابك أو شيخوختك وقواك يجب أن تعمل؛ لأنك لا تدري فربما يمتد بك العمر حتى لا تستطيع أن تعمل؛ ولهذا كانت استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الصفة، والله تعالى أعلم.(69/4)
الاستعاذة من فتنة الدنيا
وقوله: (وأعوذ بك من فتنة الدنيا) ، كان يستعيذ صلى الله عليه وسلم من فتنة الدنيا، والفتنة الأصل فيها الوضع في النار، يقولون: فتنت الذهب، أي: أدخلته النار ليتميز الصافي والخالص مما علق فيه من معادن أخرى أو تراب أو غير ذلك، فالفتنة انتقل استعمالها إلى الشدة التي تظهر حقيقة الإنسان، وفتنة الدنيا يذكرون لها مجالات عديدة: إما في المال أو الأولاد أو التقاصر في العمل كل ما يمكن أن يشغل الإنسان عن واجبه فهو فتنة، فقد يكون الإنسان في مال، وولد، ومنصب، وعافية، وكل هذا امتحان وفتنة.
هل يكون في تلك الحالات محافظاً على الواجب مؤدياً لحق الله؟ أو هل ما بيده يزيده شراً ويتعدى به حده فيطغيه؟ بعضهم بالعافية يطغى على الضعيف فيؤذيه، أو بالمال يطغى ويتطاول على الفقراء، وبالجاه يتطاول ويزدري الآخرين، وهكذا.
وتقدم لنا في تفسير قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155] ، أن هذا ابتلاء، وقد يكون الابتلاء أيضاً بالغنى، ليس بالنقص وإنما بالزيادة، والابتلاء بالزيادة أشده، سمعنا شيخنا الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول فيه: علماؤنا يقولون: الفتنة بالغنى وبالصحة أشد ابتلاءً على الإنسان من الفتنة بالفقر والمرض لأن الفقير والمريض، لا يدري ما يفعل، لكن الفتنة بالصحة وبالمال شديدة، وذاك الذي يقول: إن الشباب والفراغ والجِدة مفسدة للمرء أي مفسدة لم يقل: الهرم ولا الفقر، لا، إن الشباب والفراغ والجِدة بمعنى المال، شباب ومعه مال ومتفرغ، وليس معه شيء يضيع وقته فيه، ولا يصرف قوة شبابه فيه، معناها: أنه يعود على الناس بالبطش وبالإيذاء، والله سبحانه وتعالى بيّن {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-7] .
إذاً: كان صلى الله عليه وسلم يتعوذ من فتنة الدنيا سواء بعرض من أعراضها أو بأي حالة من حالاتها، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يقينا وإياكم فتنة الدنيا.(69/5)
الاستعاذة من عذاب القبر
قوله: ( {وأعوذ بك من عذب القبر) .
تقدم بيان الاستعاذة من عذاب القبر وفيه إثبات وجود عذاب القبر بالفعل، والنصوص قد تقدمت في هذا، ومنها الإشارة من كتاب الله، وتقدم هذا الأمر بما يغني عن إعادة الكلام فيه.
ودائماً وأبداً يا إخوان! إذا وجدنا مقترنات متعددات مختلفة جاءت في حديث نبوي، ونعلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم والحكم؛ فلو تأملنا في تلك المتعددات التي جاءت في نسق من حديث رسول الله نجد بينها ارتباطاً، وقد أشرنا إلى ما يقوله العلماء من الارتباط بين البخل والجبن؛ لأنهما مقترنان لا ينفكان؛ فكل بخيل جبان وكل جبان بخيل، بخلاف الشجاع والكريم، كل شجاع كريم، وكل كريم شجاع، ثم بعد ذلك أُرد إلى أرذل العمر؛ لأن الرد إلى أرذل العمر يجعل الإنسان في حالة لا يعي شيئاً مما حوله، وهو كالذي جمع البخل والجبن سواء، ثم يأتي بعد هذه الأشياء التعوذ من فتنة الدنيا سواء كانت في المال بالتبخيل أو بالتبذير والتعدي، أو كانت في الجبن من التقصير من الواجب أو التهور في التعدي على الآخرين، فجاء التعوذ من فتنة الدنيا ليعم كل ما تقدم، ثم جاء التعوذ من عذاب القبر لأنه النهاية، وهو البرزخ بعد الحياة.(69/6)
شرح حديث: (كان إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً ... )
قال رحمه الله: [وعن ثوبان رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته: استغفر الله ثلاثاً، وقال: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام!) ، رواه مسلم.
] .
قوله: (استغفر) الهمزة والسين والتاء للطلب، مثل استنجد: طلب النجدة، واستعاذ: طلب العوذ واللواذ، واستغفر: طلب المغفرة.
كنا في الصلاة في مناجاة مع الله: حمدنا وشكرنا وركعنا وسجدنا وقرأنا وسألنا كل ما يمكن من العبادات تكون في الصلاة، والاستغفار: طلب المغفرة، وطلب المغفرة إنما يكون من خطيئة أو ذنب، أين الخطيئة، وأين الذنب الذي حالاً نستغفر منه؟ يرى بعض العلماء بأن الاستغفار مباشرة عقب الصلاة تتمة لأمر الصلاة؛ لأن المطلوب في الصلاة أن العبد يكون في رحلة مناجاة مع الله، وقد جاء عن بعض السلف: أنه كان يغيب عن وعيه عما حوله إذا دخل في الصلاة، ويجمع كل إحساسه ومناجاته في صلاته، ويقولون عن علي بن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهم: كان يصلي، وبعد ما انتهى من الصلاة نظر فإذا غبار في جانب من المسجد، قال: ما هذا الغبار؟ قالوا: ألم تعلم؟ قال: ما الذي حصل؟ قالوا: جدار المسجد سقط، يسقط جدار المسجد الذي هو فيه وهو لم يشعر، لماذا؟ كان في مجال آخر، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (إن في الصلاة لشغلاً) ، أي: تشغل الإنسان عن كل ما حوله، ويذكرون عن عروة بن الزبير -ولم أجدها في ترجمته- أنه لما سافر إلى معاوية بالشام أصيب بجرح، ودخلته الغرغرينة إلى أن جاءه الطبيب وقال: لابد من قطع القدم؛ لئلا يسري الداء إلى الجسم فيقتلك، وفي بعض الكتب أنه قال: ائتوا به لكي نبنجه قال: لماذا؟ قال: حتى تغيب عن وعيك فنقطع رجلك، فرفض، وقال للطبيب: اقض عملك، فقطعوا رجله دون أن يبنجوه، ولم يتأوه، ولا مرة، وبعضهم يقول: كان معه بعض أولاده، فقال لهم: تريدون قطعه؟ قالوا: نعم، قال: انتظروا حتى يدخل في صلاة، فإذا دخل في صلاة فشأنكم برجله فلن يشعر بكم، وفعلاً تركوه حتى كبر للصلاة وجاءوا بأدواتهم ونشروا ساقه، ولم يقل لهم شيء، حتى انتهى من الصلاة فإذا برجله بجواره، قال: ما هذا؟ قالوا: رجلك الذين نريد أن نقطعها، قال: متى؟ قالوا: وأنت في الصلاة، أعتقد أن مقاييسنا لا تحتمل هذا، وأي ميزان في العالم له طاقة خمسين كيلو لو وضعت عليه زيادة لابد أن يخسر ويفسد، فموازيننا العقلية لا تتحمل هذا، كيف نقيس بها ذلك؟ ولو وجدت شوكة أو إبرة وأنت في الصلاة لابد أن تشعر بها.
إذاً: هذه أمور يمنحها الله سبحانه وتعالى من شاء من عباده حتى يكونوا في حالات الله أعلم بها، وكما قال عمر بن عبد العزيز أو غيره: إذا أردت أن تدخل على ربك بغير استئذان وتخاطبه بلا ترجمان: فأسبغ الوضوء، واستقبل القبلة، وكبر للصلاة، الآن عندما دخلنا المسجد استأذنا من؟ لا أحد، فقط قلنا الدعاء المأثور: (باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنبي، وافتح لي أبواب رحمتك) فكبرتَ وقرأتَ، وكل مسلم يتعين عليه أن يقرأ الفاتحة بالعربية، لكن غير العربي في الأدعية هل يتعين عليه أن يدعو باللغة العربية؟ إن لم يستطيع فبلغته، خاطب ربه بدون ترجمان، ويكون الصف فيه مئات الأشخاص يدعون بمئات اللغات، ولا يحتاج الإنسان مع الله إلى ترجمان؛ لأنه منه إلى ربه.
فإذا كان الأمر كذلك، فيعلمنا صلى الله عليه وسلم: أنه يقع من الإنسان بعض التقصير في حق الصلاة سواء من كمال خشوعه وخضوعه فيها أو من سهو عن بعض سُننها أو شروطها أو لوازمها؛ فحينما يفرغ منها ويخشى أن يكون هناك تقصير ما الذي يجبر هذا التقصير؟ ليس شيئاً معيناً كسجود السهو، ولكن أشياء لا تدخل في الجبران التشريعي التكليفي، وإنما تدخل في الجبران الروحي المعنوي، فلكأن النبي صلى الله عليه وسلم بتشريعه للاستغفار عقب الصلاة إنما يرشد إلى أن ما كان من تقصير في الصلاة، تسريح في الذهن أو غير ذلك فإنما يجبره الاستغفار؛ فهو يستغفر الله عما كان منه من ذلك التقصير، وإلا فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو سيد الخلق وسيد الخاشعين والمتواضعين لله يقول: (إني أدخل في الصلاة، وأريد أن أطيل، فأسمع بكاء الطفل، فأخفف شفقة أمه) ليس جدار يطيح ولا يدري عنه، لا، طفل يبكي عند أمه فيسمعه ويدرك بكاءه، فيخفف شفقة على الأم، وتلك أمور نادرة، ولكن التشريع هنا للاستشعار بأن الاستغفار عقب الصلاة هو جبران لما يكون من تقصير فيها، والله تعالى أعلم.
ويقول بعض العلماء: لا يمكن لإنسان أن يصلي ركعتين دون أن يقع منه تقصير فيها ويذكرون مثالاً لذلك: أن شخصاً جاء إلى أبي حنيفة رحمه الله وقال: أنا كان لي مال ودفنته ثم نسيت أين دفنته، ماذا أعمل؟ أبو حنيفة هل كان يعلم الغيب أو سينجم؟ لا، لكن بفقهه قال: إذا كان ثلث الليل الأخير؛ فقم وتوضأ وصل ركعتين، وأخلص فيها النية لله، ولا تحدثن نفسك ولا بشيء، ثم بعد ذلك تأتيني، وفي الغد جاء وقال: جزاك الله خيراً، قال: ما بك؟ قال: وجدت المال، الحاضرون عجبوا من هذا، وقالوا: كيف وجده؟ كيف أرشدته إلى هذا؟ قال: إن الشيطان لن يدعه يمضي في صلاة من هذه النوعية، ويهون على الشيطان أن يعثر على المال بدلاً من أن يصحح ركعتين بهذه الصفة، فلما استمر في صلاته جاءه الشيطان، وقال: أنت دفنته في المحل الفلاني، ولما يتذكر موضع المال هل سيستمر في ذلك النوع من الصلاة؟ لا، فذهب ووجد المال.
ويقولون: إن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: (إني لأجهز الجيوش في الصلاة) ، يعني: أفكر فيها، وهو والله لا يلام؛ لأن عشرات الآلاف من المسلمين يخرجون من المدينة إلى أقطار الدنيا، كل يحمل روحه في كفة، والدين في كفة ابتغاء وجه الله، من يتحمل مسئولية هؤلاء؟ ووجدنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم في بدر كان يرفع كفيه إلى السماء ويناجي ربه ويناشده حتى يسقط الرداء عن كتفيه ويقول: (اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبد في الأرض) ، فهل كان يبتهل لنفسه أو من أجل تلك العصابة؟ بل من أجل غيره، وبعض الناس كلموه، فقال: من منكم يصلى ركعتين لا يُحدث فيهما نفسه فله فرسي الفلاني، فقام شخص وأخذ يُجرب، فذهب ومن غد جاء وقال: يا أمير المؤمنين! أنا فعلت، قال له: كيف؟ قال: قمت وأنا خالص النية وليس على بالي شيء، ولكن قبل أن أسلم فكرت: عندما آخذ الفرس ماذا سأفعل به؟ أنا لست فارساً حتى أقاتل عليه، وليس عندي كلفة الفرس، وكلفة الفرس أكثر من كلفة الإنسان، قال له: هذا من التفكير في الصلاة.
إذاً: حينما يدخل الإنسان الصلاة ويخرج منها يستشعر بأن هناك بعض النواقص، ويمكن أن يشهد لهذا المعنى الذي ذهب إليه العلماء: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن أول ما يُنظر في عمل العبد من الحقوق الدماء، ثم من العبادات الصلاة، فإذا كان هناك نقص على العبد في صلاته من غفوات وقعت منه، فيقول المولى سبحانه للملائكة: (انظروا هل لعبدي من نوافل؟ فيقولون: نعم، له نوافل، فيقول: اجبروا فريضته من نافلته) ، وعلى هذا المقياس يكون الاستغفار جبراً لما كان من نقص في صلاته، والله تعالى أعلم.
(اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام) .
هذا الذكر المبارك لعله يوحي به السلام في الصلاة، وأيضاً حينما فرغ من صلاته سيتجه إلى دنياه فيطلب السلامة، (أنت السلام، ومنك السلام) ، وأسألك السلامة في ديني ودنياي وكل أحوالي (تباركت يا ذا الجلال والإكرام) ، يا ذا العظمة والكبرياء، فيه كل معاني العظمة لله سبحانه وتعالى.(69/7)
شرح حديث: (من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين ... )
قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين؛ فتلك تسع وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، غفرت له خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر) رواه مسلم، وفي رواية أخرى: (أن التكبير أربع وثلاثون) .
] .
تقدم هناك قراءة آية الكرسي ومعها: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، وهنا التسبيح والتحميد والتكبير دبر كل صلاة؛ فلا مانع أن يكون كلا الأمرين بعد الصلاة، والأنسب أن يُقدم آية الكرسي و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ؛ لأنها نص من القرآن، وجاء في حقهما: (لا يمنعه من دخول الجنة إلا الموت) ، وهنا كذلك: كان يتعوذ بأربع كلمات دبر كل صلاة) ، فسواء قدّم هذا أو أخر هذا، المهم أن يكون الجميع بعد الصلاة لا في حالة الصلاة ولا بعد الانصراف عن مكانه.
هذا الذكر المبارك: (من قال دبر كل صلاة: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر) ، وإذا وجدت متعددات في نسق واحد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أن بينها مناسبة.
(سبحان الله) ، ما معنى التسبيح؟ تقول كتب فقه اللغة: أصل المادة السين والباء والحاء، سَبَحَ، والألف والنون زائدتان كما هما في عثمان، وأصل مادة سَبَحَ إنما هي حركة الإنسان في الماء، وحركة الإنسان في الماء لأي شيء؟ إذا ألقينا بإنسان في نهر فلكي لا يغرق ماذا يفعل؟ يسبح، ولو لم يستطع فإنه يحاول السباحة، فقالوا: كذلك العبد حينما يقول: سبحان الله، كأنه يُسبح الله ويبعد عن ذاته سبحانه كل ما لا يليق بجلاله، أو هو يسبح في بحر المعرفة وتقديس المولى عن كل نقص؛ ليسلم من مهلكة الشرك والنقص في حق الله، وعلى كلا الأمرين؛ فإن سبحان الله، معناها: أُنزه الله وأُقدس الله من كل عيب أو نقص، فبقولك: سبحان لله نفيت عن ذات المولى سبحانه كل ما يمكن أن يكون فيه نقص لله، وبعد التنزيه تأتيه بالحمد والثناء، وهو المحمود لكمال ذاته لا لشيء يصدر منه لك أو لغيرك، ولذا يقولون: اللغة فيها الحمد والمدح والثناء، والكل ذكر للمحمود والممدوح والمثني عليه بالخير، ولكن الثناء إنما يكون لمن أصابك منه خير، والمدح يكون لإنسان نبغ وفاق وتفوق على أقرانه في مجاله، فتمتدح مخترعاً ولو كان غير مسلم؛ لأنه اخترع ما ينفع الإنسانية، وتمتدح طبيباً ماهراً أجرى عملية دقيقة خطيرة، وتمتدح مهندساً قدم شيئاً نادراً ممتازاً في مهنته، ولكن من أسدى إليك نعمة تثني عليه، وتشكره على ذلك، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله؛ فإذا طبيب عالجك تشكره على معالجته لك، أما طبيب حاذق فتمدحه وتثني عليه لحذقه ونجاحه في عمله، وأما الحمد فلا يكون مقابل نعمة أسداها إليك، ولا بسبب فعل نادر تفوق به على غيره، وإنما يكون لكمال ذات المحمود في ذاته، ولو لم يصلك منه شيء أو يصدر منه لغيره شيء، فهو في ذاته محمود، وهذا لا ولن يكون إلا لله؛ لأن ما عداه فهو ناقص، وما عداه يثنى عليه أو يمتدح لجزئية في حياته، وقد يكون فيه عيوب من جهات أخرى عديدة.
إذاً: بالجمع بين (سبحان والحمد لله) جمعت أطراف التوحيد للمولى، وكما يقول الأصوليون: درء المفسدة مقدم، لذا بدأت بتنزيه الله عن كل نقص أو عيب، ثم جئت بالحمد والثناء عليه؛ فتكون جمعت للمولى سبحانه كل أنواع التوحيد من نفي ما لا يليق بجلاله، وإثبات جميع المحامد له، وبهذا تأتي بعد ذلك بـ: (الله أكبر) ، ومن اجتمعت له كل معاني التنزيه والمحامد فلا أكبر منه، فهو أكبر بالأمرين.
فإذا جئت بهذه الأعداد المنصوص عليها -تسعة وتسعين- وهي وتر، وختمت المائة بالذكر الجامع: لا إله إلا الله- كنت ممن جمع التنزيه والتحميد والكبرياء والكمال لله وحده، وبهذا تكون ألممت بكل ما يتعلق بتوحيد المولى سبحانه وتعالى.
وهنا نجد المحققين من العلماء يقولون: ائت بهذا العدد ثلاثاً وثلاثين، ولو جئت بأربعة وثلاثين من كل واحدة أو بخمسة وثلاثين قال لك: لا؛ لأن الدعاء توقيفي، والذكر المحسوب بالعدد توقيفي ولا يحق لك أن تزيد فيه، كما لا يحق لك أن تنقص منه، فقالوا: التركيب العددي في الذكر الوارد كالتركيب المادي في الدواء، الصيدلي يكتب له الطبيب: ركب الدواء من المواد الفلانية الثلاثة: من الأول عشرة جرام، ومن الثاني ثمانية، والثالث خمسين.
لو زاد جراماً أو أنقص أفسد الدواء، وهكذا يقول لك الطبيب: ملعقة في الصباح، وملعقة في الظهر، وملعقة في المساء.
لو أخذت ملعقة في الصبح وملعقة في المساء نقصت فعالية الدواء، ولو أخذت ملعقتين ملعقتين زاد الدواء على مفعولية الداء وقد يضرك، وعلى هذا يقول ابن دقيق العيد: هذا الذكر الوارد بالعدد المعين يجب أن تلتزم به ليؤدي النتيجة التي رتبها عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وفي غير هذا التركيب لك أن تقول: سبحان الله ألف مرة ألفين، لا أحد يمنعك تقول: الحمد لله، مائة ألف مرة، لا أحد يمنعك، الله أكبر، تقولها طول عمرك لا أحد يمنعك من ذلك كله، لكن لا تنتظر النتيجة التي رتبها النبي صلى الله عليه وسلم على هذا العدد المعين، إن كنت تريد النتيجة المرتبة على عدد معين فيجب أن تلتزم بهذا العدد، ولا تزيد فيه ولا تنقص منه، والله تعالى أعلم.
(له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) .
تقدم نظير هذه الجملة.
(غُفرت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر) .
النتيجة المترتبة على هذا الذكر ما هي؟ (غفرت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر) ، زبد البحر يعرفه الذين يعيشون على السواحل، حينما يضطرب الموج تجده يأتي مع اضطرابه إلى الساحل بزبد لا يعلم قدره إلا الله، فلو كانت ذنوب الإنسان كزبد البحر -وهي من الرغاوي التي تكون على وجه الماء من تفاعله- لغُفرت بهذا الذكر المركب بهذا العدد المعين، ونظير هذا الحديث: لما جاء فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور، وبالدرجات في الجنة، قال: وما ذاك؟ قال: يُصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضل أموالهم، ولا مال عندنا) يعني تساوينا في العبادات البدنية، وهم زادوا عنا في العبادات المالية، قال: (ألا أدلكم على ما إن فعلتموه تزيدون عليهم، ولا يكن مثلكم إلا من صنع صنيعكم؟ قالوا: بلى، قال: تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وتختمون المائة بلا إله إلا الله ... ) إلى آخره، فذهبوا حين قال لهم هذا، وهذه عملة جديدة، وسيحصلون منها على أجر كما يحصل الأغنياء على أجور من أموالهم، فأصبحوا يقولون مثلهم، يعني رجعنا وتساوينا ولا زالوا هم مفضلون ببقايا أموالهم.
انظروا الحكمة النبوية اللطيفة هذه، كان ممكن يعطيهم ذكر طيب ولكن إلى متى، أليس كل ما يعطيهم سيصل إلى الآخرين ويقولونه، فحسمها، وقال: (ذلك فضل الله) ، كونه أعطاهم مالاً زائداً فهذا فضل منه، وكونه يعطيهم ثواباً على الذكر كما يعطيكم هذا فضل الله، وما دام أنه فضل الله فلا أحد له دخل: (لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت) .
ولكن هل يقصر الأمر على الفقراء لقلة مالهم؟ لا والله، إنهم ليحصلون على الأجر بنيتهم في رغبة الإنفاق، ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الدنيا لأربعة: رجل أعطاه الله مالاً وأعطاه علماً؛ فهو يعرف حق الله في المال، ويؤدي حق الله فيه فهو في أعلى عليين) أعطاه الله مالاً وعلماً، ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا؛ فهو في أعلى عليين: (ورجل أعطاه الله علماً ولم يعطه مالاً فقال: لو أن لي مالاً لفعلت فيه كما يفعل فلان، فهو معه سواء) معه في المرتبة بالنية، (ورجل أعطاه الله مالاً ولم يعطه علماً؛ فلا يعرف حق الله فيه؛ فهو في أسفل السافلين) لأنه ضيع حق الله في المال، ولم يتعلم حق الله، ولم يؤد حق الله، (ورجل لم يعطه الله مالاً ولا علماً، فقال: لو كان بيدي مال لفعلت فيه كما يفعل فلان؛ فهو معه سواء) فالثاني أدرك الأول بالنية، والرابع أدرك الثالث بالنية، والحديث العام: (إنما الأعمال بالنيات) .
إذاً: هؤلاء رغبوا في أن يكون لديهم المال وأن يتصدقوا كما يتصدق الآخرون، ولكن لم يعطهم الله؛ فهم على نياتهم يؤجرون بفضل الله.
وفي رواية أخرى: (أن التكبير أربع وثلاثون) .
تكون التكبيرة أربع وثلاثين لتكمل المائة، أو أن يختم المائة بلا إله إلا الله، وهذه أولى؛ لأنها ذكر زائد، وهي تتناسب مع ما تقدم من التنزيه والتحميد والتكبير؛ فتكون لا إله إلا الله أجمل وأشمل، وزيادة في المعنى وأرجح في الرواية، والله تعالى أعلم.
أيضاً يا إخوان: جاء أن هذا الذكر يقوله الإنسان مجموعاً أو مفرقاً، في بعض الروايات: (سبحان الله والحمد الله والله أكبر ثلاثاً وثلاثين) ، يعني: يأتي بالألفاظ الثلاثة مجموعة في جملة، أو أن يأتي بكل لفظ على حدة ثلاثاً وثلاثين، والثاني: هي الرواية الراجحة، والله سبحانه وتعالى أعلم.(69/8)
كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [14]
رغم أن الصلاة هي من أعظم الذكر إلا أنها أتبعت بأذكار أخرى عظيمة، منها: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) ، وأعلى منه شأناً وجلالاً: آية الكرسي بما تحمله من صفات وأسماء لله جل وعلا، وكلها تشعر بعظمة وكبرياء المولى سبحانه وتعالى.(70/1)
شرح حديث: (اللهم أعني على ذكرك ... )
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة على رسول الله، وعلى آله وصحبه وبعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (أوصيك -يا معاذ -: لا تدعن دُبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك) ، رواه أحمد وأبو داود والنسائي بسند قوي] .
حديث معاذ رضي الله تعالى عنه من النصوص الواردة في الذكر بعد الصلوات الخمس.(70/2)
ترجمة معاذ بن جبل
ومع أننا لم نتعرض لأحد من الرواة ولكن معاذاً له شأن خاص به، وفي مقدمة هذا السياق: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: (يا معاذ! إني أحبك، وأريد أن أوصيك، فقال معاذ رضي الله تعالى عنه: وأنا والله أحبك -يا رسول الله- فأوصني) ، فقول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (أحبك) ، تعطيه خصوصية، وقد أفرده النبي صلى الله عليه وسلم بصفة كما أفرد غيره، فقال صلوات الله وسلامه عليه: (أعرفكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل) ، ومعاذ كان يُعتبر بعثة تعليمية متنقلة، ولقد أقامه النبي صلى الله عليه وسلم لأهل اليمن يعلمهم الإسلام، وفي خلافة عمر رضي الله تعالى عنه كتب زيد من الشام إلى أمير المؤمنين عمر: إن أهل الشام في حاجة إلى من يعلمهم دين الإسلام، فأرسل إليه معاذ بن جبل.
وتجدون ذلك في الموطأ في باب المتحابين في الله، فيروي مالك عن شاب يقول: دخلت مسجد دمشق، فوجدت شاباً براق الثنايا يجتمع الناس عليه، ويصدرون عن رأيه، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا معاذ بن جبل، فبكرت من الغد إلى المسجد فوجدته قد سبقني إليه وهو قائم يصلي، فجلست حتى صلى فسلمت عليه وقلت: إني أحبك في الله، فجذب بردائي وقال: اجلس، آلله ما أحببتني إلا في الله؟ -يعني: والله ما أحببتني إلا في الله- قلت: آلله أحببتك في الله، قال: أبشر، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر بالجنة للمتحابين في الله) .
فـ معاذ رضي الله تعالى عنه أحبه رسول الله، ومع ذلك أدركته فاقة ولحقته ديون؛ فاستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم لعله يصيب من أجر العمالة ما يُسدد دينه.
يهمنا في هذا الحديث: قول الرسول صلى الله عليه وسلم له: (إني أحبك) ويكفي ذلك فضلاً لـ معاذ أن الرسول يحبه، وكما جاء في مثل هذا المعنى في غزوة خيبر لما استعصى حصن مرحب، ورجعوا متأثرين، فقال صلى الله عليه وسلم: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يقول عمر: فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، ويقول عمر وهو محل الشاهد: والله! ما تطلعت نفسي لرئاسة ولا لإمارة إلا تلك الليلة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ويحبه الله ورسوله) ؛ لأن هذا ليس بالأمر الهين، ومع هذه المحبة يقول له: (أريد أن أوصيك) ، فهو أعلن من جانبه أيضاً: (وأنا والله يا رسول الله أحبك) ، وكون معاذ يحب رسول الله هذا أمر واجب، (والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين) {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا} [التوبة:24] ، ولا ينبغي أبداً أن يقدم محبة مخلوق عرضاً كان أو أصلاً، إنساناً أو مالاً؛ على محبة رسول الله؛ لأن محبة رسول الله هي معيار الإيمان.(70/3)
طلب العون من الله للعبد في العبادة
قال: (أوصني، قال: أوصيك إن استطعت -يعني بقدر ما تستطيع- ألا تدع -بمعنى: لا تترك- أن تقول دبر كل صلاة: اللهم أعني) تطلب العون من الله على ماذا؟ (أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) .
المتأمل في أكثر الأدعية والأذكار الواردة عقب الصلوات يجدها مرتبطة بجزئيات في صلاته، فالتسبيح والتحميد والتكبير، والاستعاذة من النار ومن عذاب القبر ومن فتنة ومن ومن، وكذلك افتتاحية صلاتك بالفاتحة، ففي سورة الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ، (أعني على) أعني: بمعنى الاستعانة، استعن بالله على ذكره، إياك نعبد، فهي جزء من الصلاة في الفاتحة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، وما لم يكن هناك عون من الله للإنسان على طاعته وعبادته فليست هناك فائدة، فلا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول عن معصية، ولا قوة على طاعة إلا بالله سبحانه.
(أعني على ذكرك) والصلاة من الذكر، أي: استعن بالله على الحفاظ على الصلاة، والصلاة عون هي بذاتها، قال الله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] .
(وعلى شكرك) شكر النعم بحسبها: تكون بالقول، وبالفعل، وبالقلب، وكما يقال: شكر النعمة عامل دوامها وحفظها، وبشكرها تدوم.(70/4)
الوسطية في العبادة
وقوله: (وحسن عبادتك) ولم يقل: وكثرة؛ لأن الكثرة قد تكون كغثاء السيل، وكما في الحديث: (تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وقيامكم مع قيامهم، لم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) ، والمولى سبحانه يقول: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] ، ليس أكثر، فالنتيجة ليست بالكثرة، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم كره الكثرة؛ لأنها قد تؤدي إلى الملل ثم العجز.
كما في قصة النفر الثلاثة الذين تساءلوا فيما بينهم: نحن مقصرون، فلنذهب ونسأل أم المؤمنين عن عبادة رسول الله في بيته؟ فسألوها، فقالت: في الليل يقوم وينام، وفي النهار يصوم ويفطر، ويأتي زوجاته، قالوا: هذه حالة عادية، لا، إنه عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأخذوا يتفاوضون، فشخص منهم قال: أنا أتخصص في الصوم، وشخص قال: أقوم فلا أنام، وشخص قال: أنا أعتزل النساء، هذا وأم المؤمنين تسمع، ولما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته بما وقع، فغضب وأسرع إلى المسجد يخطب: (ما بال أقوام يقولون ويقولون، أما والله! إني لأتقاكم لله، وأخشاكم لله، وإني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) لماذا؟ لأنه يعجز، وإذا عجز ترك الجميع، لا (إن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى) .
والرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه ورد عليه السلام وسكت، وكأن الرجل وجد شيئاً ما كان متوقعه، قال: (ألم تعرفني؟ قال: لا، قال: أنا الذي جئتك العام الماضي في كذا وكذا، قال: لقد تغيرت عما رأيتك من قبل، قال: مذ فارقتك لم أفطر يوماً! قال: أجهدت نفسك، صم وأفطر) ، وقال لآخر: (صم من الشهر ثلاثة أيام، قال: أطيق أكثر، قال: صم كذا، صم كذا، إلى أن جاء إلى صيام نبي الله داود) ، أخذه وبعد ذلك عندما كبر ثقل عليه، وقال: ليتني قبلت رخصة رسول الله من كل شهر ثلاثة أيام، إذاً: الكثرة غير مطلوبة، كما أن النقص غير مطلوب، والمطلوب الوسط: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل) ؛ لأن القليل مع الدوام خير من الكثير مع الانقطاع؛ ولذا كان المدار في الأعمال على الإحسان، ولذا نجد الترتيب والتدرج في تعليم جبريل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام للدين (أخبرني -يا محمد- ما الإسلام؟ خمسة أركان: شهادة وصلاة وصيام وزكاة وحج، ثم سأله عن الإيمان؟ ستة، وكلها أمور غيبية واعتقادية، الإيمان بالله وباليوم الآخر والكتب والرسل والقدر إلى آخره، أخبرني عن الإحسان؟ ركن واحد: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه -لعدم إمكانيتك لذلك- فهو يراك) ، فكان الإحسان هو الخاتمة.(70/5)
شروط صلاح العمل وإحسانه
وقوله في هذا الحديث: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) ، متى يكون العمل حسناً؟ هذا الذي ينبغي الحرص عليه، ويكون ذلك بثلاثة أمور: الشرط الأول: أن يكون مشروعاً مطابقاً لما جاء عن الله وعن رسول الله، فلا تأتي بعبادة لله من غير ما شرع الله، فيقول لك: أنا ما شرعت هذا، ولما تعبد الله بغير ما شرعه رسول الله يقول: أنا ما جئتك بهذا، إذاً: المبدأ الأول في صلاح العمل وإحسانه: أن يكون مطابقاً لما جاء عن الله وعن رسول الله؛ لأنها عبادة لله، فالله الذي تعبدنا هو الذي بيّن لنا كيف نعبده، وهل ندري ما يرضيه وما لا يرضيه؟ لا نعلم؛ فلما بيّن لنا وشرع لنا وأمرنا ووجهنا يجب أن نلزم ذلك، ومن هنا نعلم: أن كل من تعبد الله بغير ما شرع الله أو بغير ما سن رسول الله فهو خارج عن هذا الباب، ولذا يقول صلى الله عليه وسلم: (كل عمل ليس من أمرنا فهو رد) ، أي: مردود على صاحبه.
وإمام دار الهجرة رضي الله تعالى عنه يقول: (لن يصلح أمر آخر الأمة إلا ما أصلح أولها) ، فما كان عليه السلف الصالح من منهج في العبادة واقتصاد في العمل فهو المبدأ الأساسي.
الشرط الثاني: أن الإنسان يأتي بهذا العمل خالصاً لوجه الله، {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5] ؛ ولذا شرع أن يقول المصلي عقب الصلاة: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له) .
الشرط الثالث: أن يكون العمل صادراً من مؤمن لا منافق أو كافر؛ لأن الكافر قد يطعم المسكين، ويكسو العريان، ويبني الطرق والمدارس والمستشفيات، ولكن هل يُعد له عملاً صالحاً كما يعد للمؤمن؟ لا، وهل يضيع عمله؟ لا، فالله سبحانه وتعالى حكيم عليم، عادل لا يضيع أجر من أحسن عملاً؛ فإذا عمل الكافر عملاً قال له: لك عملك، ويعطيه ويعوضه في الدنيا بقدر ما أحسن فيها، أما في الآخرة {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] ؛ لأنه لم يكن على قاعدة، ولم يعمله إيماناً بالله، وإنما عمله مجاراة للناس أو لجلب مصالح، أو لأمر آخر؛ فيأخذ أجره عاجلاً.
فإذا اجتمعت هذه الشروط الثلاث كان العمل صالحاً حسناً.(70/6)
ملازمة العبد للذكر في كل حال
قوله: (اللهم أعني على ذكرك) الذكر يكون باللسان وبالعمل، والذكر في العمل يفسره قوله سبحانه في سورة الجمعة: {إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] ، ذكر الله النداء إلى الصلاة حي على الصلاة، وذكر الله الإمام الذي يصلي ويخطب، هذا كله ذكر الله، سعينا إليه، {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً} [الجمعة:10] .
وقد أشرنا فيما مضى بأن أشمل وأعم العبادات في الكون هو الذكر؛ لأنه العبادة التي لم تقتصر لا على ملائكة السماء، ولا على مؤمني الإنس والجن، بل اشترك فيها الجماد والنبات والحيوان، كما جاء العموم: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44] ؛ فهي تسبح بحمده سبحانه، وإذا جئنا إلى كل العبادات {أَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] ، سواء كان لتذكري أو كان لتذكرني فيها، فكلها من أولها من النداء إليها إلى الافتتاحية: (الله أكبر) ، إلى قوله: (السلام عليكم) ذكر لله، والصائم طول وقته يكون ذاكراً لله، وإن كان أبكم أو أصم؛ لأنه إذا صام في شدة الحر، والماء البارد عنده، ويده تمتد في الماء يتبرد، ويشتهي قطرة واحدة؛ فما الذي يمنعه وليس عنده أحد، ما الذي يمنعه؟ لأنه يذكر قول الله: (يترك طعامه وشرابه من أجلي) ، كذلك في الزكاة: يخرج المال بدون عوض، لماذا؟ لأنه يذكر الله، وينتظر العوض بسبعمائة، ومضاعفة إلى ما يشاء الله سبحانه، الحج من أوله: (لبيك اللهم لبيك) ذكر لله إلى أن تنتهي من طواف الوداع وأنت في ذكر لله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] (أفضل ما قلته أنا والنبيون في يوم عرفة: لا إله إلا الله ... ) إلى آخره، في السعي تذكر الله، في الطواف ذكر لله، حتى بعد رمي الجمرات: باسم الله، الله أكبر، إرضاءً للرحمن، وإرغاماً للشيطان، ليس هناك خطوة قدم واحدة في الحج إلا وفيها ذكر الله، إذاً: ذكر الله في جميع العبادات.
ولهذا كانت وصية الرسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه: (لا يزال لسانك رطباً بذكر الله) لا تجعل اللسان يفتر عن ذكر الله، وهذا لا يمنعك لو كنت صانعاً أن يبقى لسانك في فمك يذكر الله، وإذا لم تستطع بلسانك فبقلبك وهو مراقبة الله: {فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ} [الجمعة:10] ، إما باللسان: اجعل لسانك رطباً بذكر الله.
وإما في العمل: أنت ذهبت تسعى في طلب الرزق، وعملك فلاح تحرث الأرض، تضع البذرة باسم الله، وتدفنها، وتنتظر إنباتها من أين؟ تقول: يا رب أنبتها، طلع النبات.
يا رب تثمرها، طلعت الثمرة.
يا رب تحفظها، جاءت الثمرة.
يا رب تبارك فيها، فأنت دائماً على ذكر لله، وأشد الناس ذكراً لله الفلاح، ولو لم يكن متعلماً يضع الحبة ويرميها وهو لا يعرف على جنبها أو ظهرها أو بطنها، ثم تجد الحبة في بطن الأرض نبتت عودين عود إنبات وعود جذر، من الذي وجه الإنبات إلى سطح الأرض حتى يظهر، والجذر إلى بطن الأرض حتى يغوص فيها ويمتص لها الغذاء، كنت أنت تعدلها في الليل أو النهار؟ لا والله، فإذا أنبت النبات {فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً * مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} [عبس:24-32] ، من الذي فعل هذا؟ فهو دائماً مع الله سبحانه وتعالى، إن كنت صانعاً كانت لك صناعة مضبوطة، إن ذكرت الله تركت الغش: (من غشنا ليس منا) ، وإن غفلت عن ذكر الله جعلت الحابل مع النابل، إن كنت تاجراً تبيع وتشتري فأمامك المكيال والميزان كل عمل للإنسان فيه طلب للرزق يذكر الله فيه، إما بلسانه، وإما بفعله يراقب الله فيما يعمل، وهكذا.
(أعني على ذكرك) باللسان بالمراقبة، (وعلى شكرك) بالقول وبالفعل، وببذل النعمة وشكرها (وحسن عبادتك) وأحسن ما يكون من الإنسان في العبادة: أن يكون مطابقاً لما شرع الله، ولما سَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خالصاً لوجه الله سبحانه، والله تعالى أعلم.(70/7)
شرح حديث: (من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة)
قال رحمه الله: [وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت) ، رواه النسائي، وصححه ابن حبان، وزاد فيه الطبراني و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]] .
هذا مما يدل على فضل هذه الآية الكريمة، وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أُبي بن كعب: (أي آية أعظم في كتاب الله؟ قال: آية الكرسي، قال: ليهنهك العلم) ، وقالوا: آية الكرسي أعظم آية في كتاب الله؛ لأنها اشتملت على صفات المولى سبحانه وتعالى، فموضوعها ذات المولى عز وجل، كما أن سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} موضوعها ذات الله سبحانه وتعالى، وهي تعدل ثلث القرآن تقرأ: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} ، هذا أول التوحيد {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ، أي: القائم على كل شيء، {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} ، السِنة: النعاس، والنوم الاستغراق؛ فسبحانه لا ينام، وفي الأثر: أن نبي الله موسى قال: (يا رب! أنت لا تنام؟ قال: لا أنام يا موسى! ولا ينبغي لي أن أنام، أتريد أن تُدرك ذلك يا موسى؟ قال: نعم، قال: خذ قدحاً من الماء وأمسكه في يدك، فأخذ قدحاً من الماء وأمسكه بيده، فأرسل الله عليه النعاس فسقط القدح من يده ثم أيقظه، قال: يا موسى! أين القدح؟ قال: سقط عندما نمت؟ قال: وهكذا الكون) ، سبحان الله العظيم! عظمة المولى سبحانه في كل صفة وفي كل آية، وهذا كما يقال: تقريب للمعنى، فالكون بيده سبحانه {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [يس:83] ، لم يقل: ملك، قال: ملكوت، يعني في الأمور الحسية والمعنوية، ولو نظرت لرأيت شيئاً فوق الإدراك، أنت بنفسك لو وكلت إلى ذاتك ما استطعت أن تعيش، كما يقولون: الإنسان فيه عدة عوالم.
إذا جئت إلى حواسك: اليد تنام وتهمد، والعين تنام وتغمض، الأذن لا تنام؛ لأنها على استعداد لتلقي السمع في أي لحظة، ولكن هل الكبد ينام؟ لا ينام؛ لأنه يفرز دائماً ويغذي هذا الجسم النائم، هل الكلى تنام؟ لو نامت تعطل الجسم، فشل كلوي كما يقولون -نسأل الله السلامة- أو تليف كبدي؛ هل القلب ينام؟ من الذي يُنظم دقات قلب المرء في صدره؟ لو وكل إليك أنت لكي تراقب قلبك.
شغلته وأنت صاحي، وبعد ذلك جاءك النوم، هل تقول له: نم حتى أصحو؟ إذا نام نمت النومة الأخيرة، إذاً: كل حيوان لا يستطيع أن يؤمن حياته لو وكلت إليه.
هذا القلب الذي ينبض منذ مائة أو تسعين أو ثمانين سنة، وفي كل دقيقة ستين مرة في الوضع العادي، الله أكبر! وهو قلب واحد أو عالم واحد، البعوضة عندها قلب ينبض، حتى أصغر الحيوانات إلا الجراثيم، الله أعلم بتكوينها لا نعلم عنها، ولكن نجد العصفور الصغير ينبض قلبه في الدقيقة مائتي نبضة، الفيل ينبض قلبه في الدقيقة عشرين مرة، وكلما كبر الجسم وتضخم كلما قلّت الدقات؛ لأن القلب يصبح كبيراً، ومثال ذلك تجربة في يدك: انظر إلى الساعة، الساعة الصغيرة التي قطرها (1 سم) ، والساعة الكبيرة التي قطرها (50 سم) ، هل توجد واحدة تزيد في الأربعة والعشرين ساعة أو تنقص أم أن كلها سواء؟ كلها سواء، خذ واحدة صغيرة في يدك وأخرى كبيرة على الجدار، تجد الصغيرة سريعة الضربات، وأما الكبيرة على مهلها، لماذا؟ لأن الواحدة بالتأني تقطع مسافة مثل هذه.
إذاً: الفيل له دقات، والعصفور الصغير له دقات، والحيتان كذلك في البحر، من الذي يُنظم كل هذا؟ المولى سبحانه فضلاً عن أمور أخرى.
انظر إلى عالم النبات: طلعت الشجرة جاءت الزهرة، من أين جاءت الثمرة وتنوعت؟ بستان واحد وحوض واحد وجدول ماء واحد من بئر واحد أو من سماء واحدة، هذه تثمر أصفر، وهذه أحمر، وهذه أزهار خضراء وصفراء وحمراء.
إذا جئت إلى الإناث في العالم: كيف تحمل الأنثى من كل نوع؟ الإنسان الحيوان الطيور الـ الـ إلى آخره، وكيف ينشأ ويتطور هذا الحمل الجنين في داخل ظلمات بعضها فوق بعض، ظلمات ثلاث، من الذي شق العينين والأنف والفم؟ سبحان الله، من الذي أنبت هذا كله في تلك الظلمة؟ أصله من تراب، ثم جاءت النطفة وصارت علقة ثم مضغة ثم عظاماً، ثم كسيت العظام لحماً، والتخطيط هذا والتنظيم هذا، والشبه الذي يعطى كل فرد ولا يوجد له شبه يطابقه مائة في المائة في العالم، حتى التوأمين اللذين جاءا من بطن واحدة مختلفين، ولابد من الاختلاف، بصمات الأصابع مئات الملايين في العالم ليس هناك بصمة تعادل بصمة ثانية، من الذي غير في هذا؟ وكان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول في هذا: إذا أردت أن تدرك عظمة الخالق سبحانه: قف عند جمرة العقبة وانظر إلى الوجوه أمامك؛ لن تجد وجهين متطابقين في الصورة قط، وهكذا العالم كله.
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ} ، هو في ذاته قيوم على العالمين، {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} ، القيومة له سبحانه وحده {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ} [البقرة:255] ، وماذا الذي في السماوات؟ يعجز البشر كله أن يُدرك ما في السماء الأولى فقط، بل ما دونها من أبراج وأفلاك، والمجرة يقولون: فيها ملايين النجوم، والله لا نستطيع أن نقول: لا، لو قلنا: لا، يقولون: اذهبوا عدوا، ولكن يتفق الفريقان على كثرة النجوم فيها، وعلى أضوائها، وأنه يصل ضوء بعض النجوم في كذا سنة ضوئية، الإنسان فقط يترك التفكير في هذا، له ما في السماوات عوالم لا نعلمها ولا ندركها إلا ما جاءنا فيها الخبر، ولولا أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءنا بالكتاب وبالسنة، وذهب بنفسه ونظر وأتى وأخبرنا، فيخبرنا عن مشاهدته، السماء الدنيا، ويطرق الباب الثانية وو إلى آخره، إلى سدرة المنتهى.
إذاً: له ما في السماوات من تكوين وأوامر.
إلى آخره.
{وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:255] ، وإن كنا قريبين منها، وهي أقرب لنا من السماء لكننا نعجز أن نُكيف ما في الأرض، فماذا في الأرض؟ عوالم الحيوانات والنباتات والجبال والطيور والزواحف وو إلى آخره، كل ذلك خاضع لسلطانه سبحانه، فإذا كان الأمر كذلك فـ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] ، الشفاعة هي: أن تتقدم وتطلب من المشفوع إليه مصلحة للمشفوع فيه، وهل أحد له سلطان أو له ملك أو أي شيء في السماوات أو في الأرض؟ لا شيء إلا بإذن الله سبحانه.
{لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي} انظر {مَنْ ذَا الَّذِي} لم يقل: من الذي، من الذي يرفع رأسه؟ من يقول: أنا؟ من يدعي شيئاً في هذا العالم؟ لا أحد، {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ} ، قد تشفع عند أخيك أو زميلك أو قريبك أو أميرك أو أو، لك حق في أن تشفع، وله حق في أن يقبل أو يرد، وقد يضطر إلى قبول شفاعتك اضطراراً؛ لأنه يخشى إن رد شفاعتك حجبت مصلحته أو دبّرت مكيدة له، ولكن المولى له ما في السماوات وما في الأرض، ولا يُقاس عليه، وإمعاناً بعد ذلك قال: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [البقرة:255] .
القدرة الإلهية للعلم {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] ؛ فهو يحيط بهم علماً وهم لا يحيطون، ولكن قد يدركون البعض، وفرق بين الإحاطة والإدراك، فمن الإحاطة الحائط المبني حول البستان، فإنه يشمله جميعاً، فالإحاطة بالشيء إدراكه كاملاً كإحاطة الجدار بالبستان، فالعالم لا يحيطون بشيء من علم الله، ولكن الله سبحانه يُحيط بعلمهم.
{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} [البقرة:255] ، الكرسي جاءت فيه أخبار عديدة، منهم من يقول: الكرسي العلم، وهذا روي عن ابن عباس، ولكن الجمهور على ما في الحديث الصحيح: أن الكرسي بين يدي العرش، وجاء الحديث: (ما السماوات السبع والأرضون في الكرسي إلا كدراهم في ترس، وما الكرسي في العرش إلا كحلقة في فلاة) ؛ فالكرسي مخلوق مادي له سعته، ولو أن السماوات السبع والأرضون السبع وضعت في الكرسي ما كانت إلا كأن تأخذ حلقة وتلقي بها في الربع الخالي، ما تكون نسبة هذه في الربع الخالي؟ إذاً: لا يعلم قدره إلا الله، وما الكرسي هذا بهذه السعة في العرش إلا كدراهم (وما العرش في كف الرحمن إلا كحبة خردل في كف أحدكم) .
أقول يا إخوان: إن هذه النصوص بهذه المضاعفات لا ولن توجد قوة على وجه الأرض حسابية الآن تعطينا النتيجة ولا الجواب عن سعتها، ولا ينبغي للإنسان مهما أوتي من ذكاء حرص على العقيدة وسلامتها أن يخوض خوضاً بعيداً، ويكفي أن يسمع هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتصور التصور الإجمالي، ويكف عما وراء ذلك.
{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} وسعها على أي حجم وأي مقدار؟ جاء في الحديث بأن السماوات السبع سمكها مسيرة خمسمائة عام هي والأرض، سبحان الله! سبع سماوات، من الذي يتصور هذا الجرم؟! أما الأرض فهي مثل البيضة تحت القبة، فكم يكون مساحة هذا الكرسي؟ لا نستطيع أن نقول شيئاً، ولكن يكفينا النص القرآني الكريم: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} ، وهناك ناحية بيانية لطيفة، لم يقل: (وسع الكرسي) ولكن جاء بالإضافة إلى الله {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} ، مجرد نسبة وإضافة الكرسي إلى الله تُعطيه عظمة أكثر.
{وَلا يَئُودُهُ} [البقرة:255] ولا يثقله، ولا يشق عليه، {حِفْظُهُمَا} [البقرة:255] (ما) ألف تثنية راجعة فيها لـ: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:255] ، ولا يثقله ولا يشغله حف(70/8)
كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [15]
هذا الدين يسر، وليس فيه طريق مسدود أبداً، ومن القواعد الفقهية أن المشقة تجلب التيسير، ومن فروع هذه القاعدة صلاة المريض وطهارته، والصلاة في أرض المعركة، وقد جاء بيان ذلك كله من طريق أهل العلم.(71/1)
شرح حديث: (صلوا كما رأيتموني أصلي)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله، وبعد: [وعن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ، رواه البخاري] .
كأن المؤلف رحمه الله اكتفى بما أورده من النصوص بما يتعلق بالأذكار عقب الصلاة، وهذا الباب باب واسع، والأولى لكل مسلم فضلاً عن طالب علم أن يعنى بهذا الباب، وهو الأذكار والأدعية؛ لأنها غذاء القلوب، وهي تكسي الروح برداء يستطيع به أن يكون دائماً على صلة مع المولى سبحانه وتعالى، وإذا تأمل الإنسان في الأدعية والأذكار يجدها تخاطب الأرواح دون الأشباح، ولهذا عني بعض العلماء بجمع ما يتعلق بالأذكار في مؤلفات أذكار اليوم والليلة، والصباح، والمساء، والأسفار، واللباس، والطعام، والنوم، والاستيقاظ، ولبس الثياب، وخلعها كل حركة تجد فيها دعاء أو ذكراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك ليكون الإنسان دائماً في كل شئونه مرتبطاً بالله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي} [الأنعام:162] ، كل حركة في حياته صلى الله عليه وسلم فيها ذكر لله، إن شربت الماء سميت الله، إن رفعت الكأس حمدت الله، إن اضطجعت في فراشك ذكرت الله، إن نهضت أثناء نومك بالليل ذكرت الله.
وضعت قدمك في نعلك أو خلعتها لبست ثوباً جديداً حتى دخول الخلاء تستعذ بالله، وتكف عن ذكر الله في الخلاء؛ فكل حركة للإنسان في هذه الحياة يجد لها ذكراً وارداً، والأولى أن يتقيد بذلك بقدر المستطاع.
وبعد أن أنهى المؤلف ما اختاره من تلك النصوص جاء إلى حديث جامع شامل يعتبر أصلاً من أصول الدين وقاعدة ترجع إليها أعمال الصلوات كلها، وهو التعليم العملي، قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] ، وكما قال في الحج: (خذوا عني مناسككم) .
إذاً: التطبيق العملي منه صلى الله عليه وسلم هو أعلى وسيلة في التعليم، وأعتقد أن علماء التربية يتفقون على ذلك؛ ونحن نشاهد الطفل الصغير وهو لا يعرف أن يتكلم وهو يحبي ينظر أمه قامت للصلاة فيأتي أمامها ويصلي مثلما تصلي، هو لا يعرف أنها صلاة ولا قبلة ولا أي شيء، ولكن يأخذها تلقائياً وتلقيناً.
وأصل هذا الحديث كما جاء في بعض رواياته: أن النبي صلى الله عليه وسلم رقى المنبر -ونعلم بأن المنبر ما صنع إلا في السنة الثامنة من الهجرة- وكان صلى الله عليه وسلم إذا خطب اتكأ على جذع من جذوع النخل التي كانت بداية لبناء المسجد، وبعد خيبر وسع النبي صلى الله عليه وسلم المسجد، وبنى جدرانه من الحجر والطين، وصنع له المنبر فتحول إليه -وقصة الجذع معروفة- وكان من ثلاث درجات، والكبرى عريضة، فوقف على الثالثة واستقبل القبلة وكبر وهو مستقبل القبلة، فقرأ وركع ورفع من الركوع وهو على المنبر، ثم نزل القهقرى عن الدرجتين الأخريين حتى كان في أصل المنبر ووسع لنفسه قدر السجود فسجد في أصل المنبر، ثم جلس ثم سجد ثم نهض فرقى المنبر وقرأ ورفع، ثم نزل القهقرى وسجد وجلس وسجد وتشهد وسلم، ثم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) .
هل يحتاج أحد بعد هذه الصورة والمشاهدة أن يسأل عن كيفية الصلاة؟ لا يحتاج.
ومن هنا يقول العلماء: هذا الحديث أصل في الصلاة، فكل ما روي عنه صلوات الله وسلامه عليه في كيفية تلك الصلاة المنبرية -إن صح أن نسميها كذلك- أو غيرها من أحوال الصلاة، والمنبر ليس شرطاً، فما رأيتموني أفعله في الصلاة فافعلوا مثله، فيقولون: كل ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته فهو واجب، اللهم إلا إذا جاء ما يرفع الوجوب إلى الندب، والقاعدة الأصولية: أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم له سبع حالات كما هو مذكور في مذكرة الأصول وتسهيل الوصول إلى علم الأصول، وكتب الأصول كلها تقول: إذا كان الفعل بياناً لمجمل في كتاب الله فحكم الفعل حكم الحكم المجمل في كتاب الله، إن كان مُبيناً لواجب فالبيان واجب، وإن كان مبيناً لمندوب فالبيان مندوب، والصلاة واجبة، وهذا العمل مُبين للمجمل هناك في قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43] ، أقيموا الصلاة على أي صفة؟ هناك أشياء: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] {طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125] ، ولكن: نسجد أولاً أم نركع أولاً؟ وكيفية الركوع والسجود ما هي؟ وكم نصلي ركعات؟ جاءت السنة وبيّنت لنا الأوقات والعدد والهيئة والكيفية وما نقول فيها، إذاً: البيان الذي جاء عنه صلى الله عليه وسلم في حق الصلاة يكون حكمه حكم الصلاة ما لم يكن هناك صارف عن الوجوب.
ورأينا للنبي صلى الله عليه وسلم مغايرات بين الفرض والنافلة؛ قد نجده يصلي النافلة جالساً ولا يصلي الفرض إلا قائماً، قد نجده في حالات السفر يخفف الصلاة أو يطيلها، ويدخل بالجماعة بنية التطويل ثم يخفف رحمة بقلوب الأمهات.
إذاً: قراءته، تسليمه، كل ما جاء ونقل لنا عنه صلى الله عليه وسلم في الصلاة؛ فهو واجب ما لم يأت صارف يصرفه عن الوجوب.
وبعض العلماء يربط بين هذا الحديث في عمومه وبين حديث المسيء في صلاته في جملته، وأعتقد أنه لا حاجة إلى الربط بينهما، والقاعدة العامة: كل ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في أفعال الصلاة يجب أن نأخذها بالوجوب، فإذا كان يبدأ الصلاة بالله أكبر، فافتتاحية الصلاة بالتكبير، ولا يجوز غيرها؛ لأنه افتتحها بها، وإن كان يسكت هنيهة بعد التكبير والقراءة أحياناً ويترك السكوت، إذاً: السكتة الهنيهة ليست بواجبة إنما يمكن أن يأخذ بها ويمكن أن يتركها؛ لأنها غير مضبوطة، وقد يطول أو يقصر، بعد هذا كان يقرأ الفاتحة، إذاًَ: الفاتحة واجبة، وكان يقرأ السورة من القرآن إذاً: هي واجبة، ولكن وجدنا الصارف عنها، ثم اقرأ ما تيسر، وما تيسر هذا يصرف عن الوجوب، وإذا لم يتيسر فلا شيء عليك، إذاً: وجدنا هناك مفارقة بين الفاتحة وبين ما يقرأ معها في ركعة، إذاً: الركوع واجب، رفع من الركوع، إذاً: الرفع واجب، اطمأن في الركوع اطمأن في الرفع، إذاً: الطمأنينة واجبة، وجاء عنه ذكر في رفعه وركوعه، وجاءت روايات أخرى متعددة من الأذكار، إذاً: تتخير منها ما شئت، وهكذا إلى أن تسلم من الصلاة.(71/2)
شرح حديث: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً)
قال رحمه الله: [وعن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب، وإلا فأومئ) ، رواه البخاري] .
هذا الحديث النبوي الشريف يعتبر أصلاً في صلاة أهل الأعذار بصفة عامة، والعذر قد يكون مرضاً، وقد يكون خوفاً، وغير ذلك، وفي الحديث التدرج في كيفية الصلاة، وهو يُبيّن لنا إلى أي مدى وصلت سماحة الإسلام في خفة التكليف، وفي بعض روايات هذا الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286] ) ، ونحن جميعاً في حاجة ماسة إلى دراسة هذا الحديث بتوسع إلى حد ما يشمله من أصناف الناس في صلاتهم، فقد يكون العذر يعتري الإنسان بنفسه، وقد يكون يعتري إنساناً يخصه، وقد يكون إنسان مسئولاً عن جماعة، وفي الجملة بعد هذا كله تأتي النتيجة الحتمية؛ لأن فريضة الصلاة لا تسقط بحال من الأحوال، والأصل في القيام: (صل قائماً) كما جاء في قوله سبحانه: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] ، والقنوت يكون بمعنى الخشوع، ويكون بكثرة الدعاء؛ فالقيام ركن في الصلاة، فإذا عجز الإنسان عن إتيان ركن القيام انتقل إلى ما بعده، فإذا عجز عما بعده انتقل أيضاً إلى بعد ما بعده، وهكذا نجد في أركان الإسلام جميعاً.
نجد في الصيام {مَنْ كَانَ مَرِيضاً} ، أي: لا يستطيع الصوم، {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} ، يشق عليه، {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] .
والزكاة لا تجب إلا على من ملك النصاب بغنى؛ بحيث أنه يبقى عنده حتى يحول عليه الحول وهو لا يحتاج منه إلى شيء.
والحج من استطاع إليه سبيلاً.
والجهاد يسقط عن الأعمى والأعرج وأصحاب الأعذار، وهكذا نجد التكليف في كل أركان الإسلام بقدر المستطاع، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286] .(71/3)
كيفية صلاة الجالس
هنا تأتي مباحث صلاة المريض، أو المعذور بأي نوع من أنواع الأعذار، وهذا الحديث يرشد إلى عدم الاستطاعة للقيام، إما عجز طبيعي لكبر، وإما عجز طارئ لمرض؛ فالمبدأ الأساسي أن يصلي قائماً، بمعنى: أن يكبر تكبيرة الإحرام وهو قائم، ويقرأ ويركع ويرفع ثم يهبط إلى السجود ويكمل سجدتيه ثم ينهض قائماً وهكذا؛ فإن عجز عن هذا القيام ليقرأ ويركع ويرفع ماذا يفعل؟ يأتي الحديث يسقط عنه هذا القيام، ويصلي قاعداً.
ومع هذا أيضاً تذكر مباحث النوافل؛ فيمكن أن يصليها قاعداً أو قائماً صحيحاً أو مريضاً، ما دامت الفريضة تجزئ بالقعود عند الحاجة ولكونها فريضة لم تسقط، والنافلة مطلوبة، ولكن إذا لم تكن نافلة إلا من قادر على القيام ربما ضاعت كثير من النوافل، وحرم الكثيرون من فوائد وفضائل النافلة، فخفف في أمرها ترغيباً فيها، بقي إن عجز عن الصلاة قاعداً كيف يصلي؟ مضطجعاً، وإن عجز مضطجعاً كيف يصلي؟ مستلقياً، وإن عجز عن الإيماء كما قال: (فأومئ) ماذا يفعل؟ الفقهاء رحمهم الله فصلوا في هذا الباب إلى أبعد ما يمكن أن يخطر ببالنا، أما هيئة صلاة العاجز عن القيام ومتى يكون عاجزاً؟ وهل كل مرض يسقط عنه القيام؟ قالوا: القاعدة في ذلك: إن كان عاجزاً فعلاً أو ليس عاجزاً فعلاً إلا أن صلاته قائماً وهو مريض تزيد في مرضه أو آلامه أو تُطيل مدة برئه، ويرى بعض العلماء كما يذكر ابن قدامة في المغني: ننظره في أمر دنياه، هل هو في أمر دنياه يقوم ويجلس ويذهب ويأتي وعند الصلاة يقول: أنا لا أستطيع إلا أن أصلي جالساً؟! إن كان في أمر دنياه يأتيها قائماً، ويتحرك حركة طبيعية بدون مشقة؛ فهذا لا يسقط عنه القيام في الصلاة، وإذا كان يأتي أمور دنياه قائماً بتكلف نقول: لا، أمر الدنيا قد يضطر إليه، ولكن أمر الدين للرحمن الرحيم، فرحم الله عباده فخفف عنهم، فإذا كان كبير السن لا يقوى أو ممن عجز ولا يرجى زواله، أو كان مريضاً، والمرض له حالات: هناك أمراض يستطيع صاحبها أن ينهض ويقوم ويذهب ويأتي، ولكن بمشقة عليه فيعفى من القيام، وهناك مريض لا يكلفه القيام شيء، وقد تكون أمراضه مستوطنة أو طارئة أو عضوية وهو في تلك الحالة مستطيع القيام دون مشقة عليه؛ فلا عذر له، فإذا وجد العذر وثبت العجز عن القيام فيصلي على ما قال الفقهاء، وكيف تكون هيئته في صلاته؟ لو فكرنا في الهيئات التي يمكن أن يأتي بها الإنسان إما متربعاً وإما كجلسته في التشهد، أو قائماً على ركبتيه أو جالساً على مقعدته ورافعاً ركبتيه وضامم ساقيه بيديه محتبياً، أو ناصباً إحدى رجليه والثانية للأخرى، كل هذه الصور يمكن أن نجد إنساناً قاعداً على هيئتها، فالقاعدة عند الجميع: ما كان أيسر له يفعله، الأيسر في حقه يكفيه، حتى ولو على ظهره، ولو كان لا يستطيع الركوع ولا السجود، ويستطيع أن يكون قائماً أو متكئاً على العصا لا مانع أن يظل قائماً ويومئ بركوعه أقل من سجوده وهو قائم؛ لأن هذا الذي تيسر له، فإذا كان يستطيع فعل عدة صور مما ذكرنا فأولى الصور وأولاها في ذلك كله: أن يكون في الركن الذي فيه القراءة يؤديه وهو متربع، وركن القراءة يكون في القيام، إذاً: حينما يكون في أداء القراءة يقرأ وهو متربع، وركن الركوع ليس هناك تربيع، ولا يثني حقوه ناصباً ركبتيه وهو لا يستطيع هذه الهيئة، إذاً: يكون ثانيَ الركبتين لا يومئ وهو متربع؛ لأن حالة التربع لحالة القيام والقراءة، والركوع يثني ركبتيه ما دام يقدر على الجميع، وإن عجز عن ثني الركبتين للركوع والسجود بقي متربعاً وأومئ وجاء بسجود أخفض من ركوعه.
فالمريض العاجز عن القيام ينظر ما هو أيسر له من الحالات مما جاءت به من هيئات صلاة العاجز؛ فإن كان لا يقدر إلا بها فهي مجزئة، وإذا كان يستطيع لعدة حالات فالأَولى أن يكون في حالة ما يكون قائماً للقراءة متربعاً، وفي حالة الركوع والسجود إن كان مستطيعاً أن يعدل تربيعته، وأن ينهض على ركبتيه كجلسته للسجود ويومئ بالركوع أقل من إيمائه بالسجود؛ فهذه أولى الحالات للمريض أو للعاجز الذي لا يقدر أن يصلي قائماً.(71/4)
كيفية صلاة المضطجع
إذا كان الشخص لا يستطيع أن يتماسك نفسه جالساً متربعاً، نظرنا لقواه العقلية، وهل الإدراك موجود أو لا؟ إن فقد الوعي والإدراك سقطت عنه الصلاة، وإن كان متوافر العقل مدركاً، ويفهم معنى الصلاة والمرض بدني وليس عقلياً، نقول له: ما الذي يريحك؟ يقول: دعوني اضطجع على شقي الأيمن، ويتمدد ويجعل وجهه تجاه القبلة، فإذا كان على جنبه الأيمن له عذره فعلى جنبه الأيسر، ويجعل أيضاً وجهه تجاه القبلة، وهناك من يقول: إن عجز عن القعود يستلقي على ظهره، وهو أولى من أن يتكأ على جنبه، ولكن في الحديث: (فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنبه) ، فالحديث قدم الجنب، وهناك من يقول: الجنب في المرتبة الثالثة، وبعد القعود مباشرة يستلقي على ظهره على أن تكون قدماه تجاه القبلة.
إذاً: نبهوا الذين يرون إنساناً نائماً مستلقياً على ظهره في المسجد فيوقظه فيقول له: ماذا بك؟ قال: كيف توجه رجلك للقبلة، ويستنكرون هذا، ويفزعون النائمين المساكين، لماذا؟ هذه كما يقال: الضجعة الصحيحة، وقالوا في ذلك: حينما يصلي مستلقياً على ظهره سيومئ برأسه للركوع والسجود، فإذا أومأ للركوع أو للسجود فإنه وجهه سيكون على القبلة، ولا يجوز أن يُدير رأسه إلى القبلة؛ لأنه إذا أومأ يكون مومئاً إلى غير القبلة.
الآخرون قالوا: لا يضطجع على شقه الأيمن كما يضطجع الميت في لحده على شقه الأيمن مستقبلاً القبلة؛ لأنه حينما يكون الإنسان على شقه الأيمن ويريد أن يومئ وهو نائم ووجهه إلى القبلة يومئ إلى جهة غير القبلة، ومن هنا قالوا: يضطجع على ظهره أولى، ولكن النص في الحديث: (على جنبه) ، وأصحاب الاضطجاع قالوا: لا، أو أصحاب الجنب قالوا: هو وإن كان في إيمائه سيتجه لغير القبلة، لكن السليم الذي يقوم ويركع ويسجد في حالة القيام مستقبل القبلة تماماً؛ وحينما يركع وجهه إلى الأرض، إذاً: انصرف عن القبلة إلى الأرض، قالوا: هذه حالات تطرأ على المصلي، وليس فيها انصراف عن القبلة يبطل الصلاة؛ لأنها طبيعة الركوع والسجود، فإذا كان المصلي مضطجعاً فقد استقبل القبلة بوجهه، وما يطرأ عليه من اتجاه بوجهه عند الإيماء لغير القبلة فهو نظير الراكع الساجد ينصرف وجهه عن القبلة.
الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن من صلى مضطجعاً على جنبه وسيومأ وستكون إيماءاته لغير القبلة، ومع ذلك قال: (مضطجعاً) .
هذه حالة العاجز عن القيام ويريد أن يصلي مضطجعاً أو مستلقياً.
هناك ناحية أخرى: إن لم يستطع القيام ولا الجلوس متربعاً أو متحافزاً أو محتبياً أو أو وتمدد في الأرض مضطجعاً أو مستلقياً، لكنه لا يستطيع أن يومئ برأسه محل الركوع والسجود، ماذا يفعل؟ نرجع أيضاً إلى الأصل: إذا كان الإدراك موجوداً ويفقه معنى الصلاة ويتكلم بها وبمعانيها، ولكن الرأس ثقيل، ولا يقدر على حراكه، أو المرض في عنقه أو بأي حالة؛ قالوا: يرمش برمش العين، في الركوع نصف غمضة عين، وفي السجود يغمضها، فسبحان الله! إلى هذا الحد، إذاً: أي عذر في الدنيا لا يُسقط الصلاة.(71/5)
طهارة المريض ووضوؤه
سؤال: هذا المسكين الذي ليس قادراً أن يحرك رأسه كيف يتوضأ أو يتيمم؟ نقول: إن عجز عن القيام بالطهارة بنفسه ووجد من يقوم بتطهيره وضوءاً أو تيمماً -على حسب حالته- وجب عليه ذلك، فإن لم يجد يُصلي على حالته كما يُصلي فاقد الطهورين، فليس هناك عذر، لا في الطهارة ولا في أداء الصلاة.
بعض الناس يقول: حركة العين خفية، وليس هناك تمييز بين الركوع والسجود، فالأولى أن ينصب يده ويحرك أصابعه، فيأتي بحركة اليد بدلاً من حركة هذا الجسم الطويل.
نرجع إلى المبدأ الأول: الصلاة واجبة، والقيام ركنها؛ فإن عجز عن هذا الركن انتقل إلى ما دونه بالتدريج، ويأتي في النهاية بأقل ما يمكن أن يشعر بأنه صلاة، ولعل في هذا القدر خلاصة ما جاء به شراح الحديث وما يأتي به الفقهاء، ولكن هناك حالة لم يتعرض لها لا النووي ولا ابن قدامة في المغني ولا كثير من كتب الفقه، وهي: إنسان ليس مريضاً يسقط عنه القيام، بل متعافياً يستطيع أن يأتي بكل القيام، وكان خلف الإمام، والإمام يقوم يقرأ الفاتحة وسورة البقرة، ولا يراعي من وراءه، ولا حالهم، قالوا: إن عجز عن مواصلة القيام مع الإمام جلس، وإذا ركع الإمام قام وركع مع الإمام من قيام، إن كان لا يستطيع أن يظل قائماً مع الإمام.(71/6)
صلاة المأموم خلف من يطيل الصلاة
بالمناسبة: في تاريخ أئمة المسجد النبوي كان شخص دعي للإمامة -توفي قريباً- فاشترط على الملك عبد العزيز الله يرحم الجميع: أن أُسبح ثلاثة عشرة تسبيحة في الركوع، وفي السجود مثلها، وجاء الرجل ولقيته وقلت له: كيف تشترط هذا على الملك؟ قال: هذا حق الصلاة، قلت: تريد أن تتهرب من الإمامة، فإذا كان الإمام يطيل الركوع، والمأموم يعلم من نفسه ومن حالة إمامه أنه إن ركع معه في أول انحنائه لا يستطيع أن يواصل معه، فله واحد من اثنين: إما أن يركع قبل الإمام أو يقف؟ يقول الباجي رحمه الله في شرح الموطأ: من علم أن هذه حالة إمامه إذا ركع الإمام لا يركع ويبقى قائماً؛ لأن القيام أريح له، إلى أن يعلم من حال إمامه ما يغلب على ظنه أنه لم يبق له إلا ثلاث تسبيحات أو أربع، أو الذي يستطيعه هو؛ فيركع قبل أن يرفع الإمام ويُدرك الإمام في الركوع بقدر ما يثبت له به الركوع، وعند الرفع يرفع معه؛ لئلا يتأخر عن الإمام ولا يصح أن يتقدم عليه، وكذلك إذا سجد الإمام إن شاء هوى للسجود، أو جلس وانتظر الإمام حتى يأخذ راحته، وعلى قدر ما يعلم من حالة الإمام وتقديره فيسجد قبل أن يرفع الإمام رأسه من السجدة، ويدرك مع الإمام قدر السجدة التي تجزئه، ويرفع الإمام فيرفع معه، يبقى هناك نطاق: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] .
بقي من المباحث: إنسان صلى مع الإمام وعجز عن مواصلة صلاته ماذا يفعل؟ بهذه الطريقة التي ذكرها الباجي لا يعجز، ولكن بالطريقة التي يقولها الآخرون يعجز، ويقولون: إن قدر على الصلاة قائماً منفرداً وعجز عنها مؤتماً وجب عليه الانفراد؛ لأن القيام ركن في الصلاة والجماعة سنة.
هل توافقون على هذا الرأي أم أن الأول أفضل؟ الوجه الذي يريد أن يُضيع الجماعة منفي وليس بسهل، ثم التفضيل بأن الجماعة سنة هناك من يقول: إنها واجبة، أو يقول: شرط في الصلاة لا شرط في صحتها، يهمنا أن فيها نقاشاً، لكن لو أخذنا هذه الطريقة التي يذكرها الباجي: بأن المأموم إذا كان مريضاً أو عاجزاً يقدر لنفسه مع إمامه ما يستطيع أن يأتي به؛ فتتم له فضيلة الجماعة، ويسلم من المشقة عليه.(71/7)
الاتكاء في الصلاة على العصا ونحوها
ومن المباحث: أن المصلي قائماً لا يجوز له أن يتكئ على العصا أو على العمود أو الجدار، إلا إذا كان اتكاءً خفيفاً لا يعتمد في القيام عليه، ويقول بعض العلماء: كيف نعرف إذا كان الاتكاء خفيفاً أو كلياً؟ قالوا: لو أنه كان متكأ إلى جدار لو قدر أن الجدار سقط سيسقط معه، فلذلك لا يصح قيامه، وإن كان اتكاءاً خفيفاً بحيث لو سقط الجدار هو لا يسقط، فهذه ركنة فقط وليست اتكاء، نحن يهمنا أكثر من هذا: كيف أن سلف الأمة فصلوا في الجزئيات ما لا يخطر على البال؟! إذاً العاجز على القيام له أن يتكئ ويصلي مع الإمام متكئاً أو منفرداً، وبقدر ما يستطيع مع إمامه، هناك حالات طوارئ كإنسان جاء بحمد الله بعافية وكبر ووقف في الصف مع الإمام وقرأ ويستمع بصحة وكمال، وعندما ركع شعر بمغص -نسأل الله السلامة والعافية- وطرأ عليه ما يعجزه عن القيام في الركعة الثانية، هل له أن يكمل صلاته قاعداً أم لا؟ قالوا: إن جاء إلى المسجد وإلى الصف ويعلم بأنه مريض ولا يستطيع القيام وكبر وهو جالس، ولما تحرك وركع بالإيماء وسجد قدر المستطاع، وجد أن الألم الذي كان يشكو منه قد زال ووجد من نفسه خفة ويستطيع أن يقوم مع الإمام؛ فإذا قام مع الإمام في بقية الصلاة تكون الصلاة كلها صحيحة، أما إن قام ثم عجز أو كان عاجزاً ثم استطاع فيكمل صلاته على الحالة التي هو عليها؛ لأنه في حالة قيامه أتى بما استطاع، وعندما طرأ عليه العذر كانت هذه حالته، وعندما بدأ الصلاة بعذره كان هذا مشروعاً في حقه، وعندما زال العذر رجع إلى الأصل؛ فالصلاة تكون صحيحة، ويبني على ما مضى منها، ولا يستأنف صلاة جديدة.
ومما تدعو الحاجة إلى ذكره: صلاة الخوف، أليس من شروط صحة الصلاة استقبال القبلة؟ بلى، فإذا كانوا في ظروف لا يمكن أن يكونوا مستقبلين القبلة، بأن كان العدو في جهة أخرى، ولا يمكن أن يعطوا العدو ظهرهم، أو لا يستطيعون أن ينقسموا قسمين: قسم يصلي مستقبلاً القبلة، وقسم يواجه العدو، فإن اضطروا إلى الصلاة تجاه العدو صلوا وهم منصرفون عن القبلة؛ لأن هذه حالتهم.(71/8)
صلاة المتترس في خندقه ونحوه
ومما ينبغي أن نتعلمه، ما يحدث لإخواننا وأبنائنا الجنود في الميادين، فهناك من يكون في خندقه أو دبابته أو آليته أو في مخفر يرقب العدو مستتراً، وجاء وقت الصلاة، إن خرج من الخندق انكشف للعدو، وإن أراد أن يصلي لا يستطيع أن ينهض قائماً، ماذا يفعل؟ هل يمكن العدو من نفسه ويدل العدو على جنده وجيشه أو يُصلي على الحالة التي هو عليها على الحالة التي هو عليها؟ ولو قُدر أنه في ذلك المكان لا يجد ماء يتوضأ: سقط عنه الوضوء بالماء وتيمم بالتراب في الخندق، ولو كان في مصفحته أو آليته ولا ماء عنده، والماء الذي عنده للشرب، ولا يجوز أن يتوضأ به ويعطش، يبقيه، وإن كان ليس عنده ما يتيمم به يصلي على حالته وهو في كرسيه أو عليه رباط أو على أي حالة من حالاته إنسان خائف وجاء واستتر وراء حجر خائف من حيوان، أو إنسان يتتبعه قطّاع طريق أو لصوص أو عدو.
إلخ، إن قام يصلي قائماً انكشف، فله إن يبقى في مكانه ويصلي على حالته، إنسان يُطارد العدو في معركة الكر والفر، ونحن نعلم جميعاً: أن صلاة الخوف في القتال إن لم توجد مسايفة فهي كر وفر، فهم يصلون في مواضعهم في حالة طبيعية، لكن إذا كانت الحركة قائمة، والدبابات تمشي، والمصفحات والمشاة وو إلى آخره، هل عليه استقبال القبلة؟ هل عليه ركوع وسجود ويركع ويسجد والعدو وراءه؟ لا، بل يصلي وهو على حالته، كيف يصلي؟ يغمض عينيه، ويستحضر في قلبه تكبيرة الإحرام، وينطقها: الله أكبر، ويده على الزناد، والحمد لله رب العالمين، وهكذا يطارد العدو أو من أمامه ويقول: الله أكبر، على هيئة الركوع، ويستحضر معنى الركوع في ذهنه، وبعد ذلك: سمع الله لمن حمده، وهو يجري ويركض، وهكذا في حالة الخوف يفعل هذه الحالة، سواء كان يطرد فريسة له أو كان مطروداً من غيره يخاف منه.
وهكذا صلاة أهل الأعذار، الأصل في الصلاة القيام، ولكن إذا طرأ على الإنسان عذر فإنه يسقط عنه القيام، وينتقل إلى غيره، وهناك حالة: ربما بعض الناس يطرأ له مرض وعذر يبيح له الصلاة قاعداً، أو يُجهد نفسه ويكلفها ويتحمل فوق طاقته فيقف قليلاً ثم يسقط، أو يزيد عليه الألم فيمتنع من قبول الرخصة، ورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه حينما أصيبت عينه، جاءه طبيب يهودي أو نصراني وقال له: أستطيع أن أعالجك وأتوقع لك البرء إن مكنتني منك أسبوعاً لا تجلس وتكون مستلقياً على ظهرك، فـ ابن عباس فكر في الصلاة، وسأل أم المؤمنين عائشة وأبا هريرة رضي الله تعالى عنهم: هل يجيب الطبيب لذلك أم لا؟ فقالا له: إذا أتاك الموت وأنت في الأيام السبعة هذه ماذا تفعل في صلاتك؟ فامتنع، نقول: ابن عباس حبر الأمة، ولكنه تورع من أن يترك القيام لأمر شخصي، ويعتذرون عن ذلك بأن الذي أخبره ليس بطبيب مسلم مؤتمن، ولعله لكون الطبيب غير مسلم لم يثق بكلامه، فلم يقبل منه، فبعضهم يقول: لعله طبيب واحد، مع أن الفقهاء يتفقون في باب الجنايات لو أن طبيباً واحداً ولو غير مسلم قدّر جناية في جراح يُقبل قوله، ويقولون: بأن الطب مهنة إنسانية لا دينية ولا سياسية ولا إقليمية؛ لأن موضوع الطب هو الإنسان، والإنسان من حيث هو هيكل بشري لا أثر للهيكلية في أمر الدين ولا السياسة ولا الموطن ولا ولا إلى آخره، ولو جئت بأسير حرب أو عبد أو بأضعف خلق الله وأعلى إنسان على وجه الأرض ما اختلف تركيبه الجسماني، إذاً: الطب مهنة إنسانية، يؤخذ بقول من عرف الأمانة فيها.
وعلى هذا لو أن إنساناً جاء إلى المستشفى وقيل له: يلزمك عملية، هل يسأل: العملية كم يوم، وكيف أصلي؟ نحن لا نعلم، الطبيب يقول: اسأل العلماء، أنا عليّ أن أجري العملية، وأنت عن صلاتك اسأل العلماء، فقال العلماء: نعم، إذا عملت العملية صلِّ وأنت جالس إن استطعت؛ فإن لم تستطع فعلى جنبك، وإن لم تستطع فمستلقياً وو إلى آخره، أعتقد أن هذا هو الإنصاف، وهو من حق بدنك عليك، (إن لبدنك عليك حقاً) فيقبل الرخصة كما أخبر صلى الله عليه وسلم (صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنبك وإلا فأومئ) ، وبالله تعالى التوفيق.(71/9)
شرح حديث: (صل على الأرض إن استطعت)
قال رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمريض صلى على وسادة فرمى بها وقال: (صلِّ على الأرض إن استطعت، وإلا فأومئ إيماء، واجعل سجودك أخفض من ركوعك) رواه البيهقي بسند قوي، ولكن صحح أبو حاتم وقفه] .
تتمة لحديث صلاة صاحب العذر جاء المؤلف رحمه الله بأثر جابر رضي الله تعالى عنه، سواء أكان موقوفاً على جابر أو مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يقول جابر: (إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً عجز عن السجود إلى الأرض، فجاء بوسادة وسجد عليها، فأخذ الوسادة وألقى بها وقال: صلِّ على الأرض، وإلا فأومئ واجعل سجودك أخفض من ركوعك) ، هنا يبحث العلماء: هذا المريض الذي عجز عن القيام وصلى وهو جالس، إذا كان لا يستطيع أن يصل إلى الأرض في سجوده، ويستطيع أن يأتي بالوسادة أو ما في معناها من مسند أو كرسي، فهل يكون موضوعاً على الأرض ويسجد عليه أو يرفع الوسادة إلى جبهته؟ ستجدون من الفقهاء من يُجيز السجود على وسادة أو ما هو مرتفع من الأرض كحجر ونحوه، والحديث هنا يقول: (رمى بها) .
وتفصيل القول: إن رفع الوسادة لجبهته ليسجد عليها، وتكون الوسادة على يده وليست على الأرض؛ فالجمهور يمنعون من ذلك، ويذكر ابن قدامة في المغني من يقول بهذا، لكن من غير الأئمة الأربعة، ولا علماء السنن الستة، وإذا كانت الوسادة على الأرض متصلة بها، ثم هو في سجوده يضع جبهته عليها، فلا بأس، ويذكرون عن أحمد والشافعي وأبي حنيفة ورواية عن مالك: أن هذا يصح.
إذاً: الحديث هنا: (فأخذها وقال: صلِّ على الأرض؛ فإن لم تستطع فأومئ) ، على أن الوسادة -على رأي الأئمة- قد رفعها، وما هو المانع من كونها على يده؟ قالوا: إذا سجد على الوسادة وهو يحملها يكون ساجداً على ما هو محمول له متحرك بحركته، ولو أخذ كفيه ورفعهما ووضع جبهته على كفيه، فما الفرق بين الوسادة والكفين أو شيء مرفوع إلى الجبهة لكي تصل إليه؟ وهذا بالاتفاق لا يجوز.
إذاً: الخلاف بين كون الوسادة أو ما شابهها على الأرض وهو يسجد عليها، وكون الوسادة وما شابهها يرفعه على يده ليصل به إلى جبهته، فالأخير ممنوع عند الجميع، والأول مشهور أو أكثر الأئمة يقول به.
يقول أحمد: لأن يسجد على شيء يصل إليه أولى من أن يومئ بدون شيء، ولكن النفس فيها شيء من هذا، والله سبحانه وتعالى هو الذي أمر بالصلاة، والرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أُمر ببيانها وأخذ الوسادة وألقاها؛ سواء كانت على يده أو على الأرض، وذكروا عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها: أنها كانت تصلي على الوسادة المطروحة في الأرض، ومن هنا جاء الخلاف، يهمنا في هذا أن من رأى إنساناً يسجد على شيء مرتفع أمامه ثابتاً على الأرض لا يُنكر عليه، ومن رأى من يصلي على شيء رافعاً إياه بيده فلا يقره عليه، وبالله تعالى التوفيق.(71/10)
كتاب الصلاة - باب سجود السهو وغيره [1]
إن الكمال المطلق لله عز وجل، وقد خلق الله عز وجل الإنسان وفيه الكثير من صفات النقص، ومن تلك الصفات صفة النسيان، وقد نسي آدم فنسيت ذريته، ومن المواضع التي يهمنا فيها أمر النسيان باب العبادات، وقد جاء بيان ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم.(72/1)
شرح حديث: (أنه عليه الصلاة والسلام صلى الظهر فقام في الركعتين الأوليين ولم يجلس ... )
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن عبد الله بن بحينة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر، فقام في الركعتين الأوليين، ولم يجلس فقام الناس معه) ] .
بدأ المؤلف رحمه الله بحديث ابن بحينة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر) .
والمؤلف هنا يجزم أنها صلاة الظهر، وتجدون في بعض المراجع: (إحدى صلاتي العشي) والعشي: ما بين الزوال إلى غروب الشمس، والصلاتان الواقعتان في هذا الوقت هما الظهر والعصر، ولذلك تجدون خلافاً طويلاً في تحقيق ما هي الصلاة التي ذكرها ابن بحينة ولكن المصنف هنا صرح وجزم بأنها الظهر، فاسترحنا والحمد لله، وسواء كانت الظهر أو العصر فالصورة واحدة؛ وهي أنه صلى الله عليه وسلم دخل في صلاة رباعية، والمعروف من قوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) أن نجلس للتشهد الأوسط في الركعة الثانية من الرباعية أو الثلاثية وبعد جلسة التشهد نقوم إلى الركعة الثالثة، وهنا صلى الله عليه وسلم في موضع الجلوس للتشهد الأوسط لم يجلس بل قام، فيكون ترك من الصلاة: التشهد الأوسط والجلوس له، وسيأتي: هل سجود السهو لترك الجلوس أو لترك التشهد، أو لتركهما معاً؟(72/2)
متابعة المأموم للإمام
قوله: (فقام الناس معه) : لماذا قام الناس معه وهم يعلمون بأن هذا موطن جلسة؟ عند هذا يبحث العلماء مسألة: إذا كان المأمومون يعلمون نسيان الإمام عند هذا الموطن: فهل يتابعونه مباشرة أو ينبهونه؟ قالوا: يتعين على المأمومين أن ينبهوه.
وقد جاء في بعض روايات هذا الحديث أنهم نبهوه وسبحوا، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يرجع، وفي بعض الروايات: (أشار إليهم أن قوموا، فقاموا) .
لماذا لم يرجع الإمام؟ قالوا: هناك مقياس للإمام وللمنفرد، إذا كان الإمام قد نسي الجلوس ونهض للقيام فينبه، فإن كان أقرب إلى الأرض رجع، وإن كان أقرب إلى الانتصاب استمر.
إذاً: لم يرجع صلى الله عليه وسلم حينما نبهوه؛ لأنه كان أقرب إلى الانتصاب والقيام، فحينئذ من حقه عليهم أن يتابعوه، فهو قام نسياناً، وهم قاموا متابعة.
قوله: (فقام الناس معه) .
هل قام الناس معه ابتداء؟ الجواب: لا، وإنما بعد أن نبهوه، وبعد أن قارب القيام، وأصبح من حقه أن ينهض، ومن حقه عليهم أن يتبعوه ويتابعوه، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) .
وفي سجود السهو حينما سجد وسجدوا معه، هو سجد لنسيانه، وهم ما نسوا، ولكنهم تركوا الجلوس والتشهد فسجدوا معه، فإذا كان السهو من الإمام فقط ولم يكن من المأمومين، فسجد الإمام لسهوه، فيسجد المأمومون معه، وسيأتي في بعض الصور: لو قام الإمام في الخامسة والمأمومون يعلمون أنها الخامسة، فنبهوه فلم يسمع لهم؛ لأنه لم يثق بكلامهم، وكان يقينه في نفسه أنها الرابعة، فمن قام من المأمومين مع الإمام مع علمه ويقينه أنها الخامسة بطلت صلاته، وعلى أولئك الموقنين بأنهم أتموا الأربع، وأن هذه ركعة زائدة عليهم؛ أن يبقوا في مكانهم حتى يأتي الإمام بيقينه، ويتشهد ويسلم، وإذا علم أو تأكد أو ثبت عنده بعد أن جاء بالخامسة أنها زائدة، فيتعين عليه أن يسجد للسهو، وأولئك الجلوس الذين لم ينهضوا معه ولم يأتوا بزيادة سهواً ولا عمداً عليهم أن يسجدوا معه تبعاً له، ثم يسلموا مع تسليمه.
إذاً: قام الناس معه اتباعاً وأداءً لحق: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) .(72/3)
صفة سجود السهو
قوله: (حتى إذا قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه) .
(قضى) تأتي بمعنى انتهى، قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ} [الجمعة:10] يعني: انتهى وسُلم منها، وقوله هنا: (حتى إذا قضى) أي: أتى ببقية الركعات بقرينة قوله: (وانتظر الناس أن يسلم) ، فكلمة (قضى) كما يقول الأصوليون: ما قارب الشيء يعطى حكمه؛ لأنه أتى بالأعمال وأصبح قريب التسليم، فانتظر الناس السلام، فعبر الراوي بقوله: (لما قضى الصلاة) وإن كان ليس قضاء كاملاً؛ لأنه لم يسلم بعد، ولا تعتبر الصلاة قضيت إلا بعد إكمالها ولم تبق لها أي جزئية، كما في النص الكريم: {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا} [الجمعة:10] ومعلوم أن ذلك بعد التسليم، لكنه هنا قال: (فلما قضى الصلاة) يعني: جاء بالباقي.
قوله: (وانتظر الناس تسليمه) يعني: أنه تشهد بعد أن أتى بالركعتين الباقيتين، وعلم أنه ترك الجلوس، بل قد أشار إليهم: (أن قوموا) ، والآن جلس يتشهد على حسب نظام الصلاة، والناس معه يظنون أن ترك الجلوس قد مضى لسبيله وتمت الصلاة.
قوله: (كبر وهو جالس) .
أي: وهو جالس للتشهد كبر تكبيرة الانتقال للسجدة، ولهذا يقولون: سجدتا السهو هما كأي سجدتين في صلب الصلاة: تكبر،وتسجد،وتسبح، وتطمئن، ثم ترفع من السجود وتجلس وتدعو الدعاء الوارد، ثم تكبر وتسجد، ثم تكبر وترفع.
إذاً: سجدتا السهو في الهيئة والصورة والعمل كسجدتي الصلاة سواء بسواء، فكما نفعل في السجدتين في صلب الصلاة نفعله في سجود السهو، سواء كان السهو في فريضة أو نافلة، على ما سيأتي إن شاء الله.
قال: (وسجد سجدتين قبل أن يسلم) .
سجد سجدتين مرتبتين؛ سجد ثم رفع من السجود، أي: مكبراً أيضاً، وجلس حتى اطمأن، ثم كبر وسجد الثانية حتى اطمأن وسبح أيضاً ثم كبر ورفع.
قال: (ثم سلم) .
وهذا سجود السهو كان قبل السلام، فلما أكمله سلم.
وسبب سجود السهو لا يخرج عن أحد أمرين: إما الزيادة في الصلاة كمن صلى خمساً أو جلس جلسة زائدة، وإما النقصان، والذي حدث في هذه الصلاة في حديث عبد الله بن بحينة هو نقصان التشهد، ونقصان الجلوس، والفرق بينهما: أن الإنسان لو كان منفرداً وجلس تلك الجلسة بعد الركعة الثانية، وفي مدة قراءة التشهد لم يقرأ التشهد وقام، فيكون قد ترك التشهد فقط والجلسة قد حصلت فهل يسجد للسهو لأنه ترك التشهد؟ الجواب: إن قيل بأن السهو للتشهد فيتعين على المنفرد إن جلس جلسة تكفي للتشهد ثم نسيه وقام؛ أن يسجد للسهو، وإن قيل: بأن السهو هو للجلسة، فجلس جلسة التشهد ولم ينسها ونسي التشهد فعلى هذا القول لا سهو عليه.
إذاً: هذا الفرق بين اعتبار السهو للتشهد أو للجلوس أو لهما معاً.
والصورة التي عندنا حصل فيها نقص، سواء قلنا: في التشهد أو في الجلسة للتشهد، فما كان عن نقص يأتي سجود السهو جبراناً للنقص، وجبران الشيء يكون منه، وهذه قاعدة عند أحمد: (كل سهو عن نقص يكون قبل السلام) .
وأما موضع السجود للسهو عند الأئمة الأربعة: فهناك من يقول: كل سجود للسهو يكون قبل السلام؛ حملاً على هذا.
وهناك من يقول: كل سجود للسهو يكون بعد السلام.
فأما الأول فهو قول الشافعي، وأما الثاني فهو قول الأحناف.
ومالك رحمه الله يقول: (ما كان عن نقص فقبل السلام، وما كان عن زيادة فبعد) .
وأحمد يقول: ننظر الخمس الصور التي وردت عنه صلى الله عليه وسلم أين أوقع السجود فيها، فنطبقها فيما لو وقع من إنسان واحدة منها، فكل سجود عن نقص فهو قبل السلام، وكل سجود عن زيادة فهو بعد السلام، وإذا كان عن شك أو تحير، أو عدم يقين فيكون قبل السلام كما سيأتي إن شاء الله، لكن لو جاء سهو في مواطن خلاف المواطن الخمسة التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالإمام أحمد يقول: نجعلها قبل السلام.
إذاً: كل ما جاءت صورته عن النبي صلى الله عليه وسلم بالذات نجعل سهوها كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في تلك الصورة، وما كان في غيرها فنجعله قبل السلام، فيكون القول بجعل السجود قبل السلام أكثر قائلاً، وأكثر اعتباراً، وهذه مجمل أقوال العلماء في ذلك، وسيأتي لها زيادة إيضاح إن شاء الله.
يهمنا في هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قام من الثانية وترك الجلوس، وترك الجلوس يستلزم ترك التشهد، فنبهوه فلم يرجع وقام الناس معه، وعرفنا متى يقوم الناس؟ ومتى لا يقومون؟ ومتى يستتم ناهضاً؟ ومتى يحق له أن يرجع؟ ثم بعد ذلك انتظر الناس تسليمه فلم يسلم، فسجد سجدتين وسلم بعدها، وأتى في سجود السهو بما يأتي به في صلاته العادية؛ بأن كبر للانتقال وسبح ودعا بين السجدتين، والله تعالى أعلم.
ينقل ابن عبد البر، وابن قدامة، والنووي، وعلماء الحديث الإجماع على أنه مهما كان سبب السهو - وقلنا بأن السبب لا يخرج عن الزيادة أو النقصان - فسجد الساهي قبل أو بعد السلام فصلاته صحيحة، وأما تعيين السجود للسهو هل هو قبل السلام أو بعد السلام إنما هو للأفضلية، أما إذا سجد قبل السلام في موضع يكون بعد السلام أو سجد بعد السلام في موضع يكون قبل السلام، فإن الصلاة قد تمت، ولكنه ترك الأفضل في موضع السجود.
إذاً: التحديد بقبل أو بعد أو بأي صورة من الصور المذكورة هو بحث كبير، ونحن إذا كنا حصلنا على الأساس والأصل وصحت الصلاة فالحمد لله، فهذا القول من العلماء في هذه المسألة أو الجزئية يهون علينا مسألة السجود للسهو.
قال المصنف: [وفي رواية لـ مسلم: (يكبر في كل سجدة وهو جالس، ويسجد ويسجد الناس معه مكان ما نسي من الجلوس) ] .
نقل الراوي: (ويسجد الناس معه) ليبين أن الناس لم يقع منهم سهو، بل هم متذكرون ونبهوا الإمام من أجل أن يرجع ولكنه لم يرجع، فسجودهم معه إنما هو متابعة للإمام.(72/4)
شرح حديث: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي ركعتين)
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي ركعتين ثم سلم، ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد، فوضع يده عليها، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهابا أن يكلماه، وخرج سرعان الناس فقالوا: قصرت الصلاة! وفي القوم رجل يدعوه النبي صلى الله عليه وسلم ذا اليدين فقال: يا رسول الله! أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال: لم أنس ولم تقصر، فقال: بلى، قد نسيت، فصلى ركعتين ثم سلم، ثم كبر، ثم سجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر، ثم وضع رأسه فكبر، فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر) متفق عليه، واللفظ للبخاري، وفي رواية مسلم: صلاة العصر] .
هذا الحديث من أهم الأحاديث النبوية، وكلها مهمة، ولكنه لموضوعه اهتم به العلماء كثيراً، حتى إن بعض العلماء أفرده بتأليف خاص وإن كان لم يصلنا، لكنهم نقلوا عنه الشيء الكثير، وبعضهم ينقل عمن كتب في هذا الحديث أنه استخرج من هذا الحديث مائة وخمسين مسألة، وابن دقيق العيد رحمه الله لدقة أسلوبه يقول: إن الكلام على هذا الحديث من ثلاث جهات: الجهة الأولى: جهة أصل الدين والعقيدة.
الجهة الثانية: جهة علم الكلام.
الجهة الثالثة: جهة حكم الحديث فقهياً.
ثم أخذ يتكلم عن كل قسم منها في كتابه: (إحكام الأحكام في شرح كتاب عمدة الأحكام) ، وللإمام الصنعاني صاحب سبل السلام حاشية تسمى: (العدة على شرح العمدة) ، تعقب ما جاء به ابن دقيق العيد بزيادة التفصيل، والتنبيه على ما يلزم التنبيه عليه.
أما موضوع علم الكلام: فإنه في هذه المحاورة والتي تعتبر عند المنطقيين قاعدة في الفرق بين الكل والكلية، وهي قوله صلى الله عليه وسلم لـ ذي اليدين: (لم تقصر ولم أنس) ، وفي بعض الروايات: (كل ذلك لم يكن) ، وهذا هو المبحث المنطقي.
ثم في أصول الفقه بحث فيما يتعلق بخبر الواحد، ويذكرون أن ذا اليدين أخبر رسول الله، فلم يكتف بإخباره وسؤاله، بل استوثق من الحاضرين فقال: (أصدق؟) فيبحث الأصوليون مدى قوة خبر الواحد والاستدلال به.
ثم يأتي فقه المسألة: أنه صلى الله عليه وسلم بعدما سلم سجد ثم سلم.
وهذا هو فقه المسألة، وهو ما يتعلق بسجود السهو.
وأرجو من الإخوة طلاب العلم أن يرجعوا إلى هذا الحديث سواء في الموطأ، أو في إحكام الأحكام لـ ابن دقيق العيد، أو في العدة للصنعاني، أو في فتح الباري، أو في جميع موسوعات الحديث التي تكلمت على هذا الموضوع بإسهاب، وبالله تعالى التوفيق.
وصلى الله على نبيه وآله وسلم تسليماً.(72/5)
كتاب الصلاة - باب سجود السهو وغيره [2]
الخلاف سنة الله عز وجل في خلقه، وهو نوعان: منه المحرم الذي لا يجوز الوقوع فيه، ومنه الجائز الذي لا حرمة فيه، وهو قسمان: اختلاف تنوع، واختلاف أفهام، وأكثر ما يقع هذان القسمان في المسائل الفقهية، ومن ذلك: اختلاف أحاديث موضع سجود السهو، فالتحقيق أنه يجوز السجود للسهو قبل السلام أو بعده، وقد اختلف الفقهاء في الأفضل، وكذلك اختلفوا في كثير من أحكام سجود السهو.(73/1)
شرح حديث: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً، فلما سلم قيل له: يا رسول الله! أحدث في الصلاة شيء؟ قال: وما ذاك؟) ] .
تقدمت بعض الأحاديث فيما يتعلق بسجود السهو من نقص أو زيادة، وهذا الحديث فيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الرباعية خمساً) قيل: هي العصر، ولما قام إلى الخامسة لم ينبهوه على شيء؛ لأنه يجب عليهم الاتباع، فلما سلم من الخامسة سألوه؛ لأن الذي حدث على غير العادة، فاستلزم الاستفسار والتأكد فقالوا: أحدث في الصلاة شيء؟ أي: هل زيد فيها؟ وهذا أمر لا يستبعد؛ لأن الصلاة أول ما فرضت ركعتين، ثم أقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر، ومن هنا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: (ما حدث شيء، وما ذاك؟ قالوا: صليت كذا وكذا -يعني: أربعاً وزدت الخامسة-، فقال: لا.
لم يحدث في الصلاة شيء، ولو حدث فيها شيء لأخبرتكم) ، وهذه هي مهمة التبليغ؛ وهي أنه صلى الله عليه وسلم لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة، فلو حدث في الصلاة شيء قبل أن يدخل فيها لأعلمهم بها، ليكونوا على علم بذلك، فلما لم يعلمهم بذلك، دل على أن هذا الذي وقع سهو، ثم بين الراوي تداركه لذلك: (وكان قد حنى رجليه -أي: كان قد جلس جلسة أخرى، ثم ثنى رجليه لجلسة التشهد- فسجد سجدتين -أي: سجدتي السهو- ثم سلم، ثم قال لهم: إنما أنا مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني) .(73/2)
هل النبي صلى الله عليه وسلم ينسى؟
وعند هذه الرواية: (أنسى كما تنسون) تأتي رواية أخرى وهي من بلاغات مالك رحمه الله ومراسيله التي بلغت فوق الستين نصاً، ولم يذكر لها مالك سنداً، ولكن العلماء تتبعوا تلك البلاغات والمراسيل فوجدوا لها أسانيد عند غير مالك إلا أربعة أحاديث لم يجدوا لها سنداً كما يقول ابن عبد البر رحمه الله، ولكن جاء وابن الصلاح وغيره فتتبعوا تلك الأربعة فوجدوا لها أسانيد عند غير مالك، ومن تلك الأربعة على ما أذكر: ما يتعلق بليلة القدر؛ أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أُريت أعمار أمتي وأعمار الأمم) فاستقل صلى الله عليه وسلم أعمار الأمة؛ لأنها ما بين الستين والسبعين، والأمم الذين قبلها كانوا يعمرون طويلاًَ، فاستقل أعمار الأمة، وكيف تحصّل مع أولئك نصيباً في الجنة! فأنزل الله سبحانه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:1-3] ، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال للناس: (كان فيمن قبلكم رجل حمل السلاح ألف شهر يقاتل في سبيل الله! فقالوا: وماذا نحصل مع هؤلاء من عمل الخير؟ فأنزل الله سبحانه سورة القدر، وفيها ليلة خير من عمل الذين قبلهم) فهذا أحد الأحاديث الأربعة.
والثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا نشأت بحرية ثم تشاءمت، فتلك عين غديقة) .
يقول مالك: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا نشأت) أي: السحابة، وقوله: (بحرية) أي: من جهة البحر، والبحر في غرب المدينة، وقوله: (ثم تشاءمت) لأن السحابة التي تنشأ غرباً إما أن تستمر إلى الشرق وإما أن تنحرف إلى الجنوب، وإما أن تنحرف إلى الشمال، فهنا صلى الله عليه وسلم في هذا البلاغ يقول: (إذا نشأت بحرية ثم تشاءمت - أي: اتجهت إلى الشمال أو إلى الشام - فتلك عين غديقة) يعني: هذه السحابة عين غدق ماؤها، أي: ممطرة بإذن الله سبحانه.
والثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: (إني لا أنسَى ولكن أنسّى لأسن) .
والرابع: أظنه قوله صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (حسن خلقك للناس) الحديث أو غيره.
فهذه أربعة بلاغات لم يوجد لها سند سوى إيراد مالك لها، وهذا كلام ابن عبد البر، وابن عبد البر قد أفرد البلاغات والأسانيد في التمهيد في الجزء الأخير؛ والكتاب مطبوع كله، فجاء -كما أشرنا- بعض العلماء وتتبع هذه الأربعة، فوجد لها أسانيد عند غير مالك؛ منها ما هو ضعيف، ومنها ما هو غير ضعيف، والذي يهمنا هو هذا الأثر الثالث، والعلماء يبحثون هذه المسألة على الروايتين؛ الأولى: (إنما أنا مثلكم) قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف:110] ، فبعامل البشرية قالوا: يجري عليه صلى الله عليه وسلم ما يجري على عامة البشر من الأمور الجبلية، والآخرون قالوا: كيف ينسى وهو صلى الله عليه وسلم يوحى إليه من عند الله؟ فإذا قلنا: إنه ينسى، فقد ينسى ما يوحى إليه، وهذا طعن في الرسالة، فقالوا: الجواب بتلك الرواية الثالثة؛ وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا لا أنسى ولكن أنُسى) يعني: رغماً عني، ولأي شيء ينسى مع أن النسيان نقص؟ قال: (لأسن) وأحسن من تكلم على هذه المسألة هو القاضي عياض في كتاب الشفاء، فمن أراد التوسع في هذا الموضوع فليرجع إليه.
والخلاصة: أن بعض العلماء قال: يكون منه صلى الله عليه وسلم النسيان في أمور الدنيا؛ أكل أو لم يأكل، أعطى فلاناً أو لم يعطه، ذهب إلى فلان أو لم يذهب، فهذه أمور عادية تجري على سنن البشر، وهو صلى الله عليه وسلم في ذلك تجري عليه قوانين البشر، قالوا: وأما لو أطلقنا ذلك في العبادات فلا؛ لأنه إذا نسي في العبادة فلا يقر على النسيان، بل ينبه، ولكن لماذا ينسى؟ قالوا: ليسن، وإذا تتبعنا قضايا وقعت بالفعل نجد أن النسيان الذي يقع على النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو من أجل أن يبين السنة، فقد يكون واجباً عليه؛ لأنه إذا لم يقع هذا الفعل أو لم تحدث هذه الصورة منه صلى الله عليه وسلم لم يبين الحكم فيها، ثم إذا وقعت بعد موته فماذا نفعل فيها؟ فقالوا: من تمام التبليغ أن يقع عليه طوارئ الأحداث والمستجدات حتى يبين للناس ماذا يعملون؟ ولهذا نظائر كثيرة.
واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} [البقرة:106] يعني: ننسيك إياها، وفي الآية الأخرى قال: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى:6-7] إذاً: قد يشاء الله أن ينسيه، سواء مما أوحى إليه أو ما كان من الأعمال ليترتب عليه بيان الحكم، وقد وقع له صلى الله عليه وسلم في هذا المجال وفي غيره ما لم يقع لغيره لبيان التشريع.(73/3)
قصة نومهم عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس
كلنا يعلم أن في عودته صلى الله عليه وسلم من خيبر، سهر هو وأصحابه طوال الليل ثم عرسوا قبيل الفجر، وقال: (يا بلال! احرس لنا الفجر، قال بلال: فأنخت راحلتي، وأسندت ظهري إليها، ووجهت وجهي إلى المشرق أرقب الفجر، فما مكثت إلا وجاءني الشيطان يهدهدني كما تهدهد الأم طفلها حتى نمت، وما أيقظنا إلا حر الشمس) ، فلما استيقظوا كان عمر من أوائل من استيقظ، ولم يكونوا يجرءون على إيقاظ النبي صلى الله عليه وسلم من نومه؛ لأنهم يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم تنام عيناه، ولا ينام قلبه، وقد يكون في حالة يوحى إليه فيها، لكن عمر أخذ يكبر، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عنده أبو بكر، فقال: (يا أبا بكر! أين بلال؟! ما أراه إلا أن الشيطان أتاه وأخذ يهدهده كما تهدهد الأم طفلها حتى نام، فقام أبو بكر ونادى بلالاً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الصبح يا بلال؟! فقال: قبض روحي الذي قبض أرواحكم) يعني: لماذا تلومونني أنا فقط، فكلنا قد نام؟ وقوله صلى الله عليه وسلم فيه دعابة ولطافة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أخبرني، فقال: والله يا رسول الله، لقد أخذت أهبتي، وأنخت راحلتي، واستندت إليها، واستقبلت المشرق بوجهي أنتظر الفجر، فإذا الشيطان يأتي ويهدهدني -الحديث- فقام أبو بكر وقال: أشهد إنك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارحلوا من هذا الوادي، فإن فيه شيطاناً) فخرجوا، وأذن بلال، وأقام، وصلوا الفجر.
ففي هذه الحالة من يستطيع أن يقول: إن الرسول أراد أن تفوته صلاة الصبح؟ لا أحد يقول ذلك، ولكن حصل هذا من أجل التشريع، وقد أخذ بأسباب البشر، بأن وكل الأمر إلى شخص ليوقظه، ونحن الآن نوكل قيامنا بالمنبه، فإذا كان الإنسان قد أخذ الأهبة فيما هو في وسعه، فما وراء ذلك فالله هو الذي يتولاه، فلما حدث ذلك كانت النتيجة أن أمرهم صلى الله عليه وسلم أن يرحلوا من المكان، ثم أذن المؤذن كما يؤذن في العادة، ومن هنا نعلم أن الأذان للصلاة مع الوقت، وهنا الوقت قد خرج، والشمس قد ارتفعت، ثم بعد ذلك الأذان صلوا السنة، ومن هنا نعلم تأكيد سنة الفجر، وقد كان صلى الله عليه وسلم لا يتركها في سفر ولا حضر، ثم أقيمت الصلاة وصلى الفجر أيضاً كما يصليها في العادة.
ومن هذه الحادثة نعلم ماذا نفعل إذا فاتنا وقت الصلاة، فلا نؤخرها إلى الغد بل نصليها في وقتها، وقد كان بعض الناس يقول ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله نهاكم عن الربا، وكيف يقبله منكم؟!) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها) .
إذاً: كان هذا تقدير من الله ليبين للأمة فعل رسول الله فيقتدوا به صلى الله عليه وسلم إذا وقع منهم مثل ذلك.(73/4)
قضايا وقعت للنبي صلى الله عليه وسلم من أجل أن يبين الحكم فيها للأمة
إن المتأمل في السنة يجد عدة قضايا كان الرسول صلى الله عليه وسلم بعيداً عنها كل البعد، ولكنها فرضت عليه فرضاً، وألزم بها ليبين للأمة بنص الكتاب المبين الحكم فيها، وذلك مثل قصة زينب وزيد، ماذا كان موقفه منها؟ قال تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب:37] ، ليس هو الذي ذهب وتزوجها، وإنما فرض عليه زواجها، لماذا؟ هل لأنها ابنة عمته؟ أم أنه كما يقول أولئك المغفلون أو أولئك المتهمون: كان يراها ويريدها؟ أليس كانت ابنت عمته بكراً وهو قادر على ألا يزوجها زيداً، وأن يمنعه منها؟ بلى والله! ومن هو زيد؟ زيد خطف من الطريق وبيع فاشتراه شخص وأهداه لـ خديجة رضي الله تعالى عنها، فوهبته لرسول الله، فجاء أبوه وعمه يتقصون الأخبار عنه حتى عرفوا أنه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: (يا محمد! جئناك في فداء ابننا زيد، فقد علمنا أنه عندك، وأنت تأمر بصلة الأرحام، قال: أو غير ذلك؟ قالوا: وما هو؟ قال: أناديه وأعرض عليه، فإن اختاركما فلا أريد منكما فداء، وإن اختارني فما أنا بمفاد من يختارني على أهله، قالوا: والله! لقد أنصفت، فدعا زيداً فقال: هل تعرفهما؟ قال: نعم هذا أبي، وهذا عمي، قال: إنهما أتيا لفدائك، وقد أخبرتهما: إن اخترتهما فاذهب معهما بلا فداء، وإن اخترتني فما أنا بمفاد من يختارني، فقال: والله! لا أختار عليك أحداً أبداً -وهذا قبل البعثة وقبل الرسالة، من أجل تلك الأخلاق الفاضلة التي نشأه المولى سبحانه وتعالى عليها- فقال له أبوه: ويحك يا زيد! أتختار الرق والعبودبة على الحرية؟ قال: ومالي لا أختاره؟ والله! منذ صحبته ما قال لي على شيء فعلته: لم فعلته، ولا لشيء لم أفعله: لم لم تفعله؟) فهل معنى هذا أن فعل الأمر ليس مهماً بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم؟ لا والله! ولكنه كان يوجهه بمكارم الأخلاق وباللطافة والإحسان والمروءة، فعرفوا مكانه وقالوا: إذن نحن نطمئن على ولدنا، وانصرفوا.
فلما وجد منه صلى الله عليه وسلم هذا الوفاء، أخذ بيده وطاف به حول الكعبة وقال: (يا معشر قريش! زيد هذا ابني، يرثني وأرثه) ، حتى جاء الإسلام وأنزل الله قوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب:40] الآية، وقال تعالى: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب:5] .
وكان صلى الله عليه وسلم قد زوج زيداً بـ زينب، وكان يدعى ابن محمد حتى جاء القرآن ونسخ التبني، وكذلك نسخ تحريم زوجة الابن بالتبني، وبقي تحريم زوجة الابن من النسب، وهذه القضية لو أنها وقعت مع أبي بكر أو مع عثمان أو مع عمر أو مع أي أحد من الصحابة لم تهدم هذه العادة، ولم تقض على ما تعارفوا عليه طيلة دهرهم، ولكن لما كانت في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم هدمت تلك العادة وانتهت، وكان صلى الله عليه وسلم يحاول أن يدفع ذلك عن نفسه، قال تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ} [الأحزاب:37] ، وهذا عتاب كبير، لماذا زوجه الله تعالى؟ قال تعالى: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب:37] يعني: أن هذا الزواج للتشريع، فرض عليه لكي يأتي التشريع الجديد في شخصيته صلى الله عليه وسلم.
المهم أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متطلعاً إليها ولم يكن راغباً في زواجها، ولكن هذا الزواج فرض عليه من أجل التشريع، ولذلك كانت تقول لنساء رسول الله: (زوجكن آباؤكن، وأنا زوجني الله من فوق سبع سموات) ، وهذا والله هو العقل.
إذاً: هذا العمل أجري على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلك الصلاة أجريت على رسول الله، فلا مانع أن ينسّى، لكن لأي شيء؟ ليبين للناس.(73/5)
ثلاثة أحداث في الحج للتشريع
ومن ذلك: الحج، فقد حج النبي صلى الله عليه وسلم مرة واحدة، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] ، وجاءت بعض التشريعات لبعض أركان الحج أو أعماله في كتاب الله، مثل قوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] ، وقوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199] ، وقوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158] ، وقوله: {ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] ، فهذه بعض تشريعات الحج، ولكن كون الحائض تطوف أو لا تطوف، وكون الإنسان يحج عن الغير أو لا يحج، لم يأت له في القرآن ذكر، وإنما جاءت وبينته السنة لشدة خطر موضوع الحيض والنفاس في الحج تأتي ثلاثة أحداث في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبين للناس الحكم فيها: الحالة الأولى: في الميقات قبل الشروع في الإحرام.
الحالة الثانية: في أثناء الطريق وهم محرمون.
الحالة الثالثة: في يوم من أيام منى قبل العودة وقبل النفير.
أما الحالة الأولى: فهي حادثة أسماء زوجة الصديق، والصديق والرسول صلى الله عليه وسلم في ركب واحد، وعلى مرأى ومسمع منه صلى الله عليه وسلم، نفست أسماء عندما باتوا في بئر علي، فسأل أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (مرها فلتغتسل ولتنوي) ، هي نفساء الآن، ولم تطهر من النفاس! ولكن هذا الغسل ليس لطهر النفاس ولكن للإحرام، فهذا يدل على أن النفاس لا يمنع المرأة أن تحرم.
الحالة الثانية: بعد أن وصلوا إلى سرف: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة - وكانت أحب النساء إليه- فإذا بها تبكي، فقال: لعلك نفست؟ فقالت: نعم، فقال: لا عليك، أمر كتبه الله على بنات حواء، قولي: حجة في عمرة) .
الحالة الثالثة: عندما نزل من عرفات إلى منى ورمى الجمار، وعندما رجع من مكة إلى منى (سأل عن صفية، فقالوا: إنها حائض، فقال: أحابستنا هي؟ - أي: عن العودة وطواف الإفاضة حتى تطهر، وبعدها تطوف طواف الإفاضة- فقالوا: لا.
لقد طافت من قبل- استأذنت فنزلت من منى، ورمت جمرة العقبة، ونزلت إلى مكة وطافت ورجعت إلى منى- فقال: إذن نرحل ... ) .
فتأتي هذه الأحداث الثلاثة فيما يتعلق بأمر النسوة في بيت رسول الله، ليبين صلى الله عليه وسلم للأمة في ذلك إذا وقع لهم مثله.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (إني مثلكم أنسى كما تنسون) لا مانع من ذلك، ولكنه لم ينس شيئاً من التبليغ، وقد ينسى شيئاً من العبادة ولكنه لا يترك عليه، وهذا بإجماع المسلمين أنه صلى الله عليه وسلم لا يقر على النسيان في العبادة، بل لا يقر صلى الله عليه وسلم على الخطأ في العبادة، ولو لم يكن نسياناً، كما في قصة خلعه صلى الله عليه وسلم لنعليه وهو ساجد في الصلاة، فخلع المسلمون نعالهم، فلما سلم قال: (أنا خلعت نعلي، فما بالكم خلعتم نعالكم؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا - وهذا هو الواجب، فربما جاء تحريمه في هذه اللحظة- قال: أما أنا فأتاني جبريل فأخبرني أن فيهما أذى، فخلعتهما) فلم يقر على الأذى في نعليه صلى الله عليه وسلم.
إذاً: ما يتعلق بالبلاغ فهو معصوم صلى الله عليه وسلم من النسيان فيه، بل يقول القاضي عياض: أيهما أشد؛ النسيان الذي يتذكر به حالاً أو السحر الذي وقع عليه؟ فقد وقع عليه السحر بإجماع المسلمين، سحره لبيد بن الأعصم، وقضيته معروفة في تفسير سورة الفلق، فوقع عليه صلى الله عليه وسلم ما يقع على البشر بسنة البشر، ولكن في حالة السحر بينت عائشة فقالت: (كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله) ، ولم تقل: تكلم بكذا, ولا ألغى كذا، ولا نسخ كذا، أبداً، وإنما هي أمور عملية فعلية في شخصه صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يضر الرسالة، ولا يتعارض مع العصمة، ولا يخدش في التبليغ عن الله سبحانه وتعالى.
ونأتي إلى بلاغ مالك: (أنسّى) .
أقول: والله! إن تلك الأحداث لتشهد لرواية مالك: (أنسّى) ؛ لأن ذلك من تمام التبليغ عن الله سبحانه وتعالى وبيان التشريع، والله تعالى أعلم.(73/6)
الفتح على الإمام
وقوله: (أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني ... ) .
في بعض الأحاديث الأخرى: (أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في الصلاة وترك آية، فلما سلم قالوا: تركت آية كذا! فقال: أليس فيكم أُبي؟ فقالوا: بلى، فقال: لماذا لم ترد علي؟ قال: خشيت أن تكون نسخت) .
وهذا الذي نبهنا عليه، وقد طُلب من الإمام مالك أن ينصب نافعاً إمام القراء للصلاة بالناس، فقال: لا.
لا تجوز صلاته بالناس، فقالوا: يا مالك! هذا شيخ القراء، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (يؤم الناس أقرؤهم لكتاب الله) ، فلماذا لا تنصبه؟ قال: لو أخطأ فلن يكون هناك أحد يرد عليه، فيظن الناس أنها قراءة فيسكتون، فيمضي الخطأ على أنه قراءة، فاقتنعوا بذلك، وكذلك أُبي لم يرد على رسول الله؛ لأن الآية قد تكون نسخت، وينبغي التنبه إلى هذه النقطة! قال: (أنسى كما تنسون) يعني: أنا نسيت فذكرتموني، وأنتم كذلك تنسون، والنسيان يأتي بالشك؛ لأن الشك لا يكون إلا نتيجة النسيان.(73/7)
تحري الصواب عند الشك في الصلاة
قال صلى الله عليه وسلم: (إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب) معنى التحري: أن ينظر ما يغلب على ظنه إلى أقصى حد ويدقق فيها تدقيقاً، فكأنه وصل إلى خيط الحرير بين المسألتين، كما يقال: تحرير المسألة، أي: تنقيتها إلى أقصى حد، فإذا تحرى عمِل بما ظهر له.
قوله: (فليتحر الصواب وليتم عليه) ، أي: يتم على ما توصل إليه في تحريه، ( {ثم ليسجد سجدتين) ، بعدما يتحرى يتم صلاته على هذا التحري، ثم يسجد سجدتين.
هل السجدتان قبل أو بعد؟ بينه في الرواية الآتية: [وفي رواية للبخاري: (فليتم، ثم يسلم، ثم يسجد) ] .
يعني: يكون سجود السهو عند التحري بعد السلام.(73/8)
شرح حديث: (سجد سجدتي السهو بعد السلام والكلام)
قوله: [ولـ مسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد سجدتي السهو بعد السلام والكلام) ] المؤلف لم يسق هذا ليبين موضع سجدتي السهو هل هما قبل أم بعد؟ وإنما ساق هذا ليبين أن سجدتي السهو لا يمنعها الكلام، ما دام أنه في مصلحة الصلاة، فإذا سلم ثم تكلم ونُبه وتبين له أنه سها، فكلامه هذا لا يقطعه عن الصلاة، وإنما يجبر ما نقص منه أو زاد سهواً بسجدتين ولو تكلم قبلهما.
وساق المؤلف هذا هنا ليبين المسألة؛ لأننا نجد الفقهاء رحمهم الله قد اختلفوا، فبعضهم يقول: السجود بعد السلام، وبعضهم يقول: إن طال الفصل استأنف صلاته من جديد.
ثم اختلفوا في حد هذا الطول؟ فبعضهم يقول: يحدد عرفاً؛ لأنه لم يأت فيه تحديد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضهم يقول: يحدد بقدر ركعة، وبعضهم يقول: يحدد بقدر الصلاة التي سها فيها، ثم الآخرون يقولون: إذا كان الكلام من مصلحة الصلاة فلا يضر، ولهذا جاء المؤلف رحمه الله بهذا الحديث، وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أوقع سجدتي السهو بعد أن سلم وتكلم) .
وهل المسألة قاصرة على الكلام فقط؟ وإذا تحرك وانتقل من مكانه فما هو الحكم؟ قالوا: إن كان قريباً سجد، وهذا القرب ما حده؟ قالوا: يحدد عرفاً، وبعضهم يقول: ما لم يخرج من المسجد، فإن خرج من المسجد ونبه استأنف من جديد.
إذاً: هذه المسائل كلها موضع بحث وتقدير واجتهاد عند العلماء رحمهم الله.(73/9)
شرح حديث: (من شك في صلاته فليسجد)
قوله: [ولـ أحمد وأبي داود والنسائي من حديث عبد الله بن جعفر مرفوعاً: (من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعدما يسلم) وصححه ابن خزيمة] في الحديث الأول ذكر التحري، وهنا ذكر الشك، وهذا تنصيص في أن من شك في الصلاة فليتم- يعني: يبني على اليقين- وليسجد بعد السهو.(73/10)
شرح حديث: (إذا شك أحدكم فقام في الركعتين فاستتم قائماً)
قال المصنف رحمه الله: [وعن المغيرة بن شعبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا شك أحدكم فقام في الركعتين فاستتم قائماً فليمض ولا يعود، وليسجد سجدتين، فإن لم يستتم قائماً فليجلس ولا سهو عليه) رواه أبو داود وابن ماجة والدارقطني واللفظ له بسند ضعيف] .
تقدم في قيامه صلى الله عليه وسلم من الركعتين أنه لم يجلس للتشهد الأوسط، وإنما قام، ثم بعد أن سبحوا كان قد انتصب قائما، ً فأشار إليهم: أن قوموا، ولم يرجع، فقاموا، ثم سجد سجدتي السهو؛ وفي حديث المغيرة هنا يبين النبي صلى الله عليه وسلم حكم هذه المسألة؛ أنه إذا سها الإمام أو المنفرد فلم يجلس في التشهد الأوسط وجاء ناهضاً للقيام، نظرنا ما هي المسافة بين جلوسه وانتصابه قائماً على سبيل التقريب، فإذا كان قد نهض فتذكر أو نبهوه، وكان في هذه الحالة أقرب إلى جلوسه، جلس وتشهد ولا سهو عليه.
وإذا كان قد نهض وبقي من انتصابه (30 سم) ؛ بمعنى أنه انتصب (70 سم) ، أصبح في هذه الحالة أقرب للانتصاب، فلا يرجع.
وإذا كان إماماً، ووصل إلى ما يقرب من انتصابه قائماً، فسبحوا له، فلا يرجع، بل يمضي في قيامه، ويمضي في الركعة الثالثة، وبعد أن يتم صلاته يسجد سجدتي السهو وقد تقدم أنها قبل السلام.
إذاً: في حالة ترك الجلوس للتشهد الأوسط، وسها المصلي منفرداً أو إماماً فننظر هل يمضي في قيامة أو يعود إلى مجلسه؟ ننظر أي المركزين أقرب إليه، فإن كان الجلوس أقرب إليه جلس ولا سهو عليه، وإن كان القيام والانتصاب أقرب إليه قام ولا رجوع عليه، ويجبره بسجدتي السهو.(73/11)
شرح حديث: (ليس على من خلف الإمام سهو)
قال المصنف رحمه الله: [وعن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ليس على من خلف الإمام سهو، فإن سها الإمام فعليه وعلى من خلف) رواه الترمذي والبيهقي بسند ضعيف] يقول المؤلف: رواه الترمذي والبيهقي لكن بسند ضعيف، لكن عليه عمل الناس, والعامة يقولون: الإمام يحمل سهو المأموم؛ بمعنى: حينما تقع الصلاة جماعة فالمأموم مرتبط بالإمام، فإذا سها المأموم ولم يسه الإمام، فعلى المأموم أن يسلم مع الإمام؛ قال صلى الله عليه وسلم: (وإذا سلم فسلموا) ، لكن هل يسجد المأموم سجود السهو عن السهو الذي وقع منه وهو خلف الإمام بعد السلام؟ وهل يتصور أن يسهو المأموم خلف الإمام؟ نعم، فمثلاً: الإمام جلس في التشهد الأوسط، والجلوس معه إنما هو للتشهد، لكن المأموم يوقن في نفسه بأنه لم يتشهد سهواً، فتكون صلاة الإمام صحيحة لا سهو فيها، والمأموم قد وقع عليه سهو في ترك التشهد الأوسط، فإذا سلم الإمام فهل يسجد هذا المأموم سجود السهو لما سها عنه من تشهده؟ قالوا: لا، لأن الإمام يحمله عنه، ولو قلنا: إن سجود السهو ليس للتشهد ولكن للقيام معه؟ فبعض الأئمة كـ مالك يقول: إذا جلس يكفيه.
ومثل هذا أيضاً إذا كان الإمام جلس للتشهد الأوسط، بينما بعض المأمومين قال: الله أكبر، وقام ناهضاً، وصار أقرب إلى القيام، فهل يرجع أو يظل قائماً؟ يجب عليه أن يرجع ويتابع الإمام، فيكون قد وقع منه سهو في القيام والجلوس، فهل يسجد لهذا السهو؟ قالوا: لا؛ لحديث عمر رضي الله تعالى عنه الذي بين أيدينا.
إذاً: إذا سها الإمام ولم يسه المأموم؛ كأن يكون بعد الركعة الثانية كبر وقام ونهض ولم يجلس للتشهد، وسبحوا له فرجع، وكان من حقه أن يستمر، فيكون قد سها في القيام وأخطأ في العودة، فيلزمه سجود السهو، فإذا سجد للسهو الذي وقع منه فعلى المأمومين أن يسجدوا متابعة للإمام، والله تعالى أعلم.(73/12)
شرح حديث: (لكل سهو سجدتان)
قال المصنف رحمه الله: [وعن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لكل سهو سجدتان بعدما يسلم) رواه أبو داود وابن ماجة بسند ضعيف] يختم المؤلف رحمه الله مباحث سجود السهو بهذا الحديث، ويتناول هذا الحديث مسألتين: المسألة الأولى: هل يتعدد سجود السهو بتعدد السهو؟ يعني: هل تعدد السبب يستوجب تعدد المسبب أو لا يستوجبه؟ المسألة الثانية: عند قوله صلى الله عليه وسلم في سجدتي السهو: (بعدما يسلم) من غير تفصيل فيما إذا كان السهو عن زيادة أو كان عن نقص.
أما المسألة الأولى: إذا سها أكثر من سهو مثل أن يقوم ولا يتشهد التشهد الأوسط، وأسر في الجهرية، فهنا تعدد منه السهو، فهل يسجد لكل سهو سجدتين أم سجدتا السهو تجزئ عن كل النسيان الذي وقع منه في صلاته؟ الجمهور على أنه لو تعدد من المصلي أسباب سجود السهو، فإنه يجزئ عن ذلك كله أن يسجد سجدتين فقط، وقالوا: لهذا نظائر، كنواقض الوضوء، فلو أن إنساناً توضأ ثم أحدث حدثاً واحداً من نواقض الوضوء، فإنه يتعين عليه أن يتوضأ، فإذا توضأ وأحدث عدة أحداث كل واحد منها يستوجب وضوءاً على حدة لو كان منفرداً.
فبإجماع المسلمين إذا أراد أن يصلي لا يتوضأ بعدد الأحداث التي أحدثها، بل وضوء واحد يجزئه عن هذه الأحداث كلها، وله أن يصلي بهذا الوضوء، قالوا: كذلك أسباب سجود السهو إن تعددت، يكفي عنها سجدتان فقط.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (لكل سهو سجدتان) فقالوا: هذا للجنس أياً كان السهو، فإنه يجزئه سجدتان، وما هي أنواع السهو؟ هذا فيه خلاف بين العلماء طويل جداً، ويذكر بعض العلماء فيه آثاراً ضعيفة، منها: (لا سهو إلا على من زاد قياماً أو نقص جلوساً ففيه السهو) ، ويحسن سجود السهو في القيام وفي تركه، وزادوا في ذلك أشياء كثيرة، فمن شاء فليرجع إلى كتب الفقه، فإنه سيجد أقوال العلماء فيما يستوجب سهواً أو لا يستوجبه.
وإلى هنا انتهى المؤلف رحمه الله من نصوص السهو، ونعود إليها بالإجمال مرة أخرى فنقول: تقدم التنبيه عن أحمد رحمه الله أنه قال: المنصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم السجود في خمسة مواطن: الأول: (إذا قام من ركعتين) ، الثاني: (إذا سلم من ركعتين) ، الثالث: (إذا زاد خامسة) ، الرابع: (من شك فليتحر) ، الخامس: (من شك فليبن على اليقين) .
هذه هي النصوص التي وردت عنه صلى الله عليه وسلم، وجاء عنه السجود فيها تارة قبل السلام، وتارة بعد السلام.
ونأتي إلى الأئمة رحمهم الله: فنجد أبا حنيفة رحمه الله أخذ بالحديث الأخير: (لكل سهو سجدتان بعدما يسلم) فأخذ الإمام أبو حنيفة رحمه الله بأن كل سهو أياً كان سببه فإنه يسجد له بعد السلام لعموم هذا الحديث.
وقال: إن السهو جبران, والجبران يكون بعد انتهاء الصلاة.
وعند الشافعي رحمه الله: أن كل سهو يسجد له قبل السلام، وقال: جبران الشيء منه.
ومالك عنده قاعدة عامة، وهي: ما كان سببه نقصاناً في الصلاة فيسجد له قبل السلام، وما كان سببه زيادة في الصلاة فيسجد له بعد السلام.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: الحالات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم خمس حالات، فنسجد للسهو في تلك الحالات الخمس كما سجد فيها صلى الله عليه وسلم، وإذا حدث سهو بصورة مخالفة للصور التي جاءت عن رسول الله فنسجد لها قبل السلام.
إذاً: الأكثر يرجحون أن سجود السهو قبل السلام.
وقد تقدم أنه بإجماع المسلمين أن من سجد سجود السهو الوارد فيه بعد السلام فسجده قبل السلام، أو سجد سجود السهو الوارد فيه قبل السلام فسجده بعد السلام؛ فسجوده صحيح وصلاته تامة، يعني: أن ترتيب السجود قبل أو بعد إنما هو من باب التفضيل في الأعمال، وبالله تعالى التوفيق.(73/13)
كتاب الصلاة - باب سجود السهو وغيره [3]
فضل الله عز وجل بعض مخلوقاته على بعض، والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم هم صفوة الخليقة، فلا يجوز أن يساء إليهم، ولا أن يُقدح فيهم، ويجب الدفاع عنهم، والتحري والتثبت في القصص والأخبار التي تنقل عنهم، ورد القصص التي تتضمن الطعن والنقيصة فيهم صلوات الله وسلامه عليهم.(74/1)
شرح حديث: (سجدنا مع رسول الله)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} [الانشقاق:1] و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] ) رواه مسلم] .
هاتان السجدتان لم يقل بهما مالك، ويرى أنه لا سجود في المفصل، والمفصل بعضهم يقول: إن أوله الحجرات، فيدخل تحته سورة النجم، والانشقاق، والعلق، فـ مالك يرى أنه لا سجود فيها.
وإتيان المؤلف بحديث أبي هريرة يدل على أن السجود فيهما ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان الإمام مالك يقول هذا القول، فإنا نجد في المذهب المالكي ثلاث روايات: رواية تقول كما قال مالك.
وراوية تقول: جميع الآيات الخمسة عشر كلها فيها سجدة، ما عدا الثانية من الحج.
والراوية الثالثة تقول: جميع الآيات كلها بما فيها الثانية من الحج.
إذاً: جاء عن مالك في الموطأ عدم السجود في المفصل، وأما عند العلماء المالكية فإنهم يذكرون في المذهب خلاف ما في الموطأ، وهي روايات عن مالك في غير الموطأ.
فيكون مالك يثبت السجود في المفصل على بعض الروايات عنه.(74/2)
شرح حديث: (ص ليست من عزائم السجود)
قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((ص) ليست من عزائم السجود، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها) رواه البخاري] إذا أطلقت كلمة: عزيمة، فمعناها: واجبة؛ لأن العزيمة في الاصطلاح تقابلها الرخصة، ولكن المراد هنا: أنها ليست من السجدات التي جاء فيها الحرص، وجاء فيها التنويه والطلب كبقية آيات السجدات التي في غير (ص) .
يقول الأصوليون: سجدات التلاوة جميعها سنة مندوب إليها، ولكن المندوب يتفاوت بعضه عن بعض؛ فسورة (ص) فيها سجدة، ولكن الطلب فيها والتحريض عليها والحث عليها أقل من الطلب والتحريض والحث في غيرها، وسيأتينا أن سورة الحج تميزت بسجدتين (فمن لم يسجدهما فلا يقرأها) يعني: السورة، أو (فلا يقرأهما) يعني: الآيتين اللتين فيهما السجدة، فهذا حث على السجود فيهما، ومن لم يسجد فيهما يتركهما، فالطلب هنا أشد منه في (ص) .
قالوا: من أين أخذ ابن عباس السجود، في (ص) ؟ جاء عنه أنه قال: سجدها داود عليه السلام توبة، وسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم شكراً، فسجدنا تبعاً لرسول الله.
وقالوا: قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90] ، وداود سجدها فاقتدى به رسول الله فسجد، أو مع اختلاف الاعتبارين: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [ص:24] فكانت استغفاراً، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يصدر منه ما يستوجب الاستغفار عند هذا المقام، ولكن سجدها اتباعاً واقتداء بالرسل المتقدمين صلوات الله وسلامه عليهم.
إذاً: سجدة (ص) تجمع بين كونها سجدة تلاوة؛ لأن النص يقتضي السجود، وبين كونها سجدة شكر، وهذا بالنسبة لنا دون من كان قبلنا، وعلى هذا الخلاف هي سجدة، ولكن هل باعتبار التلاوة أو باعتبار الشكر؟ ما دام صلى الله عليه وسلم سجدها فنحن نسجدها، سواء كانت شكراً أو كانت تلاوة، والله تعالى أعلم.(74/3)
شرح حديث: (سجد النبي عليه الصلاة والسلام بالنجم)
قال المصنف رحمه الله: [وعنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (سجد بالنجم) رواه البخاري] .
يأتي المؤلف بهذا النص أيضاً في سجدة النجم بياناً للخلاف الذي وقع، فـ مالك رحمه الله لم يأخذ به.
سجدة النجم قد جاء في خبرها قصة الغرانيق، وبعض الناس يطعن في قصة الغرانيق، ولكن أصل القصة موجود، وهو السجود، فسجود النبي صلى الله عليه وسلم فيها عند قوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:62] إنما كان للتلاوة، وكان يقرؤها في مكة، فلما قرأ بها وكان المشركون حضوراً، فكل من كان حاضراً في المجلس يسمع سجد، سواء كان مسلماً أو مشركاً، وكان سبب سجود المسلمين اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما سبب سجود المشركين فاختلق له بعض الناس قصة الغرانيق، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى * أَلَكُمْ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى * تِلْكَ} [النجم:19-22] إلى آخره، فالشيطان عند تلاوة ذلك قال: (تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى) ، فلما سجد صلى الله عليه وسلم، قال المشركون: محمد ذكر آلهتنا بخير اليوم، ولم يذكرها بخير قط قبل ذلك، فسجدوا معه ظناً منهم أنه سجد لها في هذه الحالة، ولكن هذه القصة باطلة، وإذا جئنا إلى كتب التفسير نجد أن أغلبها قد ذكر هذه القصة، لكن يجب على الإنسان أن يحذر ويتحرى، كما قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: كنت أقرأ للآية مائة تفسير وأقول: يا معلم داود! علمني، ويا مفهم سليمان! فهمني، يقرأ مائة تفسير للآية! مع أن الله أعطاه من أداة العلم من أصول، ومن فقه، ومن لغة ومن إلى آخره الشيء الكثير.(74/4)
بيان بطلان القصة الإسرائيلية المروية عن نبي الله داود
نحن بين أيدينا عدة تفاسير، وهناك قضايا من المشكلات في بعض التفاسير، وإن كانت مشهورة، وإن كان أصحابها أئمة؛ لكننا نجدهم يسوقون بعض تلك القضايا على علاتها، وبعضها إسرائيليات، ومن تلك القضايا التي ذكروها بعلاتها قضية الغرانيق، ومنها قضية سجود نبي الله داود، ففي قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص:23] ، قالوا: النعجة كناية عن الزوجة وعن المرأة، وداود عنده تسع وتسعون زوجة، وهذا الرجل عنده زوجة واحدة، فأرسل داود زوجها إلى القتال ليقتل فيتزوجها بعده! وهذا والله هراء، بل إن أنصاف المجانيين ليستبعدوا ذلك عن أنبياء الله ورسله، وقد نبهنا مراراً أن من يقرأ السورة من أولها يجد القرآن الكريم ناصعاً بيناً، ومقدمات السجدة تنزه نبي الله داود عن ما هو أبعد وأبعد من ذلك كله؛ لأن في أول السياق يقول سبحانه: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:17] ، فهذا الوصف من الله لداود: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا) على سبيل التأسي والاتباع؛ لأنه قال: (عَبْدَنَا) وقال: (ذَا الأَيْدِ) وقال: (إِنَّهُ أَوَّابٌ) يعني: اذكره وتأسى به في تلك الصفات، فيكفي أن يقول الله فيه: (عَبْدَنَا) ، والله لا يصطفي للعبودية الخاصة شخصاً بهذه الصفة، حاشا وكلا.
{إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * والطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص:18-19] سبحان الله! ، إنسان تسخر معه الجمادات والجبال والطير، وتسبح لله معه، ثم ينظر إلى امرأة غيره، وعنده تسع وتسعون امرأة، والله! لو كان أعزب لا زوجة له لما فعل هذا.
{وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص:20] ، وهل من الحكمة أن يقع في مثل ذلك؟! {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} تعتبر مؤهل علمي لأداء الرسالة: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} لأي شيء؟ ليفصل خصام المتنازعين بالحكمة: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} [ص:21] .
{يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ} [ص:26] ، بعدما بيّن القضية ما هي؟ {خَصْمَانِ بَغَى} [ص:22]- وإلى أين جاء الخصمان؟ {تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص:21] ، دخلوا عليه وهو في معتكفه في عبادته لله وحده، وليس في لهوه ولعبه.
وكان عليه السلام قد قسم زمنه إلى ثلاثة أيام: يوم يدخل فيه المحراب يتعبد، ويوم لأهله يقضي شئونهم، ويوم للقضاء بين الناس، فإذا باليوم الذي جعله للقضاء لا يكفي، فـ (تسوروا المحراب) ، وهل الخصوم الحقيقيون يستطيعون أن يتسوروا المحراب على الملك؟ لا وكلا، إذاً: ليسوا على حقيقتهم، وهل وجدنا في علم القضاء أن خصمين يختصمان وبينهما كما بين الثرى والثريا، فهذا معه تسع وتسعون نعجة ثم يغتصب نعجة لهذا الواحد؟ هل هناك ظلم أكثر من هذا؟! وهل هذه تحتاج إلى قاض يحكم فيها؟ وهل وجدنا ظالماً عاتياً يمشي مع المظلوم: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} [ص:22] ؟! وهل هذه تحتاج إلى حكم؟! فلو جئنا إلى عجوز عمياء مخرفة لحكمت فيها، وقالت: أنت ظالم بطلبك النعجة وعندك تسع وتسعون نعجة، فكيف يأتي الخصم الظالم مع الخصم المظلوم طواعية من غير جنود أو قوة، ومن غير إرسال إليهم، وهل رأيت خصمين يأتيان إلى المحكمة طواعية؟! قد تجد الآن قضية في عشرة آلاف أو خمسة آلاف لا يأتي الخصم إلا بعد أن تتعدد الجلسات، وبعد أن ترسل إليه الجندي، ويأتي به بالقوة، فكيف بهذا؟! ثم: {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} [ص:22] ، وهل سواء الصراط خفي عليكم حتى تطلبوا الهداية إليه؟! فالقضية بينة من غير شيء.
ثم ينطق سليمان عليه بالواقع: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [ص:24] أي: الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض، وأنت تتعبد في المحراب، ونحن لم نعطك مؤهلات العبادة بقدر ما أعطيناك مؤهلات القضاء؛ وهي الحكمة وفصل الخطاب.
لما أن علم ونطق بـ: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} هنا تنبه {وَظَنَّ} [ص:24] يعني: علم: {أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [ص:24] {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26] ، وقوله: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} فتناه في ماذا؟ في العبادة، وأنه اشتغل بالعبادة عن المهمة الأساسية التي نصبه الله لها.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـ معاذ عند أن ذهب وصلى بأهل قباء العشاء وبدأ بـ (الم) ، وصلى خلفه رجل مسكين يعمل كل النهار في مزرعته، فقال: هذا لا يركع حتى يتم السورة، وأنا لا أستطيع أن أتابعه فانفرد وأكمل صلاته وذهب فنام، فبلغ معاذاً خبر هذا الرجل فقال: هذا الرجل منافق، فبلغت الكلمة إلى الرجل، فجاء إلى الرسول وقال: معاذ يرميني بالنفاق، وقال: كذا وكذا، فناداه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (أفتان أنت يا معاذ!) .
فـ معاذ فتن الناس عن دينهم، فهو كان يصلي العشاء مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ويسمع تلاوة رسول الله، فيتشبع روحياً ومعنوياً، ولو قرأ القرآن كله لا يشق عليه، فهو بتلك اللذة وتلك النشوة وبتلك المعنويات مع رسول الله دخل في الصلاة مع أهل قباء، فطول وشق على المأمومين.
إذاً: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ} كانت فتنة داود عليه السلام أنه خص نفسه بالعبادة، وكثير من الخلطاء يبغي بعضهم على بعض خلف الأسوار.
أي الأمرين أولى: أن ينقطع للعبادة داخل المحراب أو أن يجلس يقضي بين الخصوم؟ الأولى أن يقضي بين الخصوم؛ لأن مهمته هي الخلافة، وقد أعطي الحكمة وفصل الخطاب.
إذاً سجدة (ص) من داود عليه السلام إنما هي توبة مما كان عليه، ولذا ترك المحراب وجلس للناس يفصل الخصومات التي بينهم.
وتجد بعض كتب التفسير التي تعد لأئمة التفسير تذكر المرأة، وتذكر كل الذي ذكر فيها، وتجد منهم من يحسن الأسلوب ويقول: إنما داود خطبها على خطبة غيره، امرأة خطبها إنسان، وعلم بها داود فذهب وخطب على خطبة غيره، ونحن منهيون عن ذلك: (ولا يخطب أحدكم على خطبة أخيه) .
وتجد آخرين يقولون: وما أداركم أن الخطبة كانت ممنوعة عندهم كما هي ممنوعة عندنا.
وأحسن ما قرأت فيها في تفسير أبي السعود قال: (وقد سوّد كثير من المفسرين -أو قال بعض- في هذه القضية صحائف بمدادهم، أنزه القلم أن يجري بشيء منها) ، وسكت! فأقول: جزاه الله خيراً، نزه قلمه أن يسوق أو يورد ما قيل فيها؛ لأنها لا تليق بنبي من أنبياء الله.
ومن العجب أيها الإخوة! أني وجدت في كتاب: تأويل التنزيل للسبكي؛ وهو كتيب صغير جداً، أنه قال: لا دخل لعنصر المرأة في هذه القضية، وأتمم لكم مرحلتي مع هذه القضية: لما كنت أدرس كان من المقرر علينا هذه السورة، فلما وجدت في أمهات كتب التفسير تلك الروايات الإسرائيلية، أخذت القلم وكتبت على هامش الكتاب الذي أقرأ فيه: لا وجود لعنصر المرأة؛ نظراً لسياق السورة لداود عليه السلام، وامتداح الله إياه في هذه الصفات كلها، ولما جئت عند الاختبار واجهت الأستاذ المدرس، وكانت مقررة علينا في كلية اللغة، وليست في الشريعة؛ لأن فيها أبحاثاً لغوية شهيرة جداً، فسألته: ما رأيك في كذا وكذا؟ قال: نعم هذه ذكرها شيخ المفسرين، فقلت: والله هذه مصيبة، إذا كان الأستاذ الموكل بالتدريس يقرر القصة على الطلاب ويقول: ذكرها شيخ المفسرين، فبدأت أذكر له سياق السورة فإذا به يتجهم، وإذا به ينهر، ويقول: أنت تأتي بأشياء جديدة، فقلت: لا، لا جديدة ولا قديمة، الذي تراه أنت إن شاء الله فيه خير، وعزمت على أنها لو جاءت في السؤال فسأعطيه رأيه الذي هو عليه، حتى لا أكون ضده، وأحتفظ بهذا لنفسي.
ومن العجب يا إخوان! أن تأتي المناسبات، ويأتي إمام جامعة إسلامية كبرى في الشرق الأوسط، وتأتي المناسبة، وأورد عليه الرأي في هذه القضية، فإذا به يعجب به إلى أقصى حد، ويطلب مني تسطيره فسطرته وأعطيته إياه، فأخذه معه إلى بلده، ونشره في مجلة تلك المؤسسة الإسلامية الكبرى.
يهمنا في هذا يا إخوان! أنكم ستجدون في بعض كتب التفسير أنهم يذكرون قضية الغرانيق، وبعضهم يسكت عليها، ولكن بحمد الله والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه قد صفى هذه القضية في أضواء البيان.
وأنا أريد أن أقول: إن سجود المشركين لا يستبعد، وأقول: إن المشركين عرب، وفصحاؤهم فرسان البلاغة، فلما استمعوا لقراءة رسول الله لسورة من كتاب الله، وقد اجتمع كلام المولى سبحانه مع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقرآن معجز، والرسول سيد البلغاء، فلما قرأ القرآن على الحاضرين، كان ذلك حقيقاً أن يسجد المؤمن إيماناً، ويسجد المشرك أخذاً بسحر القرآن وبعذوبة تلاوة رسول الله.
ولقد وجدنا في التاريخ في إعجاز القرآن أن أعرابياً سمع القرآن أول مرة فسجد، فقيل له: لماذا تسجد؟ قال: لعظمة هذا الكلام الذي أسمع، وهو لم يعلم أنه قرآن أو غير قرآن.
إذاً: للقرآن تأثير على القلوب، وقد سمعت الشيخ م(74/5)
شرح حديث: (قرأت على النبي عليه الصلاة والسلام النجم فلم يسجد فيها)
قال المصنف رحمه الله: [وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم (النجم) فلم يسجد فيها) متفق عليه] .
هذا الأثر الثاني: (قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم (النجم) فلم يسجد فيها) ، في الحديث المتقدم أنه سجد، وفي هذا الحديث يقول: لم يسجد، ومن هنا قال مالك بعدم السجود فيها، وبعض المالكية يقول: إنما سجد في مكة ولما هاجر إلى المدينة لم يسجد فيها، لأن راوي هذا الحديث زيد، هو مدني، والأول مهاجر من مكة.
إذاً: الأخير ينسخ الأول، ولكن علماء الحديث يقولون: السجود ليس واجباً حتى يقال: المتأخر ينسخ المتقدم، وما دام أن الحكم هو الجواز فليس بلازم أن يسجد كلما قرأ، فيكون قرأ وسجد تارة، وقرأ وترك السجود تارة أخرى، والمثبت مقدم على النافي، ويأتي عمر رضي الله تعالى عنه ويفصل الموضوع فيقول: (إن الله لم يفرض علينا سجود التلاوة، ولكن من سجد فقد أصاب - أي: أصاب السنة - ومن لم يسجد فلا إثم عليه) ، وسبب ذلك أن عمر قرأ آية السجدة على المنبر، فنزل وسجد وسجد الناس معه، ثم لما كان في الخطبة الثانية في الأسبوع الآخر، قرأ آية سجدة فتهيأ الناس للسجدة فلم ينزل وقال: (يا أيها الناس! إن الله لم يفرض علينا سجود التلاوة، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا شيء عليه) .
إذاً: عمر بنفسه سجد وترك، فهل نقول: ترك عمر نسخ للفعل الأول؟ لا، ليس نسخاً؛ لأنه قد بين أنه لم يفرض علينا، وإنما السجود دائر بين الفعل والترك على سبيل الجواز.
إذاً: هذا الحديث لا ينسخ ما قبله، ولكن كما قدمنا مراراً أن من غايات المؤلف رحمه الله في تأليف هذا الكتاب بيان أدلة الأحكام عند الأئمة الأربعة، فمن قال: النجم فيها سجدة عنده الحديث الأول، ومن قال: النجم لا سجدة فيها عنده هذا الحديث الثاني، ومن جمع بين النصوص وأحكم فيها العمل، وأخضعها للقواعد عند المحدثين والأصوليين فسيخرج بنتيجة الجمع بين الأحاديث المختلفة، والله تعالى أعلم.(74/6)
شرح حديث: (فضلت سورة الحج بسجدتين)
قال المصنف رحمه الله: [وعن خالد بن معدان رضي الله عنه قال: (فضلت سورة الحج بسجدتين) رواه أبو داود في المراسيل] .
يأتي المؤلف بهذا الحديث أيضاً، وفيه أن سورة الحج فضلت بوجود سجدتين فيها، وهنا مسألة: هل يقال في سور القرآن وآياته: هذه السورة أفضل من تلك؟ اختلف العلماء في هذه المسألة، فبعضهم يقول: لا نفضل؛ لأن كله كلام الله.
وبعضهم يقول: قد تختص هذه السورة بما لا تختص به تلك، وهذا كلام معقول، فمثلاً: آية الكرسي قالوا: هي أفضل آية في كتاب الله، لأنها تختص بصفات الله كما تقدم في الذكر بعد الصلاة، وكذلك {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] تختص بخصائص؛ لأنها محض صفات لله سبحانه، وهكذا الفاتحة تختص بأنها أم الكتاب؛ لأنها جمعت علوم القرآن كله، والقرآن جمع علوم الكتب قبله، فالفاتحة جمعت كل كتاب منزل من السماء.
ويقول بعضهم: لا مانع أن يقال: الكل فاضل، وهناك أفضل، فليس هناك ناقص بل الكل فاضل، فكما تفاضلت الرسل كذلك تتفاضل السور، وكذلك تتفاضل الآيات، ومما فضلت به -أي: خصت به- سورة الحج أن فيها سجدتين، فلا يوجد سورة تجمع سجدتين إلا سورة الحج، وقد أتى بهذا المؤلف؛ لأن هناك خلافاً في السجدة الثانية من سجدتي سورة الحج، فإن أبا حنيفة رحمه الله لا يعتبرها إلا إذا قرأ بها في الصلاة، أما خارج الصلاة فلا يعتبرها سجدة.
إذاً: المؤلف رحمه الله يسوق لنا مواضع الاختلاف في سجود التلاوة.(74/7)
شرح حديث: (فمن لم يسجدها فلا يقرأها)
قال المصنف رحمة الله: [ورواه أحمد والترمذي موصولاً من حديث عقبة بن عامر، وزاد: (فمن لم يسجدهما فلا يقرأها) ، وسنده ضعيف] .
في هذه الزيادة تنبيه وهو: أن من لم يسجد السجدتين في سورة الحج فلا يقرأها، يعني: لا يقرأ السورة، والرواية الأخرى: (فلا يقرأهما) يعني: آيتي السجدة.
وهنا بعض الأحكام الفقهية المتعلقة بهذا النص، هل يجوز للإمام أن يقرأ في الصلاة ما شاء من آيات السجدة على غير عادة منه مع الناس؟ مالك رحمه الله يقول: لا يجوز للإمام أن يقرأ سورة فيها سجدة في الصلاة الجهرية ولا في السرية ليسجد بنفسه؛ لأنه إن قرأ سراً بآية سجدة فسجد، فالناس لا يعلمون لماذا سجد، وإن قرأ في الجهرية سورة فيها سجدة، فقد يسمع البعض ويعلم حكم السجدة في تلك السورة فيسجد، والبعض قد لا يعلم حكم السجدة فيها أو لا يسمع فلا يسجد، فيكون هناك اضطراب، وقد يقرأ الإمام السورة التي فيها السجدة ولا يسجد؛ لأنه غير ملزم، ولكن المأموم يعلم أنها موضع سجدة فيسجد ظناً منه أن الإمام قد سجد، إذاً: فيحصل الاضطراب، ولهذا قالوا: لا ينبغي للإمام أن يقرأ سورة فيها سجدة على غير وفاق من المجموعين، والآن يعلم الناس مشروعيتها.
ولا ينبغي أن يقرأ بها الإمام، والكل يعلم أن فيها سجدة، ويمر دون أن يسجد؛ مخافة أن يسجد المأموم لسماع آية السجدة ويكون الإمام لم يسجد، فإن كان يريد أن يسجد فيها فليقرأ وليسجد، وإن كان لا يريد أن يسجد فيها فلا يقرأها؛ لئلا يوقع ارتباكاً عند الناس.(74/8)
حكم تخصيص قراءة سورة السجدة في صلاة فجر يوم الجمعة
يأتي هنا سؤال: لماذا خصت سورة السجدة بصلاة الفجر يوم الجمعة؟ ينص ابن تيمية رحمه الله وغيره من الأئمة؛ أن يوم الجمعة هو يوم آدم عليه السلام، ويوم الإثنين هو يوم محمد صلى الله عليه وسلم، بمعنى: أنه جاء في النصوص أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم يوم الجمعة، وأسجد الملائكة يوم الجمعة، وأسكنه الجنة يوم الجمعة، وأهبط إلى الأرض يوم الجمعة، وتلقى الكلمات من ربه فتاب عليه يوم الجمعة، ثم جاءت الأحاديث بأن (في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد قائم يصلي يسأل الله حاجة إلا أعطاه إياها) ، ويوم الإثنين جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصوم الإثنين والخميس، فسئل فقال: (أما يوم الإثنين فيوم ولدت فيه وأنزل علي فيه) ، وسورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق:1] نزلت في يوم الإثنين، وهجرته ودخوله المدينة في الهجرة كان يوم الإثنين، ووفاته صلى الله عليه وسلم كان يوم الإثنين؛ فقالوا: يوم الإثنين يوم محمد ويوم الجمعة يوم آدم، فتأتي سورة السجدة، والإنسان معها وفيها قصة الإنسان، ويوم البعث، وكذلك فيما ذكر الدهر: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإنسان:1-2] ، ويأتي فيها بيان الموعد ويوم القيامة والمصير؛ فقالوا: هذا يوم خلق آدم فتُقرأ السورتان تذكيراً للمأموم بيوم القيامة وببدء وجود الإنسان؛ ليعمل لذلك اليوم، فكانت هناك المناسبة لقراءة سورة السجدة؛ لأن فيها خلق الإنسان، والبعث والمعاد والجزاء، وكذلك سورة الإنسان؛ لأن البعث والمعاد يوم الجمعة وهذه صبيحة الجمعة، هكذا يقولون.
إذاً: من لم يسجدهما فلا يقرأها، وعليه أن يتجنبهما ويتركهما.
ومما ينبه عليه العلماء أيضاً: أنه لا ينبغي للإنسان أن يعمد إلى نص السجدة ويقرأها، مثل: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:62] ، ويسجد، بل يجب عليه أن يأتي بما قبلها.(74/9)
حكم السجدة إذا كانت في آخر السورة
ومن الأحكام: لو أن السجدة كانت في آخر السورة وقرأها في الركعة فسجد، فسيكون السجود عند التلاوة قبل الركوع، فكيف يأتي بالركوع: أينهض من سجوده راكعاً، أو أنه يقف معتدلاً بعد السجدة ثم يركع؟ قالوا: إن صادف في قراءته آية سجدة في نهاية السورة فسجد لها نهض واستوى قائماً؛ لأن الركوع لا يكون إلا من قيام لا من هبوط في الأرض، فإذا استوى قائماً يقرأ من السورة التي بعد السجدة بعض الآيات ويركع عن قراءة وقيام، والله تعالى أعلم.(74/10)
شرح أثر عمر: (إنا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه)
قال رحمه الله: [وعن عمر رضي الله عنه قال: (يا أيها الناس! إنا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه) رواه البخاري] .
بإجماع العلماء أن سجود التلاوة ليس بواجب؛ ولكن كما أشار عمر رضي الله تعالى عنه: أن من سجد فقد أصاب، إذاً: الصواب هو مطلب كل إنسان، وأيضاً لو تتبعتم -يصعب علي تتبعه الآن- مواضع السجود الخمسة عشرة في كتاب الله تجدون أنها إما عند إعظام المولى سبحانه، أو إعظام كتابه الكريم، أو تنويهاً بمكانة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أخذت ما قبل آية السجدة في الخمسة عشرة موضعاً فستجد ما يوجب السجود ولو لم يأت الأمر به.
أي: ستجد إعظاماً لله، أو إكراماً وتعظيماً لكتاب الله، أو تكريماً لرسول الله وللدعوة في سبيل الله، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ونذكر بعض النماذج على ذلك، ففي أول سجدة في سورة الأعراف، تجد أن السجود هناك يتعلق بسجود الملائكة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:206] ، والآية التي قبلها قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205] ، وقبلها: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الأعراف:204] ، فهناك الأمر باستماع القرآن، وهناك الأمر بذكر الله: {إِنَّ الَّذِينَ} يعني: هناك قوم تشبه بهم: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} وهم الملائكة لا يفترون عن ذكر الله، ولا يستكبرون عن السجود، وقد استكبر من استكبر، وطرد بسبب استكباره، فلا تستكبر أنت وبادر إلى السجود.
وهكذا -أيها الإخوة- لو تتبعنا كل مواطن السجود الخمسة عشرة في كتاب الله لوجدنا المعنى والسياق يدعوك لأن تسجد طواعية وإعظاماً لله سبحانه، والله تعالى أعلم.
قوله: [وفيه: (إن الله تعالى لم يفرض السجود إلا أن نشأ) وهو في الموطأ] .
وهذا الأثر هو سبب كتابتي رسالة: (سجود التلاوة) ؛ لأنا لما مررنا على هذا الأثر في الموطأ ونحن طلبة متأخرون، حاولت أن أجد رسالة مجموعة في سجود التلاوة فلم أجد، لا للمتقدمين ولا للمتأخرين، ولكنهم ينبهون عليها منثورة في سور القرآن كاملة، ولكن مباحثها، والخلاف فيها، والراجح في ذلك، وأحكامها الفقهية؛ لم أجد شيئاً من ذلك، فحاولت بقدر المستطاع تقريباً لنفسي ولإخواني أن أجمع فيها رسالة فجمعتها بعنوان: (سجود التلاوة) ، وإن شاء الله من يحصل عليها سيجد كل ما يخطر بباله من مباحث سجود التلاوة من مواضعها المتفق عليه والمختلف فيه، وقد يكون الخلاف في السجدة في موضعها: هل هو في هذه الآية أو التي قبلها، وقد يكون الخلاف في أحكامها الفقهية: هل تكون بطهارة أو بغير طهارة، وهل تكون بسلام أو بغير سلام، وسيأتي هذا وننبه أن الرسول كبر فسجد.(74/11)
شرح حديث: (كان يقرأ علينا القرآن فإذا مر بالسجدة كبر وسجد)
قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن فإذا مر بالسجدة كبر وسجد وسجدنا معه) رواه أبو داود بسند فيه لين] .
هنا جاء المصنف بجزئية من الأحكام الفقهية المتعلقة بالسجدة، وهي في قوله: (كبر وسجد) ، هو يقرأ وليس في صلاة، فلماذا كبر؟ بعضهم يقول: هي تكبيرة للانتقال؛ لأنه انتقل من القراءة إلى السجدة.
وبعضهم يقول: هي تكبيرة إحرام، فيكبر للسجدة كما يكبر لدخوله في الصلاة.
ومن هنا قالوا: هل يسلم أو لا يسلم؟ وهل هي صلاة أو ليست بصلاة؟ والجمهور بصفة عامة يقولون: إن سجدة التلاوة صلاة، بمعنى: أنك تكون على طهارة، وتستقبل القبلة، مع ستر العورة، وأن تكون في غير أوقات النهي، ومن عجب! ما ينقل عن ابن حزم -وقد نقلناه في الرسالة- أنه يقول: إن سجدة التلاوة لا يشترط لها شيء، ويقول: أنتم تقولون: فيها تكبير، والتكبير في كل وقت، فإذا قلتم: فيها تكبير كتكبير الصلاة، فالصلاة فيها قيام وقعود، فهل تقولون بالسجود أو بالتكبير أو بالسلام لكل قيام وقعود؟ وأنا أستعجب من عقلية هذا الإمام الكبير أن يجعل القيام والقعود كالتكبير للسجدة، فالسجدة خاصة بالصلاة، ولا توجد سجدة في غير صلاة، أما التكبير فنجده في كثير من العبادات: نجده في الذكر بعد الصلاة، نجده عند رمي الجمار، نجده عند أيام العيد، فسبحان الله! بل حتى إذا شب الحريق نكبر، وإذا لقينا العدو نكبر، فالتكبير ليس خاصاً بالصلاة، وكذلك القيام والقعود ليس خاصاً بالصلاة، بل يأتي القيام والقعود للأكل والنوم والمشي والروحة والمجيء.
إذاً: هذه التي ذكرها ليست من خصائص الصلاة فلا تعطى أحكامها، وأما السجود فلا يوجد سجود إلا في الصلاة، فسجدة التلاوة تشابه سجدة الصلاة، وقد تجمع السجدة بين الأمرين: بين الصلاة وبين التلاوة، كما لو تلا سورة فيها سجدة، فسجد وهو في الصلاة، فتكون جزءاً من الصلاة للتلاوة.
إذاً: قياس غير السجدة عليها ليس موافقاً، وبالله تعالى التوفيق.(74/12)
كتاب الصلاة - باب سجود السهو وغيره [4]
إن من أسباب دوام النعم الشكر، والنعم إذا شكرت قرت، وإذا كفرت فرت، ومن الشكر للنعمة السجود للمنعم عند حصولها، كما يشرع لمن أنعم الله عليه بنعمة إظهارها فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، كما يشرع له بذلها لمن يحتاجها على حسب الاستطاعة.(75/1)
شرح حديث: (كان إذا جاءه خبر يسره خر ساجداً لله)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي بكرة رضي الله عنه، (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جاءه خبر يسره خر ساجداً لله) رواه الخمسة إلا النسائي] .
يروي هذا الصحابي الجليل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا استجد له أمر يسره، أو جاءه أمر يسره سجد لله شكراً.
وسجود الشكر يكون على نعمة تتجدد أو نقمة تدفع -أي: لمجيء خير أو لدفع شر-، وهذان العنصران -مجيء الخير واندفاع الشر- هما مطمع جميع العقلاء في العالم، قديماً وحديثاً، فالإنسان أياً كان اتجاهه أو منهجه أو ديانته، لا يتحرك ولا يعمل ولا يسعى إلا لتحقيق أحد هذين الغرضين؛ إما أن يجلب نفعاً لنفسه، أو يدفع ضراً عنها، ولهذا قيل: لمنافع يسعى اللبيب فلا تكن لشيء غيره الدهر ساعياً وقال آخر: إذا أنت لم تنفع فضر فإنما يرجى الفتى كيما يضر وينفع ينفع نفسه وصديقه وأهله، ويضر خصمه وعدوه، والذي لا يستطيع أن ينفع ولا يستطيع أن يضر فهو في حكم العدم، ولذا عاب الله على المشركين عبادة الأصنام فقال سبحانه: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء:72-73] ، هل جاءكم منهم نفع فتعبدونهم طمعاً في نفعهم؟! وهل يدفعون عنكم ضراً فتعبدونهم ليدفعوا الضر عنكم؟! إذا كانوا لا ينفعونكم ولا ترجون نفعهم، ولا يضرونكم ولا تخشون مضرتهم، فلماذا تعبدوهم؟! يقول أبو بكرة رضي الله تعالى عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تجددت له نعمة -أي: جاءه شيء يسره- سجد شكراً لله.
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أيضاً كما ذكره صاحب المنتقى بشرح الشوكاني: (أنه صلى الله عليه وسلم خرج من مكة متوجهاً إلى المدينة، فوصل إلى موضع بسام أو إلى جهة الجحفة فسجد سجدة طويلة، ثم نهض ورفع رأسه ورفع يديه ودعا، ثم سجد سجدة طويلة، ثم رفع رأسه ورفع يديه ودعا، ثم سجد الثالثة، فقيل له في ذلك، قال: سألت ربي أن يرحم أمتي فأعطاني ثلثها فسجدت شكراً لله، ثم قمت فسألت ربي أن يرحم أمتي فأعطاني ثلثها الثاني فسجدت شكراً لله، ثم سألت ربي أن يرحم أمتي فأعطاني الثلث الثالث فسجدت شكراً لله) ، هذا العطاء لا شك أنه عظيم، وقد بيّن صلى الله عليه وسلم في مواطن أخرى أن: (لكل نبي دعوة مستجابة قد عجل له بها، وادخرت دعوتي عند الله شفاعة لأمتي) ، ونحن نعلم جميعاً أن الشكر على النعمة من عوامل حفظها، والله سبحانه وتعالى قد بيّن لنا أن من حق المولى المنعم أن يُشكر فقال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} [الأحقاف:15] .
وهذا دعاء وتعليم للإنسان أن يشكر الله على نعمته، وكما جاء في الحديث: (إن الله إذا أنعم على عبده نعمة أحب أن يرى أثر نعمته على عبده) ، ونحن في قانون البشر، لو أن لك خادماً أو مملوكاً وأنت تحسن إليه وتعطيه كل ما يحتاجه وزيادة حتى يكون في خير حالة، ولكنه يخفي هذا، ويظهر بمظهر من لا شيء عنده، فيقال لك: يا فلان! أهملت خادمك، وبخلت عليه، فتقول: لا والله! أنا قد أعطيته وأعطيته ولكنه لا خير فيه، ولا يثمر فيه معروف.
في غزوة تبوك نزلوا منزلاً، وجاء أبو طلحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بغرارة فيها قثّاء، فقدمه لرسول الله فأكل ثم قال: (من أين لك هذا؟) قال: جئت به معي من المدينة، فخرج غلام له ليذهب إلى الإبل وعليه ثياب رثة، فقال: (أليس عنده ثوب خير من هذا؟) قال: بلى عنده في الغرارة، فدعاه وأمره أن يغتسل، وأن يلبس الثوب الجديد، فلبسه فقال: (ضرب الله عنقه أليس هذا خير من ذاك؟) فسمعها الغلام وقال: في سبيل الله يا رسول الله! قال: (في سبيل الله) ، فضربت عنقه في سبيل الله في تلك الغزوة.
ونحن ننبه أن العادة في البر أن يلبس الإنسان الثياب العادية؛ لأنها معرضة للتراب وللشق ولكذا ولكذا، وإذا جاء عند الناس يلبس الشيء الفاضل: كما فعل سيد عبد القيس، عندما جاء وفد عبد القيس إلى المدينة أسرع الوفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم بثياب السفر، فجلس هذا عند الإبلن وعقلها، وجمع الأمتعة، وأخرج عيبته، وأخرج منها أحسن حلة عنده، فلبسها وقدم على النبي صلى الله عليه وسلم في أحسن حال، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم مقبلاً من بعيد، وسع له بجانبه، وقال: (إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة.
فقال: خلق تخلقت بهما أم جبلة جبلني الله عليهما؟ قال: بل جبلة، قال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحب الله ورسوله) .
يهمنا أنه عند مجيئه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أخرج أحسن ثيابه، ولكن هذا الغلام لم يتركه صلى الله عليه وسلم في ثياب السفر وثياب البر والبادية؛ لأنه يعاني الإبل، ونحن نعلم أن من أساليب الحرب المظاهر، وقد أباح الإسلام في ميدان القتال وأرض المعركة ما لم يبحه في أرض السلم وعدم القتال: فأباح لبس الحرير، وأباح التحلي بالذهب في السلاح، وأباح البخترة في المشي كما قال صلى الله عليه وسلم: (والله إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن) ؛ لأن العدو إذا رأى خصمه في أبهة النعمة، ومظاهر الخير، انكسرت نفسه، وقال: هذا إنسان واقف بنفسه، شبعان بخيراته، أما إذا رآه ضعيفاً هزيلاً رث الهيئة، فسيزدريه بنظره، فيتقوى عليه بنفسيته.(75/2)
شكر النعم سبب في دوامها وزيادتها
إن إظهار النعمة فيه شكر للمنعم، وسبب في دوامها، فشكر النعم موجب لزيادتها، ونحن نعلم جميعاً قصة الثلاثة النفر الذين كانوا قبلنا، يقول صلى الله عليه وسلم: (كان فيمن كان قبلكم ثلاثة نفر: أبرص وأقرع وأعمى، أراد الله أن يبتليهم، فأرسل الله ملكاً إلى الأول فقال: يا هذا! ما هذا الذي أراه بك؟ قال: ابتلاء، قال: ماذا تريد وتحب وتتمنى؟ قال: أتمنى أن يعافيني الله من هذا البلاء الذي استقذرني الناس بسببه؛ فمسحه فإذا به معافى، قال: ماذا تحب من النعم؟ قال: الإبل فأعطاه شيئاً من الإبل ودعا له بالبركة فيها، ثم أتى إلى الثاني، قال: ما هذا الذي أراه بك، قال: ابتلاء، قال: ماذا تريد؟ قال: أسأل الله وأتمنى على الله أن يذهب عني هذا الذي تجنبني الناس بسببه، فمسح عليه فعافاه الله، فقال: ماذا تحب؟ قال: البقر فأعطاه، وجاء إلى الأعمى فقال: من متى أنت كفيف البصر؟ قال: من كذا، قال: وماذا تريد؟ قال: أن يرد الله إلي بصري، فمسح عينيه فأبصر، قال: ماذا تريد من النعم؟ قال: الغنم، فأعطاه وصبر على الثلاثة مدة؛ ثم جاء إلى الأول على الصورة التي كان عليها، جاءه في صورة رجل أقرع مستقذر، فقال: رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بعيراً أتبلغ به في طريقي؛ لأني منقطع وابن سبيل، فقال: الحقوق كثيرة، فقال: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيراً فأعطاك الله! فقال: إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر، فقال: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت، فرجع كما كان، وذهب عنه ماله، وجاء إلى الثاني كذلك، وجاء إلى الثالث وقال له: غنيمات أتبلغ بها في الطريق، قال: اذهب فخذ ما شئت، ودع ما شئت، والله! لقد كنت أعمى فرد الله علي بصري، وكنت فقيراً فأغناني الله، والله! لا أرد أحداً أخذ شيئاً لله أبداً، قال: أمسك عليك نعمك، واحمد الله على ما أنعم عليك، وشكرت نعمة الله عليك فدامت لك، أما صاحباك فقد أنكراها وتنكرا لها؛ فأذهبها الله عنهما) .
إذاً: شكر النعمة يحفظها، ومن هنا جاءت النصوص في كتاب الله وفي سنة رسول الله بالحث على شكر النعمة لأي نوع من أنواعها، وأعظم نعم الله على الإنسان هي نعمة الإسلام، بل هي أعظم من نعمة وجوده في الدنيا.(75/3)
النعم التي لا كسب للإنسان فيها
يقول العلماء: ثلاث نعم لا كسب للإنسان فيها، بل هي محض إنعام من الله عليه: الأولى: إيجاد الإنسان من العدم فأنت -أيها الإنسان- قبل أن توجد إلى الدنيا طفلاً؛ ماذا عملت حتى جئت إلى الدنيا؟ لم تعمل شيئاً، فإن قلت: أبواي عملا، نقول لك: على رسلك، أبواك سعيا لقضاء حاجتهما، ولكن هل كل التقاء رجل بامرأة يأتي منه ولد؟ لا، قال تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً} [الشورى:49-50] إذاً: إتيان الإنسان إلى هذا الوجود نعمة من الله لا كسب له فيها.
النعمة الثانية: نعمة الإسلام، فالإنسان إذا كان مسلماً، ولو كان له ألف جد في الإسلام، فإن الإسلام نعمة من الله عليه، وقد رأينا الذين عاشروا عصر الرسالة والدعوة، فمنهم من أسلم، ومنهم من مات على الكفر؛ فهي منح من الله، وكما نعلم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين) فاختار الله عمر بن الخطاب على أبي جهل عمرو بن هشام.
إذاً: كان هناك اختيار من الله، وقضية إسلام عمر مشهورة.
وهكذا إلى أن تقوم الساعة، وكما جاء في الحديث: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسان أو ينصرانه) .
إذاً: أنت حينما ولدت، وقدر الله مجيئك إلى الدنيا، هو الذي قدر مجيئك بين أبوين مسلمين، أو نصرانيين، أو يهوديين، فالمولود الذي يولد بين أبوين مسلمين؛ هل كان له كسب في هذا الاختيار؟ وهكذا المولود الذي ولد بين أبوين نصرانيين: هل كان له كسب اختيار الأبوين؟ ليس لأحد في هذا اختيار.
إذاً: كل هذا من عند الله، وكونك تولد من أبوين مسلمين؛ أول ما يطرق سمعك: الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، الله أكبر، قد قامت الصلاة، لأن المولود عند ولادته يستحب أن يؤذن في أذنه اليمنى، وأن تقام الصلاة في أذنه اليسرى، فاختيارك بين أبوين مسلمين، نعمة أعظم عليك من نعمة ولادتك؛ لأن من ولد بين أبوين غير مسلمين يتمنى لو لم يكن وجد، كما قال الله: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40] ، ولكن المسلم موته امتداد لحياة أخرى.
النعمة الثالثة: دخول الجنة كما جاء في الحديث: (والله! لن يدخل أحدكم الجنة بعمله.
قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) ، يقول العلماء في هذا: والأعمال هذه التي عملها الإنسان في عمره إذا كان عمره عشرين، أو خمسين، أو ستين، أو سبعين سنة، من صيام وعبادات، قالوا: هذه لا تعادل نعمة الأعضاء التي في جسمه، مدة ستين أو سبعين سنة، أذنه يسمع بها ستين أو سبعين سنة، قلبه ينبض في صدره ستين أو سبعين سنة، ولم يدفع في هذا أي مقابل، قال الله تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] فلو قابلنا عبادته بما أنعم الله عليه في نفسه وفي جسمه؛ لما وفى حق جسمه الموجود، فضلاً عن نعمة الإسلام التي لا يوازيها شيء.
إذاً: عمله لا يوازي أن يكون ثمناً للجنة، وإنما هي منحة من الله سبحانه، وأما قوله تعالى: {أَنْ تِلْكُمْ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43] ، فكما كنا نسمع والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: المهم هو دخول الجنة بفضل من الله، فإذا دخلوا الجنة فهناك يختصمون كيف شاءوا، ولكن المهم بطاقة الدخول، كما لو كان عندنا مثلاً وليمة ترسل فيها بطاقات يكتب في أسفلها: الرجاء عند الحضور إبراز هذه البطاقة، فإذا دخلت بالبطاقة هل هو محضور عليك موطن من مواطن الدعوة؟ الجواب: لا، المهم أنك قد اجتزت بالبطاقة؛ لأن البطاقة أتتك من صاحب الوليمة وصاحب الدعوة والاحتفال، تفضل بها إكراماً لك أن تحضر هذا الحفل، فإذا حضرت لا يحضر عليك فاكهة ولا طعام ولا شيء مما هو في الوليمة، ولله المثل الأعلى، فقالوا: دخول الجنة فضل من الله، وقالوا: كل إنسان من بني آدم له مقعدان؛ مقعد في النار إذا كفر، ومقعد في الجنة إذا أسلم، كل واحد من جميع الأمم، وهذا يؤيده الحديث: (إذا مات ابن آدم، ووضع في القبر، إن كان مسلماً فتح له باب إلى النار فيقال: هذا مقعدك لو لم تسلم ثم يقفل عنه، ويفتح له باب من الجنة يقال: هذا مقعدك يوم القيامة فيقول: يا رب! أقم الساعة، أقم الساعة، -والعكس- إذا كان كافراً فتح له باب إلى الجنة، ويقال: هذا مقعدك لو آمنت، ثم يقفل عنه ويفتح له الباب الثاني فيقول: رب لا تقم الساعة، رب لا تقم الساعة) ، وكما في الحديث الآخر: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه) .
إذاً: كل إنسان له مقعد مهيأ في كلا الدارين، فإذا دخل أهل الجنة الجنة؛ فمقاعدهم في النار هل تكون خالية أو أن أحداً يحل محلها؟ وإذا دخل أهل النار النار فمقاعدهم في الجنة هل تكون خالية أو أن أحداً ينزلها؟ الجواب: لا تكون خالية، إنما بعد أن يستقر كل فريق في منزله -نسأل الله العافية والمعافاة، وأن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة، وأن يجيرنا وإياكم من النار- فتلك الأماكن التي خلت من أهلها في الجنة، وذهبوا عنها إلى النار، تقسم على أهل الجنة، وهل تقسم على مبدأ المساواة؟ الجواب: لا؛ لأن أهل الجنة ليسوا على مرتبة واحدة، وإنما (بما كنتم تعملون) ، فمنهم من يعطى مقعدين، ومنهم من يعطى ثلاثة؛ لأنه في درجة عالية، ومنهم من يحصل على مقعد واحد، ومنهم من لا يأخذ شيئاُ، ويكتفي بمقعده فقط، كما ورد في خبر آخر من يدخل الجنة: (آخر من يخرج من النار رجل يقول: يا رب! قربني من الجنة، وباعدني من النار، ولا أطلبك شيئاً غيره، فيقول له: لك مثل الدنيا ومثله معه ... ) .
إذاً: هذا الميراث أو التوارث إنما هو على درجة الأعمال بعد أن يستحقوا الدخول، أما قبلها فالدخول فضل من الله، وقد جاء في الحديث ويذكره العلماء في باب الشفاعات من كتب العقيدة: (أول من يطرق باب الجنة محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول خازن الجنة: من؟ فأقول: أنا محمد، فيقول: نعم أمرت ألا أفتح لأحد قبلك) .
إذاً: ثلاث نعم لا كسب للإنسان فيها، وهناك نعم أخرى قد لا يكون لك كسب فيها، بل تكون منحة من الله، كما جاء في الحديث الثاني: (جاءني جبريل فبشرني - بماذا بشره؟ - بأن من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه بها عشراً) ، هل هذه من عند رسول الله؟ الجواب: لا، وإنما هي منحة من المولى سبحانه وتعالى، وتكريماً له ولأمته في فضل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: سجود الشكر من دواعي الاعتراف بالنعمة، وإذا تأملنا تعداد النعم على المصطفى صلى الله عليه وسلم نجد أن في آخرها السجود: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:1-3] ، وقد كنا دائماً نتأمل في أنواع القسم في القرآن وظهر لنا -والله تعالى أعلم- أن كل قسم مع المقسم عليه بينهما ارتباط وثيق جداً، وهذا حري بأن يبحث بحثاً علمياً متقصياً، وعلى سبيل المثال:(75/4)
المناسبة بين القسم والمقسم به في القرآن الكريم
إن الله سبحانه وتعالى أقسم بالنجم في سورتين، على مقسم عليهما مختلفين، فقال سبحانه في سورة الواقعة: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75] ، أقسم بمواقع النجوم، وأين مواقعها؟ مواقعها في السماء: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ} [الواقعة:76] ، أي: أن القسم بمواقعها وبُعدها وحفظها وصيانتها عظيم جداً {إِنَّهُ} [الواقعة:77] ، أي: المقسم عليه {لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة:77] ، (في) ليس فقط قران كريم، وإنما: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:78-79] ، ونأتي إلى القسم الثاني في سورة النجم، قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1] ، انظر أين المواقع! {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا} [النجم:1-8] ، النجم هو النجم ولكن القسم الأول بمواقعه، وكم بعد مواقع النجوم، وهل تستطيع قوة من جن أو إنس أن تصل إلى مواقع النجوم؟ وإذا وصلت؛ هل تستطيع أن تغاير في مواقعها؟ الجواب: لا تستطيع، فكما أن مواقع النجوم بعيدة كل البعد عن اللمس والاقتراب والتغيير والانحراف؛ فإن القرآن الكريم في صيانته وحفظه عن التغيير والتبديل كذلك، ولهذا قال سبحانه: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:78-79] أي: الملائكة، إذاً: بين القسم بمواقع النجوم وبين القرآن المكنون في اللوح المحفوظ مناسبة.
نأتي إلى القسم الثاني: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} هوي النجم حركته، وهوي النجم عند العرب هو مثل الساعة الإلكترونية عندنا، كانوا يقيسون به الزمن ليلاً في الظلام كما قال تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16] ، فالنجم هو الهادي لهم في ظلمات البر والبحر، والسالك الساري على ضوء النجم في سريانه وهويه لا يضل لا في بر ولا في بحر، فلكأنه يقول: نجمكم محمد صلى الله عليه وسلم: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} كما لا يضل المهتدي بالنجم في هويه، فهل بينهما مناسبة أو لا؟ الجواب: بينهما مناسبة، بل -والله- إنها لمناسبة قوية، وهكذا لو تتبعنا كل قسم في كتاب الله لوجد أن بين القسم والمقسم عليه مناسبة، وبهذا نعلم معنى كلام المفسرين جزاهم الله خيراً: الله يقسم بما شاء على ما شاء، ولا يجوز أن يقسم العبد إلا بالله، وإذا أقسم الله بشيء من مخلوقاته فإنما يقسم به لدلالته على قدرته، فلو جئنا بقسم النجوم في مواقعها إلى قوله: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} فهل يتناسب معه الجواب؟ لا يتناسب معه فالمسألة ليست مجرد دلالة على عظمة الله ولكن لها دلالة خاصة في موضوعها.
وإذا جئت أيضاً إلى البلد في قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:1-4] ، وقوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِين * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:1-4] ، سبحان الله! الإنسان في أحسن تقويم وهو في كبد، والموضوع هذا يأخذ علينا شيئاً طويلاً، وأرجو الله سبحانه أن يهيئ أحد طلبة العلم ليتتبع هذا في كتاب الله، وألا يتقيد بأي تأليف قديم، وإن كان يستنير ويستفيد مما تقدم في التوجيه فهذا خير كثير، ولكن ينظر إلى الربط بين القسم والمقسم عليه به ويستخلص ما بينهما من مناسبة.
ونرجع إلى قوله تعالى: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:1-2] ، الضحى بالنسبة للزمن هو في النهار، فجاء بأفضل الأوقات وأهدئها وأنسبها وأطيبها من طلوع الشمس إلى غروبها، وهو: وقت الضحى؛ ولذا كانوا يمتدحون النساء في العرب، ويقولون: نئومة الضحى يعني: في أطيب الأوقات تنعم بالنوم ولا تشتغل مثل الشاغلات {وَالضُّحَى} يقسم المولى بأطيب وأنسب وأحسن الأوقات الزمنية في النهار، {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:2] الليل الساجي هو الهادي الذي يغطي بظلامه دونما عواصف ولا رعود، بل هو شاجٍ كما يقال: الطرف الشاجي أي: الهادئ الناعس إذاً: يقسم الله بخيري الزمن، ووحدة الزمن هي حياة الإنسان: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى:3] ، بل أنت في أحسن حالة عنده كأحسن حالتي الزمن ليلاً ونهاراً، كأنه يقول: أنت في وداعة وفي لطافة وفي إحسان من الله طيلة الزمن ليلاً ونهاراً: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:3-5] ، وهل بقي عطاء أكثر من هذا؟ حتى جاء أنه قال: (لا أرضى أحداً من أمتي في النار) ، ولاحظوا بهذه المناسبة قصة أبي بكر الصديق: {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:19-21] ، انظروا المشاركة هنا في قوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ} ، وهذه منزلة أكبر من قوله: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} ، ثم قال: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:9-11] ، أي نعمة أنعمها الله عليك، سواء من نعم الدنيا، أو من نعم الرسالة، أو من نعم الآخرة.
إذاً: المولى سبحانه وتعالى يعدد على النبي صلى الله عليه وسلم نعمه، ثم يبين له شكرها من نوعها.(75/5)
أنواع شكر النعمة
يقولون: شكر النعمة إما أن يكون بعين النعمة، مثل إذا أنعم الله عليك في مزرعتك بثمار وخيرات، فشكر تلك النعمة أن تطعم المحروم منها، وأنتم تعلمون قصة أصحاب الجنة وما كان يفعله أبوهم، ثم جحدوا ذلك وتعاهدوا: {لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم:17-18] إلى قوله: {أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} [القلم:24-25] ، فجحدوا النعمة التي كان أبوهم يشكرها، وكان يستثني للمساكين حقهم، فلما جاءوا وبخلوا بها: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم:19] .
وتعلمون قصة صاحب المزرعة التي جاءت في حديث: (كان رجل يمشي في فلاة من الأرض، فمرت سحابة فسمع صوتاً يقول: اذهبي فأمطري واسقي مزرعة فلان! انظر الحديث (في فلاة) يعني: ليس عنده أحد حتى يتوهم بأن هذا الصوت جاء من يمين أو يسار- فمشى في ظل السحابة حتى جاءت إلى حرة ووقفت وأمطرت، فتجمع الماء من الحرة في شرجة، وتتبع الماء فإذا رجل يحول الماء في حياض مزرعته، فقال له: يا فلان! فقال: كيف عرفت اسمي وأنت لست من أهل الديار؟! قال: أخبرني ماذا تصنع في مزرعتك؟ قال: وما شأنك؟ قال: الذي أسمعني اسمك، قال: وماذا سمعت؟ قال: كذا وكذا، قال: نعم أما إني أحصد الثمر وأقسمه ثلاثة أقسام: قسم أقتات به أنا وعيالي طيلة العام، وقسم أرده فيها بذراً، وقسم أتصدق به، قال: بهذا سقيت) .
إذاً: هناك: {أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم:17] ، {وَلا يَسْتَثْنُونَ} كان الجزاء: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ} ، وهنا صاحب المزرعة لما كان يقسمها أثلاثاً ويتصدق بالثلث كان الجزاء أن سقاها الله بالسحابة، إذاً: شكر النعمة قد يكون من عينها.
ولهذا يقولون أيضاً: من شكر النعمة بعينها أن تعين أخاك فيما تعرفه وهو لا يعرفه وفي الحديث: (وأن تعين الرجل على دابته فتحمل له متاعه عليها صدقة) ؛ لأنه في حاجة إلى نعمة العافية التي عندك فتستخدمها في حمله على الدابة، تفيض عليه بزائد طعامك، بزائد مالك، تنصحه، تعلمه، والرسول صلى الله عليه وسلم مر على رجل يسلخ شاة وهو لا يعرف السلخ فقال: (ألا أريك! وكشف عن كمه صلى الله عليه وسلم وأدخل يده الشريفة بين الجلد واللحم وأدارها وقال: هكذا فافعل) ، لا يعلم الناس كل شيء، فما تحسنه علمه أخاك، وكذلك طالب العلم إذا أنعم الله عليه بشيء فليبذله ولا يكتمه، وهكذا إذا استنصحك إنسان وأنت تعلم الحقيقة فعليك أن تنصح وأن تبين، وهكذا قد يكون شكر النعمة بعينها وقد يكون باللسان إلى غير ذلك، ومن ذلك السجود لله شكراً على هذه النعمة.
ومما وقفنا عليه: أن النجاشي رضي الله تعالى عنه استدعى المهاجرين الأولين الذين كانوا عنده فجاءوا إليه، فلما دخلوا عليه وفداً فزعوا لما رءوه في ثياب رثة، حاسر الرأس، وجالساً على التراب، وليس على فراش، فقال له جعفر: ما هذا أيها الملك؟ ماذا حدث؟ فقال: إن نبيكم محمداً لقي عدوه من العرب بأرض يقال لها بدر، وأنا أعرف ذلك الوادي، فهو كثير الأراك، وقد كنت أرعى به إبلاً، وقد نصره الله على عدوه، وإن مما أنزل على عيسى عليه السلام: إن الله يحب من عبده إذا أحدث له نعمة أن يحدث له تواضعاً وشكراً، فهذا الذي تراه مني تواضعاً لله وشكراً لله على نصره محمداً على عدوه، ففرح الصحابة، وقد كانوا خائفين من حدوث شيء.
إذاً: شكر النعمة بالتواضع وبالسجود وبإظهار المذلة والفاقة والحاجة أمر قديم مما أنزل على عيسى وعلى غيره، والله سبحانه وتعالى أعلم.(75/6)
شرح حديث: (سجد النبي عليه الصلاة والسلام فأطال السجود ... )
قال المصنف رحمه الله: [وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: (سجد النبي صلى الله عليه وسلم فأطال السجود ثم رفع رأسه فقال: إن جبريل أتاني فبشرني فسجدت لله شكراً) ، رواه أحمد وصححه الحاكم] .
وهذا يشهد له حديث التأمين ثلاثاً عند أن صعد صلى الله عليه وسلم على المنبر وكان ثلاث درجات فقال: (آمين، وفي الثانية: آمين، وفي الثالثة: آمين، فسئل فقال: أتاني جبريل عند الأولى وقال: يا محمد! رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك، قل: آمين.
فقلت: آمين.
والثانية: رغم أنف امرئ أدرك أبويه أو أحدهما ولم يدخلاه الجنة، فقل: آمين.
قلت: آمين.
رغم أنف امرئ أدرك رمضان وخرج فلم يغفر له، وفي بعض الروايات: باعده الله من النار، فقل: آمين.
فقلت: آمين) ، وفي الحديث: (من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشراً) ، فهذه نعمة قابلها بأن سجد لله شكراً عليها.(75/7)
شرح حديث: (سجود النبي عليه الصلاة والسلام عندما بلغه إسلام أهل اليمن)
قال المصنف رحمه الله: [وعن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (بعث علياً إلى اليمن، فذكر الحديث.
قال: فكتب بإسلامهم، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب خر ساجداً شكراً لله تعالى على ذلك) رواه البيهقي وأصله في البخاري] .
وهذه نعمة كبرى بأن قطراً بكامله يسلم حينما أرسل إليه علياً، وكان قد أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم رسولاً وأميراً وقاضياً، وفي قصة القضاء: (قال: ترسلني وأنا حدث السن قال: لا تقضي بين اثنين حتى تسمع من الثاني كما سمعت من الأول، قال: فعلمني القضاء آنذاك) ، إلى آخره، وشبيه بهذه القصة قصة الصديق رضي الله تعالى عنه، عند أن جاءه خبر مقتل مسيلمة سجد لله شكراً، وهناك آثار عن السلف في هذا الباب كثيرة.(75/8)
الخلاف في حكم سجود الشكر
أحمد والشافعي؛ يريان أن سجود الشكر مشروع لهذه النصوص، وأما أبو حنيفة ومالك رحمهما الله فلا يريان سجود الشكر، ويقولون: لقد تجددت نعم كثيرة على رسول الله صلى عليه وسلم، ولم يرد أنه سجد لها، والآخرون يقولون: إن سجود الشكر ليس بلازم كسجود الصلاة، بل هو جائز، وهو إشعار بنعمة الله على الإنسان، ثم كونه صلى الله عليه وسلم تتجدد له النعم؛ لا نستطيع أن نقول: إنه لم يسجد لها؛ لأن النفي يحتاج إلى أدلة، وكما قالوا: المثبت مقدم على النافي، فإذا جاءت أحاديث وآثار عن السلف أنهم فعلوا ذلك فلا مانع من اعتبارها سجدة مشروعة.(75/9)
هل سجدة الشكر مثل سجدة التلاوة في الأحكام أم لا؟
من العلماء من يرى أن سجدة الشكر كسجدة التلاوة على الخلاف المتقدم: تحتاج إلى طهارة، وإلى استقبال القبلة، وإلى ستر العورة، وإلى إباحة الوقت، ومن العلماء من لا يرى ذلك، ويجيزها على أية حالة، واستدل على ذلك: بأن ابن عمر كان يسجد للتلاوة وللشكر على غير طهارة، وقالوا: إن الإنسان يسجد للشكر ولو كان على الدابة، أي: يومئ إيماءً، فعلى هذا قالوا: إن سجدة الشكر أقل في التكليف والشروط من سجدة التلاوة.
وختاماً أيها الإخوة! نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوزعنا وإياكم شكر النعمة، وأن يحفظها علينا وعليكم في ديننا، وفي دنيانا، وفي أبنائنا، وفي بلدنا، وفي كل نعمة أنعمها الله سبحانه وتعالى علينا في هذا البلد الآمن الطيب، وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(75/10)
كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع [1]
فرض الله سبحانه وتعالى الصلوات الخمس، وجعل لها من النوافل والسنن ما يجبر نقصها، ويكمل خشوعها، ومن هذه السنن: ركعتا الفجر وأربع قبل الظهر وبعده، وأربع قبل العصر وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، فمن حافظ على هذه النوافل بنى الله له بيتاً في الجنة، وحرمه على النار، فيا فوز الفائزين! ويا نجاح المفلحين!(76/1)
فضل كثرة السجود لله تعالى
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن ربيعة بن مالك الأسلمي رضي الله عنه قال (قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: سل.
فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أوغير ذلك؟ فقلت: هو ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود) رواه مسلم.
هذا الصحابي الجليل في بعض أخباره كما سمعنا من المشايخ رحمهم الله خدم النبي صلى الله عليه وسلم، أو أدى له أمراً فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكافئه، تقديراً لعمله، قال: ستعطيني إياه؟ قال: نعم، قال: أمهلني، فرجع إلى زوجه وأخبرها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد طلب منه أن يسأله أي شيء مكافأة له على عمل ما، قالت: أويفعل؟ قال: سألته فقال: نعم، قالت: سله مرافقته في الجنة.
لم تقل: سله عملاً أو منصباً أو مالاً، وهي ما هو الذي يخصها من مرافقة زوجها للنبي صلى الله عليه وسلم في الجنة؟ لو سأل مالاً أو منصباً يمكن أن تحصل على شيء منه، لكن نقول: فعلت ذلك لأحد أمرين: إما من باب: النصح لله ولرسوله ولعامة الناس، وهذا من صلاح الزوجة وبركتها ووفائها لزوجها، أنها تحب له أقصى ما يمكن، فآثرت مصلحته على نفسها، ووجهته التوجيه العالي، فكم من امرأة أعقل من عشرات الرجال! وإما من جانب آخر: وذلك أنها ستدخل في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21] إذاً: تكون الزوجة ملحقة بالزوج إذا رفع إلى أعلى مراتب الجنة، وإذا دخل الجميع الجنة مع تفاوت مراتبهم، فيلحق الله الزوجة إلى مرتبة الزوج لتقر أعين الآباء بالأبناء والأزواج بالزوجات.
يهمنا في هذا التوجيه: أن الرجل أخذ بهذا الرأي فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: طلبتني أن أسألك؟ قال: نعم، قال: ووعدتني أن تعطيني؟ قال: نعم، قال: أسألك مرافقتك في الجنة.
لم يطلب مجرد دخول الجنة، بل طلب مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وهذه مسألة غير عادية، فمراتب النبيين وعباد الله المكرمين شيء عال، قال له: أوغير ذلك؟ اسأل مالاً أعطيك، اسأل منصباً أوليك، قال: هو ذاك، فتمسك الرجل بوعد رسول الله.
انظروا إلى سماحة وسعة هذا الدين، هل قال له: أنا أضمن لك هذا؟ بل وجهه إلى ما يفعله هو، قال: (أعني على نفسك بكثرة السجود) فهو يقول له: يمكن أن يكون لك ما أردت بمساعدة من عندي، بما له صلى الله عليه وسلم من حق الشفاعة، وبما له عند الله من جاه وطلب وبر، ومن استجابة دعوة، ولكن أرشده إلى أمر فقال: (أعني على نفسك بكثرة السجود) كثرة السجود توحي بزيادة سجود مطلقة سواء كانت راتبة مع الفريضة، أو كانت غير راتبة كسنة مطلقة غير مقيدة لا بزمان ولا بمكان، وهل السجود مراد لوحده فقط؟ السجود هنا بمعنى الصلاة.
إذاً: يفتتح المؤلف رحمه الله هذا الباب بهذا الحديث ليبين أن كثرة التطوع تؤهل إلى مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم فيمن يكون قريباً منه في الجنة، أنه قال: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة) ، وقال: (أقربكم مني منزلاً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً) ، (أكثروا من الصلاة عليَّ يوم الجمعة ... ) إلى آخره، فهناك مميزات وأعمال تدني من تلك الدرجة، ولكن يهمنا في هذا الباب -باب التطوع في الصلاة- قوله: (أعني على نفسك بكثرة السجود) .(76/2)
النوافل التي حفظها ابن عمر من النبي صلى الله عليه وسلم
قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل الصبح) متفق عليه.
وفي رواية لهما: (وركعتين بعد الجمعة في بيته) .
ولـ مسلم: (كان إذا طلع الفجر لا يصلي إلا ركعتين خفيفتين) ] .
بدأ المؤلف رحمه الله يفصل في أنواع التطوع، وبدأ بالأهم أي: بالسنة الراتبة مع الفريضة؛ لأن هذه السنن كان صلى الله عليه وسلم يداوم عليها ولا يتركها، حتى إنه فاته بعض منها فقضاها في غير وقتها، وفاته بعضها حين اجتمع ببعض الوفود فقضاها بعد خروج وقتها، كما حدث في فوات الركعتين بعد الظهر، عندما جاء وفد عبد القيس فشغلوه عنهما حتى صلى العصر، فلما دخل بيته ذكرهما فصلاهما، فسئل في ذلك: كنت تنهى عن الصلاة في هذا الوقت، وأنت الآن تصلي؟ فقال: (ركعتان بعد الظهر شغلت عنهما مع وفد عبد القيس فأنا أقضيهما) .
وكذلك ركعتي ما قبل الفجر، في عودتهم إلى المدينة لما عرسوا في الوادي، فقال: (يا بلال! اكلأ لنا الفجر) فما أيقظهم إلا حر الشمس، فعذره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (ارتحلوا من هذا الوادي؛ فإن فيه شيطاناً) فخرجوا من الوادي، وأمر بلالاً بأن يؤذن، فأذن، ثم صلوا سنة الصبح مع فريضتها، فما تركها حتى وهو في سفر، وكذلك صلاة الوتر.
إذاً: هذه السنن تسمى الرواتب، أي: راتبة مرتبة منتظمة مع الصلوات الخمس، وابن عمر رضي الله عنه له عدة روايات بعدة صلوات، وابن عباس وغيره.
فبدأ المؤلف بـ ابن عمر فقال: (حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات) وأخذ يفصلها، وهذا في أسلوب البيان من باب التفصيل بعد الإجمال، وهذا مما يعطي الإنسان انتباهاً، ويسهل على الإنسان ضبطه، قال: (حفظت عشر ركعات) ، ثم أنت الآن تنتظر التفصيل، هل يأتي بعشر أم بثمان؟ فعندما يأخذ الإنسان الجملة، ثم يبدأ يأخذ التفصيل فإن ذلك يكون أدعى للمتابعة، وللضبط عند السامع، وهذا أسلوب بياني رفيع يأتينا به ابن عمر رضي الله عنه، قال: (حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل الصبح) وجاءت روايات بزيادة ركعتين سواء كان مع الظهر أو مع العصر، لكن يهمنا في عدد العشر ركعات، فحديث ابن عمر: (ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، ثم ذكر ركعتين بعد المغرب) ، أين العصر؟ لم يذكر له شيئاً لا قبله ولا بعده، وسيأتي له بيان آخر، قال: (وركعتين بعد المغرب في بيته) ، أين بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ في مسجده، ولكن كان متحيزاً عن المسجد، وهل كل إنسان يصلي ركعتين بعد المغرب في بيته أم أنه إذا ذهب إلى البيت شغل فذهب الوقت، أم يصليها في المسجد؟ ومن كان بيته بمنزلة بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد كـ أبي بكر مثلاً حيث كان بيته بجوار المسجد، والعباس كذلك ومروان، فمن كان بيته بمنزلة أو مقارباً لبيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد، إن كان سيجلس في المسجد ولن يخرج إلى بيته فهل يذهب ويصلي في بيته ويعود إلى المسجد، أم يصليها في المسجد حيث هو؟ يصليها في المسجد، لكن إن كان صلى المغرب وسيخرج، إن كان بيته بمثابة بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قريباً من المسجد، وسيخرج فليصلها في بيته، ولكن لماذا الصلاة في البيت؟ هل البيت مسجد؟ المسجد هذا يختص بـ (صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة) فلماذا لم يصلها في المسجد لكي يظفر بألف صلاة وذهب وصلاها في بيته؟ قالوا: البيوت ينبغي أن يكون لها حظ من الصلاة سواء صلاة النساء اللاتي تسقط عنهن الجماعة، أو صلاة الرجال من السنن والنوافل، وجاء في الحديث: (خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) والمكتوبة تؤدى في المسجد مع الجماعة، والسنن في البيت، فبعضهم يقول: خير صلاة المرء في بيته ويدخل فيها الراتبة، وبعضهم يقول: لا، لا يدخل فيها إلا الصلاة المطلقة فقط كقيام الليل والضحى؛ بعداً عن الرياء والسمعة، أما الراتبة فالكل يؤديها، ولكن عندما يصلي الفريضة في المسجد ويخرج إلى البيت يصلي، هل البيت خال أم أن فيه أناساً؟ لا شك أن البيت فيه أناس، وأقل ما يكون فيه الزوجة والأولاد، فتكون صلاة النافلة في البيت بمثابة التعليم، ويأخذ البيت حظه من بركة الصلاة: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) ؛ لأن البيت الذي لا يصلى فيه كالقبر المهجور، لكن الذي تكون فيه صلاة، ويسمع فيه القرآن وذكر الله سبحانه وتعالى، هذا تحصل فيه البركة.
إذاً: ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يذكر لنا من النافلة مما حفظه هو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها) ثم تخطى العصر، وجاء إلى المغرب فقال: (ركعتين بعد المغرب في بيته) ، وذهب إلى العشاء فقال: (وركعتين بعد العشاء في بيته) رغم أن هناك نوافل مطلقة بعد المغرب، وكذلك نوافل بعد العشاء وهي الوتر، ثم ذهب إلى صلاة الصبح.
وقد يقول قائل: لماذا لم يذكر ابن عمر النوافل من أول النهار؟ ولماذا لم يبدأ بالصبح؟ لعل ابن عمر نظر إلى أول صلاة فريضة من الصلوات الخمس، ونعلم أن الصلوات الخمس فرضت ليلة الإسراء في الليل والرسول صلى الله عليه وسلم نزل قبل الفجر وما صلى الصبح، ونزل جبريل ليعلم النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس، وكان أول نزوله لتعليم النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الظهر، فكانت من جهة الفرضية كلها فرضت خمس صلوات كما في حديث موسى عليه السلام، ولكن التطبيق العملي كانت بدايته من الظهر.
فأقول: لعل ابن عمر رضي الله عنه راعى هذه الناحية والله أعلم.
إذاً: هذه عشر ركعات نسميها: (عشر ابن عمر) وهي: ركعتان قبل الصبح، وركعتان قبل الظهر، وركعتان بعد الظهر، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء.
والمؤلف سيأتي بزيادة عن ذلك، سيأتي بأربع قبل الظهر وأربع بعدها، وأربع قبل العصر، فلماذا قدم بعشر لـ ابن عمر؟ لعل المؤلف رحمه الله -وهذا استنتاج فقهي- ذكر العموم في التطوع في قوله صلى الله عليه وسلم: (أعني على نفسك بكثرة السجود) ثم جاء يبين أقل الرواتب، وأقل صلاة راتبة هي ما جاءت في حديث ابن عمر، وما جاء بعد ذلك لا ينهض في القوة بأن يساوي حديث ابن عمر، لأنه سيأتي ويذكر لنا أربعاً قبل الظهر، وهي ليست في التوكيد كالركعتين، وأربعاً بعد الظهر وهي ليست في التوكيد كالركعتين، وأيضاً سيذكر أربعاً قبل العصر، وليست في التوكيد كالركعتين كذلك.
إذاً: المؤلف بدأ بالعشر وعلى هذا الترتيب الموجود ليبين أقل الراتبة في اليوم والليلة.
قال: [وفي رواية: (وركعتين بعد الجمعة في بيته) ] .
عندما قال: وفي رواية: (وركعتين بعد الجمعة في بيته) فكم زاد على العشرة؟ لا توجد زيادة في عدد الركعات، لكن هي زيادة تفصيل، أي: كأنه يقول: إذا كان ظهره جمعة، وصلى الجمعة محل الظهر تكون النافلة ركعتين في بيته، وأما قبل الجمعة فقد جاء الحديث مطلقاً: (من بكر وابتكر، وصلى ما تيسر له) فلم يحدد لا ركعتين ولا أكثر ولا أقل.
إذاً: نقول: إن المؤلف رحمه الله من فقهه وإتقانه قدم حديث ابن عمر في الصلوات الخمس في بيان أقل الراتبة، والجمعة لها صلاة قبلية وبعدية، ولكن يختلفون فيها، فمنهم من يقول: نافلة الجمعة كالظهر تؤدى قبل وبعد، وبعضهم يقول: لا، نافلة الجمعة قبلها ليس لها حد، وبعدها ركعتان، وبعضهم يقول: أربع ركعات بعدها في المسجد وركعتان في البيت؛ لأن خير صلاة المرء في بيته.(76/3)
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في سنن الظهر
قال المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدع أربعاً قبل الظهر، وركعتين قبل الغداة) رواه البخاري] .
هذا نوع من التفصيل والزيادة، تقول أم المؤمنين رضي الله عنها: (كان صلى الله عليه وسلم لا يدع) بمعنى: لا يترك، (أربعاً قبل الظهر وركعتين قبل الغداة) ، والغداة: الصبح.
فهي تخبر بصورة شاهدتها، وسكتت عن بقية الأوقات الأخرى، كبعد الظهر وقبل العصر وبعد المغرب وبعد العشاء، ففي هذه الرواية تقول: (ما كان يدعهما) ، لكن نستفيد من هذه الرواية أنه صلى الله عليه وسلم كان حريصاً ومداوماً عليها، وابن عمر يقول: (حفظت عشراً وذكر ركعتين قبل الظهر) ، وعائشة تقول: (ما كان يدع أربعاً) ، كيف نوفق بين هذين الحديثين؟ يقول الفقهاء رحمهم الله: رواية عائشة جاءت بزيادة أربع، وزيادة الثقة مقبولة، فقالوا: لعلها تذكر أحياناً أنها رأت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي أربعاً، وابن عمر يذكر أحياناً أنه رأى من رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة ركعتين ولا معارضة في ذلك، أو أنه كان يصلي ركعتين في المسجد وركعتين في البيت، فـ ابن عمر يرى ركعتي المسجد، ولا يرى ركعتي البيت، فيكون المجموع الذي كان يصليه النبي أربع ركعات.
والذي يهمنا في هذه الرواية هو المواظبة والتأكيد عليها، أما ما يتعلق بالصبح فقد جاءت روايات وأحاديث عديدة تبين أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يترك ركعتي الفجر والوتر لا في سفر ولا في حضر؛ ولذا قال الشافعية: إن سنة الصبح سنة مؤكدة، وقال الأحناف: إن الوتر واجب لا كوجوب الفرض في الصلوات الخمس، بل واجب على اصطلاح الأحناف، ومعنى ذلك: ما ثبت بنص قطعي من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم متواتراً فهو الفرض، وما ثبت بأخبار الآحاد فهو الواجب، فيرون أن الوتر قد أتت فيه أحاديث عديدة، وجاء التحذير من تركه كحديث: (من لم يوتر فليس منا) قالوا: هذا أمر خطير، فهو أمر واجب، والواجب على هذا الاصطلاح منزلة بين الفريضة في الصلوات الخمس وبين النافلة مع الظهر والمغرب أو العشاء، والجمهور على أن الوتر ليس بفرض وله مبحث سيأتي فيه كيفية وعدد ركعاته إن شاء الله.
وقدمنا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما كان بعد رجوعه من غزوة خيبر عرسوا ليلة، فناموا حتى طلعت عليهم الشمس، وفارقوا ذلك الوادي، ثم أمر بلالاً فأذن، فصلوا سنة الصبح وما تركوها، وإن كان قد خرج وقتها، وإن كانوا في سفر والسفر تقصر فيه الفريضة، ومع ذلك لم يترك الرسول صلى الله عليه وسلم ركعتي الفجر، وفي رواية: (صلوها ولو طاردتكم الخيل) ومع ذلك ليست فريضة؛ لأنه جاء في الحديث: (خمس صلوات كتبهن الله على العبد في اليوم والليلة) إذاً: لا يمكن لإنسان أن يأتي بصلاة يدعي أنها مفروضة مع الصلوات الخمس لهذا الحديث، فالوتر وسنة الفجر والضحى كل ذلك خارج عن الفرضية، بمعنى: الواجب عند الجمهور.(76/4)
فضل ركعتي الفجر الراتبة
قال المؤلف رحمه الله: [وعنها رضي الله عنها قالت: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر) متفق عليه] .
هذا تأكيد لما تقدم، فلم يكن صلى الله عليه وسلم أشد تعاهداً -يتعهده ويداوم عليه- من تعاهده لركعتي الفجر، وهذا يدل على أن ركعتي الفجر من المؤكدات في النوافل، وهي آكد من غيرها، وقد أشرنا سابقاً بأن كلمة (نافلة) عامة، ويدخل تحتها السنة والمندوب والتطوع، وأشرنا بأن بعضها يتفاضل عن بعض.
[ولـ مسلم: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) ] .
(ركعتا الفجر) يعني: سنة الفجر، (خير من الدنيا) سبحان الله! ما أقل الدنيا فيما يتعلق بالعبادة عند الله! وبعض العلماء ينبه تنبيهاً لطيفاً، فيقول: الدنيا فيها فضائل كثيرة: كالنبوة، والرسالة، والعبادة، وكل أنواع الخير، ولكن المراد بهذا: ما فيها من الزخارف الملهية كالأشجار والأنهار والبيوت والقصور والأموال إلخ، قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14] إذاً: (خير من الدنيا وما فيها) أي: من الأمور الدنيوية، أما العبادات فلا تدخل في ذلك.(76/5)
فضل من صلى اثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أم حبيبة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى اثنتي عشرة ركعة في يومه وليلته بني له بهن بيت في الجنة) رواه مسلم.
وفي رواية: (تطوعاً) ] .
نحن حفظنا عن ابن عمر عشر ركعات، وأم حبيبة رضي الله تعالى عنها تقول: (اثنتي عشرة ركعة) .
فجاءت هنا زيادة، وكما أشرنا أن الزيادة إذا كانت من ثقة فهي مقبولة؛ لأنها تتضمن ما كان أقل منها وتزيد عليه، فالاثنتا عشرة ركعة تتضمن العشر، فهي تشتمل على العشر وتأتي بالزيادة، لكن لو أنها قالت: ثماني ركعات، فإن في ذلك معارضة لحديث العشر، فإذا قالت: اثنتا عشرة أو أربع عشرة لا مانع؛ لأن العشر المحفوظة داخلة ضمن الزيادة، وهو أيضاً على سبيل الإجمال ثم التفصيل.
قالت: (اثنتي عشرة ركعة) ، وسيأتي تفصيلها في رواية عند غير مسلم، الحديث الأول فيه: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) ، وهنا (اثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتاً في الجنة) ، يا سبحان الله! هل نقول: ما أهون بيوت الجنة أم نقول: ما أعظم أجر الصلاة؟ الجنة ليست رخيصة، ولكن الثمن يقابل المثمن، والمثمن هنا بيت في الجنة، لو قيل: لك بيت في المدينة، أو في الحرة من اللِّبن، أو من الحجر أو عمارة على أن تصلي ألف ركعة المسألة صلاة ما فيها مال ولا دينار، ولكن الصلاة رأس الإسلام وعموده وهي الحق المفروض لله سبحانه وتعالى؛ ولأن الصلاة هي أكبر عون للعبد في دينه ودنياه، ولأنها أكبر حرز للمسلم من الخطايا: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] ومما يلاحظ أنه قد أتى قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] مرتين في حق بني إسرائيل، فجاء في حق بني إسرائيل: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ * وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:44-45] إذاً: الصلاة كبيرة على بني إسرائيل هذا في الأول، ثم تأتي في حق هذه الأمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] فرق بين هذه الآية وبين الآية الأخرى، كأنها ليست ثقيلة، وإن كانت هي في ذاتها لا شك أنها عبء وتكليف، ولا أقول: ثقيلة في قوله سبحانه: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل:5-6] الوحي تكليف ثقيل، ولكن ناشئة الليل تقاوم وتعادل ذلك، فيكون هناك استعداد، وإمداد بأن يتهيأ لناشئة الليل التي هي أشد وطئاً وأقوم قيلاً، فيتحمل ما سيلقى إليه من قول ثقيل، لكن المغايرة تعطينا نوعاً من المفاضلة، ففي حق بني إسرائيل ثقيلة إلا على الذي اتصف بالخشوع بين يدي الله فإنه لا يستثقل شيئاً، وجاء في بعض أخبار الحسن بن علي رضي الله تعالى عنه أنه كان يصلي، فسقط ركن من المسجد، فلما انتهى من صلاته وجد غباراً، فقال: ما هذا الغبار؟ قالوا: أولم تسمع ركن المسجد عندما سقط؟ قال: والله ما دريت عنه، كنت في الصلاة.
وجاء عنه أنه كان إذا جلس يتوضأ يصفر وجهه، فقيل: لماذا يصفر وجهك عندما تتوضأ؟ قال: ألا تدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟ فيهمنا بأن الصلاة لأهميتها إذا حافظ الإنسان على نافلة فيها يؤجر عليها كما في الرواية الأخرى: (بنى الله له بيتاً في الجنة) وبيت الجنة لا يستطيع أن يعلم أحد بمواصفاته إلا الله، وجاءت أحاديث أن بعض بيوت الجنة من لؤلؤة واحدة يرى داخلها من خارجها، كما جاء في حديث زيد بن ثابت مع رسول الله، وجاء في خبر عمر رضي الله عنه إلى غير ذلك.
إذاً: الصلوات هي عماد الدين، وتعود على المصلي بكل خير، وكما أشرنا أنها أكبر حرز له من الخطايا: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] هذا إذا أديت بواجباتها، ورزق الله العبد حسن التلذذ وارتياح النفس، وطمأنينة القلب بالمناجاة بين يدي الله.
إذاً: اثنتا عشرة ركعة ثمنها بيت في الجنة، ومثل هذا لا يستكثر على المولى، لأن عطاءه كلام: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40] .
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وللترمذي نحوه وزاد: (أربعاً قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الفجر) ] .
وماذا زادت أم حبيبة على حديث ابن عمر؟ ابن عمر قال: (ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها) ، وأم حبيبة اتفقت مع ابن عمر في كل الأوقات ما عدا قبل الظهر، فزادت ركعتين فيما قبل الظهر، فاتفقت مع ابن عمر في العشر الركعات، وزادت ركعتين، واتفقت مع عائشة في أربع قبل الظهر، وبهذا تكون مجموع السنة أو النافلة على ما سيأتي إجماله اثنتا عشرة ركعة.
ويهمنا أن أم حبيبة زادتنا بما تتفق فيه مع عائشة وابن عمر ركعتين، وهما في الأربع التي قبل الظهر.
وهذا سؤال: كيف تكون كيفية هذه الركعات؟ أهي أربع ركعات بتكبيرة واحدة وسلام واحد أم أنها مفصولة ركعتين ركعتين؟ نجد الخلاف في هذا بسيطاً، فقال البعض: يصلي أربعاً مجموعة، وقال البعض الآخر: لا، هذه صورة الفريضة، فيجب أن تكون الأربع مفرقة ركعتين ركعتين، وسيأتي المؤلف بحديث: (صلاة الليل مثنى مثنى) ، وفي بعض الروايات زيادة: (صلاة الليل والنهار) , لكن زيادة (والنهار) يردها علماء الحديث بأن سندها غير ثابت، ويرى الجمهور أن الأربع قبل الظهر ركعتين ركعتين لحديث: (صلاة الليل مثنى مثنى) وهذا حديث صحيح ثابت، وإذا كانت صلاة الليل مثنى مثنى قالوا: قياساً على صلاة الليل تكون أيضاً مثنى مثنى، وقالوا أيضاً: لعدم تشبيه النافلة بالفريضة، وقالوا أيضاً: إن في تفريقها زيادة عبادة، فلو جمعناها لم يكن فيها إلا تكبيرة إحرام واحدة، ولو فرقناها كان فيها تكبيرتان، ولو جمعناها ما كان فيها إلا تسليم واحد، ولو فرقناها كان فيها تسليمان، وكذلك التشهد في الجمع يكون تشهداً أوسطاً، وفي التفرقة يكون تشهداً كاملاً، وإضافة إلى ذلك يؤتى بالدعاء المأثور بعد التشهد الأخير.
إذاً: تفرقتها أكثر أجراً من جمعها لأنه أكثر عملاً، وهذا ما يرجح أن صلاة النهار لتلك الأربع تصلى مفرقة.(76/6)
فضل من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها
قال المؤلف رحمه الله: [وللخمسة عنها: (من حافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله تعالى على النار) ] .
هذه خطوة ثانية، جاءنا حديث ابن عمر وحديث عائشة في جزئية، وحديث أم حبيبة في المجموع، ثم في خصوص الظهر جاء حديث: (من حافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله تعالى على النار) هذا دعاء أم إخبار؟ بعض العلماء يقول: هذا إخبار من الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله، وهو الصادق في خبره المصدوق فيما أخبر به، وبعضهم يقول: هذا دعاء، كأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم حرمه على النار، وسواء كان إخباراً فخبره صدق، أو دعاءً فدعاؤه مقبول عند الله.
إذاً: من وفقه الله وأعانه وحافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعدها فهذا سبيل خير أوسع من الذي قبله، وإذا اقتصر على اثنتين واثنتين فقد أتى بأقل التطوع، وإذا زاد إلى أربع، نقول: أتى بأكثر ما جاء به النص.(76/7)
فضل من صلى قبل العصر أربع ركعات
قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رحم الله امرءاً صلى أربعاً قبل العصر) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه، وابن خزيمة وصححه] .
خص الظهر بأربع قبلها وأربع بعدها، وجاء في العصر فقال: (رحم الله امرأً) فهل هذا إخبار أم دعاء؟ إن كان خبراً فهو خبر صدق، وإن كان دعاءً فهو مقبول؛ ولذا يقول العلماء: ينبغي للإنسان أن يتعرض لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله امرأً صلى قبل العصر) أما ما بعدها فيأتي المنع من النافلة.
إذاً: جاء في فريضة العصر أنه يصلي أربعاً قبلها، وكأنه عندما يقول: (رحم الله امرأً صلى) كأنه يقول: الأمر أهون من غيره، ولكن إن شئت الرحمة والفضل فصل أربعاً قبل العصر، ولابد أن يعلم أنها في قوة الطلب ليست كركعتي الفجر، وليست كركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها؛ لأن الطلب هنا فيه ترجيح وترغيب من جهة التعرض لرحمة الله سبحانه وتعالى.(76/8)
كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع [2]
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بصلاة ركعتين قبل المغرب، وجعل هذا الأمر تحت مشيئة الإنسان؛ لئلا يحرج أمته، أما صلاة ركعتي الفجر فكان صلى الله عليه وسلم يحرص على أدائهما في الحضر والسفر، ويحض على أدائهما مبيناً أنهما خير من الدنيا وما فيها، والأصل في هاتين الصلاتين التخفيف إقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم.(77/1)
استحباب صلاة ركعتين قبل المغرب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلوا قبل المغرب صلوا قبل المغرب صلوا قبل المغرب، ثم قال في الثالثة: لمن شاء كراهية أن يتخذها الناس سنة) رواه البخاري] .
هذا الحديث يتعلق بصلاة قبل المغرب، وتقدم في حديث ابن عمر وأم حبيبة ركعتين بعد المغرب، وأم حبيبة أطلقت في الحديث، وابن عمر قيد الصلاة في البيت، ولكن الجديد هنا قوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا قبل المغرب) هل المراد: قبل وجوب المغرب أم قبل صلاة الفريضة؟ قبل صلاة الفريضة؛ لأن قبل وجوبه عند الغروب الصلاة فيه ممنوعة، إذاً المعنى: صلوا قبل أن تصلوا المغرب، ثم كررها صلى الله عليه وسلم، وفي الثالثة قال: (لمن شاء) كراهية أن يتخذها الناس سنة أي: أن يداوموا عليها.
بعض العلماء يرى أن هذه الصلاة مطلوبة من جانبين: الأول: قوله: (قبل المغرب) معناه: بعد الأذان، أي: أن الإقامة لم تأتِ فهي ما بين الأذان والإقامة.
الجانب الثاني: قوله صلى الله عله وسلم: (بين كل أذانين صلاة) .
وهذا الحديث ينطبق على الصلوات الخمس؛ لأن سنة المغرب القبلية تصلى بين الأذان والإقامة، وعلى هذا كان السلف رضوان الله تعالى عليهم يصلون قبل المغرب.
وبعض الفقهاء يفصلون فيقولون: ما دامت المسألة: (لمن شاء) فهذا يرجع فيه إلى طبيعة الناس في صلاتهم، فعند المالكية لا صلاة قبل المغرب؛ لأن وقت المغرب عندهم ضيق، وهو كذلك عند الجمهور فالمغرب وقته واحد؛ لأن جبريل عليه السلام لما نزل يصلي بالرسول صلى الله عليه وسلم نزل في اليوم الأول فصلى الصلوات الخمس على أول وقتها: الصبح عندما طلع الفجر، والظهر حين زالت، والعصر إذا كان الظل قدر مثله، والمغرب إذا غربت، والعشاء إذا غاب الشفق، ومن الغد جاء فأخر الصبح إلى قرب طلوع الشمس، وأخر الظهر إلى آخر وقتها، وأخر العصر إلى اصفرار الشمس، والمغرب صلاها في وقتها الذي صلاها فيه بالأمس، ولم يغاير في وقتها، والعشاء أخرها إلى ثلث الليل، فإذاً: كل فريضة من الصلوات الخمس لها وقت واسع ما عدا المغرب، فالصلوات الأربع لها أول وآخر، ولكن المغرب صلاها في اليومين المتتاليين في وقت واحد، وجاء هذا عنه صلى الله عليه وسلم، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ما وقت الصلاة يا رسول الله؟ قال: أقم معنا إلى الغد) فأقام اليوم، في هذا اليوم صلى النبي صلى الله عليه وسلم جميع الصلوات في أول وقتها، ومن الغد صلاها كلها في آخر وقتها إلا المغرب صلاها في نفس الوقت الذي صلاها بالأمس، ثم قال: (أين السائل عن وقت الصلاة؟ قال: هأنذا يا رسول الله! قال: الوقت ما بين هذين) يقول المالكية: إذاً: المغرب لها وقت واحد، وعندهم يخرج وقت الفريضة بما يساوي الوضوء وركعتين مباشرة وصلاة المغرب ثم ينتهي الوقت، فيقولون: إذا كان الإنسان يصلي لنفسه أو الإمام بجماعته والكل حضور في المسجد، فأذن للمغرب أقام الصلاة فريضة حالاً، ولا صلاة قبلها، وإذا كان الإمام يتأخر، أو جئت إلى المسجد بعد الأذان ولم يأت الإمام، وتعلم أنه سيتأخر قدر ركعتين فصل الركعتين.
وعلى هذا فالصلاة قبل المغرب جائزة عند الجمهور ما لم يكن فيها تأخير لصلاة المغرب عن أول وقتها.
وكان السلف رضوان الله تعالى عليهم إذا أتوا المسجد لصلاة المغرب وقد أذن ابتدروا السواري يصلون النافلة، حتى لو دخل إنسان لظن أن الصلاة قد انتهت -يعني: صلاة الفريضة- لكثرة ما يرى من صلاة الناس، كأنهم يصلون السنة بعدها.
وعلى هذا يأتي التخيير، والربط بالمشيئة في هذه النافلة بالذات لظروف وقت المغرب: (صلوا المغرب) كررها ثلاثاً ثم قال في الثالثة: (لمن شاء) .
قال رحمه الله: [وفي رواية لـ ابن حبان: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى قبل المغرب ركعتين) ] .
يريد أن يثبت المؤلف رحمه الله أن هذه الصلاة قبل المغرب ثبتت بالسنة القولية، وبالسنة الفعلية منه صلى الله عليه وسلم، إذاً: ينبغي للأئمة ألا يضيقوا على الناس، وأن يكون الإمام حاضراً في المسجد، وإذا تأخر يأتي بسرعة، ليس هناك تأخير للفريضة، فصلاة ركعتين فيها فرصة لمن كان متأخراً لأن يحضر، وفيها إحياء للسنة النبوية بالصلاة قبلها، أما إذا جاء متأخراً فلا ينبغي له أن يقدم السنة على الفريضة، بل يبدأ بالفريضة حالاً.
قال رحمه الله: [ولـ مسلم عن ابن عباس قال: (كنا نصلي ركعتين بعد غروب الشمس، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرانا فلم يأمرنا ولم ينهنا) ] .
أي: لم يكن يأمرنا ولم ينهنا بعد غروب الشمس وبعد الأذان للمغرب، ما دام أنها لمن شاء لا يأمر أحداً ولا ينهى أحداً، وإلى هنا تكون السنة تقريرية وفعلية وقولية، والسلف منهم من يفعل، ومنهم من يترك.
تنبيه: جاء في الشرح لهذا الكتاب المبارك أن مجموع النوافل التي ثبتت عشرون ركعة، ولنأخذها بالجملة: ركعتان قبل الفجر، وأربع قبل الظهر، وأربع بعد الظهر، وأربع قبل العصر، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل المغرب لمن شاء، إذاً: مجموع النوافل تطوعاً مع الصلوات الخمس عشرون ركعة.
ويضيف المؤلف من باب الطرفة العلمية أن ابن القيم قال: مجموع الصلوات في اليوم والليلة فريضة مع نافلة سبع وثلاثون ركعة، ويضاف إليها ثلاث ركعات الوتر، فيكون المجموع أربعين ركعة، ولكن أحب التنبيه على أن الصحيح أن مجموع النافلة مع الفريضة خمسون ركعة؛ لأن المؤلف اعتبر الوتر ثلاث ركعات فقط، ولكن جاء في حديث: (أوتروا بثلاث بخمس بسبع بتسع بإحدى عشرة ركعة) وجاء في حديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث عشرة ركعة) ، فسبع وثلاثون ركعة بالإضافة إلى ثلاث عشرة ركعة وتراً تصبح خمسين ركعة، أقول ذلك لأن بعض العلماء يقول: فرضت الصلاة في أول الأمر خمسون صلاة، وما زال النبي صلى الله عليه وسلم يتردد بين المولى وبين موسى عليه السلام في التخفيف حتى خففت إلى خمس، وقيل: هي في العدد خمس، وفي الأجر خمسون، فقال بعض العلماء: لو جمعنا مجموع النافلة مع الفريضة لبلغت الخمسين، إذاً: فرضت الخمسون، وبقيت ليس على سبيل الفرض، الفرض سبعة عشر والباقي تطوعاً، لماذا؟ زيادة فضل من الله على العبد، لأنه أعطاه ثمن بيت في الجنة، أعطاه: (رحم الله من صلى كذا) ، أعطاه: (خير من الدنيا وما فيها) ، وهذه كلها ذكرت مع النافلة، والله تعالى أعلم.(77/2)
مشروعية التخفيف في سنة الفجر
قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخفف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح، حتى إني أقول: أقرأ بأم الكتاب؟!) ] متفق عليه.
لم يأخذ من رواتب النافلة حيزاً في البحث عند الفقهاء، ولا نصوصاً عند العلماء؛ كركعتي الفجر والوتر، أما ركعتا الفجر فتقدم قول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (إن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان أشد تحرياً لصلاة كركعتي الفجر) ، وتقدم أيضاً: (صلوا ركعتي الفجر ولو طاردتكم الخيل) فهذه نصوص في التأكيد عليها , وكذلك ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه حافظ عليها في الحضر والسفر، وتقدم في قصة بلال أنه قال له: (اكلأ لنا الفجر) فما أيقظهم إلا حر الشمس، فارتحلوا عن ذلك الوادي، فأمر صلى الله عليه وسلم بلالاً بأن يؤذن للصلاة، فأذن ثم صلى ركعتي الفجر، ثم أقام وصلى الفريضة، وكذلك جاء في الحديث: (من فاتته ركعتا الفجر حتى صلى الصبح فليركعهما بعد طلوع الشمس) ، وكذلك جاء إقراره صلى الله عليه وسلم لمن صلاهما بعد صلاة الصبح وقبل طلوع الفجر، فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما انصرف من صلاة الصبح وجد رجلاً يصلي، فأخذ بيده وقال: (آلصبح أربعاً؟ فقال: يا رسول الله! هذه ركعتا الفجر فاتتني فأنا أصليهما، فقال: إذاً: لا بأس) وهكذا ما يتعلق بالفرائض.
ثم جاءت الكيفية وما يتبعها، فنجد هنا أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها تبين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخففهما، وتبين من هذه الصورة قولها: (حتى إني لأقول: أقرأ بأم الكتاب؟) أي: هل قرأ بأم الكتاب أم لم يقرأ؟! ومن المعلوم أنه لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، ولكنها رضي الله تعالى عنها تبين لنا إلى أي مدى كان هذا التخفيف، وسيأتي النص بأنه كان يقرأ بـ (قل يأيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) يعني: ليس مجرد الفاتحة فقط بل ومعها سورة أخرى، ولكن لو تأملنا موقع ركعتي الفجر هاتين مع صلاته صلى الله عليه وسلم بالليل -وهما من آخر ما يصلي، كان يقوم الليل إلى أن يوتر قبل الفجر ثم يؤذن ثم يصلي الركعتين- لوجدنا النسبة بينهما بعيدة جداً، ولهذا عندما نقارن بين صلاته صلى الله عليه وسلم بالليل وما وصفته به أم المؤمنين بنفسها تقول: (كان صلى الله عليه وسلم يصلي أربعاً لا تسل عن حسنهن وطولهن) ، وفي الحديث أنه (كان يقرأ الفاتحة ثم يقرأ البقرة، والنساء وآل عمران، ثم يركع نحواً من ذلك، ثم يرفع نحواً من ذلك، ثم يسجد نحواً من ذلك) ، وذكرت الركعة كلها في أركانها نحواً من ذلك، فكم تستغرق الركعتان من قيام الليل؟ فإذا جئنا إلى ركعتي الفجر بـ (قل يأيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) وجدناها إلى جانب صلاة الليل كالصفر على الشمال، شيء بسيط جداً.
إذاً: قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (يخفف) ليس معنى ذلك التخفيف الذي يخرج الصلاة عن قواعدها أو يخل بصحة الصلاة، ولكنه تخفيف في القراءة مع الطمأنينة في الصلاة بأكملها، لكن بالنسبة إلى صلاته صلى الله عليه وسلم ليلاً تكون خفيفة جداً، بدليل أنه يجتزئ بهاتين الخفيفتين عن هذه النافلة التي شدد فيها، وهذا له نظير: في منصرفه صلى الله عليه وسلم من عرفات نزل ليريق الماء، فصب عليه أسامة الوضوء، فقال: (توضأ ولم يسبغ الوضوء) ، هذا الحديث كثر فيه كلام الفقهاء منهم من يقول: إنه غسل يديه واستنجى فقط، والآخر يقول: إنه غسل مرة مرة واحدة، ولكن نحن نعلم بأن إسباغ الوضوء واجب فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ويل للأعقاب من النار) ، وإسباغ الوضوء ينقسم إلى قسمين: قسم يترك خللاً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ويل للأعقاب) لما رأى في أعقابهم لمعاً -أي: بياضاً لم يصبه الماء - فكان هذا نقصاً في الوضوء، ومن عدم إسباغ الوضوء أيضاً أن يتوضأ مرة مرة؛ لأن السنة جاءت بالوضوء ثلاث مرات، ونعلم بأنه لو توضأ مرة مرة فغسل كامل العضو المطلوب فإن هذا الوضوء تصح به الصلاة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة ثم قال: (هذا الوضوء الذي لا يقبل الله صلاة بغيره) ، يعني: بأقل منه، ثم توضأ مرتين مرتين، وقال: (هذا وضوء من قبلنا) ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً، وقال: (هذا وضوئي ووضوء أمتي) ، فعرفنا أن أقل ما يجزئ غسلة، ووضوء الأمم قبلنا غسلتان، ووضوءنا الكامل ثلاث غسلات ما عدا المسح فإنه لا يكرر.
ويقول النووي: لو تكرر المسح لشابه الغسل، وأصبح الماء على الشعر كأنه غسل.
إذاً: قول الراوي: (لم يسبغ الوضوء) ، مثل قول أم المؤمنين هنا: (حتى أقول: أقرأ بأم الكتاب أم لم يقرأ؟) ، والجواب عمن يقول: إن عدم إسباغ الوضوء ينصرف إلى الوضوء اللغوي، أن نقول: لا، لأن نص الحديث: (لم يسبغ) لا يقال في الوضوء اللغوي أسبغ أو لم يسبغ؛ لأن الذي يقال فيه: إسباغ هو الوضوء الذي تصح به الصلاة، فلما قال: (لم يسبغ الوضوء) فهمنا أن هذا الوضوء المذكور مما من شأنه أن يوصف بالإسباغ، وما لا يوصف بالإسباغ لا ينفى عنه، وهذه قاعدة -كما يقولون عند الأصوليين وعلماء المنطق- تسمى: (العدم والملكة) ، أي: لا ينفى الشيء عما لا يتصف به.
فإذا قلت: هذا العمود لا يسمع، ولا يبصر، كان هذا خطأ؛ لأنه ليس من شأنه أن يسمع أو يبصر حتى تقول: لا يسمع ولا يبصر، فكذلك غسل اليدين والاستنجاء، والوضوء اللغوي لا يقال: فيه إسباغ، فلا تحمل كلمة (وضوء) عليه، ولكن الذي يقال فيه إسباغ: هو الوضوء الذي تقع به الصلاة.
إذاً: هناك اقتصر واكتفى بالوضوء مرة مرة، وعندما جاء مزدلفة توضأ وأسبغ، إذاً: الوضوء الأول كان معتمداً أم لا؟ البعض قال: غير معتمد، ولكن الصحيح أنه معتمد وقالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على جميع أحيانه، فلما أراق الماء وانتقض الوضوء , وهو سيذكر الله وخاصة في تلك اللحظات: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] أي: في طريق المشعر الحرام، فهي موضع لذكر الله، فكره أن يذكر الله على غير وضوء، ونظير ذلك ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه مر بسباطة قوم -السباطة: هي موضع القمامة- فوقف يبول وهو قائم، فمر رجل عليه وسلم، فلم يرد عليه السلام، حتى إذا جاء إلى جانب جدار تيمم ثم رد السلام على الرجل وقال: (إني كرهت أن أذكر الله على غير طهارة) لكن هذه الطهارة ليست طهارة صلاة؛ لأنه في الحضر، وحكمه وجوب الوضوء بالماء، ولكن التيمم هنا للتخفيف.
ننتقل إلى حديث ركعتي الفجر، وقول أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: (حتى أقول -في نفسي- أقرأ بأم الكتاب أم لا؟) ومعلوم أنه كان يقرأ، ولكن ليس بترسل ولا بتمهل، ولم يقرأ معها من طوال السور كما يقرأ في صلاة الليل.(77/3)
ما يقرأ في ركعتي الفجر من السور
قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الفجر: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ) رواه مسلم] .
هذا من فقه المؤلف رحمه الله حيث أورد لنا قول عائشة الذي يمكن أن يشكك في عدم قراءة الفاتحة، فيأتينا بعده مباشرة بأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يقرأ الفاتحة فقط، بل يقرأ الفاتحة ومعها تارة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] وتارة: بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، فإذا كان يقرأ بهاتين السورتين فهل يترك الفاتحة ويقرأ بهاتين السورتين أم قطعاً نقول: إنه يقرأ بفاتحة الكتاب ثم يقرأ بهاتين السورتين؟ نقول: قطعاً أنه يقرأ في كل ركعة الفاتحة وإحدى هاتين السورتين.
إذاً: رداً لما عساه أن يقع في الذهن من قول أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، نقول: نعم قد قرأ ولم يقتصر على الفاتحة فقط، بل قرأ معها بسورتين قصيرتين، في كل ركعة سورة، وهنا يرد السؤال: السنة أن تقرأ في كل يوم في ركعتي الفجر مع الفاتحة في الأولى (قل يا أيها الكافرون) ، ومع الفاتحة في الركعة الثانية (قل هو الله أحد) ، وهذا له نظير، ففي ركعتي الطواف السنة أن تقرأ بسورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ، وكذلك في الوتر تقرأ في الأولى: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] ، وفي الثانية: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] ، وفي الثالثة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] .
إذاً جاءت سورة الإخلاص مع سورة الكافرون في الوتر في آخر الليل، وجاءت أيضاً مع سورة الإخلاص في ركعتي الفجر في أول النهار، وجاءت سورة الكافرون مع سورة الإخلاص عقب الطواف، فمن مجموع هذه الحالات يرى البعض -وهو رأي سديد-بأن حياة الأمة وصلب الإسلام وصميمه إنما هو بتوحيد الله، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] لكي يظل الإنسان على طريق مستقيم من القيام بعبادة الله وحده، والإقرار لله بالوحدانية، كان يأتيه هذا التذكير يفتتح يومه صباحاً بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:1-2] ، أي: تلك الأصنام التي تعبدونها أنا أرفضها، {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ} [الكافرون:4] أي: عبادتكم التي تؤدونها أنا لا أعبدها: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:3] ، ولا أنتم بمصلين ولا صائمين كما أصلي وأصوم: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] ، انفصال وتميز، تميزت الأمة عن غيرها في منهجها وعلاقتها بربها، فإذا جاءت الركعة الثانية جاءت سورة الإخلاص، فالسورة الأولى جاءت بإفراد الله بالعبادة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] والسورة الثانية: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} [محمد:19] تفرد الله سبحانه بالوحدانية في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله، فتصبح وأنت تعلن هذا الأمر: وهو إفراد الله بالعبادة، وتوحيده سبحانه في أسمائه وصفاته، مؤمناً وافياً، تعلنها في الصباح وتبني حياتك اليومية عليها، وهكذا في آخر اليوم عندما تسلم نفسك للنوم، وتنتهي من جميع أعمالك، والوتر أوله من بعد العشاء إلى طلوع الفجر، فإذا أوترت بعد العشاء وأنهيت النهار بهذا المعنى، وبه استقبلت الليل، وكذلك هناك أنهيت الليل، وبه استقبلت النهار فتكون موحداً بين ليلك ونهارك: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:17] وهذا كما قالوا في المناسبة في فجر يوم الجمعة: الغالب أن يقرأ فيها بسورتي السجدة والإنسان، ويقول ابن تيمية رحمه الله: شرعت قراءة هاتين السورتين في هذا اليوم؛ لأن يوم الجمعة هو اليوم الذي فيه تقوم الساعة، وجاء في الموطأ في ذكر فضائل يوم الجمعة في آخره قال: وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مصيخة بسمعها يوم الجمعة بعد الفجر خوفاً من قيام الساعة، فالحيوانات تصيخ بسمعها بعد الفجر، وتتذكر هذا اليوم، ونحن أولى؛ لأن الحيوانات والجمادات والسموات والأرض عرضت عليهن الأمانة فأبينها، وحملها الإنسان، فهو أولى من أن يشفق من الساعة، وخاصة من اليوم الذي جاء التحديد من أنها ستأتي فيه وهو يوم الجمعة.
إذاً: قراءة السجدة و (هل أتى على الإنسان) مناسبتان لصلاة الصبح في يوم الجمعة؛ ليتذكر الإنسان بنفسه أن أول خلقه كان من تراب ثم نطفة ثم.
إلخ وقصة السجود وعدم السجود، وليتذكر أنه لم يكن شيئاً مذكوراً، فيهما قصة حياة الإنسان ومآله يوم القيامة، ليتأهب ولا ينسى مبدأه، ولا يغفل عن معاده، وكذلك: (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) تناسبان صباح الإنسان ومساءه.(77/4)
الشبهة الواردة فيما يتعلق بالطواف بالبيت وتقبيل الحجر الأسود
نحن نبدأ طوافنا بالتكبير عند استلام الحجر مع تقبيله، ونحن نقبل الحجر ونطوف حول الكعبة وهي من الحجارة، ألم تكن مصيبة العرب في الجاهلية هي تعظيم الأصنام؟ فبعض أمراض القلوب يقول: كيف تعيبون على المشركين تكريم أصنامهم التي من حجارة أو ذهب أو خشب، وأنتم تأتون تقبلون الحجر وتطوفون حول الحجارة؟ ما الفرق بينكم وبينهم؟ يعني: هل حجارتكم أفضل من حجارتهم؟ وهذه كما يقال: شبهة رهيبة جداً؛ لأن أعداء الإسلام دخلوا على ضعاف النفوس بهذه الشبهة، وقالوا: تلك وثنية في الدين، وأقول وللأسف: بعض المشايخ -أول ما طرق سمعي شيء من الفقه، ونحن صغار في المدارس الابتدائية- من كبار العلماء في منطقته، جاء إلى الحج ولم يستلم الحجر، فأخبرني بعض من كان معه، وقال لي: سله، فسألته لماذا لم تقبل الحجر؟ فقال: هل صحيح أن النصوص فيه صحيحة؟ قلت: إذا كان مثلك يسأل في هذا فما بال العوام؟! أما رأيت الملايين من الناس يستلمونه، وأنت وحدك تنفرد في ترك ذلك؟! قال: لم أقتنع بصحة الحديث، فماذا تقول لمثل هذا؟ وكتبت كتابات في ذلك مثل: وثنية الإسلام، وكتبت ردود عليه: لا وثنية في الإسلام، ويأتون بأشياء بعيدة عن صلب الموضوع، ونحن عندنا أمران: الأمر الأول: أن الإسلام استسلام، إذا أمرنا الله أن نقبل حجراً قبلناه طاعة لله، لا تعظيماً للحجر، وإذا أمرنا أن نقبل شجراً قبلناه طاعة لله، لا تعظيماً للشجر، فنحن كما وجهنا الله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] ، وقد بين الله ذلك على لسان الملهم المحدث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وبكل جرأة يرشد العالم عليها حينما جاء يقبل الحجر قال: (إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع -يعني: لا أرجو فيك خيراً، ولا أرهب منك ضراً، سواء قلنا: نزل من الجنة فهو حجر أو كان من جبل أبي قبيس فهو حجر -ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) وهنا لنعلم ولنتأكد ولتكن قاعدة في كل الأمور التي ترتفع عن مستوانا: عمر هل عمل بهذا المعقول الذي عنده أم أنه ألغاه؟ ألغاه، لماذا؟ لما هو أصدق وما هو آكد وأعلم.
فمن لا ينطق عن الهوى، {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:4-5] جاء وقبله، إذاً عنده من العلم ما ليس عندي، وعنده ما يعتمد عليه، وأنا ملزم باتباعه، فـ عمر قبل الحجر استسلاماً وتأسياً واقتداء بمن هو أعلم منه وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر، أو أمرنا المولى في كتابه بأمر، وعقولنا لم ترتفع إلى مستواه، ولم تدرك معناه؛ نلغي العقل، ونعطيه إجازة، ونمضي في الطريق الذي لا مرية فيه ولا شك.
الأمر الثاني، وهو الجانب الأصولي: عندما تطوف تبدأ تقبل الحجر، ثم تطوف بالحجارة المرصوصة، وتأتي تصلي ركعتي الطواف خلف المقام: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] وتقرأ: (قل يأيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) ، فأنت تأتي وتصلي لمن؟ لله؛ إذاً: لا وثنية، عندما تجعل الركعتين خلف مقام إبراهيم لله، ومن هو إبراهيم؟! قال تعالى عنه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120] {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35] ، إذاً: أنا مقتد بإبراهيم ولم أعبد الأصنام، بمجرد ما تتجه للصلاة خلف مقام إبراهيم، فإذا كنت في هذه الصلاة تعلنها: (يا أيها الكافرون) يا عباد الأصنام! حجارة أو ذهباً أو خشباً أو ما شابه ذلك، {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:2] فتعظيمكم للأصنام والحجارة هذا شرك لأنكم لم تؤمروا به، وتقبيلي للحجر عبادة لأنني أمرت بها، لكم دينكم مع أصنامكم، ولي دين مع ربي، وتأتي بعد ذلك بسورة الإخلاص، ومعنى ذلك أعلنها: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] هل بعد هذا من ادعاء شبهة وثنية في تقبيل الحجر أو الطواف بالبيت؟ لا والله، ومقام إبراهيم فيه آيات بينات، وهي آثار القدم، يقول الفخر الرازي: أقدام إبراهيم في الحجر آية لوحدها، قال تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران:97] ، فجعل مقام إبراهيم آيات، وموضوع المقام أن القدمين غاصت في الحجر وعملت فيه، قال: نعم، عندما يكون الحجر صلباً، ثم تأتي بمثقل، فإذا بحدود الحجر تلين ويغوص فيها المثقل، وبقية الحجر بقيت على ماهيتها، إذاً: موضع القدمين في ليونتهما وانطباع القدم فيها آية، وبقاء بقية الحجر صلباً آية؛ لأن الليونة لو وقعت عليها جميعها يمكن أن يقال: هذا عامل كيماوي أو عامل سحري.
، نحن نعلم إذابة الحجر والنحت على الحجارة كيف يكون، بالألفونيا مع النشادر، تسحق بمقدار معين أو متساو ثم تحطها، هذه الكتابات التي على الرخام عملها يكون بتغطية صفحة الرخام بالشمع ثم تأخذ الريش، وتكتب ما تريد بأي نوع من الكتابة، فتحفر الشمعة حتى ينكشف الرخام، ثم تملي هذا المحفور بالألفونيا مع النشادر بمقادير متساوية، ثم تقطر عليها من حمض الكبريت، فإذا به يتفاعل ويأكل الرخام تحته، فإذا انتهى إلى العمق الذي تريد صببت عليه الماء فيتوقف عن التفاعل، ثم تزيل الشمع بعد ذلك، فتخرج الرخامة مكتوباً عليها بأحسن ما يكون، ما حفرت باليد وإنما صنع لها مواد كيماوية، فلو أن الحجر كله ذاب يمكن أن يقال: هذه مادة كيماوية أكلته، لكن لا، البعض يلين وينطبع فيه القدم، والبعض يبقى على حجريته، إذاً: فما لان الحجر إلا بقدرة الله، فهذه آية، وقد وجدنا قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74] ، فإذا كان الأمر كذلك فنحن نقول: لا وثنية.
ونرجع ونقول: إن القراءة للفاتحة في ركعتي الفجر ثابتة بهذا الحديث، وقراءة السورتين والمداومة عليهما ربط بين حياة الإنسان العملية، وبين عقيدته فيما بينه وبين الله، وبالله تعالى التوفيق.(77/5)
كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع [3]
من النوافل التي حث الشارع على المداومة عليها صلاة الليل التي هي أفضل الصلوات بعد الفريضة، ولا يداوم عليها إلا المجاهدون الصابرون، الطامعون بما عند الله سبحانه من الرضا والنعيم المقيم، وما من عبد داوم على قيام الليل إلا أظهر الله ذلك في جوارحه وعلى صفحة وجهه، وكان ممن يناديه الله في كل ليلة ليتوب عليه ويغفر له.(78/1)
مشروعية الاضطجاع بعد صلاة ركعتي الفجر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن) رواه البخاري.
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم الركعتين قبل صلاة الصبح فليضطجع على جنبه الأيمن) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه] .
هذه المسألة لها عند الأئمة رحمهم الله منزلة من حيث المنهج في البحث فيها، فقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (أنه صلى الله عليه وسلم، كان إذا صلى ركعتي الفجر -أي: قبل الفريضة- اضطجع على شقه الأيمن) وهذا حديث صحيح متفق عليه.
بعدما ساق المؤلف رحمه الله تعالى هذا الحديث من فعله صلى الله عليه وسلم -والفعل قد يكون خاصاً به- جاء بالحديث الذي يعم الأمة بصيغة الأمر: (إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع) هذه صيغة من صيغ الأمر، والأمر يقتضي الوجوب.
ومن خلال هذين الحديثين نجد الخلاف عند العلماء، ونجد منهج البحث: أولاً: من حيث الفكرة نجد من السلف من يقول بذلك ويفعله، ومنهم -وهم الأكثر- من لا يقول بذلك وينكره، وجاء عن ابن مسعود أنه قال: (ما بال أحدكم إذا صلى ركعتين تمعك كما يتمعك) وذكر حيواناً من الحيوانات يضرب به مثل الخسة، ولا حاجة لذكره، وهذا مبالغة في الإنكار.(78/2)
تقسيم أفعال النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبلية وتشريعية
ونجد الأئمة رحمهم الله تتبلور عندهم المسائل الخلافية؛ لأنهم رحمهم الله يأخذون النصوص ويمحصونها ويجمعون أطرافها، وينظرون ما هي النتيجة، فما وصل إلى الأئمة الأربعة يكون هو خلاصة ما وجد وقيل من خلاف أو وفاق قبلهم.
فنجد عند الشافعي أنه يستحب فعل ذلك، ونجد عند الحنابلة كذلك الاستحباب، ونجد عند غيرهم من ينكرها بالكلية كالأحناف، ومنهم من يفصل وهم المالكية فيقولون: إن فعلها استناناً كره، وإن فعلها جبلة فلا بأس، وسنرجع إليها إن شاء الله.
وقد أبعد ابن حزم رحمه الله فأوجبها، قال: يجب ويتعين على الإنسان ما لم يكن به عذر أن يضطجع على شقه الأيمن، وإذا لم يضطجع فصلاته باطلة، ثم قال: إذا كان مريضاً لا يستطيع أن يضطجع على الأيمن لا يضطجع على الأيسر؛ لأنه لا يجزئه، ولكن ويومئ إيماء.(78/3)
أفعال النبي صلى الله عليه وسلم الجبلية
قول مالك: من فعلها جبلة، ما معنى الجبلة؟ الجبلة: الفطرة، وهي طبيعة خلق الإنسان، فمثلاً: الإنسان من جبلته وتكوينه ومن فطرته التي فطره الله عليها أن يأكل إذا جاع ويشرب إذا عطش، وينام إذا تعب، فهنا قالوا: إن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى قسمين: جبلي وتشريعي.
والتشريعي ينقسم إلى خمسة أقسام، والجبلي كونه يأكل يشرب ينام يأتي النساء؛ لأنه كان يفعل هذه الأشياء بالجبلة والفطرة قبل أن يوحى إليه، ولأن هذه الأفعال يفعلها المسلم وغير المسلم لا بتشريع ووحي ولكن بطلب الحاجة إلى الحياة، هذه هي الجبلة، فأعماله صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى قسمين أساسيين، وقسم ثالث يدور بين الجبلة والتشريع.(78/4)
أفعال النبي صلى الله عليه وسلم التشريعية
أما التشريع: فبيانه صلى الله عليه وسلم لما أجمل من كتاب الله، وحكم البيان حكم المبين، جاء قوله سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] لا ندري كيف نصلي! ولا كم نزكي! فلما صعد المنبر، واستقبل القبلة، وكبر وقرأ وركع، ورفع من الركوع، ونزل القهقرى بظهره حتى وصل إلى الأرض، وسجد في أصل المنبر، وسجد السجدتين، ثم صعد المنبر وفعل كذلك حتى تشهد، ثم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) فهذا بيان منه لركن من أركان الإسلام، فيكون هذا البيان حكمه كحكم هذا الركن.
وكذلك الزكاة، بيّن صلى الله عليه وسلم أن من ملك عشرين مثقالاً وحال عليها الحول ففيها الزكاة وهي ربع العشر، ومن ملك مائتي درهم من الفضة وحال عليها الحول ففيها العشر، وبين لأصحاب الأنعام أن من ملك أربعين شاة سائمة طوال العام ففيها شاة، إلى مائة وعشرين ففيها شاتان، ثم بعد ذلك في كل مائة شاة، وبين لأهل الإبل أن في كل خمس من الإبل شاة إلى عشرين، فإذا وصلت خمساً وعشرين ففيها بنت مخاض إلى ست وثلاثين، وأنصبة الإبل مسلسلة، وأصحاب البقر في كل ثلاثين تبيع أو تبيعة.
إذاً: بيانه صلى الله عليه وسلم للواجب في كتاب الله حكمه حكم المبين، فمثلاً: من الأعمال التي تدور بين الجبلة والتشريع في يوم عرفة، قال: (خذوا عني مناسككم) فطفنا كما طاف، وسعينا كما سعى، ووقفنا كما وقف من حيث الزمان والمكان، وأفضنا من عرفات إلى المشعر الحرام، ونزلنا إلى وادي محسر وأسرعنا، وجئنا إلى منى فرمينا ونحرنا وطفنا الإفاضة، ورجعنا فمكثنا في منى الأيام الثلاثة، وأخذنا عنه النسك، ولكن لما كان يوم عرفات: (والحج عرفة) رأيناه صلى الله عليه وسلم لم ينزل عن ظهر راحلته، جاء إلى عرفة قبل الزوال فنزل بالوادي تحت شجرة أراك، فلما زالت الشمس اغتسل وجاء إلى المسجد فخطب وصلى، ثم جاء إلى الموقف ووقف عند الصخرات، وظل على راحلته حتى غربت الشمس.
وهنا يقال: هل السنة أن نقف في عرفات على الراحلة؛ لأنه قال: (خذوا عني) أم أنه وقف على الراحلة لأمر جبلي لا للتشريع؟ وما هي الجبلة؟ أنه أرفق به وأريح له.
فبعضهم يقولون: وقوفه على الراحلة أمر خارج عن حدود الحج.
وهو: لما أراد الحج بعث إلى القبائل: (إني حاج، فمن أراد أن يوافيني، فليوافني وليحج معي) ، فتوافدت القبائل إما إلى المدينة ورافقوه، وربما تلاقوا في مكة أو في الطريق، فهؤلاء الذين قدموا ليروا رسول الله أين يطلبونه في عرفات؟ اختار مكاناً معلماً وهو عند الصخرات، حتى إذا أتى آت يبحث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يشار إليه من بعيد أنه ذاك الذي عند الصخرات واقف على راحلته.
إذاً: فعله هذا دائر بين هذا وهذا، وليس واجباً على كل إنسان أن يقف على راحلته أو على سيارته.(78/5)
تحقيق الخلاف في حكم الاضطجاع بعد ركعتي الفجر
عندما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر وبعدها اضطجع، هل هذه الضجعة تابعة للسنة فنتأسى به فيها، أم أنه فعلها لمطلب الجبلة عنده صلى الله عليه وسلم؟ يقول الشوكاني: فيها خمسة أقوال: من الأقوال التي جاءت فيها: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل، وإلى متى يمتد قيامه؟ كما تبين أنه قال: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الفجر فليصل ركعة توتر له ما قد صلى) ، وكان صلى الله عليه وسلم يقوم الليل، ثم يوتر، ثم يضطجع حتى يأتيه المؤذن، ثم يقوم يصلي كما جاء في حديث أم المؤمنين: (كان ينام حتى ينفخ، ثم يقوم فيصلي، فأقول له: أتصلي وقد نمت ولم تتوضأ؟ فيقول: يا عائشة! تنام عيناي ولا ينام قلبي) أي: أنه صلى الله عليه وسلم جعل النوم مظنة انتقاض الوضوء؛ لأنه قال: (العين وكاء السه) والسه: حلقة الدبر، فإذا نامت العينان استطلق الوكاء، فالنائم يخرج منه الريح وهو لا يدري، لكن إذا كان القلب مستيقظاً فإنه إذا حدث منه حادث أدركه، ومن هنا كان لا يتوضأ لنومه.
وكان أبو موسى الأشعري عندما كان في الكوفة أميراً عليها يقيل في المسجد بعد صلاة الظهر، وكان عنده إخوانه، فإذا جاء وقت العصر أيقظوه، فيقول لهم: أسمعتم شيئاً أو شممتم شيئاً؟ فيقولون: لا، فيقوم يصلي.
أي: أنه لم يخرج منه شيء.
والفقهاء يقولون: من قعد متمكناً ثم نعس وهو على تلك الحال فلا وضوء عليه، وجاء في الحديث: (إنما الوضوء على من نام مضطجعاً) ، والمالكية يقولون: إذا نام وهو راكع فلا وضوء عليه، وإذا نام وهو ساجد فعليه وضوء؛ لأنه وهو راكع متوازن، وحافظ لتوازنه، فإذا خرج منه شيء أدركه، أما الساجد فإنه ينام ولا يدرك شيئاً.
فهنا تقول عائشة رضي الله تعالى عنها عنه إنه كان يقوم الليل، فإذا كانت نهاية الليل في طول القيام فإنه يحتاج إلى راحة، فقالوا: تلك الضجعة للارتياح بعد قيام الليل، من قال: إن كل من قام الليل فتعب فاضطجع فلا مانع، لكن هل اضطجاعه سنة أو اضطجاعه جبلة؟ والله لا تقدر أن تحكم بشيء، أقول للإخوة: ارجعوا في هذه المسألة إلى كلام الشوكاني في نيل الأوطار، فقد روى هناك حديثاً عن أم المؤمنين عائشة - أعتقد أنه الفيصل في القضية - تقول: (كان صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتي الفجر، فإن كنت مستيقظة جلس يحدثني، وإن كنت نائمة اضطجع) ، ومن هنا أجمع العلماء -ما عدا ابن حزم فيما انفرد به -على أن هذا الاضطجاع ليس بواجب، ويختلفون هل هو مباح أو مكروه أو سنة أو جبلة.
ولكن وجدنا من ينقل عن الخلفاء الراشدين الأربعة النهي عن فعلها، ومن ينقل عن بعض السلف كـ ابن عمر أنه كان يفعلها، ومنهم من يروي أنه كان لا يفعلها.
والخلاف موجود على هذا النحو المتقدم، فمن فعلها جبلة فلا بأس، لكن لا يكون ذلك في المسجد فيؤذي الناس، ويأخذ مكان ثلاثة أو أكثر، لأنه لا ضرر ولا ضرار، فإذا في بيته، وكان البيت قريباً من المسجد فكيفما شاء، أما في المسجد فإن فعلها يكون فيه تضييق على الناس، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فعله صلى الله عليه وسلم على منهج البحث العلمي دائر بين الجبلة والتشريع، ووجدنا ترجيح جانب الجبلة في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، أنه تارة يحدثها، وتارة يضطجع.
أما حديث الأمر الموجه للأمة: (فليضطجع) وجدنا أن هذه صيغة أمر، وصيغة الأمر تقتضي الوجوب مالم تجد صارفاً، ووجدنا حديث عائشة رضي الله عنها فيه الصارف عن الوجوب، بأنه صلى الله عليه وسلم لم يداوم عليه، وإنما كان يفعله تارة ويتركه أخرى، فانتفى الوجوب بصيغة الأمر الموجه للأمة.
والله تعالى أعلم.(78/6)
صفة صلاة الليل
قال المؤلف: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى) متفق عليه.
وللخمسة -وصححه ابن حبان - بلفظ: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى) وقال النسائي: هذا خطأ] .
في سياق هذا الحديث الأول: (صلاة الليل مثنى مثنى) معروف في اللغة أن (مثنى مثنى) معدول عن اثنين اثنين، مثنى وثلاث ورباع وخماس وسداس معدول بها عن الأصل، ولذا يقولون: إنها ممنوعة من الصرف للوصفية والعدل.
والمراد هنا: (مثنى مثنى) أي: كل ركعتين معاً، ويتفق العلماء على هذا الحديث، وربما وقع خلاف في الزيادة، ونريد أن نجعل البحث في مطلق صلاة الليل دون التعرض للوتر؛ لأن الوتر له بحث مستقل.
البحث الآن في مطلق قيام الليل وهو التهجد، لنعرف كيف يقوم الليل من وفقه الله سبحانه لذلك! ثم ننتقل من صلاة الليل إلى صلاة النهار، فقيل: الحديث المذكور كان جواباً لسؤال، سأله رجل: كيف أصلي الليل يا رسول الله؟! قال: (صلاة الليل مثنى مثنى) أي: ركعتين ركعتين، ولهذا قالوا: لا ينبغي لأحد أن يزيد في صلاة الليل عن ركعتين دون أن يسلم.(78/7)
قياس صلاة النهار على صلاة الليل
ولنأت إلى صلاة النهار، وقد جاءت الزيادة فيه هنا (صلاة الليل والنهار) جاء ابن خزيمة والنسائي وقالا: هذا غير صحيح، أي: إضافة (والنهار) ، على أن هذه الإضافة غير صحيحة، فبعض العلماء جاء وقال: (صلاة الليل) ، مفهوم ذلك كيف تكون صلاة النهار؟ هذا الجواب وارد، فقالوا: إن لم تصح زيادة: (والنهار) ، ونقتصر على قوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل مثنى مثنى) وقفنا عند الصحيح، فما حكم صلاة النهار؟ فقوم قالوا: مفهوم المخالفة صلاة الليل خلاف صلاة النهار، وصلاة النهار خلاف صلاة الليل، يعني: صلاة النهار أربعاً أربعاً، أو ركعتان أنت مخير فيها، فيقولون: مفهوم المخالفة: أنه ترك صلاة النهار ولم يتعرض لها، وإنما نص الحديث على صلاة الليل، فنحن نعمل الحديث نصاً في صلاة الليل، ونذهب نجتهد في مفهوم المخالفة في صلاة النهار؛ فإن شئنا جعلناها مثنى، وإن شئنا جعلناها أربعاً أربعاً، وقد جاءت النصوص: (من صلى أربعاً قبل الظهر وأربعاً بعدها.
الحديث) (رحم الله امرأً صلى قبل العصر أربعاً) فهل هي مفرقة أم مجموعة؟ بل هي مطلقة لم يأت نص يبين حالها، فقوم قالوا: نقيسها على صلاة الليل، ونجعلها مثنى مثنى، وتكون كل صلاة النهار مثنى مثنى لا بالنص الزائد: (والنهار) ، ولكن قياساً على صلاة الليل.
إذاً: منهج البحث العلمي هنا: قوم قالوا بالقياس دون الاعتماد على الزيادة: (والنهار) والقياس معتمد.
وآخرون قالوا: لا، هذا نص خاص بصلاة الليل، فهي مقيدة بمثنى مثنى، والنهار نحن غير ملزمين لا بأربع ولا بركعتين ركعتين.
ولنأت إلى التفصيل عند الأئمة رحمهم الله، فعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله، لك أن تصلي الأربع ركعات مجموعة، والأئمة الثلاثة يقولون: الأولى أن تفرقها كما فرقت صلاة الليل؛ لمرجحات كثيرة؛ لأن القاعدة في المسائل الخلافية إذا لم يوجد نص يرفع الخلاف، ولم يوجد ما يرجح أحد الجانبين من النصين بحثنا عما يرجح الخلاف من بعيد، قالوا: إذا صليتها أربعاً بدأت بتكبيرة الإحرام، وجلست في الثانية وقرأت التشهد الأول وقمت، وفي الرابعة تشهدت ودعوت وسلمت، فحصلت الأربع الركعات بتكبيرة واحدة، وسلام واحد، وتشهد كامل واحد، فإذا صليتها مفرقة كانت كل ركعتين بتكبيرة إحرام وتشهد كامل، وتسليم ودعاء مع التشهد، ويمكن دعاء الاستفتاح أيضاً، وإذا كانت مفرقة فهي أكثر لذكر الله، فمن هنا قالوا: الأولى والأرجح أن تصلى مفرقة.
وجماعة وسعوا قليلاً وقالوا: ما دام أنها مثنى مثنى، وجاء في النهار صلاة أربع مجملة، فنحافظ على مثنى مثنى في الليل، وأما في النهار فيكون ممنوعاً صلاة ركعة وتسليمة، أو ثلاث ركعات وتسليمة، أو ست ركعات وتسليمة، لأن غاية ما جاء به النص أربعاً، والنص الآخر: (مثنى مثنى) ويقاس عليه، فليس عندنا نص يفيد أن نتطوع بست ركعات في تسليمة واحدة، فإذا تجنبنا الركعة الواحدة المفردة في النهار والثلاث والست بسلام واحد كان كل صورة بعد ذلك إما أربع كما جاء في سنة الظهر والعصر، وإما اثنتان كما جاء في صلاة الليل، هذا خلاصة ما يقال في صلاة الليل والنهار.(78/8)
فضل صلاة الليل
قال المؤلف: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصلاة بعد الفريضة: صلاة الليل) أخرجه مسلم] .
هذا فيه بيان المفاضلة في النوافل، ونحن نعلم بأن صلاة الليل نافلة، والنص الكريم يقول: {وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء:79] نافلة للنبي صلى الله عليه وسلم من قوله: (لك) وبقية المسلمين هل تكون لهم نافلة أم تطوعاً منهم؟ يقول علماء التفسير في التدقيق في هذه المسألة: إن قيام الليل بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم نافلة، والنافلة بمعنى: الزيادة، لماذا كانت صلاة الليل زيادة بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: لأنه صلوات الله وسلامه عليه قد غفر ما تقدم له من ذنبه وما تأخر، وصلاة الفريضة قد تنقص في حق الأمة، فجاء قوله: (انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فاجبروا بها فريضته) ، فريضة الأمة كأفراد من حيث هم محتملة للنقص، فإذا وقع نقص في فريضة جبر من النافلة، وقد تستغرقها، ولكن بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم هل يحتمل في فريضته نقص يحتاج إلى جبران؟ لا، إذاً: صلاته كاملة، فالتطوع الذي سيكون منه سيتوفر له كاملاً، وهل هذا يكون لغيره؟ لا، إذاً: التنصيص القرآني: {وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء:79] لأنه صلى الله عليه وسلم لا يحتاج إلى تلك النافلة في جبران فريضته، بينما آحاد الأمة يحتاجونها، فقد لا تسلم تلك النافلة.
وهنا يرشدنا صلى الله عليه وسلم أن أفضل الصلاة بعد الفريضة هي صلاة الليل، وصلاة الليل تجمع عدة مسائل أو صفات تؤهلها وتجعلها فعلاً أفضل صلوات بعد الفريضة: أولاً: ما يلحق الإنسان فيها من مشقة؛ لأن صلاة الليل يرى كثير من العلماء أنها لا تعتبر تهجداً إلا إذا كانت بعد نوم، أما إذا كان سهران وما جاءه نوم حتى الساعة الثالثة أو الثانية والنصف بعد نصف الليل وقال: أصلي، فهو لم يتهجد بعد نوم، وما كلفته، لكن إذا كان نائماً مستغرقاً في النوم، وفي حاجة إلى هذا النوم، ويقهر نفسه ويغالب غريزته، ويجتذب نفسه من فراشه، ويتوضأ ويصلي، كان هذا عملاً فيه جهاد كبير، وهنا يصادف قيام الليل الثلث الأخير من الليل، وفيه الحديث النبوي: (إذا كان ثلث الليل الآخر ينزل ربنا إلى سماء الدنيا فينادي: هل من سائل فأعطيه؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من داع فأجيبه؟) ، في هذه اللحظات المولى سبحانه وتعالى يتودد إلى عباده، فالذي يصلي من الليل يصادف تلك اللحظات التي فيها النداء من الله سبحانه، إذاً: تصادفه من حيث الزمن والملابسات من تجلي المولى سبحانه لعباده، وتدل على شدة الرغبة في الخير، وكذلك أيضاً الناس نيام، فهذا قام من ليله، بينما الآخرون مستغرقون في نومهم، وفرق بين من ينعم في نومه وبين من ينعم بمناجاة ربه.
كان ابن عمر رضي الله عنه ينتهز نوم الناس في القيلولة فيقوم ويصلي، ويقال عنه: يحيي القيلولة؛ وإن كان قد جاء الحديث أن نومة القيلولة تعين على قيام الليل، وابن عمر رضي الله تعالى عنه له قصة ودافع في ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل) ، فقد جاء أنه رأى رؤيا، حيث رأى نفسه على حافة النار، فسمع منادياً يقول: (لن تراع! لن تراع) أي: لا تخف، فنجا منها، وقبلها كان يقول في نفسه كما يعبر هو: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح التفت لأصحابه وقال: هل رأى أحد منكم من رؤيا؟) ، فمن كان يرى رؤيا قصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعبرها له، وقال صلى الله عليه وسلم: (الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، يراها الرجل الصالح أو ترى له) وهذه النسبة جاءت كما يأتي: واحد من ستة وأربعين، قالوا: إن مدة الوحي كانت قسمين: وحي بالرؤى، ووحي بالملك، فالوحي الذي كان بالرؤى مدة وجوده صلى الله عليه وسلم يتعبد في غار حراء، كان يرى الرؤيا ليلاً فتأتي صباحاً كفلق الصبح، كأنه يقرؤها من كتاب، ثم جاءه الوحي: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] قالوا: كم كانت مدة الوحي بالملك؟ ثلاث وعشرون سنة، ثلاث عشر سنة في مكة وعشر سنوات في المدينة، وستة أشهر بالنسبة للسنة كم؟ النصف، اضربها في اثنين، كل سنة نصفين، فهنا الوحي المباشر ثلاثة وعشرون في اثنين فتكون ستة وأربعين جزءاً من النبوة، فمدة الرؤيا بالنسبة لمدة الوحي نصف سنة من ثلاث وعشرين سنة، فتكون النسبة صحيحة.
وهكذا الرؤيا الصادقة أو الرؤيا الصالحة كثير من الناس يرى الرؤيا فيصبح يراها موجودة في الفعل، أو من الغد أو قريب من هذا الباب فيقول ابن عمر: (كنت أقول: إن من يرى رؤيا صالحة يكون عنده شفافية في روحه، ويكون عنده نور في بصيرته، فتمنيت أن أرى رؤيا فأقصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فرأيت أني على حافة النار أو جب فيه النار، فجاء ملك أو قال شخص: لن تراع لن تراع، فقصصتها على حفصة، فقصتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل) ، فأخذ العلماء من هذا أن قيام الليل ينتج عنه النجاة من النار؛ لأنه رأى أنه على حافة النار، والرسول أرشده إلى ما ينجيه منها، فما كان يترك قيام الليل بعد ذلك حتى زاد قليلاً فكان يحيي القيلولة زيادة في الخير وحرصاً عليه.(78/9)
المفاضلة بين ركعتي الفجر وصلاة الليل
إذاً: أفضل الصلاة بعد الفريضة -يعني: أفضل النوافل- صلاة الليل، وعندنا حديث أنه ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد تحرياً لصلاة بعد الفريضة من سنة الفجر والوتر، فهل تكون صلاة ركعتي الفجر آكد من صلاة الليل؟ الآكد شيء، والفرضية شيء، والفضيلة شيء، فكما قالوا: الخصوصية لا تقتضي التفضيل، فمثلاً: زيد بن ثابت قال فيه رسول الله عليه وسلم: (أفرضكم زيد) ومعاذ بن جبل أعلمهم بالحلال والحرام، أبو عبيدة أمين هذه الأمة، هذه خصائص لأشخاص وأفراد، فهل تخصيصهم بهذه الخصائص فضلهم على أبي بكر وعمر؟ ما فضلوا عليهم.
فهنا خصيصة صلاة الليل تبعد عن صلاة النهار، وليس معنى ذلك أنها أفضل مما أكد عليه صلى الله عليه وسلم، أو يقال: هذه سنة راتبة مرتبطة بفريضة فهي تدعو إليها، أما قيام الليل فليس براتب، وليس مربوطاً بفريضة، إنما هو عبادة مستقلة؛ ولهذا عظم شأنها، وفضلت في الأجر على غيرها، والله تعالى أعلم.(78/10)
كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع [4]
لقد جاءت الأحاديث في بيان فضل صلاة الوتر، فالوتر حق على كل مسلم أن يصليها كيفما شاء ركعة أو ثلاث ركعات أو خمس، ويبدأ وقتها من بعد صلاة العشاء إلى قبيل طلوع الفجر، ومن كل الليل أوتر رسول الله من أوله وأوسطه وآخره؛ فكان في الأمر توسيع على عباد الله المؤمنين، ولشدة حرصه صلى الله عليه وسلم على صلاة الوتر شرع لمن نام عنها أو نسيها أن يصليها إذا أصبح أو ذكر.(79/1)
صلاة الوتر وما جاء فيها من الأحاديث
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الوتر حق على كل مسلم، من أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل) رواه الأربعة إلا الترمذي، وصححه ابن حبان، ورجح النسائي وقفه] .
جاء هذا الحديث عن أبي أيوب مرفوعاً هنا، وعند غيره موقوفاً على أبي أيوب، وأبو أيوب نستبعد أن يجعلها حقاً أو غير حق اجتهاداً من عنده؛ لأن (حق) هنا بمعنى واجب، فيبعد أن يكون أبو أيوب قد أوجب شيئاً من عنده؛ ولذا يقول العلماء: وإن جاء موقوفاً فإن الموقوف في حكم المرفوع، ولا سيما إذا جاءت رواية مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والحق الواجب اللازم الثابت.
وقول أبي أيوب رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الوتر حق على كل مسلم) اللفظ هنا للجنس، فيشمل كل مسلم ومسلمة، وقد ذكر البخاري رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى من الليل ما شاء الله، ثم أيقظ عائشة رضي الله تعالى عنها، وقال: (قومي فأوتري) .
إذاً: (على كل مسلم) هذا للجنس، فإذا ذكر الرجال دخلت النسوة تبعاً للرجال، قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] أي: بواو الجماعة للذكور في الأمر بالصلاة والزكاة {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} [البقرة:178] لم يقل: عليكن، فعلم بأن النسوة تبع للرجال في مواطن التشريع.(79/2)
صرف حكم الوتر من الوجوب إلى السنية
قوله: (الوتر حق) : إلى هنا لو لم يأت بقية الحديث لكان هذا الجزء من هذا الحديث يوجب ويعين فرضية الوتر وأحقيته على كل فرد، أي: ليس واجباً كفائياً، بل على كل مسلم في ذاته، ولكن وجدنا سياق الحديث: (الوتر حق على كل مسلم، فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل) الخمس الثلاث الواحدة كلها وتر، فكيف يكون حقاً ويترك فعله إلى ما يحبه الإنسان؟! إن آخر الحديث يرد الكيفية إلى فعل ما يحبه الإنسان، وهنا شبه نافذة لمبادئ الخلاف، فكلمة: (حق على كل مسلم) ، من تمسك بها قال: الوتر حق واجب، وقد جاء في بعض الأحاديث أن رجلاً جاء إلى عمر وقال: إن في الشام رجلاً يقال له: أبو محمد، يقول: إن الوتر واجب، فقال: كذب أبو محمد، الوتر ليس بواجب، وسيأتي النص عن علي رضي الله تعالى عنه: ليس بواجب كالصلاة أو كالفريضة، ولكن سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأول الحديث يقول: (الوتر حق) وفي آخر الحديث: (من أحب أن يوتر بخمس بثلاث بواحدة فليفعل) ، فلما أُسند الأمر إلى ما يحبه الإنسان تخلخل رابط الحق والوجوب، وأصبح واجباً مخلخلاً؛ لأن فيه اختياراً الإنسان، ولو كان واجباً حتماً لما ترك الاختيار للإنسان في كيفية الأداء.
ولكن كمنهج علمي: الذين يقولون بأنه حق قالوا: نحن لم ننازع في الكيفية، فليوتر على أي صفة شاء، وعليه أن يوتر بما يشاء، فذلك متروك له.
إذاً: مجال الخلاف قائم، ماذا فعل المؤلف إزاء ذلك؟ وقبل أن ننتقل للأثر بعده لنرى الحكمة والفقه في إيراد النصوص في الباب الواحد، وأنها لم تكن عفوية، ولكنها مقصودة لبيان الحكم من سياق اللفظ أو من خلال المعنى بين السطور.
في قوله صلى الله عليه وسلم: (من شاء أن يوتر بخمس فليفعل) ، كيف يصلي الخمس؟ ليس عندنا صلاة خمس ركعات أبداً، أكثر صلاة عندنا أربع، وهنا نزل إلى واحدة، فكيف يصلي الخمس؟ وكيف يصلي الثلاث؟ سيأتي تفصيل ذلك عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وعن غيره.
وقد جاءت الروايات في الوتر بعدد زيادة عن الخمس: بسبع أو بتسع، وجاء بالفعل من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عند البخاري رحمه الله لما بات عند خالته ميمونة قال: فبات النبي صلى الله عليه وسلم وأهله بطول الوسادة، ونمت في عرضها، الوسادة طويلة، فنام النبي صلى الله عليه وسلم على طولها، ونام هو في عرضها الذي هو سمكها، أي: نام ابن عباس على طرف الوسادة.
قال: حتى إذا كان منتصف الليل -وفي بعض الروايات-: ثلث الليل، قام النبي صلى الله عليه وسلم إلى شن فتوضأ، ثم أخذ ثوباً، ثم قام يصلي، ففعلت كما فعل، أي: قام يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ يفتل شحمة أذنه، قالوا: في هذا تنبيه للصبي حتى لا ينام، وتشجيع له على عمله، ومؤانسة له.
والرواية الأخرى يقول فيها: قمت عن يساره، فمد يده من وراء ظهره وأخذ برأسي وأدارني إلى يمينه، فهنا بينوا موقف المأموم المنفرد من الإمام إن كان واحداً، فيكون عن يمينه لا من ورائه ولا عن يساره.
وبالمناسبة وخاصة ونحن بالمدينة المنورة، ونشاهد الصلاة في المسجد النبوي أثناء الموسم، فنحتاج إلى هذه الصورة، فـ ابن عباس قام للصلاة عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم، ظناً منه أن الأيمن أفضل، فترك الأيمن لرسول الله ولم يقف متيامناً على رسول الله، فوقف في اليسار على أن الأيمن أفضل، ولكن السنة أن يكون الإمام بمثابة السترة للمأموم، فأخذ ابن عباس من يساره بعد أن كبر في الصلاة، وأداره إلى يمينه، وهنا مالك رحمه الله قال: تصح الصلاة أمام الإمام عند الضرورة، نحن نشاهد المصلين هنا أثناء الموسم يتقدمون الإمام، ونجد البعض أو الكثير يعترض على ذلك ونقول: مصيب من وجه، وغير مصيب من وجه آخر.
واستدلال مالك رحمه الله بهذه الصورة قال: إن الجهات بالنسبة إلى الإمام أربعاً: أمام وخلف ويمين ويسار، فوجدنا الخلف هو موقف المأمومين إن كانوا عدداً، واليمين موقف المأموم إن كان فرداً، إذاً: لا موقف في أمام ولا يسار، لكن ابن عباس لما قام ووقف عن يساره وليس بموقف، كبر ودخل في الصلاة، ولم يرفض النبي صلى الله عليه وسلم ما وقع من صلاة ابن عباس في اليسار وهو في غير موقفه، ولكن صححه وأخذه وجعله في الموقف الصحيح وهو الأيمن، فيقول مالك: الجزء الذي وقع من ابن عباس في غير موقفه اعتد به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعذره لعذر الجهالة؛ لأن المكان متسع وابن عباس لم يعرف ذلك، فصحت صلاته وهو قائم في اليسار، لأنه أوقع جزءاً من الصلاة في جهة اليسار، ثم أكملها في الموقف الصحيح، فإذا جاء إنسان ووقف أمام الإمام وهو في غير موقف نظرنا: إن كان لعذر لضيق المكان وعدم التمكن صحت الصلاة وصح الاقتداء، وإذا كان يوجد مكان ولكنه قصر وترك محل الوقوف عن اليمين أو الخلف وجاء أمام الإمام فلا حق له في ذلك.(79/3)
الصور والكيفيات لصلاة الليل مع الوتر
لما ذكر ابن عباس رضي الله تعالى عنه قيام النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لنا ثلاث عشرة ركعة، وهنا يأتي الكلام في حديثنا الذي معنا: (من أحب أن يوتر بخمس) والعدد لا مفهوم له، أي: ولو بسبع ولو بتسع، كيف يصلي الوتر خمساً أو ثلاثاً أو سبعاً أو تسعاً؟(79/4)
الصورة الأولى: التسليم في كل ركعتين
يتفق العلماء -تقريباً- على أنه إن شاء صلى كل ركعتين وسلم، على ما سيأتي لـ ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم كان يسلم كل ركعتين، وفي بعض الروايات: (وربما أمر ببعض حاجته) وبعض الروايات قال: (بعد كل ركعتين قام وشاص فاه بالسواك) يعني: يفصل بين كل ركعتين بالسلام وبالكلام، وربما استاك ما بين كل ركعتين، فإذا ما أتم شفعاً أربعاً أو ستاً أو ثماناً قام وجاء بركعة واحدة صارت هي الخامسة أو السابعة أو التاسعة وتم الأمر، هذه صورة مثنى مثنى ويوتر بواحدة، سواء أتم إلى خمس أو سبع أو تسع.(79/5)
الصورة الثانية: عدم الجلوس للتشهد والتسليم حتى يتم خمساً أو سبعاً.
الصورة الثانية: يقوم في الخمس ركعات، ولا يجلس في مثنى مثنى، ويجلس في الشفع الأخير، والشفع الأخير من الخمس هو الرابعة، فيتشهد التشهد الأوسط ويقوم، ثم يأتي بالخامسة ويجلس، ثم يتشهد ويسلم.
وإذا كان في سبع ركعات يقوم ست ركعات، ولا يجلس في مثنى مثنى، وفي آخر ركعة من الست يجلس ويتشهد التشهد الأوسط ويذكر الله، ثم يقوم ويأتي بالسابعة ويجلس ويتشهد ويسلم.
وكذلك في تسع يجلس في الثامنة ويتشهد التشهد الأوسط، ثم يقوم يصلي التاسعة، ثم يجلس فيتشهد التشهد الكامل ويسلم، وهكذا ذكروا في كيفية صلاة الوتر بخمس أو بسبع أو بتسع.
وأذكر لـ ابن حزم صورة أخرى وهي: أن يصلي الخمس تباعاً لا يجلس أبداً إلا في الأخير مرة واحدة، ويتشهد ويسلم، وكذلك السبع والتسع.(79/6)
خلاف العلماء في وتر الثلاث
بقي عندنا الوتر بثلاث كيف يصليها؟ يأتي البحث مطولاً في الثلاث أكثر من غيرها، تارة يأتي السياق بأنه صلى الله عليه وسلم صلى الوتر ثلاثاً، لا يجلس في الثانية، إنما يأتي بثلاث سرداً، كما تقدم عن ابن حزم في الركعة الخامسة والسابعة والتاسعة، فيصلي ثلاث ركعات، فيجلس في الثالثة ويتشهد ويسلم، ولكن غالب ما أثر عنه صلى الله عليه وسلم أنه يفصلهما، فيصلي ركعتين ويسلم منهما، ثم يأتي بالثالثة فيما بعد ويسلم لها.
وهذه الركعات الثلاث عند الفقهاء موصولة أم مفرقة؟ الخلاف في هذه بين الأحناف والجمهور، فالأحناف يرون أن الوتر بثلاث موصولة، يجلس في الثانية يتشهد ولا يسلم، ثم يقوم ويأتي بالثالثة يتشهد ويسلم، لكن الجمهور واجهوا الأحناف بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تشبهوا الوتر بالمغرب) أي: في الكيفية: كون الإنسان يجلس في الثانية ويتشهد التشهد الأول، ثم ينهض ويأتي بالثالثة، ويتشهد التشهد الكامل ويسلم، هذه صورة المغرب سواء بسواء.
استدل الأحناف بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في حديثها: (ما زاد رسول الله صلى الله وسلم في رمضان ولا في غيره عن ثماني ركعات، يصلي ركعتين لا تسل عن حسنهن وطولهن.
ثم يوتر بثلاث) ، لكنها لم تفصّل لنا كيفية هذه الثلاث، وقال الأحناف: لم نجد ثلاثاً إلا كصفة المغرب، ولم نجد صلاة ركعة واحدة منفردة من الصلوات.
وهناك الخلاف هل تصح الصلاة ركعة واحدة؟ جاء عن بعض السلف أنه قال: لا توجد صلاة ركعة واحدة، فأخذ بذلك الأحناف، ولكن أجيب عن ذلك بأن هناك من كان يقول في قصر الصلاة الرباعية تقصر إلى ركعتين، فصلاة السفر ركعتان، قالوا: صلاة الخوف تقصر عن صلاة السفر فتكون ركعة واحدة، فقال القائل كما ينقل ابن دقيق العيد: لم نجد صلاة ركعة واحدة، يعني: في الفريضة، لا في حضر ولا في سفر، ولا حتى في صلاة الخوف، وجميع صلاة الخوف الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ركعتان، بأنه يقسم الجيش قسمين، فإن كان العدو اتجاه القبلة صفوا صفين وراء النبي صلى الله عليه وسلم، فصلى بالصف الذي يليه ركعة ثم جلسوا، ثم قام الصف الثاني الذي كان في الحراسة فصلى، ونهض الصف الأول للحراسة من أمامه، فإذا ما صلى ركعتين مفرقتين على الصفين جلس، وقام كل صف ليتم لنفسه، ثم سلم بهم جميعاً، وقد صلى الجميع ركعتين.
وإذا كان العدو في غير القبلة قسم الجيش قسمين: قسم يتجه إلى العدو حراسة، وقسم يصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم إلى القبلة، فإذا صلى بالصف الذي وراءه ركعة يذهب إلى الحراسة، ويأتي ذاك الصف الذي كان في الحراسة فيأتي ويصف خلف النبي إلى القبلة، ويصلي به الركعة الثانية، فإذا ما أتم صلى الله عليه وسلم لنفسه ركعتين، وكان لكل نصف من الجيش ركعة، أتم كل ركعته الباقية وسلم.
وعلى هذا فلم نجد في صلاة الخوف ركعة واحدة، وقد بحث هذه المسألة والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في قصر الصلاة في السفر، وأطال في هذه المسألة إطالة طويلة جداً.
يهمنا الآن هل توجد ركعة واحدة في الصلاة أم لا، نحن أمامنا نص صحيح صريح، (فإذا خشي أحدكم الصبح فليصل ركعة واحدة) ، فهذا نص، وقوله: (ركعة) التاء هنا علامة الوحدة، كما تقول: أكلت تمرة، لو قلت: أكلت تمراً، لكان شيئاً كثيراً لا ندري كم هو، لكن إذا قلت: أكلت تمرة تفاحة برتقالة، فهي واحدة، التاء يقال لها: تاء الوحدة، فجاءت مؤكدة بالعدد، (ركعة واحدة) .
إذاً: وجدنا في التطوع ركعة واحدة، وهي ركعة الوتر، وهي محل الخلاف، إذاً: لا يقوم للأحناف إزاء هذا الحديث ما يستدلون به من أنه لم توجد صلاة ركعة واحدة.
والجمهور يقولون لهم: لا مانع أن نصلي الوتر بثلاث، ولكن مفرقة، أو أنكم لا تجلسون في الثانية حتى لا تشبهوه بالمغرب.
إذاً: قول أبي أيوب: (الوتر حق على كل مسلم) كان هذا الجزء من الحديث موجباً للوتر، ولكن ما جاء بعده: (فمن شاء أن يوتر بخمس.
بثلاث.
بواحدة فليفعل) خلخل قاعدة الوجوب، وجعل فيها مجالاً للخلاف، وللبحث في ذلك.
نجد من فقه المؤلف أنه يسوق لنا بعده حالاً حديث علي رضي الله تعالى عنه.(79/7)
القول بسنية الوتر عن علي بن أبي طالب
قال المؤلف: [وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (ليس الوتر بحتم كهيئة المكتوبة، ولكن سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه الترمذي وحسنه، والنسائي والحاكم وصححه] .
انظروا الأسلوب يا جماعة! فرق بين لفظ: (الوتر ليس بحتم) ، وبين لفظ: (ليس الوتر بحتم) ، فالتقديم والتأخير له سر بلاغي؛ لأن علياً رضي الله تعالى عنه يريد أن ينفي الحتمية، لا يريد أن ينفي الوتر، فلما ذكر المؤلف حديث أبي أيوب: (الوتر حق ... ) وفيه ابتداء إيجاب الوتر، أعقبه بحديث علي بنقيض هذا الإيجاب: (ليس) ، فيكون أول ما يطرق السمع في هذا الموضوع عن علي هو عامل النفي؛ ليرد حالاً عامل الإيجاب في حديث أبي أيوب سواء كان مرفوعاً أو موقوفاً: (ليس الوتر بحتم) الحتم: الواجب، وأمر حتم محتم بمعنى واجب، فـ علي يقول: (ليس الوتر بحتم كهيئة المكتوبة) يعني: نزل عن مستوى المكتوبة، فهل يكون نزوله مجرد زحزحته عن الوجوب أم ألغي بالكلية؟ إذاً: كلام علي هنا زحزحته عن مرتبة الوجوب إلى ما يليها.
قال: (ولكن سنة سنها رسول الله) هذا استدراك حتى لا يظن إنسان أنه غير موجود فقال: (ولكن سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم) إذاً: سنة رسول الله قريبة من الواجب الحتمي، ولكن هنا ليست بذلك.
وقد تعرضنا مراراً إلى أن السنة قد تأتي بالواجب في الأوامر والمنهيات، وتستقل بذلك، وإن كانت السنة إنما هي بالدرجة الأولى لبيان ما نزل إليه، وقد وجدنا في السنة المطهرة تحريم الجمع بين المرأة وخالتها، والمرأة وعمتها، وهذا تحريم، والتحريم ليس بهين، وقد قال تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء:23] لم يقل: الخالة ولا العمة، ولكن بمقتضى نص النبي صلى الله عليه وسلم يحرم الجمع بينهن، اللهم إلا الشيعة فإنهم لا يأخذون بذلك، ولا يهمنا هذا، وعلى هذا نهى صلى الله عليه وسلم، ونهيه فيما يتعلق بالتحريم قطعي وليس في ذلك شك.
فقد تأتي السنة بالفرض وبالمحرم وبالمكروه والمندوب والمباح على أحكام التكليف الخمسة.
وقوله: (سنة سنها رسول الله) ؛ هذا اصطلاح فقهي أصولي في زمن علي رضي الله تعالى عنه، وليس أمراً جديداً جاء به علماء الأصول، فهناك فرض وهناك سنة وهناك مندوب وهذا موجود يتكلم به علي، وقد جاء الحديث الصحيح عنه صلوات الله وسلامه عليه بذلك، جاء في قيام رمضان حيث قال: (إن الله افترض عليكم صيامه، وأنا سننت لكم قيامه) ، فهو صلى الله عليه وسلم بجانب فرض الصيام سن القيام.
وهل للمسلم اختيار في أن يأخذ بسنة رسول الله أو لا يأخذ؟ لا.
الواجب على المسلم أن يحرص على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن من فرط في السنة ربما يأتي التفريط ويسحب إلى الواجب، فإذا ما حافظ على السنة النبوية كان أحرى أن يحافظ على الواجب، وهنا قد تأتي السنة وتترك الخيار للمكلف فتكون للندب، فيكون الأمر فيها أهون من غيرها، كما جاء: (صلوا قبل المغرب صلوا قبل المغرب صلوا قبل المغرب، ثم قال: لمن شاء) فهنا سنها وترك المشيئة والخيار للناس، وليست كالوتر.
ويدل أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (الوتر حق) بعد أن صرف عن الوجوب على أن الوتر آكد من غيره من النوافل الأخرى، وتقدم لنا حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (ما كان صلى الله عليه وسلم أشد تحرياً للنوافل من ركعتي الفجر والوتر) .
ثم تأتي النصوص الأخرى: (يا أهل القرآن! أوتروا، فمن لم يوتر فليس منا) وهذه أحاديث الوعيد التي ينقسم العلماء عندها إلى فريقين: فريق يقول بالوجوب، فإن قوله (ليس منا) وعيد شديد، والآخرون يقولون: أحاديث الوعيد تمرر كما جاءت ولا تفصل؛ لأنها كلما أبقيت على إجمالها كانت أشد في الوعيد والزجر.(79/8)
قيام الليل فضائله وأحكامه
قال المؤلف: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في شهر رمضان، ثم انتظروه من القابلة ولم يخرج، وقال: إني خشيت أن يكتب عليكم الوتر) رواه ابن حبان.
وعن خارجة بن حذافة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم، قلنا: وما هي يا رسول الله؟ قال: الوتر، ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر) رواه الخمسة إلا النسائي، وصححه الحاكم وروى أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نحوه] .
بعدما أورد المؤلف رحمه الله ما يشبه الخلاف أو التعارض، أو ما يشبه الوجوب الذي صرف بصارف، جاء بهذين الحديثين أيضاً، وهما أصرح في الدلالة على صرف حديث: (الوتر حق) عن الوجوب من غيرهما.
فذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قام من الليل في رمضان، وقام معه بعض الناس، ثم لم يقم فيما بعد، ثم انتظروا، ثم خرج عليهم في صلاة الصبح وقال: (خشيت أن أخرج عليكم؛ فتفرض عليكم صلاة الوتر) ، والصحيح في الحديث أنه قال: (خشيت أن تفرض عليكم) يعني: صلاة الليل، وهذا الذي عليه الجمهور، والمؤلف ساقه على هذه الصيغة: (خشيت أن يكتب عليكم الوتر) .
إذاً: لم يكتب إلى الآن، وإلى الآن لم يكتب، والذي يهمنا في تصحيح السياق وما ساقه المؤلف في قيام الليل، بأن النبي صلى الله عليه وسلم قام من رمضان فصلى، وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تفرش له حصيراً عند باب الحجرة في الروضة، فصلى ليلة ثلاث وعشرين، فانتبه من كان في المسجد، فجاءوا وصلوا خلف النبي صلى الله عليه سلم؛ لأنهم كانوا يقومون رمضان أوزاعاً، كما جاء عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام رمضان) وجاء الحديث المتقدم ذكره: (إن الله فرض عليكم صيامه، وسننت لكم قيامه) ، فكانوا يصلون ما تيسر لهم أوزاعاً، قال أبو هريرة: (فكان الأمر كذلك حتى قبض صلى الله عليه وسلم، وكان زمن أبي بكر، وجزءاً من خلافة عمر) ، ثم جمعهم عمر على إمام واحد؛ هذا تتمة الموضوع.
لكن هنا فيما ذكره المؤلف رحمه الله: صلى أناس بصلاته ليلة ثلاث وعشرين، ثم قام ودخل البيت، وفي ليلة أربع وعشرين لم يقم، في ليلة خمس وعشرين قام، وكان الناس قد سمعوا بما صلى خلف رسول الله من الناس فاجتمعوا، فصلوا بصلاته، قيل: هي الثانية وقيل: في الثالثة، أو أن الناس صلوا العشاء ولم يقوموا من أماكنهم ينتظرون مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي فيصلوا جميعاً بصلاته، فنظر صلى الله عليه وسلم فإذا المسجد مليء بالناس، فقال: (يا عائشة! ما بال الناس! ألم يصلوا العشاء؟ قالت: بلى، ولكنهم ينتظرون لتخرج لتصلي فيصلوا بصلاتك، كما صلى بصلاتك من قبل أناس، وقد تسامعوا بذلك، قال: أوفعلوا؟!! اطوي عنا حصيرك، ولم يقم تلك الليلة، فانتظروا واستطالوا الانتظار، فأخذوا بعض الحصباء وحصبوا الباب، وكان من الساج، فلم يسمع لهم ولم يخرج، حتى خرج لصلاة الصبح وهم في انتظاره، قال: والله ما خفي علي صنيعكم البارحة، وما نمت بحمد الله غافلاً، ولكن خشيت أن أخرج إليكم، فتفرض عليكم فتعجزوا) إذاً: ما هو الذي يفرض عليهم الوتر أم قيام الليل؟ قيام الليل.
مسألة: كيف يخشى أن تفرض عليهم وقد سمع في حديث فرضيتها: (هي خمس وهي خمسون) ؟ وقد جاء عنه: (خمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة) ، فلو كان الوتر أو قيام الليل واجباً لصارت ستاً، هو يعلم أنها لم تفرض، فكيف يقول ذلك؟ قال العلماء: خشي أن يفرض عليهم قيام رمضان في الليل جماعة فقد يعجزون، وقد جاء أن أفضل قيام رمضان في البيت لمن يقوى على ذلك ما لم تعطل المساجد من التراويح؛ لأن قيام رمضان في المساجد أصبح شعاراً للمسلمين، ولا ينبغي أن يعطل أبداً، فإذا كان الفرد بذاته حافظاً لكتاب الله، وأراد أن يقوم في بيته فهو أفضل له، وقد شاهدت والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في أول أمره يصلي العشاء مع الإمام ويخرج، ويصلي التراويح على سطح بيته، ثم في الآونة الأخيرة قبل وفاته بثلاث أو أربع سنوات سألته: كنت أراك تصلي التراويح في البيت، هأنت الآن تصليها مع الجماعة في المسجد، ألحديث أنس: (من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة) ؟ قال: لا، قلت: لماذا إذاً؟ قال: كنت في أول الأمر نشيطاً بنفسي أصلي دونما كسل، ولكن مع الكبر، ومع هذا الوقت إن صليت وحدي ربما تكاسلت، فأصلي مع الجماعة أتقوى بحضوري معهم، وعلى هذا تصح صلاة قيام الليل منفردة، وتصح جماعة، وتصح في البيت، وهي أفضل لمن توفرت فيه شروطها، وتسن في المسجد كما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبعض، وصلاها عمر رضي الله تعالى عنه، وأوجد لها إمامين يتناوبان، وإماماً ثالثاً للنساء أعجل في القراءة، ويأتي بحثها مستقلاً.
فقالوا: هو يعلم صلى الله عليه وسلم أن الصلوات خمس، ولذلك لما أتى ضمام بن ثعلبة وسأل الصحابة فقال: (أين محمد بن عبد الله بن عبد المطلب؟ قالوا: ذاك الأبيض المتكئ… قال: آلله أرسلك؟ قال: اللهم نعم، قال: أسألك بالله الذي خلق السماوات والأرض، وأرسل من كان قبلك أفرض الله علينا خمس صلوات؟ قال: اللهم نعم -ثم سأله عن رمضان، وسأله عن الزكاة- ثم قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على ذلك ولا أنقص) وذهب إلى قومه، فما بات واحد من أهله إلا وقد أعلن إسلامه، وقالوا: ما وجدنا سفيراً أشد وأكبر بركة على قومه منه.
فقوله: (لا أزيد على ذلك ولا أنقص) ، وقوله صلى الله عليه وسلم بعده: (أفلح إن صدق) يفيد أن الصلوات الخمس ليس فيها زيادة، قالوا: الذي خيف منه أن تفرض جماعة، كما أنهم ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم يخرج ليصلي بهم جماعة، وما عدا ذلك فلا.
ولذا قالوا: لما أمن عمر من أن تفرض لانقطاع الوحي سنها جماعة، على ما سيأتي تفصيله في محله إن شاء الله.
الشاهد: أنهم جلسوا وانتظروا، وكان يصلي قبل ذلك، واتفق العلماء على أنه ما كان يشعر بصلاتهم خلفه، وليس ذلك ببعيد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم حينما يكبر في الصلاة لا ينتبه لغيرها، ولا يشغله عنها شاغل، وإن كان ليس غافلاً في صلاته عما حوله؛ لأنه جاء عنه: (إني لأدخل في الصلاة على نية الإطالة، فأسمع بكاء الطفل فأخفف رحمة بالأم، لما أعرف من وجدها عليه) إذاً قالوا: كيف أقرهم على الصلاة خلفه؟ قالوا: لم يشعر بهم، ولا مانع في ذلك.
يهمنا تصحيح الحديث الذي يقول: (خشيت أن أخرج إليكم، فيكتب عليكم الوتر) والصحيح: (أن تفرض عليكم فلا تستطيعوها) لكن المؤلف يريد أن يقول: (خشيت أن يكتب عليكم الوتر) ، ليستدل على أنه لم يكتب، ولم تأت كتابته، وهذا يرد على حديث: (الوتر حق) إذاً: حق لم يكتب كما قال علي: (ليس كالصلاة) .(79/9)
فضل صلاة الوتر
قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم) .
ثم يأتي بهذا الحديث وله دلالة من جهتين: الجهة الأولى: (إن الله أمدكم) والمدد يكون زيادة عن الأصل، كمدد الجيش.
(أمدكم بصلاة) ولم يقل: (أوجب عليكم صلاة) يعني: هي مدد زيادة في الأجر وفي العمل، وفرصة أخرى فيها متسع لكم (هي خير لكم من حمر النعم) فإذا كان الأمر موكولاً إلى: (خير لكم من حمر النعم) ، فالذي يريد حمر النعم يهتم بها، والذي لا يريد فلا حرج.
إذاً: هذا الحديث يدل من جانب على أن الوتر ليس بواجب، وإنما هي صلاة أمدنا الله سبحانه وتعالى بها.
الناحية الثانية: بيان فضل الوتر، بأن الوتر من صلاها فهي خير من حمر النعم، وما هي حمر النعم؟ أين أهل نجد أو أهل البوادي أو أهل الإبل أين العمانيون؟ حمر النعم هي نوع من الإبل العمانية أو مثلها، تأتي في لون فيه احمرار، وهي جميلة الشكل، فارهة القوام، وهي أحسن أنواع الإبل.
ولما كان المخاطبون أهل إبل خوطبوا بما هو أحب شيء إليهم، واليوم تخاطبهم فنقول: خير من أجمل القصور، وخير من أحسن السيارات، ولكن التعبير النبوي الكريم، لا يأتي تعبير أحسن منه ولو تطورت الحياة حتى يصل الناس إلى غزو الفضاء وغيره، فحمر النعم هي الزينة وهي الجمال، وهي المتعة، وهي التي تقر لها العين، أما غيرها فقد يخشى الإنسان منها.
فحمر النعم إذا رأيتها في الصحراء وهي تقطع الفضاء، وهي في رشاقتها كما يقال: تسر النظر، وتشرح الصدر، ويطمئن إليها صاحبها، وهذا خير ما يتطلع إليه الإنسان صاحب الحلال.
فالرسول صلى الله عليه وسلم كما قال: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) ، وهذا منه صلى الله عليه وسلم ترغيب في الوتر، وبيان لأجره وفضله.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال المؤلف: [وعن عبد الله بن بريدة رضي الله عنه عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا) أخرجه أبو داود بسند لين، وصححه الحاكم، وله شاهد ضعيف عن أبي هريرة رضي الله عنه عند أحمد.
] تقدم مثل هذا اللفظ، وتقدم معه ما يبين ذلك الحق: (فمن شاء أن يوتر بخمس.
بثلاث.
بواحدة فليفعل) ، وهنا أعاده المؤلف مرة أخرى بعد هذا البيان: (الوتر حق، فمن لم يوتر فليس منا) .
هذه الأحاديث التي فيها: (ليس منا من فعل كذا، ليس منا من فعل كذا) تترك على عمومها، كما قالوا: أحاديث الزجر والوعيد لا تشرح ولا تفسر، وبإجماع المسلمين كلمة: (ليس منا) لم تخرجه عن نطاق الإسلام، حاشا وكلا، ولكن (ليس منا) أي: من خيارنا، وليس على مستوانا، وليس على ما نحن عليه من التزام الفرائض والنوافل.
إذاً: (ليس منا) : أي: من المجموعة التي تحافظ على هذا الباب الخير، ويكون الصارف على هذا المعنى تلك النصوص الأخرى التي صرفت نصوص الوجوب إلى الندب، ومعلوم أن من ترك مندوباً لم يخرج عن الإسلام، بل إجماع المسلمين -ما عدا بعض الفرق- أن من وقع في كبيرة لا يخرج عن الإسلام؛ لأنه يترك إلى المشيئة، بخلاف المعتزلة والخوارج الذين يكفرون بالكبائر، والمعتزلة لا يجرءون أن يكفروا في الدنيا، وأهل السنة والجماعة مجمعون على أن لا تكفير بذنب: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [النساء:48] ، فما دون الشرك متروك لمشيئة الله سبحانه.
إذاً: فقد اتفقنا على أن الوتر ليس فرضاً كفرض الصلاة، كما قال علي رضي الله تعالى عنه: (ولكنه سنة سنها رسول الله) ، فمن ترك سنة لا يكون ترك الإسلام.
إذاً: هذا من أحاديث الوعيد التي تمر كما جاءت.(79/10)
كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع [5]
لقد سن النبي صلى الله عليه وسلم قيام الليل لهذه الأمة، وما منعه من جمع الناس في المسجد إلا خشية أن يفرض عليهم، ولذا فإنه لما جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد انقطاع الوحي، قام بجمع الناس على إمام واحد في المسجد، فصارت صلاة القيام سنة تؤدى جماعة في المسجد إلى يومنا هذا، وصارت شعاراً للمسلمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.(80/1)
شرح حديث عائشة في بيان عدد ركعات صلاة الليل
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً، قالت عائشة: قلت: يا رسول الله! أتنام قبل أن توتر؟ قال: يا عائشة! إن عيني تنامان ولا ينام قلبي) متفق عليه، وفي رواية لهما عنها: (كان يصلي من الليل عشر ركعات ويوتر بسجدة، ويركع ركعتي الفجر، فتلك ثلاث عشرة ركعة) ] .
هذا الحديث قد تميز بموضوع مستقل، بمعنى: أنه يدخله العلماء في مباحث صلاة التراويح، وذلك لقولها رضي الله تعالى عنها: (في رمضان ولا في غيره) ومعلوم صلاة رمضان أنها صلاة التراويح.
والحديث حول هذا النص الصحيح يتناول الكيفية والكمية، فإذا وقفنا على تلك الكيفية والكمية انتقلنا إلى ما عليه التراويح، وما أخذته من مراحل وتطور في هذا المسجد النبوي الشريف إلى نهاية عهد التشريع والتطبيق العملي من الخلفاء الراشدين رضوان الله تعالى عليهم.(80/2)
أهمية اتباع النبي في كيفية صلاة التراويح
تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (ما زاد - (ما) هنا نافية- رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، وإلى هذا الحد كأنه يقال: لا زيادة في التطوع ليلاً في رمضان ولا شعبان ولا شوال على ثمان ركعات، هذا هو النص في الكمية، ولكن هل بقي الأمر على ذلك؟ نأتي إلى الكيفية: (يصلي أربعاً فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسل عن حسنهن وطولهن) ، لماذا لا أسأل؟ لأنه فوق ما تتصور من الإجابة، ومما تتوقع أن يصليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذه ثمان ركعات: أربع وأربع؛ (ثم يصلي ثلاثاً) فيكون المجموع إحدى عشرة ركعة، (ثم يصلي ركعتي الفجر) فيكون ذلك ثلاث عشرة ركعة.
الثلاث لم تبين لنا كيفيتها، ولكن في الثمان ذكرت التطويل والحسن.
يأتي في حديث أنس وغيره عنها رضي الله تعالى عنها أنه كان يقرأ قائماً في الركعة الأولى البقرة والنساء وآل عمران، أو يقرأ البقرة أو آل عمران، ثم يركع نحواً من ذلك، ثم يرفع نحواً من ذلك، ثم يسجد ويقول: سبحان ربي الأعلى نحواً من قيامه، ثم يجلس ويحمد الله، ويسأله نحواً من قيامه، ثم يسجد ويقول: سبحان ربي الأعلى نحواً من اعتداله.
وتقول في قراءته: (ما مر بآية مغفرة إلا سأل، وما مر بآية عذاب إلا استعاذ) وهكذا تبين القراءة ترتيلاً وسؤالاً وتأملاً واستعاذة.
يقول ابن حجر: إن هذه الكيفية لتعطي الركعة ما يعادل ساعتين، ولعله يقضي الليل كله في هذه الثمان ركعات.
نحن نأتي إلى قولها: (ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره) ، فبعض الإخوة يأخذون الحديث يقسمونه قسمين: قسم يأخذون به، وقسم يهملونه، ويقولون: لا تراويح إلا ثماني ركعات؛ لحديث عائشة: (ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره) لكن لفظ: (عن حسنهن وطولهن) أين ذهبت؟ قال: هذه ذهبت مع رسول الله فيقال: سبحان الله! أنتم تأخذون ذلك سنة، وتمنعون الزيادة، لماذا؟ فإذا كنتم تريدون تطبيق السنة وفعلتم ذلك، فكان يكفي منكم أربع ركعات بدلاً عن ثمان، وهي خير من عشرين وثلاثين وأربعين ركعة على النحو الموجود الآن، لكن تعجزون عن ذلك، والسلف رضوان الله تعالى عليهم لهم مع التراويح مشوار طويل، لكن يهمنا في هذا النص أن نبين للإخوة خطأ التمسك بجزء من ظاهر هذا النص، وترك الجزء الثاني مع أنه نص لا يتجزأ؛ لأن الكيفية تابعة للأصل، وكما يقال: (الحال يأتي لبيان صاحبه) ، فيقال: صلوا ثمان ركعات لكن على الحال التي فعلها صلى الله عليه وسلم، لا تأخذ ثمانية وتجعلها تقليداً وليست كالأصل، والسلعة الأصيلة لا يمكن أن تجارى بسلعة تقليدية لها.
إذاً: لا حجة لمن تمسك بثمان ركعات في رمضان، ثم نقول مرة أخرى: هل يا ترى عندما اقتصرتم على الثمان ركعات في رمضان، هل داومتم عليها بقية السنة؟ لا أدري ما الجواب فالجواب عندهم! لأنها تقول رضي الله عنها: (في رمضان ولا في غيره) وقيام الليل يقول بعض العلماء: كان فرضاً عليه {نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء:79] وقد عرفنا معنى (نافلة لك) ، فكان يداوم على ذلك.
إذاً: من أخذ بالثمان على تلك الكيفية وداوم عليها في رمضان وغيره فجزاه الله خيراً، لكن يترك الصلاة طوال السنة، ويأتي إلى رمضان فيأخذ العدد فقط ويترك الكيفية، فهذا أخذ بالنقيضين.
إذاً: هذا الحديث لا مستند لأحد فيه.(80/3)
الدليل على أن النبي لم يكن يقتصر في الليل على ثمان ركعات
ثم نأتي مرة أخرى لحديث عائشة بنفسها، وهو عندكم في منتقى الأخبار، وشرحه الشوكاني رحمه الله؛ تقول أم المؤمنين عائشة: (ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء قط، وما دخل بيتي إلا وصلى أربعاً أو ستاً) .
كلمة: (ما صلى وما دخل) تدل على الاستمرار، أي أنه كان يصلي أربع ركعات أو ست ركعات عندما يدخل بيتها بعد صلاة العشاء، ثم بعد ذلك من منتصف الليل أو ما يقاربه، يقوم فيصلي الركعات الثمان، فإذا جئنا وجمعنا مجموع ذلك وجدنا أنها أكثر من ثمان.
ولها حديث آخر قالت فيه: (كان يفتتح قيام الليل أو صلاة الليل بركعتين خفيفتين) ، كأنها تمرين، ثم يدخل في الإطالة، وفي بعض رواياتها: (ثلاث عشرة ركعة) وست بعد صلاة العشاء مباشرة، إذاً: كم تكون؟ تسع عشرة ركعة، ثم ركعتان خفيفتان كم تكون؟ إحدى وعشرين ركعة، فجمع عمر الناس على إحدى وعشرين ركعة! فالذين يعيبون على عمر يقولون: ابتدعها عمر، لا والله، عمر لم يبتدعها، ولكن استنها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.(80/4)
لمحة تاريخية لصلاة التراويح منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى العصر الحاضر
وإذا تركنا هذا جانباً وجئنا إلى المنهج أو السيرة التاريخية وسبق أن كتبنا في ذلك من عشرات السنين، رسالة التراويح أكثر من ألف عام في مسجد النبي عليه السلام؛ رداً على أولئك الذين يقتصرون على الثمان في رمضان، ويدعون الناس إليها، ولا تكون في أنفسهم، والذي يتبين من دارسة هذا الموضوع تاريخياً نعلم جميعاً أن مبدأ التشريع ومصدره من سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ماذا كان موقفه وعمله صلى الله عليه وسلم في التراويح؟ وماذا كان عمل خلفائه الراشدين رضوان الله تعالى عليهم؟ وإلى متى استقر الأمر عند علماء الأمة؟ نجد ابتداء حديث أبي هريرة الذي تقدم التنويه عنه: (إن الله قد فرض عليكم صيام رمضان وسننت لكم قيامه) وجاء الحديث: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) قام رمضان لم يحدد ولم يعين، ثم عموم صلاة رسول الله، نجد القرآن الكريم يقول: {قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً} [المزمل:2-3] سبحان الله! {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5] إلى آخره، فالقرآن في قيام رسول الله، وتكليفه بقيام الليل لم يحدد له عدد الركعات، وترك الأمر إليه (نصفه أو ثلثه أو زد عليه) سبحان الله العظيم! إذاً: لا يوجد تحديد في الآيات.
وحديث أبي هريرة يبين لنا أن الأمر في بدايته كان للترغيب، ولرغبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخير بادروا، فكانوا يقومون رمضان فرادى، ثم بعد ذلك وجد قراء يقرءون، وفي المسجد جماعات، وكان العامة أو الناس يصلون أوزاعاً وراء من يقرأ القرآن، وكانوا يتبعون حسن الصوت فيصلون وراءه، إذاً: كانت التراويح في الطور الثاني تقام جماعة مع من يقرءون القرآن، ويتبع الناس من كان أحسن الناس صوتاً، استمر الأمر كذلك، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في فعله.(80/5)
صلاة التراويح في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
ويروي المروزي، وهو أوسع من جمع في قيام الليل، عن النبي صلى الله عليه وسلم عدة صور: منها: أنه خرج على أناس يصلون خلف أناس يقرءون، فقال: ما بال هؤلاء؟ قالوا: قوم ليس معهم قرآن يصلون خلف من معه قرآن، وذلك في رمضان، وهناك رواية تقول: (فسكت وترك) ، ورواية تقول: (أحسنوا) ، وفي رواية: (ونعم) ! ونأتي مرة أخرى أنه صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة قال: انصبي لي حصيراً يا عائشة على باب الحجرة، فنصبت حصيراً على باب حجرته، فصلى العشاء ودخل البيت، ثم قام من نصف الليل فصلى وصلى وراءه من كان في المسجد، ثم كذلك من الليلة الثانية، فتسامع الناس وجاءوا وصلوا وراءه أكثر مما كانوا بالأمس، وتختلف الرواية في أنه حدث ذلك في ليلتين أو ثلاث، أو ليلة واحدة، وأخيراً صلى العشاء وخرج ثم نظر إلى المسجد وهو غاص بالناس.
تقول عائشة: كاد المسجد أن لا يحمل أهله، فقال: ما بال الناس يا عائشة؟ قالت: ينتظرون خروجك، لقد تسامعوا بصلاتك وصلاة أقوام خلفك البارحة، فجاءوا ينتظرون ليصلوا بصلاتك كما صلى أولئك، فقال: اطوي عنا حصيرك.
ثم أصبح وقال لهم (والله ما بت بحمد الله غافلاً ليلتي هذه، وما خفي علي صنيعكم، ولكني خشيت أن أخرج إليكم فتفرض عليكم) .
إذاً: ما منعه من الخروج إليهم إلا خشية أن تفرض، وهذا يتضمن تقرير الصلاة جماعة.
ثم يأتي حديث أنس مرة أخرى، يقول أنس: (صمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فما قام بنا نصف الشهر، ثم لما كان ليلة ثلاث وعشرين قام بنا، وصلى بنا إلى ثلث الليل، ولم يقم أربعاً وعشرين، فلما كان ليلة خمس وعشرين صلى بنا، ولم يقم ليلة ست وعشرين، فلما كان ليلة سبع وعشرين قام بنا وأيقظ أهله، وصلى إلى ثلثي الليل.
فقلنا يا رسول الله! هلا نفلتنا بقية ليليتنا؟ قال صلوات الله وسلامه عليه: من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له بقية ليلته) .
وهنا في الليلة الأولى قام إلى ثلث الليل، وفي الثانية إلى نصفه، وفي الثالثة إلى ثلثيه، ولم يرد لنا عدد ركعات الصلاة، ولكن عرفنا زيادة الزمن، فهل يا ترى كانت تلك الزيادة هي عدد ركعات أم أنها تطويل في القراءة؟ الله تعالى أعلم، إنه اجتهاد زائد عما قبله.
وجاء أيضاً: (كان صلى الله عليه وسلم إذا دخلت العشر شد المئزر، وطوى فراشه، وأيقظ أهله) أي: يجتهد في العشر الأواخر أكثر مما كان يجتهد في العشرين قبلها، وبأي نوع يكون الاجتهاد هل بزيادة الركعات أم بتطويل القراءة؟ الله أعلم، لكن هناك زيادة في العبادة في العشر الأواخر.
وهنا لما كان منه صلى الله عليه وسلم أنه صلى بمن خلفه دون أن يشعر بهم، وفي بعض الروايات: (فشعر بنا فخفف الصلاة، فقلنا: أشعرت بنا؟ قال: نعم، وهذا الذي حملني على ما صنعت) ، وفي بعض الروايات جاء: (وهو لا يشعر بنا) ، وهو لا يقر على باطل، فلو أن صلاة التراويح جماعة في المسجد باطلة لا تجوز ما أقره الله على ذلك، ثم باختياره قام ليلة ثلاث وخمس وسبع وأيقظ أهله، هذا في عهده صلى الله عليه وسلم.(80/6)
صلاة التراويح في عهد أبي بكر رضي الله عنه
ثم بعد ذلك جاء عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ولم يأت تجديد لصلاة القيام.
وكلنا يعلم أن خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه كانت خلافة كفاح وجهاد في تثبيت الدعوة؛ لأن كثيراً من الأعراب قد نكثوا العهد، وهناك من ادعى النبوة، فقام الصديق رضي الله تعالى عنه لقتال المرتدين حتى يثبتوا على دين الله، فما كان عنده متسع فيما يسمى بتشريع جديد.
ولكن في خصوص التراويح يروي لنا ابنه عنه قوله: (كنا نقوم رمضان ونتكئ على العصي من طول القيام، ثم ننقلب ونتعجل الخدم خشية الفلاح) يعني: خشية السحور، فكان هنا تطويل! فكانوا يقومون الليل حتى يعتمدوا على العصي، ويرجعون إلى البيوت يتعجلون السحور مخافة الفجر، إذاً: هل نقدر هذا التطويل أنه عدد ركعات زائدة أم أنه تطويل في القراءة؟ إن الاتكاء على العصي ليوحي بتطويل القراءة لا بعدد الركعات، فهذا طور قد مضى.(80/7)
صلاة التراويح في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه
ثم جاء عهد عمر رضي الله تعالى عنه، فخرج ذات ليلة ووجد الناس يصلون أوزاعاً، فقال: لو جمعت الناس على إمام واحد لكان خيراً، ثم استدعى القراء، واستقرأهم، فكان منهم البطيء ومنهم السريع، فأمر البطيء بأن يقرأ بخمس وعشرين آية في الركعة، والسريع أن يقرأ ثلاثين آية في الركعة، وأمرهم بصلاة عشرين ركعة.
فكان في عهد أبي بكر تطويل في القيام حتى وصل إلا الاتكاء على العصي، وفي عهد عمر يشق على الناس الاستمرار في ذلك، وهو الذي يقول في صلاة الفريضة: (لا تبغضوا الله إلى خلقه، يقوم أحدكم في الصلاة فيطول؛ فيمل الناس؛ فيكرهون) ، هكذا يقول رضي الله تعالى عنه.
إذاً: ليس من هديه إطالة القراءة وطول القيام حتى يمل الناس، فعوض طول القراءة بأن جعل القراءة ثلاثين أو خمساً وعشرين آية في الركعة الواحدة، وأمرهم أن يصلوا عشرين ركعة.
وهناك نصوص جاءت عن أبي بن كعب وغيره أنها: ثمان ركعات عشر ركعات بدون تحديد، وهذا قد انقضى أمره، فلما جاء عمر وجمعهم على إمام واحد، جعل إمامين للرجال يتناوبان، وإماماً للنساء، وفي عهد أبي بكر تقول عائشة رضي الله تعالى عنها: (كنا نأخذ الصبية من الكتاب يصلون بنا قيام رمضان، ونصنع لهم القلية) ، وهي نوع من الطعام.
إذاً: كان هناك تغيير، ومعلوم أن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها لم تأخذ الصبيان وتجعلهم أئمة للنسوة في المسجد، فبيتها أولى بهذا، ولأن في زمن عمر جعل إماماً للنساء يعجل بهن الصلاة؛ ليرجعن إلى بيوتهن، وإماماً للرجال يتناوب مع زميله للرجال على نحو ما تقدم من قراءة ثلاثين أو خمس وعشرين آية.(80/8)
صلاة التراويح في عهد عمر بن عبد العزيز
واستمر الأمر على ذلك إلى أن جاء عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وهو على رأس المائة، فماذا كان الحال؟ بلغت التراويح في هذا المسجد إلى ست وثلاثين ركعة، وما الذي أوصلها؟ أوصلها ما يأتي: بعض الناس يكتب أشياء لا تدخل العقل منها: كان الأمير له أربعة أبناء، وكان كل ولد يصلي بكذا وكذا كلام لا دخل له أبداً.
والصلاة سميت: تراويح؛ لأنهم كانوا يستريحون بعد كل أربع ركعات، وكان عند أهل مكة فرصة في تلك الترويحة، فيقوم النشيط منهم ويطوف بالبيت سبعاً، ويصلي ركعتين سنة الطواف، ثم تبدأ الترويحة الثانية، فأهل المدينة لم يكن عندهم طواف، فما كانت عندهم فرصة يساوون بها أهل مكة في هذه المنافسة، فنظروا فجعلوا الطواف مقام ركعتين، وسنة الطواف ركعتين، فهذه أربع ركعات بين كل ترويحة من التراويح، والعشرون فيها أربع ترويحات.
فجاء أهل المدينة وقالوا: عوضاً عن الطواف نزيد ركعتين، وعوضاً عن ركعتي الطواف نزيد ركعتين، فأربع ركعات ما بين الترويحات أصبحت ست عشرة ركعة، تضم مع العشرين الأساسية فتصير ستاً وثلاثين ركعة، ولذا يقول المالكية: لا ينبغي لأهل قطر من الأقطار أن يفعلوا ذلك؛ إنها خصوصية لأهل المدينة، لأن أهل المدينة وحدهم هم الذين لهم الحق في أن ينافسوا أو يتسابقوا مع أهل مكة.
فعلى هذا عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه جعل التراويح ستاً وثلاثين ركعة.(80/9)
صلاة التراويح في عهد الدولة الفاطمية
واستمر الأمر إلى أن جاء الفاطميون وأزالوا هذه الزيادة، وبقوا على عشرين ركعة في مكة، وألغوا الزيادة في المدينة، وبقيت العشرون على ما هي عليه، إلى أن جاء القرن السادس الهجري، وجاء أبو زرعة -وهو الإمام المحدث المشهور، وكان قد تولى إمامة المسجد النبوي الشريف- وعرف ما كانت عليه التراويح سابقاً، فلم يرد أن يزيد فيما لم يكن سابقاً، ولم يرد أن يميت ما كان موجوداً من قبل، فأتى بالست عشرة ركعة مع العشرين، ولكن جعلها في آخر الليل طيلة رمضان.(80/10)
صلاة التراويح في عهد الدولة العثمانية إلى وقتنا الحاضر
واستمر الحال إلى عهد الدولة العثمانية، ويحدثنا من أدركها يقول: كانوا ينادون على المنارة الست عشرية، وبعضهم يرسل أشخاصاً بالسعف في الطرقات يطوفون في المدينة يعلمون الناس بوقت الست عشرة ركعة.
ثم جاء العهد الحاضر، فنقصت الست عشرة ركعة إلى عشر ركعات، وجعلت في العشر الأخيرةمن رمضان فقط، وهو القيام الموجود حتى اليوم.
وعلى هذا أخذت التراويح في هذا المسجد النبوي تتدرج من مطلق قيام: (وسننت لكم قيامه) (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) ثم جاء بعد ذلك: ثمان ركعات، ثم جاء بعد ذلك: عشرون ركعة، ثم جاء بعد ذلك: ست وثلاثون ركعة، ثم رجعت إلى عشرين ركعة وست عشرة ركعة مفصولة، ثم رجعت الست عشرة ركعة إلى عشر ركعات، والله سبحانه وتعالى أعلم.(80/11)
التحذير من جعل عدد ركعات التراويح موضعاً للخلاف والنزاع
والذي يهمنا في هذا أيها الإخوة: أنه لا ينبغي لإنسان أياً كان هو بما تبادر عنده أن يجعل عدد ركعات التراويح موضع خلاف ونزاع بين المسلمين، فإن كنت تريد أن تصلي ثماني ركعات فكما تريد، أو تريد أن تصلي أربعاً فكما تريد، ولا اعتراض على أحد في ذلك، لأنه تطوع.
تريد أن تصلي مائة ركعة فلا مانع، وكان عثمان رضي الله عنه أحياناً يقوم الليلة كاملة بركعة واحدة، فلا مانع، ولا حصر لعدده، اللهم إلا الجماعة للإمام الراتب بأن ذلك أصبح شعاراً خاصاً برمضان، وللإمام الذي عينه الإمام أي: أن يصلي ويحافظ على هذه السنة التي تناقلها الناس أربعة عشر قرناً، وما دب الخلاف إلا في هذا القرن الأخير، والله أسأل أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه.
أما حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: (ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا في رمضان ولا في غيره على ثمان ركعات) ، فهل من المعقول أو الإنصاف أو المنهج العلمي، أو الأمانة العلمية، أن نقتصر على حديث عدد ثمان ركعات ونترك كل ما عداه من الصفات، أو نترك كل الآثار أو النصوص التي وردت في الموضوع؟ ليس هذا بإنصاف، وليس هذا بأمانة، والله أسأل أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه.
قالت عائشة: (قلت: يا رسول الله! تنام قبل أن توتر؟) .
وكان من حقه وقد تورمت قدماه، قالت: (فنام، ثم قام فأوتر، فصلى ثلاثاً) .
عائشة تعلم بأن من نام مضطجعاً عليه أن يتوضأ، فلما نام قالت: (تنام قبل أن توتر؟) أي: والوقت قريب، وسترجع مرة أخرى تتوضأ، قال: (يا عائشة! إن عيني تنامان وقلبي لا ينام) يعني: لو نمت لم ينتقض وضوئي، ولو انتقض لعلمت ذلك، وهذا من خصائص الأنبياء صلوات الله عليهم، وفي بعض رواية ابن عباس: (وكذلك الأنبياء) .
وهنا صلى ثلاثاً على أي كيفية صلى ركعتين ثم واحدة منفردة، أم أنه صلى ثلاث ركعات مجموعة بسلام واحد؟ الأحناف أخذوا بكلمة (ثلاث) فجعلوها شبيهة بالمغرب، والجمهور فرقوا فجعلوها ركعتين ثم ركعة، وأخذوا بحديث: (لا تشبهوا الوتر بالمغرب) ، وحديث أم المؤمنين هنا مجمل، وجاء تفصيله في غيره وعليه أخذ الجمهور.
(صلى ثلاثاً) ، فهنا ثلاث مع ثمان كان المجموع إحدى عشرة ركعة، وركعتان يفتتح بهما صلاة الليل أو ركعتي الفجر كان المجموع ثلاث عشرة ركعة، وكما قلنا: كان يصلي ست ركعات في أول الليل، وثلاث عشرة ركعة في آخره يكون المجموع تسع عشرة ركعة، وركعتان خفيفتان، فيكون المجموع إحدى وعشرين ركعة.
ولما ذكرت ذلك للشيخ ابن باز رحمه الله قال: هذا تلفيق في العدد، قلت: يا شيخ! تلفيق خير من تبديع، عندما نقول: إن عمر لفق العدد التلفيق هذا هو مجموعة أحاديث موجودة، فنعم الحل، بدلاً من أن نقول: إنه ابتدع ما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذاً: له أصل من السنة وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، فهل أصحاب الثمان أخذوا بهذه الست والأربع أيضاً؟ لا أعتقد أنهم يأخذون بها.(80/12)
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل
قال المؤلف: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر في ذلك بخمس، لا يجلس في شيء إلا في آخرها) ، وعنها رضي الله عنها قالت: (في كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتهى وتره إلى السحر) متفق عليهما.
] وهنا تبين لنا أم المؤمنين رضي الله عنها عن كيفية صلاة الوتر إذا كان أكثر من ركعة، فتقول: إنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر بخمس، إذاً: كان قيامه ثماني ركعات، أضف إليها الخامسة تكون ثلاث عشرة ركعة، ثم بينت لنا كيفية وتره، أنه ما كان يجلس في الخمس ركعات إلا في الركعة الأخيرة، وتقدم لنا في بيان كيفية الوتر بأكثر من ركعة أن له فيها حالتين أو ثلاث حالات: إن شاء سلم من كل ركعتين، على أن قيام الليل والوتر شيء واحد، صلاة الليل والوتر من (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة أوترت له ما قد صلى) .
الحالة الثانية: أن يفصل بين قيام الليل في التهجد وبين الوتر، فإن أوتر بواحدة عقب صلاته فلا إشكال، وإن أوتر بأكثر من واحدة بثلاث أو بخمس أو بسبع، فإن الثلاث عند الجمهور ليس لها إلا صورة واحدة إذا جمع الثلاث معاً، وهي: أن يكبر ويصلي الركعات الثلاث، ولا يجلس في الثانية، ويجلس في الأخيرة ويتشهد ويسلم، ما عدا ما أخذ به الأحناف من أنه إذا أوتر بثلاث يجلس في الثانية ولا يسلم، ثم يقوم ويأتي بالركعة الثالثة فيتشهد ويسلم.
وعند الفقهاء اصطلاح: الثلاث مفرقة أو مجموعة؟ فالأحناف يجمعونها بسلام واحد، والجمهور يفرقونها أو يجمعونها بتشهد واحد.
إذاً: الأحناف يصلون الثلاث بتشهدين وسلام، ولا يفصلون ركعة الوتر عن الشفع قبله، والجمهور إن صلوا ثلاثاً صلوا بدون تشهد بعد الثانية، وجمعوها نسقاً واحداً، وتشهدوا في الثالثة وسلموا.
هنا أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها تبين لنا صلاة الوتر الخامسة، وقد ميزت صلاة الوتر عن قيام الليل (يصلي من الليل: ثلاث عشرة ركعة، يوتر منهن) أي: من الثلاث عشرة ركعة يوتر بخمس، إذاً: ليس الكل وتراً، وليس الكل تهجداً، فجعلت التهجد ثمانياًً، وقد تقدم حديثها: (ما زاد في رمضان ولا غيره عن ثمان ركعات، يصلي ركعتين لا تسل عن حسنهن وطولهن ... ) وذكرت الثمان مستقلة.
ثم هي تذكر لنا الوتر بخمس قالت: (لا يجلس فيهن) أي: فهن خمس ركعات متواليات، يقرأ ويركع ويرفع، ويسجد سجدتين، ثم يقوم للركعة الثانية، يقرأ ويركع ويرفع ويسجد سجدتين، ثم يقوم للثالثة ولا يجلس للتشهد، وهكذا الرابعة، وفي الخامسة يجلس فيتشهد ويسلم.
هذه هي الصورة التي ساقتها أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها.
ويتفق العلماء على أنه يجوز لنا إذا أوترنا بخمس أن نجلس في الرابعة، نأتي بالأولى ثم الثانية ثم الثالثة بدون جلوس، ونجلس في الرابعة نتشهد التشهد الأوسط ولا نسلم، ثم نقوم للخامسة ونتشهد ونسلم، فإذا كان في السبع ركعات جاء أيضاً بست ركعات متوالية، إن شاء جلس في السادسة وتشهد وقام، ثم أتى بالسابعة وتشهد وسلم، وإن شاء لم يجلس في السادسة، بل يأتي بالسبع ركعات متوالية حتى يأتي إلى السابعة فيتشهد ويسلم، وهكذا يذكرون في التسع ركعات، إن شاء جلس في الثامنة، ثم قام ولم يسلم، ثم جاء بالتاسعة وتشهد وسلم.
هذه الصور التي جاءت، وعلى هذا تكون صلاة الوتر فوق ثلاث لك فيها ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن تصلي ركعتين ركعتين وتسلم في كل ركعتين، ثم توتر بواحدة.
الحالة الثانية: أن تجمع الخمس أو السبع أو التسع بتشهد واحد في الأخير وتسلم.
الحالة الثالثة: أن تجلس في الشفع الذي قبل الوتر، فإن كان الوتر خمساً جلست في الرابعة وقمت، وإن كان الوتر سبعاً جلست في السادسة وقمت، وإن كان الوتر تسعاً جلست في الثامنة وقمت، ثم جئت بكامل العدد من خامسة أو سابعة أو تاسعة وتشهدت وسلمت.
هذه صور صلاة الوتر إذا زادت عن ثلاث، وهذا باتفاق.
ولكن الخلاف فقط فيما إذا كان يوتر بثلاث، والجمهور على أنها صورتان فقط، يفصل الركعة عن الركعتين، أو يجمعهما بتشهد واحد، ولكن الأحناف ليس عندهم فصل وصلاة ركعة واحدة، بل يصليها مجموعة، ويتشهد في الثانية، ويقوم ويأتي بالثالثة ويتشهد ويسلم، وهذه الصورة ورد فيها النهي عن تشبيه الوتر بصلاة المغرب.(80/13)
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الوتر
قال المؤلف: [وعنها رضي الله عنها قالت: (من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتهى وتره إلى السحر) متفق عليه.
] لاحظوا -يا إخوان- هنا الفسحة والرخصة والتخفيف، تقدم في أول الباب (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة) ، أي: بعد قيامه الليل، وتقدم: (إن الله قد زادكم صلاة هي خير لكم من حمر النعم ما بين العشاء وطلوع الفجر) فبين صلى الله عليه وسلم وقت الوتر من بعد صلاة العشاء مباشرة إلى أن يطلع الفجر، فجعل الليل بكامله وقتاً للوتر، وهنا ربما يتساءل إنسان: أي الأوقات أو أي أجزاء هذا الوقت أفضل؟ تقدم البيان مما جاء عنه صلى الله عليه وسلم من مجموع الأحاديث وفي وصية أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (أوصاني خليلي بثلاث -وذكر منها-: أن أوتر قبل أن أنام) إذاً: هذا وتر أبي هريرة في أول الليل.
وجاء الخلاف بين عمر وبين أبي بكر رضي الله تعالى عنهما، فكان أبو بكر لا ينام حتى يوتر، وكان عمر يؤخر الوتر إلى آخر الليل، فقالوا: من خشي فوات الوتر في آخر الليل فليوتر في أوله، ويأخذ بالعزيمة، ومن أيقن من نفسه أو غلب على ظنه أنه سيستيقظ في آخر الليل فليجعل الوتر في آخر ليله.
فهنا تبين لنا أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أنه من كل الليل أوتر رسول الله، من أوله من أوسطه من ثلثه من ثلثيه من آخره، ثم انتهى وتره إلى السحر، يعني: فعل الوتر في أجزاء من الليل مختلفة للبيان، ثم استقر وتره إلى السحر، وعلى هذا يجوز إيقاع الإنسان الوتر بأي جزء من الليل حسب ما تيسر له، من أوله من أوسطه من آخره.
وتقدم لنا السائل الذي سأل أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها في ثلاث مسائل منها: (متى كان وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: من كل الليل أوتر رسول الله من أوله من أوسطه من آخره، فقال: الله أكبر! الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة) وعلى هذا لا تحديد في جزئية الزمن لصلاة الوتر، وإنما الإنسان هو الذي يحدد لنفسه بحسب ما يتيسر له.
أما إذا تساءلنا عن الأفضل، وكانت كل الأجزاء عندنا سواء، كإنسان يستطيع أن يوتر أول الليل، أو نصف الليل، أو آخر الليل، فالكل عنده سواء، فهذا نقول له: الأولى أن يكون وترك سحراً؛ لأنها تذكر أنه كان آخر أمره صلى الله عليه وسلم في الوتر وقت السحر، ولماذا خص وقت السحر؟ لأننا جميعاً نعلم بأن تلك الساعة هي ساعة المناجاة، وساعة الزلفى والإنابة، وساعة القرب إلى الله سبحانه وتعالى، كما جاء في الحديث: (إذا كان ثلث الليل الآخر ينزل ربنا إلى سماء الدنيا فينادي فيقول: هل من سائل فأعطيه؟! هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟) إذاً: تلك اللحظات هي أقرب وأرجى للاستجابة، وقبول العبادة، والتوفيق إلى ما يحبه الله سبحانه وتعالى.
لكن إذا خاف الإنسان أن تفوته تلك الساعة فليؤمن نفسه بالصلاة في أول الليل، وسيأتي البحث بعد هذا فيما لو أوتر أول الليل عزيمة وحزماً، ثم وفقه الله وأعانه وقام بعد ذلك ماذا يفعل؟ وهو البحث بين قوله صلى الله عليه وسلم: (اجعلوا آخر صلاتكم من الليل وتراً) وبين قوله: (لا وتران في ليلة) وسيأتي بهما المؤلف رحمه الله.
يهمنا أولاً: تحديد وقت الوتر، ومتى يكون هو الأفضل؟(80/14)
كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع [6]
أفضل الصلاة بعد المكتوبة صلاة الليل، وقد حث على هذه الصلاة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله، ومن فعله أنه كان يقوم الليل بأربع ركعات، ثم بأربع أخرى، ثم يختم ذلك بثلاث يوتر بها، ويختم قيام الليل بذلك، وعلى الرغم من حضه صلى الله عليه وسلم على الوتر إلا أنه نهى عن الإتيان بها أكثر من مرة في الليلة، كما دعا إلى أن يكون الوتر آخر صلاة العبد من الليل.(81/1)
الترغيب في قيام الليل والتحذير من تركه
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الله! لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل) متفق عليه.
] تأملوا يا إخوان هذا الأسلوب! هذا أسلوب عتاب، أم أسلوب ممازحة، أم أسلوب ترغيب، أم أسلوب ترهيب؟ كيف نصنف هذا الأسلوب النبوي الكريم؟: (يا عبد الله! لا تكن مثل فلان) هل فلان هذا اسم جنس أم شخص معين؟ (فلان) كناية عن شخص من بني آدم، فهل يراد به شخص بعينه علم من حاله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوم الليل وترك أو أراد صلى الله عليه وسلم أن يجرد شخصية ينبه بها عبد الله بن عمرو بن العاص؟ ابن حجر رحمه الله يقول: قوله: (لا تكن مثل فلان) لم أقف على اسم هذا (فلان) في طريق من طرقه، هكذا يقول ابن حجر في فتح الباري، وهو مؤلف الكتاب.
وبعضهم يقول: إن فلاناً هذا أمر رمزي، لا تكن كشخص من الأشخاص يقوم ويترك، مثل الآية الكريمة: {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا} [النحل:92] هل هناك امرأة بالفعل نقضت غزلها، أم هذا من باب العموم، أن الذي يعمل عملاً ويشرك فيه أو يرجع فيه كالتي تغزل الغزل ثم ترجع وتفك الغزل هذا إلى صوف منثور؟ لا أعتقد أن امرأة ستفعل هذا بالذات، ولكن يكون هذا على سبيل المثال في نقض العمل بعد إبرامه، والله تعالى أعلم.
ولكن يقولون: من الأدب النبوي الذي نتعلمه: لعله يعلم شخصاً بعينه، ولكنه لم يسمه ستراً عليه؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه كان يعلم من بعض الناس بعض الأفعال، ولكن لم يسمهم، ويخطب ويقول: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا) ، من هم هؤلاء؟ لا حاجة لنا بمعرفتهم.
وكما جاء في رواية الموطأ: (عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان يخطب يوم الجمعة، فدخل رجل وعمر يخطب، فقال: ما هذا يا فلان؟ -رواية الموطأ هكذا ما سمت أحد- قال: والله ما زدت أن سمعت الأذان فتوضأت فجئت، فقال: والوضوء أيضاً؟!) يعني: تأخرت في المجيء ولم تغتسل! خطآن ارتكبتهما! بعض الروايات تسمي الشخص هذا الذي دخل، فيكون عدم تسميته كما يقال: حتى لا ينسب إليه هذا التقصير، وهو ليس من أهل التقصير.
ولكن هنا: (لا تكن مثل فلان) هذه ملاطفة ومداعبة، وحث وترغيب في العبادة، بالإشادة أو التنويه أو العتاب، فلان هذا ما هو شكله وما هو وصفه؟ (كان يقوم الليل ثم ترك) ، فهل ترضى لنفسك يا عبد الله أن تقوم الليل فترة ثم تترك؟! ويقف عند هذا العلماء ويقولون: بم نستفيد من هذا الحديث في مشروعية قيام الليل، أواجب هو أم سنة؟ يقول بعض العلماء: كان قيام الليل في أول الأمر واجباً، ثم شق عليهم فنسخ الوجوب إلى الندب عندما فرضت الصلوات الخمس، طيب! الصلوات الخمس فرضت في مكة، والذي يهمنا أنه لا فرض بعد الصلوات الخمس، ويقولون: هذا الحديث دليل على أن قيام الليل ليس بواجب؛ لأنه لو كان فلان هذا الذي ترك قيام الليل ترك واجباً، فهل يكون موقف النبي صلى الله عليه وسلم ممن انتهك واجباً مجرد أن يقول: (لا تكن مثل فلان) ؟ لا.
هذا الحديث يدل على الترغيب في قيام الليل، والأحاديث الواردة في الحث على قيام الليل عديدة، ولكن والله -يا إخوان- إن الإنسان ليذكر هذا الحديث وهو في غاية من الاستحياء، ومن العجب أيضاً أن يكون التفريط من طلبة العلم! يقول أحمد رحمه الله: (عجبت لطالب العلم ليس له ورد من ليله!) ؛ لأن قيام الليل هو أكبر غذاء للإنسان، اللهم إلا إذا كان يقوم من الليل بدراسة، في تفسير في حديث في فقه، بما يجد نفسه منشرحاً إليه، وكما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما سأله رجل: (ماذا أصنع في رمضان: أقرأ القرآن أم أصلي القيام؟ قال له: إنما أنت مرتاد لنفسك -يعني: تسيمها المرعى- فحيثما استجابت معك فارعها) .
إن كانت تستجيب معك برغبة وبإمعان واستفادة في القراءة فاقرأ، وإن كانت تستجيب معك في الصلاة والمناجاة والخشوع والركوع والسجود فصل، وهكذا يقال لطالب العلم.
وقد جاء أن رجلاً جاء إلى ابن المسيب وقال: ألا تكن مثل آل فلان يحيون القيلولة ويقيمون الليل! قال: دع عنك بني فلان، والله لتعلم مسألة في الفقه خير من عبادة آل فلان.
إذاً: مجال القربى والزلفى إلى الله واسع، لكن لابد أن تكون هناك ساعة عبادة لا في العلوم الأساسية خاصة الفقه، الفقه له قساوة وشدة، وله أيضاً طلاوة وحلاوة، لكن ما كل إنسان يقوى على مكابدته، فلابد له من ساعة يذكر الله فيها، يأخذ آيات من كتاب الله يقرؤها ويتلوها ويتمعن فيها، وقد سبق أن الخليفة عثمان رضي الله عنه كان يقوم الليل كله، وأقول: والله! لو أن إنساناً شرح الله صدره، وأنار قلبه، وأخذ الفاتحة ليالي عديدة ما أدى واجبها، ويقول عنها علي رضي الله تعالى عنه: (لو شئت أن أكتب حمل بعير على سورة الفاتحة، لفعلت) ، ومن أراد أن يعرف حقيقة أمرها فليأخذ مقدمة تفسير الفخر الرازي على الفاتحة، ولينظر كم أخرج منها من مئات وآلاف المسائل والأبواب! أيها الإخوة! قيام الليل كل بحسبه، لو أن إنساناً عامياً لا يقرأ ولا يكتب، ثم استيقظ من ليله واستغفر ربه، وسأل الله فله أجر عظيم، كما جاء في الحديث: (ما من إنسان يتعار من الليل فيذكر الله ويستغفره إلا كان له من الأجر كذا وكذا) نسأل الله تعالى أن يشرح صدورنا، وأن ينير قلوبنا، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.
فلابد للإنسان من ساعة يخلو فيها مع الله، كما قال عمر لجليسه: (اجلس بنا نؤمن ساعة) وهل كانوا غير مؤمنين؟ لا.
المراد: نجدد الإيمان، نقوي الصلة بالله، نجدد الرغبة بأن نتذاكر فيما بيننا، سواء آية، أو حديثاً، أو مسألةً، أو نتذكر اليوم الآخر إلى غير ذلك.
تلك الساعات تغذي الروح، وترطب القلوب التي قست فأصبحت كالحجارة أو أشد قسوة، وليس لها دواء ولا شفاء إلا بذكر الله سبحانه وتعالى، وليس الذكر مجرد إطلاق اللسان بأي حالة من الحالات: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191] بأي حالة من الحالات.(81/2)
شرح حديث: (أوتروا يا أهل القرآن)
قال رحمه الله: [وعن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أوتروا يا أهل القرآن! فإن الله وتر يحب الوتر) رواه الخمسة وصححه ابن خزيمة] .(81/3)
هل المقصود بأهل القرآن عموم أمة الإسلام أم أهل القرآن وخاصته؟
أهل القرآن من هم؟ أهل التوراة من هم؟ أهل الإنجيل من هم؟ كما جاء في ضرب المثلين لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ.
} [الفتح:29] ، أي: ضرب المثل في التوراة لأهل التوراة، وفي الإنجيل لأهل الإنجيل، فبعض العلماء يحمل ذلك على عموم من ينتمي إلى أمة القرآن، تمييزاً لهم عن أمة التوراة، وعن أمة الإنجيل، فيكون هذا النداء موجهاً للأمة بكاملها؛ لأنها أمة القرآن.
وهناك من يقول: لا، أهل القرآن الذين حفظوه واشتغلوا بعلومه، وكانوا من أهل القرآن تلاوة وعلماً وعملاً، فإذا حملناه على العموم فهو كالعموم المتقدم: (الوتر حق) فإذا حملناه على الخصوص كان لخصوص الفقهاء والعلماء، وإذا حملناه على العموم فهو يضاف إلى الأحاديث التي يستدل بها على وجوبه: (أوتروا) وإذا حملناه على الخصوص خرج عن كونه للوجوب؛ لأن الواجب يعم حملة القرآن وغير حملة القرآن، والجمهور على أن المراد بأهل القرآن حملة القرآن.
ولماذا يخصهم؟ قالوا: لأنهم هم الأولى بذلك، وهم الأحرى بأن يلتزموا بسنن العبادات مع فرائضها، وهم الأولى بأن يكونوا القدوة لغيرهم؛ إذاً: على العلماء واجبات أكثر من العوام، وعلى أهل القرآن مسئوليات أكثر من غيرهم، ولما كانت وقعة اليمامة ورجع بعض الناس، وثبت فلان وقال: (ما هكذا كنا مع رسول الله، يا أهل القرآن هلموا) ، وكذلك صلى الله عليه وسلم لما كان في غزوة حنين، ورجع الناس عندما فاجئوهم بالنبل، قال للعباس: (ناد: يا أهل بيعة الرضوان!) لماذا خصهم؟ لأنهم بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة على الموت، وعلى ألا يفروا، وهذا وقتهم، فلما نادى كذلك رجعوا وتجمعوا عنده صلى الله عليه وسلم، وأعادوا الكرة ونصرهم الله.
إذاً: اختصاص أهل بيعة الرضوان بالنداء يوم حنين في تلك الشدة لأنهم أخص الناس وأولاهم بذلك؛ ولأنهم بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت في سبيل الله، أو على ألا يفروا، والآن قد فروا فليرجعوا.
وأقرب ما يحمل عليه الحديث أن أهل القرآن هم حملته، وقد يقال لهم: القراء، وكلما كان الإنسان طالب علم أو أقرأ لكتاب الله كان أدعى وأولى بأحكامه، وبالله التوفيق.
قوله: (فإن الله وتر يحب الوتر) .
هذا التذييل: (فإن الله وتر يحب الوتر) هذا الحديث يجرنا إلى الحديث عن أسماء الله الحسنى بكاملها، فإن الله وتر، ولما كان وتراً يحب الوتر، لا نقول: للمجانسة، ولكن لما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا أخرجنا ذات المولى سبحانه، وجئنا إلى المخلوقات، وجدنا أن الأجناس تتجانس وتتآلف في وحدة الجنسية، فأيما جنس لقي جنسه تآلف معه؛ لأن وحدة الجنس تجمعهم، والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك كله، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أوتروا فإن الله وتر يحب الوتر) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله وتر) هذه جملة مكونة من مبتدأ وخبر، وليست على سبيل الحصر، ولكنها مشعرة بأنه لا وتر إلا الله، وبأن جميع الكائنات زوجية مزدوجة، والله خلق جميع المخلوقات، ولنبدأ من أرقاها وهو الإنسان، ثم عالم الجن، ثم الحيوان، ثم النبات، ثم الحشرات، فنجدها تعيش مزدوجة، ما بين ذكور وإناث، وكذلك المخلوقات الأخرى، حتى الجمادات نجدها مزدوجة وليست وتراً، وكما أشرنا إلى ما يقول علماء الذرة بأن الذرة لها نواة، وهو الجزء الذي لا يتجزأ عند المناطقة الجوهر الفرد، والآن قد فجروا هذا الفكر، ووجدوا بأن النواة التي يتكون منها كل جرم سواء كان معدنياً أو كان حجرياً أو كان غير ذلك، فإن تلك النواة وهي نهاية الجزء في هذا الجرم تتكون من جزءين، وفيها قطب سالب وموجب.
إذاً: كل الكائنات زوجية، ولها أجزاء يكمل بعضها بعضاً، ولولا الجنس المزدوج في بني آدم لما وجد الإنسان، ولو بقي أبونا آدم على ما هو عليه ما جاء أحد إلى الدنيا، ولو ذهب أبونا آدم وجاءت حواء وحدها ما كان أحد على وجه الدنيا، اللهم إلا القدرة الإلهية تظهر في آحاد البشر، كما جاء في مريم عليها السلام، فالله عز وجل جعلها آية، ونفخ فيها من روحه، فجاءت بعيسى بلا أب، هذه آحاد بيان القدرة، حتى لا تكون عادة أو تنسب إلى الطبيعة، فإن الله خلق آدم من تراب، وأيضاً ليس من تراب وحده، بل ماء وتراب، وليس من التراب فحسب ولا من الماء فحسب، بل من عنصري الماء والتراب، ثم خلق حواء من ضلعه ولحمه ودمه، ثم تناسل الناس من هذين الأبوين، وهكذا النباتات والطيور والحيوانات والحشرات إلى غير ذلك، والله وحده سبحانه هو الوتر.
إذاً: فإن الله وتر يحب الوتر، فإذا كان الله يحب الوتر: (أوتروا يا أهل القرآن) إذاً: الوتر واجب أم سنة؟ سنة الله سبحانه وتعالى يحب كل العبادات (ما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) إذاً: كل العبادات محببة إلى الله، والوتر بخصوصه؛ لأنه ليس فرضاً لازماً، ويأتيه الإنسان تطوعاً، فمحبة الله إياه حملت العبد بحبه لله أن يأتي بالوتر.(81/4)
حكم تكرار الوتر في الليلة الواحدة
قال رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) متفق عليه.
وعن طلق بن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا وتران في ليلة) رواه أحمد والثلاثة، وصححه ابن حبان] .(81/5)
كلام العلماء في حكم تكرار الوتر في ليلة وصوره
نلاحظ -يا إخوان- إيراد المؤلف رحمه الله هذين الحديثين متعاقبين؛ إشارة إلى ما يوجد من شبه التعارض بينهما، فالحديث الأول جاء بلفظ: (اجعلوا -والخطاب موجه للأمة جميعاً- آخر صلاتكم بالليل وتراً) وهذا يعم كل مسلم؛ لأن كل مسلم يصلي المغرب والعشاء وهما من صلاة الليل، المغرب وتر صلاة النهار بكونه ثلاثاً، والعشاء شفع، ومعها سنة ركعتين، فتحتاج إلى وتر، فيتناول الحديث البحث من جانبين: كون الوتر آخر الصلاة، فلو أنه ما صلى العشاء، ودخل وقت الوتر ولم يصل العشاء، فلا يحق له أن يصلي الوتر بناء على أن وقت الوتر من العشاء إلى الفجر؛ لأنه أمر أن يجعل آخر صلاته وتراً، ومن صلاته العشاء مع سنتها، فهذا الحديث يحتم عليه أن يوتر.
نقول: هذا الحديث على وجازة لفظه يتكلم في جانب، ويأتي الحديث الثاني: (لا وتران في ليلة) إذا أخذنا الحديث الثاني على حدة، ونقول: إن إنساناً صلى العشاء وأوتر، ليس له أن يعيد الوتر مرة أخرى؛ لأنه قد أوتر، ولا وتران في ليلة، فهو أوقع الوتر في آخر صلاته، فلا يعيد الوتر؛ لأنه يتكرر، ولا وتران فضلاً عن ثلاثة، وكلا الحديثين يعمل عمله إذا انفرد، من كان يوتر أول الليل ولم يقم آخره صلى العشاء وما يسر الله له، وأوتر ونام حتى يطلع الفجر، فهو جعل آخر صلاته بالليل وتراً، وانطبق عليه هذا الحديث بدون أي معارض.
إنسان صلى الوتر ثم استيقظ بعد نومه، وأراد أن يعيد الوتر، هل يجوز له ذلك؟ لا؛ لأن أمامه حديث: (لا وتران في ليلة) ، فكل من الحديثين يعمل عمله إذا انفك أحدهما عن الثاني، ولكن إذا ارتبط الحديث الأول بالثاني ماذا يفعل؟ وهذه هي المسألة التي كثر الكلام عليها، وتعالج بناحية منهجية، وصورتها: صلى العشاء فأوتر، أخذ بالعزيمة، فصدق عليه أنه جعل آخر صلاته بالليل وتراً، وأعمل الحديث الأول بأن جعل آخر صلاته بالليل وتراً، ثم يسر الله له القيام، فصلى من الليل ما تيسر له، طيب! بعد أن صلى من الليل ما تيسر له، وقد أوتر وتره، يأتيه الحديثان معاً، الحديث الأول يقول: (اجعل آخر صلاتك بالليل وتراً) ، لأنك صليت الآن اجعل آخر صلاتك بالليل وتراً، والحديث الثاني يقول: لا، (لا وتران في ليلة) فما هو المخرج؟ من أراد تحقيق هذه المسألة بأوسع ما يكون فعنده كتاب: قيام الليل للمروزي، أو مختصر هذا الكتاب، وكذلك فتح الباري لـ ابن حجر، وغيره من مجموعات الأحاديث، وأدق ما يكون في ذلك بحثاً ما كتبه الإمام العلامة ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، فهؤلاء يقولون: ما دمت قد أوترت أولاً فصل ما شئت ثم لا توتر، طيب! حديث: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) أين تذهب به؟ تعارض حديث نهي مع حديث أمر! وبعض العلماء يقول: هذا التعارض أنا ألغيه، ألغي الوتر الذي في أول الليل، وكيف تلغيه؟ أليس الوتر ركعة واحدة؟ بلى، قال: أنا عندما أقوم من ثلث الليل الآخر قبل أن أصلي من الليل ما أريد أصلي ركعة واحدة، وأرسلها إلى الوتر في أول الليل، يصبح الوتر الذي في أول الليل شفعاً، يقول: ألغيت الوتر الأول، ثم أستأنف قياماً جديداً وأوتر، فأجعل آخر صلاتي من الليل وتراً.
وهناك من يقول: هذا عمل غير صحيح، وروي عن ابن عباس وأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنهما أنهما قالا: هذا تلاعب بالوتر؛ لأنه بعد أن صلى الوتر نام، وربما وجب عليه غسل، تكلم أكل شرب ثم بعد هذا كله ربما يعتريه موجب للوضوء أو موجب للغسل، وأكل وشرب، ونوم، وكلام ثم يصلي ركعة يضيفها للتي قبلها؟! كيف تنضم إليه؟ جاء عن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه كان يفعل ذلك، وابن عمر كان يفعل ذلك، فـ عثمان رضي الله تعالى عنه يقول: (ما أراها -يعني: الركعة الثانية التي سأرسلها- إلا كشاردة الإبل) ، فلا ينبغي أن يضم هذه الركعة الواحدة بعد النوم والأكل والشرب ونواقض الوضوء إلى ما تقدم.
طيب! ماذا نفعل؟ قالوا: ننظر في التوفيق بين الحديثين، فالحديثان في فن الأصول ليس بينهما عام وخاص حتى نحمل العام على الخاص، وليس فيهما مطلق ومقيد حتى نقيد المطلق بقيد مقيد، ولكن كلاهما صحيح صريح في موضع يعارض الآخر: (لا وتران ... ) (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) وهنا يقول ابن دقيق العيد: نخرج خارج نطاق الحديثين بالمرجحات الأصولية، وما هي؟ قال: متون الحديث صريحة صحيحة لا غبار عليها، ولكن مضمون الحديثين ما هو؟ قال: مضمون حديث: (لا وتران في ليلة) هذا نفي ونهي أم ندب وطلب؟ نهي ونفي، سواء كان نفياً في أن توقع وترين؛ لأنه لا يوجد وتران في ليلة، أو نهياً عن أن توقع الوترين في ليلة.
وحديث: (اجعلوا آخر صلاتكم) هذا طلب أم نهي؟ طلب، وأقل مقتضيات النهي هنا الكراهية؛ لأن النهي إما حرام أو مكروه، وأقصى درجات الطلب الوجوب ما لم نجد صارفاً، وهل الوتر واجب؟ أصل مشروعية الوتر ليست واجبة، إذاً: كيفيته، أحكامه، لا ترتقي إلى الوجوب: (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل ... ) إرشاد لإيقاع الوتر، وهو طلب دلالته الندب.
إذاً: الحديثان متعادلان في الصحة والصراحة في القول، ولكن اختلفا في المضمون، فأحدهما: مضمونه كراهية إعادة الوتر، والثاني: مضمونه أن تجعل آخر صلاتك بالليل وتراً، وإذا كان لا وتران في ليلة لو أننا أعدنا الوتر نكون وقعنا في مكروه، ولو أننا اكتفينا بالوتر الأول وصلينا بعد ذلك ما تيسر دون أن نعيد الوتر تركنا مندوباً، وتجنب صفات المكروه أولى من اقتحام فعل المندوب، فيكون ترجيح: (لا وتران في ليلة) على (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) ، إذاً: من أوتر أولاً ثم قام بعد ذلك فليصل ما شاء ولا يعيد الوتر.
ويقول ابن عباس في من يصلي ركعة الشفع: (هذا جاء بالوتر ثلاث مرات وليس مرتين) ، أوتر بعد العشاء، ثم صلى ركعة واحدة وهي تعتبر وتراً، ثم صلى ما تيسر له وجعل آخر صلاته بالليل وتراً، كأنه أوتر ثلاث مرات، وهذا مقتضى قولهم: (تلاعب بالوتر) .
وعلى هذا يا إخوان يكون المتقرر عند الجمهور بأن اجتهاد ابن عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما عارضه اجتهاد غيرهما من الصحابة أمثالهما، وإذا كان اجتهاد صحابي تعارض مع اجتهاد صحابي آخر فإنهما يتعادلان فيتساقطان، كما هو النظام في البينات، إذا تعادلت البينتان تساقطتا، ويطلب بينة جديدة، وهنا: لم يبق عندنا إلا الترجيح في مضمون الأحاديث، أحدهما للنهي وأقل حالاته الكراهة، ولا ينبغي أن نرتكب مكروهاً، والثاني للطلب، وأعلى درجاته الندب، ولأن نقصر في مندوب خيراً من أن نرتكب مكروهاً، والله تعالى أعلم.
ثم يؤيد القول بعدم إعادة الوتر بأنه جاء عن أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث بخمس ثم يصلي ركعتين وهو جالس، بل في حديثها: كان يوتر بثلاث عشرة ركعة، فلما أسن وأخذه اللحم صار يوتر بسبع، ومعنى: (يصلي ركعتين وهو جالس) ، يعني: صلى بعد الوتر، ولم يعد الوتر بعد ذلك، ولم يلغ الوتر الذي تقدم.
إذاً: (لا وتران في ليلة) راجح على (اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً) ، وبالله تعالى التوفيق.(81/6)
ما يقرأ من السور في صلاة الوتر
قال رحمه الله: [وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بـ (سبح اسم ربك الأعلى) ، و (قل يا أيها الكافرون) ، و (قل هو الله أحد)) رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وزاد: (ولا يسلم إلا في آخرهن) ] .
في هذا الحديث بيان ما كان يقرأ به صلى الله عليه وسلم في الوتر، وقوله: (كان رسول الله) يقول العلماء: (إن كان) هنا تدل على الدوام والاستمرار، ونظروا في هذه السور الثلاث (سبح) و (الكافرون) و (قل هو الله أحد) ، وتقدم الكلام على السورتين الكريمتين: (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) فيما يتعلق بالقراءة في سنة الصبح، وفي ركعتي الطواف، وهنا جاء تكرارهما، وكذلك في ركعتي سنة المغرب، وأن هاتين السورتين يسميان: سورتا الإخلاص، أو سورتا التوحيد، وأن في (قل يا أيها الكافرون) نبذ لعبادة ما سوى الله، وفيه أيضاً تميز الإسلام والمسلمين عن غيرهم {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ} [الكافرون:2-4] ، أي: في الحال وفي الاستقبال، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] تفردت هذه السورة الكريمة بموضوع واحد وهو: إفراد الله سبحانه وتعالى، وبيان أنه الواحد الأحد الفرد الصمد، واحد في ذاته، وواحد في صفاته، وأنه الصمد الذي يصمد إليه جميع الخلق، أي: يعمدون إليه ويقصدونه، وهنا يضيف إلينا أبي بن كعب: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] ، وباجتماع هذه السورة مع تلك السورتين نجد افتتاحية السورة الأولى: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] ، والتسبيح بمعنى: التنزيه والتقديس عما لا يليق بجلال الله، وقد جاءت مادة سبح في القرآن الكريم بكل تصاريفها، {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الحديد:1] {يُسَبِّحُ لِلَّهِ} [الجمعة:1] حتى المصدر {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1] فجاء التسبيح بأنواع تصاريفه؛ لبيان تنزيه المولى سبحانه وتعالى عما لا يليق بجلاله، وقد أشرنا سابقاً أن معنى التسبيح من حيث مادته في اللغة أصلها (سَبَحَ) بمعنى: يسبح في الماء، والإنسان إذا وجد في ماء عميق لا بد أن يسبح وإلا غرق وهلك، ويقال: إن سبح وسبّح (سَبَحَ الله) أي: كأنه يبعد جلال المولى سبحانه عن كل ما لا يليق بجلاله، وإلا هلك هذا الإنسان، أو أنه يسبح ويطلب طرق النجاة بتنزيه الله سبحانه عن كل ما لا يليق بجلاله، بخلاف أولئك الذين اتخذوا الله ولداً، أو اتخذوا له صاحبة، أو اتخذوا له شريكاً، أو وصفوه بصفات لا تليق بجلاله سبحانه، كما وقع اليهود في وصف الله سبحانه بالفقر وبالغل إلى غير ذلك من الصفات التي لا تليق بجلاله سبحانه.
وقد بين لنا الحديث الصحيح في قوله صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله تملأ الميزان، والحمد لله تملأ ما بين السماء والأرض) وكما جاء في الحديث الآخر: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) وهاتان الكلمتان جمعتا طرفي التوحيد؛ لأن (سبحان الله) تنزيه ونفي عن كل ما لا يليق بجلاله، و (الحمد لله) إثبات وإقرار بكل المحامد، وبهذا يجتمع للإنسان بهاتين الكلمتين تنزيه الله سبحانه، وتحميده بكل ما يليق بجلاله، وهذا هو طرفا التوحيد في حق الله.
وهنا قوله: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] التسبيح هنا متوجه إلى (ربك الأعلى) ، ومن سبح اسم ربه فقد سبح ربه من باب أولى، فإذا سبح الإنسان وقدس ونزه أسماء الله العلي العظيم فإنه قد سبح ونزه وقدس المولى سبحانه وتعالى.
ثم جاء بعد هذا التسبيح وهذه الافتتاحية بقوله: {الأَعْلَى} [الأعلى:1] ، والوصف بالعلو ثابت، وكذلك الاستواء على العرش، وكل ذلك مفهوم في العقيدة، ثم جاء بما يدل ويثبت القدرة الإلهية والربوبية للعالم، {رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:1-3] إلى آخر السورة الكريمة مما فيه جماع كمال الصفات لله سبحانه.
{الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى:2] ، لو وقف إنسان عند كلمة: (فسوى) طيلة عمره ما استطاع أن يستوفي مدلولها، لو نظرت إلى بني آدم من أبينا آدم إلى آخر إنسان في الوجود، ونظرت في تسوية خلقه لما وجدت اثنين متفقين تماماً متطابقين تمام المطابقة، ولكن كل مخلوق سواه الله تسوية خاصة به، ولو جئت إلى رعاة الحيوانات وبهيمة الأنعام لتجد الإبل والبقر والغنم كلها تتفق في صورة واحدة، ولكن تسوية كل واحدة منها تغاير غيرها من بني جنسها، وتجد الرعاة يختلطون بمئات من رءوس الغنم، فإذا آواهم المبيت تجد كل راع يعرف شياهه ويفصلها عن شياه شريكه ومن كان معه.
وكان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه يقول: إذا أردت أن تعرف هذه الآية وهذه القدرة الإلهية قف عند جمرة العقبة، وانظر تلك الوجوه التي جاءت من كل جنس، ومن كل قطر، ومن كل صقع يرمون الجمرات، لن تجد اثنين اتفقا في صفاتهما، بل إن علماء التشريح اليوم يقولون: إن بصمات الناس لا تتفق أبداً، بل إن أصابع الإنسان العشر في يديه لا تتفق بصمة إصبع مع بصمة إصبع أخرى، كم من ملايين الخلق مضوا وفنوا، ويوجدون الآن، ويوجدون بعد ذلك؛ ولا تتفق بصمة إصبع إنسان مع بصمة إصبع إنسان آخر!! هذه المغايرة لو وكل ذلك لأفراد الحذاق من العالم بأن يضعوا لها فيلمات، وأن يضعوا لها صوراً متفاوتة مختلفة لوقفوا عند مليون أو مليونين أو مائة مليون، أما أن يأتوا بأشكال متساوية من العالم كله فهذا يعجز عنه البشر، فالله هو الذي خلق فسوى، وأعطى كل شيء خلقه فهدى، خلق البعير على ما يتلاءم في خلقته، وخلق الأغنام على ما يتلاءم في خلقتها، وخلق الإنسان على ما يلائمه، وخلق عوالم البحار على ما يلائمها، فالإنسان والحيوان لا يستطيع أن يعيش في الماء؛ لأن الإنسان لا يستطيع أن يستخلص عنصر الحياة من الماء وهو الأكسجين كما يقولون، بينما حيوانات الماء خلقها وسواها على أنها تستطيع الحياة في ذلك الماء، وأيضاً منها ما يستطيع الحياة في الماء وفي البر كما يقال: برمائي، أي: يعيش في الماء وفي البر، فهذه التسوية وهذا الخلق لا يستطيع إنسان أن يحصي كنهها، ولا أن يستوعب مدلولها.
{سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:1-3] تقدير الخلائق، {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8] ، هذه المباني نحن نعلم أنها لو اختلت مقادير نسبة موادها البنائية لما استطاعت أن تقوم، حتى يقول المهندسون: لو زادت نسبة الحديد في التسليح لتكسر المسلح، ولو نقصت نسبة الإسمنت فيه لتشقق؛ فلابد من نسبة معينة محكمة، فإذا اختلت تلك النسبة فسد البناء! وأنتم تعلمون جميعاً الذي اكتشف الآن فيما يتعلق بفصائل الدم، وأنه مقادير معينة، ونسب معلومة، وكل شيء في هذا الوجود له تقديره الخاص، والله سبحانه هو الذي قدره.
وأيضاً: وهدى ما خلق وقدر إلى ما خلقه إليه، إذا جئت إلى الطفل، أو إلى الحمل، أو إلى الإنتاج من الحيوان فإنك ستجد الشاة تلد السخلة، وقبل أن تقف على قدميها أو على أرجلها تبحث عن ثدي أمها وتلتقمه وتمتص منه الحليب، من الذي علمها ذلك؟! هل أنت علمتها؟! لا، هو قدر لها الحياة بذلك، وهداها لطريق حياتها، وإذا جئت إلى جميع أنواع الحيوانات تولد النتاج صغاراً، من الذي علمها الازدواج، من الذي ألهم الذكر الذكورة، والأنثى الأنوثة، ثم جمع بينهما ثم كان التناسل، ثم كانت الزيادة والنماء وبقاء الجنس?! من الذي علمهم ذلك؟ إنه قدر لكل شيء حياته ومقاديره، وهداه إلى ما قدره إليه.
لو جئنا إلى عالم الحشرات تجد كما يقولون: مملكة النحل، من الذي هدى النحلة إلى ما هي عليه، ويعجز كبار حذاق المهندسين أن يوجدوا الأعمال التي تعملها النحل في بيتها، وفي جمعها للعسل، وفي بناء بيتها من الشمع، لا يوجد في خلية النخل سراب للهواء ألبتة، بل مسدسات متلصقات، بيت وبيت، وكيف تعمل؟ وكيف تتنظم؟ وكيف شكلت من جماعتها جماعات على أعمال مختلفة؟ كل هذا بتقدير الله، وهداها لما قدره إليها.
فإذا قرأ الإنسان ذلك ولو استمر الإنسان مع السورة الكريمة لما فرغ منها.
هذا مناسبة قراءة هذه السورة مع سورتي الإخلاص في الوتر؛ ليقف الإنسان في كل ليلة وفي صلاته للوتر على عجائب خلق الله، ومن وراء ذلك تجديد الإيمان واليقين بالله سبحانه وتعالى.
والله تعالى أعلم.(81/7)
كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع [7]
صلاة الوتر أفضل الرواتب مطلقاً، ولها أحكام كثيرة، وسنن متعددة، ينبغي معرفتها، ومن ذلك وقتها، وحكم من نسيها، وما يقرأ فيها، وغير ذلك.(82/1)
شرح حديث: (كان رسول الله يوتر بسبح اسم ربك الأعلى)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بـ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) ، و (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) ، و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)) رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
] .
أرجو من الإخوة جميعاً أن يرجعوا إلى تفسير سورة الأعلى في كتاب أو كتابين، بل كل ما تناولته أيديهم من كتب التفسير، ويقرءوا تفسير هذه السورة الكريمة، وأول ما أنصح به التفسير الكبير للفخر الرازي؛ لأنه في الواقع له توجيهات كونية عجيبة جداً، فإذا لم تتيسر ليلة من الليالي إيراد ما فيها من نقاط وتوجيهات، فلتكن هناك القراءة الفردية والرجوع إليها، وهي -كما يقال- جولة في سورة من كتاب الله، وسيجد القارئ الشيء العظيم جداً، وقد لا يخطر بباله ما يراه حول هذه السورة الكريمة.
يقول أبي: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الوتر بهذه السور الثلاث، وقد تقدم عندنا: من شاء أن يوتر بواحدة بثلاث بخمس بسبع بتسع، وهنا ذكر أنه يوتر بثلاث، فإذا كان أوتر بخمس أو بسبع أو بتسع ماذا يقرأ فيها؟ يقرأ ما تيسر له، وليس هناك تعيين بسورة معينة إلا في الثلاث ركعات فقط؛ لأن أكثر وتر الناس بالثلاث، يصلي ركعتين ويسلم ثم يصلي ركعة ثالثة، وسواء جمع الثلاث أو فرق؛ ولهذا أبي رضي الله عنه إنما بيّن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الثلاث الأواخر من الوتر، سواء اقتصر عليها الإنسان، أو أنه أوتر بأكثر منها، فيقرأ في كل ركعة ما تيسر له، ولكن يقرأ في الركعات الثلاث الأخيرة بهذه السور الثلاث الكريمة.
قال: [وزاد: (ولا يسلم إلا في آخرهن) ] .
هذا مما أوقف البعض عند صورة الثلاث ركعات: (لا يسلم إلا في آخرهن) ، وأنتم إذا فرقتم الركعة عن الركعتين سلمتم قبل الثالثة، وهنا: (لا يسلم إلا في آخرهن) ، معناه: أنه صلى الثلاث مجموعة، وهذا الذي يفعله الأحناف، فماذا توردون عليهم؟ قال الجمهور: نعم، نحن نقول: إنه لا يسلم إلا في آخرهن، أي: بسلام واحد، ولكن الذي نورده على الأحناف هو أنهم يتشهدون في الثانية ولا يسلمون، فلو أنهم تركوا التشهد في الثانية، ولم يسلموا إلا في الأخيرة فلا مانع، وهذا يدل عليه ظاهر هذا الحديث فإنه يتفق مع هذه الصورة؛ لأن الحديث مفهومه: أنه لم يكن يتشهد قبل الأخيرة، إذاً: الصورة التي ينطبق عليها هذا الحديث هو: أنك تسلم في آخرهن دون أن تجلس للتشهد في الثانية، فلا تتعارض الصورة مع هذا الحديث، ويسلم من معارضته النهي عن تشبيه الوتر بالمغرب.
إذاً: قوله: (ولا يسلم إلا في آخرهن) أي: يصلي ثلاث ركعات وتراً بتشهد واحد وسلام واحد، والأحناف حملوا قوله: (لا يسلم إلا في آخرهن) ، أنها موصولة، وقالوا: إن صفة صلاة ثلاث ركعات يصلي مثنى مثنى، وإذا صلى ركعتين تشهد ولم يسلم إلا في آخرهن.
وبهذه المناسبة لا ينبغي لإنسان أن يجعل من صورة الخلاف بين الأحناف والجمهور موقع إشكال، أو مورد نزاع وخلاف؛ لأن أصل الوتر من حيث هو سنة ومندوب، فإذا ما اختلف في صورته فلا ينبغي التعارض فيه، ولكن ينبغي على الإنسان في شخصه وذاته أن يتطلب ما يترجح عنده؛ لأنه يفعل مندوباً، وفاعل المندوب يطلب الخير، وطالب الخير يطلب الأفضل، فعليه أن يبحث، وما ترجح عنده يعمل به لشخصه، لكن أن ينكر على غيره ما ترجح عنده فلا ينبغي ذلك، ولا سيما إذا وجدنا أن بعض النصوص فيها ما يوهم إلى ما ذهب إليه الغير؛ لأنهم يقولون: هؤلاء القوم قد مضوا إلى ما اقتنعوا به من الأدلة، وهؤلاء القوم قد مضوا إلى ما اقتنعوا به من الأدلة، إذاً: كل من الفريقين أخذ بما اقتنع به من الأدلة، فإذا كنت تعترض على ما اقتنع به الفريق الثاني فمن حق الفريق الثاني أن يعترض عليك فيما اقتنعت أنت به، وما دامت المسألة قابلة للاجتهاد والنصوص متقاربة فلا مانع أن يذهب كل بما اقتنع به، ولا ينبغي اعتراض أحد الطرفين على الآخر، والله تعالى أعلم.
مع العلم بأن الأحناف ينصون في كتبهم على أن الحنفي لو أوتر خلف غير الحنفي فله أن يوافقه على وتره، وقدمنا بالأمس قول الإمام أحمد رحمه الله فيما يتعلق بالقنوت في الوتر، أو فيما يتعلق بالقنوت بالصبح قال: لا أفعله، وإن صليت خلف إمام يقنت قنت متابعة للإمام، إذاً: الإمام الجليل أحمد بن حنبل رحمه الله وغيره إذا صلى خلف من يرى مخالفته في شكل من الأشكال لا يخالفه، ويتابعه وفاقاً للمسألة، ولما سئل أحمد بن حنبل: أتصلي خلف من لا يرى الوضوء من لحم الجزور؟ أحمد عنده أن من أكل لحم الجزور انتقض وضوءه، فقيل له: لو رأيت إنساناً أكل لحم الجزور ولم يتوضأ أتصلي خلفه؟ قال: وكيف لا أصلي خلف مالك وخلف فلان وفلان؟ أي: وهم لا يرون الوضوء من لحم الإبل، فهو يصلي خلف من يخالفه فيما يتعلق بالوضوء وهو أمر أساسي في صحة الصلاة؛ لأن المسألة اجتهادية، وهذا له رأيه، وهذا له رأيه، فما دام أنه ائتم به يوافقه، وهذا كله يعطينا صورة في تجنب السلف الخلاف والمنازعات.
والله تعالى أعلم.(82/2)
شرح حديث: (كل سورة في ركعة، وفي الأخيرة قل هو الله أحد والمعوذتين)
قال رحمه الله: [ولـ أبي داود والترمذي نحوه عن عائشة رضي الله عنها: وفيه: (كل سورة في ركعة وفي الأخيرة: (قل هو الله أحد) والمعوذتين) .
] عن عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت (أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل مثنى مثنى، ثم يوتر بثلاث) وهذا اللفظ من عائشة رضي الله عنها لم يرد فيه تفصيل في كيفية هذه الثلاث، ومن هنا أخذ الأحناف صورة الثلاث المعهودة وجمعوها، وآخرون يقولون: ثلاث لم يجلس في الثانية منهما، وبينت لنا رضي الله تعالى عنها أن هذه السور الثلاث مقسمة على الركعات الثلاث.
قال: [وفيه: (كل سورة في ركعة، وفي الأخيرة (قل هو الله أحد) والمعوذتين) ] .
المشهور (قل هو الله أحد) ، فإذا أتى بالمعوذتين مع (قل هو الله أحد) في الركعة الأخيرة فلا مانع، والمنصوص عليها أنه يأتي بهما، والمشهور عند العلماء إفراد (قل هو الله أحد) ، بما أنا أشرنا إلى السور الثلاث: (سبح اسم ربك الأعلى) وما فيها من إثبات الصفات الكريمة للمولى سبحانه، والقدرة الإلهية والربوبية إلى آخره، وكذلك في سورتي الإخلاص، إذا جئنا إلى المعوذتين نجد أن الوقوف عند هاتين السورتين الكريمتين يجعل المسلم فعلاً يقف إجلالاً لكتاب الله، ويقف متلمساً فضل الله أن يفتح عليه في نسق القرآن في هذا المصحف الشريف، إذا جئنا إلى (قل هو الله أحد) وإفراد الله سبحانه وتعالى وتوحيده في ذاته وأسمائه وصفاته.(82/3)
سورة الفلق
ونأتي إلى سورة الفلق، ثم نأتي إلى سورة الناس، ثم نأتي إليهما معاً، تجد السورة الأولى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] ، وقد عارض بعض المتفلسفة -ليس الفلاسفة- على إيراد كلمة: (قل) ، وقال: لماذا لا يقرأ الإنسان: (أعوذ برب الفلق من شر ما خلق) ؟ فكلمة (قل) مقول القول، وتحصيل حاصل، ولكن لا، {قُلْ أَعُوذُ} [الفلق:1] ليعلم السامع والقارئ بأن هذا المقول يجب أن يقوله بأمر الله سبحانه الذي قال له: (قل) ، أما إذا بدأ وقال: (أعوذ برب الفلق) قد يكون من عنده هو، قد تكون استعاذة شخصية، ولكن عندما يضمم: (قل) أي: أنك أمرت وكلفت من الله سبحانه وتعالى أن تقول، ولذا الذين نادوا بحذفها ما فقهوا كلام الله، وأن هذا تكليف من المولى لعبده.
{قُلْ أَعُوذُ} [الفلق:1] بمعنى: ألوذ وألجأ وأحتمي، {بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] الرب الخالق المدبر، وكلمة (رب) لها في اللغة نحو من عشرين معنى، وصفة الربوبية نجدها في أول سطر من كتاب الله، بسم الله الرحمن الرحيم {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] ، ونجدها هنا في آخر المصحف، وفي آخر سورة من كتاب الله، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] ، فنجد هنا: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] ، الفلق: كل ما انفلق عن غيره، فإذا جئت إلى السماء وأبراجها وما انفلقت عنه من كواكب وشموس وأقمار إلى غير ذلك، إذا جئت إلى البحار وما انفلقت عنه من جواهر وأصداف وكنوز وحيوانات وغير ذلك، وإذا جئت إلى الأرحام وما انفلقت عنه من نتاج في حيوان وطير وإنسان، وإذا جئت إلى الأرض وما انفلقت عنه من أنواع النبات والأشجار وما خلق الله فيها لوجدت الشيء العظيم، وكل الكائنات تندرج تحت هذه الكلمة {أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] .
كيف فلقها؟ كيف أنشأها؟ تسبح في عالم بعيد جداً.
{مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:2] ؛ لأن كل مخلوق فرد من أفراد الفلق الذي انفلق عن قدرة الله سبحانه، فالشر الذي سيأتي من المخلوقات هي أفراد ما خلق، والذي فلقه هو الذي يدرأ عنك شره، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا} [الفلق:1-2] ، (ما) من الأسماء الموصولة التي تدل على العموم، فمدلولها عام، {مَا خَلَقَ} [الفلق:2] حتى قال ابن عباس: المعصية مما خلق الله، فإذا استعذت بالله من شر ما خلق استعذت بالله من كل شر تخشاه حساً كان أو معنى.
إذاً: دخلت في حماية الله من شرور خلق الله، التي انفلقت عن قدرة الله، ثم يأتي تفصيل بعد إجمال: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:3] ، قالوا: القمر في آخر الشهر؛ لأن ذلك الوقت من الشهر هو وقت عمل المفسدين من سحرة وغيرهم.
{وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4] ، وهم السحرة يعقدون العقد وينفثون فيها بسمومهم، قال: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4] ، ولم يقل: إذا نفثن في عقدهن، ولكن في العقد: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ} [الفلق:5] ليس على إطلاقه، بل {إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5] إن وقع منه الحسد، ومن هنا جاءت السورة الكريمة بالاستعاذة بصفة واحدة لله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] هذه الصفة المستعاذ بها، من أي شيء؟ عموم ما خلق، (غاسق إذا وقب، نفاثات في العقد، حاسد إذا حسد) المستعاذ به صفة واحدة من صفات الرب سبحانه، والمستعاذ منه أربع شرور على الإجمال ثم التفصيل، وقبل ذلك: التفريق بين النفاثات على الإطلاق، وبين الحاسد بشرط: إذا حسد؛ لأن النفاثات في العقد لا ينفثن إلا عملياً عند السحر، وقبل أن يتناولن الخيط، ويعقدن العقد وينفثن فيها؛ لسن بساحرات، فلا يتحقق ولا يوجد سحرهن إلا بالعقد والنفث في الحال، إذاً: عندما يعقدن، وينفثن في تلك العقد هن ساحرات، وقبل ذلك لم يكن ساحرات، أما الحاسد فهو حاسد ولو لم يتوجه إلى الإنسان بالحسد، فيستعاذ من شره إذا توجه إلى المحسود، والحسد يوجد عند الإنسان الذي ابتلي بهذا الداء عافانا الله وإياكم، لكن شر حسده لا يظهر ولا يخرج ولا يقع تأثيره إلا إذا توجه بعينه للمحسود.
وكيف يقع الحسد؟ وكيف يتأثر المعيون من عين العائن؟ ذكرنا في الموطأ قضية سهل بن حنيف، لما رآه أحد الصحابة وقد تجرد واغتسل، فقال: ما رأيت مثل جلدك اليوم ولا كالعذراء في خدرها؛ فسقط في الحال، فذهبوا إلى رسول الله، وقالوا: يا رسول الله! إن كان لك حاجة في سهل فلا يستطيع أن يذهب معك، كانوا في سفرة ما بين المدينة ومكة، قال: (وما ذاك؟ قالوا: خلع لباسه، ونظر إليه فلان فقال: كذا وكذا، فتغيظ صلى الله عليه وسلم وقال: علام يقتل بعضكم أخاه؟ هلا بركت إذا وجدت ما يعجبك، من رأى ما يعجبه فليبرك، ثم أمر أن يغسل له) وهذه قضية طويلة.
وإلى الآن يجمع المسلمون على وقوع أثر الحاسد في المحسود كسهم صائد، ولكن كيف ينفذ هذا السهم؟ ومن أين ينطلق؟ وكيف يؤثر؟! عجز العالم إلى اليوم، لا الأطباء القدامى ولا الأطباء الجدد، إنما كل ما قالوه: إن القلب يتغير، وإن العين تنظر، فيخرج إشعاع من القلب إلى العين ثم تخرج إلى المعين، فيتأثر بذلك، ويستدلون بأشياء عديدة، ولكن حقيقة ذلك الله تعالى أعلم بها.(82/4)
سورة الناس
في هذه السورة يستعيذ المسلم بالله بصفة من صفاته، من كل الشرور مجموعة ومفرقة، بينما نجد السورة الأخيرة: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] المستعاذ منه ماذا؟ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ} [الناس:1-3] كم صفة من صفات الله جندت للاستعاذة بها؟ ثلاث وهذه صفات الجلال والعظمة: (رب ملك إله) ، فهي صفات الكمال والجلال لله، فهي جوامع صفات العظمة لله، هناك: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] صفة من صفات الله، وهي صفة الخلق، ولكن هنا جوامع الصفات: (رب) و (ملك) و (إله) .
المستعاذ منه من هو؟ {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:4] إذاً: في السورة الأولى اكتفى المستعاذ به بصفة واحدة، يستعاذ بها من جميع شرور ما خلق، وانفلقت عنه الكائنات، وفي السورة الثانية ثلاث صفات تجمع ويستعاذ بها كلها من شر واحد ألا وهو الوسواس الخناس، فماذا نستفيد من هذا؟ نستفيد من هذا -والله تعالى أعلم- بأن الشر كل الشر، والخطر كل الخطر على الإنسان المسلم هو ذاك الشر الذي اجتمعت له صفات العظمة، وبالمناسبة كنا نسمع من والدنا الشيخ الأمين في قضية زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4] يعني: ما بقي إلا الجن، يجمع الله سبحانه وتعالى في مناصرة رسوله أمام امرأتين كل هذا، (الله وجبريل، وملائكته، وصالح المؤمنين) كل ذلك يناصرونه عليكما! ولذلك قال الشاعر: ما استعظم الإله كيدهن إلا لأنهن هن هن فهنا الشيء بالشيء يذكر، ثلاث صفات من صفات الجلال والكمال تجند وتجمع، ويلجأ الإنسان إليها من خطر واحد؛ لأن أخطر ما يكون على الإنسان في حياته وآخرته الشك الوسواس، الخناس! فالإنسان في دنياه لو وقف موقف الشك من أي عمل ما تقدم خطوة، فبالشك يقدم خطوة ويؤخر خطوة؛ لأنه متردد شاك لا ينتقل من مكانه ولا يمضي، فأمور الدنيا يفسدها الشك، والتردد، ويفسدها الوسوسة في الذهن، وأمور الآخرة من باب أولى، والشيطان لا يفسد على الإنسان دينه إلا بالوسوسة، يأتيه ويوسوس إليه ويشككه في أمره إلى حد بعيد.
إذاً: لكأن القرآن الكريم في سياقه يفتتح بالفاتحة ثم البقرة، ثم ما بعدها بكل التشريعات في أصول وفروع ودنيا وأخرى إلى أن يأتي إلى آخر المصحف الشريف ثم يقول: قف! أنت بين أعداء كثيرين من المخلوقات، استعذ برب الفلق من جميع ما خلق، وأمامك العدو الخطير، استعذ بالله وبصفات جلاله وكماله من شره، لأنك إذ لم تلجأ إلى الله فلن تنجو منه {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف:200] .
إذاً: تأتي هاتان السورتان وتبين لنا ما يحتاج إليه الإنسان في حياته.
ومرة أخرى ما يسميه علماء الأدب والبلاغة: عود على بدء، أول سورة الفاتحة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:2-4] الربوبية والألوهية والملك تجدها في سورة الناس مجتمعة، فكأن القرآن في آخره يردك إلى أوله لتكون كالكار الفار، وهكذا يرتبط آخر القرآن بأوله في تمجيد المولى سبحانه وتقديسه، والله تعالى أعلم.(82/5)
شرح حديث: (أوتروا قبل أن تصبحوا)
قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أوتروا قبل أن تصبحوا) ] .
هذا أمر توجيه (أوتروا قبل أن تصبحوا) وقول: (تصبحون تمسون تظهرون) كما يقولون -فعل الدخول في الوقت، يقال: أصبح فلان دخل في الصباح، أمسى دخل في المساء، أضحى دخل في الضحى، فيقول صلى الله عليه وسلم: (أوتروا قبل أن تصبحوا) أي: قبل أن يدخل الصبح عليكم، وتدخلوا في الصباح، ومعنى ذلك: أن الصباح ليس وقت الوتر، أو أن الوتر إلى قبل أن تصبح، وتقدم الكلام عند قوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين العشاء وصلاة الصبح) .
قال رحمه الله: [ولـ ابن حبان: (من أدرك الصبح ولم يوتر فلا وتر له) ] جاء في هذا تقييد، من أدرك الصبح ولم يوتر أو أدركه الصبح ولم يوتر فلا وتر له، أي: لم يبق هناك وقت للمدرك، وإذا خرج وقته ذهب، ولا تستطيع أن تستدركه، ولكن لم يقتصر الأمر في الأحاديث على مثل هذا، وإنما جاءت نصوص أخرى فيما يتعلق بانفتاح وقت الوتر إلى ما بعد الصبح، ويجمع العلماء في هذه المسألة على أن كل هذه الأحاديث التي في التوقيت إنما هي لوقت الفضيلة والأداء، وما كان بعد الصبح على ما سيأتي للمؤلف وغيره فيكون تداركاً لما فات من أدائه، وهل هو قضاء أم أداء؟ بعضهم يعتبر ذلك قضاء، والله تعالى أعلم.(82/6)
شرح حديث: (من نام عن الوتر أو نسيه)
قال رحمه الله: [وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نام عن الوتر أو نسيه فليصل إذا أصبح أو ذكر) رواه الخمسة إلا النسائي] .
انظروا إلى فقه المؤلف أتى بقوله: (أوتروا قبل أن تصبحوا) وقوله: (إذا طلع الفجر فلا وتر) ثم يعقب ذلك بالحديث: (من نام عن الوتر أو نسيه فليصل إذا أصبح أو ذكر) إذاً: التوقيت الأول للمستيقظ أفضل، أما إذا كان هناك عذر وفات عنه الوقت المحدد فإنه يصليه إذا مضى وارتفع ذلك العذر، وإذا كان هذا في الفريضة: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) فيقولون: أيضاً في النافلة من باب أولى، ولا سيما إذا كان الإنسان مداوماً على عمل من أعمال الفضيلة، فلا ينبغي تركه، وخروج الوقت لا يسقطه، فهناك تدارك له، وقد جاء عن أم المؤمنين رضي الله عنها عائشة أنه صلى الله عليه وسلم إذا نام عن صلاة الليل بأن كان متعباً، أو شغل عن ذلك فإنه يصلي من النهار اثنتي عشرة ركعة؛ لماذا يصلي اثنتي عشرة ركعة؟ عوضاً عما كان يقومه بالليل، والله تعالى أعلم.
مسألة: إذا قام أو ذكر إلى متى يكون وقت القضاء؟ فبعضهم يقول: إلى طلوع الشمس؛ لأن جزء ما بين الفجر وطلوع الشمس تابع لليل، وبعضهم يقول: لا، هذا تابع للنهار، بدليل أن الصائم لا يأكل في ذلك الوقت، وهناك من قال: إلى طلوع الشمس ينتهي قضاء الوتر، وهناك من قال: إلى وقت الضحى؛ لأنه وقت نافلة أيضاً، وهناك من مد إلى الزوال، قالوا: لأن أول صلاة بعد الصبح التي هي حد الوتر، الصلاة التي تعقبها وهي الظهر، أما بعد الظهر فلا دخل له بذلك، وهو من بداية اليوم الجديد، والله تعالى أعلم.(82/7)
شرح حديث: (من خاف ألا يقوم من آخر الليل)
قال رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خاف ألا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل) ] .
تقدم حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (من كل الليل أوتر رسول الله) ، وعلى هذا الليل كله يكون للوتر، ولكن إذا أردنا أن نتخير الأفضل، وتساوى عندنا الأمران، له القدرة بأن يستيقظ آخر الليل، ويستطيع صلاة الوتر الآن، فهما متساويان عنده، فإن كانا متساويين فإن الأفضل أن يؤخره، أما إذا كان لديه مظنة الكسل، أو مظنة النوم أو هو مرهق، أو لا يطمع في القيام، وليس عنده عزم أو غير متأكد بأنه سيقوم قبل الفجر، لا، يوتر من أول الليل؛ لأن الوتر أول الليل على اليقين وفيه تدارك للأمر، والأخذ بالأحوط أحوط، وعلى هذا يبين صلى الله عليه وسلم أنه: من استطاع، أو من لم يوتر في آخر الليل فليوتر في أوله، ومن أيقن أو غلب على ظنه أنه سيقوم آخر الليل فليوتر في آخره؛ لماذا؟ لأفضلية الوقت، الوتر هو الوتر، ثلاث ركعات أو خمس أو سبع، والقراءة هي القراءة، ولكن الأفضلية جاءت للوقت، وأفضلية الوقت تضاف إلى أفضلية العمل، ويزداد الوتر فضيلة بأفضلية الوقت.(82/8)
شرح حديث: (إذا طلع الفجر فقد ذهب وقت كل صلاة الليل والوتر)
قال رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا طلع الفجر فقد ذهب وقت كل صلاة الليل والوتر، فأوتروا قبل طلوع الفجر) رواه الترمذي] .
أيها الإخوة! لعله إلى هذا الحد يكون المؤلف رحمه الله قد أنهى مباحث الوتر، وسيبدأ في موضوع مستقل وهو الضحى، وقد أورد لنا مشاكل فيه، ولكن يهمنا بأن هناك مباحث أخرى في الوتر لم يتعرض لها المؤلف، وربما يتعرض لها في قيام الليل في رمضان أو التراويح، أو في صلاة الصبح، ألا وهو القنوت في الوتر، والقنوت في الوتر جاءت به النصوص، أو بصفة عامة مجملة، القنوت هو الدعاء في الصلاة، قال تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] أي: داعين مخبتين خاشعين إلخ.
والقنوت من حيث هو أمر طارئ جديد على الصلاة، لم تكن مشروعيته من قبل، ولكن طرأ وبدأ القنوت في النوازل، قنت صلى الله عليه وسلم شهراً يدعو على رعل وذكوان في قصة قتل القراء في بئر معونة، ثم بعد ذلك جاءت أحاديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا، والنوازل لم تكن دائماً، وهنا وقع الخلاف والنزاع والبحث: هل الوتر دائم أم الوتر مؤقت؟ فمن قال: إنه مؤقت، قال: وقت النوازل فقط، حروب زلالزل محن شدائد، يقنت الأئمة في الصلوات، ومنهم من قال: يقنت في الصلوات الخمس، ومنهم من قال: يقتصر على البعض من الصلوات فقط.
ففي حالة النوازل، المشهور القنوت في الصلوات الخمس، وفي غير النوازل الخلاف في القنوت في الفجر أو في الوتر، والأئمة الأربعة رحمهم الله يقولون بالقنوت في غير النوازل، ولكن منهم من يقنت في صلاة الصبح، ومنهم من يقنت في صلاة الوتر.
ثم بعد هذا التقسيم: منهم من يجعل القنوت قبل الركوع في الركعة الأخيرة بعد ما ينتهي من القراءة يكبر وهو قائم ثم يقنت، ومنهم من يجعل القنوت بعد الرفع من الركوع، ثم منهم من يجهر، ومنهم من يسر.
إذاً: بحث القنوت مستقل من حيث هو في موقعه وسببه وتوقيته.
وعلى كل حال: استقر الأمر عند الأئمة الأربعة رحمهم الله بأن القنوت طيلة السنة موجود، اللهم إلا بعض العلماء يستثني النصف الأول من رمضان لا يقنت فيه، ويقنت في النصف الأخير كما جاء عن بعض المالكية، ولكن المتبع والمشهور عند الجميع أن القنوت موجود طيلة العام، فهناك من جعله في الوتر كالحنابلة والأحناف، ومنهم من جعله في الصبح كالمالكية والشافعية، ومنهم من يجعله قبل الركوع، ومنهم من يجعله بعده.
ومهما يكن من شيء فإن تلك الصور كونه في الصبح كونه في الوتر كونه قبل الركوع كونه بعد الركوع كل ذلك ورد فيه نصوص، ولا ينبغي للإنسان أن يعترض على آخر إذا رآه أوقع الوتر في أي صفة من تلك الصفات، أما دعاء القنوت فقد جاء عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنه الحديث: (اللهم اهدني فيمن هديت.
إلخ) ، وبالله تعالى التوفيق.(82/9)
كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع [8]
من أفضل النوافل صلاة الضحى، وقد رغب النبي عليه الصلاة والسلام فيها ترغيباً شديداً، وأوصى بها بعض أصحابه، فينبغي معرفة فضلها وأحكامها، ومن ثم المحافظة عليها.(83/1)
شرح حديث: (كان رسول الله يصلي الضحى أربعاً، ويزيد ما شاء الله)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعاً، ويزيد ما شاء الله) رواه مسلم] .
هذا الحديث الأول من أحاديث عائشة جاء بالنفي أم بالإثبات؟ بالإثبات، وسيعقبه حديث جاء بالنفي، فإذا قدم ابتداء حديث الإثبات فكأنه يشير ابتداء إلى ترجيح الإثبات، فنأخذ هذا الحديث، تقول أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى ... ) و (كان) في الغالب تدل على الدوام والاستمرار، لم تقل: صلى الضحى يوماً، (ويزيد ما شاء الله) يعني: مرة يصلي ثمان ركعات، ومرة عشر ركعات، ومرة اثنتي عشرة ركعة، وقد جاء المؤلف بحديثها في آخر الباب: (من صلى اثنتي عشرة ركعة في الضحى بنى الله له بيتاً في الجنة) وهذا جزء من حديث: (من صلى ركعتين لم يكتب من الغافلين) ، (من صلى أربعاً كتب من التوابين الأوابين) ، (من صلى ثمان ركعات بني له كذا، أو كتب له ثواب كذا) ، (بني له قصر في الجنة) كل هذا تدريج مع الركعتين والأربع والثمان والاثنتي عشرة ركعة.
فحديثها الأول: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الضحى أربعاً، ويزيد ... ) كأنها تقول: أقل ما صلى أربعاً، في هذا الحديث إثبات صلاته صلى الله عليه وسلم بالضحى، قبل أن نأتي بالنفي نأتي بالأحاديث التي تلائم الإثبات، فعن أم هانئ بنت أبي طالب أخت علي رضي الله تعالى عنهما قالت: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم بيتي يوم فتح مكة فاغتسل وصلى ثمان ركعات في الضحى، ما رأيت أخف منهما، ولكنه يتم الركوع والسجود) فقالوا: هذه ثمان، وعائشة تقول: أربع، وثمان يتفق مع قول عائشة: (ويزيد ما شاء الله) والثمان تزيد عن الأربع، فهذه أحاديث تثبت صلاة الضحى، والذين ينفون الضحى -كما سيأتي عن ابن عمر وغيره- يقولون: صلاة رسول الله عند أم هانئ يوم فتح مكة صلاة الفتح، وليست صلاة الضحى، فأجاب الآخرون وقالوا: كم من فتح فتحه الله على رسوله! وهل جاء في الغزوات ما يسمى صلاة الفتح؟ تشرع سجدة الشكر، الرسول صلى الله عليه وسلم لما بعث علياً إلى اليمن، وكتب إليه بأن بني فلان أسلموا كلهم عن بكرة أبيهم، فلما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم الكتاب سجد شكراً لله، وهذا من نصوص أحاديث سجود الشكر، الذين أسلموا في اليمن، والخبر جاء إلى المدينة، فسجد شكراً لله، سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما فتح المدائن، ودخل إيوان كسرى صلى فيه ركعتين شكراً لله، مع أنه فتحت خيبر، وفتحت مدائن أخرى ولم يكن هناك صلاة، والصحابة رضوان الله تعالى عليهم كم من غزوة غزوها ولم يفعلوا ذلك، وجاء هناك في سنن الرواتب المطلقة سنة الفتح.
إذاً: يكون حديث أم هانئ تبعاً لحديث عائشة الأول، فـ عائشة تقول: (أربع ويزيد ما شاء) ، وأم هانئ بينت أنها ثمان ركعات، وجاء في حديث آخر من أحاديث إثبات صلاة الضحى: (كل سلامى من الناس كل يوم يصبح عليه صدقة) ، والسلامى: المفصل في جسم الإنسان، وفي بعض الأحاديث: (في جسم كل إنسان ستون وثلاثمائة سلامى) لا تقل: لماذا لا تقل: ثلاثمائة وستون مثل ما يقول الناس؟ العدد في اللغة العربية يقرأ من اليمين، أنت تقرأ: (ألم) من اليسار أم من اليمين؟ الكتابة العربية تقرأ من اليمين، فكذلك العدد في اللغة العربية ينطق من الآحاد فالعشرات فالمئات خمس وعشرون ومائة، بخلاف اللغة الإنجليزية أو الأعجمية فإنها تقرأ من اليسار، عندما نقول: سنة ألف وأربعمائة وأربع عشرة هذا غلط، ونقرؤه عربياً صحيحاً فصيحاً بأن نقول: سنة ثلاث عشرة وأربعمائة وألف، نقرأ من اليمين آحاد عشرات مئات.
فالحديث يقول: (كل سلامى من الإنسان كل يوم يصبح عليه صدقة، قالوا: ومن منا يستطيع ذلك؟) هل أحد منكم يقدر على هذا ولو تمرة؟ ستون وثلاثمائة تمرة تكون أكثر من صاع أو صاعين، من يستطيع كل يوم أن يتصدق بصاعين؟ صعب.
قالوا: (ومن منا يستطيع ذلك؟ فيقول صلى الله عليه وسلم -يأتي لهم بعملة بديلة-: التحميدة صدقة، والتسبيحة صدقة، والاستغفار صدقة، وتعين الرجل على دابته صدقة، وتدله على الطريق صدقة، وأمر بمعروف صدقة) إذاً: صدقات كثيرة، وهذه ليس فيها درهم ولا دينار، وما دامت مجاناً خذ ما تريد، ثم قال:: (ويجزئ عن هذا كله ركعتا الضحى) إذاً: صلاة الضحى أقلها ركعتان، ثم يأتي بعد ذلك أربع ثم ثمان، ويأتي بعد ذلك اثنتا عشرة ركعة، هذه الأحاديث في جانب من يقول بمشروعية صلاة الضحى وسنيتها.
فإذا جئنا إلى الأحاديث التي هي أعلى درجة في الإثبات والصراحة، فعندما يقول أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: (أوصاني خليلي) لماذا لم يقل: أوصاني رسول الله؟ لأن رسول الله مشترك للجميع، لكن (خليلي) ليست لكل إنسان، {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء:125] فالأنبياء كثر والرسل كثر يقول العلماء: الخلة أخص حالات الحب، وسبق أن قدمنا بأن الاصطلاحات الشرعية منقولة من الحقائق اللغوية، أنت عندما تفعل هكذا في الوضوء يقال: خللت الأصابع، وتخليل الأصابع: هو إدخال الإصبع بين الإصبعين لتتأكد من مرور الماء عليها، وهو مأخوذ من أصل النبات الذي يسمى الخلة، وأعواد الخلال ماذا نفعل بها؟ نخلل بها الأسنان.
انظروا إلى الصورة! ما بين الأسنان أهي فجوات متسعة تدخل فيها الأصبع أم أنها ضيقة؟ بل هي ضيقة، على قدر العود، وكذلك إذا خللت الأصابع هكذا هل هناك فراغ بين الأصابع المخللة؟ لا.
بل هي مزدحمة، قالوا: كذلك الخلة في الحب هي استغراق محبة الخليل خليله، بحيث لم يبق هناك فراغ في القلب لغيره.
إذاً: (أوصاني خليلي) هذه وصية مثلما يقولون: موصى عليها، وصية فيها اعتناء، وصية معنى بها، وسبق أن أشرنا بأن الوصية والوصلة متقاربان في اللفظ والمعنى، تقول: وصلت فلان بكذا يعني: أعطيته، وصيت لفلان بكذا، يعني: وصيت له من بعدك بوصية يأخذها، إذاً: فيها إيصال الخير، والشخص لا يوصي إلا لمن يحب، ولا يوصي لعدو، ولا لشيء مكروه، ولهذا أشرنا سابقاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: (يا معاذ! والله إني لأحبك، وأريد أن أوصيك) قدم المحبة ليعلم معاذاً أن مصدر هذه الوصية الحب، قال: (والذي نفسي بيده يا رسول الله إني لأحبك أوصني، قال: لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) اللهم أعنا جميعاً؛ لأنه كما قيل: لا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول عن معصية، ولا قوة: على طاعة إلا بالله.
فقوله: (أوصاني خليلي) ، فإذا كانت الوصية من خليل كريم يكون محلها وموضوعها عظيماً، والواجب على الموصى إليه أن يعتني بها، ولهذا قال أبو هريرة: (فلا أدعهن حتى أموت: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأن أوتر قبل أن أنام، وركعتي الضحى) فإذا نظرنا إلى المقارنة: (صيام ثلاثة أيام من كل شهر) فإنها تساوي صيام الدهر.
إذاً: صلاة الضحى بدلالة الاقتران تساوي ما ذكر معها، أقل ما يمكن أن يقال في ذلك، ثم لنأت إلى ما يذكره صاحب الترغيب والترهيب، وأرجو من كل طالب علم أن يرجع إليه في تلك النصوص، جاء فيه: (يا ابن آدم! اكفني أول النهار بركعتين أكفك آخره) ، وجاء أيضاً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث بعثاً، فرجع قريباً، وغنم كثيراً، فقالوا: ما أسرع هذا البعث! وما أكثر غنيمته! فقال صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على أقرب من ذلك عودة، وأكثر من ذلك غنيمة؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: يسبغ أحدكم الوضوء، فيعمد إلى المسجد فيصلي ركعتي الضحى) يعني: يكون أكثر غنيمة من الذين ذهبوا فغزوا وغنموا بسرعة، ورجعوا بالغنائم! غريب.
ومن المجرب -يا إخوان- عند كثير من الناس، وما نسمعه من الآخرين، أن من تعود ركعتي الضحى إذا صلى ركعتي الضحى يظل طوال نهاره مستبشراً مطمئن النفس، قرير العين، قل أن يرد عليه ما يكدر خاطره، ويكفي أنه لم يكتب من الغافلين، وكتب من الأوابين، وغفر له ذنبه، وبني له بيت في الجنة، مع اختلاف عدد الركعات، وليس هناك إلزام بالعدد.
فإذا انتهينا من الجانب الثاني وهو الحديث الآخر لـ عائشة رضي الله تعالى عنها ننتقل إلى أوقاتها وما جاء في عدد ركعاتها، والله المستعان.(83/2)
شرح حديث: (ما رأيت رسول الله يصلي قط سبحة الضحى)
قال رحمه الله: [وله عنها رضي الله عنها أنها سئلت: (هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قالت: لا، إلا أن يجيء من مغيبه) .
وله عنها رضي الله عنها (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه يصلي قطُّ سبحة الضحى، وإني لأسبحها) ] .
هذا يا إخوان هو موقف العلماء، ومن شرح الله صدورهم، وأنار بصائرهم عندما يواجهون مثل هذه الأحاديث، الحديث الأول صحيح لا شك فيه، والحديث الثاني أيضاً صحيح انفرد به مسلم، وفي البخاري أيضاً تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الضحى إلا إذا قدم من مغيبه) ، يعني: إذا جاء من سفر، هل يوجد تعارض أم ليس هناك تعارض؟ هناك تقول: (كان يصلي أربعاً) ، وهنا: (ما كان يصلي) ، فالنفي منصب على الصورة في غير المنصوص عليها وهي: قدومه من مغيبه.
إذاً: عند قدومه من مغيبه يتفق مع الحديث الأول في إثبات الصلاة، وإذا لم يكن قادماً من مغيبه يختلف مع الأول، ولقائل أن يقول: القادم من مغيبه السنة في حقه أمران: ألا يطرق أهله ليلاً، وأن يسبق إعلامهم بقدومه، فإن لم يتمكن بدأ بالمسجد وأرسل من يعلمهم، وإذا بدأ بالمسجد سيصلي أم سيترك الصلاة؟ سيصلي، فهذا يذكره العلماء من آداب السفر، وبين صلى الله عليه وسلم السبب فقال: (حتى تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة ... ) حفاظاً على كيان الأسرة، وإبعاداً عن مظان السوء، إذا كان الإنسان غائباً عن زوجته فإنها لا تقدّر زوجاً عندها، فلم تتهيأ لاستقباله، وغالباً تكون في ثيابها الرثة، فإذا فاجأها على تلك الحالة ربما رأى ما لا يريد، فانطبعت تلك الصورة في ذهنه، فيحصل هناك تخلخل في الروابط الزوجية؛ لأن الزوجة كما قالت المرأة البدوية لابنتها: لا يرى منك إلا كل مليح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح -وتنصحها بعشر نصائح معروفة- وتعهدي وقت نومه، ووقت سروره، ووقت كذا وكذا إلخ.
فإذا فاجأ المرأة وهي في تلك الحالة ربما لا يعجبه هذا المنظر، وقد تلصق الصورة في الذهن، وربما تقول: الزوج غائب فرصة أذهب أزور أمي، فرصة أزور خالتي جارتي، احتاجت إلى حاجة وزوجها غائب بدلاً من أن تتثاقل إلى إنسان تذهب هي بنفسها لتقضي حاجتها، فيصادف مجيء الزوج وهي غائبة، ويأتي الشيطان يوسوس: انظر من يوم ما ذهبت وهي ما تجلس في البيت، من يوم ما ذهبت وهي خراجة ولاجة، ويجد مجالاً للإفساد، لكن عندما يخبر بأنه قادم تتهيأ.
وحكيت لنا قصة: كان رجل غائباً، وأرسل للزوجة ميعاد العودة، وكانوا كما تعرفون يسافرون على الإبل، فقبل أن يقدم بيومين رأى فيما يرى النائم أن كبشين ينتطحان على فرج امرأته، فاشمأز جداً، ولذا كما يقولون: تفسير المنام إلهام، لأنها موحية، ففزع وذهب إلى طالب علم يسأله فضحك، قال: لماذا تضحك؟ هل الناس يقتتلون عليها؟! قال: لا، قال: إنها علمت بمقدمك فاستعملت المقص فجرحها، إنها تتهيأ! ويحكى أن رجلاً كان غائباً، فقدم وقال: الوقت ليل، وما عندي من أخبرهم، والمسجد الآن ما فيه أحد، فذهب وطرق الباب وكان حديث عهد بعرس، وفي البيت أبوه وأمه وزوجه، ترون هذا الليل الطويل من الذي يكون ساهراً يعد النجوم؟ ومن الذي هو نائم ومستريح؟ ومن اليقظان ومن النائم؟ الزوجة ساهرة كما يقولون: ساهرة الليالي، والأب والأم في حال النوم، وما عندهم شيء يشغلهم، فأول من سمع الطرق الزوجة، فحالاً أسرعت، ففتحت لزوجها واستقبلته، وكانت أمه كلما طلع الفجر تذهب توقظها للصلاة، فذهبت في ذلك اليوم فإذا بالرجل في الفراش وهي لم تعلم أن ابنها قد جاء، فذهبت لزوجها وقالت: أدرك زوجة ولدك ومن معها في فراشه.
طبعاً أمور مثل هذه كما يقال: تغلق الذهن، ما كان منه إلا أن فزع إلى السيف، وجاء وحز رأسه، ثم قامت الزوجة، وجاءت وطرقت على أبيه الباب، ثم قالت: قم وار ولدك، ذبح ولده بيده! فقالوا: هذه نتيجة مخالفة السنة، لو كان أهل البيت علموا بمجيئه لفرحوا وهللوا، ولكن لما فاجأهم ولم يعلم البقية إما أن يقع خطأ، وإما أن يقع سوء في العشرة بين الزوجين.
والآن الحجاج والزوار والعمار، والعمال الذين يسافرون ويرجعون يسر الله لهم الاتصالات، وشخص مسافر وشخص راجع، فليحذر الإنسان أن يفاجئ أهله، يقول: اتركني آتيها على غفلة أنظر ماذا تعمل! هذا ليس من المروءة في شيء! بل هي الدناءة في عينها، أنت لا تدري ما هي الظروف، وإذا كنت شاكاً في أهلك فلا يستحقوا أن يكونوا معك، يجب أن تكون الثقة متبادلة، فإذا لم يتيسر له فليأت إلى المسجد، فسيجد الأولاد في المسجد أو الجيران، وقبل أن يصلي تحية المسجد يكلف أحد المارة: أخبر بيت فلان بأنه جاء وهو الآن في المسجد.
فهنا في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (ما كان يصلي سبحة الضحى إلا إذا قدم من مغيبه) ، كان صلى الله عليه وسلم في الغزوات يقدِّم من يأتي بالبشرى، كما في غزوة بدر، أرسل ابن رواحة وعبد الله بن زيد على راحلة رسول الله القصواء ببشرى الفتح والنصر ومجيء الأسارى، وكذلك في فتح مكة إلى غير ذلك.
فإذا قدم قلنا: على الإنسان أن يبدأ بالمسجد، وكان بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فإذا بدأ بالمسجد بطبيعة الحال علم أهل بيته، وإن كانوا سمعوا بالبشرى من أول، إذاً: مقدمه من مغيبه هل هذا كان لصلاة الضحى أم كان لدخول المسجد ليبدأ به؟ ابن عمر رضي الله تعالى عنه -كما في رواية موطأ مالك برواية محمد بن الحسن - كان إذا أراد سفراً سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه قبل أن يسافر، وإذا رجع من سفر بدأ بالسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه، وإذا أراد أن يسلم، سيدخل على طول يسلم أم تحية المسجد أولاً؟ معروف في السنة بأن تحية المسجد تصلى أولاً.
فإذاً: إلى هنا حديث عائشة وسط بين الحديث الأول وحديثها الثالث، فهي سئلت: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟ قالت: لا، ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى قط، يبقى هذا نفي صريح، والأول إثبات صريح، والوسط: (إلا إذا قدم من مغيبه) ، ولكنها مع النفي تقول: (وإني لأسبحها) لم يصلها وأنت تصليها على أساس ماذا؟ أنت ما رأيتيه يصليها وتقولي: (وأنا أسبحها) لا تخالفيه! لا، هنا موقف العلماء: الجمع، هل هناك جمع بين النفي والإثبات أم ترجيح؟ وكما يقول العلماء: إذا تعارض الحديثان فلا طريق إلا الجمع بين الحديثين ما أمكن، أو ترجيح أحدهما على الآخر، فبعضهم سلك طريق الجمع، وقالوا: ما صلى سبحة الضحى قط، وأنا أستحبها، (ما صلى) بمعنى: ما داوم عليها في المسجد كما تفعلون اليوم في ذلك الوقت، وفي بعض الروايات -ويسوقها بكاملها صاحب طرح التثريب- تقول أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: (ما صلى، وكان يترك الشيء الذي يحب أن يفعله مخافة أن يكتب على الناس، وكان يطلب التخفيف وإني لأسبحها) ، يعني تقول: ما كان يصلي وهو يحب صلاتها، ويترك ذلك مخافة أن تفرض لدوامه عليها، وأنت تصليها لماذا؟ قالوا: اتخذت طريق الجمع، تقول: ما رأيت، ولكن علمت بأنه يريد أن يصلي، فتخبر عن علمها بعدم رؤيتها، وتخبر عن رغبته بما سمعت من غيرها، هذا نوع من أنواع الجمع! وجمع آخر، قالوا: إن قولها: (ما صلى أبداً) -كما أشار ابن العربي وغيره- أي: ظاهراً وكان يخفيها، وبعضهم يقول: هي امرأة من تسع نسوة أمهات المؤمنين، وقد يكون وقت صلاة الضحى للنبي صلى الله عليه وسلم ليس عند زوجاته، ويكون في المسجد، فإذا جاء من يثبت صلاته كـ أبي هريرة وغيره وأنس فيكون: (من حفظ حجة على من لم يحفظ) ، ويكون هذا إما طريق الجمع بأنها تنكر حالة صلاتهم التي يداومون عليها وفي المسجد، حتى قال البعض: إنها كانت تغلق عليها الباب وتصلي الضحى، إمعاناً في إخفائها.
وعلى كلٍ: مذهب الجمهور تقديم النصوص الواردة في مشروعية صلاة الضحى، وفي بيان فضلها وأجرها والوارد فيها بالأحاديث الصحيحة سواء كان في (كل يوم تطلع فيه الشمس صدقة) أو في حديث البعث الذين بعثهم رسول الله، أو في حديث: من صلى ركعتين أو صلى أربعاً، أو صلى ثمان، أو حديث: (يا ابن آدم! اكفني ركعتين في أول النهار أكفك آخره) أو في حديث أبي هريرة: (أوصاني خليلي ... ) كل هذه نصوص عند الجمهور تثبت مشروعية صلاة الضحى وتبين فضلها.(83/3)
شرح حديث: (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال)
قال رحمه الله: [وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال) رواه الترمذي.
] في أواخر هذا البحث يأتي المؤلف رحمه الله بعد أن أورد ما يشعر بالخلاف، ويشير إلى الترجيح لأول وهلة، ويبين عددها؛ أخذ يبين وقتها.
فقوله: (صلاة الأوابين) ما هي صلاة الأوابين؟ وهناك الحديث الآخر: (صلاة الضحى صلاة الأوابين) ، وروي أن صلاة الأوابين ما بين المغرب والعشاء، ولا تعارض: فتكون هذه صلاة للأوابين في النهار، وهذه صلاة للأوابين في الليل، فلا تعارض في ذلك، ولكن فيما يتعلق بالضحى حين ترمض الفصال، الرمضاء: التراب الحار، وذلك عندما تشتد الشمس، وتكون الأرض رملاً، وأهل الإبل يعرفون ذلك بالتوقيت تماماً، والفصال جمع فصيل، وهو الذي انفصل عن أمه وهو صغير لم يبلغ سنة، فإذا كان يمشي وراء أمه وارتفعت الشمس كما يقال: في ربع الدائرة؛ لأن الدائرة تنقسم نصفين: نصف نهار، ونصف ليل، من نقطة طلوع الشمس إلى نقطة غروبها تتوسط الدائرة سطح الأرض الأعلى نهار، وسطحها الأدنى ليل، فالنصف الأعلى نهار يقسم إلى أرباع: الربع الأول وقت الضحى، الربعان مجتمعان يعني: النصف حينما تزول الشمس وقت الظهر، الربع الثاني وقت صلاة العصر، والربع الرابع عندما تغرب الشمس ويأتي وقت المغرب {أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء:78] دلوكها أي: زوالها عن كبد السماء.
فعندما تطلع الشمس يكون في أول طلوعها أشعة هادئة باردة لطيفة أو كما يقول الأطباء: مليئة بفيتامين (د) فهو مقو للأطفال المصابين بالكساح نافع للعظام، فإذا ارتفعت الشمس إلى أن تصل إلى ربع الدائرة احترت واشتدت الحرارة، والفصيل لا يستطيع أن يتابع المشي، يربض، فأهل الإبل يحملونه على ظهر أمه وإلا لا يستطيع أن يمشي، انظروا التوقيت سبحان الله العظيم! لم يقل: الساعة الفلانية؛ لأنه لا ساعات في ذلك الوقت، ما كل إنسان يقيس النهار بالساعة، مع أنهم يعرفون الوقت بحركة الظل، وإلى الآن هناك بعض الفلاحين يقيسون الزمن بالظل، وينصبون عوداً، وينظرون إلى ظله، أول ما يكون إلى جهة الغرب، ثم يتحول، وكلما ارتفعت الشمس يقصر الظل، ويتحول إلى الجنوب أو إلى الشمال، ثم تزول الشمس عن كبد السماء إلى جهة الغرب، ويقيسون بالأصابع ويضعون أعواداً، يجلسون يعدون اثنتا عشرة ساعة بالنصف ساعة وبالربع ساعة.
والمزولة كانت موجودة في المسجد هنا في الداخل، وهي الآن موجودة عند غرفة المشايخ، فهي تقيس النهار بظلها.
ولكن لما كان التشريع مبسطاً، ومقدراً للفطرة (أمة أمية) وقت صلى الله عليه وسلم بالأمر العملي؛ لأن أهل الحضر وأهل المدن عندهم التوقيت بالساعات يسهل عليهم، لكن أهل البادية وقت لهم بما يعرفونه بطبيعة حياتهم ومخالطة حيواناتهم، فوقت الضحى عندما ترمض، وهنا: متى يبدأ؟ ومتى ينتهي؟ نجد بعض العلماء يقول: يبدأ وقت صلاة الضحى في الوقت الذي تصح فيه صلاة العيد، لكن لما كانت الشمس تأتي من تحت تكوير الأرض حينما تظهر على الحافة كأنها لاصقة في الأرض، فعندما يرتفع قرص الشمس عن حافة الدائرة قدر الرمح في الهواء، هذا وقت ارتفاع الشمس قدر الرمح، إلى متى يمتد؟ قالوا: إلى ما قبل الزوال، وهذا توقيت الفقهاء رحمهم الله، ويكون التوقيت بـ (حين ترمض الفصال) هو وقتها الأفضل لها، إذاً: يكون لوقتها بداية: وهو ارتفاع الشمس قدر الرمح، ونهاية: وهو قبل الزوال، وفضيلة: وهو وسطها عندما ترمض الفصال.
وهناك قد يجد الإنسان بعض التفاصيل بين صلاة الإشراق وصلاة الضحى، فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (من صلى الفريضة -أي: الصبح- وجلس في مكانه لا يتكلم بشيء من أمور الدنيا حتى أشرقت الشمس، فصلى ركعتين كان كحاج معتمر، ومن صلى ركعتي الضحى كان كمعتمر) إذاً: يوجد صلاة إشراق، وصلاة ضحى! قالوا: اللغة فيها: ضحى وضحىً وضحاء، ممدود ومقصور، وقالوا: ضحوة النهار أوله، والضحى وسطه، والضحاء قريب الزوال، هكذا تقول كتب اللغة، فيكون الإشراق أوائل شروق الشمس، وهو أول ما يمكن أن تصلى فيه الضحى لمن كان جالسا ًبعد الفريضة، وطلعت الشمس، فصلى ركعتين ورجع إلى بيته، يليه بعد ذلك سنة الضحى وهي مستقلة.
وبعض العلماء يقول: سنة الإشراق وسنة الضحى سواء، أو أحدهما تجزئ عن الأخرى، إن صلى الإشراق أجزأته عن الضحى، وإن صلى الضحى أجزأته عن الإشراق، ولكن الإشراق مشروط بأن يصلي الصبح ويبقى في مصلاه، وهذه لها حكمة، لم يقل: في مكانه، لكن: (مصلاه) والمصلى: قد يطلق على اسم المكان الذي هو موضع الصلاة، يعني: صلى في الصف الأول وبقي في مكانه في الصف الأول، ومصلاه يطلق أيضاً لغة على عموم المسجد، كقولهم: هذا مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعضهم يقول: مصلاه بالمعنى الضيق المحدد الذي جلس فيه، يعني: لا يقوم ويذهب يدور يميناً ولا يساراً، ولا ينتقل من مكان إلى مكان، وهذا ما يشهد له فعل الصديق رضي الله تعالى عنه، كان يصلي الصبح ويجلس، فإذا ما طرأ له ما يقتضي القيام وضع رداءه، وقال: انتظروا سأعود، فبعض الناس نظر فإذا لا يوجد أحد عنده، فلما رجع قال: تخاطب من بقولك: (انتظروا سأعود) وما عندك أحد؟ قال: عندي، قال: من؟ قال: الملائكة، هم جلساء يسمعون الذكر، وأنا طرأت لي حاجة تجديد الوضوء حتى لا ينصرفون عني ويحسبون أني ذهبت، فأعلمهم أني راجع إن كان لهم رغبة بالبقاء بقوا.
فمعنى في مصلاه أي: المكان الذي صلى فيه، وهذا يدل على الالتزام والمداومة، أما لو كان يطلق المصلى على عموم المسجد فإنه يستطيع أن يذهب هنا أو هنا كأنه ليس عنده ثبات أو استقرار، وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.(83/4)
شرح حديث: (من صلى الضحى اثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصراً ... )
[وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى الضحى اثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصراً في الجنة) رواه الترمذي واستغربه] .
سبحان الله! ما أعظم الجنة، وما أعظم نعيمها! قصر في الجنة باثنتي عشرة ركعة، قد يقول إنسان: الجنة رخيصة أم الاثنتا عشرة ركعة غالية، ماذا تقولون؟ الجنة والله ليست رخيصة! (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها) إذاً: الجنة ليست رخيصة، عرفنا قيمتها، والسوط الذي هو نصف متر حتى لو كان مربعاً خير من الدنيا وما فيها من قصور ومن فلل ومن ومن إلخ.
إذاً: الثمن يعادل المثمن، {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة:111] ، هذا ثمن غالٍ جداً النفس والمال ثمن للجنة، ولكن أيضاً المنعم بالنفس وبالمال هو الذي اشتراها، يعطيك ويشتري منك.
إذاً: المسألة إكرامية من الله بأن يعطيه الجنة، إذاً: هذا يغلي قيمة ركعتي الضحى، ما دام أن المثمن غالٍ إلى هذا الحد يكون الثمن بالتالي مساوياً، وأين المساواة هنا؟ إذا أردنا أن نقرب الموضوع نأخذ الحديث الثاني وإن كان أضعف سنداً: (من صلى ركعتين لم يكتب من الغافلين، من صلى أربعاً كتب من الأوابين، من صلى ثمان غفر له ذنبه، من صلى اثنتي عشرة ركعة بني له قصر في الجنة) إذاً: هذا الذي سيداوم على اثنتي عشرة ركعة في الضحى هل نتوقع منه الغفلة عن ذكر الله؟ لا، إذا كان في غير وقت الصلاة يصلي الضحى هل يترك صلاة من الصلوات الخمس؟ ليس معقولاً أن يحافظ على النوافل ويضيع الفرائض! إذاً: هذا بيان وتقوية وتشجيع وندب للشخص أن يداوم على الصلاة المفروضة، ثم بالتالي يصلي النوافل.(83/5)
شرح حديث: (صلى الضحى ثماني ركعات في بيت عائشة)
قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي فصلى الضحى ثماني ركعات) رواه ابن حبان في صحيحه] الحديث الذي مضى عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (ما كان يصلي إلا إذا أتى من مغيبه) وهنا تقول: (دخل بيتي وصلى ... ) هل هناك تعارض؟ ليس هناك تعارض، ممكن أن نقول: دخل من مغيبه فصلى، كم صلى؟ ثماني ركعات، أو نضيف هذا إلى الأحاديث التي فيها مشروعية الضحى، ويكون عن أم المؤمنين أربعة أحاديث بدلاً من ثلاثة، ويهمنا أنها أضافت إلى الأربع المتقدمة: (ويزيد ما شاء الله) ، يبقى ثبت عندنا ركعتان، وأربع، وثمان، واثنتا عشرة، وبالله تعالى التوفيق.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(83/6)
كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة [1]
إن للصلاة أهمية عظيمة في دين الإسلام، فهي الركن الثاني من أركانه، ولما لها من أهمية فقد حث الشارع على تأديتها بأكمل وجه وأحسن هيئة، وإن أكمل وجه وأحسن هيئة لأداء الصلاة تتمثل في صلاة الجماعة؛ فلذا ترى الترغيب والحث على تأدية الصلاة في جماعة، وترى أيضاً الترهيب والتهديد في ترك الجماعة، حتى إن بعض العلماء قال بشرطية الجماعة للصلاة، فلا تصح الصلاة عنده إلا بجماعة، وبعضهم قال: من ترك الجماعة صحت صلاته منفرداً، ولكنه يأثم بتركه للجماعة وبعضهم قال: هي سنة مؤكدة.
والله تعالى أعلم.(84/1)
أحكام صلاة الجماعة(84/2)
أهمية صلاة الجماعة وفضلها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) متفق عليه] .
قدم المؤلف رحمه الله تعالى في هذا الكتاب المبارك أبواب الصلاة، وما يلزم لمقدماتها من الطهارة واللباس، وبيان الأوقات، والأذان والإقامة، ثم صفة الصلاة من حيث هي، وأتبع ذلك بتوابعها من النوافل الراتبة معها، وأتبع تلك الرواتب التابعة للفرائض بالرواتب المطلقة، كما جاء في الوتر وفي الضحى.
وهنا يأتي إلى باب من أهم أبواب الصلاة، وهو ما يتعلق بأداء الصلوات الخمس في جماعة، والجماعة مشروعة للصلوات الخمس، ولبعض الصلوات الأخرى كالجنازة والاستسقاء والكسوف وقيام الليل في التراويح خاصة في رمضان، وما عدا ذلك تكون فرادى.
فهنا بدأ المؤلف رحمه الله بهذا الحديث، وهو نص عند العلماء في فضل صلاة الجماعة، ويريد أن يبين كما بين غيره أن صلاة الجماعة لها فضيلة على صلاة الفذ، والفذ المنفرد.
فالإنسان قد يصلي وحده لعذر، أو لضرورة، كمن هو في سفر وليس عنده أحد، أو لمرض في البيت، إلى غير ذلك.
وكذلك بعض النوافل، خاصة نوافل البيت يصليها وحده.
ولكن الجماعة قد شرعت، فما مدى مشروعية هذه الجماعة للصلوات الخمس؟(84/3)
تعدد الروايات المعيِّنة لفضل صلاة الجماعة
المؤلف كغيره يسوق هذا الحديث: (فضل صلاة الجماعة) أو (تفضل) ، أو: (تزيد) ، أو (تضاعف) -كل هذه ألفاظ قد وردت بها الروايات- على صلاة الفذ سبعاً وعشرين درجة، وفي رواية: خمساً وعشرين درجة.
وابن عمر رضي الله تعالى عنهما انفرد برواية (سبع وعشرين) ، وأبو هريرة وأنس وغيرهما يروونه بلفظ: (بخمس وعشرين) والجمهور: على صحة حديث ابن عمر: (بسبع وعشرين) ، فقوم يقولون: الزيادة من الثقة مقبولة، والسبع والعشرون تتضمن الخمس والعشرين وزيادة، والبعض الآخر يقول: هذه زيادة من ثقة خالف فيها الثقات، فتعتبر في عرف علماء الحديث من الروايات التي تسمى شاذة، وهو ما خالف الثقة به الثقات.
والخمس والعشرون متفق عليها، وهي ضمن السبع والعشرين.
أما فقه الحديث ففي قوله: (صلاة الجماعة) والجماعة تصح باثنين إمام ومأموم، حتى قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: إن الجمعة تصح بثلاثة أشخاص؛ لأن الله تعالى قال: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] ، فالنداء لا بد له من منادٍ، وذكر الله الذي نسعى إليه لابد له من شخص يذكر الله، وهو الإمام، والساعي إلى ذكر الله هو المأموم، فتم العدد: بمنادٍ للصلاة، وإمام يؤم، ومأموم يأتم.
فقالوا: تنعقد الجماعة في الصلوات الخمس بإمام ومأموم ولكنهم يختلفون في حقيقة المأموم، فإذا كان المأموم صبياً ليس ببالغ، وهو مميز يدرك معنى الصلاة، وقد أُمر بواسطة وليه بقوله عليه الصلاة والسلام: (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر) فهل تصح هذه الجماعة وتنعقد؟ وكذلك إذا كان المأموم امرأة، والمرأة لا تجب عليها الجماعة، ولكن إذا حضرتها صحت منها، وقالوا في المملوك والمرأة والمسافر: ليست عليهم جمعة.
وهو قول الجمهور، فإذا حضرها أحدهم اعتبرت منه وصحت.
هل يكمَّل به العدد عند من يقول بعدد معين أم لا؟(84/4)
فضل صلاة الجماعة وصحة صلاة المنفرد
يقول ابن دقيق العيد: هذا الحديث ابتداءً يدل على عدم فرضية الجماعة، وذلك أن (أفعل) التفضيل تقتضي المشاركة في شيء وزيادة أحد المشتركين في هذا الأصل الذي يجتمعان فيه، وقال: إن الحديث فيه إثبات الفضل للفذ والأفضلية للجماعة، فلو لم تكن صلاة الفذ صحيحة لما كان لها فضل؛ لأن الباطل لا فضل فيه، وإذا لم يكن فيها فضل فلا تصح المفاضلة بينها وبين غيرها؛ لأن ما لا فضل فيه لا يقارن بغيره.
فهذا الحديث يثبت أن صلاة الفذ لها فضيلة، وبالتالي تصح، وصلاة الجماعة لها فضيلة، ولكن صلاة الجماعة تزيد فضيلتها عن صلاة الفذ، ثم ناقش في الأفضلية مباحث أخرى طويلة.
وبقي عندنا ألفاظ الحديث المختلفة: (سبع وعشرين درجة) ، (بخمس وعشرين جزءاً) ، (بخمس وعشرين ضعفاً) .
أما الضعف فلا يتعارض مع الدرجة ولا الجزء؛ لأن ضعف الشيء ما يساويه ويتكرر ضعفين، أو ثلاثة أضعاف، أو أضعافاً كثيرة.
وبقي التفريق بين الدرجة والجزاء، قالوا: الدرجة أعلى من الجزء وقالوا: الدرجة في الجهرية والجزء في السرية.
وقالوا في (سبعٌ وعشرون) و (خمس وعشرون) : سبع وعشرون في الليلية، وخمس وعشرون في النهارية، ويزيد الفضل في كثرة الجماعة، وفي أفضلية المكان، وغير ذلك.
فإن فضل الجماعة يختلف، فكلما كثر العدد زاد الفضل؛ لأن كل مصلٍ يدعو ويُشرك غيره في دعائه، وذلك بقوله: اللهم اغفر لنا، اللهم ارحمنا، اللهم عافنا، وكذلك الإمام يدعو للجميع، فكلما كثر العدد زاد الفضل، وقالوا: المسجد القديم، والمسجد الذي فيه إمام راتب من ولي الأمر يزيد الفضل فيه عن غيره.
وقال العلماء: هذا الحديث -حديث ابن عمر - لا يستدل به على وجوب الجماعة، ولكن يستدل به على فضيلتها، والأفضلية لا تقتضي الوجوب، فما هي الفضيلة؟ إنها تفضل صلاة الفذ سبعاً وعشرين أو خمساً وعشرين درجة، أو جزءاً، أو ضعفاً.
فلا ينبغي للإنسان أن يحرم نفسه من هذا الفضل بأن يقصر في تحصيله، وحكم صلاة الجماعة سيأتي الحديث عنه في الحديث الذي يلي هذا.
فنأخذ من هذا الحديث أفضلية صلاة الجماعة، ونأخذ بما قاله ابن دقيق العيد، ففيه تنبيه وإيماء إلى صحة صلاة المنفرد، مع أنها تنقص عن فضيلة الجماعة، وهذا حدنا في هذا الحديث، وتتمة الكلام عن صلاة الجماعة إنما هي مستوفاة عند الحديث الآتي إن شاء الله.
قال: [ولهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (بخمسة وعشرين جزءاً) ، وكذلك للبخاري عن أبي سعيد وقال: (درجة) ] .
أبو هريرة وأبو سعيد الوارد عنهما في الصحيحين: (بخمس) ، (جزءاً) ، و (درجة) ، كل ذلك لا بأس به، لكن يهمنا أن المؤلف يسوق في رواية أبي هريرة وأبي سعيد الخدري (بخمس) ، ولذا قالوا: لم يرو السبع والعشرين إلا ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، إلا أن الاختلاف في خمس وسبع أمر يُتجاوز فيه، ولا يتعارض في الفضيلة.(84/5)
التهديد في ترك صلاة الجماعة
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً، فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقا سميناً، أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء) متفق عليه، واللفظ للبخاري] .(84/6)
اختلاف العلماء في حكم صلاة الجماعة
هذا الحديث -حديث أبي هريرة - اختلف فيه العلماء، فمنهم من قال بوجوب الجماعة، ومنهم من قال بعدم وجوبها.
ثم اختلف القائلون بوجوبها، فمنهم من قال: هي شرط في صحة الصلاة، بحيث لو صلى منفرداً بطلت صلاته ومنهم من قال: هي واجبة، ولكن ليست شرطاً في الصحة، بل هي واجبة بذاتها.
بمعنى أنه: لو صلى منفرداً يكون قد ترك واجباً آخر وهو الجماعة، فتكون الصلاة صحيحة مسقطة للفرض، وهو آثم بترك واجب.
فمن العلماء من يقول: هي واجبة وجوباً عينياً ومنهم من يقول: هي واجبة وجوباً كفائياً ومنهم من يقول: ليست بواجبة، ولكنها سنة.
والذين قالوا: هي واجبة وجوباً عينياً انقسموا إلى قسمين: قسم قال: واجبة وجوباً عينياً وهي شرط في الصحة، فلو صلى بغير الجماعة بدون عذر، فصلاته باطلة؛ لفقدانها شرطاً من شروط الصلاة.
والقسم الثاني يقولون: هي واجبة بذاتها، فإن صلاها منفرداً صحت، ولكنه ترك واجباً فهو آثم بتركه.
والجمهور على أنها سنة.
والحديث لـ أبي هريرة رضي الله تعالى عنه يقول فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لقد هممت) .
وغير المؤلف يذكر مقدمة للحديث، منهم صاحب عمدة الأحكام في المتفق عليه بين الشيخين، وتلك المقدمة التي تركها المؤلف ينبني عليها معرفة الحكم، أو لها دخل في تحقيق المسألة، وذلك أن أول الحديث فيه: قال صلى الله عليه وسلم: (إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بالصلاة فينادى لها، ثم آمر برجل يصلي بالناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم) ، أو (إلى رجال لا يشهدون الصلاة) ، أو (إلى رجال يتخلفون عن الجماعة بلا عذر) ، وبعض الروايات: (لولا ما في البيوت من النساء والصبيان) .
فيقول بعض العلماء: أصل السياق في المنافقين (أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر) .
ويقول ابن دقيق العيد رحمه الله: خصت العشاء والفجر لأحد أمرين: إما لأنهما في الظلام والمنافق إنما يرائي الناس في الصلاة، كما قال تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ} [النساء:142] ، فالعشاء والصبح تكونان في ظلام لا يرى أحد أحداً، فما دام لا أحد يراه فلن يذهب للصلاة، لكن الظهر تؤدى في النهار، وكذلك في العصر والمغرب الناس موجودون، فسيرائي في صلاته.
والأمر الآخر أنه إذا كان الوقت صيفاً، وجاءت صلاة العشاء كان ذلك بداية برودة الجو بعد عناء في نهار الصيف؛ فيكون أدعى إلى الراحة والخلود، وفي الفجر يقصر وقت الليل، ثم مع قصر الليل يكون ليل الصيف في آخره أبرد، فهو أدعى إلى الخلود والراحة في الفجر.
وإذا كان الشتاء فإن وقت العشاء مع قصر النهار وظلمة الليل وشدة البرد يخلّد إلى السكون، ومع طول الليل يشتد البرد، وهذه دواعي الجلوس والترك، ومن هنا كان الوعيد على الفجر والعشاء أشد؛ لأنهما يكتنفان بعوامل القعود والترك، ولذا جاء التحريض على هاتين الصلاتين بقوله صلى الله عليه وسلم: (من صلى العشاء في جماعة، فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله) .
وإن كان النص قد جاء في صلاة العصر: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسطى} [البقرة:238] .
وفي رواية الموطأ أن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها عندما طلبت من الكاتب أن يكتب لها مصحفاً قالت: إذا وصلت إلى هذه الآية فآذني فآذنها فأملت عليه: (والصلاة الوسطى صلاة العصر) .
فهذه يعتبرها علماء التفسير من الروايات المفسرة للمعنى، وليست زيادة في القرآن، ولهذا لا تكتب عندهم في صلب المصحف، وإنما على الهامش على أنها مفسِّرة لماهية الصلاة الوسطى؛ لأننا وجدنا خمسة أقوال في الصلاة الوسطى، منهم من يقول: هي الصبح لأهميتها وثقلها ومنهم من يقول: هي العشاء لأهميتها وثقلها ومنهم من يقول: هي المغرب لأنها وتر النهار ومنهم من يقول: هي العصر، كما جاء في الرواية.
ومنهم من يقول: هي الظهر لأنها وقت القيلولة فالأقوال متعددة.(84/7)
معنى هم النبي صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت المتخلفين عن الجماعة
فمقدمة الحديث قوله: (أثقل الصلاة على المنافقين الصبح والعشاء) ، وهذا السياق وهذا الوعيد قالوا فيه: لقد توعد وهمَّ، فقال: (والذي نفسي بيده لقد هممت) ، والهمَّ -كما يقال-: العزم المؤكِّد، والهمُّ قد يكون حديث النفس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة) ، فهنا الهم العزم والرغبة، لكن هذا الهم بالحسنة أو بالسيئة والرجوع عنها ليس بالعزم القاطع، بخلاف ما جاء في الهم القاطع الذي لا يمنعه عنه إلا ما هو فوق قدرته.
يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قيل: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه) أي: عنده هم وعزم مؤكد.
وهنا يتكلم المفسرون رحمهم الله في قصة يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام مع امرأة العزيز، حيث قال تعالى عنه: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24] فقالوا: همها هي من النوع المؤكد القاضي، ولذا لم يمنعها من تنفيذ ما أرادت إلا أن: {أَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف:25] ، ولحقته وشقت قميصه، وهمّه هو بها ليس من هذا، وإنما من خطرات النفس؛ لأنه رجل مكتمل الرجولة، وليس عنيناً أو لا إرب له، وإلا لما كان له فضل في ذلك، فنوازع النفس الفطرية خطرت في باله، لكنه راجع نفسه، أو لم يقدم، أو لم يعزم، أو لم يصل الفكر النفسي معه إلى ما وصلت إليه هي؛ لأنه رأى برهان ربه.
وإذا كان الأمر كذلك فالهم همان: همٌ هو عزم قاطع، وهمٌ هو خطرة على بال، كالواحد يكون في رمضان وفي شدة الحر يرى الماء البارد أمامه، فإن العين تنظر، والخواطر تخطر، لكن مهما خطر على البال، فإنه يضع يده في الماء البارد، ويتمنى لو جاء المغرب، ولكن يعلم بأن هناك مانعاً، فهو يعلم بأن الله سبحانه وتعالى هو المطلع عليه، فيرى برهان ربه، فلا يتناول ذلك الماء.
وعلى هذا فقوله: (لقد هممت) ، من أي أنواع الهم؟ أهو خطرة البال أم العزم المصمِّم؟ إنه العزم المصمِّم؛ لأنه لم يقتصر على هم النفس، إذ كانت هذه خطة مرسومة، ولذا قال: (يُنادى للصلاة) وقال: (آمر رجلاً فيؤم الناس) ، وقال: (أخالف برجال معي بحزم من حطب فأحرق) ، فهذا هم مؤكد وعزم، لكنه رأى موانع ذلك فقال: (لولا ما في البيوت من النساء) ، وهؤلاء لا ذنب عليهم؛ لأنهم لا جماعة عليهم.
فالهم مصمِّم مؤكد، ولكن هناك موانع منعت من فعله.(84/8)
تحقيق الخلاف في حكم صلاة الجماعة
الذين قالوا: الصلاة فرض عين، قالوا: وهل يهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريق أناس على ترك سنة؟ إذ لا يجوز هذا.
ويقول الآخرون: نعم هم ولكن لم يحرق.
وهو مثل قوله: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) ، وما أمرهم، فالسواك سنة.
وقوله: (إنه لوقتها، لولا أن أشق على أمتي) فما كلفهم به.
فالقائلون بأنها واجبة على الأعيان قالوا: هم رسول الله بأن يحرق أقواماً، وهذا تعذيب شديد، ولا يتأتى أن يهم بفعل هذا على أمر مسنون.
ومنهم من يقول: هي فرض كفائي، والفرض الكفائي لو قام به البعض سقط عن الباقين.
ويقول المالكية: لو أن أهل قرية تركوا الأذان لقاتلهم الإمام عليه، ولو أن قوماً تركوا الجماعة في المساجد لقاتلهم الإمام عليها، فإذا قام به بعضهم كأن يكون شخص يؤذن في القرية كلها سقط عن الجميع.
فقالوا: إذا قالوا: هي فرض كفائي فالفرض الكفائي حاصل برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يصلي معه، ولا يتوقف على المتخلفين في بيوتهم! فالقول بأنها فرض كفائي لا دليل له.
وكونكم تقولون سنة فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يحرق بالنار على ترك سنة.
فهؤلاء يستدلون بنفس الحديث على أنها فرض عيني لهمه صلى الله عليه وسلم الصادق بأن يوقع هذه العقوبة الشديدة، ويتبعون البحث بالتأديب بالمال، حيث يحرق البيوت وما فيها.
ففي غزوة تبوك النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن رجلاً اسمه سويلم من المنافقين، له بيت في قباء كان يجمع الناس هناك، ويبث الدعاية للتثبيط عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، فعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه ثلاثة أن: أحرقوا عليهم الدار فذهب الثلاثة ومنهم رجل من جيران هذا الرجل، فدخل بيته وأخرج شعلة من النار ودخل بها إلى البيت وأشعل فيه النار، حتى إن بعضهم فر وسقط من فوق السطح وانكسرت رجله.
فيمكن أن توقع العقوبة بقدر الخطر الذي يرتكب، وأيضاً لا مانع من جمع العقوبة المالية مع البدنية.
ولذلك قال الذين قالوا: هي سنة: السياق في المنافقين، فيكون تحريق البيوت على نفاقهم، لا على تركهم الجماعة.
وأجاب الآخرون وقالوا: لا، فما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهتم بأمر المنافقين؛ لأنه أمر فرغ منه.
ولذا قال له عمرو -في بعض المواقف: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فيقول صلى الله عليه وسلم: (دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) .
فقالوا: لا يقتلهم على النفاق لأنه عرف أمرهم، ولم يعاتبهم ولم يعاقبهم عليه، بل ترك أمرهم إلى الله.
لكن يقال من جانب آخر: هم التزموا بالإسلام ظاهراً، وبه عصموا دماءهم وأموالهم، واستحقوا المواريث من المسلمين ومصاهرتهم، واستحقوا السهم في الغنيمة إذا قاتلوا معهم، فيلزمون بحق الإسلام، فإذا حرق عليهم البيوت فليس على النفاق، ولكن على ظواهر أعمال الإسلام.
وقال الذين قالوا هي سنة: كيف يذهب صلى الله عليه وسلم ومعه غلمان --وقيل: هم عشرون- ويترك الجماعة لرجل يصلي بالناس؟ فبما أن الجماعة فرض عين فكيف يجوز لهؤلاء ترك الجماعة؟! فلماذا لا يصلون أولاً، ثم بعد أن يصلوا يذهبون لإحراق البيوت على أولئك الناس؟ فقال أولئك الآخرون: وما الذي يمنع؟ فوقت الصلاة موسَّع، فهؤلاء يصلون بالناس المجتمعين، وهؤلاء يذهبون لتنفيذ مهمتهم، وبعد أن ينتهوا يصلون جماعة، وهم جماعة بأنفسهم، ولا مانع من صلاة الجماعة مرة ثانية لتنفيذ المهمة.
فكل فريق يحتج بجانب، ويجيب عليه الفريق الآخر بجانب آخر.
ثم قالوا: أرأيتم أهل الأعذار! هل الجماعة في حقهم فرض عين؟ قالوا: لا، لأن العذر يسقطها، وما كل عذر يسقط الجماعة، فالرجل الأعمى الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! أنا بعيد الدار، وأخشى الهوام، وليس لي قائد فائذن لي أن أصلي في بيتي فأذن له، فلما ولى دعاه وقال: (هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم، قال: فأجب) .
قالوا: ما هي الأعذار بعد هذا؟! أعمى لا يجد من يقوده في ظلام الليل! قالوا: هذا رجل يعرف الطريق متردد عليه لا يحتاج إلى قائد، بدليل أنه كان يأتي إلى المسجد قبل ذلك، وبعض العميان قد يدل على الطريق، ولذا يقول الشاعر: أعمى يقود بصيراً لا أبا لكم قد ضل من كانت العميان تهديه فقالوا هذا الأعمى لا دليل فيه، ثم لما رخّص له ابتداءً عرفنا أنها ليست بواجبة، ولما أمره بعد الرخصة كان الأمر للندب، وليس للوجوب وأما قوله: (والذي نفسي بيده) فهو قَسَم كان يقسم به صلى الله عليه وسلم عند الاهتمام بالأمر، وعرفنا أن للحديث مقدمة، ولها دخل في معنى الحديث، والذين قالوا إنها سنة، قالوا: سيق الحديث في أمر المنافقين، ولأن نهاية الحديث: (لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً أو مرماتين) والمرماة: اللحم اللين الرقيق بين الضلعين، فالغشاء الذي يربط بين الضلوع يسمى (مرماة) ، فكما تقول: يُرمم البنيان.
والعرق: وصلة اللحم التي بين ظلفي الشاة، يعني: لو كان يعلم أنه يجد شيئاً ضئيلاً لخرج إليه.
فهل من صفات المؤمن أنه يفضل مرماة على صلاة الجماعة، أم أن ذلك من صفات المنافق؟! إن المؤمن لا يعادل بالجماعة شيئاً، حتى كنوز الدنيا، ولا يفاضل بين الجماعة ومرماة اللحم إلا منافق.
فالحديث سيق في أي شيء؟ قالوا: الحديث سيق في الوعيد والتهديد، وللحاكم أن يهدد بما لا يفعل.
وقالوا: القاعدة أنه إذا وُجِد خطر لا تأتي بأقوى أنواع رده، بل تتدرج، فلو صال عليك صائل من حيوان أو إنسان، وأتى من بعيد يهدد ويسخط ويسب ومعه العصا، أتأخذ بندقية وترميه، وتقول أدافع عن نفسي؟ فعندما يأتيك إنسان معه عصا أو سوط يقود بها دابة لا تقابله بعصا غليظة تقتل وتهشم العظم، وتقول أدافع عن نفسي، بل تدفعه عنك بالتدرج، فتعده وتتوعده، وتهدده بيدك، أو بعصاً مثل عصاه.
فالتدرج في الوعيد مطلوب، وللإمام أن يهدد بما لم يفعل زجراً وتخويفاً، كما يقال: (علِّق سوطك حيث يراه أهلك) .
وهنا الرسول صلى الله عليه وسلم حين أعلن هذا الوعيد الشديد فإن إعلانه سيصل إلى أولئك في بيوتهم.
قالوا: لقد انزجروا بالوعيد أو قال ذلك ولم يفعل لينتظر أثر الوعيد والتهديد بالقول، فأثمر فانتهوا وتركوا، فلم تكن هناك حاجة للتحريق بعد هذا.
ثم حديث التحريق وحديث المفاضلة أيهما أسبق؟ لقد ادعى من قال: إن الجماعة سنة أنه كان الأمر الأسبق بالوجوب، ثم نسخ بالمفاضلة (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة) ، وانتهى أمر التحريق.
وبعد هذه المقدمة -وهي خلاصة لما يقال في هذا الموضوع- نرجع إلى كلام الأئمة رحمهم الله.
فنجد المالكية والأحناف يرون أنها سنة مؤكدة، ونجد عن أحمد رحمه الله ثلاث روايات، يذكرها صاحب الإنصاف، والأولى بطالب العلم أن يقف عليها، فرواية أنها واجبة، أي: الجماعة الواجبة، لكنها ليست شرطاً في صحة الصلاة، ويقول صاحب الإنصاف: إن هذا من مفردات المذهب.
والرواية الثانية: أنها فرض كفائي؛ لأنها شعار للمسلمين في إظهار الجماعة.
والرواية الثالثة: عن أحمد: أنها سنة، كقول الجمهور.
والمشهور عند الشافعية أنها سنة، ويذكرون عن الشافعي رواية في الأم أنها فرض كفائي، فلم يقل: إنها واجبة وجوب عين واحد من الأئمة الأربعة، ولكن قال بذلك داود الظاهري وطاوس، وبعض أهل البيت وغيرهم، وهو قول خارج عن نطاق المذاهب الأربعة.
ولكن جاء عن ابن مسعود قوله: (من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هذه الصلوات الخمس حيث ينادى بهن، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا الرجل المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم) .
وجاء حديث -وقد تكلموا في سنده-: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) ولكن نرجع إلى العمومات، وهي حاجة المسلمين إلى الاجتماع والوحدة، بل إن معاذاً في أثره يقول: (ولا يقولن أحدكم: إني أصلي في بيتي! إنكم إن فعلتم ذلك تكونون قد تركتم هدي نبيكم) .(84/9)
الأعذار المبيحة لترك صلاة الجماعة
من ظلمه ظالم، أو كان من طلب ظالم، أو مديناً في دين ولا يستطيع مواجهة الدائنين فإنهم، قالوا: هذا معذور فقد ارتكب أخف الضررين، والله يعفو عنه أو كان مريضاً لا يستطيع الذهاب إلى المسجد، وقد جاء عن ابن مسعود: (كان يؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف) ، والمصطفى صلوات الله وسلامه عليه في آخر الأمر جاء يهادى بين علي والعباس تخط قدماه في الأرض، حتى استوى إلى الصف وجلس.
ومن آكد ما سمعت في ذلك قول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في معرض الكلام على صلاة الخوف، قال: لو أن الصلاة -وهي وفرض- تسقط بشيء لسقطت في القتال، ومع ذلك والرءوس تتطاير تؤدى، فإن كانوا مقيمين ولا قتال، ولا فر ولا كر في أرض المعركة قسم الإمام الجماعة قسمين: قسم لحراسة العدو، وقسم يصلي معه، وهذا مما يدل على وجوب الصلاة، وأنها لا تسقط بحال من الأحوال، وقالوا: إنها لا تسقط مادام العقل موجوداً وعنده إدراك.
وتقدم في صفتها: (صل قائماً، فإن لم تستطع فجالساً ... ) فكل ذلك يدل على وجوب الصلاة.
ونحن نقول: صلاة الخوف نجد فيها الجماعة بقدر المستطاع، ولا تسقط الجماعة في صلاة الخوف إلا إذا دخل وقت الصلاة وهم في حال الكر والفر، ولا يمكن أن يقع اجتماع ولا إمامة، فكلٌ يصلي لنفسه على حالته مستقبلاً الشرق أو الغرب أو الشمال أو الجنوب، ولا مانع في ذلك.
وعلى هذا فأقل ما يقال: في ذلك العناية بالجماعة.
قال داود الظاهري وطاوس وغيرهما: إنها واجب عيني، وشرط في صحة الصلاة، ومن صلى منفرداً بغير عذر فلا تسقط فريضته.
يليهما أحمد في رواية عنه أنها: هي واجب عيني، وليست شرطاً في صحة الصلاة، فتصح صلاة المنفرد دون الجماعة، وهو آثم بترك الواجب، كما قال أبو حنيفة رحمه الله في الطواف، قال: الطهارة شرط، لكن ليست شرطاً في صحة الطواف، فيصح طوافه، وعليه دم لتركه واجباً وهو الطهارة، فللصلاة نظير أيضاً عند غير أحمد.
فعند أحمد أنها فرض عين، ولكن ليست بشرط صحة، ورواية أنها فرض كفائي، ورواية أنها سنة كما يقول الجمهور.
وعند الشافعي: هي فرض كفائي، وجمهور الشافعية على أنها سنة مؤكدة.
ومالك وأبو حنيفة -رحم الله الجميع- على أن الجماعة سنة، وليست بواجب.(84/10)
علة المضاعفة إلى خمسة وعشرين أو سبعة وعشرين ضعفاً
يقول الشوكاني في نيل الأوطار: إن عدد السبع والعشرين سر من أسرار النبوة وقد بحث ابن حجر في فتح الباري أوجه كون هذا العدد خمسة وعشرين أو سبعة وعشرين وسبب ذلك، فمن أراد فليرجع إليه، وفي فتح الباري ذكر أقوالاً عديدة، والواجب على طالب العلم أن لا يقول: هذا ترف علمي، ولكن يقول: هذا منهج علمي، وننظر إلى أي مدى بذل العلماء الجهد في توطيد المسائل بين يدي طالب العلم.
وفي الحديث: (صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه بخمسة وعشرين ضعفاً، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة) .
فأراد بعض العلماء معرفة موجب التضعيف إلى الخمسة والعشرين.
ثم ذكر عشرة أو اثني عشر وجهاً، ومنها أنه قال: عزمه عندما سمع النداء بأن يجيبه طاعة، والعزم على إجابة المؤذن طاعة، فأجاب المؤذن فيما قال، وأسبغ الوضوء.
ومشى إلى المسجد، ثم دخل المسجد وصلى تحية المسجد، ثم وقف ينتظر الإمام حتى يقيم، ثم ائتم بالإمام وأمَّن وراءه، أو اشترك في تأمينه، وسمع القراءة في الجهرية، واشترك مع الإمام في هذا الجمع، ثم تعرف على إخوانه، وتآلف مع الآخرين، ورجع من المسجد إلى البيت ماشياً، فهذه حسنات، وكل واحدة تساوي درجة من صلاة الفذ؛ لأن الفذ ليس عنده شيءٌ من ذلك.
وبعضهم يقول: إن أقل الجماعة ثلاثة، وكل واحد من الثلاثة نوى الجماعة بغيره، وغيره نيته الجماعة بغيره، فيكون هنا ثلاثة أشخاص لهم نية جماعة، والحسنة بعشر أمثالها، فتصير ثلاثين حسنة.
وأحسن ما يقال في هذا الحديث أنه يتهيأ إلى الصلاة، ولأنه منذ أن يسمع النداء أو يعلم دخول الوقت يتوجه بفكره إلى أداء الواجب، ثم يسبغ الوضوء، وإن كان الإسباغ مشتركاً في كل الصلوات، ثم يخطو الخطوات إلى المسجد، وجاء في الحديث الآخر أن له بكل خطوة حسنة أو درجة، وتمحى عنه سيئة، فلا يأتي المسجد إلا وقد محيت خطاياه، وتكون الصلاة نافلة له.
وهناك أيضاً حديث الوضوء، وإن كان أعم من ذلك: (إذا توضأ العبد المسلم -أو المؤمن- فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء) فجاء الحديث في تكفير الذنوب المقترفة بهذه الحواس.
ولعلنا بهذا ندرك أن كون الوضوء في هذه الأعضاء لأنها الحواس والجوارح المكتسِبة، فالظهر لم يكتسب شيئاً، والرأس لم يكتسب شيئاً، لكن العين والأنف والفم واليد والرجل كلها تكتسب، فيكون غسلها بماء الوضوء غسلاً لآثار ما اكتسبت واجترحت من سيئات.
فهذه ناحية لمن أراد من طلبة العلم أن يقف عليها، ولا أقول: الوصول إلى تحقيق الغاية، أو تحقيق المناط في تضاعف صلاة الجماعة سبعة وعشرين، ولكن إلى ما حاول الفقهاء رحمهم الله أن يستنتجوه أو يرسموه؛ ليكون نوعاً من أنواع استنتاج الأحكام أو تعليلها.
ونعلم قصة الشافعي رحمه الله في حديث: (يا أبا عمير! ما فعل النغير؟) ، فقد بات ليلة كاملة صلى فيها الفجر بوضوء العشاء يفكر في هذا الحديث، ويقول: لقد استخرجت منه أربعين مسألة فقهية.
فعلينا أن نطرق أبواب العلماء فيما بوبوه في كتبهم لننظر فيما ادخروا لنا في تلك الخزائن النفيسة.
قال صلى الله عليه وسلم: [وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً) ] .
هذا النص صريح بأن الثقل: على المنافقين، والهم: بالتحريق كان أيضاً موجهاً على المنافقين.
ونكتفي بهذا القدر، ونسأل الله تعالى لنا ولكم الهداية والتوفيق.(84/11)
كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة [2]
إن دين الإسلام مبني على التيسير، لذلك جعل أعذاراً مبيحة لترك صلاة الجماعة، وهذا يعني أن العذر لا يكون مبيحاً لترك شيء إلا لكونه مؤكداً في حق المكلف، ولذلك اختلف العلماء في الجماعة هل هي شرط في صحة الصلاة، أم أنها واجبة، أم أنها سنة مؤكدة.(85/1)
تابع أحكام صلاة الجماعة(85/2)
استئذان الأعمى ودلالته الفقهية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعنه قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال: يا رسول الله! إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فرخّص له، فلما ولّى دعاه، فقال: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم.
قال: فأجب) رواه مسلم] .
هذا الحديث من أقوى أدلة من يقول: إن الجماعة إنها واجبة على الأعيان، ثم ننظر هل هي شرط صحة، أم هي واجب مستقل؟ قالوا: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى، وهذا الوصف قد اعتبره الله سبحانه وتعالى رافعاً للحرج، فقال الله: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} [النور:61] ، وإن كان أصله في الجهاده لكنه من موجبات رفع الحرج، فهذا الوصف الموجود في هذا الرجل من الأوصاف المعتبرة في رفع الحرج، فجاء الرجل بعذره معه قائلاً: ليس لي قائد، فائذن لي أن أصلي في بيتي، فرخَّص له.
وما قال: فأَذِنَ وسمح، ولكن قال: (رخَّص) ، والرخصة تكون من واجب، والأعمى طلب الرخصة فرخَّص له، فلما رخّص له أخذ الرخصة وولى، فناداه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (هل تسمع النداء بالصلاة؟ وفي رواية: أتسمع الإقامة؟ -وكلاهما نداء-؟ قال: نعم، قال: فأجب) .
فالذين يقولون: هي واجبة على الأعيان قالوا: هذا أعمى رُخِّص له ثم سلبت الرخصة، وقال به: (أجب) .
فقالوا: هو أعمى يشق عليه.
فقيل لهم: هل هذا كان يصلي في بيته، أم أنه من سابق كان يأتي إلى الصلاة ويعود، لكنه اعتراه شيءٌ جديد، وطلب الرخصة للمستقبل، وفي ما مضى كان يأتي؟ فما دام أنه كان يأتي ويعود سابقاً فما الذي يمنعه الآن؟! وما الذي استجد في الأمر؟! فيجب أن يحافظ على ما كان عليه.
وفي بعض الروايات أنه قال: (لا أجد لك رخصة) .
فالذين قالوا: هي واجب وجوباً عينياً قالوا: هذا رجل أعمى رخَّص له، والرخصة إنما تكون من واجب، ثم دعاه فقال: (أجب) .
فقالوا: يجيب النداء لأنه نداء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقالوا: لو قلنا بالوجوب، لتعين أن يكون الوجوب لخصوصية الصلاة مع رسول الله، وليس في الحديث أن يجيب كل دعاء، ولا كل نداء يسمعه.
فهو احتمال يُسقط الاستدلال.
إذاً ففي حديث الأعمى رخص له أولاً، ثم أمره أن يجيب ثانية، وهذا كأنه يعيد إلى القاعدة شيئاً من ثباتها، مع أنها لا زالت مزعزعة، ولكن هذا قد يساندها.(85/3)
ما يسقط الجماعة
قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سمع النداء فلم يأتِ فلا صلاة له إلا من عذر) رواه ابن ماجة والدارقطني وابن حبان والحاكم، وإسناده على شرط مسلم، لكن رجح بعضهم وقفه] .
هذا كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وجميع علماء الحديث أو الفقهاء يبحثون في سنده، وقد جاء موقوفاً وجاء مرفوعاً، وإذا كنا بصدد الاستدلال لموضوع بمثل هذه الأهمية فلا ينبغي أن يكون لضعيف السند مدخل في ذلك.
قال: (من سمع النداء فلم يأتِ فلا صلاة له إلا من عذر) ، فأي الأعذار أريد هنا؟ سيأتي تفسير الأعذار بخوف أو مرض، وهل الخوف والمرض يسقط الصلاة؟ فليست -إذاً- بفرض عين، ولو كانت فرض عين فليست بشرط في الصحة، والمريض لا تجب عليه صلاة الجمعة.
إذاً فالمرض والخوف يسقط الجماعة، وتصح الصلاة معهما فرادى، فصحّت الصلاة بدون شرطها.
والعذر لا يسقط الواجب العيني المشروط؛ لأن الخوف والمرض لم يسقط عين الصلاة، وها هي صلاة الخوف أمام العدو يصفهم صلى الله عليه وسلم صفين: صف يحرس، وصف يصلي معه، فما أسقط الصلاة في حالة الخوف، لكنه أيضاً ما أسقط الجماعة فصلى بهم جماعة.
وعند المسايفة ما سقطت الصلاة، وفي المرض إذا لم يستطع القيام فليصل وهو جالس على جنبه، فلا تسقط الصلاة للمرض، بل بقدر ما يستطيع.
ولكن سقطت الجماعة للمرض.
فاشتراط الجماعة لصحة الصلاة لا يؤخذ من هذا الحديث.
ويكفي أنهم تكلموا في سنده، ولا يمكن أن ينهض ويقاوم ما تقدم.(85/4)
إدراك الجماعة بعد الصلاة في الرحل ونحوه
قال المصنف رحمه الله: [وعن يزيد بن الأسود (أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هو برجلين لم يصليا، فدعا بهما فجيء بهما ترعد فرائصهما، فقال لهما: ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: قد صلينا في رحالنا.
قال: فلا تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أدركتما الإمام ولم يصل فصليا معه؛ فإنها لكما نافلة) رواه أحمد واللفظ له، والثلاثة، وصححه ابن حبان والترمذي] .
هذه قضية جديدة تدور حول قاعدة الوجوب العيني.
فالنبي صلى الله عليه وسلم ما سألهما: صليتما جماعة أم فرادى؟ والمعهود في الصلاة في الرحال أن تكون فرادى، وسيأتي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المؤذن في الليلة المطيرة أن يقول: (ألا صلوا في رحالكم) ، فالمطر أسقط المجيء إلى المسجد، وصحّح الصلاة بدون جماعة، فلو كانت واجبة على الأعيان شرطاً في الصحة أيسقطها المطر؟ لا.
وهل أوجب عليهم وقال: ألا إن الصلاة في الرحال وصلوا جماعة في بيوتكم؟ لا، فالذين قالوا بسنيتها يقولون: الرجلان قالا: (صلينا) ، ولم يذكرا جماعة، ولم يستفسر منهما صلى الله عليه وسلم، فالأسبق إلى الذهن أن الصلاة في الرحال فرادى.
فإن قيل: فلماذا يصليان مع الإمام مرة أخرى؟ قالوا: إبعاداً لتهمة الانفراد والانعزال عن جماعة المسلمين، فإذا كان الإمام في الصلاة فادخل معه؛ لقوله: (ثم أدركتما الإمام ولم يصل فصليا معه، فإنها لكما نافلة) ، والضمير هنا هل يرجع إلى قوله: (صليا معه) أم لـ (صلينا في رحالنا) ؟ الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، فتكون صلاتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم نافلة، والفريضة في رجالهما، وكانت فرادى.
بهذا استدل الجمهور على أن الجماعة سنة، وليست واجبة وجوباً كفائياً ولا عينياً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر الرحلين على صلاتهما في الرحال بدون جماعة، وما قال لهم: اعتبرا الأولى نافلة وهذه فريضة؛ لأن ما سبق -على ما يقال- سد الفراغ.
فهذا الحديث يسوقه المؤلف للدلالة على صحة صلاة المنفرد في رحله، ولو أنه أدرك جماعة وصلى معها فهي نافلة.
ومن فاتته صلاة وأراد أن يقضي ما فاته فهل يتعين عليه أن يؤدي القضاء جماعة؟ باتفاق الجميع لا يشترط له جماعة، اللهم إلا إذا كان الحال كما نص عليه ابن قدامة في المغني والنووي: وأنه إن كانت الصلاة التي يراد قضاؤها قد فاتت الإمام والمأموم، وهم حضور فإنهم يصلونها جماعة؛ لأنهم موجودون.
مستدلين بما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم حين ناموا عن الصبح، ولما طلعت الشمس وتحولوا عن الوادي أذن المؤذن، وصلوا السنة، ثم صلوا الصبح جماعة لأنهم مجتمعون، وفاتت الإمام والمأموم، فهم فيها سواء.
لكن من نام في بيته أو نسي، أو شُغل بأي حالة من الحالات، أو كان تاركاً للصلاة -كما يقولون-، وأراد أن يقضي ما عليه فهل يتوقف قضاء الفوائت على الجماعة؟ باتفاق الجميع ليس واجباً عليه أن يوقع القضاء في جماعة.
إذاً فقاعدة الوجوب هل هي باقية على ثبوتها أم اختلت؟ لقد اختلت.(85/5)
أدلة واردة في عدم وجوب صلاة الجماعة
وهناك نصوص يُفهم منها عدم وجوب الجماعة، منها: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي -وفيه:- وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل فعنده مسجده وطهوره) ، فما اشترط الجماعة.
فإذا إنسان مسافر في الصحراء وحده، وطلع عليه الفجر وحده، وستطلع الشمس قبل أن يصل إلى الناس، أيترك الصلاة حتى يجد جماعة، أم يصلي وحده؟ إن عليه أن يصلي وحده.
وهناك بعض الروايات، كقوله صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة: (إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك وباديتك فأذنت بالصلاة) .
وجاءت بعض النصوص غاب عني صحتها منها، و: (أيما رجل في فلاة من الأرض، أذن وأقام وصلى، صف خلفه من الملائكة ما بين المشرق والمغرب) .
فهذا فضل من الله عليه؛ لأنه ما وجد أحداً يصلي معه.
لكن هل يمكن أن نستدل به على أن الجماعة شرط في صحة الصلاة؟ لا؛ لأن هذا محض تفضل من الله.
فعندنا حديث: (فأيما رجل -ولم يقل: رجال ولا جماعة- أدركته الصلاة فليصل فعنده مسجده وطهوره) .
والمسافر وحده الذي لم يجد جماعة لا تتوقف صحة صلاته حتى يجد من يصلي معه جماعة.
فلعلنا بهذه الإعادة وبهذا الإيراد نكون قد استوعبنا الأقوال الموجودة فيما يتعلق بالجماعة والفرد، ثم نسبة هذه الأقوال لأصحابها، ثم وجهة نظر استدلالهم بهذه النصوص التي أوردها المؤلف، وبالله تعالى التوفيق.(85/6)
الحرص على تحصيل الأجور العظيمة المترتبة على صلاة الجماعة
أقول: مَن مِن المسلمين يرضى لنفسه أن يسمع المنادي يقول: (أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله حي على الصلاة حي على الفلاح) ولا يجيب بدون عذر؟ فهل تطمئن نفسه بأن يبقى خالداً إلى الأرض وهذا المنادي ينادي في السماء؟ أعتقد أن المسلم لا يرضى بهذا.
ثم أي تجارة أربح فلو أن عندك ألف ريال تكسب منه عشرين ريالاً، فأنت رابح، فإذا كان الألف يكسبك ألفاً آخر -أي: الضعف- فأكبر تاجر لا يحصِّل هذا إلا في النادر، فإذا كان هذا الألف تكسب بعده خمسة وعشرين ألفاً فهذا لا يكون في أكبر تجارة في العالم.
فالله سبحانه وتعالى يتفضل على عبده بأن يضاعف له الأجر خمسة وعشرين ضعفاً بخطوات إلى المسجد مع ما فيها من الفضل والخير والنفع العام والخاص، وربما تلقى إنساناً ما لقيته منذ سنة، وربما تسمع آية من كتاب الله.
فأحياناً الإنسان يسمع من الإمام الآية الواحدة كأنه ما سمعها ولا علم بها قط.
وأذكر أنه قبل خمس عشرة سنة كان هناك عامل في المسجد النبوي، فقرأ الإمام في صلاة المغرب سورة الضحى، فقال: يا شيخ! قوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:9-10] خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم أم للناس كلهم؟ ولو أتينا نسأل نصف الناس عن ما قرأ الإمام في المغرب فربما لا يجيبون.
وهذا أبو هريرة قد آذاه الناس بقولهم: أكثر أبو هريرة، فأراد أن يبين لهم أنه قد خص بالحفظ، وأنهم ليسوا مثله، فبعد صلاة الصبح وقف على الباب، وكلما مر رجل قال له: ماذا قرأ الإمام في الركعة الأولى؟ فيقول: لا أدري.
فقال: تقولون أكثر أبو هريرة، وأنتم حدثاء عهد بقراءة جهرية على رءوس الأشهاد في صلاة الصبح، وأكثركم ما يدري ماذا قرأ! تعيبون علي أني حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم! فالإنسان قد يسمع آية من كتاب الله فيشرح الله صدره، فيتبين منها أمراً، ويسلم على أخيه المسلم، ويشترك في دعاء الإمام والمأمومين، ففيها خير كثير، ولا ينبغي لإنسان أن يعول على كل هذه التفصيلات ويقول: الجماعة سنة.
وقد أخبرنا ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم سن سنن الهدى، وهن من سنن الهدى، فمن أجاب المؤذن أخذ بسنن الهدى، ومن لم يجبه ترك سنن الهدى، ومن ترك سنن الهدى فقد ضل.
وأرجو الله أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه.(85/7)
كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة [3]
الاقتداء بالإمام في الصلاة واجب، ويكون ذلك في الأفعال الظاهرة المنصوص عليها، وفي حالة عدم سماع الإمام وعدم رؤيته فإن السنة أن يقتدي كل صف بالذي قبله، وفي الأحوال التي يكثر فيها المصلون يجوز للإمام أن يتخذ مبلغاً، ويجب على المصلين أن يسووا صفوفهم، وأن تقترب الصفوف من الإمام ومن بعضها، ويجوز أداء النافلة في المسجد جماعة، مع أن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة.(86/1)
تابع أحكام صلاة الجماعة(86/2)
وجوب الاقتداء بالإمام في الصلاة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، ولا تكبروا حتى يكبر، وإذا ركع فاركعوا، ولا تركعوا حتى يركع، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، ولا تسجدوا حتى يسجد، وإذا صلى قائماً فصلوا قياماً، وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين) رواه أبو داود وهذا لفظه، وأصله في الصحيحين] .
وقد وجدنا من المؤلف في هذا الموضع المغايرة في أسلوبه، فساق حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه -وهو جزء من حديث طويل- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) ، وذكر التفصيل في حالات الائتمام، إلى أن جاء إلى اقتداء الصحيح قائماً بالمريض قاعداً فقال في حديثه: (وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين) ] .
ثم ذكر حديثين بعيدين عن هذا الموضوع، وجاء إلى حديث عائشة، وهو جزءٌ من تفصيل هذه المسألة التي هي من كبريات المسائل، ألا وهي اقتداء المأموم الصحيح القادر على القيام بالإمام المريض الذي يصلي قاعداً، وكان من الأنسب أن يضم حديث عائشة رضي الله تعالى عنها إلى حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
ولكن حيث رتب هذا الترتيب نمر على تلك الأحاديث على ما وضعها عليه، ونستعين الله تعالى في بيان ما هو الحق أو الراجح في هذه المسألة؛ لأنها أهم المسائل في هذين الحديثين.
الحديث الأول يقول فيه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) ، وهذا الحديث جزءٌ من حديث طويل روته أيضاً عائشة وأنس وغيرهم، وهو: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط عن فرسه فجحشت ساقه أو كتفه -وفي بعض الروايات: فصلى خلفه قوم، وبعضها: في بيته فصلى جالساً، فصلوا بصلاته قياماً، فأشار إليهم أن اجلسوا، فجلسوا) .
ثم بين هذه التفصيلات التكبير أولاً، تكبيرة الإحرام ثم الركوع فالرفع فالسجود فالرفع فالسلام إلى آخره.
فبداية الحديث من حيث السبب: أنه صلى الله عليه وسلم سقط عن فرس فجُحِش، ونحن نقول: خُدش، والجحش هو: إذا احتك جسم الإنسان في أي موضع منه مع الحركة بجسم صلب، فإن الجلدة تتقشر ويبدأ بزاز الدم، وهو لم يُجرح، ولكن كشطت الجلدة العليا ويكون الدم الخارج منها خفيفاً، فجحش فخذه؛ لأن الذي يسقط عن متحرك وسريع ينسحب معه، ولا ينزل إلى الأرض ثابتاً كالحجر.
وهنا يتكلم ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد في الجزء السادس، وهو أحسن من تكلم على هذه الجزئية في هذا الحديث، يقول: في بداية هذا الحديث بيان جواز ركوب الخيل، ويقول رداً على كلام عمر ونهيه عن ركوب الخيل لأن فيها خيلاء، ولكن نقول مع ابن عبد البر: لا نزاع ولا خلاف بين نهي عمر، وبين ركوبه صلى الله عليه وسلم؛ لأن نهي عمر إنما يكون في حالات عادية كالنزهة، والتمشية، في المتعة، قد يكون ذلك إذا ركب الخيل وهي مطهمة أو غير ذلك.
كما جاء في بعض الأحاديث: (الخيل ثلاثة هي لرجل وزر، وهي لرجل ستر، وهي لرجل أجر، فأما الذي هي له وزر: فرجل ربطها رياء، وفخراً، ونواءً على أهل الإسلام، فهي له وزر، وأما الذي هي له ستر: فرجل ربطها في سبيل الله، ثم لم ينس حق الله في ظهورها، ولا رقابها، فهي له ستر، وأما الذي هي له أجر: فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام في مرج وروضة، فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة من شيء إلا كتب له عدد ما أكلت حسنات وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات) .
فيكون كلام عمر محمولاً على من يتبختر بالخيل، أو يتكبر بها، أو يتباهى، والرسول صلى الله عليه وسلم لا أعرف أنه ركب خيلاً في سفر عادي، إنما ركبها في القتال والجهاد فقط، وأما الأسفار فعنده البغلة الشهباء، وعنده الناقة القصواء.
وعمر بنفسه لما سافر في فتح بيت المقدس، وطلبوا منه أن يقدم عليهم رحل على بعير، ومعه رفيق في الطريق، كانا يتعاقبان البعير في الطريق إلى الشام، كل واحد منهما يركب مرحلة والثاني يقود البعير، فلما لقيه أمراء الأجناد قبل أن يصل إلى بيت المقدس قالوا: يا أمير المؤمنين إنك تقدم على أناس، وأنت على هذه الحالة قميص مرقع، وعلى بعير مرحل، هذا برذون تركبه، والبرذون ما بين الفرس والبغل، وله تبختر في المشي، وهذا قميص جديد تلبسه، فلما جيء بالقميص وكان من الكتان قال: ردوا علي قميصي واغسلوه فغسلوا القميص المرقع، وجيء به ولبسه، فلما قدموا إليه البرذون فإذا به يتبختر، فقال: ما كنت أظن أن أحداً يركب شيطاناً، ردوا إلي بعيري، وكان رحاله من الليف.
فدخل إلى بيت المقدس والدور لصاحبه، فكان يقود البعير وصاحبه راكب، فلما قدم على دهاقنتهم، وقساوستهم وأهل دينهم الذين عرفوا نعته عندهم قالوا: هذا الوصف الذي نجده عندنا في كتبنا، وسلموا إليه مفاتيح بيت المقدس.
وجاء عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه في سفره إلى الشام أيام الجاهلية قبل أن يسلم قال: فكنت أسير في السوق فإذا دهقان من دهاقينهم وجدني متخلفاً عن قومي، فأخذ بردائي ولببني في عنقي وأدخلني داره، وأتاني بمسحاة وقال: انقل هذا التراب إلى ذاك المكان.
فنظرت إلى نفسي وقلت: ويلك يا عمر! أهكذا يتحكم فيك هذا الرومي؟ قال: فأخذت المسحاة وضربته على رأسه، فقتلته، ودفنته في ذاك التراب وهربت.
قال: خرجت هارباً ولا أعرف الطريق؛ لأني تركت رفاقي قال: فمررت على دير فنزلت فيه وذلك في ظلام الليل، فلما أصبحت أطل عليَّ صاحب هذا الدير فقال: والله إنه هو إنه هو فما كنت أدري ماذا يقول؟ فنزل إليَّ وأخذ بيدي وأدخلني الدير، وأمنني وكساني وأطعمني، ثم قال: والله إنك هو قلت: من هو ويلك؟ قال: أنت الذي يملك هذا الدير، ويملك بيت المقدس.
قلت: لقد جننت أين أنا من هذا؟ قال: لا عليك فاكتب لي كتاباً بتأمين ديري هذا إذا آل الأمر إليك يقول عمر: عجبت فقلت: وماذا عليَّ لو كتبت له فكتبت له، ثم قلت: أريد من يدلني على الطريق، فقال: هذه حمار تركبها وعليها زادك توصلك إلى مكان، فإذا وصلت هناك، فانزل عنها واثن رأسها ووجهها إليَّ، فإنها تعرف الطريق وتعود.
يقول علماء التاريخ: لما آل الأمر إلى عمر جاءه ذاك الدهقان بكتابه، فقال: هذا كتاب بيني وبينك يا عمر قال: نعم، اليوم يوم وفاء، ولكن بشرط أن للمسلمين عليك إذا مروا بديرك أن تدلهم على الطريق، وأن تؤويهم للمبيت، وأن تزودهم بطعام يومهم وليلهم.
قال: لك عليَّ ذلك.
فعن هذا الحديث يقول ابن عبد البر: فيه جواز ركوب الخيل.
ثم يقول: لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم من أفره الناس ركوباً للخيل، وأشدهم حركة عليها، وهذه هي الفروسية، لا أن يركب على الفرس ويمكن نفسه في الركاب، ويمد اللجام في يده، ويمرح به الفرس، لا، بل الفروسية أن يتحرك على الفرس بطناً وظهراً كما يشاء؛ لأن الفارس قد يتقي الطعنة بانحرافه إلى تحت بطن الفرس، وقد حدثنا من شاهد ذلك في الصحراء بأن الفارس يربط قدميه على ظهر الفرس ويتدلى تحت بطنها ويرمي الرصاص من بين فخذي الفرس.
فيقول: ما سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفرس إلا لشدة حركته عليه لا لمجرد ركوبه، وكان أشجع الناس، وكان أقدرهم على الحركة على الخيل، وأكرم الناس، وذكر صفاته صلى الله عليه وسلم.
واستدل لذلك بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في بعض الليالي أنه سُمعت صيحة، فاستعار صلى الله عليه وسلم فرساً لـ طلحة عرياً -أي: لا سرج عليه- وانطلق وسبق الناس جميعاً فطرد المهاجمين، ورجع ولقي الناس مقدمين وهو راجع، فقال: (يا أيها الناس! لن تراعوا) ، فسئل عن الفرس فقال: (إنه لبحر) ، أي: لا نهاية لجريه فهو سريع الجري.
وما كان يعرف البحر ولا النهر ولا الخليج في الخيل إلا أنه خيال متقن إذا ركب الفرس وأسرع به وتحرك عليه كحركة الفروسية، وإني استحيي أن أقول: إن ما يُعنى به الناس اليوم من سباق الخيل ليس على الغرض الذي أراده الإسلام؛ لأن سباق الخيل إنما هو سباق للفرسان وللفروسية، لا لأطفال يجرون عليها، ولا لخيول فارهة سريعة الجري، إن حقيقة الفروسية هي ما يأتي به الفارس من فروسية على ظهر جواده، وهذا أمر يعرفه الخيالة، وقد يفعل مثل ذلك على الإبل من يتعود ذلك.
إذاً: فالغرض من ركوب الخيل وجريها إنما هو فروسية الفارس الذي يركبها، وليست جودة الجواد في سرعة جريه.
فكان صلى الله عليه وسلم من خيار الناس فيما يتعلق بأمور الدنيا، وهو سيد الرسل صلوات الله وسلامه عليه فيما يتعلق بأمر الآخرة وأمر الرسالة.
قوله: (جُحِش) قال ابن عبد البر: فأصيبت قدمه ولم يستطع القيام عليها، فصلى قاعداً.
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله، ويقول علماء الحديث: إن معرفة سبب الحديث يعين على فهمه، كمعرفة سبب النزول للآية.
هكذا هنا.
فحديث أبي هريرة في حادثة متقدمة، وفي بعض الروايات: (جاء أناس يعودونه) أي: في البيت، فأرادوا أن يصلوا، ولذا في بعض الروايات: (فصلى أقوام) وليس المعنى أنه صلى معه جميع الناس.
ويهمنا في هذا الحديث أنه صلى قاعداً، فقاموا يصلون بصلاته قياماً، فأومأ إليهم: أن اجلسوا ولما سلموا قال: (كدتم أن تفعلوا فعل فارس والروم بعظمائهم) ، أي يقومون على رءوس ملوكهم إعظاماً وخضوعاً بين يدي ملوكهم، أو تكبيراً أو تكريماً لهم بهذه الحالة.
فنهاهم عن ذلك.
ثم قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) ، و (إنما) أداة حصر تحصر ارتباط المأموم بال(86/3)
الأفعال التي يجب على المأموم متابعة الإمام فيها
الإمام والقائد كل منهم له حق المقدمة.
فالإمام يصلي، وتبدأ صلاته بالنية، ثم تكبيرة الإحرام، ثم بعد ذلك الدعاء قبل القراءة، ثم بعد ذلك الفاتحة، فإن كانت جهرية جهر بها، ومع الفاتحة ما تيسر من كتاب الله يجهر به، ثم يركع ويسبح، ثم يرفع، وهناك أشياء منصوص عليها، وهناك أشياء لا نص عليها، فهل المأموم يأتم بالإمام في كل شيء، أو فيما هو ظاهر من الأعمال؟! هناك من أخذ الحديث على عمومه باعتبار (إنما) للحصر، فقالوا: من الصلاة النية، فيؤتم بالإمام في النية في الصلاة فلو كان الإمام مفترضاً والمأموم متنفلاً أو العكس، فهل يصح ذلك مع أنه لم يقتد به؟ وإذا كان الإمام في نية عصر والمأموم في نية ظهر فهل ائتم به في نية وهي من الصلاة؟ فمن قال الإمام يؤتم به في كل شيء وأدخل النية في ذلك لم يصحح صلاة مأموم بإمام تختلف النية بينهما، وهذا واقع، ولكن وجدنا أحاديث أخرى تسمح في مغايرة النية.
أما الأحاديث التي فيها مغايرة النية فمنها ما سيأتي في حديث معاذ، حيث كان يصلي العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده، ثم يذهب إلى قباء فيصلي بهم العشاء نافلة له وفريضة لهم، فاختلفت النية ما بين فرض ونافلة.
وكذلك ما جاء في حق الرجلين الذين رآهما صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الصبح جالسين لم يصليا معه، فقال: (ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: قد صلينا في رحالنا فقال: لاتفعلوا إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام ولم يصل فليصل معه فإنها له نافلة) .
ومن هنا قالوا لو أن إنساناً نام عن الظهر وجاء والإمام في صلاة العصر فهنا يقع الخلاف.
فمَن قال يؤتم به حتى في النية لا يُجوِّز لصاحب الظهر أن يأتم بصاحب العصر.
والذين قالوا: النية خارجة عن ذلك، أو أخذوا بالنصوص الأخرى، قالوا: لا مانع، وهذا رأي الشافعية، حيث يقولون بصحة صلاة المأموم المقتدي بالإمام مع اختلاف النية.(86/4)
متى يشرع المأموم في تكبيرة الإحرام؟
وقد بدأ بيان الاقتداء بقوله: (إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر) ، فلم ينص على النية، فبعضهم قال: إنها خارجة عن محل الائتمام.
وبعضهم قال: هي مبدأ الصلاة، على عموم: (يؤتم به) ، ولكن التفصيل النبوي أسقط الكلام في النية، فأخذوا دليلها من العموم.
قوله: (فإذا كبر) هي عبارة عن جملة، أي: إذا قال: الله أكبر، كما يقال: هلل إذا قال: لا إله إلا الله، وحوقل إذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله.
وهذه التكبيرة من الألفاظ التي لا يجزئ افتتاح الصلاة بغيرها.
وقوله: (فإذا كبر فكبروا، ولا تكبروا حتى يكبر) ، تأكيد بعد التأسيس، و (إذا) ظرف، والتكبير له بداية وله نهاية، وبدايته الهمزة، ونهايته الراء من (أكبر) ، فالمراد بقوله: (إذا كبر) إذا بدأ في التكبير فابدأ، أي: وتشاركونه في بعضها، فيبدأ قبلكم وتشاركون في بعضها، وينهي تكبيره قبل تكبيركم، أو إذا كبر وفرغ من التكبير كله تبدأون أنتم، فعندما يفرغ من الراء في (أكبر) تبدأون أنتم بالهمز، من (الله) .
وأصل هذا مسألة (هل العبرة بأوائل الأسماء أو بأواخرها؟) وهذه مسألة تدخل في كثير من الأحكام، فلو جاء القاضي سندٌ بألف ريال، وفيه: يُدفع في رمضان.
فهل المراد أول يوم يدخل من رمضان، أم بعد أن ينتهي رمضان، أو قبل انتهائه بيوم؟ إن قلنا: العبرة بأوائل الأسماء فلصاحب الحق أن يطالب أول ما ظهر هلال رمضان، وإن قلنا: العبرة بأواخر الأسماء فعليه أن ينتظر حتى ينقضي رمضان.
وهنا (إذا كبر) يعني: إذا بدأ وشرع في التكبير، فهل نتبعه ونشرع معه، أم حتى ينتهي من التكبير؟ الجمهور على أنه إذا بدأ وشرع فلنا أن نبدأ معه، وإن كنا نصاحبه في بعضها، وهذه دون غيرها مما ذكر في أركان الصلاة، ولو تقدم المأموم إمامه وكبر قبل أن يكبر الإمام -سواءٌ أبدأ بعده وأسرع قبل أن يفرغ الإمام، أم بدأ بالتكبير قبل أن يبدأ الإمام فلا ارتباط للمأموم بالإمام؛ لأن تكبيرة الإحرام هي افتتاح الصلاة.
فإذا تعجّل وكبّر قبله كأنه لم يرتبط بإمامه، وكذلك السلام.(86/5)
متى يشرع المأموم في بقية أفعال الصلاة؟
قوله: (فإذا كبر فكبروا، ولا تكبروا حتى يكبر، وإذا ركع فاركعوا ولا تركعوا حتى يركع) ، التفصيل في الركوع والرفع والسجود كالتفصيل في التكبير، فإذا كان قائماً، وأهوى إلى الركوع فهل نبدأ بالهوي ونشاركه، ويسبقنا وينتهي من ركوعه قبلنا، أم ننتنظر حتى يكمل ركوعه فنشرع نحن في الركوع؟ الكلام في هذا كالكلام في التكبير.
قوله: (وإذا رفع فارفعوا) يقول العلماء: لوحصل التسابق فيما دون تكبيرة الإحرام، فركع قبل إمامه أو رفع قبله لاتبطل الصلاة، ولكنه مخالف، وهو متوعدٌ بوعيد شديد، وقوله قوله صلى الله عليه وسلم: (أما يخاف الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول رأسه رأس حمار) ، ويعلق عليه العلماء مع هذا الوعيد بتغيير الوجه، فلم يقل صلى الله عليه وسلم: وليعد الصلاة، ولم يقل صلى الله عليه وسلم: بطلت صلاته.
ولكن ذكر هذا الوعيد وسكت.
ولكن تكبيرة الإحرام تختلف؛ فإن من سبق الإمام فيها لم يدخل معه في الصلاة، وكذلك السلام، فلو سبق الإمام في السلام كأنه تعجل عن الإمام وخرج عن إمامته.(86/6)
حكم جمع الإمام والمأموم بين التسميع والتحميد
قوله: (وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد) هذه المسألة تقدمت في صفة الصلاة، وهل الإمام والمأموم سواء فيجمعون بين التسميع والتحميد، أم أن الإمام يكتفي بقوله: (سمع الله لمن حمده) ، والمأموم يُكمل (ربنا لك الحمد) ؟ الأرجح في المسألة أن كلاً من الإمام والمأموم له أن يقول الذكرين معاً (سمع الله لمن حمده) ، (ربنا لك الحمد) .
ويأتي الخلاف أو النقاش في اللفظ: (ربنا لك) ، و (اللهم ربنا) بزيادة (اللهم) ، والصنعاني يقول: الأفضل أن يأتي بقوله: (اللهم) ، وبالواو في: (اللهم ربنا ولك الحمد) ، قال لأن زيادة هذه الحروف فيها زيادة معنى.
أما زيادة (اللهم) فهي عنده باتفاق، ومعناها: اللهم ربنا استجب لنا، ولك الحمد على إجابتك لنا.
فزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى.
ومن العلماء من يرى أن يقتصر المأموم على التحميد نصاً، لهذا الحديث.
وبعض المذاهب الأخرى تقول: المنفرد والإمام سواءٌ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول الذكرين معاً التسميع والتحميد، وفي تعليمه أيضاً علم الشخص بأن يقول الذكرين معاً التسميع والتحميد.
والأنسب في ذلك أن كلاً منهما جائز، فإن اقتصر الإمام على التسميع وكمل المأموم بالتحميد، أو جاء كل منهما بالذكرين معاً فلا بأس في ذلك.
وإن جاء المأموم بلفظ (اللهم) ، وبالواو في (ولك الحمد) فلا مانع، وإن اقتصر على نص هذا الحديث فلا مانع.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وإذا سجد فاسجدوا، ولا تسجدوا حتى يسجد) .(86/7)
مسألة: إذا صلى الإمام قاعداً
قوله: (وإذا صلى قائماً فصلوا قياماً، وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين) .
قال: في بداية الحديث: (إنما جُعل الإمام ليؤتم به) والائتمام شامل لأن تأتي بكل ما يأتي به الإمام، ولكن في التفصيل والبيان لم يذكر لنا صلى الله عليه وسلم إلا الأعمال الظاهرة، كتكبيرة الإحرام (الله أكبر) ، والركوع، والرفعُ والتسميع، والسجود.
ولم يذكر لنا الدعاء أو الذكر حال كونه راكعاً، ولم يذكر لنا التسبيح أو الذكر حال كونه ساجداً، ولم يذكر لنا الدعاء بين السجدتين، فالمأموم معفيٌّ عن اقتدائه وائتمامه بالإمام في مثل هذه الحالات؛ لأنها خفية، وتُرِك لكل واحد منهما أن يأتي بما تيسر له، وليس في هذا ائتمام، ولكن الائتمام يكون في الفعل الظاهر.
ثم ختم هذا البيان في الائتمام: (فإذا صلى قائماً فصلوا قياماً) ، وهذا لا غبار عليه إلا من كان معذوراً، فمن كان له عذر لا يستطيع القيام فهو خارج عن هذا الأمر، فيُصلى الإمام قائماً، والمأمومون القادرون يصلون قياماً، والمأموم العاجز عن القيام يصلي جالساً.
(وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين) .
من طبيعة الائتمام أن تصلي قاعداً إذا كان الإمام يصلي قاعداً؛ لأنك أُمرت أن تأتم به، بقوله: (وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين) ، وقد روي: (أجمعين) ، و (أجمعون) ، وكلاهما من حيث الإعراب صحيح، فـ (أجمعين) على أنها حال، والحال منصوب، وهذا جمع مذكر سالم منصوب علامة نصبه الياء و (أجمعون) : على أنه توكيد لضمير تقديره: صلوا خلفه قعوداً، وهنا الضمير في محل رفع فاعل لـ (صلوا) ، وهنا تكون (أجمعون) : توكيداً مرفوعاً تبعاً للمؤكَّد.
ويهمنا أمره صلى الله عليه وسلم للمأمومين إذا أمهم إمامهم قاعداً من مرض فإنهم يصلون خلفه قعودً.
لو أن الإمام كان عاجزاً عن قعوده، وصلى مضطجعاً -ومن حق الإنسان إذا لم يستطع أن يصلي قاعداً أن يصلى على جنبه- فهل يأتمون به ويصلون على جنوبهم؟ والجواب: لا.
فإذا نزلت قدرة الإمام عن الصلاة قاعداً فلا ائتمام به.(86/8)
الصفوف في صلاة الجماعة(86/9)
الأمر بتسوية الصوف
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في أصحابه تأخراً، فقال: تقدموا فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم) .
رواه مسلم] .
هذا الحديث يبين لنا تنظيم الصفوف، ويبين لنا فضائل أوائل الصفوف، فالنبي صلى الله عليه وسلم رأى في أصحابه تأخراً فقال: (تقدموا فائتموا بي) -أي: الصف الأول- وليأتم بكم من بعدكم، أي من الصفوف الأخرى الثاني والثالث، وما بعدهما.
فقوله: (رأى في أصحابه تأخراً) هل هو قبل أن يدخل في الصلاة، أم بعد أن دخل فيها نبههم؟ جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أقيموا الصفوف فإني أراكم خلف ظهري) .
فيمكن أن يكون رأى هذا التأخر بعد أن دخل في الصلاة، ثم نبه على ذلك، أو أنه رأى ذلك قبل أن يدخل في الصلاة وهو الأغلب؛ لأن على الإمام أن ينظر في صفوف المصلين قبل أن يدخل في الصلاة، وقد كان صلى الله عليه وسلم ينظر في الصفوف ويسويها، وكما جاء في بعض الروايات: (كأنه يسوي القداح) أي: على صف معتدل.
وإذا رأى من شخص بروزاً رده، وإذا رأى من شخص تأخراً حثه على التقدم، وهكذا.(86/10)
حدُّ المسافة التي تكون بين الصفين
ما حد التأخر وما حد التقدم؟ وما هي المساحة التي تكون بين الصف الأول والإمام، وبين الصف الأول والذي يليه؟ معلوم أن أقل ما يمكن هو ما يتسع لسجود المصلين في الصف من غير تضييق.
ولذا قال العلماء فيما يتعلق بسترة المصلي: إن موقعها بينه وبين موقفه ثلاثة أذرع، أي: من قدمه إلى موضع سجوده؛ لأن هذه المسافة هي التي يتأتى للمصلي أن يتحرك فيها بيسر.
وعليه قالوا: السنة فيما يكون بين الصفوف من الفراغ هو قدر ما تكون السترة من المنفرد، أي أن عليه أن يجعل بينه وبين الصف الذي أمامه قدر ما يجعل المنفرد بينه وبين سترته، أي: ثلاثة أذرع.
ولو أن الصفوف قد ازدحمت فماذا يفعل؟ لقد بوّب الفقهاء باباً فيمن زُحِم يوم الجمعة، فـ عمر رضي الله تعالى عنه أمرهم أن يركعوا ويسجدوا على ظهور بعضهم، فيمكن أن يكون بين الصف والصف طول الفخذ فقط، وهو ذراع، ويسجد على ظهر الذي أمامه، وهكذا في شدة الزحام.
ثم ذكر الفقهاء أيضاً أنه إذا لم يستطع أن يصل إلى الأرض ليسجد فإنه ينتظر حتى يقوم الصف الذي أمامه ويسجد، ثم ينهض فيدرك الإمام.
فهذه مسائل في صلاة الأعذار، ولكن الذي يهمنا الآن في تنظيم الصفوف، فالواجب على المأمومين أن يتراصوا مع إمامهم، ولا تكون هناك الفجوات الطويلة بين الصف والإمام.
وربما تجد في بعض المساجد من يصف دون الصف الذي أمامه بمسافات ومراحل تزيد على عشرة وعشرين وخمسين متراً، وهذا لا يجوز، لقوله صلى الله عليه وسلم: (تقدموا فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم) ، أي: تقدموا فاقتدوا بي، وليقتدِ بكم من وراءكم.
وتجد بعض الأحيان الإمام في المحراب والصفوف وراءه، ثم تجد صفاً بينه وبين الصف الذي يليه عشرات الأمتار، فلا يجوز ذلك ولا ينبغي، وليس من سنة الجماعة هذا العمل.
فتسوية الصف أولاً، ومراعاة الإمام للمأمومين، وقد كان صلى الله عليه وسلم يرسل بلالاً يمر بين الصفوف يعدلها، وكان بلال يقول: (لا تسبقني بآمين) ، حيث يكبر صلى الله عليه وسلم ويقرأ، وبلال يتخلل الصفوف لينظر المتخلف أو المتقدم أو المتأخر ليعدله، فيقول للرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تسبقني بآمين) أي: إن فضل آمين فضل عظيم، ولا أريد أن أسبق به وأنا أؤدي المهمة.(86/11)
ائتمام كل صف بالذي قبله واتخاذ المبلغين
بقي هنا قوله: (فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم) .
فقبل وجود هذه الأجهزة التي تقوم بنقل الصوت وإبلاغه كان صوت الإنسان محدوداً، فمن كان في الصفوف المتأخرة عن الإمام لا يرى الإمام ولا يسمع صوته، ولكنه يرى الصف الذي أمامه، وكذلك كل صف -وإن تأخر- يرى أمامه الصف الذي أمامه، فكل صف يقتدي بالصف الذي أمامه في الحركة، في الركوع والرفع، والسجود والجلوس.
وفي كون المتأخرين يقتدون بالذين أمامهم يقول الشارح: لو أن متأخراً مسبوقاً جاء ووجد الصف الذي يليه راكعاً فأدرك الركوع معه فإنه يكون قد أدرك الركعة، ولو أن الإمام قد رفع رأسه؛ لأن حكمه أن يقتدي بالذي يليه، وهو لا يدري عن الإمام رفع أم لم يرفع.
ويدل لهذا قصة أبي بكرة حينما جاء مسبوقاً، ووجد الرسول صلى الله عليه وسلم راكعاً والناس ركوعاً، فكبر للصلاة قبل أن يصل إلى الصف ليدرك تكبيرة الإحرام، وركع حيثما كبر، ودب راكعاً حتى وقف في الصف، فقال له صلى الله عليه وسلم: (زادك الله حرصاً ولا تعُد) وروي (تعِد) و (تعْدُ) ، وكل هذه الألفاظ جاءت وهي في الكتابة سواء.
فـ (لا تعُدْ) من العود، والفعل الأجوف معتل العين إذا سكنت لامه سقطت عينه.
و (لا تعِد) من أعاد يعيد.
و (لا تعْدُ) ، واوي اللام من العَدْو، وواوي اللام أو معتل اللام إذا جُزم تكون علامة الجزم حذف حرف العلة، أو حذف لام فعله.
ويهمنا في هذا اقتداء الصف المتأخر بالصف الذي أمامه.
وهنا نرجع إلى موقف أبي بكر رضي الله تعالى عنه بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، حيث كان يُسمِع الناس تكبير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم مريض، ويكبر للركوع، ويسمِّع، ويحمَد في الرفع، ويكبر للسجود وغيره، والناس وراءه صفوف، لم يُسمعهم ولم يروه، فكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يُسمع من وراءه من المصلين التكبير في الانتقال، ومن هنا أخذوا أن للإمام إذا كان عاجزاً عن إبلاغ الناس بصوته أن يتخذ مبلِّغاً.
ولذا قال مالك في الرواية الأخرى عنه فيما لو صلى الإمام الأعظم أو الراتب قاعداً، وصلى المأمومون خلفه قياماً، يقول: أحب إلي أن يقوم بجانبه واحد منهم يبلغهم تكبيراته، أي: يطبق الصورة التي جاءت في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واتخاذ المبلِّغ في الصلاة له أصل من السنة، ولا نقول: إنه بدعة.
ولا نقول: إنه خلاف الواقع، فإذا دعت الحاجة إليه فلا مانع، أما أن يكون إمام يصلي ومعه عشرة مأمومين، أو خمسون، أو صف واحد، أو صفان فيتخذ مبلغاً يبلغهم صوته فلا حاجة لذلك، أما إذا كانو صفوفاً متعددة فهناك يحتاج الأمر إلى من يبلغ، ثم إن التبليغ ليس خاصاً بالصلاة، بل كان العلماء رحمهم الله تعالى في بادئ الأمر يتخذون مبلغين عنهم، يبلغون من في الحلقة ما يروون من الأحاديث.
وقيل لـ مالك رحمه الله لما اتسعت حلقة درسه في المسجد النبوي: اتخذ مبلغين يبلغون عنك.
قال: لا، أخشى أن أكون ممن يرفع صوته فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتخذ مبلغين.
فالتبليغ تدعو إليه الحاجة، وقد وجدنا نظير ذلك، ألا وهو تعداد الأذان في المسجد الواحد، فإذا كبرت القرية وكان المؤذن الواحد لا يُسمعها فيجوز أن يتعدد المؤذنون، فيقفون كلٌ يؤذن إلى جهة من الجهات، ويكون عددهم بقدر الحاجة اثنان أو ثلاثة أو أربعة، وهل يؤذنون متتالين واحداً بعد الآخر، أو مجتمعين في مكان واحد وفي وقت واحد؟ جاء عن أحمد وعن مالك جواز في اجتماعهم في وقت واحد ما لم يكن هناك تشويش.
وقد يقول قائل: الآن أصبحت الأجهزة والمكبرات تبلغ أكثر من المبلغ، فما حاجتنا إلى مبلغين الآن؟ والجواب: يمكن أن يقال: هذا وجه له نظر، ولكن هناك أيضاً احتمال آخر، فالأصل المشروعية، سواءٌ أجاء هذا الجهاز يبلغ عن المبلِّغ، أم يبلغ عن الإمام؛ لأن هذا جهاز يعمل بطاقة وآلة فهو معرض للتوقف والتلف، وفي بعض الحالات تتعطل الكهرباء في الضوء وفي الصوت، وكم يحصل من اضطراب واختلال.
فمادام أن الأصل المشروعية، وجاء هذا الجهاز لزيادة بيان وزيادة خير فلا مانع، ولا نجعل مثل ذلك موضع تشكيك، أو موضع تبديع للناس.
وقوله: (تقدموا فائتموا بي) هذا خاص بالرجال، أما النسوة فلا تقدم لهن، وقد جاء ما يخصهن: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها) ، ولا يوجد شر في الصلاة، ولكن هذا شر نسبي، أي: بالنسبة لفضيلة الصف الأول، فإن الصف الأخير لم يحصل على فضيلة الصف الأول.
قال: (وشر صفوف النساء أولها) ؛ لأنها تلي الرجال، والمرأة كلما بعدت عن الرجال كان أصون لها، وسيأتي التنبيه على صلاة المرأة في المسجد في الحديث الذي يأتي بعد ذلك إن شاء الله.(86/12)
مسائل في النوافل(86/13)
صلاة النافلة في المسجد والبيت
قال المصنف رحمه الله: [وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (احتجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرة مخصفة فصلى فيها، فتتبع إليه رجال، وجاءوا يصلون بصلاته) الحديث، وفيه: (أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) متفق عليه] .
هذا الحديث له علاقة بأكثر من موضع، ساقه المؤلف رحمه الله هنا لبيان اقتداء الناس بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في النافلة جماعة.
والحديث يتناول اتخاذ الحجرة، و (احتجر) من التحجير، والتحجير: المنع، ومنه حجر إسماعيل؛ لأنه منع الجزء الذي أخلي من البناء من البيت من أن ينساب في بقية المسجد، ومنه حِجر المرأة الذي يحفظ الطفل، ومنه الحجر على السفيه لحفظ ماله، وأصل المادة -كما يقول علماء فقه اللغة- من الحجر اليابس القوي، فهو يحجر ويمنع نفسه من غيره، ولا يستطيع إنسان أن يدقه برجله لأنه يؤذيه، فهو لحجريته مانع نفسه من أن يعتدي عليه غيره.
والحُجرة تمنع أجزاء الغرفة من الخروج إلى جارها، وتمنع جارها من أن يدخل إليها، فهي تحجر الجزء المملوك.
قال: (احتجر حجرة مخصفة) ، وجاء في بعض الروايات: (احتجز) من الاحتجاز، وهو أخذ جزءٍ من المسجد؛ والخصف هو شيء من الحصير من الخوص، وإلى الآن يسمى عند الناس بالخصفة، والخصف هو نسج الخوص، فقد تكون الخصفة للطعام، وقد تكون الخصفة للفراش والجلوس، وقد تكون هناك خصفة لتحجير الحجرة، إلى غير ذلك.
وأصل هذا: أنه صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان صلى العشاء ودخل، ثم قال لـ عائشة رضي الله تعالى عنها: انصبي لنا حصيرك فنصبت حصيرها أمام باب الحجرة في المسجد، فخرج إلى هذه الحجرة أو هذا الحاجز وصلى فيه، فشعر أناس بصلاته، وكانوا موجودين فاقتدوا به وهو لا يدري بهم، وفي اليوم التالي سمع أشخاص بما حدث في الأمس فتجمعوا وصلوا بعدد أكثر من ذي قبل، وفي الليلة الثالثة صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء وصلى الناس معه، فدخل بيته، ثم نظر فإذا المسجد مليء بالناس، فقال: (يا عائشة! ما بال الناس؟! قالت: ينتظرون خروجك لتصلي، فيصلون بصلاتك كما صلى غيرهم بالأمس.
فقال: ارفعي عنا حصيرك) ، فانتظروا وطال الانتظار ولم يخرج، فأخذوا الحصباء وحصبوا باب الحجرة، ولم يسمع لهم ولم يخرج إلى أن خرج يصلي صلاة الصبح وقال لهم: (أما بعد: فإنه لم يخف علي مكانكم، لكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها) ، وهذا مصداق قوله سبحانه: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] .
ثم قال في هذا الحديث: (أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) ، أي: إذا أردتم الأجر والفضيلة فصلوا في بيوتكم، فخير صلاة المرء في بيته ما عدا الفريضة فهي في المسجد مع الجماعة.
وهنا يأتي مبحث للعلماء فيما يتعلق بعموم: (خير صلاة المرء) ، فـ (صلاة) : نكرة، و (المرء) : مضاف إليه، والنكرة إذا أضيفت إلى معرفة تكون عامة، فصلاة المرء تشمل فريضته ونافلته، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم استثنى منها الفريضة، فيتمحض الأمر على النافلة، فخير صلاة المرء النافلة في بيته، ويستثنى من ذلك عند العلماء السنن الرواتب، كسنة الصبح، وسنة الظهر بعدها وقبلها، والمغرب، فأكثر العلماء يرى أنها تصلى مع الفريضة في المسجد، ويكون الحديث في النوافل المطلقة كقيام الليل، والضحى، مع أن صلاة الضحى جاء فيها أنه حدث أن غزا قوم غزوة ورجعوا سريعاً وغنموا غنائم كثيرة، فقال الناس: ما أسرع ما غزت وأكثر ما غنمت! فقال صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على أقرب منه مغزى، وأكثر غنيمة، وأوشك رجعة؟ مَنْ توضأ ثم غدا إلى المسجد لسبحة الضحى، فهو أقرب مغزى وأكثر غنيمة وأوشك رجعة) لكن يقولون: النوافل المطلقة كالضحى وقيام الليل هي في البيت أفضل.(86/14)
خلاف العلماء في أفضلية صلاة النافلة بين المسجد النبوي والبيت
وبعض العلماء يربط ويقارن بين قوله صلى الله عليه وسلم: (خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) ، وبين هذا الحديث: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) .
لأن (صلاة) نكرة تعم الفريضة والنافلة، فإذا صليت الفريضة فهي صلاة في مسجده، وإن صليت النافلة فهي صلاة في مسجده، فنجد الجمهور يعممون ذلك، ما عدا الإمام أبا حنيفة رحمه الله فإنه يقول: قوله: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة) خاص بالفريضة؛ لأن النافلة لها مكان آخر وهو البيت لحديث: (خير صلاة المرء في بيته) قال: إذا صلاها في المسجد فهي بألف، وإذا صلاها في بيته فهي خير من هذه التي هي بألف، فما خالف الجمهور.
والآخرون قالوا: كل صلاة فهي بألف صلاة.
فاتفقوا على أن الصلاة مطلقاً في المسجد النبوي بألف صلاة، وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه مع ثبوت الألف للنافلة في المسجد النبوي فإيقاعها في البيت أفضل من ذات الألف.(86/15)
أيهما أفضل صلاة المرأة في بيتها أم في المسجد النبوي؟
وهنا قضية جانبية في قوله: (خير صلاة المرء في بيته) ومؤنث (المرء) امرأة، فهل صلاة المرأة أيضاً في بيتها خير، وهل صلاتها في المسجد النبوي أيضاً بألف صلاة؟ الجمهور يقولون: صلاة المرأة في المسجد النبوي بألف صلاة، فريضة كانت أو نافلة، ولكن صلاتها في بيتها خير من صلاتها في المسجد النبوي، كما قال أبو حنيفة رحمه الله في النافلة، وذلك لأمر آخر، وهو أن امرأة من بني سليم أتت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! إني أحب الصلاة معك، وانظر إلى التعبير، فلم تقل: أحب الصلاة في مسجدك.
لكن: أحب الصلاة معك؛ لأنها إذا صلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعت القراءة من رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتركت في دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للمصلين معه، فمن هنا أحبت الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل إنسان يحب ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك وصلاتك في حجرتك خير -من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك) ، خير من صلاتك في مسجدي.
فصلاتها في عقر دارها خير من صلاتها في المسجد النبوي بثلاثة أضعاف.
وعلى هذا فخير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة، ويبين المؤلف رحمه الله بهذا أن النوافل يجوز أن تصلى جماعة؛ لأن أناساً صلوا بصلاته صلى الله عليه وسلم.(86/16)
الاحتجار في المسجد وحكمه
وهل يجوز لكل إنسان أن يحتجر في المسجد ويضيق على الناس؟ قالوا: لا، ما لم يكن في الأمر سعة.
والآخرون قالوا: إنها كانت توضع في الليل عندما لم يكن هناك نداء لصلاة الفريضة، وترفع في النهار فلم تضيق.
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان في رمضان يوضع له سرير عند باب الحجرة، وإذا جئت إلى الروضة تجد بعض الأسطوانات مكتوباً عليها: أسطوانة السرير.
كان إذا اعتكف صلى الله عليه وسلم يوضع له سرير ينام عليه في حالة اعتكافه.
وقد جاء عن عائشة أنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله) .
التحجير في المسجد إذا كان يضايق المصلين فحق المصلين مقدّم ولا يجوز ذلك، وإذا كان هناك سعة ولا تضييق على أحد فلا مانع في ذلك، وصلاة النافلة وهي قيام الليل تصلى جماعة، وعليه فالتراويح تصلى جماعة كما هو واقع الآن.
قوله: (خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) هذا منصب على النافلة المطلقة، والنوافل الرواتب تجوز صلاتها في المسجد، وتقدم لنا أنه كان يصلي سنة المغرب والعشاء ركعتين في بيته، ولم ينص على النوافل الأخرى في بيته، فبقية النوافل تكون في المسجد، وقلنا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن بيته إلا المسجد؛ لأن بابه مُشرع على المسجد، والله تعالى أعلم.
فلا ينبغي للإنسان أن يترك الصلاة في البيت، بل يجعل لبيته حظاً من صلاته لبركة الصلاة، ولطرد الشيطان، ولتعليم النسوة والأطفال، وقد جاء الحديث: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (صلوا في بيوتكم) ، وقد جاء عن عتبان بن مالك أنه كان رجلاً يؤم قومه في بني سلمة، وكان قد أنكر بصره نسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيه ليصلي له في بيته ليتخذ ذلك المكان مصلىً له، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أين تريد أن أصلي؟) ، فأشار إلى مكان فصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يصلي في ذلك المكان تبركاً بموضع صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(86/17)
تفاضل الصلاة في المسجد النبوي
وبهذه المناسبة أيضاً أقول: المسجد النبوي من جميع أطراف وحدود جدرانه الصلاة فيه بألف، ولكن هل كل المسجد سواء؟ يتفق الجمهور على المفاضلة، ولا شك أن الصف الأول أولى من الصف الثاني ولوكان الكل في المقدمة.
وهنا بحث مطول في أيهمما الأفضل، الصلاة في الروضة في صف رابع أو خامس، أو الصلاة في الصف الأول في المسجد.
يقول النووي رحمه الله: إذا كانت الصلاة جماعة فالصف الأول أفضل؛ لفعله صلى الله عليه وسلم، ولفعل الخلفاء من بعده بعدما جاءت التوسعة التي خرجت عن الروضة.
وعلى كلٍ فذاك مبحث مستقل، ويوجد هناك بعض الأشخاص الذين يتتبعون بعض المواطن في المسجد النبوي رجاء بركة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فيقولون: لعلنا نصادف كذا.
وهذه أمور عاطفية، فإن علم مكاناً فلا بأس بذلك، ما لم يحصل زحام، وما لم يعتقد عدم جواز الصلاة في غيره، والله ولي التوفيق.(86/18)
كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة [4]
من مسائل الصلاة المهمة التخفيف على المأمومين، ولذلك فإن الواجب على الإمام إذا صلى أن يراعي حالة المأمومين فلا يطيل الصلاة بما يشق عليهم.
كما أن من مسائلها التي ينبغي علمها الصلاة وراء الإمام القاعد، فقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس في مرض موته جالساً والناس وراءه قياماً، وهذا دليل للجمهور على نسخ صلاة المأموم جالساً وراء الإمام الجالس.
ومن مسائلها كذلك بيان الأحق بالإمامة، والراجح في ذلك أن الأحق بها أقرأ الناس ولو كان صغيراً في السن.(87/1)
تابع أحكام صلاة الجماعة(87/2)
أمر الإمام بتخفيف الصلاة وعلته
قال المصنف رحمه الله: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: صلى معاذ بأصحابه العشاء فطوَّل عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتريد أن تكون -يا معاذ- فتاناً؟ إذا أممت الناس فاقرأ بالشمس وضحاها، و (سبح اسم ربك الأعلى) ، و (اقرأ باسم ربك) ، و (الليل إذا يغشى)) ، متفق عليه، واللفظ لـ مسلم] .
حديث معاذ هذا أصل في صلاة الجماعة، وفيما يجب على الإمام.
ومعاذاً رضي الله تعالى عنه هو معاذ بن جبل الذي قال صلى الله عليه وسلم في حقه: (أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ) ، ومناقب معاذ كثيرة جداً، حتى جاء في بعض الآثار: (آمن معاذ حتى خاتمه) ، ومعاذ له في الصلاة شئون عديدة، وله موقف في التشريع، فقد قال ابن كثير وغيره: أحيلت الصلاة ثلاث مرات.
الأولى: قولهم: كنا إذا أردنا الصلاة آذن بعضنا بعضاً -أي: أعلم- فقلنا: نتخذ وسيلة، فاقترح قوم ناقوساً، وقوم بوقاً، وقال قوم: نجعل ناراً، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا.
فجاء عبد الله بن زيد ورأى أنه عُلِّم الأذان في المنام، فأُذِّن للصلاة، فهذا أول شيء.
الثانية: كانوا يصلون إلى بيت المقدس، ثم تحولوا إلى الكعبة.
الثالثة: كانوا يصلون جماعة، فإذا جاء مسبوق سأل المصلين حال صلاتهم: كم صليتم؟ فيشيرون إليه بمقدار ما صلوا ركعة أو أكثر، فيكبر ويصلي ما فاته بسرعة، ثم يصحب الإمام حتى يسلم معه، فقال معاذ: والله لن آتي الصلاة ورسول الله صلى الله عليه وسلم على حالة إلا دخلت معه فيها فجاء مرة مسبوقاً، فكبر ولزم الإمام، فلما سلّم وعرف ما فاته قام يقضيه بعد السلام، فقال صلى الله عليه وسلم: (قد سن لكم معاذ، فهكذا فاصنعوا) .
فـ معاذ بسببه حصل تشريع في الصلاة، وهو صاحب رأي، وله أمور أخرى في اتباع الجماعة وسماع النداء، وأنا أسمي معاذاً بعثة تعليميةً متنقلةً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم خلّفه في مكة بعد الفتح يعلمهم الإسلام، وعمر رضي الله تعالى عنه بعثه إلى الشام يعلم أهلها الإسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن يعلم أهلها الإسلام.
ففي هذه الحادثة صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء، وذهب إلى قومه في قباء ليصلي بهم، فكبَّر وقرأ الفاتحة، ثم استهل بسورة البقرة، ورآه رجل كان معه ناضحان فأرسلهما ودخل في الصلاة، وبعض الروايات فيها: (كنت أسقي ماءً، فجئت ودخلت في الصلاة، فلما بدأ بسورة البقرة علمت أنه لن يركع دون إنهائها، فتركته وأتممت صلاتي) ، وسواءٌ أكان انصرافه عن الإمام للماء، أم كان للناضحين، أم كان لتعبه طول النهار.
فعلم أن معاذاً صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وروحه مفعمة بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مانع أن يُصلي الليل كله لأن حياته كلها عبادة.
فعرف الطريق واختصره من بدايته، وذلك بانصرافه عن الصلاة مع معاذ.
فقيل لـ معاذ: إن فلاناً تركك وذهب! قال: إنه رجل منافق.
فبلغت الكلمة هذا المسلم فعظمت عليه، فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكى معاذاً بعد أن رماه بالنفاق، وبين للنبي صلى الله عليه وسلم ما حدث، فاستدعى رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً وقال: (يا معاذ! أتريد أن تكون فتاناً؟) ويا معاذ! ويا من يعرف الحلال والحرام! ويا من يعرف شئون الناس! أتريد أن تكون فتاناً؟! فنحن ما جئنا للفتنة، إنما جئنا لنطفئ الفتنة.
وهل أمرهم بمعصية؟ لقد سماه فتاناً لكونه أطال الصلاة.
وعثمان رضي الله تعالى عنه كان يقوم الليل بسورة الفاتحة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ البقرة والنساء وآل عمران ثم يركع، فهل في هذا فتنة؟ لا.
وإنما كان التطويل هنا فتنة لأن صلاة معاذ لها تعلق بالآخرين؛ إذ إنه كان الإمام، ولذا جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء) .
قوله: (إذا أممت الناس) الخطاب خاص لـ معاذ، وهو عام في كل إمام؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فمن أم الناس فليخفف.
وقد بين صلى الله عليه وسلم علة ذلك بقوله: (فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة) ، وكصاحب الماء أو صاحب الناضحين، وقد يكون هناك إنسان له سياره محمّلة والناس ينتظرونه، أو لديه مريض ويريد أن يذهب به، أو يريد أن يرى حالته، أو أي حاجة من حاجات الناس، أو هناك إنسان يقوم في الصف ولا يستطيع أن يطيل القيام.
إلخ.
فعلى الإمام أن يراعي حالة الناس، وقد جاء ما هو أخص من ذلك، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إني لأدخل الصلاة وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي؛ مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه) .
فالأم حين تسمع طفلها يبكي هل ستصلي أم تُسكت ولدها؟ إن قلبها يطير، ولهذا جاء عن أبي قتادة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالناس وهو حامل أمامة بنت زينب) ، وذلك حتى لا تبكي وتصيح وتشوش عليه، فحملها ووضعها أهون من أن يسمعها تبكي.
قال: (إذا أممت الناس فاقرأ بالشمس وضحاها، وسبح اسم ربك الأعلى، واقرأ باسم ربك) ، وهنا (اقرأ) في آخرها سجدة، وهذا رد على من يقول من المالكية: لا يجوز للإمام أن يقرأ بسورة فيها سجدة.
ولكن يقولون: إذا كانت القراءة سرية وسجد فإن من خلفه لا يعلمون سبب سجوده، أما إذا كانت في الجهرية وسجد فلا مانع؛ لأنهم يسجدون تبعاً له.
فهذه السور على الأئمة أن يراعوها، أما إذا كان هناك جماعة متفقون على إطالة الصلاة، وكلهم يعرف ذلك فلا بأس، ويوجد هناك جماعات في بعض البلدان لهم مساجد خاصة، ويجتمعون فيها، ويطيلون الصلاة فيها، وسمعت من شخص جاء إلى المدينة وأنه رُشِّح أن يكون إماماً، فاشترط أن يسبح في الركوع ثلاث عشرة مرة، وفي السجود ثلاث عشرة مرة فرُفضت إمامته، وقالوا له: أنت لا تصلي لوحدك؛ فإن الناس وراءك ويسبحون ثلاث تسبيحات فقلت له: لماذا تشترط هذا؟ قال: أريد أن أهرب من الإمامة.
والذي يهمنا في حديث معاذ رضي الله تعالى عنه أن الإنسان إذا كان يعمل عملاً متعلقاً بالآخرين فيجب عليه أن يراعي حالة الآخرين، سواءٌ أكان في صلاة، أم في غيرها.
وقصة الرجل الذي انفرد وصلى وحده يمكن أن نضاف إلى أدلة من يقول: إن الجماعة ليست شرطاً في صحة الصلاة لأن هذا الذي دخل مع الإمام، ثم رأى الإمام طول فانفرد عنه هل استأنف الصلاة من جديد، أو بنى على ما كان؟ الذي عندنا أنه خفف صلاته وانفصل عن الإمام، وأكمل تبعاً لما تقدم من تكبيرة الإحرام ودخوله مع الإمام.
فهل هذا يكون عذراً أو يكون نفاقاً؟ لقد رد النبي صلى الله عليه وسلم على معاذ دعواه النفاق على هذا الرجل.
الشيء الآخر أيضاً أنه لا ينبغي لمسلم أن يرمي مسلماً بلقب كهذا، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن لعن المسلم، وعن نعته بالكفر، بل قال: (من قال هلك الناس فهو أهلكَهم) ، أو (فهو أهلكُهم) ، (فهو أهلكُهم) : أي أشدهم هلاكاً.
و (فهو أهلَكهم) بالفتح: أي هو الذي أهلكهم، وهم ليسوا بهالكين.(87/3)
الصلاة خلف الإمام القاعد
قال المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها -في قصة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس وهو مريض- قالت: (فجاء حتى جلس عن يسار أبي بكر فكان يصلي بالناس جالساً، وأبو بكر قائماً، يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر) متفق عليه] .
حديث عائشة في قصة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالناس وهو مريض، وهناك فرق بين: (مريض) ، وبين: (اشتكى) ، ففرق بين إنسان مريض وآخر رجله مكسورة، وفرق بين مريض وآخر يده مكسورة، فهذا يشتكي يده أو رجله أو صداع رأسه، ولكن هذا مريض، فالجسم كله مريض، وهذا يشعر لأول وهلة أن الحالتين متغايرتان.
قولها: (وهو مريض) المعروف أنه مرضه صلى الله عليه وسلم الذي قبض فيه، وإذا كان الأمر كذلك فتكون رواية (جُحِش) متقدمة، ورواية (مرضه) متأخرة، لنكون على وعي من الأمر في الزمن والتاريخ للحالتين.
قالت: (فجاء حتى جلس عن يسار أبي بكر) .
قصة صلاته صلى الله عليه وسلم في مرضه متعددة، بمعنى أنه صلى الله عليه وسلم لما اشتكى، واشتد به الوجع، ولم يستطع الخروج للصلاة بالناس قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) ، وهذه القضية استوعبت الشيء الكثير، ففي بداية الأمر لما سمعت عائشة رضي الله تعالى عنها ذلك قالت: (يا رسول الله! إن أبا بكر رجل أسيف، فإذا قام مقامك لا يملك نفسه من البكاء، مر عمر فليصل بالناس) .
قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) .
فقالت عائشة لـ حفصة: (قولي لرسول الله.
لأنه كلامها، فقالت حفصة: إن أبا بكر إذا قام لا يُسمع الناس من البكاء، مُر عمر.
فقال: (إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر) وهذه ناحية عجيبة، فلماذا عائشة تدفع حتى لا يصلي أبوها بالناس، وهذه أكبر منزلة؟ ونعلم جميعاً أنه لن يتقدم أحد على أبي بكر، وقد جرت عدة حوادث، منها أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في خصومة فقال لـ بلال إذا تأخرت فأمر أبا بكر فليصل بالناس.
فـ أبو بكر مقدم، ومرة أخرى تأخر أبو بكر في مرض موته.
فقدموا عمر، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم الستار وقال: يأبى الله إلا أبا بكر.
فقال بلال: ما وجدت منك خيراً! وهنا حفصة لما قال لها صلى الله عليه وسلم: (إنكن لأنتن صواحب يوسف) ، قالت لـ عائشة: ما رأيت منك خيراً قط! وصواحب يوسف كن يخفين ما لا يبدين.
وهنا يأتي دور المتأمل الذي ينظر إلى الحقائق وما وراء الأحداث، فـ عائشة لا ترفض أن يقوم أبوها مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هل الأمر من السهولة إلى هذا الحد؟ إن أبا بكر بالنسبة لـ عائشة أبوها، فإذا بلَّغت عائشة الناس أن يصلي أبو بكر وكان فيهم ما فيهم فإن الشكوك والتهم تتوجه إلى عائشة من أجل أنه أبوها، فأرادت أن تبرئ نفسها وتبعد المسئولية عنها.
وقد قال عمر في السقيفة: ارتضاك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر ديننا وآخرتنا، ألا نرتضيك لأمر دنيانا؟! فكان تقديمه للصلاة مقدمة وترشيحاً للخلافة بعده صلى الله عليه وسلم.
فأُمِر أبو بكر، وكان يصلي مدة مرضه صلى الله عليه وسلم، تقول عائشة: فبينما أبو بكر يصلي بالناس، إذ وجد صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة، وفي بعض الروايات تفصيل آخر: (أراد أن يخرج فأغمي عليه، قال: ضعوا لي ماء في المخضب) ، فاغتسل فأراد أن يخرج فعجز، وكل مرة يقول: (أصلى الناس؟! فيقولون: لا.
وهم ينتظرونك) ، وأخيراً تأخر وأعاد الأمر لـ أبي بكر بالصلاة.
قالت: فوجد في نفسه خفة، فخرج يتهادى بين رجلين -قال ابن عباس للراوي: هل أخبرتك من الرجلان؟ قال: لا.
قال: هما علي والعباس - قالت: تخط قدماه، حتى أتى الصف، فشعر به الناس، فالتفت أبو بكر -وفي بعض الروايات: ولم يكن يلتفت- فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم بجانبه وهذه رواية للبخاري وهي مجملة، وللبخاري رواية أخرى مفصلة: (فجلس عن يساره) .
وهنا جلس عن يسار أبي بكر، وفي بعض الروايات أراد أبو بكر أن يتأخر فأومأ إليه أن: مكانك وهذا في صلاة أخرى، ولكن الأخيرة التي فيها حديث عائشة تبين أنه جلس عن يسار أبي بكر.
ولماذا نحتاج إلى معرفة مجلسه صلى الله عليه وسلم هل كان عن يمين أبي بكر أو يساره؟ لأن معرفة موقعه عليه الصلاة والسلام من أبي بكر -أثناء الصلاة- بين لنا الإمام من المأموم، وعليه تنبني مسائل وخلاف بين العلماء، وبعض العلماء استدل بهذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم على جواز ائتمام القائم بالقاعد، وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الأمر صلى قاعداً وكان إماماً؛ لجلوسه عن يسار أبي بكر، ولأن موقف المأموم من الإمام عن اليمين، وموقف الإمام من المأموم عن اليسار إذا كان واحداً، فـ أبو بكر بدأ بالصلاة إماماً وانتهى فيها مأموماً، ولهذا تحرى الفقهاء مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي بكر أهو عن يمينه أو عن يساره.
فهنا لما تبين أنه صلى الله عليه وسلم جاء وجلس عن يسار أبي بكر، وفي حديث عائشة: (فأخذ أبو بكر رضي الله تعالى عنه يأتم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يأتمون -أو يقتدون- بصلاة أبي بكر) .
عرفنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإمام، وأن أبا بكر كان مؤتماً برسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس يقتدون بـ أبي بكر، وجميع المؤتمين يأتمون بإمام قاعد.
ولهذا قالوا: لما كان في أول الأمر -لما جُحِش- أشار إليهم أن اجلسوا، وفي آخر الأمر لما قاموا خلفه وأبو بكر يقتدي به لم يأمرهم أن يجلسوا، ولم يأمرهم بالصلاة قعوداً خلفه وقد سئل أحمد -وهو ممن يبيح للمأموم أن يصلي قاعداً خلف الإمام القاعد- فقالوا له: لقد نسخ بأمر صلاته في آخر أمره! قال: لا؛ لأن فيه احتمالاً، وذلك أن أبا بكر بدأ الصلاة قائماً، فكان القيام ابتداءً، ومجيئه صلى الله عليه وسلم للصلاة قاعداً حدث بعد أن انعقد حكم القيام للجميع، ولا ينتقض بعد ذلك.
فـ أحمد يرى لمن صلى خلف إمام قاعد أن يقعد، والجمهور يرون عدم ذلك، ويقولون: إن الحالة الأخيرة ناسخة للحالة الأولى، والقيام مقتضى النص؛ لأن القيام واجب على كل مصل إلا لعذر، فإذا عذر الإمام بالقعود فما عذر المأمومين؟! والشارح وغيره يقولون: لقد أُمروا بذلك -أي: بمتابعة الإمام- والجمهور يقولون: قد جاء فعلٌ نَسَخَ هذا الأمر، أو أنه يكون للندب، أو للجواز، ولكن إذا جئنا إلى الأصل فكل من الإمام والمأموم مطالب بالقيام، لقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] ، فإذا طرأ عذر لواحد منهما لا ينجر على الثاني، وبالله تعالى التوفيق.(87/4)
الفرق بين صلاة الإمام والمنفرد في التخفيف
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أم أحدكم الناس فليخفف؛ فإن فيهم الصغير والكبير والضعيف وذا الحاجة، فإذا صلى وحده فليصل كيف شاء) متفق عليه] .
قوله: (إذا أم أحدكم الناس فليخفف) التخفيف أمر نسبي بحسب ما يعلم الإمام من حالات المأمومين، وهذا من أقوى الأدلة لإثبات تعليل الأحكام؛ فإن هناك من يقول: لا تعليل للأحكام، وإن الله يشرع ما شاء، كما قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء:23] ، فلا يقال: لماذا حرم هذا؟ ولماذا أباح هذا؟ فهو غني عن التعليل.
والإجابة عن ذلك أن التعليل وحكمة التشريع ليست راجعة إلى الله، فإن الله هو الغني الحميد، ولكن راجعة إلى العباد، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أم أحدكم الناس فليخفف) ، الفاء: (فاء السببية، أي: بسبب ما في الناس أو في المأمومين من ضعيف ومريض وذي حاجة وكلمة (ذا الحاجة) عامة، سواءٌ في شخصه أم في غيره.
وقد تقدم لنا أنه صلى الله عليه وسلم كان يخفف الصلاة من بكاء الأطفال شفقة على الأمهات، وهذا من الحاجة.
أو نقول: هذا نص في بيان تعليل الأحكام؛ لأن علة الحكم إذا ثبتت، ثم بعد عهد التشريع وانقطاع الوحي وتمام تدوين السنة، ثم جاءت حادثة، أو جاءت صورة لم تكن منصوصاً عليها -فيما تقدم من النصوص من كتاب وسنة- بالعلة التي علل بها الحكم نستطيع أن نلحق المستجد بعد عصر التشريع بما سبق أن شُرِّع ونُصَّ على تعليله، كما جاء تعليل تحريم الخمر بالإسكار، وجاء تحليل الميتة مع ما فيها من مضرة للجسم للضرورة.
إلخ.
فمن هذا الحديث يستدل على تعليل الأحكام، واعتبار العلة في تأثيرها في الحكم.
قوله: (فإذا صلى وحده) ، أي: منفرداً، (فليطول ما شاء) ، فتصح الصلاة منفرداً.
وهذا أيضاً من أدلة صحة الصلاة منفرداً، فيطوِّل ما شاء لأنه أمير نفسه وأدرى بحاجته، وإن تعب خفف.
وذكر الشارح هنا مبحثاً، وهو إذا كان يصلي المغرب أو يصلي الصبح وحده، وبدأ في الركعة الأولى بالبقرة كما فعل معاذ في صلاة العشاء، ثم بدأ في الثانية بآل عمران، فستطلع الشمس وهو لم ينته بعد، فهل (يطول ما شاء) على عمومه، أو قد قُيِّد هذا العموم بما لم يخرج وقت الصلاة؟ بعضهم يقول: حتى ولو خرج وقتها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (فليطول ما شاء) .
نقول: نعم ما شاء، لكن هذا له حد لا يتعداه.
قالوا: جاء عن الصديق رضي الله تعالى عنه أنه صلى الصبح فأطال، فلما سلم قالوا: كادت الشمس أن تطلع علينا.
قال: إن طلعت علينا لم تجدنا غافلين.
ولكن هذا أثر موقوف على أبي بكر رضي الله تعالى عنه، والله أعلم بصحة هذا الأثر، وعلينا أن نتقيد بالوقت، لا أننا نطيل ما شئنا حتى يخرج الوقت.(87/5)
الأحق بالإمامة وخلاف العلماء فيه
قال المصنف رحمه الله: [وعن عمرو بن سلمة قال: قال أبي: جئتكم من عند النبي صلى الله عليه وسلم حقاً، فقال: (إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآناً، قال: فنظروا فلم يكن أحد أكثر مني قرآناً، فقدموني وأنا ابن ست أو سبع سنين) رواه البخاري وأبو داود والنسائي] .
هذا الحديث بداية مبحث من أحق بالإمامة؟ اتفق العلماء على أن أحق الناس بالإمامة أتقاهم وأقرؤهم وأعلمهم، وكل من جمع تلك الصفات الخيرة.
فإذا لم توجد كل هذه الصفات فمن أحق؟ نعلم أولاً أن هناك حديثاً -وإن كان سنده فيه شيء-، وهو مكتوب على محراب المسجد النبوي في القبلة (إن أئمتكم وافدوكم إلى الله، فانظروا من توفدون) ، فلو كان لنا حاجة عند ملك، وأردنا أن نرسل شخصاً أوشخصين فإنا نرسل الأشخاص الذين يحسنون مخاطبة الملوك.
فإذا كنا -ولله المثل الأعلى- قدمنا الإمام ليدعو ونؤمن بعده فهو وافدنا إلى الله، فمن الذي نختاره وافداً لنا يفد على الله، ويسأل حاجتنا؟ إنه أفضلنا وخيرنا.
والخيرية أنواع، وفي أبواب متعددة، فمنها الشجاعة، والكرم، والعلم، والمعرفة، وكل هذه من صفات الخير، ولكن هناك صفات ترجع لأمور الدنيا، وهناك صفات ترجع لأمور الدين، فنجد النبي صلى الله عليه وسلم وضع المبدأ في هذا المقام (أقرؤكم) ، و (أقرأ) هنا أفعل تفضيل، فهل معنى القراءة من مادة (قرأ) بمعنى: تلا كتاب الله، أو (قرأ) بمعنى فقه؟ نجد بعض الناس يختلفون في ذلك، ولكن إذا كان الشخص قارئاً فقيهاً ورعاً زاهداً فهو أولى، ولا شك في ذلك، وإذا وجدت بعض الصفات، بأن كان عابداً زاهداً ورعاً لكنه عامي لا يحسن التلاوة، ووجد إنسان من عامة الناس مستور الحال، وهو أجود الحاضرين قراءة لكتاب الله، بمعنى: أجود الناس قراءة -كما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه تفسيره: بأن يكون مجوِّداً معرِباً لكتاب الله- فنحن في حاجة إلى من يقرأ القرآن معرِباً، لا لمن حفظ حروفه، فمجرد حفظ الحروف مع عدم إقامة التلاوة لا يصلح في هذا المقام.
فـ (أقرؤكم) أي: أجودكم قراءة وبعضهم يقول: (أقرؤكم) أكثركم قراءة.
فيحتمل هذا المعنى، فمثلاً: يوجد عندنا شخص يحفظ جزءاً واحداً، لكنه يقرؤه قراءة مجودة، فيعطي كل حرف حقه، ويخرج الحروف من مخارجها، ويعرف كيفية النطق بالحروف في القراءة.
وشخص آخر يحفظ نصف القرآن، لكنه لا يعرف قواعد القراءة، فحفظه مجرد سرد، ولا يعرف أماكن الوقف، أو لا يحسن النطق -كما يقولون- في المد والغنة والتنوين.
إلخ.
فأيهما يُقدم (أقرؤكم) بمعنى: أكثركم، ولو لم يعرب القرآن، أم (أقرؤكم) بمعنى: أجودكم قراءة؟ لاشك أن الأجود قراءة هو المقدم.
وهنا مسألة: هل إعراب القرآن في القراءة بمعنى الفقه، أم أن الفقه قسم مستقل، والإعراب قسم ثان مرجِّح؟ سيأتي الحديث الآخر: (فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة) ، فأعلمهم بالسنة يتعلق بجانب الفقه.
نبقى في حديث عمرو بن سلمة: أن أباه جاء وقال: (جئتكم من عند النبي حقاً) ، و (حقاً) تأكيد لمعنى النبوة؛ لأن المجيء أمر محسوس، فهو مشاهد حين ذهب وأتى، فهو يقول: من عند النبي نبوة حقيقية.(87/6)
فضل الأذان والمراد بالأقرأ لكتاب الله عز وجل
قوله: (إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم) ، وفي بعض الروايات: (أكرمكم) ؛ لأن الأذان دعاء، فالمؤذن يدعو الناس إلى الله، والمؤذنون هم أطول الناس أعناقاً، وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول: (لولا الخلافة -أو لولا الإمامة؛ لأن الخليفة كان هو الإمام، والإمام هو الخليفة- لكنت مؤذناً) لما في الأذان من عظيم الأجر.
ولا يسمع صوت المؤذن شجر ولا مدر ولا حجر ولا جن ولا إنس إلا شهد له والأذان أمر ليس بالهين، وفي الحديث: (ثلاثة يوم القيامة على كثبان من المسك) وذكر منهم: (ورجل أذن محتسباً) .
فشأن المؤذن عظيم، والأذان هو شعار الإسلام، ولذلك قال: (فليؤذن لكم أكرمكم) ، فعلى سبيل المثال، لو كنا في مخيم وفيه الخدم والمشتركون، وفيه أمير للمخيم، فجاء واحد من الخدم ونادى: هلموا تعالوا.
وجاء أمير القوم أو من دونه، أو مِن مساعديه ونادى: هلموا يا قوم.
فالإجابة الأكثر تكون للشخص الذي هو أعلى درجة وله مكانة في المجتمع، فكذلك المؤذن.
لكن الآن كثر الأذان والمؤذنون، ولا نستطيع أن نجمع أكرم الناس ليؤذنوا، وجاء في الآية: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ، فإذا وجد إنسان مستقيم الحال على قدر من الصلاح، ومعروف بين الناس بالاستقامة فلا مانع أن يؤذن لنا.
قال: (فليؤذن أحدكم -وفي رواية: أكرمكم- وليؤمكم أكثركم قرآناً) .
هذا اللفظ يفسر لنا: (أقرؤكم لكتاب الله) بأن المراد من وعى قرآناً أكثر من غيره، ولكن على ما تقدم ليس مجرد حفظ حروف دون تجويدها وإعرابها.
يقول بعض العلماء: إن حفظ القرآن في الصدر الأول يتضمن الفقه؛ لأن السلف كانوا كما قال ابن مسعود: (كنا إذا أخذ أحدنا عشر آيات لا يجاوزهن -وفي حديث ابن عمر: خمس آيات- حتى يحفظهن ويتعلمهن ويعمل بهن، فأخذنا كتاب الله حفظاً وعلماً وعملاً) ، فقالوا: من حفظ القرآن أو حفظ بعض السور معناه أنه حفظ حروفها، وفقه معانيها، وعمل بها، فالأكثر قرآناً أكثر فقهاً وعلماً وعملاً.
ولكن نجد في حديث عمرو هذا أنه كان غلاماً عمره ست أو سبع سنوات، وفي بعض الروايات: (ثمان سنوات) ، قال: (فنظروا فلم يكن أحد في القوم أكثر قرآناً مني) ، وهو ابن ست أو سبع أو ثمان سنوات.
ويذكرون في سبب ذلك أنه كان غلاماً فطناً ذكياً، وكان المسلمون الذين يفدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم يمرون بهم ذهاباً، ويمرون بهم عند عودتهم، وينزلون عندهم، فيسألهم: ماذا سمعتم من القرآن؟ فيسمع منهم ما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحفظ عنهم، ولم يكن يفعل ذلك من قومه أحد، فكان لتلقيه المسلمين العائدين من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وسؤالهم عما لديهم من القرآن يحفظ أكثر من الموجودين في بني سلمة.
ولذلك قدموه ليصلي بهم وهو ابن ست أو سبع، وفي رواية: (ابن ثمان) ، وليكن ابن ثمان فسنه -قطعاً- دون البلوغ، وفي تتمة خبره أنه كان يصلي في بردة، وكانت قصيرة فإذا سجد تقلصت، وقال نسوة: استروا إمامكم أو غطوا عنا است صاحبكم.
قال: (فاشتروا قماشاً، فخاطوا لي قميصاً، فما فرحت بشيء كفرحي بذلك) .
إلخ.(87/7)
حكم إمامة الصبي المميز
مسألة: هل تصح إمامة الصبي أم لا؟ إن إمامة الصبي، وإمامة المرأة، وإمامة الفاسق، وإمامة الأعرابي للحضري كل هذه مباحث مفصلة في كتب الفقه، ومن أكثر من فصل في ذلك صاحب كتاب: (كشاف القناع) عند الحنابلة.
فيرى بعض العلماء صحة صلاة البالغ الكبير في الفريضة خلف المميز الصغير، ونجد بعض العلماء يقول: لا تصح صلاة المفترض البالغ خلف الصبي فماذا عن هذا الحديث؟ قالوا إنه كان في النافلة، وابن عبد البر وغيره يقول: صرف هذا إلى النافلة بعيد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآناً) ، فيؤمهم في النافلة أم في الفريضة؟ ثم أيضاً في سياق كلام أبيه حين جاء وقال: أمرنا صلى الله عليه وسلم أن نصلي صلاة كذا في وقت كذا، وصلاة كذا في وقت كذا يعني: علمهم أوقات الصلاة، وأمرهم أن يؤذن أحدهم، وأن يصلي بهم أكثرهم قرآناً، فهل السياق في النافلة أم في الفريضة؟ في الفريضة بلا شك.
وقوم أخذوا بهذا الحديث، ولكن كره مالك إمامة الصبي، وكل من لم يصحح اختلاف النية في الصلاة قالوا: هل صلاة هذا الصبي التي يؤم فيها فريضة أم نافلة؟ هي في حقه هو نافلة؛ لأنه لم يجر عليه التكليف بعد.
وليس عليه فريضة في الإسلام إلى الآن، فقالوا: كيف يؤم المتنفل المفترضين؟ وعدم البلوغ يدل على عدم التكليف! وآخرون قالوا: هذا نص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل: ليس هذا نصاً من رسول الله، فنص رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدة عامة، والتطبيق جاء من قومه، فهل قال: يصلي لكم عمرو بن سلمة؟ وهل قال: يصلي لكم الصبي الحافظ؟ وهل قال: أكثركم قرآناً ولو كان مميزاً صغيراً؟ لكنهم لما سمعوا قاعدة التشريع: (أكثركم قرآناً) جاؤوا يبحثون عمن هو أقرؤهم قرآناً فما وجدوا إلا هذا الغلام فقدموه.
فقاعدة التشريع العامة سليمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصالحة لكل زمان ومكان، ولكن التطبيق العملي يكون من الناس، فهل -يا ترى- لما قدموا هذا الغلام علم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرهم على ذلك، أم أن هذا اجتهاد منهم؟ هذا اجتهاد منهم في تطبيق القاعدة.
وأجاب الآخرون فقالوا: إنه اجتهاد منهم في تطبيقها على أهم أعمال الإسلام وهي الصلاة، ثم لم يأت بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم: إن إمامكم لا تصح إمامته.
ولم يأت أن الرسول صلى الله عليه وسلم أنكر عليهم فيما بعد.
وقد كان صلى الله عليه وسلم لا يُقَر على شيءٍ باطل، ولو كان لا يعلمه، فقد نبِّه على القذارة في نعليه، فكان يصلي وفي أثناء الصلاة أتاه جبريل وقال: اخلع نعليك؛ لأن فيهما أذى.
فخلع نعليه وهو في الصلاة، وخلع الناس نعالهم، فلما سلم قال: (ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا.
قال: أحسنتم) يعني: تأسياً بما رأوه من الفعل، وإن لم يعلموا السبب.
ثم قال: (إن جبريل صلى الله عليه وسلم أتاني فأخبرني أن فيهما قذراً) ، فبين لهم أنه خلعهما عن إخبار من جبريل، أي: لم يقره الله على ما هو عليه من صلاة بأذى في النعلين.
فلا يُقرُّه على إمامة الغلام لقومه، وكل هذا -كما يقال- تعليل لما ذهب إليه كل فريق.
فالخلاف في إمامة الصبي، ولكن إذا اجتمع قوم لا يوجد فيهم قارئ إلا غلام مثل هذا، كما لو قدر أن قوماً في البادية ليس عندهم قارئ، فإنه يصلي بهم.(87/8)
كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة [5]
إمامة المسلمين في الصلاة منزلة رفيعة وشرف عظيم، وقد جعل الشارع لذلك شروطاً وأوصافاً، فمن تحققت فيه فهو الأولى بالتقديم، فيقدم الأكثر قرآناً -أي: الأكثر حفظاً والأحسن تجويداً- ثم الأعلم بالسنة، ثم الأقدم هجرة، ثم الأقدم سلماً، ثم الأكبر سناً.
ولا يجوز لرجل أن يؤم آخر في سلطانه إلا بإذنه، فإن حق ذي السلطان مقدم على الحقوق المتقدمة.
ولا يجوز لامرأة أن تؤم الرجل، ولا لأعرابي أن يؤم المهاجر والحاضر، ولا يجوز أن يؤم فاجر مؤمناً.(88/1)
تابع أحكام صلاة الجماعة(88/2)
الاعتبارات الشرعية في اختيار الإمام للصلاة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى، فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة، سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلماً -وفي رواية: سناً-، ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه) رواه مسلم] .
حديث أبي مسعود هذا فيه تفصيل ما أجمل في حديث عمرو.
فنا (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) ، وحديث عمرو: (أكثركم قرآناً) ، فالمراد الأكثر مع أجود وأحسن قراءة، فإن وجد كثير القرآن لا يعرب القراءة، وقليل القرآن يعرب فنقدم الذي يعرب ولو كان أقل حفظاً.
قال: (فإن كانوا في القراءة سواء) ، أي: كلاهما يعرف التجويد، ويحسن التطبيق، وليس المراد مجرد القراءة؛ لأن العبرة في التجويد التطبيق، فإنه أخذ عن النبي صلى الله عليه وسلم تلقيناً وسماعاً، فإن كان في ذلك سواء فمن الذي يقدم؟ وقبل هذا قال: (يؤم القوم) ، ولم يقل: سيدهم، ولا أشرفهم، ولا أميرهم، ولا أفضلهم، إنما جاء إلى وصف في الإسلام، وهو الربط بالأصل الذي هو كتاب الله، وفي هذا توجيه الأمة بأكملها أن تتجه إلى إجادة قراءة القرآن؛ لأن هذه الصفة تؤهلهم إلى إمامة القوم، ونعلم من الناحية الأخرى أن في الخلافة الكبرى، أو في أمور الرئاسة والسياسة والإدارة يتولى خلافة الأمة وسياسة أمرها أفضلها، كما جاء في تولية أبي بكر الصلاة بالناس، وسيأتي التنبيه عليه.
فإن كانوا في القراءة سواءً، ونريد أن نقدم أحد الشخصين أو الأشخاص ننتقل إلى مرجح آخر وهو: (أعلمهم بالسنة) ، يعني: أفقههم بالسنة، ولماذا لم يقل: أفقههم بالكتاب، وقال: أقرؤهم لكتاب الله؟ (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) ، يقول العلماء: لأن فقه السنة أعم من فقه القرآن، فالسنة هي المبينة والمفصلة لجميع آيات الأحكام في كتاب الله، وما من آية في فريضة ولا في حد إلا والسنة تبين مجملها، أو تقيد مطلقها، أو تخصص عمومها، فكما قيل: الكتاب يحتاج إلى السنة أكثر مما تحتاج السنة إلى الكتاب، ومن هنا تجب العناية بفقه السنة.
وإذا جاء بعد (أقرؤهم) (أفقههم للسنة) فأقرؤهم تُحمل على معنى الفقه أم على تجويد القراءة؟ تحمل على تجويد القراءة؛ لأن الفقه جاء منصوصاً عليه في قوله: (أفقههم بالسنة) .
وهنا يأتي العلماء بقضية، ويقولون إن الأقرأ لابد أن يكون الأفقه، قالوا: لأننا وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر للصلاة بالناس مع أنه قال: (أقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب) ، وقال: (خذوا القرآن من أربعة من عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأبي بن كعب) ، فذكر أربعة أشخاص ليس فيهم أبو بكر وعمر، وقال: (أقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب) ، فكيف يقدم أبا بكر وقد شهد بأن أقرأهم أبي بن كعب؟ أجابوا عن ذلك بقولهم: إن تقديم الرسول صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر لا لمجرد الصلاة، ولكنه إرهاص وتنبيه وإرشاد وتعليم للأمة بأن الذي سيخلفه في مقامه هو أبو بكر، بدلالة تقديمه له في الصلاة، وعند أبي بكر من القراءة والفقه ما يصلح الصلاة.
وإنما قدِّم الأفقه؛ لأن الإمام قد يطرأ عليه في صلاته ما يبطلها أو يخل بها، فلابد أن يكون فقيهاً عالماً، يتجنب ما يبطل الصلاة أو يخل بها.
ولكن أمور فهم الصلاة وإبطالها أمر ضروري، وقل من يجهل ذلك، فـ أبو بكر رضي الله تعالى عنه لديه من القراءة والفقه ما يقتضي ذلك وزيادة، ولذا كانوا يقولون: أبو بكر أفقه الناس، أو أفقه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في شهادة عمر وعثمان وغيرهما.
قال: (فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة) .
قال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] ، فالذين سبقوا إلى الهجرة لهم خصوصية عمن لم يهاجر إلا بعد الفتح، ولا هجرة بعد الفتح، ثم يبحث العلماء، في أقدمهم هجرة هل خاص بالسلف الأول المهاجرين من مكة إلى المدينة، أم أن الهجرة لم تنقطع؟ قالوا: لو قدر في بلد من البلاد أنه تضايق المسلمون واضطروا إلى الهجرة إلى بلد إسلامي، فإن اعتبار التقدم في الهجرة هناك يعتبر هنا الآن.
وبعضهم قال: إن أبناء المهاجرين السابقين يعطون حقوق الآباء، فابن السابق هجرة مقدم على ابن المتأخر هجرة، وكل ذلك اعتبارات للترجيح.
فأحياناً كان يأتي النفر الواحد مهاجراً، وأحياناً يأتي الرجل ومعه الرجلان والثلاثة والعشرة والأربعون مهاجرين معه، فإن كان أحد سبق ولو بيوم فهو مقدم، وإن هاجروا في وقت واحد فلا ترجيح.
قال: (فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلماً) .
إن كانوا في الهجرة سواء فيقدم أقدمهم في الإسلام قبل أن يهاجروا؛ لأنهم -كما يقولون- كانوا يعدون المسلمين عداً، كما يقول بعضهم: (كنت سابع سبعة) ، فـ عمر (لم يتقدم عليه ثلاثون رجلاً) ، وحمزة كان قبله بثلاثة أيام.
وقد أحصى المؤرخون تاريخ السابقين الأولين في الإسلام، ومتى أسلموا، فمن أسلم قبل دخوله صلى الله عليه وسلم دار الندوة، ومن أسلم بعد أن خرج منها كل هذه التواريخ مقيدة.
فإذا كانوا في الهجرة سواءً فالذي تقدم إسلامه هو الإمام، وكل ذلك مفاضلة فيما بينهم لمن يستحق الإمامة، وكل هذا مع اجتماع أقرئهم وأعلمهم وأسبقهم هجرة.
أي: إذا استووا في كل ما تقدم.
ثم (أكبرهم سناً) ؛ لأن الإمام كلما كان كبير السن كان موضع توقير عند الناس.(88/3)
السلطان أحق بالإمامة في سلطانه
ننتقل إلى القسم الثاني من الحديث: (ولا يَؤُمَّنَ الرجلُ الرجلَ في سلطانه) .
فكما أنه لا يؤم القوم أجهلهم، ولا عديم المعرفة بالقراءة وفيهم من هو أولى منه، كذلك لا يؤم الرجل الرجل في سلطانه.
والسلطان كلمة عامة، وهي في كل شيءٍ بحسبه، فهناك السلطان الأعظم -كما يقولون-، وهو ولي أمر المسلمين، وحاكم الدولة، أو حاكم الأمة، وهناك أمير المقاطعة، وهو سلطانها.
وحاكم القرية هو سلطانها، فكل من كانت له ولاية على جماعة فهو سلطانها، قالوا: ويتبع ذلك إمام المسجد الراتب ورب البيت؛ لأنه سلطان البيت، كما في الحديث: (والرجل راع في أهل بيته) .
وهنا قوله: (لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه) فيه احترام السلطة، واحترام الحق المعنوي؛ لأن السلطنة أو السلطان أمر معنوي، فقد يختار ولي أمر المسلمين شخصاً اليوم، ثم يُتوفى ويأتي غيره، أو يعزله ويأتي بغيره، فهو أمر نسبي لشخص لأمر معنوي، فيُحترم هذ الحق؛ لأن من حقه في سلطانه أن يأمر وينهى، وأن يكون المقدم على غيره؛ لأن رعيته في سلطنته لا تتقدم عليه، ولا تفتئت عليه في أوامره، ولا في تعليماته، وكذلك إمامة الصلاة ولاية، فلا ينبغي أن يتقدم شخص أجنبي على شخص في سلطانه يؤمه، حتى إنهم قالوا: لو كان هذا السلطان المطلق على الأمة والدولة، أو السلطان المحدود السلطة في إقليم أو قرية، بالنسبة لمن معه أقلهم قراءة، فمادام يصحح الصلاة، ولا يلحن لحناً يخل بالمعنى، ولا يخطئ في أدائها، -أي: يحسن الصلاة- فيكون حينئذٍ مقدماً على من هو أفضل منه قراءة ونسباً وسبقاً للإسلام.
إلى آخره.
وغاية ما فيه أنها: صلاة الفاضل خلف المفضول، وصلاة الفاضل خلف المفضول صحيحة بإجماع المسلمين، فقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم خلف عبد الرحمن بن عوف، واختلف في أنه صلى خلف أبي بكر أو لم يصل خلفه، ويكفينا أنه صلى خلف ابن عوف.
فصلاة الفاضل خلف المفضول صحيحة، وهنا لو كان صاحب السلطان أقل رتبة في مراتب الإمامة، وخلفه أو معه من هو أعلى رتبة في مقام الإمامة فلا يحق له أن يتقدم على صاحب السلطان، ولكن إن أذن له السلطان فلا بأس، ويكون قد تنازل عن حقه في سلطانه، وسمح لغيره أن يتقدم بالإمامة.
فقوله: (لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه) كلمة (سلطان) هنا عامة، سواءٌ أكان السلطان العام كولي أمر المسلمين عموماً ملكاً أو رئيساً أو غير ذلك، أم كان في مقاطعة أو في إقليم أو في قرية أو هجرة أو نحو ذلك.(88/4)
الإمام المولّى من قبل السلطان أحق بالإمامة من غيره
وقاسوا على هذا أيضاً إمامة المسجد إذا كان الإمام راتباً؛ لأن الإمام الراتب مولَّى من قبل السلطان، فهو أحق بالإمامة من غيره، حتى قالوا: إذا تأخر الإمام الراتب ينتظرونه ما لم تكن مضرة، فإن كان مكانه قريباً أرسلوا إليه، فإن اعتذر أو لم يوجد وخيف الضرر فعلى الحاضرين أن يقدموا ويختاروا لأنفسهم من يصلي بهم.
وقالوا: لو قدر أنه تأخر لعذر، وأرسلوا إليه فلم يجدوه، واختاروا وقدموا من يصلي بهم، فجاء أثناء الصلاة فمن حقه أن يتقدم للإمامة، وعلى الذي اختاروه للإمامة أن يرجع إلى الصف مؤتماً.
وماذا يفعلون فيما سُبِق به، كأن جاء بعد أن صلوا ركعتين؟ قالوا: يصلي بهم الركعتين الباقيتين، ثم يقوم لاتمام صلاته، والمأمومون يبقون جالسين، فإذا أتى بالركعتين اللتين فاتتاه وأتم لنفسه الصلاة -وهم قد تمت صلاتهم- سلّم وسلموا معه، وإن ترك الإمام الذي اختاروه يتم الصلاة وائتم به فلا مانع في ذلك.
فعدم إمامة الرجل الرجل في سلطانه أولاً وقبل كل شيء فيه احترام للسلطة واحترام للحقوق، وألا يفتئت أحد على أحد في مركز سلطته وسلطانه مهما كان مستواه، ومهما بلغ من أمره.
وكذلك لا يؤم الرجل الرجل في بيته؛ لأنه سلطان بيته إن كان له أن يصلي جماعة في البيت، فقد تكون هناك أعذار له، كأن يكون المسجد بعيداً، أو كان هناك مرضى، وخيف من التفرق، واحتاجوا إلى أن يصلوا في البيت فحينئذٍ الأحق بالإمامة صاحب البيت، ولو كان أيضاً أقل رتبة في الإمامة من بعض الحاضرين؛ لأن حقه مقدم، إلا إذا أذن وقدم فلاناً ليصلي، فقال له: الحق لك لأنك صاحب البيت، فيقول: قد أذنت لك فحينئذٍ يتقدم من هو أولى بمرتبة الإمامة فيصلي؛ لأن صاحب البيت تنازل عن حقه وأذن له، فالصلاة في محلها.
قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه) .
نأتي إلى ناحية أخرى اجتماعية، وهي: احترام حرمة البيوت، فإذا دخلت بيتاً ورأيت مجلساً خاصاً متميزاً لصاحب البيت سواءٌ أكان كرسياً، أم كان فراشاً، أو دخلت مجلساً عاماً، وتعرف من واقع الحال أن هذا صدر المجلس وهو لصاحب البيت، فلا ينبغي لك أن تجلس في مجلس صاحب البيت إلا بإذنه؛ لأن هذا حقه، والجلوس مكانه افتئات عليه.
فقوله: (تكرمته) هي الموضع الذي يُكرم به صاحب البيت، وهو مكان مميز كما تقدم، فإذا عرفت أن هذا المكان متميز عن بقية المجلس، وعرفت أن هذا لصاحب البيت، سواءٌ أكان صاحب البيت من أرباب المنازل العليا والمراكز العليا، أم كان من عامة الناس فهذا حق له لا يحق لك أن تجلس عليه إلا بإذنه، وكذلك إذا دخل إنسان في غيبة الرجل، وكان من محارم أهله، فلا يحق للمرأة أن تجلس شخصاً ما على فراش رجل إلا بإذنه، فإن كان قد أذن لها فبها وإلا منعته.
وهذا من باب احترام فراش الرجل.
فقد جاء أبو سفيان رضي الله تعالى عنه قبل أن يسلم قبل فتح مكة وبعد صلح الحديبية، وقد نقضت قريش العهد، فجاءت خزاعة تستنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش التي نقضت العهد، فعلم أبو سفيان فسبق وجاء يطلب تمديد الهدنة وتوثيقها، فجاء إلى أبي بكر ليشفع له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: والله ما أنا بالذي يشفع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء إلى عمر، فقال عمر: أنا أشفع لكم! والله لو لم أجد إلا الذر أقاتلكم به لقاتلتكم.
وجاء إلى علي، قال: والله لا أستطيع أن أشفع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء إلى فاطمة، قالت: أنا امرأة لا أجير على الرجال، قال: مري ابنيك هذين الحسن والحسين، قالت: إنهما غلامان لا يملكان أن يجيرا أحداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل على ابنته أم حبيبة وهي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما دخل عليها كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فراش فطوته، ومنعته أن يجلس عليه، وهو فراش من ليف، قال: والله يا ابنتي لا أعلم، أطويتي هذا الفراش ظناً به عليَّ، أو ظناً بي عليه، يعني: إما لأنه لا يليق بي أنا، أو لأني لا أليق به، قالت: لا، إنه فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل مشرك نجس، لا يحق لك أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: والله لقد أصابك يا ابنتي بعدي شرٌ، ما كنت هكذا، فهي كرمت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبيها؛ لأن أباها ما زال كافراً، فلا يليق أن تجلسه على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبناءً على ذلك: فإذا كان للرجل فراش خاص، سواءً كان فراش نومه أو غيره، لا ينام أحد في مكانه حتى أولاده، ولا يليق للولد أن ينام في فراش أبيه، ولا يحق للأم أن تأذن للولد في ذلك.
وكذلك البنت لا تنام في فراش أمها، وهكذا لا ينبغي لإنسان دخل بيتاً أن يبيح لنفسه ما لصاحب البيت من مكانة مختصة به: فراش ينام عليه، أو محل يجلس فيه.(88/5)
الأحق بالمكان في المسجد
وقد بحث العلماء مسألة قريبة من هذا، فمثلاً: المحلات العامة كالمساجد، إذا كان للإنسان مكاناً في المسجد، واعتاد الإتيان إليه، وهو ممن يحضر الصلوات الخمس، وتعود أن يأتي مبكراً، ويجلس في مكان معين، فلو أن إنساناً آخر سبق إليه، أيحق له أن يجلس فيه؟ وإذا جاء صاحب هذا المكان، أيحق له أن يقيمه منه ليجلس مكانه؟ بعض العلماء يقول: لا يقيمه؛ لأنه جاءت بعض الآثار في النهي عن أن يتوطن إنسان موقعاً في المسجد توطن البعير، لأن البعير إذا وطنته في مكان، لا يمكن أن يتحول عن ذاك المكان، يألف ذاك المكان، ولا يمكن أن يبرك إلا فيه، فنهى عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعض العلماء قال: ما دام هذا شخص متعود وله عادة في السبق ومحافظ على الجماعة، يجب أن نحترم محافظته ومبادرته، ونكرمه بترك المكان له.
وبعضهم قال بالتفصيل: فهذا الشخص الذي اعتاد مكاناً بعينه، وعرفه الناس به، ننظر أللناس مصلحة عنده، فيبقى في المكان الذي عرف به، حتى لو جاء صاحب حاجة، يريده فيما فيه المصلحة عرف مكانه، دون أن يبحث في المسجد عنه، أم أنه شخص عادي من عامة المسلمين؟! فإن كان شخصاً للناس عنده مصلحة، لم يفتي الناس، وعرف الناس مكانه، وإذا وقعت بإنسان نازلة فيعلم أن فلاناً في المسجد في المحل الفلاني، فيأتي السائل ويقال له: فلان -مثلاً- أمام باب الرحمة، أو فلان أمام كذا، فإن اشتهر بهذا المكان، وكان للناس عنده حاجة يقصدونه فيها فالأولى أن يترك له مكانه لخدمة الناس؛ لأن من يدخل ويأتي إلى مكانه سيجده هناك.
لكن لو أننا أخذنا مكانه عليه فتارة يجلس في اليمين، وتارة يجلس في اليسار، وتارة هنا، وتارة هناك، كان في ذلك تفويت المصلحة على الناس.
فإذا سبق إنسان وجاء ذلك الشخص الذي اعتاد هذا المكان فمن حقه أن يقيم من جلس فيه، وأن يجلس في مكانه، والله تعالى أعلم.(88/6)
من لا تصح إمامته(88/7)
الخنثى المشكل
قال المصنف رحمه الله: [ولـ ابن ماجة من حديث جابر رضي الله عنه: (ولا تَؤُمَّنَّ امرأةٌ رجلاً، ولا أعرابيٌ مهاجراً، ولا فاجرٌ مؤمناً) ، وإسناده واه] .
بعد أن بين المؤلف رحمه الله تعالى الممنوع من الإمامة في أمور مخصوصة، كالرجل في سلطانه، والرجل في بيته جاء بمن لا تصح إمامته بصفة عامة، لا بمن هو مخصوص بوصف معين، فقال: (ولا تؤمن امرأة رجلاً) ، وأي امرأة؟ لقد أطلقت، وأي الرجال؟ لقد أطلق، كأنه يقول: لا تصح إمامة المرأة للرجال، وقيد (رجلاً) يخرج النساء، فما قال: ولا تؤمن امرأة في الصلاة فإذا أمت المرأة امرأة، أو أمت المرأة صبياً فكل ذلك جائز.
والخنثى المشكل هو إنسان اجتمعت له آلتا الذكورة والأنوثة معاً، ولكن قد تكون فيه علامات الذكورة أوضح، بأن يبلغ بالاحتلام كما يبلغ الرجال، فتنبت له لحية، أو تكون فيه علامات الأنوثة أوضح، بأن يحيض كما تحيض المرأة، ولا يمني كما يمني الرجل، فإذا التبس وحصل هذا وهذا فبابه طويل ومشكل كما يقال.
فإذا وجد خنثى مشكل قالوا: إذا كان مشكلاً فلا تؤمنه المرأة مخافة أن يكون رجلاً.
فالمرأة تؤم النسوة، ونجد الشارح لهذا الكتاب يذكر عن الطبري وعن غيره أن المرأة لها أن تؤم الرجال في التراويح إذا لم يوجد قارئ إلا هي، وهذا مخالف لعمومات الشرع.
فهل ستقرأ سراً أم جهراً؟ فإن قرأت جهراً فمشكل، وإن قرأت سراً تركت السنة، فالأولى كما قال الآخرون: أخروهن حيث أخرهن الله.
وعلى هذا لا تؤم المرأة رجلاً، وإذا كان زوجها، وهي متعلمة وقارئة، وهو غير قارئ فإنها لا تؤمه؛ تؤمنه، فركوعها وسجودها في الصلاة أمامه ربما شغله وأفسد عليه صلاته.
المرأة لا تؤم الرجل، وما قيل من جواز ذلك فهو خارج عن نطاق مذاهب الأئمة الأربعة، ويكفينا ما عليه أئمة المذاهب رحمهم الله.(88/8)
إمامة الأعرابي بالمهاجر
قال: (ولا أعرابي مهاجراً) الأعرابي: واحد الأعراب، و (الأعراب) مرادف البادية والبوادي، والبدوي: هو من تبدى في الخلاء، والأعراب يقابلهم الحضر، فإذا كان شخص أعرابياً -أي: يعيش مع الأعراب في الخلاء بعيداً عن المدن- وحياته حياة الأعراب مع الإبل والغنم في المرعى، وعلى تلك الحياة المعروفة.
فإذا كان هناك حضري وأعرابي فهل يؤم الأعرابي الحضري؟ الحديث هنا -وإن كان سنده ضعيف جداً معناه العام يؤخذ منه أن الغالب على حالة الأعراب أنهم غير فقهاء في الدين، قال تعالى: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة:97] ، فالغالب على الأعراب عدم الفقه في الدين، وعدم معرفة أحكام الصلاة، والغالب على المدني الذي يعيش في المدن أن يفهم ويحفظ، وإن لم يفهم ويحفظ فسيرى وينظر ويأخذ من الناس.
فالحضري أسرع إلى فقه الإسلام، وأسرع إلى معرفة أحكام الصلاة من الأعرابي.
وهناك قصة تعطي صورة عن بعض الأعراب، وتحمل طلبة العلم ثقل مسئولية تعليم الناس، خاصة الأعراب والبوادي، وأعجب كل العجب -ولا ينتهي العجب- من أولئك الأشخاص الذين يتبعون بعض الجماعات، ويسافرون خارج بلادهم، ويسافرون مئات الأميال، ويقولون: ندعو الناس إلى الله وبجوارهم أهلهم وبنوا جلدتهم -وقد يكونون من أقرب الناس إليهم نسباً- في البادية يجهلون أحكام الصلاة.
فكيف نذهب إلى الأقطار النائية ونتغرب ونترك أبناءنا وأهلينا وأموالنا، ونذهب باسم الدعوة إلى الله، ونترك من خلفنا أناساً من بني جلدتنا يجهلون أحكام دينهم؟! وفي مرة كنا في الرياض في أحد النوادي، وكان هناك برنامج سؤال وجواب، وكان هناك تحفز لتعلم اللغة الإنجليزية في المعهد الديني، فقال صاحب البرنامج: إن هذا التعلم له مجال آخر، وإذا فرض في الدراسة في المعاهد الدينية سيقوم على حساب الدين؛ لأن اللغة الإنجليزية لا تكفيها حصة ولا حصتان ولا أربع في الأسبوع، فنحن ندرس اللغة العربية في أربع حصص في الأسبوع، -مع أننا ننطق بها- ولا نجيدها، فإذا ما أخذنا الإنجليزية بجانب الفقه والتوحيد والحديث والتفسير ستزاحمها في الوقت، وتزاحمها في المذاكرة، ويضعف الطالب في تحصيل العلوم الدينية، وليكن ذلك في العطلة، ويكون الطالب مخيراً، فقالوا: نريد أن نتعلم اللغة لندعو بها غير المسلمين.
وكان الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله تعالى علينا وعليه حاضراً، فقدم توجيهات رحمة الله تعالى علينا وعليه.
ومن أحسن ما قدم تعليماً للأساتذة لا للطلاب أن قال: وقد ألقى شخص قصيدة يهجو فيها حالقي اللحى -ليس هذا بأسلوب حسن في الدعوة إلى الله، هذا تشهير وليس دعوة، إنما الدعوة تكون سراً، وتكون بالمعروف، لا جهراً، فكان عليه أن يأتي إلى الأشخاص المعنيين، وأن يخاطبهم فيما بينه وبينهم.
فتعلم الأساتذة كيف يدعون إلى الله غيرهم، ثم قال: سمعنا بأن بعض الطلاب يريدون أن يتعلموا الإنجليزية من أجل الدعوة إلى الله بهذه اللغة خارج البلاد، وهذا أمر عجيب، فهل اكتفينا بتعليم أنفسنا ومن ينطق بلغتنا؟ وقال: هذه البوادي، وهؤلاء الأعراب، وهذه الدويلات من حولنا هل عممنا الدعوة فيها وانتهينا من تعليم أهلها دين الإسلام والعقيدة والفقه، حتى ننتقل إلى من لم ينطق باللغة العربية لنعلمه؟! ونحن الآن نقول: إن من الأعراب من هو في حاجة إلى تعليم سورة الفاتحة، وقد حدث أن كنا في الأحساء، فدعانا إبراهيم المهنا -رحمة الله تعالى علينا وعليه- لشرب الشاي بعد العصر في بستانه، ثم صلينا المغرب في مسجده، وكان المسجد على الطريق، فصلى بنا مدرس التجويد وهو قارئ متقن، وانتهينا من الصلاة، والمستعجل صلى النافلة ومضى إلى محل الضيافة، ولفت نظري مجيء أربعة من البادية، يحمل كل واحد حاجته على كتفه، فجاءوا بسرعة وبحركة سريعة، فألقوا أمتعتهم في مؤخرة المسجد، وتقدم واحد منهم يصلي بهم، ففرحت لحرص هؤلاء الأعراب على أداء الصلاة جماعة في المسجد، فقد قدموا واحداً منهم يصلي بهم، وهذا شيء حسن، فجعلت أنظر، فقرأ الفاتحة وأخل فيها إخلالاً شديداً، وبعد الفاتحة قرأ بهذا اللفظ: (قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون والله عابد، والله غفور رحيم) .
فهذا شيء يبكي، فأخذتني الحسرة في نفسي، وقلت: منذ كم يصلي هذا بهذه القراءة؟ وهذا إمامهم فكيف بغيره؟! فلما انتظرت فطن، وكان فطناً ذكياً جداً، ثم قام في الركعة الثانية، وقرأ الفاتحة و (قل هو الله أحد) ، أحسن من الأولى، فلما سلّم -وكان بيني وبينه حوالي عشرة أمتار- قال: أعلمني هل رأيت شيئاً مريباً؟ قلت له: إي والله لقد رأيت شيئاً مريباً.
قال: وما هو؟ قلت: اقرأ.
فجاء هو وأصحابه وجلسوا، فقلت: ماذا قرأت في الصلاة؟ قال: الحمد، قلت: اقرأها، فقرأها فعدلت له بعضاً منها.
قلت: والتي بعدها، قال: الكافرون.
قلت: اقرأها، فقرأها كما قرأها في الصلاة.
قلت: على رسلك هات يدك، وعقد بأصابعه فقرأ: لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ثم قال: والله غفور.
قلت له: قف.
ليست هذه فيها، فهذه في سورة ثانية وليست في هذه، وهذه فيها: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] ، قال: (والله غفور رحيم) أين؟ قلت له: في سورة أخرى.
قال: أعطنيها.
فقرأت عليه سورة الكافرون.
قال: أعدها فرددتها عليه مرة أخرى فقال: خذها.
فقرأها كما سمعها، قال: أعطنا سورة أخرى.
فقرأت عليه: (قل هو الله أحد) ، فقال: هي عندي قلت: اقرأها.
فقرأها، فقلت له: خذها، فأعدتها عليه، وأعادها هو مرة أخرى، قال: أعطني سورة أخرى ثم فأعطيته من قصار السور، فقال: أعدها.
فأعدتها عليه، فأخذها كما سمعها، فقلت: واحدة.
قال: لا يكفيني قلت: صدقت، إذا رجعت إلى بلدكم فابحث عن إمامكم أو قارئكم، واجعله يقرأ عليك وتسمع منه ويعلمك.
فإذا كان هذا يوجد في أطراف المدن فما بالك بمن لا يأتي المدن! وقد سمعنا في (جبل رضوة) ما هو أكثر من ذلك.
فالأعراب في حاجة إلى من يعلمهم الدين، فإذا كان في الناس شباب متحمس، وعنده استطاعة، ومستعد أن يذهب ليعلم ويدعو إلى الله فهذا أمر طيب، وليبدأ بأولئك الذين هم أولى بهذه الدعوة من غيرهم؛ لأن جارك أولى بك.
فقوله: (لا يؤمن أعرابي مهاجراً -أو حضرياً كما في بعض الروايات-) ؛ لأن الغالب على المهاجر -وقد هاجر إلى لله ورسوله- الفقه في دينه، وهكذا الحضري الغالب عليه أنه يفقه دينه أكثر من الأعرابي.
قال: (ولا فاجر مؤمناً) ، أي: يؤم فاجر مؤمناً وقابل الفاجر بالمؤمن، ولم يقابله بالمسلم؛ لأن الفاجر مسلم من عموم المسلمين استسلم لأمر الله، ولكنه التزم بالأعمال الظاهرة، وتكاليف الإسلام كلها أعمال ظاهرة، فالنطق بالشهادتين وإقامة الصلاة وإخراج الزكاة والصوم، ورحلة الحج، كل هذه أعمال ظاهرة يراها الناس، أما الإيمان فهو بين العبد وربه؛ لأنه اعتقاد في القلب.
فالحديث يقابل بين الفاجر والمؤمن، وبإجماع المسلمين أن الإيمان أعلى درجة من الإسلام، والمراتب ثلاث، كما في الحديث: (أخبرني عن الإسلام -أخبرني عن الإيمان- أخبرني عن الإحسان) ، فالإيمان درجة وسط بين الإسلام الذي هو أعمال ظاهرة، وبين الإحسان الذي هو إتقان العمل فيما بين العبد وربه في جميع حالاته، كما في الحديث: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) .(88/9)
الصلاة خلف السلطان الفاجر ومن نصبه إماماً وهو فاجر
إذا جئنا لمعنى (الفاجر) ، فنقول: سمي الصبح فجراً لأن ضوء النهار ينفجر من بين ظلمة الليل، وقال تعالى: {وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا} [القمر:12] ، فكذلك الفاجر، كأنه يخرج من خفي الأمر إلى ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى، وقالوا: هو المصر، أو الملازم، أو المجاهر بالكبائر والعصيان وعدم التوبة.
فإذا كان الشخص بهذه المثابة فهل نقدمه وافداً لنا بين يدي الله فإذا رده ردنا معه؟ فلا ينبغي لمثل هذا أن يؤم غيره من المؤمنين، ولو كان أقرأهم وأفقههم، فلا يؤمّن مؤمناً أي: سليماً من هذه الصفة، ولكن لو كان إماماً راتباً، أو كان سلطاناً والياً، وله حق السلطة، وله حق الإمامة وبالقوة، ماذا يفعل الناس؟ أيصلون خلفه سمعاً وطاعة، أم يتركون الصلاة خلفه ليقع العصيان وشق العصا؟ والجواب: يصلون خلفه، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا أبا ذر! إنه سيكون عليكم أئمة يميتون الصلاة -وفي بعض الروايات: يؤخرون الصلاة- فإن أدركتموهم فصلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم نافلة) .
فإذا كان هناك سلطان جائر -عياذاً بالله- وألزم الناس بالصلاة خلفه، أو ألزم الناس بإمام، وإن امتنعوا عن الصلاة خلفه قد تقع فتن فإنه يصلي خلفه، وقد عاصرنا ذلك في بعض دول أفريقيا حينما امتنعت السلطة عن إقامة إمام فقيه عالم حر الكلمة والاتجاه، وجاءوا بشخص إمعة، كلما طلب منه شيء نسبي، وهذا أحب إليهم، وألزموا الناس بصلاة الجماعة والجمعة خلفه، وقد حوصر المسجد بالمصفحات والدبابات لإقامة الصلاة بالقوة، مع أنه لا يجوز أن تصل الأمور إلى هذا الحد.
وقد قال بعض العامة: نعطيهم صلاتهم، ونعطي ربنا صلاته في أول الوقت.
فإذا ابتلي الناس بمثل هذا ولا يمكن تغييره، وكان الخيار بين أحد أمرين: إما أن يصلى خلفه طاعة، وإما أن تقع الفتنة، وما أضر على المسلمين من الحروب الداخلية، والفتنة بين الراعي والرعية، أو بين بعض الطوائف، وهذا كله بعيد عن تعاليم الإسلام.
قالوا: قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا الصلاة لوقتها) ، لأنكم أمرتم بذلك، فإذا جاء إمامكم وصلى، وحضرتم فصلوا معه، وقد جاء في الأثر: (صلوا خلف كل بر وفاجر، وصلوا على كل بر وفاجر) ، فإذا مات فاجر أنقول هذا فاجر لا نصلي عليه ولا نجهزه؟ بل نجهزه ونصلي عليه؛ لأنه له حقاً علينا في ذلك، وكذلك إذا أمّ فيجوز أن نصلي وراءه.
ويقول بعض العلماء: لقد ثبت عن العديد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاتهم خلف أمراء السوء أو أمراء الظلم، ولا حاجة لتسمية أحد في هذا المقام.
فلا يؤمَّنَّ فاجر مؤمناً، والنصوص العامة تؤيد هذا، ولكن بشرط ألا يكون إماماً راتباً ولاه ولي المسلمين، وألا يكون هو بنفسه الوالي والسلطان، لئلا تكون فتنة.(88/10)
كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة [6]
إن إقامة الصفوف وتسويتها والتراص فيها من المظاهر التي حث الشارع عليها، وهي رمز لوحدة المسلمين في الأمر كله، ثم إن الصفوف الأولى لها فضل ومزيد شرف على التي تليها.
أما موضع المأموم من الإمام فإن كان واحداً فعلى يمينه؛ قيل: محاذياً له.
وقيل: متأخراً عنه قليلاً.
وأما إذا كانوا أكثر فإنهم يقفون خلف الإمام، وعليهم أن يتراصوا وأن يسدوا الفرج.
وإذا اختلفت أصناف المأمومين بأن كانوا رجالاً وأطفالاً ونساءً، فليصف الرجال، ثم الأطفال، ثم النساء من ورائهم.(89/1)
تابع أحكام صلاة الجماعة(89/2)
موقف المأموم من الإمام
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رصوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق) ، رواه أبو داود والنسائي، وصححه ابن حبان] .
انتهى المؤلف رحمه الله من أحكام الإمام، ثم جاء بما يتعلق بالمأمومين، وبين موقفهم من الإمام، وأين يكون، سواء أكانوا أفراداً أم جماعات.
ويتفق العلماء على قضية، وهي أن المأموم إما أن يكون واحداً، وإما أن يكونا اثنين، وإما أن يكونوا ثلاثة فأكثر.
وهذا تقسيم عقلي، فإذا كان المأموم واحداً فلا يقال: (رصّوا) ، إلا أنه بالنسبة لإمامه كيف يكون موقفه من الإمام؟ فمن الجهة -والجهات أربع: يمين، ويسار، وأمام، وخلف- اتفقوا على أنه لا تصح صلاة المنفرد أمام الإمام، ولا جماعة أمام الإمام لغير عذر، وكذلك لا تصح صلاة المنفرد عن يسار الإمام، فإذا كان الأمر كذلك فالأمام واليسار لا تصح الصلاة فيه، وبقي الخلف واليمين.
قالوا: لا يصف الواحد خلف الإمام كما لو كان صفاً كاملاً، وإنما يقف عن يمين الإمام.
فالمنفرد موقفه عن يمين الإمام، وقد جاءت به السنة، كما في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه -وسيأتي- قال: (قام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل يصلي، فقمت فتوضأت وقمت عن يساره، فأخذ بأذني وفتلني من وراء ظهره، وأوقفني عن يمينه) ، فهذا موقف المأموم المنفرد.
وبقي التدقيق في موقفه عن اليمين، فقد يكون واقفاً عن اليمين لكن على بعد ذراع، أو يكون عن اليمين وهو متقدم شبراً، أو يكون عن اليمين وهو متأخر شبراً، فأين يكون تماماً؟ منهم من قال: يقف محاذياً له، كما لو كان اثنان في الصف، والآخرون قالوا: لا يستويان.
فينبغي على المنفرد أن يكون متأخراً عن الإمام بالحد الذي لو رآه الرائي لعرف المتقدم من المتأخر، أي: لو تأخر عنه قدر أصابع يد كان ذلك كافياً، ولا يكون محاذياً محاذاة كاملة كما لو كانوا جماعة في صف واحد، بل يكون متأخراً قليلاً.
فهذا موقف الواحد.
فإذا كانا اثنين فالجمهور على موقفهما خلف الإمام وراء ظهره، وهو أمامهما، ويروى عن ابن مسعود أو عن غيره أنهما إذا كانا اثنين فواحد يقف عن يمينه وواحد يقف عن يساره مع التأخر القليل، ولكن سيأتي حديث جابر وجبار حين كانا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة، قال جابر: (فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي) ، وجاء في الحديث: (ثم جئت حتى قمت عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه، ثم جاء جبار بن صخر فتوضأ، ثم جاء فقام عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدنا جميعا فدفعنا حتى أقامنا خلفه) .
فهذان اثنان، وموقفهما خلف الإمام.
وعلى هذا فإذا كان المأمومون اثنين فأكثر فموقفهم عند الجمهور خلف الإمام.(89/3)
التراص في الصف معناه وكيفيته
إذا كانوا جماعة في مسجد كبير وفي عدة صفوف، أو في صف واحد فعليهم أن يتراصوا كما جاء في هذا الحديث: (رصوا صفوفكم) ، والرص: هو الوقوف بالمساواة والمحاذاة.
فالرصّ بمعنى الجمع، تقول: رصه.
أي: شد عليه.
بمعنى: شد الحبل عليه شداً، فالتشديد في الحرف يدل على الشدة في المادة، مثل: عضّ، شدّ، مدّ، حدّ إلى آخره.
فقوله: (رصوا صفوفكم) يعني: لا تجعلوا بينها خللاً، ولتكن متراصة متلاصقة.
وأيضاً من معاني الرص: الاعتدال؛ لأنه لو وقف واحد متقدماً، وواحد متأخراً فلا رص، ولا يتأتى الرص إلا عند المساواة والاعتدال.
قال: (وقاربوا بينها) ، قوله: (بينها) هل المقصود به في الأفراد أو الصفوف؟ في الصفوف.
وتقدم في الحديث: (تقدموا فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم) ، وهنا قال: (وقاربوا بينها) ، وتقدم هناك حد التقارب بين الصفوف، وحده ما يقوله العلماء في حد السترة، فبعضهم يجعله ثلاثة أذرع من كعب القدم، وبعضهم يجعله ثلاثة أذرع من أطراف الأصابع، بحيث لا يتسع الفراغ لصف آخر بين الصفين، لا أن يكون بين الصف والصف ما يسع صفين وثلاثة.
ونجد الشارح هنا يتألم ويتوجع، فيقول: إن بعض المساجد تكون فيها الجماعة، فإذا أقيمت الصلاة فإنك تجدهم أوزاعاً في عدة صفوف، ولو اجتمعوا فلن يكملوا صفاً واحداً، وسيأتي التنبيه على هذا.
فقوله: (قاربوا بينها) أي: لا تجعلوا بينها تباعداً، وكما تقدم ألا تزيد المسافة بين الصف والصف، على ما يكون بين المصلي وسترته للصلاة.
قال: (وحاذوا بالأعناق) ، الأعناق: جمع عنق، وهو: الرقبة.
وتكون المحاذاة بالأعناق في الصف بأن لا يتقدم إنسان ماداً رقبته بالتقدم ولا يتأخر.
وكان السلف رضوان الله تعالى عليهم إذا قاموا في الصف حاذوا، يقول أنس: (كان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وقدمه بقدمه) ، فإذا كان الأمر كذلك فهذه حقيقة الرص والمحاذاة.
ونحب أن ننبه إلى فعل بعض المصلين، حينما يكون هناك انفراج في الصف، وهو يريد أن يحاذي ويقارب، فإذا به يفرج قدميه على شكل ثمانية، ويحاول أن يتكلف إلصاق قدمه بقدم من بجانبه، لكنه بهذا الفعل يكون قد أوجد فرجة في نفسه هو ما بين قدميه.
فحقيقة المحاذاة ليست بأطراف الأقدام، ولكن بالقدمين والركبتين والمنكبين، وقد جاء في بعض الآثار عن السلف أن أسرع ما كان يتآكل من فمصهم الكتف لكثرة احتكاك مناكبهم في الصلاة.
وهذه ناحية سيأتي التنبيه على خلافها أو ضدها، ولا يمكن أن تجد إنساناً يقف بجوارك ويلتصق بك وتلتصق به إلا إذا كان بينك وبينه ألفة، أما شخص تنفر منه، أو ينفر منك فقلّ أن يلتصق بك، بل ربما تباعد، وربما جاء بشخص ليقيمه بينك وبينه؛ لأن القلوب متنافرة، أما مع صفاء القلب، ومع طيب النفس وعدم وجود أي موانع أخرى ستجد الإنسان يستريح حينما يأتي إنسان يلصق نفسه به ليكمل الصف ويسد الفرج، وسيأتي التنبيه على مثالب عدم المساواة، وعدم الرص الذي نبه عليه صلى الله عليه وسلم.(89/4)
الأفضل في صفوف الرجال والنساء
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها) رواه مسلم] .
لاحظ الترتيب البديع، فبعدما بين حكم الصف في المساواة والتراص انتقل إلى الصفوف وأحكامها، والمفاضلة بينها وبين بعضها، فذكر قوله صلى الله عليه وسلم: (خير صفوف الرجال) ، أي حينما تكون صفوف الرجال متعددة.
فالحديث الأول إذا كان صفاً واحداً، وأيضاً في كل صف من الصفوف عليهم أن يتراصوا وأن يساووا الأعناق فيما بينهم.
والصفوف تكون قسمين: صفوف للرجال، وصفوف للنساء، فخير صفوف الرجال أوائلها، والأول يبدأ من أول المسجد من عند الإمام، فالأول هو الذي يلي الإمام، وشر صفوف الرجال أواخرها، والعكس مع النساء، ويلاحظ هنا أن لفظة (خير) هي أفعل تفضيل، ومعناها: اجتمع الخير في الجميع وزاد الأول بزيادة في الخيرية.
فكل الصفوف فيها خير.
فالخيرية ثابتة للجميع، ويأتي في مقابل هذا: (شر صفوف الرجال آخرها) فالأول أثبت الخير للجميع، وهنا أثبت الشر للجميع، ولا يمكن أن يثبت الخير والشر لشيء واحد في وقت واحد، فهذا يسمونه التناقض؛ لأن الخير نقيض الشر، فكيف تجمع وصفين متناقضين؟ قالوا: هذا من باب التفضيل، ومن باب الترغيب، وليس الشر هنا على حقيقته، والحكم حقيقته في الوصف الأول، لأن الصفوف كلها فيها خير، إلا أن الأول أفضل.(89/5)
العلة في تفضيل الصفوف الأولى للرجال
لكن لو جئنا إلى الدرجات، وإلى المقابلة، وإلى الثواب فالمتأخر فاته شيءٌ كثير، ثم قالوا: ولماذا كان خير الصفوف أوائلها؟ قالوا: لأن الإمام أفضل من المأموم من حيث الجملة، وبما أن الإمام أفضل من المأموم.
فمن يلي الإمام أفضل ممن يلي المأموم؛ لأن الصف الأول يقتدي به الثاني، والثاني يقتدي به الثالث، ثم جاءت النصوص: (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي على الصف الأول المقدم ثلاثاً، وعلى الثاني مرة) وأيضاً هناك تفضيل ميامن الصفوف، فهناك مفاضلة، وإن كانت صلاة واحدة.
والذين يصلون في الصف الأول يأتون في أول الوقت، فهم يصدق عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ورجل قلبه معلق بالمساجد) ، وكلما سبق إلى المسجد كلما كان أفضل.
لكن لا يتأخر ثم يأتي يتخطى الرقاب من أجل أن يصل إلى الصف الأول لينال الخيرية؛ لأنه بهذا إنما يريد أن يصل إلى الخيرية على أشلاء الفضائل بإهانته للمصلين الذين يتخطى رقابهم، ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة قال: (اجلس؛ فقد آذيت وآنيت) ، و (آنيت) من الأين، وهو الوقت، أي: جئت متأخراً فآذيت، فإذا أردت الصف الأول فاحضر مبكراً.
ولهذا كان الصف الأول خيراً من المتأخر، كما أن الأتبع للإمام من الصفين الصف الأول؛ لأنه يليه مباشرة، وإذا حدث للإمام حدث فالصف الأول أولى به.
فأهل الصف الأول يتابعون الإمام بالصوت وبالرؤية، وهم الذين ينقلون عن الإمام، أو يساعدون الإمام، وإذا حدث أي شيءٍ للإمام فهم أولى به، وسيأتي زيادة إيضاح ذلك عند قوله صلى الله عليه وسلم: (ليليني منكم أولو الأحلام والنهى) .
أما النساء فعلى العكس من ذلك، قال: (خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها) ، وهنا تعليل عملي، قالوا: لأن أول صفوف النساء يلي آخر صفوف الرجال، فتكون النسوة قريبات من الرجال، والمرأة كلما بعدت عن الرجال كان خيراً لها ولو كان في الصلاة، ولهذا كانت صلاتها في بيتها خيراً لها من صلاتها في المسجد.(89/6)
موقف المأموم الواحد من الإمام
قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فقمت عن يساره فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسي من ورائي فجعلني عن يمينه) متفق عليه] .
حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذا أورده المؤلف مختصراً، ولكن الحديث بتمامه فيه صورة تبين الفطرة والذكاء، أو حُسن النشأة، فحينما ينشأ الإنسان في بيت كهذا البيت فإنه يكون الناشئ فيه كما جاء في الحديث: (شاب نشأ في عبادة الله) ، والشاب الذي نشأ في عباد الله سيجد عبادة الله أول ما يكون في البيت، فيتلقى العبادة والأخلاق والتوجيه أولاً وقبل كل شيء في البيت.
فـ ابن عباس كان غلاماً صغيراً، وذهب إلى بيت خالته ميمونة، وبات عندها، ويقول في بعض الروايات: (فنمت في عرض الوسادة) ، وعرضها يمكن أن يبلغ شبراً أو أكثر أو أقل، ونحن نسميه رأس المخدة، فالرسول صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين ميمونة توسدا طول الوسادة متجاورين، وابن عباس توسد رأس الوسادة أو عرض الوسادة.
ولا تقل لي كيف يبيت غلام عند زوج وزوجته؟! لأنها خالته، وأيضاً هو غلام، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم المؤمنين.
فلما كان ثلث الليل أو جزء من الليل قام صلى الله عليه وسلم وذكر الله وسبح، ثم قام إلى بيت الخلاء، فلما دخل الخلاء قام ابن عباس وأخذ أداوة من ماء وملأها من القربة ووضعها عند بيت الخلاء، فلما خرج صلى الله عليه وسلم وجد الأداوة مملوءة فقال: (من وضع هذا؟) قالت له ميمونة: وضع لك هذا عبد الله بن عباس، فقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) ، فلم يقل: اللهم كبره وأغنه وسوده، وزوجه.
لأن ابن عباس أبدى نوعاً من الفقه والاستنتاج، وهذه هي المواقف التي تدل على الذكاء والفطنة، لا تلك المسابقات التي تعجز، ولا تلك الأحداث التاريخية، ففي هذه الحالة غلام لم يبلغ وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء، والذي دخل الخلاء إذا خرج يريد أن يتوضأ، فاستنتج الحاجة إلى الماء.
فالاجتهاد والاستنتاج يكون عقلياً ويكون دينياً، فهو استنتج بفكره، وأرشده الله سبحانه وتعالى، وأنار بصيرته فجهز الماء حتى خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا نوع من الفقه، فكانت الدعوة مطابقة له، (فقهه في الدين) يعني زده فقهاً في الدين.
وفي هذا دلالة على أن أشرف العلوم الدينية هو الفقه في الدين.
فلو أن إنساناً حفظ مجموع السنة: صحيح البخاري، ومسلم، وسنن أبي داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجة، والجامع الصغير والكبير، والموطأ، وغير ذلك، ولكن المسجلة دون أن يفقه شيئاً، وإنسان قرأ بلوغ المرام فقط، وفقه في دين الله، فأيهما أنفع للأمة؟ يذكرون عن بعض شيوخ الأزهر أنه جيء إليه برجل، وقيل له: هذا الرجل حفظ صحيح البخاري.
قال: وشروحه؟ قالوا: ليس بعد.
قال: زادت نسخة في المكتبة.
وقد روي علي قوله: نحن في حاجة إلى من يعرب القرآن أكثر ممن يقرأ بدون إعراب.
فالفقه في الدين هو الأساس، و (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) .
ولكن الفقه لم يأت من ضرع الناقة، ولا من ضرع الشاة، ولا هو صيد من البحر، ولا هو طير في الهواء، الفقه مجموعة علوم، ولا يمكن لإنسان أن يكون فقيهاً إلا إذا حصّل أدوات التحصيل التي بها يصير فقيها، من أحاديث الأحكام، وآيات الأحكام، وليس من الضروري أن يحفظ الأحاديث كلها أو القرآن كله، ولكن المهم أن يحفظ الآيات التي تعرضت للأحكام، فالقرآن منه ما يتناول القصص التي فيها العظة والعبرة، ومنه ما يتناول الأحكام، سواء في الدماء، أم في الفروج، أم في الأموال.
وبعد أن يحفظ الإنسان آيات الأحكام وأحاديث الأحكام عيه أن يكون بارعاً متضلعاً في اللغة العربية؛ لأنها هي لسان القرآن ولسان السنة، وكيف تفقه معاني كتاب إن لم تفقه لغته! ويذكرون عن الملك فيصل رحمه الله أنه كان له صديق مستشرق، فكان يذكر له دائماً إعجاز القرآن وآياته وبلاغته فلما أكثر عليه رجع هذا المستشرق إلى القرآن، ثم بعد فترة لقيه فقال: ما وجدت كل الذي كنت تقوله لي في القرآن! قال له: كيف قرأته؟ قال: بالترجمة، قال: ما قرأته، فإذا أردت أن تدرك بلاغته، وتدرك حلاوة أسلوبه وعباراته فعليك أن تقرأه بلغته التي نزل بها.
فرجع الرجل وأمعن في دراسة العربية، ثم جاء وقال: يا فيصل! ما أعطيت القرآن حقه، هو فوق ما كنت تقول.
فمن أهم أدوات الفقيه تعلم العربية.
فمن أراد الفقه تعلم اللغة، ثم تعلم أصول الأحكام من أحاديث وآيات، ثم تعلم أصول الفقه؛ لأن أصول الفقه هي تلك القواعد التي عليها بني الفقه، وتؤخذ عن عالم سبق له أن أخذ عن غيره وهكذا.
ولعلنا أطلنا الكلام في هذه المسألة؛ لأنا نجد بعض الناس قد يستخف بدروس الفقه، أو لا يعنى بها، أو يقدم عليها الكثير من العلوم، وهذا خطأ.
وكنا نسمع من شيخنا الشيخ محمد بن تركي رحمة الله تعالى علينا وعليه حيث قرأنا عليه فقه الحنابلة، وقرأنا عليه صحيح البخاري يقول: قبل كل شيء تبدأ بالفقه، ثم تقرأ الحديث ليكون تطبيقاً لقواعد الفقه على الحديث، والفقه يفصل الحديث أكثر مما يكون.
ولهذا تجد في شروح الحديث قولهم: وهذه مسألة فرعية محلها كتب الفروع أي أن الفقهاء فصلوا في هذه المسألة أكثر مما يفصله أهل الحديث.
والشافعي في حديث: (يا أبا عمير! ما فعل النغير) قال: استنتجت من هذا الحديث أربعين مسألة.
ولا يوجد في شروح الحديث ما يعادل هذه الثروة الفقهية من مثل هذه الألفاظ القلائل.
فـ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أعطاه الله ملكة في الفقه، ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزيادة فيها، فقال: (اللهم فقهه في الدين) ، وعرفنا أن أكبر منزلة وأعظم عطاء يناله المرء أن يفقه في دينه.
ولقد جئت إلى والدنا الشيخ الأمين في المسجد النبوي، وقلت له: يا شيخ! أراك منذ أن بدأت التدريس في المدينة وفي الرياض وفي الجامعة اقتصرت على فنين فقط، مع أني أعرف أن لديك من الفنون كذا وكذا وكذا، وأنت تقتصر على التفسير وأصول الفقه؟ قال: ما سبب هذا السؤال؟ قلت له: هناك سبب، وهو أني قرأت عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه سُئل: أنت في زمن جمع الرواية والحديث، وفي زمن الخوض في مسائل الكلام والتوحيد، ولم نر لك مشاركة في جمع الحديث وروايته، ولا في جدل الكلام والمنطق، واقتصرت على الفقه! قال: نعم.
أما مسائل العقائد فليست للعامة كما هي للخاصة، ولن تسلم من إنسان يرميك فيها بالزندقة، فلذلك تركنا الخوض فيها، وأما رواية الحديث فلها نقاد للرجال، ولن تسلم من إنسان -عامداً أو مخطئاً- أن يرميك بعلة من العلل التي يسقط بها الحديث فتلصق بك طول العمر، والرواة مشتهرون، والحديث مروي ومجموع، ورجاله متوافرون، أما الفقه فنظرت فإذا الناس عامة إمامهم، وكبيرهم، وصغيرهم، ورجالهم، ونسائهم، وغنيهم، وفقيرهم يحتاجون إلى الفقه فاشتغلت به لخدمة الناس.
فقال الشيخ الأمين: كلامه صحيح.
أما أنا فنظرت فإذا في الحديث مجهود مزدوج، فتبحث عن الرجال وتوثق السند أولاً، ثم ترجع إلى المتن وتستنبط المعاني ثانياً، فهذا مجهود مزدوج.
وأما التوحيد فليس من العقل أن تثير القضايا العقائدية التي قد تورث شبهاً عند عامة الناس فتهلكهم، وإنما تأتي في المناسبات، أو في البحث العلمي للتحقيق، وأما علوم العربية فهي وسيلة وليست غاية.
وأما التفسير فإنه يأتي على الفقه في آيات الأحكام، ويأتي على العقيدة في آيات العقائد، ويأتي على المواعظ والزواجر في آيات قصص الأمم الماضية، وكل علم موجود الآن، مسطر عند العلماء فالتفسير يحتويه، وأما الفقه فإنك تجد -خاصة هنا- الفقه المقارن، فما تجد جماعة إلا وفيهم شافعي ومالكي وحنبلي وحنفي، وكل يريد مذهبه، وإذا أردت تحقيق مسألة فإنك تبذل جهداً رباعياً لكل مذهب جهد حتى تصل إلى نتيجة، فإن تركتها وجئت إليها بعد فترة احتجت إلى العودة إلى ذاك الاجتهاد مرة أخرى.
ولكن التفسير يجيء على جميع المعاني، وما من آية في كتاب الله إلا وعندي ما قيل فيها.
قلت: ما دمت بهذه المثابة، وعندك كل ما قيل في آيات كتاب الله من خلاف ونزاع ووفاق فهذا نعمة كبرى، وهذه ما تحتاج معها إلى غيرها.
ثم قلت: والأصول؟ قال: أما الأصول فلا غنى لطالب علم عنه؛ لأن العلماء يقولون: جهلة الأصول عوام العلماء.
ونحن إنما ننبه على هذا لزيادة التأكيد على دراسة الفقه، وأحب لكل طالب علم قبل أن يأخذ كتاباً في الحديث أن يأخذ كتاباً من أمهات الفقه أياً كان، كالمغني لـ ابن قدامة، والمجموع للنووي، والهداية للأحناف، أو غير ذلك، ويأخذ دقائق المسائل فيه ثم يأتي إلى كتب الحديث.
فالفقه مقدم، والحديث أدلته، فإذا جاء للخلاف أو للمقارنة فهذه مرحلة أخرى تزيد على مجرد الطلب، والله تعالى أعلم.(89/7)
اختلاف أصناف المأمومين وموقفهم من الإمام
قال المصنف رحمه الله: [وعن أنس رضي الله عنه قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمت أنا ويتيم خلفه، وأم سليم خلفنا) متفق عليه، واللفظ للبخاري] .
حديث أنس رضي الله تعالى عنه هذا فيه قصة صغيرة، وهي أن أم سليم دعت النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي إليها -ومنازل بني سليم عند مسجد القبلتين- فأتى إليها وصنعت له طعاماً، وبعد أن تناول الطعام طلبوا منه أن يصلي لهم في البيت ليتخذوه مصلى، فقام أنس إلى حصير قد اسود من طول ما لبس ونضحه بالماء، وفرشه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقام يصلي، وصلى بصلاته أنس واليتيم وأم سليم فكيف كان اصطفافهم؟ يبين لنا المؤلف رحمه الله إذا كان المأمومون رجالاً وصبياناً ونساءً كيف تكون الصفوف.
يقول أنس: (فقمت أنا ويتيم) ، واليتيم: هو من مات أبوه قبل البلوغ، ويقولون: اليتيم في بني الإنسان من فقد الأب، وفي الحيوان من فقد الأم، وفي الطيور من فقد الأبوين.
ويقال من جانب آخر: اليتيم من فقد من يرعاه ويكلؤه، والأب هو الذي يرعى الولد، والحيوان ترعاه أمه، فقد تكون في الإبل عشرات ومئات النياق، بينما لا يكون فيها غير فحل واحد، وإذا نتحت الناقة فهي التي ترضع، أما في الطير فالأبوان يتناوبان على العناية بالبيض حتى يخرج الفرخ، ثم يتناوبان على إطعامه.
فهنا يقول أنس: (قمت أنا ويتيم) ، ولا يتم بعد البلوغ، فهو دون البلوغ، وهنا يقال: هذا أنس رجل كبير، ومعه غلام دون البلوغ، أيتم الصف أم يعتبر في كون المأمومين غير واحد، ويكون موقفهم خلف الإمام، أو لا عبرة باليتيم، ويكون الرجل عن اليمين واليتيم بجانبه؟ وجدنا هذا عملياً، فأن الصغير إذا كان مميزاً يطمئن الكبير على بقاء هذا الصغير معه في الصف، بخلاف ما إذا كان عمره سنتين أو ثلاث، فبينما هو واقف يقف بجانب أبيه وإذا به فجأة يجري ويتركه، فهذا لا يعتد به.
فإذا كان مميزاً مدركاً، وسيقف ويتم الصلاة، فاعتد به، واعتبر الصف باثنين فأكثر، فيكون مكانهم خلف الإمام.
وموقف المرأة وراءهم، فالمرأة وراء الرجال.
لكن إذا قام زوجان يصليان فهل تقوم المرأة عن يمين زوجها أو تقف خلفه؟ والجواب: تقف خلفه، ولا تحاذيه في موقفها.
قال: (فقمت أنا واليتيم) ، وفي بعض النسخ: (فقمت واليتيم) ، والمشهور في اللغة (قمت أنا واليتيم) ؛ لأن العطف على الضمير المتصل يحتاج إلى الإتيان بضمير مؤكِّد، ويكون العطف على الضمير المنفصل المؤكِّد، فالمشهور لغة: (قمت أنا واليتيم) ، فضمير (أنا) راجع إلى التاء، وهي الفاعل في الفعل قمتُ، فـ (قمت) : فعل وفاعل، والفاعل تاء المتكلم.
فجاء هنا في بعض النسخ: (قمت واليتيم) ، والشارح ذكر أن هذا جائز، وهو لغة عند البصريين، فإذا وجدناها (قمت واليتيم) فهي صحيحة عربية، وإذا جاء (قمت أنا واليتيم) فهي صحيحة، وهي لغة الجمهور.(89/8)
كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة [7]
إن للصلاة آداباً كثيرة، منها ما يتعلق بكيفيه أدائها، ومنها ما يتعلق بحال الذاهب لتأديتها وهيئته، وما يجب عليه أن يتصف به، ومن ذلك أن الواجب على الذاهب لتأدية الصلاة أن يتصف بالسكينة والوقار، حتى يدخل في الصلاة وهو مطمئن حاضر القلب يعي صلاته، فما أدركه من الصلاة فليصل، وما فاته فليتم، ولا يشرع له أن يركع دون الصف، فقد قال صلى الله عليه وسلم لمن فعل ذلك: (زادك الله حرصاً ولا تعد) .(90/1)
تابع أحكام صلاة الجماعة(90/2)
حكم الركوع قبل الدخول في الصف
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن أبي بكرة رضي الله عنه أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (زادك الله حرصاً ولا تعد) رواه البخاري، وزاد أبو ذر فيه: (فركع دون الصف، ثم مشى إلى الصف) ] .
أبو بكرة رضي الله تعالى عنه له قصة في تسميته بهذا الاسم، فلما حاصر النبي صلى الله عليه وسلم ثقيفاً في الطائف وطال الحصار تدلى هذا الصحابي الجليل -واسمه نفيع بن الحارث- من على سور الطائف على بكَرة، وهي: ناقة الإبل، أو التي يُسحب عليها الحبل، فإما أنه كانت ناقة عند السور فتدلى ونزل على ظهرها ثم نزل إلى الأرض، وإما جاء ببكرة وأدخل الحبل في البكرة وتدلى حتى نزل.
فأياً كان سبب التسمية فيهمنا فيما فعل وموقف النبي صلى الله عليه وسلم منه.
يقول أبو بكرة رضي الله تعالى عنه انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو أتيت المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم راكعاً، فخشيت أن يرفع رأسه فتفوتني الركعة، فركعت قبل أن أصل إلى الصف، ثم دببت حتى دخلت فيه.
فصورة ما حدث أنه لما دخل المسجد ورأى النبي صلى الله عليه وسلم راكعاً خاف أن يرفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من الركوع، وفتفوته الركعة، فركع ودب ماشياً حتى دخل في الصف.
فالذي فات أبا بكرة من الركعة تكبيرة الإحرام وقراءة الفاتحة.
أما تكبيرة الإحرام فعلى المسبوق في مثل صورة أبي بكرة أن يأتي بتكبيرة الإحرام قبل أن يهوي راكعاً، ويتعين عليه ذلك، وإذا كان قد ضاق الوقت عليه فهي تكفيه عن تكبيرة الانتقال من القيام إلى الركوع.
فحين يكون الإنسان قائماً ويريد أن يركع يكبر تكبيرة ثانية بعد تكبيرة الإحرام، فإذا جاء والوقت ضيق، وكبر تكبيرة الإحرام وركع فإن تكبيرة الإحرام تجزئه عن تكبيرة الانتقال، لكن إذا كبر ونوى بها تكبيرة الركوع لم تنعقد صلاته.
فعلى المسبوق في مثل ذلك أن يأتي بتكبيرة الإحرام وهو قائم وصدره إلى القبلة، أو -كما يقال- ووجهه إلى القبلة.
وبعد أن يأتي بالتكبيرة يكون قد أدرك تكبيرة الإحرام، ثم بعد تكبيرة الإحرام وقبل الركوع قراءة الفاتحة، وهذا ركع ولم يقرأ، فتدارك تكبيرة الإحرام قبل أن يدخل في الصلاة، وهذا فعله واجتهاده.
وبعدما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (زادك الله حرصاً ولا تعد) .
والنبي صلى الله عليه وسلم أحس بالدبيب، فسأل: من الذي فعل ذلك؟ قال أبو بكرة: أنا يا رسول الله، فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم عليه: (زادك الله حرصاً) ، فالحامل له على هذا الحرص على إدراك الركعة، فمن الممكن أن تكون ركعة ثانية أو ثالثة أو رابعة في الصلاة، لكنه حريص على أن يدرك هذه الركعة.
فأقره على حرصه، لكن سيأتي في المجيء إلى الصلاة قوله: (.
وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) .(90/3)
خلاف العلماء في قوله: (ولا تعُد)
وقوله: (تَعُد) : نبهنا سابقاً أنها يمكن أن تكون (تَعُد) من العودة لمثل ذلك، ويمكن أن تكون (تُعِد) ، والفرق الفتحة والضمة، و (تُعِد) من الإعادة.
فيكون المعنى: زادك الله حرصاً ولا تُعِد الصلاة أوزادك الله حرصاً ولا تعد لمثل تلك الصورة.
ويمكن أن يكون المعنى: زادك الله حرصاً ولا تَعْدُ، من العَدْو والجري.
والكلمة في التصريح صالحة لهذا كله؛ لأن: (عاد، يعود) من العود، فهو أجوف معتل العين بالواو، (عَوَد) ، والمعتل الأجوف إذا دخل عليه الجازم سقطت عينه، كقال.
يقول.
لم تقل، وباع.
يبيع.
لم يبع، فسقطت العين، ولسكون الحرف الأخير، فتكون: (زادك الله حرصاً ولا تَعُد) .
(ولا تُعِد) من أعاد يعيد، فهو أيضاً أجوف معتل بالياء، فتسقط عين الكلمة بالجزم، ويكون صالحاً لمعنى الإعادة.
وأما (لا تَعْدُ) من (عَدَوَ) وحرف العلة هنا اللام؛ لأن فاء الكلمة هي العين، والدال هي عين الكلمة، والواو هي لام الكلمة، فهو معتل الآخر بالواو ناقص واوي كما يقولون، والقاعدة أن الناقص الواوي إذا دخل عليه جازم كانت علامة جزمه حذف حرف العلة، مثال ذلك: (لم يسع) ، (لم يدع) ، فتحذف (الألف) من (سعى) ، و (الواو) من (يدعو) .
وهنا كذلك: يعدو، فلام الكلمة حرف علة، والقاعدة النحوية أن الفعل المعتل الآخر يجزم وعلامة جزمه حرف العلة.
فالكلمة من حيث هي في رسمها تُرسم بالياء، أو بالتاء، فما الذي سقط منها، هو الواو أو الياء الذان هما عين الكلمة من العود والإعادة، أم أن الذي سقط هو الواو لام الكلمة؟ كل ذلك محتمل.
ونرجع إلى هذه الاحتمالات، فلو أخذناها على قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تَعُد) أي: لمثل ذلك قالوا: نهاه أن يعود لمثل هذا الفعل، فوقف عند هذا النهي قوم، وقالوا: نهاه أن يعود لمثل ذلك؛ لأنه بنى على إدراك الركعة، وقد فاتته الفاتحة، وهذا باطل.
والآخرون قالوا: نهاه أن يعود لأن صورة الإنسان حين يدب وهو راكع تشبه صورة الحيوان وهو يمشي، وهذه صورة لا ينبغي للإنسان أن يفعلها.
وآخرون قالوا: (ولا تَعْدُ) أي: من العدو؛ لأن هذا يتنافى مع الخشوع في الصلاة.
والذين قالوا: (ولا تُعِد) معناه أن صلاتك اكتملت ولا تحتاج إلى إعادة قالوا للآخرين: إن كان قوله: (ولا تَعْدُ) (ولا تَعُدْ) كما قلتم لصورة مشي الحيوان أو لغيرها، فهل الصلاة صحيحة أم لا؟ إن قلتم: صحيحة فهذا الذي نريد، وإن قلتم: غير صحيحة.
فهل أعادها أبو بكرة؟ والجواب: لم يعدها، وبعض الاحتمالات (ولا تُعِد) أي: لا تعد الصلاة لأنها كاملة.
ومن هنا أخذوا أن المسبوق إذا جاء وأدرك الإمام راكعاً فقد أدرك الركعة، وسقطت عنه قراءة الفاتحة.
ففي المساجد يأتي الإنسان مسبوقاً ويريد أن يتقدم إلى الصفوف الأُول، فإذا ركع الإمام هل يركع ويدب إلى الصف، أم أنه يمشي إلى أن يصل إلى الصف ويقوم فيه؟ الأولى أن يمشي سوياً إلى أن يصل إلى الصف ويركع، لا أن يركع دون الصف ويكون في صف منقطع عن الصفوف، ولا أن يركض من أجل أن يلحق ويدرك الإمام قبل أن يرفع، إلا في حالة واحدة يمكن أن يسرع فيها، وهي إذا خاف أن يسلم الإمام وتفوته الجماعة كلها، ففي هذا العاطفة تتحرك قليلاً، والبعض يقول: ولو فاتت الجماعة؛ لأن له أجر الجماعة ولو وجد الناس قد صلوا، وفيه ورد حديث صحيح.
لكن إذا كان الأمر أوسع من ذلك فلا ينبغي الركض في المسجد، ولا الركوع قبل الصف وبينهما فرجة بعيدة، ولكن بقدر المستطاع يمشي سوياً إلى أن يأتي إلى الصف ويصلي.(90/4)
حكم صلاة المنفرد خلف الصف وخلاف العلماء فيه
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن وابصة بن معبد رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد الصلاة) رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه ابن حبان، وله عن طلق بن علي رضي الله عنه: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) ، وزاد الطبراني في حديث وابصة: (ألا دخلت معهم أو اجتررت رجلاً) ] .
هذا الحديث يعتبر في نظري من المشكلات، فيروي لنا وابصة بن معبد رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي خلف الصف فأمره أن يعيد الصلاة.
وفي بعض الروايات رآه يصلي فانتظره حتى فرغ من صلاته فقال: (استقبل صلاتك؛ فلا صلاة لمنفرد خلف الصف) .
فهذه نصوص صريحة أنه لا صلاة لإنسان ينفرد وحده خلف الصف، وتحت هذا تفريعات عديدة، فنأخذ أولاً الأصل في المسألة، ونأتيها من أعلى كما يقال.
يرى الإمام أحمد رحمه الله أن الحديث على ظاهره، فمن صلى صلاة أوقع فيها ركعة كاملة خلف الصف فصلاته باطلة، ومعنى (ركعة كاملة) أنه لو جاء منفرداً وكبر والإمام يقرأ، وظل مع الإمام حتى سجد الإمام، وقام للركعة الثانية، يكون أكمل ركعة منفرداً، ثم جاء من يقف معه، فعند أحمد الركعة باطلة، أما إذا وقف منفرداً وقبل أن يركع الإمام جاء آخر وصف معه، فقد خرج عن كونه منفرداً.
وغير أحمد -رحم الله الجميع- يقول: إن النهي هنا إنما هو للكراهة، وتصح الصلاة منفرداً خلف الصف.
وكيف تفعلون في هذا النهي؟ قالوا: هذا للكراهة، والأولى أن يكون مع غيره، ثم جاؤوا بأمور عقلية واستنتاجية.
أما الأمور العقلية فـ النووي يقول في المجموع: إن صحة الصلاة ثابتة عقلاً، قال: إذا جاء اثنان وموقفهما خلف الإمام، فكبر أحدهما والآخر لا زال يعدل في موقفه، فقد سبق أحدهما الآخر في تكبيرة الإحرام، ففي تلك اللحظة عقد تكبيرة الإحرام -وهي جزء من الصلاة- منفرداً والذي معه لم يكبر بعد، فيعتبر منفرداً، ولا يقول أحد بأن صلاة أحدهما باطلة.
ويقولون أيضاً: قصة ابن عباس لما صلى عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم أداره من خلفه.
فعند مروره خلف النبي صلى الله عليه وسلم كان وحده، في جزء من الصلاة، وما بطلت لكونه خلف الإمام وحده.
وهل هذا يرد على أحمد أم لا يرد عليه؟ الجواب: لا يرد عليه؛ لأن أحمد اشترط أن يقع الانفراد في ركعة كاملة، وهذه ليست بركعة.
وابن عباس لما أداره رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل كان قبل الخطوة التي أداره عندها خلف الصف وحده؟ ولهذا أقول: إنه من الإشكالات، فالنص صريح، ولكن الأئمة الثلاثة يقولون: الصلاة صحيحة، ونحن نقول: النص صريح مع أحمد، والكثرة واضحة مع الجمهور.
ويأتي بعد ذلك علاج الموقف، فإذا جاء والصفوف مكتملة، وما عنده أحد يصلي معه، فإنه يأخذ من الصف رجلاً معه، ويترتب على هذا تكليف آخر.
فإذا جاء وحده والناس جلوس في التشهد فالحنابلة يقولون: لو جاء والناس في التشهد وليس من السهل أن يرجع إنسان وهو في جلسة التشهد فإنه يجلس في طرف الصف، أو في وسطه ملصقاً ركبتيه إلى ظهر الذي يليه.(90/5)
المشروع في هيئة الإتيان إلى الصلاة
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) متفق عليه واللفظ للبخاري] .
هذا الحديث يشتمل على مسألتين: المسألة الأولى: كيفية الإتيان إلى صلاة الجماعة، والمسألة الثانية: ماذا يفعل المسبوق فيما سُبِق به.
ويقولون: إن سبب هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الصلاة فسمع جلبة (حركة) ، فلما سلم سأل ما هذه الحركة؟ قالوا: تعجلنا للصلاة.
أي: استعجلنا لندرك الصلاة.
ولعله كان في الركوع ليدركوا الركعة، أو كان في التشهد ليدركوا الصلاة قبل أن يسلم.
فالمهم أنه حملهم على ذلك الحرص على إدراك الصلاة، بقصد الخير وفعل الخير، ولكن هذا اجتهاد منهم، فنبههم صلى الله عليه وسلم قائلاً: (إذا سمعتم الإقامة) ، والتنصيص هنا على: (سمعتم الإقامة) ، وفي بعض الروايات: (ثوب للصلاة) ، أي: قال المقيم: حي على الصلاة حي على الفلاح.
قد قامت الصلاة، قال: (فامشوا إلى الصلاة) ، والمشي: هو الانتقال بحركة طبيعية، والسعي والإسراع أشد من ذلك، قال: (وعليكم السكينة) .
وفي حق الجمعة يقول تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] ، فهل هي المقصودة بالمنهي عنه بقوله هنا: (لا تسعوا) ، (لا تسرعوا) ؟ قالوا: لا.
فقوله تعالى: (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) بمعنى قولك: سعيت في قضاء حاجة فلان.
وسعيت في تحقيق الأمر الفلاني، يعني: أخذت بأسبابه.
(فَاسْعَوْا) يعني: فخذوا بالأسباب التي كلفتم بها للحضور إلى الجمعة، فإذا سمعتَ الأذان فقم واغتسل حالاً، والبس، وأت إلى المسجد، ولا تسرع.
وهنا يبين صلى الله عليه وسلم بقوله: (فامشوا) ، يعني: لا تجروا، ولا تسرعوا.
فالسعي هناك هو الأخذ بالأسباب، وليس سرعة الخُطا.
قال: (وعليكم السكينة والوقار) ، انظر إلى هذا السمت في حركة من حركات الإنسان في أداء حق لله، فأنت آت إلى الصلاة، وهي صلة بينك وبين الله، وكيف تكون الصلة؟! وكيف تصل نفسك بالله؟ تصل نفسك بالله وأنت في أكمل حالة من خشوع وخضوع وتذلل بين يدي رب العالمين.
ومتى يتم لك ذلك؟ هل عندما تأتي إلى الصف وقد حفزك النفس فتلهث ولا تدري ما تقول، أو تأتي إلى الصف وأنت تعمل عملية حساب ربح وخسارة، وعمل ما كنت تعمل فيه؟ لا.
قوله: (فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة) قالوا: السكينة: المشي بهدوء في خطوات مرتبة، وقالوا: الوقار: هو مرادف للسكينة، وجاء تأكيداً لها، وعلماء اللغة المحققون يقولون: السكينة لها معنى والوقار له معنى مستقل، وكلاهما مطلوب في هذا الموضع.
أما السكينة فتتعلق بالحركة، فتمشي على مهل كأنك ساكن، وأما الوقار فأصله مادة (وَقَرَ) ، وهي: الثِّقَل، ومنه قوله تعالى: {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الأنعام:25] فـ (وَقْر) يعني ثِقَل، والشخص المتأني الوقور يمشي كأنه الجمل الموقر، ليس من باب الكبر، ولا من باب العجز، ولكن من باب التواضع.
فهناك الحركة والتؤدة، وليست هناك الخفة والرعونة، وهناك الحالة والهيئة، وهي الوقار وحسن السمت، وقد جاء عند البخاري رحمه الله: (حسن السمت من الإيمان) ، ولذا قالوا: المؤمن في سمته، وفي مظهره، وفي لباسه، وفي مشيته، وفي حركاته ينبغي أن يكون على أحسن ما يكون.
ولذا كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول: (أحب لطالب العلم بياض الثياب ووقاره) .(90/6)
الأمر بالسكينة والوقار فيه الحث على التبكير إلى الصلاة
فعلى هذا ينبغي أن يكون المجيء إلى الصلاة حينما تسمع المؤذن على المنارة يقول: حي على الصلاة حي على الفلاح.
أما إذا تأخرت إلى أن جاء الأذان الثاني وهو الإقامة وما بعدها فقد قصرت وتأخرت، وقد عاتب أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه عثمان رضي الله تعالى عنه لما جاء متأخراً.
وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي تخطى رقاب الناس: (اجلس؛ فقد آذيت وآنيت) ، و (آنيت) : تأخرت في المجيء بعد الأوان، و (آذيت) : تخطيت رقاب الناس، وحرمة الناس عظيمة، فكذلك هذا المسبوق هذا الذي تأخر يضطر إلى أن يدرك بعض ما فات بالجري.
ففي هذا الحديث أدب من آداب الإسلام، وهو حسن السمت والوقار للمسلم، ولذا جاء في بعض النصوص: (إياكم وهيشات الأسواق!) ، أي: المرج والحركة والذهاب والمجيء بدون نظام هذا في أسواق الدنيا، أما أسواق الآخرة -وهي المساجد- فيجب أن يكون فيها الهدوء والسكينة والطمأنينة.
وبعض العلماء يقول في قوله صلى الله عليه وسلم: (وعليكم السكينة والوقار) : إن الذي يأتي إلى الصلاة من خروجه من بيته إلى أن يقف في الصف هو في صلاة.
قالوا: إذن ينبغي عليه مادام حكمه حكم الذي في الصلاة أن يتأدب بآداب المصلي، ومنها السكينة والوقار، وجاءت الأحاديث أيضاً وفيها أنه إذا تطهر في بيته وخرج إلى المسجد لا يرفع رجله اليمنى إلا بحسنة، ولا يضع رجله اليسرى إلا بتكفير خطيئة، إلى أن يأتي إلى الصلاة، ويكون قد حطت عنه ذنوبه، وتكون الصلاة له نافلة.
وجاءت النصوص أيضاً أن من فاته شيء من الصلاة فأتمها فله أجر الجماعة كاملاً، ومن جاء ووجد الناس قد صلوا وصلى وحده أو ومعه غيره فقد أدرك ثواب الجماعة بنية مجيئه وبقدر اجتهاده، ولكن لا يستوي مع من جاء قبل أن تقام الصلاة وقام مع الإمام من أولها.
فالحديث فيه من آداب الإسلام، ففيه حث المسلم على الوقار، وتعويده على حسن السمت في هيئته ومشيته، وفيه أيضاً الحث على المبادرة إلى الصلاة أو إلى المسجد قبل أن تقام الصلاة، وفيه أيضاً الحرص على إدراك الجماعة من أول وقتها، وفيه أيضاً أن حسن السمت يساعده على أداء الصلاة بحضور القلب واجتماع الحس والشعور، والتوجه إلى الله سبحانه وتعالى بكليته، ومن هنا أيضاً نأخذ الحكمة في أنه صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي فإنه من صلى علي؛ صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة) ، ومعلوم أنه إذا كانت درجة واحدة فلا تكون إلا لواحد، ولن تكون إلا لسيد الخلق وأحب الخلق إلى الله، وهو رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.
فالمؤذن ينادي ويقول: (الله أكبر) بأعلى صوته ليصل الصوت إلى أكبر عدد من المسلمين، ونحن حين نسمع المؤذن نقول مثلما يقول، وذلك لنستشعر عظمة الله فتسيطر على قلوبنا وحواسنا، وفي هذا تهيئة عظيمة لأداء الصلاة على أتم وجه في جماعة، وبحضور قلب وسكون.
يقول الله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] فالمؤذن ينادي البائع في سوقه، وينادي الصانع في مصنعه، وينادي النائم في بيته، وينادي الزارع في مزرعته، وكل يعمل في أمر دنياه، حتى يسمع داعي الله، فإذا ما سمع لأول وهلة (الله أكبر) أربع مرات فإن كان في مزرعة يرجو ثمارها فالله أكبر، وإن كان في مصنع يرجو إنتاجه وربحه فالله أكبر، وإن كان في بيع وشراء ويرجو ربح تجارته فالله أكبر، وإن كان نائماً مستغرقاً في نومه فالله أكبر.
وهكذا يستجمع كل حواسه وشعوره، ويكون مسيطراً عليه جلال (الله أكبر) .
فهل يتأخر هذا عن النداء؟ لا، وهل يأتي غافلاً؟ لا.
ثم يأتي قوله: (أشهد أن لا إله إلا الله) فيقول: وأنا أيضاً أشهد.
فما دمت تشهد فحي على الصلاة وهلم؛ لأن الصلاة لمن يشهد الشهادتين، ثم يقول: (حي على الفلاح) ، و (الله أكبر) في آخره تأكيد لما مضى، ثم (لا إله إلا الله) .
فإذا كان الحال كذلك، ونفضت يدك مما كنت فيه، وتوضأت وتوجهت إلى المسجد، فإذا أقيمت الصلاة فإذا بك غير الشخص الذي كان في محل عمله، وإذا بك في صف الصلاة لست ذاك الصانع الذي يعمل، ولا ذاك التاجر الذي يطفف الكيل أو الوزن، وقمت وتركت ونفضت يدك عن كل ما كنت فيه وقلت: الله أكبر.
ولذا يقول الغزالي في الإحياء: ورفع اليدين حذو المنكبين لينفض بظهر كفيه دنياه وراء ظهره، ويُقبِل بكليته إلى ربه.
فهذا الحديث يجرنا الكلام فيه إلى المبادرة، وإلى السكينة، وإلى الوقار، وإلى ما تفيضه الصلاة على المصلي.
ونقرأ في قصص بعض الأشخاص أنه إذا دخل في الصلاة لا يعي ما حوله، وأحد السلف كان في المسجد فسقط ركن المسجد ولم يشعر به، ولما سلَّم وفرغ وجد غبرة، فقال: ما هذه؟ قالوا: أما دريت؟ سقط ركن المسجد.
فأتوها وعليكم السكينة والوقار.
ومن المبادرة إلى الجماعة ما جاء في ترجمة سعيد بن المسيب أنه لم تفته تكبيرة الإحرام في المسجد النبوي أربعين عاماً.
وبعضهم يقول: ما صلى في غير الصف الأول أربعين عاماً.
وبعضهم يقول: ما أذن المؤذن إلا وهو في مكانه في المسجد عشرين عاماً.
ومن هنا تتفق كتب التاريخ على أنه في وقعة الحرة لما خلت المدينة، وتعطلت الصلاة في المسجد النبوي ثلاثة أيام للفتنة كان سعيد بن المسيب يأتي وحده إلى جوار الحجرة، ويسمع الأذان من داخل الحجرة في جميع وقته في الصلوات الخمس.
وأما كيف يسمع ومن يؤذن فهذا أمر غيبي، وهو معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكرامة لهذا التابعي الجليل.
والذي يهمنا المبادرة إلى المساجد، وجاء في الحديث: (سبعة يظلهم الله في ظله منهم: ورجل قلبه معلق بالمساجد) .
فعندما نشاهد حالة بعض الناس إذا كبر الإمام وركع، يركضون كأنهم في سباق، فلا حاجة إلى هذا كله، ففي الحديث: (ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) .
ولذا في بعض روايات أبي بكرة: (زادك الله حرصا ولا تَعُد) أي: لمثل هذه الصورة، أو (ولا تُعِد) صلاتك؛ لأنك قد أدركت الركعة وأدركت الصلاة.
فإذا سمعتم الإقامة فامشوا، أي لا تركضوا ولا تسرعوا ولا تسعوا، وامشوا إليها مشياً.
قال: (فما أدركتم فصلوا) ، (ما) هنا عامة، فالذي أدركتموه من الصلاة صلوه، فإذا أدركت الإمام راكعاً فاركع، وإن أدركته ساجداً فاسجد، وإن أدركته في التشهد فاجلس، وسيأتي التنصيص على هذه الحالة.
فهذا الجزء الأول وهو كيفية الإتيان إلى الصلاة، فينبغي أن يكون على حالة السكينة والوقار؛ لأن الإسراع قد يخل بالمروءة، فيخرج الإنسان عن سمته ووقاره، وأعتقد أن الناس طبقات، فهناك من يجري أو يقفز على عصا، ولا يعيبه أحد، وهناك من لو أسرع قليلاً لفت الأنظار إليه.
فالناس طبقات، وكل بحسبه عند الناس، ولكن عند الشرع الكل سواء، فينبغي للشاب أو الشخص العجل أن يتأدب بأدب الإسلام، ويحترم مجيئه إلى الصلاة، ولا يجعل حرصه يحمله على الإخلال بآداب الإسلام.
فإذا دخل من الباب وكبر الإمام راكعاً فلا يجري ولا يركض من أجل أن يدرك الركعة؛ لأنه يكون قد أخل بشيء من آداب الصلاة، وضيع أكثر مما كان يفوته ما لو مشى على سكينة ووقار.(90/7)
القضاء والإتمام معناهما والفرق بينهما
قال: (وما فاتكم فأتموا) ، وجاءت رواية أخرى بلفظ: (فاقضوا) ، فبعض العلماء يقول: دلالة اللفظين لغة سواء، لأن القضاء قد يكون بمعنى التمام والإنهاء والفراغ، (فإذا قضيت الصلاة) معناه: تمت وانتهت.
يقول الشاعر: قضى كل ذي دين فوفى غريمه وقضاء الدين بمعنى: دفْعُهُ وأداؤه.
وقضى فلان ما عليه، أي: أداه ودفعه.
وقضى فلان بحقي بمعنى: حكم، فتأتي كلمة (قضى) وما تصرف منها لمعان عديدة، ومن معانيها الإتمام، فتقول: فلان قضى الأمر الذي كان قد بدأ به.
وبعض العلماء قال: هذا اصطلاح شرعي، ومعناه: أتموا ما بقي من نقص، واقضوا ما فات عليكم من قبل.
وجميع شراح الحديث يقولون: المشهور والأكثر عند الجمهور لفظ (فأتموا) ، وجاءت بعض الروايات عن أحمد والنسائي -وبعضهم يعزوها لـ مسلم - بلفظ: (فاقضوا) .
فاللفظان صحيحان، ولكن أحد اللفظين أشهر وأكثر من الآخر، والكثرة لها الترجيح، فإذا قلنا باللفظين، فمن أخذ برواية (أتموا) -وهي المشهورة عند الجمهور- له ترتيب في الماضي، ومن أخذ برواية (فاقضوا) له ترتيب آخر يخالف الأول، فما الفرق بين اللفظين؟ إذا جئنا إلى صلاة رباعية جهرية أو ثلاثية ولتكن المغرب، وجاء إنسان قد فاتته الركعة الأولى، وصلى مع الإمام ركعتين وبقي من الثلاث ركعة، فهل الركعة التي سيصليها بعد السلام -التي هي الثالثة- هي الأولى التي فاتته، أم هي الثالثة الباقية عليه آخر صلاته؟! هو صلى مع الإمام ركعتين، وبقي عليه ركعة واحدة، فهل الركعة الواحدة الباقية عليه هي التي فاتته ولم يدركها مع الإمام فيقضيها، أم هي الثالثة التي لم يصلها فيتمها؟ هذا هو التصوير العقلي للواقعة، وهو مطالب بركعة بلا شك، لكن بقي علينا أن نتصور الركعة التي سيقوم لأدائها بعد سلام الإمام، فهل هي الفائتة التي لم يدركها، وهي الأولى بالنسبة للإمام، أم هي الركعة الثالثة الباقية تتمة للثلاث؟ ولما كان الأمر محتملاً فمن أخذ برواية (فأتموا) فالركعة التي سيقوم لأدائها تكون هي الركعة الثالثة الباقية؛ لأنه صلى الركعة الأولى والثانية، وبقي عليه أن يكمل الثالثة، ويكون قد أتم الثالثة بالركعة التي أداها بعد سلام الإمام.
وإن قلنا: هي الماضية التي فاتته فيكون قد صلى ركعتين، وفاتته واحدة، فيقوم لأداء الأولى التي فاتته مع الإمام قضاءً.
وقد يقول قائل: في الحالتين تبقى واحدة وستكمل الثلاث.
قالوا: لا؛ لأن القضاء يختلف عن الأداء، فإذا قلنا يتم ستكون بالنسبة له الركعة الثالثة، والثالثة في المغرب سرية، فحين يقوم بعد الإمام ليأتي بالثالثة يأتي بالقراءة سراً؛ لأنه يتم الثالثة الباقية عليه.
وإذا رجعنا إلى رواية (فاقضوا) ، وسيكون قيامه لصلاة الركعة الأولى التي فاتته، والأولى جهرية فيجهر بالقراءة.
فهذا الذي يترتب على (أتموا) و (اقضوا) .
وإذا فعل الإنسان أحد الأمرين فهل صلاته صحيحة أم باطلة؟ إن أخذ بلفظ (أتموا) وأتى بها سرية فالحمد لله، وإن اعتبرها الماضية وأخذ بلفظ (واقضوا) ، وأتى بها جهرية فلا مانع والحمد لله.
فالصلاة صحيحة على كلتا الروايتين، وكل له مستند.
لكن أيهما أرجح؟ هل هي (أتموا) ؛ لأنها أرجح من جهة قوة الرواية ولأنها مشهورة؟ إذا أخذنا المسألة من جهة النظر فعلى رواية: (اقضوا) يكون قد أوقع تكبيرة الإحرام في الركعة الثانية؛ حيث أدرك مع الإمام الثانية والثالثة، وقد اعتبرنا ما أدرك مع الإمام ثانية وثالثة، وعليه أن يأتي بالأولى قضاءً، فيكون قد أوقع تكبيرة الإحرام في الثانية، ولكن لما كبر تكبيرة الإحرام، أول ما دخل مع الإمام -وتكبيرة الإحرام لا تكون إلا في الأولى- ظهر أن الركعة التي دخل بها مع الإمام هي الأولى في حقه، وإن كانت الثانية أو الثالثة في حق الإمام.
ولو أدرك الإمام في الركعة الأخيرة فسيتم ويقضي ركعتين، فعلى رواية (أتموا) يجهر في واحدة، ويسر في الأخيرة، وهكذا يكون التفريع على الفرق بين (أتموا) ، و (اقضوا) ، والله سبحانه وتعالى أعلم.(90/8)
كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة [8]
إن لصلاة الجماعة فضائل كثيرة، وكلما زاد العدد في صلاة الجماعة زاد الفضل، وتنعقد الجماعة برجلين، أو برجل وامرأة، وإمامة المرأة للنساء جائزة بالاتفاق، وهناك صور أخرى تتعلق بإمامة المرأة أو بإمامة الرجل للنساء فقط، اختلف فيها العلماء.
وتجوز الصلاة وراء كل من قال: (لا إله إلا الله) ، كما تجوز الصلاة عليه، ما لم يأت بناقض ينقضها، مع أن الأولى أن يصلى وراء من توفرت فيه صفات الإمام المنصوص عليها شرعاً.(91/1)
تابع أحكام صلاة الجماعة(91/2)
زيادة الفضل في صلاة الجماعة بزيادة عدد المصلين وعلة ذلك
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله عز وجل) رواه أبو داود والنسائي، وصححه ابن حبان] .
يأتي المؤلف رحمه الله بهذا الحديث تحت عنوان صلاة الجماعة والإمامة.
ونفهم من هذا الحديث أنه كلما كانت الجماعة أكثر عدداً كانت أفضل أجراً، وهذا هو الموضوع الإجمالي للحديث.
أما الحديث من حيث هو فمسائله متعددة.
منها: مسألة انعقاد الجماعة بالرجلين، فهل تنعقد الجماعة بإمام ومأموم فقط؟ أم لا بد للجماعة من ثلاثة فأكثر؛ لأن أقل الجمع ثلاثة؟ فهذه أول مسألة في الحديث، والتحقيق فيها أنه تنعقد الجماعة بالاثنين.
وفي حال كون الثاني امرأة -رجل وامرأة- فهل تعتبر جماعة أم لا تعتبر؟ يقولون: تصح الجماعة ولو كان المأموم امرأة فقط رداً على من يقول: لا تصح جماعة، ولا تنعقد إذا كان المأموم امرأة فقط، أما إذا كن جمعاً من النسوة فكما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: (كنا نأخذ الغلمان من الكتاب يقومون بنا رمضان) .
وعمر رضي الله تعالى عنه نصّب إماماً خاصاً للنساء في تراويح رمضان، حتى يُسرعن ويعدن إلى بيوتهن، فكون الرجل يؤم جماعة من النسوة هذا ليس فيه خلاف.
وبعضهم يستدل لصحة انعقاد الجماعة برجل وامرأة فقط بالحديث: (من استيقظ من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين جميعاً كتباً من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات) فهنا: (فصليا جميعاً) إمام ومأموم، والإمام هو الزوج، والمأموم هو الزوجة، فتنعقد الجماعة باثنين ولو كان المأموم امرأة.
قوله: (صلاة الرجل مع الرجل أزكى) (أزكى) بمعنى أكثر وأفضل، ومنه قوله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} [النجم:32] أي فلا تمدحوها ولا تفضلوها.
وقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14] أي: أكرم نفسه وتزود من الخير.
والزكاة: النمو والزيادة فهنا هما اثنان، وصليا جماعة.
فصحت الجماعة باثنين، وهذه من أوائل مسائل هذا الحديث.
وهنا صلاة الواحد مع الآخر أزكى من صلاته وحده، قال بعض العلماء: فيه دلالة بالإيماء والتنبيه على صحة صلاة المنفرد دون جماعة، وهذا الأمر قد تقدم الكلام فيه.
قوله: (وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل) ، صلاة الواحد مع الاثنين أزكى من صلاته مع واحد فقط؛ لأنهم سيصيرون ثلاثة إماماً واثنين مأمومين، وما زاد فهو أفضل.
فموضوع هذا الحديث أن الجماعة كلما كانت أكثر عدداً كانت أفضل، ولهذا ينبغي على الإنسان أن يحرص على أداء الجماعة في المساجد التي يكثر فيها العدد، قالوا إلا إذا كان هناك مسجد في الحي، ووجود هذا الشخص في هذا المسجد سيشجع أهل الحي على الصلاة، أو سينتفع منه المصلون في هذا المسجد الصغير بتعليم أو فتوى، أو محافظة على الصلاة، أو سيحضرون خوفاً منه أو متابعةً له، فتكون صلاته في المسجد الأقل عدداً لمصالح أخرى في حقه هو أولى.
أما إذا لم تكن هناك مصالح أو جوانب خارجة عن مجرد الجماعة فكلما كان العدد أكثر كان أفضل.
لأن كل مصلٍ إنما يدعو لنفسه وللمسلمين، وهو واحد من المسلمين، فتناله الدعوات من جميع المصلين، فيشارك في الفضيلة أكثر مما لو كان العدد أقل، والله سبحانه وتعالى أعلم.(91/3)
إمامة المرأة صورها وخلاف العلماء في ذلك
قال رحمه الله تعالى: [وعن أم ورقة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تؤم أهل دارها) رواه أبو داود، وصححه ابن خزيمة] قدم المؤلف رحمه الله النهي عن إمامة الأعرابي للمهاجر، والفاسق، والمرأة للرجل.
ولما قدم ذلك وكان سنده واهياً، جاء هنا ليبين صحة إمامة المرأة لأهل دارها، فهذا تخصيص من ذاك العموم الذي تقدم.
وأم ورقة هذه امرأة أنصارية، وهي صحابية جليلة، وكانت تلقب بالشهيدة وهي على قيد الحياة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما عزم الخروج إلى بدر قالت: يا رسول الله! ائذن لي أن أصحبكم لعلي أداوي الجرحى وأسقي المرضى فقال لها صلى الله عليه وسلم: (قري في بيتك؛ فإن الله عز وجل يرزقك الشهادة) ، فلما قال لها ذلك لقبوها بالشهيدة، وكان صلى الله عليه وسلم يأتي إليها ويزورها، وكانت قد جمعت القرآن، وما سمعت بامرأة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم جمعت القرآن غير هذه الصحابية الجليلة.
ولا أستبعد من مثل عائشة رضي الله تعالى عنها لشدة حفظها أن تكون جمعت القرآن أيضاً؛ لأنها ذكرت أنها تحفظ عشرات الآلاف من أبيات الشعر.
فهذه المرأة كانت بهذه الصفة، وكانت نهاية أمرها أن قتلها غلامها وجاريتها، فكتما نفسها بخميصة لها حتى ماتت وهربا، وكان اكتشاف ذلك أن عمر رضي الله تعالى عنه قال: (ما سمعت صوت خالتي أم ورقة الليلة) ، فقد كانت كل ليلة تقوم وتقرأ القرآن، وكان عمر يسمعها، فافتقد صوتها تلك الليلة، ومن الغد دخل بيتها فلم يجدها، فدخل غرفتها فوجدها مخنوقة بالخميصة ميتة، ولم يجد غلامها ولا جاريتها.
فقال عمر: (من رأى هذين أو علم بهما فليأتني بهما) ، فأُتي بهما فقتلهما وصلبهما.
وقضيتها -من حيث هي- حادثة تؤخذ منها أحكام عديدة قبل أن نأتي إلى موضوع إمامتها.
لقد كان لها تطلع إلى الشهادة، وقد جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وغيرها أن النساء أرسلنها وافدة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! إني وافدة النساء إليك، وجدنا الرجال غلبونا بالجهاد، أفنجاهد؟ فقال: (عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة) ، وفي الوقت نفسه صرح النبي صلى الله عليه وسلم لبعض النسوة أن يشاركن في القتال، فأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها كانت تحمل الماء يوم أحد، وغيرها، وأم عطية سافرت وجاهدت، وكانت تضمد الجرحى، وتهيئ لهم الطعام.
فهذه المرأة الكريمة طلبت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأذن لها، ولم يكن الرجال يستأذنون للخروج، بل إذا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للخروج إلى الجهاد هب الجميع، والمرأة ليست من أهل القتال، كما قيل: كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول.
فالمرأة ليست من أهل القتال، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأذن لها لتخرج على غير العادة، فكفاها المؤنة، فقال: (قري في بيتك؛ فإن الله عز وجل يرزقك الشهادة) فبهذا الوعد لقبت بالشهيدة وهي تمشي على وجه الأرض.
وإن هذه الإشارة -والله تعالى أعلم- لعلها التي جعلت أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه يقول: (اللهم ارزقنا شهادة في سبيلك في بلد رسولك) .
قالوا: يا عمر! أتريد القتال في المدينة؟ قال: فضل الله واسع.
فجاءته الشهادة في المدينة، وفي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي المحراب.
أقول: لعل عمر لما سمع البشرى لهذه المرأة أن: امكثي في بيتك وستأتيك الشهادة -أي: في بيتك- فطِن عمر رضي الله تعالى عنه، وقال: هذا يمكن ونالها.
فـ أم ورقة دبرت غلاماً وجارية.
والتدبير باب من أبواب العتق، وهو تفعيل من الدبر، والدبر: ما كان خلف الشيء، فـ (عن دبر) أي: عن خلف وعن ظهر، وعن زمن بعده.
فإذا قال شخص: يا فلان! لك هذه الدار عن دبر مني.
يعني: إذا مت فالدار لك.
أو قال: يا أولادي! أوصيكم أن إذا مت فأسكِنوا هذه الدار فلاناً.
أو يقول لغلامه: أنت حر بعد موتي فهنا تعلق العتق بموت المالك.
أي: رب المال.
وهنا السؤال: إذا كان العبد ينتظر الحرية بموت سيده، فحينها يطلب سرعة موته، فإذا اعتدى عليه بالقتل ألغي التدبير، كما أن قاتل مورثه يحرم من الميراث.
والموقوف عليه، والموصى له إذا قتل الموقِف تسرعاً لانتقال الوقف إليه، أو تعجلاً لمجيء الوصية إليه مُنِع من استحقاق الوقف، ومُنِع من الوصية.
قالوا: معاملة له بنقيض قصده؛ فإنه تعجل لأجل الميراث فنحرمه منه؛ لكي يعلم كل حريص على الميراث أنه لن ينال الميراث إذا قتل مورثه، فيكف يده حتى لا يُحرم.
ونظير ذلك أيضاً لو أن امرأة أخفت عدتها، وادعت خروجها من العدة، وتواطأت مع رجل فتزوجته قبل أن تخرج من عدتها فسخ النكاح، ولا يتزوجان إلى الأبد، وهذا التحريم المؤبد؛ حتى لا تخفي امرأة أمر عدتها، فإذا علمت أنها لن تلتقي معه إلى الأبد حافظت على العدة، ومشت في طريق مستقيم.
فـ أم ورقة دبرت غلاماً لها وجارية، فقد قالت: أنتما حران بعد موتي.
فقاما عليها بالليل وخنقاها بخميصة حتى ماتت، وهربا.
وهنا ندخل في مبحث جنائي، فأمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه فطِن لافتقاد سماع قراءتها، وهكذا حق الجوار، أو أنه كان من عادته أن يعس المدينة، ونحن نعلم أمر عمر في خلافته، لقد كان يخرج ليلاً ويطوف في أزقة المدينة يتحسس أخبار الناس وحاجاتهم، ومن ذلك أنه سمع امرأة تقول لابنتها: قومي إلى الحليب فامزجيه بالماء.
فقالت: يا أماه! ألم تسمعي بمنادي عمر ينهى عن مزج الحليب بالماء؟! قالت: يا بنيتي! وأين عمر منك الآن؟ فقالت الفتاة: والله -يا أماه- لإن كان عمر غائباً فرب عمر حاضر.
وكان عمر عند الباب يسمع، ولم يقل لهما شيئاً، وقال لمن معه: اعرف لي هذا البيت.
فعرفه، ومن الغد ذهب وخطب تلك الفتاة.
ونظير هذا -والشيء بالشيء يذكر- أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يطوف بالبيت، وكانت هناك امرأة عجوز مجذومة، أي: مريضة بمرض الجذام، وهذا المنظر قد يتأذى منه الناس أو من رائحته، فمر عمر بجانبها وهمس في أذنها وقال: يا أمة الله! لو عدت ومكثت في بيتك لكان خيراً لك.
فخرجت من توها، وما أكملت الشوط، ورجعت إلى بيتها، فلما توفي عمر رضي الله تعالى عنه أُتيت فقيل لها: اخرجي.
إن الذي نهاك قد مات.
قالت: ما كنت لأطيعه حياً وأعصيه ميتاً أي: له حق في السمع والطاعة، فهذا هو التلاحم، وهذه هي حقيقة الإيمان.
وقد جاء عن بعض السلف أنه قال لـ حذيفة رضي الله تعالى عنه: لقد حظيتم بصحبتكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لو كنا حضرنا لما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا.
قال: يابن أخي! لا تقل ذلك، والله لاتدري إن حضرت ماذا كنت تفعل؟! والله لقد جاءت علينا ليال يخاف الواحد منا أن يخرج يقضي حاجته.
وهذا في أمر الخندق وليلة الأحزاب والشدة التي لحقت المسلمين، ثم قال: قال آخر: والله وددت أني مت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أشهد يوم موته.
فقال غيره: والله ما وددت ذلك، وتمنيت أن أعيش بعده لأطيعه بعد وفاته كما كنت أطيعه وهو حي.
فهذه النماذج تعطينا مدى ارتباط الأفراد بقادتهم في الإسلام، ومدى السمع والطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولا تجد على وجه الأرض ملكاً من الملوك، أو رئيساً من الرؤساء، أو قيصراً من القياصرة تبلغ طاعته عند قومه عشر معشار هذا الحد.
فـ عمر سمع المرأة، ومن الغد ذهب فخطبها لولده، وكانت جدة عمر بن عبد العزيز، والشيء من معدنه لا يُستنكر.
وفي ليالي عمر وهو يعس في شوارع المدينة سمع امرأة في جوف الليل تقول: ألا طال هذا الليل وازور جانبه وليس إلى جنبي خليل ألاعبه فوالله لولا الله تخشى عواقبه لحرك من هذا السرير جوانبه فتفكّر في حال امرأة في مغيب زوجها، فسأل عمر رضي الله تعالى عنه عنها، فقيل له: إنها امرأة فلان، وله في الغزاة ثمانية أشهر، فجاء عمر إلى ابنته حفصة وقال: أخبريني: كم تصبر المرأة عن زوجها؟ فاستحيت.
قال: والله -يابنيتي- لولا أني أريد أن أنظر في أمر المسلمين ما سألتك هذا السؤال.
قالت: تصبر شهراً وشهرين، وفي الثالث تتضجر، وفي الرابع يضيق ذرعها فأرسل لأمراء الأجناد: لا يغيبن زوج عن زوجه فوق أربعة أشهر.
فكان الواحد يذهب للثغر يرابط شهراً، وعليه مرابطة شهرين، فشهر في الذهاب وشهران في المرابطة، وشهر في العودة، ولا يغيب أكثر من ذلك.
فـ عمر رضي الله تعالى عنه افتقد صوت أم ورقة، فلما افتقد صوتها كان ذلك لافتاً للنظر.
يقولون عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله: إنه كان له جار يهودي، وكان كل ليلة يؤذيه برفع صوته، فيمضي الإمام ولا يكلم جاره بشيء، وفي ذات يوم أصبح فلم يجد ما كان يعتاد أن يجده، وفي اليوم الثاني والثالث كذلك، فاستغرب وسأل عن جاره فقيل له: إنه مسجون.
فذهب إلى الوالي وطلب زيارته في سجنه فأذن له، ثم طلب من الوالي أن يطلقه له فأطلقه.
إمام جليل يأتي ليطلق إنساناً من سجنه، فجاء جاره وقال: أخبرني ما الذي أعلمك أني سجين؟ قال: الأمارة التي كنت تجعلها كل ليلة افتقدتها.
قال: وتسكت على ذلك، وتقابل إيذائي بأن تزورني في سجني، وأن تطلب إخراجي؟! قال: نعم.
هذا حق الجار في الإسلام.
قال: هذا دين يعامل أفراده بهذه المثابة.
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.
فـ عمر افتقد أم ورقة، ولم يسمع قراءتها، وليس عندها إلا غلام وجارية، فلما أصبح د(91/4)
إمامة الأعمى في الصلاة
قال رحمه الله تعالى: [وعن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف ابن أم مكتوم يؤم الناس وهو أعمى) رواه أحمد وأبو داود] .
قدم المؤلف رحمه الله ذكر محظور الإمامة من ناقص نقصاً معنوياً كأعرابي يؤم مهاجراً، والفرق بين الأعرابي والمهاجر ليس نقصاً في الخلقة، ولكنه أمر معنوي اعتباري.
والأعرابي إذا جاء وهاجر وجلس مدة في المدن أصبح حضرياً، وزال عنه وصف الأعرابي، وكذلك الفاسق.
فهذه أوصاف اعتبارية، وليست أوصافاً خلقِية.
فلما كان الأمر كذلك جاء المؤلف رحمه الله بعد هذا ببيان النقص الخلْقي في شخصية الإنسان، كأعرج، وأعور، وأعمى، فهل هذه النواقص الخلْقية تمنع من الإمامة أم لا؟ فذكر أكبر عاهة وهي العمى، وإذا جئنا إلى كتب القضاء فإن جمهور الفقهاء -ما عدا الحنابلة- يقولون: لا تصح ولاية القضاء للأعمى والحنابلة قالوا: العمى ليس نقصاً في العدالة، والمطلوب من القاضي أن يكون حاكماً بالعدل والجمهور قالوا: إن البصر والرؤية من وسائل معرفة المحق من المبطل، قال تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} [الفتح:29] ، ومن الذي سيرى سيماهم؟ فاشتراط البصر يكون من كمال الوصف.
ولقد عرضت علي قضية، حيث جاء رجل أعجمي ووقف في الباب -وكان طويلاً- يصيح صياح المرأة الثكلى: مظلوم مظلوم وكان هذا في زمن الملك فيصل يغفر الله له.
فالكاتب الذي بجانبي قال: هذا مسكين فانظر كيف الظلم! فأردت أن أقول له: لا تفتح فمك، وتأمل مع هذا الصياح، والغرفة مليئة بالمراجعين والكتاب والقاضي، فإذا نظر الرجل كأنه سهم مصوب علي، فقابلته بسهم وسهم، وانتظرت.
فالجندي يريد أن يدخله، ولكن الرجل ممتنع، فقلت للجندي: أحضر العصا فسمع كلمة (عصا) فمشى ووقف أمامي، وأعاد الكرة، فقلت للجندي: اصفعه على وجهه إذا لم يجلس إن هذا قد يكون جنى، لكن للقاضي أن يتكلم بما لا يريد أن يفعل.
ثم إنه جلس، فقلنا له: اقرأ الدعوى، قال: لا أفهم قلت: أنت فهمت (أحضر العصا!) ، وفهمت (أعطه كفاً) فيجب أن تفهم الباقي.
فذاك الصياح وذاك التوجع لو كنت خلف حجاب لقلت عنه: هذا ملأ الدنيا دموعاً وبكاء إلا أنه ما قطرة دمع واحدة نزلت من عينيه.
فألزمته بالإجابة فأجاب.
والمهم أنه ثبتت عليه الدعوى، وجاء أخوه وخلّصه مما لزم عليه.
أقول: إن البصر للقاضي قد يعينه على حل القضايا، والعون من الله سبحانه وتعالى، ولكن هذه وسائل، كما أن السمع من وسائل إيصال كلام الطرفين، ووسيلة لفهمه وعقله، كذلك البصر يساعد.
فهنا يذكر المؤلف أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف رجلاً أعمى، وهو ابن أم مكتوم المعروف، وكان قد استخلفه للصلاة وإمارة المدينة، وتارة كان يستخلف أبا هريرة، فجاء المؤلف رحمه الله في نهاية البحث وقال: إن كانت بعض الصفات الخلُقية تمنع من الإمامة فإن بعض الصفات الخلْقية لا تمنع منها، وعلى هذا تصح إمامة الأعمى.
ومن ينازع في إمامة الأعمى يقول: الأعمى لا يعرف القبلة أين هي، وإنما سيتوجه إلى القبلة تقليداً لغيره، ولكن المبصر يعرفها! فيقال له: بماذا يعرفها المبصر، هل سيرى الكعبة؟ أنه لن يراها، ولكن بالجهات، وسيرى المحراب، فكذلك الأعمى يمكن أن يتحسس المحراب.
ولهذا قال بعض الناس: المحاريب في المساجد بدعة؛ لأنها لم تكن زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقالوا: نعمت البدعة، بل هي سنة حسنة؛ لأنه لو جاء أعمى في الليل ودخل مسجد قوم يريد أن يصلي فكيف يعرف القبلة، فجدران المسجد في أربع جهات ولا فارق بينها، فإذا تحسس بيده وجد المحراب وعرف أين القبلة.
فإمامة الأعمى صحيحة مع الشروط الأخرى: صلاحه و (أقرؤهم لكتاب الله) و (أعلمهم بالسنة) .
قال: [ونحوه لـ ابن حبان عن عائشة رضي الله تعالى عنها.(91/5)
من يصلى وراءه وعليه عند موته
قال رحمه الله تعالى: وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلوا على من قال لا إله إلا الله، وصلوا خلف من قال لا إله إلا الله) رواه الدارقطني بإسناد ضعيف] .
هذا الحديث سواءٌ روي بإسناد ضعيف أم بإسناد صحيح له تعلق بمباحث العقيدة.
فمن قال: لا إله إلا الله اعتُبر مسلماً، لحديث (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه، وحسابه على الله) .
وهنا يبحث الفقهاء ويقولون: إذا كان يقول: لا إله إلا الله، وأمره سر وخفي لا نعلم عنه شيئاً فهو من أهل لا إله إلا الله، ولكن إذا كان يقولها، ويظهر منه ما يناقض قوله فهل (لا إله إلا الله) باقية أو نقضها بفعله؟ قالوا: إذا كان من يقول: لا إله إلا الله مظهراً لبدعة مكفِّرة فقد نقض قوله بفعله، فلا نصلي وراءه، ولا نصلي عليه، أما إذا كان ممن يقولها ولكنه متلبس ببدعة ليست مكفِّرة، أو كان ممن يرتكب الكبائر -والكبائر ليست مكفرة- فماذا نفعل معه؟ قالوا: أما الصلاة عليه فهو حق علينا، إلا إذا قتل في حد من حدود الله، فإن الإمام الراتب لا يصلي عليه؛ لأن في ذلك إقراراً لما فعل، أو تكريماً له، ولكن أداءً للواجب يصلي عليه أهله، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (صلوا على صاحبكم) .
أما الصلاة خلفه فقالوا: أهو إمام راتب من قبل ولي أمر المسلمين وترك الصلاة خلفه شق للعصا، أم أنه شخص متبرع قال أنا أصلي لكم؟ فإن كان ولي المسلمين هو الذي ولاه الإمامة، أو كان هو بنفسه أمير البلد أو حاكمها فيصلَّى خلفه، مادام يقول: لا إله إلا الله أما إذا كان متبرعاً من عامة الناس ويرجع الأمر في اختيار الإمام للمأمومين فرفضهم له واجب.
وعلى هذا إنما يكون الإمام من خيار الناس، ومن قال: (لا إله إلا الله) ولم يظهر ما يخرجه من الإسلام فحينئذٍ حق (لا إله إلا الله) علينا أن نصلي عليه، فهذا مجمل هذه القضية، والتوسع فيها يرجع إلى كتب العقائد، والله تعالى أعلم.(91/6)
صلاة المسبوق ومتابعته للإمام
قال رحمه الله تعالى: [وعن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم الصلاة والإمام على حال فليصنع كما يصنع الإمام) رواه الترمذي بإسناد ضعيف] .
قوله: (إذا أتى أحدكم الصلاة والإمام على حال) يعني: على صفة من صفات الصلاة وأحوالها.
فإذا جاء الشخص والإمام يقرأ فعليه أن يكبر ويدخل مع الإمام ويقف في الصف، وإذا جاء والإمام راكع فعليه أن يكبر تكبيرة الإحرام ويركع مع الإمام، أو جاء والإمام ساجد فإنه يكبر تكبيرة الإحرام قائماً ويسجد مع الإمام، أو جاء والإمام جالس بين السجدتين فعليه أن يكبر تكبيرة الإحرام قائماً ويجلس، أو جاء والإمام يتشهد فكذلك، فعلى أي حال من أحوال الإمام في الصلاة يدخل معه فيها، لا أن يأتي فيجد الإمام ساجداً فيقف وينتظر حتى يقف الإمام فيكبر ويدخل معه، أو يجده جالساً للتشهد فما يدري أهو التشهد الأوسط أو الأخير فينتظر، فلا ينبغي هذا.
وتقدم لنا ما يتعلق بـ معاذ رضي الله تعالى عنه -فيما يرويه ابن كثير وغيره- أن الصلاة أحيلت ثلاث حالات، فقد كانوا إذا أرادوا الصلاة آذن بعضهم بعضاً، فقالوا: نتخذ أداة فاقترُح الناقوس، أو البوق، أو إشعال النار، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ذلك، فجاء عبد الله بن زيد وقص رؤياه في الأذان، فقال: (إن صاحبكم قد رأى رؤيا، فاخرج مع بلال إلى المسجد، فألقها عليه، وليناد بلال؛ فإنه أندى منك صوتاً) ، فصاروا يؤذنون ويجتمعون بالأذان.
فهذه حالة، والحالة الثانية أنهم كانوا يصلون إلى بيت المقدس فتحولوا إلى بيت الله الحرام (الكعبة) .
والحالة الثالثة أن المسبوق كان إذا جاء سأل من في طرف الصف كم صليتم؟ ليعرف كم فاته من الصلاة، فيكبر تكبيرة الإحرام، ويأتي بما فاته، ويدخل مع الإمام في الحالة التي هو عليها، فقال معاذ: والله لإن أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا متأخر لأوافقنه على ما هو عليه فجاء مسبوقاً، فدخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحالة التي هو عليها، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قام وأتى بما كان قد فاته، فقال صلى الله عليه وسلم: (قد سن لكم معاذ فاقتدوا به) ، فكانت هذه الحالة الثالثة.
وهنا يأتي النص عن علي رضي الله تعالى عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا أتى إلى الجماعة فإنه يدخل مع الإمام على الحالة التي هو عليها، والجمهور على أنه يكبر تكبيرة الإحرام ويدخل بها في الصلاة ثم يتابع الإمام.
ثم يأتي بعد ذلك في بعض الروايات: (إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئاً) .
وعن ابن عمر قال: (إذا أدركت الإمام راكعاً فركعت قبل أن يرفع فقد أدركت، وإن رفع قبل أن تركع فقد فاتتك) .
فمن جاء مسبوقاً فليدخل مع الإمام على الحالة التي هو عليها، فإن أدرك الإمام في الركوع واطمأن معه أقل ما يجزئ اعتد بهذه الركعة، ولا يكون قد فاته إلا قراءة الفاتحة، وإن وجد الإمام قد رفع من الركوع وهو في حالة الاعتدال بعد الركوع فليدخل معه في الرفع من الركوع، وفي السجدتين، والجلسة بينهما، ثم يقوم إلى الركعة التي بعدها، أو يسلم، ولا يعتد بهذه الركعة في صلاته، وعليه أن يأتي بالصلاة كاملة، والله سبحانه وتعالى أعلم.(91/7)
كتاب الصلاة - باب صلاة المسافر والمريض [1]
إن الدين يسر، ومن يسره تخفيف الصلاة على المسافر بالجمع والقصر، وهذه المسألة قد تكلم فيها العلماء ودققوا في فروعها، وناقشوا أدلتها مناقشة دقيقة.(92/1)
حكم القصر في الصلاة
باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:(92/2)
حديث: (أول ما فرضت الصلاة ركعتين ... )
فيقول المصنف رحمه الله: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (أول ما فرضت الصلاة ركعتين، فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر) متفق عليه، وللبخاري: (ثم هاجر، ففرضت أربعاً، وأقرت صلاة السفر على الأول) ] .
هذا الحديث من أقوى أدلة من يقول: إن القصر في السفر واجب.
فقولها في الحديث: (ثم) للتأخير والتسويف.
إذاً: حينما نسافر نرجع إلى الأصل، والأصل ركعتين، وهذا قول قوي.
لكن الآخرون يجيبون عن ذلك: بأن الله سبحانه وتعالى يقول: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا} [النساء:101] ، فالقصر يكون من تمام الكمال.
إذاً: قول عائشة رضي الله تعالى عنها ليس فيه رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهي لم تقل: قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، بل قالت: (أول ما فرضت الصلاة) ، فقالوا: هذا قول واجتهاد منها رضي الله تعالى عنها، ولم تسند ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يأت عن غيرها من الصحابة، ولو كان الأمر كذلك لاستفاض ونُقل عن غيرها معها، فقالوا: هذا يجعل الأخذ به فيه ضعف.
فهنا: أول ما فرضت الصلاة ركعتين، ثم حصل تغيير فأتمت صلاة الحضر أربعاً، وبقيت صلاة السفر على ما هي عليه.
ورد القائلون بأن القصر رخصة وليس بواجب فقالوا: أخبرونا عن هذا المسافر الذي تفرضون عليه ركعتين فقط: إذا ائتم بمقيم فهل: يتم أربعاً تبعاً لإمامه، أو يقتصر على ركعتين؟ وإجماع الفقهاء على أن المسافر إذا ائتم بمقيم في الرباعية فعليه أن يتم، فلو أدرك مع الإمام المقيم الركعتين الأخيرتين فلا يحق له أن يسلم معه، بل يقوم ويأتي بالركعتين اللتين فاتتاه، فلو أن صلاة السفر تجب ركعتين لكان أحد أمرين: إما أن يمتنع المسافر من الائتمام بالمقيم حتى لا يلزم بالأربع، وإما أن يسلم من ركعتين التي هي فرضه، فلما لم نجد شيئاً من ذلك، ووجدنا أن المسافر يأتم بالمقيم فيتم، تبين لنا أن صلاة السفر يمكن إتمامها.(92/3)
حديث: (ثم هاجر ففرضت أربعاً ... )
قال المصنف: [وللبخاري: (ثم هاجر ففرضت أربعاً، وأقرت صلاة السفر على الأول) ، وزاد أحمد: (إلا المغرب فإنها وتر النهار، وإلا الصبح؛ فإنها تُطَّول فيها القراءة) ] .
لما ذكرت رضي الله تعالى عنها أن صلاة السفر فرضت ركعتين، وقصرت الرباعية، جاء المؤلف رحمه الله بخبر أحمد ليبين أن القصر لا يشمل الصبح فيصبح ركعة واحدة، ولا يشمل المغرب؛ لأنه ليس هناك صلاة ركعة ونصف، ولا أن يسقط النصف وتكون ركعتين، وبيّن العلة؛ لأن المغرب وتر النهار، فلما كانت صلاة النهار كلها شفع، الصبح اثنتين، الظهر والعصر أربعاً أربعاً، وكان المغرب ثلاثاً فكان وتراً لصلاة النهار، وأما الصبح فتطول فيه القراءة: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء:78] .(92/4)
حديث: (كان يقصر في السفر ويتم)
قال المصنف: [وعن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم، ويصوم ويفطر) رواه الدارقطني، ورواته ثقات إلا أنه معلول، والمحفوظ عن عائشة من فعلها] .
الذين يقولون بأن القصر رخصة يستدلون أيضاً بهذا الحديث الذي رواه الدارقطني ورواته ثقات، ويقولون: إنه جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه: صام وأفطر في السفر، وأتم وقصر في السفر.
إذاً: الإتمام والقصر جائز جوازاً مستوي الطرفين، ولكن أجيب عن ذلك: بأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أتم صلاة في السفر قط.
إذاً: هذا معارض بفعله صلى الله عليه وسلم، أما أنه كان يصوم ويفطر فهذا ثابت، فقد صام في فتح مكة حتى بلغ كراع الغميم ثم أفطر بعد ذلك وأفطر الناس معه.
[ورواته ثقات، إلا أنه معلول، والمحفوظ عن عائشة من فعلها] .
يقول المصنف: إن رواية الدارقطني رواتها ثقات ولكنها معلولة، وذكر العلة في الشرح بأن فيه رجلاً سماه وهو مجهول، أو أنه يروي عن غير الثقات، أو أنه غير ثقة، وإذا كان الحديث معلولاً ومخالفاً لما هو المشهور، فلا حاجة إلى الاحتجاج به، وزاد تأكيداً على رده أن هذا الذي يقولون فيه عن عائشة كان صلى الله عليه وسلم يتم ويقصر، فهي التي قالت: شرعت صلاة السفر ركعتين، فكيف تقول لنا: إن أصل صلاة السفر ركعتين ثم تقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يتم، وهذا مغاير لروايتها الأخرى! فاجتمع فيه: أولاً: مغايرة عائشة رضي الله عنه لروايتها الأخرى: (أقل ما فرضت الصلاة ركعتين) .
ثانياً: لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أتم في سفر أبداً.
ثالثاً: أنه معلول.
إذاً: لا يتحج به.
ولكن المؤلف كما قدمنا إنما يورد النصوص التي يحتج بها من يحتج ويترك الترجيح والنظر للناظر فيها.
قال المصنف: [والمحفوظ عن عائشة من فعلها] .
يعني أن: عائشة كانت تتم وتقصر، وليس ذلك إسناداً إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وفعلها لا يستوي مع فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء أن ابن عمر لما سئل عن فعلها قال: (لقد تأولت كما تأول عثمان) ، وجاء عنها أيضاً: أنها كانت تصوم وتفطر في السفر وتقول: (لا يشق عليّ) ، وسيأتي لها رواية، ويناقش العلماء في ألفاظها وفي سندها.
فهنا: فعل عائشة رضي الله تعالى عنها من تمام القصر في السفر، والصوم والفطر في السفر اجتهاد منها، وكما قال ابن عمر: (تأولت كما تأول عثمان) فـ عثمان رضي الله تعالى عنه كان يقصر الصلاة في السفر ست سنوات من خلافته، وقال البعض: بل طيلة خلافته، ولم يتم إلا بمنى في أخريات خلافته، -أي: كان يقصر بمنى وفي غير منى- فقيل له في ذلك؟ فقال أحد جوابين: لقد تزوجت بمنى، وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا تزوج المسافر في بلد فليتم صلاته) .
وبعضهم يقول: قال: لقد وجدت الأعراب فأردت أن أعلمهم أن الصلاة رباعية، لأنهم إذا جاءوا إلى الحج ووجدوا الخليفة يصلي ركعتين ركعتين رجعوا إلى ديارهم وربما اعتقدوا أن الصلاة كلها ركعتين ركعتين، فقال: أتممت لأعلم.
هذا هو تأويله: إما أنه تأول إتمام الصلاة ليعلم الأعراب، أو أنه أخذ بالنص: (من سافر فنزل في بلدة فتزوج بها فليتم الصلاة) ، فجاءت عنه الروايتان.
وأم المؤمنين رضي الله تعالى عنها تأولت بأن الرخصة للمشقة، فقالت: (وأنا لا يشق عليّ) والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، فتأولت أنه إذا انتفت المشقة انتفت الرخصة، ولا حاجة للأخذ بها.(92/5)
حديث: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه)
قال المصنف: [وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته) رواه أحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان، وفي رواية: (كما يحب أن تؤتى عزائمه) .
] جاء المؤلف رحمه الله أولاً بما يشعر بالوجوب فذكر حديث عائشة (أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر) أي: بقيت صلاة السفر على الأصل، وهذا من أدلة الوجوب، وجاء بعد ذلك بهذا الحديث: (إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه) وهذا الحديث قاعدة عامة.
ما هي الرخصة؟ يقولون في فقه اللغة: إذا نظرت إلى المادة (الراء، والخاء، والصاد) بمعنى الرُّخص والرَّخص، رخص الأسعار يدل على على الرخاء والهدوء، وشيء رخص أي: لين رطب، واستدلوا بقول الشاعر: (ومخضب رخص البنان كأنه) (رخص البنان) يعني: لين الأصابع، وهذا وصف الفتيات والنسوة، فالرخص هو اللين، وكذلك الرخصة؛ لأن ألفاظ الشارع تنقل ألفاظ اللغة إلى ما يناسبها من التشريع، كما نقلت كلمة الصلاة من الدعاء إلى الصلاة ذات الركوع والسجود، وكما نقل الصوم وهو الامتناع عن الكلام إلى الصيام في الإسلام، وهكذا الحج وهو القصد، والعمرة: الزيارة.
فقالوا: الرخصة: هي جلب الإرفاق أو دفع المشقة، أو إباحة ما جاءت الرخصة به مع بقاء الحكم الأصلي.
أو هو حكم لاحق فيه إرفاق بالمسلمين، أو بالمكلف مع بقاء الحكم الأصلي الذي جاءت به الرخصة.
مثال ذلك: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] ثم أباح الله تبارك وتعالى للإنسان في حالة المخمصة أن يتناول الميتة، فقال: {فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} [المائدة:3] أي: عند الاضطرار يباح أكل الميتة.
هل حينما أبيحت الميتة للمضطر رفع عنها حكم التحريم السابق أم هو باق؟ بل هو باق؛ بدليل أنه حينما ترفع عنه المخمصة أو يجد غير الميتة لا يحل له أكلها.
إذاً: الحكم الأصلي باق، ولكن الرخصة جاءت مؤقتاً لإيقاف العمل بالنص في التحريم، والنص قائم والحكم موجود.
إذاً: إن قلنا بأن القصر رخصة يبقى الحكم الأساسي هو الإتمام؛ لأن القصر جاء تخفيفاً، مع بقاء حكم الأصل وهو الإتمام.
وكذا الفطر في رمضان، ينتهي صيام الواجب، فيقول: يا عبادي! يوم العيد أنتم في ضيافتي ومكرمتي، فمن صام يوم العيد كأنه معرض عن ضيافة الله، ولو أن شخصاً آخر دعاك إلى مكرمة وقلت: أنا في غنى عنها لا أريدها، لم يكن هذا من الأدب.
فهذا الحديث وإن كان يشعر بأن القصر رخصة لكن الله يحب أن يؤتى بها، ومن هنا قال مالك رحمه الله: القصر رخصة والأفضل العمل بها تمشياً مع هذا النص المحكم: (يحب أن تؤتى رخصة) (صدقة تصدق بها عليكم) ، إذا كنت تعرف إنساناً فقيراً، وجئت بصدقة مالك إليه، وقال: أنا لا أريدها، وأنت تعرف أنه محتاج ويقبل من غيرك، فإذا كان يقبل من غيرك صدقة ماله ويرفض أن يأخذ صدقتك فإنك تستغرب وتفتش عن السبب، فإذا كان الأمر من المولى سبحانه وتصدق علينا، ورخص لنا، فالواجب علينا أن نقبل صدقة الله ورخصته، وهذا أحسن ما قيل في ذلك، ولهذا تجدون الشارح الإمام الصنعاني يقول في العدة تعليقاً على العمدة لـ ابن دقيق العيد: وقد كتبت رسالة في ذلك، وحققت أن الصحيح والراجح في المسألة أنها رخصة، والأفضل الأخذ بها، وهذا أحسن ما يقال في هذا الباب، والله تعالى أعلم.
قال المصنف وفي رواية:: [ (كما يكره أن تؤتى معصيته) .
] معناه: أن الله يحب أن تؤتى الرخص بقدر ما يكره أن تؤتى المعصية، وإذا نظرنا إلى المقابلة: بقدر ما يكره المولى إتيان المعصية بقدر ما يؤخذ بالرخصة، وكأن الذي يرفض الأخذ بالرخصة يقدم على فعل المعصية، والعكس بالعكس، والقياس العكسي يؤدي إلى هذا.
إذاً: أحسن ما قيل في هذه المسألة هو ما ذهب إليه مالك رحمه الله، ونبه عليه الشارح الإمام الصنعاني هنا بأنه كتب رسالة في ذلك، وبين أن الراجح هو أنها رخصة، والأفضل الأخذ بها.
قال المصنف: [وفي رواية: (كما يحب أن تؤتى عزائمه) ] .
هذه الرواية مقابلة لتلك (كما يكره أن تؤتى معصيته) لأن كره المعصية يقابلها: حب العزيمة، فيحب الأخذ بالرخصة كما يحب الأخذ بالعزيمة، وكلاهما مطلوب.(92/6)
متى يقصر المسافر
قال المصنف: [وعن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو فراسخ صلى ركعتين) .
رواه مسلم.
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين: هناك من أخذ هذا النص وجعل ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ هي مدة السفر التي تقصر فيه الصلاة، وهذا خطأ، والصحيح في ذلك يؤخذ من قوله: (إذا خرج) فلم يقل: إذا سافر، ولاحظوا الدقة في التعبير، وكأن السفر غير الخروج.
فيقول: إذا خرج في سفر طويل، وقطع من السفر الطويل ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ -شك من الرواي- صلى ركعتين، يعني أنه يشرع في قصر الصلاة في السفر الطويل بعد أن يقطع ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ -على الشك- ولا يشرع في قصر الصلاة من بيته؛ هذا حاصل هذا الحديث.
قال المصنف: [وعنه رضي الله عنه قال: (خرجنا مع رسول لله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فكان يصلي ركعتين ركعتين، حتى رجعنا إلى المدينة) .
متفق عليه، واللفظ للبخاري.
] .
قبل الشروع في شرح الحديث أحب أن أنبه بأن أهم المراجع التي يمكن أن يرجع إليها طالب العلم في هذه المسألة: أضواء البيان لوالدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه، فقد ذكر كل ما تقدم من خلاف، وله رأي في الترجيح، وأنا لا أقول شيئاً في ذلك، ولكن أحب أن أقول أيضاً بأنه عرض إلى ما عرض إليه الفخر الرازي في التفسير في نوعية القصر، ما هو القصر هل القصر في الكيفية أم في الكمية؟ ومعنى القصر في الكيفية: هو إتيان الصلاة على ما هي عليه أربعاً، ولكن مع التخفيف في الأركان.
يعني: تقرأ الفاتحة فقط، وتسبح مرتين أو ثلاثاً فقط، وهناك من يقول بذلك، وقالوا: صلاة السفر تقصر ركعتين، وصلاة الخوف تكون ركعة واحدة، وبعضهم يقول: قصر الصلاة مع الخوف ركعة، ومع الأمن ركعتين، ولكن لم يأخذ بهذا التفصيل أحد من الأئمة الأربعة، فإذا مر عليها الطالب فلا يقف عندها طويلاً، اللهم إلا إذا كان استيعاباً للخلاف الموجود في المسألة، أما إذا أراد فقه المسألة وتحقيقها فليتجاوز هذه المرحلة في أول بحث الشيخ رحمه الله، ثم يأتي إلى الفروع التي أوردها في المسألة، وأقوال الأئمة رحمهم الله في تلك المسألة التي يتعلق بها الحكم.
والله تعالى أعلم.(92/7)
المسافة التي يجوز فيها القصر
حديث أنس رضي الله عنه يشير إلى مدة نهاية القصر، ومسافة القصر التي قدرت -وسيأتي التنصيص عليها بأربعة برد، والعبرة فيها بالمسافة البينية، أي: ما بين مسيره ومنتهاه، فإذا كانت الأربعة برد للذهاب والإياب بأن كان سفره مثلاً إلى بريدين وسيرجع بريدين، والمجموع أربعة برد فلا قصر؛ لأن العبرة فيما بين بلده وبين غايته من السفر، فإذا كانت المسافة بين بلده وبين الغاية من سفره أربعة برد قصر، وإذا كان الذهاب والإياب أربعة برد فلا قصر.(92/8)
إذا أقام المسافر أربعة أيام أو أقل فله القصر
وهنا يقول أنس رضي الله تعالى عنه: (سافرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فلا زال صلى الله عليه وسلم يقصر الصلاة أو يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة) .
إذاً: المسافر الذي استوفى شروط السفر يقصر، ومما يذكر في جواز القصر في السفر أن يكون السفر مباحاً أو سفر طاعة، وهناك من يقول: بل مطلق سفر ولو حتى في غير طاعة ولا مباح، وإن كان سفر معصية فمعصيته على نفسه، وله رخصة السفر في هذا، والجمهور يقولون: إن الله سبحانه يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ} [المائدة:2] فإذا كان سفره سفر معصية فلا يأخذ بالرخصة، ولا يفتي بذلك لأنه يساعده على معصيته.
إذا استوفى المسافر الشروط وكانت المسافة مكتملة، والسفر مباحاً فلا يزال يقصر حتى يرجع إلى بلده.
ولكن قد تطرأ في أثناء السفر إقامة، فما حكم تلك الإقامة التي تخللت سفره حتى يرجع؟ من هنا: جاء المؤلف رحمه الله بعد هذا بحديث ابن عباس رضي الله عنه.
والسفر الذي ذكره أنس رضي الله عنه إلى مكة مع إقامته صلى الله عليه وسلم هناك فيه عدة أحكام في عدة مواقف، وكان سفره صلى الله عليه وسلم إلى مكة عام الفتح وعام الحج، وكل منهما يختلف حاله؛ لأن عام الفتح له ظروف، وعام الحج له ظروف، وسنتناول حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بروايته، مع الإلمام الخفيف عن الفرق بين سفرة الحج وسفرة الفتح.
ففي سفرة الفتح خرج صلى الله عليه وسلم في رمضان، وبدأ سفره صائماً حتى بلغ كُرَاعَ الغميم، وهناك أفطر وندب الناس إلى الفطر وموضوع الصوم لا يخصنا -وكان يقصر الصلاة من ذي الحليفة إلى أن رجع إلى المدينة، ولما وصل مكة وفتح الله له مكة انتظر هناك تسعة عشر، أو عشرين، أو ثمانية عشر يوماً -أكثر أو أقل- وهو يقصر الصلاة ويقول لأهل مكة: (أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) .
فقوله: (مكث ثمانية عشر، تسعة عشر، عشرين -أكثر أو أقل- وهو يقصر، ما الذي أجلسه صلى الله عليه وسلم تلك المدة وقد أنعم الله عليه بالفتح؟ نعلم جميعاً أن بعد الفتح كانت غزوة حنين، فلما بلغه صلى الله عليه وسلم أن هوازن تجمع له، علم أن فتح مكة لم ينته، وبقي في مهمة الفتح أو الغزو تلك اللحظات، فخرج صلى الله عليه وسلم من مكة إلى هوازن.
إذاً: كانت مدة إقامته صلى الله عليه وسلم عام الفتح مدة جهاد، ولا نقول: إنه مقيم، ولا تمت له إقامة، ولا نوى إقامة واستيطاناً.
إذاً: ما دام الأمر كذلك فهو على سفر، وكان صلى الله عليه وسلم يقصر الصلاة حتى رجع من هوازن ورجع إلى المدينة.
أما سفرة الحج فيتخللها إقامة محددة، كما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (قدموا صبح رابعة) أي: وصل النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة يوم الرابع من ذي الحجة، وإذا كان وصل يوم أربعة في ذي الحجة، فالوقوف بعرفة يكون يوم تسعة، فيضطر أن ينتظر في مكة إلى يوم عرفات خمسة أيام، وفي هذه المدة قطعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه نووا الإقامة حتى يأتي يوم الثامن فيرحلون إلى منى ثم عرفات، فهذه المدة التي حصلت فيها الإقامة، كان صلى الله عليه وسلم يقصر الصلاة فيها ولا يتمها؟ كم مكث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة قبل عرفة؟! الجواب: ارتحل صلى الله عليه وسلم إلى منى ضحى، وصلى الظهر يوم الثامن في منى، ومكث إلى صلاة الصبح في منى، فلما أشرقت الشمس ذهب إلى عرفات، فكانت إقامته صلى الله عليه وسلم خمسة أيام بحساب يوم الدخول ويوم الطلوع إلى منى، والإمام أحمد رحمه الله قال: من أقام أثناء سفره لمدة عشرين صلاة، أي: عشرين فرضاً على اعتبار أن كل يوم فيه خمسة فروض؛ فإن حكم السفر يظل مصحوباً معه فيقصر، أما إذا نوى الإقامة أكثر من ذلك كأن ينوي الإقامة عشرة أيام محددة معلومة، أو ستة أيام محددة معلومة؛ فحينئذٍ يتم من أول يوم يصل، لماذا؟ قال الإمام أحمد: الأربعة الأيام قصيرة، وتعب السفر لازال موجوداً، وهو يتهيأ لسفر لاحق، ولا يزال مصطحباً حكم السفر معه في هذه المدة المحدودة.
وكذلك فإن أصل القصر رخصة، والرخصة لا اجتهاد فيها، إنما الرخص جميعها توقيفية، ولا تتعدى محلها، فقالوا: ما دمنا وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم في أثناء سفره أقام بنية معينة، فكذلك نحن إذا أقمنا أثناء السفر مدة معينة نظرنا: إن كانت المدة مثل المدة التي نزلها وأقامها صلى الله عليه وسلم فنقصر كما قصر، وإن كانت أقل فمن باب أولى، أي: لو أردنا الإقامة يومين أو ثلاثة فإنا نقصر من باب أولى.
يقولون: السنة جاءت بأربعة، ولا نزيد على ذلك، ولهذا يتفقون بأن من نوى الإقامة أربعة أيام فإنه له أن يقصر، وهناك أقوال أخرى كما عند الأحناف أنها خمسة عشر يوماً، ويقولون: هذه مدة الطهر بين القرئين، وهذه المدة جاءت بها الأخبار والآثار، على ما سيأتي في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه.
إذاً: المسافر إذا نزل نزولاً مؤقتاً، سواء في نهاية غايته أو في أثناء طريقه، وكان نزوله وإقامته محددة بأربعة أيام فأقل فله أن يديم القصر حتى يرحل، وإن كانت إقامته محددة معلومة أكثر من أربعة أيام فعليه أن يتم أول ما يصل.(92/9)
إذا أقام المسافر متردداً فإلى أي مدة يقصر؟
إذا كانت إقامته غير محدودة ولا يعلم متى سيرحل، فما حكمه في تلك المدة؟ سيأتي بيان ذلك في روايات ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سواء كانت في مكة أو في تبوك.
قال المصنف: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يوماً يقصر) ، وفي لفظ: (بمكة تسعة عشر يوماً) .
] كم كانت إقامته صلى الله عليه وسلم في الحج؟ أربعة أيام، ثم بعدها سفر متواصل إلى منى، فعرفات، فمزدلفة، فمنى ثلاثة أيام، فالعودة إلى المدينة، فأطول مدة أقامها صلى الله عليه وسلم في سفر الحج هي ما بين وصوله إلى يوم التروية، وهو اليوم الثامن، والباقي كله سفر متواصل، وهنا أقام في مكة تسعة عشر يوماً.
فيكون قطعاً ليس في الحج، إنما هو في الفتح.
هل ظل صلى الله عليه وسلم يقصر الصلاة تسعة عشر يوماً، ولماذا؟ نعم.
ظل يقصر خلال هذه المدة.
قالوا: لأنه لم ينو إقامة ولم يحدد مدة، ولم يكن يعلم متى سيرجع.
إذاً: لم يكن هناك تحديد للمدة، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يعلم متى ينتهي الموقف، ولكنه صلى الله عليه وسلم انتهى من فتحها -مكة- في يومها والحمد لله وتم الأمر، ولكنه لم يعلم متى ينتهي من الذين جمعوا له من هوازن، ومن هنا انتظر يعبئ الجيش ويهيئه للقتال وخرج معه عشرة آلاف مقاتل، وهناك من مكة خرج معه ألفان من مسلمة الفتح ومن غير المسلمين، حتى أن من المشركين من خرج مع المسلمين حمية ودفاعاً عن مكة.
ولما انتهى من أمر هوازن ونصره الله عليهم وغنم غنائم حنين، ورجع إلى مكة توجه إلى المدينة حالاً.
إذاً: هذه المدة -التسعة عشر يوماً- لم تكن مقررة من قبل، إنما قررها الواقع، ولما انتهت المهمة ولم يبق للإقامة حاجة عاد صلى الله عليه وسلم راجعاً إلى المدينة.
وهنا نجد الروايات: (تسعة عشر، سبعة عشر، ثمانية عشر، خمسة عشر) كل هذه الروايات جاءت فيما يتعلق بالمدة التي أقامها صلى الله عليه وسلم في مكة، وجاءت أيضاً في تبوك عشرين يوماً، أما روايات ابن عباس في مكة -تسعة عشر سبعة عشر خمسة عشر ثمانية عشر فيقولون: إن البيهقي رحمه الله جمع بين تلك الروايات وقال: لا تعارض بينها، فمن قال: تسعة عشر يوماً حسب يوم الدخول وحسب يوم الخروج، ومن قال: سبعة عشر يوماً أسقط يوم الدخول ويوم الخروج، فلا تعارض حينئذٍ، ومن حسب ثمانية عشر يوماً أسقط يوم الدخول يوم الخروج أو العكس، والذي قال: خمسة عشر؟ قالوا: هي الرواية صحيحة، ولكنها في علم الحديث شاذة، لأنه لا يمكن الجمع بينها وبين سبعة عشر، وتسعة عشر) .
وعلى هذا: وجد عندنا إقامة بدون تحديد مدة وفيها القصر إلى تسعة عشر يوماً، فهناك من العلماء من قال: إذا أقمنا في أثناء السفر إقامة غير محدودة ولا معلومة النهاية قصرنا تسعة عشر، والآخر يقول: قصرنا خمسة عشر يوماً احتياطاً، وعدنا إلى إتمام الصلاة، ولكن أكثر العلماء على تسعة عشر، وربما نجد من يروي عن بعض العلماء غير الأئمة الأربعة شهراً، على ما جاء في رواية عن علي رضي الله تعالى عنه، وربما وجدنا من يقول: إذا كانت الإقامة غير معلومة ولا محددة فظلت أطول من تسعة عشر أو عشرين، أو ثلاثين يوماً، فيظل المسافر يقصر حتى يعود إلى بلده، وهذا كما يقولون في شرح الحديث: مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وهو المنصوص عليه في فتح القدير شرح الهداية قال: (قصر ولو سنين) .
والجمهور يقولون: لابد من اعتبار الرخصة في أساسها، وإذا كان الأصل في الصلاة إتمامها وجاء القصر رخصة: (تصدق الله عليكم بها فاقبلوا صدقته) ، والرخص إنما هي توقيفية فلا تتعدى محلها، ووجدنا من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في حالة الإقامة المعلومة المحدودة أنه يقصر الأربعة الأيام فنحن كذلك نقصر، فإذا زدنا في مدة معلومة عن الأربعة رجعنا إلى الأصل فأتممنا من أول يوم، فكذلك في الحالة التي لا يعلم فيها متى تنتهي الإقامة نقف عند المدة التي وردت لنا من فعله صلى الله عليه وسلم، وهي تسعة عشر يوماً.
ويقول الشوكاني: نحن قد وقفنا على الرخصة من فعله صلى الله عليه وسلم في المدة التي لا تحديد لها إلى تسعة عشر يوماً إلى عشرين، فإذا قصرنا في مثل هذه الحالة نكون مقتدين آخذين وعاملين بالسنة التي وردت لنا من فعله صلى الله عليه وسلم، فإذا أقمنا أكثر من عشرين يوماً كخمسة وعشرين يوماً، فالعشرون يوماً أخذنا بها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخمسة إذا قصرنا فيها لم تكن داخلة في الرخصة.
فـ الشوكاني رحمه الله يقول: ما زاد عن الأيام التي ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست داخلة في الرخصة، ومن قصر أكثر من تلك المدة يكون عاملاً بغير دليل ولا مستند، ثم يقول: لو قدر أن إقامته صلى الله عليه وسلم طالت في مكة أو في تبوك فوق العشرين يوماً فهل نعلم ماذا كان سيفعل بعد العشرين؟ هل يستمر على القصر أم يرجع إلى الإتمام؟ فالأمر محتمل للاتمام والقصر، فإذا كان الأمر محتملاً في التقدير العقلي فممكن أن يظل يقصر مستصحباً حكم السفر، وممكن أن يرجع إلى الأصل مكتفياً بهذه المدة، فما دام الاحتمال قائماً، على قدم المساواة، وليس عندنا ما يرجح واحداً منهما، فحينئذٍ إذا تعادل الاحتمالان نرجع إلى الأصل الذي لا احتمال فيه، فنرجع إلى إكمال الصلاة ونصلي أربعاً، ونأخذ المدة التي ثبتت عنه صلى الله عليه وسلم، ثم بعدها نرجع إلى الأصل؛ لأنه ليس عندنا نص نعتمد عليه أكثر مما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم.(92/10)
كتاب الصلاة - باب صلاة المسافر والمريض [2]
لقد شرع الله سبحانه وتعالى لعباده قصر الصلاة في السفر، وجاء هدي النبي صلى الله عليه وسلم يبين لنا هذه الرخصة والصدقة من المولى جل وعلا، وللعلماء في هذه المسألة أقوال مختلفة.(93/1)
حكم القصر لطلاب البعثات الدراسية والدورات التدريبية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
وبعد: فقد ورد أن هناك من يرى أن المسافر مهما كانت ظروفه فله أن يقصر حتى يرجع إلى بلده كما فعل صلى الله عليه وسلم حتى رجع إلى مكة، ولكن ينبغي التأمل؛ لأنهم ينزلون هذا الحكم على صور لا تنطبق عليها أحكام السفر، ولعلنا سمعنا من البعض أنه يفتي الطلاب الدارسين في الخارج أن لهم الحق في الفطر في رمضان وقصر الصلاة حتى يعودوا إلى بلادهم، وهذا لا يتمشى مع قواعد السفر، لماذا؟ لأنهم متفقون على أن من كان مسافراً ونوى إقامة، فإن نية الإقامة تقطع حكم السفر، وخالف في ذلك الأحناف فهم يقولون: البدو الذين يتتبعون مواقع القطر نية إقامتهم في موطن من المواطن لا تقطع عنهم حكم السفر؛ لأنهم في ترحال دائم، إلا إذا بنوا خيامهم ومساكنهم فتكون نية الإقامة مصحوبة بالفعل.
وهؤلاء الذين يذهبون إلى الدراسة أو إلى الدورة العلمية لا يجهلون متى تنتهي دراستهم أو متى تنتهي دورتهم التدريبية، فهم قبل أن يخرجوا من بيوتهم يعلمون المدة التي سيمكثونها كأن تكون الدورة محددة بكذا أسبوع أو بكذا يوم، أو بكذا شهر، وإن كانت دراسة فالسنة الدراسية معلومة.
إذاً: لا ينطبق عليهم حالة الإقامة المجهولة الأمد، فهي معلومة عندهم، والإقامة المعلومة عندنا ليس رخصة فيها عندنا إلا أربعة أيام.
إذاً: كل من سافر لمهمة ويظل غائباً في سفرته إلى مدة يقال له: إن كانت مدة سفرك معلومة ومحددة بأربعة أيام فلك أن تقصر حتى ترجع، إن كانت محددة بأكثر من أربعة أيام فعليك أن تتم من أول يوم تصل فيه، وإذا كانت غير معلومة فلك الحق في القصر في مثل ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، والزائد عن ذلك حكمه الإتمام.
إذا كان كل من خرج في بعثة أو في انتداب أو في دورة يعلم مدة إقامته في ذلك المكان، فقد خرج عن كونه مجهول المدة، فلا يحق له أن يقصر نظراً لهذه الملابسات.
وإن كان خلاف هذا فقد قيل عن أبي حنيفة رحمه الله أو المذهب الحنفي بالرخصة إذا كان لا يعلم متى سيخرج، ويمثلون لذلك بالجيش المحاصر لبلدة ولا يعلمون متى سينتهي الحصار، فلهم أن يقصروا إلى العشرين يوماً، والأحناف يقولون: يقصرون حتى تنتهي المدة، ولو كانت شهراً أو شهرين أو أكثر أو أقل.
وهناك من يحتج بخبر عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: جاء رجل فسأل: ما حكم المسافر وإنا نقيم هناك العشرين يوماً نبيع ونشتري.
فقال ابن عمر: أو ما علمت، لقد كنا بأذربيحان، وكنا قد حاصرنا الثلج، ووجدتهم يقصرون ستة أشهر.
هنا قال بعض العلماء: هؤلاء أقاموا مدة ليست معلومة وقصروا ستة أشهر.
ولكن الجمهور يجيب عن ذلك ويقولون: أذربيجان ليست مدينة معينة، ولكنها إقليم، وهذا الإقليم متسع، كما لو قائل: كنت بالكوفة، كنت بالبصرة، كنت بالعراق، كنت بالشام، كنت بمصر، والغزاة هناك ليسوا مرابطين في مكان واحد، إنما هم يتجولون، فإذا انتقل في أذربيجان مسافة توجب القصر أو تبيح القصر كان دائم السفر.
فلو أن إنساناً سافر إلى الشام في مهمة، تقتضي أن يتنقل من دمشق إلى حمص، ومنها إلى حلب، وهكذا بين مدن الشام؛ فهو مسافر.
لو جاء الحاج إلى مكة والمدينة أو جدة، فمجيئه إلى جدة سفر، ومن جدة إلى مكة سفر، ومن مكة إلى المدينة سفر، ولو أراد أن يسافر من المدينة إلى الرياض أو إلى القصيم أو إلى الطائف، فكل هذا يسمى في حقه سفراً، وله أن يقصر فيه؛ لأنها أسفار ومسافات تبيح له القصر.
إذاً: كل الصور الموجودة في بعثات دراسية أو نحوها مدتهم معينة فلا يدخلون في الخلاف أبداً، ولا حتى عند الأحناف، أما إذا كانوا في مدد غير محددة فالأحناف يرخصون: لهم أن يقصروا، والجمهور يقولون: لا يزيدون عن المدة التي ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذا جئنا بشخصين أقاما خارج البلد لمهمة طويلة ومضت المدة، وأحد الشخصين أتم الصلاة، والآخر استمر على القصر، فنقول: يا فلان! عودك إلى الإتمام عودة إلى الأصل، وأنت يا فلان! استمرارك على القصر على أي أساس؟ وما هو الأحوط في حق الصلاة: العودة إلى الإتمام، أو البقاء على القصر بدون أصل يعتمد عليه؟ إذاً: العودة إلى الإتمام والرجوع إلى الأصل على سبيل الاحتياط يكون أولى، وهذه المسألة كما ذكرت كثر النقاش والكلام فيها قديماً وحديثاً، في هذا ما أحببنا التنبيه عليه لم هذه الحالة، ونسأل الله لنا ولكم التوفيق.(93/2)
الاختلاف في روايات مدة قصره صلى الله عليه وسلم وجمع الإمام البيهقي بينها
قال المصنف: [وفي رواية لـ أبي داود: سبعة عشر، وفي أخرى خمسة عشر] .
ما صنعه البيهقي رحمه الله هو -كما يقال- منهج علمي لطالب العلم ليخرج من مأزق اختلاف الروايات بما يمكن من الجمع بينها، فقد ورد: (تسعة عشر، سبعة عشر، خمسة عشر) فما هي الحقيقة؟ الكل حقيقة، باعتبار احتساب يومي الدخول والخروج في العدد، أو إسقاطهما، أو إسقاط أحدهما، وبقيت الخمسة عشر على أصول علم الحديث شاذة؛ لأنها خالفت الثقات.
ونظير هذا أيضاً في الحج: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال: يا ابن عباس: عجبت من أمر الناس، لم يحج الرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة، وأراهم يختلفون من أين أهلَّ، فمن قائل: أهلَّ في مكانه وفي مصلاه في ذي الحليفة، ومن قائل: أهل حينما استوت به راحتله، بعد ما صعد الناقة وقامت ونهضت، ومن قائل يقول: أهل بالبيداء، والبيداء المحل المرتفع فوق ذي الحليفة بمسافة قريبة، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: يا ابن أخي! أنا أخبرك، أهل في البيداء، وعلى راحتله، وفي مصلاه، والكل صادق! هذه مواطن مختلفة، ومن قواعد الخلاف اختلاف الزمان والمكان، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: أنا أخبرك، صلى النبي صلى الله عليه وسلم الصبح أو الظهر -على خلاف في الروايات- وأهلَّ من مصلاه، فسمع ذلك قوم وأخبروا بما سمعوا، فلما ركب راحلته ونهضت به أهل، فسمع بذلك قوم فأخبروا بما سمعوا، ولم يكونوا سمعوا ما قبلها، فلما استوى على البيداء أهلَّ، فسمع بذلك قوم فأخبروا بما سمعوا ولم يكونوا قد سمعوا ما قبلها، والكل صادق.
ولا معارضة في ذلك.
وعلى هذا فالواجب على طالب العلم حينما يمر بحديث ويأتي حديث آخر فيه شبه التعارض مع الحديث الذي مر عليه، فلا ينبغي أن يستقل بنفسه، ولا أن يقف بين الحديثين موقف المتردد أمام نصين شبه متعارضين عنده، وواجب عليه شرعاً ألا يتكلم في شيء من ذلك حتى يرجع إلى ذوي الشأن، وهم العلماء الذين جمعوا أطراف الأحاديث، ونظروا في الخلاف بينها، ثم جمعوا بين المختلف وبينوا لنا المنهج والطريقة، وهذا هو الذي يسلم به طالب العلم ويكون على بينة من أمره.
قال المؤلف: [وله عن عمران بن حصين رضي الله عنه: (ثماني عشرة) وله عن جابر رضي الله عنه: (أقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة) ورواته ثقات، إلا أنه اختلف في وصله.
] الرواية المشهورة في تبوك: أنه مكث عشرين يوماً، سواء اختلف في وصله أو انقطاعه؛ فإن الروايات الأخرى عن ابن عباس وغيره أنه مكث عشرين يوماً، وإذا وقع خلاف في العدد فيكون على ما جاء في خبر مكة: تسعة عشر، ثمانية عشر، سبعة عشر إلى آخره.
إقامة النبي صلى الله عليه وسلم في تبوك كانت للجهاد وكان قد علم الروم جمعوا وأنذروا وتواعدوا في تبوك، ونعلم أن تبوك هي منطقة الحدود بين الحجاز وبين الشام -موقع الروم- لأنه ليس بعد تبوك إلا الشام، فخرج صلى الله عليه وسلم حسب الوعد، في حالة شدة وحرارة، وقد بدأت الثمار بالنضوج وعنايتها مطلوبة، والناس يعانون من قلة ذات اليد، فندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلى تجهيز الجيش، فقام عثمان رضي الله تعالى عنه وقدم المئات والآلاف من الإبل بأقتابها ولوازمها، وقيل: جهز جيش العسرة، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما ضر عثمان ما فعل اليوم) .
ويهمنا أنه خرج صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة إلى تبوك، وكان من عادته صلوات الله وسلامه عليه في الغزوات إذا أراد غزاة أن يوري بغيرها، فإذا أراد أن يغزو في الشرق يتساءل عن أحوال أهل الغرب، وإذا أراد أن يغزو في الغرب يتساءل عن أحوال وعن طرق أهل الشرق، حتى يظن الناس أن عنده سفرة إلى الشرق وهو يريد الغرب، وهذا كما يقال: من السياسة في الحرب، والحرب خدعة، وكما جاء في فتح مكة: اللهم عم عليهم الأخبار؛ حتى باغتهم في مكة.
هكذا كانت عادته صلى الله عليه وسلم إلا هذه الغزوة؛ لطول المسافة، ولشدة الجهد وشدة الحر، أعلمهم قبلها بشهر، فقال: الموعد إلى تبوك في الوقت الفلاني، فأخذ الناس يتجهزون عياناً، فذهب صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ومكث فيها عشرين يوماً ينتظر الروم، فلما بلغه أن الروم لن يأتوا قفل راجعاً إلى المدينة.
هذه الغزوة كانت غزوة مباركة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم صالح كل القبائل التي في طريقه وحولها، فأمن الحدود بالصلح مع تلك القبائل، ورجع بسلامة الله، والحمد لله.
والدارس لهذه الغزوة يجد أشياء عديدة: منها المبشرات: لما رأى أحداً من بعيد أسرع وقال: (هذا جبل يحبنا ونحبه) ، ثم كانت حادثة مسجد الضرار، وأرسل صلى الله عليه وسلم من سبقه إليه فأحرقه على قضايا كانت قبل الذهاب وقبل الخروج.
ويهمنا هنا: مكثه صلى الله عليه وسلم في تبوك، فقد كان على غير تحديد للمدة؛ لأنه كانت ينتظر العدو، ولم يعلم متى يأتي هذا العدو، والله تعالى أعلم.(93/3)
مناقشة في مسألة قصر الصلاة في السفر
أيها الإخوة: قبل أن ندخل في مبحث الجمع لعلنا نناقش بعض الأسئلة في مسألة القصر من باب الاستذكار: السؤال: ما نوع القصر في السفر: هل هو قصر كيفية أو قصر كمية بالعدد؟ الجواب: قصر كمية.
السؤال: هل هناك قصر كيفية أم لا؟ الجواب: الموجود ومحل البحث عند الجمهور قصر الكمية، بحيث تقصر الركعات إلى اثنتين.
السؤال: هل هناك من يقول بقصر الكيفية أم لا؟ الجواب: نعم.
هناك من يقول بقصر الكيفية كما ذكره الفخر الرازي في التفسير والشيخ الأمين في أضواء البيان.
السؤال: كم طول السفر الذي يكون فيه القصر؟ الجواب: أربعة برد.
السؤال: كم مقدار البريد؟ الجواب: أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل كيلو ونصف تقريباً.
إذاً: الأربعة البرد ستة عشر فرسخاً، وستة عشر فرسخاً تساوي ثمانية وأربعين ميلاً والثمانية والأربعون ميلاً تساوي حوالي اثنين وسبعين كيلو متراً.
إذاً: المسألة تقريبية.
السؤال: متى يشرع المسافر في القصر؟ الجواب: يشرع للمسافر القصر إذا خرج من البلد التي هو فيها.
السؤال: وكيف يعرف أن قد خرج من بلده؟ الجواب: عند آخر معالمها.
أي: نستطيع أن نقول: عند نهاية الخدمات الاجتماعية، فإذا خرج الإنسان عن تلك المناطق التي تشملها الخدمات العامة في البلد من كهرباء ومياه وصرف صحي وغيرها، فقد خرج من البلد.
السؤال: هل مسافة الاثنين والسبعين كيلو تشترط في الذهاب والإياب أم في الذهاب فقط؟ الجواب: الذهاب فقط، فلو أن السفر ذهاباً وإياباً مجموعه اثنين وسبعين كيلو فلا يصح فيه القصر.
السؤال: هل يكون القصر لضرورة كما جاء في الآية: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] أم يجوز القصر مع الأمن والاستقرار والطمأنينة؟ الجواب: يجوز مع الأمن.
السؤال: هل القصر رخصة أم عزيمة؟ الجواب: اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: إنه عزيمة، وهذا بناء على أن قصر الصلاة في السفر واجب.
والقول الثاني وقال به الجمهور: إنه رخصة، واختلف هؤلاء، فمنهم من قال: رخصة والإكمال أتم، ومنهم من قالوا: رخصة والأخذ بالرخصة أفضل، وهم الإمام مالك وأحمد رحمهما الله.
الحمد لله على هذه النعمة، ونسأل الله تعالى أن يعلمنا ما جهلنا، وأن يذكرنا ما نسينا، ونسأل الله أن يشرح صدورنا، وينير بصائرنا، ويفقهنا في ديننا، إنه على كل شيء قدير.(93/4)
الفرق بين تحقيق المناط وتنقيح المناط
الفرق بين تحقيق المناط وتنقيح المناط: قلنا: إن الأصوليين يقولون: تحقيق المناط هو التحقق من تطبيق النص على الجزئيات، ويقولون في قوله سبحانه: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ} [المائدة:95] ، فالحكم الأساسي في قتل الصيد أن من اصطاد شيئاً من النعم وهو محرم في الحرم، أنه يكلف بمثله، هذا الحكم هو حكم شرعي.
إذاً: تحقيق المثلية هو تحقيق المناط، وقلنا: من قتل غزالاً فالمثلية تكون بشاة، ومن قتل بقر الوحش فتحقيق المثلية في البقرة الأهلية، من قتل نعامة فتحقيق المناط فيها بدنة.
إذاً: تحقيق المناط، يعني: تطبيق الجزئيات على الحكم العام.
أما التنقيح فهو التصفية، مثلاً: إذا جمعت الحب ولم تنقه وجدت فيه -إن كان براً مثلاً- التبن والحصى، فيأتي الرجل المتخصص بهذا ويأخذ الغربال وينقح الحب، بمعنى: أن يطرد الشوائب الغريبة ليبقى الحب صافياً، فكذلك الأحكام الشرعية فيها تنقيح.
أي: تصفية الأوصاف الطردية التي لا اعتبار لها ولا تأثير في الحكم، وإبقاء الحكم للوصف المعتبر المراد، الذي هو علة الحكم.
ويمثل الأصوليون بالأعرابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضرب صدره، ينتف شعره ويقول: هلكت وأهلكت -كل هذه صفات- فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما الذي أهلكك؟ قال: واقعت أهلي في رمضان، قال: تعتق رقبة، قال: ما أملك إلا رقبتي هذه، قال: فصم شهرين متتابعين، قال: وهل أوقعني في المهلكة إلا الصوم، قال: فأطعم ستين مسكيناً، قال: ليس عندي ما أطعم ... ) يهمنا هنا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم رتب عليه الكفارة، عتق صيام إطعام.
إذاً: هذه الكفارة التي رتبها صلى الله عليه وسلم هل رتبها على كونه أعربياً يضرب صدره وينتف شعره، أم على كونه واقع أهله؟ فهنا يأتي العلماء ويقولون: ننقح وننظر: فكونه أعرابياً لا يؤثر في الحكم، فلا فرق بين الأعرابي والحضري، إذاً تعليق الحكم على وصف الأعرابي بأعرابي يلغى؛ لأننا وجدنا الشرع لا يعتبر ذلك في الأحكام، فلا فرق بين أعرابي وحضري وتركي وزنجي.
ووصفه: (يضرب صدره وينتف شعره) هل الكفارة فرضت عليه لكونه كان يضرب صدره وينتف شعره؟ الجواب: لا.
إذاً: هذه أوصاف لاغية.
وبقي من الأوصاف قوله: (واقعت أهلي) .
فأهله لو كانت جارية مملوكة فماذا يكون الحال؟ قالوا: إذاً: الكفارة أنيطت بعد التنقيح بالوقاع، فمن واقع في نهار رمضان زوجة أو مملوكة فعليه كفارة.
والإمام مالك رحمه الله أتى بغربال أنعم من هذا وزاد في التنقيح وقال: يلغى وصف (كونه واقع) ، ويجعل الوصف المؤثر.
هو الفطر عمداً؛ لأنه بوقاعه أفطر عمداً فهو الوصف المناسب للحكم، فقال رحمه الله: من أفطر في رمضان عمداً فعليه كفارة، سواء كان بالوقاع أو كان بغيره؛ لأنه ألغى الوقاع في التنقيحة الأخيرة، وإذا ألغي الوقاع في هذه التنقيحات فلا يبقى إلا انتهاك حرمة رمضان بالفطر، والفطر كما يكون بالوقاع يكون بالأكل والشرب.
ولهذا تجدون أن من فقه مالك في الموطأ أنه أتى بحديث أبي هريرة: (أن رجلاً أفطر في رمضان، فأمره بالكفارة، وساق بعده قصة الأعرابي، فكأنه يقول: الأصل في ذلك الفطر، ثم يأتي بالحديث الآخر الذي عليه الجمهور.
إذاً: هذا يسمى تنقيح المناط.(93/5)
الجمع في السفر
قال المصنف: [وعن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل في سفره قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر) .
] .
قال أنس رضي الله تعالى عنه: (كان) وكان هنا تدل على التكرار والاستمرار.
أي: كان من شأنه ومن عادته إذا سافر.
وقوله: (سافر) المقصود بالسفر هنا ما تقدم بحثه في قصر الصلاة، يعني: إذا سافر سفراً تقصر فيه الصلاة، ويبدأ المسافر الشروع في القصر إذا جاوز ثلاثة فراسخ أو ثلاثة أميال، ووقع التطبيق العملي منه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، لما صلى الظهر في هذا المسجد المبارك أربعاً تامة، وخرج من وقته ووصل إلى ذي الحليفة فصلى العصر هناك ركعتين.
يعني: بدأ في إنشاء القصر بعد أن غادر المدينة، وهذه هي القاعدة في ابتداء القصر، وكذلك الجمع.(93/6)
الصلوات التي تجمع في السفر
قال العلماء: الجمع يكون لكل صلاتين اشتركتا في الوقت، فالظهر والعصر مشتركتان في الوقت، والمغرب والعشاء مشتركتان في الوقت، فلا يجمع عصر مع مغرب، ولا عشاء مع صبح، ولا صبح مع ظهر.
وبحث الجمع يدور حول صلاتي النهار: الظهر والعصر، وصلاتي الليل: المغرب والعشاء، هذا هو محل البحث في الجمع بين الصلاتين، بإجماع الأمة، فيقول أنس رضي الله تعالى عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم (كان) وهذه حكاية فعل النبي صلى الله عليه وسلم.(93/7)
الاقتداء بالفعل أقوى من الاقتداء بالقول عند ابن عبد البر
يقول ابن عبد البر: إن الاقتداء بالفعل قد يكون أكثر أثراً من الاقتداء بالقول؛ لأن الفعل ليس فيه احتمال.
ويستشهدون لذلك بقضية الحديبية، فإنه لما تم الصلح بين المسلمين والمشركين على أن يتحلل المسلمون في مكانهم، ويرجعون ولا يدخلون مكة، وفي العام القادم يأتون ولهم البقاء في مكة ثلاثة أيام يؤدون عمرتهم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: لقد اصطلحنا على أن نتحلل فتحللوا، فلم يبادر أحد، وتأخروا لا بقصد عدم الطاعة ولكن لأنهم كانوا يؤملون أن يتم لهم الوصول إلى مكة وقد وصلوا إلى مشارف الحرم.
بعض العلماء يقول: كانت خيامهم في الحل، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد الصلاة دخل إلى حدود الحرم وصلى في حدود الحرم؛ لأن الحديبية في حدود الحرم من جهة المشرق.
إذاً: أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبادروا إلى الامتثال، ولما دخل على أم سلمة رضي الله تعالى عنها وهو مغضب، قالت: من أغضبك أغضبه الله؟ قال: وما لي لا أغضب وأنا آمر الأمر فلا يؤتمر به، قالت: وما ذاك؟ قال: قد انتهينا مع أهل مكة على الصلح على كذا وكذا، وأمرتهم بالتحلل فلم يمتثلوا، قالت: اعذرهم، أتريد أن يفعلوا ما تحب؟ قال: بلى، قالت: خذ المدية أو السكين واخرج ولا تكلمن أحداً أبداً، واعمد إلى هديك فانحره، وادع الحلاق ليحلق لك، ثم الزم خيمتك.
وهذه سياسية لطيفة جداً، سياسة الرفق في الدعوة، بخلاف ما كان من عمر، فهو يقول: علام نعطي الدنية في ديننا، ألسنا على الحق وهم على الباطل، أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ فكان يريد أن يقاتل، والذي يذهب إلى الجنة يذهب، والذي يذهب النار يذهب، ولكن أم سلمة رضي الله عنها جاءت بحل سلمي، وهو صلى الله عليه وسلم ولم يقل لها: أنت لا تعلمين شيئاً، أو ليس لك شغل في هذا، بل وجد صلى الله عليه وسلم أن الرأي مقبول، وهذا هو الواجب على طالب العلم، فإذا كان المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو الذي يأتيه الوحي من السماء يقبل بالرأي الصائب فكيف بنا؟ فأخذ السكين وخرج إلى هديه فنحره، ودعا الحلاق وقال: احلق، فلما رأى الصحابة ذلك لم يبق لهم مطمع في الدخول إلى مكة، وما كان منهم إلا أن بادروا حتى كادوا يهلكون من تزاحمهم على النحر والحلق.
إذاً: اتباع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم للفعل أسرع منهم اتباعاً للقول.(93/8)
جمع التأخير إذا دخل الوقت والمسافر مرتحل
هذا أنس رضي الله عنه يقول: (كان) يحكي فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر.
قوله: (إذا ارتحل) أي: شد الرحل على الناقة، وهي كناية عن بداية الرحلة.
قوله: (كان وقت ارتحاله في النهار) (قبل أن تزيغ الشمس) : عادة المسافرين أنهم يصلون الصبح وينطلقون؛ لأن في ذلك الوقت بركة، وتكون الإبل مستريحة طوال الليل فيمشون إلى وقت الضحى، كما يقولون: (نضحي) أي: ننزل نضحي، فالضحوة قبل الظهر، (ونعشي) أي: بعد العصر قبل المغرب، فيريحون الإبل إلى أن يصنعوا عشاءهم ويدخل المغرب فيصلون.
فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صادف أن ارتحل في النهار إما أن يكون قبل الزوال وإما أن يكون بعد الزوال.
وقوله في الحديث: (تزيغ الشمس) بمعنى: تزول عن كبد السماء، يقول أنس رضي الله عنه: إن كان ارتحاله قبل الزوال -يعني: قبل مجيء وقت الظهر- وليس هناك صلاة لا تقديم ولا تأخير، فإنه يؤخر الظهر إلى التي تليها وهي العصر، ثم بعد ذلك ينزل، يعني: بعد أن يدخل وقت الظهر وهو في سفره، ثم يدخل وقت العصر وهو في سفره، فيصليهما جميعاً.
وعلى هذه الصورة يعتبر في هذه الحالة جمع تأخير.
يقول أنس رضي الله تعالى عنه: (فإن كان ارتحاله بعد أن زاغت الشمس) أي: بعد دخول وقت الظهر (صلى الظهر ثم ركب) أي: لم يجمع إليها العصر.
إذاً: في حديث أنس: الجمع جمع تأخير، وليس فيه جمع تقديم.(93/9)
صور الجمع
ومن هنا نشير إلى موقف العلماء من صور الجمع وهي ثلاث صور: جمع تأخير، وجمع تقديم، وجمع صوري.
ويتفق العلماء أو الباحثون أو شراح الحديث على أن جمع التأخير الذي في حديث أنس يقول به داود الظاهري وابن حزم، ولا يقولان بغيره.
إذاً: جمع التأخير فقط هو مذهب داود وابن حزم لحديث أنس؛ لأن أنس ذكر لنا الحالتين، يرتحل بعد أن تزيغ، يرتحل بعد أن تزيغ، وهما حالتان متعادلتان، وذكر لنا جمع التأخير ولم يذكر لنا جمع التقديم، ورجح ابن حزم ما ذهب إليه في جمع التأخير، فقال: إن تأخير الظهر عن وقتها قد يكون عادة عند بعض الناس حيث ينامون عنها أو ينسونها، فإذا نام إنسان عن صلاة حتى خرج وقتها فإنه يقضيها في وقت الثانية.
قال: إذاً: هذه لها أصل، وكونه يقضيها في وقت الثانية يؤيد جمع التأخير، لكن لا يجوز أن نقدم صلاة عن وقتها.
فهذا الحديث أخذ به داود وابن حزم، ولم يقولا بغيره من صور الجمع.(93/10)
دليل جواز جمع التقديم
ولكن المؤلف رحمه الله لما أتى بحديث أنس وهو متفق عليه أتبعه بما يوجد من النصوص لما ينبغي النظر فيه من حيث صناعة علوم الحديث؛ ليبين مواقف الأئمة أو العلماء الآخرين من حديث أنس هذا، وهل حديث أنس مقتصر على ذلك أم له طرق أخرى وزيادات؟ فجاء المؤلف بما يزيد على قول أنس رضي الله عنه.
فقال: [وفي رواية للحاكم في الأربعين بإسناد صحيح: (صلى الظهر والعصر ثم ركب) .
وفي رواية لحديث أنس عند غير البخاري ومسلم، أتى بها الحاكم في مصطلح الحديث شأنه عجيب، يقولون: الحافظ من حفظ مائة ألف حديث، والحجة من حفظ ألف ألف حديث، والحاكم من حفظ كل ما يؤثر عن رسول الله، ونحن كم حفظنا؟ والله نحن صفر في الخانة الرابعة على الشمال، لأنا ما حفظنا شيئاً، وأعتقد أن الذي يدعي في الوقت الحاضر أنه من أهل الحديث قد ظلم نفسه، ولا أقول: ظلم الحديث بل ظلم نفسه.
فـ الحاكم روى حديث أنس، والحاكم حافظ استوعب كل شيء، فهو يروي حديث أنس الذي رواه الشيخان، وهل رواية الشيخان للحديث تمنع أن يرويه غيرهما؟ لا، لأنهما ما قالا: قد استوعبنا كل ما يمكن أن يكون على شرطنا، فقد يتركون من الأحاديث ما استوفى شرطهما من اللقاء أو احتمال اللقاء، مع الثقة والعدالة والحفظ في كل راوٍ، لكن ما استوعبا كل هذه الأوصاف، بل اختاروا وانتفيا.
إذاً: البخاري ومسلم ساقا لنا حديث أنس على هذا الوضع، وغيرهم ساق لنا الحديث برواية أخرى.
قوله: [وفي رواية للحاكم في الأربعين بإسناد صحيح: (صلى الظهر) ] وورودها بإسناد صحيح، معناه أنه ليس لأحد أن يناقش فيها بعد ذلك.
إذاً: الحاكم حكم بأن إسناده صحيح فمن يقدر أن يعارض، فحكم الحاكم يرفع الخلاف.
إذاً: وفي رواية للحاكم في الأربعين التي اختارها بإسناد صحيح.
(صلى الظهر والعصر ثم ركب) .
كأن أنساً رضي الله عنه يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر وصلاها مع العصر، وإذا ارتحل بعد أن تزيغ الشمس صلى الظهر والعصر ثم ركب.
إذاً: الفرق بين رواية الحاكم ورواية الشيخين في حديث أنس هي: ذكر العصر مع الظهر في وقت الظهر.
إذاً: سكوت الشيخين في رواية أنس عن تقديم العصر يأتي في رواية الحاكم وتثبت ما أسقطه الشيخان، فهذه زيادة عما في الصحيحين، والزيادة من ثقة، وزيادة الثقة عن المحدثين مقبولة.
إذاً: المؤلف رحمه الله بفعله هذا بين لنا صناعة الحديث، أن حديث أنس في رواية الشيخين اقتصر على الظهر فقط في وقت الظهر، وجاءنا غيره برواية ثقات بزيادة العصر معها.
إذاً: عند الحاكم جمع تقديم وتأخير، وليس جمع تقديم فقط.
وهنا وقفة أيضاً: أخذ الشافعي وأحمد أن الجمع بين الصلاتين المشتركتين في الوقت سنة عنه صلى الله عليه وسلم، إن شئت في التقديم وإن شئت في التأخير، ولكن على هذا الترتيب: إن كان الرحيل بعد دخول وقت الأولى صلاها وقدم الثانية معها، وإن كان الرحيل قبل دخول الأولى أخر الأولى إلى وقت الثانية وصلاهما معاً، فهذا قال أحمد الشافعي، وقد انتهينا من ابن حزم في قوله بجمع التأخير فقط، وجاءنا هنا أحمد والشافعي رحمهما الله بقول في رواية الحاكم بأنه كان يجمع الظهر والعصر إذا دخل وقت الظهر قبل أن يرحل، وأخر الظهر مع العصر إذا ارتحل قبل دخول الظهر، وقالوا: لك أن تجمع على أي صورة شئت تقديماً أو تأخيراً.(93/11)
كتاب الصلاة - باب صلاة المسافر والمريض [3]
لقد رخص لنا الشارع الحكيم بجمع الصلوات إلى بعضها في السفر وجاء هدي النبي صلى الله عليه وسلم يبين لنا كيفية هذا الجمع ومدته وأسبابه، وكذلك رخص الشارع للمريض في الصلاة أن يصليها على الهيئة التي يستطيعها إما قائماً أو قاعداً أوعلى جنب.(94/1)
الترجيح بين الأقوال المختلفة في جمع الصلاة في السفر
قال المصنف: [ولـ أبي نعيم في مستخرج مسلم: (كان إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً ثم ارتحل) ] .
زادنا المصنف رحمه الله أيضاً رواية أخرى في المستخرج على مسلم مثل ما جاءنا به عن الحاكم، والحمد لله.
قال المصنف: [وعن معاذ رضي الله عنه قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فكان يصلي الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً) رواه مسلم] .
هذه عجيبة! فبعدما أتى بحديث أنس في الصحيحين ورواية الحاكم والمستخرج على مسلم، جاءنا بحديث معاذ يروي: (أنه صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك كان يصلي الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً) فقوله: (جميعاً) هل هي جمع تقديم أم جمع تأخير؟! الجواب: يحتمل الاثنين! إذاً: إذا وجد احتمال بطل الاستدلال.
ولكنهم يقولون: ومع الاحتمال فإن قوله: (صلى الظهر والعصر جميعاً) يشعر بالتأخير، (وصلى المغرب والعشاء جميعاً) يشعر بالتأخير، وبعضهم يقول: بل يُشعر بالتقديم.
إذاً: حديث معاذ لم يعين حقيقة الجمع ما بين تقديم أو تأخير، لكنه يثبت عموم الجمع (جمع الظهر والعصر جميعاً) إن شئت قلت: تقديم أو تأخير، (والمغرب والعشاء جميعاً) إن شئت قلت: تقديم أو تأخير.
إذا: حديث معاذ يثبت وجود الجمع بين الصلاتين.(94/2)
أدلة القائلين بمنع الجمع مطلقاً
وهنا يسوق المؤلف حديث معاذ رضي الله عنه رداً على الإمام أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنه يقول بمنع الجمع مطلقاً لا تقديم ولا تأخير، فإن قيل له: وهذه النصوص ما تعمل بها؟ قال: إنما كان جمعاً صورياً.
معاذ رضي الله عنه لم يقل: أخر وقدم، أو: صلى في آخر هذه وأول هذه بل قال: (صلى الظهر والعصر جميعاً) وجميعاً تدل على أنهما مجموعتين في وقت إحداهما، وهذا هو الظاهر.
وهنا يقال: بم استدل الإمام أبو حنيفة رحمه الله على منع الجمع مطلقاً وحمل الحديث على الجمع الصوري؟ يقول الأحناف: الأصل في الصلوات الخمس أن تصلى في أوقاتها: (أفضل الأعمال إلى الله: إيمان بالله، والصلاة على وقتها) ، وقال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103] .
وجبريل عليه السلام نزل وعلم النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات في أوقاتها، والأعرابي الذي جاء وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أوقات الصلاة فقال له: (صل معنا اليوم وغداً) ، وصلى، فأوقع النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس في اليوم الأول على أول وقتها، وأوقع الصلوات الخمس في اليوم الثاني على آخر وقتها، إلا المغرب صلاه في اليوم الثاني في الوقت الذي صلاه في اليوم الأول، ثم قال: أين السائل عن أوقات الصلاة؟ قال: هأنذا يا رسول الله، قال: (ما بين هذين وقت) يعني: جعل كل صلاة في وقتها، وبيَّن المسافة بين أول الوقت وآخره.
فقالوا: هذه أمور قطعية بإجماع الأمة، فالخروج عنها يحتاج إلى قطعي مثله، وهذه الأحاديث كحديث معاذ وغيره أحاديث آحاد، ولا يمكن ترك القطعي إلى الآحاد.
واستدلوا بقول عبد الله بن مسعود وهو أكثر الناس تمسكاً بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً؛ فقد جاء عنه عند بعض أصحاب الحديث: (والذي يحلف به ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة لغير وقتها إلا الظهر والعصر في عرفات، والمغرب والعشاء في جمع، والصبح صلاّه في أول وقته) فأخذوا بهذا الحديث، وقالوا: هذا يحلف أنه صلى الله عليه وسلم ما صلى صلاة في غير وقتها، وأنتم تقولون: قدموا وأخروا.(94/3)
الرد على أدلة المانعين من الجمع
والجمهور يقولون: صح من فعله صلى الله عليه وسلم بهذه النصوص الصحيحة، أنه كان يجمع بين الصلاتين.
وقالوا: إن أحاديث الجمع بين الصلاتين تقيد المطلق من تلك النصوص القطعية التي جاءت في بيان أوقات الصلوات الخمس، فهذه خصصتها.
أي: أن تلك الأوقات في الصلوات الخمس في الحالات العادية، وأن الجمع في خصوص السفر، وحالة السفر خاصة من عموم حالات الصلاة العادية، وبهذا أخذ الجمهور بجواز الجمع بين الصلاتين، ولكنهم يختلفون بين أن يكون جمع تقديم أو جمع تأخير.
فـ ابن حزم قال بجمع التأخير فقط، وأحمد والشافعي قالا بالجمع في الحالتين تقديماً وتأخيراً.
وأبو حنيفة رحمه الله ليس عنده جمع إلا في الحج، فقال: الجمع بعرفات والمزدلفة ثابت وصحيح، وقال: إن الجمع في عرفات وفي مزدلفة من مناسك الحج وليس من أجل السفر، واستدل بفعل أهل مكة معهم، فقال: أهل مكة ليسوا بمسافرين، وقال: حتى من كان يسكن في أرض عرفات فله أن يجمع مع المسلمين إن كان حاجّاً، فمن حج من أهل منى، ومن حج من أهل المزدلفة، ومن حج من أهل عرفات فله أن يجمع مع الحجاج؛ لأن الجمع نسك عند الأحناف.
والجمهور يقولون: الجمع من أجل السفر وليس من أجل الحج.(94/4)
مذهب الإمام مالك في الجمع
وهناك بقي علينا مذهب مالك، فـ مالك رحمه الله جاءت عنه روايات: أولاً: رواية كراهية الجمع، فقال: أن يصلي كل فرض في وقته في سفره أولى.
والرواية الثانية: الجمع بدون كراهية، ولكن قال: لا يجمع إلا لحاجة، كخوف أن تفوته مصلحة.
ورواية ثالثة: يجمع جمع تأخير فقط، كما قال ابن حزم ورواية رابعة يجمع جمع تقديم وتأخير بلا كراهية ولا حاجة.
إذاً: مالك له روايتان في الجمع: رواية المنع ورواية الجواز، ومع هذا تفصيل، وهذا التفصيل ذكره عنه ابن عبد البر في التمهيد، فمن أراد أن يرجع إليه فهو في الجزء الثاني عشر، وذكره أيضاً الخرشي على خليل في تفصيل مذهب المالكية.
إذاً: هناك من قال: هو جمع صوري ولا يوجد جمع تقديم ولا تأخير.
وهناك من قال بجمع التأخير فقط ولا يوجد جمع تقديم عنده.
وهناك من قال بالجمع مطلقاً تقديماً وتأخيراً.
وهناك من جاء عنه التفصيل فيما يتعلق بالكراهية وعدم الكراهية، كما هو عند مالك.(94/5)
نقض ابن عبد البر على من قال بالجمع الصوري
نرجع إلى من يقول: إنه جمع صوري، يقول بعض العلماء رداً على ذلك، وخاصة ابن عبد البر فقد ناقش المسألة نقاشاً دقيقاً وطويلاً، قال: إن القول بجمع الصلاتين تخفيف، وإن تحري آخر وقت الأولى وأول وقت الثانية فيه مشقة كبيرة.
والآخرون يقولون: المسألة ليست مسألة هندسية على الصفر والزاوية، بل المسألة تقريبية في الأوقات، فإذا نزل في آخر وقت الأولى وصلاها وتحرى دخول الثانية وهو في مجلسه ففيه تخفيف من كونه يتهيأ للصلاة مرة واحدة بوضوء واحد، ويأتي إلى محل الصلاة، فإذا كانوا جماعة فإنهم يجتمعون للصلاة جماعة، ويكون اجتماعهم واحداً، ففيه أيضاً إرفاق، كما جاء في المستحاضة حيث، أمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالجمع الصوري.
وهنا يقول ابن عبد البر -ولم أره لغيره أبداً- إن القول بالجمع الصوري يتبعه منع الجمع الصوري في غير هذه الصور.
فمثلاً: إذا قلتم: إن الجمع الصوري للتخفيف، وحقيقة الحال أن كل صلاة وقعت في وقتها، فيجوز أن يؤخر العصر لآخر وقتها، ويقدم المغرب لأول وقتها، ويجمع بينهما جمعاً صورياً، وسيوقع كل صلاة في وقتها، وأنتم تمنعون ذلك، فلم المنع؟ فإن قلتم: لأنها لا تشترك معها في الوقت؟ قلنا: نحن لم نجمع حتى تقولوا ذلك، وطالما أنكم قلتم إن الجمع صوري فندعها على الصورية هذه، وما دام أن كل صلاة وقعت في وقتها فلا جمع، والإنسان لو أخر صلاة العصر إلى آخر وقتها، ولم يبق عن غروب الشمس إلا مقدار ركعتين، فصلاته أداء، فإذا دخل وقت المغرب صلاه في أول وقته وأنتم تقولون: إذا أخر صلاة العصر لشغل أو نسيان كما لو نام وقام قبل الغروب بما يسع ركعة فإنها تعتبر أداء وليست قضاءً، فلماذا هنا لا تتركونه يأتي بالمغرب في أول وقتها والعصر في آخر وقتها؟ قالوا: هذه بعذر، ولماذا يأتي بها في أول الوقت بدون عذر؟ ونحن هنا لا نناقش المسألة، لكن نورد كلام ابن عبد البر، وهو كلام دقيق جداً، فإذا كانت القضية ستدور على الجمع الصوري وكل صلاة ستقع في وقتها، فما الذي يمنع أن يجمع جمعاً صورياً بين العصر والمغرب، وأنتم تمنعون ذلك بالإجماع؟! إذاً: الجمع الصوري لا قيمة له، ولا يتمشى مع هذه النصوص الموجودة، لأنه لو كان على الصورة فالصورة تقع في غيرها، وأنتم لا تقولون بذلك.
إذاً: الجمع الصوري لا وجود له في الحالات العادية، أما المستحاضة فلمرضها، وسيأتي التنبيه على هذه القضية؛ فالمرض أو الحاجة في حديث ابن عباس يأتي فيما بعد إن شاء الله.
إذاً: الجمع بين الصلاتين في السفر جائز أم ممنوع؟ جائز جاءت به السنة، وله صور ثلاث: الأولى تقديم، والثانية تأخير، والثالثة صوري، والذي قال بجمع التأخير فقط ابن حزم وشيخه داود، وقال بجمع التقديم والتأخير معاً أحمد والشافعي، والذي منع من الجمع وقال بالجمع الصوري أبو حنيفة، ومالك رحمه الله جاءت الرواية عنه مختلفة.(94/6)
حكم الجمع للمسافر إذا أقام مدة معلومة أو مجهولة
قبل أن ننتقل من مسألة الجمع نقول: إلى متى يجمع، ومتى يُكف عن الجمع؟ هناك من يقول: الجمع لا يكون إلا عند جد السير، أما إذا نزل في طريقه يوماً أو يومين أو ثلاثة أو أربعة على ما قلنا في قصر الصلاة بنية إقامة محددة أربعة أيام، أو بإقامة غير معلومة إلى عشرين يوماً، فهل يجمع في إقامته تلك مع قصر الصلاة أم يقصر فقط؟ هناك من يقول: لا يجمع إلا إذا جد به السير، وهذا القو لـ مالك ومن وافقه كـ الشافعي وغيره.
وهناك من يقول: يجمع سواءً جد به السير أو نزل نزولاً مؤقتاً.
ومن رجع إلى موطأ مالك وجد حديث معاذ بن جبل، وفيه بعض الروايات في غزوة تبوك تدل على ما يستدل به من يقول: يجمع ويقصر سواء جد به السير أو نزل نزولاً مؤقتاً على ما تقدم في التوقيت بنية الإقامة، أو لانتظار قضاء حاجته، فمدة وجود رخصة القصر تكون رخصة الجمع.
والله تعالى أعلم.
والشافعية أيضاً يقولون: لا يحق لإنسان أن يجمع جمع تقديم إلا إذا كان ذلك عند صلاة الأولى، ولا جمع تأخير إلا في وقت الثانية، وأن ينوى تأخيرها إلى التي بعدها قبل أن يحل وقتها، فإذا أخرها وصلاها كانت أداء ولا إثم عليه بالتأخير، وإذا لم ينو حتى خرج وقتها كان آثماً بتأخيرها، ولكن صلاته صحيحة.(94/7)
حديث: (لا تقصروا الصلاة في أقل من أربعة برد)
قال المصنف: [عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقصروا الصلاة في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان) رواه الدارقطني بإسناد ضعيف، والصحيح أنه موقوف، كذا أخرجه ابن خزيمة.
] .
عوداً على ما تقدم من المسافة التي تقصر فيها الصلاة، ولعل المؤلف رحمه الله أتى بهذا النص هنا عقب الجمع ليبين لنا أن السفر الذي تقصر فيه الصلاة هو السفر الذي تجمع فيه الصلاة.
وحديث: (لا تقصر الصلاة في أقل من أربعة برد) يروى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكن بسند ضعيف، والتحقيق عند علماء الحديث وفي موطأ مالك رحمه الله أن هذا من قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وهل ابن عباس يشرع للناس ويؤقت؟ يقول العلماء في مثل هذا -أي: ما يتعلق بالتشريع والعبادات وبالصلاة أهم أمر الإسلام-: إنه لا يقال فيه بالرأي، ولا يكون ابن عباس قال ذلك إلا عن سماع من النبي صلى الله عليه وسلم، لكن ابن عباس لما قال ذلك لم يقل: سمعت رسول الله، ولم يقل: قال رسول الله كما في الخبر الذي تكلم فيه ابن عباس، ولم يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم باللفظ، فنأخذه عن ابن عباس موقوفاً عليه، ويحكم له بالرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد تقدم الكلام في الأربعة البرد.(94/8)
حديث: (خير أمتي الذين إذا أساءوا استغفروا)
[عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله لعيه وسلم: (خير أمتي الذين إذا أساءوا استغفروا، وإذا سافروا قصروا فأفطروا) أخرجه الطبراني في الأوسط بإسناد ضعيف، وهو في مسند سعيد بن المسيب عند البيهقي مختصراً.
] .
هذا الحديث لا أدري كيف ساقه المؤلف على الضعف الذي فيه، ولكن بعضهم يقول يشهد لهذا المعنى العام، فقوله: (خير أمتي الذين إذا أساءوا استغفروا) يشهد له قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] ، فهذا يتذكر إذا أصابه لمم من الشيطان، وقوله: (مبصرون) بمعنى: استغفر وتاب.
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (إذا أساء العبد أو أخطأ فاستغفر غفر الله له) ، أو الحديث القدسي: (غفرت له على ما كان منه ولا أبالي) كمافي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
أما قوله: (إذا سافروا قصروا وأفطروا) فهذا موضع النزاع، وضعف الحديث يوجب ألا يعول عليه في الاستدلال على قضية كهذه.(94/9)
صلاة المريض(94/10)
جواز القعود للمريض في الصلاة إن عجز عن القيام
قال المصنف: [وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: (كانت بي بواسير، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال: صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب) رواه البخاري] .
بدأ المؤلف بالشطر الثاني من العنوان: (صلاة المسافر والمريض) ونبهنا في الأول على أنه جمعهما لجامع رفع المشقة، لأن قصر الصلاة وجمعها تخفيفاً على المسافر ورفعاً لمشقة السفر، وكذلك التخفيف على المريض في أداء الصلاة.
وفي الحديث أن الرجل اشتكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أن عنده بواسير -عافانا الله وإياكم- وهي قد تحول دون القيام أو الركوع، وهذا كمثال فقط، وإلا فمراحل هذا المرض عياذاً بالله متفاوتة، فقد يكون في بدايته لا يعيق الإنسان عن أي شيء، وقد يكون مشتداً، وقد يؤدي إلى نزيف.
وهنا لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (صل قائماً) لاحظوا في الجواب هو شكا إليه يطلب التخفيف أو الرخصة، فيأتيه صلى الله عليه وسلم بالمبدأ ويبني عليه، فيقول: (صل قائماً) أي: هذا هو الأصل، فإن لم تستطع القيام فصل قاعداً، فإن لم تستطع قائماً ولا قاعداً فعلى جنبك.
يقولون باتفاق: يصلي على جنبه الأيمن مستقبلاً القبلة، فإن لم يستطع على جنبه فمستلقياً على ظهره، وإذا كان مستلقياً على ظهره فقدماه إلى القبلة ورأسه إلى عكسها؛ لأنه إذا كان القدمان إلى القبلة فاستطاع أن يجلس أثناء الصلاة سيستقبل القبلة، والله تعالى أعلم.(94/11)
زيارة النبي صلى الله عليه وسلم للمرضى
قال المصنف: [وعن جابر رضي الله تعالى عنه قال: (عاد النبي صلى الله عليه وسلم مريضاً فرآه يصلي على وسادة، فرمى بها وقال: صل على الأرض إن استطعت، وإلا فأومئ إيماءً، واجعل سجودك أخفض من ركوعك) رواه البيهقي وصحح أبو حاتم وقفه] .
وهذا الحديث أيضاً في صلاة المريض، فقد عاد النبي صلى الله عليه وسلم مريضاً لم يسمه الراوي لنا، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يعود المرضى، ولم يقتصر ذلك على أصحابه رضوان الله عليهم، بل عاد خادماً له كان يهودياً كما جاء في الخبر: أنه تأخر عنه غلامه اليهودي فسأل عنه، فقالوا: إنه مريض، فقال: قوموا بنا نعوده، وذهب صلى الله عليه وسلم ومن معه إلى هذا الغلام الخادم، فوجده في ساعته الأخيرة، فجلس إلى جنبه وقال: (يا غلام! قل لا إله إلا الله محمد رسول الله، فنظر الغلام إلى أبيه اليهودي عند رأسه، فقال اليهودي لولده، يا بني! أطع أبا القاسم، فنطق بالشهادتين ومات في الحال، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: تولوا أنتم أمر صاحبكم) .
انظر إلى عظمة الإسلام! في آخر لحظة من حياته، وفي آخر نفس من أنفاسه، ينطق بالشهادتين، فتثبت له الصحبة لرسول الله صلى الله، والأخوة للمسلمين، وانقطع ما بينه وبين أبيه.
المانع عظيم جداً: (تولوا أنتم أمر أخيكم) متى كان أخي وهو يهودي! ولكن: بـ (لا إله إلا الله محمد رسول الله) صار أخاً لنا، وانظروا كم في هذه الزيارة من البركة، حيث أنقذ الله بها إنساناً من النار ونقله إلى الجنة، ولم يركع ركعة ولم يسجد سجدة لله.
إذاً: كان صلى الله عليه وسلم يعود المرضى، وهذا منه صلى الله عليه وسلم فيه تألف لغير المسلمين، وبيان مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم.
يذكر ابن شبة في تاريخ المدينة: أنهم أول مجيء المهاجرين في الهجرة كانوا إذا مرض الواحد من المسلمين واشتد به المرض واحتضر، آذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه إلى بيته، وحضر تغسيله وصلى عليه، ثم يذهب معهم لدفنه، فقالوا: لقد أكثرنا على رسول الله وشققنا عليه، لو أننا تركنا إخباره وقمنا على ميتنا فجهزناه ونقلناه إلى رسول الله يصلي عليه في بيته، فتركوا الإخبار، وكانوا يجهزون الموتى ويأتون بهم، ويضعون الجنازة في الجهة الشرقية من المسجد -وتسمى إلى الآن: مصلى الجنائز، ودرب الجنائز أي: الطريق الذي يأتي من قبلي المسجد- وتوضع في فرش الحجر، وهو السور الموجود الآن حالياً ما بين باب جبريل وباب البقيع الجديد، فكانوا يأتون ويضعون الجنازة ويخبرون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيخرج ويصلي على ميتهم.
إذاً: كان صلى الله عليه وسلم يذهب إليهم في بيوتهم، وهذا فيه من جبر الخاطر وتطييب النفس الشيء الكثير.(94/12)
صفة جلوس المريض إذا صلى قاعداً
[وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي متربعاً) .
رواه النسائي وصححه الحاكم] أتى المؤلف رحمه الله بحديث عمران بن حصين في صلاة المريض، وعرفنا كيف يصلي قاعداً، وعلى جنبه، أو مستلقياً على ظهره.
وقوله: (صل قاعداً) : القعود له عدة صور وحالات: قعود في الصلاة للتشهد، وبين السجدتين، وقعود في غير الصلاة متربعاً متوركاً، فعلى أي الحالات يصلي العاجز عن القيام قاعداً؟! يأتي المؤلف رحمه الله بحديث عائشة رضي الله عنها: (بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى قاعداً متربعاً) .
متى صلى قاعداً؟ في النافلة خاصة، وفي مرضه، وتقول: كان يقوم ويقرأ ما تيسير من القرآن، فإذا تعب جلس أو ركع ثم جلس، وسجد من جلوس، المهم عندنا: أنه في حالة صلاته جالساً يكون متربعاً.
والتربع: وضع كل من الساقين تحت الأخرى.
وهل يضم في الصلاة كما لو كان قائماً أم يضع يديه على فخذيه؟ هناك من يقول: يضع يديه على صدره، قالوا: هذه صورة القيام، وهناك من يقول: يضع يديه على فخذيه، وقالوا: هذه صورة التشهد، قالوا: لكن هي الأقرب.
وبعضهم يقول: إن المالكية أخذوا السدل في الصلاة من صلاة الجالس وأنه لا يقبض ويضع يديه على فخذيه، لكن الشأن في القياس أن يستوي الأصل والفرع في الحكم، وهذان لا يستويان، فهذه نافلة وهو قاعد، وتلك فريضة وهو قائم.
إذاً: القياس هنا ليس له محل، لكن هذه الصورة اختارها كثير من العلماء.
والبعض قال: يجلس جلسة التشهد؛ لأنها جلسة من ضمن الصلاة، فإذا عجز عن القيام فإنه يصلي قاعداً على حالته التي يقعدها في الصلاة لجزء من الصلاة وهو التشهد.
وبعضهم قال: يجلس متوركاً كما في التشهد الأخير، وباتفاق: أنه كيفما جلس وصلى قاعداً على الحالة التي يستريح إليها فصلاته صحيحة؛ لأنه ما رخص له في الصلاة قاعداً إلا لرفع المشقة عنه، وهي رخصة له، فإذا كان تربع وهو بدين ومتين وساقاه ثقيلان، فذلك سيؤلم أعصابه، وإذا لم يستطع التربع ولا جلسة الصلاة فليمد رجليه وهو جالس، ولا مانع من ذلك.
إذاً: يأخذ بما هو الأيسر له، وبالله تعالى التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.(94/13)
حكم الجمع للمريض
وهناك حديث تركه المؤلف هنا أو لم يأت به بالكلية، وهو حديث ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر) ويقول ابن عبد البر: جاءت الرواية: (من خوف ولا سفر) .
وتتمة لهذه الفائدة أو لهذا الموضوع يذكر العلماء الشيء الكثير في هذا.
فبعضهم يقول: قد نسخ، ولا ينبغي الجمع في الحضر أبداً، وبعضهم يقول: للمطر والبرد الشديد والطين والوحل.
وبعضهم يقول: هذا في المغرب والعشاء فقط كما قال مالك؛ لأن فيها المشقة.
وبعضهم يقول: هذا خاص بالمسجد النبوي فقط؛ لأن الناس تحرص على الصلاة فيه لفضله، ويأتون إليه من بعيد، وتلحقهم المشقة إذا جاءوا لجميع الصلوات.
وأحب أن أقول: إن هذا الجمع في الحضر يكون للمريض الذي لا يجد من يوضئه في الأوقات كلها، وكذلك الآن من كان مقدماً على إجراء عملية في وقت الأولى، وسيظل في البنج إلى الثانية فله أن يقدم الصلاة الثانية حتى لا تضيع عليه.
والحمد لله رب العالمين.(94/14)
كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة [1]
صلاة الجمعة شعار عظيم في الإسلام، ولذلك اختلفت عن بقية الفرائض، فاختصت باشتراط الجماعة لها والعدد المعين والمكان، وغير ذلك.(95/1)
التحذير من ترك الجمعة وبيان وجوبها(95/2)
تاريخ المنبر النبوي
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره: (لينتهينَّ أقوامٌ عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين) ] .
يسوق المؤلف رحمه الله تعالى عن هذين الصحابيين الجليلين أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لينتهين أقوام) ، وكان يمكن أن يأتي الحديث على صورة أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لينتهُنَّ) ، ولكنهما أتيا بصورة مصورة مشخصة، حتى لكأن السامع ينظر إلى صورة إلقاء الرسول صلى الله عليه وسلم فيها على المنبر، فأتيا بهذه الصورة المجسمة أمامنا وكأننا في حمى منبر رسول الله، أو بجواره نصغي السمع إليه صلوات الله وسلامه عليه.
وهذا الأسلوب من أساليب التأكيد والتوثيق؛ ليوثقا للسامع أنهما سمعا وضبطا الحديث بملابساته واقعاً وفعلاً، فليس هو مجرد سماع أو نقل عن غيرهم، بل هو سماع مباشرٌ على أعواد منبره، أي: أنه قاله في جمع من المسلمين ملتفين حول المنبر، فكان هذا مشهوراً متواتراً عظيم الشأن سمعه الجميع.
وقولهما: (على أعواد منبره) تحقيق للواقع أيضاً؛ لأن المنبر أول ما صنع من أعواد، وكما جاء في تاريخ المنبر أنه صنع في السنة الثامنة من الهجرة بعد وقعة خيبر، وكان من شأنه أيضاً أنه كان مدرسة، فهذا المنبر صدر عنه ما لم تصدره أعظم منصة جامعية في العالم، فكم من قضية عالجها رسول الله على المنبر، وقد كان صلوات الله وسلامه عليه إذا حزب أمرٌ أو استجد أمرٌ قال: (احضروا المنبر) فيحضرون إليه.
وقد صعد صلى الله عليه وسلم على المنبر، وقام للصلاة ثم ركع وهو على الدرجة الثالثة، ثم نزل القهقرى فسجد سجدتين، ثم رجع إلى المنبر، وهكذا، ثم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ، فاستخدم المنبر منصة لتعليم الناس كيفية الصلاة، وهي أهم شيء في الدين، وهكذا كثيرٌ من القضايا، وكنت أتمنى أن أجد طالب علم جامعي يتتبع قضايا المنبر النبوي وما عولج عليه من قضايا، فيقدمها إلينا أثراً لهذا المنبر الشريف.
ويكفي في تاريخه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتكئ أو يستند على جذع من جذوع النخل؛ لأن المسجد في أول بنائه قبل أن يجدد في السنة السابعة كان من جذوع النخل وجريده، فكان بعض أجزائه في القبلة يستند إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان يطوّل قيامه جاءت امرأة من الأنصار وقالت: يا رسول الله! إن لي غلاماً صناعاً -أي: نجاراً- ائذن لي أن آمره فيصنع لك منبراً تجلس عليه وأنت تخطب فأذن لها، وفي مدة ثمان سنوات ما خطر على بال أحد أن يصنع منبراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لكونه طلباً لنفسه، فمجيئه من غيره أفضل، فذهب الغلام وأخذ أعواداً من الغابة بالمدينة، وجاء وصنع المنبر من أعواد، وكان ثلاث درجات، درجة يصعدها، ودرجة يقف عليها، ودرجة يجلس عليها، وهكذا ظل المنبر إلى أن احترق في حريق المسجد الأول، وبالله تعالى التوفيق.
فكان صلى الله عليه وسلم يخطب على الجذع بادئ الأمر، ثم صنع المنبر ووضع في مكانه اليوم، ومن الحكمة أن المنبر في موضعه لم يتحرك شرقاً أو غرباً، ولا شمالاً ولا جنوباً، ولكن امتد طوله من الجنوب إلى الشمال؛ لأنه الآن أصبح فوق عشر درجات أو اثنتي عشرة درجة، فالامتداد كان إلى الأمام، وأما صدر المنبر وظهر المنبر من القبلة فهو بالأصبع في مكانه الأول.
ثم صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر ليخطب، فما أن بدأ الخطبة على المنبر والجذع في مكانه حتى حنَّ الجذع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى سمع جميع من في المسجد حنينه كحنين الناقة العشراء.
فيا لها من معجزة! جذع له ثمان سنوات مقطوع من أصله ملقىً على الأرض أصبح جماداً يحنّ لرسول الله ويسمع الجميع حنينه.
ومن هنا قال السيوطي رحمه الله: ما من معجزة أوتيها نبي إلا وأعطي النبي صلى الله عليه وسلم مثلها.
فمعجزة موسى عليه وعلى نبينا السلام العصا يتوكأ ويهش بها الغنم، قال تعالى لموسى: {أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه:19-20] ، فانقلبت من جماد يابس إلى حيوان تهتز كأنها جان، أي: لشدة حركتها وسرعتها، قال تعالى: {خُذْهَا وَلا تَخَفْ} [طه:21] .
وضرب بها البحر ليكون فيه طريق في البحر يبسٌ.
فإن كان موسى أعطي حياة العصا بمعجزاتها فقد أوتي النبي صلى الله عليه وسلم حياة الجذع يحنّ ويسمع الجميع صوته، وعصا موسى ما تكلمت ولا سمع لها صوت، لكن كانت لها حركة، فهذه المعجزة تساوت مع معجزة موسى عليه السلام، وهناك أشياء عديدة.
فينزل صلى الله عليه وسلم عن المنبر إلى الجذع، ويربت عليه ويضمه إلى صدره كما تفعل الأم بطفلها، ويقول: (أنت مخيّر: إن شئت أخذتك وأعدتك إلى البساتين وغرستك وعدت نخلة تثمر وتينع، وإن شئت دفنتك هاهنا وكنت من غرس الجنة) ، فقال: (أكون من غرس الجنة) ، فالجذع يؤمن بالجنة وأصحاب العقول المغلقة لا يؤمنون بها!! فيدفنه صلى الله عليه وسلم بأصل المنبر في الروضة.
فهذه قضية المنبر، وهاهو أبو هريرة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما يحدثان أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على أعواد منبره.
ومن فضائل هذا المنبر قوله صلى الله عليه وسلم: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على ترعة من ترع الجنة) ، والترعة لا يعلم عرضها وطولها ومصبها إلا الله تعالى، فهي أمر غيبي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق، ويكفينا أن الجذع آمن بالجنة وأحب أن يكون من أهلها.(95/3)
صلاة الجمعة فرض عين
ففي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوامٌ) -فأكد الفعل، ولم يسم أحداً، والأقوام: جمع قوم (عن ودعهمُ) أي: تركهم (الجمعات) ، وفي لفظ: (الجمعة) بالإفراد، والجمع جاء فيه أيضاً: (من ترك الجمعة ثلاث مرات بغير عذرٍ طبع الله على قلبه) ، فجاء التحذير من ترك الجمعة مرة واحدة، وجاء التحذير من ترك الجمعة ثلاث مرات، فحديث الباب يقول فيه صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوامٌ عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين) ، فهم إما أن يتركوا ذلك، أو يكون الجزاء الختم على القلوب.
وهذا -والعياذ بالله- من وصف المنافقين الذين قال تعالى فيهم: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:7] ، فهو وعيد شديد يتوعد به النبي صلى الله عليه وسلم الذين يتركون الجمعة، فإما أن ينتهوا عن تركهم الجمعات، وإما أن يكون العقاب الختم على قلوبهم، والقلب إذا ختم عليه يكون الأمر ما جاء في قوله سبحانه: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] .
يقول العلماء: إذا أذنب العبد ذنباً ولم يستغفر منه نكت في قلبه نكتة سوداء، ثم لا يزال يذنب وتأتي نكتة إلى نكتة حتى يغلف القلب ويصبح كالكوز مجخيا لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً.
فإذا ختم على القلب شبه بالإناء الذي ختم فوه فلا يسمح بدخول خيرٍ ولا يخرج منه شرٌ؛ لأنه ختم على الشر فلا يخرج الشر منه ويظل صاحبه في شرٍ دائماً، ولا يدخل الخير إليه لأنه لا طريق لدخوله، فهذا وعيد شديد لمن لم ينته عن ترك الجمعة.
والقلب هو محل الذكر، وهو محل التذكر، وهو محل الإدراك، وهو محل الارتباط بالله سبحانه وتعالى، فإذا ختم عليه صار غافلاً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، وحينئذٍ تكون البهائم خيراً منه؛ لأن قلوبها تدرك، ويكفي أن الجذع أدرك وآمن بأن هناك جنة.
وقد جاء في فضل يوم الجمعة من رواية مالك في الموطأ: (وما من دابة إلا وتصيخ بسمعها يوم الجمعة بعد الفجر حتى شروق الشمس إشفاقاً من يوم القيامة) ، فالبهيمة في يوم الجمعة تصيخ بسمعها من بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس مخافة يوم القيامة.
فالحيوانات تؤمن بالبعث، وتؤمن بيوم القيامة وتنتظره، وتعلم أنه في يوم الجمعة، وهؤلاء -عياذاً بالله- إذا ختم على قلوبهم لا يدركون شيئاً من ذلك، وأصبحوا من الغافلين.
الوعيد الشديد لا يكون إلا على ترك واجب.
ولذلك نقول: إن صلاة الجمعة فرض عين عند الأئمة الأربعة، وإن وجد من بعض أتباع بعض الأئمة من يقول بغير ذلك فمردود عليه من علماء مذهبه.
وهناك من يقول: صلاة الجمعة سنة مؤكدة، وهناك من يقول: فرض كفائي إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وكل من قال شيئاً من ذلك فإن من علماء مذهبه من يرد عليه، ويأتي بنصوص الإمام بأن صلاة الجمعة فرض عين على كل مسلم، وكما في صحيح مسلم: (صلاة الجمعة فرضٌ على كل من سمع النداء) ، ثم يأتي هذا العموم فيخصص منه المرأة والعبد والمريض والمسافر فتسقط عنهم الجمعة، وإذا كان الأمر كذلك فليس هناك مجال للتساهل فيه.
وأجمعوا على أن الجمعة هي فريضة يومها وليست نيابة عن الظهر، ولكن من فاتته صلاة الجمعة بشروطها ولا يستطيع أن يتداركها؛ لأن الجمعة يشترط فيها المسجد والجماعة والعدد والخطبة، فإذا فاتت فإنه لا يستطيع أن يأتي بخطيب يخطب له، ولا بعدد من الناس يصلون معه، فلم يبق إلا أن يصلي الظهر لعجزه عن الجمعة وإدراك ما فات منها.
وقد يستغرب إنسان أو يريد الاطلاع على الرد على من يقول بأن الجمعة سنة مؤكدة أو فرض كفائي أو غير ذلك، والجواب عليه من علماء مذهبه، فليرجع إلى تتمة أضواء البيان عند آية الجمعة فإنه سيجد ما تيسر من النقول من كل مذهب ممن يقول بالوجوب، ومن يقول بغير ذلك، والرد عليه من أئمة مذهبه بذاته، وبالله تعالى التوفيق.(95/4)
وقت صلاة الجمعة
قال المصنف رحمه الله: [وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: (كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة ثم ننصرف وليس للحيطان ظل يستظل به) متفق عليه، واللفظ للبخاري] .
هذا شروع في بيان وقت الجمعة، فيقول سلمة: (كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة ثم ننصرف وليس للحيطان ظل يستظل به) .
ومن المعلوم أن الظل قسمان: ظلٌ قبل الزوال يمتد إلى الغرب، وظل بعد الزوال يمتد إلى الشرق، فيقول: ننتهي من الصلاة ونخرج وليس للحيطان ظل، أما ظل الغرب الذي قبل الزوال فليس بموجود، وأما ظل الشرق الذي بعد الزوال فلم يوجد بعد فيكون هذا في وقت الزوال.
والمصنف يأتي بهذا لأنهم يبحثون في وقت الجمعة، فهناك من يقول: الجمعة عيد من أعياد المسلمين، فوقتها وقت صلاة العيد إلى ما بعد الزوال.
والجمهور يقولون: إن وقت الجمعة هو بعينه وقت الظهر، والظهر لا يجب ولا يصح إلا بعد الزوال وهذا من أدلة الجمهور على هذا التوقيت، أي: أنها بعد الزوال كما هو الحال في الظهر.
وهذا الحديث يبين أموراً تقريبية؛ لأن ظل الزوال عند الجمهور يختلف باختلاف فصول السنة، فهو في الشتاء يختلف عنه في الصيف، فإذا تساوى الليل والنهار فإن ظل الزوال يتلاشى، وإذا طال النهار يطول الظل، وإذا قصر النهار يقصر الظل -أي: ظل الزوال- ولذا يقول الفقهاء في توقيت العصر: هو حين يصير ظل كل شيء مثليه ما عدا ظل الزوال، فظل الزوال أمرٌ نسبي، فقد يطول وقد يقصر، ولكن الراوي يبين لنا تقريبياً متى كانوا يصلون الجمعة.
[وفي لفظ لـ مسلم: (كنا نجمع معه إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتتبع الفيء) ] .
هذه رواية صحيحة، ومعنى: (كنا نجمع معه) يعني: كنا نصلي الجمعة مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ننصرف نتتبع الفيء، والفيء: هو الظل بعد الزوال تقول: فاء إلى الشيء: إذا رجع إليه، ولذا قالوا الظل بعد الزوال فيء؛ لأنه قبل الزوال كان الظل إلى الغروب، وبعد الزوال فاء ورجع إلى الشرق.
[وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة) متفق عليه] .
هذا يعتبر صورة من صور المجتمع في ذلك الوقت فقوله: (ما كنا نقيل) أي: نوم القيلولة، (ولا نتغدى) الغداء: الأكل في غدوة النهار.
وفي وبعض الروايات: (ولا نريح رواحلنا -أي: التي تعمل في البساتين- إلا بعد الجمعة) ، وهذا فيه إشارة إلى التبكير قبل الزوال، ولكن لما جاء النص: (نجمع بعد الزوال) انتهينا من هذا الإشكال.
فقوله: (ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة) ، وفي رواية: (في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) يبين لنا أن هذا العمل كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه هو الذي كان يصلي بهم الجمعة ولا جمعة إلا في مسجده وبإمامته صلى الله عليه وسلم، فهذا هو التوقيت الذي نقل إلينا من فعله صلوات الله وسلامه عليه، ونعلم جميعاً أن الجمعة في عهده صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين جميعاً ما تعددت، ولا أقيمت إلا في هذا المسجد النبوي الشريف، حتى إن أهل العالية وما وراءها كانوا يأتون إلى الجمعة في هذا المسجد، ولم يسمح لهم بجمعة في ديارهم، ولا على مياههم.(95/5)
العدد الذي تنعقد به الجمعة وخلاف العلماء فيه
قال المصنف رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يخطب قائماً، فجاءت عيرٌ من الشام فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً) رواه مسلم] .(95/6)
شرح حديث جابر وآية الجمعة في حضور التجارة والانفضاض عن الخطبة
هذا الحديث عن جابر رضي الله عنه يبين لنا أمرين: الأمر الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً، وسيوضح المؤلف رحمه الله تعالى كيفية هذا القيام والجلوس بين الخطبتين.
والأمر الثاني من هذا الحديث ما يتعلق بمجيء العير -والعير: هي الإبل تحمل البضاعة- فانفض الناس إليها، وانفتلوا أو انصرفوا إليها، ولم يبق إلا اثنا عشر رجلاً، وهذا الجزء من هذا الحديث هو موضوع عدد من تنعقد بهم الجمعة، والأصل في هذه القضية ما أشار إليه المؤلف رحمه الله بمجيء العير وقت الخطبة، وكانت الخطبة في ذلك الوقت بعد الصلاة، كما هو الحال في العيدين، وقد بيّن القرآن الكريم هذه الواقعة، ثم وضحها النبي صلى الله عليه وسلم.
واستدلال العلماء بعدد اثني عشر رجلاً هو لما جاء في هذا الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى منهم ذلك قال: (لو انفضوا جميعاً لسال بهم الوادي ناراً) ، فقالوا: إن أقل ما دفع عنهم أن يسيل بهم الوادي ناراً هو العدد اثنا عشر رجلاً، وعليه فلا تنعقد الجمعة بأقل من اثني عشر رجلاً، أما مناقشة هذا العدد فستأتي بعد الكلام عن الآية الكريمة في قوله سبحانه: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:11] فقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً} [الجمعة:11] كان من عادة أهل المدينة إذا قدمت عير بتجارة أن تدق لها الطبول إيذاناً بقدومها، فيحضر التجار ومن يريد الشراء، فصادف مجيء تلك العير قيام الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبته، فما ظن أولئك الذين انصرفوا عن رسول الله أنه بقي عليهم واجب الانتظار؛ لأنهم لما صلوا الجمعة حسبوا أن الجلوس لسماع الخطبة من باب النافلة وليس بلازم عليهم، وهذا هو المظنون بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك دفعاً لما يتوهمه متوهم، وما يغمز به أصحاب الأهواء بأن الذين انفضوا من المنافقين.
وقد يستدل لما يقوله أصحاب هذا الرأي بما جاء بعد سورة الجمعة، حيث جاء الحديث عن المنافقين، وهذا ليس بصحيح، لكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انقضت الصلاة، ولم يبق إلا الخطبة ظنوا أنه ليس عليهم حرج في أن ينصرفوا ما داموا قد أدوا الصلاة.
ونلاحظ هنا قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً} [الجمعة:11] ، وهم في المسجد لم يروا، واللهو لا يرى، وإنما يسمع، ولكن التعبير شمل الإدراك؛ لأن الرؤية أقوى أنواع الإدراك.
كما أنه ذكرت التجارة واللهو، وأعيد الضمير على مفرد أحد الأمرين المذكورين وهو التجارة: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا} [الجمعة:11] ، ولم يقل: (إليهما) .
ولم يقل: (إليه) ، بل قال: (إِلَيْهَا) ، وضمير التأنيث هنا عائد على التجارة، فقالوا: لما كانت التجارة هي الأصل واللهو تابعاً لها للإعلام عنها كانت هي الأهم، فعاد الضمير عليها، ويلاحظ نظير ذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة:34] ، فلم يقل: (ينفقونهما) أو (ينفقونه) فأعاد الضمير على الفضة.
وهنا يتساءل إنسان: الذهب أهم من الفضة، فلم لم يعد الضمير عليه، أو عليهما معاً؟ والجواب: أن هذا من بلاغة القرآن وإعجازه؛ لأنا لو نظرنا إلى الكنز عند الناس لوجدنا أكثر من يكنز هم أصحاب الفضة؛ لأن الفضة أكثر تناولاً وأرخص قيمة، ويمكن أن يكنزها الغني والفقير كما يقال، لكن الذهب مختص بكبار الأغنياء، فكان الوعيد في كنز النقدين، فإذا توجه إلى الأقل كان الأكثر من باب أولى، فعود الضمير على أحد المتماثلين المقترنين يكون لسرٍ في هذا التعبير، وقد تبين لنا في الذهب والفضة عود الضمير على الفضة؛ لأنها أكثر شمولاً؛ ولأنه من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإذا كان الذي يكنز الفضة متوعداً فالذي لا ينفق الذهب من باب أولى.
وهنا كانت التجارة هي الأصل، واللهو إنما هو تابع لها للإعلام عنها، فرجع الضمير إليها.
انظر إلى ما بعدها في المغايرة، حيث قال تعالى {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ} [الجمعة:11] ، فقدم هنا اللهو على التجارة؛ لأن المنفضين جاء بهم سماع اللهو، وهو دق الطبول، فقال تعالى: {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ} [الجمعة:11] أي: التي خرجتم من أجلها، واستدعاكم إليها سماع اللهو.
ثم قال تعالى: {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:11] ، أي: إن كنتم تطلبون الربح والرزق في هذه التجارة وتركتم رسول الله قائماً فما عند الله ببقائكم عند رسول الله تستمعون إليه خير: {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:11] .(95/7)
أقوال العلماء في العدد الذي تنعقد به
ويهمنا في هذا الحديث أن المؤلف رحمه الله وغيره يسوقونه للاستدلال على أن أقل ما تنعقد به الجمعة اثنا عشر شخصاً.
أما موضوع المسألة من حيث هي فكما يقول الشوكاني وابن حجر نفسه في فتح الباري وغيرهما: تعددت الأقوال والمذاهب فيها إلى نحو عشرين قولاً.
ولكن ينبغي التنبيه على ما هو الواجب في هذا المقام؛ لأننا وجدنا أقوالاً منها ما هو بين الأئمة الأربعة رحمهم الله، ومنها ما هو خارج عن كلام الأئمة الأربعة، ولولا ما حصل من الالتباس على بعض طلبة العلم في هذه القضية ما أوردنا كل التفصيلات فيها، ولكن سبق أن نبهنا على هذا الموضوع في تتمة أضواء البيان عند هذه الآية الكريمة.
يقول العلماء: اختلف الناس فيمن تنعقد بهم الجمعة، واختلفوا فيمن تسقط عنه.
أما بمن تنعقد فإن الجمهور يسقطونها عن المرأة، ويختلفون في العبد، ويتفقون في المريض، ويختلفون في المسافر، فهم أربعة أصناف: العبد والمرأة والمريض والمسافر، فالبحث في العدد خارج عن هذه الأصناف الأربعة؛ لأنها موضع خلاف.
فهناك من يقول: تصح بالواحد كصلاة الفرض؛ أي: كالصلوات الخمس.
ولولا وجود هذا القول ما كان للتنبيه عليه مكان، ولا يساوي الحبر الذي كتب به.
وهناك من يقول: تنعقد باثنين، كأقل ما تنعقد به الجماعة في الصلوات الخمس، وهذا يلحق بالذي قبله.
وهناك من يقول: تنعقد بثلاثة حتى قيل: المؤذن والإمام وشخص ثالث.
وهناك من قال: بثلاثة سوى الإمام ويقولون: قال تعالى: {إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة:9] ، والواو هنا للجماعة أو للجمع، وأقل الجمع ثلاثة.
وهناك من يقول: بأربعة.
وهناك من يقول: بعشرة.
وهناك من يقول: باثني عشر.
وهناك من يرجع إلى العدد الذي بقي في هذه الواقعة، وهو اثنا عشر، أو ثمانية، أو أربعة عشر.
وهناك من يقول: عشرون رجلاً ويعزونها رواية لـ مالك.
وهناك من يقول: أربعون رجلاً وهو مذهب الشافعي مصرحٌ به.
وهناك من يقول: ليس في انعقاد الجمعة ووجوبها عدد محدد، وإنما تجب على كل جماعة استوطنوا قرية، ويقومون بشئون أنفسهم، ويستطيعون الدفاع عن أنفسهم مما يرد عليهم من أعداء، وهذا هو القول الثالث عن مالك رحمه الله.(95/8)
مناقشة أدلة القائلين بتحديد العدد الذي تنعقد به الجمعة
ويتفق العلماء على أنه لا يوجد نصٌ صحيح صريح يحدد عدد الذين تجب عليهم الجمعة وتصح منهم، ولذا يرجح عامة الفقهاء ما ذهب إليه مالك رحمه الله.
وكذلك نرجع إلى وجهة نظر من قال بالثلاثة كما أشرنا، وبعضهم يعزو ذلك لـ أبي يوسف ومحمد، أو الإمام أبي حنيفة رحمه الله، وهذا غير صحيح.
والذين قالوا بثمانية أو بعشرة أو باثني عشرة يختلفون في العدد الذي بقي عند سماع اللهو والتجارة والرسول صلى الله عليه وسلم قائمٌ يخطب، فمن ثبت عنده ثمانية، قال: أقل ما يكون ثمانية.
ومن ثبت عنده عشرة قال بالعشرة، ومن قال: كانوا اثني عشر قال: أقله اثنا عشر.
والجواب عمن استدل بذلك بإجماع الأصوليين وعلماء الحديث، حيث يقولون: هل الرسول قال لا تصح إلا باثني عشر؟ إنما قال: (لو انفضوا جميعاً لسال بهم الوادي ناراً) .
فهؤلاء أخذوا من ذلك أن أقل ما يقع به الواجب -وهو انعقاد الجمعة- هذا العدد الذي بقي، ويقولون: إنها قضية عين؛ إذ كان من الممكن أن يبقى عشرون أو ثلاثون أو خمسة، فليست هناك قاعدة، وليس هناك ما يفهمنا ويوحي إلينا بأن عدداً معيناً كان ينبغي أن يبقى.
فما دامت هذه الاحتمالات قائمة فلا ينبغي التعويل على اعتماد العدد الذي بقي أنه أقل ما تنعقد به الجمعة، أما الذين قالوا بأربعين فلأنه العدد الذي كان في أول جمعة جمعت بالمدينة، وفي سبب إقامة أول جمعة اختلاف.
فقيل: بسبب مصعب بن عمير، وقيل غيره، وقيل: إن المهاجرين الأولين قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة رأوا اليهود يجتمعون في يوم سبتهم ويقرءون الزبور، فقالوا: لو اتخذنا يوماً نجتمع فيه ونذكر الله! فاجتمعوا وصلوا ركعتين وذكروا الله، فسموا ذلك اليوم يوم الجمعة لاجتماعهم فيه، فقيل لبعضهم: كم كنتم؟ قال: كنا أربعين رجلاً، فقالوا: هذه أول جمعة أقيمت بالمدينة وكان العدد أربعين! فيقال أيضاً: هل هذا تحديد من النبي صلى الله عليه وسلم؟ فإن هذا العدد الذي حصل كان يمكن أن يزيد ويمكن أن ينقص، فكونه صادف وجود أربعين رجلاً ليس بحجة ولا دليل على أن أقل عدد تنعقد به الجمعة أربعون رجلاً، بل في بعض الروايات أن الذي جمع لهم ذبح لهم شاة فتغدوا وتعشوا منها.
وأعتقد أن الشاة لا تكفي لغداء وعشاء أربعين رجلاً ولا عشرين رجلاً، فالمسألة تدور على تقدير العدد.
وناحية أخرى هي لو سلم أنهم كانوا أربعين، فهل الرسول صلى الله عليه وسلم قال: إذا اجتمعتم أربعين فصلوا الجمعة؟ وبعض الروايات فيها مقال، وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليهم من مكة أن اجتمعوا أو اتخذوا يوماً تجتمعون فيه تذكرون الله، فاتخذوا ذلك اليوم، ولم يحدد عدداً، فالذين قالوا بواحد أو بثلاثة ليس لهم إلا استدلال لغوي لا دخل له في الأحكام الشرعية.
ومن قال بالعشرة أو بالثمانية أو بالاثني عشر كل ذلك مرتبط بقضية الذين انفضوا عن رسول الله وبقي هو في المسجد يخطب، والذين قالوا بعشرين أو قالوا بثلاثين -كما روي ذلك عن مالك رحمه الله- إنما اختلفوا في العدد.
وكذلك الذين قالوا بأربعين، فقد بنوا على أول عدد انعقدت أو صليت به الجمعة، قالوا: الذين حضروا آنذاك كان عددهم أربعين رجلاً، وعلى هذا لم يكن في تحديد العدد نصٌ صحيح صريح في أي ديوان من دواوين السنة.(95/9)
القول الراجح في العدد الذي تنعقد به الجمعة
بقي القول الأخير، وهو لـ مالك رحمه الله، وهو المروي عنه والثابت في مذهبه، وهو أن الجمعة تجب على كل جماعة مستقرة، بخلاف البدو الرحل، وبخلاف الجماعة المسافرين، بدلالة يوم عرفة؛ حيث توفر عدد كبير في يوم حجة النبي صلى الله عليه وسلم قُدِّر بأكثر من عشرة آلاف حاج، ومع ذلك لما لم يكن مستقراً، ولم يكن مقيماً، وكان له حكم المسافر ما صلى الجمعة، وكانت الوقفة يوم الجمعة.
فمن تنعقد بهم الجمعة هم قومٌ استوطنوا قرية، أي: البيوت الثابتة، وبعضهم يشترط ألا يكونوا في الخيام، أي: أن تكون البيوت مبنية ثابتة في الأرض ليست للرحيل حينما تأتي الحاجة.
فإذا اجتمع جماعة يمكنهم الدفاع عن أنفسهم إذا هجم عليهم وحش أو غيره، فإنهم يعتبرون أهل قرية مقيمين، وحينئذٍ يقول مالك رحمه الله: إن كثروا أو قلوا فإن عليهم صلاة الجمعة ما داموا لا يرحلون صيفاً ولا شتاءً.(95/10)
مكان إقامة صلاة الجمعة
مسألة المكان الذي تقام فيه صلاة الجمعة: الأحناف يقولون: لا تجب في قرية، بل تجب في المدن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما صلى جمعة في قرية.
والجمهور يقولون: قد تطلق القرية على المصر، بل إن مكة المكرمة سميت بـ (أم القرى) ، وكذلك أول جمعة أقيمت بعد الجمعة في المدينة كانت في (جواثاء) وهي قرية من قرى البحرين، بجهة الأحساء اليوم، فأقيمت هناك جمعة وهي قرية.
وعلى هذا فمما يشترط للجمعة الموطن الذي تكون الإقامة فيه، وكما يقول المالكية: قد تكون القرية صغيرة ثم تنمو وتكبر حتى تصير مدينة، فإذا ثبت الاستقرار والإقامة ثبت شرط صلاة الجمعة.
وهناك من يقول: لا اشتراط للمكان ولا للتقري، فإذا وجد جماعة في خيام رحّل: كبعض المعسكرات، أو بعض التجمعات الكشفية أو نحو ذلك، فعليهم الجمعة، والجمهور يقولون: لا جمعة عليهم.
والذين يقولون: عليهم الجمعة يختلفون في العدد المشترط من ثلاثة إلى اثني عشر كما تقدم.
والذي ينبغي أن يعلم أن سياق القرآن الكريم يدل على ما ذهب إليه الأئمة الأربعة من اشتراط وجود القرية، والمقيمين فيها، ولوازم الإقامة؛ لأن جمهور الأئمة الأربعة يقولون: لابد في موطن إقامة الجمعة من حاكم ومن سوق قائم، ومعنى السوق: المحلات التجارية للبيع والشراء التي يمكن لأهل تلك القرية أن يأخذوا منها ضرورياتهم وحوائجهم، والقرآن الكريم يشير إلى هذا المعنى، والأئمة رحمهم الله ما جاءوا بهذا من فراغ من عندهم، وإن لم يأتِ نص صحيح صريح في هذا الموضوع، ولكنهم أخذوه استنباطاً من كتاب الله، والذي نقوله دائماً: إنه يجب على كل إنسان قبل أن يرى الرأي في نفسه في حكم شرعي أن يرجع إلى أقوال العلماء، وأن يقف على مستندهم في هذا القول.
فلو تأملنا في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة:9] لوجدنا أن كلمة (فَاسْعَوْا) ليس معناها السعي الذي بمعنى الجري، بل إن الحديث يقول: (فأتوها وعليكم السكينة والوقار) ، فالسعي هو الأخذ بأسباب التوجه إلى الجمعة، كقوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ} [البقرة:205] أي: أخذ بالأسباب {لِيُفْسِدَ فِيهَا} [البقرة:205] .
وقال الشاعر: سعى ساعي غيظ ابن مرة بعدما تبذل مع عشيرته بالدم أي: سعى بالصلح بين القبيلتين وتقول: فلان سعى بالنميمة بين اثنين، وفلان سعى بالصلح بين المتخاصمين، أي: أخذ في أسباب هذا الأمر حتى أتمه، فقوله تعالى: (فَاسْعَوْا) أي: تهيئوا، ومن السعي للجمعة الاغتسال، وتغيير الثياب، ومس الطيب، والتبكير إليها.
ولأجل قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] قال الذين قالوا تنعقد بثلاثة تتحقق تلك الصورة بمنادٍ ينادي وذاكرٍ يُذكِّر وساعٍ إلى هذا الذاكر يسعى لذكر الله، فيكفي الثلاثة لتقام به الجمعة.
والآخرون قالوا: الصورة كاملة وليست جزئية؛ لأن في السياق قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] أي: اتركوا البيع، فهل هذا الأمر بترك البيع والنهي عن الاشتغال بالبيع والشراء يوجه إلى واحد؟ فالمنادي موجود، وذاكر الله موجود، والنداء وجّه لغيرهما ليتركوا البيع، والبيع أقل ما يقع من طرفين بائع ومشترٍ.
فهذا الأسلوب لا يتوجه إلى شخص واحد، بل ولا إلى اثنين، ولا إلى ثلاثة، إنما يتوجه إلى حركة تجارية فيها أخذ وعطاء وبيع وشراء، ثم يأتي بعد ذلك قوله تعالى: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة:9] ، ثم قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا} [الجمعة:10] ، وهل الانتشار يكون من واحد أو اثنين أو ثلاثة أو خمسة؟ فالانتشار معناه: النشور بمعنى الاتجاه في كل جهة، فواحد يتجه إلى الغرب وآخر للشمال.
؛ لأن الانتشار يدل على العدد الوفير الذي ينتشر إلى جهات متعددة.
فقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ.
} [الجمعة:10] ، هذه الضمائر فيه كلها لا تكون لواحد او اثنين أو ثلاثة! فلابد أن يتحقق عندنا وجود الأماكن التي تستقر فيها التجارة ويؤخذ فيها بالبيع والشراء.
وهؤلاء المتبايعون المشترون بشر يقع بينهم الخلاف؛ إذ الأسواق هي مواضع الشجار والخلاف، كما قيل: المساجد بيوت الله والأسواق بيوت الشياطين؛ فهناك الخلاف، وهناك النزاع، فهذا النزاع الذي يقع بين المتبايعين من الذي يفضه؟ وقد قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص:24] .
فالخلطاء وهم أصحاب الأغنام الذين يختلطون عند الرعي يقع بينهم نزاع، فما بالك بأصحاب السوق، فهذا ميزان راجح، وهذا غشَّ فيه، وهذه سلعة مغشوشة، فقالوا: السوق يحتاج إلى حاكم يفض النزاع، وهذا الحاكم من شروط هذا التجمع، بل جاء في الحديث: (إذا كان ثلاثة لم يؤمروا عليهم أميراً استولى عليهم الشيطان) ، فلا بد من وجود شخصٍ يرتضيه الجميع يكون المرجع إليه عند النزاع، فإذا اجتمعت قرية واجتمع سوق وبيع وشراء فلا بد من أمير، فشرط الفقهاء أن توجد قرية فيها سوق فيها أمير.
وهكذا نجد أن النص القرآني الكريم في سياق هذه القضية يؤخذ منه ما توصل إليه الأئمة الأربعة رحمهم الله من ضرورة وجود قوم مقيمين، أو من ضرورة إقامة الجمعة في القرية المستقرة التي لها سوق وفيها أمير -أي: حاكم- يحكم بين الناس، وعلى هذا فإقامة الجمعة في البساتين، أو في الخلوات، أو في أماكن التنزه، أو في غير ذلك فإنها على خلاف كتاب الله، وخلاف ما عليه الأئمة الأربعة، وخلاف ما عليه أصحاب السنن الست، وبالله تعالى التوفيق.(95/11)
كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة [2]
مما يدل على أهمية صلاة يوم الجمعة أن لها آداباً وأحكاماً ينبغي مراعاتها والالتزام بها، فمن الآداب: التطيب والاغتسال والتجمل والتبكير ونحوها.
ومن الأحكام: ما تدرك به صلاة الجمعة، وما ينبغي أن يتصف ويلتزم به الخطيب من كيفية إلقاء الخطبة، وتناسب مقدمتها مع صلب موضوعها، واشتمالها على معاني الترغيب والترهيب ونحوه.(96/1)
من آداب يوم الجمعة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:(96/2)
الاغتسال ليوم الجمعة وحكمه
فإن مما يتفق عليه العلماء أن للجمعة آداباً، ومن ذلك الاغتسال ليوم الجمعة، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) ، يعني: بلغ سن الحلم؛ لأن المحتلم بالفعل يجب عليه الغسل في أي يوم أو ليلٍ.
وهنا بيان لمن بلغ سن الحلم أن عليه أن يغتسل يوم الجمعة، وقد جاء في بعض الروايات أو بعض الأحاديث: (حقٌ لله على كل مسلمٍ أن يغتسل يوماً في الأسبوع) ، وإذا كنا نحن المسلمين نقول: إن هذا الدين الحنيف يفرض النظافة فرضاً، لأن لله حقاً على كل مسلم أن يغتسل يوماً في الأسبوع يغسل رأسه وجسمه بهذا النص؛ فهذا إلزامٌ يلزم الدين به أبناءه، فلا يمضي أسبوع إلا ويغتسل فيه نظافة لله سبحانه، وجاء سن الاغتسال في الشرع لكل ما فيه تجمع، كما جاء للعيدين، وجاء لدخول مكة، وجاء للوقوف بعرفات، إلى غير ذلك مما فيه تجمع المسلمين.
وجاء أيضاً من رواية مسلم: (أن الناس كانوا خدمة أنفسهم قبل أن تأتيهم العلوج -أي: الأسارى في الفتوحات- فكان الواحد منهم يأتي بالعباءة فيصيبه الغبار، فيعرقون فتكون منهم الروائح، فدخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فوجد منه هذا الريح -وفي رواية عائشة أن السقف كان ضيقاً منخفضاً فيضيق بهم المسجد ويعرقون- فقال صلى الله عليه وسلم: (حقٌ لله على كل مسلم أن يغتسل) .
والحديث: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) تمسك به من قال بوجوب الغسل، وقال: لا تصح الجمعة إلا بالغسل) .
وبعضهم قال: الفرض في الغسل يقع في هذا اليوم قبل الجمعة أو بعدها، فالمهم هو الغسل، وأغفل الحكمة التي من أجلها شرع الغسل، فإنه إنما شرع الغسل لمن يحضر اجتماع المسلمين، فإذا لم يغتسل عند اجتماعه بهم وذهب واغتسل بعد العصر، فالأمر وإن كان مشروعاً في ذاته لكن لم يؤد الغرض منه.
تقول أم المؤمنين: (فلما فتح الله عليهم وجاءتهم العلوج وكفتهم المئونة اكتفي بالوضوء) ، وجاء في الحديث: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) ، فمن آداب يوم الجمعة الاغتسال.(96/3)
التجمل للجمعة ولبس أحسن الثياب
ومن آدابها أيضاً التهيؤ لها بحسن المظهر، قال تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] أي: التهيؤ بما هو أليق، وما فيه التجمل، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (ماذا على أحدكم لو اتخذ ثوبين للجمعة -أو ثوباً للجمعة- سوى ثوبي مهنته) .
فالفلاح يكون عنده ثوب يزرع ويسقي فيه، والجزار يكون عنده ثوب يذبح ويقطع فيه، وهكذا الحداد والنجار، فكل إنسان في مهنة تتعلق بالثياب يتخذ ثوباً خاصاً بالمهنة، أما إذا جاء للجمعة، فيجب أن يكون عنده عناية بالجمعة خاصة في لباسه، وهذا مما يتحتم على المسلمين، وقد جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه وجد حلةً عند باب المسجد تباع، فأتى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! اشتر هذه لتتجمل بها ... ) وكانت عنده البردة يخطب بها الجمع والعيدين.
وكان أمير المؤمنين رضي الله عنه يقول: (أحب لطالب العلم بياض الثياب) ؛ لأن فيها النقاء، وفيها الجمال، وفيه -كما يقال- الفطرة، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (من غسل واغتسل وبكر وابتكر ومس من طيب أهله) ، والأهل دائماً يحتفظون بالطيب، وقد يحتفظ الإنسان بنوع من الطيب، فهذا زيادة في التجمل، وزيادة في الرفق والإمعان، وكما جاء في الأدب المفرد للبخاري: (حسن السمت من الإيمان) أي: من علامات إيمان الإنسان عنايته بسمته وبمظهره.
وعلى هذا تكون العناية بالمظهر يوم الجمعة في اللباس والبدن من آداب الإسلام.(96/4)
التبكير لصلاة الجمعة
ومن الآداب التبكير إلى الجمعة في الساعة الأولى أو الثانية أو الثالثة.
، وعلى هذا تكون للجمعة آداب قبلها وآداب عند حضورها.(96/5)
ما تدرك به الجمعة
قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أدرك ركعةً من صلاة الجمعة أو غيرها فليضف إليها أخرى وقد تمت صلاته) رواه النسائي وابن ماجة والدارقطني واللفظ له، وإسناده صحيح، لكن قوى أبو حاتم الإرسال] .
هذا الحديث حكمه بالنسبة للجمعة متوافق، ولكن الإشكال في لفظة [أو غيرها] ؛ لأن هذا مغاير للواقع، فإذا أدرك ركعة من العصر وأضاف إليها أخرى لم تتم صلاته، وإنما يصدق هذا على الجمعة فقط، ولفظة [غيرها] أعتقد أنها ليست في الروايات، أو أن فيها مقالاً في زيادتها أو عدم زيادتها، والذي يهمنا هنا ما تدرك به الجمعة؟ هذه هي المسألة الفقهية.
وقد تقدم لنا أن من أدرك شيئاً مع الإمام قبل أن يسلم فقد أدرك الجماعة، بل إنه جاء في شأن آخر الوقت: (من أدرك من العصر ركعةً قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) ، وجاءت رواية: (من أدرك تكبيرة الإحرام قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) ، فالجمهور على أن من أدرك الإمام في الجماعة قبل أن يسلم فقد أدرك الجماعة، والمالكية لهم رأي في اشتراط الركعة كاملة، ولكن الجمهور على خلاف ذلك.
وأما الجمعة فالجمهور على أن من أدرك من الجمعة ركعةً كاملة فقد أدركها وتدرك الركعة إذا أدرك الإمام في الركوع، قبل أن يرفع رأسه من الركوع فيكون قد أدرك الركعة، وهذا رأي الجمهور، بخلاف من يقول: قد فاتته القراءة، وعلى هذا الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله، فرأيهم أن من أدرك ركعةً من الجمعة فليضف إليها أخرى ويكتفي بالركعتين، وقد سقط فرض يومه وهو الجمعة.
والخطبة تكون قبل الصلاة، وهذا لم يدرك الخطبة، فهل يكون مدركاً للجمعة أيضاً؟ والجواب: نعم؛ لأن الخطبة انتهت قبل الصلاة وانتهى الأمر، ويستدلون بما جاء عن أمير المؤمنين عمر في رواية مالك في الموطأ أنه كان يخطب، وفي أثناء الخطبة دخل رجل، فقال: أي ساعة هذه؟ قال: والله يا أمير المؤمنين ما لبثت أن سمعت النداء فتوضأت فجئت قال: والوضوء أيضاً! فقالوا: لو كان سماع الخطبة واجباً لأفهمه، كما لو كان الغسل واجباً لأفهمه، واكتفى منه بما أدرك من الخطبة، واكتفى منه بما أوقع من وضوء.
وسيأتي حكم الغسل والوضوء للجمعة فيما بعد، ويهمنا أنهم مجمعون على أن من فاتته الخطبتان، وفاتته ركعة كاملة، وجاء وأدرك الإمام في ركوعه وركع معه، واطمأن معه بقدر ما تحسب له الركعة فإنه يقوم بعد سلام الإمام ويأتي بركعة، أي: يضيف إليها أخرى وقد تمت جمعته، وهذا هو الحد الأدنى.
ومع ذلك فقد جاء الحث على التبكير، كما في الحديث: (من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ... ) إلخ.
والحد الأدنى الذي ذكرناه في إدراك الجمعة قال به مالك والشافعي وأحمد، وقال الأحناف: تدرك الجمعة بما تدرك به الجماعة.
فمن أدرك الإمام قبل أن يسلم ودخل معه في الصلاة فقد أدرك الجمعة، فليقم وليصل ركعتين، بل هناك قولٌ عندهم بأنه لو قدر أن الإمام سها في صلاته وسجد للسهو، وجاء المتأخر فأدرك الإمام في إحدى سجدتي السهو قبل أن يسلم أدرك الجمعة، ولكن هذا الحديث الذي صححه ابن خزيمة أو النسائي وغيره فيه: (من أدرك من الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى) ، فهل الذي لم يدرك من الجمعة ركعة له حكم من أدركها؟ فمفهوم المخالفة أن من لم يدرك ركعةً كاملة لا يكفيه أن يضيف إليها أخرى؛ لأن الحديث يقول: (من أدرك من الجمعة ركعة) ، فهذا الحديث دليل للجمهور، وهو خاص بموضوع الجمعة.
فإذا لم يدرك الركعة فالأئمة الثلاثة يقولون: إذا أتى والإمام قد رفع من الركوع في الركعة الثانية فإنه يدخل معه، وإذا أتى في التشهد يدخل معه، ولكن يقوم فيأتي بأربع ركعات.
والمشكلة أنه إذا دخل مع الإمام في صلاة الجمعة ونوى جمعة، فالجمعة لم تحسب له، وإن نوى ظهراً غاير نية الإمام، وهذا إشكال، ولذا قال الأحناف: أنتم أتيتم بهذا الإشكال، فدعوه يدركها بالتشهد أو بغيره.
والجمهور يقولون: هي عبادة توقيفية، فيدخل معه موافقة له في نية الجمعة، فإذا سلم الإمام انفصل عنه وجدد نية الظهر.
وهناك مسألة يثيرها بعض الناس، ونسمع التساؤل عنها كثيراً، وهي: مسألة من لم يحضر الجمعة كمريض ومسافر ونسوة في البيوت، ومن العجب أن نسمع بعض الناس يقولون: نصلي ركعتين؛ لأنهما فريضة اليوم، فأخذوا بهذا وتركوا لوازم الجمعة الأخرى كالجماعة والخطبة، ولهذا أجمع الأئمة الأربعة ومن وافقهم على أن من لم يصل الجمعة مع الإمام في المسجد، فإن فريضته صلاة أربع بنية الظهر.
وأما هل الجمعة نيابة عن الظهر، أو الظهر نيابة عن الجمعة؛ فقد قدمنا بأن الأئمة الأربعة يقولون: إن الجمعة هي فرض يومها.
فإن قيل: كيف يصلي هؤلاء الظهر على أنه فرض يومهم؟ فيقال: من توفرت فيه شروط الجمعة صار فرضه الجمعة، ومن لم تتوفر فيه شروط الجمعة بقي على الأصل، والأصل هو الظهر، ولا نزاع في ذلك ولا خلاف، والله تعالى أعلم.(96/6)
آداب خطبة الجمعة وصفتها(96/7)
قيام الخطيب في خطبة الجمعة
قال المصنف رحمه الله: [وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائماً، فمن نبأك أنه كان يخطب جالساً فقد كذب) أخرجه مسلم] .
هنا بيان صحيح صريح في كيفية الخطبة أو الهيئة، وهو أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم ويخطب، وهنا يقولون: هل خطبة الجمعة خطبتان، أم أنها خطبة واحدة مفصولة بجلسة خفيفة؟ والصحيح أنهما خطبتان كل خطبة منها مستقلة، أي: يشترط في الثانية استيفاء شروط الخطبة كما يشترط في الأولى.
وقالوا: هذا الخبر إنما هو إخبار عن فعله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا القائل رأى بعض الخطباء -وكان خليفة من الخلفاء- يخطب قاعداً، فنظر إليه وكلّمه وقال: كيف تخطب قاعداً؟ فمن أنبأك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قاعداً فقد كذب على رسول الله وكذب عليك! وابن مسعود رضي الله عنه لما رأى خطيباً يخطب وهو جالس قرأ الآية: {وَتَرَكُوكَ قَائِماً} [الجمعة:11] وهذا استدلال بما وقع من القرآن الكريم يحكي حالة أداء النبي صلى الله عليه وسلم للخطبة، وهو أنه كان قائماً.
وهنا ناحية أخرى، وهي أن المشهور عند الناس أن الخطبة تحتاج إلى شيء من إيقاظ الضمير أو النفس، أو التأكيد على الموضوع الذي يتناوله الخطيب، فيحتاج إلى أهبة، ومن هنا كان عندهم أن الخطيب يكون على نشز من الأرض مرتفع؛ لأن ذلك أدعى لانتشار الصوت، أو على راحلة، وأيضاً يعتمد إما على عصا وإما على قوس.
فالخطبة لا تتأتى مع الجلوس؛ لأن القاعد لا يملك حماس القائم، ولا يعطي صورة الاهتمام بالموضوع كالذي يقوم يتكلم وهو قائم.
ومن العجائب أنه زارنا أخ مسئول في بعض دول أفريقيا، فسألته عن طالب كان في الجامعة وذهب إلى هناك قائلاً: كيف حال فلان؟ فنهض قائماً، فقلت: ما بالك؟ قال: لا يحق لي أن أتكلم عن فلان وأنا جالس، بل أقوم قائماً لأتحدث عنه، فقلت في نفسي: هذه مسألة على الفطرة، فالقيام في الخطبة دليلٌ على الاهتمام بالموضوع، ولهذا نبه هذا الرائي من رآه من الخلفاء يخطب قاعداً.
ويقولون -والله تعالى أعلم-: أول من خطب قاعداً معاوية رضي الله عنه، ويعتذرون له بثقل جسمه وكبر سنه، والله تعالى أعلم.(96/8)
من صفات خطيب الجمعة
قال المصنف رحمه الله: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم، ويقول: أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة) رواه مسلم.
وفي رواية له: (كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يحمد الله ويثني عليه، ثم يقول على أثر ذلك وقد علا صوته) ، وفي رواية له: (من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) ، وللنسائي: (وكل ضلالة في النار) ] .
لقد كان صلوات الله وسلامه عليه يخطب في مناسبات عديدة، فكان يخطب في الجمعة، وفي العيدين، وفي الاستسقاء، وفي غير ذلك، ومنها ما هو للتوجيه والإرشاد، وإذا حدث شيء جديد قال: (احضروا المنبر) ، فيجتمعون عند المنبر فيخطبهم فيما يريد أن يبين لهم.
وهنا يبين لنا جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب يوم الجمعة احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه.
فهذه الصفات الثلاث مجموعة تدل على الحماس وعلى الانفعال مع موضوع الخطبة، وبدونها يقل الحماس ويقل الانفعال، وكما قالوا: كلما كان الخطيب متفاعلاً مع موضوعه كان ذلك أدعى لانتباه السامع، فيتفاعل معه.
وأضف إلى ذلك ما تقدم من أنه كان يخطب على منبر، وكان يخطب قائماً، وكان يتكئ على عصا أو على قوس، فإذا اجتمعت الهيئة من القيام فوق منبر، والاتكاء على عصا أو على قوس، مع كونه تحمر عيناه ويعلو صوته ويشتد غضبه، فماذا يظن أن ينتظر السامع؟ إنه يوقن بأن الأمر جد؛ لأن المتكلم أخذ الأهبة بصعود المنبر، والاتكاء على ما يشعر بالقوة من عصا أو قوس، ثم يتفاعل حتى تحمر عيناه، واحمرار العينين -كما يقولون- مرتبط بالقلب وبالدماء، فإذا ما علا الدم في القلب ظهر أثره في العينين، ثم نتيجة لذلك الغضب واحمرار العينين من شدة الغضب يرتفع الصوت، ولا يمكن لإنسان أن يكون شديد الغضب يتكلم بصوت منخفض؛ فإنه يصطحب مع شدة الغضب ارتفاع الصوت.
ولهذا لما تشاح رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم وغضب أحدهما فاحمرت عيناه وانتفخت أوداجه وعلا صوته، قال صلى الله عليه وسلم: (إني لأعلم كلمات لو قالهن لذهب عنه ذلك، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) ، فلما سمعها شخص أو صحابي ذهب إليه وقال: قل كذا، قال: لست بمجنون، والذي حمله على هذا الرفض شدة غضبه.
ولا نقول لكل خطيب إن عليه أن يغضب وأن تحمر عيناه وأن يعلو صوته، بل نقول: إن الخطيب مع موضوع الخطبة يجب أن يكون متفاعلاً، أما إذا لم يكن متفاعلاً معه، بمعنى أن يخطب الناس في موضوع هو لا يوقن به، أو لا يرغب فيه، أو لا يؤمن بنتائجه فهذه خطبة فاشلة، أما إذا كان موقناً بها، ويسعى إلى تحصيلها، ويتمنى حصولها وتنفيذها فإنه يتكلم من قلبه، وما كان من القلب وصل إلى القلب.
ويبين لنا جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الخطبة كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم، ومنذر الجيش شخص يطلع على جيشٍ قادم على قومه فيسبق الجيش، ويأتي إلى القوم، ولضيق الوقت يقول: صبحكم ومساكم، أي: إما أن يصبح عندكم أو يمسي عليكم، وهذا من باب الاختصار والإيجاز؛ لأن الوقت لا يتسع لأن يطيل الكلام فيخبرهم بأن الجيش الفلاني عدده كذا، ويأتي من جهة كذا، ويصل في وقت كذا، وسرعته كذا، فلا مجال لهذا، ولكن يكفي أن يقول: صبحكم الجيش، أو: مساكم الجيش.
فهذه الحالة يذكرها لنا جابر رضي الله عنه فيما كان يظهر على النبي صلى الله عليه وسلم حال الخطبة.
ثم يأتينا بما سمع في بعض الخطب، أو ما كان يسمع مما يرد عنه صلى الله عليه وسلم في افتتاح الخطبة.
وكما يقول علماء البلاغة أو علماء الأدب: يجب أن تكون للخطبة مقدمة تنبئ عن موضوعها، فإذا كان يريد أن يحث الناس على عمارة مسجد فليأت بحمد الله والثناء عليه، ثم ببيان فضيلة المساجد، فيقول: الحمد لله.
إلخ، وأشهد أن لا إله إلا الله القائل: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [التوبة:18] ، وأصلي وأسلم على النبي المختار الذي قال: (من بنى لله مسجداً ... ) ، ثم يدخل إلى الموضوع.
وموضوع الخطبة أولاً وآخراً عماده الوصية بتقوى الله والنصيحة، أما المواضيع الخاصة فتكون في غير خطبة الجمعة، فإذا اعتمدها الخطيب ورأى أن يدعو الناس إليها لما فيها من مصلحة عامة دينية وأخروية فذلك جائز، لا أن تكون دنيوية، فإذا كانت دنيوية ولها اتصال بما تئول إليه من ثواب وعقاب فلا مانع من ذلك.
فإذا كانت الخطبة ذات مواضيع خاصة لا تكون في الجمعة، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في قضية بريرة لما جاءت وطلبت من عائشة أن تعينها، فقالت لها: (إن شئت دفعت لأهلك القيمة كلها وأعتقتك ويكون ولاؤك لي! قالت: أشاور.
فذهبت ورجعت وقالت: إنهم يأبون إلا أن يكون الولاء لهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد حضر، فأخبرته عائشة رضي الله عنها تعالى عنها فقال: (اشتريها وأعتقيها واشترطي لهم ما شاءوا، فكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل) ، ثم خطب الناس فقال: (ما بال أقوامٍ يقولون كذا وكذا، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط) .
وبالمناسبة ليس المراد بكل شرط ليس في كتاب الله عين هذا الشرط، فليس في كتاب الله اشتراط أهل بريرة على أن يكون الولاء لهم، ولكن المعنى: كل شرط خالف ما جاء في كتاب الله فهو باطل، وهو ليس في كتاب الله، ولكن الشرط الذي جاء به كتاب الله مما فيه استيفاء الحقوق لا مانع منه، وجاء في الحديث: (إن أحق ما استوفيتم من الشروط ما استحللتم به الفروج) ، و (كل شرط جائز إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً) ، فكل شرط أحل حراماً فليس في كتاب الله، وكل شرط حرم حلالاً فليس في كتاب الله؛ فهو باطل.
فالخطبة تستعمل للتوجيه العام وللتوجيه الخاص، وخطبة الجمعة الهدف الأول منها الوصية بتقوى الله، والموعظة، وإحياء القلوب، وبيان ما هو أنفع للناس، وتذكيرهم بعد النسيان، وهذا من خصائص الإسلام.
فالإسلام بذاته يدعو ويذكر، ومن هذا التذكير خطبة الجمعة، فإنها مفروضة على الأمة، فالدعوة والوعظ والإرشاد من لوازم هذا الدين، وألزم ما يكون فريضة يوم الجمعة، ويشترط لها الخطبتان، وبعضهم يقول: الخطبة الأولى إنما هي للموعظة والوصية على ما سيأتي في بيان أركان الخطبة إن شاء الله، والخطبة الثانية إما أن تكون تتمة وتفصيلاً لما أجمل في الأولى، وإما أن تكون بالدعاء لعامة المسلمين، ودعاء الله سبحانه لولاة الأمور بالصلاح والفلاح.(96/9)
كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة [3]
اشتملت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم على أحكام مهمة ذكرها الفقهاء في بيان ما ينبغي أن يلتزم به الخطباء، وبعضهم جعلها من أركان الخطبة، ومن ذلك: البدء بالحمد والثناء على الله سبحانه وتعالى، ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ورفع الصوت، والإرشاد إلى الهدي الصحيح، والتحذير من البدع والضلالات.(97/1)
شرح حديث جابر في صفة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم، ويقول: أما بعد؛ فإن خير الحديث كتاب الله) ] .(97/2)
ابتداء الخطبة بالحمد والثناء على الله
كلام جابر فيه شيء من الإيجاز أو الاختصار، وقوله: (إذا خطب) ، أي: إذا شرع في الخطبة.
ويتفق العلماء على أن الخطبة ينبغي أن تبدأ بحمد لله، ويقولون: إن الخطيب يبدأ بالسلام على المصلين، فإذا سلم عليهم جلس وقام المؤذن وأذن الأذان الذي هو إشعار بدخول الوقت، وقد يسبقه أذان آخر قبل الوقت -وهذا هو الغالب- للتنبيه، وهو أذان عثمان رضي الله عنه، وهو خليفة راشد أنشأ هذا الأذان إشعاراً لأهل السوق؛ لينتبهوا لدخول الوقت، فينقلبوا إلى بيوتهم ليتهيئوا، وليسعوا إلى الجمعة.
وقد يقول قائل: وكيف أنشأ عثمان هذا الأذان ولم ينشئه أبو بكر ولا عمر رضي الله عنهم أجمعين؟ فيقال: سيأتي في باب الغسل يوم الجمعة أن عمر رضي الله عنه كان يخطب، فدخل رجل -وسماه في الموطأ أو غيره بأنه عثمان رضي الله عنه- فقال عمر: أية ساعةٍ هذه؟ يعني: لم تأخرت؟ وقد جاء في بعض الروايات: (لم تحبسون عن الصلاة؟) ، فقال: والله يا أمير المؤمنين ما أن سمعت الأذان حتى توضأت وجئت، فقال: والوضوء أيضاً! فهنا رأى عثمان رضي الله عنه أن الاشتغال في السوق -كما وقع له- قد يشغل الناس، فيحتاجون إلى ما ينبههم قبل الوقت، فلما كانت الخلافة إليه أنشأ هذا الأذان قبل الوقت، وكان ينادى به على الزوراء، والزوراء كانت عندما يسمى اليوم بالباب المصري، وكان هناك مسجد صغير يقال له: مسجد الزهراء، وكان البعض يظن أنه لـ فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن التحقيق أن (الزهراء) محرفة عن (الزوراء) ، وكان -كما يقولون- عند مخازن الزيت أو أحجار الزيت.
فهناك كان الزوراء، وقد وقفت على صكٍ لبعض الأشراف يحدد ملكاً بموقع الزوراء بهذا النص، وهو مكتوب في سنة ألف ومائتين، فالزوراء كانت في منتهى امتداد السوق وخارج السور الذي هدم أخيراً عند الباب المصري كما يسمونه، أو عند سوق الحراج القديم، فـ عثمان رضي الله عنه جعل أذاناً هناك، وكان هناك سوق المدينة، فكان يؤذن في ذلك المكان إعلاماً للناس بقرب الوقت فينطلقون إلى بيوتهم يتهيئون ويسعون إلى الجمعة، فإذا ما صعد الإمام على المنبر جلس وقام المؤذن يؤذن.
وقد جاء في صحيح البخاري في باب رجم الزاني: أن عمر رضي الله عنه جلس على المنبر حتى فرغ المؤذنون، فقام وحمد الله.
فأول ما يفعله الإمام أو الخطيب أنه إذا جاء سلّم على من عند المنبر، ثم يصعد المنبر فيسلم على الناس من فوق المنبر، ثم يجلس ينتظر المؤذن حتى يفرغ من أذانه، فإذا أذن قام للخطبة.
ويتفقون على أن الخطبة تبدأ بحمد لله، وهذا كما في الحديث: (كل أمرٍ ذي بالٍ لا يبدأ بحمد لله أو باسم الله فهو أبتر) ، فيبدأ فيحمد الله ويثني عليه سبحانه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يوصي بتقوى الله، ثم يأتي بآية من كتاب الله أو سورة قصيرة، والأولى أن تتناسب مع موضوع الخطبة.
فهنا جابر يقول: (ويقول: أما بعد) ، و (أما بعد) يجب أن تكون بعد كلام، ولا تكون في افتتاح الكلام أبداً، فهي مشعرة بأن قبلها كلام، وهذا الكلام هو الذي اتفقوا على أن يبدأ به الخطيب، وهو حمد الله والثناء عليه.
وهنا تظهر براعة الخطيب في حسن الاستهلال، فهو إذا قام حمد الله وأثنى عليه بواسع الرحمة، وأثنى عليه بواسع المغفرة، وأثنى عليه بواسع فضله، وأثنى عليه بجزيل نعمه، فينظر الموضوع الذي يريد أن يتكلم فيه فيأتي بالثناء على الله بما يشعر بذلك، وهذا -كما نبهنا عليه- هو براعة الاستهلال، وكلما كان الخطيب بليغاً كان أعلم بمداخل الكلام وإيجازه، فيجمع المعنى الكثير في القول القليل، وسيأتي الحديث بعد عن هذا المعنى.(97/3)
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
فإذا حمد الله وأثنى عليه صلى على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر نفسه باسمه (محمد) ، فما كان يقول: اللهم صل عليَّ، بل يقول: اللهم صل على محمد لأن ذلك تشريع؛ ليأتي بعد ذلك من يخطب مقامه ومكانه فيأتي بهذا الاسم، ويسمي النبي صلى الله عليه وسلم باسمه.
فقوله: (أما بعد) أي: بعد تلك المقدمة وهي التي ينبغي أن يأتي بها الخطيب في أول خطبته.(97/4)
قوله: (خير الحديث كتاب الله)
وقوله: (فإن خير الحديث كتاب الله) هذا هو نص القرآن الكريم، كما قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر:23] ، فهذا هو كتاب الله الذي تطمئن به قلوبهم: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] ، فالقرآن هو أحسن الحديث.
وهذه الآية الكريمة: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً} [الزمر:23] ، تفيد أنه لا ينبغي للعاقل أن يشتغل بغير كلام الله؛ لأن كلام الله هو خير الحديث، فإذا لم تكن لك حاجة في موضوع آخر فليكن شغلك بكلام الله تلاوة ودراسة وفهماً وتمعناً، بأي وجه من الوجوه؛ لأنه خير الحديث، ولأنه خير الكلام.(97/5)
قوله: (وخير الهدي هدي محمد)
وأما قول الخطيب: (وخير الهدي هدي محمد) فقد ضبطه العلماء بوجهين: (خير الهَدْي) ، و (خير الهُدَى) ، والكتابة لا تختلف، فالهَدْيُ: هو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وهدى الناس إليه، والهُدَى: ما هَدى الله به عباده عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأول كقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] .
وقوله: (هدي محمد) .
محمد هو رسول الله، فلم يقل صلى الله عليه وسلم: (وخير الهدي هديي) ؛ لأن الخطيب الذي يجيء بعده إن قال (خير الهدي هديي) ، فليس له حقٌ في ذلك، وهذا في أساليب البلاغة يسمى التجريد، كما قالوا في قول امرئ القيس: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل فهو يحدث نفسه وما عنده أحد، لكنه أوجد أو تخيل شخصية أخرى يخاطبها، وهنا الرسول صلى الله عليه وسلم يأتي بالحقيقة فيقول: (خير الهدي هدي محمد) ، ومحمد هو رسول الله كما نص القرآن الكريم، فخير الهدي الذي يهتدي به الإنسان في سلوكه واتباعه ومنهجه هدي محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] .
وفي بعض الروايات: (خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم) بذكر الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وبعض الروايات بدون الصلاة، ونحن يجب علينا أن نصلي إذا ذكرنا اسمه صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الحديث: (رغم أنف امرئ ذكرتَ عنده فلم يصل عليك) ، فإذا جاء اسمه صلوات الله وسلامه عليه في أي مناسبة باسم (نبيٍ) أو (رسولٍ) أو (محمد) فإنه يجب عليك أن تصلي وتسلم عليه، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه.(97/6)
قوله: (وشر الأمور محدثاتها)
قوله: (وشر الأمور محدثاتها) .
إذا جئنا إلى اللفظ الأول فإنه إذا كان خير الهدي هدي محمد صلوات الله وسلامه عليه، فمفهومه أن شر الأمور ما خرج عن هدي محمد، كما جاء: (كل أمرٍ ليس عليه أمرنا فهو رد) ، أي: مردود، ولكن هنا يأتي بالمعنى المفهوم صريحاً فيقول: (وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها) .
والأمور جمع أمرٍ، ويجمع على (أمور) لا على (أوامر) ؛ لأن كلمة (أمر) تجمع على (أمور) وهي الآحاد من الأحداث والوقائع، وتجمع على (أوامر) ، وهي صيغ (افعل) : (اكتب واجلس واقرأ وأحفظ) ، فكل هذه أوامر.
فمعنى الأمور هنا: أحداث الحياة.
و (محدثاتها) : مأخوذة من أصل المادة: (حدث) ، والحدث والإحداث يقال: شيء حادث، بمعنى: استجد بعد أن لم يكن، فشر الأمور بدون استثناء هي محدثاتها؛ ولكن يبنغي أن يعلم أن هذه الأمور المستحدثات التي هي شر كائنة في مقابل الهدي، أي: الأمر الديني الذي يترتب عليه ثوابٌ أو عقاب.
فيقول هنا: (شر الأمور محدثاتها) ، فلا يدخل تحت هذا الشر من المستحدثات ما كان من شئون الدنيا، وما كان لأهلها، فقد استحدثت صور عديدة في الحياة في المآكل والملابس والمشارب والمراكب {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8] وجاءت أدوات ومستحدثات وصور أحدثها الإنسان استجابة لتطور الحياة، فلا يقال: تلك المستحدثات شرٌ لأنها داخلة في عموم (شر الأمور محدثاتها) ! إذ ينبغي أن يراعى أنه جاء اللام في (الأمور) في مقابل قوله: (وخير الهدي هدي محمد) ، أي: في الدين.
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم ما يوضح ذلك غاية الإيضاح، وذلك في قضية تأبير النخل لما رآهم يؤبرون النخل بقلع الذكر، وقال: (لمَ تفعلون؟ قالوا: لأن يلقح.
قال: إن أراد الله لكم شيئاً جاء، فتركوا التلقيح في ذلك العام، فجاء النخل كله بثمرٍ شيص -أي: ليس ملقحاً- فلما قالوا له: يا رسول الله! تركنا وكان كذا قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم) ، فأمور الدنيا لا تدخل في باب البدع، حتى اللباس، فلكل إنسان أن يلبس على طريقته ما لم يكن شعاراً خاصاً بغير المسلمين، كربط الزنار الأحمر الذي يشده أولئك الرهبان والقساوسة على وسطهم.
وكذلك القبعة التي هي شعار للنصارى أو لغيرهم، فهذا شعارٌ لهم لا ينبغي لمسلم أن يتزين به، أما بقية أنواع الأزياء، أو أنواع المآكل أو المشارب فجائز ما لم يكن في محرم، كأن يستعمل أواني الذهب والفضة، فذلك ممنوع.
وعلى أي طريقة جلس فلا مانع، سواءٌ جلس على مائدة أو على خوانٍ في الأرض، فكل ذلك لا حرج فيه، فقوله: (وشر الأمور محدثاتها) منصبٌ على من أحدث في الدين ما ليس فيه.
ولهذا جاء عن إمام دار الهجرة رحمه الله مالك بن أنس قوله: (ما لم يكن ديناً في أول الإسلام لن يكون ديناً في آخره) ، ويقول: (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا على ما صلح عليه أولها) .(97/7)
قوله: (وكل بدعة ضلالة)
قوله: (وكل بدعة ضلالة) : هناك جملة تأتي في بعض الروايات، وهي: (وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) ليتم التركيب المنطقي كما يقولون، فتكون كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، فينتج أن كل محدثة في النار، فهذا التركيب اختصره الراوي في هذه العبارة، وأسقط الجملة الوسطى: (كل محدثة بدعة) ، وهذا يتوافق مع المعنى اللغوي؛ لأن الشيء الذي أحدث لم يكن موجوداً، أي: ابتدع.
والبدعة مأخوذةٌ من الإبداع، والإبداع: إيجاد الشيء على غير هيئة سابقة، كما في قوله سبحانه: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:117] ، أي: خالق السماوات والأرض على غير مثال سابق حاكاه، ومنه قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنْ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9] أي: ما أنا أول من جاء بالرسالة، بل سبقني بالرسالات أنبياءٌ عديدون، وأنا جئت على أثرهم.
ويستوقفنا هنا مجيء الحديث الآخر: (من سنة سنةً حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) ، فقالوا: كيف يسن إنسان سنة حسنة؛ إذ يمكن أن يسن سنة سيئة، ولكن كيف يسن سنة حسنة؟ والجواب: إن معنى (سن سنة حسنة) ، أحيا سنة تركها الناس، أو أتى بعملٍ له أصلٌ في الإسلام.
وأصل هذا الحديث أنه لما ندب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين ليتصدقوا على الذين جاءوا مجتابي النمار وعليهم أثر الفاقة، وكان يوم الجمعة، فندب الناس ليتصدقوا فجاء بعضهم بالسويق وجاء بعضهم بثوب، وجاء بعضهم بالدرهم، إلى أن جاء رجلٌ بكيس يحمله في يده وألقاه بين يدي رسول الله وقد كادت يده تعجز عن حمله، فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وتتابع الناس بالمبالغ الكبيرة، فقال صلى الله عليه وسلم: (من سن سنة حسنة) ، أي: صاحب هذا الكيس سن سنة حسنة للمتصدقين، ونقلهم عن السويق والثياب وغير ذلك إلى المبالغ الكبيرة، فهذا له أصل وهو الندب إلى الصدقة، والناس مشوا على القليل فسن لهم سنة حسنة، فكان ممن سن سنة حسنة.
وقد جاء في الحديث أنه أحيلت الصلاة ثلاث مرات، ومما أحيلت فيه أنه كان المسبوق يأتي ويسأل الرجل في الصف: كم صليتم؟ فيشير إليه أنهم قد صلوا واحدة أو اثنتين، فيأتي بالركعتين أو بالركعة التي فاتته، ويلحق الإمام في الصلاة، ويسلم مع الإمام؛ لأنه أتم صلاته، فما كان فاته فقد أتى به ثم أدرك الإمام ومشى معه، فقال معاذ: لن أجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على حالة إلا وتابعته عليها، فجاء وقد صلوا بعض الصلاة، فدخل حالاً مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف معاذ ما الذي بقي عليه من صلاته فقام وأتمه، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن معاذاً قد سن لكم في الصلاة سنة فاتبعوها) ، فهذه سنة أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهنا يأتينا خبر عمر رضي الله عنه لما رأى الناس يصلون التراويح أوزاعاً، فكل قارئ خلفه عدد من الناس، وكل قوم يتبعون أحسن الناس صوتاً وقراءة، فقال عمر رضي الله عنه: (أرى لو جمعتهم على إمام واحد لكان خيراً) ، فجمعهم على إمام واحد، ثم ذهب إلى المسجد بعد ذلك فرآهم مجتمعين على إمام واحد فقال: (نعمت البدعة) ، فكيف يقول عمر: نعمت -وهو وصف مدح- لبدعة وفي الحديث: (وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) ؟ فهل المعنى: نعمت الضلالة؟ حاشا وكلا.
ونقول: إن عمر رضي الله عنه سن سنة لها أصلٌ، وذلك أنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ذات ليلة من العشر الأواخر في رمضان، وصلى في المسجد بعد أن انصرف الناس من صلاة العشاء، فكان يوجد بعض الناس فصلوا خلفه ثم انصرفوا، فسمع الناس بصلاة بعضهم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءوا في الليلة الثانية عدداً كثيراً، فلما خرج صلى الله عليه وسلم صلى كما صلى في الليلة الأولى، فصلى وراءه العدد الكثير ثم انصرف، ثم في الليلة الثالثة تسامع أهل المدينة، فلما صلوا العشاء مكثوا في مكانهم، فقال صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: (ما بال الناس؟ ألم يصلوا العشاء؟ قالت: بلى.
قال: وما شأنهم؟ قالت: ينتظرون خروجك لتصلي فيصلون بصلاتك كما صلى الناس من قبل، قال: قومي واطوي عنا حصيرك) وكانت تفرش له حصيراً في الروضة، فما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك حتى الصبح.
فهنا وقعت صلاة التراويح جماعة بإمام واحد وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما منعه من الاستمرار في ذلك إلا ما صرح به صلوات الله وسلامه عليه بقوله: (ما خفي عليَّ صنيعكم البارحة، وما بت بحمد الله غافلاً -لأنهم كانوا يتنحنحون، ويأخذون الحصباء ويرمون بها باب الحجرة، كأنهم يقولون: نحن هنا فاخرج إلينا- وما منعني إلا أني خشيت أن أخرج إليكم فتفرض عليكم) ، فترك الخروج من أجل العلة، وهي الشفقة عليهم من أن تفرض عليهم فلا يقدرون عليها.
فلما انتهى عهد الفرض ونزول الوحي والتشريع من جديد وأمن ذلك، جاء عمر، فما زاد على أن جمعهم على إمام واحد كما صلوا خلف إمامٍ واحد وهو النبي صلى الله عليه وسلم، فهي سنة، ولكن عمر سماها بدعة من حيث اللغة، أي أنه أول من جمع الناس على إمامٍ واحد، فكانت صورة مبتكرة، وإن شئت قل: مبتدعة، أي: لا نظير لها من قبل، فلم ينصب رسول الله صلى الله عليه وسلم إماماً للناس فيها، وكذلك أبو بكر رضي الله عنه، وكذلك عمر في أول خلافته، ولكنها في تلك اللحظات وجدت، لعدم وجود نظيرها من قبل.
ومن هنا قيل: إن عمر حينما قال: (نعمت البدعة) أراد المعنى اللغوي، أي: العمل الجديد الذي وجد، ولا يريد معنى البدعة التي استحدثت في الدين.
إذاً: كل محدثة أو كل أمرٍ محدثٍ بدعة، وتنصب على البدعة التي تقابل هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
وهناك مبحث طويل تكلم عنه صاحب الاعتصام وغيره في درجات البدع، فهناك بدع مكفرة وهي التي تتعلق بالعقائد، وهناك بدع مفسقة وهي التي تتعلق بالعبادات، وهناك بدع مخلة بالمروءة وهي ما كانت مغايرة للمندوب؛ فهي متفاوتة عند الفقهاء بحسب موضوعها الذي يتعلق بها، فمن أراد التوسع في ذلك فليرجع إليه.(97/8)
خلاف العلماء فيما لو أتى الخطيب بمقدمة فيها معنى الحمد والثناء
قال رحمه الله تعالى: [وفي رواية له: (كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يحمد الله ويثني عليه) ] .
يقولون: إن عبارات النحت هي التحميد والتسبيح والتهليل والحوقلة، فالتسبيح: سبحان الله، والتحميد: الحمد لله، والتهليل: لا إله إلا الله، والحوقلة: لا حول ولا قوة إلا بالله.
ويبحث الفقهاء فيما لو أن الخطيب أتى بلفظ سوى الحمد يؤدي معناه الشكر لله والثناء عليه، فالأئمة الثلاثة على أنه لا يجزئ، وعند الإمام أبي حنفية رحمه الله أن أي عبارة تفيد الثناء فهي مجزئة، كالحال في تكبيرة الإحرام (الله أكبر) حيث لا تنعقد الصلاة إلا بهذا اللفظ، عند الثلاثة خلافاً له.
فقوله: (يحمد الله) ، أي: يقول: (الحمد لله) ، وأحب أن أنبه على شيء كثر استعماله، حيث نسمع كثيراً من الخطباء يقولون: (إن الحمدَ لله) ، وهنا ورد: (الحمدُ لله) ، فهل جاء في القرآن (إن الحمدَ لله) أم أن كل الصيغ (الحمدُ لله) كالتي في الفاتحة والكهف ونظائرهما؟ يقول العلماء: إن (أل) في (الحمد) للاستغراق، فاستغرقت جميع المحامد، وحينما تقول: (الحمد لله) فهي إنشاء منك بحمدك لله، وحينما تقول: (إن الحمدَ لله) فإن (إن) تدخل على الجملة الخبرية، فالمبتدأ اسمها والخبر خبرها، فكأنك حين تقول: (إن الحمدَ لله) تخبر بأن الحمد لله، فهل الذي يخبر بأن الحمد لله يثبت له أنه حمد الله أم أن ذلك مجرد إخبار فلا يتناسب مع تقديس المولى سبحانه ولا مع أداء المعنى المطلوب، فكونهم يجدون هذا اللفظ مستجداً ويستسيغونه لا يخرجه عن أن يكون مغاير للمعنى الأصلي المراد بحمد الله سبحانه.
فقول: (إن الحمدَ لله) لا تؤدي المعنى الذي جاء في كتاب الله والذي جاء في سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو (الحمدُ لله) .
وبجانب الحمد يأتي بذكر الثناء والشكر، فهن ثلاث كلمات، أما الشكر فهو في مقابل النعمة، وفي الحديث: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله) ، وفي الحديث: (من صنع لكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى ترون أنكم كافأتموه) .
أما الثناء فهو امتداح شخص فعل خيراً ولو لم يكن للذي يثني عليه، كما لو سمعت بطبيب ماهر أجرى عملية جيدة لإنسان لا يتصل بك بصلة من الرحم ولا من القرابة ولا غيرها، فإنك تثني على هذا الطبيب لمهارته في فنه بأنه أجاد العمل، فأنت تثني عليه لمهارته في عمله.
أما الحمد فإنه امتداح لكمال ذات المحمود، لا لخيرٍ جاءك منه ولا لضرٍ دفعه عنك، ولا مقابل جميل أو معروف أسداه لغيرك ومهر فيه، إنما هو لكمال الذات ولو لم يصدر منها شيء، ولا يكون كمال الذات إلا لله سبحانه، ومن هنا قيل: إن (أل) في الحمد للاستغراق، وتستغرق جميع المحامد التي تحتويها لغات العالم، وتدركها قلوب الناس، فكلها مجموعة لله سبحانه، لكمال ذاته وتنزهه سبحانه وتعالى.(97/9)
ارتفاع صوت الخطيب وعلاقته باتخاذ المبلغين
قوله: (ثم يقول على أثر ذلك وقد علا صوته) وفي رواية له: (من يهد الله فلا مضل له) .(97/10)
حكم اتخاذ المبلغين في المساجد
قوله: (وقد علا صوته) صوت الإنسان مهما علا له حدود، فاتخاذ مكبرات الصوت ليعلو الصوت تابعٌ لهذا، وإلا فيحتاج إلى تأمل! فإن كان في حدود صوت المتكلم فهذا مطلوب، ولا مانع من ذلك، وله أصلٌ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء في مرضه الأخير وجلس على يسار أبي بكر كان يصلي، ولما لم يكن صوت النبي صلى الله عليه وسلم يسمع الناس كان أبو بكر يرفع صوته مبلغاً عن رسول الله.
ومن هنا اتخذ المبلغ، وسميت المبلغة أو المكبر في المسجد النبوي بذلك؛ لأن المبلغ يصعد عليها ويكبر تكبيرات الانتقال ليتابع المأموم حركات الإمام في صلاته.
وكان في المسجد النبوي مكبرتان وكانت الثانية في مؤخرته، وتستعمل المكبرتان وقت الموسم إذا كثر الناس، فإذا سمع من في المكبرة المتأخرة صوت المكبر في المقدمة يبلغ الناس عن الإمام، وكان العلماء رحمهم الله في دروسهم إذا كبرت الحلقة يتخذون مبلغين، فيقف شخص في الوسط من هنا ومن هنا ومن هناك، والشيخ أو العالم يقرأ الحديث، والذين حوله يأخذون منه مشافهة ويكتبون أو يسمعون، والمبلغون يعيدون لفظ الحديث لمن وراءهم فيأخذون الحديث بواسطة المبلغ.(97/11)
قيام مكبرات الصوت مقام المبلغ
وقد يقول قائل: لقد وجدت هذه الأجهزة وهي مبلغة عن الإمام في قراءته وفي تنقله وحركات انتقاله، فلماذا نحتاج إلى المبلغ؟ ونقول: في بادئ الأمر كان يقع في الموسم أنه قد ينقطع التيار، وقد يتعطل الجهاز فيقع ارتباك في الصلاة في هذا المسجد بالذات، فوجود المبلغ أقل ما يقال فيه: إنه سنة سابقة، وإذا وجد هذا الجهاز فيكون عن طريقه أيضاً وقع هذا التبليغ، وعدم تغيير الشيء الثابت وعدم تغيير ما عليه الناس هو الأولى، كما قال مالك رحمه الله: إن أصحاب رسول الله قد تفرقوا في الأمصار، وكلٌ قد ذهب بما سمع من رسول الله، وتغيير أو انتقال الناس عما كانوا عليه ثقيل، فلا بأس بإمرار ذلك.
ولكن إذا كان الصوت مزعجاً، ومعنى الإزعاج أن يصدر فيه تشويش، فيعالج، وقد جاء عن أحمد رحمه الله وعند المالكية تعدد المؤذنين للأذان الواحد للفريضة الواحدة، وقد أنشأ عثمان رضي الله عنه الأذان الأول للجمعة لحاجة الناس إليه، كما كان قد شرع أذان أول في صلاة الفجر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كي يرجع القائم ويتسحر الصائم، فكأن الأذان الأول في الفجر وجد بعد أن لم يكن؛ لحاجة الناس إليه، وعثمان رضي الله عنه خليفة راشد، وفي الحديث: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) ، فرأى من المصلحة أن يزيد أذاناً قبل الوقت وفي السوق؛ ليعلم الناس بقرب الوقت.
فإذا دعت الحاجة إلى تعدد المؤذنين للوقت الواحد في المسجد الواحد فلا مانع، حتى قيل: يجوز التعدد إلى سبعة أشخاص يؤذنون.
وأما كيف يؤذنون فقالوا: إن كان المسجد فسيحاً والبلدة منتشرة وقف كل واحد في جانب، ويؤذن كل واحد إلى الجهة التي تليه.
وبعضهم يقول: يؤذن الأول، ثم الثاني ثم الثالث، إلا إذا كانت صلاة المغرب فإنهم يؤذنون في وقت واحد ما لم يكن فيه تشويش، فإذا لم يكن تشويش فلا مانع.
ونحن نقول أيضاً: إذا نظمت هذه الأجهزة بحيث لا يقع منها تشويش بعضها على بعض، أو فيما كان مداه أبعد، فلا مانع في هذا.
وما يوجد الآن من بعض المساجد التي لها أجهزة تبليغ -وفي يوم الجمعة بالذات- فلا ينبغي رفع الأصوات في تلك المساجد حتى تصل إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الأصل، وبها يقع التشويش على الناس.
فاتخاذ هذه الأجهزة له أصل في السنة، وكان صلى الله عليه وسلم يرفع صوته.
وأما إذا كان المستمعون لا يبلغهم صوت الإمام لكثرتهم، فالقول بأن عليه أن يبلغ الجميع فوق طاقته.
وأما هل يتخذ مبلغين، فإنه لا يتخذ مبلغين، وما حدث ذلك في إبلاغ الخطبة قط، ولكن: من كان يستمع فعليه الإنصات إلى ما يسمع، ومن لم يبلغه صوت الخطيب فلم يسمع شيئاً فهناك من يقول: يصغي حتى لا يشوش على غيره.
وهناك من يقول: له أن يشتغل بالتلاوة بدلاً من ضياع الوقت.
فهناك حاجة إلى إبلاغ الصوت لجميع المستمعين، فاتخاذ هذه الأجهزة إنما هو لإسماع وإبلاغ جميع الحاضرين خطبة الإمام، ولأن الخطبة إنما هي إبلاغ وبيان لما ينبغي عليه بيانه، وفيها تلقي الموعظة والإرشاد في أمر ديني أو دنيوي من على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواءٌ أكان ذلك في مسجده صلى الله عليه وسلم أم في أي منبر في العالم؛ فإنه تابع لمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: امتدادٌ لسنته في بقاع الأرض.
فإن الإنسان إذا سمع الموعظة، وسمع التوجيه من بيت من بيوت الله، وعلى منبر يحكي سنة رسول الله، كان أدعى إلى قبولها، وكان أرجى إلى سماعها وتنفيذها، والله تعالى أعلم.(97/12)
الهداية وتعلقها بإرادة الله سبحانه وتعالى
قال المصنف رحمه الله: [وفي رواية: (من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) ، وللنسائي: (وكل ضلالة في النار) ] .
يؤيد قوله: (من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) قوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير:28-29] ، فمن هداه الله سبحانه وتعالى فلا مضل له، ومن أراد الله إضلاله فلا هادي له.
فإن هداه فبحكمته وفضله، وإن ضله فبحكمته وعدله، وليس لإنسان أن يقف يتساءل لماذا فعل هذا؟ ولماذا فعل هذا؟ فهذه قضية منتهية في أمر العقائد؛ لأنه إن هدى إنساناً فذلك فضل منه عليه، وإذا حرم إنساناً من الهداية فإنما أمسك عنه حقه، أي: حق الله سبحانه، وليس لمخلوق أن يعترض على الله، وليس لك حق في هذا، فالمسألة تبقى على عمومها: (من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) .
فـ أبو جهل وأبو لهب ما أراد الله هدايتهما، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـ أبي طالب: (يا عم! قل كلمة أحاج لك بها عند الله) ، ولو بذل كل جهده ما وسعه ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.(97/13)
كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة [4]
حث النبي صلى الله عليه وسلم على قصر الخطبة يوم الجمعة، وجعل ذلك من علامة فقه الخطيب، وكان يخطب صلى الله عليه وسلم بسورة (ق) ، لكونها مناسبة للموعظة.
وقد حث الشرع المصلين على الإنصات للخطبة حتى يتحقق الغرض المقصود بها من الاتعاظ والاعتبار.(98/1)
أهمية قصر الخطبة يوم الجمعة
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه) رواه مسلم] .
الجمعة -كما نعلم- من شعائر الإسلام، وهي فرض عين، لا كما يظن بعض الناس أنها سنة مؤكدة، وهي فريضة اليوم وليست نيابة عن الظهر، والعناية بيوم الجمعة شديدة، وهي عيد من أعياد المسلمين يعود عليهم كل أسبوع، وفيه لهم خيرٌ كثير، وقد جاء في كتاب الله من العناية بالجمعة وأدائها قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:9-10] .
وعاتب الله أقواماً خرجوا وانفضوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يخطب يوم الجمعة، وجاءت فيها آثار عن النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوامٌ عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم) ، وجاء أيضاً: (من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير عذر طبع الله على قلبه) ، وذلك أن في يوم الجمعة اجتماع المسلمين من أهل القرية أو المدينة، وفيها يتعرف أهل البلد بعضهم على بعض، ويتفقد بعضهم أحوال بعض، فهو اجتماع إجباري ومؤاخاة إلزامية.
ثم مع ذلك تلقى المواعظ من على المنبر في هذه الشعيرة العظيمة، وبهذا يتميز الإسلام عن غيره، فمن خصائص الإسلام باب الإعلام، وهو إعلام إلزامي فرض في كل يوم جمعة، يعلم الخطيب الحاضرين المصلين بما يراه من باب التوجيه والنصح والإرشاد، ويعالج ما عساه أن يكون طارئاً موجوداً بين الناس.
وهنا يسوق المؤلف رحمه الله تعالى من مباحث يوم الجمعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مقارناً بين الصلاة والخطبة: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه) ، والمئنة: العقل والحلم، من التأني، وهذا بيان منه صلى الله عليه وسلم في المقارنة بين الصلاة والخطبة أنه لا ينبغي تطويل الخطبة على وقت الصلاة، وينبغي إطالة القراءة؛ لأن فيها فرصة إسماع المجتمعين آيات من كتاب الله، وفيه كل خير، وأما قصر الخطبة فإنه علامة على بلاغة الخطيب وعلى قدرته على التحكم في الكلام؛ لأنه كما قيل: خير الكلام ما قل ودل.
وقد جاء عن الصديق رضي الله عنه أنه سمع شخصاً يخطب وأطال فقال: يا هذا لا تكثر فينسي آخر الكلام أوله، فإذا بدأت في موضوع ثم أطلت وتتبع المستمع معك ما تورد عليه، فإنه بإطالة الخطبة يحتفظ بآخر الكلام ويكون قد نسي أوله.
وحقيقة الأمر في الخطبة أنها تشتمل على الموعظة وعلى آية من كتاب الله وعلى الشهادتين والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الموضوع الذي يريد أن يتكلم فيه، فإذا ألم بالموضوع، وجمع أطرافه في كلمات موجزة فقد أجاد، وقد قالوا: مقياس بلاغة الخطبة مطلقاً، أي: سواء أكانت في الجمعة أم في غيرها، أنه إذا ما خرج مستمع وسأله من لم يستمع فقال: فيمَ كانت الخطبة فإنه يستطيع أن يوجزها في جمل، فإذا كانت الخطبة في إصلاح ذات البين، وذكر الخطيب الأحاديث في ذلك، وحث على السعي في ذلك، وبين أجر الساعين فيه، فهذا موضوع متكامل أمكن للسامع استيعابه.
أما إذا أخذ الخطيب موضوعاً، وانتقل منه إلى موضوع آخر، ولم يستوف الموضوع الأول، ثم انتقل من الثاني إلى الثالث، وهكذا يتنقل بين عدة مواضيع، وهو لم يستوف موضوعاً بعينه، فيكون قد شتت على السامع ذهنه في عدة مواضيع، ولم يعطه موضوعاً متكاملاً، فلو أنه قسم تلك المواضيع على خطب متعددة، ودار حول الموضوع في أسبابه ونتائجه وعلاجه خرج المستمع بنتيجة مستوفاة، والذي يستطيع أن يفعل ذلك من كان قادراً على التحكم في الكلام، حيث يجمل ذلك كله ويوجزه ويعطيه للمستمع.
أما إذا لم يكن مستطيعاً ولا قادراً على البيان فإنه يحاول كالذي يحاول صعود جبل وينزل، ويصعد عدة مرات من أجل أن يصل، وهذا بيان من النبي صلى الله عليه وسلم في عمل ما يشبه المقارنة، فأي الأمرين يكون أطول من الآخر الخطبة أم الصلاة؟ ولكننا في هذه الآونة نجد المتفشي خلاف ذلك، وكثيراً ما نجد أن زمن الخطبة أطول من زمن الصلاة، وكأن الخطيب يراعي ما تعوده السامعون من إطالة الخطبة وكثرة الكلام، ولو اختصر ربما اتهموه بالعيِّ واتهموه بالعجز وعدم استطاعة الخطبة، ومن أجل هذا ربما يراعي مشاعر أو اعتقادات الحاضرين، وهذا أعتقد أنه خلاف الأولى، فالأولى أن يكون حسب السنة، وهو أن تكون الخطبة موجزة ليستوعبها الناس، ويعمد إلى موضوع معين من أبرز ما يكون من قضايا المجتمع، سواءٌ من مواضيع الأسرة أم كان غير ذلك، فيعالجه بعبارات موجزة، ولا مانع أن يقسم علاج الموضوع إلى عدة مراحل في عدة خطب في عدة أيام من أيام الجمعة.(98/2)
قراءة النبي صلى الله عليه وسلم سورة (ق) على المنبر يوم الجمعة
[وعن أم هشام بنت حارثة بن النعمان رضي الله عنها قالت: (ما أخذت {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1] إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس) ، رواه مسلم.
] بعد أن ذكر المؤلف قصر الخطبة وطول الصلاة، ذكر عن أم هشام أنها تقول: (ما أخذت سورة ق إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما يخطب من على أعواد المنبر) ، والكلام على هذا الحديث من جهتين:(98/3)
لا معارضة بين حث النبي صلى الله عليه وسلم على قصر الخطبة وبين قراءته سورة (ق)
الجهة الأولى: المقارنة بينه وبين حديث بلال المتقدم في قصر الخطبة، فهل تكون الخطبة قصيرة وقد قرأ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة (ق) ؟ الجهة الثانية: هل سورة (ق) لها مناسبة مع يوم الجمعة؟ فهاتان الجهتان هما موضوع الحديث أو الكلام عن هذا الحديث النبوي الشريف.
أما قراءة السورة الكريمة مع الحث على قصر الخطبة فلا تعارض بينهما؛ لأنه كان صلى الله عليه وسلم يطيل الصلاة، وقد جاء في بعض الروايات أنه كان يُؤذن لصلاة الظهر، ثم تقام الصلاة، فيذهب الذاهب إلى البقيع ويتوضأ ويأتي ويدرك الركعة الأولى، فإذا كان على هذا الحد وصلاة الظهر أربع ركعات، فمعناه أنها بالنسبة إلى سورة (ق) تكون أطول، فهما ركعتان على هذه الحالة.
ثم هل كان صلى الله عليه وسلم يضيف مع سورة (ق) موعظة أخرى أو يكتفي بهذه السورة؟ فبعضهم يقول: كان يكتفي بها بعد حمد الله والصلاة والسلام على رسول الله والشهادتين، فيكتفي بسورة (ق) وهي كافية للموعظة.
وهنا يقال: إن الأساس في خطبة الجمعة والموعظة إحياء القلوب وجلاءها من صدئها، وجلاءها عن عماها، وتنبيه الغافل، وتذكير الناس، والموعظة بما يجعلهم يتابعون العمل، وكلما طال الزمن يأتي يوم الجمعة فيذكرهم، كما قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ} [الحديد:16] ، {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد:16] ، فترك الموعظة يترك القلوب تكسل عن العمل فتقسو، ولكن مع تكرار الموعظة كل أسبوع، في كل جمعة، تصير القلوب رطبة بذكر الله، ولذا جاء بعد هذا السياق قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد:17] ، فكذلك يحيي القلوب التي ماتت بالموعظة، فإذا كان الأمر كذلك فإنه يكون مع الموعظة التوجيه والإرشاد.
وقد كانت الخطبة تستعمل لغير الجمعة أيضاً، كما كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يبلغ أمراً أو استجد أمر يقول: (احضروا المنبر) ، فيحضرون ويجتمعون فيخطب، فيقول: (ما بال أقوامٍ يقولون كذا وكذا) ، ويبين صلى الله عليه وسلم ما يريد أن يبينه، ولم تكن الخطبة على المنبر خاصة بالجمعة، بل بكل إعلام، وبكل توجيه وإرشاد، وما كانت معالجة القضايا خاصة بخطبة الجمعة، بل تعالج في أي وقت، ولكن الناس الآن لم يألفوا ذلك، وأصبحت معالجتها في النوادي والمؤتمرات وغيرها، فقراءة سورة (ق) من حيث إطالة الصلاة وقصر الخطبة لا تعارض بينهما.
وفي قولها: (ما أخذت سورة (ق) إلا عن لسان رسول الله) نفهم منه أن أخذ القرآن كله كان عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام، وأخذه جبريل عن رب العزة سبحانه، فسند القرآن الكريم سمعه أصحاب رسول الله من رسول الله بدون واسطة، وسمعه رسول الله من جبريل بدون واسطة، وسمعه جبريل من رب العزة بدون واسطة.
وعلى هذا يكون سند القرآن بهذه المثابة من الوضوح والجلاء والقوة لا يتطرق إليه شك، ونعلم أيضاً أن أخذ القرآن لا يكون وجادة أبداً، أي: لا يكون أخذه من المصحف قراءة، بل لا بد من تلقيه سماعاً بسند متصل من قارئ عالمٍ بأحكام القراءة، لأن هناك ما يسمى بالرسم العثماني في المصحف الشريف، والرسم العثماني يختلف عن رسم الإملاء الموجود عند الناس اليوم، والقرآن تلاوة وسماع.
وقد كتبوا الوحي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء إنسان ليقرأ من المصحف فقد يقرأ بعض الكلمات على غير ما أنزلت، وعلى غير ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما وقع الخلاف في القراءات وجاء حذيفة إلى عثمان رضي الله عنه قال: أدرك الناس قبل أن يختلفوا في كتاب الله كما اختلفت اليهود والنصارى، قال: وما ذاك؟ قال: كنت بأذربيجان واجتمع الجند من الشام ومن العراق، فأخذ بعضهم يعترض على قراءة بعض.
فعمد عثمان رضي الله عنه وأخذ الصحف من عند حفصة رضي الله عنها التي كان كتبها أبو بكر رضي الله عنه، وكانت عنده في خلافته، ثم انتقلت إلى حفصة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقل عثمان تلك الصحف وجعلها في مصحف واحد، وكتب منها خمس نسخ أو ست نسخ، وأرسل بكل نسخة إلى مصر من الأمصار، ومع كل مصحف قارئ يقرئ الناس ليأخذوا القرآن سماعاً وتلقياً.
وهكذا تخبر الصحابية الجليلة: أنها ما أخذت سورة (ق) إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما كان يقرؤها كلها في الجمعة على أعواد المنبر، والمنبر إنما صنع في السنة الثامنة من الهجرة، أي في أواخر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا الجانب في أخذ الصحابية الجليلة رضي الله عنها لهذه السورة الكريمة، وعلاقة قراءة سورة (ق) مع الحديث المتقدم.(98/4)
حكم قراءة سورة (ق) في خطبة الجمعة وعلاقتها بيوم الجمعة
وبقي حكم قراءة هذه السورة في الخطبة، وعلاقة هذه السورة بيوم الجمعة.
أما حكمها فيتفق الجميع على أنه ليس بواجب، وأنه من شاء قرأها ومن شاء قرأ غيرها.
أما علاقتها فتقدم لنا في القراءة في فجر يوم الجمعة أنه جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ - أي: أحياناً - سورة السجدة وسورة (هل أتى على الإنسان) ، وقالوا في ذلك: إن يوم الجمعة هو يوم أبينا آدم، وهو أول وجود الخليقة؛ لأن آدم عليه السلام إنما خلق يوم الجمعة، وأسكن الجنة يوم الجمعة، وسجد الملائكة له يوم الجمعة، وهبط إلى الأرض، وتيب عليه يوم الجمعة.
فقالوا: يوم الجمعة يوم آدم، ويوم الإثنين للنبي صلى الله عليه وسلم، ففيه ولد، وفيه أنزل عليه، وفيه دخل المدينة، وفيه توفي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن سورة السجدة و (هل أتى على الإنسان) فيهما قصة خلق الإنسان، وفيهما ذكر المعاد والجزاء، فيذكر الإنسان بمبدئه ومعاده ليعمل لذلك اليوم، فكذلك سورة (ق) ، في علاقتها بيوم الجمعة، وعلاقتها بيوم البعث، وقد ذكر فيها أكثر علامات أو دلائل البعث على المنكرين.(98/5)
سورة (ق) وما فيها من فوائد وعبر
وانظر إلى مستهل السورة حيث يقول تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1] ، والحروف المقطعة كـ (ق) و (ص) و (ن) و (طه) و (يس) و (ألم) سواءٌ كانت حرفاً واحداً أم حرفين أم ثلاثة أم أكثر من ذلك، يعجز إنسان أن يقول فيها قولاً قاطعاً؛ لأنها من أسرار ومعجزات الكتاب الكريم، وغاية ما قال العلماء إنها حروف مقطعة بمثابة التحدي الرمزي، فلما تحدى الله العرب بقوله تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} [الطور:34] ، وعجزوا عن المماثلة بسورة منه أخبرهم تعالى: أن هذا الذي عجزتم عنه ليس بغريب ولا بعيد عنكم، إنما ألف من لغتكم العربية قرآناً عربياً مبيناً، ومجموع حروفه من تلك الحروف التي تتكلمون بها، وتنظمون بها أشعاركم وخطبكم، فهو من (ق) و (ص) و (ن) و (ألم) و (ألر) و (كهعيص) ، فكيف تعجزون عن هذه المادة الأساسية التي منها نظم؟ وقالوا: هذا بمثابة من يأتي إلى أمة بجهاز ويقول: هذا جهاز يحفظ الكلام، فيقول إنسان: ما الذي فيه؟ وهل يمكن أن نعمل مثله،؟ فقيل له: اعمل مثله فعجز، فقيل له: لماذا تعجز فهذا الجهاز عبارة عن أسلاك، وقوى مغناطيسية وشمعات، ثم أتي بالمواد الأساسية لجهاز مثله، وقيل له: اصنع جهازاً مثله، فإذا به ينظر ويعجز أن يصنع مثله مع وجود المادة الأساسية بين يديه.
وقد استدل العلماء على ذلك الاستنباط بأن سور القرآن التي تبدأ بالحروف المقطعة غالباً ما يأتي ذكر القرآن بعدها كقوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1] ، وقوله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص:1] ، وقوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:1-2] أي: القرآن، وقوله تعالى: {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس:1-2] ، وقوله تعالى: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} [طه:1-2] ، فقالوا: يعقب تلك الحروف المقطعة الحديث عن القرآن، فكأنه يقول في مثل قوله تعالى: {يس * وَالْقُرْآنِ} [يس:1-2] : إن القرآن جمع من هذه الحرف.
والله أعلم بالحقيقة.
وفي قوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1] يقسم الله سبحانه وتعالى بالقرآن مع أن منكري البعث ينكرون القرآن، فكيف يقسم لهم بما ينكرونه؟ والجواب: أن ذلك من باب أن إنكارهم واهٍ وملغى لا قيمة له؛ لأنه عن جهالة.
وقوله تعالى: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ} [ق:2] يعني ما كذبوا بالقرآن، ولكن هذا إضراب {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} [ق:2] ، فعجبوا أن الوحي يأتي إلى محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى عنهم: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ} [الزخرف:31-32] ، فالله يخبرهم أن الأكل والشرب الذي نهايته إلى فناء قد قسمه بينهم، ورحمة ربك أعظم من ذلك فلن يتركها لاختيارهم {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف:32] لا والله، فنحن قسمنا بينهم ما هو أدنى من ذلك مقداراً وهو المعيشة {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف:32] .
قال تعالى: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:2-3] ، فقالوا: عجيب أن ينذرنا بالبعث، ثم استنكروا فقالوا: (أئذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد) ، وقد أجاب الله تعالى عن استبعادهم بقوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ} [ق:4] ؛ لأنهم يقولون: بعد أن نغيب ونضل في التراب ما الذي يجمعنا؟ ومن ذلك ما ذكره تعالى في آخر سورة يس {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78] ، فقد جاء هذا الرجل بعظم بال قد رم من طول الزمن، ثم فتته بيديه، ثم قال: يا محمد! من يحيي هذه العظام؟ في موقف المتحدي المستبعد إحياء العظام وهي رميم، وقال تعالى عنه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:78] فنسي وجوده، ونسي كيف وجد، وبكل هدوء يجيء الجواب: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:79] ، ثم ذكر الأدلة على قدرته على ذلك، ثم قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] .
وهنا يقول تعالى عنهم: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:3] فهم يستعبدون هذا؟ لأنهم صاروا تراباً، واختلط العظم بالتراب، وذهب اللحم والدم في حسبانهم فلم يبق شيء، قال تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق:4] ، فعلم الله سبحانه بكل أجزاء الإنسان، وما تنتقصه الأرض من تلك الأجسام، وما يغيب فيها وما يضل في ثراها، فالله سبحانه لديه كتابٌ حفيظ بذلك كله.
فالله تعالى يقول: (قد علمنا) ولم يقل: (سنعلم) ، {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق:4] .
قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:5] أي: مختلط عليهم.
ثم قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6] أي: ألا ينظرون إلى هذا الخلق العظيم، فهذه السماء بنيت وزينت وليس فيها من شقوق ولا فروج، فهذا الخلق متى رفع بغير عمدٍ ترونه؟ ومن الذي خلقه ورفعه،؟ قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57] .
قال تعالى: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} [ق:7] ، وهذه الجبال من نصبها؟ ومن جمع حجارتها؟ قال تعالى: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [ق:7] صنف بهيج متغاير، فالتربة واحدة والماء واحد ولكن النبات مختلف {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق:8] .
قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق:9-10] فأنبت بهذا الماء جنات وحب الحصيد ونخلاً وزيتوناً ورماناً، فالتربة واحدة والماء واحد، فمن الذي غاير بين هذه النباتات في أشكالها وفي ثمارها وفي طعومها وفي أوضاعها؟ قال تعالى: {رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:11] أي: كما أحيينا البلدة الميتتة بالماء، كذلك خروجكم، فأقام الأدلة على البعث.
وأدلة البعث في القرآن أربعة، وهنا جاء أكثرها وهي ثلاثة: فمن أدلة البعث خلق السماوات والأرض، قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57] .
ومن أدلة البعث خلق الإنسان، قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْييِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:78-79] .
ومن أدلة البعث إحياء الأرض بعد موتها، قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} [يس:33] ، والآية الأخرى: {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى} [فصلت:39] .
وهنا أيضاً قال تعالى: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} [ق:10] إلى قوله تعالى: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:11] واسم الإشارة (ذلك) راجع إلى المصدر الموجود في (أحيا) أي: أحيينا به بلدة ميتة، ومثل ذلك الإحياء للبلدة للميتة يكون إحياؤهم.
وبقي من أدلة البعث: إحياء الموتى بالفعل، وقد جاء ذلك في قتيل بني إسرائيل في قصة البقرة التي أمروا بذبحها، والألوف الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت فقال لهم الله: {مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة:243] ، وطلب إبراهيم: {رَبّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:260] فهي عملية مشاهدة في طيور متعددة.
والعزير وحماره وطعامه الذي لم يتسنه كذلك، وحوت موسى عليه السلام، الذي كان قد طبخ ليتغدى به، فإذا به عند الماء يأخذ طريقاً في البحر سرباً.
في مقدمة هذه السورة الكريمة إقامة الأدلة على البعث من ثلاثة أوجه، وهي من مجموع أربعة أوجه في كتاب الله، فمن هنا كان صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة (ق) .
ثم تأخذ السورة بعد ذلك في بيان ذلك اليوم، وفي جزاء المحسنين، إلى آخر ما في السورة الكريمة.
وهل كان صلى الله عليه وسلم يقرؤها دائماً؟ قال بعض العلماء: في غالب أحواله، ولم يكن ذلك بصفة دائمة، وكما قدمنا فإنه لا يتعين على كل خطيب أن يقرأ بها، فإن قرأ بها فلا مانع، وإن قرأ ببعضٍ منها فلا مانع، وإن قرأ غيرها فلا مانع، وبالله تعالى التوفيق.(98/6)
ما يجب على المستمعين حال الخطبة
[وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً، والذي يقول له أنصت ليست له جمعة) رواه أحمد بإسناد لا بأس به، وهو يفسر حديث أبي هريرة في الصحيحين مرفوعاً] .
بعدما فرغ المؤلف رحمه الله مما يتعلق بالإمام والخطيب فيما يتعلق بموضوع الخطبة والمقارنة بينها وبين الصلاة، وما يتخيره الخطيب من المواضيع من كتاب الله أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بما يتعلق بالمستمعين، ويذكر لنا ابن عباس رضي الله عنهما ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في حق من يتكلم والإمام يخطب يوم الجمعة، والتقييد بيوم الجمعة ربما يخرج غير الخطبة في يوم الجمعة كالاستسقاء وكالعيدين، وكالخطب العادية التي هي لأمور اجتماعية.
وبعض العلماء يرى أن كلمة (يوم الجمعة) جاءت لقضية عينٍ، وليس لها مفهوم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (والإمام يخطب) ، معناه: أن الكلام قبل بدء الإمام بالخطبة ليس ممنوعاً؛ لأن بعض الناس يقول: إذا صعد الإمام المنبر امتنع الكلام، ومعلوم أنه حينما يصعد لا يبدأ بالخطبة، وإنما يسلم على الحاضرين، ثم يقوم المؤذن فيؤذن بين يدي الخطيب، ثم يشرع الخطيب بعد ذلك في خطبته، فبعض الناس كان يقول: يمنع الكلام حينما يصعد الإمام المنبر، كما قالوا: إن مجيء الإمام يمنع الصلاة، وصعوده المنبر يمنع الكلام، والمعنى: أن مجيئه يمنع الصلاة، كما في الحديث: (إذا أتى يوم الجمعة فليصل ما تيسر له، فإذا صعد الإمام المنبر فلينصت) ، فبعضهم يقول: مجيء الإمام يمنع الصلاة، وكان الإمام في المسجد النبوي يخرج من باب ما بينه وبين المنبر إلا خطوات، فمعناه أنه لم يعد هناك وقت لمن يريد أن ينشئ صلاةً من جديد؛ لأنه سيتعارض في صلاته مع بدء الإمام في الخطبة، فإذا كان الأمر كذلك فنعم، فمجيء الإمام يمنع الصلاة أي النافلة.
ومن هنا قال العلماء: على إمام الجمعة وخطيبها إن كان بيته ملاصقاً للمسجد -كما يوجد في بعض المساجد- أن لا يخرج إلى المسجد ولا إلى المصلين إلا بعد أن يؤذن على السطح أو على المنارة الأذان الأول، فيخرج لوقته من أجل أن يصعد إلى المنبر، وإذا كان بعيداً وأراد أن يبادر فإنه يجلس في مكان قريبٍ من المنبر، حتى إذا قام من مكانه عرف المؤذن مكانه وجاء إلى المنبر.
وهنا نص الحديث: (والإمام يخطب) ، فقبل الخطبة لا مانع، ويقول صلى الله عليه وسلم هنا في الحديث: (من تكلم والإمام يخطب) ، وهذا عام، ويستثنى من ذلك من تكلم مع الخطيب، فإذا تكلم المتكلم مع الخطيب فليس داخلاً في هذا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب ويقوم الرجل ويسأل ويجيبه صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، قالوا: لأن الحث على الإصغاء من أجل أن لا يفوت المتكلم شيء من الخطبة، وهذا إنصات إجباري، وإلا فتلغى جمعته؛ لأنه لو تكلم كل إنسان بكلمة لحصل اللغط، ولما سمعوا الخطبة، ولما كان للخطبة كبير فائدة، فألزم الجميع بالإصغاء، وكلٌ يسكت نفسه، حتى إنك لا تقول لصاحبك: أنصت، فما يجوز لك هذا، فأنصت أنت عن قولك لصحابك أنصت، فلو أن إنساناً قال للثاني: أنصت أنصت.
لقال غيره: أنصت، ويلزم من هذا التسلسل إلى النهاية، فكلٌ شخص عليه أن يسكت نفسه، فإذا ما أنصت الجميع أمكن للخطيب أن يوصل صوته إلى أكثر عدد، وأمكن للجميع أن يستفيدوا من صوته.
أما إذا كان المتحدث مع الإمام فالإمام سيوقف الخطبة، ويتكلم مع من كلمه، فلا يفوته ولا غيره شيء من كلام الخطيب؛ لأنه سيوقف الخطبة حتى يجيبه على سؤاله أو كلامه، ثم يستأنف خطبته.
ونعلم جميعاً قصة الأعرابي الذي جاء ودخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال: يا رسول الله ادع الله لنا أن يسقينا، وشكا له تقطع السبل وجفاف الأراضي ونحو ذلك، فرفع صلى الله عليه وسلم يديه وهو في الخطبة واستسقى وسقوا، ثم جاء بعد ذلك وقال: ادع الله أن يرفعها عنا.
فدعا الله وسأله، وقد كانوا لم يروا الشمس أسبوعاً، فانقشع السحاب وخرجوا يمشون في الشمس.
وهكذا يأتي الرجل والرسول يخطب فيقول: يا محمد! علمني الإسلام، فيترك الخطبة، وينزل إلى الرجل ويعلمه، ثم يصعد المنبر ويكمل خطبته.
فالكلام مع الخطيب ليس فيه شيء، وكذلك كلام الخطيب مع الحاضرين، فحينما دخل رجل وجعل يتخطى الرقاب، ترك صلى الله عليه وسلم الخطبة وقال: (اجلس فقد آنيت وآذيت) .
وآخر جاء وجلس، فترك الخطبة وسأله: (أصليت ركعتين -أي: التحية-؟ قال: لا.
قال: قم فاركعهما وتجوز فيهما) .
إذاً: فكلام الإمام مع المصلي أو أحد المصلين مع الإمام خارجٌ عن هذا النهي؛ لأنه لا يفوت مصلحة، بل يأتي بمصلحة جديدة.
وتشبيه النبي صلى الله عليه وسلم من تكلم والإمام يخطب يوم الجمعة بما شبه به القرآن الكريم علماء بني إسرائيل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها، فحملوها بالقوة، ولكن لم يحملوها بالفعل، كمثل الحمار يحمل أسفاراً، والأسفار: جمع سفر، وهي الكتب، كما أن الحمار يثقل ظهره ثقل الكتب، ولم يستفد منها بشيء، وكما قيل: كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول فالإبل تحمل الماء فوق ظهرها وهي في الصحراء، وتموت من العطش لأن صاحبها ما أعطاها الماء، فالماء على ظهرها ما نفعها، فكذلك علماء بني إسرائيل لما حملوا التوراة ولم يعملوا بها كانت عليهم كمثل الأسفار على ظهر الحمار، وهو أشبه ما يكون من ضرب المثل بالبلادة، فيثقل ظهره بحمله، ولا يستفيد منه شيئاً.
فكذلك الإنسان حمل أمانة المجيء إلى الجمعة وفضلها كما في الحديث: (الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما) ، ومع أنه يحمل هذا العبء وهذه الأمانة ولم ينتفع بها؛ لأنه يتكلم مع صاحبه والإمام يخطب، فبين يديه علم وهو إنما جاء لخيرٍ، فلم يستفد منه، وهذا التشبيه -كما قال أحمد - مثل السوء.
فقد وقع الخلاف في الرجل يهب الهبة ثم يعود فيها، فتناظر أحمد مع الشافعي، فـ الشافعي قال: ليس في ذلك شيء، وأما قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (العائد في هبته كالكلب يقيئ ثم يعود في قيئه) ، فإن الكلب لا تكليف عليه، فلا حرمة في ذلك.
فقال أحمد: ولكن ليس لنا مثل السوء، فالرسول ضرب مثلاً بالكلب؟ لأنه مثل سوء وتشبيه سيئ، فهل ترضى لنفسك أن تكون كالكلب؟ فاحتج أحمد على الشافعي بهذا.
وكذلك هذا المثال فيه بيان لتقبيح الفعل ونهي عنه.
ثم جاء في تتمة هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت) .
فالذي يتكلم كالحمار يحمل أسفاراً، والذي يقول له: اسكت، مرتكب لمنكر، فقوله: اسكت نهي عن منكر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القمة من العبادات؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أوجب الواجبات، ولكن في هذا الوقت صار إنكاره منكراً؛ لأنه تلغى في حقه الجمعة، ويكلف بإعادة صلاة الظهر، فتلغى الجمعة وينوب عنها الظهر، أو تلغى كونها جمعة بما فيها من أجر كما في الحديث: (والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما) ، ويبقى إجزاء الفرض وهو حكم الظهر، فيكون كأنه صلى الظهر في يوم السبت أو الخميس، أما فضيلة الجمعة فلا يحصل عليها.
وبعضهم يقول: لا جمعة له ولا صلاة له، وعليه أن يأتي ببديل عنها وهو صلاة الظهر.
والموضع موضع خلاف طويل، ولكن يهمنا مجمل هذا الموضوع.
ثم للعلماء مبحث آخر، وهو إذا كان الإنسان في مؤخرة المسجد فلا يسمع الخطيب ولا يدري ماذا يقول، وكذلك إذا وجد المكبر وتعطل الجهاز فلم يسمع المصلي من الخطيب، أيجوز له أن يتكلم؟ بعضهم يقول: له ذلك إذا كان بتلاوة القرآن، وإذا كان بالتسبيح، وإذا كان بالاستغفار، لأنه ذكر، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] .
والآخرون يقولون: ليس له ذلك؛ لأن البعيدين إذا اشتغلوا بالتلاوة أو بالذكر ربما ارتفعت أصواتهم فيحصل اللغط على الذي يسمعون.
والصحيح أنه لا يجوز أن يقرأ أو يذكر الله، وأن عليه أن ينصت، وله أجر المستمع في الخطبة إن شاء الله، وبالله تعالى التوفيق.(98/7)
كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة [5]
أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة ركعتين تحية المسجد، وإن كان الإمام يخطب، فإنه لا تعارض بين الأمر بالإنصات وبين هذه الصلاة؛ فهي من ذوات السبب التي حث عليها الشارع.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقون؛ وذلك لمناسبتهما في الأمر بتعظيم هذه الصلاة، وترك التشبه بالمنافقين في التباطؤ عن الصلاة وعدم التبكير لها، وترك التشبه باليهود الذين لم يلتزموا بالتوراة ولم يعملوا بما فيها.(99/1)
شرح حديث جابر في أمر النبي صلى الله عليه وسلم الداخل وقت الخطبة بالصلاة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه قال: (دخل رجل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: صليت؟ قال: لا.
قال: قم فصل ركعتين) متفق عليه] .
تقدم النهي عن الكلام وقت الخطبة، وأن من قال للمتكلم: أنصت فقد لغى، ومن لغى فلا جمعة له.
ويأتينا هنا عن جابر رضي الله عنه أن رجلاً دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، ولم يسم الرجل، وعدم تسمية هذا الرجل لا يضر في الحديث؛ لأنه صحابي، والصحابة جميعاً لا يبحث عن عدالتهم، وأياً كان فهو رجلٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعبرة بـ جابر، وهو معروف، وهو الذي يروي القصة.
فدخل هذا الرجل -وقد سمي، وهو سليك الغطفاني رضي الله عنه- والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، والغالب أن تكون الخطبة للصلاة، وليست لأمر آخر، وليست قبل الظهر أو بعد العصر أو غير ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (صليت؟) بحذف همزة الاستفهام، وفي بعض الروايات: (أصليت؟) أي: أصليت ركعتين تحية المسجد؛ فقال الرجل: لم أصلهما، فقال صلى الله عليه وسلم: (قم فصل ركعتي) ن، وفي بعض الروايات: (وتجاوز فيهما) يعني: خفف القراءة وخفف الصلاة حتى لا تستغرق وقتاً طويلاً.
وهذا الحديث على وجازة لفظه، يتكلم عليه ابن حجر رحمه الله في فتح الباري بما يقرب من أربع صفحات، ويبحثه من عدة جوانب.(99/2)
حكم صلاة تحية المسجد لمن دخل والإمام يخطب
وأهم ما يقال في هذا أن الرجل الذي دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب جلس فسأله، ثم أمره، فيأتي الكلام في هذا الحديث من جهة تحية المسجد، والصلاة وقت النهي عن النوافل، والاشتغال عن الخطبة، وقد جاء به المؤلف بعد الأمر بالإنصات والنهي عن تنصيته، فما حكم هذا الحديث مع ما تقدم؟ إن أكثر العلماء جعلوا بين الحديث الذي معنا والذي قبله تعارضاً؛ لأن الأول فيه: (والذي يقول أنصت ليست له جمعة) ، وهذا سيشتغل بصلاة ركعتين والإمام يخطب، فهل أنصت؟ قالوا: اشتغل عن الإنصات والإصغاء للخطيب بالصلاة فحصل تعارض، ومن هنا وقع الخلاف بين الأئمة رحمهم الله.
وابن حجر يقول: الشافعي رحمه الله ومن وافقه يقولون: يصلي لهذا النص، ويجيبون عن حديث الإنصات بأجوبة أوصلها ابن حجر إلى تسعة أجوبة، والآخرون وهم مالك ومن وافقه يقولون: لا يصلي.
فـ الشافعي عمل بهذا النص في هذا الموطن، ومالك وأهل المدينة جميعاً ما عدا ابن المسيب عملوا بالأحاديث الأخرى، وقالوا: لو أن كل داخل سيكلمه الخطيب بأن يقوم لاشتغل الخطيب بتنبيه الناس عن الخطبة، ولحصل تقطيع الخطبة وعدم المتابعة، فقالوا: لا يصلي.
ثم بنوا الكلام على كون الإصغاء فرضاً أو ليس بفرض؟ ثم هل تحية المسجد واجبة أو سنة؟ ثم على وقت النهي، ونحن نعلم أن أوقات النهي سبعة، منها حين الخطبة.
ولكن الذين يقولون بحديث سليك قالوا: النهي عن الصلاة وقت الخطبة للحاضر الجالس الموجود قبل أن يأتي الإمام، فلا يحق له بعد مجيء الإمام وصعوده المنبر وشروعه في الخطبة أن ينشئ صلاة النافلة؛ لأنه مطالب بأن يصغي إلى الإمام وأن ينصت، أما القادم من الخارج فهو خارج عن هذا النهي.
والآخرون أيضاً كـ الشافعي قالوا: إذا صح أن يصلي القادم وقت الخطبة وهي وقت نهي فإن النهي لا يتناول عموم ذوات الأسباب، وجعلوه من أدلتهم؛ لأنه أجاز له النبي صلى الله عليه وسلم، بل أمره أن يصلي وقت النهي وهو وقت الخطبة، والجمهور قالوا: إن هذه قضية عين في هذا الشخص ولعل لها أسباباً.
وقالوا: من أسبابها أن سليكاً دخل بثياب رثة، والرسول صلى الله عليه وسلم أراد له أن يقوم فيصلي فيراه الناس لعلهم يتصدقون عليه، وأجيب عن ذلك بأن ذلك تكرر منه ثلاث مرات، وفي أول مرة تصدق عليه بثوبين، ففي المرة الثانية جاء وعليه ثوبٌ منهما وقد تصدق بالثوب الثاني، فقيل له: لا تفعل.
أي: لا تتصدق وأنت محتاج، فحمل بعضهم قول (لا تفعل) على أن المراد: لا تجلس حتى تصلي ركعتين وإذا جئنا إلى مجمل القول في تحية المسجد فإننا نعلم جميعاً بأنها من السنن وليست من الواجبات.
وقد استدل ابن حزم وغيره بحديث الرجل الذي جاء من نجد وسأله: (ماذا فرض الله عليَّ من الصلوات؟ قال: خمس صلوات في اليوم والليلة) ، قالوا: لو أننا جعلنا تحية المسجد واجبة كالظهر والعصر لكان المكتوب ستاً لا خمساً، بل قد تكون عشراً، فكلما دخل وجب عليه أن يصلي، ولكن جنسها يكون سادساً مع الخمس.
فهي سنة وليست بواجبة.(99/3)
حكم الإنصات للخطبة والترجيح بينه وبين تحية المسجد للداخل
وأما الخلاف في الإصغاء أهو واجب أو ليس بواجب فالجمهور على وجوبه، بدليلٍ أن الكلام يلغي فضل الجمعة، وأما هل تجزئه عن الظهر أو لا فهذا خلاف آخر.
فالإصغاء إلى الخطبة أهم من تحية المسجد، ولو كان الأمر كذلك لكان تقديم الإصغاء على تحية المسجد مقدماً، ولكن -كما يقول العلماء- لا نقيس وعندنا نص، فهذا رجلٌ دخل فسأله النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أمره أن يقوم فيصلي، وبذلك استدل أيضاً بعض العلماء على أن تحية المسجد لا تسقط بالجلوس؛ لأنه بعدما جلس قال ل: (هقم فصل ركعتين) ، وبعضهم يقول: إلا يوم الجمعة.
فالخلاف في ذلك طويل، ومالك رحمه الله وأهل المدينة يعتبرون اتفاق أهل المدينة على عدم الصلاة وقت الخطبة للقادم وللجالس على عموم النهي، ولكن جاء أن أحد فقهاء المدينة السبعة سعيد بن المسيب رحمه الله ورضي الله عنه دخل ومروان بن الحكم -وهو أمير المدينة- يخطب، فقام ليصلي ركعتين، فجاء حرس مروان الأمير ليمنعوه، فلم يمتنع حتى صلى الركعتين، ثم قال: ما كنت لأدعهما وقد سمعت أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بهما.
ثم الذين يقولون بهما قالوا: ورد الأمر بالإصغاء والإنصات هو حتى لا تشغل غيرك، ولا تشوش على الآخرين، وهذا المصلي لم يتكلم مع غيره، ولم يشوش على غيره، وصلاته لا تمنعه أن يسمع خطبة الإمام؛ لأنه يصلي صلاة سرية، والخطبة تأتي إلى مسامعه، فقد يسمع ذلك ولا يفوته منها شيء.
ثم مراعاة للواقع جاء في الحديث: (وتجوز) ، ومعنى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد لحظ ما يجب على المصلي من الإصغاء، ولحظ ما ينبغي للقادم من الصلاة، فجمع بين الأمرين: الإصغاء مع الصلاة، فالإصغاء في كونه يتجوز، أي: يخفف ويقصر الزمن، فلا يفوته الكثير من الخطبة، ويأتي بتحية المسجد فلا يضيعها، ويكون قد جمع بين الأمرين.
والجمهور على أنه يترك ولا يصلي، والشافعي رحمه الله على أنه يصلي ويتجوز فيهما، وعلماء الحديث قاطبة على تقديم هذا الحديث على العمومات الأخرى، قالوا: عمومات النهي يخصصها القادم يوم الجمعة وقت الخطبة، وأحاديث النهي عن الصلاة في الأوقات السبعة على ما هي عليه، وهذه خصت كما خصت الصلاة بعد العصر بقضاء الفائتة، وكما خصت غيرها بصلاة الكسوف أو غيرها في أوقات النهي، فهذا الحديث يخصص عمومات النهي عن الصلاة في تلك الأوقات.
ومن أجوبتهم أيضاً: أن الحديث قد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه بأنه دخل رجل والنبي يخطب، وليس فيه ذكر يوم الجمعة، قالوا: فلعل ذلك يكون في غير يوم الجمعة فيكون بعيداً من الوقت المنهي عنه.
ولكن أجيب عن ذلك بأنه صرح في الحديث أنه كان يخطب يوم الجمعة، ومعلوم عندنا أن الجنس يقدم فيه أعلاه، فالخطبة أعلاها في الإسلام هي خطبة الصلاة ليوم الجمعة، ولا يكون يوم الجمعة خطبة في العادة إلا للصلاة، وقد تكون خطبة بعد العصر أو في الضحى لأمر آخر، لكن إذا أطلقت انصرف المعنى إلى خطبة الصلاة وخطبة الجمعة بذاتها، وعلى هذا فالأنسب للقادم إلى المسجد والإمام يخطب أن يصلي الركعتين متجوزاً فيهما.(99/4)
وقوف المتأخر إلى نهاية الخطبة الأولى ثم يصلي تحية المسجد
وقد نشاهد بعض الناس يظل واقفاً إلى أن ينتهي الإمام من الخطبة الأولى، ثم ينشئ الصلاة، أو يجلس حتى إذا بدأ الإمام في الخطبة الثانية قام وصلى، والخطبة الثانية والخطبة الأولى سواء، وما دام أنه قد أذن لنا النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة حينما يدخل الإنسان وقبل أن يجلس، فليصلها ولا يظل واقفاً، حتى إن بعضهم قال: لا يدخل المسجد حتى لا يتعارض وجوب الإصغاء مع الأمر بالصلاة، وهذا شيء عجيب، فهو يفوت على نفسه سماع الخطبة ويخالف بذلك الحديث.
وعلى من أتى الجمعة أن يحاول أن يبكر قبل أن يجيء الإمام؛ لأن هذا سنة، وقد قيل: أول سنة تركت هي التبكير يوم الجمعة.
وعمر رضي الله عنه يعاتب عثمان رضي الله عنه حينما دخل المسجد وعمر يخطب، فقال: أي ساعة هذه؟ قال: والله يا أمير المؤمنين! ما لبثت أن سمعت النداء فتوضأت فأتيت.
قال: والوضوء أيضاً؟ يعني: وأيضاً ما اغتسلت! فهنا عمر رضي الله عنه ما قبل من عثمان أن يتأخر حتى يأتي وقت الخطبة، وهل عمر عاتب كل إنسان؟ وهل جاءنا أن عمر عاتب كل من تأخر؟ والجواب: لا، فالناس لهم أعذارهم، ولكن عثمان من أئمة الصحابة ومن قادتهم، وصدور الشيء من قادة الناس بخلافه من عامتهم، كما قال عمر لـ طلحة وقد رآه لابساً ثوباً مصبوغاً: ما هذا يا طلحة؟ وقد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن الصبغ بالورس والزعفران! -والورس والزعفران يعطيان لوناً أحمر- قال: يا أمير المؤمنين! ما هو بورس ولا زعفران، وإنما هي المغرة.
قال: يا طلحة! إنك من أصحاب رسول الله -أي: من طليعتهم ومن أكابر أصحاب رسول الله- فلعل رجلاً يراك بهذا فيظن أنك صبغت بورس وزعفران، وأنتم أئمة يقتدى بكم.
فلما كان طلحة من الذين يقتدى بهم كان عليه أن يتباعد عما فيه الشبهة؛ لئلا يظن جاهل أنه ارتكب ما نهي عنه، فيقتدي به، وكذلك عثمان إمام يقتدى به، فإذا كان عثمان يتأخر فمن سيتقدم؟ ولكن كما يقولون: الناس لها أعذارها.
ولذلك لما آلت الخلافة إلى عثمان رضي الله عنه أنشأ أذاناً قبل الوقت على الزوراء، والزوراء كانت عند باب الشام الذي فيه الآثار القديمة، ويبعد عن المسجد النبوي حوالي أربعمائة متر، وكان في سوق كما يقال، أو عند مخازن الزيت أو أحجار الزيت، وكان في وسط سوق المدينة، فكان المؤذن بأمر عثمان يؤذن قبل الوقت لينقلب أهل السوق إلى بيوتهم ليتهيئوا للجمعة، وليحضروا إلى المسجد قبل أن يدخل وقت الأذان الذي به تكون الصلاة، وذلك لأنه لما وقع فيما وقع فيه قال: ما لبثت أن سمعت الأذان فتوضأت وجئت.
يعني: لو كان هناك تنبيه قبل هذا كنت جئت، فهو أحدث التنبيه السابق ليتهيأ الناس قبل الوقت، وليأتوا متهيئين؛ لئلا يفوتهم أول خطبة الإمام يوم الجمعة.
فالواجب على الإنسان التبكير، ويذكر بعض العلماء أن أهل المدينة كانوا ربما قدموا إلى الجمعة ومعهم المصابيح تضيء لهم الطريق، أي: كانوا يجيئون فيصلون الصبح ثم يقعدون، كما يحصل في صلاة العيد، حيث يبكر الناس لأجل الأماكن، وقد جاء في الحديث: (من راح في الساعة الأولى فكأنما قدم بدنة ... ) إلخ، فالواجب أن يبادر الإنسان إلى الجمعة، فإذا ما تأخر لعذر وجاء والإمام يخطب فليصل ركعتين كما في هذا الحديث.
وبعضهم يجيب عن هذا الحديث بكونها قضية عين، ومعنى أنها قضية عين عند الفقهاء أنها خاصة بشخص معين، وأنه حديث غير عام، فلم يقل: من أتى والإمام يخطب فليركع ركعتين ويخفف فيهما، فلو جاء مثل هذا النص لكان تشريعاً عاماً، فقالوا: هي قضية عين؛ إذ أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يلفت الأنظار إلى سليك ليتصدق الناس عليه.
فقالوا: لا يصلح هذا أن يكون دليلاً لجميع الناس، ولكن يجيب بعض العلماء على أن قضية العين أعقبها تشريع عام، حيث قال: (قم فصل ركعتين وتجوز فيهما) ، ثم قال: (من أتى والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما) ، فانتهت قضية العين وأعقبها تشريع عام لكل من أتى، وبعضهم يقول: هذا الحديث ضعيف لا يقاوم الأحاديث الأخرى.
والأرجح في ذلك العمل بهذا الحديث، فعلى الداخل أن يصلي ركعتين خيفيفتين، والله تعالى أعلم.(99/5)
قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الجمعة بسورتي الجمعة والمنافقين
قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة والمنافقين) ، رواه مسلم] .
تقدم عن أم هشام قولها: (ما أخذت سورة (ق) إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان يخطب بها الناس على أعواد منبره يوم الجمعة) قالوا: إن (كان) تدل على الدوام والاستمرار، فقال بعض العلماء: كان يقرأ دائماً، وأشرنا إلى أن هذا ليس بلازم، فحيناً يقرأ بها وحيناً يقرأ بغيرها، فمن شاء قرأها ومن شاء قرأ بعضها، ومن شاء قرأ غيرها من السور.
وهنا يأتينا المؤلف رحمه الله بحديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الجمعة بسورة الجمعة وسورة المنافقون، وسيأتينا حديث آخر فيه أنه كان يقرأ (سبح اسم ربك الأعلى) و (هل أتاك) ، فليس هناك ملازمة ولا مداومة ولا تعيين لسورة بعينها، ويكون ذلك من باب الأكثرية، فأكثر ما كان يقرأ صلى الله عليه وسلم في صلاة الجمعة بهذه السور، ولهذا أخذت عن لسانه على المنبر، وحفظ عند الصحابة رضي الله عنهم.
وقد أشرنا أن سورة (ق) اشتملت من أدلة البعث على ثلاثة من أربعة، وهنا أيضاً يتكلم العلماء عن مناسبة سورة الجمعة -وهي باسم اليوم- وعن مناسبة سورة المنافقون، فيقولون: قراءة سورة الجمعة تعزيز وتدعيم وتهييج وتقوية وإثارة للمؤمنين بما فيها من توجيهات، وحث على الجمعة والمحافظة عليها، وتعريض باليهود، وسورة المنافقون خاصة بهم، ففيها تحذير وكشف عن حقائقهم، وكشف مواقفهم، ولهذا نحب أن نلم بالسورتين إلماماً سريعاً كما ألممنا بمقدمة سورة (ق) .(99/6)
قوله تعالى: (يسبح لله ما في السموات وما في الأرض ... )
ففي مقدمة سورة الجمعة يقول تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الجمعة:1] ، وسورة الجمعة قبلها سورة الصف، وافتتحت سورة الصف بـ (سبح) ، وهو فعلٌ ماض، وفي أول الجمعة (يسبح) ، وهو فعل مضارع، وهذا الفعل -كما أشرنا إلى ذلك في تتمة أضواء البيان- جاء في القرآن الكريم بكل تصاريفه، فجاء بالماضي وبالمضارع وبالأمر كقوله تعالى: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ} [الأعلى:1] ، وبالمصدر، كقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} [الإسراء:1] ، فكل تصاريف هذه المادة جاءت في القرآن الكريم تنزيهاً لله سبحانه وتعالى.
وقد جاء في هاتين السورتين -أي الجمعة والصف- ما يدل على عموم وشمول هذه المادة لجميع الكائنات، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] ، وجاء التفصيل كقوله تعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} [الرعد:13] ، وقوله تعالى: {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص:19] ، فجاء في حق الإنسان والملائكة والرعد والجماد وغير ذلك، وهذا لعظيم شأنه سبحانه.
والتسبيح هو التنزيه، وقد أشرنا إلى ذلك في مدلول قول: (سبحان الله والحمد لله) ، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم فيهما، قوله: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده) ؛ لأنهما تجمعان طرفي التنزيه وكمال التوحيد، فـ (سبحان) تنزيه لله عن كل نقص، وعن كل ما لا يليق بجلاله؛ لأن مادة (س ب ح) إنما وضعت للسباحة في الماء، والسابح في الماء يبذل جهده لينجو من الغرق، فكذلك الذي يسبح ربه، فهو يسبح في ملكوت الله، وفي علم الله، وفي مقدوره واعتقاده لينجو من هلكة الشرك بأن ينسب إلى الله ما لا يليق به.
والحمد -كما قالوا-: هو الثناء على المحمود لكمال ذاته، وليس لما يصدر عنه من نعم وغير ذلك، فجمع قوله: (سبحان الله وبحمده) طرفي التوحيد والكمال لله تعالى.
وهنا يقول تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ} [الجمعة:1] ، و (ما) -كما يقال - تكون لغير العاقل، وتكون للجماد، ولا تستعمل للعاقل إلا بالتنزيل، وهنا إثبات تسبيح عالم السماء وعالم الأرض لله الملك القدوس.(99/7)
قوله تعالى: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً ... )
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً} [الجمعة:2] ، فبعد تسبيح الله جاء تكريم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يقدر على ذلك إلا الله تعالى؛ لأنه جعل من الأمي رسولاً إلى الأميين، وهم العرب؛ ولكن ما بعث في الأميين للأميين، وإنما بعث في الأميين للعالمين.
فبعث فيهم من جنسهم، ولكن للناس كافة، فقال تعالى: {رَسُولاً مِنْهُمْ} [الجمعة:2] ، فهو أمّي ورسول، ومهمته هي كما قال تعالى: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] ، فهذا أمّي في أمة أمية يصبح معلماً للكتاب، ويزكي الأمة، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويخرجهم من الضلال إلى الهداية، أليست هذه معجزة؟ بلى إنها معجزة.
فلو جيء بفيلسوف عبقري إلى جماعة يعلمهم ويرشدهم، لقيل: هذه فلسفة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسم لم يقرأ ولم يكتب، لكن كل علوم الدنيا أنزلت عليه في الكتاب الذي ما فرط الله فيه من شيء ليعلمهم الكتاب، ويعلمهم الحكمة، ويزكيهم مما كانوا عليه {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] .(99/8)
قوله تعالى: (وآخرين منهم لما يلحقوا بهم ... )
ولم يقتصر تعليمه على من عاصرهم، بل قال تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة:3] أي: لما يأتوا بعده ولما سئل صلى الله عليه وسلم:: (من هم هؤلاء الآخرون يا رسول الله؟ وكان سلمان الفارسي جالساً فوضع بيده على ظهره وقال: لو أن الإيمان في الثريّا لبلغه رجالٌ من قوم هذا) يعني: هم فارس والروم، وفي ذلك الوقت ما دخل في الإسلام منهم أحد سوى سلمان رضي الله عنه.
ومن العجيب أنه في صدر الإسلام يسوق الله من جميع الأمم والأجناس أصنافاً تشترك في الإسلام، وتستظل بدوحة الإيمان، كـ سلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وبلال الحبشي، وكما يقال: الواحد بالجنس، فإذا أسلم واحد من الفرس أمكن إسلام الجميع؛ لأنه واحد منهم، وإذا أسلم واحد من الروم أمكن إسلام الجميع، وإذا أسلم واحد من الحبشة أمكن إسلام الجميع؛ لأن الذي يجري على واحد من جنس يجري على جميع أفراد الجنس، فالإنسان -كما يقال- حيوان ناطق، فما يجري على فرد من أفراد الحيوانات يجري على جميع أفرادها، فالحيوان يجوع ويعطش ويشبع ويروى ويمرض ويموت، وكذلك جميع أفراد الحيوانات، فكذلك هذه الأجناس البشرية جاءت منها نماذج واستظلت بدوحة الإيمان في الجزيرة العربية.
فمن كمال الرسالة ومن تمام النعمة أن الدعوة الإسلامية لم تقتصر على من نشأت فيهم وبين أيديهم، ولكنها ستمتد وتأتي إلى آخرين لما يلحقوا ولم يأتوا بعد، وقد جاء في الأثر -كما يذكر ابن كثير -: (إن في أصلاب رجال ونساء من أمتي قوم سيدخلون في الإسلام) ، وفي الحديث أنه قال لأصحابه صلى الله عليه وسلم: (أنتم أصحابي وسيأتي بعدكم إخوانٌ لنا.
قالوا: ألسنا بإخوانك؟ قال: أنتم أصحابي، ولكن إخواننا قومٌ لم يأتوا بعد، آمنوا بي ولم يروني، يود أحدهم لو رآني بملء الأرض ذهباً) .
وهذا في سورة الحشر في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] ، وقد جاء رجل إلى الحسن رضي الله عنه، وتكلم عنده على ما حصل من علي ومعاوية رضي الله عنهما، فقال: يا هذا أأنت من الفقراء المهاجرين؟ قال: لا.
قال: أأنت من الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم؟ قال: لا.
قال: ما أظنك أيضاً من الفرقة الثالثة: (الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ) ، بل جئت تطعن فيهم، وجئت تتكلم عليهم فاخرج عنا.
ولذا جاء عن مالك رحمه الله أنه قال: من كره أصحاب رسول الله فليس له حظٌ في الفيء.
ويهمنا هذا التقسيم الثلاثي الذي أشار إليه الحسن رضي الله عنه، فالمسلمون إما مهاجرون، وإما أنصار تبوءوا الدار والإيمان من قبل مجيء المهاجرين، وإما آتون من بعدهم يقولون: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] .
ومن هنا يعلم أن كل من كان في قلبه شائبة غل لأحد من أصحاب رسول الله، أو من أتباعهم فليحذر، وليخش على نفسه، فإنه في موضع خطرٍ عظيم عليه.
وهنا يقول تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة:3] ، و (لما) تأتي في اللغة للنفي مع ترجي الحصول، بخلاف (لم) فقولنا: (لما يأت زيد) ، معناه: لم يحضر وسيحضر، كما في قوله سبحانه في حق الأعراب: {قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] ، أي: لكن يطمع في دخوله.
ولذا تقول: أثمرت الشجرة ولما تونع الثمرة، أي: هي في طريقها إلى الإيناع.(99/9)
قوله تعالى: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ... )
قال تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الجمعة:4] .
(ذلك) اسم إشارة يرجع إلى ما قبله، فيشمل بعثة النبي الأمي من الأميين، ويشمل شمول بعثته لتعليم الأميين الكتاب والحكمة وتزكيتهم مع الذين يأتون من بعدهم.
فهو فضل نعمة النبوة على الأمة التي أنعم عليها بهذا النبي الأمي الكريم، ونعمة امتداد الدعوة وشمولها لمن لم يشهد نزول الآية الكريمة، (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ) ، ولهذا كان الإنعام على العبد بالإيمان محض نعمة من الله، حتى قال العلماء: ثلاث نعم لا كسب للعبد فيها: إيجاده من العدم، ونعمة الإسلام، ودخول الجنة.
وبيان ذلك أن الإنسان قبل أن يوجد في هذه الدنيا ويبصر بعينيه كان في العدم، ولم يكن منه فعل يوجب خروجه إلى الدنيا؛ لأنه معدوم، والعدم لا يكون منه وجود، وغاية ما يكون أن أبويه تزوجا واجتمعا، وليس كل اجتماع زوجين يتأتى منه الولد، بل هي هبة من الله، كما قال تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى:49-50] .
فإيجاده نعمة من الله، وإلا فلو كان الأبوان عقيمين فمن أين سيأتي؟ فهي نعمة من الله لم يكن للإنسان فيها كسب.
والنعمة الثانية: نعمة الإيمان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) ، هذا الشخص الذي ولد من أبوين مسلمين، لو قدر له أن يولد من أبوين نصرانيين أو يهوديين فينصرانه أو يهودانه، مع أن أول مجيئه إلى الدنيا كان على الفطرة، فكون الإنسان يولد من أبوين مسلمين لا كسب له ولا عمل له في ذلك.
وكذلك دخول الجنة، فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله.
قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته) ، فقوله تعالى: (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ) هي بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كانت فضلاً على الأمة التي بعث فيها، وعلى الذين يأتون بعد ذلك، فتعمهم وتشملهم الدعوة.
وها نحن والحمد لله في القرن الخامس عشر بعد بعثة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم نقرأ القرآن الذي أنزل على رسول الله، والكتاب الذي علمه أصحابه، ولكأنه نزل الآن، وكلما قرأناه فكأننا نقرأ شيئاً جديداً، وكلما نسمعه كأننا نسمع شيئاً جديداً، فلا يخلق على طول الزمن، ولا يبلى على كثرة التكرار، يصلي الإمام العشاء فيقرأ الفاتحة في الركعتين الأوليين، ويصلي التراويح عشرين ركعة، ويصلي الوتر ثلاث ركعات، ويقرأ الفاتحة في كل ذلك، وكما نسمعها في أول الصلاة في العشاء في الركعة الأولى نسمعها جديدة في آخر ركعة في الوتر، لا تمجها الأسماع، ولا تستثقلها القلوب، بل يستأنس لها الإنسان كلما سمعها، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4] .(99/10)
قوله تعالى: (مثل الذين حملوا التوراة ... )
قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:5] .
في هذا تعريض باليهود وهم موجودون ويسمعون، وكل التوراة أنزلت على موسى وأتباعه من اليهود، وقد علموا أن هذا النبي الأمي للناس جميعاً، كما قال تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] ومع ذلك يعرضون، فكأن خطبة الجمعة وصلاتها مقارع على رءوسهم، فهذه النعمة التي فاتتهم، وهذا الفضل من الله الذي حرموه؛ مثلهم فيه كما قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} [الجمعة:5] .
ففيها تأييد للمؤمنين، وفيها تقريع لليهود، وتأتي بعدها سورة المنافقون فتشمل القسم الثالث.
قال تعالى: {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} [الجمعة:5] أي: وهم يعلمون صدقها، ويعلمون صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يستفتحون على الأوس والخزرج قبل البعثة بأنه سيبعث نبي آخر الزمن ونتبعه ونقتلكم معه شر قتلة، {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89] .(99/11)
قوله تعالى: (قل يا أيها الذين هادوا ... )
{قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ.
} [الجمعة:6] أي: أنتم تقولون: نحن أولياء الله، وتقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه، فإن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس -أي: من دون المسلمين- فتمنوا الموت لأجل أن تذهبوا إلى من أنتم أولياؤه في زعمكم، فتجدون الكرامة، وتجدون الحنان، وتجدون الرضا، وتجدون النعيم، فأنتم أولى به من غيركم؛ وهذا قول بعض العلماء.
وبعضهم يقول: تمنوا الموت للظالم الضال، على حد قوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24] ، فواحد من الفريقين هو الضال.
إذاً تمنوا الموت للفريق الضال ليصفو المكان وتبقى الولاية لكم: {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الجمعة:6] أي: في زعمكم، والواقع هو قوله تعالى: {وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا} [الجمعة:7] ، فلا يمكن أن يتمنوه؛ لأنهم يعلمون ماذا يكون مصيرهم إذا ماتوا.
وبعضهم يقول: هذه مباهلة مع اليهود، كما وقعت مع نصارى نجران حين قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61] ، فقال بعض السادات منهم: تعلمون -والله- أنه ما بوهل نبي إلا أهلك من باهلوه، والله لو باهلتم رسول الله لرجعتم بغير مال ولا أهل.
فاعتذروا وقالوا: يا محمد! نعطيك ما تطلب وتتركنا على ما نحن عليه، ففرض عليهم الجزية، ورجعوا على دينهم.
فمعنى (تمنوا الموت) اجتمعوا واطلبوا الموت لأضل الفرقتين.
وهناك من يقول: تمنوه لأنفسكم لتلحقوا بمن تزعمون، ولكن لعلمهم بحقيقة الأمر فإنهم لا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم من التكذيب والتضليل وإضلال الناس وكتمان الشهادة.
قال تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [الجمعة:7] فهم ظالمون، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه.
قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة:8] ، فإذا كنتم خائفين من الموت فالموت لا بد منه، {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8] .(99/12)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة ... )
وبعد هذا التقريع الكامل لليهود وتحديهم رجع إلى تذكير المؤمنين فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ.
} [الجمعة:9] أي: فيا أيها المؤمنون! اعلموا أن اليهود حرموا من ذلك، وفاتهم هذا الفضل من الله، أما أنتم فحافظوا عليه، فإذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله.
ويرى بعض العلماء أن السعي سرعة المشي، والسعي: هو الأخذ بالأسباب، فالسعي هنا هو الأخذ بالأسباب للذهاب إلى الجمعة، وليس الجري؛ للنهي عن ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتيتم الصلاة فأتوها وعليكم السكينة والوقار) .
قال تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] أي: اتركوا البيع واذهبوا إلى ذكر الله، وقدمنا مراراً التنبيه على أن هذا الموطن من هذه السورة الكريمة يبين أن الإسلام يجمع بين منهجي الروح والمادة إشباعاً لحقيقة الإنسان لتكوينه من روح وجسد، والجسد يحتاج إلى ما يقيم حياته وهو الأكل والشرب، والروح تتطلب ما يقيم وجودها وهو ذكر الله.
فجمع بين الأمرين، خلافاً لليهود حيث غلبوا جانب المادة واحتالوا على ما حرم الله في استباحة الصيد وجمع الشحوم وأكلها، وشغلوا عن غذاء الروح، فكانوا على جانب واحد، والنصارى بالعكس، كما قال تعالى عنهم: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] ، فاليهود أخفقوا لترجيح جانب المادة، والنصارى أخفقوا لترجيح جانب الروح، والإسلام جاء وسطاً وجمع بين الأمرين، فكان الدين الوسط، وكان الجامع لما يقيم أمر الإنسان، فاستقام الإنسان على هذا الدين، وكان أتباع الدين خير أمة أخرجت للناس.
قال تعالى: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} [الجمعة:9] أي: هذا للتشريع، فاتركوا البيع واذهبوا إلى ذكر الله فهو خير لكم من بقائكم في البيع والشراء {إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة:9] .(99/13)
قوله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة ... )
قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10] فإذا أتيتم بالواجب عليكم من طاعة الله، وأتيتم حظكم من الموعظة والتذكير وذكر الله، فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله.
والانتشار: الاتجاه في جميع أرجاء الأرض، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:15] ، فذللها لهم.
فقوله تعالى: (فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) معناه أنه ليس الكسب بجهدك وقدرتك، بل هو فضل من الله عليك، ومع ابتغائك من فضل الله بفعل أسباب الرزق لا تنشغل عن ذكر الله، سواءٌ أكنت في مصنعك، أم في مزرعتك، أم في بيعك وشرائك، ففي مزرعتك تبذر الحبة وتدفنها في التراب وتسقيها الماء وتقول: يا رب: أنبتها واحفظها.
وتقول في متجرك: يا رب! ارزقني وبارك لي.
وتقول في مصنعك: يا رب أشهر صناعتي، ووفقني للابتعاد عن الغش، فمراقبتك لله في وزنك وفي كيلك وفي زرعك وفي صناعتك كل ذلك ذكر لله فضلاً عن ذكر اللسان.
وفي أوائل الستينات كانت توجد هذه الصورة في المدينة المنورة، فتمر بالسوق سواءٌ سوق العياشة أم سوق الحبابة أم سوق التمارة أم سوق البزازين أم سوق الصاغة، إذ لكل طائفة سوق في مكانه معروف، فتأتي بعد العصر وكل في محله الميزان أمامه والمصحف بين يديه يقرأ القرآن، فإذا جاء مشتر وضع علامة على موضع القراءة ثم أغلق المصحف ليبيع للمشتري، ثم إذا فرغ رجع إلى مصحفه، وهكذا كان القرآن بين أيدي الباعة خاصة في رمضان، وكنت تمر في أزقة المدينة في الليل فتسمع القراءة كدوي النحل، ولم يكن ذلك قاصراً على الرجال، بل كان النسوة والأطفال كذلك في بيوتهم.
فالبائع في دكانه يبتغي من فضل الله، ولم يغفل عن ذكر الله، حيث أمامه المصحف والكتاب والميزان معاً، فالميزان لعمله، والكتاب لقراءته، فكان تطبيقاً لقوله سبحانه: {فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10] .(99/14)
قوله تعالى: (وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها ... )
ثم جاءت قضية عتاب الذين انفضوا عن رسول الله، قال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة:11] ، وهذا حين كانت الخطبة بعد الصلاة، وكانوا يظنون أن الخطبة نافلة فإذا تمت الصلاة فمن شاء جلس أو استمع ومن شاء انصرف، ثم بعد ذلك انتقلت الخطبة قبل الصلاة لئلا يذهب أحد.
ويبحث بعض العلماء في الضمير في هذه الآية، حيث يقول تعالى: (انفضوا إليها) و (إليها) ضمير مؤنث، واللهو مذكر والتجارة مؤنثة، والضمير راجع إلى التجارة، يقول بعض علماء اللغة: العود على أحد المذكورين يشمل الثاني، ولكن لماذا رجع على المؤنث دون المذكر؟ والجواب: رجع على التجارة لأنها الأصل وهي السبب؛ لأنه كان من عادتهم إذا قدمت تجارة أن يدقوا لها الطبول، وهذا هو اللهو؛ ليعلم بقدومها التجار، فيجتمعون ويتساومون ويبيعون ويشترون، فلما كانت التجارة هي الأصل رجع الضمير عليها.
قال تعالى: {انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة:11] يقول صلى الله عليه وسلم: (لو خرجوا جميعاً لسال بهم الوادي ناراً) ، فرحمهم الله بهذا العدد الباقي.
{قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ} [الجمعة:11] أي: مما دعاكم إليه {خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:11] ، فأنتم خرجتم للتجارة تطلبون الرزق في البيع والشراء، وما عند الله بالسمع والطاعة والبقاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لكم مما انصرفتم إليه، والله خير الرازقين، فالرزق عند الله ليس من عند هذه التجارة.
وحاصل الكلام أن هذه السورة الكريمة بينت حق الله سبحانه وتعالى على الكائنات، وأنه يسبح له كل ما في السموات وما في الأرض.
ثم بين فضل النبي صلى الله عليه وسلم ونعمته عليه وعلى الأمة، وعلى من يأتي بعد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، ثم قرعت اليهود في كونهم يكتمون الشهادة، وفي كونهم لم يؤمنوا أو لم يستفيدوا مما آمنوا به، وضرب لهم هذا المثل السيئ، ثم ذكر المؤمنين وحثهم على الحفاظ على الجمعة وما فيها من فضل لهم.
والسورة الثانية تعقبها مباشرةً في رسم المصحف، وهو سورة المنافقون، فبعد أن بين حقيقة اليهود جاء إلى حقيقة المنافقين، وهي الطائفة الثالثة في ذلك الوقت، فقد كان في المدينة مسلمون ويهود ومنافقون، فتكلم عن المنافقين وكشف عن أحوالهم، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم أحياناً يقرأ في الركعة الأولى سورة الجمعة، وفي الركعة الثانية سورة المنافقون؛ لاقترانهما وترتيبهما في المصحف، وسيأتي أنه صلى الله عليه وسلم ربما كان يقرأ في الجمعة (سبح اسم ربك الأعلى) والغاشية.
فلهذه المناسبات، ولمضمون هاتين السورتين الكريمتين كان يقرأ بهما في صلاة الجمعة، حيث يجتمع الجميع والكل يسمع في ذلك، وبالله تعالى التوفيق.(99/15)
كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة [6]
من أحكام وسنن يوم الجمعة الترخيص لمن صلى العيد يوم الجمعة مع الإمام في أن يتخلف عن صلاة الجمعة؛ لوقوع المقصود من صلاة ركعتي العيد والاستماع إلى الخطبة، وأن يقرأ الإمام بسورتي الأعلى والغاشية كما فعل صلى الله عليه وسلم.(100/1)
قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لسورتي الأعلى والغاشية في صلاة الجمعة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وله عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: (كان يقرأ في العيدين وفي الجمعة بـ (سبح اسم ربك الأعلى) و (هل أتاك حديث الغاشية) ] .
يقول المصنف رحمه الله: وله، أي: لـ مسلم الذي روى ما تقدم من أنه صلى الله عليه وسلم: (كان يقرأ في الجمعة بسورتي الجمعة والمنافقون) .
أنه كان يقرأ في الجمعة وفي العيدين (سبح اسم ربك الأعلى) ، و (هل أتاك حديث الغاشية) .
ولا حاجة إلى تتبع السورتين في بيان المناسبة، فقد ذكرنا فيما يتعلق بسورة الجمعة والمنافقون ما يكفي من بيان مناسبة اختيار هاتين السورتين في يوم الجمعة، وكذلك هاتان السورتان، أي: الأعلى والغاشية.
والجمعة والمنافقون متتاليتان في المصحف، وكذلك سبح والغاشية متتاليتان في المصحف، وكل من الثانية تكمل موضوع الأولى.
ويهمنا هنا زيادة [في الجمعة والعيدين] ، وربط الجمعة بالعيدين هو لأن يوم الجمعة عيد من أعياد المسلمين، والعيدان هما عيد الفطر وعيد الأضحى، وسمي العيد عيداً لعوده، أي: لمجيئه وعودته في كل سنة.
وهنا لفتة بسيطة فيما يتعلق بالعيد في الإسلام.
فقد قدم النبي صلى الله عليه وسلم وللناس أعياد كثيرة، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله أبدلكم بأعياد الجاهلية عيدين: عيد الفطر وعيد الأضحى) ، وبالتأمل في هذين العيدين نجدهما يتميزان، أو أن العيد في الإسلام يتميز عن العيد في غير الإسلام بأمر عملي؛ لأن الأعياد في غير الإسلام إنما هي ذكريات لا حقائق، بمعنى أن أعياد غير المسلمين لأحداث قد وقعت ثم انتهت، فإذا جاء موعدها من السنة الثانية عيدوا ذكرى لما تقدم، فمثلاً صوم يوم عاشورا لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صومه قالوا: هو يوم نجى الله فيه موسى من فرعون، فصامه موسى شكراً لله، وصامه اليهود، ويعيدون صومه كيوم عيدٍ عندهم، وذكر الله سبحانه وتعالى عن بني إسرائيل مع نبي الله عيسى قولهم: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً} [المائدة:112] قال: اتقوا الله إن كنتم مؤمنين.
قالوا: {نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} [المائدة:113] ، فالمسألة مسألة أكل وشرب، فقال عيسى فيما حكى الله تعالى عنه: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} [المائدة:114] .
فكانوا يجعلون يوم نزول المائدة عيداً، والمائدة نزلت مرة واحدة، وكانوا يعيدون في يومها من كل سنة، فالأعياد التي جاءت بعد يوم نزول المائدة ليس فيها مائدة، ولكن ذكرى المائدة، وكذلك الأعياد والطقوس والعادات عند الناس.
أما أعياد الإسلام فهي حقيقة، وليست ذكريات؛ لأن كل سنة يأتي فيها العيد بموجبه ومسبباته، فعيد الفطر سببه أنه لما أكرم الله المسلمين بأداء واجب صوم هذا الشهر المبارك، جعل لهم ختام صيامهم عيدا، فعيد الفطر في كل سنة ذكرى لحدث حاضر يتجدد في كل سنة بذاته، فكل عيد فطرٍ في الإسلام مستقل، وليس لذكرى ماضية، وكذلك عيد الأضحى، فلما منّ الله على المسلمين بالحج وجاءوا من كل فج عميق، وأمّن لهم السبيل، وأمّن لهم الطعام، وأدوا مناسكهم قال: هلم إلى المائدة.
ومائدة الإكرام ثلاثة أيام، فالموائد يطعمون منها ويأكلون ويطمعون القانع والمعتر أيام منى.
ومن هنا كان الصائم يوم العيد معرضاً عن ضيافة الله.
فالعيد في الإسلام حقيقة، والأعياد في غير الإسلام من باب الذكرى.
ومن هنا شرفت الأعياد في الإسلام بشرف أسبابها ومسبباتها، وسن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة العيدين أن يخرج جميع الناس حتى النساء والحيض وربات الخدور، فاللواتي لا يخرجن من بيوتهن يخرجن، والحيض يحضرن ويعتزلن المصلى، ويشهدن بركة ذلك الجمع بالدعاء بالخير تكثيراً للمسلمين.
ومن هنا كان التدرج في اجتماع المسلمين، فيجتمع أهل الحي في خمس صلوات خمس مرات للجماعة، ويجتمع أهل القرية كل أسبوع مرة للجمعة، ويجتمع أهل المصر والقطر وضواحي القرية والمدينة في عيدٍ في صعيد واحد في الخلاء، ويجتمع العالم الإسلامي ممثلاً في أفراده الذين يأتون رجالاً وعلى كل ضامر من كل فج عميق، في الحج الأكبر أو في يوم عرفة.
فدين الإسلام دين اجتماعي، ودين جمع الأمة وتوحيدها، فكان صلى الله عليه وسلم بمناسبة هذا الجمع في الجمعة يقرأ هاتين السورتين (سبح والغاشية) .(100/2)
الرخصة لمن صلى العيد يوم الجمعة ألا يحضر الجمعة
قال المصنف رحمه الله: [وعن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم العيد، ثم رخص في الجمعة، ثم قال: من شاء أن يصلي فليصل) رواه الخمسة إلا الترمذي، وصححه ابن خزيمة] .
يأتي المصنف رحمه الله تعالى بعد بيان أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الخطبة سورة (ق) ويقرأ في الصلاة تلك السور الأربع، ببيان ما إذا اجتمع عيد الأضحى أو الفطر ويوم الجمعة، فالجمعة عيد مستقل، والأضحى والفطر عيد مستقل، وصلاة الجمعة مرتبطة باليوم لا تنفك عنه، فلا تصلى الجمعة في السبت أو في الخميس، فهي مرتبطة بيومها، ولكن عيد الفطر وعيد الأضحى إنما يدوران في الزمن مع القمر، فالأيام تدور دورة شمسية، والأشهر تدور دورة قمرية، فدورة الشمس في أربع وعشرين ساعة، فتأتي بالأيام وبالصلوات الخمس، ودورة القمر في فلكه تأتي بالأشهر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) ، وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189] .
فهي أشهر قمرية وأيام شمسية، لا تتغير الأيام منذ خلقها الله، فالعيدان مرتبطان بالقمر، فيأتي عيد الفطر في صيف أو في شتاء أو في خريف في أي يوم من الأيام حسب الشهور، وكذلك عيد الأضحى.
وما دام العيدان متنقلين فيمكن أن يوافقا يوم الجمعة، فيجتمع عيدان: عيد الجمعة ليومها، وعيد الفطر أو عيد الأضحى لمناسبته، وكل منهما يحتاج إلى اجتماع وإلى خطبتين، وإلى صلاة ركعتين، فهل نصلي العيدين معاً الجمعة والعيد الذي حضر، أو نكتفي بواحد منهما؟ فجاء المصنف بهذا الحديث ليبين ماذا يكون على الناس إذا اجتمعت الجمعة مع أحد العيدين، فقال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم العيد ثم رخص في الجمعة) .
و (ثم) للترتيب والتراخي، فصلى العيد في يوم العيد ورخص في الجمعة بعد ذلك.
قوله: (ثم رخص) الرخصة عند الأصوليين مأخوذة من المعنى اللغوي، أي: الشيء اللين، كما قال الشاعر: ومخضب رخص البنان.
ومنه الثمن الرخيص؛ لأن العيشة فيه تكون لينة، بخلاف الثمن الغالي حيث تكون شديدة، فرخص البنان: لينه، ورخص السعر لين العيش، فرخص معناه: ليّن وخفف في الحكم، ولذا تكون الرخصة مع الشدة، والشدة تقتضي الترخيص، ولذا حينما تقع مجاعة أو يكون الإنسان في خلاء، ويشتد عليه الجوع، ولم يجد إلا الميتة -والميتة محرمة- رُخص له أن يأكل الميتة تخفيفاً عليه من حكم المنع الذي يؤدي إلى وفاته.
فالرخصة: رفع حكم بحكم آخر مع بقاء الحكم الأصلي، أو: إباحة ممنوع بنص متجدد بعد المنع مع بقاء حكم المنع، كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] مع قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:173] ، فلما أباح الله ورخص للمضطر أكل الميتة أبقى الحكم على التحريم، وأعطى المضطر رخصة الأكل منها حتى يجد كفاف العناء، فهي في الحال محرمة، ولكن أبيح له، ولذا قالوا: الحدث يمنع الصلاة، وقد لا يجد الإنسان ماء أو قد يجده ويعجز عن استعماله، فجاء التيمم بديلاً عن الوضوء، فهل التيمم يرفع الحدث الذي كان يتطلب الماء، أو أنه أباح له الصلاة مع وجود الحدث؟ فالجمهور على أنه أباح له الصلاة والدخول فيها رخصةً، لكن المنع الأساسي موجود، والحدث باق، ومنهم من يقول: التيمم يرفع الحدث.
والصحيح أنه مبيح له مع بقاء الحدث، والدليل على ذلك أن رجلاً كان في غزوة مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصل الصبح، فمضى إليه رسول الله، فقال له: ألست مسلماً؟! قال: بلى يا رسول الله، ولكن أصابتني جنابة ولا ماء، ثم جاءت قضية التيمم فتيمم وصلى، فلما جيء بالمرأة ومعها المزادتان قال: أين صاحب الجنابة؟ قال: أنا.
قال: خذ فأفرغه على جسمك.
أي: من حدث سابق، فهو تيمم رخصة للصلاة، ولكن تيممه الذي صلى فيه لم يرفع عنه الحدث، بدليل: (خذ فأفرغه على جسمك) .
فالرخصة: إباحة الممنوع مع بقاء حكم المنع.
فحكم الجمعة باق، ولذا من أتى الجمعة مع صلاة العيد أجزأته.
وفي بعض الروايات: (وإنَّا لمجمِّعون) .
وعند مالك في الموطأ أن عثمان رضي الله تعالى عنه: اجتمع في عهده العيد ويوم الجمعة، فصلى العيد، ثم رخص لأهل العالية، وأهل العوالي كانوا يأتون يصلون الجمعة في المسجد النبوي في المدينة، فلما اجتمع العيد ويوم الجمعة في عهد عثمان رضي الله عنه صلى العيد بمن حضر، ثم رخص لأهل العوالي إذا رجعوا ألا يرجعوا مرةً أخرى؛ لأن فيه مشقة في الذهاب والمجيء مرتين للعيد وللجمعة، وهنا رخص صلى الله عليه وسلم في الجمعة.
وجاء في بعض السنن أن في خلافة ابن الزبير -وكان في مكة- اجتمع العيد والجمعة فصلى العيد بالناس، ثم جاء الناس للجمعة فلم ينزل إليهم، وطلبوه للجمعة فلم يأت، وكان ابن عباس بالطائف، فلما جاء أخبروه بما فعل ابن الزبير، فقال: أصاب السنة.(100/3)
خلاف العلماء في سقوط الجمعة يوم العيد
ويبحث العلماء في قوله: (رخص في الجمعة) ، فإذا جاء وقت الجمعة ولا جمعة فهل يصلون ظهراً أو أن الجمعة هي فرض اليوم وقد رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها؟ فمنهم من يقول: لما رخص في الجمة سقطت وسقط فرض الظهر في ذلك اليوم؛ لأن الجمعة هي فرض يوم الجمعة، ويكون الظهر لمن لم يدرك الجمعة، أو كان من أهل الأعذار كالمريض والنساء والعبيد والصبيان والمسافر، فإذا سقطت الجمعة عن أهل الأعذار لأعذارهم صلوا ظهراً، وهولاء رخص لهم في تركها.
فمن نظر إلى أصل الرخصة قال: رخص لهم وبقي الأصل، فيصلون الظهر، واستدلوا بما فعل أصحاب ابن الزبير، فإنهم صلوا وحداناً، وقالوا: كيف يترك -وهو إمام وصاحب بيعة- المجيئ إليهم؟ فقالوا: لعله صلى الظهر في بيته.
ولما لم يخرج إليهم وصلى الظهر جماعة يكون قد سن ظهراً يوم الجمعة، وهذا ممنوع.
وهل الرخصة في ترك الجمعة يوم العيد لمن كان من الضواحي كأهل العالية كما فعل عثمان، أو أنه على عمومه ويترك الجميع حتى الإمام كما فعل ابن الزبير؟ فهناك من يقول: يرخص لعامة الناس، ما عدا من يحضر مع الإمام لإقامة شعار الجمعة، وهناك من يقول: إنما يكون الترخيص لمن كان بمثابة أهل العالية، وهناك من يقول: رخص ولكن نصوص الجمعة الواجبة والتحذير منها تعارض هذا الترخيص، فعلى الناس أن يصلوا عيداً وجمعة، كما قال الشافعي رحمه الله.
والراجع أن الترخيص في ترك الجمعة لمن كان يتكلف المجيئ إلى الجمعة كتكلفه المجيئ إلى العيد، أما من لم يتكلف ذلك، فالله تعالى أعلم.
فالتعارض قائم، والأحوط المجيء، ولكن الذي عليه الجمهور أن على الإمام أن يصلي الجمعة حضر معه من حضر، ومن لم يأتِ الجمعة وقد حضر العيد فلا يعنف، ولا يقال له: لم تركت؟ فله من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مخرج، والله تعالى أعلم.
[ثم قال: (من شاء أن يصلي فليصل) ] .
قوله: (من شاء) ، أي: من شاء أن يصلي الجمعة، فالتخيير قائم مع وجود الرخصة، فمن شاء استعمل الرخصة، ومن شاء تركها ورجع إلى الأصل، وهذا هو أرجح الأقوال.(100/4)
السنن الواردة بعد صلاة الجمعة
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً) رواه مسلم] .
هذا شروع في بيان السنة يوم الجمعة، والسنة يوم الجمعة نجد فيها خلافاً، فهناك من يقول: ليست هناك سنة راتبة.
وفرق بين السنة الراتبة والسنة المطلقة، وقد جاء في السنن الرواتب حديث ابن عمر أنه حفظ عن رسول الله عشر ركعات، وجاء حديث آخر فيه: اثنتا عشرة ركعة، قبل الصبح ركعتان، وقبل الظهر أربع وبعده ركعتان أو أربع، وأربع قبل العصر، وبعد المغرب ركعتان وركعتان بعد العشاء، فهذه سنن راتبة مترتبة مع الفريضة، لكن سنة الضحى ليست مرتبة مع غيرها، ولكن قائمة بذاتها، وكذلك صلاة الليل نافلة مطلقة.
أما الجمعة فبعض العلماء -كالأحناف- يقولون: راتبة الجمعة كراتبة الظهر، أقلها ركعتان قبلها، وركعتان بعدها، ولكن الحديث فيه: (من بكر وابتكر، وغسل واغتسل، وصلى ما تيسر له ... ) ، فقال: (ما تيسر) ، وليس فيه عدد معين.
ولذا قال الآخرون: لا راتبة للجمعة.
قالوا: إذا جاء مبكراً فله أن يصلي ما تيسر له، سواءٌ أصلى ركعتين أم صلى أربعاً، أم صلى ستاً، أم صلى أكثر من ذلك، فليس هناك شيء محدود قبلها.
ولكن جاء في الحديث هنا أنه يصلي بعدها أربعاً، وجاء التفصيل بين أن يصلي في المسجد وأن يصلي في بيته، فإذا صلى نافلة بعد الجمعة في المسجد فليصل أربعاً لهذا الحديث، وإن لم يصل في المسجد وصلى في بيته صلى ركعتين.
فالحديث عامٌ، ولكن يحمل على ما جاء في الحديث الآخر، فمن تنفل للجمعة بعدها في المسجد صلى أربعاً، ومن أخر تنفل الجمعة إلى البيت اجتزأ بركعتين، كما جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وغيرها، وبهذا تكون الراتبة أو النافلة بعد الجمعة بحسب ما سيصيلها فيه، فإن كان في المسجد فأربعاً، وإن كان في البيت فركعتين، والله تعالى أعلم.
فإن قيل: كيف تجزئ ركعتان في البيت عن أربع في المسجد؟ ولماذا لا تكون أربعاً في المسجد أو في البيت، أو ركعتين في البيت أو في المسجد؟ والجواب: أنه قد جاء عنه صلى الله عليه وسلم في غير هذا الموضع من باب الإيماء والتنبيه قوله: (خير صلاة المرء في بيته، إلا المكتوبة) ، فالتي في البيت معها الأفضلية، وما دام أن معها الأفضلية فإن ركعتين تساويان الأربع.
وقالوا أيضاً: صلاة المرء في بيته فيها فوائد جانبية: أولاً: التماس البركة بذكر الله والصلاة في المكان؛ لأن البيت الذي لا صلاة فيه ولا تلاوة فيه كالقبر المهجور.
ثانياً: أن في البيت أطفالاً ونسوة يعلمهم الصلاة، وفيه كذلك حث الأهل الموجودين الذين لم يصلوا على الصلاة، وحث للنسوة اللواتي ما عليهن جمعة أن يصلين الظهر، وذلك حينما يأتي ويصلي النافلة.
فما دامت الصلاة في البيت لها عدة فوائد عامة وخاصة فتكون لها الأولوية، ويجزئ فيها الركعتان بدلاً عن الأربع في المسجد.
وقوله صلى الله عليه وسلم: [ (إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً) ] هل معناه: فليصل بعدها فوراً، أم أن قوله: (بعدها) يصدق على التسويف.
والواقع أننا نجد أحاديث وآثاراً في أن الإنسان لا يصل النافلة بالفريضة، وجاء عن بعض السلف: أن لا يتنفل حتى يتكلم، ويرى بعض العلماء أنه يندب له أن يتحول من مكانه، أي أنه يُوجِد فاصلاً حسياً بين الفريضة والنافلة، حتى لا يظن ظان أن هذه النافلة متممة لتلك الفريضة.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً) ليس معناه بعدها على الفورية والمتابعة حتى تكون كجزء منها، بل يفصل بين النافلة والفريضة بفاصل محسوس، إما بكلام، وإما بانتقال إلى مكان آخر.(100/5)
كتاب الصلاة - باب صلاة الجمعة [7]
جمع حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صلاة الجمعة جملة من الآداب المطلوبة يوم الجمعة، وبين أن الذي يمتثلها ينال الأجر والثواب والمغفرة من الله سبحانه وتعالى، ومن هذه الآداب: فمنها الاغتسال للصلاة، والتبكير إلى المسجد، ثم الانشغال بالصلاة حتى يخرج الخطيب، فإذا خرج أنصت واستمع للخطبة، مع الحرص على اغتنام الساعة التي يستجاب فيه الدعاء يوم الجمعة.(101/1)
تابع أحكام صلاة الجمعة
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:(101/2)
الغسل يوم الجمعة ووقته عند العلماء
فيقول المصنف رحمه الله: [وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه أن معاوية رضي الله عنه قال له: (إذا صليت الجمعة فلا تصلها بالصلاة حتى تتكلم أو تخرج؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك ألا نصل صلاةً بصلاةٍ حتى نتكلم أو نخرج) رواه مسلم] .
المؤلف لما جاء بحديث: (إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً) أراد أن يبين لنا البعدية هذه بما جاء عن معاوية رضي الله عنه في قوله لمحدثه: لا تصل نافلة بالفريضة، وبيّن له أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تصل نافلة بفريضة حتى تتكلم بكلامٍ خارج عن الصلاة يعلن انتهاءها، أو تخرج من المسجد فتصلي في بيتك، وهذا هو الذي أشرنا إليه سابقاً.
[وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اغتسل ثم أتى الجمعة فصلى ما قدر له، ثم أنصت حتى يفرغ الإمام من خطبته ثم يصلي معه غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام) رواه مسلم] .
هذا المبحث أطال فيه العلماء الكلام، ونصيحتي للإخوة طلبة العلم أن يرجعوا في هذا المبحث إلى فتح الباري.
وسنأخذ الحديث كلمة كلمة، وتحت كل كلمة مبحث كامل.
قوله صلى الله عليه وسلم: (من اغتسل) : الغسل معروف بصورته وهيئته، وفي بعض الروايات: (كغسل الجنابة) ، حتى يرفع احتمال الوضوء؛ لأن الغسل والوضوء كلاهما يدخل في عموم النظافة، فقوله: (من اغتسل) يراد به الغسل الكامل الشبيه بغسل الجنابة.
قوله: (اغتسل ثم أتى) ، ثم للعطف والترتيب والتراخي، فيبحث العلماء في وقت الغسل يوم الجمعة.
وقد جاء في صحيح البخاري ما يشعر بأن الغسل يوماً في الأسبوع حق على كل مسلم، ويأتي الحديث: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) ، وعقد العلماء البحث في: هل الغسل لليوم أو للجمعة؟ فقال داود الظاهري وابن حزم: الغسل لليوم، فمن اغتسل بعد الفجر أو قبل غروب الشمس أجزأه.
وجاء في صحيح البخاري: (حق لله على كل مسلم أن يغتسل لكل أسبوع مرة) ، فالإسلام دين النظافة، وهذا الحديث يجعل هذه الطهارة طهارة واجبة ولو لم تكن جنابة.
وفي رواية لـ مالك: (ثم راح) بدل: (أتى) فالغسل قبل الرواح، فلو اغتسل بعد الفجر ثم -بعد التراخي- نودي للصلاة فذهب فإنه يصدق عليه أنه اغتسل ثم راح.
وقد وقع الخلاف في تعيين الوقت الذي يغتسل فيه؛ لقوله: (اغتسل ثم أتى الجمعة) ، والإتيان يصدق على أي جزء من النهار قبل الجمعة، ومالك رحمه الله قال في قوله: (ثم راح) ، إن الرواح والغدو اسمان للسعي قبل الزوال وبعده، فيقال للزمن قبل الزوال: الغدو، ويقال لما بعد العصر العشي، ويقال لما بعد الظهر: الرواح، وبعضهم يقول: العشي يدخل من بعد الزوال، فرواية مالك: (ثم راح) تدل على أن الغسل يكون قبل أول النداء، وأن يذهب بهذا الغسل إلى الصلاة، أي أنه إن اغتسل في أول اليوم ثم انتقض وضوؤه سن له أن يجدد الغسل ويصلي الجمعة بطهارة الغسل؛ لأن الرواح يكون بعد الزوال، فيغتسل ويذهب، وسيأتي عند مالك أن الساعة الأولى والساعة الثانية ساعات لغوية، أي: لحظات متقاربة تبدأ من بعد الزوال.
والجمهور على أنها ساعات توقيتية، والنهار اثنتا عشرة ساعة، والساعة الأولى من النهار والثانية منه مقدرة على الساعة الزمنية التوقيتية.
فقوله: (ثم أتى) يصدق على الإتيان للجمعة في أي وقت قبل النداء، ولذا قال الجمهور: من اغتسل بعد الفجر من يوم الجمعة أجزأه، ويقول مالك: لا يكون الغسل إلا عند الرواح للصلاة، فيصلي به الجمعة، وسيأتي زيادة إيضاح لهذه المسألة.
وفي قوله: (ثم أتى الجمعة) يقال: هل الإتيان للجمعة أم لمكان الجمعة؟ فهما متلازمان، فالجمعة لا بد لها من مكان، والمكان لأجل الجمعة، فيقال: أتى إلى المسجد في صلاة الجمعة.(101/3)