كتاب الطهارة [المقدمة]
هذه المقدمة هي فاتحة كتاب المؤلف رحمه الله، ذكر فيها منهجه واصطلاحاته في تأليف الكتاب لأجل الاختصار وعدم التطويل في ذكر الرواة، وتكرارهم نهاية كل حديث.(1/1)
مقدمة الإمام ابن حجر لبلوغ المرام
بسم الله الرحم الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف الحافظ ابن حجر رحمه الله: [بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله على نعمه الظاهرة والباطنة قديماً وحديثاً، والصلاة والسلام على نبيه ورسوله محمد وآله وصحبه الذين ساروا في نصرة دينه سيراً حثيثاً، وعلى أتباعهم الذين ورثوا علمهم -والعلماء ورثة الأنبياء- أكرم بهم وارثاً وموروثاً.
أما بعد: فهذا مختصر يشتمل على أصول الأدلة الحديثية للأحكام الشرعية، حررته تحريراً بالغاً، ليصير من يحفظه من بين أقرانه نابغاً، ويستعين به الطالب المبتدي، ولا يستغني عنه الراغب المنتهي، وقد بينت عقب كل حديث من أخرجه من الأئمة لإرادة نصح الأمة] .
الشرح: تقدم طرف من الكلام على أوائل هذه المقدمة، وبيان أن المؤلف رحمه الله تعالى جمع هذا المختصر، وسيبين من أين اختصره، وقد حرره تحريراً بالغاً، وتحرى فيه الأحاديث التي تبنى عليها الأحكام، فليس في هذا الكتاب المبارك حديث موضوع ولا متهم راوية بكذب، وأقل درجات أحاديثه في الجملة أن يكون حسناً لغيره، أي: فيه بعض الضعف ولكنه يجبر بغيره، وقد يسوقه مع ضعفه؛ لأنه أراد أن يبين أدلة الأحكام في المسائل الفقهية من عبادات ومعاملات فيما ذهب إليه العلماء رحمهم الله.
قال: (ليصبر من يحفظه بين أقرانه نابغاً) حفظ هذا الكتاب في الواقع يورث علماً جماً، ويعطي ملكة في الحديث والفقه، وقل أن يأتي من حفظه إلى باب من أبواب الفقه في أي كتاب من كتب الحديث إلا وكان له سبيل فيها.
وهذا الكتاب بمثابة التمهيد -كما قال- للمبتدئ، ولا يستغني عنه المنتهي، أي: الذي درس مجاميع السنة مثل: كتب المسانيد والصحاح والسنن، فمهما كان قد قرأها فإنه لا يستغني عن هذا الكتاب؛ لأنه ملخص ومحرر، بخلاف المسانيد تحتاج إلى تحر في أسانيدها على ما ستأتي الإشارة إليها إن شاء الله عند بيان ممن اختصر هذا الكتاب.(1/2)
اصطلاحات ابن حجر في بلوغ المرام
وقد جعل له اصطلاحاً خاصاً من باب الاختصار، فبدلاً من أن يقول: رواه البخاري ومسلم، يقول: متفق عليه، وبدلاً من أن يقول: رواه البخاري ومسلم وأحمد يقول: رواه الثلاثة رواه الأربعة رواه الخمسة رواه الستة رواه السبعة ويكتفي بالعدد، وقد بين لنا معنى هذا كله وما هي هذه الأعداد التي يقصدها.
فبين هذا المنهج كله في المقدمة ليسهل عليك، ويختصر لك الكلام في تسمية العلماء وأصحاب السنن عند كل حديث، وإذا ذكر زيادة عن كتب السنن فإنه يذكر عمن أخذها، فمثلاً: البيهقي لم يكن كتابه من كتب السنن التي اعتمد عليها، فإذا ذكر حديثاً عن البيهقي قال: رواه البيهقي، وسماه باسمهِ، وكذلك غيره من علماء الحديث، وسنمضي معه رحمه الله لنرى من هم العلماء وأصحاب السنن الذين اختصر هذا الكتاب وحرره عنهم تحريراً بليغاً.
قال رحمه الله: [وقد بينت عقب كل حديث من أخرجه من الأئمة لإرادة نصح الأمة] .
بين لك -أيها الطالب- عقب كل حديث من أخرجه، حتى تقف على درجة الحديث من قوة الصحة أو ضعفها، وحتى يخفف عليك المئونة أن تذهب وتبحث عن هذا الحديث، ومن الذي أخرجه؟ وعن سنده ورجاله، فقد بين لك عند آخر كل حديث من الذي خرجه، وقد يشير إلى تحسين أو تضعيف.
قال رحمه الله: [فالمراد بالسبعة أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة] .
هذا مما لا بد منه لمن يقرأ هذا الكتاب أن يحفظ هؤلاء السبعة، فالمراد بالسبعة أحمد، وهو أحمد بن حنبل في مسنده، والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة.
وهنا بدأ بمسند أحمد، وهناك مسانيد أخرى كمسند أبي داود الطيالسي وأبي عوانة، وسنن الدارمي، وابن خزيمة، وموطأ مالك، فلماذا اقتصر في المسانيد على أحمد ولم يذكر هؤلاء؟ المسند: هو أن يأتي العالم ويجمع كل ما وقف عليه من مرويات الصحابي تحت باب واحد، فيجمع مثلاً ما روي عن أبي هريرة تحت عنوان: مسند أبي هريرة، فمرة نجده يروي عن أبي هريرة في الطهارة، ويليه مباشرة حديث في الجهاد، وآخر في الصيام، فليس هناك ترتيب لمرويات الصحابي حسب أبواب الفقه، ومهمة (المسنِد) بالكسر، أن يسند وأن يجمع ما أسنده هذا الصحابي إلى رسول الله، فلم تصنف المسانيد حسب الأبواب والمسائل الفقهية، فقالوا: أصحاب المسانيد كانت غايتهم جمع الأحاديث حتى لا تضيع، ومن هنا فعنايتهم بالصحة والتدقيق في سند الحديث ليست كعناية أصحاب السنن، إلا أن مسند أحمد تميز عن بقية المسانيد بأنه لا يمكن أن يثبت فيه حديثاً اتفق الناس على تركه، ولهذا فإنه يؤخذ عنه، أما بقية الكتب الأخرى من السنن فيقولون: عندهم تساهل في الحكم على الحديث بالصحة أو الضعف، وليس هناك التحري والدقة التي نجدها عند البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي، فهؤلاء تحروا الصحة والدقة أكثر من غيرهم من أصحاب السنن.
وأين موطأ مالك الذي يقول فيه الشافعي وينقلها عنه الذهبي: (موطأ مالك أصح كتاب على وجه الأرض بعد كتاب الله) ؟ قالوا: لم يذكره ابن حجر ولا أهل السنن لأن مالكاً في طبقة من نقل الحديث ورواه عن التابعين عن الصحابة، وليس ممن جمعوا مع أنه جمع الحديث.
وبعضهم يقول: الموطأ لم يختص بالأحاديث المسندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل فيه مسند لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه موقوف على الصحابة، وفيه مقطوع عن التابعي، وفيه آراء العلماء، وفيه آراء مالك بنفسه.
فقالوا: هذا كتاب على نمط مستقل خاص بالإمام مالك، وليس معنى ذلك أنه أضعف؛ من الكتب السابقة بل إنه أعلى مرتبة من كل من سماهم؛ لأن مالكاً من الذين روى عنهم البخاري، أي أنه يروي الحديث بسنده حتى يصل إلى مالك، فيكون مالك من رجال الحديث عند البخاري.
وقد اختار المؤلف مسند أحمد على غيره من المسانيد لأن أصحاب المسانيد كانت مهمتهم جمع الحديث، وبعد أن جمعت المسانيد كان أحمد متقدماً على البخاري ومسلم؛ لأن البخاري ومسلماً رحمهما الله لما رأوا أن عمل أصحاب المسانيد الجمع، والجمع قد يأتي فيه خلل، نهضوا إلى جمع ما صح من الأحاديث على شرطهما، فـ البخاري يشترط اللقيا، أي: أن يكون كل راوٍ قد لقي من روى عنه حتى لا تكون واسطة مجهولة، ومسلم نزل قليلاً وقال: إذا روى إنسان عمن يعاصره اكتفيت بذلك، والآخرون نزلوا أيضاً قليلاً، ولهذا يقول العلماء: أصح الروايات ما اتفق عليه البخاري ومسلم ثم ما انفرد به البخاري، ثم ما انفرد به مسلم، ثم تنزل الدرجة إلى أبي داود، ثم يليه الترمذي، ثم يليه النسائي، ثم يليه ابن ماجة.
وهكذا.(1/3)
تسمية ابن حجر للكتاب
قال: [وسميته بلوغ المرام من أدلة الأحكام] .
بلوغ الشيء: الوصول إليه، ومنه البلغة أي: الشيء الذي يوصلك إلى الغاية التي أنت مسافرٌ إليها، ومنه: البلاغة؛ لأن بلاغة البليغ هي: القدرة على أن ينقل لك ما في صدره أو في قلبه أو في علمه ويبلغه إليك، فإن كان فصيحاً ومتكلماً استطاع أن يعبر لك عما في نفسه، ويوصله إلى ذهنك، وإن لم يكن بليغاً فلن تستطيع أن تفهم منه شيئاً، ولن يستطيع أن يفهمك.
والمرام: هو الذي يرومه الإنسان ويسعى إليه برغبةٍ عنده.
وقوله: (من أدلة الأحكام) : لأن المرامات كثيرة، فهناك من يروم الدنيا، وهناك من يروم الآخرة، وهناك من يروم علم الميكانيك، وهناك من يروم علم الزراعة وهكذا، ولكنه بين القصد فقال: (سميته بلوغ المرام من أدلة الأحكام) ، إذاً: لا تطلب فيه عقيدة ولا موضوع السيرة أو الغزوات؛ لأنه ليس موضوعها، ولا تطلب فيه مواضيع الزراعة أو الحث على أمور دنيوية، إنما موضوعه يدور في فلك الأحكام، والأحكام: إما عبادات حقٌ لله تعالى على العباد، وإما معاملات، ولم يتعرض للبعث والجزاء والجنة والنار وما فيها، والحوض وغير ذلك، فليس هذا من شأنه ولا من مقصده في هذا الكتاب، إنما مقصده هو أدلة الأحكام.(1/4)
المراد بقوله: متفق عليه
قال: [وبالمتفق عليه: البخاري ومسلم] .
فبدلاً من أن يذكر الاثنين - البخاري ومسلماً - يقول: متفق عليه.
قال: [وقد لا أذكر معهما غيرهما] .
أي: إذا قال: متفق عليه، أي: رواه: البخاري ومسلم، اكتفى بذلك، ولم يذكر معهما غيرهما ممن روى ذلك الحديث.
قال: [وما عدا ذلك فهو مبين] .
أي: ما عدا هذه الاصطلاحات وهي: السبعة والستة والخمسة والأربعة والثلاثة والاثنان، فهو مذكور عقب كل حديث، فإذا خرج عن هذا النظام فإنه يبين ذلك في موضعه.(1/5)
المراد بقوله: أخرجه الثلاثة
قال: [وبالثلاثة من عداهم وعدا الأخير] .
أي: من عدا الثلاثة الأول وهم: أحمد، والبخاري، ومسلم، والأخير وهو ابن ماجة، فيخرج: أحمد والبخاري ومسلم وابن ماجة، ويبقى: أبو داود، والترمذي، والنسائي.(1/6)
المراد بقوله: أخرجه الأربعة
قال: [وبالأربعة من عدا الثلاثة الأول] .
أي: ما عدا البخاري ومسلماً وأحمد؛ لأنه قال: ما عدا الثلاثة الأول، على الترتيب الذي ذكره، فإذا قال: (رواه الأربعة) خرج ثلاثة من السبعة وهم الثلاثة الأوائل: أحمد، والبخاري، ومسلم، ويبقى: أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، فهؤلاء هم الأربعة.(1/7)
المراد بقوله: أخرجه الستة
قال رحمه الله: [وبالستة من عدا أحمد] .
وإذا قال: رواه الستة من دون الإمام أحمد، وهم:: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة.(1/8)
المراد بقوله: أخرجه الخمسة
قال: [وبالخمسة من عدا البخاري ومسلماً] .
وإذا قال: رواه الخمسة، أخرج البخاري ومسلماً، ويبقى أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة.
قال: [وقد أقول: الأربعة وأحمد] .
فحينما يقول: رواه الخمسة، إنما يريد كلهم ما عدا البخاري ومسلماً، وقد يعبر عن الخمسة بالأربعة وأحمد.(1/9)
ختم ابن حجر المقدمة بدعاء الله العمل بالعلم
قال: [والله أسال أن لا يجعل ما علمنا علينا وبالاً] .
هذا دعاء خير نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعلمنا وأن ينفعنا بما علمنا، وأن لا يجعل ما علمنا وبالاً علينا، وهذا عياذاً بالله من علم ولم يعمل، أو عمل بنقيض ما يعلم.
والله سبحانه وتعالى قد بين أقسام الناس تجاه العلم والعمل في أعظم سورة في كتاب الله، وعند أعظم مسألة يسألها العبد ربه، وفي أعظم موقف يقفه الإنسان وهو في الصلاة بين يدي الله حينما يقرأ الفاتحة، ويقدم المقدمة العظيمة ويعلن فيها الحمد لله سبحانه، ويقر لله بربوبيته للعالمين، ثم يصفه بصفات الجلال والكمال: (الرحمن الرحيم) ثم يقر بالبعث والجزاء، وأن الملك في ذلك اليوم لله وحده، ثم يقر ويعترف ويذعن: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] بأنه لا يعبد غيره، ولا يستعين بسواه، وبعد هذا الثناء الجميل كله يسأل الله تعالى ويقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] ، فهي أعظم مسألة في أعظم موقف بعد أعظم مقدمة.
ولهذا جاء في الحديث: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي قسمين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ} [الفاتحة:2] قال الله: حمدني عبدي فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] قال الله: أثنى علي عبدي.
فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ، قال الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل) .
(إياك نعبد) هذه لله سبحانه، (وإياك نستعين) هذه للعبد، (ولعبدي ما سأل) وهو قوله: (اهدنا) ، وقد بين سبحانه هذا الصراط بقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] ، والاستقامة ليست مجرد الاعتدال على خط معتدل كالسهم، فكل من سار على منهج معين لتحقيق غاية فهو المستقيم.
ويقول علماء الأدب والاجتماع: الاستقامة وسطٌ بين طرفين، وسطٌ بين طرفي الإفراط والتفريط، فقالوا مثلاً: الشجاعة وسطٌ بين التهور وإلقاء النفس إلى التهلكة وبين الجبن وعدم الإقدام، فإذا كان يلقى من هو أقوى منه أو أكثر منه ولا يجد طريقاً للعودة، فهذا متهور وليس بشجاع، فلم ينظر إلى العواقب؛ لأن الحرب كر وفر، والذي لا يقدم ولا يقاتل هذا جبان، والشجاعة أن يقدم وقت الإقدام، ويحجم وقت الإحجام.
وقالوا مثلاً: الكرم وسطٌ بين التبذير وإلقاء المال على غير وجهه، وبين التقتير وألا ينفق ولا درهماً، فإذا ما أنفق المال قليلاً كان أو كثيراً في أوجه الإنفاق كان كريماً.
ولهذا يقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] ، فلا إفراط ولا تفريط، والإفراط والتفريط هو الذي وقعت فيه الأمتان السابقتان: اليهود والنصارى، قال تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] ، فهاتان الأمتان مفرطتان، والأمة وسطٌ بينهما، فاليهود فرطوا في كتاب الله، علموا ولم يعملوا: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء:46] ، {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة:174] ، ويحتالون على ما حرم الله، فلما حرم الله عليهم الصيد يوم السبت ألقوا الشباك يوم الجمعة وسحبوها يوم الأحد وفيها الحيتان، وقالوا: ما عملنا يوم السبت شيئاً، ولما حرم الله عليهم شحوم الميتة جملوها ثم أذابوها وباعوها، وأخذوا الثمن وأكلوا به ما يريدون، فهذا يسمى تفريط في حق الله وفي أوامره.
والإفراط الذي وقع فيه النصارى أنهم عملوا عن جهالة، ولهذا يقول العلماء: كل من ترك العمل بما علم ففيه شبه من اليهود، وكل من عمل على غير علم ففيه شبه من النصارى، أما هذه الأمة فإنها جاءت وسطاً، وقضية تحريم الصيد معلومة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة:94] ، فحينما خرجوا في صلح الحديبية كان يأتي الصيد ويقع على ساق الفرس، وعلى سن الرمح، وتأتي الضباع وتتخلل بين أرجل الإبل، فما امتدت يد واحد إلى صيد شيء منها، أما اليهود فحينما قيل لهم: {ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:21] ، قالوا: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} [المائدة:22] وقالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة:24] ، وتأتي هذه الأمة لا يساوون مع العدو أكثر من الثلث، قوم خرجوا إلى عير في بدر، وجاءهم النفير بكامل العَدد والعُدد، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه.
فقالوا: والله لن نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا هاهنا قاعدون، نقول: بل اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك.
إذاً: كانت هذه الأمة وسطاً بين تلك الأمتين اللتين وقعت إحداهما في الإفراط والأخرى وقعت في التفريط، ولهذا لم تكن أمة من تلك الأمتين صالحة لدوام الرسالة فيها، فنقل الله الرسالة من بني إسرائيل من الشام إلى الحجاز، وجاء بإسماعيل عليه وعلى نبينا أفضل صلاة وسلام، وكان من دعوة إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} [البقرة:129] الآية، وكانت نشأة الدين من جديد في الجزيرة العربية.
إذاً: في هذا الكتاب المبارك يدعو المؤلف في النهاية أن يجعل الله سبحانه وتعالى ما علمناه حجة لنا، لا أن يكون حجة علينا.
قال: [وأن يرزقنا العمل بما يرضيه سبحانه وتعالى] .
آمين.
والله أسأل أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح المتقبل، وبالله تعالى التوفيق.(1/10)
كتاب الطهارة - باب المياه [1]
الماء طهور لا ينجسه شيء، إلا ما غلب على ريحه أو لونه بنجاسة تحدث فيه، وهذا من أحكام المياه التي بينها الفقهاء بأدلتها من الكتاب والسنة، وهي أحكام تدل على كمال الشريعة، وشمولها، وحكمتها.(2/1)
شرح حديث: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسولنا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في البحر: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) أخرجه الأربعة وابن أبي شيبة واللفظ له، وصححه ابن خزيمة والترمذي، ورواه مالك والشافعي وأحمد] .
قال المؤلف: أخرجه الأربعة، والأربعة هم من عدا أحمد والبخاري ومسلماً، وهم: أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة.
قال: وابن أبي شيبة.
ابن أبي شيبة ليس من السبعة، لكنه قد يذكر من غير السبعة، فـ ابن أبي شيبة أخرجه في مصنفه.
وقوله: واللفظ لـ ابن أبي شيبة، كأنه رآه أجمع من غيره، مع أن رواية الموطأ واسعة ووافية في هذا.
وقوله: وصححه ابن خزيمة، ليس هو من السبعة، ولكن حتى لا يقول أحد: اصطلح على ذكر السبعة والآن ذكر لنا تسعة! لكن اختصاراً للأسماء اصطلح على السبعة، وإذا لزم الأمر أن يذكر غيرهم سماه، فسمى هنا ابن أبي شيبة، وقال: صححه ابن خزيمة، مع أنه لم يروه من السبعة غير المذكورين، وكذا صححه الترمذي.
ورواه مالك، ومالك لم يذكر في السبعة، ولكنه وجده في الموطأ فأراد أن يدعّم الحديث بمن صححه من علماء الحديث، وذكر من رواه سوى الأربعة، ويكفي أنه موجود في موطأ مالك.
ورواه كذلك الشافعي، وهل له كتاب في الحديث وهو المسند، وكذلك أبو حنيفة رحمه الله له مسند، ولكنها مسانيد مختصرة صغيرة.
ورواه أحمد، وقد ذكره لأن الأربعة هم من عدا الثلاثة، فأخرج أحمد من السبعة ثم ذكره.
إذاً: عرفنا تخريج الحديث من اصطلاح المؤلف في الأربعة، وكذا من ذكرهم بأسمائهم وأعيانهم.
وهذا الحديث يقول عنه الشافعي رحمه الله: هو أصل أصيل في كتاب الطهارة.(2/2)
حكم ميتة البرمائيات
الحيوان الذي يعيش في الماء، وتارة في البر، ما حكم ميتته؟ فيه ثلاثة أقوال: قيل: يعتبر بحرياً، وقيل: يعتبر برياً، وقيل: العبرة بمكان موته، فإن وجدناه في البحر فهو ميتة بحر، وإن وجدناه في البر فهو ميتة بر.(2/3)
الحكمة من التفريق بين ميتة البحر والبر
جاء في الحديث الآخر: (أحلت لنا مييتان: السمك والجراد) ، يقول بعض العلماء: لماذا كانت ميتة السمك حلال، ولا تحتاج إلى تذكية؛ بينما الشاة والغزال والأرنب تحتاج إلى تذكية؟ ليعلم أن جميع الحيوانات تعيش على الأكسجين الذي في الهواء، وتخرج ثاني أكسيد الكربون عند التنفس، فإذا ما خنقت أو ماتت حتف أنفها واحتبس الدم فيها؛ فنصف الدم مسمم بثاني أكسيد الكربون، والتذكية تخلص اللحم من هذا السم الذي في الدم، أما السمك فيتنفس الأكسجين من الماء، وليس هناك ثاني أكسيد الكربون، ولهذا إذا أخذت السمكة وهي حية وقطعت فسينزل منها دم أحمر، وإذا جف دم السمك صار أبيض، وأما دم الحيوان البري فإنه إذا جف صار أسود، فالسواد في دم حيوان البر هو بسبب ما فيه من ثاني أكسيد الكربون، وهو سام، والبياض الموجود في دم السمك لخلوه من هذا، ولهذا لو مات السمك ولم يخرج دمه، فدمه لا مضرة فيه على الإنسان، اللهم إلا ما طفا على وجه الماء فيرى الإمام أبو حنيفة رحمه الله أنه لا يؤكل، حفاظاً على الإنسان، حتى لا تلحقه المضرة من هذا الذي طفا على الماء، والله تعالى أعلم.(2/4)
حكم ميتة البحر
ولما رأى صلى الله عليه وسلم التباس الأمر عليهم في طهورية ماء البحر، أدرك أنه من باب أولى سيلتبس الأمر عليهم في ميتة البحر، وهم المخالطون للبحر ولميتته ولمائه، فأضاف إلى الجواب ما يرفع اللبس الذي أدركه في حقهم، فأضاف قوله: (الحل ميتته) يقول بعض العلماء: كل ميتة البحر حلال، والبعض يقول: ما عدا السمك الطافي، كما هو مذهب الأحناف، ولهم أدلة على ذلك، فمذهبهم المشهور عنهم عدم جواز أكل السمك الطافي على وجه الماء، وليس هذا لمعارضة الحديث، ولا لعدم العمل به؛ ولكن لأن السمك إذا مات، وأُخذ في أول موته؛ لم يكن فيه مضرة؛ لأن جسمه لم يتغير ولم يتعفن، ولكن إذا طال الوقت تعفن، ودخلت فيه البكتيرياء، ودخله الهواء، وصار جسمه خفيفاً فيطفو على وجه الماء، فإذا أكله الإنسان كان مضنة المضرة لمكثه مدة بعد موته، فقالوا: يكره أكل السمك الطافي على وجه الماء، وخالف الجمهور الأحناف في استثنائهم السمك الطافي، وهذا فيما يظهر ليس متفقاً عليه عندهم؛ لأنه جاء في كتاب (فتح القدير) أنهم لا يحلون للمحرم من صيد البحر إلا السمك، ولكن الله أباح للمحرم كل صيد البحر، واستدل الجمهور على ذلك بحديث العنبر، في قصة سرية أبي عبيدة بن الجراح، حينما نفد زادهم، وكان جراباً من تمر، حتى كانوا يتقوتون على تمرة تمرة، وهم ستمائة رجل! قال الراوي: فرأينا كثيباً عظيماً على الساحل، فلما دنونا منه إذا به حوت عظيم يقال له: العنبر، فمكثنا عليه شهراً وأخذوا يأكلون من لحمه، ويصيبون من ودكه، قال الراوي: ولقد رأيت ثلاثة عشر رجلاً يجلسون في عينه! ولقد أخذنا ضلعين من أضلاعه ونصبناهما، ثم نظرنا إلى أطول رجل فركب أطول بعير، ومر تحت الضلعين! فذكروا ذلك لرسول الله فقال: (هذا رزق ساقه الله إليكم) ، والأحناف يقولون: إنما أكلوا منه للضرورة؛ لأن أبا عبيدة قال: إنه ميتة، ثم قال: نحن في سبيل الله، وأنتم مضطرون إليه، فكان على سبيل الاضطرار، ولكن قال الجمهور: في القصة أنهم لما رجعوا إلى المدينة ذكروا ذلك لرسول الله فقال: (هل بقي معكم منه شيء؟) ، فالضرورة وهم على ساحل البحر لنفاد زادهم، لكن ليس في المدينة ضرورة، فالراجح والصحيح هو قول الجمهور؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (الحل ميتته) .
لكنهم يستثنون بعض الأشياء، فقد استثنى مالك خنزير البحر، فعندما سئُل عنه قال: أنتم تسمونه الخنزير، والله قد حرم الخنزير، واستثنى كذلك كلب البحر، والبعض يحرم التمساح، أما الضفدع فقد جاء النهي عنه؛ لأن طبيباً استأذن رسول الله أن يجعله في الدواء فنهاه عن قتله، وعلى هذا نقول: نبقى على عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (الحل ميتته) ، وبعض العلماء يستثني الحيوانات التي يظن أنها ضارة كالسرطان ونحوه.
وعلى هذا أضاف قوله: (الحل ميتته) إلى قوله: (الطهور ماؤه) ؛ لأن راكب البحر قد يحتاج إلى السمك الميت، فقد ينفد طعامه ويحتاج إليه، والبعض يقول: ذكر ذلك ليعلم راكب البحر أن الميتة فيه لا تنجسه، وهذا أمر بعيد؛ فإنه لو رميت نجاسة الدنيا كلها في البحر فلن تؤثر فيه، والأرض بكاملها الربع منها يابس، وثلاثة أرباعها ماء، فما الذي ينجسه؟ إذاً: العلة في ذلك ليرفع اللبس عن ركاب البحر، ويعلمهم بأن الميتة في البحر حلال، وقد جاء عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه قال: (ما مات في البحر فقد ذكاه الله لكم) ، أي: ذبحه لكم، فلا داعي إلى التحرز عنه فهو حلال.(2/5)
سبب حديث: (هو الطهور ماؤه ... )
وهذا الحديث قد ذكره المؤلف مختصراً، وهذا من الإيجاز الذي عناه المؤلف بالتحرير، وأصل الحديث هو ما ذكره مالك في الموطأ: أن رجلاً يدعى عبد الله بن المدلجي كان يصيد في البحر، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا منه عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هو -أي: البحر- الطهور ماؤه، الحل ميتته) .(2/6)
من فوائد حديث: (هو الطهور ماؤه)
تكلم ابن عبد البر رحمه الله وغيره في شرح هذا الحديث ومدلولاته، وابن عبد البر تتبع رواياته التي أشار إليها المؤلف، ثم ذكر فوائد الحديث، وقد أشرنا إلى بعضها، ومن فوائده: أن قوله: (إنا نركب البحر) فيه إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركوب البحر، وفي هذا رد على من يقول: لا يجوز ركوب البحر إلا للضرورة، وهو مروي عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، وابن عمر يقول ذلك مخافةً من الهلاك؛ لأن البحر غول كما يقول الناس، ولهذا لا ينبغي لإنسان أن يركب البحر عند الهيجان في شدة المد والجزر، ومعلوم أن شركات التأمين التجاري لا تسمح لباخرة تحمل بضاعة تحت تأمينها أن تبحر وقت هيجان البحر؛ لأنها إن غرقت السفينة ضمنتها شركة التأمين، فهي لا تسمح لسفينة تحت ضمانها أن تبحر إلا إذا أخبرتها هيئة الأرصاد الجوية أن البحر هادئ، ودائماً نسمعهم في النشرات الجوية يقولون: الموج ما بين مترين ومترين ونصف إلى ثلاثة أمتار أو أربعة أمتار، إلى غير ذلك من أحوال البحر، فإذا كان البحر في وقت هيجانه فلا ينبغي للإنسان أن يركبه؛ لأن هذا قمة التهلكة، أما وهو هادئ فلا بأس، وقد يفاجأ أهل السفينة بأمواج عاتية؛ فحينئذ يكون الأمر بقضاء الله وقدره.
وقوله: (إنا نركب البحر) ، أي: نركب السفن في البحر، وحذف ما يعلم جائز كما يقول ابن مالك.
وقوله: (ونحمل معنا القليل من الماء) ، وفي بعض الروايات: (القربة من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟) فقال صلى الله عليه وسلم: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) ، يقول العلماء: من كان معه ماء في سفر أو في فلاة من الأرض، والماء على قدر حاجته؛ فلا يتوضأ به، بل يتيمم؛ لأن الرسول أرشدهم إلى ماء البحر مع وجود الماء العذب؛ لحاجتهم إليه في الشرب، وكذلك المسافر إذا احتاج إلى الماء في الشرب وفي صنع الطعام، قال العلماء: حتى ولو كان معه الدابة يركبها أو يسوقها، وهي في حاجة إلى هذا الماء لتشرب منه؛ فلا يجوز له أن يتوضأ، بل يوفر الماء للدابة كما يوفره لنفسه، ويتيمم؛ لأن الوضوء له بديل، وليس لماء الشرب بديل، فإذا قل الماء على مسافر أو على أحد في فلاة، واحتاج أن يوفر الماء لنفسه لشرابه أو طعامه، أو شراب ما معه من الحيوان المحترم الذي يصحبه معه؛ فليتيمم.
قال: فإن توضأنا منه عطشنا؛ لأنه قليل، ولا يمكن أن نشرب من ماء البحر، فكان الجواب منه صلى الله عليه وسلم من جانبين: الجانب الأول: أنه أفتاهم بزيادة عما سألوا، فقال: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) ، وهم لم يسألوا عن ميتة البحر.
الجانب الثاني: عدم الإجابة بنعم أو لا، ولما قال: (هو الطهور) كأنه ألغى صورة السؤال، وجعل الجواب مستقلاً، أي: سواء ركبتم ومعكم القليل من الماء، أو الكثير من الماء، أو لم تحملوا ماءً بالكلية، وسواء كنتم تحتاجون إلى ركوب البحر أو لا تحتاجون، فمن ركب البحر، واحتاج إلى الوضوء؛ فالبحر ماؤه طهور وميتته حلال، فلو قال: نعم؛ لكان الجواب محتملاً أن يكون مقصوراً على الذين يصطادون في البحر، أو حياتهم ترتبط بالبحر، ولا يشمل من ينزلون للنزهة، أو للسفر لأمر آخر، بل جاء بقضية مستقلة، بمبتدأ وخبره (هو -أي: البحر- الطهور ماؤه، الحل ميتته) .(2/7)
شرح حديث بئر بضاعة
قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء) أخرجه الثلاثة، وصححه أحمد] .
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يؤتى له بالماء من بئر بضاعة ويتوضأ منه، وبئر بضاعة في الشمال الشرقي من المدينة على مسامتة سقيفة بني ساعدة إلى الشمال، وكانت هذه البئر موجودة إلى عهد قريب، وأقيمت على مزرعتها مدرسة تحفيظ القرآن، وبعد ذلك كان النادي الأدبي، ثم أزيل الجميع.
وبئر بضاعة معلم من معالم السنة، ودراسة جغرافيتها نستفيد منها فوائد، وقد سبق إلى ذلك أبو داود رحمه الله، فعندما جاء إلى المدينة ذهب إلى هذا البئر، وقاس مساحتها.
فكان صلى الله عليه وسلم يستقى له من هذه البئر، ولم تكن كل آبار المدينة عذبة صالحة للشرب، وقصة بئر رومة معلومة، وهي التي تسمى الآن: بئر عثمان، كانت هذه البئر يستقي منها أهل المدينة، وكان رومة رجلاً يهودياً يبيع الماء، فقال صلى الله عليه وسلم: (من يشتري بئر رومة وله الجنة) ، فذهب إليه عثمان وثامنه، فأغلى الثمن جداً، فتكاثر عثمان الثمن، فقال: أنت حريص على الماء، فبعني نصفه، فباعه نصف البئر، فقال عثمان رضي الله تعالى عنه: نقسم البئر، فقال: كيف نقسمه؟ قال: لك يوم، ولي يوم.
وهذه قسمة عادلة.
فأعلن عثمان رضي الله تعالى عنه لأهل المدينة أن الماء في يوم عثمان مجاناً في سبيل الله، وصار الذي يريد ماء يأخذ ليومين، فيأتي يوم رومة ولا يوجد أحد يشتري منه الماء؛ لأن الناس يأخذون الماء في يوم عثمان، المهم أنه اشتراه منه، فكان الناس يستقون الماء من بئر عثمان في سوق كان هناك.
وفي ذات يوم خرج النبي صلى الله عليه وسلم فوجد أبا بكر وعمر فقال لهما: (ما الذي أخرجكما في هذه الساعة؟ قالا: أخرجنا الجوع، قال: وأنا والله ما أخرجني إلا الجوع، هلموا إلى فلان) ، وذهبوا إليه في بستانه، فوجدوا زوجته فقالت: إنه ذهب يستعذب لنا الماء، ثم جاء الرجل، وأكرمهم بقنو من النخل فيه رطب وبسر وتمر، وذبح لهم.
إلخ، والشاهد: أنه ذهب يستعذب ماء للشرب.
وكانت بئر بضاعة من الآبار التي يستعذب ماؤها، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، تنبيهاً على الواقع، ليعلم حقيقة الأمر، وهذا أيضاً من حقه عليهم، كما في قصة الضب، عندما قدم في المائدة، وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأكل منه فقيل له: إنه ضب، فرفع يده، فقالوا: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: (لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه) ، فاجتره خالد بن الوليد فأكله.
فهم قد أخبروا رسول الله بماذا سيأكل، وهذا كذلك هنا للتنبيه، فقد أخبروه بما يستقى له من الماء فقالوا: أيستقى لك من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها النتن؟ وفي بعض الروايات: الحِيَض -أي: قطع الخرق التي تستعملها الحائض-، فكانت خرق الدم تلقى في هذه البئر، فكان الجواب بعد هذا البيان: (الماء طهور لا ينجسه شيء) ، فانظر إلى هذا السؤال وهذا الجواب، فالماء طهور لا ينجسه شيء؛ لأن الماء الذي استقي له، وجيء به إليه؛ ليس به شيء من هذه الأشياء الموجودة في البئر، فقوله: (الماء طهور لا ينجسه شيء) يعتبر مطلقاً بدون قيد، فالماء من حيث هو طهور؛ لكن المؤلف بين التقييد بالحديث الثاني: (الماء طهور، إلا ما غلب على ريحه، أو لونه، أو طعمه بنجاسة) ، وكلمة (بنجاسة) لها مفهوم، فلو تغير أحد أوصافه بطاهر فلا يضر.
وهنا خلاف بين العلماء، فالجمهور حملوا المطلق على المقيد وقالوا: نجمع بين الحديثين فنقول: إن الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على أحد أوصافه الثلاثة، فنكون أعملنا القيد في المطلق، والقاعدة عند الأصوليين: حمل المطلق على المقيد، وبهذا يتم الجمع.
وستأتينا أحاديث ليس فيها تغير الماء، ومع ذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن استعمالها، فمثلاً: قال عليه الصلاة والسلام: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمسن يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات) ، قالوا: الإناء صغير، واليد ليس عليها شيء، وليس فيها ما يغير الطعم، ولا اللون، لكن منع من ذلك، وهذا ماء قليل انغمست فيه اليد، وكذا حديث: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله) ، وفي قضية بول الأعرابي الذي بال في المسجد فأتي بدلو كبير وأهريق على ذلك البول، فاختلط البول بالماء القليل وتطهر البول بهذا الماء.(2/8)
أقسام المياه وأحكامها
من مجموع الأحاديث نأتي إلى تقسيم الماء من حيث المجمع عليه والمختلف فيه، فنجد طرفين ووسطاً: الطرف الأول: الماء الكثير وهو: الطهور الذي لم يتغير بنجاسة، وهو طهور بالإجماع ولا نزاع فيه.
الطرف الثاني: الماء القليل أو الكثير إذا خالطته نجاسة فغيرت أحد أوصافه، فهذا نجس لا يستعمل بالإجماع.
إذاً: عندنا ماء كثير لم تتغير أوصافه وهو باق على طبيعته، ولم يتغير منه شيء مع الكثرة، فهو طاهر، وماء آخر كثير أو قليل تغير بالنجاسة فهو نجس.
بقي الوسط وهو محل النزاع والخلاف عند الأئمة رحمهم الله، وهو الماء القليل الذي لاقته النجاسة ولم تغيره؛ لأنها إذا غيرته التحق بالقسم الثاني الذي هو نجس بالإجماع، لكنه قليل ولم تغيره النجاسة، بأن كانت قليلة نادرة، مثل إناء من ماء وقعت فيه خمس عشرة قطرة من البول، وهذه قطعاً نجاسة وقعت في هذا الماء ولم تغير أحد أوصافه، فما حكمه؟ هذا هو محل الإشكال عند العلماء، وكل ما سيمر بنا من خلاف في مباحث المياه فإنما هو في هذا القسم الوسط.
إذاً: الماء على ثلاثة أقسام من حيث الطهورية والنجاسة: إن كان كثيراً -وسنذكر حد الكثرة من القلة- ولم تتغير أوصافه بنجاسة فهو طهور بالإجماع، (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) ، وإن تغيّر بنجاسة سواء كان قليلاً أو كثيراً فهو نجس، حتى لو كانت عندنا بحيرة طولها كيلو في كيلو، وعمقها كيلو، وتسلطت عليها مياه المجاري حتى غيّرت ماءها، فهو ماء كثير تغير فهو نجس.
إذاً: القسم الأول: طهور؛ وهو الكثير الذي لم تؤثر فيه النجاسة بشيء.
القسم الثاني: غيّرت النجاسة أحد أوصافه الثلاثة، فمهما كانت كثرته ومهما كانت قلته؛ فهو نجس.
والوسط وهو القسم الثالث: ماء قليل لاقته النجاسة ولم تغيره.
إذا جئنا إلى الحديث الأول: (الماء طهور لا ينجسه شيء) ، وحملناه على القليل لوجدنا منطوق هذا الحديث أنه ما لم تتغير أوصافه فهو طهور على هذا النص، إذاً: لم نحمله على الكثير؛ لأن النجاسة قليلة ولم تغيره، وهو تغلب عليها، ومن هنا قال مالك رحمه الله: الماء إذا لم تتغير أحد أوصافه بالنجاسة سواء كان قليلاً أو كثيراً فهو طهور، وقال الأئمة الثلاثة: إذا كان الماء قليلاً ولم تغيره النجاسة؛ فإن النجاسة موجودة فيه، وقلته لا تحتمل النجاسة، لحديث: (إذا كان الماء قلتين لا يحمل الخبث) ، أي: فما دون القلتين يحمل الخبث.
وقد مهدنا للأحاديث الآتية بهذا التقسيم الثلاثي حتى نطبق عليه الأحاديث التي ساقها المؤلف رحمه الله تباعاً؛ لأنها كلها تشكل موضوعاً واحداً.
نعيد مرة أخرى: الماء بالنسبة إلى الطهارة والنجاسة ينقسم إلى ثلاثة أقسام: طهور بالإجماع، وهو الكثير الذي لم تتغير أحد أوصافه.
ونجس بالإجماع، وهو المتغير أحد أوصافه بنجاسة سواء كان قليلاً أو كثيراً.
والقسم الوسط وهو محل النظر والاجتهاد والخلاف، وهو الماء القليل الذي لاقته نجاسة لم تغيّره، فمذهب مالك، ورواية عن أحمد وبعض آل البيت أن الأصل في الماء الطهورية، وإنما النجاسة تؤثر فيه إذا تغير أحد أوصافه؛ لحديث (الماء طهور لا ينجسه شيء) ، فأخذ مالك بالعموم، وعنده ما دام أن الماء لم تتغير أوصافه فهو طهور ولو كان قليلاً، لهذا الحديث.
وقال الجمهور والأئمة الثلاثة: نحن نقيد المطلق بالقيد الذي جاء بعده: بنجاسة تحدث فيه.
قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء) أخرجه الثلاثة، وصححه أحمد.
] .
نحن لا نناقش الطرفين المجمع عليهما، فالطرف المجمع على أنه طهور ليس لنا حاجة في نقاشه، والطرف المجمع على أنه نجس لا يوجد مجال للمناقشة، والمناقشة كلها في الماء القليل الذي لاقته نجاسة لم تغيّر أحد أوصافه، فالأصل فيه أنه طهور لا ينجسه شيء، وبهذا أخذ مالك، والأئمة الثلاثة لم يأخذوا بهذا، ولكن قيدوا هذا المطلق بالقيد الآتي بعده.(2/9)
متى ينجس الماء؟
قال رحمه الله: [وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الماء لا ينجسه شيء، إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه) أخرجه ابن ماجة، وضعفه أبو حاتم] .
قوله: (ما غلب) أي: لو جاءته نجاسة قليلة، قطرة أو قطرتان، ولم تغير أحد أوصافه، فيبقى على طهوريته، إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه بنجاسة تحدث فيه، فهو طهور ما لم يتغير بما يغلب على أحد الأوصاف الثلاثة، وما يغلب على أحد الأوصاف الثلاثة لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون نجساً أو طاهراً، فإن كان الغالب على أحد أوصافه نجساً فالماء نجس، وإن كان الغالب على أحد أوصافه طاهراً فماذا يكون حكمه؟(2/10)
حكم إذا خالط الماء شيء طاهر فغيره
جمهور الفقهاء على أن الماء على ثلاثة أقسام: طهور، وطاهر، ونجس، فالطهور: هو الذي يطهر غيره، كالماء الذي يتوضأ ويغتسل منه، وتغسل به النجاسة، والطاهر: هو الذي يجوز استعماله فيما طابت به النفس، ولكن لا يتطهر به محدث، ولا تطهر به نجاسة، وهو الماء الذي تغيّر أحد أوصافه بطاهر، مثل ماء الورد، وهو ماء خالطه عطر الورد، فهل هذا الماء طهور نتوضأ منه؟ لا.
وهل هو نجس؟ لا.
إذاً: هو طاهر، يجوز أن تستعمله في ثيابك، وأن تضعه في شرابك، أو في طعامك، لكن لا يدخل في العبادات؛ لأن الماء الطهور هو الباقي على خلقته التي خلقه الله عليها، فإذا تغير بمضاف إليه خرج عن الحد الذي خلقه الله عليه، ولهذا قالوا: كل ماء طهور تغيّر بأصل طاهر؛ سلبه الطهورية، ولكن لم يسلبه كونه طاهراً، فلك أن تستعمله في العادات لا في العبادات، فمثلاً: عندك طست من الماء، فسقطت فيه قطرة من الحبر، والحبر أزرق أو أسود فظهر لونه في الماء، فهل هذا الماء طهور تتوضأ منه؟ الجواب: لا، لكن يمكن أن تستعمله فيما يمكن أن تستعمله فيه، وفيما يصلح أن تضيفه إليه.
إذاً: القيد -ما لم يتغير أحد أوصافه الثلاثة- جاء بإطلاق، وجاء بنجاسة تحدث فيه، ولو تغير أحد أوصافه بطاهر فيسلبه الطهورية عن الوضوء وعن غسل الجنابة وغسل النجاسة، ويبقى حكم الطهارة فيه، فهو ماء طاهر، فإن شئت شربته، وإن شئت اغتسلت به لغير الجنابة، وإن شئت غسلت به إناءً ما لم يكن نجساً، إلى غير ذلك.
وبعض العلماء يقول: إن تغير بنجس تنجس، وإن تغير بطاهر بقي على طهوريته؛ لأن هذا التغيير بطاهر فلا يسلبه طهوريته، ولكن هذا شاذ، وهذا القائل يستدل بحديث صفية رضي الله تعالى عنها قالت: (اغتسلت أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من جفنة فيها أثر العجين) ، فالجفنة كانوا يعجنون فيها، فجاءوا وصبوا الماء في الجفنة، واغتسلوا منها، ووجه الاستدلال: أن العجين اليابس في الجفنة إذا وقع عليه الماء فإنه يتحلل في الماء، وهذا سيغير لون الماء إلى بياض العجين، قالوا: فقد اغتسلوا من هذا الماء الذي تحلل فيه العجين، وأجاب غيرهم على هذا: بأنهم اغتسلوا بسرعة قبل أن يتحلل العجين.
فمذهب الجمهور أن الماء الذي خالطه طاهر وغير أحد أوصافه فهو طاهر غير طهور، مثل إناء فيه ماء فصب فيه ماء الورد، فقد صار ماء ورد، أو سقط فيه زعفران، فيكون ماء زعفران، وهكذا لو سكبت فيه شيئاً من البر أو اللوبيا أو غيرهما، ونظرت فيه وقد تغير، فليس ماءً مطلقاً، ولهذا يقولون: الماء المطلق هو الطهور، فإذا ما أضيف إليه شيء وغير بعض أوصافه؛ خرج عن مسمى الماء المطلق، وأصبح ماء مقيداً، أما ماء ورد، أو ماء زعفران، أو ماء سكر، أو ماء ملح، إذا وضع الملح في الماء يجعله مالحاً، وإذا وضع السكر فيه فإنه يحليه، وكل هذا يسلب الماء الاسم المطلق، ويصير ماءً مضافاً إلى ما أضيف إليه، ماء مسكر، أو ماء مملح وهكذا، حتى ولو كان الذي خالطه طاهر، فإنه يسلبه اسم الماء الطلق، ولم يبق طهوراً، ومن هنا أخذ الجمهور أن الماء طهور لا ينجسه شيء، وأضافوا إليه القيد الثاني: إلا ما غير لونه، أو ريحه، أو طعمه، فإن تغير بطاهر فهناك من يقول: هو باق على طهوريته، وأما إن تغير بنجس فقد خرج عن الطهورية إلى النجاسة، لتغير أحد أوصافه، وهذا هو رأي الأئمة الثلاثة.(2/11)
كتاب الطهارة - باب المياه [2]
الإسلام يدعو إلى النظافة، والبعد والتنزه عن النجاسة والقذارة، ومن ذلك أنه حكم بنجاسة الماء القليل إذا تغير بنجاسة حدثت فيه، ونهى عن البول في الماء الراكد والاغتسال فيه، وأمر بغسل الإناء سبعاً إحداهن بالتراب إذا ولغ فيه الكلب.(3/1)
حكم الماء القليل إذا لاقته نجاسة وخلاف العلماء فيه
قال المصنف رحمه الله: [وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث) ، وفي لفظ: (لم ينجس) أخرجه الأربعة، وصححه ابن خزيمة والحاكم وابن حبان] .
تقدم حديث: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على طعمه ولونه وريحه) ، وفي هذا الحديث: (إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث) ، وفي رواية: (لم ينجس) ، ومفهوم ذلك: إذا كان الماء دون القلتين فإنه يحمل الخبث ويتنجس ولو لم يتغير، لكن المشكل: كم القلتان؟ وأي القلال؟ القلتان: تثنية قلة، وجاء في بعض الروايات: (كقلال هجر) ، وقلال هجر كانت معروفة عند الناس، والقلة تساوي قربتين، والقربتان تساوي خمسمائة رطل، ويقول الصنعاني في هذا المبحث: الجمهور على أن القليل لو خالطته نجاسة ولم تغيره فليس بطهور، ما عدا مالكاً، فيقال لهم: ما حد القليل الذي يتنجس بملاقاة النجاسة ولو لم تغيره؟ وما هذا القليل الذي تعتبرونه نجساً ولو لم يتغير لأنه قليل؟ قالوا: إذا كان دون القلتين، وتقدير القليل والكثير بالقلتين هو مذهب الشافعي وأحمد، ومالك خارج عن هذا التحديد؛ لأنه اكتفى بتغير الأوصاف ولم يعتبر قلة ولا كثرة، وعند الأحناف تعريفان للقليل والكثير: فعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه إذا كان الماء محصوراً في بركة، أو في إناء، أو في غدير، فإن حركت أحد الجوانب الأربعة ولم يتحرك الجانب الآخر فهو كثير، فمثلاً: إذا جئت من جهة القبلة وغسلت يدك وحركت الماء، فطبيعة الماء أنه إذا حركت سطحه يحصل فيه تموج، والتموج يضطرب حتى يصل إلى الجهة المقابلة، فقال: حد الكثرة أنه إن حركت أحد الجوانب فلا يصل أثر الحركة إلى الجانب الثاني، وهذا مضبوط بحالة وصف لا بمقدار.
وأصحاب أبي حنيفة رحمهم الله يقولون: حد الكثرة عشرة أذرع من كل جهة، كبركة مساحتها عشرة في عشرة بمائة ذراع، والعمق عشرة أذرع، فهي مكعبة، والذراع متر إلا ربع، إذاً: سبعة أمتار ونصف مكعبة، فهذا حد الكثرة من القلة عندهم.
إذاً: لو كان الماء بهذا الحد (سبعة أمتار ونصف مكعبة) ، وسقطت فيه قطرات بول ولم تغير فيه شيئاً، قالوا: فهو طاهر، ولو كان الماء خمسة أمتار مكعبة، وسقطت فيه نفس تلك الكمية ولم تغيره، قالوا: فهو نجس، فنهدر الخمسة أمتار مكعبة من أجل قطرات بول نزلت وليس لها أي أثر، ومن هنا يقول الصنعاني وغيره: حصل الاضطراب في تحديد الكثرة والقلة، وحديث القلتين متكلم في سنده، ولكن علماء الحديث والفقه تلقوه بالقبول؛ لشهرته وانتشاره واستفاضة القول به -وإن اختلفت القلال كبراً وصغراً- وأخذ به الشافعي وأحمد رحمهما الله.
وإذا نظرنا لمجموع هذه الأحاديث نجد أن الضابط -كما قال مالك - هو التغير، وهذا لم يتغير، سواء كان قليلاً أو كثيراً، وإن جئنا إلى التقييد بغير قيد التغير -كما هو مذهب الأئمة الثلاثة- وجدنا الخلاف في حد القلة والكثرة، ومن حد الكثرة بحد معين، ووصل الماء إلى هذا المقدار ولاقته نجاسة ولم تغيره، فهو عنده طهور، فمثلاً: عند الشافعي وأحمد إذا كان الماء قلتين -أي: قربتين كبيرتين- ولاقته نجاسة ولم تغيره فهو طهور؛ لأنه أصبح كثيراً لا ينجس أو لا يحمل الخبث، وإن كان دون ذلك تنجس بهذه النجاسة؛ لأنه ماء قليل، وكذلك عند الأحناف بذلك الحد الذي حددوه.
هذه مذاهب الأئمة رحمهم الله، وبقي الترجيح.
الإمام مالك يخالف الأئمة الثلاثة، فـ مالك اعتبر الوصف، ولم يعتبر قلة ولا كثرة، والأئمة الثلاثة اعتبروا الأمرين: القلة والكثرة، والتغيير وعدم التغيير؛ إذاً: اشتركوا مع مالك في التغيير، ومالك يقول: إن تغير لونه قليلاً كان أو كثيراً فهو نجس، وإن لم يتغير فهو طاهر، والأئمة الثلاثة قالوا: إن لم لم يتغير وكان كثيراً فهو طهور، وإن تغير وهو قليل فليس بطهور، إذاً: اختلفوا مع مالك في القليل، وحد القليل على ما ذكروه، فالخلاف في هذه المسألة بين الأئمة رحمهم الله هو في الماء القليل الذي لاقته النجاسة ولم تغيره.
فـ مالك يقول: هو طهور، ولا تقل: طاهر، والأئمة الثلاثة يقولون: ننظر في القلة والكثرة، فإن كان بحد الكثرة فنحن مع مالك ما لم يتغير، وإن كان دون حد الكثرة فنحن نخالف مالكاً ولو لم يتغير.(3/2)
نهي الجنب عن الاغتسال في الماء الدائم
قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب) أخرجه مسلم.
وللبخاري: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه) ، ولـ مسلم: (منه) ، ولـ أبي داود: (ولا يغتسل فيه من الجنابة) ] .
هذه أخبار تنقسم إلى قسمين: قسم يتعلق بالماء الدائم.
وقسم يتعلق بالاغتسال من الجنابة في الماء الدائم.
والنهي عن الاغتسال في الماء الدائم جاء بالإطلاق، وجاء بقيد الجنابة، والنهي عن الاغتسال في الماء الدائم يصدق على البركة وعلى الغدير، وكل ماء كثير على حد الأئمة الثلاثة الذين اعتبروا القلة والكثرة، ولماذا لا يغتسل فيه؟ قال بعض العلماء: نهي الجنب عن الاغتسال في الماء الدائم لا لذات الجنابة، وقال بعضهم: بل لذات الجنابة؛ لأن الماء إذا رفعت به الجنابة تنجس، وهذا قول عند الأحناف كما في فتح القدير، وهو أن الماء الذي يرتفع به حدث أصغر أو أكبر لا يجوز استعماله، وهو نجس، ويقولون: إن الحدث وقع في الماء بعد أن أزال الحدث ورفعه، فلو توضأت في طست، وتجمع ماء الوضوء في نفس الطست، فهذا الماء عندهم متنجس؛ لأنه نقل الحدث من الأعضاء إلى الماء.
والجمهور يقولون: إن الحدث أمر معنوي لا تلحقه الصفات الحكمية من نجاسة أو غيرها.
وقال بعضهم: لأنه يتنجس بكثرة رفع الحدث ونزوله فيه بالوضوء والاغتسال.
وقال قوم: طبيعة الإنسان -غالباً- أنه إذا نزل إلى الماء ليغتسل وانغمس فيه، فإنه يخرج منه البول ولا يستطيع رده، فبتعدد الاغتسال يكثر البول في هذا الماء فينجسه، فقيل لهم: هذا ماء كثير فكيف ينجسه البول؟ قالوا: بتنجس مع طول الزمن.
وقال آخرون: لأنه يستقذر، فإذا بلت فيه، وجاء الثاني وبال فيه، فبعد هذا كيف تشرب منه؟! وكيف تتوضأ منه؟! فالنفس تشمئز من هذا، إذاً: هذا نهي كراهة وتنزيه، وليس نهي تحريم.
وكذلك قوله: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه) .
فالماء الدائم منهي أن تبول فيه أو تغتسل فيه من الجنابة، وقوله: (لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب) نهي عام يشمل كل ذي جنابة أن يغتسل منه، ولكن هنا قال: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه أو يغتسل فيه) ، فهذا نهي موجه للإنسان أن يجمع بين الأمرين: البول والاغتسال، فلو لم يرد أن يغتسل فهل يجوز له أن يبول؟ لا يجوز، فلو أن اثنين أحدهما بال في الماء، فيقال له: لا تغتسل؛ بسبب بولك فيه، والشخص الثاني الذي لم يبل له أن يغتسل ويتوضأ؛ لأنه لم يفعل سبب النهي، ويتعجب بعض العلماء من المغايرة بين الشخصين، ويقولون: إن كان النهي عن البول في الماء لنجاسة أو لاستقذار، فكما يجري هذا على الذي بال فينبغي أن يجري على الذي لم يبل، وقالوا: إن النهي للكراهة لا للتحريم، ليبقى الماء طاهراً مدة أطول، حتى لا يطول الزمان ويكثر البول فيفسد الماء.
وهناك من يقول: النهي عن ذلك من ناحية طبية؛ لأن الماء الذي لا يجري، وهو ما يسمى المستنقعات، تنشأ فيها بعض الأشياء، فتحمل بعض الجراثيم التي تنتقل عند البول فيه أو عن طريق الأظفار في القدمين فتصيبه بالمرض، ويذكرون أن البلهارسيا والكلستوما وغيرهما تكثر في مستنقعات المياه، وكانت توجد في المنطقة الشرقية أكثر من غيرها قبل أن تنظم فيها قنوات الري.
فقال بعض العلماء: هذا ماء كثير نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تخالطه النجاسة ولو لم تغير أوصافه؛ لأنه لا يجري بل هو دائم في مكانه، فإنه لو طال الزمن وكثرت هذه الحالة؛ فقد يفسد عليهم الماء ولو كان كثيراً.
والجمهور على أن النهي للكراهة، وابن حزم ينكر عليهم قولهم أنه للكراهة، ويقول: هذا نهي صريح، ولا يوجد ما يصرفه إلى الكراهة، بل هو للتحريم، ومن بال لا يصح وضوءه من ذلك الماء.
وجاء في رواية: (منه) وفي رواية: (فيه) ، والمعنى: أنه لو بال في هذا الماء فلا يتوضأ ولا يغتسل منه، أي: لا يأخذ ماء ويتوضأ أو يغتسل بعيداً من الماء الراكد، وكذلك إذا بال في هذا الماء فلا ينزل وينغمس فيه ويغتسل، ولا يتوضأ فيه.
وقال بعضهم: هذا التوجيه هو للآداب والأخلاق والنزاهة، ونظيره الحديث الذي فيه: (لا يجلدن أحدكم زوجه جلد الأمة ثم هو يضاجعها) ، أي: أنه الآن يضربها وكأنها عدوة له، وكأنها ليست لها قيمة عنده، ثم بعد فترة يجد نفسه مضطراً إلى أن يضاجعها، ففي حالة المضاجعة أين ذهب الضرب؟ وفي حالة الضرب أين ذهبت المضاجعة؟ فعليه أن ينظر إلى العاقبة، فإذا أردت أن تضرب فلا تنسى حاجتك إليها في المضاجعة، فليكن الضرب برفق، وكذلك هنا لا يبل ثم هو يغتسل؛ لأن هذا مستنكر، فكيف تبول فيما تحتاج أن تشرب منه وتغتسل فيه؟! كما أنه كيف تضرب من تحتاج إلى مضاجعتها؟! فهذا نظير ذاك، فالنهي للكراهة وليس للتحريم، والله تعالى أعلم.
إلى هنا نكون قد انتهينا من تقسيم العلماء للماء، واعتبار الكثرة والقلة، وذكرنا القسم الطهور المجمع عليه، والمتنجس المجمع عليه، وذكرنا القسم الوسط، وهو محل البحث، وهو القليل الذي خالطته النجاسة ولم يتغير بها.
والخلاصة: أن الإمام مالكاً ينظر إلى الأوصاف، ولم ينظر إلى قلة ولا كثرة، والأئمة الثلاثة رحمهم الله ينظرون إلى الأوصاف مع الكمية، قلة أو كثرة، فإن كان قليلاً ووقعت فيه نجاسة فهو نجس ولو لم يتغير، وإن كان كثيراً فهو طاهر ما لم يتغيّر، وبالله تعالى التوفيق.(3/3)
حكم الاغتسال بفضل غسل الرجل أو المرأة
قال رحمه الله: [وعن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل المرأة بفضل الرجل أو الرجل بفضل المرأة، وليغترفا جميعاً) رواه أبو داود والنسائي وإسناده صحيح] .
هذا الحديث يتعلق بالماء القليل، وهو عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم، يقول العلماء: هذا الرجل مجهول لم يسم، وجاء في بعض الروايات أن اسمه يحنس أو نحو هذا.
والجمهور يقولون: إن جهالة الصحابي لا تضر في صحة الحديث؛ لأنه صحابي، والصحابة رضوان الله تعالى عليهم كلهم عدول لا يفتش عنهم في رواية الحديث؛ وعلى هذا فهذا رجل مجهول الاسم، لكنه معروف بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يضر الحديث، وقد قيل: إنه صحبه أربع سنوات، قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل الرجل بفضل المرأة أو تغتسل المرأة بفضل الرجل، وليغترفا جميعاً) ، النهي يقتضي التحريم والمنع، إلا إذا وجدنا قرينة تصرف النهي عن التحريم إلى الكراهة، والأمر يقتضي الوجوب ما لم نجد قرينة تصرف الأمر من الوجوب إلى الندب.
وهنا نهي صريح: (نهى أن تغتسل المرأة بفضل الرجل) ، والفضل ما بقي بعد استعمال الماء، ويقول ابن حزم في المحلى: إذا كان الباقي بعد استعمال الماء أقل مما أخذ؛ فهو فضل داخل تحت النهي، أما إذا كان الباقي بعد الاستعمال مساوياً لما أُخذ أو زائداً عنه فليس بفضل، بل هو أكثر مما أخذ، فلو قدر أن الإناء فيه عشرة لترات، فاغتسل الرجل من هذا الماء بخمسة لترات، وأبقى خمسة لترات، فلا تكون الخمسة فضلةً للعشرة، أما إذا أخذ سبعة لترات فالباقي ثلاثة، وهي أقل مما أخذ فتكون الثلاثة فضلةً للعشرة، وهذا عرف معلوم عند الناس، فلو أن إنساناً أتي بكأس وشرب منه وبقي في الكأس شيء؛ فلا يقال: هذه فضلة فلان، إلا إذا كان الموجود في الكأس قليلاً، أما إذا تذوّقه أو أخذ قليلاً منه؛ فلا يقال: هذه فضلة فلان، بل الطعام باقٍ أكثره، وكذلك الشراب في الكأس باق أكثره، فالعرف يؤيد ما ذهب إليه ابن حزم رحمه الله.
يقول بعض العلماء: النهي هنا للتحريم، ويقول الجمهور: النهي للتنزيه، ومذهب ابن حزم وداود الظاهري أن النهي للتحريم، ولكن نجد في الحديث الذي بعده أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يغتسل من جفنة اغتسلت منها ميمونة وهي جنب، فقالت له: هذا الماء باق بعد اغتسالي، فقال لها: (إن الماء لا يجنب) ، واغتسل بفضلها، وقد يقال: اغتسل بالباقي، لكن هل كان الباقي أكثر أو أقل؟ ليس هناك دليل، لكنها قرينة على أن النهي هنا للكراهة.
وبعض العلماء يقول: لا بأس للمرأة أن تغتسل بفضل الرجل، ولا يغتسل الرجل بفضل المرأة، ثم ذكروا أن علة النهي ما جاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: هذا النهي خاص بالمرأة التي اغتسلت من حيضتها، وخصص عموم المرأة بالخائض لأنها تخلو به -كما في بعض الروايات- أما إذا كان الرجل مع المرأة فليغترفا جميعاً، لكن إذا خلت به، واغتسلت وهو غائب عنها في مكان آخر، ثم جاء ليغتسل، فلا يغتسل بفضلها، قال ابن عمر: المرأة إذا خلت بالماء، واغتسلت لحيضها، فقد لا تعلم أحكام الحيض والغسل منه، وقد تلوث الماء وتفسده على الرجل، ولكن هذا يرد بأن المرأة الحائض تغتسل من حيضتها إذا انقطع الدم عنها، وذلك إذا رأت القصة البيضاء، كما سيأتي في باب الحيض أن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها كن النساء يبعثن إليها بالقطن فيه أثر الحيض، فتقول: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء.
والقصة البيضاء ماء أبيض يعقب دم الحيض، ويدل على نقاء الرحم من الحيض، فحينئذ تغتسل.
إذاً: الحائض ليس فيها ما يخشى منه على الماء، ولكنه تخصيص وارد عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، فبعض العلماء نهى الطرفين، وبعضهم نهى الرجل أن يغتسل بفضل المرأة، وأجاز للمرأة أن تغتسل بفضل الرجل؛ لأن الرجل ليس مظنة لأن يفسد الماء، ولذا قيل: إذا اغتسلت أمامه وهو يراها، ولم تخلُ بالماء، فلا مانع أن يغتسل بفضلها؛ لأنه لو وقع منها أمر بجهالة فإنه سيرشدها، أو يكون عنده علم بحال الماء، والجمهور على أن النهي هنا للتنزيه والكراهة وليس للتحريم.
والمؤلف رحمه الله ساق الحديث هنا في معرض بحث الماء القليل الذي لاقته النجاسة ولم تغيّر أحد أوصافه، فهذا ماء قليل في إناء، والمعروف أن المياه في البيوت لا تكون مستبحرة، ولا تكون قلتين، ولا تكون عشرة أذرع في عشرة -كما قيل- إنما هي في أوانٍ معروفة، فهي في حكم الماء القليل، وقد جاء النهي عن اغتسال أحد الزوجين بفضل الآخر، فهو منع لاستعمال الماء القليل الذي لم يتغير، فهذا من أدلة ترجيح من يقول: الماء القليل إذا لاقته النجاسة ولم تغيره فإنه ينجس، والآخرون يقولون: إن النهي هنا ليس للتحريم، إنما هو للكراهة؛ لما سيأتي بعد هذا الحديث إن شاء الله.
إذاً: نُهي أن يغتسل أحدهما بفضل الآخر، فلو كان عندهما إناء واحد، فهل تتقدم هي أم يتقدم هو؟ قالوا: لا يسبق أحدهما الآخر، ولا ينفرد به؛ بل يغتسلان بعضهما مع بعض، ويغترفان جميعاً، فهي تغترف لنفسها وتغتسل، وهو يغترف لنفسه ويغتسل، ومن هنا يقول النووي رحمه الله: قوله: (وليغترفا جميعاً) فيه أن النهي عن اغتسال الرجل بفضل المرأة أو العكس للتنزيه لا للتحريم؛ لأنهما لو اغتسلا معاً واغترفا جميعاً، فلابد أن أحدهما سيسبق الآخر بغرفة الماء، فإذا سبق الرجل واغترف من الماء، ثم هي بعده اغترفت، فقد اغتسلت بفضل الرجل، أو سبقت هي فاغترفت، ثم هو تبعها واغترف لنفسه، فقد اغتسل بفضل مائها، وهكذا من أول الغسل إلى آخره، فيقع اغتسال كلٌ منهما بفضل الآخر.
ونظير هذا النهي عن الصلاة منفرداً خلف الصف، فهو للكراهة، ولا تبطل به الصلاة -كما يقول الحنابلة- فلو قدرنا أنها أقيمت الصلاة، ووقف الإمام، وخلفه ثلاثة أشخاص مؤتمون به، فلن يتلفظوا بتكبيرة الإحرام في لحظة واحدة، بل سيحصل بينهم تفاوت واختلاف، فهذا يكبر، وهذا يعتدل، وهذا ينظر، قال النووي رحمه الله: سيسبق أحدهم الآخرين بالتكبير؛ فيكون قد كبر وحده، وفي تلك اللحظة إلى أن يكبر شخص آخر معه سيكون منفرداً خلف الصف، ولم تبطل صلاته، فاستنتج من ذلك أن النهي عن الانفراد خلف الصف للكراهة، وكذلك هنا.
وبعض من توسع في هذا الموضوع يقول: إنه حث على أن يغتسلا جميعاً؛ لأن المرأة في حاجة إلى تعلم أحكام المياه، وأحكام الغسل من الجنابة، فتتعلم ذلك إذا اغتسلت مع الزوج، والأصل أن الزوج يكون متعلماً لمخالطته ولسماعه، فذلك أدعى لتعليمها، وقد جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: (اغتسلت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، حتى كانت أقول: دع لي دع لي) ، فاغتسلا في وقت واحد معاً، وعلى هذا يكون النهي للكراهة والتنزيه، وقد اغتسل عليه الصلاة والسلام من فضل ميمونة، واغتسل مع عائشة واغترفا جميعاً.
وإذا اغتسلت المرأة من الدش، فهل الماء الباقي في الخزان يصدق عليه أنه فضل المرأة؟ لا؛ لأنه يوجد مواسير عازلة، وقد تقدم ما قاله ابن حزم عن حقيقة الفضلة، وهو أنه إذا كان الإناء موجوداً بينهما، وكان ما أبقته المرأة أو أبقاه الرجل أكثر مما أخذ فقد خرج عن النهي، فمن باب أولى أن الخزان فوق السطوح أو السخانة في الحمام لا يدخل الماء الباقي فيهما في هذا الحديث، والله تعالى أعلم.(3/4)
شرح حديث: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب ... )
قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب) أخرجه مسلم، وفي لفظ له: (فليرقه) ، وللترمذي: (أخراهن أو أولاهن) ] .
هذا الحديث من أوسع الأحاديث مسائلاً، وأكثرها اختلافاً، ونستعين بالله سبحانه وتعالى على أن نشرحه كلمة كلمة، لعل الله سبحانه أن ييسر إيضاح أمره، وبيان الراجح من الخلاف فيه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (طُهور إناء أحدكم) هذه الكلمة (طهور) لم يروها البخاري، بل روى الحديث بلفظ: (إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات) ، وفرق بين (شرب، وولغ) فبعض العلماء يقول: الشرب لغير الكلاب والسباع، وهو أن يعب الماء عباً، والولوغ: هو أن يتناول الماء بطرف لسانه، فإذا كان في الإناء شيء يابس كدقيق أو خبز فيقال: لعق، وإذا كان الإناء فارغاً فيقال: لحس.
فالولوغ: هو تناول الكلب بطرف لسانه للسائل الذي في الإناء، وهذه طبيعته، والشرب أعم، فإن الشرب ولوغ وزيادة، إذاً: ولغ وشرب ليس بينهما تعارض.
وقوله: (طهور إناء) ، أخذ الجمهور من كلمة: (طهور) نجاسة سؤر الكلب؛ لأن التطهير في الشريعة لا يكون إلا من حدث ناقض للوضوء أو موجب للغسل، أو لإزالة النجاسة، والإناء لا يطهر من الحدث؛ لأنه غير مكلف، بل هو جماد، إذاً: المراد طهوره من النجاسة، وهذا ما يسميه علماء الأصول بالسبر والتقسيم، فقالوا: مدلول الطهور يدور حول معنيين: الحدث والنجس، وبالسبر وجدنا أن الحدث ملغي؛ لأنه لا يرد على الإناء، فبقي من القسمين الطهور من النجس، فقال الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة والشافعي وأحمد: إن سؤر الكلب نجس، والغسل منه للنجاسة، وجعلها سبع مرات مع التتريب تأكيداً للطهارة، وعلى كل جزئية من هذه الجزئيات إيراد واعتراض، فـ مالك رحمه الله ناقشهم في عملية التقسيم أولاً، فالجمهور جعلوا القسمة على كلمة: (طهور) قسمين، ومالك قال: هناك قسم ثالث أغفلتموه، ويجب أن تأتوا به، ثم تسبروا المعنى على الأقسام الثلاثة، قالوا: وما هو القسم الثالث؟ قال: الطهور من القذر، وهو موجود شرعاً؛ لأنه جاء في الحديث: (السواك مطهرة للفم) ، وليست فيه نجاسة، وليس فيه حدث، وكذلك جاء في التيمم أنه طهور، ففي الحديث: (فعنده مسجده وطهوره) على القول بأن التيمم لا يرفع الحدث، وكذلك إذا وجد قذر في الثوب فإنك تطهره، قال الله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] ، فهل كان على ثيابه صلى الله عليه وسلم نجاسة؟ قالوا: لا، ولكن هذا كناية عن الأعمال، فطهرها من الشرك والصغائر، وبعضهم قال: المعنى أن يكون الثوب نظيفاً نقياًَ.
فـ مالك رحمه الله يقول: الأقسام ثلاثة، وبسبرها نسقط الحدث كما أسقطتموه، ونسقط أيضاً النجاسة؛ لأنه لو كان للنجاسة لاكتفي بتطهير الإناء بما تطهر به عامة النجاسات، ووافقه في ذلك أبو حنيفة رحمه الله في مسألة عدد الغسلات والتتريب.
إذاً: كلمة: (طهور) أخذ منها الجمهور أن سؤر الكلب نجس، وإذا ولغ في الإناء نجّسه، ويجب تطهيره، بأن يغسل سبع مرات إحداهن بالتراب.
ومالك يقول: الأمر بالغسل هنا تعبدي، وليس للنجاسة؛ لأننا وجدنا كلمة (طهور) تستعمل في غير النجاسة، كما أنها تستعمل في غير الحدث، وعلى هذا فـ مالك يقول: سؤر الكلب طاهر، والغسل فيه تعبدي، ولكن ما هي العلة إذن؟ سيأتي كلام المالكية عنها.
إذاً: الجمهور يقولون: سؤر الكلب نجس، وينجس الإناء الذي ولغ فيه، وما الحكم عندهم إذا أكل من يابس؟ قالوا: يؤخذ ما أكل منه، والباقي طاهر، كما روي في حديث الفأرة: (إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد وماتت فخذوها وما حولها، وكلوا سمنكم؛ وإذا سقطت في السمن المائع وماتت فلا تقربوه) ؛ لأنه قد تنجس السمن كله، قالوا: وكذلك إذا لعق الكلب من دقيق أو طعام ليس سائلاً، بخلاف ما إذا ولغ من سائل: ماء، أو حليب، أو سمن، وهذا يسمى ولوغاً، ويجري عليه نفس حكم الفأرة.
فالجمهور على نجاسة سؤر الكلب، وهل بقية بدنه نجس؟ كما لو أدخل الكلب يده في الإناء وأخرجها، فهل يكون الحكم كالسؤر فيغسل الإناء سبع مرات ويترّب؟ قال البعض: إن الحكم هنا متعلق بالسؤر فقط، والشافعية ومن وافقهم قالوا: إذا كان السؤر نجساً ويغسل سبع مرات مع أنه في الفم؛ فبقية البدن من باب أولى، وقالوا أيضاً: نجاسة سؤر الكلب إنما هو لتحلل لعاب اللسان في السائل، فإذا عرق الكلب فالعرق متحلل من داخل بدنه، فيأخذ نفس الحكم، لكن علماء الحيوان يقولون: الكلب لا يعرق، ولهذا قال الله: {إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176] ، فالكلب يبرد جسمه بأن يخرج لسانه ويلهث، والكلب لا يعرق جلده أبداً، ولهذا فإنه يحتر، فإذا احتر ولم يجد ما يبرد جسمه، فإنه قد ينزل في الماء من أجل التبريد، فإذا لم يجد الماء أخرج لسانه ليبرد من شدة الحرارة، فلو أن الكلب نزل في الماء، وخرج وأصبح مبللاً، أو صببت عليه ماء؛ فلمس إنسان شعر الكلب المبلل، فهل يكون حكمه حكم السؤر أم لا؟ قال الشافعية وغيرهم: كل ما مسه جسم الكلب فإنه يغسل سبع مرات إحداهن بالتراب.
وقال البعض: الأمر جاء في السؤر فقط، وما سواه فلا يدخل في ذلك.
وأنا أريد إيراد بعض التفريعات في هذا الحديث، وأكثر من مسائله؛ لأنه يصلح لتدريب طالب العلم ودارس الحديث على مناقشة الأحاديث التي ورد فيها خلاف، وأوسع من وجدت تكلم عليه هو ابن دقيق العيد في مخطوطة كتاب الإمام، ففيه أكثر من خمس عشرة صفحة بخط صغير جداً في هذا الموضوع.(3/5)
كتاب الطهارة - باب المياه [3]
اختلف العلماء في نجاسة الكلب، ونجاسة سؤره، ومن ثم اختلفوا في حكم غسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب سبع مرات، وفي حكم تتريبه، وكل فريق استدل بأدلة صحيحه، ومعرفة خلاف العلماء في هذه المسألة وأدلتهم فيها يدرب طالب العلم على استنباط الأحكام الشرعية، ويعلمه احترام رأي المخالفين، وتقدير وجهة نظرهم.
أما سؤر الهرة فهو طاهر وليس بنجس؛ لأنها من الطوافين علينا، ويلحق بها كل ما كان يعيش في البيوت بجامع أنها كلها من الطوافين علينا.(4/1)
خلاف العلماء في نجاسة سؤر الكلب وغسله
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: فالجمهور على نجاسة الكلب، وعلى أنه يغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب للنجاسة، ولكن هل يقاس عليه غيره؟ فبعض الشافعية يلحق الخنزير بالكلب في نجاسته وفي التطهير منه؛ لأن الخنزير أشد نجاسة من الكلب.
وهناك من يحكي عن بعض المالكية أن الأمر بغسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب وارد في الكلب غير المأذون فيه، أما الكلب المأذون فيه، وهو ما كان للصيد أو للحراسة أو للماشية؛ فإنه مخالط لصاحبه؛ فليس داخلاً في هذا الأمر، وبقية المالكية على العموم، سواء كان الكلب مأذوناً فيه أو غير مأذون فيه.
قال صلى الله عليه وسلم: (طهور إناء أحدكم) فإذا كان الولوغ في غير الإناء، بأن جاء الكلب إلى بركة أو إلى حوض وشرب منه ولعق، فهل يدخل في هذا الباب؟ قالوا: لا يدخل.
وقد جاء أن عمر بن الخطاب خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص، فوردوا حوضاً، فقال عمرو بن العاص لصاحب الحوض: يا صاحب الحوض! هل ترد حوضك السباع؟ فقال عمر بن الخطاب: فإنا نرد على السباع وترد علينا.
وقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الحياض التي بين مكة والمدينة وتردها السباع والكلاب ونحوها، هل يتطهر منها؟ فقال: (لها ما حملت في بطونها ولنا ما غبر) أي: ما بقي.
فهنا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن تلك المواطن لا يضرها ولوغ الكلاب فيها، فالذين قالوا بنجاسة سؤر الكلب، قالوا: هذا ماء كثير فوق القلتين، وسنرجع إلى موضوع نجاسة الماء القليل إذا لم تغيره النجاسة، ومن أدلتهم على هذا: أن ولوغ الكلب في الإناء لا يغير أحد أوصافه من لون أو طعم أو ريح.
إذاً: هذا ماء قليل خالطته النجاسة فتنجس ولو لم يتغير، فأمر بإراقته وغسل الإناء، وردوا على مالكاً بهذا؛ لكن مالك لم يسلم لهم بالنجاسة، إنما قال الغسل هنا تعبدي، وسؤر الكلب طاهر.(4/2)
خلاف العلماء في حكم التسبيع والتتريب
نأتي إلى مسألة التسبيع، الأحناف رحمهم الله يقولون: لا حاجة إلى التسبيع، ويكفي ثلاث غسلات؛ لأن راوي الحديث أبا هريرة رضي الله تعالى عنه سئل عن ذلك فقال: (يجزئ ثلاث غسلات) ، فراوي الحديث أدرى بحديثه، لكن لا ندري هل وجد له مخصصاً أو وجد له ناسخاً حتى نأخذ بفتواه دون روايته، والقاعدة عند المحدثين والأصوليين: أنه يأخذ برواية الصحابي لا بفتواه؛ لأن روايته نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفتواه اجتهاد منه، ولا يحق له أن يخالف نص رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتهاد منه، إذاً: التسبيع ثابت.
وقال الأحناف أيضاً: لا حاجة إلى التتريب؛ لاضطراب رواية التتريب؛ فقد جاء: أولاهن، أخراهن، إحداهن، السابعة، الثامنة، قالوا: وهذا اضطراب في الرواية فيسقط التتريب.
وأجاب الجمهور بأن تعدد الروايات لا يدل على نفي التتريب بالكلية، بل يؤكد وجوده؛ ولكن الخلاف في الأولى أو في الأخيرة هذا شيء آخر، ولكن تلك الروايات تثبت التتريب؛ فيتعين التتريب.
إذاً: هذا عرض لهذا الحديث وجزئياته، ولن نستطيع أن نستوفي كل ما يمكن أن يقال في ذلك، ولكن هذا تمهيد وبيان وتدريب لطالب العلم على دراسة الحديث الذي تتفرع عنه المسائل العديدة، ومعرفة وجهات النظر، وكان الأحرى أن يسوقه المؤلف في باب إزالة النجاسة، ولكنه ساقه هنا تأييداً لرأي من يقول: إن الماء القليل -كالإناء الذي ولغ فيه الكلب- ينجس ولو لم يكن هناك تغير في لون أو رائحة أو طعم؛ لأنه أمر بإراقة الماء وغسل الإناء مع عدم ظهور التغير فيه.(4/3)
الأمر بغسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب أمر تعبدي عند المالكية
وبعض المالكية يقول: إن الأمر بإراقة الماء وغسل الإناء، وتسبيعه في التغسيل، وتتريبه بالتراب في إحداهن: أولاهن، أو أخراهن السابعة أو الثامنة -كما قال الحسن البصري - أمر تعبدي، وليس من باب تطهير النجاسات، وما هو الأمر التعبدي في ذلك؟ قالوا: سبب غسل الإناء من سؤر الكلب وإراقة الماء وتطهير الإناء بعد إراقته أمر طبي لصحة الإنسان؛ لأن الكلب يصاب بداء الكَلَب، وداء الكَلَب ينتقل من الكلب إلى الإنسان إذا عض الإنسان، أو تناول إنسان بعده من سؤره، فتنتقل جرثومة داء الكَلَب من الكلب إليه، ويصير مسعوراً مثل الكلب، قالوا: فأمر بإراقة الماء حتى لا يشربه أحد، وبتطهير الإناء حتى لا تبقى آثار الجرثومة في الإناء.
ورد عليهم الجمهور بأن الكلب الكلِب لا يشرب الماء، وإذا شرب الماء وولغ فيه فليس مسعوراً، ورد عليهم المالكية وقالوا: إن الكلب قد يصاب بالداء ولا تظهر عليه آثاره إلا بعد خمسة عشر يوماً، وعند ذلك تتكاثر فيه الجرثومة، وتظهر آثارها عليه، وحينئذ لا يقرب الماء، والشرع المطهر عمم الحكم فيما كان مصاباً ولم تظهر أثر الإصابة عليه ومالم يصب بشيء، سداً للباب.
ثم نأتي إلى مسألة التتريب، نجد في بعض الأبحاث الطبية الحديثة أنه لا يمكن للمطهرات الكيميائية أن تقضي على داء الكلب، ولا يقضي عليه غير مادة موجودة في التراب تسمى: (فلورين) ، وهذه المادة متوافرة في التراب، فإذا أضيف التراب إلى الإناء مع الماء فإنها تقضي على هذه الجرثومة نهائياً، فوجدنا في الطب الحديث أن هذه المادة (الفلورين) تقضي على داء الكلب، وقد جاء الأمر بإراقة الماء الذي شرب منه الكلب وغسل الإناء سبعاً مع التتريب، ووجدنا أن الكلاب كانت تغدو وتروح في المسجد النبوي، ولم نجد الأمر بغسل آثار الكلب في الصيد، وهذه أدلة المالكية في قولهم بأن سؤر الكلب ليس نجساً؛ والغسل فيه تعبدي.
وأضافوا إلى ذلك -من باب التدعيم القولي بكل صغيرة وكبيرة- أن عدد السبعة يأتي في الطب كثيراً، مثل حديث: (من تصبح بسبع تمرات) ، وحديث: (أريقوا عليه من سبع قرب من سبعة آبار) ، أي: في دواء الحمى، فقالوا: عدد السبعة داخل في الطب؛ ولهذا أمر بغسل الإناء سبع مرات وأضيف إليه التراب.
وبعض من يقول بالنجاسة قالوا: لا حاجة إلى التراب مع الغسل سبع مرات، فلو غسل بالصابون والأشنان ونحو ذلك فإنه يجزئ، وهذا قول عند الحنابلة، لكن رد عليهم بأن الحديث نص على التراب، فقالوا: هذا نظيره في النظافة، والصابون والأشنان منظفان، قال ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام: يجاب على هذا بأنه فاسد الاعتبار، وأي قياس يعارض النص فلا يعتبر؛ لأن النص في التراب، وقالوا: إن التراب أحد الطهورين، فيجمع للإناء بين طهور الماء وطهور التراب، وقال ابن دقيق العيد قاعدة: إذا عاد الفرع على الأصل بالإبطال كان الفرع باطلاً، وذلك مثل قصة الخضر مع موسى عليهما السلام لما قتل الخضر الغلام: {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} [الكهف:74] ، ثم قال الخضر: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} [الكهف:80-81] ، فهذا الولد فرع، وهذان الأبوان الصالحان أصل، فحفاظاً على صلاح الأبوين أبقي على الأصل، وقدما على الفرع، وقتل الفرع حتى لا يفسد الأصل؛ وهكذا إذا كان الفرع يعود على الأصل بالبطلان كان الفرع باطلاً، ونحن نشاهد هذا حتى عند الفلاحين، فلو أن شجرة برتقال صغيرة أثمرت كثيراً، فيرى صاحب البستان أنه لو تركت ثمار البرتقال على هذه الشجرة الصغيرة لكسرت أغصانها ولم تحتملها الشجرة، ولذلك يخفف الثمار حتى لا تتحطم أغصان الشجرة، ويتلف بعض الفرع إبقاءً للأصل، وهكذا هنا، فلو جعلنا الأشنان فرعاً عن التراب لأبطلنا التراب، فيكون الفرع مقدم على الأصل، إذاً: هذا الفرع باطل، أما لو قيل: نضيف الأشنان مع التراب فلا بأس؛ لأننا حافظنا على الأصل، وأضفنا إليه غيره.(4/4)
أدلة المالكية على طهارة سؤر الكلب
وقد استدل الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم: (طهور إناء أحدكم) ، والطهور يكون من نجس أو من حدث، لكن مالكاً ناقشهم بالسبر والتقسيم، وقال: هناك قسم ثالث، وهو الطهورية من القذر، ولكن هذا استنتاج، فما هو الدليل عندك -يا مالك - على أن سؤر الكلب طاهر؟ قال: إن الأصل في الحي الطهارة، فكل حي طاهر عند مالك، كما أن الأصل أن كل حيوان ميت فهو نجس، وهذه قاعدة في الحياة وفي الموت.
واستدل مالك بالنص القرآني الكريم، فإن المولى سبحانه وتعالى لما سأل السائلون: ماذا أحل لهم؟ قال: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة:4] ، قال مالك: فكلب الصيد يذهب ويمسك الصيد لصاحبه، ولم نجد الأمر بغسل موضع عض الكلب للصيد، وليس هو مجرد ولوغ، بل هو عض بفمه كله على الصيد، فلم يؤمر صاحب الكلب المعلم أن يغسل موضع عض الكلب للصيد، لكن قال الجمهور: هذا الموضع يقطع ويرمى، ولو لم يرمَ فسيشوى في النار، والنار تحيل النجاسة إلى طهارة، فقال مالك: النار أذهبت المعنى التعبدي الذي أمر بالغسل من أجله، قالوا: وما هو الأمر؟ قال: الأمر صحي، وسيأتي بيانه إن شاء الله.
واستدل المالكية بصنيع البخاري في صحيحه، وهو وإن لم يصرح بمذهبه، فإنه يدل على ميوله إلى مذهب مالك في هذه المسألة؛ لأنه ساق أربعة أحاديث يفهم من مجموعها عدم نجاسة سؤر الكلب، منها حديث كلب الصيد، ومنها: (كانت الكلاب تروح وتغدو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، وما الفائدة من هذا الحديث الذي يسوقه البخاري في كتاب الطهارة؟ قال السيوطي: إن البخاري فقيه، ودلالة الفقه في صحيحه أكثر من دلالتها في غيره؛ وذلك لفقهه، ولذا يقول العلماء: فقه البخاري في تبويبه، وقد يبوب الباب لمسألة فقهية ولا يورد فيها أي حديث؛ لأنه صح عنده حديث في معنى الباب، ولكن ليس على شرطه في الصحة، فيأتي بالمعنى تحت الباب ولا يسوق الحديث؛ لأنه دون ما اشترطه، وقد يترجم للمعنى ويأتي بحديث في الظاهر أنه بعيد جداً، ولكن المعنى موجود فيه، فهنا البخاري بوب: كانت الكلاب تروح وتغدو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه في عام الوفود سنة تسع كان صلى الله عليه وسلم ينزل الوفود في المسجد، ولما جاء وفد بني ثقيف في السنة التاسعة أنزلهم في المسجد، ونصب خيامهم في المسجد، وكان يشرف على خدمتهم، وكان ذلك في رمضان؛ ليروا حال المسلمين في صيامهم وفطورهم، ويروا تلاحمهم وإخاءهم، ولذلك لم يخرج رمضان إلا وقد أسلموا جميعاً، قال البخاري: كان هؤلاء القوم في المسجد، وكان يؤتى لهم بالطعام، وحاسة الشم قوية عند الكلب، فهو يمشي ويتشمم في تربة الأرض، ومعلوم أنه إذا تشمم الكلب تربة الأرض فإن لسانه يلهث أيضاً، فلا بد أن يصيب لعابه التربة، ولم يأمر صلى الله عليه وسلم بغسلها، ولا بصب الماء عليها كما أمر في قصة بول الأعرابي، ولا أمر بمسح التراب عن مواضع تشمم الكلاب في المسجد، ولو كان سؤر الكلب نجساً لمنعت الكلاب من ذلك، وتتبع مواطنها، وطهرت بما يمكن أن تطهر به.
وكذلك استدل المالكية بقضية كلب الصيد على أن سؤره ليس بنجس.
إذاً: الخلاف على هذا النحو: مالك يرى طهارة سؤر الكلب، والجمهور يرون النجاسة، وكلٌ يستدل بما تقدم.(4/5)
حكم سؤر الهرة
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الهرة: (إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم) أخرجه الأربعة وصححه الترمذي وابن خزيمة] .
من فقه المؤلف رحمه الله تعالى أنه ساق حديث اغتسال الرجل والمرأة من إناء واحد، ثم ما يتعلق بسؤر الكلب، ثم هنا ما يتعلق بسؤر الهرة، وهذا يناسب باب إزالة النجاسات؛ ولكنه ساقه هنا في باب المياه تتمةً لمسألة قليل الماء إذا لاقته نجاسة ولم تغيره، فالإناء ماؤه قليل، وولوغ الكلب فيه -على نجاسة سؤره- لم يغير من أوصافه شيئاً، وقد أمرنا بإراقة الماء وغسل الإناء، فعلى القول بنجاسته يكون الماء القليل قد تنجس بالنجاسة وإن لم تغير أحد أوصافه.
ثم لملابسة الهرة للناس في بيوتهم أتبع خبر الكلب بخبر الهرة؛ لجامع أن الكل يخالط الإنسان، ويستدعي الواقع بيان الحكمين، فكما بين سؤر الكلب يريد أن يبين سؤر الهرة، فذكر حديث أبي قتادة رضي الله تعالى عنه، وسبب هذا الحديث: أن زوجة ولده وضعت له ماءً في إناء ليتوضأ، فجاءت هرة وأرادت أن تشرب من ذلك الماء، فأصغى أبو قتادة الإناء للهرة، أي: أماله حتى تستطيع أن تشرب منه، فلما رأت تلك المرأة فعل أبي قتادة تعجبت! وكأنها تستبعد أن يتساهل حتى يسمح للهرة أن تشرب من ماء يتوضأ منه، فلما رأى ذلك قال: أتعجبين يا ابنة أخي؟! قالت: نعم، أعجب من فعلك! وكأنه رأى في قسمات وجهها علامات التعجب، وهذا من الفراسة أو من الذكاء حينما تنظر لإنسان وتعرف أنه فرحان، أو غضبان، أو يتعجب، أو يستنكر، فقسمات الوجه تدل على نفسية الإنسان، فقال لها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الهرة: (إنها ليست بنجس) ، يعني: وما دام أنها ليست بنجس وهي تريد أن تشرب فاسقها، (إنما هي من الطوافين عليكم والطوافات) .
يقول العلماء في فقه هذا الحديث: سؤر الهرة ليس بنجس، وبعضهم يقول: نجَس ونجِس هما بمعنى واحد، وبعضهم يقول: نجَس -بالفتح- في النجس المعنوي، ونجِس -بكسر الجيم- في نجس العين كالعذرة ونحوها، والذي يهمنا أن أبا قتادة رضي الله تعالى عنه أخبر زوجة ولده أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال عن الهرة: (إنها ليست بنجَس) .
وهل هي ليست بنجَس بسبب أنها من الطوافين، أم أنها في الأصل نجسة ولكن لما كانت من الطوافين خفف عنا وعفي عن نجاستها لمخالطتها إيانا؟ هذه المسألة يبحثها العلماء.
والطوّاف: هو الذي يطوف في الحي، وقيل: الذي يطوف على صاحب البيت بالخدمة، كما قال تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَاب وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة:17-18] ، وقيل: الطوّاف: الذي يقوم بخدمة من في البيت، وشبهت الهرة بالخدم الذين يطوفون على أهل البيت لأجل المخالطة، فلا يمكن أن تحترس من الهرة في البيت.
قال بعض العلماء: إنها ليست بنجس في ذاتها، وزيادةً على ذلك فهي من الطوافين والطوافات.
وقال بعضهم: أصلها نجسة، ولكن خفف عنا بسبب أنها طوافة علينا، ولا يمكن الاحتراز منها.
ويفرعون على ذلك: لو أننا وجدنا الهرة أكلت فأراً، وبقايا لحم الفأر ودمه على فمها، وشربت من الإناء، فهل نقول: إنها ليست بنجس لأنها من الطوافين، أم نقول: إننا شاهدنا نجاسة خارجة من فم الهرة وقعت في الإناء؟ نقول: هي ليست بنجس، ولكن جاءت بنجاسة، والعبرة بما جاءت به.(4/6)
الرفق بالحيوان
وفي الحديث موضوع اجتماعي أو جانب عاطفي، وهو ما يسمى بالرفق بالحيوان، وينبغي أن يعلن للعالم كله أن الإسلام سبق أهل العالم المحتضر! -وليس المتحضر بل المحتضر! - فيما يتعلق بالنواحي الإنسانية، سواء حقوق الإنسان، أو الرفق بالحيوان، وقد جاء حديث آخر أصرح من هذا، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (دخلت امرأة النار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض) ، ويقابل هذا حديث: (كانت بغي من بني إسرائيل تسير في الطريق، فاشتد عليها العطش، فوجدت بئراً، فنزلت وشربت، فلما صعدت وجدت كلباً يأكل الثرى من شدة العطش، فقالت: يا ويلتاه! لقد لحقه من العطش مثل ما لحقني، فنزلت إلى البئر وأخذت خفها أو موقها وملأته بالماء، وخرجت به وأصغته إلى الكلب فشرب، فشكر الله لها فدخلت الجنة) ، (شكر اللهَ لها) أي: أن الكلب شكر الله لها أن سقته لوجه الله، أو (فشكر اللهُ) : لفظ الجلالة فاعل الشكر، أي: شكر الله لها صنيعها في الكلب والرفق به.
إذاً: بين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم الرفق بالحيوان حتى في الهرة، فالإنسان من باب أولى، فمن وجبت عليه مئونة إنسان ومنع عنه الطعام، أو قصر فيما يجب عليه مع اليسار، فيخشى عليه من عذاب النار، ولهذا حث النبي صلى الله عليه وسلم على الإحسان إلى الخدم، وإذا أتاك خادمك بالطعام فإن لم تجلسه يأكل معك فأطعمه منه، فقد عالجه وتطلعت إليه نفسه، فانظر إلى النواحي النفسية؛ فالطاهي الذي صنع لك الطعام وأتاك به بكامله، لا تستأثر بالطعام وحدك، وتقول له: اذهب، وابحث لك عن شيء آخر لتأكله! بل إما أن تجلسه معك، وهو أخوك، فلا تستأنف من ذلك، ولا تخشى من تعويده، أو غير ذلك، بل أطعمه منه، وكما يقول العوام: اتق عينه، فهذا الطعام قد تعلقت نفسه به، فخف على نفسك من النظرة.
إذاً: أبو قتادة رضي الله تعالى عنه أصغى الإناء للهرة، وهذا فعل من أبي قتادة رضي الله تعالى عنه، ولم يرفع هذا الفعل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعض الناس يقول: هذا موقوف وهو من فعل الصحابي؛ ولكن أبو قتادة رفع قوله: (إنها ليست بنجس) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعلى هذا يكون المؤلف رحمه الله ساق هذا الحديث في باب المياه ليبين أن الهرة إذا طافت بالبيت وشربت من الماء أو أكلت من الطعام فإنها ليست بنجس؛ لكن لو شاهدنا على فمها أثر نجاسة، فيكون الحكم للنجس الذي شاهدناه.(4/7)
حكم اقتناء الكلب قياساً على الهرة
توسع بعض العلماء في هذا الحديث، كـ ابن دقيق العيد في كتابه المخطوط الذي أشرنا إليه، وذكر هل يقاس الكلب على الهرة بعلة الطوافين والطوافات؟ يحكي بعضهم عن بعض المالكية أن كلب البادية بالنسبة إلى أهل البوادي من الطوافين والطوافات، فيقيس هذا الكلب على الهرة، ولكن النص جاء في عموم الكلاب، ولم يفرق بين كلب أعراب وكلب حضر، ولا كلب بوادي وكلب حواضر.
وبعض المالكية يخصص الكلب المأذون في اقتنائه، وهو كلب الصيد والحراسة والماشية، ولكن الجمهور لم يلتفتوا إلى ذلك، وقالوا: نحتاج إلى معرفة تاريخ الترخيص في اقتناء الكلب، وتاريخ حديث غسل الإناء من ولوغ الكلب، ولا نجد دليلاً يبين المتقدم من المتأخر؛ حتى يكون التخصيص من المتأخر للمتقدم، إذاً: نأخذ بعموم اللفظ: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب) ، و (أل) هنا للاستغراق، وليست عهدية، وعلى هذا يكون حديث الهرة تابعاً لمباحث المياه؛ لأنه من الملابسات الموجودة.
وهنا مسألة: وهي أن البيوت في الأرياف يوجد فيها حيوانات غير الهرة من الطوافين والطوافات، فحكمها حكم الهرة، ومأكول اللحم لا يدخل في هذا الباب، فإنه طاهر حتى بوله، مثل الأرانب والغنم والدجاج.
فمن الحيوانات التي تلحق بالهرة: الفئران، وابن عرس، وبعض الناس يسمونه: (العرس) ، وهو حيوان أكبر من اليربوع ومن الفأر، وأصغر من الهرة، ويقولون: ليس فيه عظام، ولو ضربته بحديدة فإنه لا يموت، لكن لو ضربته بعرجون النخلة فإنه يموت، فهذه حيوانات تعيش في بعض الأرياف أو في البيوت العادية، فإذا شربت من ماء في البيت مكشوف، فهل سؤر تلك الحيوانات طاهر أو نجس؟ بعلة الطوافين والطوافات يكون الماء طاهراً، وهذا مما يلحق بالهرة بالقياس؛ بجامع علة الطواف، والله تعالى أعلم.(4/8)
كتاب الطهارة - باب المياه [4]
من الأحاديث المتعلقة بباب المياه: حديث الأعرابي الذي بال في المسجد، وقد ذكر في هذا الباب لبيان أن الماء القليل إذا صب على النجاسة فإنه يطهرها، ولا يتنجس الماء؛ لأن الماء الذي أريق على بول الأعرابي كان قليلاً، ومع ذلك تطهرت به النجاسة.
ومن أحاديث باب المياه: حديث حل السمك والجراد والكبد والطحال، فلو سقطت هذه الأشياء في الماء فإنها لا تنجسه؛ لأنها لا تعد في حكم الميتة ولا في حكم الدم المسفوح النجس.(5/1)
شرح حديث الأعرابي الذي بال في المسجد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد، فزجره الناس، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى بوله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء فأهريق عليه) متفق عليه] .
حديث الأعرابي هذا يعطينا درساً عملياً في سياسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي معرفة طبيعة البشر، واختلاف العادات في البادية والحاضرة، ومراعاة الرسول صلى الله عليه وسلم لنفسيات البشر، والمبادرة من الصحابة في إنكار المنكر، وأنه يجب أن يأمر الآمر بالمعروف بالمعروف، وأن ينهى عن المنكر بغير المنكر، وسيأتي بيان ذلك في شرح هذا الحديث.
جاء هذا الأعرابي، وكان المسجد مبنياً من الجريد وجذوع النخل، فأناخ ناقته على باب المسجد ودخل، ثم تنحى جانباً وبال فيه! لقد رأى عريشاً وجذوع نخل فظنه من ضمن الحضائر الموجودة في البادية للحيوانات، فلما حضره البول بال فيه.
ومن هنا يستحب الفقهاء بناء الحمامات بجانب المساجد؛ لأن هذا الأعرابي حضره البول وضيق عليه، ولم يجد مكاناً ليبول فيه، فنظر إلى حالة المسجد، فترك الناس في جانب وذهب إلى جانب آخر، وجلس يبول، فالصحابة رضي الله تعالى عنهم نظروا هذا المنكر فاستنكروه، ولو رأى الناس رجلاً متضايقاً خرج منه الريح في المسجد لاستنكروا ذلك منه استنكاراً شديداً، مع أنه ريح ذهب في الهواء وما حصل شيء، لكن الصحابة رأوا الرجل يبول في المسجد فبادروه بالإنكار بصورة منكرة حتى أفزعوه، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك تدارك الأمر، وقال: (لا تزرموه) أي: لا تحبسوا البول عليه؛ لأن هذا يضر بالمثانة والعضلات القابضة، وقد يحدث عنده سلس البول، فتركه حتى قضى بوله، وكما يقال: الخطأ قد وقع، وما هو الحل لتدارك هذا الخطأ؟ لو كان قبل أن يبول فسنقول: اذهب إلى مكان آخر، لكنه قد جلس وبدأ في البول، ونحن الآن بين أمرين: إما أن يكمل ما بدأ فيه من خطأ، ويستمر في خطئه، وإما أن نمنعه مما قد بدأ فيه، وهنا تتقابل مضرتان: مضرة استمراره على بوله، في المسجد، ومضرة ما يمكن أن يلحقه في صحته من مرض، وحينما يزجرونه ويطردونه وهو لم يقض بوله، إذا لم يستطع حبس البول فسيقوم وهو يبول، وسيقع البول على أماكن كثيرة، فبعد أن كان البول محصوراً في منطقة صغيرة سيصير في مكان كبير من المسجد، فالمصلحة أن نرتكب ما هو أخف ضرراً دفعاً لما هو أكبر ضرراً، فتركه على ما هو عليه؛ لأنه قد بدأ في خطئه، ودفعه يأتي بخطأ أكبر، ومن هنا يقول العلماء: بنبغي ارتكاب أخف الضررين، فكونه يكمل بوله فيه ضرر، وكوننا نمنعه فيه أيضاً ضرر، وأي الضررين أشد وأيهما أخف، فنرتكب أخف الضررين دفعاً لأشد الضررين، فمن الحكمة أن قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتركوه لا تزرموه) ، فأكمل بوله على مهله.
ولما انتهى من بوله جاءت الحكمة النبوية، فكيف نتدارك هذا الخطأ الذي وقع من شخص جاهل لا يعرف أحكام المساجد؟ فلابد أن نتدارك الأمر، فبوله نجّس المكان، وعلاج القضايا يكون من جذرها، إذاً: نطهر المكان؛ ولذلك أمر صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء، والذنوب هو الدلو الكبير، ولا يكون الدلو ذنوباً إلا إذا كان مليئاً بالماء، فجيء به وأريق على مكان البول، وانتهت المشكلة، ثم دعاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إن هذه المساجد لم تبن لهذا، إنما هي لذكر الله وما والاه) ، وهذا الأعرابي رجل عاقل، وجد الفرق بين معاملة الصحابة له وبين معاملة الرسول عليه الصلاة والسلام له، وحسن تعليمه، فلما رأى الفرق رفع يديه وقال: اللهم! ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً؛ لأنه ما رأى من الصحابة رحمة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لقد حجرت واسعاً) ، أي: إن رحمة الله وسعت كل شيء، وليست لي ولك فقط.
إن هذا رجل أعرابي يجهل أحكام المساجد، فعلى فطرته وجبلته رأى بناء المسجد ولم يهتم به، إذاً: علينا أن نهتم بالمساجد، وحضره البول ولم يجد مكاناً يبول فيه، إذاً: علينا أن نؤمّن دورات المياه عند المساجد، وسيأتينا -إن شاء الله- حديث: (أمر صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في البيوت وأن تطيب) ، وفي رواية: (وأن تبنى لها الميضآت أو المطاهر) ، ويستحب الفقهاء أن يكون بجانب المسجد الميضآت؛ لحاجة الإنسان للوضوء، فهذه الفوائد نأخذها من هذا الحديث، فدراسة الحديث فيها فوائد مستنبطة وليس كالفقه قواعد وقوانين منضبطة، لا تدخل في الاجتماعيات ولا في الأمور الأخرى، فالحديث يؤخذ منه الشيء الكثير.(5/2)
عناية الإسلام بالمساجد
وقد اعتنى الإسلام -كما في كتب الحديث والفقه بل وفي القرآن الكريم- بالمساجد أيما عناية، فقال الله: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} [البقرة:125] ، وقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ} [النور:36] أي: ترفع حساً ومعنى، وقال صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي أعمال أمتي، حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد) ، وفي الحديث الآخر: (أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد فمرضت، فقال عليه الصلاة والسلام: إذا ماتت فآذنوني، فماتت بالليل فقبروها ليلاً ولم يخبروا رسول الله بها لئلا يزعجوه، فقال: دلوني على قبرها) ، ولماذا قال: دلوني على قبرها؟ لخدمتها لمسجد رسول الله، والإسلام لا ينظر إلى الألوان، ولا إلى الأجناس، ولا إلى الصفات، فهي امرأة ولم تكن رجلاً، وكانت على هذا الوضع، ولكن كرمها الإسلام بخدمتها للمسجد.
ولما رأى عليه الصلاة والسلام النخامة في جدار القبلة حكها برداءه.
إذاً: العناية بالمساجد في الإسلام كبيرة جداً، وقد كثرت في ذلك النصوص.
وأول ما بني مسجد رسول الله قال: (عريش كعريش أخي موسى) ، وكان من جذوع النخل وجريده، وما بني بالحجارة والطين إلا بعد عودته صلى الله عليه وسلم من خيبر؛ لأنه كثر الناس وضاق المسجد على أهله، فوسع فيه للحاجة، وهكذا فعل عمر رضي الله تعالى عنه ومن بعده.(5/3)
مناسبة حديث الأعرابي لباب المياه
لقد ساق المؤلف رحمه الله هذا الحديث في باب المياه، وهو صالح أن يكون في باب إزالة النجاسة، وصالح أن يكون في باب المياه، فلماذا أتى به في باب المياه؟ أتى به ليبين أن هذا بول رجل، وهذا ذنوب من ماء، فلو قدرنا أن الذنوب من الماء قدره (12 لتراً) ، وقدرنا أن بول الأعرابي نصف لتر، فستكون نسبة البول إلى الماء واحد إلى أربعة وعشرين، وهذا الذنوب في حدود القلة؛ لأن الذين قالوا بالكثرة والقلة حددوا الكثرة بقلتين من قلال هجر، والقلة قربتان، والقربة خمسمائة رطل، فستكون القلة ألف رطل، والآخرون قالوا: عشرة أذرع في عشرة، إذاً: هو في حدود القليل بالنسبة لمن حدد الماء بالكثرة والقلة، فهذا الماء في حدود القلة، وقد أريق على بول الأعرابي لتطهير النجاسة التي أحدثها بول الأعرابي في أرض المسجد، وتطهرت الأرض بالذنوب.
إذاً: هذا ماء في حدود القلة، وطهرت به الأرض من نجاستها، فيكون الماء القليل قد طهّر النجاسة وهو لم يتنجس، بمعنى: لو أن ماء الذنوب حينما لاقى البول على الأرض تنجس؛ فلن يطهرها؛ لأنه صار نجساً.
وإذا كانت الأرض رخوة تشرب الماء، فهل نصب الماء تدريجياً بحيث تشرب الأرض الصبة الأولى فتخف نسبة البول في طبقة الأرض العليا، ثم نصب مرة ثانية فتذهب نسبة البول في التربة أكثر، ثم نصب مرة ثالثة فتذهب أثر البول بالكلية، ثم نصب بقية ماء الذنوب وقد طهرت التربة، ويكون الذنوب قد طهر التربة؟ أم نصب الماء مرة واحدة حتى ينتهي ماء الذنوب ويتلاقى الجميع على الطبقة الأولى من التربة؟ قالوا: الحديث ليس فيه تفصيل لسكب الماء صبة بعد صبة، وهل الأرض تتشرب أو لا تتشرب، فإذا صب الذنوب مرة واحدة على موضع البول وتشربته الأرض فقد طهرت، ولكن الأول أدعى لطهارتها أكثر.
وإذا كانت الأرض صلبة ليست رخوة تتشرب الماء فماذا نفعل؟ هل نأتي بالذنوب ونسكبه عليها؟ فلو بال أحد في الرخام، وجيء بماء ربع لتر، وصب على البول الذي في الرخام، فسوف تتسع النجاسة، ولو ترك البول لكان في مساحة مترين أو ثلاثة، فلو صببنا الذنوب فإنه سوف يوسع الدائرة حتى تصل إلى عشرين متراً مثلاً، فالطريقة المثلى لتطهير البول عندما يحصل من الأطفال أو من بعض العجائز المرضى: أن يؤخذ حالاً بالأسفنج ويفرغ في إناء، ثم يصب الماء الطاهر من الإبريق على الرخام، وينشف بالأسفنج، ثم يغسل في الطست، وكأنه يغسل إناءً من النحاس أو غيره، ولا يصب الذنوب حتى يتسع الأمر.
ومن هنا فرأي الجمهور أن ملاقاة الماء القليل للنجاسة في التربة يطهرها، والأحناف يروى عنهم أنهم يقولون بنقل التربة، ويذكرون في ذلك حديثاً، ولكن الأئمة رحمهم الله وعلماء الحديث لا يثبتون سند هذا الحديث، وهو أن تحفر التربة وتنقل، ثم بعد ذلك يصب الذنوب، وأجاب الجمهور عن ذلك أنه إذا حفرنا التربة وأخذنا التراب المتنجس فليس هناك حاجة إلى صب الماء وقد نقلنا التراب المتنجس.
والمالكية الذين قالوا بعدم تحديد الماء بقليل أو كثير وإنما العبرة بالأوصاف، قالوا: هذا ماء قليل طهر النجاسة ولم ينجس، والجمهور قالوا: ليس لكم دليل على هذا، وهناك فرق بين ملاقاة الماء للنجاسة، وملاقاة النجاسة للماء، فما الفرق بينهما؟ فمثلاً: إذا كان هناك طست فيه ماء، فوقعت النجاسة في الماء، فهذه ملاقاة النجاسة للماء، لكن إذا كان هناك ثوب متنجس، فجئت بالماء وصببته على محل النجاسة في الثوب، فهذه ملاقاة الماء للنجاسة، والفرق بينهما: أنه حينما تلاقي النجاسة الماء تتلاشى فيه أجزاؤها، ويبقى الماء حاملاً للنجاسة، لكن حينما يلاقي الماء النجاسة، فكلما جاء جزء من الماء على النجاسة تلاشت أمامه، ويستمر الصب على النجاسة من هذا الماء الذي خالط النجاسة في مكانها، فهو تنجس بها لكنه يزيلها ويخفف أثرها، إلى أن تأتي آخر دفعة من الماء على محل النجاسة وقد انتهت منه النجاسة وانمحت وذهبت مع الماء السابق.
إذاً: أول الماء عند ملاقاته للنجاسة يكون مختلطاً بها، وحكمه حكم النجاسة، لكن آخر الماء -ولو كان لتراً واحداً- لا يأتي لمحل النجاسة إلا وقد زالت النجاسة، وقد يبقى في المكان آثار لا ترى بالعين ولا تشم بالأنف، فيكون آخر الماء قد أذهب آثار النجاسة في المحل، ولم تؤثر النجاسة في الماء.
إذاً: هذا الحديث ساقه المؤلف رحمه الله دليلاً لمذهب من لا يرى التحديد بكثرة أو قلة، ولكن الذين يرون التحديد قالوا: فرق بين ملاقاة النجاسة للماء، وملاقاة الماء للنجاسة، وقالوا: نحن نعارض في ملاقاة النجاسة للماء، ولا نعارض في ملاقاة الماء للنجاسة.(5/4)
الحكمة في إنكار المنكر
الصحابة رضوان الله تعالى عليهم رأوا منكراً فبادروا بالإنكار، فبعض العلماء يقول: كيف يبادرون بالإنكار والرسول موجود؟! لماذا لم يسألوا رسول الله؟! والرسول رآه كما رأوه هم، فهل هذا من باب: {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1] ؟ وهل يجوز لهم أن يتقدموا بالإنكار على هذا المنكر بين يدي رسول الله وهم لم يستأذنوه؟ الجواب: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أذن لهم وقال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده) ، وهذا الأعرابي فعل منكراً، فهم عندهم إذن بتغيير المنكر، ولكن لم يأتوا بالطريقة الحكيمة التي كان ينبغي أن ينصح بها هذا الأعرابي، ويراعى لجهالته.
على كل داعية، وعلى كل مسلم إذا رأى منكراً أن ينظر إلى جوانب متعددة، ويتبع البصر بالبصيرة، فينظر ماذا يترتب على هذا المنكر لو أنكره: هل سينتهي أم سيأتي منكر أشد؟ فإن كان سينتهي فليغيره بيده أو بلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، فإن علم بخبرته أو ببصيرته أن الإنكار لهذا المنكر سيأتي بمنكر أكبر، فيكتفي بالأقل، ولا يزيد المنكر منكراً، وعلى هذا قالوا: إن مبادرة الصحابة بين يدي رسول الله ليست تقدماً على بين يدي رسول الله، فالرسول صلى الله عليه وسلم أقرهم على إنكار المنكر، ولكنه أنكر عليهم الطريقة التي أنكروا بها، فقال: (لا تزرموه) يعني: علموه برفق؛ لأنه جاهل، ثم دعاه صلى الله عليه وسلم وأخبره برفق أن المساجد بنيت لذكر الله وما والاه.(5/5)
شرح حديث: (أحلت لنا ميتتان ودمان ... )
قال رحمه الله: [وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحلت لنا ميتتان ودمان: فأما الميتتان فالجراد والحوت، وأما الدمان فالطحال والكبد) أخرجه أحمد وابن ماجة، وفيه ضعف] .
ما علاقة هذا الحديث بباب المياه؟ ساق المؤلف رحمه الله هذا الحديث هنا ليبين حكم ما لو سقطت هذه الأشياء في الماء أو ماتت فيه، فهل تفسد الماء أم لا تفسده؟ كما أنه ساق حكم سؤر الهرة إذا شربت من الماء ليبين هل تفسده أم لا تفسده؟ وهنا ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أحلت) ، وهذا فعل مبني للمجهول، والذي أحل هو الله سبحانه وتعالى.
وقوله: (لنا) هل هو خاص بالأمة أم يشاركها غيرها؟ ظاهر النص أنه خاص بالأمة.
وقد تقدم التنبيه على الحوت في حديث: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) ، لكن هنا التنصيص على: (الحوت والجراد) ، فلفظ الحوت استدل به الأحناف على أنه لا يحل من ميتة البحر إلا السمك لهذا الحديث: (أحلت لنا ميتتان) ، وذكر أن أحد الميتتين الحوت، وأجاب الجمهور عن هذا بحديث العنبر الذي انحسر عنه البحر، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم طلب منهم أن يعطوه منه.
ويهمنا في هذا الموطن أن الحوت إن وجد ميتاً فهو حلال عند الجمهور، وقد تقدم التفصيل في ذلك عند الأحناف رحمهم الله، فعندهم إن طال زمن موته حتى طفا على وجه الماء، فإنهم يكرهون أو يمنعون أكله، لا للتحريم ولا رداً للحديث، ولكن لطول زمن موته حتى طفا على وجه الماء، فإنه يكون فيه مضرة على الآكل، ونحن نهينا عن تناول ما يضر الإنسان.
وميتة الجراد حلال، قال المالكية: إذا أخذته حياً فيجب أن تُعمل السبب الذي يميته حتى يحل لك، وما هو السبب؟ قالوا: مثلاً: تأخذه في كيس وهو حي، وتغمسه في الماء حتى يموت، فهذا سبب من عندك في إماتته، فيحل لك.
وقوله: (وأما الدمان: فالكبد والطحال) بعض السلف كره الطحال، كما روي عن علي رضي الله تعالى عنه، ولكن ليست كراهية من جانب الشرع، بل قد يكون من جانب الصحة؛ لأن لحم الطحال ليس كالكبد، فالكبد غذاء صالح لكل إنسان، ويستعمل رطباً ويستعمل جافاً، فالكبد قد يجفف للرحلات الطويلة حينما يقلّ الطعام، فيؤخذ ويشرّح ويترك في الظل حتى ييبس، ثم يسحق حتى يصير مثل الدقيق، ثم يحفظ، وعند الحاجة يؤخذ منه قليل يصب عليه الماء الحار، فإذا به غذاء طبيعي يشرب من هذا الخليط.
أما الطحال فمهمته تصفية الدم، فهو يتشبع بفضلات الدم الفاسدة، ويحولها إلى الجسم بعد تصفيتها، فهو بمثابة المرشح للدم في الجسم، وبسبب اختزاله لفضلات الدم غير الصالحة في دورة الدم؛ فإن طبيعته غير خالصة في الغذاء كخلوص الكبد، لكن من طابت نفسه لأكله فليأكله وبعض الأطباء يقولون: كل عضو في الحيوان يصلح لنظيره في الإنسان، فمثلاً: لو أن إنساناً مريضاً بالكبد أكل من كبد الحيوان فإنه يكون أنفع له، ولو أن مريضاً بالطحال أكل طحال الحيوان لكان أنفع له، ولو أن مريضاً بالرئة أكل رئة الحيوان لكان أنفع له، إلى غير ذلك مما يذكرونه.(5/6)
طهارة الكبد والطحال
والذي يهمنا هو طهارة الكبد والطحال مع تحريم الدم، يقول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] ، والدم المحرم هو الدم المسفوح الذي يسفح ويجري، والكبد دم منعقد وليس مسفوحاً كالدم الذي يخرج من العروق، وكذلك الطحال، فهذان الدمان أحلا لنا، وكذلك الحوت والجراد، فإذا جاء رِجْل من جراد -والرجل يطلق على المجموعة من الجراد التي تزحف- ونزلت على بركة ماء، ثم ماتت فيها وغيرت رائحتها أو لونها، فهل تنجس هذا الماء أم لا تنجسه؟ لا تنجسه؛ لأن الجراد طاهر.(5/7)
حكم تغير الماء بالمجاورة
إذا تغير الماء بمجاور له غير مخالط فهو طهور على الأصل، فمثلاً: لو كان على حافة بركة أو غدير شجر يتساقط منها الورق في الماء، والماء راكد، فتحلل الورق وتعفن فيه حتى أثر في الماء برائحة، فهذا يسمى تغير بمجاور؛ لأنه لم يذب في الماء ذوبان الملح والدقيق، ومثله لو وجد على حافة الغدير حيوان ميت، وطلعت رائحته ومرت على الماء، والتقط الماء رائحة هذا الحيوان الميت، فالميتة نجسة، وهذا الريح ظهر في الماء، فهذا تغير بمجاور وليس بمخالط، فهو باقٍ على طهوريته، وهكذا لو أن ماءً طال الوقت عليه سنة أو أكثر أو أقل، ومن طول المكث نبت فيه الطحلب، وجرت فيه الضفادع، وتغير لونه، وصارت التربة طيناً آسناً، فتغيرت رائحته؛ فهو طهور؛ لأنه لم يتغير بشيء من الخارج، بل بطبيعته في مكانه.
والمؤلف رحمه الله ساق حديث الميتتين والدمين لبيان حكم لو خالط شيء من هذه الأصناف الأربعة الماء، فإنه لا يسلبه الطهورية، والله تعالى أعلم.(5/8)
كتاب الطهارة - باب المياه [5]
يعتبر حديث الذباب من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر فيه أنه إذا سقط الذباب في الإناء فليغمس، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء، وهذا هو ما أثبته العلم الحديث، وفي هذا الحديث بيان أنه إذا وقع الذباب في الماء أو الشراب ومات فيه فإنه لا ينجسه.(6/1)
شرح حديث الذباب
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه، فإن في أحد جناحيه داءً وفي الآخر شفاءً) أخرجه البخاري وأبو داود وزاد: (وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء) ] .
هذا الحديث مشهور عند العلماء بحديث الذباب، ويرويه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه، فإن في أحد جناحيه داءً وفي الآخر شفاءً) ، وفي رواية: (وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء) ، والمعنى العام لهذا الحديث: أن الرسول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه يرشدنا إلى حكم ما لو وقع الذباب في الشراب؛ لأن جبلة الإنسان تعافه؛ لقذارة الذباب، فإنه بطبيعة حياته يعيش على القاذورات ثم يأتي ويسقط في الشراب، كما قال القائل: إذا وقع الذباب على طعام رفعت يدي ونفسي تشتهيه وتجتنب الأسود ورود ماءٍ إذا رأت الكلاب ولغن فيه فالنفس البشرية تعاف أن تتناول الشراب الذي وقع فيه الذباب، فإذا وقع الذباب في الشراب فما مصيره؟ وكيف نتعامل معه؟ بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا حصل هذا، وأردنا الحفاظ على الشراب، فلنغمس الذباب في الشراب، فهو قد سقط ولكنه لم ينغمس إلى الأسفل؛ لأنه خفيف، فنحن نغمسه حتى يغمره السائل ثم ننزعه، وفي بعض الروايات: (فليطرحه) يعني: لا يأكله؛ لأنه مستقذر، ثم بين صلى الله عليه وسلم العلة في غمسه، والنفس تعاف الشراب بمجرد سقوطه، فما الحكمة في هذا العمل؟ قال عليه الصلاة والسلام: (فإن في أحد جناحيه داءً وفي الآخر شفاءً) .(6/2)
الاهتمام بالإعجاز العلمي في السنة
إنه حينما يكشف العلم هذا الأمر، ويفتخر الكفار بهذه الاكتشافات، ويعتبرونها من السبق العلمي، أليس جديراً بالمسلمين أن يسابقوا إلى إعلان ذلك؟ ولا أقول: أن يسابقوا إلى السبق العلمي، فهو واجب، ولكن إلى السبق الإعلامي، ويكون هذا من مهمة وزارات الإعلام، وكذا على عوام الناس وخواصهم؛ لتكون هذه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أربعة عشر قرناً، وهذا ينفع عامة الناس وخواصهم، والمتعلمين منهم وغير المتعلمين، ويدفع المؤمن إلى التمسك بدينه، ويعطيه قوة يقين أكثر بتصديقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه قالها وهو في الصحراء، وما دخل معملاً ولا مختبراً ولا أخذ أنبوبة اختبار، ولا شيئاً مما هو موجود في المعامل الآن.
ومثل هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات أولاهن بالتراب) ، لماذا ذكر التراب مع الغسل سبع مرات؟ يأتي العلم ويكتشف أن داء الكلب لا يعقمه إلا مادة الفلورين الموجودة في التراب! ومن ذلك أيضاً: تحريم لحم الخنزير، فيأتي الطب متأخراً ويكتشف أن فيه داء، ففيه الدودة الشريطية، والدودة الشريطية توجد في لحم البقر، وتوجد في لحم الخنزير، ولكن الدودة الشريطية التي في لحم الخنزير تتميز عن الدودة الشريطية التي في لحم البقر، فهي أخطر منها، فالدودة الشريطية التي تأتي من لحم البقر قد يبلغ طولها اثني عشر متراً في معدة الإنسان، وهي مكونة من فصوص، وكل فص قابل للنمو بذاته، مثل أعواد القصب، فإذا أخذت كل غصن وغرسته فإنه ينبت بنفسه، فإذا شرب المريض دواء فإنه يقطعها، وتنزل أوصالاً، أما دودة الخنزير فينبت لها قرنان في الرأس، فإذا شرب دواء ليقطعها غرزت قرنيها في جدار المعدة، فتتقطع أوصالها إلا الوصلة الأخيرة التي فيها القرنان فتنبت من جديد.
وأيضاً ذكر لي طبيب في الجامعة الإسلامية أن في الخنزير دود العضل، وهو أخطر من دود المعدة الذي يؤخذ له دواء فينزل، وقد ذكر علماء الطب القديم أن بذر المشمش إذا أحرق حتى يصير فحماً، وأكل منه الإنسان كل خمس سنوات حبة، وكان عنده دود البطن، وهو غير الإسكارس الصغير، فإنه ينزلها ويقضي عليها، فمهما كان دود البطن فإنه ينزل بالدواء، ولكن دود العضل ليس في بطن، ولا في جوف، بل في عضلة اليد، أو الفخذ، أو الظهر، أو الكتف، فينبت فيه دود بسبب لحم الخنزير، ولا يخرج إلا بمشقة.
وقال أبو حيان في تفسيره: إن من طبيعة الخنزير عدم الغيرة على أنثاه، ومن يكثر من أكله فإنه تنتقل إليه تلك الغريزة، ويقول: وقد شاهدنا في بلادنا -وهو أندلسي- أن من يكثر من أكل الخنزير فإنه يكون فاقد الغيرة على نسائه.
وأي حياة لإنسان فاقد الغيرة؟! ونجد أن الإسلام حرم الخنزير، وهكذا حرم الحمر الأهلية، وأوجب الوضوء من أكل لحم الإبل، وغير ذلك.
إن العالم الإسلامي مطالب بإبراز تلك المعجزات المدخرة للأمة، وكل واحدة منها لا أقول: يشهد لها الأعداء؛ بل يقرون بها بسبب ما توسعوا فيه من العلم، وكذلك المستشرقون، والمستغربون من المشرق، فهم يؤمنون بالعلم وتجارب المعمل ولا يؤمنون بالوحي، ويقولون: هذا أمر نظري، وهذا أمر عملي يا سبحان الله! النظر إذا كان صادراً عن الوحي الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى فهو حق، فكيف يطلبون عليه تجربة؟ لا والله! إننا نقيس عقولنا عليه، ولا نقيسه على عقولنا.
وحديث الذباب مما ينبغي إبراز ما فيه من الإعجاز العلمي، فيخبرنا صلى الله عليه وسلم أن الذباب يحمل شيئين متضادين، وعنده إدراك يميز به ما فيه من الداء فيقدمه، وما فيه من الدواء فيؤخره، علمنا النبي صلى الله عليه وسلم كيف نتعامل معه، وبالله تعالى التوفيق.(6/3)
طعن العقلانيين والمستغربين في حديث الذباب
وأذكر كلمة قالها الدكتور أحمد شاكر - غفر الله له- في تعليقه على هذا الحديث في مسند أحمد، فقد ذكر أنه ناقش بعض زملائه الدكاترة، وحصلت بينهم مكاتبات في هذا الحديث، وكان زميله يتكلم بناحية عقلانية، فقال له الشيخ أحمد شاكر: لسنا بهذا الحديث ندعو إلى التعامل مع الذباب، ولكن الإسلام دين نقاء ودين طهارة ونزاهة، وينبغي لنا أن نحترز من الذباب، ولكن الحديث علمنا الحكم فيما لو وقع الذباب، وليس معنى هذا أننا نستجلب الذباب لطعامنا، أو أننا نترك الأقذار على أبداننا، أو نترك الذباب يسقط على وجوهنا، فالإسلام أرقى الأديان نظافة، ففيه الوضوء خمس مرات، والغسل عند الجنابة، ويوم الجمعة، وغير ذلك.
إذاً: ليس الدفاع عن هذا الحديث معناه أننا نتلاءم ونتعاون مع الذباب في حياتنا، إنما هو دفاع عن السنة النبوية؛ لأننا وجدنا في الوقت الحاضر أن بعض الأطباء ينكر هذا، وأحدهم نشر ثلاث منشورات -وهي موجودة عندنا- يتهكم فيها بهذا الأمر، ويستبعده جداً إلى حد بعيد، فإذا كان المثقف والمتعلم والطبيب يصل إلى هذا الحد، ويضل بعض قاصري العقول، ويشككهم في السنة، فهذا أمر مشكل.
وكما يقول الشيخ أحمد شاكر: لقد تجرءوا على الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، فالحديث متفق عليه، ولم يجرءوا أن يطعنوا في البخاري ومسلم، ولكن قالوا: هذا الحديث لعل أبا هريرة قد أخطأ في هذا الحديث! ثم لو جئنا إلى هذا الحديث فإننا نجد أن أبا هريرة لم ينفرد به، فقد جاء عن أبي سعيد الخدري، وعن أنس بن مالك، ورواه البيهقي، ورواه ابن خزيمة وغيرهم، فالحديث من حيث السند من أصح ما يكون، والذين خصوا أبا هريرة بالكلام عليه حسابهم على الله، وأبو هريرة أضبط الصحابة لحديث رسول الله، وفي ذلك معجزة لرسول الله، فإنه اشتكى إلى رسول الله أنه ينسى بعض ما يسمع منه، فقال صلى الله عليه وسلم ذات ليلة: (من أراد أن يحفظ فلا ينسى فليبسط رداءه، فبسط أبو هريرة رداءه أمامه، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديثه قال: ضم إليك رداءك، فضم إليه رداءه، فقال: والله ما سمعت حديثاً ونسيته بعد ذلك أبداً) ، إذاً: عنده تأمين على أحاديثه من رسول الله، ليس من شركات التأمين الأوروبية، بل تأمين من رسول الله، فهو إذا سمع الحديث حفظه فلا ينساه بضمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فكيف يأتي أشخاص متأخرون يتطاولون على صحابي جليل كـ أبي هريرة رضي الله تعالى عنه؟! وهذا الحديث قد أخذ مني وقتاً طويلاً، وسيطر على فكري زمناً طويلاً، وكتبت عنه في مجلة راية الإسلام -التي كانت تصدر في الرياض- في عام (1374 أو 1375) هجرية مقالتين: الأولى: في سند الحديث، وصحة الرواية، والثانية: فيما توصلت إليه، وفيما جمعت من نقول طبية عن المجلة الطبية البريطانية، ومجلة الأزهر، ومجلات أخرى.(6/4)
ظهور معجزة للنبي عليه الصلاة والسلام في حديث الذباب
والقسم الثاني: من المعجزات: ما ادخرها الله سبحانه وتعالى للأمة على مدى الزمن، فتكشفها الأيام تكشفها المعامل والمختبرات، وتظهر للناس معجزات جديدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وها هي إحدى تلك المعجزات تظهر في هذا القرن، فقد استنكر بعض الناس قديماً وحديثاً هذا الأمر، وقالوا: كيف يحصل للذبابة أن تحمل عنصرين متضادين داء ودواء؟! وكيف تميز الجناح الذي فيه الداء وتقدمه؟! فاستبعدت عقولهم إمكان وجود هذا، وعقولهم قاصرة، أما رأوا النحلة يخرج من فمها شفاء للناس، ومؤخرها فيه سم؟ فإن لدغة سبع نحلات كلدغة العقرب، وهي حشرة واحدة، فالله خلقها، وألهمها التناسل، وألهمها المبيت، وألهمها الطيران، وألهمها كل شيء، قال الله: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:3] ، قدر الأشياء، وهدى المخلوقات إلى ما قدره لها، فالله أحسن كل شيء خلقه ثم هدى، وكل مخلوق أحسن خلقه ثم هداه لما خلقه إليه، والأمثلة كثيرة جداً: فمن الذي علم النحلة أن تبني بيتها السداسي بما يعجز عن مثله المهندسون؟ ومن علمها أن تستخلص من الزهور عسلاً؟ إنه الله الحكيم القدير.
وقد رد بعض الناس قديماً حديث الذباب؛ لأنه لا يستوعب أن فيه داءً ودواءً، ثم استبعد عقلاً أن الذباب يميز بين الجناح الذي فيه الداء فيقدمه وبين الذي فيه الداء فيؤخره، ولما أدخلوا العقول غير العاقلة أفسدوا الحديث، ولو كانت عقولهم نيرة كاملة لما استبعدت ولما استنكرت، وقد كذب الكفار بالإسراء والمعراج وقالوا: كيف يروح ويجيء في ليلة ونحن نضرب إلى الشام أكباد الإبل شهراً؟! فمقاييس العقل لا تدخل في المعجزات ولا في الآيات الكونية التي خلقها الله سبحانه وتعالى.
والآن لما تقدمت الأبحاث ووسائلها، والاكتشافات وآلاتها، حصلت هناك دوافع لإجراء بحوثات حول هذا الذباب، لا عن طريق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم لا يعلمون به، ولكن على مناهجهم العلمية، وأقدم بحث عن الذباب اطلعت عليه في سنة (1871م) ، فقد بحث هذا الموضوع مجموعة من الأطباء، اثنان من إيطاليا، واثنان من ألمانيا، وواحد من بلجيكا، ونشرت بحثهم مجلات عديدة، منها: المجلة الطبية البريطانية، وغيرها، ونقلته مجلة الأزهر، ومجلة التمدن الإسلامي، ومجلة حضارة الإسلام السورية، ومجلات كثيرة جداً، وآخر ما وصل إلينا بحث طبي في جامعة الملك سعود بالرياض، فقد أجريت تحاليل على هذه الحشرة عملياً، واطلع عليها أخونا الشيخ عبد المجيد الزنداني، ورأى بعينيه ما فيه من داء، وما فيه من دواء، والصنعاني شارح هذا الكتاب يقول: إن سمّية الذباب يذهبها الدواء الذي فيه، ويقول العلماء: إن لسعة النحل والزنبور والعقرب إذا حكت بالذباب زال سمها، وهذا يدل على وجود الدواء في الذباب، فلو أنك حككت محل لدغة الزنبور أو العقرب بمجموعة من الذباب لكنت قد عالجته بالدواء الذي فيه، وذهبت آثارها، إذاً: هذه المسألة معروفة من قبل، وزاد من صحتها التجارب العملية.
وأذكر أن طبيباً مفتشاً في أعمال كيميائية في وزارة الأوقاف بمصر جاء ليحج، وكنا معاً، وكنا نلتقي به مدة وجوده في المدينة، وكان متطلعاً إلى أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما قدمنا رابغ جلسنا نشرب الشاي، والذباب هناك كثير، فإذا بذبابتين تسقطان في الفنجان، فلما وقع نظره عليهما غمستهما ونزعتهما ورميتهما؛ فتساءل في دهشة: ما هذا؟! فذكرت له حديث رسول الله، فقال: وهنا قال رسول الله أيضاً؟! فقلت له: نعم، فضرب كفاً على كف، وقال: هذا الحديث صحيح! قلت: أنت دكتور معامل وكيميائيات، وما يدريك أنه حديث صحيح؟! فذكر لي ظروف دراسته أثناء الحرب العالمية الأخيرة، وكان مبتعثاً للدراسة في ألمانيا، ولما قامت الحرب توقفت وسائل الاتصال، ويذكر لي من عصاميته أنه انقطعت عنه المصاريف والمواصلات، فكان هو وثلاثة من زملائه يعملون في المساء في المطابخ، يغسلون الصحون، هو طبيب مبتعث يدرس كيمياء، فإذا به من أجل أن يكمل دراسته يعمل مساءً في مطبخ لينال أجراً يعيش به ويكمل دراسته! وما انتهت الحرب إلا وقد انتهى وأخذ شهادته.
فيقول: لقد اطلع على بحث حول هذا الموضوع، وهو أن معركة العلمين كثر فيها المصابون، فكان المسئولون يبادرون بحمل الجرحى من الضباط إلى المستشفى، ويبقى الجرحى من الجنود بأرض المعركة، حتى إذا فرغوا من نقل الضباط أخذوا الجنود، واجتمع الجميع في المستشفيات، واتحد العلاج للجميع، فكانت جراح الأفراد أسرع شفاءً من جراح الضباط، فلفت هذا النظر، وقالوا: لعل التربة التي أصيبوا فيها وجاءهم من غبارها فيها مادة تساعد على سرعة برء جراحهم؛ لأنهم مكثوا على التربة مدة أطول من الضباط، فحللوا تلك التربة فلم يجدوا شيئاً، فقالوا: لعله الذباب الذي سقط عليهم مدة طويلة، فقالوا: الذباب يحمل الميكروبات، فكيف يؤثر عليهم؟! ومن باب البحث العلمي أخذوا الذباب وحللوه، فوجدوا فيه هذه المادة، ثم توالت الأبحاث.
والآن يعرف طبياً في العالم -كما قال طبيب ألماني- أن الذبابة تحمل في ثلثها الأخير أنبوباً مستطيلاً يمتلئ بمادة (بكتريوج) أو (بكترياج) ، وترجمته: (مبيد البكتيريا) ، وهذا الأنبوب المستطيل مثل حلمة الثدي، يمتلئ من هذه المادة في جسم الذبابة، فإذا امتلأ وضغط عليها انفجرت فينتثر حولها، فيقيها من جراثيم الميكروبات التي في القمائم، والقاذورات التي تسقط عليها، ولا تضرها تلك الجراثيم، فلما بحثوا موضوع الغمس، قال الأطباء المسلمون عن الغمس: هي إذا امتلأت بطبيعتها تنفجر، لكن إذا سقطت وانغمس الأنبوب إلى نصفه لم يأت موجب لانفجارها، فإذا غمست في السائل فإن السائل يحدث ضغطاً عليها فيفجرها، كما تضغط على جلدة قلم الحبر فيخرج الحبر، فكذلك يضغط السائل على الأنبوب فينفجر، فيخرج ما فيها من الدواء ليقتل ذلك الداء.
وقال لي الطبيب في ذلك المجلس: إذا وقع الذباب فيجب أن تغمسه، سواء أردت أن تشرب أو لم ترد أن تشرب، فقلت له: إذا كنت لا أريد أن أشرب فلماذا أغمسه؟ قال: لأنه عندما سقط قدم الجناح الذي فيه الداء، فأصبح السائل ملوثاً، فإذا أرقت السائل قبل غمسه بقي الكأس ملوثاً من أثر السائل، أما إذا غمسته فإن السائل يتطهر، فإذا أرقت السائل صار جرم الكأس معقماً، ثم لك أن تشرب في ذلك الكأس.(6/5)
فقه الحديث ومناسبته لباب المياه
وهذا الحديث قد أوقف العلماء والأطباء والباحثين مواقف عديدة، ونحن نريد أن نأخذ الفقه من الحديث، ثم نتناول موضوعه من حيث هو.
فإذا وقع الذباب في أي شراب؛ سواء في الماء، أو في الشاي، أو في الحليب، أو في المرق؛ فإنك تغمسه، هذه هي السنة، وهذا الإرشاد بين لنا أمراً يتعلق بالصحة، وهو أن في أحد جناحي الذباب داء، وبين في الرواية الأخرى أن الذباب يتقي بالجناح الذي فيه الداء، فهو يضع الداء في الشراب أولاً وقاية له، ومضرة لصاحبه، فبين لنا صلى الله عليه وسلم أن هذا الداء الذي في أحد جناحي الذباب دواؤه في الجناح الثاني، فهو يحمل الداء والدواء معاً، ثم يقول العلماء والأطباء: بعد أن تغمسه أنت بالخيار: إن طابت نفسك أن تشرب الشراب فاشربه، فإنه أصبح مطهراً معقماً، عقم بعضه بعضاً، وإن لم ترد شرابه فإما أن تريقه أو تتركه، ولكن لا بد من الغمس ولو لم تشربه، وسنذكر سبب ذلك.
وقد أورد المؤلف هذا الحديث هنا لنقطة بسيطة، وهي أن الذباب إذا سقط في الماء ومات فيه، فهل يسلبه الطهورية أم أنه ما زال الماء طاهراً مطهراً؟ نقول: لو مات الذباب في الماء فإن الماء يبقى على طهوريته، ونتوضأ منه، لكن الشرب شيء آخر، ومن أين أخذ هذا الاستدلال؟ قالوا: الذباب ضعيف، فإذا غمس في الشراب فمن المحتمل أن يكون الشراب حاراً، ومن المحتمل أن يغمس مدة فيموت في حال الغمس، والرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن غمس الذباب في الماء سيقضي عليه، وسيموت في الماء، ومع ذلك أمر بنزع الذباب فقط، ويبقى السائل على طهوريته، ولم يغير ذلك في حكمه، ولو كان الموت يغير في حكم الماء لبينه لنا صلى الله عليه وسلم.
هذا هو غرض المؤلف من إيراد هذا الحديث في باب المياه.(6/6)
معجزات النبي صلى الله عليه وسلم
يبدو لي -والله تعالى أعلم- أن الله سبحانه وتعالى جعل للنبي صلى الله عليه وسلم المعجزات على قسمين: قسم مشاهد في حال حياته، وقسم مدخر لما بعد موته، يأتي على مدى تعاقب الأجيال والأزمان، وكلٌ يؤدي عمله، فالمعجزات التي كانت في حياته صلوات الله وسلامه عليه يشاهدها الصحابة بأعينهم فيزدادون إيماناً ويقيناً وتصديقاً برسول الله، كما جاء عن العباس رضي الله تعالى عنه أنه لما أخذ أسيراً في بدر، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (افد نفسك وابن أخيك، فقال: ما عندي شيء يا محمد! فقال: أين المال الذي أعطيته أم الفضل وقلت لها: إن سلمت في سفري فبها، وإلا فهذا لأولاد فلان؟) فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، والله ما حضرنا أحد، وما كنت إلا أنا وهي! فتلك النجوى جعلت العباس يشهد الشهادة، ويزداد إيماناً، فإنه قد كان مسلماً، وكان يريد أن يهاجر، فكتب إليه الرسول أن يبقى في مكة، وكان يراسله بأحوال المشركين في مكة، وقال له: (كما ختم الله بي النبوة، يختم بك الهجرة) ، فكان العباس من آخر المهاجرين.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قافلين من بعض الغزوات، فعرسوا ليلاً، وقال صلى الله عليه وسلم: (من يكلأ لنا الفجر؟) فقال بلال: أنا، يقول بلال: أنخت راحلتي، واستقبلت الشرق بوجهي، واستندت بظهري إلى الراحلة أنتظر الفجر حتى يطلع، فما زلت أنتظر الفجر حتى جاء الشيطان، وأخذ يهدهدني كما تهدهد الأم طفلها، حتى نمت، فما استيقظوا إلا بحر الشمس، وجعل عمر يقول: الصلاة، ويصيح، والرسول نائم، وما كانوا يجرءون أن يوقظوه من نومه، مخافة أن يكون، فلما سمع الأصوات استيقظ، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام لـ أبي بكر: (كأني بـ بلال وقد أتاه الشيطان، وأخذ يهدهده كما تهدهد الأم طفلها حتى نام) ، فجاء بلال فقال: أخذ بروحي الذي أخذ بأرواحكم، أنا واحد مثلكم، يا رسول الله! أنخت راحلتي، وأخذت أنتظر الفجر بوجهي، فما شعرت إلا والشيطان يهدهدني كما تهدهد الأم طفلها حتى نمت، فقال أبو بكر الصديق: أشهد أنك رسول الله! وهو يشهد من قبل، وهو الصديق، لكن ظهور المعجزة تجدد اليقين.
ولما كانوا في الخندق في شدةٍ وجوع وبرد وخوف، فرأى جابر رضي الله عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وقد ربط الحجر على بطنه من الجوع، فذهب إلى أهله، فقال: والله لقد رأيت رسول الله وفي صوته ضعف، وهو عاصب على بطنه الحجر، قالت: والله ما عندي إلا صاع من شعير، وعندنا العناق، فقال: سأذبح العناق، وتطحنين الشعير، وتصنعين طعاماً لرسول الله، فذهب جابر وأسر في أذن رسول الله فقال: عندنا غُديٌّ -ولم يقل: غداء- لك يا رسول الله! فإذا بالرسول يأمر رجلاً أن يصرخ في الجيش: يا معشر المسلمين! جابر صنع لكم غداء، فخرج جابر واستحيا، ماذا يفعل؟! وبهت، فذهب الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون إلى بيت جابر، فسبق إلى البيت وقال لامرأته: انفضحنا! قالت: ماذا حدث؟! قال: صرخ في الجيش كله، وجاءك بالناس كلهم! فقالت: الله ورسوله أعلم، لا عليك.
وهذا من كمال عقلها، فهو الذي دعاهم وسيدبر أمرهم، فأوقفهم على الباب، وأمرهم أن يدخلوا عشرة عشرة، فشبع الجميع وبقت فضلة، فقال: (لم يبق إلا أنا وأنت، كل، وائمر امرأتك أن تأكل، وأن تقسم على جيرانها، فإن بالناس حاجة) .
وهكذا قضية المزادة، ومعجزة حفنة التمر التي وضعها على الرداء فتكاثر حتى تساقط من الرداء، وأكل منه الجيش كله، وهذه المعجزات غالباً تكون في وقت الشدة، وفي عام الحديبية عندما نزلوا في أرض الحديبية وجدوا بئرها جافة، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً بسهم من كنانته وقال: (انزل واغرسه في قاع البئر) ، فجاش الماء حتى إن الرجل أدرك نفسه حتى لا يغرق، فظلوا ومدة مقامهم وهم يشربون ويتوضئون من هذه البئر، وفي تبوك قال صلى الله عليه وسلم: (لا يقربن أحد العين قبل أن أصل إليها) ، وكان من أمرها أن جرت بالماء.
ففي حالات الشدة تأتي المعجزة لتجدد للصحابة رضي الله تعالى عنهم اليقين، فمثلاً: كان الصحابة في غزوة الخندق قد بلغت قلوبهم الحناجر من شدة الخوف، فحينما تأتيهم معجزة مثل هذه يطمئنوا، كأن يكثر التمر، أو يكثر الطعام، أو يكسر الكدية، وهي صخرة عظيمة عجزوا عنها، فتوضأ صلى الله عليه وسلم ونضحها بماء وضوئه، وضربها ثلاث ضربات حتى تفتتت، فكانوا في خوف وفي شدة فتأتي المعجزة فتذهب أثر هذا الخوف، وتورث الطمأنينة.(6/7)
شرح حديث: (ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت)
قال رحمه الله: [وعن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت) أخرجه أبو داود والترمذي] .
هذا الحديث ختام هذا الباب المبارك، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت) ، وفي بعض الروايات: (ما قطع من حي فهو ميت) ، وفي رواية: (ما قطع من حي فهو كميتته) ، وهذه أعم.
قوله: (ما قطع) أي: فصل، كفصل اليد، أو الرجل، أو الأذن، أو أي عضو انفصل من بهيمة فحكمه حكم ميتته، فإن كانت ميتتها حراماً فهو حرام، وإن كانت حلالاً فهو حلال، فمثلاً: صياد السمك إذا أمسك طرف الحوت وقطع منه قطعة، ففلت، فهذا قطع من حي، لكنه حلال؛ لأن ميتة السمك حلال.(6/8)
سبب هذا الحديث ومناسبته لباب المياه
يقول العلماء: إن الحديث الذي له سبب، فصورة السبب قطعية الدخول، ولكن العبرة بعموم اللفظ، وسبب ورود هذا الحديث: أنهم في الجاهلية في وقت الشدة، كان يأتي أحدهم إلى سنام البعير، فيقطع الجلد ويأخذ من تحت جلد السنام الشحم، أو يقطع إلية الضأن ويأخذ منها الشحم ويرد عليها الجلد، والسنام يبرأ ويرجع الشحم فيه على ما كان عليه، وكذلك شحم إلية الضأن، وكانوا يفصدون الدم من الحيوان ويشربونه، وقد يضعونه في مصارين الشاة ويشوونه، أو يصبونه على الرماد الحار فيجمد فيأكلونه، وفصد الدم باقٍ في أفريقيا إلى الآن عند الوثنيين.
فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن هذه الأعمال التي فيها تعذيب للحيوان، وجعل هذا الذي أخذ من الحيوان وهو حي حكمه حكم الميتة، والميتة محرمة.
ومناسبة هذا الحديث لباب المياه: أنه لو سقط ذلك المقطوع من الحيوان في الماء فكأنما سقط فيه نجس، سوا غيّره أو لم يغيره، وسنرجع إلى قاعدة الماء القليل سواء تغير أو لم يتغير.(6/9)
الحكمة من تحريم ما قطع من البهيمة
وهنا وقفة: البهيمة إذا ماتت حرمت، وسبب تحريم الميتة احتباس الدم فيها، وما فيه من ثاني أكسيد الكربون الذي لم يتخلص منه، فإذا قيل: فكيف يحرم هذا العضو؟ فنقول: كل علة في التشريع لها سببان: سبب لحق الله، وسبب لحق المخلوق، أي: سبب راجع لحق الله، وسبب راجع لمصلحتنا، فهذه الميتة حرمت علينا، وعلة والقضية العامة في حكمة التحريم تشمل جانبين: الجانب الأول: أن الله نهى عنها، فمن أكلها فقد تعدى النهي، وانتهك حرمة أوامر الله ونواهيه؛ لأن الواجب امتثال الأمر واجتناب النهي.
الجانب الثاني: إذا وجدت الله ينهاك عن شيء فثق وتأكد -وأنت مغمض العينين- بأن وراءه حكمة تنفعك وتعود عليك في دينك وفي بدنك وفي أخلاقك، وفي أي جانب من الجوانب، سواء أدركت ذلك أو لم تدركه، وبالتتبع والاستقصاء وجدنا أنها كلها مدركة.
فالله سبحانه وتعالى قد قال: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام:121] ، فنهى أن نأكل مما لم يذكر اسم الله عليه، فلو جاء رجل وثني بسيف حاد ونحر الناقة أمامك، وخرج دمها كله، لكنه قال: باسم العزى، أو باسم اللات، أو باسم الصنم، فإن ثاني أكسيد الكربون الموجود في الدم قد انتهى، لكن بقي حق الله؛ لأن الذي خلق هذه الدابة هو الله، وهو الذي أنزل إليها الماء وأنبت لها الأرض، وهو الذي كونها وجعلها تنمو من هذا النبات، وهو الذي سخرها لنا، فإن البعير قوته تعادل عشرين أو ثلاثين رجلاً، وإذا بطفل صغير يضربه بالعصا ويقوده، فمن الذي سخر لنا هذه الدابة؟ إنه الله.
وبعد هذا كله، وبكل وقاحة، وبكل جرأة يقول: باسم اللات والعزى! فهل خلقه اللات أو العزى أو رزقه أو أحياه أو سخره له؟! ليس له أي علاقة، فهذا ظلم وتعدي.
إذاً: علة التحريم هنا موجودة.
فإذا قطع شيء من بهيمة فهو -أولاً- اعتداء على البهيمة.
والعلة الثانية: احتباس الدم في ذلك العضو، فإنه لم يتخلص منه، وأنت تجد عند الذبح أن الدم يجري؛ لأن القلب يضخ الدم فيخرج من هذا المنفذ، أما الجزء الذي قطع فالدم قد جمد في عروقه؛ لأنه ليس هناك ما يحركه، فيبقى الدم محبوساً بقسميه الأوكسجين وثاني أكسيد الكربون، ويكونان في هذه القطعة التي قطعت، ففيها مضرة عليك، ولهذا جاءت القاعدة عامة: ما قطع من بهيمة فهو كميتته، أو ما قطع من حي فهو ميت.(6/10)
حكم العظم والشعر والصوف المقطوع من البهيمة
يذكر الأصوليون أن قوله: (ما قطع) من صيغ العموم، وقالوا: إن القرآن خصص عموم السنة، فالشعر والصوف والوبر قطع من حي، فهو ميت، ويجوز استعماله، إذاً: ما أبين من حي فهو ميت ما عدا الشعر والصوف والوبر، وهذا نص الله تعالى عليه في قوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل:80] ، فالقرآن خصص السنة.
وهنا مبحث فقهي وأعتقد أنه من المضايق، وهو مسألة: الأعضاء التي لا تسري فيها الحياة، قالوا: إن الشعر والصوف والوبر لا تسري فيها الحياة؛ لأنك لو قصصته وقطعته فلا تتألم ولا تحس؛ لأن عصب الإحساس مفقود، لكنه في الجلد موجود، وطرف السن من أعلى لو وخزنة بالدبوس فلن تحس، لكن العصب داخل اللثة موجود، فما لم تسر فيه الحياة هل يدخل تحت هذا الحديث.
قال الجمهور: إنه لا يأخذ حكم ما قطع؛ بدلالة أنه لم تسر فيه الحياة.
لكن يرد عليهم أنه ينمو ويزيد، فكيف قالوا هذا؟ قالوا: النمو يكون من حويصلة الشعر داخل الجلد، وليس من طرف الشعر، فلو أخذت شعرة طولها (2سم) وعلّمت في وسطها بلون أبيض، فإذا صار طولها (4سم) ستجد أن العلامة قد ارتفعت إلى أعلى، وليس الجزء الأعلى هو الذي طال، فالنمو ليس من الطرف، بل النمو من أسفل.
إذاً: الإحساس في حويصلات الشعر يكون من أسفل، ولهذا لو قلعتها فإنك تحس بالألم، أما إذا قصصتها أو حرقتها بالنار فلا تحس بشيء، وقاسوا على هذا كل عضو لا تسري فيه الحياة، وقالوا: يجوز الانتفاع به ولو أبين من الحي، وذلك مثل ناب الفيل (العاج) فإنه يتخذ منه أمشاط للنساء، ويتخذ منه أدوات زينة، ونحو ذلك، وكذلك أظلاف الحيوانات يتخذون منها مادة الغراء للخشب، وهكذا قرون الحيوانات يتخذون منها مقابض للسلاح أو للسكاكين أو غير ذلك، فهل هذه العظام داخلة في قوله: (ما أبين من حي فهو كميتته) أم أنها خارجة عنه؟ الجمهور على أنها خارجة عنه، وذهب الإمام ابن تيمية في المجموع إلى خطوة أوسع، فرجح أن العظام طاهرة حتى التي تكون في الميتة، ونجاسة الميتة لا تؤثر في عظم جاف جامد لا تسري فيه الحياة، فلا تتنجس العظام بالموت.
ومسألة: سن الفيل -الذي هو العاج المستعمل الآن- يختلف فيه الناس، والتحقيق: أنه يجوز استعماله؛ لأنه لا تسري فيه الحياة، فهو بمثابة الظفر والشعر، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/11)
كتاب الطهارة - باب الآنية [1]
لقد نهانا الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة لا لعلة النجاسة، ولكن لما تبعث في النفس من العلو والفخر، وتغير من خلق التواضع إلى الكبر والاحتقار، ولأنها من عادات الكفار وأخلاقهم، ومن تنعم بها في الدنيا حرمها في الآخرة.(7/1)
شرح حديث: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ... )
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: يقول المؤلف رحمه الله: [عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما؛ فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة) متفق عليه] .
لما قدم المؤلف رحمه الله تعالى ما قدمه من أخبار وآثار فيما يتعلق بالمياه تحت عنوان كتاب الطهارة، جاء وعقد هذا الباب (باب الآنية) ، والمياه باب من أبواب الطهارة، والآنية باب من أبواب الطهارة، وعلاقة باب الآنية بباب المياه أن الماء لابد له من إناء يوضع فيه، ثم يستعمل هذا الماء من هذا الإناء، والترتيب الطبيعي أن يأتي بأحكام الأواني هنا.
والآنية: جمع إناء، وقد يجمع على (أوانٍ) فالآنية: جمعٌ للإناء، والإناء هو ما يوضع فيه الشيء السائل، وما يوضع فيه الشيء الجاف يقال له: ظرف أو كيس أو نحو ذلك.
جعل المؤلف رحمه الله تعالى باب الآنية عقب باب المياه، وقبل إزالة النجاسة، وقبل الوضوء والغسل وما والاهما، وبدأ هذا الباب بالحديث الأول: عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما؛ فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة) متفق عليه.
(فإنها لهم) الضمير في (لهم) وإن لم يأتِ له مرجع فهو معروف بالمقابلة: (لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة) ، والناس في الدنيا قسمان: مؤمن وكافر، إذاً: (لهم) قسيم (لكم) ، فيكون (لهم) هنا المراد بها الكفار، وموضوع آنية الذهب والفضة قسيم لموضوع الحرير، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: أنه أخذ الحرير والذهب وقال: (الحرير والذهب حرام على ذكور أمتي، وحلال لإناثهم) ، فهذا العموم يحل ويبيح الحرير للنساء، وبالإجماع يجوز أن تستعمله المرأة لباسًا أو فراشًا وعلى أية حال من أحوال استعمال الثياب، ولا يجوز للرجل من الحرير إلا ما استثني، كما تقدم في جيوب القميص، أو عند الضرورة للحكة، أو في ميادين القتال، وهذه أمور اضطرارية أو تدعو إليها الحاجة، فيباح الحرير للرجال بقدرٍ معين للضرورة أو الحاجة.
وعموم (الذهب حلال لإناث أمتي) هذا الحديث يخصصه؛ لأن للمرأة أن تستعمل الذهب حلياً كما تتحلى النساء، أما أن تستعمله آنية فهذا لا يجوز، فالنهي عن استعمال آنية الذهب والفضة عامٌ للرجال والنساء، وهو مخصصٌ لعموم إباحة الذهب للنساء.
والمؤلف رحمه الله تعالى سيتكلم على أواني الذهب والفضة، والأواني من الجلود، وعموم أواني أهل الكتاب.
فالحديث الأول: فيه النهي عن استعمال آنية الفضة لشراب وأكل، والعلماء رحمهم الله أخذوا نص الأكل والشرب، وألحقوا به بقية الاستعمالات، فلا يجوز للمرأة أن تتخذ لها أواني ذهب وفضة زينة كالمكحلة، أو فنجان، أو صحن، أو مرآة تغلفها بالذهب، وأي استعمال سوى حلي الزينة فهي ممنوعة منها.
وهنا يرد سؤال: ما هي علة تحريم استعمال الذهب والفضة؟ سيأتي الحديث بعد ذلك يبين الأمر المترتب على استعماله، ومن العلماء من ناقش في تحريم بقية الاستعمالات سوى الأكل والشرب كالشارح رحمه الله، وكذا الشوكاني وغيرهما، ولكن الجمهور على عموم تحريم استعمال أواني وآلات الذهب والفضة على الرجل والمرأة، فيحرم على الرجل أن يتخذ قلماً من ذهب أو فضة، أو حقيبة من ذهب أو فضة، أو أي شيء مما قد يتخذه الناس من الذهب والفضة.
وابن دقيق العيد يقول: إن بعض العلماء قاسوا بقية الاستعمالات في بقية النواحي الأخرى على الأكل والشرب، ولكن المتأمل يقول: ليست المسألة قياسية، ولكنها نصٌ تقريباً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (فإنها -أي: آنية الفضة وآنية الذهب- لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة) ، فإذا كان استعمال الفضة لهم في الدنيا فإنه سيكون ممنوعاً على غيرهم في الدنيا -أي من المسلمين-؛ لأنها للمسلمين في الآخرة وليست للكفار.
قوله: (لا تشربوا) هذا نص في الشرب في آنية الذهب والفضة، ثم جاء نص في الأكل فقال: (ولا تأكلوا في صحافهما) .
وما الفرق بين الآنية والقدح والكأس والصحفة؟ الصحفة منبسطة مثل الصحن، ويقال: إن الصحفة يوضع فيها طعام يكفي لخمسة أشخاص، والجفنة: ما يوضع فيها طعام يكفي لعشرة أشخاص، وقد يكون هناك أوان أخرى تستعمل للماء الكثير أو للعجين.
الذي يهمنا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب في آنية الذهب والفضة بأية حالة كانت: ملعقة، كأس، (زِبْدية) ، قدر أي نوع من الأنواع لا ينبغي أن يشرب فيه إذا كان ذهباً أو فضة.
(ولا تأكلوا) أياً كان نوع الطعام: إدامًا، أو مكسرات، أو نواشف، أو فاكهة، فلا ينبغي أن يكون في آنية الذهب والفضة.
نص الحديث على الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة، وقال الآخرون: يلحق بالأكل والشرب عموم الاستعمالات، وهذا ليس قياساً، ولكنه تنبيه بالأعم على الأخص؛ لأن أكثر استعمالات الناس للأواني لأجل الأكل والشرب، فإذا نهى عن استعمالها في الأكل والشرب وهو العام؛ فيكون ما سوى ذلك أقل منه، وهو من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى، يعني: (الأعلى) كثرة الاستعمال و (الأدنى) الذي هو قلة الاستعمال.
(فإنها لهم في الدنيا) يقول بعض العلماء: ليس إلحاق بقية الاستعمالات قياساً على الأكل والشرب، ولكن بدلالة (فإنها) أي: الذهب والفضة، ما قال: (فإنهما) ، أو قال: فإنه، فلو جاء الضمير مذكراً لعاد على الذهب، ولو جاء مثنى لعاد على الذهب والفضة، ولكنه قال: (فإنها) ، فهل هذا الضمير المؤنث خاص بالفضة أو أنه عائد على الآنية من حيث هي؟ نجد في القرآن الكريم: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} ثم قال: {وَلا يُنفِقُونَهَا} [التوبة:34] فالضمير رجع على أحد المذكورين وهو الفضة، ورجع على أدنى الصنفين بضمير المفرد المؤنث، وهو عائد على الفضة قطعاً، فيقول العلماء: لما كان النهي عن عدم إنفاق الجنسين، وكانت الفضة أقل الجنسين، جاء الضمير على الأدنى: (ولا ينفقونها) ثم قوله: (فبشرهم) يترتب على عدم إنفاق الفضة وهي الأدنى، فيكون عدم إنفاق الأعلى -وهو الذهب- داخلاً من باب أولى، وكذلك هنا (فإنها) أي: الفضة، (لهم) ، وبالتالي الذهب من باب أولى.(7/2)
علة تحريم استعمال الذهب والفضة
هل النهي عن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة لعين الذهب والفضة؟ وكما يقول الأصوليون: هل العلة ذاتية أو عرضية؟ بمعنى: هل العلة في النهي لعين الذهب والفضة أو لوصف زائد عن الذهب والفضة؟ من قال: النهي لعين الذهب والفضة قال: لناحية بعيدة جداً ولها أثر، وهي: لو أن العالم الآن يتعامل بالذهب والفضة نقداً كما كان في السابق، وصار كل من يسر الله عليه أخذ الذهب وسبك منه أواني، وتحوّل الذهب الذي هو النقد السيّال -قيمة المبيعات- إلى أوانيَ في البيوت، فهل يبقى في أيدي الناس من المال والسيولة ما يدير الاتصال بين الناس؟ لا، تتعطل أداة الثمن والتثمين، والبيع والشراء، وتحجز أواني في بيوت الناس! فبعض العلماء يقول: العلة في النهي ذاتية لئلا يحتكر الناس الذهب والفضة، ويحتجزوا عين الأثمان؛ فتتعطل المثمنات لعدم وجود النقد من الذهب الذي تحول إلى أواني في البيوت.
وبعضهم يقول: لا، العلة عرضية.
ونجد في بعض البلدان حلي النساء بالأطنان مكدساً، وقيل: إن غاندي عندما كان يفاوض بريطانيا في الاستقلال، ذهب إليهم بِعَنْزِه، يحلبها ويشرب لبنها وسط البرلمان، ويأتون له بطعام ويقول: لا؛ أنا طعامي معي، فلما قالوا له: نمنع عنك الإعانة والميزانية قال: إن بالهند من حلي النساء ما يكفي ميزانية الهند خمسين عاماً، وكانت الهند أكثر دول العالم اهتماماً بمصاغ النساء، ويخبرني بعض الإخوان أنه ربما كان عند المرأة الهندية ما يزيد عن العشرين كيلو ذهباً مصاغاً لها، وربما غطاها من شعرها إلى ظفرها.
أليست هذه الأشياء كثيرة محتجزة؟! ونجد في كتاب الأموال لـ أبي عبيد: أن بعض السلف نهى أن تزيد المرأة عن أربعة دراهم من الحلي، وعن كذا أو كذا، والراجح أن هذا لا تحديد فيه؛ لقوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} [الزخرف:18] على الإطلاق دون ما تحديد لكثير ولا لقليل، ولكن لا ينبغي أن يصل إلى حد الإسراف والتبذير.
والآخرون يقولون: لا إسراف ولا تبذير؛ هذا مال محفوظ، وليس بضائع.
والذين يقولون: العلة عرضية، قالوا: الذهب والفضة هما المعدنان النفيسان اللذان يعرفهما الغني والفقير والصغير والكبير، فإذا رأى الفقير الغني يأكل ويشرب في صحاف الذهب والفضة، وهو لا يجد آنية الفخار يشرب فيها؛ ماذا تكون نفسيته؟ سيكون في ذلك كسر لقلوب الفقراء بمظاهر استعمال الأغنياء.
وهناك علة أخرى: يقال: لو رجعنا إلى أصل التحليل والتحريم: فالحرير والذهب حرام على الرجال حل للنساء، فإن كان كذلك فلماذا حرم الحرير على الرجال مع أنه ناعم ولطيف ومريح للبدن و؟ يقول العلماء: إن الليونة الزائدة في اللباس تضعف خشونة الرجولة، ويميل الرجل إلى الدعة؛ لأنه مترف منعم، فهذا يوسف بن تاشفين ذهب إلى الأندلس ناصراً لأحد ملوكها هناك، ولما انقضت المعركة وانتصروا طلب منه الملك أن ينتظر ويستريح بجنوده عدة أيام، فقال: لا، لا أستطيع أن أبقي الجند الذي عاش في الصحراء على شظف العيش والخشونة أن يعيش هنا، فإنه يترهل ويتنعم وتلين قناته، ولا يكون في القوة كما لو كان في مكانه هناك.
إذاً: حرم الحرير على الرجال إبقاءً للرجولة، وإبقاءً للصلابة والقوة، وهو مناسب للنساء؛ لأن النساء كما قيل: كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جرُّ الذيول ما عليهن من المشقة شيء، فيمكن أن يقول قائل: استعمال آنية الذهب يجعل في قلب الإنسان نوعاً من التعالي أو البطر أو الطغيان أو الكبرياء أو أو أو إلخ، فإنها تجعل في النفس شيئاً من الأبهة أو الظهور أو الركون إلى الدنيا ومتعتها، قال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:33-35] .
وهنا يصرح صلى الله عليه وآله وسلم بحقيقة العلة بقوله: (فإنها لهم) ؛ لأنهم اشتروا الدنيا بالآخرة، واستمتعوا بها، فاستحقوا ألا يكون لهم خلاق ولا نصيب في الآخرة، والمسلم يترفع عن ذلك، ويزهد فيه؛ لما يكون له في الآخرة من حظٍ وافر.
ويوجد أواني مرصعة بالأحجار الكريمة، كأن يكون إناء من الزجاج أو من الخزف (الصيني) أو من الفخار أو من الخشب ويرصع بأحجار كريمة، وقد يزيد ثمن الفص الواحد منها في الثمن عن كيلو من الذهب، مثل الزمرد أو الماس، فالجرام منه يساوي عشرات الجرامات من الذهب، فلو جاء إنسان ورصع القدح الذي يشرب فيه بشيءٍ من تلك الأحجار؛ فهل يدخل في النهي -من باب أولى- لارتفاع قيمته أو لا يدخل في ذلك؟ الجمهور على أنه لا يدخل في النهي، إنما يمنع من باب الترف والتبذير وإهدار الأموال؛ لأنه جعله في قدح، وكان من الممكن أن يجعله في بناء عمارة أو في مصالح عامة إلخ.
وقالوا: 90% من الفقراء لا يفرقون بين الماس وزجاج الكرستال، ولا بين الأحجار الكريمة وغيرها، ولا بين المصنوع وبين المطبوع، ولا بين الشيء الطبيعي والصناعي، أكثر الناس لا يفرق بين هذه الأشياء، فلا يؤدي وجود هذه الأحجار الكريمة إلى كسر قلوب الفقراء؛ لأنها ليست عندهم كالذهب والفضة، فالذهب والفضة يعرفه الجميع، ويعرفون قيمته وتأثيره، لكن تلك الأحجار لا يعرفون عنها شيئاً، فلا تدخل الانكسار على قلوبهم، وليست من أثمان المبيعات حتى يقال: إنها معطلة.
يوجد الآن -ولا حول ولا قوة إلا بالله- تمثال لبوذا وزنه أكثر من عشرة إلى خمسة عشر كيلو من فصوص الفيروز، وجميعها قطعة واحدة لا نظير لها في العالم، لكنهم بوذيون لا دين لهم، ولا نقول: إنه معطل؛ لأنه يجلب لهم من السواح أكثر من قيمته.
إذاً: يحرم استعمال آنية الذهب والفضة، والنص على تحريم الأكل والشرب، والقرينة والإيماء والتنبيه تدل على عموم تحريم الاستعمال لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) .(7/3)
شرح حديث: (الذي يشرب في إناء الفضة ... )
قال رحمه الله: [وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جنهم) متفق عليه] .
بعد مجيء النهي: (لا تشربوا) ، (لا تأكلوا) وهذا النهي يقتضي التحريم، ولكن لما كان النهي أحياناً يحمل على الكراهة، أي: من باب الزهد في الدنيا، كما نجد بعض الناس ربما كره أن يشرب الماء في الزجاج النقي، ويقول: هذه رفاهية، وهذا تنعم أكثر من اللازم.
في ذات يوم كنت في الدار البيضاء -في رحلة من الرحلات- وكان معنا بعض المشايخ جزاهم الله خيراً، فصنع شخص لنا الشاي، وقدمه في كأس طوله حوالى (9سم) ، وحافته -سمكه- حوالى (5سم) ، وسمك القاعدة حوالى (3سم) ، ترفعه كأنك ترفع الرصاص، فقلت: يا فلان! ما هذه (القزايز) ؟ فضحك، وقال: هل تدري كم قيمة هذا الكأس؟ قلت: لا، قال: قيمته ستمائة دولار أمريكياً! ولا يوجد هذا إلا في ألمانيا، وليس عندي منه إلا أربع حبات! قلت: يا أخي! حرام عليك، كأس بريال يغني عن هذا، قال: هذه عادات وتقاليد؛ فهذه النواحي من باب الترف والزيادة في المتعة، ومن باب الحفاوة بأشياء معينة، لكن لا تدخل في التحريم، فبعض الناس يكره الغلو في تلك الأواني المباحة.
ولما كان النهي محتملاً للتحريم أو الكراهة؛ جاء المؤلف بالنهي المقتضي للتحريم، ليقضي على احتمال الكراهة، فجاء بالحديث الثاني الذي يدل على أمرين: على أن النهي للتحريم.
وعلى جزاء وعقوبة من يرتكب هذا النهي.
فأتى بحديث: (الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) ، هذا في الفضة والذهب من باب أولى.
قوله: (إنما يجرجر) : يقولون: إن اللغة العربية فيها دلالات ذاتية في النطق، فمن تأملها يجد بعض الكلمات تدل على معناها بطريقة نطقها، فأنت إذا سمعت تسمية بعض المصادر، مثل: صلصلة الجرس، (صل، صل، صل) ، كأنك تحكي صوت الجرس، حينما تقول: زقزقة العصافير، لو قلتها مرتين كأن عصفوراً يزقزق هناك، خرير المياه، الغليان، الجريان، غليان: تدل على حركة الماء، جريان: تدل على حركة الذي يجري، فهذه يسمونها دلالة ذاتية.
و (يجرجر) : تدل على أداء متتابع، وحركة متوالية، والجرجرة: هي صوت الماء في حلق الإنسان، وأصلها للبعير حينما يشرب، يسمع له صوت عند الشرب.
وقوله في هذا الحديث: (الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نارَُ) ، جاء الحديث بروايتين: رواية بنصب (نارَ) ، ورواية برفع (نارُ) ، وعلى كلتا الحركتين يختلف المعنى، فيجرجر في بطنه نارَ، جعل الماء الذي يشربه ناراً، وفاعل الجرجرة الشارب، فكأنه عمد إلى نار مذابة وصبها في آنية الفضة وشربها، وعلى رواية الرفع: يكون فاعل الجرجرَة هو الشراب الذي يشربه، فبدلاً أن يكون سائغاًً كالماء البارد العذب أو غير ذلك؛ انقلب إلى نار.
لكن: هو يشرب ماءً بارداً مثلجاً فأين النار؟ قالوا: يحتمل أنه من باب إطلاق السبب وإرادة المسبب، أو باعتبار ما سيكون، كما في الآية: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} [يوسف:36] ، هو رأى أنه يعصر عنباً، ولكن سيئول إلى أن يكون خمراً، فهذا يجرجر في بطنه هذا الماء الذي سيكون ناراً، أو هو سبب لأن تجرجر النار في بطنه بعد ذلك، وعلى كلا الروايتين فإن في الحديث وعيداً شديداً لمن يشرب في آنية الذهب أو الفضة.(7/4)
حكم الإناء المطلي أو المموه بالذهب
مسألة المضبب والمطلي، تحت هذا العنوان يبحث الفقهاء -وبالأخص النووي في المجموع شرح المهذب- مسألة مهمة: إذا كان الإناء من فخار أو خشب، ولكن نرى فيه لون الذهب، فهل هذا الإناء الخشبي الذي فيه لون الذهب داخل في هذا النهي أو ليس داخلاً فيه؟ يبين النووي رحمه الله أن الأواني التي ليست ذهباً ولا فضة، ولكن فيها أثر الذهب تنقسم إلى قسمين: قسم يقال عنه: مموه.
وقسم يقال عنه: مطليٌ.
فإناء مطليٌ بذهب، وإناء مموه بذهب، ومموه: مفعل من الماء -يعني: جاء عليه ماء الذهب-، والمطلي: مثل الجدار عندما تبنيه ثم تطليه بجير أو غيره، ففرق بين المموه وبين المطلي، والفرق بينهما يظهر إذا أخذته وعرضته على النار؛ لأننا نعلم أن الذهب معدن يسيل، والنار تذيبه، وكذلك الفضة، فإذا عرضت الإناء الذي من زجاج، أو خزف (صيني) ، أو حديد، أو نحاس للنار؛ فإن أحدثت النار من هذا الذهب سائلاً، وأمكن أن تراه أو تأخذه بالعود فهذا مطليٌ؛ لأننا وجدنا جرم الذهب على جداره تذيبه النار، أو إذا أخذت سكيناً وحككت هذا الإناء، وخرج على حد السكين شيء من مادة الذهب أو الفضة فهذا مطلي، أما إذا عرضته للنار أو حككته بسكين ولم يخرج منه شيء فهذا مموه، وقال: إن المطلي بالذهب حكمه حكم إناء الذهب سواء؛ لأنك استعملت الذهب الذي طلي به هذا الإناء، أما المموه فليس فيه شيء، بل مجرد اللون.
وجاء في أخبار المسجد النبوي الشريف أن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه لما ولي الإمارة لبني أمية في المدينة؛ وجد في جدار المسجد كتابة بالذهب، وكان الخلفاء من بني أمية من ولي الخلافة يأتي بخطاب يسمى: خطاب الملك، أو العرش، أو سياسة الخليفة، فيكتبه على جدار المسجد النبوي؛ فوجد تلك الخطوط مكتوبة بالذهب، فأراد أن يمحوها فجمع العلماء فقالوا له: انظر أهو مطلي بذهبٍ أو مموه؟ إن كنت ستحصل على مقدار من الذهب من هذا الذي تمحوه فامحهُ، وإن كنت لن تحصل على شيء، ولا يوجد فيه معدن الذهب فاتركه؛ لأنك ستفسده بدون فائدة، وليس فيه معدن الذهب، فجرب فلم يجد شيئاً فتركه.
ومن هنا قالوا: كل ما كان مطلياً بذهب فحكمه حكم الذهب، وما كان مموهاًً فلا، والآن كثيراً جداً من الأواني (الصيني) والفناجين والكاسات نجد على حافة فنجان الشاي منها خطاً أصفر يقال له ماء الذهب، فما كان منه مموهاً فليس داخلاً في هذا الباب، وما كان زيادة على ذلك كأن يكون مطلياً، ويوجد جرم من الذهب فيه، فهو داخل في هذا النهي والتحريم.
وبقي عندنا مسألة المضبب، وستأتي قريباً عند حديث تضبيب قدح النبي صلى الله عليه وسلم.(7/5)
حكم استعمال الذهب في حالات الضرورة
يجوز استعمال الذهب في حالات الضرورة التي لا يجزئ فيها إلا الذهب، وقد ذكر الفقهاء أنه رخص للرجل وللمرأة من الذهب ما لا يمكن أن يستعيض عنه بغيره، وذكروا ذلك في السن، وفي أرنبة الأنف، وفي الأنملة، فهذه الأمور الثلاثة يتفق الجميع على جواز استعمال البديل من الذهب إذا لم يمكن غيره؛ لأن استعمال السن من النحاس أو من الحديد أو من غيره لا ينفع كما ينفع الذهب، فإن الذهب من طبيعته أنه لا يصدأ، ولهذا أنسب ما يكون في فم الإنسان سن الذهب، وكذلك أرنبة الأنف إذا جدعت، وقد جاء في الآثار أن رجلاً جدعت أنفه، واتخذ محلها فضة فأنتنت؛ فرخص له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الذهب، وكذلك أنملة الأصبع؛ لأنه من كمال زينة الإنسان أو من كمال الانتفاع بها، فرخص للإنسان في حالات الضرورة: السن، وأرنبة الأنف، والأنملة؛ إذا احتاج أن يركبها من الذهب.
ومن العلماء من يقول في الفضة: إنه يجوز الشيء اليسير كالأزرار في الثوب ونحوه، ويروون في ذلك أثراً وهو: (ولكن الفضة فالعبوا بها لعباً) ، ولكن هذا أثر لا يصح عند علماء الحديث، ويعارضه هذا النهي الصحيح المتفق عليه أنه نهى صلى الله عليه وآله وسلم عن آنية الذهب والفضة.
وكما قال ابن دقيق العيد: ألحقوا بالأكل والشرب بقية الاستعمالات.
أما ما يتعلق بالأواني وتضبيبها فإنه لا يوجد الآن أحد يرقع الأواني، ولا أحد يضببها، بينما كان في زمن مضى أشخاص معينون يرقعون الأواني إذا انكسرت، أو الفنجان، أو الكأس، ويعملون لها ضبة، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله عند ذكر حديث انكسار قدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم.(7/6)
شرح حديث: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر)
قال رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) أخرجه مسلم، وعند الأربعة: (أيما إهاب دبغ) ] .
انتهى المؤلف من إيراد ما يتعلق بآنية الذهب والفضة، وانتهينا من الشرح على سبيل الإجمال، وانتقل إلى أواني الجلد، وأواني الجلد المشهور أنها كانت في السابق تستعمل للماء -القربة والمزادة-، ولكن الآن أصبحت تستعمل فيما هو أعم من ذلك، وقد تختفي القربة، ولكن لا تختفي الأنواع الأخرى، فهناك من الأدوات الآن: الحقائب، وبعض الألبسة، والأحذية والكمرات وأشياء عديدة، كما يمكن أن تستعمل الجلود في الفراش والجلود على قسمين: جلود مذكاة.
وجلود ميتة.
فالجلود المذكاة طاهرة بذكاة أصلها، تدبغ وتستعمل بأية حالة من الحالات، وليس فيها بحث عند الفقهاء، وإنما البحث فيما هو ميتة، ومعنى الميتة: ما لم يذكَ كشاة تموت دون أن تذبح، أو البقرة أو الناقة أو أي حيوان، وهذا البحث يتناول جلد مأكول اللحم.
ويلحق به جلد ما لا يؤكل لحمه، وفي هذا الباب يبحث العلماء حكم استعمال جلود الميتة بعد الدبغ، وهل هو جائز أم لا؟ وهل ينفع الدبغ أم لا؟! إذاً: بصفة عامة البحث في الجلود منحصر في الميتة.
والشاة المذكاة وغيرها من الأنعام -أياً كانت- ليس في جلودها بحث؛ لأن جلدها تابع للحمها، وإن أردت أن تأكل الجلد فلك أن تأكله، وإن لم تأكله فلك أن تستعمله.
فبقيت الميتة، وما لا يؤكل لحمه، كما لو جئت إلى أسد وذبحته، وأخذت جلده ودبغته، فهل يدخل معنا أم لا؟ الذي يهمنا ابتداءً أن نُخرج جلود المذكاة -مأكولة اللحم- عن البحث، ونبقى في دائرة جلود الميتة وما يلحقها من غير مأكول اللحم، وأريد بهذا التقسيم ألَّا نتشعب في الموضوع، وقد ذكر الشارح هنا وغيره سبعة مذاهب في هذه المسألة، ولكن لا يهمنا كثرة المذاهب، إنما الذي يهمنا دلالة النصوص التي جاء بها المؤلف، وموقف الأئمة الأربعة منها، والنهاية التي نتوصل إليها.
نأخذ الحديث الأول وهو: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) أخرجه مسلم، وعند الأربعة (أيما إهاب دبغ) .
لاحظوا ترتيب المؤلف الحكيم! (إذا دبغ الإهاب) (أل) هنا للاستغراق، ولم يستثن أي نوع من الإهاب، فدل على عموم الإهاب، وكلمة: (إهاب) كما يقول علماء اللغة: تطلق على الجلد قبل دبغه، فإذا دبغ لا يقال له: إهاب.
إذاً: (إذا دبغ الإهاب) أي: الذي قبل الدبغ يسمى إهاباً، فإذا دبغ فقد طهر، إذاً: هو قبل الدبغ يكون نجساً، فالكلام -إذاً- في الميتة؛ لأن المذكاة طاهرة بجلدها ولحمها، وقد أخرجناها من قبل.
(إذا دبغ الإهاب فقد طهر) و (أل) هنا -وإن كانت للعموم والاستغراق- خاصة بالميتة بقرينة: (طَهُرَ) ؛ لأنه كان نجساً قبل أن يدبغ.
الرواية الثانية: (أيما إهاب) وهذه صيغة عموم لا تترك شيئاً، فشملت أيضاً: إهاب المذكاة، والميتة، والمأكول وغير المأكول، لكن بالقرينة إذا لم يدبغ فهو نجس.
لصيغة العموم قال الظاهرية وأبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله: أيما -بدون استثناء- إهاب كان نجساً فدبغ فإنه قد طهر، و (أيما) هنا: تشمل الشاة الميتة، والبقرة الميتة، والبعير الميت، والكلب الميت، والخنزير الميت، ولكن الإمام أبا حنيفة رحمه الله أخرج من هذا العموم الخنزير، وقال: أيما إهاب مأكول اللحم أو غير مأكول لعموم (أيما) ، ولماذا أخرج أبو حنيفة الخنزير؟! ولماذا أبو يوسف أدخله مع عموم (أيما) ؟ أبو حنيفة رحمه الله قال: هناك نص أقوى من هذا، وهو قوله: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْس} [الأنعام:145] والرجس: النجس، فيقول: إذا كان الخنزير في حياته رجساًً فكيف إذا مات، أو إذا ذبحناه وأخذنا جلده؟! وكيف الدباغ يطهر الجلد وهو في حال حياته نجس؟! والحياة سبب الطهارة كما يقول مالك: الحياة سبب الطهارة، والموت سبب النجاسة.
فـ أبو حنيفة يقول: الخنزير -وهو حيٌ على قوائمه- رجس، فكيف يقال: إن الدباغ يطهر جلده؟ جاء أبو يوسف ومن قال بالعموم فقالوا: الخنزير لا جلد له، ولكن التحقيق أنه ما من حيوان إلا وله جلد، لكن الكفار -عافانا الله وإياكم- إذا ذبحوه، أزالوا الشعر وأخذوا الجلد مع اللحم.
والكلام في الجلد، وأنتم تعرفون لحم الرأس فيه شعر، ومن الناس من ينظف الشعر، ويأكل الجلد مع الرأس، إذاً: هل للخنزير جلدٌ أم لا؟ التحقيق أن له جلداً.
إذاً: قوله في هذا النص: (أيما) ، أخذ بهذا العموم الظاهرية، ومعهم أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله، والإمام بنفسه أخرج الخنزير بنص آخر لا بهذا النص، ويقول: هذا النص يشمله، ولكن القرآن يخرجه؛ لأنه وصفه حال الحياة بأنه رجس.
قال رحمه الله: [وعن سلمة بن المحبق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (دباغ جلود الميتة طهورها) صححه ابن حبان] .
قوله: (أيما إهاب دبغ) ، وقوله: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) فيبقى الإهاب على عمومه، ويحمل ويقيد الحديث بقيد الميتة، وهذا الذي عنيناه في أول البحث، والله تعالى أعلم.(7/7)
كتاب الطهارة - باب الآنية [2]
الشريعة تدعو إلى التكافل الاجتماعي، والانتفاع بكل شيء وإن صغر في أعيننا كالانتفاع من الشاة الميتة بأخذ جلدها ودبغه، وإنما ميز هذه الأمة على سائر الأمم تمسكها بتعاليم دينها الربانية، ويقينها بأن ما شرعه الله هو خير لها، وأن ما عند غيرها هو شر لا ينبغي الإعجاب به، والحرص عليه.(8/1)
شرح حديث: (يطهرها الماء والقرض)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: قال رحمه الله تعالى: [وعن ميمونة رضي الله تعالى عنها قالت: (مر النبي صلى الله عليه وسلم بشاة يجرونها، فقال: لو أخذتم إهابها؟ فقالوا: إنها ميتة، فقال: يطهرها الماء والقرظ) أخرجه أبو داود والنسائي] .
حديث شاة ميمونة فيه مباحث متعددة: وجاءت الروايات: (أن شاة لـ ميمونة) ، (شاة لبعض زوجاته) ، (شاةً ماتت) ، (مر بشاة يجرونها) إلخ، والظاهر أنها لـ ميمونة رضي الله تعالى عنها، وفي بعض النصوص أن الشاة اسمها فلانة، وذكر لها اسماً، وهذا كان معهوداً عند أصحاب المدينة حتى اليوم، قل أن تجد بيتاً إلا وفيه غنمة أو غنمتين، وكان أهل البيوت يطلقون أسماءً على الأغنام، بحيث لو نادت صاحبة البيت الغنمة وهي في الشارع، جاءتها فحلبتها أو أطعمتها وسقتها، بل أغرب من هذا كنا نلاحظ أن المرأة في البيت تصفق، فإذا غنمتها تعرف صفقتها فتأتي إليها، وكان هذا موجوداً.
نشرح الحديث كلمة كلمة: قوله: (شاةً) الشاة: هي أنثى الضأن، من: الغنم.
(ماتت) : أي: لم تدرَك فتذكى، فهي ميتة، وهناك عموم: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة:3] ، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو رآهم يجرونها، فقال: (هلا) ، وهلا: تستعمل للحض، فتقول مثلاً: هلا فعلت كذا هلا قلت كذا وهو حض على الفعل.
(هلا أخذتم إهابها) الإهاب هو: الجلد قبل الدبغ، وهو عام في كل جلد لم يدبغ، وادعى البعض بأن كلمة (إهاب) خاصة بالجلد قبل الدبغ لمأكول اللحم، ولكن علماء اللغة يردون هذا التخصيص ويقولون: بل هو عام في كل جلد قبل أن يدبغ، فإذا دبغ لا يقال له: إهاب.
(هلا أخذتم إهابها فانتفعتم به) ، أخذ بعض العلماء -غير الأئمة الأربعة- من هذا جواز الانتفاع بجلود الميتة ولو لم تدبغ؛ لأنه قال: (فانتفعتم به) ، ولكن الرواية تؤخذ بكاملها، فكونهم أجابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم: إنها ميتة، وقولهم هذا يستدل منه أنهم رضي الله تعالى عنهم أخذوا حكم الميتة للمسك -الجلد-، والميتة تنجس بالموت، فيحرم لحمها، وإذا وقعت في الماء نجسته، فلحم الميتة نجس: مأكولة أو غير مأكولة، حتى غير المأكول لو ذكي فهو نجس، فأخذوا من الحديث نجاسة الميتة، وسحبوا الحكم على جلدها لأنه جزء منها، والرسول صلى الله عليه وسلم أقرهم على هذا الاستنتاج، وأيضاً قولهم: إنها ميتة، يدل بدلالة الالتزام بأنه نجس؛ لأن الميتة نجسة، وجلد الميتة جزء منها فهو نجس، وقد أقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل أنه أرشدهم إلى ما يطهر نجاسة الجلد، فقال: (يطهره) ولم يقل: يبيحه أو يحله، وفي بعض الروايات: (إنكم لم تأكلوا لحمها، ولم تأكلوا الجلد) ، لكن تهمنا الرواية المشهورة التي عندنا، وكونهم فهموا من الميتة نجاستها، وألحقوا الجلد بالشاة، وأقرهم صلى الله عليه وسلم على هذا الاستنتاج، وأفتاهم بمقتضى ما فهموا، وكأنهم قالوا: ما الذي يطهر هذه النجاسة؟ فقال: (يطهره الماء والقرظ) ، والماء والقرظ يحصل بهما الدباغ، ولو حصل الدباغ بغير هذين فلا مانع، وليست الطهارة في الجلد -الإهاب- مقصورة على الماء والقرظ، بل كل دباغ مطهر لقوله: (أيما إهاب دبغ) ، وقوله: (دباغ جلود الميتة طهورها) ، لكنه هنا ذكر صنفاً من أصناف المواد المستخدمة في الدباغ التي تطهر الجلد.
وقوله: (يطهره) أي: من النجاسة، (الماء والقرظ) وعلى هذا -من ناحية الفقه- أخذ بعض العلماء: أن الشاة الأصل فيها أنها مأكولة اللحم، ولما كانت ميتة، وتنجس الجلد بموتها، وجاء القرظ والماء يطهر الجلد، قالوا: صورة السبب شاة، والشاة مأكولة، فيكون طهور جلد الميتة بالدباغ لكل مأكولة اللحم كالشاة ونحوها؛ لأنها صورة السبب في مأكولة اللحم، ولذا يقول البعض: أن الدباغ يطهر جلود الميتة مأكولة اللحم فقط.
ويجاب عن هذا: بأن التخصيص بصورة السبب لا يتأتى؛ لأن العبرة -عند الأصوليين- بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، واللفظ جاء بالعموم: (أيما إهاب) ، وجاء: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) .
إذاً: وجدت صيغ العموم فشملت مأكول اللحم.(8/2)
إرشاد الأمة إلى الانتفاع باليسير والحفاظ على المال
نقف في هذا الحديث من جهتين: الجهة الأولى: توجيه عام للأمة في أصل من أصول الاقتصاد.
الجهة الثانية: توجيه خاص لمتأخري طلبة العلم في الوقت الحاضر.
أما التوجيه العام فلو سألنا الحاضرين جميعاً: لو ماتت عندك شاة؛ أتطيب نفسك أن تذهب وتسلخها لتحصل على الجلد؟ يقول لك: لا، ما لي حاجة إليها، قد ماتت وعفنت، فأنت تترفع وتتقزز نفسك أن تسلخ جلد الميتة لتنتفع به، ولسان حالك: ماذا يساوي هذا؟! وماذا أصنع به؟! ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يرشدنا إلى ضرورة الحفاظ على المال، والانتفاع بأدنى وأتفه شيء يمكن؛ لأن في ذلك حفاظاً على اقتصاد الأمة، وفيه -أيضاً- ادخار، فإذا كان يحث على الانتفاع بجلد الميتة بعد موتها، ومعالجته بالدباغ لينتفع به، فهل ترونه يتساهل في الأمور الأخرى؟! لا، ونحن نترك الشاة المريضة أو نراها قد سقطت فانكسرت، فنقول: اتركها حتى تموت، وكان ينبغي أن ندرك ذكاتها -ما لم تكن مريضة مرضاً يضر بالإنسان-، ونجد الكثير من الأمم في العصر الحاضر تتلف العديد من سلعها، وتتساهل فيما يقال له: القديم، ونجد بعض الدول الأخرى تبحث عن المستهلكات لتجدد صناعتها، وهاهو الإسلام يقول لنا: عليك ألاَّ تهمل شيئاً قط يمكن أن تنتفع به.
وقد كتب بعض الإخوان بحثاً منذ حوالى أكثر من (15) عاماً يقول فيه: إن العالم في حاجة إلى الحديد، فالإنسان يخرجه من معادنه، ويصهر التراب حتى يخرجه، ولدينا مئات الأطنان من الحديد ملقاة في الفلاة من تلك السيارات التي على جوانب الطرقات، فلو أخذت وصهرت وأعيد تصنيعها لوفرت على الدولة الشيء الكثير، فكيف نهمل الأشياء الأخرى؟! والرسول صلى الله عليه وسلم يمر على تمرة ملقاة على الأرض ويأخذها ويقول: (لولا أنني أخشى أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها) ، ولا يرضى أن يترك تمرة ساقطة على الأرض، ثم لو جئنا لبعض الأمور الأخرى نجد بعض الأشخاص لديه السيارة الفارهة، ولديه المتاع الذي صفته كذا، فإذا ما جاءت سيارات جديدة أو ما يسمى بالموديل الجديد عاف هذه السيارة وذهب واشترى سيارة جديدة، لأي شيء؟ لأن الموديل هذا جديد، وكذلك أنواع الفراش، وأنواع الأثاث فيقول: هذه صارت قديمة، ولا ينتفع بها، مع أنه يمكن إصلاحها.
وفي هذا الحديث توجيهٌ للأمة بضرورة الحفاظ على أتفه الأشياء التي يمكن الاستفادة منها، وألاَّ تترك -ضياعاً- للشيطان.
إذاً: هذه لفتة إلى الانتفاع بالقليل والكثير مما أعطانا الله سبحانه وتعالى، ولو كان جلد ميتة، ولو كانت تمرة في الأرض، فضلاً عن الأشياء العديدة ذات الأثمان الغالية والمرتفعة.(8/3)
نجاسة الدم المسفوح
الجهة الثانية: نوجه الإخوة طلبة العلم في الوقت الحاضر الذين يقولون بأن الدم المسفوح طاهر، ويقولون: لا دلالة على نجاسته، ويقال لهم: إن إجماع الأمة مدة أربعة عشر قرناً على نجاسته، فيقولون: الإجماع لا حجة فيه ولا يصح، فإذا كانوا ينكرون الإجماع، فينبغي ألا يتكلم معهم في شيء، وعندما عرضت عليهم الآية الكريمة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] ، قالوا: الدم كالميتة؛ حرم أكلها، وكذلك الدم حرم أكله، وليس بنجس العين، يقال لهم: إن دلالة الاقتران -وهي دلالة اقتران الدم بالميتة- يدل على نجاسة الدم مثل نجاسة الميتة، فإن قالوا: وأين الدليل على نجاستها؟ قيل لهم: إجماع المسلمين، وهذا الحديث بالذات؛ فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم فهموا من كون الشاة ميتة أنها نجسة، فأصبحت دلالة التزام، وهي دلالة الموت على النجاسة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إنما حرم أكلها، فالرسول صلى الله عليه وسلم أقرهم على هذا الفهم بدليل أنه أجابهم بطهارة هذا النجس، وما أجابهم بعدم الأكل، ولا أجابهم بشيء آخر، بل قال: (يطهره) .
إذاً: الميتة تنجست بموتها، ولما حرمت لنجاستها فالدم كذلك حرم لنجاسته، وذكرنا لهم صنيع البخاري ومسلم في حديث فاطمة بنت جحش -التي استحيضت- فهي: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يصيب الثوب ... ) ، فقد ذكره مسلم في باب النجاسات، وفي باب الحيض؛ ليدل على نجاسة الدم في باب النجاسات، ويدل على حكمه هناك في باب الحيض أو الاستحاضة، وكذلك البخاري وجميع أصحاب كتب السنة يذكرون حديثها في باب النجاسة للدلالة على نجاسة الدم، قالوا: هذه نجاسة لدم الحيض وهي خاصة، ولا تتعدى إلى غيره، قلنا: أخبرونا عن المستحاضة حينما قال لها صلى الله عليه وسلم: (تحيضين ستة أيام، أو سبعة أيام، ثم اغسلي عنك الدم وصلي) ، فقوله: (اغسلي عنك الدم) هل هو دم الحيض أم دم الاستحاضة؟ إن كان الغسل واقعاً على دم الحيض فهي لا زالت في حيضها، وإن كان الحيض قد انتهى، فهي تغسل دم استحاضة، ودم الاستحاضة عبارة عن عرق ينزف، وقد أمرت بغسله، فيكون نصاً في غسل الدم وإن كان غير دم الحيض.
ونأتي إلى كتاب المحلى لـ ابن حزم وهو -كما نعلم- يأخذ بالظاهر، فقد جاء بقاعدة من أعجب ما تكون! قال: إنه صلى الله عليه وسلم سئل عن دم مخصوص وهو دم الحيض، فكان الجواب بالأعم فقال: (اغسلي عنك الدم) ، فعمم في الجواب ولم يخصص كما كان السؤال مخصوصاً، فإن: (ال) هنا للجنس، فهي سألت عن نوع من أنواع الدماء، وأجابها عن عموم الدماء، فتكون جميع الدماء نجسة حتى دم السمك -وهذه مبالغة منه-، وإن كان بعض المالكية يقولون بشيء من هذا، ولكن العموم أنها سألت عن دم الحيض، وكان من الممكن أن يقول لها: اغسليه، أو: حتّيْة، فيكون الجواب بضمير يعود على المسئول عنه، ولكن -كما قال ابن حزم - ألغى السؤال في خصوص دم الحيض، وأجاب بـ (ال) التي هي للعموم، فتستغرق جميع أنواع الدم.
وأيضاً أتينا إلى المجموع لـ ابن تيمية رحمه الله، فوجدناه يذكر نجاسة الدم في سبعة مواضع من المجموع، منها عند حديث غمس الذباب، وذكر أن العلة في تحريم الميتة احتباس الدم فيها، والدم نجس، ويضر بصحة الإنسان، وذكر نجاسة الدم في سبعة مواطن من مجموع الفتاوى.
إذاً: كان الأمر على نجاسة الدم المسفوح إلى عهد ابن تيمية طيلة سبعة قرون، ومن بعده إلى اليوم، ولم يقل أحد ممن يعتد برأيه في المذاهب الأربعة من أهل الاجتهاد: إن الدم المسفوح طاهر، ونقول: إن هذا الحديث نص في الموضوع؛ لأنهم فهموا أنها ميتة، وأنها قد تنجست لذلك، وأن النجاسة قد انتقلت في جلدها، فقالوا: (إنها ميتة) أي: إلى جلدها نجس، والرسول صلى الله عليه وسلم أقر ذلك منهم، وأجابهم على مقتضى ما فهموا، وأرشدهم إلى ما يطهر هذا النجس من الماء والقرظ.(8/4)
خلاف العلماء في طهارة جلود الميتة بالدباغ
نرجع إلى موضوعنا في فقه باب الآنية، وتقدم أن أبا يوسف صاحب أبي حنيفة أخذ بالعموم، وأدخل جلد الكلب والخنزير، ووافقه الظاهري، أما، أبو حنيفة رحمه الله فأخرج من العموم جلد الخنزير، وادعى أنه ليس للخنزير جلد، والشافعي رحمه الله أخذ بالعموم وأخرج الخنزير، وقاس عليه الكلب؛ لأن الكلب عنده نجس كله، ومالك وأحمد أخذوا بعموم: (أيما إهاب) ولكن قالوا: يستعمل ظاهراً لا باطناً، وعلى هذا يكون الشافعي وأبو حنيفة وأحمد ومالك يقولون بطهارة جلود الميتة بعد دبغها على عموم: (أيما إهاب) ، ولم يستثنَ من ذلك إلا الخنزير والكلب عند الشافعي، وقال أحمد ومالك: يطهر ظاهراً لا باطناً، وعلى هذا يجوز استعماله في اليابسات دون المائعات، إلا أن المالكية يقولون: جلد الميتة يستعمل ظاهراً فقط في اليابسات فقط، ولا يستعمل في المائعات إلا في الماء؛ لأن الماء قوي يدفع النجاسة عن نفسه.
بعد هذا نرجع إلى هذه الأقوال لنرى ما هو الراجح منها؟ أما الذين أخذوا بالعموم فإن ظاهر النصوص معهم إلا ما ذكره أبو حنيفة رحمه الله من أن الآية الكريمة تنص على أن الخنزير رجس، وإذا كان نجساً في الحياة فبالموت من باب أولى، وكذلك الشافعي ألحق بالخنزير الكلب قياساً، وقد تطمئن النفس إلى الاستثناء، وقد تدعو الحاجة إلى التعميم على ما سيأتي إن شاء الله.
بقي عندنا رأي مالك والحنابلة: أنه يطهر ظاهراً لا باطناً، قالوا: الجلد إذا دبغ فالوجه الذي لامس الدباغة قد طهر بهذا الدباغ، أما مسام الجلد في الداخل فهذه لم ينفذ إليها الدباغ فلم تطهر، فيطهر ظاهراً لا باطناً، بمعنى: لو أنك افترشت جلد الميتة المدبوغ، وصليت عليه، تكون قد صليت مواجهاً للوجه الطاهر، لكن لو أنك حملته ولبسته وصليت فيه، لا تصح الصلاة؛ لأن ما داخل الجلد من المسام لم يطهر، فتكون مصلياً حاملاً لنجاسة داخل مسام هذا الجلد.
والمناقشة في ذلك بأن نقول: الإهاب يطهر ظاهراً وباطناً لما جاء في الحديث الأخير: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه توضئوا من مزادة امرأة مشركة) .
وهذا الحديث فيه تتمة البحث، والمزادة: هي القربة الكبيرة، قيل: من جلد البقر أو الإبل، بخلاف القربة فإنها من جلد الشاة أو الماعز، والقصة طويلة وفيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد من إحدى الغزوات ونفد الماء عليهم فأرسل علياً رضي الله تعالى عنه ورجلاً معه ليطلبا الماء، فمضيا من الصباح إلى قريب الزوال، فلم يجدا ماءً، فلقيتهم ظعينة راكبة بين مزادتين -امرأة على بعير لها يحمل مزادتيها- فسألاها: أين الماء؟ أي: من أين استقيت الماء؟ قالت: عهدي بالماء أمس الساعة -يعني: أمس هذا الوقت، وأنا أمشي من عنده، أي: أربعة وعشرين ساعة- فتشاورا، فقال أحدهما: ما يمكن أن نذهب هذا الوقت كله، ولكن نسوقها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما معها من الماء، فقالا لها: هلمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم! قالت: ذاك الصابئ! قيل لها: ذاك الذي تعنين، فلما حضرت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أناخوا بعيرها وأنزلوها، وطلب إناءً فأفرغ من مزادة جزءاً من الماء، ثم قال: (اشربوا وتزودوا) ، فما بقي إنسان مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا وأتى بما عنده من قرب وسقاء أو إناء وملأه، وسقوا الخيل والإبل التي معهم، وما بقي إنسان إلا توضأ، حتى أن رجلاً بعد أن صلى النبي صلى الله عليه وسلم نظر إليه، فإذا به معتزلاً القوم، فقال: (مالك لم تصلِ؟ ألست مسلماً؟ قال: بلى، يا رسول الله! ولكن أصابتني جنابة ولا ماء، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ماءً في إناء، ونادى الرجل فقال: خذ هذا فأفرغه عليك) ، وكان قد تيمم وصلى فأعطاه الماء ليغتسل، المهم أنهم أخذوا من المزادتين ما يملئ أوانيهم، ويشربوا في بطونهم ويتوضئون، ويغتسل الجنب فيهم، وتشرب دوابهم، ثم قال: (اجمعوا لها، فجمعوا لها من الطعام، ثم قال لها: انظري! لقد سقانا الله، وما نقصت مزادتاكِ شيئاً) فأركبوها على بعيرها، وحملوا لها ما جمعوا، وذهبت إلى قومها، فقالت: يا قوم! والله! لقد أتيتكم من عند رجل لئن كان ساحراً لهو أسحر عباد الله، ولئن كان نبياً لهو حق مرسلٌ من عند الله، وأخبرتهم بالخبر، وما أخذوا من الماء، وما أخبرها، ثم كان الصحابة يحفظون لها ذلك المعروف، فيغيرون على الأحياء من جوانبها ويتركون حيها التي هي منه، ثم قالت: يا قوم! والله! ما تنحى هؤلاء عنكم لقوة فيكم، ولا لضعف منهم، وإنهم يحفظون ذلك المعروف، فأسلموا تسلموا، ودعتهم إلى الإسلام فأسلموا.
والذي يهمنا هنا، أن هذا الماء الذي في المزادتين كان لامرأة مشركة، والمزادتان من أواني المشركين، وصنعوهما من دوابهم، وهم يذبحون، ولكن ذبيحة المشرك والوثني ميتة: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121] ، يذبحون باسم الصنم، أو باسم الصليب أو غير ذلك، ومع أنها ميتة شرعاً، وقد دبغت، وفيها الماء؛ استعمله صلى الله عليه وآله سلم، فيرد بذلك على من يقول: إن الدباغ يطهر الإهاب ظاهراً لا باطناً؛ ولذا المالكية رووا هذه القصة فقالوا: يمكن أن يستعمل الجلد في خصوص الماء فقط؛ لأن الماء قويٌ يدفع عن نفسه، وقيل لهم: إن قضية شاة ميمونة في تتمته: (فأخذنا مسكها -يعني الإهاب- فدبغناه، فما زلنا ننبذ فيه حتى صار شناً) ، (ننبذ فيه) أي: نطرح التمر والزبيب مع الماء حتى يستحلب ويتحلى الماء بهذه الثمار ونشربه، و (شناً) أي: قديماً، فقد تغير عن كونه مطلق ماء، وأصبح نبيذاً، فضعف عن قوة الطرد الذاتية للماء، وبهذا يتم الاستدلال على طهارة ما دبغ ظاهراً وباطناً.
بقي مسألة: هل يقال بالعموم فيشمل مأكول اللحم وغير مأكول اللحم أم لا؟ الذين قالوا: لا يشمل غير المأكول قالوا: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن مياثر النمور) ، والمياثر جمع ميثرة، وهي: شيء من اللبد من جلد النمر يجعل على السرج ويركبه الفارس، فنهى صلى الله عليه وسلم عن الركوب على جلود النمور، وهي غير مأكولة، وهي جلود مدبوغة، ونهى صلى الله عليه وسلم عن الركوب عليها، إذاً: هي لم تطهر.
وأجاب الآخرون عن ذلك وقالوا: إن النهي عن جلود النمور والمياثر ليس للنجاسة، ولكن لأن الركوب على جلود النمور من أفعال العجم، وهو يورث الكبرياء والخيلاء، فنهى صلى الله عليه وسلم عن ركوبها تجنباً لهذه الحالة، وامتناعاً من مشابهة غير المسلمين، ولو كان نجساً ما سمح باستعماله مطلقاً لا في سفر ولا في حضر.
إذاً: يترجح عندنا العموم في كل ميتة، وإذا دبغ جلدها فإنه يطهر، ويبقى عندنا: الكلب والخنزير فقط، وهما محل النزاع؛ فمن قال بالعموم -كما يقول الشوكاني - فظاهر النصوص معه، ومن استثناهما فهناك الشبهة، ومنذ عشر سنوات تقريباً جاءني بعض الإخوان الذين يستوردون الأحذية من روسيا -أو من المعسكر الروسي- وقال: إن بعض الأحذية مصنوعة من جلود الخنازير، ماذا نفعل بها؟ هل نردها؟ أو نمنع استعمالها؟ وصناعة الجلود قد توسعوا فيها، فيصنعون منها حقائب ونعالاً وأدوات أخرى، بل ملبوسات كالفرو، ولما توسعت الصناعات الجلدية فمن قال بالعموم تيسيراً على الناس فلا مانع من ذلك، ولكن من عرف بذاته أن هذا من الخنزير فتركه لكان أولى، ولكن لو استعمله غيره فلا ينبغي له الإنكار عليه، هذا ما يتعلق بهذه الجلود.
وقوله: (أيما إهاب دبغ فقد طهر) هناك تساؤل عن ماهية الدباغ، وأشرنا إلى أن الحديث يقول: يطهره الماء والقرظ) والقرظ قيل: هو ورق السدر، والبعض الآخر يقول: هو ثمرة قوية لبعض الشجر، أي: ذات حمضيات شديدة، وهذا القرظ إذا طحنته أو دققته واستكت به؛ فإنه يشد اللثة المرتخية، ويخرج الرطوبة منها، فهو علاج للثة؛ لشدته وقوته، وبعضهم يدبغ بدلاً من القرظ بقشر الرمان؛ لأن فيه قوة، وفيه مادة تشد الجلد، وتسحب منه الرطوبة، وبعضهم يدبغ: بالتراب والملح، ولكن كما يقول بعض العلماء: المسألة راجعة إلى ما يطهر الجلد، وإلى ما يدبغه ويلينه، وهذا يرجع إلى نوع الصناعة، فبعضهم يدخل الخل، وبعضهم يدخل الملح، وبعضهم يدخل الحناء،وبعضهم يكتفي بالتراب فأية مادةٍ تعارف عليها الناس، وجُرب أنها تدبغ الجلد، فإنه دباغ يطهر جلد الميتة.(8/5)
شرح حديث: (لا تأكلوا فيها إلا ألا تجدوا غيرها)
قال رحمه الله تعالى: [وعن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! إنا بأرض قوم أهل كتاب؛ أفنأكل في آنيتهم؟! قال: (لا تأكلوا فيها إلا ألا تجدوا غيرها، فاغسلوها، وكلوا فيها) متفق عليه.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه توضئوا من مزادة امرأة مشرك) متفق عليه في حديث طويل] .
ننتقل إلى حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله تعالى عنه قال: (إنا نكون بأرض قوم أهل كتاب؛ أفنأكل في آنيتهم ... ) وأهل الكتاب: يصدق على اليهود وعلى النصارى، وكان اليهود يسكنون في الجزيرة، وكذلك النصارى خاصة في الجهة الشمالية في دولة الغساسنة، ونصارى بني تغلب كانوا موجودين في تلك المناطق، فكان جوابه صلى الله عليه وسلم: (لا تأكلوا فيها إلاَّ ألا تجدوا غيرها، فارحضوها غسلاً وكلوا فيها) ، وفي بعض الروايات: (وهم يطبخون الخنزير، ويشربون الخمر) يعني: في تلك الأواني، فهل نستعير تلك الأواني ونستعملها والحال أنهم يطبخون فيها الخنزير، ويشربون فيها الخمور أم لا؟ قال: (لا، إلا ألا تجدوا غيرها، فارحضوها غسلاً) يعني: اغسلوها بقوة، ثم بعد ذلك كلوا واشربوا فيها، وأخذ العلماء من هذه الحديث عدم جواز استعمال أواني أهل الكتاب إلا بعد غسلها، ويقول البعض: إذا لم نشاهد فيها شيئاً يستوجب الغسل فنأخذها ونستعملها، فلو جاءنا إناء فيه آثار إدام أو شراب فنغسله، لكن إذا هم قد غسلوها ووضعوها وهيئوها حتى استعمالها، فطلبناها منهم ولم نجد فيها شيئاً يستوجب الغسل استعملناها، فهي في ذاتها ليست نجسة، وإنما رحضها بالغسل لما عساه أن يطرأ عليها، واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا يأكلون من طعام أهل الكتاب عند أهل الكتاب، وفي أوانيهم، ولم يسألوهم: هل غسلتموها أم لا؟ فهم قد أكلوا في أواني أهل الكتاب حينما قدموا لهم الطعام في أوانيهم فأكلوا، ولا ننسى الشاة المسمومة التي قدمتها المرأة في خيبر، وورد: (أن يهودياً دعا النبي صلى الله عليه وسلم، فقدم له إهالة سنخة فأكل منها) ، وإهالة: عصيدة خفيفة مثل الشربة، فيها سمن متغير ريحه، فأكل منها في أوانيهم.(8/6)
وجوب الحفاظ على عادات وتقاليد ولغة الأمة الإسلامية
النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن استعمال آنية أهل الكتاب في قوله: (إلا ألا تجدوا غيرها) ، يعني: عند الحاجة والضرورة فقط، وعند عدم الضرورة تترك ولو كانت طاهرة، نرجع إلى مبدأ آخر وهو: في آخر حياته صلوات الله وسلامه عليه أوصى بقوله: (أخرجوا اليهود من جزيرة العرب) ، وقال: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب) بمعنى: يجب على المسلمين أن يتميزوا، وألا يندمجوا مع أهل الكتاب؛ لأن تبادل الأواني، وتبادل الزيارات، وتقارب الجوار، والاحتكاك والاختلاط مدعاة إلى تبادل الأفكار والآراء والتقليد حتى في الأزياء والحياة، ومن هنا حرص صلى الله عليه وسلم على إبعاد المسلمين عن أهل الكتاب في التجاور والمخالطة، وفي التعاون والتبادل؛ ليبقى المسلم متميزاً بذاته ومنهجه وشعائره، وعلى هذا لا ينبغي مخالطتهم حتى بتبادل الأواني، ولذا قال: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب) ؛ فإن كل أمة خالطت أمة أخرى لابد وأن تدخل تلك الأمة بعاداتها وتقاليدها ولغاتها في الأمة الأخرى؛ فيحصل التجريح في اللغات، ويقع اللحن في اللهجات، والتقليد في العادات، ويؤخذ من هذه إلى تلك، ومن تلك إلى هذه؛ فيقع الاشتراك في المناهج في الحياة، وإذا طال الزمن بهذا الاشتراك انماعت إحدى الأمتين في الأخرى، والذي يتتبع أخبار العالم الإسلامي مع العالم الغربي منذ عهد الاستعمار وما فعله في العالم الإسلامي، فإننا نجد حينما تدخل أمة مستعمرة بقوتها، فإنها تحارب أولاً اللغة والدين والتقاليد والعادات، وأول ما تدعو إليه: انصهار الأمة المستعمَرة صاحبة البلد الأساسي في بوتقة المستعمِرة الغاصبة؛ فتصبغ عليها زيها، وتفرض عليها لغتها، وجميع أنواع حياتها، ولقد وجدنا في الآونة الأخيرة أقطاراً ودولاً لغتها الأصلية العربية، ثم إذا بها تنسلخ عنها، بل وتكتب لغتها المحلية بالحروف اللاتينية ربطاً لها بلغة الدولة المستعمرِة؛ ليلغى من أذهانهم العربية بالكلية، وإذا انسلخت الأمة المسلمة من اللغة العربية فما الذي يربطها بكتاب الله الذي قال الله فيه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف:2] ؟ ما الذي يربطها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ولقد لقينا بعض الأشخاص من رؤساء بعض البعثات في عام (84) في رحلة إلى أفريقيا، وكان يدعو إلى مؤتمر إفريقي في فرنسا لدراسة اللغة المحلية التي يتعارف عليها الاتحاد الإفريقي، وقلنا له: يا فلان! اتق الله! إنكم إن اخترتم لغة غير العربية؛ فمعنى ذلك أنكم عزلتم أنفسكم عن العالم الإسلامي.
وأقول لكم: إن اللغة العربية ليست كبقية اللغات، واللغات في أصلها ما لم يكن لها ضمان تتشعب بسبب اللهجات، وهذه اللغة الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية هي متفرعة من لغة واحدة وهي اللغة اللاتينية، فتشعبت إلى لهجات، ثم استقلت وصارت كل منها لغة مستقلة، والآن اللغة الإنجليزية في شمال بريطانيا تغاير ما في جنوبها، وكذلك اللغة الفرنسية في شمالها تغاير ما في جنوبها، واللغة العربية أوجد الله لها ضامناً من أن تتشعب مهما وجد فيها من لهجات عامة، فإنك الآن تأتي إلى الموسم في الحج فتجد البادي من الجزائر، والبادي من المغرب، والبادي من الصعيد، ونجد، وتجد البادي من أقطار العالم، وكلهم يتكلم اللغة العربية، وإذا تكلم بلهجته المحلية لا يفهم الآخر منه شيئاً؛ لأنها لهجة محلية، أما إذا قرأ الإمام في صلاته: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] فإن جميع هذه الأقطار تفهم ما يقول الإمام، لماذا؟ لأن القرآن الكريم أصبح قطب رحى اللغة العربية، تدور حوله مهما تشعبت لهجاتها، وتباعدت أقطارها؛ فإنها ترجع إلى المركز الأساسي ألا وهو: القرآن الكريم، وقلت له: أيها الأخ! مهما اخترتم من لغة محلية فإن طول الزمن سيجعلها تتشعب إلى لهجات، ويوجد في أفريقيا ما لا يقل عن مائتي لغة محلية، فستعود المسألة في حافرتها، وأين للأجيال المقبلة ما يربطهم بمعجمات اللغة وقواميسها، وموسوعات الفقه والحديث والتفسير؟ ولا تستطيعون أن تترجموا هذه الموسوعات إلى اللغة التي سوف تختارونها، وإذا تشعبت إلى لغات لن تستطيعوا متابعة الترجمة إلى كل ما يستجد من لهجة.
إذاً: عودتكم إلى اللغة العربية عودة إلى الأصل، وفيها الغناء لكم، ويقول الشافعي رحمه الله: فرض عين على كل مسلم أن يتعلم من العربية ما يتعلق بعبادته لربه.
أيها الإخوة! نحن استطردنا في هذا الموضوع؛ لأنها قضية اليوم، وهذا الحديث ليس الغرض فيه مجرد أحكام: طهارة، نجاسة، استعمال آنية كفار أو عدم استعمالها، ولكن الحديث أوسع أفقاً في الدلالة، وفيما ينتفع به المسلم، وهنا صلى الله عليه وسلم يوصي أنه لا ينبغي للمسلم أن يستعمل آنية أهل الكتاب إلا عند الحاجة، وكما أشرت ليست القضية قضية أوانٍ، إنما القضية قضية مبادئ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يريد من المسلم أن يكون متميزاً بذاته لا يندمج مع غيره فينماع وتذوب شخصيته، ويبقى هو وغيره -من غير المسلمين- سواء، وبالله التوفيق.(8/7)
شرح حديث: انكسار قدح النبي عليه الصلاة والسلام وتضبيبه
قال رحمه الله تعالى: [وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: (أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر؛ فاتخذ مكان الشَّعْبِ سلسلة من فضة) ] .
هذا الحديث تتمة لما تقدم، وله صلة بالنهي عن أواني الذهب والفضة، وله صلة أيضاً بما أشرنا إليه -أيضاً- في شاة ميمونة.
وقدح النبي صلى الله عليه وسلم كان مربعاً -يعني: لم يكن مستطيلاًً، ولكنه قصير وواسع- وكان يشرب فيه، ويقول أنس: (سقيت فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الماء والنبيذ واللبن) .
(انكسر) : ما ألقى به وجاء بغيره، مع أنه كان يستطيع -لو أراد- أن يتخذ قدحاً من زمرد، ولكن حفاظاً على ما يمكن أن يستفاد منه، جعل محل الشعب سلسلة من فضة، أي: أنه صار مضبباً، والتضبيب: أن يخرز الإناء من طرفيه، ويلمه ويملأ محل الخرم بالجبس، فيلتحم الإناء الذي كان مكسوراً، ثم يستعمل، وكانت الصحون الصينية النفيسة عندما تنكسر -وقد تنكسر إلى ثلاثة أجزاء أو أربعة- لا يلقي بها أصحابها، ولكن يؤتى بها إلى من يمارس هذه الصنعة فيخرز محل الكسر، ويجعل له ضبة، فيلمها، ويصبح الصحن -نوعاً ما- كما كان قبل ذلك.
إذاً: يجوز استعمال الفضة عند الحاجة؛ لأن غيرها لا يجزئ عنها، وإذا كانت الفضة تجزئ فلا حاجة إلى الذهب، ولكن يقول الفقهاء: عند الاستعمال لا ينبغي أن يعمد إلى موضع الفضة: ويشرب منه ملامساً له، إنما جعل التضبيب لحفظ الإناء حتى يمكن استعماله، فيشرب بعيداً عن مواطن الفضة؛ حتى لا يلامسها عند الاستعمال، وبالله تعالى التوفيق.(8/8)
كتاب الطهارة - باب إزالة النجاسة وبيانها [1]
الخمر نجسة عيناً، وتحريمها ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، وإذا عولجت صناعياً فلا تطهر، وإنما تطهر إذا تحولت تحولاً طبيعياً فصارت خلاً؛ وذلك لأن النجاسات إنما تطهر بتفسخها وتغييرها إلى مادة أخرى، كاللبن الخارج من بين الفرث والدم.(9/1)
النجاسة وأحكامها(9/2)
تصفية مياه المجاري
البحث الذي كثر السؤال عنه هو مياه المجاري إذا صفيت، وإذا عولجت، فهل تلك التصفية وتلك المعالجة ستعيدها إلى أصلها؟ لقد بحثت هيئة كبار العلماء فيما يتعلق بتصفية مياه المجاري وتخويلها إلى مياه صالحة لاستعمال.
وأقول: إن هذا البحث على ما فيه من سعة، وما فيه من فقه، وما فيه من أبحاث كان ينبغي أن يذكر الفرق بين النجاسة الطارئة على الماء، وكيفية تطهيرها، وبين النجاسة الأساسية، كيف تطهر، وكلما ورد في هذا البحث إنما هو تطهير الماء إذا تنجس، والأمثلة فيه منها: ما لو سقطت ميتة في البئر، أو وقعت الفأرة في السمن، وكلها أمثلة على ماء موجود طرأت عليه نجاسة، فكيف نطهره؟ هل بالمكاثرة، أو بالتراب، أو بإخراج الميتة من البئر؟ ولكن المبحث هنا هو في الماء النجس العين، وهو ماء المجاري، فلم يتعرضوا له بشيء، وفي نهاية البحث -جزاهم الله خيراً- قالوا: وينبغي على المسلمين أن يتجنبوا هذا الماء ما دام الماء الآخر موجوداً متوفراً.
ولكن قالوا: من عافت نفسه أن يشرب فلا يشرب، ومن لم يجد غيره وتوضأ فوضوؤه صحيح.
ولعل في هذا إشارة إلى بعض ما يتعلق بهذه المسألة، وهي تحول الماء الطاهر -لا الماء النجس العين-، وهل تحوله يعيد إليه طهوريته أم لا.
ومن أراد البحث بشكل أوسع فليرجع إلى مجلة البحوث العلمية، وهو في عدد ذي القعدة وذي الحجة لعام اثني عشر وأربعمائة وألف للهجرة، والبحث في أكثر من ثلاثين صفحة.
وأحب أن أنبه أخيراً على أن القرآن اشتمل على منهج التدرج في تحريم الخمر؛ لأنها كانت متأصلة، أو كانت مستفيضة، واستمالت نفوس الناس، فتدرج الوحي الكريم بتخفيفها شيئاً فشيئاً، حتى فطمهم عنها مرة واحدة، وبالله تعالى التوفيق.(9/3)
إراقة الخمر وإتلاف أوانيه
جاءت في هذا الباب نصوص عديدة، منها أنه لما حرمت الخمر جاء رجل كان من عادته في أوائل أمره أن يأتي بخمر يهديها للنبي صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم ما شربها أبداً، ولكن كان يسمح بها لغيره، فجاء وقد حرمت الخمر، فقال له صلى الله عليه وسلم: (أما علمت أن الله قد حرم الخمر؟ قال: ما علمت.
ثم قال: يا رسول الله! أبيعها؟ قال: إن الذي حرم شربها حرم بيعها.
قال: أهديها لليهود؟ قال: إن الذي حرم شربها حرم مهاداتها على اليهود قال: ماذا أفعل بها؟ قال: سنها -أو: شنها- في التراب، ففتح فوهي المزادتين، فسالت الخمر في الطريق) .
وبعد أن ثبت تحريم الخمر جاء أبو طلحة، وكانت عنده خمر لأيتام في أوانٍ، وكان أنس يسقي جماعة، وأنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه أم سليم، وهي زوجة أبي طلحة، ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم جاءت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! هذا أنس يخدمك.
وكان أبوه سافر إلى الحبشة وتوفي هناك.
ثم جاء أبو طلحة وخطب أم سليم -وأم سليم كانت من فضليات النساء، فقالت: يا أبا طلحة! والله مثلك لا يرد، ولكنك رجل مشرك، وأنا امرأة مسلمة.
فقال: ماذا تريدين من حمراء وصفراء -يريد الذهب والفضة-، أو بيضاء وصفراء؟ قالت: لا أريد بيضاء ولا صفراء، أريد منك أن تسلم، فقال: أفكر في أمري، ثم جاء من غده فقال: وما هي الطريق؟ قالت: تأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلن إسلامه.
ويقولون: لما قدم عليهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاكم أبو طلحة ونور الإسلام بين عينيه) فلما أسلم ورجع إليها تزوجته، وكانوا يقولون: ما وجدنا امرأة أسعد صداقاً من أم سليم، كان صداقها الإسلام، وهذه رواية في زواج أبي طلحة من أم سليم أم أنس.
والرواية الأخرى فيها أن أبا طلحة أسلم قبل ذلك، وقبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وقد حضر بيعة العقبة، ومن المؤرخين من يقول: كان نقيباً على قومه، ومنهم من يقول: كان أحد أفراد السبعين فقط.
فـ أنس ولد زوجة أبي طلحة - كان عنده جماعة يسقيهم الخمر، فسمعوا منادياً ينادي: إن الله ورسوله قد حرما الخمر، فقال أبو طلحة لـ أنس: ما هذا؟ أخرج وتبين الأمر، فرجع إليهم فقال: ينادي بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأن الله حرم الخمر، فكفوا عن الشراب حالاً، ثم ذهب أبو طلحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! عندي خمر لأيتام -وكان يجوز استعمالها، وكان يجوز الإتجار فيها- أفنتخذها خلاً؟ قال: لا) ، وكلنا يعلم حرمة مال اليتيم على الوصي عليه.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتكسير الأواني، وأمر مناديه أن ينادي بذلك في أزقة المدينة، وأخذ مدية، فما مر بزق فيه خمر إلا نشقه، حتى قال الراوي: فسالت الخمر في أزقة المدينة.
وهنا يرى العلماء عدم جواز تخليل الخمر بالصناعة، وأن نجاستها تنفذ في مسام الأواني الفخار، وقالوا: لو كانت الاستفادة ممكنة عن طريق تخليلها لسمح رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخليل خمر اليتامى، حتى لا تضيع أموالهم، ولكنه أمر بإراقتها، وزيادةً على ذلك أمر بتكسير الأواني التي كانت فيها.
فالخمر نجسة ومحرمة فأريقت، لكن لماذا كُسرت الأواني مع أن الأواني أموال ولها قيمة؟ كما أنه يمكن أن تستعمل في حفظ الزيوت، ويمكن أن تستعمل في حفظ المياه، ويمكن أن تستعمل في حفظ الدقيق، ويمكن أن تستعمل في اليابسات ونحو ذلك! قالوا: لأن الخمر تتسرب في مسام الفخار، والفخار له مسام، بدليل أنك إذا جئت بالإناء من الفخار وملأته فإنه يقطر الماء، فكانوا يستعملونه كالفلتر المرشح للماء بأخذ الماء المتقطر من جوانبه؛ لأنه يكون أقل ملاحه مما لو شرب مباشرةً، فلما كانت للفخار مسام يدخل فيها الخمر ثم يمكن أن يطهر؛ لأنها لو غسلت سوف تطهر من الخارج، والغسل لا ينفذ إلى مسامها ويستخرج منها بقايا الخمر لتطهر فأمر بتكسيرها.(9/4)
خلاف العلماء في حكم تخليل الخمر
ما سبق هو ما استدل به الجمهور على أن الخمر نجسة، وأن تحليلها أو تخللها بالصناعة لا يطهرها، وبعضهم يخالف في هذا، فمن الأحناف من يقول: إذا وضع فيها ما يسلبها العلة -وهي الإسكار والتخمير- عادت طاهرة، وجاز استعمال الخل.
ولكن أبا يوسف رحمه الله -وهو من كبار أصحاب أبي حنيفة - لا يوافق على هذا الرأي، ويقول: إن اتخاذها خلاً لا يطهرها، ولا يُجوِّز استعمالها.
والمالكية يقولون: إذا عالجها بالملح أو بالماء، أو بأي طريقة أخرى، وتغيرت طبيعتها، وانتقلت إلى الخل فإنها طاهرة.
ونحن نعلم مذهب مالك فيما يتعلق بنجاسة الماء، فلا يعتبر قلةً ولا كثرة، ولكن يعتبر الأوساط، فيقول: إذا خللت وتغيرت، أو استحالت، أو تحولت -على الأصح- ماهيتها من خمر إلى خل صارت عيناً جديدة، وصارت ماهية أخرى، فيجوز استعمالها، بينما أحمد والشافعي يقولان: لا تطهر بالتحويل.
وعلى هذا تكون النتيجة أن نهيه صلى الله عليه وسلم عن معالجة الخمر إلى خل يدل على أن المعالجة لا تطهرها، وهو قول أحمد والشافعي وأبي يوسف من أصحاب أبي حنيفة، وعند مالك وبعض الأحناف أن ذلك يطهرها.
وهذا الذي وقع فيه الخلاف يرجع إلى تحقيق المناط في قضية كيميائية، ألا وهي تغيير الماهية وتحول الخمر إلى خل، فهل هذا التغير عن طريق الصناعة يغير ماهية الخمر حقيقة فتصير خلاً حقيقة، أم أن الماهية الأساسية باقية، وإنما جاءها ما غلب عليها؟ فأجمع العلماء على أن الخمر إذا تركت وتحولت بذاتها إلى خل فقد طهرت، وصارت خلاً يجوز استعماله بلا كراهية؛ لأنها في حالة تركها للزمن أو للعوامل الجوية من هواء وشمس وغير ذلك تتحول بذاتها، قالوا: إن الله سبحانه الذي جعل فيها مادة السكر والتخمير هو الذي حولها بقدرته، وسلب عنها تلك الماهية، وخرجت عن كونها خمراً تخمر العقل وتسكره، وانتقلت إلى الخل الذي لا شائبة فيه بسكر ولا تخمير.
أما إذا جاءتها الصناعة فيقولون: إن الصناعة من حيث هي لا تحيل المادة، ولا تسلب الخاصية التي كانت فيها من قبل، وإنما تجعل فيها ما يتغلب عليها، وتبقى الخمرية والسكر كامنان فيها، ولكن عطل عملها ما حولت به، وأضيفت إليه.
وقد جاء عند ابن كثير في البداية والنهاية أنه جاء خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه من العراق إلى الشام ليساعد أبا عبيدة، ولما انتهى من فتح دمشق، قام خالد ودخل الحمام، والحمامات كانت في الحجاز قليلة، والحمام عبارة عن بيت للماء الحار، في داخله قبة يتصاعد منها بخار الماء الحار، فيمكث فيه الإنسان مدة فيدخل البخار في مسام الجسم، ويستعمل في حالات الاستشفاء، وخاصة فيما يتعلق بالأعصاب، أو بالركب، أو حالات النفاس.
فدخل من بعد طول العناء في هذه الحروب والسفر، ولما دخل الحمام اطلى بالنورة، والاطّلاء بالنورة هو عبارة عما يوجد الآن في الصيدليات مما يسمى مزيل الشعر، وهي مادة كيماوية تحرق الشعر من جذوره ويزول، فكذلك النورة فيها حرارة وفيها تلك الخاصية، فإذا ادهن بها في جلده أحرقت الشعر، وسهلت إزالته بدلاً من الموسى، ولما استعمل النورة وهي حارة جاء بالعصفر وعجنه بالخمر؛ لأن العصفر نبات بارد، ثم أتبع محل النورة بهذا المعجون ليبرد الجلد من أثر النورة المحرقة، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه، فكتب إليه: بلغني يا خالد! أنك دخلت الحمام، وأنك استعملت الخمر، وقد حرمها الله.
فكتب إليه خالد: يا أمير المؤمنين! لم نستعملها شراباً، ولكني استعملتها غسولاً، يعني: تغسل أثر النورة عن محلها، أي: استعملناها ظاهراً لا باطناً.
فكتب إليه عمر رضي الله تعالى عنه: كتبتُ إليك بكذا، ورددتَ بكذا، وقد علمتَ أن الله تعالى إذا حرم شيئاً حرمه ظاهراً وباطناً -وظاهراً: كأن تستخدم غسولاً كما فعل خالد، وباطناً: استعمالها شراباً- ولكني أراكم آل المغيرة فيكم جفوة، وأرجوا أن لا تموتوا على ذلك.
فكتب إليه خالد رضي الله تعالى عنه: قد انتهيت يا أمير المؤمنين.
والذي يهمنا في استعمال الخمر ماهيتها؛ إذ يقول خالد: لم أشربها، إنما استعملتها غسولاً، يعني: حولتها من شراب مسكر إلى غسول، فرد عليه عمر رضي الله تعالى عنه: إن الله إذا حرم شيئاً حرمه ظاهراً وباطناً، يعني: وإن كنت لم تستعملها فإن أثرها والعلة الأساسية موجودة فيها.
فحينما نأخذ الخمر ونعالجها لتصير خلاً هل تزول علة الإسكار والتخمير التي كانت فيها قبل أن نعالجها بالكلية وتتحول الماهية كما تتفسخ المادة وتتحول إلى شيء آخر، كتحول الحليب من الدم؟ فالدم يجري في الجسم، ويتحول إلى حليب فيرضعه الطفل، ويتغذى عليه الكبار كما في حليب الحيوانات، قال تعالى: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا} [النحل:66] ، فهل تحول الخمرة بالصناعة هو تحول عن ماهيتها كما يتحول الفرث والدم إلى لبن خالص سائغ للشاربين، أم أن أصل المادة وأساسها ما زال موجوداً، ولكن غلب عليه ما أضفناه إليه، وحولناها به من باب الصناعة؟! فالقضية سترجع إلى تحقيق المناط في الخمر، فيقال: هل تحولت ماهيتها، أم ما زالت باقية كامنة فيها؟ ولنضرب بعض الأمثال: إذا جئت بإناء من الماء، فسقطت فيه قطعة من العذرة، فشممت رائحتها فعفتها، فقلت لإنسان: اذهب فأرق هذا الماء، وائتني بماء نظيف ليست منه هذه الرائحة فذهب من ورائك وأتى ببعض العطور، وأتى ببعض الأشياء التي تغطي تلك الرائحة، حتى إنك لو أخذتها وشممتها، أو تذوقتها، أو نظرت إليها، لا تجد لوناً، ولا رائحة، ولا طعماً لما شاهدته بعينك من قبل، فهل تحولت المادة التي نجست الماء وتقذر بسببها كتحولها تحت الشجرة إلى غذاءٍ وثمرة، أم أنها باقية في الماء وجاءها ما غطى على أوصافها؟ فإن قلت: تحولت فقد طهرت، وإن قلت: إنها باقية موجودة، ولكن الذي أضيف إلى الماء غطى عليها، فالنجس لا زال موجوداً.(9/5)
نجاسة الخمر
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر تتخذ خلاً؟ قال: لا) أخرجه مسلم والترمذي وقال: حسن صحيح] .
في هذا الباب بيان الأعيان النجسة، وبيان تطهيرها.
وهذا الترتيب من حيث هو -في باب الفقه- ترتيب طبيعي، وهو موافق للترتيب العملي، فبدأ بكتاب الطهارة، ثم ذكر باب المياه، ثم بعد المياه الأواني التي نحفظ فيها الماء، وبيان ما يجوز استعماله وما لا يجوز، ثم هاهو يأتي بباب النجاسة؛ لأن النجاسة تحتاج إلى تطهير، ويجب اجتنابها، فهي من لوازم كتاب الطهارة، وإنما تكون الطهارة من النجاسة، أو كما قيل: من النجس أو الحدث.
والحدث أمر معنوي، والنجاسة أمر حسي.
والنجس منه ما هو نجس العين، ومنه ما هو نجس نجاسة طارئة عليه، أي: متنجس.
فنجس العين لا يطهر إلا بإزالة العين، كالعذرة والدم وما أشبه ذلك، فلا تَطْهُر إلا بإزالة عينها نهائياً، فإذا خالط الثوب شيء من تلك الأنجاس العينية فلا بد من إزالة عينها وجرمها قدر الاستطاعة، وسيأتي في دم الحيض: (ولا يضركِ أثره) .
أما التنجس فهو الشيء الطارئ الذي يطرأ على العين فينجسها، كالماء الطهور إذا وقعت فيه نجاسة، مع أنه كان في الأصل طاهراً، ولكنه تنجس بهذه النجاسة.
فبدأ المؤلف رحمه الله تعالى ببيان نجاسة الخمر، وعلمنا نجاسة الخمر من خلال السياق؛ فإنه صلى الله عليه وسلم سُئل عن الخمر تتخذ خلاً فقال: لا.
وطريقة الاستدلال على نجاستها أنها لو لم تكن نجسة لسمح صلى الله عليه وسلم بمعالجتها حتى تصير خلاً فتطهر بذلك، ولكنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا) ، أي: إن معالجتها وتحويلها إلى الخل لا يطهرها.
ونجاسة الخمر متفق عليها عند الأئمة الأربعة، فهي نجسة العين، أما إذا تخللت بذاتها، وتحولت العين من عين خمرية إلى عين الخل فتطهر، وكما يقولون: تغيرت الماهية فتغير الحكم؛ لأن نجاستها كانت معلولة بالتخمير، فما دامت مخمرة مسكرة فهي نجسة، فإذا ذهبت عنها صفة الخمرية والإسكار رجعت إلى الأصل، فصارت طاهرة.
والبحث هنا في هذا السؤال، وهذا الجواب، فسُئل صلى الله عليه وسلم: (عن الخمر تتخذ خلاً، -وتتخذ معناها: تعالج-؟ قال: لا) .(9/6)
كتاب الطهارة - باب إزالة النجاسة وبيانها [2]
الحمر الأهلية من الحيوانات المعروفة، وقد كان المسلمون يأكلونها في أول الإسلام، ثم حرمت يوم خيبر، وهي مع حرمة أكلها طاهرة أثناء حياتها، فلعابها وعرقها طاهران، وأيضاً جلدها بعد موتها إذا دبغ، أما الحمر الوحشية فهي حلال، وقد اختلف العلماء في سبب التفريق بين الحمر الأهلية والوحشية، ومن أبرز ما قيل في ذلك أن الحمر الأهلية ذات طباع سيئة، فهي مثلٌ للغباوة والمذلة، فإذا أكثر الإنسان من أكلها اتصف بطباعها، ولو صح هذا التعليل فإن الأصل هو التسليم للحكم الشرعي.(10/1)
أحكام الحمر
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنه قال: لما كان يوم خيبر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا طلحة فنادى: (إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية، فإنها رجس) ، متفق عليه] .
انتقل المؤلف رحمه الله تعالى إلى بيان نجاسة بعض الحيوانات -أي: لحومها- وتحريم أكلها.
والتوقيت بذكر يوم خيبر يدل على أن ما قبله كان مغايراً لما بعده، وأن هذا الحكم الطارئ الجديد يبدأ العمل به من تاريخ يوم خيبر، ويوم خيبر كان في السنة السابعة من الهجرة، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر أبا طلحة أن ينادي في الناس بتحريم لحوم الحمر الأهلية.
وقد يتساءل إنسان: لماذا خص أبا طلحة، مع أن القاعدة في التبليغ عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون المبلغ من ذويه ومن أهله؟ كما جاء في قصة سورة براءة، فعندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر سنة تسع يحج بالناس -ولم يحج صلى الله عليه وسلم لعوارض كانت موجودة-، فنزلت سورة براءة، فبعث علياً رضي الله تعالى عنه ليقرأ سورة براءة على المشركين، ويعلن انقطاع المعاهدات بين المسلمين والمشركين، وأرسله على ناقته القصوى، فقالوا: لا يبلغ عن الرسول إلا واحد من ذويه.
وهنا في عام خيبر يبلغ أو يكلف النبي صلى الله عليه وسلم أبا طلحة، مع وجود علي، ومع وجود من هو أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي طلحة، كـ أبي بكر، وعمر، وعثمان.
والجواب أنا إذا نظرنا في ترجمة أبي طلحة نجد منه ما يرشحه لهذا العمل، وهذا يعطينا أنه ينبغي أن نقدم الأشخاص ذوي الاختصاص فيما يختصون فيه، فقد كان أبو طلحة جهوري الصوت، حيث جاء في ترجمته: صوت أبي طلحة في الجيش كفئة، وقيل: صوت أبي طلحة في الجيش كألف رجل، فكان صوته جهورياً وقوياً، وكذلك كان العباس رضي الله تعالى عنه، فقد كان العباس إذا كان بالمدينة، وله غلمان في الغابة، وبينه وبينهم مسافة بعيدة يصعد على جبل وينادي غلمانه فيسمعونه ويجيبونه.
فهناك أشخاص أوتوا بعض الخصائص في القوة سواءٌ البدنية أم الفكرية.
فنادى في الناس: (إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية) ، وكانوا قد ذبحوا منها في ذلك اليوم، ولحومها في القدر على النار، فلما نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفأوا القدور مباشرة، وامتنعوا عن الأكل منها.(10/2)
طهارة الحمار
وبقيت مسألة في الحمر الأهلية، وهي: هل الحمار الأهلي -في حال حياته- نجس أم طاهر؟ والجواب أنه طاهر؛ لأنه مستأهل، وطواف علينا ومخالط لنا، ونستعمله، وأقوى ما استدل به من قال بطهارته في الحياة أنه قال: نحن نركب الحمير، وكان للرسول صلى الله عليه وسلم حمار يسمى عفيراً، وكان يرسله إذا أراد بعض الأشخاص، فيذهب ويطرق الباب برأسه ثم يعود، أو يقول للرجل: اركبه وتوجه يدلك على الطريق.
وأرشد الحيوانات كلها بالطريق الحمار؛ فإنه يعرف الطريق أكثر من الإنسان، فلو مشيت به في طريق ثم أردت أن تعود فإنك لو رجعت وحدك يمكن أن تنسى الطريق، لكن لو ركبته يدلك، فلذا يقولون: أذكى الحيوانات في معرفة الطرق الحمر.
والناس يركبون الحمر، ومعروف أن الحمار يعرق، والعرق ينضح من داخل جسمه، خاصة في المناطق الحارة مثل الحجاز والمدينة، ولما كان أهلياً ويستعمل ويركبونه، ولم ينههم عنه صلى الله عليه وسلم عرفنا أنه طاهر، وعرقه إذا خالط الثياب لا ينجسها، بل إذا ركبه الإنسان وخالط جسمه وهو رطب أو مبلل فإنه لا يتنجس.
فعرق الحمار ولعابه طاهران، وهذا بإجماع المسلمين، ولكن الذي حرم لحمه.
وإذا مات الحمار فإنه إذا دبغ جلده طَهُرَ.(10/3)
تأثير الغذاء في طبع الإنسان وخلقه
إذا نظرنا إلى وجود الخصال في الحيوان وجدناها تؤثر على الإنسان إذا أكثر من أكل لحمها، ووجدنا للعلماء كلاماً كثيراً في ذلك، ومنهم أبو حيان رحمه الله، حيث ذكر الحكمة في تحريم لحم الخنزير، فقال: إن من طبيعة هذا الحيوان افتقاد الغيرة، فالذكر لا يغار على أنثاه، فمن أكثر من أكل لحمه أثر لحمه على غريزة الغيرة عنده، فتضعف حتى يصبح لا غيرة له على نسائه، فالمصيبة جاءته من لحم الخنزير.
فإذا كان الأمر كذلك كان تحريم أكل لحوم الحمر الأهلية لما كمن فيها من تلك الصفات الرذيلة التي لا يرضاها الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يرضاها أحد من الناس لنفسه.
ويناسب هنا ذكر الكلام على قضية الوضوء من لحم الإبل، وعدم الوضوء من لحم الغنم؛ لأن الطريق واحد، فقد سُئل صلى الله عليه وسلم: (أأتوضأُ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت.
قال: أأتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم) ، وأكل من الشاة في خيبر، ثم جيء له ببقيتها فأكل ولم يتوضأ.
من هنا قالوا: ما الفرق بين لحم الغنم، ولحم الإبل حتى يؤمر بالوضوء من هذا دون ذاك، والكل لحم؟ نجد في كتب الفقه أن بعض الفقهاء يقول: إن علة ذلك هي حرارة لحم الإبل.
ونجد آخرين يردون ذلك ويقولون: لحم الغزال أشد حرارة، ولم يؤمر بالوضوء منه، ولحم الحمام في الطيور أشد حرارة من الاثنين، ولم يؤمر بالوضوء منه، ولكن لو ذهبنا إلى أبعد من هذا لوجدنا الفرق في عموم النصوص، أي: النصوص التي لها صلة بالإبل، كما فعل علي رضي الله تعالى عنه في استنباط أقل مدة الحمل من عموم آيتين مختلفتين، الأولى قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15] ، والثانية قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة:233] ، والحولان أربعة وعشرون شهراً، فاستنبط علي من مجموع الآيتين أن أقل مدة الحمل ستة أشهر.
فإذا جئنا من خارج موضوع الوضوء، وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن الصلاة في معاطن الإبل، فقال: (صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في معاطن الإبل) ، مع أن هذه مرابض، وهذه معاطن، وهذه فيها أبوال وروث، وتلك فيها أبوال ورجيع، فما الفرق بينهما؟! والفرق قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تصلوا في معاطن الإبل؛ فإن الإبل معها شيطان) قالوا: شيطانها أنها إذا جاءت ووجدت نائماً، أو مصلياً، أو جالساً في مكانها طردته وآذته؛ لأن معها شيطاناً، أما الغنم فمعها السكينة، فإذا جاءت ووجدت مصلياً، أو نائماً أو آكلاً في مكانها فإنها لا تؤذيه، ولا تنفره، وربما قعدت ونامت بجانبه.
وفي الحديث الآخر: (مع أهل الإبل الكبر والخيلاء، ومع أهل الغنم السكينة والوداعة) ، فمن أين جاء الكبر لأهل الإبل؟ يجيء من جهة أنه يرى نفسه يرعى قطيعاً من الإبل، وقد قال الله تعالى عنها: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية:17] ، فهو خلق عجيب، وصاحب الإبل يأخذ في يده عصا صغيرة، أو يناديها بالصفير فتجيء وتجتمع حواليه، أما الغنم فإنها معها الهدوء والسكينة، ولهذا ما من نبي إلا وقد رعى الغنم -وليس الإبل-؛ لأنها تكسبه الهدوء والسكينة والرفق، إذ لا يمكن أن يتجبّر على شاة صغيرة، أما الجمل فإنه إذا هاج إن لم تتجبر عليه قضى عليك.
وننتقل إلى جانب آخر فنجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً غضبان قد انتفخت أوداجه واحمرت عيناه، فقال: (إني لأعلم كلمات لو قالها لذهب عنه ذلك) ، وبين أصل الغضب بقوله: (الغضب من الشيطان، والشيطان من النار، فأطفئوه بالماء) .
فإذا جمعنا كل هذه الأطراف وحدنا أن الغضب من الشيطان، والشيطان من النار، والإبل معها شيطان، أو خلقت من شيطان، فهي شياطين، فإذا ما أكل الإنسان منها أفاضت عليه من آثر الشيطان، وهو الغضب، فحينما يأكل من لحم الإبل يأتيه من حركة ذاك الشيطان الغضبية ولو شيء قليل، فتؤثر على نفسيته، فحالاً نبادرها بالوضوء بالماء لنطفئ أثر ذلك.
فبالتلمس وجدنا فرقاً بين ما ظنوه متماثلاً، وأن لحم الإبل يختلف عن لحم الغنم، فيما يتعلق بالوضوء، وموطن الإبل تختلف عن موطن الغنم فيما يتعلق بالصلاة، وإلا فإن الكل طاهر عند من يقول بذلك.
وهنا الحمر الأهلية طبيعتها الذلة واللؤم والخسة، فلا يستبعد أن من أكثر من أكل لحمها تنتقل إليه غريزتها، ويتصف بشيء من تلك الصفات، وهذه ليست من صفات المؤمن.
وهذا الذي قدمناه ليس من موضوعنا ولكن رداً على هؤلاء الذين يقيسون التشريع الإسلامي بالمعقولات غير السليمة، ويدّعون أن الشريعة تتناقض؛ لأنها تفرق بين متماثلين، والتفريق بين متماثلين مناقض للعقل السليم.
فالحمار الأهلي ليس متساوياً مع الحمار الوحشي، والفرق بينهما موجود، ومن هنا كان النهي عن أكل الحمر الأهلية مع بقاء حلية الحمر الوحشية، والله تعالى أعلم.(10/4)
توجيه كلام ابن عباس ومناقشته
بقي هنا إشكال، فقد جاء عن ابن عباس أنه كان يرى أن النهي عن لحوم الحمر الأهلية، للكراهة، وليس للتحريم، ولما سُئل: قال: لا أدري أنهى عنها؛ لأنها ظهر الناس، أو لأنها من جوال القرية! فقوله: (لا أدري) لا يجوز أن نجعله حجة نرد بها حديثاً صحيحاً صريحاً.
ثم إن كلام ابن عباس في علة التحريم، فهو يقول: لا أدري لماذا نهى عنها، هل إبقاءً على الظهر -أي أنهم لو أكثروا ذبح الحمر فعلى أي شيء سيحملون متاعهم حتى يعودوا إلى المدينة، أو أنها من جوال القرية، وجوال القرية هي التي تخرج في الطرقات وتلتقط كل ما واجهها، حتى العذرة، فإذا كانت حيواناً مأكول اللحم -واتصف بأنه من الجلالة- منع أكله حتى يحبس، ويطعم طعاماً طاهراً ثلاثة أيام على الأقل، سواءٌ أكان ذلك من الدجاج الدواجن، أم كان من غيرها، وأكثر ما يكون هذا داء في البقر.
ويجاب عن هذا بأن جوال القرية هي الحمر المسيبة، أما هذه -أي: التي نزل فيها التحريم- فهي مع أناسٍ غزاة لا يتركونها في الخلاء، بل هي مستعملة عندهم ينتقلون عليها، ويحملون متاعهم عليها.
أما قوله: (إبقاءً على الظهر) فإنه رخص لهم أن يأكلوا من لحوم الخيل، فإذا كانت القضية قضية ظهر فالخيل أولى أن يُبقى عليها؛ لأنها أجلَّ في هذا الباب، وأنفع من الحمر في الظهر للغزاة يقاتلون عليها، ويحملون عليها أكثر مما يحملون على الحمر، وهي أصبر على السفر من غيرها.
ومن هنا قالوا: إن رأي ابن عباس مبني على اجتهاد شخصي خالف فيه غيره من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وهذا إن صح.
والآخرون يقولون: الحديث مرفوض من أوله.(10/5)
حكمة التفريق بين لحوم الحمر الأهلية والوحشية حلاً وحرمة
بقي عندنا تحريم لحوم الحمر الأهلية مع بقاء حلية قسيمها، وهي الحمر الوحشية، فإن كان التحريم للجنس فالجنس في البر حلال، فما هي العلة في تحريم الحمر الأهلية مع إباحة الحمر الوحشية؟ إننا لو فتشنا من قريب فلن نجد شيئاً، والعلة هنا مستنبطة وليست منصوصة، ولكن قبل البحث عن علة التشريع يجب علينا نحن المسلمين إذا سمعنا عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً التصديق والعمل امتثالاً لأمر الله، وطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى حكيم عليم لا يشرع إلا لحكمة، ثم إن مقتضى قول المسلم: (لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم) يلزمه إلزاماً أن يقبل ما جاء عن الله، فلا يعبد إلا الله، بدلالة (لا إله إلا الله) ؛ لأنه إذا عبد غير الله نقض قوله: (لا إله إلا الله) ، وكذلك إذا لم يقبل تعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو رفض شيئاً منها يكون نقض قوله: (محمد رسول الله) صلى الله عليه وسلم.
وكنا نبسط المسألة ونقول: دلالة الالتزام في هاتين الشهادتين مثالها كما يوجد عند الناس الآن في السلك الدبلوماسي، حينما تقوم دولة، وتبرم معاهدة، أو صداقة، مع دولة أخرى تعترف بها، ثم تبعث إحدى الدولتين، سفيراً لها عند الدولة الأخرى، وهذا السفير يقدم أوراق اعتماده، ويعلن عنه سفيراً، في موكب رسمي، أو بمراسيم رسمية، فكل ما جاء به هذا السفير من دولته، إنما هو باسم من يمثلهم، وقبول ما جاء به مرتبط ببقاء الرابطة السياسية.
فإذا ما رفضت تلك الدولة بعض تعاليمه، أو بعض طلباته، يكون ذلك إساءة في العلاقات الدبلوماسية، وقد يؤدي إلى انقطاعها، فكذلك المسلم فإنه أعلن أنه لا يتأله إلا لله، فلا يعبد إلا الله، ومعنى أنه لا يعبد إلا الله: أنه يأخذ كل ما جاءه عن الله، ولن يأتيه مباشرة، وإنما يأتيه عن طريق رسوله صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم قد قدم أوراق اعتماده وهي تلك المعجزات، وخوارق العادات، وهذه المعجزة الكبرى، التي تساير الأيام، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ألا وهي كتاب الله تعالى.
وهذا لأننا إذا تطلعنا إلى حكمة التشريع فإن وجدناها وأصبناها فبها ونعمت، كما قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114] ، وقال تعالى لإبراهيم: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] ، وإذا لم نجدها فعلى المبدأ، وهو التسليم والامتثال والتصديق، فنعمل ولو لم تظهر لنا العلة.
وبعض الناس قد يعيب على من يحاول أن يتتبع حكمة التشريع، ويقول: ليس لكم دخل في هذا، فإذا أمر الله فعلى الرأس والعين.
ونقول: نعم، ولكن بعض الناس يتخذ خفاء العلة في التشريع طريقاً لتشكيك العوام، على ما سيأتينا -إن شاء الله- في أمر بول الصبي، فإنه في الشريعة يرش من بول الغلام، ويغسل من بول الجارية، فالوا: فرقت الشريعة بين متماثلين، وهذا تناقض! وكذلك كون المسلم يتوضأ من لحوم الإبل، ولا يتوضأ من لحوم الغنم، فإن هذا لحم وهذا لحم، فقالوا: هذا تفريق بين متماثلين.
فحينما تظهر الحكمة، ويبين الفقهاء الفرق بين هذين الذين يظهران متماثلين، وأنهما على خلاف ذلك، وأن هناك مغايرة تستوجب المغايرة في الحكم، حينئذٍ تسد الباب على أولئك الذين يعمدون إلى التشكيك في التشريع من باب التفريق بين المتماثلين.
وفي مسألتنا هذه عندنا حمار وحمار، وهذا أهلي وذاك وحشي، وهذا حرام وذاك حلال، فقالوا: هذا تفريق بين متماثلين من جنس واحد، فلماذا؟! وأقول: إذا جئنا إلى كتب الفقه قد لا نجد تصريحاً بذكر علة التفريق بين الطرفين، ولكن إذا رجعنا إلى بقية العلوم سنجد فرقاً، وقد كان يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: العلم يخدم بعضه بعضاً، أو كان يقول: العلوم أقران، أي: يقترن بعضها ببعض، يعني: هذا العلم يبين هذا العلم، وهذا العلم يستمد من ذاك العلم.
وقد أشار علماء التغذية وعلماء الوراثة إلى وجود فرق بين الحمر الأهلية والحمر الوحشية.
وجاء في القرآن الكريم ما يشير إلى بعض صفات الحمر الأهلية، عن طريق ضرب المثل لمن يحمل علماً ولا ينتفع به قال تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:5] أي: لا يستفيد منها شيئاً.
وكما قيل: كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول أي أنها لا تستفيد منه.
ولكن الفرق بين الطرفين في هذا الجنس بالذات هو ما غلب على طبيعة الحمار الأهلي -بسبب تأهيله مع الناس- من غباوة وبلادة ولؤم وذلة، كما قيل: ولا يقيم على ذل يراد به الأذلان عير الحي والوتد فالعير يصبر على الذل، والوتد يثبت حتى تكسر رأسه وهو صابر، وقالوا: فيه غريزة اللؤم، والمزارعون يعرفون هذا، فالحمار إذا أتاه صبي صغير (استعصى) عليه، وإذا رأى كبيراً عرف الجد، فهذا لؤم.
أما المذلة فلأنه نشأ مكفي المئونة، فلا يعمل على تحصيل قوته، فهو عالة على غيره، بخلاف الحمار الوحشي، فهو مكلف بأن يحمي نفسه أولاً من الوحوش الكاسرة، ومكلف بأن يسعى لتحصيل قوته، ولا ينتظر أن يأتيه غيره بقوته، فانتفت عنه صفات الذلة والمهانة واللؤم، الموجودة في الحمار الأهلي.
ويذكر علماء الحيوان أن أنثى حمار الوحش حينما تلد ولدها -ويسمى (التولب) - تعض ساق رجله اليمنى الأمامية لتكسرها، ويبقى في كنّه إلى أن يجبر العظم في رجله، فيكون قد نمى وكبر، وتفعل هذا حماية له من الوحوش، قالوا: تكسير رجله ليبقى في كنّه ولا يخرج؛ لأنه كسير، فإذا ما برأ الكسر واستطاع الجري، يكون قد شب وكبر، فلو خرج وداهمه وحش يستطيع أن يفر منه، وهذه تربية عجيبة.(10/6)
أقسام الحمر
الحمر: جمع حمار، وتنقسم إلى قسمين: قسم ورد في هذا الحديث بأنه الحمر الأهلية، أي: متأهلة مع الناس، ومفهوم ذلك أن هناك قسماً آخر ليس متأهلاً، بل وحشي، ولذا يقال: الحمار الوحشي، والحمار الأهلي.(10/7)
تحريم لحوم الحمر الأهلية ليس منسوخاً
قوله: (فإنها رجس) ، أي: لحومها بالنسبة إلى أكلها بعد الذبح، وبقي الكلام عن تحريمها بعد الذبح، وعن طهارتها وهي حية، فإنها أهلية تخالط الناس في حياتهم، باستعمالهم إياها.
أما كونها حرم أكلها فالجمهور على ذلك، وقلل بعض العلماء: لقد نُسخ هذا التحريم مع أن التقييد بالتاريخ يدل على أنه لا نصوص قبلها تحرم أكل الحمر الأهلية، فهل جاءت نصوص بعد ذلك؟ والجواب أنهم ذكروا أن رجلاً جاء في عام شدة، وقال: (يا رسول الله! أخذتنا شدة، وليس عندي ما أطعم أهلي إلا سمين حمر، فقال: أطعم أهلك من سمين حمرك -أو من سمان حمرك-) ، قالوا: في هذا ترخيص لإطعام الرجل أهله من سمان حمره، ولكن الجمهور قالوا: هذا الحديث لا يثبت سنده لو لم يعارض بغيره، فكيف إذا عارضه ما هو أقوى منه من المتفق عليه، والناسخ يجب أن يكون من حيث السند في قوة المنسوخ، فقالوا: لا تصح دعوى النسخ.(10/8)
طهارة لعاب الحيوان والخلاف فيه
قال المصنف رحمه الله: [وعن عمر بن خارجة رضي الله عنه قال: (خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم بمنى، وهو على راحلته، ولعابها يسيل على كتفي) ، أخرجه أحمد والترمذي وصححه] .
انتقل المؤلف إلى موضوع آخر، وهو: لعاب ما يؤكل لحمه، خطب النبي صلى الله عليه وسلم بمنى، ولعاب راحلته يسيل على كتفه.
ففي هذا الحديث: أن لعاب راحلة النبي صلى الله عليه وسلم كان يسيل على كتف الذي كان يمسك بزمامها، فالرجل كان يمسك زمام الراحلة والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب الناس عليها، فهل يخفى على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لعاب راحلته يسقط على كتف من يمسك زمامها، أم أنه رآه: وأطلع عليه؟ الغالب أنه رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الموقف يقتضي أنه رآه ولم ينهه عنه، ولم يأمره بغسله، فهذه سنة تقريرة، فلعاب الحيوان مأكول اللحم طاهر، بل وغيره كذلك.
فقد ورد في باب المياه حديث: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء) ، وورد فيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم مر ببعض الحياض بين مكة والمدينة، فلما ورد حوضاً قال عمر: يا صاحب الحوض! أخبرنا: هل ترد السباع ماءك؟ فبادره النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (لا تخبرنا يا صاحب الحوض؛ إنا نرد على السباع، وترد السباع علينا، فلها ما أخذت في بطونها شراباً، ولنا ما أبقت شراباً وطهوراً) ، فسؤر جميع الحيوانات طاهر، ما عدا الكلب، ونحن نستثني الكلب لما تقدم، وهل هو لنجاسته، أو هو لما فيه من داء الكلب؟ فيه تفصيل تقدم.
أما بقية الحيوانات كالهرة فإن أبا قتادة قرَّب إليها الإناء، فكانت زوجة ولده تتعجب، فقال: يا ابنة أخي: أتعجبين؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم) .(10/9)
كتاب الطهارة - باب إزالة النجاسة وبيانها [3]
المني سائل معروف، وهو مما تعم به البلوى فيصيب الثياب، وجمهور العلماء على أن المني طاهر وإن أصاب الثياب فهو كالنخامة إذا أصابت الثوب، فإنها لا تنجسه ولكنها تزال؛ لأن بقاءها على الثوب يُعد قذراً، وكذلك المني، وطريقة إزالة المني تكون بالفرك إذا كان يابساً، وبالغسل إذا كان رطباً، وله أحكام غير ذلك ينبغي على المكلف معرفتها ومراعاتها.(11/1)
حديث: (كان صلى الله عليه وسلم يغسل المني ... )
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل المني، ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر الغسل) ، متفق عليه.
ولـ مسلم: (لقد كنت أفركه من ثوب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فركاً فيصلي فيه) ، وفي لفظ له: لقد كنت أحكه يابساً بظفري من ثوبه] .
ذكر المصنف رحمه الله من ما يتعلق بالمني، وقد جاءت في المني عدة أحاديث، منها: حديث عائشة رضي الله عنها الذي ذكره المصنف: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل المني، ثم يخرج للصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر الغسل) ، فهذا النص الأول فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغسل المني، والغسل يكون للطهارة، ويكون للقذارة، فهل كان المني نجساً فغسله، أو كان مستقذراً في الثوب فغسله؟ وفي الموطأ أن عمر رضي الله تعالى عنه في عام المجاعة -في أواخرها- صلى بالناس الصبح ثم خرج إلى بستانه جهة الغابة في الجرف، وبعد طلوع الشمس وجد المني في ثوبه، فقال: ما أُراني إلا صليت بالناس جنباً -فاحتلم ولم يدر-، وقال: لما أصبنا الودك، لانت العروق، وجرى المني، وهذا معروف، فقد يحتلم الإنسان، ولا يرى شيئاً في منامه، ولا يعلم بالاحتلام إلا إذا وجد المني في الثوب، فيفيض الماء، دون شعور الإنسان، أي: أن الشعور الداخلي عمل عمله، وهو لا يدري، فغسل ثوبه وأعاد صلاته.
وهنا يأتي الخلاف في غسل المني، فقوم قالوا: غسل المني لنجاسته؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل المني من ثوبه، ومالك يروي أن عمر غسل ثوبه من المني، فالمني نجس، وهذا قول مالك وأبي حنيفة رحمهما الله، وقالوا: إنه فضلات تخرج من الجسم، كبقية الفضلات الخارجة من غير الفم والأنف؛ لأن الفضلات الخارجة من الفم والأنف ليست بنجسة، والفضلات التي تخرج من القبل والدبر كلها نجسة، وهذا تابع لها، هكذا قالوا.
لكن إذا جئنا إلى النصوص الأخرى مثل حديث عائشة الذي تفرد به مسلم: (لقد كنت أفركه من ثوب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فركاً فيصلي فيه) .
قوله: ولـ مسلم أي: في رواية مسلم، عن عائشة، وفيها: أنها كانت تفرك المني من الثوب فركاً، ثم يصلي فيه، فهل -يا ترى- الفرك يطهر الثوب من النجاسة؟ فلو كانت في الثوب عذرة، أو دم، فهل الفرك يطهره؟! لا.
إذاً: جاء المصنف رحمه الله بهذا الحديث -حديث الفرك- ليبين أن الغسل لم يكن عن نجاسة، وإنما كان للنظافة، إذ أن بقاء المني في الثوب مستقذر، وإنما كان يفرك من الثوب؛ حتى تضيع بعض معالمه، وهذا بخلاف النجاسة، وسيأتينا في باب الحيض لما سئل صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يصيب الثوب؟ قال: (حتيه، واقرصيه بالماء، ثم انضحيه، ثم لا يضركِ أثره) ، اغسلي، وانضحي، وحتي، وإذا لم يذهب الأثر؟! قال: لا يضركِ بعد هذا؛ لأنكِ بذلتِ الجهد.
إذاً: الفرك يقف في جانب من جانبي الغسل، فمثلاً إذا وقعت ملوخية على الثياب، فهل تتركها أم تغسلها؟! تغسلها، وهل هي نجسة؟ لا.
لأنك تأكلها، ولكنها مستقذرة إذا وقعت في الثوب.
إذاً: تغسيل الثياب -الوارد في المني- يحتمل أن يكون للنجاسة، ويحتمل أن يكون للنظافة، فلما جاء المؤلف بحديث الفرك عرفنا أن الغسل للنظافة لا للنجاسة.
وفي لفظ له: (لقد كنت أحكه له يابساً بظفري من ثوبه) .
لقد كنت أحكه يابساً بظفري؛ لأن الظفر أشد حدادة، فإن فركته لا يذهب، ولكن إذا حكيته بالظفر شيئاً فشيئاً فإنه يذهب كله.
وجاء في بعض الروايات: إذا كان يابساً حككته بظفري، وإذا لم يكن يابساً أماطه بعود الإذخر، إذاً: لا يتعين غسله بالماء سواء كان رطباً أو يابساً، ومجموع تلك الصور: أن المني تارة يغسل، إن كان رطباً، وتارة يحك، إن كان يابساً، وهذا مذهب وسط؛ وأحمد والشافعي قالا بطهارته، وهناك من أراد أن يوفق بين الرأيين فقال: هو نجس ولكن يكتفى في تطهيره، إن كان رطباً فبالغسل، وإن كان يابساً فبالفرك، والحك بالظفر، ولكن التحقيق من عموم النصوص: أن المني طاهر.(11/2)
حكم مني الحيوان
ما حكم مني الحيوان؟ قد يخالط بعض الرعاة مني بعض الحيوانات عند الإخصاب والتلقيح، فيقولون: هو بحسب لحمه، فمأكول اللحم منيه طاهر، وغير مأكول اللحم منيه غير طاهر، قياساً على بوله ورجيعه، وسيأتي البحث في أن بول مأكول اللحم طاهر إن شاء الله، والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/3)
كيفية تكون المني وتحوله
وطبيعة المني: تحول كامل، وأين تحدث عملية التحول؟ وأين المعمل الذي حوله؟ من الدم الخالص إلى هذه المادة المنوية؛ يقول علم التشريح: إن المسئول عن تحويل الدم إلى المني إحدى الخصيتين، ومن العجب أنهم يقولون: إن إحدى الخصيتين مسئولة عن إفراز المني، والأخرى مسئولة عن إنبات شعر اللحية، ولذا تجد العبد إذا خصي، لو كانت عنده لحية فصغيرة؛ لأن أصلها قد أزيل، ولو أزيل في الصغر لا تنبت له لحية، هكذا يقولون، والله أعلم.
ويقولون: إن عملية التحويل تأتي عند الحاجة، بمعنى: لو جئت بمائة رجل وشرحتهم، فلن تحصل على جرام واحد من المني داخل الجسم؛ لأنه يطبخ ويحول فوراً، حينما تشتد الشهوة، وكما يقولون: حالة الإخراج، أو الإفراز، أو أو إلى آخره، تكون في تلك اللحظة التي تتم فيها عمليه الطبخ، ثم يفرز ضخاً ودفقاً كما يقولون، وقبل هذا لا وجود له.
ولهذا إذا استعجل على الطبخة ولم ينضجها خرج مذياً، وهو أبيض ولكن لا ينعقد، فيخرج كخروج البول ما فيه دفع؛ لأن الطبخة ما نضجت.
والودي إنما يأتي -كما يقولون- عقب الانعاض وقبل التبول، وقد يأتي أيضاً في حالات الإمساك الشديد؛ بسبب الضغط على ما يسمى البروستات في الداخل، فتعمل هذا الإعصار.
إذاً: المني من حيث هو: مادة تطورت عن الدم، وتطور المادة -كما تقدم لنا في الخمر- وتحولها إذا كان بنفسه؛ صارت طاهرة، وكذلك هنا، فالدم تحول بنفسه، وصار من دم أحمر جار داخل العرق، إلى مادة المني التي فيها الحيوان، وفيها الإخصاب وو، مع أنه لا يوجد في الدم، أي عنصر من العناصر الموجودة في المني.
ويقولون في ذلك: الدفقة الواحدة فيها ما يزيد عن ثمانية ملايين وحدة منوية، والذي يلقح البويضة واحد فقط.
ويقول بعض علماء الجنس: لو جمعت الحيوانات المنوية للعالم من أول أولاد آدم إلى آخر الناس ما ملأت كستبان الخياط، وكستبان الخياط كالخاتم يوضع في الأنملة ليدفع الإبرة داخل القماشة، وحجمه 2سم.
إذاً: الحيوان المنوي لا يرى بالعين العادية.
إذاً: تحول الدم إلى مادة مغايرة كل المغايرة للدم، وهذا الحيوان الضئيل جداً يحمل كل خصائص الإنسان المولود بغرائزه، وشبهه بآبائه، أو بإخوانه، إلى غير ذلك من حكم الله سبحانه وتعالى.
إذاً: تحول المني أشبه ما يكون بتحول عصارة الفرث والدم إلى لبن خالص، اللبن محول عن ماذا؟ {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ} [النحل:66] ، سبحان الله! {لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل:66] ، فهذا دم محول، يقولون: إن عملية التحويل، والتطور، في الدم إلى مني، تشبه عملية التحويل، والتطوير، في الحليب في الحيوانات، وفي الإنسان.
والله تعالى أعلم.
وبعض الناس يستدل على كون المني طاهراً بقوله: إن المني أصل الإنسان، فهل نجعل أصل الإنسان نجساً؟ وقد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70] .
ولكن بعض العلماء يقول: هذه ناحية عاطفية، وما الذي يمنع أن يكون الإنسان من أصل نجس، ولكن تحول إلى طاهر، والإنسان أصله من تراب وماء، ثم تحول إلى دم ولحم، فلا نقول: إنه راجع إلى الترابية، ولا إلى المائية؛ لأنه تحول طوراً جديداً.(11/4)
مرور المني في مجرى البول ليس دليلاً على نجاسة المني
وقال بعضهم: المني في الأصل طاهر، ولكنه عند خروجه يمر بممر البول؛ وإذا مر بممر البول علق فيه من أصل البول، أو أثره، في الطريق فتنجس، ولكن أجيب على ذلك: بأن الممر الداخلي لسنا مسئولين عنه؛ لأنك كلما دخلت إلى الداخل، وجدت النجاسة، فالمثانة معبأة بالبول، ولم نقل: إنها نجسه ويجب تفريغها! فإن كل واحد يصلي ويتوضأ، وهو يحمل كيساً من البول! وكذلك الدم يجري داخل العروق، ولم نؤمر بإخراجه! والمياه الخارجة من الإنسان -غير البول- ثلاثة مياه: 1- المني.
2- والمذي، بالذال المعجمة.
3- والودي، بالواو والدال والياء، ودي.(11/5)
كتاب الطهارة - باب إزالة النجاسة وبيانها [4]
إن للأطفال من المحبة ما يجعل المرء يتعلق بهم ويكثر من حملهم، فلا يخلو عند ذلك من أن تصيبه النجاسة من بولهم، وقد فرق الشرع بين بول الغلام الرضيع والجارية الرضيعة، فالغلام إنما يرش من بوله والجارية يغسل من بولها، مع أن البول نجس في كل حال.(12/1)
بول الرضيع وحكمه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول: المصنف رحمه الله: [وعن أبي السمح رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام) ، أخرجه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم] .
هذا موضوع جديد، وهو نجاسة البول بصفة عامة، وقد تقدم لنا ما يتعلق بنجاسة البول، وهو متعلق بهذا الباب، وكثير من المؤلفين يذكره في هذا الموضع.
وتقدمت لنا قصة بول الأعرابي حينما بال في المسجد، وكانت طريقة تطهيره مكاثرته بالماء، كما قال الشافعي رحمه الله: يكاثر بالماء مقدار سبع مرات وهذه ناحية نسبية تعتبر بغلبة الظن.
وهنا يأتي المؤلف رحمه الله بهذا النص عن أبي السمح، وكان خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع أنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن لا يُعلم له حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذا، فنقل لنا عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام) فمن الجارية، ومن الغلام؟ الجارية لغة: تطلق على الصغيرة الرضيعة، وتطلق على من هي دون البلوغ، وتطلق على الأمة الكبيرة، كما تقول: جارية فلان والغلام يطلق على الطفل الصغير الرضيع، وعلى من دون الأربعين سنة، كما قيل في الحجاج: غلام إذا هز القناة سقاها وهو قائد الجيوش، ومع ذلك سمي غلاماً.(12/2)
علة التفريق بين بول الغلام وبول الجارية
قد يقال: هل يمكن أن نتطلع إلى سبب في التفريق بين بول الغلام وبول الجارية، أم أنه لا يوجد هناك فرق؟ قال بعض المتقدمين -وهو المتولي من أئمة الشافعية-: نعم هناك فرق؛ فإن بول الغلام أبيض رقيق خفيف، وبول الجارية أصفر ثقيل كثيف، فالفقهاء نبهوا على أن هناك فرقاً في الماهية، فبول الغلام رقيق خفيف يكفي فيه الرش، وأما بول الجارية فأصفر كثيف ثقيل والنضح لا يكفيه، ويحتاج إلى الغسل.
وبعض المتأخرين الذين يتكلمون عن التشريح أو عن الخواص يقولون: بول الجارية فيه من هرمون الأنوثة أكثر، فيحتاج إلى زيادة في الغسل، وهرمون الأنوثة -كما يقولون- أثقل من هرمون الذكورة، والله تعالى أعلم.
وبعضهم يعلل ذلك بقوله: الغلام ذكر والجارية أنثى، وأصل الخلقة -خلقة الإنسان- هو أبونا آدم، وآدم خلق من تراب وماء، والماء والتراب طهوران، فأصل التكوين في خلقة الذكر من طاهرين، والأنثى جاءت من حواء، وحواء خلقت من ضلع آدم، وضلع آدم فيه دم ولحم، والدم نجس، فالغلام يرجع إلى أصله، والجارية ترجع إلى أصلها، وهذا امتداد طويل وبعيد الاعتبار، وذكرناه من باب الفائدة.
وهناك من يقول -وهي قضية والله ما أدري كيف ساغ لهم أن يقولوها- فيقول: الرسول صلى الله عليه وسلم عامل الناس بحالة نفسية؛ إذ كان العرب في أول أمرهم إذا جاءهم المولود أنثى فهم كما قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل:58] .
فكانوا إذا جاءت البنت لا يحبون حملها، أما الصبي فيحب، ودائماً يحمل، فخفف في بوله، لكن هذه العادة غير حميدة، فهل يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم ويقر الناس عليها، ويخفف لهم ويرخص لهم بسببها، أم يقضي عليها؟ لاشك أنه سيقضي عليها.
فهذه وإن كانت ساقطة فهي بعيدة بعد آدم وحواء، لكن تلك أقرب للتعليل من هذه.
ومهما يكن من شيء فإن المهم هو الحكم الفقهي، وهو أنه يكتفى بنضح بول الغلام ويغسل بول الجارية، وبعض الذين قالوا بالغسل قالوا: النضح بمعنى الغسل؛ لأنه جاءت رواية: (رشه: نضحه) ، والنضح غسل.
ولكن جاء في رواية علي رضي الله تعالى عنه: (فنضحه ولم يغسله) فهل النضح هو الغسل أم هو مغاير له؟ والجواب: مغاير له، ويكفينا في ذلك أن أصل البول نجس، وذلك في الأصل عند الجارية، ولكن الغلام الرضيع الذي لم يتناول الطعام خففت حالته، واكتفي فيه بالنضح، وما عدا الغلام الرضيع -سواءٌ أكان غلاماً يأكل الطعام، أم جارية من أول أمرها -فإنه يغسل، والله تعالى أعلم.(12/3)
اختلاف العلماء في تطهير بول الغلام والجارية
موقف العلماء من بول الجارية وبول الغلام الرضيع يتلخص في ثلاثة مذاهب، كما نقل ذلك: الصنعاني والشوكاني وابن حجر في فتح الباري، وغيرهم.
المذهب الأول: يغسل الجميع، بول الغلام وبول الجارية وهذا مروي عن الأحناف والمالكية.
والمذهب الثاني: يرش من الجميع بدون تفرقة، فالأول لا يفرق بين ذكر وأنثى، وقال: يغسل الجميع.
والثاني لم يفرق بين ذكر وأنثى، وقال: يرش الجميع.
وهذا قول الأوزاعي المذهب الثالث: وهو مذهب الشافعي وأحمد رحمهما الله -ويؤيده الحديث- أنه يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام.
ووجهة نظر من قال بغسل الجميع، قولهم: هناك عمومات أخرى، منها: عموم غسل البول، ومنها: حديث القبرين: (وكان أحدهما لا يستنزه من البول) ، وهذا عام في البول، فيشمل الصغير والكبير، ثم ألحق الغلام بالجارية، وهذا الإلحاق يسمى عند الأصوليين إلحاقاً بنفي الفارق.
أي: ننفي فارق الذكورة والأنوثة، ونرجع إلى أصل البول فهو سواء عندهم، فنغسل الجميع، كما جاء في حديث: (من أعتق شقصاً له في عبد) ، فكلمة (عبد) تطلق على المملوك الذكر، فقالوا: كذلك من اعتق شقصاً له في أمه، ولماذا الأمة والنص جاء خاصاً بالعبد؟ قالوا: بإلغاء الفارق بين الأمة والعبد، وهو الذكورة والأنوثة، فمن أعتق شقصاً في مملوك له ذكراً كان أو أنثى قوم عليه ودفع الباقي لشريكه ويعتق العبد، هذا ما يسمى عندهم بنفي الفارق.
ولكن هذا حينما يأتي النص في أحد المتماثلين أو المتقابلين، فيكون هنا الإلحاق بنفي الفارق؛ لأن الأمة لم يأتِ في عتق شقصها نص ولكن هنا جاء النص مستقلاً في الغلام بالرش، وجاء مستقلاً في الجارية بالغسل، فنأخذ بالنص الموجود، أما القياس هذا فإنه يسمى عند الأصوليين قياساً فاسد الاعتبار، أي: اعتباره فاسد؛ لأنه في مصادمة النص؛ إذ يلحقون الغلام بالجارية، وهذا فيه نص صحيح صريح، وهو حديث أم قيس الذي رواه الجماعة، وحديث عائشة الذي رواه البخاري، وعند مسلم زيادات.
فالغلام فيه نص مستقل، والجارية فيها نص مستقل، ولا يلحق أحدهما بالآخر؛ لأننا إذا ألحقنا أحدهما بالآخر ألغينا النص الذي يختص به، وهذا لا يجوز، وهو كما -يقول الأصوليون- قياس فاسد الاعتبار.(12/4)
أحاديث في التفريق بين بول الغلام والجارية
في هذا الباب جاءت نصوص أخرى مع حديث أبي السمح، منها: أنَّ أم قيس بنت محصن: أتت بابن لها إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحنكه -والتحنيك: هو أن يأخذ الكبير تمرة فيلوكها في فِيه، ثم يخرجها بعد المضغ وامتزاجها بلعابه، ويضعها بين فكي الطفل، فيبلغها أو يتلمض بها- قالت: فبال على ثوب النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا بماء ونضحه) .
وكذلك جاء عن أم المؤمنين عائشة أنها قالت: كانوا يأتون بالصبية إلى النبي صلى الله عليه وسلم للتبريك، والتحنيك -والتبريك: التماس البركة، ويحنكهم ليختلط ريقه صلوات الله وسلامه عليه بالتمرة، ويبتلعه الطفل الصغير- (فبال غلام على ثوب النبي صلى الله عليه وسلم، أو في حجره صلى الله عليه وسلم فأتبعه بالماء) .
وجاء عن أم قيس حديثان، أحدهما قالت فيه: (أتي بغلام فبال على ثوبه صلى الله عليه وسلم فنضحه، وأتي بجارية فبالت على ثوبه فغسله) .
وعن أم الفضل: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بغلام -الحسن، أو الحسين- فصعد على بطن النبي صلى الله عليه وسلم فبال على صدره، قالت: قلت: أعطني ثوبك -يا رسول الله- أغسله والبس غيره قال: إنما ينضح من بول الغلام) .
وعن علي رضي الله تعالى عنه: (أن غلاماً بال على ثوب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يرش من بول الغلام ويغسل من بول الجارية) ، قال قتادة: وذلك قبل الفطام، أو: وذلك للرضيع.
وكل هذه الآثار جمعها وساقها صاحب المنتقى، وتكلم عليها الشوكاني في نيل الأوطار، وغيره.
والقول الصريح بضم الفعل مع مجموع ذلك كله أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين بول الغلام الذكر، وبول الجارية الأنثى، وهذا التفريق محله قبل أن يستغني بالطعام ما دام رضيعاً، فأمر بغسل بول الجارية، واكتفى أو أرشد إلى نضح أو رش بول الغلام.(12/5)
نجاسة الدم وكيفية تطهيره
قال المصنف رحمه الله: [وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في دم الحيض يصيب الثوب-: (تحته، ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه، ثم تصلي فيه) متفق عليه] .
انتقلنا إلى مسألة أخرى، وهي حكم الدم في هذا الباب -باب النجاسة-، وقد تقدم شيء من التنبيه على ما وجد في الآونة الأخيرة من القول بطهارته.
وقد أجمع على ذلك المسلمون إلى القرن الرابع عشر من المحدثين وعلماء تفسير، وفقهاء المذاهب الأربعة وأئمتها.
ومن أراد الرجوع إلى ذلك بإيجاز فليرجع إلى كلام المفسرين عند قوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام:145] ، فقالوا: الدم المسفوح والميتة ولحم الخنزير كل ذلك نجس، والمسفوح: هو الذي يخرج بغزارة وبقوة، وغير المسفوح هو الدم الذي يكون باقياً في عروق الذبيحة بعد سلخها، وقد تظهر حمرة هذا الدم في المرق في أوائل الطبخ، وهذا معفو عنه.(12/6)
أدلة من قال بعدم نجاسة الدم والجواب عنها
الذين يقولون بطهارة الدم المسفوح قالوا: إنما حرم أكله ولم تحرم ملامسته، ولا يدل ذلك على النجاسة.
واستدلوا بقصة عمر رضي الله تعالى عنه، حينما صلى وجرحه ينزف دماً.
واستدلوا بقصة عمار والذي كان معه في الشعب، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يحرس ليلاً، وكان العدو قد وقعت به حادثة فتبعهم ليلاً، فقام أحدهما يحرس ويصلي ويقرأ، فسمع العدو صوت القارئ فسدد السهم في الليل على الصوت فأصابه، فانتزع الحارس السهم ومضى في صلاته، إلى أن رماه بثلاثة أسهم، فأيقظ صاحبه سقوط الدم على وجهه، فقال: ما هذا؟ فأخبره.
فقال: هلا أخبرتني؟ قال: كنت اقرأ سورة فكرهت أن أقطعها -قيل: سورة الكهف-، فقالوا: خرج منه الدم فلم يقطع صلاته، ولو كان نجساً لقطعها، وكذلك ما جاء في حق المستحاضة: (صلي ولو قطر الدم على الحصير) ، لأنها لم تستطع إيقافه.
لكن لا تقاس حالة الاضطرار على حالة السعة، أترى عمر يترك الصلاة لجرحه، وهو يقول: لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة! وكذلك الذي كان يحرس في الجيش، ألا ترى المجاهدين يجرحون ويصابون، بل تكون سيوفهم مليئة بالدماء، ويصلون صلاة الخوف وهم يحملون السلاح، فلا تقاس حالة الاضطرار في القتال على حالة السعة في السلم، والكلام في غير الضرورات، فلا مستند لهم فيما يقولون، والله تعالى أعلم.(12/7)
حكم نقل الدم
هنا مسألة، وهي حكم نقل الدم، ونقل الدم لا يكون إلا من إنسان إلى إنسان، ودم الإنسان نجس كما تقدم في أنه يغسل، وكما تقدم في الاستحاضة، ونصوص العلماء كثيرة في هذا.
ومسألة نقل الدم وجدت في الوقت الحاضر، ولم تكن موجودة في السابق.
وقد اختلف العلماء في حكمها.
فقوم قالوا: لا يجوز استعماله أبداً؛ لأن الدم نجس، ولا يجوز استعمال النجاسة في دواء ولا في غيره.
والآن -والحمد لله- كتبت رسائل، وألفت مؤلفات في هذا الموضوع، ولكن من الجانب الطبي، أما من ناحية الإباحة والمنع فكان مما حدث في بعض نوادي الجامعة الإسلامية أن سأل سائل: هذا الدم الذي ننقله لإنسان آخر حلال أم حرام؟! فتكلم المشايخ -جزاهم الله خيراً- وكل تكلم بما قد حضره، والشيخ الأمين -يغفر الله له- ساكت ما تكلم، ولا بشيء، فسأله الشيخ ابن باز رحمه الله: أراك -يا شيخ- ساكتاً لا تتكلم! قال: نعم -يا سماحة الشيخ- فماذا أقول، ليس عندنا آية من كتاب الله، ولا حديث من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموضوع الجديد؟ فقال: ولكن لابد من القول، ولابد للإنسان المسلم أن يعرف أقوال العلماء في هذه الحالة، فلا نقول: الإسلام قاصر.
بل ويجب أن نجتهد.
فقال: إن كان ولابد فإننا نجد القرآن الكريم قرن الميتة بالدم في التحريم كما قال تعالى:، {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] ، ووجدنا القرآن الكريم يأتي بالرخصة في أحد المقترنين، وهي الميتة، قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:173] ، فإذا جاءت الرخصة في المحرم أو أحد المحرمين، -وهي الميتة- للضرورة كما قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:173] ، فإذا جاءت نقول: قرين الشيء يأخذ حكمه، فنقول: الدم قرين الميتة، فإذا وصلت بإنسان حالة شبيهة بحالة المخمصة التي يضطر فيها الجائع لأكل الميتة إنقاذاً لحياته، ويأثم إن ترك الأكل فكذلك أيضاً في نقل الدم؛ لأنها ضرورة تعادل تلك الضرورة، وإنقاذٌ لحياته، فيباح نقل الدم.
قال الشيخ ابن باز: ماذا نريد أكثر من هذا؟! ومهما بحثنا فلن نجد أحسن من هذا، فهذا يكفي.
وهناك قرار لهيئة كبار العلماء جاءت فيه أبحاث عديدة في التشريح والدم ونحوهما.
وهل يتعاطى ثمناً للدم الذي أعطاه المعطي أم لا؟! قالوا: الجواب: لا.
لأن الدم لا يباع، ولا يؤخذ ثمنه، ولكن يمكن أن يُكْرَم المعطي للدم من الطعام ومن الشراب ما يعوضه شيئاً من ذلك، فيشترى له ما يطعمه، وما يشربه من العصير، أو من الأشياء المباحة التي تعوض جسمه نشاطه، ونحو ذلك.
وعلى هذا أصبح موضوع نقل الدم قضية -كما يقولون- شائعة، وفتحت بنوك الدم، واتسع فيها بعض الناس، وأصبحت تجارة، ولكن موقف الإسلام من هذه القضية أنه يباح للضرورة.(12/8)
الطريقة الشرعية في تطهير دم الحيض
وقوله صلى الله عليه وسلم: (تحته، ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه) .
أي: تفرك اليابس، و (تقرصه) أي: بين يديها، و (تنضحه) أي: تغسله بعد هذا فهذه ثلاث مراحل في كيفية تطهير الثوب من دم الحيض.
ولا يوجد أحد يخالف في نجاسة دم الحيض أبداً حتى اليوم، وإنما الخلاف في الدم المسفوح.
قال العلماء: هذا نص صحيح صريح في وجوب غسل دم الحيض حين يصيب الثوب، والغسل يكون ببذل الجهد في إزالة النجاسة: فأولاً: بالحت إن كان يابساً، وغالباً الدم يكون له جُرم.
وثانياً: بالقرص، أي: تدلكه بأصابعها مع الماء.
وثالثاً: بالغسل، ثم بعد ذلك تصلي فيه.(12/9)
حكم أثر الدم الباقي في الثوب بعد تطهيره
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالت خولة: يا رسول الله! فإن لم يذهب الدم؟ قال: (يكفيكِ الماء، ولا يضركِ أثره) أخرجه الترمذي وسنده ضعيف] .
هذا السؤال تتمة للموضوع الأول، فإذا حتتنا وقرصنا وغسلنا وبقي اللون -خاصة إذا كان الثوب أبيض؛ فإن البياض قليل الحمل للدنس- فماذا نفعل؟ قال: (يكفيك الماء لا يضركِ أثره) ، فافعلي هذه الأوامر، فالله تعالى يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] .
ويذكرون عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت إذا حتّت وقرصت ونضحت ولم يذهب اللون تأتي بالزعفران، وتبله في الماء، وتأخذ ماء الزعفران وتصبه على محل الدم.
قالوا: تريد أن تغير لون النجس بلون الطاهر، ولكن هذا لمن أراد أن يصبغ ثوبه كله بالزعفران، وليس هذا من باب التكليف، فهذا فعلها رضي الله تعالى عنها، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر به.
ويهمنا أنه صلى الله عليه وسلم أرشد إلى الحت، ثم القرص، ثم غسل الماء، وقال الفقهاء: إذا كان يمكن استعمال الحواد -والحواد: جمع حاد، وهو الشيء الكيماوي الحار الذي يذهب اللون، مثل الصابون، ومثل النخالة، ومثل الدقيق، ومثل الأشنان وغيرها، فكل هذه عوامل تنظيف يعرفها الناس- فإذا لم يذهب الأثر وكان عندك صابون فهل يتعين استعماله تبعاً لهذا التشديد -أي الأمر بالحت والقرص ثم النضح- وهل يعد استعمال الصابون من بذل الجهد, وقد يكون فيه كلفة على المساكين؟ وهل نطالب باستعمال منظف مزيل لا يؤثر على صبغ الثوب ولا على قماشه، أو ليس ذلك بلازم؟ والجواب: يجب أن نستعمل ما يمكن استعماله بدون كلفة، وبدون مشقة، وبدون تأثير على عين الثوب، والله تعالى أعلم.
فجمهور العلماء من السلف والخلف يقولون: إن جميع الدماء نجسة.
وقد جاء عند البخاري وعند مسلم حديث فاطمة بنت قيس في الاستحاضة.
والبخاري ومسلم ذكرا حديثها في كتاب الطهارة والنجاسة ليبينا أن دم الاستحاضة نجس كدم الحيض، أو أن الدم نجس بصفة عامة، ثم أعادا نفس الحديث في باب الحيض والاستحاضة ليستدلا بذلك على أن دم الاستحاضة ملحق بدم الحيض، ودم الاستحاضة دم مسفوح؛ لأنه كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنما ذلكِ عرق) ، واستدلوا بالآية الكريمة: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام:145] ، فقالوا: جمع في هذه الآية بين تحريم الميتة والدم المسفوح، والميتة نجسة كما تقدم التنبيه على ذلك في حديث ميمونة: (لو أخذتم إهابها فانتفعتم به -أو: فدبغتموه فانتفعتم به؟! - فقالوا: إنها ميتة.
فقولهم: (إنها ميتة)) يستلزم أن الميتة نجسة، فتنجس الإهاب تبعاً للميتة، وأقرهم على هذا الفهم، وأجابهم عنه، وأخبرهم أنه يطهرها الدباغ.
وعلى هذا فالدم المسفوح نجس بدلالة اقترانه بالميتة، ولذلك حرم أكله، وحرم بيعه، وحرمت الاستفادة منه في أي شيء.(12/10)
خلاف العلماء في تقدير الدم المعفو عنه
يبحث العلماء المتقدمون فيما يعفى عنه من النجاسات، ولم يعف عن شيء إلا عن قليل الدم.
وقليل الدم وكثيره اختلف العلماء في تقديره، فمنهم من يقول: قليل الدم هو ما كان في حجم الدرهم البغلي.
والدرهم البغلي كان درهماً نقدياً، صكه رجل يهودي اسمه: (البغل) ، وكان في الدولة العباسية، وكان يصك الدراهم للخلفاء العباسيين، خاصة للمناسبات.
وبعضهم يقول: هو بقدر ما يرى في ذراع أو في ساق الحمار أو البغل من الداخل على هيئة دائرة سوداء تعادل الريال السعودي تقريباً، وهناك من أبعد في ذلك وقال: كربع الثوب ولكن هذه مجازفة كما يقول أصحابه.
وجاء في الموطأ عند مالك رحمه الله في باب الرعاف أن ابن عمر رضي الله عنهما كان ربما رعف في الصلاة بدم قليل، فيفتله بين أصابعه ويمضي في صلاته، وربما فقأ البثرة في وجهه -أي حب الشباب- فتخرج القطرة والقطرتان، فيمسحها بأصابعه ولا يغسلها.
وجاء عن سعيد بن المسيب أنه رعف في الصلاة فاستلقى على ظهره لكثرته، ثم خرج فغسل عنه الدم.
وجمهور علماء المسلمين يقولون: إن الدم نجس، ويعفى عن قليله، ولكن لماذا لا يعفى عن قليل النجاسات الأخرى؟! قالوا: لأن بقية النجاسات الأخرى يمكن الاحتراز عنها، وقد جاء في حديث صاحبي القبرين: (كان لا يتنزه من البول) ، أما الدم فقالوا: الإنسان عبارة عن قربة دم، وفي كل موضع من جسمه يوجد دم، فمن الصعب أن يتحفظ الإنسان من دمه، وقاسوا عليه دم غيره.
ومجموع هذه الأحاديث تابع للتدليل على نجاسة الدم، وبعد أن نمر عليها سنعود إلى قول من يقول بطهارة الدم بعد أربعة عشر قرناً، ونبين وجهة نظره والرد عليه.
قوله: [وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما] هي من أقارب بيت النبوة، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض.
وقولها: (دم الحيض يصيب الثوب) مثل الثوب الفراش، وكل شيء يمسه.(12/11)
كتاب الطهارة - باب الوضوء [1]
لقد شرع الله سبحانه الفرائض، وجعل لكل فريضة مقدمة قد تكون شرطاً في صحتها، ومن هذه الفرائض الصلاة، إذ شرعها الله في سائر الأديان السماوية، وشرطها الوضوء الذي هو الطهارة والنظافة، وقد شرعه الله سبحانه في الكتاب والسنة، وأجمع العلماء على فرضيته، وأنه لا صلاة لمن لا وضوء له.(13/1)
أحكام السواك(13/2)
استحباب السواك للصائم
مباحث السواك طويلة، فقوله: (مع كل وضوء) وإخبار عائشة رضي الله عنها بأن أول ما كان يبدأ به عند دخوله البيت السواك يدلان على عدم ترديد السواك بوقت، فإذا قلنا: أن الوضوء كان لكل صلاة فيتكرر خمس مرات، وأما دخوله صلى الله عليه وسلم البيت فليس هناك تحديد لوقته.
ومن هنا أخذ الجمهور أن السواك مندوب للصائم، وأن الصوم لا يمنع السواك؛ لأنه عند كل وضوء، والوضوء قطعاً كان خمس مرات؛ لأنه ما جمعت الصلوات بوضوء واحد إلا عام الفتح، وعام الفتح سنة ثمان، ولم يخالف في هذا إلا الشافعي رحمه الله، وذلك لوجه نظر إليه الشافعي من جانب، والجمهور نظروا إليه من جوانب أخرى: أما الجانب الذي نظر إليه الشافعي رحمه الله فهو ما يأتي في كتاب الصيام في فضائل الصوم، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: (لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك) ، فيقول الشافعي رحمه الله: الخلوف هو ما يصعد من المعدة من الأبخرة، ولخلوها تكون هناك رائحة هي الخلوف، وهذه الرائحة تستقذر عند الناس جميعاً، فهذا الخلوف المستقذر عند الناس هو عند الله أطيب من ريح المسك، فيقول الشافعي رحمه الله: ما دام الأمر كذلك اتركه.
والجمهور يقولون: ما دامت مهمة السواك مطهرة للفم من هذا الخلوف وأمثاله فإنه يستعمل؛ لأنه يتغير فمه إذا قام من النوم، وإذا طال صمته عن الكلام، وإذا أكل شيئاً له رائحة، ثم إنه مرضاة للرب.
ويدل على ذلك عموم الأحاديث في السواك، كقوله: (عند كل وضوء) ، و (مع كل صلاة) ، واستياكه صلى الله عليه وسلم إذا دخل البيت، وجاء في مجمع الزوائد أن عثمان رضي الله تعالى عنه -أو غيره- لما سئل عن السواك بعد الزوال قال: (لم يأمرنا الله أن ننتن أفواهنا) .
وجاء في الأثر: (الفم طريق القرآن -أو مجرى القرآن- فطيبوا مجاريه) ، وجاء: (إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنسان) ، وأن الإنسان إذا قرأ القرآن جاء الملك ووضع فاه عند فيه يتلقى القرآن، فيتأذى إذا وجد خلوفاً أو رائحة غير طيبة.
وقال الجمهور: استعمال السواك عند الوضوء لا يقطع الخلوف؛ لأن الخلوف ليس من بقايا الطعام بين الأسنان، فهذا يذهب في أول مرة، ولكنه الأبخرة المتصاعدة من المعدة إلى الفم، ففي كل لحظة يتنفس فيها يأتي الخلوف، فإذا استعمل السواك لصلاة الظهر فبعد لحظات يجيء الخلوف، وإذا استعمل السواك لصلاة العصر فبعد لحظات يجيء الخلوف، ويبقى ريح المسك، ويجمع بين الحسنيين.
وبالله التوفيق.(13/3)
لفظ (الأمة) والمعاني الواردة فيه
قوله: (لولا أن أشق على أمتي) يقولون: (الأمة) تطلق على عدة معان، منها الجماعة، ومنها الراية، ومنها الشخص القدوة، كما قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:120] ، وتطلق على الراية لأنها الأم والكل يتبعها، وتطلق على المدة من الزمن لأنها مجموعة، وتطلق على الجماعات التي يجمعها وصف عام أو ترتبط بمبدأ، فيقال مثلاً: أمة العلماء، أمة الصناع، أمة التجار، وهكذا في المخلوقات الأخرى، فذوات الجناح أمة، وذوات الأربع أمة، والأمة الإسلامية هي أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي اصطلاح العلماء الأمة قسمان: أمة دعوة تشملها الرسالة المحمدية، فمن آمن ومن لم يؤمن مدعو بها.
وأمة الإجابة التي استجابت لله وللرسول، فقوله هنا: (لولا أن أشق على أمتي) هل يشمل الأمة بكاملها -أي: أمة الدعوة- أم أنه قاصر على أمة الإجابة؟ الجمهور على أنها أمة الإجابة؛ لأنها محل الأمر والنهي.
وأما أمة الدعوة فقالوا: هي داخلة في الأوامر والنواهي، ولكن لا يقبل منها شيء حتى تدخل في أمة الإجابة، كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] ، وقال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] ، فقوله: (أمتي) يحمل على أمة الإجابة، وهي محل الشفقة ورفع المشقة.
قوله: (لأمرتهم) ، الأمر -كما يقولون-: هو ما صدر من أعلى إلى أدنى، وإذا كان من أدنى إلى أعلى فهو دعاء، كقول المؤمنين: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا} [البقرة:286] ؛ فإن (واعف) صفة أمر، لكنه موجه من الأدنى إلى الأعلى، فهو دعاء وطلب العفو من الله سبحانه وتعالى.
وإذا كان من المساوي فهو التماس.(13/4)
المراد بالسواك فعلاً وآلة
السواك قيل: هو الفعل.
وقيل: هو الآلة التي يستاك بها، أما الفعل فإنهم يقولون: إنه يستحسن أن يسوك أسنانه عرضاً، فيبدأ بالأيمن فالأيسر، وقيل: بالأعلى إلى غير ذلك من الصور، وكيفما كان فقد حصل المقصود، أما الآلة فإنهم يقولون: بأي عود كان، لكن يستثنى من ذلك الريحان والقصب؛ لأنه يؤثر على اللثة ويجرحها، ويستحبون عود الأراك لأنه أكثر استعمالاً، وكيفما كان أجزأ، بل إنه -كما عند الشافعية- لو لم يجد عوداً وأخذ خرقة خشنة كصوف ونحوه ولفه على إصبعه ودلك به أسنانه أجزأ ذلك، وإذا لم يجد الخرقة ودلك بإصبعه جاء، كما جاء في الحديث: (يشوص أسنانه بإصبعه) .
فعلى هذا يكون السواك من حيث الآلة إنما هو أي شيء يستعمله الإنسان، وكأني بإنسان يريد أن يسأل عن الفرشاة أهي داخلة في هذا المعنى أم لا؟ والجواب: إذا نظرنا إلى الغرض من استعمال السواك، وهو كما في الحديث: (مطهرة للفم مرضاة للرب) فأي شيء طهر الفم فإنه يؤدي المهمة، ولكن ما كان عليه السلف فهو أولى وأصح طبياً.
وأحب أن أحذر من استعمال الفرشاة، فإن لها أنواعاً من النايلون وأنواعاً من الشعر، والتي من النايلون إذا كان النايلون فيها صلباً فإنه يجرح اللثة، وبعض الأشخاص يخطئ فيغسلها بالماء الحار، والماء الحار يقلص هذا النايلون فيعود على اللثة بالجراح، أو يفقد الصلاحية، بل يغسلها بالماء البارد حتى لا يؤثر على شعيراتها.
أما عود الأراك فإنه قد اتفق طبياً الآن بأن في قشره ما يسمى عندهم: (حمض التنّيك) فهذا الحمض من طبيعته أنه يقلص اللحم، فإذا ما جاء إلى اللثة يجعلها تتقلص وتعتصر فتخرج الرطوبة منها، خاصة إذا كان جديداً، والكل يجرب هذا، فإذا أخذ عوداً من الأراك جديداً وقضمه بأسنانه فإن ما يتحلل من القشرة في فمه ويصل إلى اللثة يجعل اللثة تتقوى بإخراج الرطوبات الموجودة فيها.
ووجدت في كتاب (القرى لقاصد أم القرى) ، وفي (تهذيب الآثار) للطبري بأن من فوائد عود الأراك أنه لو طبخ وشربته المرأة قرب مجيء الدورة الشهرية يوقفها، وكان النساء يستعملنه في الحج مخافة مجيء الدورة قبل طواف الإفاضة فتحبس أصحابها، وفعله جملة من النسوة برفقة عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما.(13/5)
حكم السواك
قال (لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء) وفي رواية: (عند كل صلاة) .
الرواية عندنا هنا: (مع كل وضوء) ، يقولون: كان الوضوء في السابق لكل صلاة أحدث أم لم يحدث، إلى أن طاف النبي صلى الله عليه وسلم بالكعبة عام الفتح، فصلى عدة صلوات بوضوء واحد، فسأله عمر رضي الله تعالى عنه، فقال: (يا رسول الله! رأيتك تفعل شيئاً ما كنت تفعله من قبل، قال: عمداً فعلته يا عمر) أي أنه جمع عدة صلوات بوضوء واحد، وأصبح الأمر كما في الحديث: (لا يقبل الله صلاة من أحدث إلا بوضوء) ، وأصبح الوضوء لمن أحدث، أما إذا توضأ وبقي على وضوئه ولم يحدث ناقض للوضوء فإنه يصلي بالوضوء الواحد عدة صلوات.
فكان في السابق كل صلاة لها وضوء، فيبقى قوله: (مع كل وضوء) و (مع كل صلاة) متلازمان، وينبه بعض العلماء أن ظاهر هذا النص أن الشخص لو توضأ للطواف، أو توضأ لقراءة القرآن، أو توضأ لذكر الله، أو توضأ لنافلة وهو متطهر يشمله هذا الحديث: (مع كل وضوء) .
فالسواك مطلوب مع كل وضوء، سواءٌ أكان هذا الوضوء لصلاة أم لذكر.
فهذا ما يدل عليه هذا الحديث، والجمهور على أن السواك سنة في الوضوء، وذهب بعض العلماء -من غير الأئمة الأربعة- فقال: هو واجب.
وقيل: واجب في ذاته، وقيل: واجب في الوضوء وشرط في صحة الصلاة، فمن لم يستعمل السواك عند الوضوء لا تصح صلاته، وهذا -كما قالوا- شاذ وغريب، ولكنه مع ظاهر النص.
والجمهور على أن السواك مندوب إليه لهذا الحديث؛ فإنه لولا المشقة لأوجبه صلى الله عليه وسلم عليهم، فإذا انتهى الوجوب لوجود المشقة بقي الندب، والله تعالى أعلم.(13/6)
سماحة الشريعة الإسلامية
المؤلف هنا -رحمه الله- بدأ الوضوء بأمر غريب، ألا وهو أمر السواك، وهل السواك نظافة أيضاً أم عبادة؟ وهل هو سنة مستقلة، أم من سنن الوضوء؟ وكيف يكون السواك ومتى ولماذا؟ وما هي فضائله؟ وما هي آلته؟ هذه كلها أبحاث مستوفاة في كتب الحديث، وأوسع ما وجدت إلى الآن في ذلك مؤلف لـ ابن دقيق العيد، وهو كتاب: (الإمام شرح الإلمام) ، وهو مخطوط إلى الآن.
والسواك يطلق على المصدر العملي، وعلى الآلة التي يستعمل بها، والحديث هنا يحتمل المعنى المصدري العملي أكثر من اسم الآلة، فالمعنى: لأمرتهم بأن يسوكوا أفواههم؛ لأن الغرض في الوضوء هو أثر السواك في الفم، وجاءت أحاديث بعض العلماء فهم منها أنه للنظافة؛ لأن من أوقاته: عند القيام من النوم، وعند الوضوء، وعند القيام للصلاة، وعند طول الصمت، وعند شدة الجوع، وعند كثرة الكلام، فهذه أوقات يذكرون استحباب استعمال السواك عندها.
وجاءت النصوص في الندب إلى السواك، سواءٌ مع الوضوء أم مع الصلاة أم مطلقاً عن هذه الأوقات، فجاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها سئلت: ماذا كان يبدأ به صلى الله عليه وسلم إذا دخل البيت؟ قالت: (كان أول ما يبدأ به السواك) ، وليس هناك وضوء ولا صلاة.
وأما الحديث هنا: (لولا أن أشق على أمتي) فإن (لولا) حرف امتناع لوجود، فيمتنع جوابها لوجود مانعه، تقول: لولا وجود زيد لهلك عمرو، فامتنع هلاك عمرو لوجود زيد، وكذلك قوله: (ولولا أن أشق لأمرت) ، فامتنع الأمر لوجود المشقة، وكونه لم يحصل الأمر لم يلغ السواك، فالذي لم يحصل هو الإيجاب الذي يترتب عليه حصول المشقة، فبقي ما بعد المشقة وبعد الوجوب، وهو الندب، وكأن الحديث في عمومه يقول: السواك مطلوب، ولولا المشقة لأوجبته عليكم، فقال: (لولا أن أشق) ، فأسند فعل المشقة إلى نفسه صلى الله عليه وسلم، وهل هو الذي يأتي بالأحكام من عنده، فيشق على الناس أو يخفف؟ قالوا: نعم، له حق التشريع مستقلاً، وهو كما وصفه سبحانه بقوله: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] .
ومن الأمثلة في تشريعه صلى الله عليه وسلم مع كتاب الله: حينما بين سبحانه وتعالى المحرمات في النكاح فقال: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء:23] فأضاف إليه صلى الله عليه وسلم فقال: (لا تنكح المرأة مع عمتها ولا مع خالتها) ، فالقرآن ما جاء بهذا، ولكن جاء به صلى الله عليه وسلم.
ولذا قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران:31] فالله أعطاه حق التشريع، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7] وسواء أتانا به من عند الله أو أتانا به من عنده فقد قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى} [النجم:3] ، فقوله: (لولا أن أشق) أي: بما أعطاه الله، سواءٌ أكان وحياً مكتوباً أم وحياً إلهاماً.
يقولون: أصل المشقة من (الشق) ، فعندما تمشي في أرض مشققة يصعب عليك أن تتفادى الخطأ فيها من كثرة شقوقها، فإذا ما كانت ملتئمة سهل المشي عليها، فكذلك المشقة، فكأنك تجاهد تلك الشقوق في الأرض حينما تسير عليها، والمشقة هي ما يصعب على الإنسان، ولهذا يقول الشاعر: لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال وأعظم مناقب العرب ومفاخرهم في الكرم والشجاعة، وكلا الأمرين فيه مشقة؛ لأن الجواد فقير، كما قيل: لا تنكري عطل الكريم من الغنى فالسيل حرب للمكان العالي فالكرماء لا يبقى عندهم شيء؛ لأن ما بيده لغيره، والإقدام قتال، فإذا أقدم في الجيش بالشجاعة قتل، وكلاهما فيه مشقة.
وهو صلوات الله وسلامه عليه في منهجه في التشريع ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما؛ لأن هذه الشريعة السمحة ما جاءت مؤقتة لنتحملها وقتاً قليلاً ونصبر عليها، وإنما جاءت أبدية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فإذا كان الأمر كذلك فلما قيل: إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع.
ومن هنا -كما قال الفقهاء-: كانت (المشقة تجلب التيسير) ، فكل ما سمعت أو رأيت من مشقة في تكليف شرعي تجد بجانبها الرخصة والتخفيف.
ففي الوضوء إذا شق على إنسان استعمال الماء خفف عنه واستعمل التيمم، وإذا شق على إنسان القيام في الصلاة خفف عنه وجلس، والصيام إذا شق على إنسان مريض أو مسافر خفف عنه، كما قال تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] ، وهكذا الحج على المستطيع، والجهاد، قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ} [النور:61] .
فلعدم وجود الأمر صار السواك مندوباً، ولو أمر صلى الله عليه وسلم لكان واجباً، ومن هنا يقول العلماء: الأمر يقتضي الوجوب؛ فإنه بين هنا أنه لولا المشقة لأمر، إذن الأمر يقتضي الفعل ولو جلب المشقة، لكنه لم يأمر دفعاً للمشقة، فبقي على الندب.(13/7)
الوضوء من سنن المرسلين
يتفق العلماء على آية الوضوء: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] إلى آخرها مدنية نزلت بالمدينة، ولكنهم يقولون: الصلاة شرعت بمكة، وما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بغير وضوء، فقالوا: كان الوضوء مشروعاً قبل نزول الآية، وكان على الندب، فجاءت الآية وأوجبته، فبعد أن كان مندوباً صار واجباً.
وبعضهم يقول: كان مشروعاً زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكان صلوات الله وسلامه عليه يتوضأ بمكة على شرع من قبلنا، وثبت وضوؤه صلوات الله وسلامه عليه بمكة في الحديث الذي فيه أن فاطمة ابنته رضوان الله تعالى عليها دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال: ما يبكيك يا ابنتي؟ قالت: سمعت أنهم يتآمرون عليك ليقتلوك، قال: أوفعلوا؟! ائتيني بوضوئي -أي: بالماء الذي يتوضأ به- فتوضأ وصلى ودعا الله عليهم.
فهذا إثبات للوضوء قبل المدينة.
ويقول بعض العلماء: إن جبريل عليه السلام صبيحة ليلة الإسراء والمعراج -لما فرضت الصلوات على النبي صلى الله عليه وسلم، ونزل من صبيحتها لصلاة الظهر، وهي أول صلاة أقيمت بعد الإسراء- علّم رسول الله صلى الله عليه وسلم الوضوء، فتوضأ بتعليم جبريل وصلى.
ويهمنا أن مشروعية الإيجاب كانت بالمدينة، وأن عملية الوضوء كانت في مكة، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم ما يبين أن الوضوء كان في الأمم الماضية، وذلك حينما توضأ فغسل أعضاء الوضوء مرة مرة، فغسل وجهه مرة واحدة، ويديه مرة واحدة، ومسح رأسه وغسل قدميه مرة واحدة، وقال: (هذا الوضوء الذي لا يقبل الله الصلاة بدونه) ، ثم توضأ فغسل الوجه مرتين، واليدين مرتين، ومسح مرة -لأن المسح لا يكرر على ما سيأتي- ثم غسل القدمين مرتين، ثم قال: (وهذا وضوء من كان قبلنا) ، ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً وقال: (وهذا وضوئي ووضوء أمتي) ، فأخذوا من هذا أن الوضوء مشروع من قبل.
ويمكن القول بأن جميع أركان الإسلام كانت موجودة من قبل، فقد قال تعالى لبني إسرائيل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] ، وقال تعالى عن عيسى عليه السلام: {?وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً} [مريم:31] ، وقال تعالى لإبراهيم: {وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26] ، فوجدنا أن الصلاة سابقة.
وفي الصيام يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] ، وفي الحج يقول تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً} [الحج:27] ، وهذا النداء لإبراهيم.
ثم يصرح صلوات الله وسلامه عليه فيقول: (كأني بموسى بن عمران على جمل أورق رحاله الليف يجأر إلى الله بالروحاء بالتلبية) .
ومالك يروي أمراً غريباً لم نعرف سره، فعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه نزل من منى إلى مكة، فمر بواد يقال له: وادي سرر، وبه سرحة -شجرة كبيرة-، وعندها رجل يعرفه جالس عندها، فقال: ما الذي أنزلك هنا؟ قال الرجل: أستظل.
فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بوادي سرر سرحة سُرّ تحتها سبعون نبياً) ، وبعض العلماء يقول: (سُرّ) معناه: قطع حبل سرته، وولد هناك، فما الذي جمّعهم، وفي أي زمن؟ الله أعلم.
وبعضهم يقول: (سُرّ) بمعنى السرور، أي: جاءته النبوة تحت هذه الشجرة، فحصل له السرور بذلك.
والله تعالى أعلم، وهذا الأثر موجود، والشراح حاروا في فهمه أو كنهه، والذي يهمنا قوله: (سبعون نبياً) .
كذلك الزكاة، فهي أخت الصلاة.
ونقرأ في قصص القرآن قصة أصحاب الجنتين حيث قال تعالى عنهم: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم:17-19] .
وفي الحديث قصة صاحب السحابة مع الرجل الذي كان يمشي في فلاة من الأرض، فسمع صوتاً في السحاب: اسق حديقة فلان.
فإذا به يمشي في ظل تلك السحابة إلى أن جاءت إلى أرض حرة صلبة وأمطرت، وتجمع الماء في شرجة، فتبعه فإذا به يجد رجلاً يحول الماء في أحواض له، فقال: سلام الله عليك يا فلان.
فنظر إليه وقال: كيف عرفتني وأنت لست من أهل هذه البلدة؟ فمن أين جئت؟ قال: جئت من كذا.
قال: ما الذي أعلمك باسمي؟ قال: أخبرني أولاً ماذا تصنع في مزرعتك؟ قال: حتى تخبرني.
فأخبره فقال: إن يكن فإني إذا حصدتها قسمت الغلة ثلاثة أقسام، قسم لي ولعيالي، وقسم أرده فيها، وقسم أتصدق به.
وقضية النفر الثلاثة الذين ابتلاهم الله سبحانه وتعالى، وهم الأقرع والأعمى والأبرص دليل على أن الزكاة كانت مشروعة فيمن قبلنا، فالزكاة موجودة، والحج موجود، والصيام موجود، والصلاة موجودة، والوضوء كان موجوداً.
وهناك حديث: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من قبلي، قال: وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) .
قالوا: وكذلك قضية الراهب الذي اتهمته امرأة، فمكنت راعياً منها فحملت، ثم ألقت هذا الحمل عند صومعة الراهب، وتعرفون قصته لما جاءته أمه تناديه كان يقول: يا رب! أمي وصلاتي.
فلم يجبها حتى أنهى الصلاة، وفي ثلاثة أيام تأتيه وهو في الصلاة، ولا يرد عليها من أجل أنه في الصلاة، فقالت: لا أماتك الله حتى ترى وجوه المومسات، فوقع ذلك، فلما اتهموه بالزنا وهدموا صومعته قال: أمهلوني.
فتوضأ وصلى ركعتين، وسأل الله أن يبرئه، ثم جاء ونخس الطفل بإصبعه وقال له: من أبوك؟ قال: الراعي فلان، فرجعوا وتأسفوا وقالوا: نبنيها لك من ذهب وفضة، قال: لا، ردوها كما كانت.
والذي يهمنا ما ذكره العلماء من أن الوضوء كان مشروعاً في الأمم الماضية كما هو مشروع عندنا.(13/8)
الوضوء عبادة شرعية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء) أخرجه مالك وأحمد والنسائي، وصححه ابن خزيمة، وذكره البخاري تعليقاً.
] .
بعدما ذكر المؤلف رحمه الله تعالى أحكام المياه، ثم أحكام الآنية التي نحفظ فيها المياه، ثم جاءنا ببيان أنواع النجاسات، وما ينبغي إزالته عن الثوب والبدن والمكان من أجل الصلاة انتقل بعد ذلك إلى الوضوء.
والوضوء أتى به قبل أن يدخل في كتاب الصلاة؛ لأنه جزء من الطهارة كما سيأتي بعد ذلك بتتمة مباحث الطهارة من الغسل وموجباته والتيمم.
والوضوء شرط بإجماع المسلمين لصحة الصلاة، ولا تصح الصلاة بغير وضوء، كما بيّن صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (لا يقبل الله صلاة من أحدث بغير وضوء) .
والوضوء يأتي بالضم (وُضوء) ، وبالفتح (وَضوء) ، قيل: بالضم هو المصدر، وبالفتح هو الماء الذي يتوضأ به، وقيل بالعكس، مثل: (سَحور) و (سُحور) ، وبعضهم يقول: كل منهما ينوب مناب الآخر، ويقولون: الأصل في الوضوء في اللغة أنه مشتق من الوضاءة، والوضاءة: بهاء الوجه ونضرته، والأصل فيه النظافة، ولكن في الشرع هل الوضوء نظافة أم الوضوء عبادة؟ فكونه عبادة يتوقف على النية، أي: لا يصح الوضوء إلا بنية، وكونه نظافة فالنظافة لا تحتاج إلى نية، كما أن إزالة النجاسات لا تتوقف على النية، ولكن تنتهي بإزالتها.
والذي يدل على أن الوضوء عبادة قياس الفقهاء، والنص القرآني الكريم: أما قياس الفقهاء فيقولون -كما قال ابن رشد في بداية المجتهد-: هذا العمل تعبدي.
أي: لا يدرك السر ولا الحكمة في تشريعه؛ لأنه -كما يقال-: (مُوجِبُهُ في غير مُوجَبِهِ) ، وهذه قاعدة فقهية عندهم، بمعنى أن الذي أوجب الوضوء ليس داخلاً في أعضاء الوضوء، بمعنى أن الإنسان تخرج منه الريح، فيجب عليه الوضوء بسبب خروج الريح، فإذا أراد أن يتوضأ فإن مخرج الريح ليس داخلاً في أعضاء الوضوء، فلو كان معقول المعنى لكان سببه يدخل في فعله، فلما وجدنا الأمر كذلك حكمنا بأنه أمر تعبدي.
الشيء الثاني: ما جاء في الحديث النبوي الشريف مما يؤكد معنى الوضاءة ومعنى التعبد، وأن الوضوء وضاءة حساً ومعنى، أي: نظافة ظاهراً وباطناً، فقد جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (إن العبد إذا توضأ فمضمض واستنثر خرجت ذنوبه من فِيه ومن أنفه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل وجهه خرجت ذنوبه من وجهه مع الماء أو مع آخر قطر الماء ... ) إلخ، وهكذا اليدان والقدمان.
وأمور النظافة ليست لها علاقة بتكفير الذنوب.
كما أنه قد ينفرد الوضوء عن النظافة، فلو أن إنساناً دخل الحمام واتخذ كل وسائل النظافة، وعندما أراد أن يتنشف مس فرجه، فإن عليه أن يتوضأ، مع أنه في غاية ما يكون من النظافة والوضاءة حساً.
فالوضوء عبادة، وعليه فتشترط فيه النية، وكذلك الغسل، وإن كان عند الأحناف مناقشة في ذلك، حيث يشترطون النية في التيمم ولا يشترطونها في الوضوء والغسل، ويقولون في التيمم: إنه أمر تعبدي، فلا ندري الكنه ولا الغرض من كون الإنسان يعفّر وجهه ويديه بالتراب، فإذا عقلنا الحكمة في الوضوء وفي الغسل لم نعقل حكمة تعفير الوجه بالتراب، فيشترطون النية في التيمم، ولا يشترطونها في الغسل.
فالوضوء أمر تبعدي، وهو عبادة.(13/9)
كتاب الطهارة - باب الوضوء [2]
لقد أمرنا الله في محكم كتابه بالوضوء إذا قمنا إلى الصلاة، وذكر لنا أعضاء الوضوء جميعها على سبيل الإجمال، وجاءت السنة مبينة لكيفية هذا الوضوء، وما هو حده في الأعضاء، وما هو الركن منها والواجب والمسنون، وجاء حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه في صفة الوضوء جامعاً جل هذه المسائل من خلال التطبيق العملي للوضوء أمام الصحابة والتابعين.(14/1)
مشروعية الوضوء
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول المصنف رحم الله: [وعن حمران (أن عثمان دعا بوضوء، فغسل كفيه ثلاث مرات، ثم تمضمض واستنشق واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاث مرات، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات، ثم اليسرى مثل ذلك، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات، ثم اليسرى مثل ذلك، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا) .
متفق عليه] .
أصل مشروعية الوضوء الكتاب والسنة والإجماع، فجاء في الكتاب في قوله سبحانه: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] ، وهكذا جاء القرآن بالأمر بغسل هذه الأعضاء الأربعة، ولكن سنجد في صفة الوضوء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصور والكيفيات ما هو زائد عن كتاب الله، فالزائد عن كتاب الله نسميه سنة، والسنة من الوحي، كما جاء عن السيوطي أنه قال: الوحي وحيان: وحي أمرنا بكتابته، وتعبدنا بتلاوته الحرف بعشر حسنات، ووحي لم نؤمر بكتابته، ولم نتعبد بتلاوته، ألا وهو سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
واستدل بقوله سبحانه: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7] .
فما يأتينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سواءٌ في الوضوء أم في الصلاة فإنه وحي، ويجب العمل به على مراتبه، ولا يحق لأحد أياً كان أن يزيد أو أن ينقص، وليس لإنسان أن يرد سنة جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: لم نجد هذا في كتاب الله! بل كل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبتت الرواية عنه به فهو في كتاب الله، أو فهو من كتاب الله، كما جاء عن عبد الله بن مسعود أنه كان في المسجد وحدث، فمما جاء في حديثه تلك الليلة قوله: (لعن الله في كتابه الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة) ، فمرت امرأة ووقفت فسمعت هذا وذهبت، ثم جاءت ووقفت عليه في حلقته وقالت: لقد قرأت القرآن من دفته إلى دفته فلم أجد ما قلت فيه! فاحتجت عليه بالقرآن، فقال: لو كنت قرأتيه لوجدتيه، فلم ينف عنها القراءة، لكن أخبرها أنها لو قرأته بإمعان وتأملت كل ما فيه لوجدت ذلك، ثم قال لها: ألم تقرأي قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7] ؟ قالت: بلى.
قال: هذا مما أتانا به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقام الشافعي رحمه الله في مكة وقال: ايا أهل مكة! أنا من الراسخين في العلم -وهذه دعوه كبيرة والله- سلوني عمَّا شئتم أجبكم عنه من كتاب الله فقام رجل -وكما يقال: لا يفل الحديد إلا الحديد- فقال: أخبرنا عن المحرم يقتل الزنبور ماذا عليه في كتاب الله؟ -الزنبور: الدبور مثل النحلة، ويلسع أشد منها- فقال: نعم.
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر:7] ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) -فالقرآن أحاله على رسول الله والرسول أحاله على سنة الخلفاء الراشدين- ثم قال: وحدثني فلان عن فلان -وذكر السند- عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن المحرم يقتل الزنبور ماذا عليه؟ قال: لا شيء.
فلا شيء عليه في كتاب الله.
وإنما أتيت بهذه المقدمة لأن هناك أموراً تعبدية ليس لنا فيها طريق إلا ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نعم هي مراتب من الندب إلى الإيجاب، فما جاءنا لا ينبغي لعاقل مسلم أن يتردد في مشروعيته وإن اختلف الناس في مرتبته من الوجوب إلى الندب إلى الاستحباب فنبدأ هنا بهذا الحديث، ولعله أجمع الأحاديث في فروض الوضوء.(14/2)
المنهج العملي أنجح طريق في التعليم
قثال: [وعن حمران أن عثمان دعا بوضوء.
] عثمان هو: عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء ... ) ، وابن تيمية رحمه الله لما سئل عن صلاة الركعتين قبل الجمعة التي يفعلها الناس قال: ليس لها أصل من فعل رسول الله لأن بلالاً كان يؤذن والرسول يخطب حالاً فليس هناك فرصة لأدائها، والآن يؤذن المؤذن وبعد فترة قليلة يصعد الإمام على المنبر، ثم يؤذن بعد ذلك بين يدي الإمام قبل أن يخطب، وهذه الفترة القليلة يقوم الناس ليصلوا فيها ركعتين، فسئل ابن تيمية عن هذه الصلاة، فقال: ليعلم طالب العلم أنها لا أصل لها في سنة رسول الله؛ لأنه ما كان هناك وقت، ولكن طالب العلم إذا رأى العوام يعملونها، ويرى أنه إن أنكر عليهم ساءت العلاقة بينهم، ولن يعودوا يقبلون منه النصح والتوجيه، وسيقولون: هذا سيعطل السنة فإنه في نفسه لا يفعلها؛ لأنه طالب علم، ويعلم أنها لا أصل لها، وإذا رآهم التمس لهم عذراً -وهي الطريقة والحكمة والسياسة في الدعوة- من عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين صلاة) ، وفي وهذا الحديث المراد بالأذانين من باب التغليب، كالعمرين والقمرين، يعني: الأذان والإقامة، فبين كل أذان وإقامة في الصلوات الخمس صلاة مسنونة، فالأذان الثاني هو لوقت الصلاة، والأذان الأول الذي يقوم الناس بعده أذان أنشأه خليفة راشد، فأصبح له حكم المشروعية، بدليل: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) ، فاعتبره رحمه الله من تشريع الخلفاء، وعذر العامة في ذلك.
بينما بعض تلامذته حينما سئل عن هاتين الركعتين قال: لا يفعلمها إلا أجهل من حمار أهله، فانظر إلى الفرق بين الجوابين، وانظر إلى منهج الدعوة، وأنا أسمي هذا سياسة الدعوة بالرفق والتماس الأعذار للعامة.
والذي يهمنا قوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي) ، فـ عثمان رضي الله تعالى عنه ما جمع الناس وقال: أيها الناس! هلموا أعلمكم وضوء رسول الله كان إذا توضأ فعل وفعل وفعل فهذا يحتاج إلى عشرات المرات حتى يرسخ في عقول الناس، ولكن لما أراد الطريقة المثلى -وهي الطريقة العملية المشاهدة- دعا بوضوء، فقال: انظروا وتوضأ لهم على النحو الذي ساقه المؤلف، ثم قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا) .
وهكذا كان السلف يتبعون هذا المنهج العملي من سنة رسول الله، وكان بعض الصحابة يأتي إلى الحي ويقول: ألا تريدون أن أصلي لكم صلاة رسول الله؟ فيصلي لهم، وهذا أبلغ من أن يخطب فيهم عشرات المرات في كيفية صلاته؛ لأن الذاكرة -كما يقولون- تأخذ بالعين أو المشاهدة أكثر مما تأخذ بالسمع؛ لأن هذا يشترك فيه الإنسان والحيوان فسنة رسول الله التعليم العملي، فقد صعد المنبر صلى الله عليه وسلم ووقف على الدرجة الثالثة، فاستقبل القبلة وكبر، ثم قرأ الفاتحة وركع ورفع وهو على المنبر -وكان ثلاث ردجات-، ثم نزل القهقرى -وهو محافظ على استقبال القبلة- حتى وصل إلى الأرض، وتأخر حتى أوجد فرجة، وسجد في أصل المنبر السجدتين، ثم صعد المنبر وفعل في الركعة الثانية كما فعل في الأولى، ثم نزل القهقرى وسجد، ثم سلم، ثم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) .
وكذلك في الحج، فما جاء وخطب وقال: افعلوا وإنما حج وقال: (خذوا عني مناسككم) مع أنه أيضاً في الفتوى كان كلما سئل أفتى، لكن الأخذ المباشر الفعلي عنه هو الأصل.
وهكذا نجد المنهج التعليمي العملي المشاهد هو الطريقة المثلى، ولذا استن أصحابه رضوان الله تعالى عليهم به صلوات الله وسلامه عليه، فأخذوا يعلمون الناس عملياً، وهكذا انتقل الإسلام إلى الآفاق اقتداءً وتأسياً بالمسلمين التجار ليس العلماء ولا الخطباء- فما يفعلون يفعلون مثلهم.
وهكذا في هذا الحديث نجد عثمان رضي الله تعالى عنه يشرع في تعليم هؤلاء القوم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم تعليماً عملياً.
ونحن نشاهد الطفل الصغير حينما يرى أحد أبويه يصلي فإنه يأتي ويحاكيه في الفعل، فيقف ويركع ويسجد، وقد يستقبل أباه في صلاته لا يعرف القبلة من شرق أو من غرب، ولكن يحاكي، فتلك المحاكاة، فلو أردت أن تقول له: افعل كذا وكذا لا يدرك ولا يحسن، ولكن عندما يشاهدك يفعل، وهذه الطريقة فطرية.
وما دمنا بصدد هذا الأمر، فهناك حادثتان لا بأس بذكرهما: كنت أدرّس في معهد الأحساء، وجئت إلى باب صلاة الخوف، وقد كنت أثناء الدراسة عاجزاً عن فهم هذه الصور، فكيف تكون جماعة، وكيف تركع جماعة، وكيف تأتي جماعة، وكيف تذهب وكيف تجيء، وبعد التي واللتيا أدركت، فعلمت أني مهما بذلت من جهد مع الطلاب ستكون حالهم كحالي، فعمدت إلى المنهج النبوي وقلت: الرسول صلى الله عليه وسلم علّم أصحابه الصلاة على المنبر ولم يعدها مرة ثانية، فأخذت طالباً وجعلته إماماً، وأخذت بعضاً من الطلاب وجعلتهم مصلين، فكانت صورة أنها أغنتني عن تكرار الكلام وإعادته.
وأضحكني أن الإمام التفت إلي وقال: أنا أركع وأسجد وأصلي ولا أرى ماذا يفعل ورائي، فهم تعلموا وأنا ما تعلمت، فقلت: والله لك حق، فقدمت واحداً من الذين صلوا خلفه وجعلته في أحد الصفوف، وأعدنا الصلاة من أجله هو، فما رجعت إليها بعد ذلك طيلة العام الدراسي.
الحادثة الثانية: أدركت أن هذا المنهج فطري حتى عند الطيور، فلي قصة لا أدري أأسمح لنفسي أن أورد هذه القصة، أو لا أوردها، ولكن ما دام أنها في سبيل التعليم فلا بأس بذلك.
كنت آلف الدواجن، وأربي دجاجاً وأرانب في البيت، فباضت دجاجة، وتركت لها بيضها حتى أخرجت الفراريخ الصغار، وجعلت لها حجرة خاصة، فلما بدأت الفراخ تمشي صارت تدور بهم في الحجرة، وفي يوم من أيام الشتاء في ضحوة النهار إذا بالدجاجة تخرج من الغرفة، وتنزل إلى فناء الدار، وهو منخفض عن الغرفة حوالي عشرة سنتيمترات، فكانت تأتي وتقفز، وأولادها يقفزون وراءها، ثم تمشي فيمشون خلفها كما تمشي ثلة من الجنود خلف قائدها، على خط منتظم تماماً، وأخذت تدور على أرض الفناء وهم معها، ثم توسطت الفناء ووقفت، وأخذت تحرك منقارها وهم يحركون مثلها تماماً، فتحرك أرجلها ويفعلون مثلها، ثم لما أخذت الدفء من حرارة الشمس رجعت، ولما جاءت راجعة -وأنا أتابعها- أتت إلى عتبة الغرفة وضمت أرجلها وقفزت، وهي تستطيع أن ترفع رجلاً وتؤخر الأخرى، لكن فعلت هذا لأجل أن يأتي الفراخ الصغار فتفعل مثلها، فتضم أرجلها وتقفز لتدخل.
فوقفت عند عتبة الباب من الداخل تنظر إلى الفراخ كأنها تستعرضهم عند الدخول، وبقي واحد حاول أن يحاكي إخوانه أو أمه فلم يستطع، فالعتبة عالية قليلاً، فنزلت مرة أخرى وقفزت ثانية من أجله، فحاول فعجز، إذ ارتفاع الأرض مختلف مع العتبة، فذهبت إلى تلك الجهة التي الفارق فيها قليل ووقفت عندها، ووراءها هذا الفرخ، ثم ضمت رجليها وقفزت، فجاء يحاول فعجز.
وأنا خظت هذا الأمر، وكان عندي وصلة إسمنت مثل البلاطة بسمك ثلاثة سنتيمترات أو أقل، فأخذتها ووضعتها في تلك المنطقة وأصبحت مثل الدرجة، فنقص قدر ارتفاع العتبة إلى سنتيمترين، تأتي الدجاجة وتنزل وتقفز على هذه البلاطة الصغيرة وتقف قليلاً، ثم منها إلى الغرفة، فيأتي فرخها بسلامته، ويصعد بقفزتين في درجتين ويدخل، ثم تذهب به مع بقية الفراخ.
فأخبروني -بالله- بأي عقلية أو بأي منهج أو بأي صفة تعلمت هذه الأم أن تعلم أولادها كيف يخرجون؟! أليست هذه طريقة عملية مشاهدة تغني عن أي تعليم؟ فالهرة تمسك ولدها وتأخذه وتنقله، لكن الدجاجة لا تفعل ذلك.
فهذا مما زادني ثقة بضرورة اللجوء إلى طريقة التعليم العملي، وهكذا نشاهد أبناءنا الصغار حينما يقلدون الكبار في الصلاة، فيحاكي الطفل ولا يدري ما هي الصلاة، فلا يستقبل قبلة، ولا يعرف وضوءاً، ولا يعرف أي شيء.
فهذا المنهج العملي يجمع عليه جميع علماء التربية بأنه أنجح طريق إلى التعليم.(14/3)
من أحكام الوضوء(14/4)
غسل الرجلين إلى الكعبين
قال: (ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين) عندما غسل يده تيامن، وغسل القدمين أيضاً فيه تيامن، وفي الحديث: (كان صلى الله عليه وسلم يعجبه التيامن في كل شيء) ، وقد جاء الفعل في غسل اليدين والرجلين مجملاً في الكتاب، فقال تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] ، وليس فيه يمين ولا يسار، فبمقتضى عموم النص في الآية يمكن أن تبدأ باليمين أو اليسار كما تريد، لكن بمقتضى تطبيق السنة تقدم اليمنى.
وقوله: (إلى الكعبين) الكعب والتكعيب والمكعب والكعبة والكواعب مأخوذة من مادة واحدة، فالشكل المكعب ما استوى طوله وعرضه وعمقه، فالمكعب: الجرم المتكعب الناتئ الذي يستوي طوله وعرضه وعمقه، ومنه سميت الكعبة؛ لأنها توجد على هذا التكعيب وسط الخلاء، ومنه أن الفتاة إذا ند ثديها وبرز على صدرها سمي مكعباً، فهو تكعب على جرم مصفح، فكواعب على وزن فواعل (جمع فاعل) ، وهي التي ند ثديها -أو برز ثديها- وظهر للعيان.
فما هما العظمان الناتئان اللذان يصدق عليهما اسم الكعب؟ قال بعض العلماء: لو نظرت في ظهر القدم تجد أن فيه عظماً ناتئاً عند عقد شراك النعل، فكل رجل فيها كعب واحد، فتغسل إليه، ويكون غسل القدمين إلى الكعبين، ففي كل قدم كعب واحد، وهذا يذكرونه عن الأحناف.
لكن الجمهور يقولون: كل قدم فيها كعبان، وكل رجل تغسلها إلى كعبيها.
والكعبان عندهم العظمان الناتئان على جانبي القدم في المؤخرة عند التقاء الساق بالقدم، وهذا ما تشهد له السنة.
فقد جاء في الإحرام أنه إذا لم يجد المحرم نعلين يلبس الخفين، ويفعل كما قال صلى الله عليه وسلم: (وليقطعهما أسفل من الكعبين) ، وفي تسوية الصوف ومساواتها قال الراوي: يلصق أحدنا كعبه بكعب جاره فهل سيلصق الكعب الذي فوق القدم بكعب صاحبه، أم العظم الناتئ عن اليمين وعن اليسار؟ فالكعبان هل هما العظم الناتئ على ظهر القدم كما يقوله الأحناف، أم العظمان الناتئان على جانبي الساق؟ والجواب: العظمان اللذان على جانبي الساق.
والكعبان غاية داخلة في المغسول.(14/5)
غسل اليد اليسرى ثلاثاً إلى المرافق
قال: (ثم اليسرى مثل ذلك) .
أي: ثلاث مرات إلى المرفق.(14/6)
مسح الرأس
قال: (ثم مسح برأسه) لفظة (مسح) تتعدى بنفسها، فتقول مسحت الزجاج، فتتعدى كلمة (مسح) بدون زيادة حرف، فهنا الباء جاءت ودخلت على الكلمة، فيقولون: ما دام أن مادة (مسح) تتعدى بذاتها فلا حاجة إلى مجيء الحرف، فنقول: وامسحوا رءوسكم فيحصل المسح، لكن مجيء الباء يدل على وجود مادة وقع المسح بها، كأنه قال: وامسحوا بالماء رءوسكم.
بقي عندنا كيفية المسح والمقدار المجزئ في ذلك، فنجد من يقول: الباء للإلصاق، أي: لشمول وتعميم الرأس كل، وبعضهم يقول: الباء للتبعيض، نحو: اكتفيت بتمرة من كامل التمر الموجود فهل الباء هنا في الآية الكريمة: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6] للتبعيض، أم للإلصاق، أم هي لضرورة وجود ممسوح به يعلم بالرأس؟ تقول: مسحت الدهن بالرأس فنجد من يقول: الباء للتبعيض ويقول: أي جزء من الرأس مسحت أجزأك.
ونفس القضية في حلق الرأس، ونجد الآخرين يقولون: تحلق مقدار الربع، ونجد بعضهم الآخر يقول: تحلق الأغلب، فـ مالك وأحمد رحمهما الله يقولان بالأغلبية، وأبو حنفية يقول بكامل الرأس، وأبو حنفية رحمه يقول بالأكثرية، والشافعي رحمه الله يقول ببعضه.
ومن غريب نوادر الفقه ما ذكره النووي رحمه الله في المجموع، حيث يقول: وقد أغرب بعض أصحابنا فقال: لو مسح ثلاث شعرات أجزأه؛ لأنه أقل العدد وأغرب منه من قال: ولو مسح بعض شعرة أجزأه ثم يقول: وكيف يكون بعض شعرة؟ قال: إذا طلى الرأس بالحناء، وبرزت شعرة من تحت الحناء، ومسح الجزء الذي برز منها أجزأه، ثم يقول: هذا من أغرب الأقوال.
وسيأتي في باب الوضوء كيفيات مسح الرأس عنده صلى الله عليه وسلم، ففي رواية: (فأقبل بهما وأدبر) أي: بدأ بمقدم رأسه وذهب بكفيه إلى قفاه، ثم رجع إلى المكان الذي بدأ منه.
وسنجد أنه مسح بناصيته وكان عليه العمامة، فأتم على العمامة، والناصية هي مقدم الرأس، وكانت عليه صلى الله عليه وسلم العمامة، فأدخل يده تحت العمامة ومسح بالناصية، ثم أكمل المسح على العمامة.
وهناك صورة ثالثة أنه مسح على العمامة بدون الناصية، فلهذا قال الشافعية: مسح بعض الرأس يجزئ وكذلك الأحناف قالوا: مسح الأكثر يجزئ ولكن الجمهور يجيبون عن ذلك بأنه لم يقتصر على الناصية، ولكنه أكمل على العمامة.
وهنا عثمان رضي الله عنه قال حمران عنه: (ثم مسح برأسه) .
وذلك بعدما مضمض واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وغسل يديه إلى المرفقين ثلاثاً، وفي مسح الرأس لم يذكر (ثلاثاً) ، وهنا يأتي السؤال: هل المسح على الرأس يكون ثلاثاً كبقية أعضاء الوضوء، أم مرة واحدة؟ وهنا أطلق، لكن إذا وجد عندنا ما يقتضي أن المسح ثلاثاً انتقلنا إليه، وهنا لم يذكر عدداً، ولم ينس ولم يخطئ، فما دام أنه ذكر العدد في كل أعضاء الوضوء فإنا نأتي بالعدد في موضع ما جاء به، وحيث ترك العدد في موضع منه تركناه، إلا إذا جاءنا نص في حديث آخر يقول: (ثلاثاً) فننظر هذه الزيادة، وننظر فيمن زادها، فإن كان ثقة فزيادة الثقة مقبولة.
وبعض الشافعية يرى أن تثليث المسح كتثليث الأعضاء في الغسل، والجمهور على أن المسح لم يرد فيه نص صحيح صريح بأن يكون ثلاثاً، وقالوا: لا ينبغي أن يكون المسح إلا مرة واحدة.
فنحن نعلم بأن الشعر لا يغسل بالماء، فإذا كانت اليد مبلولة ومسحت الرأس ترى أثر الماء على الشعر، ولو مسحت على الثوب لا تراه، ولو جئت بالمسح مرة ثانية أو مرة ثالثة انقلب المسح إلى ما يشبه الغسل، ولهذا قالوا: المسح لا يكرر؛ لأنك لو كررت المسح أصبح في صورة الغسل، والله سبحانه وتعالى أمر في حق الرأس بالمسح وليس بالغسل.(14/7)
الاستنشاق
قال: (ثم تمضمض واستنشق واستنثر) .
قوله: (استنشق) أي: سحب الماء بأنفه بالنفس إلى الداخل، و (استنثر) أي: نثر الماء الموجود في الأنف بنفسه من أنفه.(14/8)
غسل الوجه ثلاث مرات
(ثم غسل وجهه ثلاث مرات) وبعض الناس يحاول أن يعرِّف الوجه، وكما يقولون: تعريف المعروف صعب، فيقول: ما هو الماء؟ وما هو العمود؟ ومن الذي يعرف العمود تعريفاً منطقياً جامعاً مانعاً؟ فهذا صعب جداً، لكن الشيء المجهول يمكن تعريفه من خلال صفاته.
قالوا: الوجه من المواجهة، ويقابله القفا من: (يقفو إثره) فحد الوجه: ما يرى من الغير عند مواجهته، فعندما تواجه إنساناً هل ترى قفاه؟ فالقفا ليس من الوجه، وبعض الشافعية وغيرهم قالوا: حده معلم ومعروف، فحده طولاً من منبت الشعر -يعني: ما بين نهاية الجبهة وأول الرأس ولو كان أصلع- إلى أسفل الذقن، فهذا هو حد الوجه في الطول، وفي العرض قالوا: ما بين شحمتي الأذنين، فالأذن ليس بداخلة، ولكن إلى حد أوائل الأذن هو حد الوجه عرضاً.
وبعضهم قال: حده إلى الصدغين، وهما العظمان الناتئان بين نهاية الوجه وأوائل الرأس.
وهذا قريب.
ويريد الفقهاء بهذا عدم الزيادة، فإذا كان في غسل الوجه لا يذهب يغسل رقبته من فوق ومن الخلف، والرأس، بل يغسل على حد العضو المسمى شرعاً وعرفاً.(14/9)
غسل اليد اليمنى ثلاثاً إلى المرفق
قال: (ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات) بعدما غسل الوجه ثلاث مرات بثلاث غرفات غسل يده اليمنى إلى المرفق، والقيد في المرفق ليحدد الجزء المفصول من اليد، وفي أول الوضوء غسل كفيه، والكفان من اليد، وبعض الناس يطلق اليد على الكفين فيقول: مد يدك وخذ، واليد عرفاً تطلق على العضو المعروف يميناً ويساراً من الأظافر إلى المنكب، فهذه كلها يد، ولكن أجزائها تسمى: الكف، والرسغ، والساعد، والعضد إلى المنكب.
ووجدنا الشرع في ذكر اليد تارة يطلقها عن أي قيد، فتأتي السنة وتقيد، وتارة يقيدها بقيد معين، فجاء في الوضوء قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] ، فالرسغ هو وصلة الكف بالزند، فهذا الذي يسمى الرسغ، والمرفق: هو المفصل الذي بين الزند والعضد، أو الذراع والعضد، وسمي مرفقاً لأنك تتكئ وترتفق عليه إذا طالت بك الجلسة، وفيه الرفق بالإنسان، فيساعد الإنسان على الاستراحة والاتكاء على أحد الجانبين للراحة والارتفاق في الجلوس.
وهنا قال: (إلى المرفق) فيقولون: جاءت اليد مطلقة في التيمم في قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:6] ، ولم تأت بلفظ (المرافق) ، فهل نحمل اليد المطلقة في التيمم على اليد المقيدة في الوضوء ونتيمم إلى المرفق، أم أن هذا عمل مستقل، وهذا عمل مستقل، ولا يقاس أحدهما على الآخر؟ أي: لا يحمل مطلق هذا على مقيد ذاك؟ فـ الشافعي رحمه الله حمل اليد المطلقة في التيمم على اليد المقيدة في الوضوء، وجعل التيمم إلى المرفق كما هو في الوضوء إلى المرفق، والجمهور اقتصروا في اليد على ما جاءت به السنة، فضرب بكفيه الأرض فمسح بهما كفيه ووجهه، فعرفنا أن اليد المطلقة في التيمم حدها الكفين، فهنا جاءت اليد مقيدة.
وكذلك جاءت اليد في حد السرقة وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] مطلقة وليس هناك نص في تقييدها من القرآن، فجاءت السنة وعينت، ومن هنا قالوا: السنة تقيد المطلق في الكتاب، وتخصص العام في الكتاب، وقال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] فأطلق فجاء قوله صلى الله عليه وسلم: (أحلت لنا ميتتان) ، فخصص عموم الميتة وعموم الدم بالطحال والكبد، وبالجراد والحوت.
فكذلك هنا قيدت اليد في التيمم وقطع السارق بأنها إلى الكفين.
وعلى هذا النص: (إلى المرافق) هل في غسل اليدين نغسل المرفق -وهو محل التحرك-، أو إلى حده ولا نتجاوزه؟ يقولون: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولذا قالوا في غسل الوجه: أنتم قلتم حده إلى منابت الشعر، وليس هناك حد مضبوط، ومنابت الشعر تختلف، فلكي يتأكد المتوضئ أنه استغرق كامل الوجه لا بد أن يزيد ولو بقدر يسير ليتأكد أنه استغرق حد الوجه، كما قال تعالى في الصيام: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] ، فهل -يا ترى- يأكل إلى ملتقى الخيطين، أم يترك من الليل جزءاً يتأكد به أنه لم يتعد إلى النهار؟ وكذلك عند غروب الشمس، فهل عند غروبها يأكل، أم يتأخر -ولو قليلاً- حتى يتأكد أنه استغرق النهار بكامله؟ فيقولون: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فاستغراق الصوم في النهار واجب، ولا يتأكد عندنا هذا الواجب إلا بترك جزء من أوله ولو دقيقة واحدة، وأيضاً إضافة جزء من آخره ولو دقيقة واحدة؛ لنتأكد يقيناً أننا قد صمنا النهار كاملاً، وكذلك الوجه، فلكي نتأكد يجب أن نزيد -ولو شيئاً يسيراً- عن الحد المعروف، فكذلك غسل اليد إلى المرفق.
لكن الوجه له حكم بذاته، قال تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] ، واليد هنا جزء من عضو، فلها بداية وغييت بغاية هي النهاية، فهل الغاية في الحد داخلة في المحدود أم خارجة عنه؟ هنا قال تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] ، فهل المرافق داخلة في المغسول، أم هي حد الغسل ولا تغسل؟ فهذا معنى: هل الغاية تدخل في المغيا أم تخرج عنه؟ فإذا جئنا إلى حكم اللغة وجدنا أن هناك قاعدة، وإذا جئنا إلى الناحية الشرعية لجأنا إلى فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ليبين لنا، وقد جاء النص: (أدار الماء على مرفقيه) ، فهل أدخلهما في المغسول أم لا؟ والجواب: أدخلهما.
ونأتي إلى عرف اللغة: فعندما يكون عندك بستان فيه صف نخيل، ويليه صف رمان، فإن قلت لإنسان: بعتك من صف النخيل إلى النخلة العاشرة -والصف فيه عشرون نخلة-، فهل الغاية في هذا المبيع -أي: النخلة العاشرة- من جنس المبيع، أم خارجة عنه؟ فهل اشترى منك تسعاً والعاشرة خارجة عنه، اشترى العاشرة كذلك؟ والجواب أنها داخلة.
فإذا كان عندك صف نخيل فيه عشر نخلات، وبعده صف ليمون فيه عشر شجرات، فقلت لإنسان: أبيعك هذا النخل إلى الليمونة الأولى فهل الليمونة الأولى داخلة في المبيع بكلمة (إلى) أم خارجة؟ والجواب: خارجة فالذي أخرجها هو مغايرة الجنس، فهم يقولون: إذا كانت الغاية من جنس المغيا فهي داخلة، وإذا كانت الغاية خارجة عن جنس المغيا فهي خارجة عنه، والمرفق جزء من اليد، لكن ما دام أنه وضعت حدود نجد هناك الخلاف، وجاءت السنة ورفعت هذا الخلاف.
فقوله: (ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق) الغاية هنا داخلة، فإنه يغسل المرفق، مع أن النص: (وأدار الماء على مرفقيه) .(14/10)
غسل اليدين إلى الرسغين ثلاثاً
قال: (فغسل كفيه ثلاث مرات) .
الكف: هو ما كان من أطراف الأصابع إلى الرسغ، يقولون: سميت الكف كفاً لأنها تكف الأصابع داخلها؛ لأن الأصابع تأتي منفرجة، وكف الشيء: ثناه، ويكف بها عن نفسه، أي: يدفع الغير عن نفسه، قالوا: وتكفيه في حمل الأشياء الأخرى، ومنه: كفة الميزان تحفظ الشيء وتتعادل معه.
وفي الحديث المشهور: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده) ، فهنا عثمان غسل كفيه ثلاثاً، فهل غسل الكفين للحديث: (إذا استيقظ أحدكم من نومه) ، أم غسل كفيه لأنهما جزءً من أجزاء الوضوء وذاك غسل مستقل لا دخل له بالوضوء؟ والصحيح الأخير، وهو أن غسل المستيقظ من النوم كفيه قبل أن يدخلهما في الإناء عمل مستقل لا يحسب من أعمال الوضوء، وهنا عثمان ليس مستيقظاً من نوم، فـ عثمان جاء إلى قوم وقال: ألا أتوضأ لكم وضوء رسول الله؟ فلم يكن مستيقظاً من نوم حتى يحتاج إلى غسل الكفين لاستيقاظه، فهنا غسل كفيه ثلاث مرات.(14/11)
المضمضة
قال: (ثم تمضمض) .
(ثم) للعطف وللترتيب، فالأول كان غسل الكفين قبل المضمضة، فلو قال: غسل كفيه ومضمض، فـ (الواو) لمقتضى الجمع والتشريك، لكن (ثم) تدل على الترتيب والتراخي، وهذا التراخي أمر اعتباري.
وقال هنا: (غسل كفيه ثلاثاً ثم تمضمض) ، ولم يقل: (ثلاثاً) ولكن سيأتينا في حديث علي رضي الله عنه أنه مضمض ثلاثاً، وهل يمضمض ثلاثاً بثلاث غرفات، ويستنشق ثلاثاً بثلاث غرفات، أم يتمضمض ويستنشق ثلاثاً بثلاث غرفات، أم يمضمض ثلاث مرات بغرفة واحدة ويستنشق ثلاث مرات بغرفة واحدة؟ التفصيل في الكيفية موجود في أخبار أخرى.
فحديث عثمان هو الأصل الكلي للوضوء، والتفاصيل في غيره من الأحاديث.
والمضمضة يقال: إنها تحريك الماء في الفم ثم مجه، لا أن يبلع الماء، والاستنشاق يكون بجذب الماء بالأنف، ثم نثره إلى الخارج، وفيه حديث لقيط بن صبرة: (وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) احتياطاً للصوم، حتى لا يسبق الماء إليه.
وهنا غسل الكفين عمل مستقل، ثم المضمضة والاستنشاق، ثم يلي ذلك غسل الوجه ثلاث مرات، وهل المضمضة والاستنشاق كل منهما عمل مستقل بذاته، أو أن المضمضة والاستنشاق جزء من غسل الوجه؟ فمنهم من قال: أن الفم والأنف عضوان داخلان، وهما جزء من الوجه، فالمضمضة والاستنشاق مقدمة تتمة لغسل الوجه، فيكون غسل الوجه شاملاً لهما، وهما داخلان في قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] ، ويكون من ضمن الوجه الفم والأنف، فتكون المضمضة والاستنشاق واجبان؛ لأنهما جزء من الوجه.
ومنهم من قال: الفم والأنف عضوان مستقلان، وليسا بداخلين في الوجه، ويكون الوجه على الفرضية بنص الآية، وتكون المضمضة والاستنشاق على الندب؛ لأنهما خرجا عن محيط الوجه، ولكن القول بأنهما عضو داخلي أو عضو خارجي يقال في الصوم؛ لأن الماء إذا وصل إلى داخل الجوف أبطل الصيام، والصائم يتمضمض ويستنشق، فهما عضوان خارجان بالنسبة إلى الصوم.
والآية اقتصرت على غسل الوجه، والسنة النبوية جاءت بالمضمضة والاستنشاق، فبعضهم يقول: غسلهما واجب يبطل الوضوء بتعمد تركه، وبعضهم يقول: ليس بواجب؛ لأن الواجب جاء في القرآن بغسل الوجه، وبعضهم يخالف في الوضوء وفي الغسل، ويقول: هما واجبان في الغسل مندوبان في الوضوء.
ولكن ما دامت السنة لم تنقل لنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ مرة واحدة وترك المضمضة والاستنشاق فلا ينبغي لإنسان أن يتعمد تركها.
ولذا يقول بعض العلماء: إذا كان الأنف والفم من الوجه، فلماذا لا يقدم غسل الوجه ثم يتمضمض ويستنشق؟ قالوا: لا تقديم غسل الكفين -وإن كانا مستقلين- لغرض، وتقديم المضمضة بالفم والاستنشاق بالأنف لغرض، أما الغرض في غسل الكفين فليعرف درجة حرارة الماء، أما إذا لم يعرفه وأخذه فجأة فإنه يلسعه بحرارته الزائدة، لكن الكفان يتحملان؛ لذا أول شيء لا بد أن يعرف حرارة الماء بغسل الكفين.
وأما المضمضة فلقولهم: حكم الماء الطهور أن يسلم من الأوصاف الثلاثة التي تغيره وهي الطعم واللون والرائحة، أما اللون فيعرف برؤية العين، وأما الطعم فيعرف بالمضمضة، وأما الرائحة فتعرف بالاستنشاق، فكأنه بتقديم الكفين عرف حرارة الماء، وهذا أمر مهم لصحة الإنسان، وبتقديم المضمضة والاستنشاق عرف صفات الماء أنه طهور صالح، وليس يداخله ما يسلبه الطهورية، وقد عرف اللون بالرؤية.
والله تعالى أعلم.(14/12)
الترتيب في الوضوء
قال: (ثم اليسرى مثل ذلك، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا) .
هنا مسألتان: الأولى تتمة لهذا الحديث عند غير البخاري، أو غير المتفق عليه، وبنظرة إلى سرد أعمال الوضوء في هذا الحديث يقال: هل يتعين على الإنسان أن يأتي بوضوئه كما فعل عثمان، فلا يقدم ولا يؤخر، أم له أن يقدم ويؤخر، ويغسل يديه، ثم وجهه، أو يغسل وجهه ثم يتمضمض، أو يغسل قدميه ثم يمسح رأسه، فهل الترتيب واجب في الوضوء أم غير واجب؟ إن الآية جاءت فيها الواو، والواو لا تقتضي الترتيب، والحديث جاء فيه (ثم) ، وهي على الأفضلية، وحديث (ابدءوا بما بدأ الله به) على الندب والاستحباب، وذلك لما قالوا: من أين نبدأ بالسعي؟ قال: (ابدأوا بما بدأ الله به) .
وانظر إلى فقه الأئمة وما فتح الله به عليهم، فـ الشافعي رحمه الله قال: ترتيب أعضاء الوضوء واجب في كتاب الله بدلالة الإيماء والتنبيه، وليس بدلالة النص الصريح.
قال: أول ما يفعل من الوضوء غسل الوجه، فلتكريمه ولمواجهته ولشرفه كان موضع البداية، وفيه سلاطين الحواس السمع والبصر والفم وغيره فقدم، ثم بعد الوجه غسل اليدين، ثم بعد اليدين مسح الرأس، فهل الأقرب والمشابه والمجانس لليدين الرجلان أم الرأس؟ والجواب: الرجلان، فاليدان يبطش بهما، والرجلان يسعى بهما.
فيقول: لو أن الترتيب غير واجب لأتبع المجانس بمجانسه، فيكون غسل اليدين أولاً، ثم الرجلين، ثم مسح الرأس، فلما جاء بممسوح بين مغسولين -وهذا حكم مغاير-، وأدخل أجنبياً بين متجانسين عرفنا أن موضع الرأس هنا لا يجوز تقديمه ولا تأخيره، وكذلك بقية أعضاء الوضوء، فانظر كيف أتى بها!! فهل نستقل بعقولنا أم نرجع إلى عقول العلماء؟! وجاء في رواية تتمة للحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه بشيء غفر له ما تقدم من ذنبه) ، فترتب على هذا الوضوء الكامل الإسباغ الوافي أنه إذا صلى ركعتين ليستا من الفرائض ولا من النوافل الراتبة، وكان فيهما حاضر القلب وليس مشغولاً بشيء غفر له ما تقدم من ذنبه.
ويقول ابن دقيق العيد أو غيره: ولو خطر على قلبه خاطر فدفعه فهو داخل في هذا المعنى، فالمهم أنه لا يسترسل مع تلك الخواطر.
وبالله تعالى التوفيق.(14/13)
كتاب الطهارة - باب الوضوء [3]
إن من رحمة الله عز وجل بعباده أن أرشدهم إلى مافيه الخير لهم في الدنيا والآخرة، وما يعود عليهم بالنفع والفائدة في دينهم وأبدانهم، فكان مما شرع الله لهم مسح الأذنين، والاستنثار ثلاثاً عند الاستيقاظ من النوم، وغسل اليدين قبل غمسهما في الإناء بعد الاستيقاظ من النوم.(15/1)
المسح على الرأس وأحكامه(15/2)
خلاف العلماء فيما يصدق عليه مسح الرأس
ذهبت طائفة من أهل العلم إلى أنه يمسح ولو ثلاث شعرات، والذي يقول بهذا القول الشافعي، وقد نقل عنه هذا القول الشافعية وردوه، والنووي ذكر ذلك ورده؛ لأنه فيه بعد كثير.
ومأخذ الشافعية في الاكتفاء ببعض الرأس أنهم قالوا: حرف الباء في قوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6] للتبعيض، وبعض الرأس يصدق على ثلاث شعرات.
ونحن لا نناقش من ناحية مذهبية، ولكن نريد أن نعرف كيف أخذوا هذا الرأي، حتى لا نقول: هذا تفريط منهم، فهذا المنهج لنطمئن إلى ما ينقل من الأقوال عن الأئمة رحمهم الله.
وهناك من يقول: يمسح ربع الرأس وهم الأحناف، قالوا: وتقدر الناصية بربع الرأس.
فإن قيل لهم: إذا كانت الناصية تجزئ فلماذا تمسح العمامة؟ يقولون: يجمع بين أقل ما يجزئ وأكمل ما ينبغي، فأقل ما يجزئ الربع، والتعميم على العمامة للتعميم والشمول.
وهذه هي وجهة نظر الأحناف.
أما الحنابلة والمالكية فقالوا بالتعميم، وقالوا: إذا كان المسح مجملاً في الآية، والباء مجملة أيضاً -لأن لها عدة معانٍ كالابتداء والإلصاق وغير ذلك- فإن السنة المبينة لم تنقل لنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اكتفى بالربع أو بالثلث، بل أقبل بهما وأدبر.
فقيل لهم: هذا للكمال، وهذا متفق عليه، فماذا تقولون في المسح على الناصية؟ قالوا: مسح على الناصية، ولا يجزئ الربع لأنه أتم الواجب على العمامة، وأنتم تقولون: يكتفى بالناصية؛ لأنها أقل ما يجزئ، والمسح على العمامة تكملة للأفضل! مثل الذي يتوضأ فيغسل مرة مرة، والآخر يتوضأ فيغسل ثلاثاً ثلاثاً، فهذا أقل ما يجزئ، وذاك أفضل ما يعمل.
ونحن نريد من هذا ناحية منهجية فقط، وهي تحقيق المسألة، والخلاف موجود من قبل، ولا نستطيع أن نرفعه، لكن عندما نمر على هذا الفعل ما الذي تطمئن إليه النفس في هذه المسألة، هل مسح ثلاث شعرات، أم ربع الرأس، أم الإقبال والإدبار بالكفين؟ لاشك أنه الإقبال والإدبار باليدين؛ حيث إنه ليس في ذلك شك ولا تساؤل، فإن كان الربع يجزئ فالحمد لله، فالإقبال بهما فيه الربع وزيادة، ويكون الإنسان على طمأنينة بأنه نفذ صورة ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم، ويكون مطمئنا إلى أقصى حد.
وأما المسح على العمامة فإنهم يقولون: يشترط في العمامة التي يجوز المسح عليها -سواءٌ مع الناصية أو دونها- أن تكون عمامة محنكة، والمحنكة يكون لها طرف في اللفافة، والطرف الآخر يأتي من تحت الحنك إلى فوق الرأس، فتكون هذه محكمة، ويشق على صاحبها أن ينقضها، فقالوا: لوجود المشقة جاز المسح عليها، حتى إن بعض الناس قال: لو كان من عادة بعض البلاد أن النسوة يتعممن لجاز لهن أن يمسحن على العمامة، فبعض النسوة تتعمم بعمامة من نوع خمارها، فليست العمامة خاصة بالرجال، كما أن المسح على الخفين ليس خاصا بالرجال، وليس مقصوراً على الشتاء والبرد وغيره، وإنما على مشقة اللبس والنزع.
والمسح على العمامة من حيث هو له مبحث مستقل في باب المسح على الخفين، ولكن ذكرناه لمناسبة قوله: (وأتم على العمامة) ، فالعمامة التي يمكن أن يتم عليها هي المحنكة التي يشق على صاحبها نزعها ولبسها، وهناك بعض العمائم مثل (الطربوش) تنزع وتطرح، وتكون العمامة مربوطة على طاقية، فلا كلفة في نزعها، فهي ملفوفة جاهزة، فمثل هذه لا مشقة فيها، فالعمائم التي يتمم عليها المسح مع الناصية أو التي يقتصر على مسحها فقط هي التي يكون فيها نوع من المشقة عند حبكها على الرأس.(15/3)
عدد مرات المسح وكيفيته
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن علي رضي الله عنه في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ومسح برأسه واحدة) أخرجه أبو داود، وأخرجه الترمذي والنسائي بإسناد صحيح، بل قال الترمذي: إنه أصح شيء في الباب] .
في حديث عثمان رضي الله تعالى عنه قال: (ثم مسح برأسه) ، ولم يبين لنا العدد، فهل يكرر المسح ثلاثاً كبقية الأعضاء المغسولة أم لا؟ فـ الشافعي يرى أن مجمل كلام عثمان في مسح الرأس يحمل على بقية الأعضاء، ولكن الجمهور يقولون بمسحة واحدة؛ لأن المسح لا يتشرب معه الرأس الماء، فإذا مسحناه أكثر من مرة فسيكون كأننا غسلناه، ولهذا قال العلماء: لا يتكرر.
فجاء المؤلف رحمه الله بحديث علي رضي الله عنه، وفيه النص على أنه مسح مرة واحدة، فنحمل ما سكت عنه عثمان رضي الله تعالى عنه على النص الوارد هنا على أن المسح مرة واحدة.
قال: [وعن عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنهما -في صفة الوضوء- قال: (ومسح رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسه فأقبل بيديه وأدبر) متفق عليه] .
هذا الحديث يماثل حديث عثمان رضي الله عنه في بيان كيفية وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وبعض العلماء يجعله الأصل بدلاً من حديث عثمان، ويبني عليه كل النصوص التي تأتي في باب الوضوء، فحديثي عثمان وعبد الله بن زيد كلاهما مستوف ومكتمل.
فمما ذكره حديث عبد الله بن زيد بيان كيفية مسح الرأس، وقد أتى المؤلف بحديث علي في بيان مسح الرأس؛ لأن عثمان أجمله، ولم يبين العدد، ولا الكيفية والهيئة، فاضطر المؤلف أن يأتي بنصوص أخرى ليبين لنا كيف يكون مسح الرأس، أما من حيث العدد فأخذا من حديث علي أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح مرة واحدة، وهذه المرة كيفيتها يبينها حديث عبد الله بن زيد.
فقال: [وعن عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنهما -في صفة الوضوء- قال: (ومسح رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسه فأقبل بيديه وأدبر) متفق عليه، وفي لفظ لهما: (بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه) ] .
فقوله: (بدأ بمقدم رأسه) مقدمة الرأس هي الناصية، وجاء في بعض الآثار: (مفرداً أو مفرقاً أصابعه) .
وقوله: (ثم ذهب بهما إلى قفاه) أي: اليدين ذهب بهما إلى قفاه، والقفا ليس من الرأس، ونحن قلنا: الغاية إذا كانت من غير المغيَّا فليست بداخلة، فلا تذهب إلى القفا وتقول: هذا داخل في المسح.
وإنما تمسح إلى أواخر الرأس؛ لأنه يريد أن يبين لنا استيعاب الرأس، فقال: (بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه) ، وتكون السبابة على منتهى منابت الشعر من القفا.
قال: (ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه) ، وهذه بإجماع المسلمين أكمل صورة في مسح الرأس في الوضوء.(15/4)
مسح الأذنين وحكمته
قال: [وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه -في صفة الوضوء- قال: (ثم مسح برأسه، وأدخل إصبعيه السباحتين في أذنيه، ومسح بإبهامه ظاهر أذنيه) أخرجه أبو داود والنسائي، وصححه ابن خزيمة] .
وهذه المسائل زائدة على ما جاء في صفة وضوء عثمان رضي الله تعالى عنه؛ لأن عثمان رضي الله تعالى عنه لم يذكر لنا في الأذنين شيئاً، وستأتي نصوص أخرى تبين الماء الذي تمسح به الأذن هل هو ماء مسح الرأس، أم يأخذ ماءً جديداً؟ ويهمنا الآن في الكيفية، حيث قال: (أدخل أصبعيه السباحتين) ، وهما الأصبعان اللتان تليان الإبهام، وتسمى الواحدة منهما: السباحة والسبابة، والتي تليها تسمى الوسطى، وبعدها الخنصر والبنصر.
قوله: (أدخل أصبعيه السباحتين في أذنيه) بعض علماء البلاغة يقولون: هنا المجاز اللغوي علاقته الكلية، فذكر الكل وأراد الجزء، بعكس العلاقة الجزئية، فإنه يذكر الجزء ويريد به الكل، مثل قولك: أرسل الأمير عيناً له، وكأن تذكر جزءاً من الإنسان وتريد كله، لكن العلاقة الجزئية يشترط فيها أن تكون هي المقصودة بالكل؛ لأن الذي يرسل إنسانا ليتجسس على الناس لا يتجسس برجله ولا بفمه، ولكن يتجسس بعينه.
وهنا لم يدخل السباحة كلها، وإنما طرف الأنملة منها، فهنا لم يقل: أدخل طرف السباحة.
بل قال: (السباحة) ، وهذه مناقشة لغوية، فأدخلهما بقدر ما يسعهما من تجويف الأذن الخارجي، فالأذن ثلاثة أقسام: القسم الخارجي، والأوسط، والطبلة.
ويقولون: كل عضو نافذ إلى الجسم له صمام، فالفم له الشفتان، والعينان لهما الرموش تحميهما من التراب والأذى، والشفتان يغلق بهما الفم فلا يدخل إليه شيء من الأوساخ، أما الأذن فإنها مفتوحة، فعندما ينام وهي مفتوحة فالذباب يمشي، والحشرات تمشي، فما هو الذي يمنع هذه الموذيات من الدخول إلى الأذن؟! فإن الله جعل الأذن تفرز مادة شديدة المرارة لا تقوى حشرة أن تقرب منها، فأحيانا هذه المادة قد تزيد، وقد ينزل منها بعض الشيء، أو لأن الأذن جوفية يأتي الغبار فيعلق في هذا التجويف، فكلما توضأ ومسح لا تبقى رواسب تعمل عفونة أو مرضا، أو أي شيء آخر يؤذي الأذن، ولا شك أنها تنظف دائماً، فلذلك أقل الناس الذين يصابون بأمراض الأذن هم المسلمون.
وسيأتي نص بأنه أدار إبهامه خلف الأذن، وإذا كنا قد علمنا أن تنظيف السبابة للأذن يكون من الأوساخ، فما هي العلة في مسح خلف الأذن؟ إن صلة الأذن بالرأس تجعلها أشد إفرازاً للعرق، وأشد حساسية، فلو جلست بعرقها وبالمادة الدهنية التي تفرزها ربما التهب الجلد وتآكل وانفصلت الأذن عن الرأس، فكلما توضأ ومسح بالسباحة المادة الدهنية، وجعل الإبهام تمر على الأذن الخارجي بقيت سليمة معافاة، ونحن لا نعلل للسنة، ولكن نقول: هذا من فضل الله علينا، ومن حكمة التشريع في مسحها.
والحكمة من أن الفم والعينان عليهما غطاء والأذن ليس عليها غطاء هي أن الإنسان -كما قالوا- إذا نام، ومر إنسان بجواره لا يراه، وأراد أن يناديه أو يوقظه، فإنه يحتاج إلى أن يذهب إلى جواره ويلمسه بيده حتى يفتح الغطاء ويسمع منه، فعندما يكون نائما، وكل الحواس والأعصاب نائمة، وباب السمع مفتوح بلا غطاء يصل إليه الصوت من بعيد، ويأتيه من جميع الجهات الأربع فيسمع ويستيقظ، ونحن نجد أجهزة (الرادار) يصنع لها مظلة حتى تصطاد الصوت.(15/5)
ما يفعله المستيقظ من نومه(15/6)
غسل اليدين قبل غمسهما في الإناء
قال: [وعنه (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا؛ فإنه لا يدري أين باتت يده) متفق عليه، وهذا لفظ مسلم] .
هذا الحديث -كما يقول بعض العلماء- تكلم فيه بعض الناس، أولئك الذين يحشرون العقل في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما لا يدركون الحكمة منه.
قال: (إذا استيقظ أحدكم من نومه) ، والليل صالح للاستيقاظ والنهار صالح للاستيقاظ، فهل كلما نام الإنسان واستيقظ يغسل يديه؟ إن القرينة هنا هي قوله: (فإنه لا يدري أين باتت يده) ، والبيتوتة تكون ليلاً.
فقوله: (إذا استيقظ) عام مطلق لكل من ينام ويستيقظ، ولكن في آخر الحديث ما يحدد نوعية النوم.
ونظير هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (الجار أحق بالشفعة، فإذا ضربت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) ، وهناك من قال: الجار بمعنى المجاور، ولكن آخر الحديث: (فإذا ضربت الحدود، وصرفت الطرق) بين أنها تكون بين الشركاء؛ لأن الجيران عندهم حدودهم وطرقهم من قبل.
فلابد أن يؤخذ الحديث بمجموعه ولا يغفل فيه لفظ واحد، فلفظتي (فضربت) و (صرفت) بينتا لنا أن كلمة الجار التي هي حقيقة في المجاورة ومجاز في الشريك يراد بها الشريك.
وعلى هذا فالحديث فيه قرينه تبين نوعية النوم الذي إذا استيقظ منه لا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها، وهي كلمة (باتت يده) .
وقد يقول قائل: لماذا يغسلها؟ فيقولون -والله تعالى أعلم، وهذا من باب الموعظة- إن رجلاً سمع هذا الحديث وقال: عجيب! كيف لا أعلم أين باتت يدي! واحدة تحت جنبي والأخرى فوق الجنب الآخر، فابتلاه الله أن جعله يستيقظ ويده في مكان يستقذره.
وبعض الناس يقول: الحديث هنا معلل وظاهر العلة، فيقولون: إن الحديث قيل في المدينة وهي حجازية، والحجاز حارة، وكانوا يستجمرون ولا يستنجون، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء إلى أهل قباء حين نزلت فيهم الآية: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108] وقال: (إن الله أثنى عليكم، فماذا تفعلون؟ قالوا: نتبع الحجارة بالماء) ، فما كان كل الناس يتبعون الحجارة الماء، بل يكتفون بالحجارة، فيقول بعض الناس: إن الإنسان إذا نام لا يدري أين تطيش يده، فلربما وصلت يده إلى ذلك المكان، وربما عرق، فالحجارة لا تنقي، فمن هنا يغسل يده.
ولكن الجمهور يقولون: لو أنه بات ويده مغطاة بالكفوف واستيقظ من نومه فبمقتضى هذا الحديث لا يغمسها في الإناء حتى يغسلها.
وهنا تنتج من الفقهاء أقوال هندسية تصيب وتخطئ.
فإذا كان سيتوضأ من الصنبور فإنه لا يحتاج إلى أن يغمسها، وإن كان الإناء صغيراً فسيكفئه ويتوضأ، ولكن إذا كان الإناء كبيراً وليس عنده ما نعترف به ولا يستطيع أن يميله فماذا يفعل؟ فبعض الفقهاء يقول: يأخذ الماء بفيه ويغسل يديه وبعضهم يقول: يأخذ من ثيابه ويغمسه في الماء، ثم يعصره على يده.
فغسل اليدين للمستيقظ من نومه مستقل بذاته، فإذا استيقظ من النوم وأراد أن يتوضأ، فالحديث يقول: (فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً) .
مسألة: هل غسل اليدين ثلاثاً لغمسها في الإناء يجزئ عن غسل الكفين في الوضوء، كما لو أراد أن يتوضأ للظهر أو العصر، أم لابد من غسل اليدين مرة لغمسها في الإناء ومرة للوضوء؟ فهذا حكم وذاك حكم.
فلو قمت من نومك وأردت غسلهما تحت الصنبور فإنك تغسلهما ست مرات، ثلاثاً لاستيقاظك من النوم، وثلاثاً للوضوء، وهذا مقتضى نص هذا الحديث.
والذين يقولون: إنها مسألة معللة.
نقول لهم: لا دخل للتعليل في هذا، وكلما أخذ الإنسان السنة على عمومها واطمأنت نفسه إلى مقتضاها دون أن يدخل العقل فيها كلما كان ذلك أسلم له وأطيب للخاطر.
والله تعالى أعلم.(15/7)
الاستنثار ثلاثاً
قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليستنثر ثلاثا؛ فإن الشيطان يبيت على خيشومه) متفق عليه] .
هناك في حديث عثمان رضي الله عنه قال: (تمضمض واستنشق واستنثر) ، ولم يقل (ثلاثا) ، وهنا يأتي المؤلف رحمه الله تعالى بهذا الحديث ليبين أمرين: الأمر الأول: أن المضمضة والاستنشاق ثلاث مرات.
الثاني: عند الاستيقاظ من النوم يستنثر ويستنشق ثلاثاً، وذلك لأن الشيطان يبيت على الخيشوم داخل الأنف، والشيطان اختار هذا المحل لأنه مفتوح.
وبعض العلماء يقول: لأنه موضع المخاط والقذارة، فالشيطان يتتبع هذه الأشياء، وسيأتي نص أنه يبول في أذن النائم الذي ينام عن صلاة الصبح، وهل أحد يحس بثقل الشيطان في خيشومه؟ وما هي ماهية الشيطان؟ هل هو خشب، أم حديد، أم دم ولحم فالله أعلم به، والأصل فيهم أنهم عالم نيراني، ولكن الله أمكنهم أن يتكيفوا بما لا نراه نحن، قال تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] ، وكم ذكر أن من مؤمنيهم وصالحيهم من يتلقون العلم مع الناس، ويجلسون في حلق الدروس، ولا يعلم الناس بهم ولا يشعرون بهم، وقد يتشكلون بشكل ما حيوان أو إنسان.
وفي السنة في حديث أبي هريرة أنه أتي بمال الزكاة، وقام عليه أبو هريرة حارسا، فإذا بشخص يأتي خلسة ويسرق من الطعام، فيمسكه، فيتعذر عليه بالفقر والعيال، فتركه لوجه الله، وفي اليوم الثاني جاء فإذا به أيضا يعتذر بنفس العذر، فسأله صلى الله عليه وسلم: (ماذا فعل أسيرك البارحة؟ قال: اعتذر وشكى لي العيال، قال: سيعود فعاد في الليلة الثالثة فأمسكه أبو هريرة وقال له: لأسلمنك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لا تفعل، وأعاهدك أني لن أعود، وأعلمك آية إذا قرأتها عند نومك لا يقربك شيطان، وأخبره أنها آية الكرسي، فتركه وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما فعل أسيرك البارحة؟ قال: عاد، ولكن عاهدني وعلمني كذا، قال: صدقك وهو كذوب) ، فهو صدق حين أخبره بأن من قرأ آية الكرسي لا يقربه شيطان، وهو كذوب لأنه ثلاث ليال يقول له: (لن أعود) ، ولكنه عاد، فجاء في شكل إنسان إلى أبي هريرة.
وفي حفر الخندق رجع رجل من الأنصار إلى بيته فووجد زوجه على الباب -وهو حديث عهد بعرس- فأراد أن يضربها بسيفه، فقالت: تعال وانظر إلى فراشك! فدخل فإذا حية ممددة على طول السرير، فالتقطها برمحه ثم ركز الرمح وسط البيت، فانتفضت عليه، فتقول الزوجة: فوالله لا أدري أيهما أسبق موتا.
فلما أخبر صلى الله عليه وسلم قال: (أصابه ولم يسم، فانتقم له أصحابه.
إلخ) .
وجاء في الحديث الآخر: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) ، ويوجد تحت كل شعرة عِرق يغذيها، ويقال: لو أن أوردة الإنسان وأوعيته الدموية أخذت على ما هي عليه ووصلت لدارت حول الكرة الأرضية، فهناك أوردة وعروق دقيقة جدا فالشيطان يمر فيها، قال صلى الله عليه وسلم: (فضيقوا مجاريه) .
فإذا كان يجري -وليس يمشي فقط- فلا غرابة أن يبيت على خيشومك.
فنحن نستريح بقراءة هذه الآية، وكفانا خبر السيد المصدوق صلى الله عليه وسلم، ولكن بين لنا صلى الله عليه وسلم أن الإنسان النائم ما عليه تكليف، فاتركه ينام، فإذا استيقظ واستنثر بالماء أخرج عنه الشيطان وآثاره في خيشومه.(15/8)
كتاب الطهارة - باب الوضوء [4]
لقد حث رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام على ما يرفع الدرجات ويزيد في الأجر، فكان مما أرشد إليه إسباغ الوضوء وتخليل الأصابع واللحية، والمبالغة في الاستنشاق، وهذه الأفعال من أسباب كمال الوضوء وحسن النظافة وزيادة الأجر.(16/1)
أحكام متعلقة بالوضوء(16/2)
إسباغ الوضوء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين سيدنا ونبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن لقيط بن صبرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) أخرجه الأربعة، وصححه ابن خزيمة] .
وقوله: [وعن لقيط بن صبرة] يقال: (صبُرة) بالضم، وقيل: (صبِرة) بالكسر.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أسبغ الوضوء، وخلل الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً) هذا الحديث في جملته من أهم أحاديث الوضوء؛ لما فيه من الحث على إسباغ الوضوء، والإسباغ: التعميم، كما قال تعالى: {أَنْ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ:11] أي: دروعاً سابغات تغطي مواطن الخطر على الإنسان عند القتال، ولما سئل صلى الله عليه وسلم عن صلاة المرأة: (أتصلي المرأة في درع وخمار يا رسول الله؟ قال: نعم، إذا كان الدرع سابغاً يغطي ظهور القدمين) وإسباغ الوضوء: هو تعميم العضو بالماء، حتى لا يبقى فيه جزء لم يمسه الماء.
وجاء في المقابل في غزوة تبوك أنه صلى الله عليه وسلم نظر إليهم وهم يتوضأون سراعاً، فرأى في عقب واحد منهم لمعة -أي: لم يصلها الماء-، فقال: (أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار) والأعقاب: جمع عقب، وهو مؤخر القدم.
فعرفنا أن الإسباغ هو التعميم، ومن هنا قالوا -كما تشدد في ذلك المالكية- تدليك الأعضاء شرط في الوضوء، وقال آخرون: إن التدليك ليس شرطاً، وإنما هو عامل تأكيد لوصول الماء إلى البشرة كلها، وجاءت السنة مبينة بأن يتوضأ الشخص ثلاثاً؛ فتثليث الغسل فيما عدا الرأس مظنة تعميم الماء على الأعضاء، أو تحقيق لإسباغ الوضوء.
فهذا الحديث نص صريح: (أسبغوا الوضوء) ، ومن هنا يقولون: من اطلع على لمعة في عضو من أعضاء الوضوء بعد أن صلى بهذا الوضوء عليه أن يعيد الصلاة؛ لأن وضوءه ناقص، والوضوء شرط في صحة الصلاة، ولهذا كانت أهمية هذا الحديث، وكان على الإنسان إذا أخذ يتوضأ أن يتمهل ويدلك، ويتأكد من وصول الماء إلى جميع أجزاء كل عضو من أعضاء الوضوء.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (أسبغ الوضوء) في هذا استعمال اللغة المعنى المحسوس للمعنى المعنوي، فأصل الإسباغ للمحسوسات من الثوب والدرع ونحوه، فنقل إلى الوضوء؛ لأن الوضوء أمر حادث بعد إيجاد اللغة ووضعها.(16/3)
تخليل الأصابع في الوضوء
قال صلى الله عليه وسلم: (وخلل بين الأصابع) هذا مناسب لما قبله؛ لأن من عملية إسباغ الوضوء أن تخلل بين أصابع اليدين والرجلين؛ لأن العادة أن الأصابع قد تنطبق على بعضها -لا سيما أصابع القدمين-، فتكون فرصة دخول الماء بين الأصابع قليلة، والتخليل مأخوذ أيضاً من معنى محسوس، وهو عود الخلال، وكان الناس سابقاً -خاصة من لم توجد في أرضهم أعواد الأراك لاستعمال السواك بكثرة- كانوا يستعملون أعواد الخلال، وهو نبات ينبت أحيانا مع القمح، وهو عبارة عن أعواد كأعواد الكبريت، وهي أدق منها، ولها ثمرة البذور في أطرافها يداوى بها الكلى والحالب ونحو ذلك، وتلك الأعواد ملساء ودقيقة مثل إبرة الخياطة، فكانوا يدخلونها خلال الأسنان في تلك الفجوات لتنظف الفم وتقوم مقام السواك، وكانوا يختارونها دون غيرها لكونها ملساء، ولدقتها ورائحتها، فكانت تعطر الفم مع النظافة.
فتخليل الأصابع إدخال الأصبع بين الأصبعين، مأخوذ من تخليل الأسنان، فالتخليل والخلة أخذا منها، فلم يبق بين الأسنان ما يسع مع عود الخلال عوداً آخر، وكذلك تخليل الأصابع، فإذا أدخلت الأصبع بين الأصبعين لم يترك مجالاً لأصبع آخر؛ لأن الأصبع وصل إلى الفجوات بين الأصبعين.
ومن هنا قيل: الخليل: هو الصديق الوحيد للذي اتخذه خليلاً وحيداً لنفسه؛ لأن الخلة لا تسمح لصداقة غيره معه، كما أن عود التخليل بين الأسنان لا يسمح لعود آخر معه، ومنه الحديث: (لو كنت متخذاً خليلاً من أهل الأرض لاتخذت أبا بكر، ولكن الله اتخذني خليلاً) ، والأنبياء كثر، وسيدهم وخاتمهم نبينا صلى الله عليه وسلم، ولكن لما جاءت الخلة لإبراهيم لم يكن هناك خليل آخر لخليل آخر، وهكذا العادة بين البشر، فإذا اتخذ الإنسان خليلا لم يبق في قلبه مكان لخليل آخر، إنما هو واحد فقط.
والتنبيه على التخليل على ما بين الأصابع مع إسباغ الوضوء هو لأن نعومة الأصابع -وهي تلك المناطق اللينة- ربما يتراكم فيها شيء من العرق، أو ما يخرج من الجسم، أو الدهون، خاصة أصابع القدمين، وإذا تراكم شيء من ذلك كانت فيه مضرة على الجسم بسد المسام في هذه المناطق، فكان من فطرة الإسلام ومن عناية النبي صلى الله عليه وسلم أن ينبه على تلك الأماكن، وأن يؤكد على أن نظافتها جزءٌ من الوضوء، وإسباغٌ وتكميل للوضوء.
وذكر الفقهاء في كيفية التخليل صوراً هندسية الله أعلم بها.
قالوا: يجب أن يكون تخليل أصابع القدمين بخنصر اليد اليسرى لا باليمنى، أما أصابع اليدين فكيفما كان، ولو أن يدخل الأصابع بعضها في بعض، وسواءٌ أكان ببطن الكف أم بظاهره، فعلى أي صورة كانت فقد حصل التخليل، إلا أنه في القدمين الغالب والعادة -خاصة لمن يلبس الحذاء الساتر للقدم، أو الشراب- أن يكون بين أصابع القدمين روائح، فقالوا: نظافة القذارة أو ما يعلق في الجسم مختص باليد اليسرى، وأما ما عدا ذلك فهو لليد اليمنى، ولهذا قالوا: يكون تخليل أصابع القدمين باليد اليسرى، وبالخنصر؛ لأنه أرفع الأصابع وأدقها، وأيسر أن يمر وأن يخلل بين أصابع القدمين لتقاربها وتناسقها.(16/4)
المبالغة في الاستنشاق عند الوضوء
قال صلى الله عليه وسلم: (وبالغ في الاستنشاق) .
يضيف صلى الله عليه وسلم ما يتعلق بمدخل من مداخل الجسم، وهو الاستنشاق، وضابطه: جذب الماء بالأنف إلى داخله، والاستنثار:هو إخراج الماء من الأنف بعد استنشاقه، أي: بالغ في نظافة الأنف.
ومعلوم عند الناس أن الله سبحانه جعل الأنف طريقاً للهواء، ويقولون: التنفس الصحي السليم أن يتنفس الإنسان بأنفه لا بفمه، والفرق بين التنفس بالأنف وبين التنفس بالفم واضح عملياً؛ لأن المتنفس بفمه يأتي بالهواء من الخارج عن طريق الفم إلى الرئة مباشرة، فإن كان في الحر فهو حاراً، وإن كان في البرد فهو بارداً، وإن كان الجو فيه غبار فهو هواء بغباره، ولكن الأنف نجد أنه مفتوح، وليس له مغلاق كالشفتين على الفم، فالهواء داخل وخارج على مر الوقت، فجعل الله سبحانه -من حكمته- في مداخل الأنف شعيرات، وهي عبارة عن مصفاة أولية لرد الأجرام المحسوسة، ووراء الشعيرات المادة المخاطية ترد ما تجاور منها ولو كان ضئيلاً فيلصق بتلك المادة، وما تعدى تلك المادة يأتي إلى الخياشيم، والخياشيم لا تسمح لشيء يدخل إلا الهواء الصافي فقط.
ومن مهمة تلك المادة وتلك الشعيرات والخياشيم تكييف الهواء، فإذا كان الهواء حاراً شديداً فإنه حين يمر بتلك المناطق يتكيف بالبرودة بما يلائم داخل الصدر، وإذا كان الهواء بارداً شديداً مشبعاً بالرطوبة والبرودة فعندما يمر بتلك المناطق فإنه يتكيف بالحرارة التي تناسب الرئة.
ومن هنا -ومن حكمة الله- لما كان طريق الهواء -وهو الأنف- طريقاً مفتوحاً وفيه تلك العمليات من التصفية والتنقية والتكييف كان لابد من العناية به في نظافته؛ لأننا إذا لم ننظف الشعر والمادة والخياشيم انسدت تلك المسام، أو تعطلت فائدتها، وأصبح الهواء يمر ولا يرده شيء.
فعلى هذا كانت عناية الإسلام بهذا المدخل الوحيد للهواء أشد ما تكون.
ويقابل ذلك العناية بالمدخل للطعام والشراب ألا وهو الفم فأمر صلى الله عليه وسلم بإسباغ المضمضة، بل وشرع السواك، وقال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) ، ونحن ننبه على محاسن الإسلام وشموله، ونقول:إن العالم الغربي كلما أمعن في الحضارة، وكلما ترقى في المدنية فإنه يعتدل المسار به إلى الإسلام.
أنا لنسمع بالأسبوع الصحي، والعناية بالفم لأنه مدخل الطعام إلى الجسم، ومظهر صحة الفم مظهر من صحة الجسم وهذا بعد أربعة عشر قرناً، والرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه يُعنى بذلك من أوائل البعثة، ويجعله جزءاً في الوضوء، ومع كل وضوء، والإنسان يتوضأ خمس مرات أو أكثر في اليوم والليلة.
فعناية الإسلام بما انتبه إليه الغرب اليوم دليل شاهد قوي على قدم وسبق وسمو حضارتنا الإسلامية على ما توصل إليه الغرب بعد عشرات القرون، وعلى هذا يكون الحديث علما من أعلام السنة النبوية، فمن المعجزات كون النبي صلى الله عليه وسلم يرشد إلى هذه الجزئية الدقيقة في جسم الإنسان من باب الطب الوقائي قبل أن يقع شيء من الأمراض بسبب الإهمال.
ونجد هنا -من الناحية الأصولية- الاحتراز في قوله صلى الله عليه وسلم: (وبالغ في الاستشناق إلا أن تكون صائماً) ، والمبالغة زيادة عن الحد المعتدل، كما يقولون: الفضيلة وسط بين طرفين، فما نقص عن الوسط كان تقصيراً، وما زاد عنه كان مبالغة.
وهنا يحث صلى الله عليه وسلم على المبالغة، مع أنه لم يحث على المبالغة في أي عمل من الأعمال، وجعل غسل الوجه ثلاثاً، فليس هذا مبالغة بل هو تكرار، ويمكن أن يكون الاستنشاق ثلاثاً دون مبالغة، والمبالغة هنا: أن يحاول أن يدخل الماء إلى داخل الأنف ليستقصي نظافته، ولكن نجد الاحتراز، كما قيل: لكل مقام مقال، والفتوى والعمل يجب أن تراعى فيهما أحوال الإنسان، فقوله: (وبالغ في الاستنشاق) لأن هذا أدعى إلى النظافة أو استكمال الوضوء، كما أنه جاء أن الشيطان يبيت على خيشومه.
وقوله: (إلا أن تكون صائماً) ، أي: إن كنت صائماً لا تبالغ، ويكفيك الحد المعتدل بأن تستنشق الماء بسهولة بدون مبالغة؛ لئلا يصل الماء إلى درجة لا تستطيع معها أن تتحكم فيه، فيسبقك إلى الداخل وأنت صائم ممنوع من إدخال شيء إلى جوفك.
فالمبالغة مع الصوم تؤدي إلى إبطال ما هو أعم وأفضل وألزم.
وهذا الحديث أصل من أصول سد الذريعة، وهو أن تترك فعل الشيء الجائز مخافة أن تقع في فعل الشيء الذي ليس بجائز، أو تتسبب في حصول شيء أكثر ضرراً من ذلك، كما جاء في الحديث أيضا: (من الكبائر أن يسب الرجل أباه، قالوا: يا رسول الله! وهل يسب الرجل أباه؟! قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب الرجل أباه) ، فسبك لأبي غيرك ذريعة لأن يسب أباك، فتكون كأنك سببت أباك.
وجاء أيضاً في القرآن الكريم: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] أي: تكونون أنتم من سلطهم على سب الله عز وجل بسبكم لآلهتهم، وأنتم غير مكلفين بهذا، ولكن تمنعونهم وتنصحونهم، ولا تسبوا آلهتهم فتأخذهم الغيرة والحماس مما يجعلهم يسبون الله أيضاً.
وهذا الحديث أصل من أصول سد الذرائع في أصول الفقه، وهذا الذي ينبغي على الإنسان أن يراعيه ولهذا قال العلماء فيما يتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: إذا وجدت إنساناً على منكر، أو علمت بمنكر في مكان فتحمست وقلت: يجب تغيير المنكر، ثم غفلت عما يجب مراعاته في قواعد الأمر والنهي، فاقتحمت البيت بغير إذن - وليس لك حق في هذا؛ لقوله تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27] ، وجئته بشدة وحماس وقلت له: يا جاهل يا فاعل فعند ذلك ينتصر لنفسه ولو بالكذب، فيدخل حظ النفس هنا، فبدل أن كنت تريد نصحه لله في إنكار المنكر سمعت سبه لك فأردت أن ترد عن نفسك، فأصبحت القضية شخصية، وبعدت عن الأمر والنهي لله.
وقال العلماء في هذا المعنى: على الآمر أو الناهي أن ينظر في نتيجة ما يأمر به أو ينهى عنه، فهل ستمنع هذا المنكر الموجود الذي يُنهى عنه، أو سيأتي بالفعل المأمور المراد فعله بأمرك إياه؟ أو أن من تنهاه سيأتي ويعتبر ذلك إهانة له؟ وخاصة إذا كانت أمام الناس، فتعتبر فضيحة وينتصر لنفسه، فيأتي بمنكر أكبر مما هو عليه، فيكون نصف من المنكر فجلب من المنكر أكثر من ذلك، فالأولى أن تتكره على نصف المنكر.
من هنا قالوا: على الآمر الناهي المحتسب أن ينظر في عواقب الأمور، كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] فيدعو على بصيرة، وليس على البصر الذي يرى الأشياء المحسوسة بالفعل، ولكن أصحاب البصائر النيرة هم الذين يرون ببصائرهم ما وراء الواقع استنباطاً من الواقع، وليس علماً بالغيب، ولكن -كما قيل- بصيرة، كما في الأثر: (اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه يرى بنور الله) ، فكذلك الداعي يجب أن يكون على بصيرة من أمره، فلو أنه ذهب إلى رجل ينهاه فهل يتحمل أذاه؟ فإن قال: أنا أتحمل الأذى نقول: وإن كنت تتحمل، فليس من اللازم أن تعرض نفسك لما تتحمله من غيرك.
فهذا الحديث أصل في سد الذرائع، سواءٌ أكان في الأعمال العادية، أم في احتساب الأمر والنهي لوجه الله.
والله سبحانه وتعالى أعلم.(16/5)
المضمضة والاستنشاق وحكمها
قال رحمه الله تعالى: [ولـ أبي داود في رواية: (إذا توضأت فمضمض) ] .
حكم الاستنشاق في الوضوء في حديث لقيط، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (أسبغ الوضوء، وخلل الأصابع، وبالغ في الاستنشاق) وأعتقد أنه قد علم بالضرورة أنه إذا لم يسبغ الوضوء فالوضوء ناقص، وإذا كان الوضوء ناقصاً فالصلاة غير صحيحة، فإسباغ الوضوء واجب.
وأما تخليل الأصابع فإنه قد اتفق العلماء على أن تخليل الأصابع سنة، فلو أنه توضأ ونسي -وقلنا: (نسي) ؛ لأنه لا ينبغي لمسلم أن يعلم سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم ويتعمد تركها؛ لأن هذا تقصير وإهمال فإذا نسي أن يخلل أصابعه فالوضوء تام ومجزئ، لكن لا ينبغي أن يترك ذلك عمداً.
وأما الاستنشاق فبعض العلماء يقول بأنه واجب؛ لأن الرسول أكد عليه بالمبالغة إلا في الصيام؛ لأن المحافظة على الصيام أهم منه، وبعضهم يقول: إنه سنة من سنن الوضوء وهناك من نظر إلى الآية الكريمة فقال كما قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: الآية الكريمة فيها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] ، قالوا: الوجه من المواجهة، والفم والأنف إن كانا من الوجه فالمضمضة والاستنشاق واجبان؛ لأنهما من تتمة الغسل للوجه، وإن كانا مستقلين فقد حصل غسل الوجه بدونهما.
وقوم قالوا: هما من الوجه ولكن هل هما عضوان ظاهران كالخد والجبهة، أو أنهما خفيان لأننا لا نرى ما بداخلهما؟ فمن قال بوجوب الاستنشاق والمضمضة فلأنهما من تتمة الوجه، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] ، ومن قال بأنهما عضوان مستقلان ولهما اسمان متميزان قال: الوجه محدود بغيرهما.
وعلى هذا يختلفون، ولكن الجمهور يتفقون على أن المضمضة والاستنشاق واجبان في الغسل غير واجبين في الوضوء قالوا: لأن هناك حديث علي رضي الله عنه: (تحت كل شعرة جنابة) ، فكل موضع يمكن أن يصل الماء إليه يجب أن يعمم بالماء عند الغسل من الجنابة.
ومن العلماء من فرق بين الغسل والوضوء، فجعل الاستنشاق واجباً وجزءاً من الغسل، وليس واجباً في الوضوء.
ويأتي المؤلف رحمه الله بأثر بعد هذا، وهو: (إذا توضأت فمضمض) ، فقوله: (بالغ في الاستنشاق) أمر وزيادة، أمر بالاستنشاق وزيادة المبالغة، والمضمضة ليس فيها مبالغة؛ لأن حد المضمضة أن يأخذ الماء ويديره في فيه بلسانه أو بالهواء، ثم يمجه، والفم له حدوده، وليس هناك زيادات، ولكنه جاء بصيغة الأمر (إذا توضأت فمضمض) ، فهذه صيغة أمر، ولهذا فمن قال: إن المضمضة واجبة في الوضوء فلصيغة الأمر الوارد، ومن قال: إنه لا تجب المضمضة قال: هذا الأمر للإرشاد والاستحباب.
ولكن لا ينبغي للإنسان أن يترك المضمضة والاستنشاق للوضوء من وضوئه، واستدلوا على تأكيد فعلهما في الوضوء بفعله صلى الله عليه وسلم؛ لأن كل من نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر المضمضة والاستنشاق.
والله تعالى أعلم.(16/6)
حكم تخليل اللحية في الوضوء
قال رحمه الله تعالى: [وعن عثمان رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته في الوضوء) أخرجه الترمذي، وصححه ابن خزيمة] .
بعد أن انتهى المؤلف رحمه الله من الأمور كالخفية الأنف والفم جاء إلى الظواهر، فذكر أنه كان صلى الله عليه وسلم -وهذا يدل على الدوام وعلى الاستمرار- يخلل لحيته) .
والتخليل: هو إدخال شيء بين شيئين، وتخليل الأصابع: هو إدخال الأصبع بين فجوات الأصابع الأخرى، وكذلك تخليل اللحية بأن تدخل أصابعك خلال شعر الوجه، فقد كان صلى الله عليه وسلم كث اللحية، وكان يخلل لحيته في الوضوء، وهذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم أقل ما يقال فيه قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] .
ولكن الفقهاء ناقشوا هذه المسألة، فعندما يكون الشخص أمرد لا لحية له، وغسل الوجه، فإن الماء سيعم بشرة الوجه من منبت الشعر في الجبهة إلى أسفل الذقن، ومن الأذن إلى الإذن، أي: أن الماء قد أسبغ على الوجه كاملاً.
عندما تكون اللحية موجودة وكثة فلاشك أن اللحية ستحول دون ذلك، سواءٌ أكان الشعر جعداً، أم سبطاً، فإنه يحمل مادة دهنية، فيمنع الماء أن يدخل من خلاله إلا إذا خللته أنت.
وهنا يأتي السؤال:مع وجود اللحية هل الفرض في غسل الوجه لا زال لبشرة الوجه، أم ينتقل من بشرة الوجه إلى اللحية؟ وهذا كقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6] ، فإذا كان الإنسان أصلع ومسح فإنه سيمسح جلدة رأسه، فإذا كان الشعر كثيفاً ومسح فإنه سيمسح على شعره، والله تعالى يقول: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6] ، فهو سيمسح شعر رأسه؛ لأن مسح جلدة الرأس أصبح متعذراً، يقول الأصوليون: من قارب الشيء يعطى حكمه، ووجدنا جواز مسح الخفين بدلاً عن غسل القدمين؛ لأنهما ساترين للقدمين، مع أن هذا مشروع مستقل، لكن كان هذا تنظيرياً للمسألة.
وهنا الواجب غسل الوجه، والوجه أصبح مغطى بالشعر، فبعض العلماء يقول: يكفي مرور الماء على ظاهر اللحية، كما يكفي مرور الماء على شعر الرأس، وهذه بتلك، وبعضهم قال: لا، الوجه للغسل وهو آكد من المسح فعليك أن تعمل ما بوسعك، خلل اللحية بمعنى: أن تدخل الأصابع خلال الشعر وهي مبللة؛ لأن الماء - إن قلنا إن الشعر يجزئ عن بشرة الوجه -سيمر على الشعر الظاهر على اللحية وباطن اللحية يأته شيء، فعندما تكون الأصابع مبللة وتدخلها في خلال اللحية يتبلل من الشعر جزء أكبر، ولذا قالوا في تخليل اللحية: أن يدخل الأصابع من أسفلها؛ لأنه إذا أدخل الأصابع من أسفلها تخلل الشعر، أما إذا أدخلها من أعلاها فيمكن أن ينثني الشعر مع أصابع يده ولا تنفذ الأصابع بين الشعر كما تتمكن من النفوذ إذا أدخلها من أسفلها.
فيدخل الأصابع بين شعر اللحية من أعلى أو من أسفل بيد واحدة، فهذا كاف في تخليل اللحية، وإذا كانت اللحية شعيرات قليلة فليس هناك شيء يخلل، بل إن الماء سيصل إلى تحت اللحية بطبيعته، والله تعالى أعلم.(16/7)
دلك الأعضاء في الوضوء
قال رحمه الله تعالى: [وعن عبد الله بن زيد قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بثلثي مد فجعل يدلك ذراعيه) أخرجه أحمد وصححه ابن خزيمة] .
يروي لنا عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه مما رأى من وضوء النبي صلى الله عليه وسلم بالماء القليل، قال: (أتي النبي صلى الله عليه وسلم بثلثي مد فأخذ يدلك ذراعيه) ، وثلثا المد يبينه العلماء بأن المد ربع الصاع، وتقدم في الزكاة بأن الصاع خمسة أرطال وثلث على رأي الجمهور، وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله ثمانية أرطال، وعلى قول الجمهور أنه خمسة أرطال وثلث فالصاع أربعة أمداد، فكم يكون مد الواحد؟ يكون المد رطلاً وثلث رطل؛ فإن الرطل الباقي يقسم إلى ثلاثة أثلاث بالإضافة إلى الثلث الآخر، فيبقى عندنا أربعة أثلاث، فتوزع على الأربعة الأمداد، فيكون وزن المد رطل وثلث وأما المقدار الذي أتي به صلى الله عليه وسلم فهو -تقريباً- نصف لتر.
وقد جاء عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد) ، وهنا: (أتي بثلثي مد) فمن كان من عادته الاقتصاد في الماء، فيتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع -والصاع: ثلاثة لترات -وهذا مبدأ في لزوم الاقتصاد وترك التبذير، ولذا قال بعض الفقهاء: لا ينبغي للإنسان أن يزيد في غسلات الوضوء على الثلاث التي جاءت بها السنة؛ لأنه يكون قد دخل في التبذير والمبالغة، والزيادة على ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما قال رجل لـ أنس حين حدث بأنه صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع، فقال: والله لا يكفيني! فقال أنس: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوفر منك شعراً) وهذا يمكن أن يتأتى بالطريقة التي أشار إليها عبد الله بن زيد، حيث قال:: (فأخذ يدلك) ، والدلك أولاً يكون بقليل الماء؛ لأن البشرة إذا كانت جافة فإن الماء لا يتخللها، وربما كان هناك هواء وفقاقيع، لكن حينما يمسحها ويدلكها بيده وهي مبللة فإنه إذا جاء أدنى ماء جرى على اليد، وتعتبر تلك غسلة ولو بحفنة صغيرة، فالدلك لأمرين: الأول: التأكد من غسل الذراع وشموله، وعدم وجود بياض ولمع في عضو الوضوء.
الثاني: الدلك ييسر عملية الوضوء بقليل من الماء.
والغرض من هذا الحديث أمران: الأمر الأول: الدلك في الوضوء، وبعض العلماء شدد في الدلك في الغسل كالمالكية، حتى إن بعضهم قال: إذا لم يستطع أن يعمم البدن بيديه يأخذ حبلاً.
واليوم يوجد من أدوات الغسل الشيء الكثير، فإذا أخذها وحركها من خلفه تأكد من وصول الماء إلى بشرته، فالمالكية يؤكدون الدلك في الغسل؛ لأنه تقدم حديث علي رضي الله عنه: (تحت كل شعرة جنابة) ، أما في الوضوء فإنهم يتساهلون في الدلك فيه.
وهذا الحديث أصل في الدلك عند الوضوء، ولكن ليست كل الأعضاء صالحة للدلك، فالوجه صالح للدلك، والرأس غير صالح للدلك ولو بالغ في المسح لكان مكروهاً، ولذا قيل بأن المسح لا يكرر ثلاثاً؛ لأنه إذا تكرر ثلاثاً ترك بللاً على الشعر يشبه الغسل، والقدمان صالحتان للدلك، فقوله: (يدلك ذراعيه) نقيس عليه فنتبع الذراعين بالقدمين، وهذا أقل حد تبين من فعله صلى الله عليه وسلم أنه توضأ به، فلو جاء إنسان -كما رأينا بعض الطوائف- وأخذ كأس الماء الذي فيه ماء قليل، فجعل يتوضأ به يبل أصابعه في الكأس ويمسح بهما على أعضاء الوضوء.
فإن وضوءه لا يصح بهذا المسح، بل لابد من الغسل، والغسل لا بد فيه من جريان الماء على العضو، أما المسح فقد يجتزئ فيه بأن تكون الآلة التي يمسح بها مبللة، فيمرها على العضو المراد مسحه، ولذا قال العلماء في الباء في قوله سبحانه: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6] قالوا: (مسح) تتعدى بنفسها وتتعدى بالحرف، فتقول: مسحت الزجاج، ومسحت رأس اليتيم.
فهي تعدت بنفسها فلا تحتاج إلى الحرف، لكن لما جاء الحرف، فكما يقول الزمخشري: دلت الباء هنا على أن هناك شيئاً يمسح به من دهن أو ماء أو نحوه فتكون اليد فيها شيء تمسحه بالرأس وهو الماء، وعلى هذا: فالاقتصار في الوضوء على هذا المقدار يخل بالوضوء، والزيادة، على المد الكامل وليس الثلثين يدخل في الزيادة والتعدي أو التبذير.
وجاء المؤلف رحمه الله بهذا الحديث ليبين لنا أمرين: الأول: بيان أقل ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ به.
الثاني: بيان أن الدلك مشروع في الوضوء.
وهذا مناسب لما ذكر أولاً في حديث لقيط بن صبرة: (أسبغ الوضوء) والإسباغ من ضرورياته الدلك، حتى لا تبقى لمعة أو محل يحول بين الماء وبين البشرة، والله أعلم.(16/8)
مسح الأذنين وبم يكون
قال رحمه الله تعالى: [وعنه رضي الله عنه (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ لأذنيه ماءً غير الماء الذي أخذه لرأسه) أخرجه البيهقي، وهو عند مسلم من هذا الوجه بلفظ: (ومسحهما بماء غير قبض يديه) ، وهو المحفوظ] .
هذه صورة أخرى يسوقها عبد الله بن زيد في صفة مسح النبي صلى الله عليه وسلم أذنيه، وفي هذا الباب حديث عبد الله بن عمرو: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح رأسه وأدخل السباحتين) ، وسميتا بالسباحتين لأنهما لتحركان عند التسبيح، وعند والتشهد، وعند لفظ (أشهد أن لا إله إلا الله) ، وإن كان الأحناف يعادون تحريكها في التشهد معاداة شديدة؛ لأنهم يدخلونها في أبواب التوحيد والجهة وغير ذلك.
فأدخل السباحة في أذنيه، وأدار الإبهام خلف الأذنين، وهذه الإدارة لأن خلف الأذن أسرع ما يتراكم فيه العرق، حتى تجد أن بعض الحيوانات ما يظهر العرق إلا حول أذنها وبعضهم يقول: خلف الأذن من الأسفل مقتل، فإذا أدار الإبهام خلف الأذنين أزال ما تبقى من العرق، ومن مواد دهنية في تلك المنطقة؛ لأنها إذا تركت على ما هي عليه من العرق والمواد الدهنية، وحصل جرح فإنه أبطأ ما يكون شفاءً؛ لأنها منطقة ناعمة لا تتحمل، فالعلاج فيها بطيء، والجرح فيها سريع، وهذا من العناية.
فعني بالأنف كمجرى للهواء، وعني بالفم كمجرى للطعام، وكذلك عني بتخليل نعومة الأصابع لليدين والرجلين، وكذلك عني بما وراء الأذنين.
وقوله: (مسح برأسه وأدخل السباحتين في أذنيه) يفهم منه أنه أدخل السباحتين بماء مسح الرأس، ولم يأخذ لهما ماء جديداً ليدخلهما في الأذنين، فيكون مسح الأذنين مع الرأس عملية واحدة.
وهنا عبد الله بن زيد يخبر أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ ماء جديداً لمسح أذنيه، غير الماء الذي مسح به رأسه، فالأذنان لهما ماء مستقل ومسحة مستقلة، وهنا يبحث الفقهاء في الحديثين، ويقولون: هل الأذنان من الرأس فيجزيهما مسحة واحدة، أو أن الأذنين خارجتان عن حدود الرأس، ولهما مسحة مستقلة؟ والحديث الأول يشعر بأنه مسح الأذنين بماء مسح الرأس، وهذا الحديث ينص على أنه أخذ ماء جديداً، والعلماء رحمهم الله يجمعون بين الحديثين فيقولون: إن كان الماء وافراً في يديه عند مسح الرأس فإنه يمسح الأذنين بوفرة ماء الرأس، ولا يأخذ ماء جديداً، وإذا كان الماء ليس وافراً عند مسح الرأس، وظن أن المسح على الرأس استنفد الماء الذي في الأصابع أخذ ماء جديداً، وهذا هو الجمع بين الحديثين.
والله أعلم.(16/9)
كتاب الطهارة - باب الوضوء [5]
إسباغ الوضوء على المكاره أمر مستحب لابد من الاهتمام به، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يعرف أمته يوم القيامة بآثار الوضوء، فينبغي للعبد أن يتوضأ كما أمر الله ورسوله، وأن يتيامن في وضوئه، ويوالي بين غسل الأعضاء، ولا يزيد في ذلك شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم.(17/1)
الغرة والتحجيل وما ورد فيهما(17/2)
معنى الغرة والتحجيل
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل) متفق عليه، واللفظ لـ مسلم] .
هذا الحديث لو أن إنساناً تتبع طرقه واحتواه من جميع جوانبه ودلالاته لخرج برسالة كبيرة، وأوسع من رأيتُ ممن تكلم عليه ابن عبد البر رحمه الله في الجزء العشرين في كلامه على حديث الموطأ بهذا المعنى.
والمؤلف رحمه الله ساق الحديث هنا تتمة لأسباغ الوضوء، وليبين لنا أن إسباغ الوضوء يكون معه غرة وتحجيل.
قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أمتي يأتون) : (إن) هنا أداة تأكيد، وأداة التأكيد لا تأتي ابتداءً إلا إذا شمت رائحة الإنكار، ولا تُشمُّ رائحة الإنكار إلا عن خبر متقدم، فهل النبي صلى الله عليه وسلم جاء ابتداءً وقال: (إن أمتي يأتون) ، أم قال ذلك جواباً في سؤال كان موضع التساؤل؟ ولفظ الحديث أولاً: (إن أمتي) ، والأمة المحمدية هي خاتمة الأمم، وهي قسمان -كما يقولون-: - أمة الدعوة، وأمة الإجابة.
والمراد هنا: أمة الإجابة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (يأتون يوم القيامة) أي: بعد البعث يأتون مع سائر الأمم.
وقوله: (غراً محجلين) الغرة: الشعر في ناصية الرأس.
وفي الاصطلاح: بياض في جبين الفرس، تجد بعض الخيل تتميز به.
والتحجيل شعر أبيض في موضع الحجل في يدي الفرس.
والغرة والتحجيل من علامات فراهة الخيل وأصالتها، فما كل الخيل تأتي غراً محجلة، وهي أبرز علامة يتميز بها الخيل.
وقوله: (غراً محجلين من أثر الوضوء) الوضوء يكون في الوجه واليدين والقدمين، والحديث ذكر البياض في الوجه والقدمين، فيكون أيضاً في اليدين تبعاً لهما، أو أنه يحوي الأطراف، فإذا كانت الغرة في الطرف الأعلى، والتحجيل في الطرف الأسفل فيكون قد حوى ما بينهما.
والغرة والتحجيل شعر أبيض ينبت في هذين المحلين، لكن الغرة والتحجيل في الإنسان ليس شعراً ينبت، ولكن يكون نوراً، كما قال تعالى: {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [التحريم:8] ، فهذا النور من أثر الوضوء.
وقوله: (فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل) قد يقال فيه: بماذا يطيلها؟ والجواب: يطيلها إما في المشبَّه -وهو أعضاء الوضوء- فيزيد على المفروض في الغسل، أو يسبغ الوضوء أكثرَ.
والظاهر أن الطول والقصر في الزيادة ليس في الكمية، وإنما في الكيف.(17/3)
عمل أبي هريرة ومن خالفه في ذلك
قالوا: كان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يغسل يديه إلى المنكب، فقيل: ما هذا يا أبا هريرة؟ قال: أطيل غرتي وكذلك كان يرفع في غسل القدمين إلى الركبة أو إلى نصف الساق.
والمفروض إلى الكعبين، فكان هو يرفعها ويقول: أطيل غرتي.
وذكر بعض السلف رحمهم الله فقال: رأيت أبا هريرة يتوضأ فوق سطح المسجد، فغسل إلى كذا، فسألته، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين) .
وغرض المؤلف التأكيد على استيعاب الفرض، وأنه لا مانع من الزيادة، وبيان خصوصية هذه الأمة.
وبعض الناس يقول: الوضوء خاص بهذه الأمة ولكن لا يصح؛ لأنه قال: (إن أمتي يأتون) ومفهوم هذا: أن بعض الأمم الأخرى لا تأتي بهذا، فقالوا: لا وضوء في الأمم الأخرى.
ولكن النصوص جاءت بالوضوء في زمن الأنبياء من قبل، وفي الأمم الماضية فيكون الوضوء ثابتاً للأمم الماضية؛ ولكن آثار الوضوء بالغرة والتحجيل من خصائص هذه الأمة، فالوضوء تشريع عام في جميع الأمم ولكن ظهور آثار الوضوء بالغرة والتحجيل من خصائص هذه الأمة.
وبعض العلماء يقول: هل قوله: (فمن استطاع أن يطيل) من قول النبي صلى الله عليه وسلم، أم أنه مدرج في الحديث من قول أبي هريرة؟ أي أنه أخذه من قوله: (أمتي يأتون غراً محجلين) ، واستنبط من ذلك أنه كلما طال الغسل في عضو الوضوء طال النور فيه، فقال: (فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل) .
فبعض العلماء يقول: هذه الزيادة مدرجة من أبي هريرة، وهذا اجتهاد منه لِمَا فهم من قوله صلى الله عليه وسلم: (يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء) ، ويؤيد أنها مدرجة، ومن فعل أبي هريرة ومن فهمه أنه لم يُنقل عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن رسول الله نفسه أنه جاوز بغسل اليدين المرفق، كما جاء عنه: (وأدار الماء على مرفقيه) .
أما أن يشرع إلى الساق أو إلى المنكب فلم يأتِ ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من الصحابة، ولهذا قالوا: انفرد بهذه الصفة قولاً وفعلاً أبو هريرة رضي الله تعالى عنه.
وإذا كان انفرد بها الصحابي وخالفه الآخرون نقول: هذا عمل شاذ انفرد به، ويبقى العمل على ما ثبت من السنة وعمل جمهور الصحابة، وينتهي غسل اليد إلى المرفق كما في نص الآية الكريمة: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] .
والرسول صلى الله عليه وسلم بين بأن المرفق داخل في الغسل، لما جاء في الحديث: (أدار الماء على مرفقيه) أي: من أول الساعد.
نأتي إلى جو الحديث وما أشرنا إليه من عمومه أو شموله أو سببه:(17/4)
مناسبة ورود هذا الحديث
قوله: (إن أمتي يأتون) مناسبة هذا الحديث، ومناسبة مجيء (إن) المؤكدة في أوله ما ذكره مالك في الموطأ أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة ومعه بعض أصحابه، فقال: (السلام عليكم آل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ... ) .
يقولون: (إن شاء الله) هنا: ليست للشك ولا للتردد، ولكن للتبرك أو للتأكيد، أو التماس المشيئة بأن اللحاق بهم يكون بهذا البقيع الذي خرج إليه، ويكون هذا مأخوذ من مجموع النصوص التي ذكرها صلى الله عليه وسلم في رغبته في أن يُدفن في البقيع، أو أن يُدفن بالمدينة، أو نحو ذلك.
كما جاء في الحديث الآخر أنه صلى الله عليه وسلم شهد جنازة، فجلس عندها ونظر في القبر قبل أن تُدخل فيه الجنازة، فجاء رجل ونظر فقال: (بئس مضجع الرجل فقال صلى الله عليه وسلم: بئس ما قلتَ قال: يا رسول الله! أردتُ الجهاد في سبيل الله -أي: كون الإنسان يعيش ثم يموت كما تموت بهيمة الأنعام ويُدفن غير محبوب عندي، بل أحَبُّ إليَّ لهذا الرجل أن يذهب ويقاتل ويُستشهد ويدفن في أرض المعركة- فقال صلى الله عليه وسلم: نعم الجهاد ولكن ما من بلد أحب إليَّ أن يكون قبري بها منها) : أي: من المدينة.
وهنا يقولون: قوله صلى الله عليه وسلم: (إن شاء الله بكم لاحقون) والمراد به: في هذه التربة.
فالمشيئة ليست للتردد، أو هي على عموم قوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23-24] .
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددتُ أني رأيت إخواننا، قالوا: يا رسول الله! ألسنا بإخوانك؟ قال: لا.
أنتم أصحابي، وإخواننا الذين يأتون من بعدي فيؤمنون بي، وددتُ أني رأيتهم، وأنا فَرَطُهم على الحوض، قالوا: كيف تعرف من يأتي بعدك ولم تره) أي: كيف تعرف من يأتي بعدك وأنت تقول: (وأنا فَرَطُهم على الحوض) ، والفَرَط: الذي ينفرط من القوم، مثل العِقد ينقطع منه الخيط، وينفرد الحبل ويسبق، وفَرَطُ القوم: من ينفرد عنهم، ويسبقهم إلى الماء ليهيئ لهم الماء من البئر قبل أن يصلوا.
وهذا سؤال استغراب، لا سؤال استنكار ولا استبعاد، ولكن يُشم منه رائحة الاستيضاح.
فقال هنا: (إن أمتي) .
وهناك لفظ آخر يذكره أيضاً مالك أنه قال: (أرأيتم لو أن لأحدكم خيلاً غراً محجلة في وسط خيل بهم دهم -والفرس الأدهم: هو الأسود الذي ليس مع سواده لون آخر، والبَهْمُ: يطلق على ولد الغنم الصغير، وسمي بَهماً للإبهام؛ لأنه لا يُفصح، والبَهْمُ: الخيل ذات اللون أيَّاً كان لا يخالطه لون آخر، وليس خاصاً بالسواد- قال: أيعرف خيله؟ قالوا: نعم.
قال: فإن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض) .
فهنا تساءلوا: (ألسنا بإخوانك؟ قال: لا.
أنتم أصحابي، وإخواننا الذين يأتون بعدي، وددتُ لو أني رأيتهم، و) ابن عبد البر رحمه الله يسوق في التمهيد حوالي ثلاثين صفحة حول هذا المعنى.
ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال في هذا السياق: (يأتون بعدي يؤمنون بي ولم يروني، يودُّ أحدهم لو رآني بماله وأهله) وهذه -والله- صحيحة، فكل مسلم الآن يود لو أنه لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤية حقيقية بعينيه شخصية رسول الله، ولو يفدي ذلك بأهله وماله.
وفي رواية أخرى: (أيُّ الناس خير -أو أيُّ إيمان الخلق أفضل-؟ قالوا: الملائكة قال: وحُقَّ لهم، وما لهم لا يؤمنون والأمر ينزل فوقهم؟! قالوا: الأنبياء، قال: غيرهم.
وحُقَّ لهم، وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟! قالوا: نحن، لا.
قال: غيركم.
وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟! خير الناس إيماناً قومٌ يأتون بعدي يرون أوراقاً مكتوبة يقرأونها فيعملون بها) .
وهناك روايات وآثار وأخبار في هذا المعنى، وقد ذكر ابن عبد البر في التمهيد في الجزء العشرين ما يقرب من الثلاثين صفحة في مبحث هذا الحديث.
وعلى هذا فحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (إن أمتي يأتون يوم القيامة) لم يأتِ ابتداءً، ولكنه في معرض سياق خبر به أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وتساءلوا لاستغرابهم فجاءهم هذا الجواب مؤكَّداً بـ (إنَّ) فقال: (إن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين) أي: فأعرفُهم بهذه العلامة.
وفي تتمة الحديث: (ليُذادَنَّ رجالٌ من أمتي عن حوضي -أي: يُدفعون ويُحجَبون دون الحوض- فأنادي: أمتي أمتي -أو أنادي: هَلُمَّ هَلُمَّ- فيقال لي -أي: تقول الملائكة-: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك! فأقول: سحقاً سحقاً) .
وهذا يذكره ابن كثير أيضاً في تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8] .
لأنه في ذلك اليوم يطفأ نور المنافقين وهم في الصراط، كما قال الله عنهم: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] ، فخدعهم الله سبحانه بهذا النور؛ لأنهم خادعوه في الدنيا، كما قال تعالى عنهم: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ} [البقرة:9] ، وقال تعالى عنهم: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] .
والمخادَعة من المنافقين هي: أنهم أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، والمخادَعة هنا أنهم بإظهارهم هذا الدين خلاف ما أخفوا أمِنوا على دمائهم وأنفسهم وأعراضهم، وتزوجوا من المسلمين، وأخذوا في الغنائم حصصاً، فعومِلوا معاملةَ المسلمين، والله أجراها عليهم، مع أنهم في داخلهم لا يستحقون شيئاً من ذلك لكفرهم، فالله خدعهم، فتركهم على ما هم عليه في خداعهم حتى إذا كان يوم القيامة وخرج الناس من قبورهم، وبُعِث المنافقون مع المؤمنين، والجميع غرٌّ محجلون المنافق مع المؤمن الصادق، ومشوا في طريقهم كل بغرته وتحجيله فإذا دنوا من الحوض هناك يكون الحجز، فتأتي ملائكة وترد أولئك الناس، فلا يصلون إلى الحوض، وحينما يُردون تُطفأ أنوارهم، ولذا يقول تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} أي: تبقى على بياضها.
وقال تعالى: {وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] أي: يُسلب نورُها، فحينئذٍ يقفون مكانهم ليس عندهم نور يمشون به، فينادون المؤمنين: {انْظُرُونَا} [الحديد:13] .
وقولهم: (انظرونا) هو إما من النظر، وإما من الانتظار، فإن كان من النظر فالمعنى التفتوا وراءكم حتى تضيئوا لنا بنور وجوهكم الطريق.
وإن كان من الانتظار فالمعنى: انتظرونا لندرك المشي معكم في ضوء أنواركم.
قال تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} [الحديد:13] ، فحينئذٍ المؤمنون تقدموا بأنوارهم، والمنافقون -عياذاً بالله- رجعوا وانطفأت أنوارهم، وبقي المؤمنون على حذر يخافون أن تأتي عقبة أخرى تكون فيها تصفية ثانية، فيدعون كما قال تعالى عنهم: {يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا} [التحريم:8] أي: ابقِ لنا هذا النور يا رب، فأنت أطفأته عن أقوام، ونحن نخشى أن تكون هناك عملية تصفية أخرى، ويُطفأ عن بعضنا الأنوار، فيسألون الله ويدعونه بإلحاح قائلين: {أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا} [التحريم:8] .
فالحديث -كما أشرت- آفاقه واسعة، ومواقفه عديدة، فلو أن إنساناً تتبع وأخذ كل جزئية منه بحديث متوسع متوفر لخرج من الحديث برسالة كاملة.
ونحن الآن في الوقت الحاضر -بصرف النظر عن فعل أبي هريرة في كونه يطيل الغرة، إذ علينا بالسنة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- نستطيع أن نسلي أنفسنا بأن هذه بشرى لنا، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم يمتدح أقواماً يأتون بعده ولم يروه، ويؤمنون به على غيب يرونه في أوراق مكتوبة.
وهذا هو القرآن الكريم بين أيدينا حفظه الله يقرؤه المسلم، ويؤمن بحميع ما فيه، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: (وددتُ لو أني رأيتهم) ، ويشهد لهم بأن الواحد منهم يود لو ضحى بأهله وماله ليراه صلى الله عليه وسلم، وفي هذه الأوراق التحذير من النفاق والابتداع، ومن التغيير والتبديل، حتى لا يُذاد عن ذلك الحوض الكريم، وهو الكوثر الذي أعطاه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم.(17/5)
التيامن في الأفعال ومحله(17/6)
التيمن في التنعل والترجل
قال: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمُّن في تنعُّله وترجُّله وطهوره، وفي شأنه كله) متفق عليه] .
قولها: (يعجبه التيمُّن في تنعُّله) أي: لبسه النعل، ولبس النعل جِبِلَّة، فكان يلبسه متيمناً.
ونحن نلبس النعال، ونمشي حفاة، فإذا لبسنا فالسنة أن نبدأ باليمين، وهذا محل التشريع، وهو الكيفية أو الوصف.
قولها: (وترجُّله) الترجُّل هو: تسريح الشعر.
فتسريح الشعر جِبِلَّة ونظافة وحسن مظهر، وفيه عناية الإنسان بصحة شعره، وإذا ما رجَّلته كان فيه القمل والأوساخ، فأنت مضطر لترجيله لنظافتك، ولكن باليمين؛ لأن ذلك هو السنة.(17/7)
التيمن في الطهارة
قولها: (وطهوره) والطهور عبادة: وبهذا دخلنا في المشروع، فكان يعجبه التيامن في طهوره، وهذا محل الشاهد؛ إذ نحن في باب الوضوء، والوضوء عبادة، وعندنا يد يمنى ويد يسرى، وقدم يمنى وقدم يسرى، فإذا توضأنا نغسل اليمين أولاً.
قالت رضي الله تعالى عنها: (وفي شأنه كله) .
فبدل أن تعدِّدَ كل شيء قالت: (وفي شأنه كله) ، وكلمة (في شأنه) عامة لم يخرج منها شأن من شئونه، فلم يخرج لباسه، ولا نومه، ولا خروجه، ولا دخوله.
ولكن قالوا: هذا العام دخله التخصيص في مسألتين خرجتا من هذا العموم: الأولى: عند خروجه من المسجد، فيقدم الشمال، فهذا أمر خرج عن عموم شئونه.
والثانية: عند دخوله الخلاء، وهذا خرج عن عموم شأنه كله.(17/8)
حكم التيمن عند العلماء
فأم المؤمنين رضي الله تعالى عنها تخبرنا بأنه كان يعجبه التيامن.
والأمور التي ذكَرَتْها، كالتنعُّل، وهو لبس النعال والجورب، والترجُّل، وهو تسريح الشعر، وفي لبس الثياب كان يبدأ بالكم الأيمن، كل هذه أمور جِبِلِّية، أي: تطلبها الجِبِلَّة والخِلقة، ولكن الوصف الذي كان يعجبه صلى الله عليه وسلم فعله هو التأسي، وهو السنة.
وفي الوضوء والغسل كان يعجبه التيمُّن في وضوئه وغسله.
وسيأتينا في كيفية الغسل أنه صلى الله عليه وسلم كان يبدأ فيغسل فرجه، ثم يحتُّ يده بالأرض، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ويؤخر قدميه، ثم يفيض الماء على شقه الأيمن، ثم يفيض الماء على شقه الأيسر، فحصل التيامن في الغسل.
وعائشة رضي الله تعالى عنها تقول: (كان يعجبه) ، والذي يعجبه حده الاستحباب، وهذا رأي الجمهور، فالتيامن في الوضوء للاستحباب عندهم.
وهناك من غير الأئمة الأربعة من يقول: إن التيامن واجب؛ لأنه ليس هناك مضادَّة، ولا خلاف بين كونه يعجبه وكونه واجباً، والواجب سيعجبه أيضاً.
فقالوا: لا منافاة، فهو واجب يعجبه ولكن التعبير بـ (يعجبه) دون التعبير بـ (يلزمه) ، أو (كان يأمر) ، أو (كان يوجب) يوحي بأن هناك فارقاً.
وبالنظر إلى الأمر في كتاب الله في قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] فإن غسل اليدين في الآية مجمل، وجاء فعله صلى الله عليه وسلم مبيِّناً، وقد بدأ باليمنى، فلماذا لا نقول: هو واجب؟ فكان على مقتضى ما تقدم أن يكون التيامن واجباً، لكنهم قالوا: جاء عن الحسن وغيره أن علياً.
قال: (لا أبالي بدأت باليسرى أو باليمنى إذا أتممتُ الوضوء) .
وقالوا: (إنهما كالعضو الواحد) ، ولذا جُمعا في قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] فإذا غسلهما بأي صورة ما تيامن أو تياسرَ تم الغسل المطلوب.
فإن قيل: وأين تذهبون عما قاله الأصوليون أن بيانه للمجمل يأخذ حكم المجمل، وغسل اليدين واجب، فيكون بيانه واجباً؟ قالوا: يمنع ذلك ما نقل من الإجماع أنه سنة، وما نقل عن بعض السلف، ولهذا يقول ابن دقيق العيد وغيره: لولا نقل الإجماع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أن التيامن سنة لكان مقتضى دوام فعله يقتضي الوجوب.
وعلى هذا يكون التيامن من باب السنة، فإذا فعل إنسان خلاف ذلك صح وضوءه ذلك إلا من يقول: لا ينبغي تعمُّد ذلك، ولعل هذا من أحسن الأقوال، فمن ترك التيامن نسياناً وصلى نقول: وضوؤه صحيح، ولكن من تركه تعمداً فهناك الخطر عليه؛ لأن القول بالوجوب بمقتضى بيان رسول الله ودوام فعله، ولم يُنقل عنه مرةً واحدة أنه بدأ بالشمال دون اليمين، فإن هذا كله يقوِّي القول بالوجوب، كما تقول الهادوية وغيرهم، وكما يقول الشوكاني: لولا نقل الإجماع لكان القول بالوجوب قوياً.
والله تعالى أعلم.(17/9)
التيمن في الوضوء
قال رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا توضأتم فابدأوا بميامينكم) .
أخرجه الأربعة، وصححه ابن خزيمة] .
الحديث الأول فيه: (كان يعجبه) ، وهذا حكاية فعل، وهنا قال: (إذا توضأتم فابدءوا بميامينكم) .
وهذا الحديث أخرجه الأربعة، وصححه ابن خزيمة، فلا يوجد مطعن في سنده.
وهذا الأمر: (فابدأوا بميامينكم) ، يقوِّي وجه من يقول: إنه واجب، ولا ينبغي تعمد تركه، ويكون الإجماع لمن تركه نسياناً، لا لمن تركه متعمداً.
والقول عن علي رضي الله تعالى عنه يناقَش في سنده أو لا يناقَش! فكلهم متفقون على رواية ذلك عنه رضي الله تعالى عنه.(17/10)
الترتيب والموالاة وحكمها
انتهى المؤلف رحمه الله من مبحث التيامن.
وبقي مبحث الموالاة والترتيب، والترتيب بين أعضاء الوضوء هو كما جاء النص الكريم في الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] فهذا ترتيب أعضاء الوضوء الذي ورد في القرآن الكريم.
والموالاة يستدل لها بقصة الرجل الذي رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم في قدمه لمعة مثل الظفر فقال: (اذهب فأحسن وضوءك) فما قال: اغسل هذه فقط.
وقضية الموالاة بين الأعضاء معناها أنه لو قطع الوضوء عند غسل اليدين واشتغل بشيء ما، أو انتهى الماء عنده، أو جاء طارئ وتبعه وترك الوضوء من أجله حتى جف الماء عن اليدين، وأراد أن يكمل الوضوء، فهل يبني على ما مضى، أو أنه قد فات زمن يكون قد انقطع عما تقدم؟ فبعض العلماء يقول: إن طالت الفرقة أو الفصل بين أعضاء الوضوء استأنف من جديد، وإن لم يطُل الفصل بنى على ما تقدم.
وقالوا: مقياس الفصل طويلاً كان أو قصيراً هو جفاف العضو الأخير الذي غسله وكفَّ عن تتمة الوضوء، كأن يكون غسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ثم سمع منادياً فذهب وطال اشتغاله مع هذا المنادي، ثم رجع إلى وضوئه فإذا يداه جافتان كأنهما لم يمسا بماءً، قالوا: انفصل ما قبله عما بعده فيستأنف وضوءاً جديداً، أما إذا عاد إلى الوضوء ولم تزل بقايا البلل أو الماء على بعض أجزاء من يده الأخيرة -وهي اليسرى- فإنه يكمل ويبني على ما تقدم.
وموضوع الموالاة سيأتي له النص في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون الحديث عنده إن شاء الله.(17/11)
خلاف العلماء في المسح على الرأس
قال رحمه الله تعالى: [وعن المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة) أخرجه مسلم] .
هنا بدأ المؤلف بقضية مستقلة، وهي كيفية المسح على الرأس.
فقد جاء النص مجملاً في قوله سبحانه: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6] ، فكيف يكون المسح؟ إن الرأس من حيث هو في الوضوء إما أن يكون عارياً، وإما أن يكون عليه العمامة أو العصابة كما يُقال، أو الخمار كما جاء.
فإن كان عارياً، فما الجزء المجزئ في مسحه؟ هناك من يقول: أيُّ معنىً يصدُق عليه المسح -أي: أيُّ مقدار يصدُق عليه المسح فهو مجزئ، وهو قول الشافعية.
ولكن هذا القول حمله بعضهم على التفريط في هذا الأمر، كما قال النووي رحمه الله: والمنصوص أنه لو مسح ثلاث شعرات أجزأ؛ لأن أقل الجمع ثلاث، وقد أفرط بعض أصحابنا فقال: لو مسح بعض شعرة أجزأ.
ثم يقول: وكيف يتحقق مسح بعض شعرة؟! فقال: إذا ما طلى إنسان رأسه بالحناء، وبرزت شعرة من تحت الحناء -والجزء البارز من تلك الشعرة ليس هو كل الشعرة- فمسح هذه الجزئية من الشعرة، أجزأه.
ولكن يقول النووي: هذا تفريط، وقد ذكرتُه لأنبه عليه، ولا يُغتر به، ولو عظُم قائله.
والقول الثاني: أقل ما يجزئ من مسح الرأس ربعه.
وهو مذهب الأحناف.
المالكية والحنابلة يقولون: الواجب مسح جميع الرأس.
فهناك من يقول: يجب استغراق الرأس.
وهناك من يقول: فيه عموم، فمعناه أنه قد يفوِّت بعض الرأس، وهو أقل شمولاً من القول بالاستغراق.
وخلاصة القول فيما يجزئ من مسح الرأس إن لم يكن عليه عمامة أن العلماء مختلفون في ذلك.
فمنهم من قال: أقل ما يصدُق عليه وهو للشافعية، وفيه ما فيه.
ومنهم من قال: ربع الرأس، وهم الأحناف.
ومنهم من قال: يمسح جميع الرأس.
والجميع متفقون على أن مسح جميع الرأس هو الأفضل، فمن اقتصر على بعضه أو على الربع يقول أيضاً: لو مسح الكل لكان أفضل.
أما إذا كان على الرأس عمامة، فيقولون: لها ثلاث حالات: الأولى: أن يمسح على العمامة وحدها دون أن يمس الرأس.
الثانية: أن يمسح على الناصية تحت العمامة فقط.
الثالثة: أن يمسح على الناصية تحت العمامة ويكمل على العمامة.
فهي حالات ثلاث: فإما أن يقتصر على العمامة كما يقتصر على الخف في القدمين.
وإما أن يقتصر على ربع الرأس وهو الناصية تحت العمامة.
وإما أن يجمع بين الناصية والعمامة.
فهذه الأقوال مجمل ما قيل في مسح الرأس في الوضوء.
أما في الغسل فلا عمامة ولا قلنسوة، وعليه يجب تعميم الغسل.
وهنا حديث المغيرة رضي الله تعالى عنه نأخذه كأصل في المسألة.
فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة والخفين) .
فحديث المغيرة يكون أوفى، والمغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه روى كثيراً من حالات وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، خاصةً في سفره معه في غزوة تبوك.
فقوله: (بناصيته) الناصية: مقدَّم الرأس، أي: قدر وضع اليد على مقدَّم الرأس، فهذه هي الناصية.
فلقوله: (فمسح بناصيته وعلى العمامة) قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: إن القدر المجزئ هو المسح على الناصية وقدرها.
وقال: إما أن ينفرد المسح على العمامة، وإما إن ينفرد على الناصية، والمغيرة لم يرِد الجمع بينهما، وإنما أراد أنه مسح على الناصية تارةً، وعلى العمامة وحدها تارةً.
والآخرون يقولون: المغيرة يحكي حالةً واحدة في الوضوء الواحد، وهو أنه جمع بين الناصية والعمامة.
فقال أبو حنيفة: لا يوجد مانع، الناصية قدر الواجب، والتكميل على العمامة أو على الرأس تمام السنة والفضيلة.
وقال: لو كانت العمامة وحدها تجزئ لما كانت هناك حاجة إلى الناصية، ولو كانت الناصية مكملة للفضيلة لما كانت هناك حاجة إلى العمامة، فهو جمع بين المفروض والمسنون، فمسح على الناصية لأنه أقل الواجب في الفرض، وأتم على العمامة؛ لأنه الأكمل والسنة والأفضل.
وعند مالك رحمه الله لا يُقْتَصَر المسح على العمامة وحدها إلا للضرورة، كشدة البرد أو الحاجة، كما جاء في قصة التساخين والعصائب والعمائم: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث بعثاً فاشتد بهم البرد، فأمرهم أن يمسحوا على التساخين وعلى العمائم) ، قالوا: و (التساخين) هي نوع من القماش يُلف على القدم تسخَّن به، وينوب عن ذلك الخفُّ أو الجوربُ المتين.
وكذلك العصائب والعمائم المشدودة على الرأس.
ولمن يجيز المسح على العمامة فقط شرط، وهو أن تكون العمامة محنكة، ومكورة، ويقصدون بالمحنَّكة: التي يأتي طرفها من تحت الحنك ويذهب به مرة أخرى إلى الرأس أي: أنها ثابتة يشق نزعها في كل وقت، فتسهيلاً عليه يمسح عليها.(17/12)
خلاصة مسألة المسح على الرأس من كلام ابن القيم
وخلاصة لما تقدم يقول ابن القيم رحمه الله: الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قضية العمامة ثلاث حالات: · فتارةً مسح على الناصية تحتها فقط.
· وتارةً مسح على الناصية وأتم على العمامة.
· وتارة مسح على العمامة وحدها دون الناصية.
وكل ذلك فيه نصوص واردة صحيحة ومن اقتصر على حالة منها أجزأته.
والله تعالى أعلم.
هناك مبحث في هذه المسألة في قضية (الباء) في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِـ.
} [المائدة:6] : فالشافعية يحملونها على التبعيض ولكن العلماء -خاصة علماء اللغة- يردون هذا، ويقولون: ليست للتبعيض.
وقال الأحناف: هي للإلصاق.
ولا مانع أن تكون للإلصاق وللتبعيض؛ لأنهم يقولون بالمسح على الناصية.
وغيرهم يقولون: إن مجيء (الباء) ليدل على وجود ممسوح به؛ لأنك تقول: مسحت رأس اليتيم أي: مررتَ يدك عليها، ويقول: مسحت يدي في رأس اليتيم.
تعني أن في يدك دهناً مسحته عليها.
وهكذا قالوا في قوله تعالى: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان:6] ، مع أن الشرب يتعدى بنفسه، تقول: شربت الماء.
أو: شربت ماء العين.
أو تقول: شربت بماء العين.
فقالوا: (الباء) هنا كـ (الباء) هناك.
ولكن يجيبون عن ذلك من جهة اللغة بالتضمين في قوله تعالى: {عَيْناً يَشْرَبُ بها} فقالوا: ضُمِّن فعل (يشرب) معنىً يتعدى بـ (الباء) ، وهو (يستمتع ويتلذذ) ؛ لأن شرب أهل الجنة ليس عن عطش.
وقالوا في (الباء) هنا: هي للإلصاق.
والشافعية حملوها على التبعيض.
وكان مجيء (الباء) هو سبب لهذا الخلاف والنزاع في جزء ما يمكن أن يُقْتَصَر عليه في الوضوء.
والخلاف فيما يجزئ في مسح الرأس في الوضوء هو عين الخلاف فيما يأتي في قوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح:27] ، فهل المراد بـ (رءوسكم) جميع الرأس، أو أن المراد: محلقين رءوسكم ومقصرين من الرأس؟ والخلاف في أية الوضوء لوجود (الباء) ليس كالخلاف هنا؛ لأن هنا لا يوجد (باء) .
والله تعالى أعلم.(17/13)
كتاب الطهارة - باب الوضوء [6]
شملت أحكام الوضوء بعض الواجبات والسنن التي أوردها العلماء في باب الوضوء، ومن هذه الواجبات والسنن: الاقتصاد في الماء، وترتيب أعضاء الوضوء، وإسباغ الأعضاء بالماء، والذكر المسنون الذي يقوله العبد في أول الوضوء وعند الانتهاء منه.(18/1)
مسائل في الوضوء(18/2)
ما يبدأ به من أعضاء الوضوء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما -في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم-: قال صلى الله عليه وسلم: (ابدأوا بما بدأ الله به) أخرجه النسائي هكذا بلفظ الأمر، وهو عند مسلم بلفظ الخبر] .
يسوق المؤلف رحمه الله تعالى هذا الحديث من صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن في الوضوء، فما علاقة صفة الحج بأعمال الوضوء؟ لقد أراد المؤلف رحمه الله تعالى الإتيان بعبارة جاءت في صفة الحج صالحة لجميع الأعمال، فجاء بها إلى الوضوء، وهذا لأول وهلة يعطينا فكرة عن المؤلف أنه يرى القياس؛ لأنه سيقيس أعمال الوضوء على أعمال الحج بعموم القاعدة التي جاء بها من صفة أعمال حج النبي صلى الله عليه وسلم.
والحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حج قال: (ابدأوا) أو قال: (أبدأ) والفرق بين الروايتين هو كسر الهمزة وإسناد الفعل إلى واو الجماعة، وفتح همزة القطع، فبكسر الهمزة هو أمرٌ موجه للناس، وبفتح الهمزة هو إخبار عن فعله وإرادته ورغبته فيما يفعل، وذلك في المتساويين: الصفا والمروة، فكلاهما غاية في السعي، والمطلوب سبعة أشواط، فإن بدأت بالصفا وأتيت إلى المروة كان شوطاً، وإن بدأت بالمروة وانتهيت إلى الصفا كان شوطاً، فنحن نعد قطع المسافة بينهما شوطاً، ولكن النص هنا في البداية، فإذا كان الصفا والمروة متساويين من حيث البداية إن بدأنا من هنا أو بدأنا من هنا فهو شوط فمن أيهما نبدأ؟! فلما قال صلى الله عليه وسلم: (ابدأوا بما بدأ الله به) والله بدأ بالصفا كان المشروع أن نبدأ بالصفا.
فمن بدأ السعي بالمروة للشوط الأول وجاء إلى الصفا، ثم رجع من الصفا إلى المروة يكون له شوط واحد، وهو رجوعه من الصفا إلى المروة، والشوط الأول الذي بدأه من المروة إلى الصفا يكون لاغياً؛ لأن المروة ليست محلاً لبداية السعي، فيكون فعله الشوط الثاني في حسابه من الصفا إلى المروة هو الشوط الأول من السبعة، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (ابدأوا) ، سواءٌ أكان أمراً والأمر يقتضي الوجوب، أم كان إخباراً، فقد أحال أيضاً على فعله وقال: (خذوا عني مناسككم) ، فهو بدأ بالصفا وقال: (ابدأوا بما بدأ الله به) .
وفي رواية (أبدأ) تكون قضية خاصة بالسعي؛ ولكن قوله: (بما بدأ الله به) ، لفظة (ما) فيه موصولة، فيتعين إذا كان هناك حكم والأعمال فيه متساوية، وتصح البداءة من أي واحد منها أن نراعي البداية بِمَا بدأ الله به من هذه المتعددات، فيتعين أن نبدأ منه؛ لأن العليم الخبير لا يقدم واحداً من المتساويات إلا لحكمة، فنعمل بذلك، وقلتُ: وذلك ما لم يكن هناك مراعاة لجانب آخر، كالترتيب الزمني.
فمثلاً قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى:13] فذِكْرُ نوح ثم ذِكْرُ إبراهيم وموسى وعيسى هو حسب الترتيب الزمني أم لا؟ وإبراهيم هل هو حسب الترتيب الزمني أم لا؟ وهل هم متساوون في الزمن أم مختلفون؟ والجواب: مختلفون.
فترتيبهم الزمني كترتيبهم في النص الذي جاء بإيرادهم، فروعي في ذلك الزمنُ.
فأنت عندما تقول: الله سبحانه شرع لنا من الأديان ما شرع للأنبياء من قبلنا عيسى وموسى وإبراهيم لا مانع من ذلك؛ لأن التركيب جاء مراعياً للزمن، وأنت لم ترد بيان التاريخ.(18/3)
الآية وترتيبها لأعضاء الوضوء
أعضاء الوضوء المنصوص عليها في الآية الكريمة هي في قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] وهذه الأربعة الأركان بالترتيب.
فلو غسلتَ القدمين ثم مسحت الرأس ثم غسلتَ اليدين ثم الوجه فإنك تكون أتيتَ بالأركان المذكورة في الآية.
وكما يقولون: (الواو) لا تقتضي الترتيب، ولكن تقتضي التشريك.
و (ثم) و (الفاء) هما اللتان تدلان على الترتيب والتعقيب، أما (الواو) كمثل: (جاء زيد وعمرو) ، و (زارني اليوم زيد وعمرو) ، فلا تعطي الأولية للذي جاء أولاً، ولا تفيد ترتيب مجيئهما إليك.
فلما كان الأمر كذلك أمكن البداءة باليدين ثم الرجلين ثم الوجه ثم مسح الرأس، فكل هذا ممكن؛ لأنه لا يوجد نص فيما يتعلق بالترتيب.
والآية ذكرت الأعضاء الأربعة في نسق، فجاء الحديث لما سأله رجل: (من أين نبدأ يا رسول الله؟) بياناً لما يبدأ به.
بل كان هناك سؤال قبل ذلك، فلما اقتربوا من مكة قالوا: يا رسول الله! من أين ستدخل مكة؟ ومكة لها مدخلان، كَداء وكُداء، وهما موقعان متقابلان، ولذا يقول بعضهم في هذا من باب الظرافة والدعابة: افتح وادخل، واضمم واخرج.
والمعنى: (افتح) تورية بفتح الباب، والمراد به (كَداء) ، واضمم واخرج أي: من (كُداء) .
فقالوا: من أين ستدخل يا رسول الله؟ وكان أعلاها يسمى (كَداء) ، وأسفلها يُسمى (كُداء) ، وهي مداخل لمكة من بين الجبال، فإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم يحيلهم على أمر أدبي، وعلى نصرة الدعوة في الشعر الإسلامي، فقال: (انظروا ماذا قال حسان!) .
وذلك أنه هجا أهل مكة فقال: عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كَداءُ فـ حسان يتوعد أهل مكة بمجيء الخيول بكثرة، وبكثرتها تثير النقع أي: الغبار، وموعدها؟ كَداء.
فلما نطق الشاعر المسلم الصحابي الجليل رضي الله تعالى عنه بأحد المتساويين أيده رسول الله، وأيد شعره في نصرة الإسلام، وأمرهم أن يطبقوا قول حسان، فدخلوا من (كَداء) .
ولما دخلوا مكة وطافوا بالبيت وأرادوا السعي لقوله تعالى في الآية الكريمة: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158] سألوا رسول الله، فقال: (ابدأوا) ، فهي جواب عن سؤال منهم رضي الله تعالى عنهم لما رأوا الطرفين متساويين، وتصح البداءة من أيهما؛ ولكن كان الرسول موجوداً فسألوا: من أيهما تكون البداية؟ فقال: (ابدأوا بما بدأ الله به) .(18/4)
خلاف العلماء في الترتيب بين أعضاء الوضوء
ننتقل من السعي ووجوب البداية مما بدأ الله به -وهو الصفا- إلى الوضوء.
فلو قال قائل: كيف نتوضأ؟ وبم نبدأ؟ فالجواب: (ابدأوا بما بدأ الله به) ، والله بدأ في أعضاء الوضوء بالوجه.
ومن هنا ذهب جمهور العلماء إلى أن هذا النص يدل على ترتيب غسل أعضاء الوضوء كما جاء في الآية.
وإلى هنا تمَّ التشريع، وبقي الحكم، فهل هذا الترتيب شرط في صحة الوضوء، أم أنه إذا غاير هذا الترتيب صح الوضوء؟ فالأئمة الأربعة وجمهور العلماء يقولون: لا ينبغي مغايرة هذا الترتيب.
وبعضهم يحكي الإجماع بأنه لو غاير ذلك ناسياً وصلى فلا إعادة عليه؛ لأنه أتى بالغسل المطلوب، و (الواو) في الآية لا تقتضي الترتيب.
ثم يذكرون عن علي رضي الله تعالى عنه في التيامن وفي الترتيب أنه قال: (لا أبالي غسلتُ قدميَّ أولاً أو يديَّ أو وجهي، إذا أكملتُ الوضوء) .
أما اليمين واليسار فيقولون: اليدان والرجلان كالعضو الواحد، فأيهما غسلتَه قبل الآخر تَمَّ غسلهما إذا أوقعتهما في مكانهما.
وعلى هذا لم يقل أحد بأن مخالفة الترتيب الموجود في الآية مبطل للوضوء قطعاً، إلا أنهم يجمعون على أنه السنة، ولا ينبغي تعمُّد خلاف ذلك.
وبعضهم -غير الأئمة الأربعة- يقول: إن تعمد فلا وضوء له، وإن وقع منه نسيان فلا إعادة عليه.
وإذا جئنا إلى السنة النبوية -كما يقول الشوكاني وابن القيم - فلم يؤثر ولم يرِدْ عنه صلى الله عليه وسلم، ولا عن الخلفاء الراشدين -سوى رواية علي، وفيها ما فيها- أن أحداً توضأ عاكساً هذا الترتيب الذي جاء في كتاب الله.
فلا ينبغي عكسه، وإذا قسناه على بداية الصفا والمروة فإننا نعتبر البداءة التي بدأ الله سبحانه وتعالى بها.
ثم من ناحية أخرى يقولون: لو نظرنا إلى أعضاء الوضوء الأربعة، فأشرفها الوجه.
فالوجه فيه خصائص تقدمه على غيره، فإذا بدأت بالوجه نزلت بالترتيب إلى اليدين، لكنك تصعد إلى الرأس ثم تنزل إلى القدمين.
ومن هنا قال الشافعي: الترتيب واجب، فمن غير الترتيب فإن وضوءه باطل.
قال: لأن الله سبحانه غاير في تلك الأعضاء بين المتشابهين أو بين القرينين، فاليدان والرجلان متناسقان، ففرَّق بينهما، فأمر بغسل الوجه، ثم بغسل اليدين، وبإمكانه أن ينزل إلى الرجلين؛ ولكنه أمر بمسح الرأس.
فمجيء الرأس بين اليدين والرجلين يدل على أن هذا محل مسح الرأس، فلا يقدَّم على اليدين، ولا يؤخَّر عن الرجلين.
ثم قال من ناحية أخرى: اليدان مغسولتان، والقدمان مغسولتان، والرأس ممسوح، فأدخل ممسوحاً بين مغسولين، فلِمَ لَمْ يجعل المغسولات كلها في نسق وجاء بالممسوح وسطهما؟ فـ الشافعي رحمه الله لهذا الأمر قال: الترتيب واجب، ويستوي فيه العامد والمخطئ، فمن نسي فأخلف الترتيب، أو تعمد فأخلف الترتيب فوضوءه باطل.
وبقية الأئمة رحمهم الله يقولون: إنما الترتيب هو الأكمل.
والشافعي هو الذي قال ببطلان الوضوء إذا اختل فيه الترتيب عن نسقه في الآية الكريمة، مستدلاً بهذا على الترتيب الموجود في وضع أعضاء الوضوء، ومستنداً أيضاً إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (ابدأوا بما بدأ الله به) .
والله تعالى أعلم.(18/5)
إدخال المرفق في غسل اليد
قال: [وعنه رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه) .
أخرجه الدارقطني بإسناد ضعيف] .
هنا يأتي المؤلف رحمه الله ليبين لنا قضية لغوية وعملاً شرعياً، فالآية الكريمة: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة:6] لم تطلق اليد عن القيد، بل قيدت غسل اليد بـ (إلى) ، و (إلى) حرف غاية، فجعلتا الغايةَ إلى المرفقين، والمرفق هو المفصل؛ لأنك ترتفق به وتتكئ عليه، واللغة تقول: إذا كانت الغاية من جنس المُغَيَّا فهي داخلة فيه، وإذا كانت الغاية من غير المُغَيَّا فليست داخلة.
كقوله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] فهل الليل داخل في الصيام، أم هو خارج عنه؟ الليل مغاير للنهار، وجُعل الصيام إلى الليل، فالليل خارجٌ عن منطقة الصيام، وإن كان العلماء يقولون: يأخذ جزءاً من الليل تحقيقاً لكمال صوم يوم النهار؛ لكن الليل من حيث هو ليس داخلاً في الصوم، ولذا يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم) .
فلما كان الليل مغايراً للمُغَيَّا -وهو النهار، أو زمن الصوم- لم يكن الليل داخلاً.
لكن هل المرفق داخل في مسمى اليد أو أنه ليس بداخل؟ يقولون: إن كلمة (اليد) يدخل فيها أطراف الأصابع إلى المنكب، وأجزاؤها مختلفة التسمية، فالأصابع أولاً، ثم الكف، ثم الرسغ، فالزند، فالساعد، فالمرفق، فالعضد، فالمنكب، فكل جزء في اليد أخذ اسماً مستقلاً، ولكن الجميع يدخل تحت اسم اليد.
فلما جاءت كلمة (اليد) وغييَ المطلوب غسله من اليد إلى المرافق، كان المراد غسل اليد مع المرافق؛ لأنها جزء من الأيدي.
فجاء بهذا الحديث ليبين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غسل يديه أدار الماء على مرفقيه، يعني: شمل المرفق بالغسل، فالمرفق داخل في غسل اليد.
والله تعالى أعلم.(18/6)
التسمية عند الوضوء وخلاف العلماء فيها
قال رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) .
أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة بإسناد ضعيف، وللترمذي عن سعيد بن زيد وأبي سعيد نحوه، قال أحمد: لا يثبت فيه شيء] .
قوله: (لا وضوء) (لا) حرف نفي.
و (الوضوء) : عمل محسوس بيِّن وهو غسل أعضاء معينة، والأعيان لا يتوجه إليها النفي.
فعمل الوضوء حاصل، فهو قد غسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ومسح رأسه، وغسل قدميه، فالوضوء حاصل.
- فكيف نقول: (لا وضوء) وهو متوضئ؟ قالوا: إن النفي يتوجه إلى أحكام الأعيان، أما الأعيان بذواتها فلا تُنفَى.
وعلى هذا قالوا: يجب أن يكون هناك حكم مقدَّر يتوجه عليه النفي وهو: (لا وضوء معتبر) ، أو (لا وضوء صحيح) أو (لا وضوء كامل) .
وأي المعاني يقدر حتى يتوجه عليه النفي؟ بعضهم قال: لا وضوء كامل.
فالوضوء موجود، ولكن ليس بكامل، فإذا كان موجوداً والمنفي الكمال، فتصح به الصلاة.
وبعضهم قال: لا وضوء معتبر.
فيكون هنا المراد نفي الاعتبار، فلا تصح به الصلاة؛ لأنه أصبح كالعدم؛ لأن عدم اعتباره هو عبارة عن عدم وجوده، فلا يُعتد به.
ومن هنا عند اختلافهم في تقدير الوصف الذي يتوجه إليه النفي وقع الخلاف.
فإذا جئنا إلى الحديث فهو ضعيف، وأحمد بن حنبل رحمه الله يقول: لم يثبت في هذا شيء، وكون الوضوء يُعتبر أو لا يُعتبر، والصلاة يُعتد بها بهذا الوضوء أو لا يُعتد بها ليس بأمر هين، بل يحتاج إلى أن يكون الحكم صادراً عن قاعدة ثابتة قوية.
فلما كان الحديث ضعيفاً فلا يمكن أن نبطل الصلاة بعدم ذكر اسم الله على الوضوء إلا بحديث صحيح قوي يقاوم أهمية الوضوء وأهمية الصلاة، وما وجدنا.
ثم قالوا: هناك بعض النصوص، كقوله: (لا وضوء كامل) .
أورده الصنعاني.
وبعضهم قالوا: هناك حديث: (من توضأ كما أمره الله ... ) ، قالوا: لما أمرنا الله بالوضوء قال: ((فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)) ولم يذكر تسمية.
فأجيب عليهم: الأمر جاء مجملاً، ولكن الرسول بيَّن! فقالوا: أثبتوا البيان ثم احتجوا به، فالذي قلتم: إنه بيان هو ضعيف، ولا ينبغي أن نعول في أركان الإسلام والأعمال على شيء ضعيف.
ومن هنا لم يقل بوجوب التسمية على الوضوء إلا الظاهرية.
وبعض شُرَّاح الحديث ينسب لـ أحمد أنه قال: إذا ترك التسمية عامداً بطل وضوؤه، وإن تركها ناسياً صح وضوءه ولا يعيد الصلاة.
وهذا القول يذكره ابن قدامة في المغني.
فالرواية عن أحمد ليست على العموم كالظاهرية، وإنما يفرق بين المتعمِّد والناسي.
والجميع -ما عدا الظاهرية وهذا التفصيل عند أحمد - على صحة الوضوء ولو لم يذكر اسم الله عليه.
وأهم ما في الموضوع هنا -كما قال أحمد -: أنه لم يثبت فيه شيء، فلا نحكم على أحد ترك التسمية ببطلان وضوئه، ولا ينبغي لأحد أيضاً أن يترك التسمية على الوضوء ولو كان الحديث ضعيفاً؛ لأن غاية ما فيه أنه ذكرٌ لله على هذا العمل، ويعتضد بصفةٍ عامة بحديث: (كل أمر ذي بال لم يُبدأ باسم الله أو الحمد لله فهو أبتر) ، فلا نجعل وضوءنا أبتر وأقطع، بل نذكر اسم الله عليه، ويتم لنا الأمر، والحمد لله.(18/7)
الفصل بين المضمضة والاستنشاق
قال رحمه الله تعالى: [وعن طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفصل بين المضمضة والاستنشاق) أخرجه أبو داود بإسناد ضعيف] .
إيراد هذا الحديث في هذا المكان يورد عليه بعض العلماء شيئاً من وجهة النظر في الترتيب؛ إذ كان ينبغي أن يذكر هذا مع المضمضة والاستنشاق هناك.
فقوله: (يفصل) الفصل: جعل كل شيء على حدة.
والمضمضة والاستنشاق جاء لهما صور عديدة: منها: أن يمضمض ويستنشق ويستنثر بالكف التي أخذ بها الماء.
ومنها: أن يمضمض ويستنشق بكف واحدة.
ومنها: أن يفعل ذلك ثلاث مرات بكف واحدة.
ومنهاك أن يفصل بينهما.
فقوله: (يفصل بينهما) يحتمل أنه يأخذ كفاً واحدة فيتمضمض ثلاث مرات، ثم يأخذ كفاً واحدة فيستنشق ثلاث مرات.
فهذا فصل بين المضمضة والاستنشاق.
أو أنه يأخذ للمضمضة غرفة فيتمضمض، ثم يأخذ للاستنشاق غرفة ويستنشق، ويفصل بينهما في أخذ الماء، فالمضمضة لها ماء مستقل، والاستنشاق له ماء مستقل.
فعلى كلتا الحالتين العمل صحيح، سواءٌ أجمع المضمضة والاستنشاق من غَرفة واحدة بكف واحدة، أم أخذ لكل واحدة غَرفة مستقلة، وسواءٌ أأخذ ثلاث غَرفات للمضمضة وثلاث غَرفات للاستنشاق، أم ثلاث غَرفات لكل من المضمضة والاستنشاق يتمضمض ويستنشق من كل غَرفة منهما معاً، وهذا نص في أنه يفصل بينهما.
قال رحمه الله تعالى: [وعن علي رضي الله عنه في صفة الوضوء: (ثم تمضمض صلى الله عليه وسلم واستنثر ثلاثاً، يمضمض ويستنثر من الكف الذي يأخذ منه الماء) .
أخرجه أبو داود والنسائي] .
هذه الصورة الأخرى في رواية علي رضي الله تعالى عنه، وهي أنه يمضمض ويستنشق ويستنثر ثلاثاً من الكف الذي أخذ به الماء) ، يعني: من كف واحدة يتمضمض بجزء من الماء، ثم يستنشق ببقية الماء في تلك الكف، ويستنثر بتلك الكف التي أخذ بها الماء، سواءٌ أكان أخذُه الماءَ باليمنى، أم كان أخذُه الماءَ باليسرى، فيجمع المضمضة والاستنشاق في غَرفة واحدة، ويستنثر الماء من الأنف بتلك الكف التي أخذ بها الماء، ولم يعيِّن لنا أيَّ الكفين، أهي اليمنى أم اليسرى.
والله تعالى أعلم.
قال رحمه الله تعالى: [وعن عبد الله بن زيد في صفة الوضوء: (ثم أدخل صلى الله عليه وسلم يده، فمضمض واستنشق من كف واحد، يفعل ذلك ثلاثاً) .
متفق عليه] .
يؤخذ من قوله: (فمضمض واستنشق من كف واحد) أنه جمع بينهما، ففي حديث طلحة: (يفصل) ، وهنا: (يجمع بين المضمضة والاستنشاق من كف واحد) .
فسواءً جمعتَهما أم فصلتَهما فلا حرج في ذلك.(18/8)
وجوب إسباغ أعضاء الوضوء بالماء
قال رحمه الله تعالى: [وعن أنس رضي الله عنه قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً وفي قدمه مثل الظفر لم يصبه الماء، فقال: (ارجع فأحسن وضوءك) .
أخرجه أبو داود والنسائي] .
هذا حديث (اللمعة) كما يقال، وهو متعلق بإسباغ الوضوء وترتيبه، فالنبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً توضأ وعلى قدمه أو في عقبه لمعة مثل الظفر -أي: قدر الظفر- وفي بعض الروايات: (قدر الدرهم) ، أو يكون معنى (مثل الظفر) : لمعة كلمعة الظفر؛ لأن الظفر يلمع، والجلد إذا غُسل وبقي جزء منه لم يُغسل صار أبيض يلمع؛ لأن الماء معدود في الألوان السوداء، كما في باب التغليب، وفي الحديث: (الأسودان: التمر، والماء) ، فإذا غسل القدم أو اليد أو الوجه وتعدَّى الماء عن جزء فلم يصبه كان كاللمعة وسط بقية العضو المغسول، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ارجع فأحسن وضوءك) .
وفي بعض الروايات: أعد وضوءك.
وبعضها: أتمم وضوءك.
فمعنى (أحسن) أن الوضوء قبل ذلك كان ليس بحسن.
وروي عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه إذا كان شيئاً يسيراً فلا تأثير في الوضوء؛ لأن الحكم للأغلب.
وعلى رواية: (أتم) أو: (أعد) يكون ذلك نصاً في أن هذا الوضوء بهذه اللمعة غير تام، ولا تصح به الصلاة.
ومن هنا أخذ العلماء وجوب الموالاة بين غسل الأعضاء، لا أن يغسل وجهه، ثم يذهب ليشرب قهوة، ثم يجيء ليغسل يديه، ثم يأخذ كتاباً ويقرأ فيه، ثم يمسح رأسه ويتكئ حتى يستريح، ثم يقوم ويغسل قدميه.
والموالاة مقياسها أن يغسل العضو قبل أن يجف الماء عن العضو الذي قبله، فلو أنه غسل وجهه، ثم أراد أن يغسل يديه، وكان البرد شديداً، فأخذ شيئاً يستر وجهه أو يمسح بيده الماء عن وجهه ولم يجف، فغسل يديه، ثم مسح رأسه، ثم بعد أن مسح رأسه لبس الطاقية أو العمامة، ثم ذهب وغسل قدميه.
يعتبر ذلك موالاة؛ لأنه لم يفرق بين العضو والذي قبله بزمن يجف فيه العضو -كما يقولون- في الجو المعتدل مع الإنسان المعتدل، فهناك بعض الناس عنده حرارة، فحالاً يجف الماء، وأحياناً في الشتاء يكون جفاف الماء عن العضو ليس مثل الصيف، فقالوا: في الجو المعتدل.
وموجب أخذهم بالموالاة هنا أنه عندما غسل تلك الأعضاء، وبقيت لمعة في رجله أو في يده أو في غير ذلك، فإنه لو غسل ذلك الجزء فقط فبقية الأعضاء التي جاءت بعد هذا العضو جاءت على فساد؛ لأن العضو الذي قبلها لم يتم غسله، وكذلك لو أن اللمعة كانت في القدمين وليس بعدها عضو آخر، فإذا طال الزمن، وجف الماء عن الرأس واليدين، وأراد أن يكمل غسل القدمين، أيكون غسل اللمعة موالياً للأعضاء التي قبلها، أم أنه مضى عليه زمن؟ فإن كان مضى عليه زمن فإن الموالاة تكون قد فُقِدت، فيكون قد غسل القدمين، أو أحسن غسل القدمين بعد فصل طويل عن الأعضاء قبلها، فيبدأ الوضوء من جديد لتتحقق له الموالاة.
ولذا قدمنا أنه إذا انتبه للمعة وهو في مكان الوضوء أخذ نقطة ماء -ولو من شعره- ومسح اللمعة وأجزأه ذلك، أما إذا كان قد بعُد عن مكان الوضوء وجفت الأعضاء فإن القدمين ستصبحان مفصولتين عن الأعضاء قبلهما، فلم تكن هناك موالاة، فعليه أن يبدأ الوضوء من جديد لتتم له الموالاة.
والله تعالى أعلم.(18/9)
الاقتصاد بالماء عند الوضوء
قال رحمه الله تعالى: [وعنه رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمُدِّ ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد) .
متفق عليه] .
مقدار الماء في الوضوء والغسل موضوعه واحد، فكان من حسن التنسيق أن يكونا معاً في مكان واحد.
ولعله أخره من أجل أنه فيه ذِكْر الغسل، فأخره إلى آخر أعمال الوضوء.
قال: (كان صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمُدِّ -والمُد: قدر لتر وثلث- ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد) ، والصاع أربعة أمداد، فقوله: (إلى خمسة أمداد) أي: صاع وربع.
فهذا بيان لأقل المقدار، والذي ينبغي على الإنسان -كما يقول العلماء- ألَّا يزيد على ذلك؛ لئلا يدخل في السَّرَف وتضييع المال.
وإذا كان النص جاء -في العبادات لله- بالمحافظة على الماء وعدم الإسراف فيه مع وفرته وكثرته فما بالك بالمال الذي هو عصب الحياة؟! فهو تعويد على الاقتصاد في استعمال الماء؛ ليكون خطوة إلى التعوُّد على الاقتصاد في غير الماء.
وفي هذا المعنى جاءت أحاديث، منها أنه: (اغتسل من فَرَق) و (الفَرَق) : ثلاثة آصُع.
ومنها أنه: (اغتسل هو وميمونة في جفنة فيها أثر العجين) .
فإذا كان يغتسل بالصاع الذي هو أربعة أمداد فهذا يكفيه في الغسل، وهذا يأتي مع الدلك والتحفظ في استعمال الماء.
قوله: (ويتوضأ بالمُد) ، وفي رواية: (أتي بثلثي مد) ، فهل هناك مغايرة؟ والجواب: لا توجد مغايرة، فإذا كان الماء قليلاً دلك حتى يتمكن من إيصال الماء لجميع البشرة، وإذا كان الماء متوافراً مرَّر يده ليتأكد، فالمهم التأكد من إسباغ الوضوء، فإذا كان الماء قليلاً تعيَّن الدلك، وإذا كان الماء كثيراًَ وتأكد بجريان الماء على العضو فالحمد لله، لكن لا ينبغي أن يزيد -إن أمكن- في الوضوء على المُد، ولا في الغسل على الخمسة أمداد، أي: صاع ومد.
والله تعالى أعلم.
فهذا ما يتعلق بالوضوء والغسل في العبادة.
ويُقاس عليه الوضوء والغسل للنظافة، أو المسنون في غسل الجمعة أو للإحرام أو لدخول مكة أو لعرفة، ولكن المهم هنا أنه لو أن إنساناً في الغسل الاعتيادي يريد أن يغير ملابسه، ويريد أن يزيل عنه العرق، ويريد أن ينظف نفسه، فتارةً يستعمل الصابون، وتارةً يستعمل الماء بدون صابون، فهذا لا حد فيه، ما لم يصل إلى الإسراف؛ فالتحديد هنا في رفع الحدثين، الأصغر بمُد، والأكبر بصاع إلى خمسة أمداد.(18/10)
بيان الذكر عند الانتهاء من الوضوء
قال رحمه الله تعالى: [وعن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء، ثم يقول: (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) إلا فُتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء) .
أخرجه مسلم والترمذي وزاد: (اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين) ] .
لقد أحسن المؤلف ختم هذا الباب بهذا الحديث، وبيان ما ينبغي أن يقوله المتوضئ، فهذا هو الدعاء المسنون المشروع عقب الوضوء، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: (ما من أحد يتوضأ فيسبغ -قيده بإسباغ الوضوء- ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله) ، فهي أساس التوحيد وقاعدة الإسلام، فأنه فعل ذلك امتثالاً لأمر الله، وطاعة لرسول الله؛ لأن هذا العمل الذي جاء به أمر تعبُّدي، ولا دخل للعقل ولا للعلة فيه، إنما يأتي به المسلم طاعة لله ورسوله، كما يقول ابن رشد في بداية المجتهد: (عملٌ مُوجَبُه في غير موجِبِه) .
فالإنسان يخرج منه الريح، فيتوضأ ولا يغسل موضع خروج الريح الذي هو سبب في الوضوء، فلا نغسله ونغسل أعضاءً بعيدة كل البعد عن سبب هذا الوضوء، فأين العلة هنا؟ فلا علة ولا سببية، إنما هي طاعة لله.
ومن هنا يعلن المسلم هذه الشهادة عقب هذا العمل التعبدي المحض الذي لا علاقة له بعلة ولا سبب، كأنه يقول: يا رب! أشهد أنك أنت الله الواحد الأحد، أمرتني فامتثلتُ، وأشهد أن نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم بلَّغنا عنك فسمعنا وأطعنا، فتحقيق الإيمان بالله والطاعة لله ولرسوله، بسببه فتحت له أبواب الجنة الثمانية.
وقال في الحديث: (فُتحت) ، ولم يقل: (تفتَح) ، فقالوا: هذا يراد به أنها ستُفتح له يوم القيامة.
ونحن نقول: لماذا التكلف فيها؟ لنقل: فُتحت الآن، وما المانع أن تُفتح الآن؟ وسيدخلها إن شاء الله من أيِّ أبوابها، فلا مانع.
وزاد بعض الروايات: (اللهم اجعلني من التوابين -أي: فيما أخطأتُ، وما أسررت وما أعلنت- واجعلني من المتطهرين) ، والتوبة هي طهارة داخلية، والتطهر طهارة ظاهرية، ولأن الوضوء يحقق الطهارة والنظافة فسأل الله التوبة بالمناسبة.
ومن هذا قوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37] ، ثم قال تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [آل عمران:38] ، فلما وجد الأرزاق تأتي من عند الله قال: يا رب! أعطني.
فكذلك هنا، فلما فعل الطهارة الحسية طلب من الله الطهارتين: الطهارة الحسية من كل الأخطاء، والطهارة المعنوية بالتوبة، فيكون من عباده التوابين والمتطهرين.
وينبه العلماء على قضية شائعة عند العوام، وهي أنهم يجعلون لكل عضو من أعضاء الوضوء دعاءً، ويقول النووي رحمه الله: كل هذه الأدعية المخصوصة بكل عضو لا أصل لها في السنة، وإنما يفعلها بعض الناس بالمناسبة.
والله تعالى أعلم.(18/11)
كتاب الطهارة - باب المسح على الخفين [1]
المسح على الخفين من أبرز مباحث الطهارة، وتواترت النصوص فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم -قولاً وفعلاً- حتى قيل: إن رواة المسح على الخفين نحو ثمانين صحابياً وقد خالف فيه أهل البدع حتى صار شعار أهل السنة المسح على الخفين، وشعار غيرهم عدمه.
ولهذا الباب مسائل وأحكام وشروط وضوابط وأحوال تناولها أهل العلم بالبحث في مصنفاتهم في ضوء الأحاديث الواردة عن خير الأنام محمد عليه الصلاة والسلام(19/1)
مشروعية المسح على الخفين
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ، فأهويت لأنزع خفيه، فقال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما) متفق عليه.
وللأربعة عنه إلا النسائي: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح أعلى الخف وأسفله) وفي إسناده ضعف] .
هذا الباب بعنوان (المسح على الخفين) ، والخفان: هما لباس القدمين، ومناسبة هذا الباب لما قبله من مباحث الوضوء، أن مسح الخفين يتعلق بغسل القدمين، وهما من أعمال الوضوء، فكان مبحث المسح على الخفين من تتمة أبحاث الوضوء.(19/2)
تواتر الأدلة على جواز المسح على الخفين
والمسح على الخفين قد يكون من أبرز مباحث الطهارة، وبلغت فيه النصوص حد التواتر، ولم يخالف في مشروعية المسح إلا من خالف أهل السنة، حتى صار شعار غير أهل السنة أنهم لا يمسحون على الخفين، وشعار أهل السنة أنهم يمسحون على الخفين، والمسح ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً، أما من حيث القول - كما يقول البيهقي وغيره - فقد وصل عدد رواة المسح عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى نحوٍ من ثمانين صحابياً، ولذا قال الكرخي: أخشى الكفر على من أنكر المسح على الخفين.
أي: لأنه ثابت بهذه القوة من عدد الرواة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(19/3)
رد دعوى النسخ أو التعارض فيما يتعلق بغسل القدمين ومسحهما
وقع شبه توقف أو تساهل في بادئ الأمر لموضوع آية المائدة التي فيها الأمر بغسل القدمين، حتى جاء جرير بن عبد الله وروى المسح على الخفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هل رأيته مسح قبل آية المائدة أو بعدها؟ - آية المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة:6]- فقال مجيباً: وهل أسلمت إلا بعد آية المائدة؟! ويقولون: إن آية المائدة نزلت في غزوة المريسيع، في قضية العقد، والمريسيع إنما كانت في السنة الرابعة، وقالوا: إن إسلام جرير بن عبد الله البجلي كان في عام الفتح، فيكون ذلك متأخراً بأربع سنوات، فكان البعض يظن أن آية المائدة نسخت المسح، حتى نقلوا عن علي رضي الله عنه أنه قال: سبق الكتاب المسح.
وقالوا: الكتاب: هو آية الوضوء، وفيها الغسل.
وأجابوا عن ذلك بقولهم: إن كان الكتاب سبق، فتكون الآية سابقة ومتقدمة، ويكون المسح متأخراً عن الكتاب، والمتأخر لا ينسخ بالمتقدم، فعلى روايتكم أنتم أيضاً عن علي: سبق الكتاب المسح.
يكون المسح ثابتاً بعد الكتاب؛ لأن الكتاب سابق، أي: متقدم عليه.
وكانوا أيضاً يقولون: إن أحاديث تعليم الوضوء ليس فيها مسح، وجاء أيضاً الحث على غسل الرجلين في أحاديث: (ويل للأعقاب) ، أي: مَنْ مَسَحَ العقب ولم يغسله بالماء، وجاءت قراءة الآية الكريمة: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] ، فقالوا: إن قراءة: (وأرجلِكم) بالجر عطف على مسح الرأس، فتكون الأرجل تمسح بذاتها، ولم يأت فيها ذكر الخف.
وأجاب الجمهور أن القراءتين إذا كانتا ثابتتين؛ فهما بمثابة آيتين مختلفتين، ونبه على ذلك والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه في أضواء البيان عند قضية غسل القدمين وقراءة المسح؛ لأن بعض الطوائف المنتمية إلى الإسلام لا تغسل القدمين، وإنما تمسحهما دون أن تكونا في خفين، فيمسح القدم بأصابعه ويكتفي بذلك، بناء على قراءة: (وأرجلِكم) ، على أنها معطوفة على مسح الرأس فتمسح، وأجاب ابن جرير الطبري وغيره بأن القراءة المشهورة هي قراءة النصب: (اغسلوا وجوهَكم) ، (اغسلوا أيديَكم) ، (اغسلوا أرجلَكم) .
وقراءة الجر قالوا: بالمجاورة، والمحل محل نصب، ولكن جاءت قراءة: (وأرجلِكم) بالجر للمجاورة لمسح الرأس.
ويبين موضوع قراءة النصب استمرارية فعله صلى الله عليه وسلم، أنه كان يغسل قدميه، وقالوا: إن قراءة الجر مع قراءة النصب لا تعارض بينهما؛ لأن قراءة النصب التي تقتضي الغسل هي حينما تكون القدمان عاريتين، وقراءة الجر التي تقتضي المسح هي حينما تكون القدمان داخلتين في الخفين، فنمسح على الخف بقراءة الجر.
ومن هنا قال بعض العلماء: إن المسح على الخفين ثابت بالكتاب كما هو ثابت بالسنة.
ولكن يغنينا عن هذا كله ما تواتر فيه النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم.(19/4)
المسح على الخفين سمة لأهل السنة
وبهذا تكون مشروعية المسح على الخفين سمة من سمات أهل السنة، ويكون المنع من المسح سمة من سمات تلك الطوائف التي تغاير أهل السنة، ومن الطرف أن الحسن بن علي بن زيد عتب على كاتب عنده فحبسه وصادر ماله، فكتب إليه هذا الكاتب من السجن يعتذر في أبيات، ومما قاله في هذه الأبيات - وكان قد اتهم بالتشيع -: إلى الله أشكو ما لقيت محبة قوم بهم بليت إلى أن قال: أمسح خفي ببطن كفي ولو على جيفة وطيت فجعل كونه يمسح على خفه تبرئة له من تلك الطوائف التي اتهم بها، ودليل أنه من أهل السنة أنه يمسح على خفيه.
إذاً: أخذ موضوع المسح على الخفين حيزاً واسعاً، وإن كان المسح رخصة - كما سيأتي في حديث صفوان بن عسال: (رخص لنا) - فإن الإمام أبا حنيفة رحمه الله يرى وجوب المسح عند قوم ينكرونه ليظهر السنة عندهم.
والبحث في المسح على الخفين يتناول؛ المشروعية - وقد أشرنا إليها بأحاديث التواتر -، وكيفية المسح، ونوعية الممسوح عليه، والتوقيت له حضراً وسفراً، وزمن الرخصة فيه، ومن أي شيء يمسح عليه - الحدثان الأصغر والأكبر، أم الأصغر فقط -، وبأي الطهارتين؛ المائية والترابية، أم المائية فقط، هذه جوانب مباحث المسح على الخفين.
نأتي إلى هذا الحديث الأول الذي صدر به المؤلف رحمه الله هذا الباب؛ لأنه يعتبر الأصل في المشروعية، وفي الكيفية، وفي بعض الشروط له.
يقول: عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم) ، متى كان معه، وفي أي مكان؟ تأتي نصوص أخرى أن ذلك كان في غزوة تبوك، وغزوة تبوك متى كانت؟ كانت في السنة التاسعة، وآية المائدة متى نزلت؟ نزلت في غزوة المريسيع سنة أربع، إذاً: فحديث المغيرة بعد نزول آية المائدة بخمس سنوات، فلا يمكن أن يدعى بأن المسح نسخ بآية المائدة؛ لأن آية المائدة نزلت قبل زمن، ثم بعد خمس سنوات يأتي المغيرة وينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مسح، إذاً: فلا مجال لادعاء النسخ هنا أبداً، وانتهت قضية الإشكال في الخلاف أو النزاع، إلا من أصر واتخذ جانباً لنفسه.(19/5)
من شروط المسح على الخفين لبسهما على طهارة
كان صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، ثم حانت صلاة الفجر، يقول المغيرة رضي الله عنه: فذهب النبي صلى الله عليه وسلم لقضاء حاجته، وكان من عادته إذا كان في الفلاة بيعد حتى لا يراه الرائي، فتبعه المغيرة بإداوة من ماء، وتنحى عنه حتى قضى حاجته، ثم جاء يصب عليه الماء ليتوضأ، كما ذكر مالك في الموطأ: شرع ليخرج يديه من كم الجبة فضاق الكم عليهما، فأخرجهما من تحت الجبة، وغسلهما، وهذا يعني: أن الكم الضيق موجود من قديم، لكن ليس بـ (الكبك) الذهب أو الفضة.
يقول المغيرة رضي الله عنه: (فأهويت لأنزع خفيه) ، من أجل أن يغسل القدمين، وهذا من باب المساعدة في الطهارة أو في الوضوء، وخاصة لذوي الشأن فلا بأس في ذلك، (فقال: دعهما) ، أي: اتركهما في مكانهما في القدمين، (فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما) ، فقوله رضي الله تعالى عنه: فأهويت لأنزع الخفين من قدميه صلى الله عليه وسلم، أي: ليغسل القدمين على ما هو الأصل، فنهاه صلى الله عليه وسلم، أو أمره ألا ينزعهما، وأخبره بما يتم المسح به: (فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما) ، وتتمة الحديث -ثم نعود إلى محل الشاهد-: أنهما أتيا القوم فوجدا أن القوم استبطئوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، وفي الخبر بأنهم ترددوا ماذا يفعلون، فقد جاء وقت الصلاة والرسول صلى الله عليه وسلم لم يأتهم، فهل ينتظرون حتى لو خرج الوقت، أم يقدمون واحداً منهم يصلي بهم، ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم حاضراً، لكن ليس موجوداً عندهم الآن؟ أخيراً استقر رأيهم على أن قالوا: الرسول صلى الله عليه وسلم أعلم بظروفه، وهو في غيبته لا نحكم عليه بشيء، ونحن مكلفون بأداء الصلاة وقد جاء وقتها، فلنصل.
وهذا كما سبق التنبيه عليه في بعض المحاضرات في الجامعة الإسلامية للشيخ أبي الحسن الندوي، قال: هناك مواقف في الإسلام يتردد فيها المسلم بين الحكم العقلي وبين دواعي العاطفة، فذكرت له هذه القضية، فقال: نعم.
وهنا الصحابة رضي الله عنهم -حسب مقتضى العقل- يقولون: الصلاة واجبة فعلينا أن نصلي قبل أن يخرج الوقت.
ومنطق العاطفة يقول: ننتظر حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي بنا؛ لأن صلاة أحدنا بنا ليست كصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكن أي الجانبين غلّبوا؟ أغلّبوا المنطق والعقل، أم غلّبوا العاطفة؟ قدّموا منطق العقل بأداء الصلاة في وقتها، فقدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المغيرة والناس في الصلاة، وفي بعض الروايات أن المغيرة همّ أن ينبه الإمام ليرجع، وعند الفقهاء إذا تأخر الإمام الراتب وقدم القوم رجلاً منهم وحضر الإمام الراتب فهو أحق بالإمامة، ولو كان الذي قدموه صلى بعض الصلاة، فيأتي الإمام الراتب ويتقدم ويصلي بالناس، ويعتبر ما بدأ به بداية لصلاته، وهم يبنون على ما تقدم من صلاتهم، وكل يكمل صلاته، ثم هم يجلسون عند إتمام صلاتهم، وهو يقوم لإتمام ما فاته، ثم يسلم فيسلمون معه، فهنا كان من فقه المغيرة أن ينبه الإمام ليتقدم الإمام الراتب، وهو النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من حقه ذلك، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم نهاه، وقال له: اتركه، وهذا أيضاً يدل على أن من حق الإمام الراتب أن يتنازل عن حق، ويقر من قدموه للصلاة بهم؛ لأن مدار الإمامة على رضا الجمهور، فإذا ارتضوا هذا الإنسان كان إمامهم، وعندنا حديث في المحراب: (تخيروا لوفادتكم؛ فإن إمامكم وافدكم إلى الله) ، الإمام وافدنا إلى الله، يتقدم بنا إلى الله، فينبغي أن يكون على أعلى مستوى؛ لأنه يسأل الله لنا، فيقول: اهدنا الصراط المستقيم.
ونحن نقول: آمين.
إذاً: من حق الإمام أن يتقدم ويأخذ مكانه، ومن حقه أيضاً ترك الإمامة لمن اختاروه، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وكبر المغيرة معه، وكان ابن عوف قد صلى ركعة وبقيت ركعة للجماعة، فلما أتموا صلاتهم سلموا، وقام النبي صلى الله عليه وسلم ومعه المغيرة يكملان ما بقي عليهما من صلاتهما، فلما رأى الناس رسول الله فزعوا، ولسان حالهم: كيف تقدمنا على رسول الله؟ وكيف يصير مأموماً وراءنا؟ فلما سلم وأنهى صلاته قال: (لا عليكم، ما قبض الله روح نبي إلا بعد أن يصلي خلف رجل من أمته) ، ولو أننا أخذنا المسألة على مجرد أحكام، وعلى فقه، وعلى (يصح أو لا يصح) لانتهينا، ولكن كما يقولون: السنة كنز وافر.
وهذه العملية توحي بما وراء الصلاة، وتوحي بأمور عديدة جداً، لماذا ما قبض حتى يصلي خلف واحد من أمته؟ كون النبي يرضى أن يأتمّ بواحد من أصحابه، فإلى أي مدى وصل أصحابه؟ وإلى أي مدى أثمرت تربيته لأصحابه؟ وإلى أي مدى كان تأثيره في تنشئة هذه الأمة؟ كانوا أعراباً، فأصبحوا الآن أئمة، إذاً: هذا يشعر بأن النبي صلى الله عليه وسلم في تلك السنوات التسع بعد الهجرة؛ لأن سنوات ما قبل الهجرة كانت سنوات كفاح، ومصادمات إلخ، لكن هنا في الحياة العملية، كأنه في تسع سنوات تخرج على يديه صلى الله عليه وسلم الآلاف من الرجال كل منهم يصلح أن يكون إماماً، ونظن أن الدنيا كلها ما شهدت مثل هذا الإنجاز! إذاً: ما دام أنه قد أصبح كل أصحابه صالحين للإمامة، فهو بذلك يكون قد أنهى المهمة، وأدّى الواجب؛ ولذا جاءت السورة الكريمة: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً} [النصر:1-2] تكون قد انتهيت، فسبح بحمد ربك وتهيأ للقائه، كما قال ابن عباس: نَعَتْ إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرنا، لأنه إذا جاء نصر الله، وجاء الفتح، وأصبح الناس يدخلون طواعية في دين الله أفواجاً، فما الحاجة بعد هذا لرسول يقوم فيهم؟ انتهت المهمة، إذاً يتهيأ لملاقاة ربه؛ لينال الجزاء الأوفى على رسالته، وهنا يظهر معنى قوله: (ما قبض الله روح نبي إلا بعد أن يصلى خلف رجل من أمته) .(19/6)
اشتراط طهارة القدمين معاً عند لبس الخفين
قوله صلى الله عليه وسلم: (دعهما، فإني أدخلتهما طاهرتين) ، الفاء هنا تدل على السببية والعلة.
(فمسح عليهما) ، لماذا يدعهما ويمسح عليهما؟ لأنه أدخلهما طاهرتين.
فمفهوم المخالفة لو أنه لبس الخفين في قدمين غير طاهرتين فلا يصح المسح عليهما، وكان ينبغي نزعهما وغسل القدمين، ولهذا قالوا: إن من شروط صحة المسح على الخفين أن يكون الماسح قد لبسهما على طهارة كاملة، ومعنى (كاملة) من منطوق (أدخلتهما) أي: معاً، مكتملتي الطهارة، قالوا: (طاهرتين) لا تصدق فيها إلا الطهارة المائية، للنزاع الموجود في التيمم، وهل هو مبيح أم رافع؟(19/7)
التيمم مبيح للصلاة لا رافع للحدث
أعتقد أن الراجح في هذه القضية أنه مبيح وليس برافع؛ لأنه يترتب على ذلك أشياء كثيرة، والدليل على أن التيمم مبيح وليس برافع، قضية المزادتين، لما كان صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات، وانتهى ماء الجيش، فأرسل علياً رضي الله تعالى عنه ورجلاً معه ليتحسسا الماء، فسارا في طريقهما والمسلمون ينتظرون، وعند قرب الزوال لقيا امرأة -ضعينة- بين مزادتين فسألاها عن الماء الذي سقت منه، فقالت: عهدي به أمس الساعة، يعني: مشيت من على الماء أمس في مثل هذا الوقت من الظهر، معنى هذا أنه مضى عليها منذ تركت موضع الماء أربعة وعشرون ساعة، فهل يا ترى يذهبون للبحث عن ذلك الماء؟! فاختصرا الطريق وقالا: هلم بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي معها مزادتان، والمزادة: هي القربة الكبيرة المصنوعة من جلد البعير أو الثور، فقالت: إلى ذاك الصابي؟! قالا: ذاك الذي تعنين، واقتاداها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبراه بالأمر، قال: أنزلاها، وأخذ من كل مزادة جزءاً من الماء، ودعا فيه وبرّك عليه، وأعاد الماء إلى المزادتين، ثم دعا الجيش: هلم فاملئوا أوعيتكم، فملأ كل إنسان ما عنده من قربة أو أداوة أو أي شيء، وتوضئوا، وسقوا دوابهم، واكتفوا من كل الجوانب بالماء.
وكان في صلاة الصبح رجل معتزل الصلاة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما لك لم تصل معنا؟ ألست مسلماً؟ قال: بلى يا رسول الله! ولكني أجنبت ولا ماء، قال: عليك بالصعيد، فتيمم وصلى) ، فلما جاءت المزادتان وتوفر الماء قال: (أين صاحب الجنابة؟ قال: أنا، فأعطاه إناء به ماء وقال: خذ فأفرغه على جسمك) .
وهناك حديث عمر وعمار رضي الله تعالى عنهما: (إن الصعيد الطيب وضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته) فما حكم السنوات العشر التي كانت بالتيمم ألم تكن طهارة؟ بلى، ولكن كانت مبيحة، وهنا في قضية المزادتين، حينما أعطى الرسول الماء للرجل وقال: (خذ فأفرغه على جسمك) ، فهل كان ذلك لجنابة جديدة بعدما صلى الصبح، أم للجنابة الأولى التي امتنع عن صلاة الصبح بسببها، ثم تيمم وصلى الصبح؟ الجواب: للأولى.
فإن قيل: ولكنه تيمم وصلى، فيرد عليه: التيمم لم يرفع الجنابة -الحدث- ولكن أباح له الصلاة من أجل الوقت.
إذاً: التيمم ليس طهارة كاملة، فقوله: (أدخلتهما طاهرتين) يتعين أن يكون ذلك بطهارة مائية.
وقوله: (أدخلتهما) بضمير التثنية، يتفق الجمهور - ما عدا الإمام أبا حنيفة رحمه الله على أن الإنسان لو توضأ كما أمره الله، ولما غسل القدم اليمنى أدخلها في خفها، ثم غسل اليسرى فأدخلها في خفها، في هذه الحالة يكون أدخلهما طاهرتين، أم أدخل الأخيرة وهي اليسرى وهما طاهرتان؟ وهل يصح المسح على مثل هذا أم لا يصح؟ قالوا: لا يصح؛ لأنه لم يدخلهما معاً وهما طاهرتان.
لكنه غسل اليمنى وطهرها؟ قالوا: لا.
الطهارة في الوضوء لا تتجزأ، ولا تكمل طهارة القدم اليمنى إلا بعد إتمام غسل القدم اليسرى ويكتمل الوضوء، فحينئذ تكون قد طهرت أعضاء الوضوء، فلبسه اليمنى قبل يكون قبل أن تطهر اليمنى؛ لأنه بغسلها قبل اليسرى ما تمت طهارتها، ولا تتم طهارة اليمنى إلا بإكمال غسل اليسرى، أي: بإكمال الوضوء.
ولهذا قالوا: يشترط في المسح على الخفين أن يدخل القدمين معاً بعد وفاء الطهارة لهما، ولا يكون ذلك إلا بعد إكمال غسلهما قبل أن يلبس الخف في إحداهما، والإمام أبو حنفية رحمه الله يجوز أن يغسل القدمين فيلبس الخفين ثم يكمل الوضوء، وهذا بناء على النزاع المتقدم في الترتيب، هل هو واجب أو غير واجب؟ والذي عليه الجمهور أنه -كما تقدم- لا يتم المسح إلا إذا أكمل الوضوء وغسل القدمين ثم لبسهما بعد تمام الغسل.
إذاً: فحديث المغيرة يعتبر هو الأصل في هذا الباب، فإنه أثبت المشروعية بعد آية الوضوء قطعاً، ثم بين لنا الشرط، ثم نص على الممسوح عليه وهو الخف، وسيأتي النزاع في شكلية وصفات الخف الذي يصح المسح عليه، ثم الشرط في جواز المسح، وهو أن يكون قد لبسهما على طهارة.
مداخلة: فإذا توضأ وغسل القدم اليمنى ثم أدخلها في الخف، ثم غسل اليسرى وأدخلها في الخف ما حكم وضوئه؟! الشيخ: يكون قد توضأ وضوءاً كاملاً، لكن هذا الخف الذي لبسه بهذه الصفة لا يصح المسح عليه.
مداخلة: هل من الممكن أن ينزع خفيه ثم يلبسهما بعد غسله لقدمه اليسرى؟! الشيخ: ينزع الخف عن القدم اليمنى، وينزع الخف عن اليسرى، ثم يبدأ لبس الخف بعد إتمام طهارة القدمين، فهو لبس اليمنى قبل أن يغسل اليسرى، فلبسه لليمنى يكون قبل إتمام طهارتها، فينزعه، وبعد أن يكمل غسل اليسرى يلبس الخفين، سواء ألبس اليسرى أم اليمنى فلا وجود للترتيب هنا، فيكون لبس الخفين بعد تمام غسلهما معاً.(19/8)
كيفية المسح على الخفين
قال: [وعن علي رضي الله عنه أنه قال: (لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه) .
أخرجه أبو داود بإسناد حسن] .
حديث علي رضي الله تعالى عنه هذا في بيان كيفية المسح وموضعه، فيقول علي رضي الله تعالى عنه: (لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الخف من أعلاه) .
هذا النص كونه عن علي رضي الله تعالى عنه، وكما قال المؤلف: بإسناد حسن، يجعل طالب العلم يتمهل ويتوقف، ولكن ما دام ليس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والجزء الأخير من الحديث مرفوع إلى النبي: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر الخف) ، هذا النقل عنه صلى الله عليه وسلم، فنقول: محل المسح ظاهر الخف، لكن استنتاج علي رضي الله تعالى عنه: (لو كان الدين بالرأي) .
يرى بعض المحققين أن الرأي الصحيح لا يتنافى ولا يتعارض مع الدين الصحيح، أي: الثابت الصريح.
فالعقل السليم لا يتنافى مع الدين الصحيح، والدين لا يتعارض مع العقل الصحيح السليم، إذا كان النص صحيحاً صريحاً لا يمكن أن يتنافى مع العقل الصحيح الصريح، قد يعجز العقل عن الإدراك، لكن لا يتناقض مع الدين.
فمثلاً: العقل لا يدرك لماذا كانت الصبح ركعتين والظهر أربعاً، ولكن ليس عنده ما يناقضه، وعجز عن إدراك الحكمة في ذلك، والعجز ليس تناقضاً إلى غير ذلك.
ولما قال القائلون: أنتم تفرقون بين المتماثلين، وهذا منافٍ للعقل، قيل لهم: لا يوجد أبداً تفريق بين متماثلين لمحض المماثلة، وإذا وجدت تفرقة بين متماثلين في نظرك فاعلم أن هناك فرقاً قطعاً، وذكروا الرش من بول الغلام والغسل من بول الجارية، فقالوا: كلاهما رضيع، فكيف ترش هذا وتغسل هذا؟ إما أن ترش الاثنين، أو تغسل الاثنين.
فهذا منطق العقل، قيل لهم: هناك سبب، وقد كشف المحققون من المتقدمين - كـ المتولي من الشافعية - بأن بول الجارية أشد كثافة ولزوجة من بول الغلام، والآن حقق العلم في تحليلاته بأن في بول الجارية من الهرمونات ما لا يوجد في بول الغلام، فعُلم أن هناك فارقاً.
وقالوا: توضأتم من لحم الجزور ولم تتوضئوا من لحم الغنم.
قلنا: نعم، هذا ما جاء به النص، ونحن نقبله، ثم تبين بعد ذلك أنهما ليسا متماثلين، والبحث في ذلك طويل، فهنا لو كان الدين بالرأي، ولو فسحنا المجال للاستفهام -لا للاعتراض على علي رضي الله عنه- وقيل: إن الرأي الصحيح السليم لا يتنافى مع الشرع؛ لأن الإسلام جاء يخاطب العقول السليمة، قائلاً: (يا أولي الألباب) .
إذاً: لماذا كان المسح على ظاهر الخف، وليس على باطنه، كما قال علي؟ لقائل أن يقول: مقتضى العقل أيضاً أن يكون المسح على ظاهر الخف لا على باطنه، لماذا؟ ليس لمحض العقل، ولكن لنصوص الشرع، لقد جاءت النصوص بالصلاة في النعلين، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم إلى المسجد فلينظر أسفل نعليه، فإن كان فيهما أذى فليمسحهما في التراب) ، وهذا حينما كانت المساجد بها الحصباء والتراب، بخلاف المساجد اليوم، وكذلك في ثوب المرأة، لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإسدال المرأة ثوبها قال: (ترخيه شبراً، قيل: إذاً تنكشف قدماها، قال: فذراعاً؛ ولا تزد عليه) ، فقالوا: المرأة تجر ثوبها أو عباءتها خلفها في الطريق، وقد تمر على نجس، فقيل: ألا تمر على طاهر بعده، قالوا: بلى، قالوا: هذا يطهر ذاك، أي: الثوب يمر على التراب، والتراب يأخذ ما علق به من مكان آخر، وييبسه فيطهر بذلك، وذلك لضرورة ستر المرأة، فإذا كان الإنسان قد لبس النعلين وجاء إلى المسجد ونظر فيهما فوجد فيهما أذى، الرسول قال: (فليمسحهما في التراب) ، لكن لا يوجد الآن حول المسجد تراب لتحكهما فيه، وقد انتفت هذه المسألة ولا يتيسر للإنسان أن يحقق السنة فيها، فإذا كان هناك أذى وحكهما في التراب، وتوضأ وأراد أن يمسح عليهما، فإذا مرت اليد المبللة على ذاك الأذى الذي جفف بالتراب، سيُحدِث تغييراً أم لا؟ يحدِث تغييراً، فاليابس الذي طهره التراب، واكتفى الشرع به، أنت أثرته بالرطوبة، فعاد رطباً من جديد، وقد يعلق في اليد شيء مما كان في أسفل النعلين، فإذاً: ما دام أن أسفل النعلين قد جف، وجاء الأمر بالمسح؛ فاجعل المسح في الأعلى بعيداً عن تلك الاحتمالات.
إذاً: المسح على ظهر الخفين هو عين العقل، وهو الذي جاء به الشرع، ويهمنا في هذا الموضع أن علياً رضي الله عنه نقل لنا كيفية مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أنه مسح على ظاهر الخف، لكن نجد بعض العلماء أو المذاهب يقولون: المسح على ثلاث صور: مسح في أسفل الخف فقط، ومسح في أعلى الخف فقط، ومسح على أعلاه وأسفله.
فيجمعون على أن الاكتفاء بالمسح على أسفله لا يجزئ، ولا تصح به الصلاة، ويجمعون على أن المسح على ظاهر الخف فقط يجزئ، وتصح به الصلاة، ولكن هناك من يقول -كالمالكية والشافعية-: الاكتفاء بالمسح على ظاهر الخف مجزئ، ولكن الأفضل أن يمسح على أعلاه وأسفله، ولعل قولهم ذلك في حال إذا ما كان الخف يلبس في نعلين، ولم يباشر الأرض بالمشي، وقالوا في الصفة: اليد اليمنى فوق ظهر الخفين تبدأ من جهة الأصابع وتمضي باتجاه الساق، واليد اليسرى تحت الخفين تأتي من جهة الكعبين وتمضي باتجاه الأصابع، ولكن يجمعون على أن الاكتفاء بالمسح على أعلى الخفين مجزئ للصلاة، وبعضهم ينقل عن مالك رحمه الله في التوقيت وفي هذه الصور روايات، وابن عبد البر يقول: الصحيح ما وافق الجمهور، والله تعالى أعلم.(19/9)
كتاب الطهارة - باب المسح على الخفين [2]
جعل الله المسح على الخفين رخصة عامة، ليست خاضعة للضرورة أو الحاجة، إلا أن هذه الرخصة لها شروط يلزم صاحبها الإتيان بها، ومن هذه الشروط: أن يلبس الخفين على طهارة قدميه طهارة بالماء من وضوء أو غسل، ومن الشروط أيضاً أن يمسح خلال مدة يوم وليلة إن كان مقيماً، وثلاثة أيام بلياليهن إن كان مسافراً، وتبدأ المرة من أول مسح يمسحه، وإذا انتهت المدة وهو على وضوء انتقض وضوءه، ولا يصلي بوضوء مسح فيه إلا خلال المدة المعتبرة.(20/1)
مدة المسح على الخفين
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله: سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
قال: [وعن صفوان بن عسّال قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سفراً ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن، إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم) أخرجه النسائي والترمذي واللفظ له، وابن خزيمة وصححاه] .
أنهى المؤلف رحمه الله موضوع المشروعية، في حديث المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه، مع الشرط اللازم لصحة المسح على الخفين، وهو: (أدخلتهما طاهرتين) ، ثم قدم لنا كيفية المسح، ثم جاء إلى المدة، فإلى متى يمسح الإنسان على خفيه؟ هل هناك توقيت، أم ليس هناك توقيت؟ فبدأ بحديث التوقيت: (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم إذا كنا سفراً -جمع مسافر- أن نمسح على الخفاف ثلاثة أيام بلياليهن) ، هذا إذا كنا مسافرين، فقال في الحديث: (ألاّ ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة) ، لا ننزعها إلا من جنابة، ولو كان بعد ست ساعات، أو عشر ساعات، فالجنابة لا مسح فيها على الخفين، بل يجب غسل الجسم كاملاً ومن ضمنه القدمين، ولا مسح من جنابة.
فنمضي في المسح ثلاثة أيام بلياليهن، ولا ننزع الخفين لنغسلهما، بل نستمر في المسح عليهما ثلاثة أيام، إلا إذا حدثت جنابة ولو بعد يوم واحد، وهذا في حالة السفر.
قوله: (ولكن من غائط وبول ونوم) أي: لا ننزع الخفين إلا من جنابة، ونبقيهما من غائط وبول ونوم، أخذ العلماء القطع بأن الغائط والبول ناقضان للوضوء، وأخذوا أن النوم ناقض للوضوء من هذا الحديث، أما الغائط والبول فبالإجماع ولا نزاع في ذلك، ولكن النوم حقيقته عند العلماء أنه ليس بناقض، ولكنه مظنة النقض، ومعنى مظنة النقض: أن النوم من حيث هو غلبة النعاس على العين وعلى القلب ليس فيه حدث، ولكن حين ينام الإنسان لا يدرك ما يحدث منه، فهو مظنة أن يقع منه حدث ينقض الوضوء وهو لا يدري بسبب نومه، ولذا جاء في حديث ابن عباس: كنا ننتظر الصلاة حتى تخفق رءوسنا.
وجاء في الحديث: (إنما الوضوء على من نام مضطجعاً) ، ومن نام جالساً؟ قالوا من نام جالساً ليس عليه شيء؛ لأن الجالس ولو نعس لا يتمكن الريح أن يخرج منه؛ لأن موضع خروجه لا مجال له، فإذا اضطجع سهل خروج الريح منه وهو نائم لا يدري.
إذاً: النوم بذاته ليس حدثاً، ولكنه مظنة الحدث وهو لا يدري، ولغلبة الظن على وجود الحدث عند النوم فقد اعتبر النوم هو الناقض، ولذا من نام مضطجعاً فعليه الوضوء.
إذاً: المسح على الخفين لا يكون من الجنابة، بل الجنابة يجب فيها نزع الخفين وغسل القدمين، وهذا الحديث أعطانا التوقيت للمسافر بأن يمسح على الخفين ثلاثة أيام بلياليهن، لكن كيف يمسح إذا كان السفر أطول من ذلك؟ بعد المدة المحددة ينزع الخفين، ويتوضأ وضوءاً كاملاً، ويلبس الخفين من جديد، ويستأنف ثلاثة أيام أخرى، وهكذا طيلة سفره له بعد كل وضوء كامل ولبس الخفين على طهارة أن يستصحب الحكم إلى ثلاثة أيام، فهذا حكم للتوقيت في المسح في السفر ثلاثة أيام، وبيان أن الجنابة ليس فيها مسح، فإنه ينزع الخفين ولو بعد اللبس بساعات معدودة، وأعتقد أن هذا القدر في بيان المسألة يكفي، وأنصح بمطالعة أضواء البيان عند آية المائدة، فالشيخ الأمين رحمه الله ناقش قضية المسح، مع قضية غسل القدمين ومسحهما، وأتى بتفريع وتعليقات ومسائل تكاد تكون قد أحاطت بموضوع الخفين من كل الجوانب، وقد أُفرِد المسح على الخفين ببعض الكتب، وبالله تعالى التوفيق.
[عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (جعل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر, ويوماً وليلة للمقيم، يعني في المسح على الخفين) أخرجه مسلم] .
بدأ المؤلف رحمه الله في بيان التوقيت.
إلى متى يمسح الإنسان على الخفين إذا لبسهما طاهرتين؟ هل يمسح بصفة دائمة بدون توقيت بزمن، أم أن هناك تحديداً للزمن، بحيث لو انقضى هذا الزمن نزع الخفين وتوضأ وغسل القدمين، ثم إن شاء لبس الخفين مرة أخرى واستأنف المسح، وهكذا دواليك، ولو كان طول السنة؟ العلماء يختلفون في التوقيت، فالجمهور على أن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في حديث علي هنا، وكما سيأتي في حديث ثوبان - وقّت في المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام بلياليهن ما دام في سفره، وللمقيم مدة يوم وليلة، أي خمس صلوات، ويتفق الجميع على أن المسح على الخفين مطلق لا يتوقف على عذر، لا لمرض في القدمين، ولا لشدة بردٍ، ولا لشيء من ذلك، فلو كان في أشد الصيف وأشد الحر، وكانت قدماه أصح ما تكون، فإن له إذا لبس الخفين على طهارة أن يمسح، ولا يتوقف ذلك على أي عذر كان.
وقالوا: المرأة والرجل في ذلك سواء، فالمرأة إذا لبست خفين على طهارة هي كالرجل؛ في الإقامة يوم وليلة، وفي السفر ثلاثة أيام بلياليهن، ولا يتوقف ذلك على عذر أو على صفة أو على داعٍ سوى مجرد اللبس.
وعند مالك رحمه الله النزاع في المدة، فهناك من يروي عن مالك رحمه الله بأنه لم يوقت، وجعل المسح على الخفين بدون توقيت لا في حضر ولا في سفر، وسيأتي مأخذه في الأحاديث التي سيسوقها المؤلف، من أنه صلى الله عليه وسلم سئل: (أمسح على الخف يوماً يا رسول الله؟! قال: نعم.
قال: ويومين؟ قال: نعم.
قال: وثلاثة أيام؟ قال: نعم، وما شئت) ، فقوله: (نعم، وما شئت) أخذ منها مالك بأن هذا مطلق، أي: على مشيئته هو، والجمهور أخذوا بالتنصيص على التوقيت، وقد بحث والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه هذه المسألة في أضواء البيان عند آية الوضوء، ثم قال: هذه النصوص الموجودة مختلفة، ولا يمكن الجمع بينها؛ لأن بعض العلماء -كـ ابن قدامة في المغني - قال: يجمع بين هذه النصوص، فيقال: (نعم، وما شئت) ، أي: إذا مضت الأيام الثلاثة، وأردت أن تمسح فاخلع الخفين، ثم اغسل، ثم البس، ثم امسح ما شئت.
وهذه طريقة من طرق الجمع بين الأدلة.
الشيخ الأمين رحمه الله يقول: هذا تخريج، ولكن الجمع هو أن تحمل الموضوع بالنصّين وتجمع بينهما دون مغايرة لهذا النص أو لذاك النص، كما لو جاء نص مطلق ونص مقيّد، فيحمل المطلق على المقيّد، مثل عتق الرقبة؛ فقد جاء مرة مطلقاً بدون قيد الإيمان، وجاء مرة (رقبة مؤمنة) ، فحملنا المطلق على المقيد، وهنا يقول: لا يتأتى الجمع؛ لأن أحاديث التوقيت في السفر وفي الحضر تحدد مدة معينة، وحديث: (وما شئت) يقتضي الزيادة، والمعارضة بين الزيادة وعدم الزيادة تناقض، والمتناقضان لا يُجمع بينهما، والعلماء يقولون: إذا اختلف نصان؛ فإما أن يُعرف التاريخ فيكون المتأخر ناسخاً للمتقدم، وإما أنه لا يعرف ويمكن الجمع بينهما، كما جاء -مثلاً- في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة، فجاءت نصوص بأنه قد دخل وصلى، وجاءت نصوص بأنه دخل ولم يصل، فجمعوا بين النصين، وقالوا: إنه دخل الكعبة مرتين؛ مرة في فتح مكة، ومرة في حجة الوداع، فيكون الذي ذكر أنه صلى في إحدى الدخلتين، والذي ذكر أنه لم يصل يكون في الدخلة الأخرى، وليس هناك تعارض، وبهذا جمع بين النصين؛ لأن النافي والمثبت لم يذكر زمن الصلاة أو زمن عدمها، ولصحة التعارض ينبغي أن يتفق التعارض في الزمان وفي المكان وفي الفاعل، فإذاً: أمكن الجمع، فمن قال إنه لم يصل كان صادقاً؛ لأنه في هذه المرة لم يصل، ومن قال: إنه صلى كان صادقاً؛ لأنه صلى في المرة الأخرى، ولا تعارض بينهما.
فإذا لم يمكن الجمع كان المصير إلى الترجيح، فأي النصوص أرجح، نصوص التوقيت، أم نصوص الإطلاق؟ يقول شيخنا الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: والأرجح الذي تطمئن إليه النفس إنما هو ترجيح نصوص التوقيت؛ لأنه أحوط في العبادة؛ ولأن رواته أوثق من رواة الإطلاق، ولأن رواته أكثر عدداً من رواة الإطلاق.
إذاً: تتعارض النصوص في توقيت مدة المسح سفراً وحضراً، وفي عدم التوقيت، فـ مالك أخذ بعدم التوقيت في رواية عنه، والجمهور أخذوا بأحاديث التوقيت، وقالوا: من لبس الخفين ومسح عليهما فليلتزم بالتوقيت فإن كان مسافراً ثلاثة أيام بلياليهن، وإن كان مقيماً يوماً وليلة، فإن أراد أن يمسح نزع وتوضأ فغسل، ثم لبس واستمر في المسح ولو عشر سنين.(20/2)
ما يلحق بالمسح على الخفين
قال: [وعن ثوبان رضي الله عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، فأمرهم أن يمسحوا على العصائب -يعني: العمائم- والتساخين -يعني: الخفاف-) رواه أحمد وأبو داود، وصححه الحاكم] .
حديث ثوبان رضي الله تعالى عنه يخبرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية، (بعث) مادة تتعدى بنفسها، وتتعدى بالحرف، فنقول: بعث بهدية بعث بخطاب بعث زيداً.
ويقول علماء اللغة: إذا كان المبعوث يمكن أن يُبعث بنفسه فلا يُحتاج إلى الحرف، بعثت مبعوثاً إلى موضع كذا أرسلت مرسولاً إلى كذا، فلا يُحتاج أن تقول: بعثت بزيد إلى كذا، بل تقول: بعثت زيداً.
أما إذا كان المبعوث لا يصلح أن يبعث بنفسه -كالخطاب، أو الهدية، أو الطعام- فتقول: بعثت لزيدٍ بالكتاب بعثت لزيدٍ بهدية.
وهنا قال: (بعث سرية) ؛ لأن السرية تنبعث بنفسها، والسرية في الاصطلاح قالوا: ما دون الأربعين، وقالوا: بل كل جمع خرج لقتال ليس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى سرية، وكل جمع خرج فيه رسول الله يسمى غزوة، ولو كان الرجال عشرة أشخاص ومعهم رسول الله تسمى غزوة، هذا اصطلاح تاريخي في السيرة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يبعث بالسرايا، وقبل أن يخرج إلى بدر بعث عدة سرايا إلى سيْف البحر، وكان فيها حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله وعكاشة بن محصن وغيرهم، فكان يرسل السرايا في اتجاهات معينة إما للاستطلاع، وإما لأنه يكون قد بلغه خبر عن جماعات يتأهبون لغزو المدينة، فيرسل إليهم سرية تعاجلهم في مكانهم.
تلك السرية لما رجعت اشتكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم البرد (فأمرهم أن يمسحوا على العصائب) ، والعصائب: جمع عصابة، وهو ما يعصب به الرأس، أو يعصب به الأعواد أو نحو ذلك، لكن في الاصطلاح: هي ما يعصب بها الرأس، ومنه سميت العصابة، فكل ما يوضع على الرأس لمصلحتها يسمى عصابة، ومنه العمامة؛ لأنها تعصّب الرأس وتدور حولها، فقالوا: كل ما تعمم به الإنسان وأداره على رأسه يصدق عليه اسم العمامة، (فأمرهم) وأصل الأمر للوجوب، ولكن أمر هنا بمعنى رخّص وأجاز؛ لأن المسح على هذه الأماكن ليس واجباً، كما سيأتي قوله: (رخّص) ، وقوله: (إن شئت) .
قال: (والتساخين) ، أي: وعلى التساخين، وقالوا: التساخين: هو كل ما يسخن القدمين، أي من البرد، وقدمنا أن البرد ليس علة في الترخّص في المسح، ولكن السرية اشتكت، وصادف ذلك الترخيص في المسح، ومن هنا أخذ العلماء توسعة نطاق المسح على ملبوس القدمين، فقالوا: هناك الخف، وهناك الموق، وهناك الجرموق، وهناك الجورب، والنعل؛ كل هذه أسماء لملبوسات في القدم، أما النعل فلم يثبت أنه جاء المسح عليها، وكل أثر جاء في المسح على النعلين فلا يثبت، اللهم إلا ما جاء في المسح على النعلين والجوربين، فيكون مجموع النعلين مع الجوربين كأنهما شيء واحد؛ لأن النعل لا يغطي موضع الوضوء في القدم، ويشترط في الخف الذي يمسح عليه أن يكون مغطى وساتراً موضع الغسل من القدمين في الوضوء، والرِّجل تكون مكشوفة في النعل.
إذاً: ما كان على هيئة الخف، والأصل في الخف أنه مصنوع من الجلد، فبعض الناس قالوا: لا يمسح إلا على الخف الذي هو من الجلد؛ لأنها رخصة، والرخصة لا تتعدى محلها، فجاء هذا الحديث: (والتساخين) ، وهو ما يسخن القدمين، فإذا لبس الجرموق وهو أكبر من الخف، أو لبس الموق وهو أكبر منه ويلبس عليه، فلا مانع أن يمسح عليه.
ثم جاء موضوع الجورب، فالشافعية يقولون: لا يمسح على الجورب إلا إذا كان صفيقاً منعَّلاً، ومعنى منعَّل: مجعول له نعل من الجلد من الأسفل ليشابه الخف في إمكان المشي عليه، وهم يتفقون ويقولون: كل ما أمكن تتابع المشي عليه جاز المسح عليه، ولكن تتابع المشي أين يكون؟ في الصحراء والخلاء، أم في البيوت؟ قالوا: في البيوت؛ لأن بعض الأماكن لا يصلح المشي عليه حتى بالحذاء الحديث، إذاً: ما يمكن تتابع المشي عليه بأن يمسك نفسه، بقينا الآن في الجورب غير المنعَّل، فعند الأحناف نوع من التوسعة في هذا الموضوع، فكل جورب لبس على القدمين يمسح عليه، والآخرون يقولون: لا.
الأصل في ذلك الخف، فما كان من جورب يأخذ صفات الخف -ولو من غير الجلد- يمسح عليه، سواء أكان من الصوف أو من الشعر أو من القطن، بل حتى قال النووي في وصف الخف: ولا يشترط فيه أن يكون ساتراً للبشرة، كما لو كان من زجاج مثلاً، فالزجاج يكون متيناً ويكشف ما تحته، فإذا كان نوع الخف كما هو الحال الآن من النايلون أو البلاستيك، وبعضهم قال: ولو كان من الخشب، الخشب لا يكشف ما تحته، ولكن يقولون: في عموم ما يلبس ويأخذ صفات الخف من أن صفاقته تمنع نشع الماء من خلاله إلى القدم؛ لأنه إذا كان خفيفاً رقيقاً شفافاً يوصل الماء إلى ما تحته ماذا أنت مسحت على الجورب، فعندها سيصل الماء إلى القدم، فتكون قد مسحت القدم، فإذا كان جاء الحكم إلى القدم فالقدم حكمها الغسل، وأنت هنا لم تغسل القدم وإنما مسحت الجورب، ولكن تعدى المسح إلى القدم، والقدم من حكمها الغسل، ولهذا يقال: جميع أنواع الأحذية التي يرتفع ساقها إلى ما فوق الكعبين -وهو موضع غسل القدمين في الوضوء- وكان صفيقاً متيناً جاز المسح عليه أياً كان نوعه، ولو قدِّر أن هناك لفافات متينة من الورق على شكل طبقات بعضها فوق بعض فإنه يجوز المسح عليها، أما إذا كان خفيفاً كبعض الجوارب الموجودة الآن، والتي يلبسها الناس في الصيف، بعضها يكون مخرقاً كالشبكة، وبعضها يكون رقيقاً جداً بحيث يكشف عما تحته، ولا يمنع من وصول الماء إلى القدم، فهذا ينبغي إلا يعول عليه، ولا يمسح عليه، والله تعالى أعلم.(20/3)
الرد على من لم يشترط المدة في المسح
قال: [وعن عمر رضي الله عنه موقوفاً، وعن أنس مرفوعاً: (إذا توضأ أحدكم فلبس خفيه فليمسح عليهما، وليصل فيهما، ولا يخلعهما إن شاء إلا من جنابة) أخرجه الدارقطني والحاكم وصححه] .
هذا الحديث من أدلة مالك رحمه الله، عمر يقول موقوفاً عليه، وأنس يرفع القول إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الخبر جاء موقوفاً عن عمر، وجاء مرفوعاً من طريق أنس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر فيه توقيتاً، (إذا تطهر أحدكم ولبس خفيه فليمسح عليهما، ولا ينزعهما إلا من جنابة) إلى متى شاء، فهذا الحديث موقوف على عمر رضي الله تعالى عنه، ومرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بدون ذكر التوقيت فيه، ويقال: إن تصحيح الحاكم في هذا الحديث ملاحظ عليه، وأنه لم يثبت عن أنس، كما يقال: إن عمر رجع عن هذا القول، وصار يقول بالتوقيت، ولكن الذي يهمنا هو وجود هذا الأثر، سواء كان موقوفاً على عمر، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) ، أو كان مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن كما تقدم فقد رواه الدارقطني فقط، أما هناك فقد رواه أبو داود والنسائي، ورواه الأربعة، ورواه فلان وفلان فتلك أحاديث متعددة، وبروايات متعددة، وبأسانيد أقوى وأثبت من مجرد رواية الدارقطني، وعلى هذا -كما قال والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه-: إذا لم يمكن الجمع فيصار إلى الترجيح، وأحاديث التوقيت أرجح سنداً، وأكثر قائلاً، وخروجاً من العهدة بالاحتياط في الدين.
لأن من مسح بصفة دائمة ولم يأخذ بالتوقيت، بينما الآخر آخذ بالتوقيت، فلو جئنا عند مناقشة المسألة فهل أحد يختلف في صحة صلاة الذي أخذ بالتوقيت؟ لا.
فالكل مجمع على صحتها.
لكن من أخذوا بالتوقيت هل يصححون صلاة من لم يأخذ بالتوقيت؟ لا.
إذاً: صلاته غير صحيحة ومختلف فيها عند الآخرين، والواجب على الإنسان أن يترك المختلف فيه، وأقل ما فيه: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) .
قال: [وعن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوماً وليلة، إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما) أخرجه الدارقطني، وصححه ابن خزيمة] .
يروي هذا الحديث أيضاً الدارقطني، ولكن صححه ابن خزيمة مضافاً إلى الدارقطني في أن أبا بكرة ينقل نفس الأثر، ولكن بالتوقيت، (ثلاثة أيام ولياليهن) و (يوماً وليلة) .
بالمناسبة: (أبو بكرة) بتسكين الكاف وبفتحها، فـ (البَكْرة) هي الناقة في أوائل شبابها، و (البَكَرة) هي الآلة التي يوضع عليها حبل الدلو لسحب الماء، واختلفوا في تسمية أبي بكرة، هل الصحيح (بكْرة) أم (بكَرة) ؟ وهذا الاختلاف حصل؛ لأنه كان من أهل الطائف، ولما حاصر النبي صلى الله عليه وسلم الطائف تدلى من سورها على بكرة، قالوا: جاء ببكَرة وحبل وربطها في السور ونزل بها إلى المسلمين، وقيل: نزل من على السور على ظهر بكرة كانت واقفة عند السور من الخارج، فكان الاختلاف في هذا اللفظ بسبب الاختلاف في صورة نزوله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال: [وعن أبيّ بن عمارة رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله! أمسح على الخفين؟ قال: نعم.
قال: يوماً؟ قال: نعم.
قال: ويومين؟ قال: نعم.
قال: وثلاثة أيام؟ قال: نعم، وما شئت) أخرجه أبو داود وقال: ليس بالقوي] .
وهنا مربط الناقة! قال: (أمسح يوماً؟ قال: نعم.
قال: ويومين؟ قال: نعم.
قال: وثلاثة أيام؟ قال: نعم، وما شئت) .
من أخرج هذا الحديث؟ أبو داود، وهو ناقد، فماذا قال عنه؟ ليس بالقوي.
فهل يا ترى نبني صلاتنا على ما ليس بالقوي، وأن نمسح ما شئنا بدون تحديد، مع أن الأصل ليس بقوي، أم نرجع للأصل القوي الذي صححه العلماء وهو التوقيت؟ بعض العلماء يناقش المسألة بصورة عامة، فقوله: (نعم، وما شئت) ، يقولون: هذا من باب التأكيد على الترخيص، وكما قال ابن قدامة: وما شئت بالتزام التوقيت، وهذا كلام لطيف، وقالوا: (نعم، وما شئت) نظيره: (الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنوات) ، فهل هناك من يعيش بغير ماء عشر سنوات؟ ماذا سيشرب أو يأكل؟ قالوا: هذا من باب تأكيد الترخيص؛ لأن التيمم طهارة ثابتة، ولو يستمر على ذلك عشر سنوات.
إذاً: قوله: (نعم، وما شئت) تأكيد للمسح بالأيام العديدة، وفي نظري لا يخلو الأمر من أحد أمرين؛ إما الرجوع إلى الترجيح كما قاله والدنا الشيخ الأمين: ووجدنا أحاديث التوقيت أرجح سنداً، وأكثر قائلاً، وخروجاً من العهدة، واحتياطاً للصلاة، وبراءة للذمة، بخلاف القول بعدم التوقيت.
أو كما قال ابن قدامة رحمه الله، وقوله وجيه، (نعم، ما شئت) ، سنة سنتين امسح، ولكن هناك نقطة فهل نقول: (وما شئت) حتى لو كانت جنابة، أم أنه عند الجنابة سيخلع الخف؟ نقول: يوم يومان ثلاثة عشرة فهل يأخذ برخصة (نعم، وما شئت) على الإطلاق؟ يعني: إذا سافر ومسح على الخف في الصباح وأجنب في الظهر، فهل نقول له: وما شئت، أم يخلع؟ نقول: يخلع.
إذاًَ: إذا كانت الجنابة ستجعله يخلع، فنقول: مضي التوقيت أيضاً يجعله يخلع.(20/4)
مسائل في باب المسح على الخفين لم يتعرض لها المؤلف
هناك مباحث عديدة في المسح على الخفين لم يتعرض لها المؤلف، ولابد للإنسان أن يأخذ فكرة عنها:(20/5)
حكم المسح على الخف الممزق
أولاً: إذا كان الخف ممزقاً وفيه خروق، فهل يصح المسح عليه، أم لابد من خياطة هذه الخروق أولاً؟ الجمهور على صحة المسح عليه، وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله لو كانت تلك الشقوق أو الخروق في مجموعها تزيد على ربع الخف فلا يصلح المسح، والآخرون يقولون بعدم التحديد، وابن تيمية رحمه الله يقول من ناحية عقلية: هل كانت خفاف الصحابة كلها جديدة وليس فيها خروق، أم حسب ما هو معتاد خاصة بالنسبة للحالة الاقتصادية لكثير منهم؟ ويمكن أن يدعي إنسان أن جميع خفافهم كانت جديدة، فنقول: كان عمر يرقع قميصه أربعين رقعة، إذاً: الواقع الطبيعي لحياتهم يعطينا فكرة أنه لابد أن تكون بعض خفافهم مخرقة، وكانوا يمسحون عليها، فما دام الخف متماسكاً على القدم يجوز المسح عليه.(20/6)
متى تبدأ مدة المسح؟
ثانياً: إنسان توضأ ومسح فله يوم وليلة، فمتى تبدأ مدة اليوم والليلة، من لبسه عند وضوئه، أم من حدثه بعد الوضوء، أم من مسحه بعد الحدث؟ فإذا توضأ للصبح ولبس الخف في الصبح، وصلى الصبح بالوضوء الذي لبس به الخف، وبقي على وضوئه من صلاة الصبح إلى الظهر، وصلى الظهر بوضوء الصبح، وأحدث قبل العصر، فهل يا ترى! يحسب الوقت من وقت ما لبس فينتهي بصلاة الصبح من الغد أم من بعد الظهر حينما أحدث؟ أم منذ توضأ بعد دخول العصر ومسح.
فعندنا هنا ثلاثة أوقات: من حين لبس في الصباح، ومن حين أحدث بعد الظهر، ومن حين مسح بعد دخول وقت العصر، فمتى تبدأ مدة اليوم والليلة؟ المشهور أنه يبدأ من أول مسحة، يعني: من بعد دخول وقت العصر، والمدة التي فاتت هي على حساب الوضوء الأول؛ لأنه أمره أن يمسح يوماً وليلة، فلو اعتبرنا ما قبل المسحة الأولى نكون قد أعطيناه أقل من يوم وليلة، لا يوماً وليلة؛ لأن هناك من يقول: من حين أحدث وبطل الوضوء الأول، والقول المشهور: من أول مسحة يمسحها.(20/7)
مسألة: هل انتهاء مدة المسح ناقض للوضوء؟
إذا اعتبرنا بداية اليوم والليلة من بعد العصر، له أن يمسح إلى أن يأتي الظهر من اليوم التالي، أو إلى قبيل العصر للنوافل، فلو مسح قبل العصر وقبل إتمام الأربع والعشرين ساعة، فبعد العصر يكون خرج عن المدة أم لا؟ خرج.
هو على وضوئه، فقد توضأ قبل العصر وبقي على وضوئه لم ينتقض وجاء العصر، فهل يصلي العصر الواقع بعد اليوم والليلة بهذا الوضوء الذي وقع بالمسح خلال اليوم والليلة، أم أنه بانتهاء التوقيت يكون قد انتهى الوضوء؟ هناك من يقول: يصلي؛ لأنها طهارة مكتملة ولم يأت ما ينقضها، وهو قول الحسن البصري، فيصلي إلى أن ينتقض وضوءه الأخير، أما الجمهور فيقولون: المسح رخصة، إلى وقت محدد، فلما انتهى الوقت انتهت الرخصة.
أنت حين تأخذ تأشيرة للسفر إلى بلد -وانتهت مدة التأشيرة- وأنت على أهبة السفر، خرجت -مثلاً- من بلدك متوجهاً إلى لندن ونزلت في عدة مطارات، فلما وصلت إلى لندن كانت التأشيرة قد انتهت بالأمس، بينما أنت انتقلت من بلدك منذ عدة أيام، فهل سيتغاضون عن الأيام السابقة، أم سيقولون لك: انتهت التأشيرة، وعليك أن ترجع؛ لأنك تحتاج إلى تأشيرة جديدة؟ فالجمهور يقولون: إذا كان على وضوء قبل مضي المدة، ثم دخلت صلاة بعد خروج المدة المحددة فلا يصليها بذاك الوضوء.
فإن قيل: هو لم ينتقض وضوءه.
قالوا: لكن المدة انتهت، وأبطلت المسح الذي مسحه أثناء المدة.
ولتلخيص ما سبق نقول: بدأت المدة من أول المسح، وتنتهي مدة المسح وصلاحيته بعد أربع وعشرين ساعة، فإذا توضأ ومسح بعد ثلاث وعشرين ساعة، فهل يكون مَسَح في المدة أم لا؟ يكون مسح في المدة، فجاء بعد سبع وعشرين ساعة ليصلي، ووضوءه الذي كان قبل بضع ساعات لا زال باقياً لم يطرأ عليه ما ينقضه، أيصلي بعد خروج المدة بثلاث ساعات بذاك الوضوء السابق في المدة، أم لا يصلح ذاك الوضوء للصلاة؟ هناك من يقول - كـ الحسن البصري -: يصلي ما شاء ما دام وضوءه لم ينتقض؛ لأنه وضوء صحيح بمسح صحيح في وقته.
والجمهور يقولون: لما انتهت المدة انتهت الرخصة.
وهذا يشمل المسح سواء كان في مدة السفر أو في مدة الحضر، ولو توضأ ولبس الخف -وقد أشرنا إلى ذلك فيما سبق- وقبل أن يحدث خلع الخفين، ثم لبسهما مرة أخرى قبل أن يحدث، فهل يمسح عليهما أم لا؟ يمسح؛ لأنه أدخلهما طاهرتين، فلو توضأ لصلاة المغرب وصلى بوضوء المغرب العشاء وغسل القدمين عند وضوئه للمغرب، وذهب إلى المسجد وصلى العشاء، فلما دخل البيت لبس الخفين -خوفاً من البرد عند صلاة الصبح- وهو على طهره من المغرب، فلبس الخفين بعد صلاة العشاء، فهل هذا اللبس صحيح أم باطل؟ صحيح؛ لأنه أدخلهما طاهرتين، فإذا جاء الصباح وانتقض الوضوء بالنوم أو بغيره يمسح على الخفين؛ لأنه أدخلهما طاهرتين، إذاً: ليس بشرط أن يكون لبس الخفين عقب غسل القدمين في الحال، فما دام على طهره الأول ولو طال الزمن ولبس الخفين وأدخلهما طاهرتين، فله أن يمسح عليهما.
وإذا لبس الخفين على طهارة وطال الزمن، ثم انتقض وضوءه، ولم يكن قد مسح على الخفين قبل ذلك، فخلع الخفين، هل يلبسهما على ما كان عليه، أم يستأنف وضوءاً جديداً؟ يستأنف وضوءاً جديداً.
فإذا كان قد توضأ ثم انتقض وضوءه ومسح على الخفين ثم خلعهما بعد أن مسح عليهما مسحة، حينما خلعهما أيعود للبسهما، أم يجدد الوضوء؟ يجدد الوضوء؛ لأن الوضوء قد انتقض، والوضوء الموجود الآن بمسحة، والمسحة يشترط فيها طهارة القدمين دائماً، فلما خلعهما انتفت رخصة المسح وعليه أن يستأنف وضوءاً جديداً.
وهناك من يقول: يغسل قدميه فقط، ولكن الجمهور على أن الطهارة لا تتجزأ، فعليه أن يستأنف وضوءاً من جديد.(20/8)
كتاب الطهارة - باب نواقض الوضوء [1]
معرفة نواقض الوضوء مهمة لكل مسلم، حتى لا تفسد عبادته وهو لا يشعر، ولهذا كانت الطهارة من أهم الأشياء في حياة المسلم، سواء كانت طهارة معنوية وهي طهارة القلب، أو طهارة حسية وهي طهارة البدن، فواجب على كل مسلم أن يعرف الطهارة وشروطها ونواقضها حتى تكون عبادته صحيحة.(21/1)
انتقاض الوضوء بالنوم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على عهده ينتظرون العشاء حتى تخفق رءوسهم ثم يصلون ولا يتوضئون) أخرجه أبو داود، وصححه الدارقطني، وأصله في مسلم.
نأتي إلى المسألة الأولى التي صدر بها المؤلف هذا الباب: (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء حتى تخفق رءوسهم) .
الخفق: هو ميلان الرأس على الصدر في أول النعاس، فإذا كان الإنسان جالساً ثم أتاه النعاس فإنه يخفق برأسه ويميل، فإذا مال رأسه ينتبه حالاً، وهذه هي حالة أوائل النعاس، وفي أصل الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في بعض الليالي متأخراً في ثلث الليل، وقد نام ونعس بعضهم، وأخذت رءوس بعضهم تخفق، وهذه الألفاظ جاءت في حديث ابن عباس في خروج النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة وفيه أنه قال: (إنه لوقتها لولا أن أشق عليكم، إنه لا يوجد أحد على وجه الأرض مثلكم) أي: أنكم على طهارة وتنتظرون الصلاة ولا يوجد على وجه الأرض من ينتظر الصلاة مثلكم، فكان في هذا تسلية لهم عن تأخير الصلاة، وبياناً منه صلى الله عليه وسلم أن الأفضل في وقتها التأخير، ولكنه قال: (لولا أن أشق) ، فرفع المشقة هو الذي جعل التبكير بصلاة العشاء.
وفي مسألة النوم نجد كما يقول الشراح ومنهم ابن حجر والنووي كما في شرح مسلم، ونقل ذلك عنه الشوكاني يقولون: في هذه المسألة ثمانية أقوال: فهناك من يقول: مطلق النوم ناقض، وهذا مبني على أن النوم بذاته حدث، وصاحب هذا القول كـ الحسن البصري ومن وافقه لا يراعي أي حالة ولا صفة للإنسان عند نومه، لا قليلاً ولا كثيراً، مطلق النوم عندهم إذا خامر رأس الإنسان فقد انتقض وضوءه، وعليه أن يتوضأ؛ واستُدل على ذلك بإجماع المسلمين على أن غيبة العقل بسكر أو بمخدر أو بإغماء أو بأي سبب من الأسباب فإنه يتوضأ صاحبه بجميع الأقوال، ولا يخالف في ذلك أحد؛ لأن العقل يغيب عن الحس والإدراك، فقالوا: وكذلك النوم، فإن النوم يجعل صاحبه غائباً عن الحس.
القول الثاني: مقابل لهذا: وهو أن النوم بذاته ليس حدثاً، وإنما هو مظنة الحدث، كما سيأتي الحديث في ذلك، وكان من الأنسب أن يقدمه المؤلف هنا، وإنما أخره إلى ما قبل آخر الباب بحديث واحد، وهو حديث معاوية وعلي مرفوعاً: (العين وكاء السه -والسه: اسم لحلقة الدبر- فإذا نامت العينان استطلق الوكاء) يعني: أن الإنسان ما دام مستيقظاً فالسه مربوط، والوكاء هو: الرباط، ووكاء القربة هو الذي يربطها حتى لا يتدفق الماء منها، فكذلك العين هي وكاء السه، وإذا نامت العينان استطلق الوكاء، فيخرج ما في تلك القربة وهو لا يشعر.
إذاً: من منطوق هذا الحديث: (العين وكاء السه) ، وأحاديث أخرى، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الوضوء على من نام مضطجعاً) ذكروا في هذه المسألة عدة أقوال: القول الأول: مطلق النوم ينقض، وهذا على أن النوم ناقض بذاته.
والقول الثاني: قول الجمهور: وهو أن النوم بذاته ليس ناقضاً، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم الوتر، ثم اضطجع ونام، ثم جاء المنادي لصلاة الصبح، فقام وصلى الصبح ولم يتوضأ.
فقلت له: يا رسول الله! أتصلي وقد نمت؟! فقال: يا عائشة! تنام عيناي ولا ينام قلبي) فعلى هذا إذا استطلق وكاء فهناك وكاء آخر؛ لأن القلب يقظان في حقه صلى الله عليه وسلم، فلو أنه اعتبر النوم بذاته حدثاً لكان عليه أن يتوضأ، ولكنه اعتبر أن النوم بذاته ليس ناقضاً، وأنه يقظ بقلبه، فلو كان قد حدث حدث أثناء نومه لشعر به؛ كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قصة مبيته عند خالته ميمونة، قال: (فقام صلى الله عليه وسلم من جوف الليل فتوضأ فصلى) يعني: بأنه نام وأدرك بأنه أحدث فقام وتوضأ وصلى.
وعلى هذا: إذا كان النوم هو مظنة الحدث فأي أنواع النوم هو المقصود؟ فيه ثمانية أقوال -كما ذكرها الشوكاني وذكرها قبله النووي في شرح مسلم- وكلها تدور حول نقطة واحدة، وهي: تحقيق المناط في أنه قد حصل نوم فعلاً.
فهناك من يقول: من نعس -والنعاس أوائل النوم- وهو جالس فلا وضوء عليه؛ لأن جلوسه يجعله متمكناً ولا يخرج منه شيء إلا إذا شعر به.
وهناك من يقول: إن من نام مضطجعاً واتكأ على جنبه وتمدد فعليه الوضوء؛ لأنه إذا نام متمدداً مضطجعاً فليس هناك ما يمنع خروج شيء من مخرجه؛ لأن الحال أنه نائم.
وهناك من يقول: من نام في الصلاة فلا وضوء عليه؛ لما جاء في بعض الآثار: (إن العبد إذا نام وهو ساجد يقول الله تعالى لملائكته: انظروا عبدي، روحه عندي وجسده بين يدي) فقالوا: (نام وهو ساجد) ، أثبت له النوم وهو ساجد وأثبت له صحة السجود.
وكذلك إذا نام وهو راكع، أو نام وهو جالس يتشهد، أو نام وهو قائم يقرأ، قالوا: كل نوم في الصلاة لا ينقض الوضوء ولماذا لا ينقض؟ قالوا: لأن النوم يكون خفيفاً، فإذا كان النوم ثقيلاً خرج عن هذه الصورة، ولذا عند مالك رحمه الله: أن الإنسان إذا نعس وهو قائم أو راكع فإنه لا ينتقض وضوءه، وأما إذا نعس وهو ساجد فينتقض.
وما الفرق بين السجود والركوع؟ قال: إن نام الإنسان وهو راكع فيحتاج إلى إدراك وإحساس يحفظ به توازنه، وأما إذا كان ساجداً فهو يسجد على أربعة أطراف، ومهما أخذه النوم وأغرق فيه فإنه لن يسقط؛ لأنه متمكن على أربعة أطراف.
إذاً: النوم في الركوع لا يكون ناقضاً لخفته، والنوم في السجود يكون ناقضاً لتمكن صاحبه من عدم السقوط، وكل ذلك راجع إلى تحقيق المناط في حصول النوم.
وقد جاء عن أبي موسى الأشعري أنه صلى الظهر ونام، وأصحابه حوله إلى أن أُذن للعصر فأيقظوه، فسألهم: هل سمعتم شيئاً؟ قالوا: لا، قال: أشممتم ريحاً؟ قالوا: لا، فقام فصلى؛ وهذا بناء على أن العين وكاء السه، وأن هناك حراساً، فلما لم يسمعوا شيئاً ولم يشموا ريحاً تأكد بأنه لم يحدث في نومه وإلا لأخبره أصحابه بذلك.
وعلى كل فتلك الأقوال الثمانية بالصور المختلفة في حقيقة النوم إنما ترجع إلى تحقيق المناط في أن النائم قد استغرق في النوم، بحيث لو خرج منه شيء لم يشعر به، إلا صورة واحدة عند الشافعي وهي: ما لو جلس ممكناً مقعدته من الأرض بحيث لا تسمح بخروج شيء، ولو استغرق في النوم ورأى المنامات فإنه لا ينتقض وضوءه.
إذاً: هل النوم من حيث هو ناقض بذاته أو أنه مظنة حدوث الناقض؟ الحسن ومن وافقه قالوا: هو ناقض بذاته؛ بناءً على أن زوال العقل بالأسباب الأخرى ناقض إجماعاً، والجمهور على أن النوم بذاته ليس ناقضاً، وإنما هو مظنة حدوث الحدث الذي ينقض الوضوء، ومتى يكون مظنة ذلك؟ يرجع هذا إلى تحقيق المناط في أنه نام إلى الحد الذي لو خرج منه ريح لم يشعر به، وهذا أيضاً هو رأي الجمهور.
والله تعالى أعلم.(21/2)
الاستحاضة وأحكامها
قال المؤلف رحمه الله: [قال: وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: لا، إنما ذلك عرق وليس بحيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، ثم صلي) وللبخاري: (ثم توضئي لكل صلاة) وأشار مسلم إلى أنه حذفها عمداً] .
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: أن فاطمة بنت أبي حبيش.
وفاطمة هذه كانت إحدى ثلاث كن يستحضن بالإضافة إلى حمنة وأخرى، والاستحاضة كما بين النبي صلى الله عليه وسلم قد تلتبس على المرأة بالحيضة.(21/3)
أقسام الدماء عند النساء
والدماء الخارجة من النسوة: إما دم حيض، وإما دم نفاس، وإما دم استحاضة.
ودم الحيض كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم دم أسود يُعرَف أو يعرِف، يُعرَف من المعرفة، ويعرِف من العرف وهو الرائحة، أي: أن له رائحة تعرفها النسوة.
وسبب الحيض -كما يقال- هو دورة الرحم، وللرحم دورتان: دورة شهرية، ودورة سنوية، فالدورة الشهرية هي دورة الحيضة، والدورة السنوية هي النفاس، وقد يكون نفاس بلا دم وتسمى (الجفوف) .
فإذا جاءت الحيضة ثم تواصل الدم بعدها فهذا الدم الزائد عن الحيضة يسمى (استحاضة) .
فلما قالت: (إني أستحاض) عرفت أنها ليست بحائض، ولكنها ظنت أن استمرار دم الاستحاضة يجعلها غير طاهرة، فسألت: أأترك الصلاة في هذه الحالة؛ لأني (أستحاض فلا أطهر) أي: لا يقف الدم؟ أجابها صلى الله عليه وسلم وقال لها: (لا؛ إنما ذلك عرق) أي: لا علاقة له بالطهر وعدم الطهر؛ ولذا نجد في القرآن الكريم -كما يقال- درس الألفاظ قال تعالى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة:222] فطهر المرأة ليس بيدها كما هو الاغتسال، ولذا قال: ((يطهرن)) ؛ لأنه رفع الدم، وقال: ((فإذا تطهرن)) وزاد في الأحرف؛ لأن التطهر هو حركة الماء والغسل والتدليك، وهذا بيد المرأة، فهنا أرشدها النبي صلى الله عليه وسلم وقال لها: (فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة -لأنك غير طاهرة- وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم -أي: دم الحيضة- واغتسلي وصلي) أو (توضئي وصلي) جاءت ألفاظ عديدة في هذه القصة.
والجمهور يقولون: إذا كان أول مجيء الحيض فإنها تعرفه، ولذا قال: (إذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة) وهذا الإقبال معروف، ولكن إذا أدبرت فكيف تعرف أنها قد أدبرت والدم متواصل؟ فأجابوا وقالوا: قد بين لها صلى الله عليه وسلم وأرشدها إلى أمور عديدة، وهي: إما أن يكون الدم متغيراً، بأن يكون دم الحيض أسود يعرف، وبعد انتهائه يكون دم العرق أحمر صافياً، أو أن يكون دم الحيض ليس أسود، بل عادياً، فترجع إلى أيام حيضتها قبل الاستحاضة كما قال صلى الله عليه وسلم: (فتربصي قدر ما كانت تحبسك حيضتك) فإذا كنت تحيضين في الشهر أربعة أو خمسة أيام فأمسكي عن الصلاة أربعة أو خمسة أيام، فإذا تعدت المدة التي كنت متعودة عليها فاغتسلي واغسلي عنك الدم وصلي، ولوكان الدم يجري؛ لأنه بعد مضي مدة حيضتك التي تعودتها يكون الدم خارجاً باستحاضة.
وأما إذا كانت المرأة قد نسيت حيضتها، أو كانت في أول أمرها والتبس عليها فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تحيضي كما تحيض النساء في علم الله سبعة أيام أو ستة أيام، ثم اغسلي عنك الدم واغتسلي وصلي) .(21/4)
أكثر الحيض وأقله والخلاف في ذلك
قال الفقهاء: الحيض له أقله وأكثره، والطهر بين الحيضتين له أقله، ولا حد لأكثره، فيقول الفقهاء: إذا رأت الدم أقل مدة الحيض فلتمسك عن الصلاة والصيام إلى أكثر مدته عندهم، فإن تجاوزت أقصى مدة الحيض عندهم فعليها أن تغتسل وتصلي وتعتبر الزائد استحاضة.
فما هو أقل الحيض وما هو أكثره؟ المسألة فيها خلاف، فعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أقل مدة الحيض ثلاثة أيام، فإذا رأت الدم ليوم فيقول: هذا دم فاسد، ويلزمها الصلاة عند ذلك، وهكذا إذا رأته ليومين، فإذا كان ثلاثة أيام فهو حيض عنده.
وعند الشافعي وأحمد: أقل مدة الحيض يوم وليلة، فإذا رأت المرأة الدم يوماً وليلة فهو حيض، ولا يصح لها أن تصوم ولا أن تصلي، فإذا ذهب عنها الدم اغتسلت، ولو رأت الدم أقل من يوم وليلة قلنا لها: هذا دم فاسد؛ لأنه لم يكتمل أقل مدته.
وعند مالك رحمه الله - تفصيل بين العبادات والعدة، فقال في حق العبادات: يكون الحيض إذا رأت الدم ولو لحظة، بمعنى: لو أن المرأة رأت الدم في نهار رمضان خمس دقائق، ثم ارتفع عنها ولم تره إلى المغرب قال: فسد صومها وعليها قضاؤه.
وكذلك: إذا رأته في وقت المغرب ولم يرتفع عنها حتى طلع الفجر، فهذا أقل من يوم وليلة، فتسقط عنها صلاة المغرب والعشاء، وهكذا اعتبر الحيض بالنسبة للعبادات بمجرد رؤية الدم ولو لحظة.
أما إذا كانت مطلقة وتعتد بالحيض فلا تكون الحيضة المعتبرة في العدة إلا بيوم وليلة.
وعلى هذا فقد اختلفوا في أقل مدته، فمن رأت الدم أقل من أقله فهو دم فاسد، وإذا رأته لأقله فهي حيضة معتبرة، لا تصلي ولا تصوم.
وأما أكثره فهو عند أكثر الأئمة خمسة عشر يوماً.
وعلى هذا إذا استمر الدم أكثر من خمسة عشر يوماً قيل لها: ما زاد عن أكثره فإنه استحاضة، فعليك عند آخر اليوم الخامس عشر، أن تغسلي ثم بعد ذلك يعتبر ما زاد عن هذه الفترة استحاضة تصلين وتصومين معها.
وسيأتي زيادة توضيح لما يتعلق بالحيض والاستحاضة، ويهمنا في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبره ناقضاً، وأمرها بالوضوء لكل صلاة.
وسيأتي النقاش أيضاً في أنها هل تتوضأ لكل صلاة أو تغتسل؟ لأن في بعض الروايات (توضئي لكل صلاة) وفي بعضها: (اغتسلي واغسلي عنك الدم وصلي) فكانت تغتسل لكل صلاة، وقيل: كانت تجمع بين الصلاتين جمعاً صورياً باغتسال في كل أوقاتها، وسيأتي تحقيق ذلك في باب الحيض.
إذاً: ما خرج من السبيلين على غير هيئة معتادة كسلس الدم باستحاضة، أو سلسل البول من الرجل أو المرأة، أو سلسل الريح: وهو أن يخرج بدون تحكم من صاحبه بل يغلبه عليه، فإنه يتوضأ عند دخول الوقت لكل صلاة، فإذا خرج بعد ذلك وهو على غير حالة معتادة، وبغير اختيار منه يكون قد انتقض وضوءه، وعليه وضوء آخر.(21/5)
حكم السائل الذي يخرج من الفرج
قال المؤلف رحمه الله: [وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كنت رجلاً مذاءً، فأمرت المقداد بن الأسود أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: فيه الوضوء) متفق عليه واللفظ للبخاري] .(21/6)
صفة المذي وحكمه
يقول المؤلف رحمه الله: (وعن علي رضي الله تعالى عنه قال: (كنت رجلاً مذاءً، فأمرت المقداد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم) وفي رواية أخرى: (فأمرت بلالاً) وهناك رواية أخرى دون ذكر علي (أن المقداد سأل رسول الله عن المذي) ، وفي رواية لـ علي قال: (كنت رجلاً مذاءً فكنت أغتسل في الشتاء حتى تشقق ظهري، واستحييت أن أسأل رسول الله لمكانة ابنته مني، فسأله فقال: فيه الوضوء) وفي بعض الروايات: (توضأ وانضح فرجك) وبعض الروايات: (واغسل ذكرك وأنثييك) .
وإلى هنا يتفق العلماء بلا نزاع على أن في المذي الوضوء، وأنه ناقض للوضوء كالبول.
وقوله: (مذاء) مذاء على وزن فعّال (صيغة مبالغة) أي: كثير المذي.
والماء الذي يخرج من الرجل وكذلك المرأة خلاف البول: المني، والودي، والمذي، وتزيد المرأة على الرجل بماء قبل الولادة يسمى (الهاد) أي: الهادي إلى أوائل الولادة.
ويتفقون على أن المذي هو عن طريق المني، لكنه لم ينضج ولم يكتمل حتى يصير منياً يخرج دفقاً، ولكنه يخرج بدون دفق كما يخرج غيره، وهو لا يكون إلا عند الشباب في كمال الصحة.
وسببه: إما اشتغال الفكر وإما وقوع النظر -يعني: بسبب حركة نفسية جنسية- وهو دون الملامسة، أو حصلت ملامسة ولكن لم يحصل هناك دفق للمني.
ولونه ولون المني سواء، فيه مادة لزجة، والمذي يتفقون على أنه نجس كالبول يجب غسله.
وبقي الخلاف في الألفاظ التي جاءت مع الغسل، فقوله: (وانضح فرجك) النضح: قد يطلق على الغسل، ومنه الحديث: (ويغسل أنثييه) وبعض العلماء يقول: (انضح فرجك) يعني: محل خروج المذي كما يغسل محل خروج البول.
والآخرون يقولون: (انضح فرجك) أي: كامل العضو.
وكذلك الأنثيين مع الذكر، والذين قالوا بهذا قالوا: إن الأمر بغسل هذه الأعضاء راجع إلى حالة صحية للإنسان؛ لأن المذي طريقه طريق المني إلا أنه لم ينضج، والمذي يخرج خروجاً عادياً، وأهم أعضاء خروج المني بالنسبة للرجل هي أنثياه مع فرجه، فقد تكون هناك إثارة جنسية كان مقتضاها خروج المني، ولكن جاء مانع منع خروج المني ففتر، وتغير الحال في مجراه ولم يصل الماء إلى درجة المني وبقي مذياً.
تلك الأعضاء يقولون: يحصل لها تفاعل، فإذا ما تركت ربما يحصل هناك التهاب كما يحدث لكثير من الشباب، يكون في حالة احتلام فيستيقظ ولم يستكمل خروج الماء منه فيحصل عنده التهاب؛ بسبب عدم استكمال خروج هذا الماء من مكانه، فقالوا: في غسل الذكر والأنثيين تلطيف لهذا المحل يجنب صاحبه الالتهابات أو الأخطار الصحية التي قد تنتج بسبب عدم اكتمال المني وخروجه.
إذاً: الغَسل هنا ليس له علاقة بالنقض ولكن له علاقة بصحة الإنسان، والذين قالوا: هو أمر تعبدي يغسل مع الوضوء قالوا: سواءً قبل الوضوء أو بعده بشرط إذا كان بعد الوضوء: أن يكون على اليد حائل، ولا حاجة إلى هذا كله، وإنما يغسل المحل، ثم بعد ذلك يتوضأ وضوءه للصلاة.
إذاً: المذي ناقض للوضوء وليس فيه غسل، وحكمه حكم البول في وجوب غسله.(21/7)
صفة الودي وحكمه
أما الودي: فهو ماء أبيض ثقيل، غالباً يأتي في حالات الإمساك عند قضاء الحاجة، ولعل السبب في ذلك هو ضغط الإمساك على البروستاتا عند الرجل، فيكون هناك إفراز مثل هذا الماء، وهو كذلك كالمذي لكن ليس فيه الأمر بغسل الأنثيين؛ لأنه لا علاقة له بالأنثيين، وإنما يخرج في حالة وجود إمساك عند الإنسان، ويخرج قبل خروج الإمساك أو في عقبه، وهذا الماء حكمه أيضاً كحكم البول، أي: أنه نجس يجب غسله من الثوب والاستنجاء منه، والوضوء بسببه.(21/8)
كتاب الطهارة - باب نواقض الوضوء [2]
مس المرأة وتقبيلها وأثر ذلك على الوضوء والصيام من المسائل المهمة التي ينبغي على المسلم معرفتها، حتى يبني عبادته على علم ويقين، وحتى لا يشك أو يشكك في أدائه لهذه العبادات.(22/1)
الاختلاف في نقض الوضوء بملامسة النساء
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قبَّل بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ) أخرجه أحمد وضعفه البخاري] .
حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قبَّل بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ) .
قولها: (بعض نسائه) جاء في بعض الروايات أنها هي المعنية ببعض نسائه، كما جاء في بعض الروايات أن الذي أخبرته قال: (ومن هي إلا أنت؟ فضحكت) فهذا يدل على أنها المعنية، فتكون قد أخبرت عن نفسها، وهذا مما يزيد الخبر قوة ثبوت لعدم وجود الواسطة.
وجاء عنها رضي الله تعالى عنها في تقبيل الرجل امرأته: (أنه صلى الله عليه وسلم قبلها وهو صائم) فتعددت الروايات عنها في تقبيله صلى الله عليه وسلم إياها تارة في الصيام، وتارة من أجل الوضوء، فصلى ولم يتوضأ.(22/2)
حكم تقبيل الصائم لزوجته وما يترتب عليه
أما قبلة الرجل لزوجه وهو صائم فيتفقون على أن القبلة من حيث هي لا تبطل الصوم، ولكن يخاف أن يتطور الأمر إلى ما يبطله؛ ولذا فقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم للشيخ في تقبيل زوجه وهو صائم، ومنع الشاب من التقبيل وهو صائم، وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها حينما تخبر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلها وهو صائم تقول: (وأيكم أملك لإربه من رسول الله؟) أي: أنه كان باستطاعته أن يملك نفسه فلا يتطور أمر التقبيل إلى ما وراءه باختياره أو باضطرار عليه.(22/3)
الخلاف في انتقاض الوضوء بمس الرجل للمرأة
والذي يهمنا في هذه الرواية: أنه صلى الله عليه وسلم قبلها وهو خارج إلى المسجد، ولم يتوضأ، وصلى بالوضوء الذي كان عليه قبل أن يقبلها، وهذا الحديث هو أصل الأحاديث النبوية في قضية الوضوء من لمس المرأة أو عدم الوضوء منه.
وهناك أحاديث أخرى نرى المؤلف قد أعرض عنها، وإذا نظرنا إلى الأصل: فإنه إذا توضأ الإنسان وثبت الوضوء فهو يستصحب الأصل، وما كان ناقضاً فهو خلاف الأصل؛ إذاً: الأصل في المتوضئ أن يبقى على وضوئه حتى يأتي ما يبطل هذا الوضوء، ولكن المؤلف ساق هذا الحديث من أجل أن يبين أن من قال: في تقبيل المرأة الوضوء، مستنده على هذا الحديث، والقضية من حيث هي من المسائل التي يمكن أن يعتبرها طالب العلم نموذجاً لخلاف الأئمة الأربعة، وهذه المسألة لها أصل في كتاب الله وذلك في قوله سبحانه: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:43] فهذه الآية الكريمة ربطت مجيء الأحد من الغائط بملامسة النساء، والغائط في اللغة هو: المكان المنخفض، وسمي قضاء الحاجة باسم المكان؛ لأن الغالب في حق من أرد قضاء حاجته في الخلاء أنه لا يطلب مكاناً بارزاً يكون كالنار على علم، بل يطلب مكاناً منخفضاً حتى لا يراه أحد، فسمي الآتي من الغائط كناية عن أنه قضاء حاجته هناك، فأصبح الغائط حقيقة عرفية لا لغوية في من يقضي حاجته بغائط أو بول، حتى الخارج من أحد السبيلين يسمى غائطاً، باسم المكان الذي يُقضى فيه.
وقوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43] قالوا: ملامسة النساء مقترنة بالمجيء من الغائط، والمجيء من الغائط كناية عن قضاء حاجة الإنسان، وقضاء حاجة الإنسان فيها الوضوء بالإجماع، فيكون ((لامستم النساء)) فيها الوضوء كالغائط.
وهنا يقع الخلاف في المراد بـ (لامستم) فمن قائل: هو مجرد التقاء البشرة بالبشرة، ومن قائل: إن الملامسة هي: كناية عن الجماع، وكما كني عن الخارج من الجسم بمكانه كني عن الجماع بالملامسة، كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (إن الله حيي كريم يكني ولا يسمي) .
وقد جاء في الآية: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} [البقرة:187] ، وفي الآية الأخرى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ} [البقرة:197] والرفث في الحج: كلام باللسان ويتناول أيضاً الجماع ويفسد الحج، ومثله في قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} [البقرة:187] فهو أي: الرفث المداعبة والملامسة وكذلك يراد به الوطء الذي كان ممنوعاً.
إذاً: (لامس) هناك من يقول: إن لامس (فاعل) من طرفين، كما تقول: قابل زيد عمراً، وزاحم زيد عمراً، فتكون هذه المادة مفاعلة من طرفين لا من طرف واحد، فيكون المراد بها الجماع، وتكون الآية شملت المريض والمسافر والذي جاء من الغائط والذي كان به جنابة ولم يجد ماءً أن يتيمم.
والآخرون قالوا: إن (لامس) بمعنى اللمس.
والملامسة هنا تكون بمجرد لمس البشرة لوجود قراءة أخرى سبعية: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لمَسْتُمُ} [النساء:43] فقالوا: القراءتان سبعيتان صحيحتان، وتفسر إحداهما الأخرى، فـ (لامستم) التي تدل على المشاركة تفسرها (لمستم) التي ليس فيها مشاركة، كما يقال: لمست الجدار، أو لمست الدابة، أو لمست الكتاب، ويكون هذا من جانب واحد.
إذاً: المسألة مبناها من الكتاب على الاختلاف في مدلول (لامس) أو (لمس) ، وعندنا في كتاب "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" لـ ابن تيمية رحمه الله؛ كتاب لا أعتقد أنه وجد في موضوعه ولا في بابه نظيره أبداً، ذكر أسباب الخلاف بين الأئمة، والخلاف الذي لا ينبغي أبداً الاعتراض عليه لوجود أسبابه شرعاً وذكر عشرة أسباب منها: الاختلاف في فهم النص، أو بلوغ النص لمن لم يبلغه، أو صحة النص عند شخص وعدم صحته عند غيره، أو سلامته من معارضة أو عدم معارضته.
إلخ، وهنا وقع الاختلاف في فهم (لامستم) ، وقد بحث هذه المسألة ابن عبد البر رحمه الله في الاستذكار وأطال فيها، ونقل الآثار عنه صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة وعن التابعين وعمن قال بذلك.
ونأتي إلى المسألة كتطبيق علمي شرعي لمسألة اختلف فيها الأئمة لنرى المنهج السليم في تحقيق مسائل الخلاف، والنتيجة بترجيح ما صح ترجيحه.
فنأخذ المسألة من جهة الأئمة رحمهم الله، ونتتبع في ذلك (أقوالهم) : نجد الشافعي رحمه الله يقول: (لامستم) بمعنى لمس، كما في قوله تعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} [الجن:8] ، وفي قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة:237] جاءت (مس) بمعنى الجماع، وجاءت (لمس) بمعنى المقاربة أو الملاقاة، فهنا جاءت (لمس) و (لامس) وكل منهما في مكانها، فيقول الشافعي رحمه الله: مجرد التقاء بشرة رجل بامرأة بأي حالة أو على أي كيفية ذاكراً أو ناسياً أو قصداً أو بدون قصد، حدثت شهوة أو لم تحدث، والمراد بملامسة البشرة للبشرة سواء بكف اليد أو بظهرها، بالذراع أو بالفخذ أو بالقدم، أي مطلق لمس الرجل للمرأة يكون ناقضاً، هذا قول الشافعي.
نجد في مقابل هذا القول: ما جاء عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: إذا وقع لمس الفرج بالفرج وليس هناك إيلاج كان فيه الوضوء، وما عدا ذلك من قبلة أو لمس أو جس بشهوة أو بغير شهوة فلا وضوء فيه.
إذاً نستطيع أن نقول: الإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: كل لمس بأي صفة لا وضوء فيه، وهذا القول مقابل لقول الشافعي رحمهما الله، فهذا يقول: مطلق اللمس ناقض، وهذا يقول: كل اللمس ليس بناقض، وأعتقد أنه خلاف قوي.
وأما مالك وأحمد رحمهما الله: فاتخذا طريقاً وسطاً وقالا: اللمس الذي يكون ناقضاً هو اللمس بشهوة، واللمس العادي العابر عمداً أو سهواً هذا ليس فيه شيء وليس بناقض.
إذاً: هذا القول وسط بين قول من ذهب في طرف الإيجاب ومن ذهب في طرف المنع.
والخلاصة: أن عندنا في المسألة ثلاثة أقوال: قول بالإيجاب مطلقاً، وقول بالمنع مطلقاً، وقول بالوسط، والقول الوسط تحقيقه عند المالكية والحنابلة: إن قصد اللذة ولو لم يجدها، أو لم يقصد اللذة ولكن وجدها، فهذا هو الناقض عندهم.
بم استدل الشافعي رحمه الله؟ وبم استدل أبو حنيفة رحمه الله؟ وبم يجيب كل منهما على دليل الآخر لأنه مناقض لقوله؟ وما هو موقف الإمامين مالك وأحمد بين الطرفين؟(22/4)
كيفية الترجيح في المسائل الخلافية
ونحن سبق أن قررنا بأن المسائل الخلافية لا يتأتى تحقيق الأمر فيها إلا بأربع خطوات: الخطوة الأولى: إدراك الخلاف على ما هو عليه الآن: فـ الشافعي يقول: المس ينقض الوضوء.
وأبو حنيفة يقول: لا ينقض، ومالك وأحمد يفصلان.
الخطوة الثانية: معرفة دليل كل قائل، فنعرف الدليل الذي استدل به، ثم نعرف دليل أبي حنيفة، ثم نعرف دليل مالك وأحمد، ونترك دليل كل قول عند صاحبه.
الخطوة الثالثة: نأتي ونتساءل: الشافعي حينما يرد على أبي حنيفة في استدلاله بعدم النقض، هل لديه شيء يرد به عليه؟ وأبو حنيفة هل عنده شيء يرد به على الشافعي على ما استدل به من عموم النقض؟ إن وجدنا رداً ونقداً من الشافعي لـ أبي حنيفة وكان مقبولاً قبلناه، وإن وجدنا رداً من أبي حنيفة لأدلة الشافعي، وكان مقبولاً قبلناه، وكذلك نقول لـ مالك وأحمد: ما دليلكما على أدلة الشافعي وأبي حنيفة؟ فإن وجدنا عندهما أدلة تكفي أخذنا بها، وإذا لم نجد في أقوال بعضهما في أدلة البعض الآخر ما يمكن أن يؤخذ به تركناه.
فإذا تعادلت جهات الخلاف باعتدال وتوازي أدلتها تركناها معلقة، وذهبنا نطلب الترجيح من خارج تلك الأدلة إن وجدنا.
وطرق الترجيح كثيرة كما يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: الترجيح بحر لا ساحل له.
ولهذا يقول الشافعي: لا ينبغي لأحد أن يعترض على أحد رجح عنده حكم لم يرجح عنده هو؛ لأن لديه من المرجحات ما ليست عندك، ولو فرضت رأيك وكانت المسألة إلزامية ليس رأيك بأولى أن نفرضه من رأي الآخر، فمثلما تود أن تفرض رأيك فالآخر يود أن يفرض رأيه، والمسألة بالأدلة.
إذاً: نخطو تلك الخطوات لتصور الخلاف، وهذه المسألة قد اخترناها فعلاً في كتاب: (موقف الأمة من اختلاف الأئمة) ، لأنها مسألة عملية، فالناس في بيوتهم الرجال مع النساء، يصلون، ويطوفون بالبيت، ويذهبون ويجيئون، كل ذلك -كما يسميه العلماء- مما عمت به البلوى، فلا يمكن أن نعزل الرجال عن النساء خاصة في بيوتهم، إذاً: نحتاج إلى إمعان النظر في هذه المسألة، وإلى التأني والتمهل فيها.
فنأتي أولاً إلى من يقول بأنه ناقض لأنه ناقل عن الأصل، فنقول: بم استدل الإمام الشافعي رحمه الله على أن مطلق اللمس ينقض الوضوء؟ استدل رحمه الله بقوله سبحانه: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43] فهذان متساويان في وجوب التيمم إذا لم تجدوا الماء، ومنها (أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ) .
فقلنا له: إن (لامس) يرد عنها أبو حنيفة بأن المراد به الجماع.
يرد الشافعي ويقول: جاءت القراءة الأخرى: ((لمستم)) فأنا أتمسك بنص الكتاب في (لمستم) وهي تبين القراءة الثانية: ((لامستم)) .
هذا قول الشافعي رحمه الله.
ثم نأتي إلى الإمام أبي حنيفة ونقول: بم استدل على أن اللمس لا ينقض الوضوء؟ قال أبو حنيفة رحمه الله: الأصل عدم وجوب الوضوء، فمن أوجبه فليقم الدليل، ومن أدلتي: أن (لامس) بمعنى: جامع، وقد فسرها بذلك ابن عباس، ومن أدلتي أن الرسول قبّل عائشة ولم يتوضأ.
قال له الشافعي: قد جاء عن ابن عمر أنه قال: قبلة الرجل امرأته من الملامسة، وفيها الوضوء.
أجاب أبو حنيفة وقال: هذا كلام ابن عمر، وكلام ابن عمر لا يقضي على فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واستدل أبو حنيفة رحمه الله أيضاً بما جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها: (بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل، تقول: وأنا نائمة معترضة بين يديه، فإذا أراد أن يسجد لمسني بيده أو غمزني بقدمه فكففت قدمي عنه ليسجد) فهذا غمز ولمز ولم يكن هناك وضوء، وهو في الصلاة وليس لقصد، فماذا يقول الشافعي؟ قال: نعم، لكن لم تمس البشرة البشرة، بل كانت نائمة متغطية بملحفتها فغمزها من فوق الحائل.
فماذا يقول أبو حنيفة؟ قال: إذا قلتم ذلك، فماذا تقولون في قولها: (قمت ذات ليلة فلم أجد رسول الله عندي، والحجرات آنذاك ليس فيها سرج، فقمت أبحث عنه بيدي، فوقعت بطن كفي على قدمه وهو ساجد في المسجد، وهو يقول: سبوح قدوس رب الملائكة والروح) ، ففي هذا الحديث وقعت بطن كفها على بطن قدمه، فماذا تقولون؟ قالوا: نعم، الإنسان قد يكون ساجداً والإزار ساتر على قدميه فبينهما حائل.
فقال أبو حنيفة: قد جاء عنها رضي الله تعالى عنها: أنها انتظرته حتى قام من الركعة الأولى، وظنت أنه ذهب إلى جاريته مارية، فقضى حاجته واغتسل وجاء يصلي، قالت: فقمت فأدخلت أصابعي في شعر رأسه أنظر هل هو مغتسل أو لا؟ فماذا تقولون في ذلك يا شافعية؟! قالوا: ليس فيه شيء؛ لأنها لامست الشعر، والشعر ليس فيه حرارة.
إلى هنا تكون الكفة بين الشافعي وأبو حنيفة راجحة لـ أبي حنيفة، على ما فيها.
وأما الذين قالوا بالتوسط فماذا يقولون في أدلة أبي حنيفة؟ قالوا: إنما استدل بأمور عادية، ولكنا نقول بالقول الوسط الذي لم يقله الشافعي ولا أبو حنيفة، ودليلنا مستقل عنهما.
وهو: الحديث الذي جاء فيه: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! أنا أبيع التمر، وجاءتني امرأة تطلب تمراً، فأغواني الشيطان، فقلت لها: عندي في البيت خير من هذا، فذهبت معي لأعطيها تمراً من البيت، ولكن حدث أن كل ما يفعله الرجل مع امرأته قد فعلته معها غير أني لم أجامعها، فطهرني.
قال: هل صليت معنا العصر؟ قال: لا.
قال: توضأ وصلِ) .
فقال المالكية والحنابلة: هذا الرجل قد لمس ولامس وفعل ما يقصد به اللمس فعلاً، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالوضوء، بينما لم يتوضأ من مجرد القبلة، فقد تكون قبلة عاطفية كما يقبل الإنسان زوجه وهي مريضة، أو يقبل ابنته الصغيرة، أو يقبل أمه عاطفة وبراً، فالقبلة ليس فيها دعوى الشهوة، وكذلك الملامسات الأخرى، كقول عائشة: غمزني أو لمسني بيده.
فكل هذه أمور عادية، فتركنا الوضوء من الأمور العادية، وأوجبنا الوضوء من الأمور غير العادية؛ لأنه قال للرجل: توضأ، وموجب وضوء الرجل هنا هو ما كان منه مع المرأة؛ لأنه لامسها بقصد الشهوة، ولذا شعر بالإثم فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وقال: طهرني!.
قالوا: لا، من قال لكم: إن الرجل قبل أن يلقى المرأة كان متوضئاً حتى انتقض وضوءه بهذه الحالة.
فلماذا قال له: توضأ؟ قال له: توضأ.
لأن الوضوء مكفر للذنوب (إذا غسل وجهه خرجت خطاياه.
إذا غسل يديه.
إذا فعل.
إذا فعل ... ) .
قالوا: لا، الرسول صلى الله عليه وسلم ترك الاستفصال من الرجل قبل أن تأتي تلك المرأة، فلم يقل له: كنت متوضئاً أم غير متوضئ؟ وترك الاستفصال ينزل منزلة المقال في الحال، فكأن الرسول لم يعتبر وضوءاً قبل ذلك، وأمره بوضوء جديد لتلك الحالة.
فقلنا: بأن مطلق اللمس لا ينقض، ولم نقل: كل لمس لا ينقض، وقلنا: اللمس بشهوة هو الذي ينقض.
فما رأيكم الآن ما بين أحمد ومالك وأبي حنيفة؟ أي الكفتين ترجح؟ مالك وأحمد.
وعلى هذا -أيها الإخوة- نحن لا نطمع أن نزيل الخلاف في مسألة خلافية اختلف فيها الأئمة رحمهم الله؛ لأن لديهم من النصوص، ما يؤيد ما ذهبوا إليه، وهناك نصوص عديدة لا أستطيع أن أسردها كلها أو أحفظها كلها، ولكن هذه هي خلاصة البحث في هذا الموضوع، وهذا القدر يكفينا، فإذا كنت شافعياً أو حنفياً أو مالكياً أو حنبلياً أياً كان، وكنت من أهل النظر والترجيح ما الذي تطمئن نفسك إليه بصرف النظر عن المذهب الذي تأخذ به؟ كما يقال: الحال الوسط والذي يجمع بين الأدلة هو ما ذهب إليه مالك وأحمد، ولو قال قائل: الأحوط ما قال الشافعي.
ويكون أحوط للعبادة وأصح، ولكن الأحوط فيه تكليف وإفساد، فيه إبطال الوضوء السابق، وفيه تكليف بالوضوء من جديد، وهذا فيه أيضاً إحراج.
إذاً: من حيث المنهج العلمي ومن حيث البحث في الأدلة على هذه الطريقة يكون قد ترجح عندنا ما ذهب إليه مالك وأحمد.
عندنا جزئية يضطر إليها الشافعية فيقلدون فيها مالكاً وأحمد، وهي أنه في حالة الطواف وشدة الزحام تجد بعض الإندونيسيات يلبسن القفازات، والمحرمة ممنوعة من لبس القفاز، فتأتي المحرمة وتلبس القفازين حتى لا ينتقض وضوءها، حتى إن من الرجال من يلبسهما حتى لا يلمس المرأة، ولبس القفازين ممنوع على المحرم، ومن هنا نجد الشافعية يقولون: من أراد أن يطوف بالبيت فيقلد مذهب مالك وأحمد أو مذهب أبي حنيفة في الطواف؛ حتى لا يبطل وضوءه، ويكون على اعتقاد بأخذ قول إمام معتبر ينجيه من الورطة، وإلا لو بقي شافعياً فليس بمكمل طوافه طوال عمره! فإذا قيل: إذا حصل اللمس يكون فلمن النقض: للامس أم للملموس؟ هناك من يقول: النقض للامس؛ ولهذا بعض الشفاعية ما قالوا بوجود حجاب وغطاء في قصة عائشة، وإنما قالوا: هي التي لمست، الرسول ما لمس، وإذا كانت هي متوضئة ينتقض وضوءها أما الرسول فلا، بل يستمر في صلاته؛ لأن النقض للامس وليس للملموس.
وإن قيل: باللمس حصلت شهوة عند الاثنين،(22/5)
كتاب الطهارة - باب نواقض الوضوء [3]
الخلاف سنة الله عز وجل في خلقه، والخلاف أنواع: منه الجائز، ومنه المحرم، ومن الخلاف الجائز: اختلاف الأفهام، واختلاف التنوع، واختلاف الأفهام هو أكثر ما يحصل في المسائل الفقهية، فلا ينكر على من قال أي قول إذا كان متحرياً للحق، ولكن واجب المسلم أمام الخلاف أن ينظر الأقرب إلى الحق، والموافق للدليل، ويسعى جاهداً إلى معرفة الراجح، والعلماء رحمهم الله قد بينوا لنا طرق الترجيح، وطرق الجمع بين المسائل المتعارضة.(23/1)
الشك في الوضوء
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه: أخرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) أخرجه مسلم] .(23/2)
الأحكام والقواعد المأخوذة من حديث: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً)
يسوق المؤلف رحمه الله تعالى في باب نواقض الوضوء حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه: أخرج منه ريح أو لا؟ فلا ينصرفن من صلاته أو من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) هذا الحديث يعتبره علماء الحديث وعلماء الأصول والفقهاء أساساً لقاعدة فقهية، وهي: أن اليقين لا يرفع بالشك.
ومعنى قوله: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً) يعني: حركة قد تحصل في البطن بتحرك غازات أو ما يسمى بالمغص أو شيء من هذا.
قوله: (وأشكل عليه) الإشكال مأخوذ من الشكل، وهو عند علماء المنطق التشكيك، وذلك: أن الصورة الذهنية بالنسبة لموضوع معين تشتبه بين أمرين: إذا نظر إلى هذا قال: هو منه، وإذا نظر إلى ذاك قال: هو منه، فشك بأيهما يُلحق أو من أيهما يكون، ولذا قالوا: الشك هو: استواء الطرفين دون ترجيح.
وقالوا: إن العلم هو: ما وقر في النفس دون منازعة، والظن هو: ما نازعه ما هو أضعف منه، فإذا تعادلت الكفتان ثم رجحت إحدى الكفتين بأحد المعنين فالراجح ظن، والمرجوح وهم، وإذا تعادلت الكفتان دون ترجيح فهو شك.
وهنا لما وجد الشيء في بطنه وأشكل عليه: شك، وقال في نفسه: هل يا ترى مع تلك الحركة التي في البطن هل خرج شيء أم لا؟ فحينئذ عليه أن يلغي هذا الشك ويبني على ذاك اليقين؛ لأنه في الصلاة -كما في بعض الروايات- والصلاة ما دخلها إلا بيقين الطهارة، أو في المسجد -على بعض الروايات- والمسجد ما أتى إليه إلا بكامل الطهارة، إذاً: الذي أشكل عليه طارئ بعد يقين الطهارة، إذاً: الطهارة هو متأكد منها وثابتة عنده بيقين، فلا يحكم برفضها وإبطالها إلا بيقين مثله، وهكذا قالوا في عموم الأمور، فمثلاً: لو توضأت في بيتك أنت وزميلك، وكل منكما متأكد بأنه توضأ مع الآخر في مكان واحد ومن إبريق واحد، ثم خرجتما، وفي طريقكما إلى المسجد دعاكما بعض الإخوان لتناول الشاي، فذهبتما معه وجلستم، ثم قمتم لتذهبوا إلى المسجد، وعند باب المسجد قلت: هل أنا أحدثت أو لا؟! الطهارة أنتم متيقنون فيها أنت وهو، ولكن الشك حصل في كونك هل أحدثت بعد تلك الطهارة المتيقنة أو لا، فصاحبك يقول لك: نحن توضأنا معاً، وأنت تقول له: نعم، أنا متأكد أننا توضأنا معاً، لكن لا أدري عندما جلسنا نشرب الشاي هل حصل مني شيء أو لا؟ الآن عندنا طهارة وشك في الحدث، والطهارة ثابتة بيقين، والتفكير في الحدث شك طارئ، فنقول: الطهارة ثابتة باليقين فتبقى على ما هي عليه، وعندنا استصحاب الأصل، والأصل الطهارة وهي ثابتة، وأما الحدث فهو أمر مشكوك فيه، فلا نترك اليقين بسبب الشك.
وكذلك العكس: فإذا تيقن الحدث وشك في الطهارة، فيلغى الشك في الطهارة ويعتمد الحدث ويتوضأ، مثلاً: أنت وصاحبك كنتما في البيت، ودخلتما الحمام، وخرجتما، ثم لقيكما صاحبكما ودخلتما عنده، وقلتم: هيا نذهب إلى المسجد.
فقلت: أنا أحدثت في البيت ودخلت الحمام، ولكن ما أدري هل توضأت أو أتوضأ الآن؟ إذاً: الشك هنا هو في الطهارة؛ لأن الحدث ثابت ويشهد عليه بيت الخلاء، لكن الوضوء هو الذي شككت فيه، إذاً: الوضوء هنا يكون على اليقين، فإذا تيقنت في الحدث وشككت في الوضوء، فألغ الشك، وابنِ على اليقين بالحدث وتوضأ.
وهكذا أيها الإخوة! حتى في المعاملات يقولون: لو قدر أنك اقترضت من زيد ألف ريال، ثم جاء يطالبك، فقلت له: هذا صحيح، ولكن هل أنا أعطيتك الألف؟ قال: لا، ما أعطيتني.
فقلت: يا أخي! أظن أنني أعطيتك.
وليس هناك سند، ولا شهود.
فإذاً: القرض هنا ثابت قطعاً وأنت معترف به، والدفع مشكوك فيه؛ لأنك تدعي وهو ينفي، فالشك طارئ على السداد، فابنِ على اليقين بأن القرض لا زال ثابتاً في ذمتك حتى يثبت السداد يقيناً وهكذا.
فهذا الحديث أصل عظيم، ومنه أخذت القاعدة: اليقين لا يرفع بالشك، كما تقدم.
وهنا قال: (حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) ، وقد ذكرنا قصة أبي موسى الأشعري فيما يتعلق بالنقض بالنوم، فقد كان ينام وإخوانه حوله، فإذا استيقظ قال لمن حوله: هل سمعتم شيئاً؟ فإذا قالوا: لا.
قال: فهل شممتم ريحاً؟ فإذا قالوا: لا، قام فصلى، لأنه لما لم يسمع جلساؤه منه صوتاً، ولم يشموا منه ريحاً بنى على اليقين الأول الذي هو الطهارة قبل النوم؛ لأنه كان ينام في المسجد بعد أن يصلي، فهو على طهارة، ولما كان النوم مظنة الحدث لم يقطع بأنه أحدث؛ لأن الحضور المشاهدين لم يسمعوا صوتاً ولم يشموا ريحاً.
لكن لو أن الشك في غير الريح، أي: في شيء آخر من نواقض الوضوء، كأن تكون ذهبت إلى أقاربك زائراً، وجاءوا -على عادات بعض الناس- إليك فصافحتك امرأة منهم، ثم شككت هل صافحت فلانة أو لم تصافحها؟ فحصل عندك شك في كونك صافحت أو لم تصافح، فعلى كونك صافحت يكون قد حصل اللمس، وعلى قول من يقول بالنقض فعليك الوضوء، ولكن أنت متأكد من الوضوء وشككت في وقع النقض بالمصافحة.
إذاً: عليك أن تبني على اليقين وهو بقاء الوضوء.
فسماع الصوت أو وجدان الريح في الحديث إنما هو على سبيل المثال؛ حتى يتأكد الإنسان في الأمر الذي أشكل عليه، فيرفع الإشكال ويبني على اليقين.(23/3)
الوضوء من مس الفرج والمذاهب في ذلك
قال المؤلف رحمه الله: [وعن طلق بن علي رضي الله عنه قال: (قال رجل: مسست ذكري أو قال: الرجل يمس ذكره في الصلاة، أعليه الوضوء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، إنما هو بضعة منك) أخرجه الخمسة، وصححه الترمذي وابن حبان، وقال ابن المديني: هو أحسن من حديث بسرة] .
هذه المسألة يعنون لها: بالوضوء من مس الفرج، أو الوضوء من مس الذكر -بخصوص الذكر في الرجل-، والقضية عند من يبحثها تشمل كل ذكر لرجل أو فرج لامرأة، ومن يبحثها أيضاً يبحث هل هو خاص بالذي يمس شخصياً أو يشمل مس ذكر غيره أيضاً، وهل يشمل مس فرج امرأة أيضاً؟ والبحث في هذا الموضوع يتناول المس أو اللمس قصداً أو سهواً ببطن الكف أو بظاهرها من صغير أو من كبير من إنسان أو من حيوان كل ذلك يبحث في هذه المسألة تحت هذا العنوان.
ساق المؤلف أولاً حديث طلق بن علي، وطلق بن علي هو: رجل من أهل اليمامة ورد على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبني المسجد البناية الثانية -أي: سنة سبع من الهجرة- بعد عودته من خيبر، وكانوا يبنون بالحجارة والطين، ومما جاء عنه أنه مر برجل من الأنصار يخلط الطين بالتبن، فلم يعجبه عمله، وقال: أرني حتى أريك.
فأخذ منه المسحاة وخلط خلطة جيدة، والرسول صلى الله عليه وسلم يراه، فقال: (دعوا هذه لهذا، فإنه أعرف بها) وهنا يقال: هذا مجال التخصص، فهذا نوع من أنواع البناء والتجهيز فمن كان أتقن لعمل فهو أحق به؛ ولذا نجد التخصصات في مواد البناء أمراً عجيباً! حتى قيل: كان أكبر مهندسي الخرسانة معتقلاً في بعض المعتقلات، وعند بناء السد العالي استعصى عليهم مكان فاضطروا أن يخرجوه من المعتقل حتى ينفذ لهم هذا المكان ثم ردوه إلى معتقله.
فالأعمال إذا كان هناك من هو ذو تخصص فيها فهو أولى بها، ونحن نجد الآن أنواع التخصصات الطب، وقد كان الطب طباً عاماً، الطبيب يداوي العين والأنف والمعدة والكبد والطحال والجرح وكل شيء، لكن الآن أصبح الطب قائماً على تخصصات، حتى الجراحة فيها تخصصات، فهناك جراحة خاصة بالقلب، وجراحة خاصة بالدماغ، وجراحة خاصة بالأنف والأذن، وجراحة خاصة بالعظام.
إلخ، فمن دقة العلم وتوسع الاطلاع في المادة أصبحت هناك التخصصات، وصاحب التخصص في مجاله أولى من غيره.
وكذلك وجد التخصص في العلوم الدينية: فالرسول صلى الله عليه وسلم أشار إلى أن: (أفرضكم زيد) إذاً عنده تخصص في علم الفرائض، (وأمين هذه الأمة أبو عبيدة) ، (وأعرفكم بالحلال والحرام معاذ) ، وقال لـ ابن عباس: (اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل) فأصبح عندهم تخصصات علمية، فإذا أشكل على الصحابة شيء في موضوع من تلك المواضيع رجعوا إلى صاحب التخصص فيها وهكذا.
وذكرنا ذلك لبيان تاريخ مجيء طلق بن علي، قالوا: إن طلقاً ورد على النبي صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة في بادئ الأمر، والمرة الثانية: عند بناء المسجد، وروى حديث الوضوء مرتين، وهذا الحديث مروي عن قيس بن طلق عن أبيه: (أن أعرابياً جاء ووقف على النبي صلى الله عليه وسلم وسأل: الرجل يمس ذكره بعد أن يتوضأ، أيعيد الوضوء؟ قال: لا، إنما هو بضعة منك) أي: وهذه البضعة مثل أي بضعة أخرى من أبضاع الجسم، فاليد بضعة، والأذن بضعة، والساعد بضعة، والساق بضعة.
كل هذه قطع، والبضعة: القطعة.
إذاً: مادام هو بضعة من الإنسان فهو كسائر أجزاء الجسم يمس بعضها بعضاً فلا وضوء، وفي هذا إشارة إلى القياس، وإشارة إلى إتباع الشيء المختلف فيه بالمتفق عليه.
وبهذا أخذ من يقول: إن مس الذكر ليس ناقضاً.
فإذا كان ليس ناقضاً فلماذا ذكر هذا الحديث في باب نواقض الوضوء؟ الجواب: هو أن المؤلف رحمه الله جمع هذا الكتاب -بلوغ المرام من أدلة الأحكام- فهناك من يقول: لا وضوء.
وهناك من يقول: فيه الوضوء.
إذاً: القولان متقابلان، فذكر دليل من يقول: لا ينقض، وسيأتي بدليل من يقول: نعم، ينقض، وقد تكلم المؤلف على هذا الحديث فنقل: أن ابن المديني -وهو إمام جليل في علم الحديث- قال: هو أحسن من حديث بسرة.
وأين حديث بسرة هذا؟ يأتي به المؤلف مباشرة بعد حديث طلق ليبين طرفي الاستدلال عند من يقول: ينقض، وعند من يقول: لا ينقض.
قال المؤلف رحمه الله: [وعن بسرة بنت صفوان رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من مس ذكره فليتوضأ) أخرجه الخمسة، وصححه الترمذي وابن حبان، وقال البخاري: هو أصح شيء في هذا الباب] .
حديث بسرة بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مس ذكره) فخص المس بذكره المضاف إليه، إذاً: عموم الفرج ليس وارداً هنا، فقوله: (من مس ذكره) لا يتناول ذكر غيره، ولا يتناول فرج المرأة، ولا يتناول الدبر، لا يتناول إلا ما جاء النص فيه؛ ولذا فإن هناك من وقف عند هذا اللفظ وقال: لا ينقض الوضوء إلا إذا مس ذكره.
وأما ما يتعلق بكيفية المس، فقالوا: أن يكون بغير حائل.
كما جاء في حديث أم حبيبة رضي الله تعالى عنها مرفوعاً: (من أفضى بيده إلى فرجه ليس بينه وبينه حائل فليتوضأ) ويقول أحمد عن هذا الحديث: هو أحب إليّ من الجميع.
ومن هنا توسع النطاق قليلاً فقوله: (من أفضى) تفيد العموم، فتشمل الرجال والنساء (أفضى) الإفضاء: الملاقاة (بيده إلى فرجه) والفرج يشمل ذكر الرجل وفرج المرأة (فليتوضأ) إذاً: المرأة كذلك: إذا أفضت بيدها إلى فرجها فعليها الوضوء.
وجاءت رواية أخرى بلفظ: (من أفضى بيده إلى فرجٍ) بالتنوين من دون إضافة، فقالوا: هذا شمل جميع أنواع هذا العضو، حتى قالوا: ولو من بهيمة، وحتى قالوا: من حي أو ميت؛ لأنه يصدق عليه أنه فرج.
وخلاصة هذا البحث عند الجمهور: أنه قد جاء حديث طلق مرفوعاً: (إنما هو بضعة منك) وجاء حديث بسرة مرفوعاً: (من أفضى بيده إلى فرجه فعليه الوضوء) ، وجاء أيضاً عن أبي هريرة رواية أخرى مرفوعة: (من مس فرجه فليتوضأ) فجاءت الروايات بهذا، فقالوا: إن حديث طلق وإن قال ابن المديني عنه: هو أحسن من حديث بسرة.
إلا أن البخاري قد صحح حديث بسرة، والشافعي قد عارض في صحة حديث طلق، وقال: إنما جاء من طريق قيس بن طلق، وسألنا عن قيس بن طلق هذا فلم نجد من يعرفه.
والذين قالوا: لا وضوء منه، أخذوا بحديث طلق قالوا: حديث بسرة قال عنه البخاري: هو أصح شيء في الباب، فقيل: من أين أخذه؟ قالوا: إنه جاء من طريق مروان بن الحكم، فقد جاء في رواية تذاكرنا ما يكون منه الوضوء، فقال مروان: من مس الفرج الوضوء.
فقال أبي بن كعب: ما سمعنا بهذا! فقال مروان: أخبرتني بذلك بسرة.
ثم أرسل مروان حرسياً له إلى بسرة فسألها، فرجع الحرسي وأخبرهم بما أخبر به مروان، فلما أنكر المنكر على مروان أرسل رسولاً إلى بسرة، ورجع الرسول بمصداق ما قال به مروان، فقالوا: هذا الحرسي لم نعرفه، فيكون في الحديث مجهول، ولكن يقولون: حديث بسرة قد جاء عن أربعة عشر صاحبياً، وقال به من الصحابة عمر وغيره، ومن التابعين مجاهد وعطاء، ومن الأئمة أحمد والشافعي، ولم يقل به أبو حنيفة.
وهنا لما جاءت الأحاديث، التي شملت حديث طلق والذي يقول فيه ابن المديني: هو أحسن من حديث بسرة.
وحديث بسرة يقول فيه البخاري: هو أصح شيء في هذا الباب.
والشافعي يقول: حديث طلق من طريق ولده قيس.
وقد سألنا عن ولده قيس فلم نجد من يعرفه، فقالوا: تعارض الحديثان.
وعند التعارض نرجع إلى النسخ، ثم إلى الجمع، فإن لم يكن فإلى الترجيح، وهذه الطرق الثلاث هي التي يعتمدها العلماء عند تعارض الأدلة، فبعضهم قال: نمضي إلى النسخ؛ لأن بسرة أسلمت في عام الفتح، وطلق بن علي وفد إلى النبي وهو يبني المسجد، وشارك في البناء، وكان سنة سبع، فيكون حديث بسرة ناسخاً لحديث طلق الذي فيه: (إنما هو بضعة منك) .
والآخرون قالوا: لا نسخ، فـ طلق بنفسه قد رجع بعد تلك المرة التي كان فيها بناء المسجد وروى عن رسول الله حديث الوضوء.
إذاً: يكون طلق بنفسه بروايته الأخيرة قد نسخ الأولى.
والآخرون الذين يقولون: لا نسخ يقولون: نجمع بين الحديثين، فهذا يقول: لا وضوء.
وهذا يقول: وضوء.
يقول مالك رحمه الله: الأمر بالوضوء للندب؛ نظراً لحديث المنع.
فأخذ قولاً وسطاً، ليس فيه القول بالإيجاب الناقض المبطل، وليس فيه القول بعدم المشروعية، وعنده: من مس فرجه بعد الوضوء ناسياً وصلى، فإن تذكر قبل خروج الوقت توضأ وأعاد الصلاة، وإن تذكر خروج وقت الصلاة فلا يعيد، ويتوضأ لما يستقبل.
وهناك من ينقل عن مالك رحمه الله في الجمع: أن من مس فرجه بشهوة فليتوضأ، ومن مس فرجه بدون شهوة فلا وضو(23/4)
خلاصة القول في الوضوء من مس الفرج
وهكذا تكون النتيجة: أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله لا يرى وضوءاً من مس الفرج، والشافعي وأحمد رحمهما الله يرون الوضوء من مس الفرج على العموم، ومالك وقف موقف التفصيل، فنقل عنه بأن الوضوء للندب وليس للإيجاب، وقول آخر ينقل عنه: أن الوضوء يجب إن وجد شهوة، ولا يجب ولا يندب إن لم يجد شهوة.
وهذا حاصل الأقوال في هذه المسألة، وبالله تعالى التوفيق.
وعلماء الحديث يرجحون الوضوء؛ وجاء هذا القول عن بعض السلف المتأخرين، وكذلك عن بعض الصحابة، ومن ذلك ما جاء عن سعد بن أبي وقاص: أن غلاماً كان يمسك له المصحف وهو يقرأ، قال الغلام: فاحتككت، فقال لي: هل مسست فرجك؟ قلت: نعم، قال: فأخذ مني المصحف وقال: قم فتوضأ، أي: يتوضأ لحمل المصحف، فهذا عمل من صحابي يدل على أن المس يقتضي الوضوء.
وكذلك روى سالم عن عبد الله بن عمر: أنه توضأ وصلى بعد أن طلعت الشمس، فقلت له: ما هذه الصلاة التي لم أكن أراك تفعلها؟ قال: توضأت ومسست فرجي، ونسيت -أي: أن أتوضأ- وصليت، فهأنا أتوضأ وأعيد الصلاة.
فعند ابن عمر: لزوم إعادة الصلاة ولو خرج الوقت.
وعلى هذا لما عمل بذلك ابن عمر، ونقل عن عمر، ونقل عن سعد بن أبي وقاص وغيرهم قالوا: إن هذا يرجح أن اللمس ناقض، وإذا كان هناك حديثان: أحدهما: يبقي على البراءة الأصلية، ولم يزد شيئاً، والآخر: ينقل عن البراءة الأصلية إلى تكليف جديد، فالناقل يكون أولى.
والله تعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(23/5)
كتاب الطهارة - باب نواقض الوضوء [4]
يجب على المرء المسلم أن يسلم لجميع أوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يعترض على شيء من ذلك، ولا يسأل: ما هو السبب وما هي الحكمة في كذا؟ فإن الشرع كله حكم، ولكن قد تظهر له الحكمة فيزداد يقيناً، وقد لا تظهر له، فما على المسلم إلا التسليم والطاعة، وألا يجهد نفسه في معرفة ما خفي عليه من الحكمة والعلة، فإن ذلك قد يورده إلى الشك والحيرة والتكذيب، والعياذ بالله!(24/1)
حكم الوضوء من القيء والرعاف والقلس والمذي
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه، أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فليتوضأ، ثم ليبن على صلاته، وهو في ذلك لا يتكلم) ] أخرجه ابن ماجة وضعفه أحمد وغيره.
هذا الحديث من الأحاديث المشكلات، تقول فيه أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي) وتشديد الياء في المذي غير سليم.(24/2)
تعريف القيء والقلس
فجاء في الحديث ذكر هذه الأربعة: القيء، والرعاف، والقلس، والمذي، أما المذي فقد تقدم الكلام عليه، وبقي ما هو القيء وما هو القلس؟ القيء: هو رجوع الطعام من داخل المعدة دهفاً، والقلس: هو رجوع بعض الماء أو السائل من أول المعدة، وليس من داخلها، ولذا القلس ليس فيه تغير الطعام، والقيء يتغير معه الطعام؛ لأنه جاء من داخل المعدة، وقد مر بعملية الهضم، وكما يقولون: هل عملية الهضم ميكانيكية أو كيميائية؟ بمعنى: هل المعدة تطحن الطعام كالرحى عندما تطحن الحب -فهذه ميكانيكية-؟ أو أن هناك مادة يفرزها الجسم إلى المعدة تذيب الطعام مثل حمض الكبريت أو الأسيت الذي إذا وضع على نبات يحرقه ويذيبه؟ قالوا يحصل الأمران معاً، فالمعدة فيها غدد تفرز مواداً تساعد على الهضم، والمعدة تتحرك فتهضم الطعام.
فقالوا: إذا جاء الطعام من المعدة فقد نالته حركة المعدة الميكانيكية، واختلط بإفراز المعدة الكيميائي، فأصبح خارجاً عن حالة الطعام.
هذا هو القيء، أما القلس فلا يصل إلى داخل المعدة، بل يرجع من أولها، وغالباً ما يكون من كثرة المياه عند الإنسان في نهاية الأكل، فإذا أكل وشرب ماء بكثرة لم يبق هناك محل للنفس، فإذا أراد أن يتنفس يطرد النفس السوائل التي في أول المعدة، فهذا هو القلس.
فالحكم هنا هو: هو أن من أصابه القيء يتوضأ، ومن أصابه القلس يتوضأ.(24/3)
تعريف الرعاف
الرعاف هو: خروج الدم من الأنف خاصة، وهذا كما يقولون: قلّ من يسلم منه، خاصة في الحر وفورة الشباب ووفرة الدم، فيكون الرعاف كثيراً عند بعض الأشخاص خاصة في سن المراهقة لوفرة الدم، يقول الأطباء: إن منطقة الأنف يلتقي فيها اثنا عشر عرقاً مع الأعصاب لحساسية الدم، فأدنى احتقان في الأنف يأتي بالرعاف، ولذا من أنواع علاجه الكي، فتكوى تلك العروق لتنشف وتجف.
وبالمناسبة فإن من أصيب بالرعاف فأخذ ماء الليمون واستنشقه، أو ماء البصل واستنشقه فإنه يوقف عنه الرعاف.
فهذا الدم إذا خرج من الأنف فعلى من خرج منه أن يتوضأ، فإذا خرج الدم من اليد أو من الرِجْل فهل على من خرج منه أن يتوضأ أو هو خاص بالأنف؟ الجواب: من نظر إلى هذه المسميات قال: مجموعها نجس، فالدم نجس في الرعاف، والقيء نجس بتغيره في المعدة، واختلفوا في القلس هل هو نجس لخروجه من داخل أو ليس بنجس؛ لأنه لم يتغير بعد بل هو على ما هو عليه؟ فمن قال بالوضوء من هذه قال: كل نجس خرج من الجسم من أي موضع فهو ناقض، وهذه قاعدة يقول بها الإمام أبو حنيفة رحمه الله، وهي رواية عن أحمد: (الخارج الفاحش النجس من البدن ناقض) .
فالإمام أبو حنيفة رحمه الله يرى العمل بهذا الحديث، ولكن روى مالك رحمه الله في الموطأ قال: باب الرعاف.
وذكر فيه أربعة أو خمسة آثار عن ابن عمر وعن ابن عباس وعن غيرهما، أثر ابن عمر: أنه كانت تصيبه البثرة في وجهه فيفقؤها بإصبعه ويخرج منها القليل من الدم فيفتله بين أصابعه وهو يصلي، وكان يخرج منه الرعاف قليلاً فيتلقاه بأصابعه ويفتله بين أصابعه ويصلي.
وجاء عن سعيد بن المسيب في الرعاف أنه قال: (إذا كثر فاستلق على ظهرك) فاستلقى على ظهره ثم قام فذهب فغسل عنه الدم ثم رجع فصلى ولم يبطل وضوءه، وفي بعض الروايات: فذهب فتوضأ، فحمله من لم ير الوضوء من هذه الأشياء على أن (توضأ) المراد به الوضوء اللغوي، وأنه كما جاء في بعض الروايات: (غسل الدم ورجع) .
الإمام أبو حنيفة رحمه الله يرى الوضوء من القيء ومن القلس ومن الدم الخارج، بشرط أن يكون فاحشاً لا أن يكون قليلاً، والفاحش: هو ما جاوز مكانه.
وبعضهم يقول: هو بقدر الدرهم البغلي، والدرهم البغلي نسبة إلى رجل اسمه البغل كان يسك الدراهم لـ جعفر البرمكي أو لدولة العباسيين، وقيل: هو أقل من الكف.
وأشياء عديدة، أو ما فحش في عين الناظر فإنه يكون حينئذ ناقضاً للوضوء.
أما بقية الأئمة الثلاثة فلم يقولوا بالوضوء من هذه الأمور إلا من الرعاف إذا كثر فيغسله، واستدلوا على عدم الوضوء بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه احتجم، وغسل موضع المحاجم وصلى ولم يتوضأ) والحجامة تخرج دماً كثيراً أكثر من الرعاف، فكونه صلى الله عليه وسلم غسل موضع الحجامة الذي هو موضع خروج الدم ولم يتوضأ معناه أن خروج الدم من الجسم ليس بناقض.
والمشكل في هذا: أنه يذهب يتوضأ ويرجع ويبني على صلاته أي: بعد أن يذهب ويستدبر القبلة، ويأتي بهذه الحركات والخطوات، وقد تكون المسافة إلى المغسل، مقدار ربع كيلو متر، وهو لا يتكلم يرجع ويبني على صلاته، فقال بعضهم: إن هذا عمل كثير يخرجه عن هيئة الصلاة فيقطعها، ولكن إذا صح الحديث فلا قول لأحد معه؛ لأن الحديث قد جاء في أن المصلي يقتل الحية والعقرب وهي تزور عنه يميناً وشمالاً ومع ذلك لا يزال في الصلاة.
إذاً: بعد هذا العرض نرجع مرة أخرى إلى سند الحديث: الحديث أخرجه ابن ماجة وضعفه أحمد وغيره.
فإذا كان الحديث سنده ضعيف فهل ينبني عليه حكم؟ نحن قلنا: بأن اليقين لا يرفع بشك، وهذا حديث ضعيف وأقل ما فيه أنه سيورث شكاً، إذاً: نبقى على الأصل وعلى هذا يكون غير ناقض.
والله تعالى أعلم.(24/4)
حكم الوضوء من أكل لحوم الإبل
قال المؤلف رحمه الله: [عن جابر بن سمرة رضي الله عنه: (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت.
قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم) أخرجه مسلم] .
في نهاية باب نواقض الوضوء، وقبل أن يتكلم المؤلف على أحكام أخرى غير أحكام الوضوء جاء بهذه المسألة، وهي من أشد المسائل خلافاً في نواقض الوضوء، وللناس فيها آراء متعددة، ألا وهي: الوضوء من لحوم الإبل.
قوله: عن جابر رضي الله تعالى عنه: (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم) .
قوله: (رجلاً) نكرة، غير مسمى، وهذا لا يضر في الإسناد؛ لأن هذا النكرة سأل رسول الله، يعني: أنه مسلم رأى رسول الله، فهو صحابي، والصحابي لا يفتش عنه؛ لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كلهم عدول؛ ولذا فإن المرسل إذا كان الذي لم يُسم فيه صحابياً فقط فإنه صحيح ويعمل به.
قوله: (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم) ومقتضى هذا السؤال ما حاك عنده: هل هناك فارق بين لحم الإبل ولحم الغنم أو لا؟ أأتوضأ من لحوم الإبل؟ أأتوضأ من لحوم الغنم؟ فلما سأل عن لحوم الغنم قال له صلى الله عليه وسلم: (إن شئت) وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن شئت) بدل (نعم) أو (لا) أخذ منه العلماء جواز الوضوء للمتوضئ؛ لأنه إذا لم يكن متوضئاً فليس أمر الوضوء متروكاً إلى مشيئته، بل يتعين عليه أن يتوضأ؛ لأنه غير متوضئ، ولكن معنى السؤال: المتوضئ الذي يأكل لحم الغنم هل يتوضأ بسبب ذلك أو لا؟ فكان الجواب في حق لحوم الغنم: (إن شئت) يعني: إن شئت توضأت، وإن شئت اكتفيت بالوضوء الذي كان قبل أكلك لحم الغنم، وبالتالي يكون أكل لحم الغنم ليس ناقضاً للوضوء.
قوله: (أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم) هناك فرقٌ بين (نعم) وبين الجواب الذي يتضمن صيغة السؤال، وقوله (نعم) أي: توضأ من أكل لحوم الإبل.
وهنا وجدنا فرقاً بين لحوم الغنم ولحوم الإبل في أن الأولى لا توجب الوضوء، والثانية توجب الوضوء، وجاء حديث آخر عام بلفظ: (توضئوا -بصيغة الأمر- من لحوم الإبل) وجاء أيضاً: (صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل) في هذا الحديث وذاك أمر منه صلى الله عليه وسلم بعدم المقارنة، فهذه بهيمة أنعام وتلك بهيمة أنعام، وكلاهما حلال الأكل، فيأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوضوء من لحوم الإبل، ويخير الإنسان في الوضوء من لحوم الغنم، والنتيجة: أن لحوم الغنم ليست ناقضة، ولحوم الإبل ناقضة.(24/5)
مشروعية الوضوء من أكل لحوم الإبل دون غيرها
قبل الدخول في التفصيل في أقوال الأئمة رحمهم الله نقول: هناك أشخاص دخلهم الشك، وأرادوا أن يشككوا غيرهم في التشريع الإسلامي، وأعداء الإسلام يتتبعون الشبه، يقولون: كيف يفرق الدين الإسلامي بين متماثلين، فهذا لحم وهذا لحم، وهذا ينقض وهذا لا ينقض؟! وهذا في حسبانهم تناقض، وكذلك قالوا في الحديث الآخر -حديث أبي السمح -: (يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام) قالوا: كيف فرقتم بين بول البنت وبول الولد وهما متماثلان أي: قبل أن يأكلا الطعام؟! فنقول لهؤلاء: نحن أولاً وقبل كل شيء التزمنا باتباع رسول الله كما التزمنا بوحدانية الله، ولا يتم إسلام إنسان إلا بهذا الالتزام، ولا يدخل الإنسان في الإسلام إلا إذا أعلن أن "لا إله إلا الله" فإذا ما اعتقد ألوهية غير الله نقض "لا إله إلا الله"، وكذلك "محمد رسول الله" فإذا ما اتبع غير محمد نقض أن محمداً رسول الله، وإذا التزم بأن محمداً رسول الله الذي اعترف برسالته لزمه أن يأخذ كل ما جاءه به محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا ردّ شيئاً يكون قد نقض قوله: "محمد رسول الله".
ونحن هنا نقول: لو أن إنساناً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرق له بين المتماثلين، هل يملك أن يقول: لماذا يا رسول الله! فعلت ذلك؟ ولو أن رسول الله جاء إلى إنسان عنده، وأخذ رطبتين من طبق، وقال: هذه حلال لك فكلها، وهذه حرام عليك لا تأكلها.
هل من حقه أن يقول: لماذا لا آكلها يا رسول الله؟! أو يتعين عليه ألا يأكلها؟ الجواب: يتعين عليه أن لا يأكلها ولو أكلها مع كونها رطباً جنياً لكان عاصياً، ولذا أجمع الأصوليون على أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم في الأمور المباحة العادية، لو توجه إلى إنسان بعينه يصير فرضاً عينياً عليه، ولا يجزئ عنه إلا هو.
وقالوا: لو ركب صلى الله عليه وسلم ناقته، وسقط السوط من يده، وعنده عشرة أشخاص، وقال لواحد منهم: يا فلان! ناولني السوط.
فهذا المسمى تعين عليه فرضاً عينياً كفرض الصلاة أن يناول السوط لرسول الله، ولا يحق له أن يقول: يا فلان! ناول رسول الله، أو أنت قريب من الناقة ناول رسول الله؛ لأن الأمر توجه إليه بشخصه.
إذاً: لا يمكن أبداً لإنسان مسلم أن يحكِّم العقل في ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا ثبت الأمر من رسول الله فالعبرة حينئذ بالثبوت، ونحن نقول أيضاً: لو جاءك رسول الله بكأسين من الماء، وقال: اشرب هذا، ولا تشرب هذا.
فهل تملك أنت أن تشرب الذي قال لك: لا تشربه؟ الجواب: لا تملك ذلك.
فأقول: بهذه المناسبة، أنا أريد أن أطيل في هذه المسألة بالذات، لما فيها من الشبه، ولما فيها من توقف العقل: فهذا حدث وقع بين يدي أحد الملوك العرب في الجزيرة العربية: وهو أنه كان له وزير، وكان يتحرز منه، وكان الملك له أخت دونه في السن ذات عقل، وكانت تجالسه، ولما كبر وبلغ الستين كان يحضرها معه إلى المجلس؛ مخافة أن يكون منه خطأ أو زلل أو شيء هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كنوع حراسة له من كيد الوزير.
وحدث ذات مرة أن جاء الساقي بعدة كئوس للحاضرين -قد تكون عشرة- فيها شراب، وجاء بكأس واحد فارغ فوضعه أمام الملك، وجاء بزجاجة الشراب -وكانت مختومة- ففكها أمامهم وصب في الكأس الخالي وقدمه للملك، فإذا بأخته الفطنة حينما مد الملك يده إلى الكأس أمسكتها وقالت: لا تأخذها، فشرب الحاضرون من كئوسهم، ثم استدعت الطبيب وقالت له: انظر إلى هذا الشراب في هذا الكأس.
فأخذه فبهت! لأن فيه سماً زعافاً، فقالت له: انظر إلى هذه الزجاجة التي صب منها، فأخذها وقال: لا شيء فيها.
وهنا يأتي دور العقل! الزجاجة ليس فيها شيء، وفتحت وصب منها في كأس خال، وصار الشراب في الكأس سماً، فمن أين جاء السم؟ وهنا إما أن يقول: الزجاجة كانت خالية من السم، والكأس كانت خالية فلا سم فيحكم العقل ويكذب الطبيب فيشرب فيموت، وهذا بسبب تحكيم العقل، وإما أن يصدق الطبيب فيسلم.
وهنا تعجب الحاضرون! فسألها أخوها: كيف عرفت فيه السم؟ وكيف فطنتِ لذلك؟ قالت: لأن الساقي كان في السابق يأتي بالكئوس كلها مصبوبة ويبدأ باليمين، ويأتي إلى الملك فيأخذ إحدى الكئوس، وفي هذه المرة عين الكأس الذي سيشربه الملك، والكأس قد طلي بمادة سامة لا يظهر لونها، وهي شديدة الفاعلية، وفي النظر أنه زجاج صاف رائق لا شيء فيه، ولما صب الشراب على السم الذي صبغ ودهن في الكأس تحلل مع الشراب، وأصبح قاتلاً.
وهذه واقعة وقعت فعلاً، ولا أريد أن أسمي البلد ولا الملك وهو معروف، فالعقل هنا يقول: الكأس أبيض صقيل نظيف، والزجاجة التي صب منها الشراب ليس فيها سم، إذاً: الإنسان بين أحد أمرين: إما أن يحكم العقل ويقول: الزجاجة سليمة، والكأس نظيف، فلا سم فيشرب، وإما أن يصدق الطبيب فيسلم.
وهكذا أيها الإخوة! فإن المسلم إذا سمع عن رسول الله خبراً ثابتاً -وهنا الحديث رواه مسلم، ولا مطعن فيه لأي مخلوق- فهو بين أحد أمرين: إما أن يقول: سمعاً وطاعة فيمتثل الأمر ولو لم يعلم ما وراء ذلك، وإما أن يحكم العقل وقد يورده المهالك، وقد وجدنا في الشرع الحكيم في نص القرآن الكريم أن الشيء الواحد قد يختلف حكمه باختلاف الحالات ابتلاءً وامتحاناً، يقول سبحانه وتعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95] ويقول: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] يعني: الصيد حين الإحرام حرام، وبعد الانتهاء من الإحرام الصيد حلال، فهل تغير الصيد؟ وهل تغير الإنسان؟ الجواب: لا، فكيف حرم الصيد وهو أحل الحلال على المحرم الذي توجه إلى الله يلبي، وهو حلال للبدوي الذي يسوق البعير، أو للسائق الذي هو غير محرم، يغني في الهواء ويقتل الصيد ويأكل؟! بين سبحانه الحكمة من ذلك فقال: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة:94] لماذا؟ {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة:94] إذاً: تحريم الصيد ليس شحاً بالصيد ولا امتهاناً للمحرم، ولكن ابتلاء، ليرى هل المحرم صادق في إحرامه، وصادق في إيمانه أو لا؟ وقد وجد هذا الامتحان في غير ذلك، ومن أمثلة ذلك قصة طالوت وجنوده الذين معه قال تعالى حاكياً قوله لجنوده: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} [البقرة:249] أي: نهر يجري، وقال: الذي يشرب منه فليس مني إلا من اغترف غرفة بيده لماذا؟ الجواب: لأنه يريد أن يمتحن هؤلاء؛ لأنهم اعترضوا على تنصيبه ملكاً عليهم كما قال الله عنهم: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة:247] لأن عندهم مقاييس متغايرة فقال الله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247] وزاده مكونات الملك: العلم والجسم، العلم في العقل والتفكير والتدبير، والقوة في الجسم للتنفيذ، وهذه هي مقومات الملك.
إذاً: الشرع يأتي بأمور معقولة قد يدرك العقل الحكمة من ورائها، وقد يأتي بما لا يدركه العقل -أي: أنه يتقاصر في قواه وإدراكه عما وراء ذلك- فإن كان الإنسان مؤمناً صادقاً فسيقول: سمعاً وطاعة.
وهذه أيها الإخوة! مقدمة بين يدي هذا الحديث وهذه المسألة التي هي في قوله صلى الله عليه وسلم: (توضئوا من لحوم الإبل) والتخيير في الوضوء من لحوم الغنم، فلا يقف العقل ويتطاول ويتساءل: لماذا فرق بين هذا وبين ذاك؟ بل نقول: إن لم تظهر لنا حكمة سكتنا وسلمنا ونحن على حق، وإن ظهرت لنا ازددنا إيماناً ويقيناً كما قال الله: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] .(24/6)
اختلاف العلماء في حكم الوضوء من أكل لحوم الإبل
جميع علماء الحديث من أصحاب السنن الست وغيرهم متفقون على أن من أكل لحم الجزور يتوضأ، وأما الأئمة الأربعة رحمهم الله: فـ مالك والشافعي وأبو حنيفة رحمهم الله يقولون: لا يتوضأ؛ لأنه نسخ الوضوء من أكل لحم الإبل، ولم يقولوا: ليس بثابت، بل قالوا: نسخ.
وأما أحمد رحمه الله فيقول بالوضوء من لحم الإبل، وهذا هو مشهور المذهب، وإن كان هناك عن أحمد رواية أخرى توافق الأئمة الثلاثة، ورواية ثالثة: أن من أكله عالماً بالنهي توضأ، ومن أكله جاهلاً بالنهي لا يتوضأ.
وهذه مردودة عند متأخري أهل المذهب؛ لأن عندهم أن نواقض الوضوء لا تتوقف على العلم والجهل.
إذاً: من الناحية الفقهية فالأئمة رحمهم الله: أبو حنيفة ومالك والشافعي يقولون بعدم الوضوء، وأحمد رحمه الله المشهور في مذهبه الوضوء.
إذا كان الأمر كذلك فهناك تفريعات في هذه المسألة: السائل سأل عن اللحوم، فيأتي عند من يقول بالوضوء من اللحوم، هل الحكم مناط باللحم فقط في مسماه، وفي حقيقته العرفية، أو أنه يتبع اللحم غير اللحم عرفاً؟ وهل اللبن -لبن الإبل- يتبع اللحم؟ وهل المرق الذي طبخ فيه اللحم يتبع اللحم؟ وهكذا هل يتبع اللحم الكرش، والكبد، والدماغ، واللسان، ولحم الرأس؟ يقولون: كل هذه أصبحت في العرف متميزة، بدليل أنك لو أمرت خادماً لك أو إنساناً أن يأتيك بكيلو جرام لحم إبل، وذهب وأتى لك بكرش كامل، فستقول له: يا أخي! أنا ما قلت لك: كرش، أنا قلت لك: أريد لحماً.
فإن قال: هذا لحم! فستقول له: لا هذا ليس بلحم؛ لأنه قد أصبح العرف عند الناس أن اللحم في البعير غير الكرش، والكرش له اسم مستقل.
ولو قال لك قائل: اذهب وائتني بلحم رأس.
فذهبت وأتيت له بلحم فخذ، أو أتيت له بالسنام.
فهذا كله لحم! لكنه لا يرضى بذلك، لما كانت أجزاء الحيوان لها أسماء عرفية عند الناس فهل يقتصر النقض على مسمى اللحم العرفي عند الناس أو يشمل جميع أجزاء الإبل؟ هناك من يقول: يشمل جميع أجزاء الإبل؛ لأن الله لما حرم لحم الخنزير شمل جميع أجزاء الخنزير.
وهناك من يفرق ويقصر الحكم على مسمى اللحم فقط.(24/7)
بيان الحكمة من الأمر بالوضوء من أكل لحوم الإبل
وننتقل إلى القضية من حيث هي، ولا نقول: ما حقيقة الأمر؟ وما الحكمة والغرض من وراء ذلك؟ لا نقول ذلك؛ لأن هذا تحكم على الشارع، فقد تكون هناك حكمة غابت عنا لا ندركها ابتلاءً وامتحاناً؛ لأن التشريع كله ابتلاء كما قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:1-2] إذاً: قد يكون الحكم ابتلاءً، وهنا لا نقول: الحكمة كذا، ولا نقول: الغرض وراء ذلك كذا، ولا السبب في هذا هو كذا؛ وإن كان بعض الفقهاء قد قال: الوضوء من لحوم الإبل إنما هو لشدة زهومته وزفره؛ لأنه أشد زهومة من لحم الغنم.
فأجاب الآخرون وقالوا: لحوم الظباء ولحوم الحمام أشد زهومة وحرارة، وليس فيها وضوء.
والذي يمكن لإنسان متتبع، متطلع، يرجو الكشف عن شيء خفي عليه هو أننا إذا نظرنا إلى خصوص الإبل من حيث هي نجد أنها قد جاءت فيها دون بقية الأنعام أوصاف انفردت بها، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في معاطن الإبل) وهل النهي عن الصلاة في معاطن الإبل لأنها نجسة؟ قالوا: لا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه العرنيون واجتووا المدينة أمرهم أن يذهبوا إلى إبل الصدقة ليشربوا من ألبانها وأبوالها، فأبوالها على هذا طاهرة، ولو كانت نجسة لم يأمرهم بالشرب منها، إذن: النهي عن الصلاة في معاطن الإبل إنما هو لشيء آخر، فما هو؟ قالوا: كشف عنه الحديث: (ولا تصلوا في معاطن الإبل؛ فإنها خلقت من الشيطان أو فإن معها شيطان) يقول العلماء في معنى شيطانها: معناه: أنها إذا جاءت إلى إنسان وهو يصلي في محلها بركت عليه؛ لأن البعير لا يحيد عن موطنه الذي يألفه، بخلاف الغنم فقد تكون قطيعاً يبلغ مائة رأس، وإذا أتت إلى إنسان يصلي تبقى حوله ولا تؤذيه ولا تنطحه ولا تقف عليه؛ لأنها موادعة ومسالمة، ليس عندها من الشر شيء.
وفي بعض الروايات: (ولا تصلوا في معاطن الإبل؛ فإنها خلقت من الشيطان) فخلقت من الشيطان، أو معها شيطان أي: أن هناك ارتباطاً بينها وبين الشيطان.
وإذا جئنا إلى جانب آخر نجد أيضاً في قضية الشيطان: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى رجلاً شديد الغضب، قال: (انظروا إلى هذا -وقد انتفخت أوداجه واحمرت عيناه- لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لذهب عنه ذلك) وقال: (إن الغضب من الشيطان فاطفئوه بالماء) فإذا كان الغضب من الشيطان، فدواؤه أن نطفئه بالماء، وأرشد الإنسان أنه إذا كان قائماً حال غضبه فليجلس، وإذا كان جالساً فليتكئ، فإذا لم يذهب عنه بهذا كله توضأ؛ ليطفئ أثر الشيطان بالماء.
إذاً: هناك ارتباط بين الوضوء وأكل لحم الإبل.
وننتقل إلى الأكل: يجمع علماء التغذية والأطباء بأن كل طعام له خصائصه في الغذاء وله تأثير على الآكل، فهناك -كما تعلمون- الألبانيون، وهناك النباتيون، وهناك غير ذلك، فالنباتيون لا يأكلون اللحوم، ويرون أن اللحوم تؤثر على القلب وعلى الروح، وأن النبات أخف غذاءً، ويتفقون -أي: علماء التغذية والأطباء- أيضاً على أن تناول الحليب أو الألبان ومشتقاتها تهدئ الأعصاب، وأن أنواعاً من اللحوم توتر الأعصاب وتثيرها، وأن.
وأن.
إلخ.
ومن هنا نجد أن الشريعة المطهرة نهت عن أنواع من اللحوم لغرائز في أصولها، فنهى صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الحمر الأهلية، بينما الحمر الوحشية تصاد وتؤكل، وكان الجميع يؤكل إلى عام خيبر، فنهى صلى الله عليه وسلم في عام خيبر عن أكل لحوم الحمر الأهلية، فقالوا: سبحان الله! هذه أهلية لا تؤكل، وقد كانت تؤكل من قبل، وتلك برية وحشية تؤكل لماذا؟! فأجابوا وقالوا: إن الحمار من طبيعته اللؤم والخسة، بمعنى: أنه يخاف من القوي، ويتلاعب بالضعيف، فإذا وجد غلاماً صغيراً تلاعب به، وإذا وجد شخصاً قوياً انقاد إليه، ولذا قيل: ألأم من حمار، وهو أيضاً يصبر على الذلة ولذا قيل: ولا يقيم على ذل يراد به إلا الأذلان: عير الحي والوتد العير: هو الحمار، يضرب ويمتهن فيصبر على الذل ولا يحرك ساكناً، أما الحمار الوحشي فليس فيه ذلك؛ لأنه يعتمد على نفسه في حياته، وفي دفاعه عن نفسه من بقية الوحوش، ويسعى على أكله وطعامه، ولذا يقول أصحاب علوم الحيوان: إن التولبة -وهي أنثى الحمار الوحشي- إذا ولدت تولباً صغيراً كسرت رجله؛ ليبقى في جحره إلى أن يجبر الكسر، فيكون قد كبر وقوي، فيستطيع أن يسرع وأن يسابق الوحوش فيسلم منها، أما لو تركته قد يدب وهو صغير فيخرج من جحره فتأكله الوحوش.
إذاً: فهو يعتمد على نفسه في حياته وفي طعامه، بعيداً عن خصلة الذلة والإهانة.
وإذا جئنا إلى تحريم لحم الخنزير، يقول أبو حيان: إن كل الحيوانات لديها الغيرة على أنثاها إلا الخنزير؛ فإنه لا غيرة له على أنثاه، فمن أكثر من لحم الخنزير سلب الغيرة على حريمه -يقول في تفسيره-: وقد شاهدنا ذلك في بلادنا ممن يكثرون من أكل لحم الخنزير، أنه لا غيرة لديهم على نسائهم.
إذاً: نرجع ونقول: اللحوم وأنواع الغذاء تؤثر على الآكل، ولما كانت الإبل من الشيطان فإنها تؤثر على الآكل بالشيطنة، وهذا يثير فيه الغضب كما يثير الشيطان الغضب، ويؤيد هذا ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن مع الإبل الكبر والخيلاء، ومع الغنم الوديعة والسكينة) فصاحب الإبل الذي يسوق عشرين إلى خمسين بعيراً يشعر أن رأسه أعلى من سنام البعير، والذي يسوق الشويهة ويرفق بها ويصبر عليها يكون متواضعاً مع الناس، ولا تجد فيه كبرياء ولا شدة، ومن هنا يقول صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي إلا وقد رعى الغنم) ولم يقل: الإبل؛ لأن راعي الغنم يراعي ضعفها، فيتتبع لها الماء والمرعى، ويرفق بها، ولذا تجد في يده عصا صغيرة، بخلاف صاحب الإبل فإن معه عصا كبيرة.
إذاً: هناك فرق في طبيعة الحيوانات، فالإبل تميزت بما يجرها إلى عنصر الشيطنة -لا أقول إلى الشيطان- ولحمها فيه هذه الغريزة، وكما يقول عمر: للحم خرمة.
أي: تأثير على عقلية الإنسان، فإذا أكثر الإنسان من أكل لحومها انتقلت إليه عادتها، ومن هنا لما كان أثر الغضب من الشيطان كان إطفاؤه بالماء.
وبهذا يجد العقل -ولو التماساً- فرقاً بين لحوم الغنم ولحوم الإبل.
وبالله تعالى التوفيق.(24/8)
حكم الغسل على من غسّل ميتاً والوضوء على من حمله
قال المؤلف رحمه الله: [قال: وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من غسَّل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ) أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه، وقال أحمد: لا يصح في هذا الباب شيء] .
هذه المسألة من المسائل الخلافية بين العلماء، والأئمة الأربعة لا يرون وجوب الغسل على من غسل ميتاً، ولا الوضوء على من حمله، وأما الحديث: (من غسَّل ميتاً فليغتسل) فقالوا: على فرض صحته يكون هذا الغسل لا عن حدث، ولكن عما يمكن أن يكون قد وصل إليه من رذاذ الماء الذي يغسل به الميت، وعادة الميت في تلك الحالة أنه ربما كان فيه ما ينبغي تغسيله، فقالوا: يغتسل احتياطاً للنظافة والطهارة لا عن حدث تغسيل الميت.
والقسم الثاني من الحديث: قوله: (ومن حمل ميتاً فليتوضأ) (من حمل) معناه: بأنه بعدما يحمل الميت يتوضأ، والجمهور قالوا: (من حمل) أي: من أراد أن يحمل، كما في حديث أنس: (كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال ... ) فقوله: (إذا دخل) أي: إذا أراد الدخول؛ لأنه بعد دخوله لا يحق له أن يأتي بشيء فيه ذكر الله، وكما في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} [النحل:98] والمراد أن يستعيذ عند إرادته القراءة لا عند فراغه منها، فقالوا: وهنا أيضاً (من حمل) أي: من أراد أن يحمل ميتاً فليتوضأ، ولماذا يتوضأ؟ قالوا: لأن من يحمله سيذهب به إلى المصلى فينبغي أن يكون متوضئاً، حتى إذا قدموا الميت للصلاة عليه يكون حامله أولى الناس بأن يصلي عليه، وإذا كان سيصلي عليه يجب أن يتهيأ للصلاة عليه بالوضوء من قبل.
وجاء في تغسيل الميت في موطأ مالك رحمه الله: أن أسماء زوج الصديق رضي الله عنهما في وفاة أبي بكر كانت هي التي غسلته، ثم خرجت على الناس وقالت: لقد غسلت أبا بكر، واليوم شديد البرد، فهل ترون عليَّ من غسل؟ فقالوا: لا.
فهذا اتفاق من جميع الحاضرين بأنها لا غسل عليها من تغسيله، وعلى هذا -كما قال أحمد رحمه الله-: لا يصح في هذا الباب شيء.
إذاً: يكفينا عدم صحة الحديث، وهذا هو توجيه الحديث على افتراض أنه صحيح.
وبالله تعالى التوفيق.
والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(24/9)
كتاب الطهارة - باب نواقض الوضوء [5]
ذكر الله عز وجل من أفضل القربات وأجل الطاعات، ولهذا شرعه الله للإنسان ليزيد به من درجاته، ويثقل به موازينه، ولفضله جعله الله في كل وقت، وعلى أي حال، ليكون الإنسان قريب الصلة بربه، وجاء النهي عن ذكر الله في المواطن المستقبحة كقضاء الحاجة والجماع ونحوها، وما عدا ذلك فيذكر الإنسان ربه في كل وقت وحين، ولكن يستحب له عند الذكر أن يكون متوضئاً، وقد يجب عليه الوضوء عند الذكر في بعض الحالات.(25/1)
حكم الطهارة للذكر
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه) رواه مسلم وعلقه البخاري] .
جاء المؤلف رحمه الله تعالى بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه) والأحيان: جمع حين، وهو الوقت، كما تقول: حان حينه، أي: آن وقته.
لما كان المنع من مس المصحف قد يوهم المنع من ذكر الله كذلك إلا لمتوضئ جاء المؤلف رحمه الله بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها ليرفع هذا الوهم، وقد أجمع الجميع على أن ذكر الله من التسبيح والتحميد والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم والاستغفار جائز لكل مسلم، ولو لم يكن متوضئاً، أي: ولو كان محدثاً.
قوله: (يذكر الله) ذكر الله يدخل فيه تلاوة القرآن، ولكن تلاوة القرآن خرجت من عموم هذا الذكر بما سيأتي إن شاء الله في باب الغسل عن علي رضي الله تعالى عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن ما لم يكن جنباً) فإذا كان جنباً فلا، ولا حرفاً، فيستثنى من عموم: (يذكر الله) تلاوة القرآن لمن كان جنباً.(25/2)
المواطن التي لا يصح فيها ذكر الله
وقولها رضي الله تعالى عنها: (على كل أحيانه) يقولون: هذا للغالب، كما في قوله سبحانه: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:191] أي: أن الغالب عليهم أنهم يذكرون الله في كل لحظة، وقد خصص هذا العموم: (على كل أحيانه) بحالات ومواطن لا يصح فيها ذكر الله مطلقاً، منها: قضاء الحاجة، فلا يجوز لإنسان أن يذكر الله وهو يقضي حاجته في الخلاء أو إذا كان في داخل بيت الخلاء ولو لم يكن يقضي حاجته، وكذلك عند الجماع، فتلك حالات لا يجوز لإنسان أن يذكر الله في أثنائها، وأما قبل أن يتلبس بها فنعم؛ لأنه جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه كان إذا دخل الخلاء -يعني: أراد الدخول- قال: اللهم! إني أعوذ بك من الخبْث -أو الخبُث- والخبائث) فالخبْث: جميع خبيث، والخبائث: جمع خبيثة، قيل: من الخبث وهو دون الخير، والخبُث الذين هم الشياطين، فكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله عند إرادة دخول الخلاء بهذه الكلمات، أما إذا دخل فلا.
بل إنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وقال: (إذا تغوط الرجلان فلا يحدث أحدهما الآخر) وسيأتي في باب آداب قضاء الحاجة: (إن الله يمقت على ذلك) .
إذاً: منتقض الوضوء لا يمنع من ذكر الله، وهذا الذي جعل المؤلف يسوق حديث عائشة رضي الله تعالى عنها في باب نواقض الوضوء.(25/3)
مواطن الذكر التي يكون فيها الوضوء واجباً أو مستحباً
فالوضوء لذكر الله، ليس بواجب، ومنتقض الوضوء لا يمنع من ذكر الله، ولكن يستحب له أن يتوضأ لذكر الله، واستدلوا على ذلك بأنه صلى الله عليه وسلم كان يمشي فبال على سباطة قوم، فلقيه رجل في الطريق، فسلم على النبي، فلم يرد عليه السلام، حتى أتى إلى حائط فتيمم عليه، ثم رد عليه السلام وقال: (كرهت أن أذكر الله على غير وضوء، أو قال: على غير طهارة) ولهذا اتفقوا على أن الأفضل للإنسان إذا أراد أن يجلس جلسة ذكر لله فيما بينه وبين الله أن يكون متوضئاً.
ومن هنا قالوا: الوضوء تارةً يكون واجباً ترتبط به العبادة، وتارةً يكون مندوباً في ذاته، وتارةً يكون مندوباً لعبادة ليست واجبة، فهو واجب للعبادة الواجبة كالصلاة والطواف، وهذا بالاتفاق، وفي مس المصحف على خلاف -كما تقدم- ومندوب لذكر الله.
وكذلك قالوا: يستحب الوضوء فيما يتعلق بالمعاشرة بين الزوجين كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يعود فليتوضأ بينهما وضوءاً) ، وجاء في بعض الروايات: (فإنه أنشط للعود) أي: أن الماء يعطي الجسم نشاطاً، وهناك أيضاً موطن آخر يستحب فيه الوضوء وهو: إذا أراد الجنب أن ينام قبل أن يغتسل، فقد جاء عند ابن ماجة أن الأولى له أن يتوضأ قبل أن ينام، وجاء في بعض الأخبار تهديد إذا لم يتوضأ ونام وهو جنب، يقول صلى الله عليه وسلم: (أخشى إذا مات في نومه ألا يحضره جبريل) هكذا نص الحديث.
إذاً: إذا واقع الرجل أهله وأراد أن يعود فعليه أن يتوضأ، وبهذا الوضوء يُلغز عند الفقهاء ما هو الوضوء الذي لا ينقضه إلا الجماع؟ والجواب: هذا الوضوء هو الذي بين المعاودتين فلو أحدث حدثاً أصغر مما ينقض الوضوء فلا يحتاج إلى أن يتوضأ وضوءاً آخر؛ لأنه في الأصل ليس متطهراً - بل هو جنب- فإذا ما توضأ وهو جنب من الجماع الأول، وأراد أن يجامع مرة أخرى فتوضأ للوضوء، فلا نقول له: عليك أن تتوضأ مرة أخرى إذا أردت أن تعاود؛ لأن الوضوء موجود، وهذا الحدث لا ينقض الوضوء؛ لأن هذا الوضوء لا ينقض إلا بالجنابة، فإذا أراد أن يعاود مرة ثالثة عليه أن يتوضأ؛ لأن وضوءه قد انتقض بمواقعته أهله.
وأيضاً يستحب الوضوء على الوضوء، وكما تقدم في حديث: (أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت) فجعل له المشيئة في أن يتوضأ وهو متوضئ؛ لأنه جاء يسأل عن نقض وضوئه من أكل لحم الغنم، فقال له: (إن شئت توضأت) يعني: توضأت على وضوئك الأول.
وجاء في قصة الإسراء والمعراج أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الجنة سمع خشخشة نعلين أمامه، فقال: من هذا؟ قيل له: بلال.
فلما نزل وسأل بلالاً وقال: (حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت خشخشة نعليك في الجنة فقال بلال: ما أحدثت حدثاً إلا توضأت، ولا توضأت وضوءاً إلا صليت به صلاة) .
وهذه الصلاة هي التي يقولون عنها: سنة الوضوء، اللهم إلا إذا كان في الأوقات المنهي عنها، إذا أخذنا بقول الجمهور في أنه لا صلاة في الأوقات المنهي عنها، وأما الشافعي رحمه الله فعنده جواز صلاة ذوات الأسباب، واعتبر الوضوء من الأسباب التي تسوغ للإنسان أن يصلي في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها.
والعامة يقولون: الوضوء سلاح المؤمن، بمعنى: أنه إذا كان الإنسان على وضوء، وواجه ما يكره في طريقه أو اشتد عليه شيء، ودعا الله سبحانه، فإنه يكون على حالة حري أن يستجاب له فيها.
والوضوء على الوضوء -كما قيل- نور على نور.(25/4)
شرح حديث: (العين وكاء السه)
قال المؤلف رحمه الله: [وعن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العين وكاء السه، فإذا نامت العينان استطلق الوكاء) رواه أحمد والطبراني، وزاد: (ومن نام فليتوضأ) وهذه الزيادة في هذا الحديث عند أبي داود من حديث علي دون قوله: (استطلق الوكاء) ، وفي كلا الإسنادين ضعف، ولـ أبي داود أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: (إنما الوضوء على من نام مضطجعاً) وفي إسناده ضعف أيضاً] .
قدم لنا المؤلف ما يتعلق بنقض الوضوء من النوم، وذكر فيه حديث أنس وفيه: (أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا ينامون أو ينعسون حتى تخفق رءوسهم) ، وقد تقدم هناك بحث النوم، وهل النوم ناقض بذاته أو أن النوم مظنة النقض؟ وأشرنا هناك إلى حديث معاوية رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العينان وكاء السه) وكما يقول الشراح: كان من حسن الترتيب والربط أن يضيف المؤلف هذا الحديث إلى الحديث المتقدم هناك، أو يؤخر ذاك الحديث إلى آخر هذا الباب ويذكره عند هذا الحديث، يعني: من باب الجمع المتجانسين.(25/5)
الأحوال التي يكون فيها النوم ناقضاً للوضوء
وقد تقدم لنا أن الجمهور يرون أن النوم مظنة النقض.
ومتى يكون الحكم بالنقض؟ قلنا: إنهم اختلفوا في صور النوم: فقد ينام الإنسان جالساً، وينام مضطجعاً، وينام نوماً خفيفاً، وينام نوماً عميقاً، والفرق بين الخفيف وبين العميق، أنه إذا رأى المنامات، وكان لا يشعر بمن حوله، أو كان بيده شيء فسقط منه، أي: أنه استغرق حسه عما في يده فهذا عميق، وقد أشرنا إلى أن القاعدة في ذلك تدور على: تحقيق المناط في وجود النوم، وأنهم أجمعوا على أن غيبة العقل بأي سبب آخر سوى النوم ناقض، فلو كان إنسان يغمى عليه، أو إنسان يخدر، أو إنسان يحصل له إغماء بسبب السكري - عافانا الله وإياكم- فإذا غاب العقل بأي أمر مشروع أو غير مشروع من مرض أو صحة فإنه يتوضأ لغيبة العقل؛ لأنه في غيبة عقله قد يحدث حدثاً ولا يشعر به، فوجب عليه أن يتوضأ، ومن هنا كان النوم كذلك، إذا تيقن أنه قد نام فيجب عليه أن يتوضأ.
وهذا الحديث يبين لنا أن النوم مظنة النقض وليس بناقض في ذاته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مثل الجوف بالقربة، والقربة يكون فيها الماء موكأ بالخيط، فإذا كان فم القربة مربوطاً فلن يخرج منها ماء ولو دحرجتها على الأرض، لكن إذا انفك هذا الوكاء وانفك هذا الرباط خرج ما في القربة ولم يبق فيها شيء، فكذلك شبه النبي صلى الله عليه وسلم العينين بوكاء السه، وهذا من بديع التشبيه، ونظائر هذا كثير عنه صلى الله عليه وسلم والسه -كما تقدم-: اسم لحلقة الدبر، والريح إنما يخرج من الدبر، فإذا كانت العينان مفتوحتان فالقربة مربوطة، فلا يخرج شيء من السه لأنه مربوط موكأ، ووكاؤه في العينين، لكن إذا نامت العينان واسترخت الأعصاب انفك الوكاء، فيمكن أن يخرج من السه شيء وهو لا يشعر به؛ لأنه في نوم.
ولذا قال الشافعي رحمه الله ومن وافقه: من نام نوماً عميقاً وهو جالس، وكان متمكناً في جلسته، وحلقة الدبر مباشرة للأرض أو على عقبه، أو على رجله، وكان متأكداً من أنه لا يمكن أن تخرج منه ريح، فإن نومه لا ينقض الوضوء؛ لأنه إذا انفك وكاء العينين فهناك وكاء آخر وهكذا، وقوله: (العين وكاء السه) هذا في غير الأنبياء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم -كما أشرنا سابقاً- جاء عنه أنه صلى من الليل، ثم أوتر، ثم اضطجع فنام حتى نفخ، ثم قام لصلاة الصبح، فصلى ولم يتوضأ، فقالت له أم المؤمنين عائشة: أتصلي وقد نمت ولم تتوضأ؟ قال: (يا عائشة! تنام عيناي ولا ينام قلبي) فإذا استطلق وكاء العينين وجد وكاء القلب؛ لأنه ما دام القلب يقظاً لم ينم فإنه إذا حدث شيء يشعر بذلك ويدرك، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم أحياناً يقوم من الليل فيتوضأ كما في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في مبيته عند خالته ميمونة؛ فذكر أنه نام على عرض الوسادة، فقام صلى الله عليه وسلم من الليل وذكر الله ومسح وجهه، وقام ودخل الخلاء، فقام ابن عباس وجاء بإداوة الماء ووضعها عند بيت الخلاء، فلما خرج وجد الماء، قال: من وضع هذا؟ قالت له: الغلام - تعني: ابن عباس - قال: (اللهم! فقه في الدين) .
فقيل لـ ابن عباس: لم وضعت الماء؟ قال: لأن الذي يدخل الخلاء ثم يخرج يحتاج إلى وضوء، فلابد أن يكون الماء جاهزاً.
وهذا من الفقه والاستنباط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم! فقه الدين وعلمه التأويل) فتوضأ صلى الله عليه وسلم.
إذاً: هو ينام صلى الله عليه وسلم، وفي نومه قد ينتقض الوضوء وقد لا ينتقض، فإذا ما انتقض الوضوء فإنه يدرك ذلك؛ لأن قلبه لا ينام، وجاء في بعض الروايات: (وهكذا الأنبياء) ومن هنا كانت منامات الأنبياء وحياً؛ بدليل قول الله عز وجل حاكياً عن الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أنه قال لإسماعيل: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات:102] ولم يقل له: افعل ما رأيت في المنام، بل قال: ((افعل ما تؤمر)) فاعتبر إسماعيل عليه السلام منام أبيه أمراً من الله، ولهذا فإن الشيطان لما جاء وقال: يا إبراهيم! تأن، أتذبح ولدك على رؤيا منام؟! انتظر حتى يأتيك الوحي جهاراً عياناً.
أخذ إبراهيم الحصباء وحصبه، وقال: اخسأ يا لئيم! إنه أمر الله، ومن هنا شرع رمي الجمرات.
فهنا إبراهيم عليه السلام اعتبر الرؤيا وحياً، وكذلك إسماعيل عليه السلام اعتبرها وحياً، وهكذا رؤيا الأنبياء.
وعندنا درجة نازلة قليلاً: كان صلى الله عليه وسلم مدة تحنثه في الغار ستة أشهر، يرى الرؤيا فتأتي في النهار كفلق الصبح، يعني: إذا رأى بأن خمسة رجال مروا عليه يمر عليه خمسة لا ستة ولا أربعة، وهكذا، فجاء مثبتاً في رواية أخرى وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو تُرى له جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) فقالوا: هذا التحديد الحسابي الهندسي: واحد من ستة وأربعين، لماذا ليس من ثمانية ولا من عشرين؟ قالوا: لأن مدة تحنثه صلى الله عليه وسلم في الغار بالنسبة إلى مجموع مدة الرسالة جزء من ستة وأربعين، وكان مدة تحنثه يرى الرؤيا فتأتي كفلق الصبح؛ لأن مدة الرسالة ثلاث وعشرون سنة: ثلاث عشرة سنة منها في مكة وعشر سنوات في المدينة، ومدة التحنث كانت ستة أشهر، وستة أشهر نصف سنة، وأنصاف الثلاث والعشرين تكون ستة وأربعين نصفاً، ولذا كان صلى الله عليه وسلم بعد أن يصلي الصبح يقول أحياناً: (أيكم رأى البارحة رؤيا؟ فكان من رأى رؤيا واستحسنها قصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
وقوله: (العين وكاء السه، فإذا نامت العينان استطلق الوكاء) وهذا -كما تقدم- يدل على أن النوم المستغرق ناقض للوضوء، أي: مظنة للنقض؛ لأنه في تلك الحالة قد يحدث ولا يشعر بشيء.
هناك جزئية صغيرة لم نتعرض لها هناك، وهي في قوله: (العين وكاء السه) يبحث العلماء في أن ما خرج من السبيلين ناقض للوضوء، ومما يخرج الريح، والريح تخرج من الدبر، فلو خرجت الريح من القبل هل يكون خروجها ناقضاً للوضوء أو لا؟ فقالوا: القُبُل ليس موضعاً للريح؛ لأن الريح غازات تفاعلت في المعدة وخرجت عن طريق القولون وعن طريق السه، لكن القُبُل متصل بالمثانة، والمثانة عبارة عن كيس لا تتصل بالمعدة في تفاعل ولا في شيء، فقال بعضهم: الريح من القُبُل لا عبرة بها، وقال بعضهم: إن كان من المرأة فهو ناقض، وإن كان من الرجل فلا؛ لصلة قُبل المرأة بالرحم وكذا.
إلخ، والجمهور على أنه ليس له اعتبار؛ لأنه غير متصل بالجوف.
والشافعية لهم تفصيلات عديدة في هذا.
والله تعالى أعلم.(25/6)
الحجامة وأحكامها
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وصلى ولم يتوضأ) أخرجه الدارقطني ولينه] .
تقدم الحديث: (من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فليتوضأ) والرعاف هو: خروج دم من الجسم من غير موضع السبيلين؛ لأن ما خرج من السبيلين ولو دم كدم الاستحاضة -وقد تقدم الحديث في المستحاضة في أول الباب- فإنه يكون ناقضاً للوضوء لأنه خارج من السبيلين وهنا يبين أحكام الدم الخارج من غير السبيلين.(25/7)
تعريف الحجامة وأنواعها
قوله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم) الحجامة هي: إخراج الدم من الجلد من غير السبيلين، وكما يقولون: هناك الحجامة وهناك الفصد، والحجامة تكون على قسمين: حجامة سائلة، وحجامة جافة.
والحجامة الجافة تكون بإخراج الهواء، وكيفيتها عندهم: إذا كان هناك ما يسمى بالروماتيزم أو بالالتهاب العضلي أو نحو ذلك فإنه يؤتى بوعاء مثل الكأس الكبير، ويؤتى بشعلة نار فتوضع على قطعة من العجين أو على شيء يثبت على العضو الذي فيه الألم ويكفأ الإناء على هذه الشعلة متمكناً من الجلد، فإن من طبيعة الشعلة أن تحرق الأكسجين الموجود في تجويف الكأس، وعند احتراقها تتطلب هواء، والكأس ليس فيه هواء، فيخرج الهواء من داخل الجسم بسبب جاذبية الشعلة، فإذا كان هناك رطوبة أو هواء أو برودة في الجسم جذبتها تلك الشعلة ثم تنطفئ لعدم وجود الأكسجين؛ لأن النار لا تشتعل بغير أكسجين، فهذه هي التي تسمى (حجامة جافة) .
والحجامة السائلة: تكون بإخراج الدم الزائد أو الدم الفاسد من الجسم، وهذا له أهل اختصاص يفعلونه، ويخرجون الدم من الجلد؛ وذلك بتشريط الجلد تشريطاً خفيفاً أقل من الملليمتر، أي: بمجرد جرح سطح الجلد، ثم يوضع الكأس مكان التشريط ويجذب بأي وسيلة من الوسائل، فيسحب الدم من الجلد ويخرجه إلى الخارج، وهذه هي الحجامة السائلة.
والفصد: هو أن يعمد إلى العرق بالذات ويقطعه، فيخرج الدم نافراً من ذلك العرق.
والفصد والحجامة معروفان عند العرب من القدم، فقد كانوا يستعملون الحجامة للتداوي، ويستعملون الفصد للأكل، فكانوا يأتون إلى البعير أو إلى الثور ويقطعون عرقاً نابضاً في جسمه، فيسكب الدم، فيتلقونه في إناء، ثم بعد ذلك يحمُّون التراب ويصبون هذا الدم في ملة التراب فيجمد ثم يأكلونه، أو يأتون بالجزور الذي ذبح، ويصبون هذا الدم في أمعاء الذبيحة، ويدفنونها في الملة، فيجمد الدم داخل الأمعاء فيأكلونه، هذا هو الفصد، وأما استعمال الدم وأكله فقد جاء الإسلام ونهى عنه.
فالحجامة نوع من أنواع العلاج، وقد أطال ابن القيم رحمه الله وغيره في إيراد النصوص التي جاءت بالتداوي بالحجامة، ومما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في التداوي بها قوله: (لو أن دواءً يصل الداء لوصلته الحجامة) يعني: لو أن دواءً يصل الداء بذاته لقوة فاعليته لوصلته الحجامة، وقال: (احتجموا لا يضير بكم الدم) أي: لا يهلككم الدم.(25/8)
أوقات الحجامة ومواضعها
ولأهل العلم والاختصاص مباحث تتعلق بالحجامة: متى تكون الحجامة؟ فهم ينهون عنها في الأيام البيض أيام المد والجزر، وينهون عنها من كان عمره دون السابعة عشر، وينهون عنها من كان فوق الستين، وهذا النهي عند الفقهاء بالذات هو الذي يعمل به الأطباء الآن في نقل الدم من إنسان إلى إنسان فإنهم لا يأخذون دماً من إنسان عمره دون السابعة عشر، ولا يأخذون دماً من إنسان تجاوز عمره الخمسين أو الأربعين، ولهم في ذلك حد أيضاً، ولا يعطون إنساناً دماً على فترتين متواليتين ليس بينهما ستة أشهر على الأقل، ولا يعطون إنساناً دماً أكثر من خمسمائة ملليلتراً في المرة الواحدة.
فإذاً: أخذ الدم والحجامة شيء واحد ولكن مع الفرق في بعض الأشياء، فأخذ الدم من العرق من باب الفصد، وأما الحجامة فهي: أخذ الدم من الجلد، والدم الذي يخرج بالحجامة غالباً لا يصلح للنقل إلى المريض، فغالباً ما يكون فيه فساد، وغالباً ما يكون لونه أسود.
إلى غير ذلك من الأمور التي يعرفها من يتعاطى هذه المهنة وله خبرة فيها.
وكذلك لهم مباحث في أيام الأسبوع: فمنهم من يمنع الحجامة في يوم الأربعاء.
وأما المواضع التي يحجم فيها: فيُحجم في الرقبة، ويحجم على الفخذ، وبين الكتفين في أي موضع، وفي الرأس، وإذا فرط الحاجم فقد يضر بالمحجوم.
وجاء فيما يتعلق بالصيام: هل الحجامة تفطر الصائم أو لا؟ والحجامة قد أخذت حيزاً لو أفردت ببحث لكان بحثاً كافياً.
وهنا جاءنا المؤلف بغرض واحد وهو: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم، وصلى ولم يتوضأ، وما زاد على أن غسل مواضع الحجامة أو غسل محاجمه) ، يعني: مواضع الكأس أو القرن الذي يشفط به، وهذا دليل على أن هذا دم خارج من الجسم وهو كثير، ولم ينتقض وضوءه صلى الله عليه وسلم به.
إذاً: ما تقدم هناك من ذكر القيء وذكر القلس وذكر الرعاف هو محل البحث عندهم، وتقدم أن عرفنا أن الحديث في ذلك ضعيف.
والمؤلف رحمه الله تعالى ساق ذاك الحديث أولاً ليبين لنا دليل من يقول بأن الخارج الفاحش النجس من البدن ناقض، ثم بين أن دليل هذا حديث ذو سند ضعيف، ثم ساق هنا حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم ولم يتوضأ) ؛ ليبين دليل من يقول: إن الخارج الفاحش النجس من الجسم من غير السبيلين ليس بناقض.
والله سبحانه وتعالى أعلم.(25/9)
شرح حديث: (يأتي أحدكم الشيطان في صلاته فينفخ في مقعدته) الحديث
قال المؤلف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي أحدكم الشيطان في صلاته فينفخ في مقعدته، فيخيل إليه أنه أحدث ولم يحدث، فإذا وجد ذلك فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) أخرجه البزار، وأصله في الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد، ولـ مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه، وللحاكم عن أبي سعيد مرفوعاً: (إذا جاء أحدكم الشيطان فقال: إنك أحدثت.
فليقل: كذبت) وأخرجه ابن حبان بلفظ: (فليقل في نفسه) ] .
قال: عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي أحدكم الشيطان في صلاته) أي: سواءً كان في المسجد أو في البيت.
قوله: (فينفخ في مقعدته) والمقعدة: موضع الحدث.
قوله: (فيخيل إليه) أي: من نفخة الشيطان يخيل إليه أنه أحدث، والحال في الحقيقة أنه لم يحدث، ولكنه تخييل من الشيطان.
قوله: (فيخيل إليه أنه أحدث ولم يحدث، فإذا وجد ذلك فلا ينصرف) فإذا وجد ذلك التخييل من الشيطان فلا ينصرف؛ لأنه في صلاة.
وقد تقدم نظير هذا الحديث وهو حديث: (إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه أخرج منه شيء أو لا فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) وهنا قال: (يأتي أحدكم الشيطان فينفخ في مقعدته، فيخيل إليه) فالإشكال والتخييل سواء، فكأن الحديث الذي هنا يناسب أن يكون مربوطاً مع الحديث الأول، ولكن المؤلف له رأيه في هذا، والله تعالى أعلم.
ويبين لنا صلى الله عليه وسلم أن الشيطان يتابع الإنسان من أجل إبطال عبادته إلى أقصى حد، فهو أولاً: أراد أن يمنعه من الصلاة، فسمع الأذان واستحيا أن يترك الصلاة، فمشى ملبياً -حي على الصلاة- فإذا جاء ليتوضأ شككه في الوضوء، وجاء له بالوسواس كما في الحديث: (إن للوضوء شيطاناً يسمى الولهان) فتغلب عليه وتوضأ، فإذا دخل إلى المسجد، لم يستطع أن ينطق (الله أكبر) وذلك بسبب وسوسة الشيطان، فلما دخل في الصلاة ما بقيت لدى الشيطان إلا الفرصة الأخيرة، فيأتي وينفخ في مقعدته ليخيل إليه أنه أحدث، فلو أخذ بهذا التخييل فسينصرف ليتوضأ، وسيعيد الكرة وينفخ فيه مرة أخرى، وهكذا حتى لا يستطيع الإنسان أن يؤدي الصلاة، ومن هنا بين صلى الله عليه وسلم أنه إذا خيل له بسبب هذا النفخ أنه أحدث، والحقيقة أنه لم يحدث، فماذا يفعل؟ قال: (فيخيل إليه أنه أحدث ولم يحدث، فلا ينصرف) أي: فلا ينصرف من صلاته، وليبق على صلاته وعلى يقينه بالطهارة وليبق على اليقين الذي هو عليه، فمجيئه من بيته إلى المسجد، وقيامه في الصف، كل هذا يدل يقيناً على أنه متوضئ، وهذا التخييل الذي طرأ عليه إنما هو من الشك، والشك لا يلغي اليقين السابق، أو اليقين لا يلغى بهذا الشك الطارئ عليه.
قوله: (فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) وهذا كما تقدم هناك إذا شك هل خرج منه شيء أو لا؟ فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يشم ريحاً.
وتحقيق الأمر في (يسمع) أو (يجد) : لو أنه أصم لا يسمع، ولو أنه مزكوم لا يشم شيئاً فهل يتوقف الأمر على هذا حتى يتعافى من الزكام، وحتى يعالج من الصمم؟ الجواب: لا وإنما هذا خرج مخرج الغالب، والغرض أن يكون عنده يقين فعلاً بأنه قد أحدث، أما مجرد التخييل فلا.
وقوله: وللحاكم عن أبي سعيد مرفوعاً: (إذا جاء أحدكم الشيطان فقال: إنك أحدثت.
فليقل: كذبت) وأخرجه ابن حبان بلفظ: (فليقل في نفسه) .
هذه إعادة للحديث مرة أخرى، وزيادة توكيد و (أشكل عليه) أو (خيل إليه) أي: بسبب نفخ الشيطان، فليقل له: كذبت، أنا ما أحدثت.
ولكن هل يقولها بصوت يسمع أو يقولها في نفسه؟ جاءت الزيادة تبين ذلك: (فليقل ذلك في نفسه) ليؤكد عند نفسه أنه لم يحدث، وأن الشيطان كاذب في ادعائه، وأنه على يقين من طهارته.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(25/10)
كتاب الطهارة - باب قضاء الحاجة [1]
يعلم الإسلام أبناءه مكارم الأخلاق، والتنزه عن النجاسات، وتنزيه ما يستحق التعظيم عن ذلك ومما أرشد إليه هذا الدين الحنيف كيفية قضاء الحاجة والأماكن التي تقضى فيها.(26/1)
حديث أنس بن مالك في آداب دخول الخلاء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه) أخرجه الأربعة، وهو معلول] .
أنس رضي الله تعالى عنه يروي هذا الحديث لأنه كان خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخادمه ملازمه في بيته، فهو أدرى بتلك الأمور الداخلية، فليس كل الناس سيحضرون دخوله صلى الله عليه وسلم الخلاء، وهنا لما كان أنس هو الذي يرويه -وأنس خادمه في بيته- يكون ذلك قرينة على أن هذا خلاء البيت.
وتذكر كتب السيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان عنده بيت خلاء فيما بين حجرة عائشة وحجرة فاطمة، وكان يقضي حاجته فيه، وقيل: فوق السطوح إلى غير ذلك، والصحيح أنه كان أسفل ما بين حجرة عائشة وفاطمة داخل الحاجز الحديدي الأخضر الموجود الآن، وكان يقضي فيه حاجته.
وكانوا العرب قبل ذلك تأنف أن تبني مراحيض أو تقضي الحاجة محل السكنى، وكانت تأخذ المناصع -كما يقال- وهو الخلاء البعيد عن البيوت، وإلى الآن ربما يوجد في بعض القرى في بعض البلاد الإسلامية أنهم يستقذرون أو يستبعدون أو يتحرجون أن يجعلوا بيوت خلاء في داخل البيوت، ويذهبون ويخرجون فيقضون حوائجهم في الخلاء، ثم اتخذت بيوت الخلاء في البيوت حفاظاً على القعود والتكشف وغير ذلك.(26/2)
نزع كل ما فيه ذكر الله عند دخول الخلاء
فـ أنس يروي لنا من صور آداب الخلاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء نزع خاتمه، ولفظه (كان) تدل على التكرار.
(وإذا دخل) المراد بـ (دخل) : أراد الدخول؛ لا أنه إذا دخل بالفعل، والمراد أن ينزع الخاتم، وسبب نزع الخاتم أنه منقوش عليه "محمد رسول الله" ثلاث كلمات في ثلاثة أسطر، فلو حملنا (إذا دخل نزع) على ظاهر لاقتضى إدخال هذا الذكر الذي فيه لفظ الجلالة بيت الخلاء، ولهذا قلنا: إن معنى (كان إذا دخل) أي: إذا أراد أن يدخل، وكما يقول المالكية: ما قارب الشيء فإنه يعطى حكمه، وفي القرآن الكريم {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} [النحل:98] والمعنى: إذا أردت القراءة، فكذلك هنا: إذا أراد خول الخلاء.
قال: (نزع خاتمه) .
أول ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس الخاتم كان يلبس خاتم الفضة، وكان له فص من العقيق، فلما أراد أن يراسل الملوك والأمراء ويدعوهم إلى الإسلام، قالوا له: يا رسول الله! إن الملوك لا تقبل خطاباً إلا إذا كان مختوماً بختم المرسل، أي: حتى يكون رسمياً كختم الدائرة أو ختم الدولة، فترك الخواتيم التي هي مزينة بفص العقيق -وهو فص من الأحجار الكريمة- والناس يتخذون الآن العقيق والفيروز والزمرد وغيرها من باب الحلية ومن باب الزينة، ويذكرون خواص في هذه الأشياء الله أعلم بحقائقها.
فترك الخاتم الذي فيه فص العقيق، واتخذ خاتماً من فضة ونقش على فصه محل الحجر، فجعله مربعاً أو مستديراً أملس، وحفر فيه نقش "محمد رسول الله".
قالوا: كان صفة النقش أن لفظ الجلالة في الوسط، ولفظ "محمد" ولفظ "رسول" في الطرفين، ومهما يكن من شيء ففيه لفظ "محمد" رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه الرسالة، وفيه لفظ الجلالة.
وهنا أخذ العلماء ضرورة تنزيه ما فيه ذكر الله عن مواطن الخبث: فإذا دخل ونسي الخاتم أن ينزعه فماذا يفعل؟ قالوا: إن أمكن نزعه وإخراجه وهو قريب من الباب بعيد عن الأقذار فعل، فينزعه ويجعله في فيه ويطبق شفتيه عليه، حتى يكون في حجاب عن مواجهة الأقذار، ولا مانع من ذلك.
وإن لم يمكن أن ينزعه، وصعب عليه أن يخلع الخاتم، كأن تطول مدة الخاتم في يده ويصبح الخاتم ضيقاً فيحتاج في نزعه إلى مجهود أو آلام، قالوا: يدير الفص إلى داخل الكف ويطبق الكف عليه، فيصبح اسم الله أو ذكر الله محفوظاً بداخل الكف لا معرضاً لمواجهة الأقذار؛ لأنه لا يؤمن أن يكون في محله عارياً عن ستر، ربما مع استعمال الماء أو مع أي شيء يحصل هناك رذاذ من تلك المياه الموجودة، فتصل النجاسة إلى ما فيه ذكر الله، فيقع المحظور.
وقياساً على الذكر الموجود في الخاتم يشمل الحكم كل ما فيه ذكر الله، سواء كان خاتماً، أو كان حلية، أو كان قرطاساً، أو كان جهازاً أو آلة، فمهما يكن من شيء يشتمل على ذكر الله فإنه يجب تنزيهه عن بيت الخلاء، فإن تذكر قبل الدخول فبها ونعمت، وإن لم يتذكر فعليه أن يحتاط، فإن استطاع أن يبعده وهو على جلسته فعل، وإن لم يحتط فعليه بإخفائه عن مواجهة النجاسات، قالوا: حتى لو يضعه في عمامته، وذلك عندما كان الناس يلبسون العمائم.
وعلى هذا فالأمور تختلف من حيث هي، فـ مالك رحمه الله يكره إدخال شيء مكتوب بالعربية ولو لم يكن فيه ذكر الله، لو أن هناك كتاب هندسة -زوايا وأضلاع ومقاييس موجودة- أو أشكال هندسية يعبر عنها بكلام عربي قال: لا ينبغي إدخالها ولا التمسح بها ولو لم يكن فيها ذكر الله؛ لأن تلك الكلمات والحروف عربية، والقرآن الكريم إنما هو بلسان عربي نطقاً وكتابة، فتحترم الحروف التي بها كتب القرآن الكريم عن تلك الأماكن.
أما اللغات غير العربية فإنه إن وجد فيها ما تعرف ترجمته بذكر الله فهي تأخذ حكم العربية؛ للمعنى الذي تحمله، كما قيل: الألفاظ قوالب المعاني، أما إذا كان بلغة غير عربية، وليس فيها ذكر الله فهذه لا قيمة لها، كنقوش ليس لها حرمة.(26/3)
حرمة دخول الخلاء بالمصحف
من هنا نعلم يقيناً بأن أشد ما يكون في هذا الباب التجرؤ في الدخول بالمصحف الشريف إلى بيت الخلاء، ولو تطور وأصبح معطراً ومرخماً وو إلخ كما يتصور بعض الناس، وسبق أن نبهت على ذلك.
وقد سأل بعض الطلاب في الفصل وقال: شريط (كاسيت) مسجل وليس فيه حروف، هل يكون له حرمة القرآن المكتوب بالأحرف في أوراق؟ فقلت: نعم؛ لأنه يحمل في طياته القرآن الكريم، وكما قيل: (النار كامنة في الحجر) فإذا قدحت به الزند خرجت النار، وكذلك هنا المعنى والصوت موجود في هذا الشريط، وملصق على المادة المغناطيسية على هذا الحديد بأمور فنية لا ندركها، وهي تمسك هذا القول على الشريط كما يمسك على القالب الشمعي الذي يسمى الأسطوانات إلى غير ذلك، فمعناه أن القرآن موجود، وإن كنا بحواسنا العادية لا نستطيع أن ندركه لا بالسماع ولا بالرؤية، لكن إذا وضع في جهازه أخرج لنا هذا الصوت وسمعناه طبق ما قرأه القارئ وسجل عليه.
كذلك الرؤية: إذا أدخل شريط فيه صور، فعرض على جهاز يخرجه ويبرزه، فرأينا الصورة وسمعنا القول، فإنه يأخذ حكم المصحف.
فإذا بإنسان -ما أدري هو يتمدح بهذا أو يتطاول أو يتجاهل- يخرج مصحفاً في جيبه على سحَّاب ويقول: أنا أدخل بهذا الخلاء! فقلت له: ماذا أفعل إذا حرمك الله توقير كتاب الله؟! وهذا من المؤسف! فإذا به يتمادى ويقول: بيت الخلاء اليوم ليس كبيت الخلاء في القديم، أصبح الآن مرخماً ومعطراً ونظيفاً وكذا قلت: مرحباً حياك الله، لو وضع لك الغداء اليوم في بيت خلاء منظف من أحسن ما تحب، رخامه أبيض، وهو مطيب، وكل الخبز مثلما تشاء، وتفضل هناك الغداء.
قال: كيف يصير هذا؟! قلت: عجيب أنت لست أفضل من كتاب الله.
فيا إخوان: يؤسفني أن أورد مثل هذا، لكن حيث وجد بالفعل شباب مسلم ينتمي لكل معاني الإسلام، ويخرج المصحف من جيبه، مما يدل على أنه حريص ومكثر من التلاوة، والله أعلم بأمره، لكنه يقول: أنا أدخل بهذا بيت الخلاء فحذارِ يا إخوة! أما من الناحية الفقهية فنجد المسائل إذا استجد لها صور عن الماضي ربما تدخل العقل والفكر، نجد بعض العلماء يذكر ما إذا كان يخشى ضياع المصحف قبل الدخول؛ ولذا تجدون أنتم في سبل السلام: أنه لا يجوز الدخول إلا عند الضرورة، وذلك بأن يخشى ضياعه.
يا سبحان الله! والله لأن يضيع ألف مرة، أو يأخذه كافر ليس مسلماً ولا أدخل به بيت الخلاء! إذا أخذه إنسان مسلم أقل ما يفعله أنه سيقرأ فيه أو سيحطه في الرف، أو سيبيعه ويأكل ثمنه، وهذا أولى من أن ندخل بكلام رب العالمين بيت الخلاء.
قال تعالى:: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة:75-80] إذاً: نتساهل نحن وندخل المصحف أو ما في معنى المصحف ولو أوراقاً صغيرة وفيها ألفاظ من القرآن أو نحو ذلك! لا ينبغي أبداً.
ثم ما وجدنا بيت خلاء خالياً من الناس؛ لأنه لا يكون الخلاء إلا في العمران، فأودعه عند إنسان خارج عن دورة المياه، فهناك دكان! أو إنسان جالس! أو شخص في الخارج ينتظرك! فتقول له: خذ هذا معك حتى أخرج، فإذا خرجت أخذته منه ودخل هو، إذاً: الإنسان يحتاط.
أما ما نجده من بعض الأوجه والاجتهادات والآراء، ويقولون: حفظ المال واجب، وضياع الأموال ممنوع ومحرم، كل ذلك قد يقال في غير القرآن الكريم.
والله تعالى أعلم.(26/4)
الحمامات العامة حكمها حكم بيوت الخلاء
كذلك يلحق ببيت الخلاء الحمامات العامة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأنها تحضرها الشياطين، وهي من المحلات التي لا ينبغي دخولها إلا لضرورة العلاج أو عدم وجود أماكن أخرى يستطيع أن يغتسل فيها، فلا ينبغي أن يدخل أيضاً المصحف في الحمام، اللهم إلا إذا كان للحمام إدارة -مكتب- فتضع ثيابك وتضع المصحف هناك، فلا بأس في ذلك.
لكن في مواجهة المغاسل أو المغطس أو الأماكن التي تكشف فيه العورات هذا منهي عنه، فإذا كان منهياً عن كشف العورات في الحمامات، وبسببها جاء النهي عنها إلا للضرورة، فلا ينبغي أن يعرض إليها أيضاً المصحف الشريف أو الأحاديث النبوية الشريفة.
وكما نبعد وننزه ما فيه ذكر الله عن تلك الأماكن، فإن الإنسان كذلك لا ينبغي أن يدخلها إلا وقت الاضطرار، ولا يأتي إليها -كما قيل- إلا للحاجة التي دفعته إليها، ولولا الحاجة ما دخل هناك.(26/5)
الذكر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم عند دخول الخلاء
[وعنه رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) أخرجه السبعة] .
الأدب الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء، أي: أراد الدخول أيضاً، قال: (اللهم إني أعوذ بك من الخبْث) بالتسكين أو (من الخُبُث) بضم الباء، فالخبْث: بالتسكين جمع خبيث، ويشمل الجمادات كخبائث الطعام، وخبائث الماديات، والأشغال النتنة والقبيحة، والخبُث: جميع خبيث، وهم شياطين ومردة الجن، والخبائث: جمع خبيثة، فذكران الشياطين الخبُث، وإناث الشياطين خبائث.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم) يقول علماء العربية: (الميم) في (اللهم) عوضاً عن الياء في أول الكلمة، أصلها: يا ألله، فالأصل أن يؤتى بحرف النداء في الأول، فإذا لم يأت حرف النداء جاءت الميم في الآخر (اللهم) .
(إني أعوذ) قالوا: أعوذ وألوذ بمعنى أحتمي، والاستعاذة: هي الاستجارة والحماية والاحتماء بمن تستعيذ به، وعندنا صيغة: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وهنا يستعيذ صلى الله عليه وسلم بالله من هذا الصنف من خبائث الجن ذكوراً وإناثاً؛ لأنه لا يعيذ الإنسان منها إلا الله، وبالاستعاذة بالله تكفي شرها؛ ولهذا كنا نسمع من والدنا الشيخ الأمين رحمة الله علينا وعليه يقول: علمنا الله كيف نصانع أعداء الإنس ونتحفظ من أعداء الجن في الآية الكريمة: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} [فصلت:34] السيئة ستأتي من العدو: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] فيقول: إذا كنت تريد أن تكتفي شر عدو الإنس فقابل إساءته بالإحسان.
وأظن أنه قيل لواحد واسمه شكسبير: نراك تصانع أعداءك، أهذا ضعف منك؟ قال: لا، أترونني حينما أصانعهم أكتفي شرهم أم لا؟ قالوا: بلى.
قال: هذا خير من أن أجاهدهم وأواجههم.
والقرآن الكريم يبين لنا بأنه لا تستوي الحسنة منك ولا السيئة من عدوك، فادفع سيئة العدو بالتي هي أحسن منك تكتفي شره، فإذا هذا العدو المعادي لك كأنه ولي حميم.
ولكن لا ينالها كل أحد ينالها: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] فهذا الجانب هو الاكتفاء من شر عدو الإنس.
والجانب الثاني: الاكتفاء من عدو الجن، وهو يأتي بعد ذلك مباشرة: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [فصلت:36] فهنا عدو الجن لا تستطيع أن تصانعه، ولا أن تدفع سيئته بأن تحسن إليه، ولا تراه ولا تستطيع أن تعامله معاملة الإنسي، فليس لك مفر ولا مهرب منه ولا سلامة من كيده وشره إلا أن تستعيذ بالله منه؛ لأنه الأقدر عليه والأعلم بحاله.
وهنا: (اللهم إني أعوذ بك) : أي: ألوذ بك، وأحتمي بك.
(من الخبُث والخبائث) ، أي: من ذكران الشياطين المتمردة ومن إناثهم.
إذاً: الشياطين فيهم ذكور وإناث، وفيهم تزاوج وتناسل، وفيهم تكاتف، وهذا كما جاءت الأخبار في ذلك مستفيضة.
وعلى هذا: لماذا يقول ذلك عند دخول الخلاء ولم يقل ذلك حينما يأوي إلى فراشه لينام، ولم يقل ذلك حينما يريد أن يأكل أو يلبس ثيابه؟ قالوا: لأن بيوت الخلاء هي مسكن هؤلاء الأشرار (الخبث والخبائث) أما الصالحون الذين لا يتمردون فلا يسكنون بيوت الخلاء، ولا يأوون إلى محلات النجاسات، ولكن: إما أن يسكنوا في البيوت الخربة، أو في بعض الآبار وخاصة المهجورة، أو حتى الآبار المستعملة.(26/6)
قصص واقعية للجن مع الإنس
ومن غريب ما سمعت من أحد الأشخاص، سمى لي بيتاً -وأنا أعرفه وهو موجود- كان هذا البيت موجوداً إلى عهد قريب بجوار مبنى البريد الآلي الموجود، وأنتم تعرفون أن المدينة ليلة العيد يكون فيها حركة، فالنساء تغسل البيوت وتهيئ الفراش، والرجال في الأسواق يشترون، وفي حركة دائمة، فيذكر لي أناس من نفس هذا البيت، أنهم طوال الليل، وهم يسحبون الماء من البئر ويغسلون الحجر والبيت، فإذا هم يسمعون صوتاً من داخل البئر: يا جماعة! ألا تنامون! طلع الفجر ونحن نريد أن ننام، فالبنت قالت: نطلع دلوين فقط ونغلق.
وقالت: نحن متعودون على ذلك من زمان يكلمونا ونكلمهم! ثم يحدثني رجل أنه كانت هناك زمالة وصداقة بين عمه وبين الجن وذهاب وإياب، فيقول: قال لي عمي: اجلس عند النافذة -وكان عمه يعمل في جمع المصاحف وتوزيعها في الروضة، ويعطيها الناس ليقرءوا فيها يوم الجمعة، وبعد أن يذهب الناس يجمعها ويرتبها في مكانها- حتى إذا دق الباب فتحت، يقول: كنت صغيراً ولم أكن كبيراً جداً، قال: وبينما أنا جالس أسمع الأذان فقبل أن ينتهي المؤذن من الأذان سمعت حركة في البئر، فقلت: ربما أنا أتخيل أو أن هذه حركة عند الجيران، وبينما أنا جالس عند النافذة إذ بي أسمع خفق نعال على الدرج كأن إنساناً لابس (قبقاباً) ويمشي في الحجر.
قال: فتجمدت في مكاني! ثم نظرت فإذا بالباب ينفتح ثم يغلق! وبعد أن انتهى الإمام من خطبته وصلاته وقال: السلام عليكم، فما هي إلا لحظات وإذا بالباب ينفتح ثم يغلق، يقول: ثم جاء عمي فدق الباب، يقول: خذ المفتاح وافتح.
لماذا لا تنزل؟ قلت: أنا لن أنزل، افتح أنت واصعد، فلما فتح الباب وصعد أراد أن يضربني، قلت له: اصبر اصبر فذكرت له القصة فضحك، يقول: أنا أحترق في نفسي وهو يضحك.
ثم قلت: يا عم! لماذا تضحك؟ يقول: هؤلاء من زمان قديم وهم يسكنون عندنا، يذهبون ليصلوا الفجر، ويذهبون ليصلوا الجمعة، ونحن وهم مصطلحون وليس بيننا شيء.
إذاً: الجن غير الخبائث والخبيثات، فإنهم لا يسكنون في مواطن النجاسات كالمراحيض، ولكن يسكنون في المحلات البعيدة عن النجاسة، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (إن مؤمني الجن ليهاجرون إليها كما تهاجرون أنتم) وجاء ذلك في قصة وقعت أيام في غزوة الخندق، عندما جاء الصحابي الذي استأذن رسول الله أن يدخل بأهله، لأنه كان حديث عهد بعرس، فقال: (خذ سلاحك إني أخشى عليك يهود بني قريظة) ، فلما وصل إلى باب البيت فإذا زوجه واقفة على باب البيت بدون حجاب وستر، فأراد أن يهوي إليها برمحه، قالت: لا تعجل! ادخل بيتك، وانظر فراشك ما فيه! فدخل فإذا حية على طول الفراش، فانتظمها بالرمح ولم يسم الله، تقول الزوجة: والله لا أدري أيهما كان أسرع موتاً الحية أم الرجل! فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (هذا من الجن، قتله ولم يسم الله فانتقم له أصحابه فقتلوه، إذا رأى أحدكم شيئاً من هذه الحيات في البيوت فليؤذنها ثلاث مرات، فإن رآها بعد ذلك فليقتلها) .
ومن هذا يتبين أن الجن المؤمنين يهاجرون إلى المدينة كما يهاجر الإنس ويسكنونها، ويأتون إلى المسجد، ولكن: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] .
وسمعت من الشيخ ابن عثيمين -الله يغفر له ويرحمه- في مسجده في مدينة المجمعة يقول: أخبرني الشيخ بأنه كان في صلاة الضحى في بيته، فإذا بجماعة يسلمون عليه ولم ير أحداً، قال: من أنتم؟ قالوا: يا شيخ! نحن تلاميذك في المسجد، وجئنا ولم نستأذن منك، فنريد أن يكون حضورنا دروس الفقه بإذن منك، دروس الفقه.
قال: لا بأس؛ بشرط: أن تظهروا للطلاب، فربما آذوكم أو تأذوا منكم.
قالوا: نعم.
إذاً: في هذا الحديث يبين لنا صلى الله عليه وسلم أن خبائث الجن تسكن في الأماكن القذرة ولهذا أيضاً فأعمال الشر من السحرة والفسقة لا تتم إلا في تلك الأماكن، ولا تتم أبداً في أماكن متنزهة كبستان، أو مجرى نهر، إنما تصلح معهم في تلك الأماكن حيث يسكنها خبائث الجن وخبيثاتهم، وهم اللذين يعينونهم على الشر.
والله تعالى أعلم.(26/7)
حديث أنس بن مالك في حمل الماء والعنزة للنبي صلى الله عليه وسلم
[وعن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزة، فيستنجي بالماء) متفق عليه] .(26/8)
العنزة وفائدة استصحابها
ويأتي لنا أنس مرة أخرى فيروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان وغلام نحوه يحملان للنبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء إداوة من ماء وعنزة.
ذكر العنزة وكونه يحمل إداوة من ماء وغلام نحوه كأنها قرينة على إرادة الخلاء الحقيقي وهو الفسيح من الأرض؛ لأنه في بيت الخلاء لا يحتاج إلى عنزة، وفي الفلاة يحتاج إلى العنزة حتى يركزها ويضع عليها رداءه، وتكون ستراً له من أعين الناس.
وحقيقة العنزة: هي عود من الخشب من نوع قوي، في طرفها زج من الحديد، والعرب كانت تصحبها في أسفارهم، وكان إذا أراد الإنسان أن يبول والأرض قاسية يحرك الأرض برأسها الحديدي حتى تصبح رخوة، حتى لا يرتد البول عليه فيصيب ثوبه من رذاذه، فإذا كانت الأرض رملية فإنها تتقبل البول ولا يرتد منه شيئاً، بخلاف الأرض الصلبة فإنها ترد وتعكس البول على ما يقابلها، والعنزة كانوا يستعملونها في أشياء كثيرة، وكما قال موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:18] .
وهناك سيرة أو قصة لعنزة، وهي: كان الزبير رضي الله تعالى عنه في غزوة بدر، وكان هناك رجل من المشركين يقال له: أبو ذات الكرش، لديه بنت كرشها كبير، وكان يحملها فلقب بهذا، وكان في صفوف المشركين مجللاً بالحديد من أوله إلى آخره، ولم ير منه إلا فتحة العين، وكان مع الزبير عنزة، قال: فصوبتها على فتحة العين فأصابته وصرع منها، قال: فجئت لآخذ العنزة فما استطعت سحبها حتى وطئت على رأسه بقدمي، ثم انتزعت العنزة بالقوة حتى انثنى طرفاها.
على كلٍ حكاية التصويب والإصابة وقوة الضربة هذا كله شيء معروف من فروسية المسلمين، فلما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم خبرها قال: أعطنيها، فأعطاها للرسول صلى الله عليه وسلم، يقول القصة فيها: فكان صلى الله عليه وسلم يصحبها في السفر، فإذا أراد الصلاة في الخلاء ركزها أمامه -كما يقال- سترة للمصلي، وإذا أراد الخلاء ركزها ووضع عليها رداءه تستره من الناس.
ولما انتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى أخذها أبو بكر فكانت عنده، ولما توفي أبو بكر رضي الله تعالى عنه أخذها عمر فكانت عنده، وبعد وفاة عمر استرجعها صاحبها الأول.
قوله: (كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء) .
الخلاء حقيقة وابتداءً: الأرض الواسعة الخالية من الأشجار، والخلاء يطلق على المرحاض الذي بني لقضاء الحاجة بدلاً من الخلاء في الأرض الواسعة، فـ (دخل الخلاء) تصدق على المرحاض، وتصدق على الأرض الواسعة، لكن ذكره للعنزة هنا، وأنه يحمل هو وغلام نحوه الماء يمنع أن يكون الخلاء هو المرحاض.
ابن عباس لما كان عند ميمونة رضي الله تعالى عنها، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيت الخلاء ذهب وأتى بإبريق وملأه ماء وطرحه عند باب المرحاض، فلما خرج صلى الله عليه وسلم ووجد الماء قال: (من وضع هذا؟ قالت له: ابن عباس.
قال: لم وضعه؟ قال: علمت أنك حينما تدخل الخلاء تحتاج إلى الماء.
قال: اللهم فقهه في الدين) وهذا هو الفقه -أي: الفهم- استنتج من دخول الخلاء الحاجة إلى الماء، فجهزها قبل أن يطلب منه.
والإداوة: إناء من الجلد على هيئة الإبريق تماماً، وقد رأيتها مع جماعة يمنيين في منى، وهي عبارة عن جلد سخلة صغيرة مربوط من آخر النصف الأسفل، والرقبة هي فتحة الإبريق، وإحدى اليدين هي (البزبوز) الذي يخرج منه الماء واليد الثانية هي الأذن أو اليد التي يمسكون الإداوة بها كشكل الإبريق سواء بسواء، الرجلان الأماميتان واحدة بدلاً عن (البزبوز) والثانية محل اليد، والرقبة هي عنق الإبريق، ومن الوسط إلى تحت جعل له قاعدة من نفس الجلد على شكل مستدير كقاعدة توضع على الأرض، يعني: محيط قاعدة نحو (20سم) .
ولما رأيته تعجبت، وقلت له: ماذا تسمون هذا؟! قال: هذه الإداوة.
قلت: جزاك الله خيراً، الحمد لله أننا رأيناها، كانوا يصفونها لنا في الكتاب وفي الدرس، والآن رأيناها بأعيننا طبق الأصل.
فالإداوة: إناء من جلد بقدر الإبريق البلاستيك، وكانت في القديم تصنع من التنك -ما يسمى بالزنك- فكان إناء لحمل الماء.(26/9)
استحباب البعد عند إرادة الخلاء
قوله: (أحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزة) كل شخص منهما يحمل شيئاً، وكلمة (غلام) تدل على أنه صغير، معنى ذلك أنه لا بأس باستخدام الصغار للمساعدة في مثل هذه الحالة.
وقد كان من شأنه صلى الله عليه وسلم -كما سيأتي في حديث المغيرة - إذا لم يكن هناك بيت للخلاء، وأراد الخلاء أن يبعد حتى لا يراه أحد، ولابد من الاستتار، ولو بكوم من رماد.
وجاء في بعض خواصه ومعجزاته صلى الله عليه وسلم أنه كان في أرض صلبة وما وجد شيئاً يستتر به، وكان هناك شجرتان متباعدتان، فناداهما وأشار لكل واحدة منهما أن تنضم إلى الأخرى، فشقتا الأرض والتقيتا حتى جلس وقضى حاجته، ثم أشار إليهما أن يرجعا، فرجعتا إلى ما كانا عليه.
وهذه الحادثة حدثت مرة أخرى لما كان صلى الله عليه وسلم في مكة، ولقي ركانة يرعى غنماً، وكان ركانة -كما يقولون- بطل المصارعة، فما كان أحد يصارعه إلا صرعه ركانة، فجاء الرسول وقال له: (يا ركانة! أما آن لك أن تسلم؟ قال: يا محمد! تصارعني؟ قال: نعم أصارعك.
قال: إن غلبتني أعطيتك مائة شاة، فصارعه فغلبه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم) يقول الصحابة: (كنا نحدث بأنه أوتي قوة أربعين رجلاً) .
وكانوا يحتمون به صلى الله عليه وسلم إذا اشتدت المعركة، وفي حنين لما فوجئوا برمي النبل من هوازن نفروا، فثبت مكانه وقال: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) ، وما بقي معه إلا العباس، فقال: (نادِ: يا أهل بيعة الرضوان!) فرجعوا إليه وكروا على العدو ونصرهم الله، فكان صلى الله عليه وسلم -لا نقول مصارعاً- بل كان يصرع الصرعة، فهنا صرعه صلى الله عليه وسلم فغلبه، قال: واويلتاه! ما أحد قط وضع جنبي إلى الأرض قبلك، تعيدها؟ قال: نعم.
فأعادها معه المرة الثانية، فقال: والله يا محمد هذا أمر! لابد من الثالثة، قال: الثالثة، فصرعه، فوقف يضرب يداً بيد: يا ويلتاه! ماذا أقول لأهلي في ثلاثمائة شاة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: والله لا أجمع عليك غبنين: غبن في الغلبة وغبن في الشياة، ثم قال: أتعجب من ذلك يا ركانة؟! قال: إي -والله- يا محمد! قال: انظر إلى تلك الشجرة، فنظر إليها، فقال لها صلى الله عليه وسلم: إلي إلي فجاءت إليه تخط الأرض حتى وقفت بين يديه، ثم قال: عودي حيث كنت، فرجعت حيث كانت.
ويقولون: كان صلى الله عليه وسلم يبعد جداً ويستتر لجهتين: جهة شخصيته كمروءة، وجهة الناس؛ لأنه لو قدر أن إنساناً رآه فقد بصره، هكذا يقولون والله تعالى أعلم، وكانت عائشة رضي الله تعالى عنها زوجة، ومع ذلك تقول: (والله ما رأى مني ولا رأيت منه) وهذه أخلاق عالية، فهما زوجان في فراشٍ واحد، ويغتسلان في مكان واحد، ثم لا يرى أحدهما من الآخر، فهذه مثالية عليا في آداب الحياة والمعاشرة.
كان صلى الله عليه وسلم يبعد حتى يقضي حاجته، ثم يدنو من الناس ويطلب الماء ليستنجي، ويكون قد استعمل الحجارة هناك، وبعد أن قضى حاجته يطلب الماء ويستنجي بالماء، وهذا فيه إثبات استعمال الماء مبدئياً، وهو الأصل، وسيأتي استعمال الحجارة وأيهما أفضل، وسيأتي خبر أهل قباء: (إن الله أثنى عليكم في الطهارة ماذا تفعلون؟ (ولكن يهمنا في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يدخل الخلاء ويستنجي بالماء.
والاستنجاء: هو إزالة النجو، والنجو: هو الباقي بعد الاستجمار؛ لأن الاستجمار لا ينقي، ولابد أن يترك أثراً مكانه، فمهما استعملت عدداً من الحجارة أو نحوها فلابد أن يبقى في مكانه أثر، ويتفق الفقهاء على أن هذا الأثر الباقي بعد الاستجمار مادام في محله فهو معفو عنه، ولو وجد مثل ذلك أو أقل منه في غير محله على اليد أو على الفخذ لما صحت الصلاة به، ولوجب غسله؛ لأنه في غير محله.
والله تعالى أعلم.(26/10)
كتاب الطهارة - باب قضاء الحاجة [2]
من رحمة الله بعبده أنه أرشده إلى آداب تمنعه من التسبب في لعن الناس له، وتمنعه من إيذاء الناس، ومن هذه الآداب ألا يتخلى العبد في أماكن تجمع الناس أو تواجدهم كالظل والطريق وموارد الماء وأماكن التجمعات والأسواق، وأن يستر العبد نفسه عند التخلي ويترك الكلام مع نفسه أو مع الآخرين.(27/1)
حديث المغيرة بن شعبة في قضاء النبي صلى الله عليه وسلم حاجته في غزوة تبوك
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خذ الإداوة، فانطلق حتى توارى عني فقضى حاجته) متفق عليه] .(27/2)
الألفاظ الواردة في حديث المغيرة لم يذكرها المصنف
اقتصر المؤلف هنا على قوله: (فانطلق حتى توارى عني فقضى حاجته) يعني: الاستتار عن الناس عند قضاء الحاجة.
وهذا الحديث تقدم جزء منه في باب المسح على الخفين؛ لأنه حديث طويل، ويشتمل على عدة مباحث فقهية تدخل في عدة أبواب، وعلماء الحديث ربما جزءوا الحديث في الأبواب على حسب الحاجة، وتتمة هذا الحديث قول المغيرة رضي الله تعالى عنه: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر) وجاء تعيين هذا السفر أنه في غزوة تبوك.
قال: (فضرب عنق راحلتي فتبعته -أو قال:- خذ الإداوة واتبعني، فانطلق) وعرفنا الإداوة أنها إناء من جلد على هيئة الإبريق: (فانطلق حتى توارى عني) ثم يذكر ابن عبد البر عدة روايات في عدة مواطن من هذا الحديث.
قال: (فقضى حاجته) وقال في بعض الروايات: (هل معك ماء؟ قلت: بلى.
فأفرغت من قربة عندي ماء في كذا) وفي بعض الروايات (فأتاني فأفرغت على يديه من الإداوة فغسل يديه) وفي بعض الروايات: (مسح يده بالتراب) وفي بعض الروايات: (ثم توضأ فغسل وجهه، ثم أراد أن يغسل يديه، فأراد أن يخرج يده من كم الجبة فلم يستطع لضيقها، فأخرجها من تحت الجبة، وغسل يديه إلى المرفقين.
ومسح رأسه، فأهويت لأنزع خفيه فقال: دعهما فإني قد أدخلتهما طاهرتين، ومسح على الخفين، ثم جئنا إلى القوم فوجدناهم قد قدموا عبد الرحمن بن عوف يؤمهم في صلاة الصبح، فهممت أن أنبهه ليتأخر ويتقدم النبي صلى الله عليه وسلم، فنهاني وكبر في الصف وكبرت معه، فلما قضى عبد الرحمن صلاته قام صلى الله عليه وسلم يصلي ما فاته من الصلاة، فلما رأى الناس ذلك فزعوا -أي: لكونهم تقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم- فلما رأى ما بهم من فزع، قال: أحسنتم) .
وإلى هنا ينتهي لفظ الحديث، ثم يأتي بعد ذلك زيادة أنه قال لهم: (ما قبض الله نبياً إلا وقد صلى خلف رجل من أمته) فهذا هو تمام هذا الحديث.(27/3)
بعض الآداب والأحكام الواردة في حديث المغيرة
نريد الوقوف عند عباراته لما فيها من الفقه:(27/4)
الإبعاد عند قضاء الحاجة
أولاً: الجزء الذي ساقه المؤلف هنا: (فانطلق حتى توارى عني) .
هذا من أدب قضاء الحاجة، وهو أنه إذا لم يكن في البنيان وكان في أرض فسيحة فيبعد حتى يتوارى، فإما أن يجد ما يستره كشجرة أو مكان منخفض مثلاً، وإما أن يبعد عن الأنظار، وخاصة النبي صلى الله عليه وسلم.(27/5)
أيهما أفضل الاستنجاء بالحجارة أم بالماء؟
(ثم أتاني فصببت عليه من إداوة معي) .
هنا لم يذكر المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم استجمر بالحجارة، ولكن ذكر لنا قال: (أتاني فأفرغت على يديه فغسل كفيه ثم توضأ) وهنا يقول ابن عبد البر: نقلاً عن كثير من العلماء: يجوز الاجتزاء بالأحجار مع وجود الماء.
والجمهور وخاصة الشافعي رحمه الله يقول بالاجتزاء بالأحجار عند عدم وجود الماء، ويمكن أن يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم اجتزأ بالحجارة لأنهم في سفر، وعادة المسافر وخاصة في الصحراء أن يكون الماء معه قليلاً، وإذا كانت إداوة فلربما لا تجزئ في الاستنجاء بها والوضوء، وإذا أمكن الاجتزاء بالحجارة فإنه يوفر الماء للوضوء، إذاً: لا ينبغي أن يكون هذا العمل دليلاً على ما ذهب إليه البعض.
والجمهور انتهوا إلى أنه إذا فقد الماء فالاستجمار رخصة، والآخرون يقولون: سواء وجد الماء أو لم يوجد، في حضر أو في سفر، فإن الاستطابة بالأحجار مجزئة.
وجاء عن بعض السلف أن الأحجار للرجال، وأن الماء من خواص النساء، وخاصة في البول، وقالوا: بأن البول من الرجل معلوم المكان ويمكن أن يجزئ فيه التمسح بالحجارة، بخلاف المرأة فإن خروج البول ليس محصوراً في مكان كالرجل، لأنه ينتشر فلذا لزم عليها استعمال الماء.(27/6)
حكم العمل اليسير أثناء الوضوء
والذي يهمنا في هذه النقطة: هو أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل الحجارة مع وجود الإداوة مع المغيرة، وقضى حاجته واستجمر وانتهى، ثم جاء إلى المغيرة ليتوضأ، فأفرغ على يديه وغسل كفيه، ثم غسل وجهه، ثم أراد أن يخرج كفيه من كمي الجبة فلم يستطع لضيقها، فأخرج يديه من تحت الجبة.
هنا يقول الفقهاء: العمل اليسير أثناء الوضوء لا يقطعه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم اشتغل بإخراج يديه من الكمين فلم يستطع، فحاول إخراجهما من تحت الجبة، وهذا عمل في أثناء الوضوء، فقد كان موالياً في غسل الأعضاء لكن وقع بين غسل الوجه وغسل اليدين محاولة إخراج اليدين من الكمين ولم يستطع، فأخرجهما من تحت الجبة، وهذا عمل في أثناء الوضوء.
فقالوا: إذا كان العمل قليلاً يسيراً فلا شيء في ذلك، ويبني على ما كان من وضوئه ويكمل الباقي، أما إذا كان الاشتغال طويلاً فإنه يستأنف الوضوء من جديد، وحددوا الطول والقصر في هذا بجفاف العضو الذي تشاغل عنده.
فمثلاً: غسل وجهه، وأراد أن يغسل يديه فبحث عن كرسي ليجلس عليه، وذهب ليأتي به وجاء حتى جف ماء الوضوء عن الوجه، فيكون قد انقطع، فيبدأ الوضوء من جديد فيغسل وجهه استئنافاً للوضوء من جديد؛ لأنه بالعمل الكثير قد قطع الوضوء فيستأنف.(27/7)
لبس الثياب الضيقة الأكمام والواسعة
ثم كون الرسول صلى الله عليه وسلم يلبس الجبة ضيقة الكمين، يقول ابن عبد البر: هذا أنسب للسفر، وخاصة للجهاد؛ لأن الكم الضيق لا يشغل صاحبه، ونستطيع أن نقول: لا ينبغي للإخوان أن يعيبوا على بعض الناس أن يلبس ثوباً في كمه (كبك) ويقولون: هذه بدعة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لبس الجبة ضيقة، وسواء كان الضيق (بالكبك) أو بالأزارير أو بالخياطة فكل ذلك جائز.
ومن نوادر ما ذكر عن الشافعي رحمه الله أنه كان يتصف بالحلم وسعة الصدر إلى حد بعيد، فأراد بعض الناس أن يخرجه عن هذا الوقار أو عن هذا الحلم، فسمعوا بأنه ذهب بثوب إلى الخياط ليخيطه، فذهبوا إلى الخياط ودفعوا له أكثر من الأجرة وقالوا له: نريد أن تجعل الكم الأيمن للشافعي ضيقاً، والكم الأيسر واسعاً جداً؛ فأخذ الخياط الأجرة وفعل، فلما جاء الشافعي يستلم الثوب كانوا موجودين يتوقعون الغضب والتسخط، فلما لبسه وأدرك أن هناك شيئاً قال: جزاك الله خيراً، لقد يسرت لي أمري وساعدتني على طلب العلم.
قال: لماذا؟ -الرجل متوقع خصومة- قال: أما ضيق الكم الأيمن فلكي لا يشغلني حال الكتابة، وأما سعة الكم الأيسر فإني أحمل فيه كتبي -يعني: بدل الحقيبة- فعجب الجماعة الذين تآمروا عليه! ولنعلم أن ضيق الكم قد يساعد على أداء بعض الأعمال، وسعة الكم قد يساعد على بعض الأعمال، وطبيعة الثياب -بصفة عامة- يمليها نظام البيئة والجو، ولذا تجدون الأعراب في البادية أكمامهم تكون بطول الرجل وربما تكون فتحة الكم أكثر من متر، وسعته تحت الإبط ثلث متر أو ربع متر أو شيء من هذا؛ لأن الجو حار، فهو بمثابة المراوح أو وسائل التهوية، وتجد في البلاد الباردة يصنعون كماً قصيراً وجبة وبنطلوناً ضيقاً أكثر من اللازم، إذاً: البيئة هي التي تملي على الإنسان نوع اللباس والثياب الذي يتلاءم مع طبيعة الجو.
يهمنا في هذه الحالة ما كان عليه صلى الله عليه وسلم في تلك السفرة، فهل كان هذا دائماً في الغزوات والأسفار أو كان هذا عارضاً في غزوة تبوك؟(27/8)
استحباب خدمة أهل الفضل
وهنا بعد أن توضأ صلى الله عليه وسلم يقول المغيرة: (فأهويت لأنزع خفيه (، ولا مانع في مثل ذلك، أعني أن الفضلاء وأهل الفضل يخدمهم الآخرون ولو في خلع النعلين أو تقديمها إليهم، وقد جاء في قصة الأمين والمأمون أولاد هارون الرشيد لما جاء معلمهم وتذاكروا فيما بينهم، وأراد أن يخرج فقام الأمين والمأمون يقدما إليه النعل فتسابقا، فأخذ كل واحد فردة من النعل وقدمها إليه، فقهقه الرشيد وقال: والله ما رأيت أشرف منك اليوم؛ لأنهم لم يفعلوا هذا لي أنا، يعني: لم يفعلوه للخليفة ولكن فعلوه للمعلم.
فلا مانع من خدمة أصحاب الفضل وخاصة العلماء وأصحاب النعم على أربابها أن يخدمهم الآخرون، ولاسيما إذا كان في جانب ديني ولوجه الله.(27/9)
لبس الخفين لا يكون إلا بعد طهارة كاملة
فقال له صلى الله عليه وسلم:) دعهما -يعني: دع الخفين في قدمي- فقد أدخلتهما طاهرتي) وفي بعض الروايات: (أنسيت يا رسول الله -يعني: نسيت الغسل ومسحت-؟! قال: بل أنت نسيت، أما أنا فأمرني ربي) ومن هنا يدخل البحث في المسح على الخفين.
وفي قوله: (أدخلتهما) أي: الثنتين، يقول العلماء استنتاجاً من ذلك: لو أن المتوضئ غسل إحدى القدمين اليمنى مثلاً فألبسها الخف، ثم غسل القدم اليسرى فألبسها الخف، لم يجز المسح على هذين الخفين بتلك الصفة؛ لأنه لما أدخل القدم اليمنى لم تكن اليسرى قد استكملت الطهارة؛ لأن كمال الطهارة بتمام الوضوء، وتمام الوضوء بغسل القدمين معاً، ولهذا أخذ الفقهاء رحمهم الله أن المسح على الخفين إذا أدخلهما معاً طاهرتين، أي: بعد تمام طهارة الوضوء.(27/10)
تعارض العاطفة مع العقل وأيهما يقدم
أما مجيئهما إلى القوم وقد قدموا عبد الرحمن بن عوف فالبحث فيه من عدة جوانب: الجانب الأول: جاء أبو الحسن الندوي وحاضر في الجامعة الإسلامية وقال: قد يتعارض العقل مع العاطفة، وكان الوقت ضيقاً ولم يذكر أمثلة، فكان العادة أن نعلق على المحاضرات، فقلت: لعل من ذلك ما وقع للقوم في غزوة تبوك، لما غاب عنهم النبي صلى الله عليه وسلم، وحان وقت الصلاة، وتأخر الوقت، فهم الآن في موقف بين العاطفة والعقل، العاطفة تناديهم: انتظروا رسول الله؛ لأن الصلاة خلف رسول الله جانب روحاني عاطفي، ودخول الوقت ومضي جزء منه يقول لهم: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] أدوا الصلاة قبل أن يخرج الوقت.
فأداء الصلاة قبل أن يخرج الوقت حكم عقلي بالنسبة لتحديد الشرع، والانتظار إلى مجيء النبي صلى الله عليه وسلم أمر عاطفي لتعلقهم بالصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدموا جانب العقل على جانب العاطفة.
وفي مواقف أخرى قد يقدم جانب العاطفة على جانب العقل، وذلك في إمامة النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاء وأبو بكر يؤم الناس، فلما شعر الناس بمجيء رسول الله أكثروا التصفيق أو أشاروا إلى أبي بكر إلى أن جاء النبي صلى الله عليه وسلم ووقف في الصف، فأراد أبو بكر أن يتأخر ليتقدم رسول الله، فأشار إليه رسول الله أن امكث مكانك، لكنه لم يمكث مكانه ورجع في الصف، وأمَّ الرسول صلى الله عليه وسلم المصلين، فهنا العقل يؤدي إلى أن يبقى مكانه؛ لأنه أمر صادر عليه من رسول الله، والعاطفة والأدب واستعظام أبي بكر أن يؤم رسول الله، فغلب جانب العاطفة أو الأدب كما يقولون.
إذاً: قد يقف الإنسان بعض المواقف، وجانب العقل ينادي بشيء، وجانب العاطفة ينادي بشيء، فننظر أيهما أصوب.(27/11)
فضل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه
الجانب الثاني: فضيلة عبد الرحمن بن عوف أن اختاره الموجودون في تلك الغزوة بأن يتقدمهم ويؤمهم في الصلاة مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وخطر في بالي أن غزوة تبوك حضرها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وهم الخلفاء الراشدون أو المرشحون للخلافة، وابن عوف لم يكن منهم، نعم هو من المبشرين بالجنة ولكن لماذا قدموه وفي القوم هؤلاء؟ مع أن أبا بكر قال فيه صلى الله عليه وسلم: (لو وزن أبو بكر في كفة والأمة في كفة لرجح عليها أبو بكر) وفضيلة أبي بكر وصلته برسول الله أمر مفروغ منه: (هل أنتم تاركوا لي صاحبي) وقال تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] .
يمكن أن يقال: لكل مقام مقال، فالخلافة وإدارة الأمة ومراعاة شئونها تصلح لـ أبي بكر، الصلاة من حيث هي أداء، لقد عرف عن أبي بكر كما جاء من حديث عائشة: (مروا أبا بكر فليصل بالناس.
قالت: يا رسول الله! إن أبا بكر رجل أسيف، إذا قرأ لا يتمالك نفسه) أي أنه يبكي، وإذا قدمنا شخصاً يصلي بنا فلسنا في حاجة إلى أن نسمع بكاءه، نحن في حاجة إلى أن نسمع القراءة، فالصلاة مبناها على القراءة وليس على البكاء.
إذاً: يكون ابن عوف مناسباً لإمامة الصلاة في هذا الوقت، ويمكن أن يروا بأنه أولى من غيره.
ثم مجيء النبي صلى الله عليه وسلم، ومحاولة المغيرة أن ينبه الإمام ليتراجع، يقولون: إن الإمام الراتب إذا تغيب وقدم القوم رجلاً يصلي بهم، فحضر الإمام الراتب، فهو مخير بين أن يتقدم ويرد من قدموه، ويصبح بعد أن كان إماماً مأموماً، حتى ولو كان قد صلى ركعتين أو ركعة من الصلاة، وإما أن يترك حقه في الإمامة ويقف مع المصلين مأموماً كبقية الناس، وهنا الرسول صلى الله عليه وسلم له حق الإمامة على الأمة عامة، فترك هذا الحق وصلى خلف الإمام الذي اختاروه لأنفسهم مسبوقاً مأموماً ثم أتم صلاته.(27/12)
مراعاة اختيار أفضل الموجودين للإمامة
ينبغي أيضاً اختيار الإمام بأن يكون من خيرة الموجودين، وعندكم حديث مكتوب على المحراب في مثلث من المثلثات الموجودة على جانبي المحراب (تخيروا من يؤمكم في الصلاة فإن أئمتكم وافدوكم إلى ربكم) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فالإمام وافد القوم إلى الله؛ لأننا نقدمه بين أيدينا ليناجي الله سبحانه وتعالى، فهو مقدم منا إلى الله كالوافد، أي: الذي نوفده ونرسله إلى بعض الملوك أو الأمراء ليسأل حاجة الأمة أو حاجة القوم، فكذلك الإمام وافد المؤمنين إلى الله سبحانه وتعالى.(27/13)
صحة صلاة الفاضل خلف المفضول
ثم كونه صلى الله عليه وسلم -وهو سيد الرسل ونبي الأمة- يصلي خلف فرد من أفراد الأمة، يؤخذ منه صحة قالوا: تصح صلاة الفاضل خلف المفضول إذا كان المفضول أهلاً للصلاة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة خلف عبد الرحمن بن عوف في هذه الحالة، ثم لما سلم الإمام نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتم ما كان باقياً عليه، وهذا تأييد لما جاء عن معاذ رضي الله عنه.
وذلك أنهم إذا كانوا في الصلاة وجاء المسبوق سأل من في نهاية الصف: كم صليتم؟ فيشير إليه بيده، ركعة أو ركعتين، فيصلي وحده وهو قائم في الصف ما فاته من الصلاة، ثم يتابع الإمام فيما بقي، فإذا سلم الإمام سلم؛ لأنه أتى بما فاته ثم تابع الإمام فيما تبقى، فيكون قد أتم صلاته.
فقال معاذ: لأن آتي فأجد النبي صلى الله عليه وسلم على حالة إلا وافقته فيها، فجاء مسبوقاً والنبي صلى الله عليه وسلم قد صلى من صلاته شيئاً، فتابعه على ما هو عليه، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قام معاذ وأتى بما كان قد فاته، وقد عرف من نفسه -دون أن يسأل أحداً- ما فاته من الصلاة، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال: (إن معاذاً قد سن لكم في الصلاة سنة فخذوها) ، وأصبح من بعد تلك الحادثة أن المسبوق يأتي فيدخل مع الإمام على ما هو عليه، وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم! دخل مع الإمام على ما هو عليه، ثم بعد أن سلم الإمام قام وأتم ما فاته من الصلاة، وهي الركعة الأولى؛ لأن الصلاة كانت صلاة الصبح.
قوله: (فزعوا) ، أي: لأن هذا أمر عاطفي كما أشرنا، وكانوا يحبون أن تكون الإمامة لرسول الله، وفزعوا أن يكون الرسول مأموماً لواحد منهم.(27/14)
استحسان فعل المحسن والثناء عليه
قوله: (فلما رأى فزعهم) .
هذه نواح نفسية أدركها النبي صلى الله عليه وسلم في نفوس القوم، فأراد أن يذهب عنهم دواعي الفزع فقال:) أحسنتم) أي: أتيتم عملاً محسنين فيه.
إذاً: ليس هناك موجب لأن تفزعوا؛ لأنكم ما أتيتم بشيء يوجب الفزع، وهنا يقولون: على ولي الأمر أو المسئول أن يستحسن ما فُعل تحت أمره أو تحت رئاسته من فعل حسن، فيثنى على المحسن كما يعاتب المسيء؛ لأن في الثناء على المحسن تشجيع له على إحسانه، وهكذا كان قوله صلى الله عليه وسلم:) أحسنتم) .
ومن هنا قال الشافعي رحمه الله ومن وافقه: إن الصلاة في أول الوقت أفضل من تأخيرها؛ لأن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أرادوا الصلاة في أول وقتها، ولما لم يحضر الإمام الأحق بالإمامة قدموا غيره ليؤدوا الصلاة في وقت الفضيلة.(27/15)
نجاح الرسالات السماوية في تربية الأمم
ثم بعد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم تطييباً أو إخباراً بأمر مستقر جديد: (ما قبض الله روح نبي إلا وقد صلى خلف رجل من أمته) .
هذا اللفظ على وجازته واختصاره يعطينا معنى عظيماً جداً، وذلك: أن أي نبي بعث في أمة إنما بعث فيها وهي على جهالة، وجاءهم الله بما أوحى به إليه ليخرجهم من تلك الجهالة إلى المعرفة، ولينشئهم ويربيهم ويعلمهم إلى أن يصلحوا في أنفسهم، ويكونوا صالحين لإصلاح غيرهم.
وهكذا هنا: بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمة أمية، وكلنا يعلم ما كانوا فيه من عبادة الأوثان، وجاهلية جهلاء، كما ذكر جعفر رضي الله تعالى عنه للنجاشي: كنا يأكل قوينا ضعيفنا، ونأكل الميتة، وكنا نخفر الذمم وكنا.
وكنا.
إلخ، فبعث الله لنا رجلاً منا نعرف نسبه ونشأته، فأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وحقوق الجوار، وصلة الرحم، وأن نعبد الله وحده لا نشرك به.
إلخ.
فهنا كان العرب على تلك الحالة التي يعرفها الجميع، وجاءت الرسالة المحمدية بما يعرفه أيضاً الجميع، وأخرج الله به الأمة من الجهالة إلى المعرفة، ومن الضلال إلى الهداية، فكأنه يشير إلى أن الرسالة قد أدت مفعولها وأثمر غرسها، وأصبحت الأمة الأمية والأعراب في البادية قادة في أنفسهم، وصالحين لأن يؤم بعضهم بعضاً، وبالتالي كل واحد منهم أصبح صالحاً لأن يكون إماماً لغيرهم من الأمم والجماعات، وهذا بعد الهجرة بتسع سنوات؛ لأن تبوك كانت في السنة التاسعة، معناه أن الإسلام قد أعطى ثماراً، وأن الأمة التي تبعت الإسلام ودانت به أصبحت مستكملة ثقافياً وفكرياً وقيادياً، وأنها قد توفر فيها كل ما تتطلبه الأمة من عناصر الحضارة والتقدم.
ويدل على ذلك أن الواحد منهم بعد أن كان يعبد الصنم، ويفعل القبائح، أصبح الآن صالحاً لأن يؤم العالم وقد أمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل بعدها بسنة واحدة وهي السنة العاشرة في حجة الوداع: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] فقوله صلى الله عليه وسلم: (ما قبض الله روح نبي إلا وقد صلى خلف رجل من أمته) دليل على أن الرسالات السماوية ناجحة في تربية الأمم، سواء كثر الأتباع أو قلوا؛ فإن نظام الوحي ومنهجه هو أن يوجد الإنسان الكامل الفاضل الذي يصلح لإمامة الدنيا بأسرها.
والله تعالى أعلم.(27/16)
حديث أبي هريرة في النهي عن التخلي في الملاعن الثلاثة
[وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا اللعانين، الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلهم) رواه مسلم.
وزاد أبو داود عن معاذ رضي الله عنه: (والموارد) ولفظه: (اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل) ] .(27/17)
حكم لعن المعين
هذا أدب جديد في تجنب مواضع معينة في قضاء الحاجة، وتلك الأماكن نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها نهياً مصحوباً بالعقوبة؛ لأن في ذلك إيذاء للناس، فمن أدب قضاء الحاجة ألا يؤذي الناس بحاجته، فقال: (اتقوا اللعانَيْن) بالتثنية، أو) اللعانِين (بالجمع.
واللعن: هو الدعوة بالطرد من رحمة الله، ولا يجوز لعن المعين ولو كان كافراً؛ لأن اللعن معناه الطرد من رحمة الله، وما يدريك لعل عناية الله تدرك الكافر فيؤمن، فأين تذهب اللعنة حينئذ؟ ومما جاء من النهي عن اللعن أن اللعنة إذا خرجت من إنسان صعدت إلى السماء، فتغلق دونها أبواب السماء، فتعود إلى الأرض، فإن وجدت أن من توجهت إليه أهلاً لها وجبت عليه، وإن لم تجده أهلاً لها رجعت على من قالها فتبعته.
ولهذا جاء النهي عن اللعن حتى في حق إبليس، يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنوا الشيطان واستعيذوا بالله منه؛ لأنكم إذا لعنتموه تعاظم في نفسه) يعني: أنه صار خطيراً عليهم حتى ناصبوه العداء باللعان، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول هنا: (اتقوا اللعانين) بمعنى: اتخذوا منها وقاية وابتعدوا عنها.(27/18)
حكمة إسناد اللعن إلى الموطن المتخلى فيه
ثم فسر اللعانين فقال: (الذي يتخلى في طريق الناس وظلهم) .
الرسول صلى الله عليه وسلم أسند اللعن هنا للبراز في الطريق والظل، والطريق والظل ليسا محلاً للعن، قال العلماء: معنى ذلك أن المتسبب في ذلك جلب اللعنة على نفسه ممن يأتي تلك الأماكن بفعله؛ لأن قارعة الطريق محل للناس يقرعونها بأقدامهم، فإذا قضى حاجته على الطريق آذاهم.
وكذلك الظل، والمراد به خصوص الظل الذي يستظل الناس فيه، بخلاف الظل في الخلاء، كأن تكون شجرة في الخلاء وظلها كثير، وليست طريقاً مطروقة فلا مانع أن يقضي حاجته تحتها؛ لأنه ليس موضعاً يأوي إليه الناس، أما إذا كان الظل على الطريق والمسافر يستظل فيه تحتها، فداخلة في معنى الظل.
قال العلماء: إسناد اللعن إلى الطريق والظل من المجاز العقلي؛ لأنه بفعله تسبب في أن الغير هو الذي يلعنه، كما جاء الحديث في تقبيح أن يسب الرجل أباه وأماه: (قالوا: وهل يسب الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب الرجل أباه، ويسب أمه فيسب أمه،) فيكون كأنه هو الذي سب أباه؛ لأنه تسبب في ذلك.
ومثله:: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] أي: أنتم تتسببون في أنهم يسبون الله؛ لأنكم سببتم آلهتهم أو سببتموهم.
ولذا نقول في بعض المواقف السياسية التي تطرق أسماعنا: إن بعض الناس في بعض البلاد الإسلامية قد يأخذه الحماس إلى أن يوقع بالعدو مكيدة تساوي (10%) من الخسائر، فالعدو يتخذها ذريعة وينتقم بما يساوي (20%) ، فيكون هذا الذي فعل ما هو جزئية بسيطة تسبب في إيقاع الإيذاء لقومه بمضاعفات الإساءة.
ويؤخذ من قوله: (اتقوا اللاعنين) أنه لا يجوز قضاء الحاجة في موارد الناس كما جاء لفظ أبي داود.
وكذلك قارعة الطريق: وهي الجزء المعين بقرع الأقدام في المسير.
والظل: هو الظل الذي يحتاجه الناس ويستظلون به، سواء كان في الحضر أو السفر.
والموارد: جمع مورد، وهو في الأصل: الأماكن التي توجد على ضفاف الأنهار أو السيول أو العيون التي يردها الناس ليستقوا من الماء، فهذا أيضاً مورد للناس، فإذا قضى إنسان حاجته في تلك الموارد تسبب في لعنه؛ لأنه آذى الناس.(27/19)
ما يلحق بالمواطن الثلاثة من المرافق العامة والأسواق
وعلى هذا يكون من آداب قضاء الحاجة: ألا يؤذي الإنسان غيره بأن يقضي حاجته فيما يحتاجون إليه من مرافق عامة، كالطرق والظل وموارد المياه.
وإذا كان هناك موارد أخرى كأن يكون هناك سوق يرده الناس في النهار، وفي الليل لا يوجد أحد، فلا يجوز له أن يقضي حاجته في هذا السوق، فمثلاً سوق الخضار الموجود هو عبارة عن محلات مشكوفة ليست محجوزة كالدكاكين، فلا يجوز لأحد أن يقضي حاجته فيها.
كذلك مواقف السيارات، وإن كان في الليل لا يوجد فيها سيارة، لكن الصباح تكون الساحة مملوءة بالسيارات والمسافرين ونحو ذلك، فكل ما كان موضعاً لتجمع الناس فلا ينبغي لإنسان قط أن يقضي حاجته فيه.
وبعضهم يزيد على ذلك موطناً وهو عند أبواب المساجد؛ لأن هذا أيضاً من ضمن الموارد، ونقول أيضاً: أمام المعارض، والدكاكين، والمحلات التي يردها الناس لقضاء حوائجهم.
إذاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا اللاعنَين -أو اللاعنِين-) يشمل كل ما كان مرفقاً عاماً يرده الناس، سواء كان للسير أو للظل أو للماء أو للسفر أو غيرها، حتى ولو كان المكان خالياً وقت قضاء حاجته، لكن من شأنه أن يشغل بالناس فيما بعد، فلا يجوز له أن يقضي حاجته فيه؛ لأنه يتسبب لنفسه باللعن من الذين يتأذون من هذا العمل في هذا المكان.
والله تعالى أعلم.(27/20)
حديث أبي ذر في النهي عن البراز في الموارد
[وزاد أبو داود عن معاذ رضي الله عنه: (والموارد) ولفظه: (اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل) .
وقال المصنف رحمه الله: ولـ أحمد عن ابن عباس: (أو نقع ماء) وفيهما ضعف] .
ذكر المؤلف هنا (نقع الماء) : وهو الغدير الذي يتركه السيل، فلو كان هناك غدران ولو لم يردها الناس، فإن الماء الذي تجمع فيها ربما احتاجه الناس، أو أن السيل يأتي فيجرف ما فيه فيكون فيه إيذاء وتقذير للماء على الناس ولو لم يرده أحد، فما دام أنه مستنقع يجمع فيه الماء فلا يجوز، ولو كان هناك أحواض على الطريق فجاء السيل وملأها فلا يجوز لأحد أن يقضي حاجته في تلك الأحواض، فكذلك مناقع المياه وكل ما كان من هذا الباب.
وذكر بعض العلماء البراز تحت الشجرة المثمرة، فلو كان في الخلاء نخلة تثمر، وليس هناك أحد، وليست محل ظل، ولكن أصحابها عند نضوج ثمرتها يأتون إليها، فكانت مثمرة في الوقت الحاضر أو ستثمر؛ فلا يجوز له التخلي تحتها؛ لأنه لو سقطت ثمرة من تلك الشجرة ربما تلوثت بالنجاسة فأفسدها على أهلها، أو إذا جاءوا إليها يستظلون بظلها كان ذلك ظلاً يستظل به، وزيادة على ذلك إفساد الثمرة التي تسقط من تلك الشجرة المثمرة.
وذكر الفقهاء عدة أماكن، وكلها تندرج تحت قاعدة عامة: (كل موطن يتأذى منه الناس فلا يجوز قضاء الحاجة فيه) .
[وأخرج الطبراني النهي عن قضاء الحاجة تحت الأشجار المثمرة وضفة النهر الجاري من حديث ابن عمر بسند ضعيف] .
فمثلاً: النهر أو السيل يجري وليس هناك مورد، ولكن يأتي شخص على ضفة النهر والسيل ويقضي حاجته، ربما أن النهر ارتفع منسوبه فوصل إليها، فيكون سبباً في إفساد الماء على الناس، كما تقدم لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى أن يبول الرجل في الماء ثم يغتسل منه أو يغتسل فيه) ؛ لأن كثرة البول في الماء وسيلة إلى إفساده أو تقذيره على الناس، فهذا من المواطن التي نهي عن قضاء الحاجة فيه، وهي حافة النهر أو حافة السيل أو حافة العين التي تضر بالماء.
وبالله تعالى التوفيق.(27/21)
النهي عن كشف العورة للآخر والتحدث معه في الغائط
[وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا تغوط الرجلان فليتوار كل واحد منهما عن صاحبه ولا يتحدثا؛ فإن الله يمقت على ذلك) رواه أحمد وصححه ابن السكن وابن القطان وهو معلول] .
من آداب قضاء الحاجة: ما جاء هنا في حديث جابر رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تغوط الرجلان فلا يكلم أحدهما الآخر؛ فإن الله يمقت على ذلك) .
يقولون: (تغوط) أي: دخل في الغائط، مثل تصبح وتمسى، والغائط: هو المكان المنخفض، وكانوا يقصدونه لأنه يستر صاحبه عن الناس، وجاء القرآن بهذا اللفظ: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء:43] والإتيان من الغائط أو الذهاب إلى الغائط يراد به لازمه؛ لأنه ليس المراد مجرد كون الإنسان يأتي إلى مكان منخفض، بل المراد قضاء الحاجة؛ لأن العادة لا يذهب الناس إلى المكان المنخفض إلا لقضاء الحاجة المتقدم ذكرها في الأحاديث المتقدمة.
(فإذا تغوط الرجلان) أي: ذهبا معاً للمكان المنخفض ليقضي كل منهما حاجته، يقول صلى الله عليه وسلم: (فلا يتحدثا) أي: لا يكلم كل واحد منهما صاحبه.
وقوله: (الرجلان) خرج مخرج الغالب، ولكن لو ذهب رجل وامرأة كزوجين مثلاً وذهبا لقضاء الحاجة، أو امرأتان مثلاً ذهبتا لقضاء الحاجة؛ فالكل داخل في عموم المطلوب في هذا الحديث، أي: إذا تغوط اثنان: رجلان أو امرأتان أو رجل وامرأة، فلا يتحدثا عند قضاء الحاجة في الغائط.
(فإن الله يمقت) والمقت: شدة الغضب، فهذا النهي مصحوب بالتوعد بالعقوبة، وبعض العلماء يقول: إن من علامات الكبائر أن يأتي المنهي عنه مصحوباً بعقوبة شديدة عليه، ولذا أكد كثير من العلماء بأن هذا من الكبائر، وبعض الناس يقول: إنه من المكروهات ومن الآداب في قضية التخلي، ولكن إذا كان هناك نهي فلا يتحدث، وهناك ترتيب عقوبة: (فإن الله يمقت على ذلك) ، وهذا يدل على شيء أكبر من مجرد الكراهية، إلا إذا قلنا على بعض اصطلاح الفقهاء: كراهة تنزيه، وكراهة تحريم، فيكون هذا من المكروه كراهة التحريم.
ما هو تطلع العلماء إلى موجب المقت في هذا العمل؟ في الواقع لم أقف على جواب كافٍ في ذلك، ولكن هناك عمومات وهي: أن الملائكة المكلفين بالعبد: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] لا يفارقون الإنسان إلا عند قضاء الحاجة وعند إتيانه أهله، فلو تكلم في المرحاض أو أذنب فإن الملائكة تشم رائحة الخطيئة وتعلمها ولو لم تكن حاضرة إياها فتكتبها عليه، فهنا وفي هذه الحالة كأنه يستدعي الملائكة من أجل أن تكتب ما يقول، وكان ينبغي له ألا يسيء إلى رفقائه أو قرنائه، ويكفينا مؤاذاة الناس.
إذاً: إذا ذهب الإنسان مع زميل له إلى الغائط فإنه يجب أن يستتر كل منهما عن الآخر ولا يتحدث معه حتى ينتهيا من قضاء حاجتهما.
مسألة: إذا كان وحده هل يجوز أن يتكلم ولو كلاماً عادياً؟ كأن ينشد شعراً -مثلاً- هجاء أو وصفاً أو غزلاً أوغيره، هل يجوز ذلك؟ لا يجوز الكلام في ذلك؛ لأنه فيه استيجاد الملائكة لتكتب عليه ما يتلفظ به، وإذا كان في البنيان تكون الملائكة خارج المراحيض بعيداً عن النجاسة، فالخلاء ليس فيه تحديد.
إذاً: لا ينبغي الكلام للشخص في نفسه أو مع غيره، اللهم إلا إذا انتهى من حاجته واحتاج إلى من يساعده، وطلب ماءً أو حجارةً أو طلب شيئاً من ذلك فحينئذ لا مانع، أي: بعد قضاء حاجته والفراغ منها.
والله تعالى أعلم.(27/22)
كتاب الطهارة - باب قضاء الحاجة [3]
من آداب وهدي النبي صلى الله عليه وسلم في الخلاء ألا يتمسح الإنسان من الخلاء بيمينه، ولا يمس ذكره بيمينه حال البول، ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، ولا يستجمر برجيع أو عظم.(28/1)
حديث أبي قتادة والمسائل الواردة فيه
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يمسَّنَّ أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه، ولا يتنفس في الإناء) متفق عليه، واللفظ لـ مسلم] .
هنا في الحديث ثلاث مسائل:(28/2)
النهي عن مس الذكر باليمين حال البول
المسألة الأولى: (لا يمس أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول) .
هل هناك حاجة لأن يمسك الإنسان ذكره وهو يبول؟ نعم، قد تكون الحاجة لذلك كأن تكون الأرض التي هو عليها صلبة وأمامه مكان رخو، فيحتاج إلى أن يمسك ذكره ليرفع مجرى البول عن المكان الصلب إلى مكان آخر، وقد يكون لحاجة أخرى، فإذا احتاج أن يمسك ذكره وهو يبول فلا يكون باليمنى، وهذا أمر واضح.
(ولا يتمسح من الخلاء بيمينه) .
إذا تكررت مسائل في حديث واحد؛ فإن اتفقت فبها ونعمت، وإن اختلفت طلبنا الرابط بين المسألتين المختلفتين في الحديث الواحد؛ لأن عقلاء الناس لا يجمعون بين متناقضين أو متنافرين في سلسلة حديث واحد، فإذا ذكر إنسان عندك أموراً فلابد أن يكون هناك رابط يربط تلك الأمور، ولو على الأقل رابطة التعليم أو حاجة المستمع إلى ذلك.
فهنا: (لا يمسن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول) نهى عن أن يمسكه بيمينه، فيكون مفهوم المخالفة له أن يمسكه بشماله، إذاً: اختصت اليمين بالامتناع عن هذا المحل.(28/3)
النهي عن التمسح من الخلاء باليمين
المسألة الثانية: (ولا يتمسح من الخلاء بيمينه) .
التمسح من الخلاء إن كان يستعمل الماء فيده ستباشر المحل مع الماء، وكان بعض السلف يمتنع أن يستنجي بالماء، ويقول: لا تزال يدي منتنة لأنها باشرت النجوى، والآخرون كانوا لا يستنجون بالماء إلا بعد استعمال الحجارة، فهي تزيل النجوى ويبقى الأثر، فيغسل بالماء ويباشره بيده، فحينئذ إذا استنجى بيمينه فاليمين ستباشر النجوى الخارجة منه، فإذا نهي عن ذلك بخصوص اليمين فمعناه أنه سيستعمل اليسار.
إذاً: تميزت اليمنى بإبعادها عن هذين الموطنين، وأبيح استعمال اليسرى فيهما، حينئذ نستطيع أن نقول: النهي عن استعمال اليمنى في هذين المحلين تكريماً لليمنى؛ لأنه سيتناول بها الطعام، ويصافح بها الآخرين، فتكون اليمنى للمكرمات -كما قيل- واليسرى لغيرها.(28/4)
النهي عن التنفس في الإناء حال الشرب
إلى هنا المسألتان بينهما مناسبة ولكن قوله: (ولا يتنفس في الإناء) -وهي المسألة الثالثة- فيه النهي عن التنفس في الإناء عند الشرب، فما علاقة التنفس في الإناء مع هاتين المسألتين المتقدمتين؟ وموضوع التنفس في الإناء جاء إيضاحه أكثر عندما نهى صلى الله عليه وسلم الشارب عن أن يتنفس في الإناء -أي: الإناء الموجود- قال قائل: (يا رسول الله! إنني لا أروى من النفس الواحد، فقال: أدر القدح عن فيك وتنفس، ثم أعد القدح واشرب.
قال: إني أجد فيه القذاة -القشة أو شيء تستقذره النفس، فيريد أن يبعد بنفخة- قال: أبنه عنك) أي: لا تبعده بالنفس.
ونحن نبين الحكمة من النهي عن التنفس في الإناء، قالوا: إن الحكمة من النهي عن التنفس في الإناء وأنت تشرب أن الحلق ينتهي بطريقين: طريق دخول الهواء للرئة، وطريق دخول الطعام والشراب للمعدة، وعند افتراقهما كيف يميز الهواء عن الطعام والماء؟ قالوا: يوجد صمام على شكل عضلة، إذا أراد أن يبلع طعاماً أو شراباً فالعضلة في الحلق تنقبض فتسد طريق الهواء، وإذا أراد أن يتنفس انفتحت هذه الفتحة وذهب الهواء إلى الرئة؛ لأنه لو قدر أن قطرة ماء وصلت أو جاءت خطأً أو بسرعة إلى طريق الهواء فإنها تضر الرئة.
ومن حكمة الله أن القصبة الهوائية التي تتفرع من الزور إلى الرئة يوجد فيها شعيرات تمتد إلى أعلى وليس إلى أسفل، أي: تنبت كما ينبت الخوص في الجريدة إلى أعلى، فإذا جاءت قطرة وسبقت لسان المزمار من أن يسد طريق الهواء، فإن تلك الشعيرات التي في القصبة الهوائية تطرد ما أتى ودخل عليها من ماء أو طعام، ولو نصف حبة سمسم، ولا تزال كل طبقة تطردها إلى أعلى وتتلقاها عنها التي أعلى منها، وتتلقاها ما بعدها إلى أن تردها إلى الحلق فتنزل عن طريق المعدة؛ لأنها لو وصلت إلى الرئة أفسدت فيها شيئاً كثيراً.
وعملية بلع الطعام والشراب ليست مجرد انزلاق من أعلى إلى أسفل، بل إنها عملية امتصاص ودفع، وكما يقول بعض الأطباء في هذا: لو علق إنسان من قدميه وتدلى رأسه إلى أسفل وأعطي الماء فإنه بتلك الحالة يستطيع أن يشرب الماء ويبلعه وهو منكوس الرأس، ويستطيع أن يمضغ التمرة والطعام ويبلعه ويصل إلى معدته وهو منكوس الرأس، لأن هناك عملية امتصاص ودفع.
إذاً: عندما يشرب الإنسان وينتهي نفسه في الشرب ويريد أن يزيد ماء فإنه سيأخذ نفساً، وعندما يأخذ نفساً والإناء على فيه فلربما سبق الماء إلى الرئة عند أخذ الهواء فيكون خطراً عليه، وهذه يسمونها الشرقة، والشرقة بالماء من أصعب ما يكون؛ لأن رد الشعيرات للماء أصعب من ردها لقطعة من الخبز أو التمر أو غير ذلك.
وهنا تظهر الحكمة النبوية في كونه صلى الله عليه وسلم ينهى عن التنفس في الإناء عند الشرب، والفقهاء يقولون: نهى عنه لأنه ربما خرج مع الهواء الخارج من أنفه ما يقذر الماء.
ما هي الرابطة بين (لا يتنفس في الإناء) وبين (لا يتمسح من الخلاء بيمينه، ولا يمس ذكره بيمينه) ؟ يمكن أن نقول: بجامع الاستقذار؛ لأن من تنفس في الإناء كان عرضة لتقذيره أو كان عرضة لإيذائه بوصول شيء من الطعام أو الشراب إلى القصبة الهوائية فيؤذيه، وهذا كذلك قد يؤذيه باستعمال اليمنى في ذلك.
والله تعالى أعلم.(28/5)
حديث سلمان في آداب الخلاف
[وعن سلمان رضي الله عنه قال: (لقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة بغائط أو بول أو أن نستنجي باليمين أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو عظم) رواه مسلم] .(28/6)
الحكمة في النهي عن استقبال القبلة عند قضاء الحاجة
في حديث سلمان جملة من آداب قضاء الحاجة، ووالله -يا إخوان- لو أخذتم جميع كتب الأدب، سواء الشعر الجاهلي أو الأدب الحديث في أرقى دول العالم في الحضارة، فلن تجدوا شيئاً من هذه الآداب مدونة عندهم، وهذا من سمو الإسلام، ومن تربية الفرد على أعلى ما يمكن من علو الهمة وعلى التجنب لما لا يليق.
يقول سلمان رضي الله تعالى عنه: (نهانا) والنهي يقتضي التحريم إن لم توجد قرينة صارفة عن التحريم إلى الكراهية، وهنا لا يوجد قرينة حتى الآن.
(نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول) : والقبلة هي: جهة الكعبة.
وماذا سيضر القبلة إذا استقبلنا أو استدبرناها؟ والجواب أن الحكمة من ذلك العمل كأنه تهوين من شأن القبلة، والقبلة من أعظم مقدسات المسلم؛ لأنه تستقبل في اليوم خمس مرات استقبال تكريم وتشريف وتعظيم، والمحرم إذا جاء ووصل إلى مكة ووقف على باب المسجد ورأى الكعبة قال: اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابةً ورفعةً وأمناً، وزد يا رب من شرفه وكرمه.
إلخ الدعاء.
وقد ذكرنا سابقاً وقلنا: هناك جانب عاطفي وجانب عقلي، الجانب العقلي يقول: شرق أو غرب كما تشاء، ولكن العاطفة تقول: تلك القبلة التي تجعلها وجهتك في وقوفك بين يدي الله يجب أن تكرمها، فلا تستقبلها بغائط أو بول.(28/7)
مسألة استدبار القبلة عند قضاء الحاجة
في حديث سلمان هنا قال: (لقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين) .
حديث سلمان اقتصر على النهي عن الاستقبال، وجاءت نصوص أخرى تنهى عن الاستدبار، في المدينة المنورة وما حاذاها من البلاد أن من استقبل القبلة فقد استدبر بيت المقدس، وبيت المقدس هو القبلة القديمة، فيجب أيضاً أن نكرمها؛ لأنها كانت قبلتنا في وقت من الأوقات، فنهى أن نستقبل القبلة أو نستدبرها؛ لأننا إن استقبلناها استقبلنا بيت المقدس، وبيت المقدس والمدينة على خط مستقيم واحد، وهكذا المساجد الثلاثة: بيت المقدس، المدينة، البيت الحرام على خط مستقيم واحد، وأنتم ترون مسجد القبلتين، القبلة الأولى كانت مقابلة للقبلة الموجودة حالياً، وكذلك هنا في هذا المسجد كانت القبلة إلى الشمال، ولما تحولت صارت إلى الجنوب فهما متقابلتان سواء، فموضوع استقبال القبلة واستدبارها سيأتي له نصوص أخرى في هذا الباب، وعند كل حديث منها نوفيه شرحه إن شاء الله.(28/8)
حكم استقبال القبلة واستدبارها في المراحيض
(نهانا أن نستقبل) هل هذا النهي شامل لمن قضى حاجته في الخلاء وفي المراحيض في البيوت أم أنه خاص بواحد منهما؟ الشوكاني رحمه الله ذكر حوالي عشرة أقوال، وهذا أنسب ما يرجع إليه طالب العلم ليقف على تلك الأقوال بأدلتها والراجح منها، فهناك من يقول: إن هذا النهي خاص بالأرض الفلاة التي ليس فيها بين الإنسان وبين القبلة حاجز، فإذا وجد حاجز في الخلاء خرج عن النهي، واستدل قائل هذا القول بما جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان في سفر، ثم أناخ راحلته واستتر بها متجهاً إلى القبلة وقضى بوله، فقيل له: (يا أبا عبد الرحمن! ألم ينه النبي صلى الله عليه وسلم عن استقبال القبلة بغائط أو بول؟ فقال: إذا كان بينك وبين القبلة حاجز فلا بأس) إذاً: يكون النهي خاصاً بالخلاء إذا لم يوجد ساتر.
المراحيض في البيوت هل يشملها هذا النهي؟ الجمهور على أنه من باب الأفضلية أن يتجنب استقبالها واستدبارها، عملاً بعموم حديث سلمان، والبعض يقول: ما دام في البنيان وفيه السترة فلا مانع، وهناك حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: (قيل لرسول الله: إن أناساً يمتنعون -أو يتأبون أو يكرهون- أن يواجهوا القبلة بفروجهم! فقال: أو فعلوا ذلك؟ حولوا مقعدتي إلى القبلة) والمضاف والمضاف إليه لا يكون إلا في مكان مخصوص كالمراحيض في البيوت التي فيها بنيان.
قوله: (حولوا.
الحديث) في هذا الحديث شيء من الكلام، لكن قد قدمنا أن هناك من قال: إذا كان في البنيان فلا مانع، وإذا كان في الخلاء وهناك حاجز فلا مانع، إنما ينصب النهي على من كان في الخلاء ولا ساتر عنده، فهذا لا يستقبل ولا يستدبر إذا كان على سمت المدينة من مكة، أما إذا كان شرقيها أو كان غربيها فإنه إن يستقبل أو يستدبر فلا شيء عليه؛ لأنه لا يسامت الكعبة باستقباله القبلة -أي: الجنوب- من حيث هو؛ لأنه جاء في هذا الحديث: (لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها بغائط أو بول، ولكن شرقوا أو غربوا) ؛ لأن الذي يتوجه إلى الشرق لا يكون أمامه البيت الحرام، ولا خلفه المسجد الأقصى، وكذلك الذي يغرب ليس أمامه من القبلتين شيء.
وعلى هذا قالوا: إن هذا الحديث يتوجه إلى أهل الحجاز أو أهل المدينة ومن في حكمهم؛ لأن استقبال القبلة يكون فيه استدبار بيت المقدس، واستقبال بيت المقدس يكون فيه استدبار القبلة.
وهناك أقوال أخرى كمن يجوز الاستقبال ولا يجوز الاستدبار، وسيأتي زيادة بيان في هذا الموضوع عند النصوص الأخرى إن شاء الله.(28/9)
النهي عن الاستنجاء باليمين
(أو نستنجي باليمين) يستنجي: الهمز والتاء والنون، وماذا عن السين والتاء؟ إنما هي لطلب الفعل، وهي طلب إزالة النجو باليمين كما تقدم؛ لأن استعمال اليمين ومباشرتها لإزالة النجو فيه استقذار لليمين، فإذا نهانا أن نستنجي باليمين معناها أننا سنستنجي باليسار، اللهم إلا إذا كان إنسان يساره معطلة لشيء ما فحينئذ (الضرورات تبيح المحظورات) .(28/10)
النهي عن الاستنجاء بأقل من ثلاثة أحجار
قال: (أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار) .
أي: نهى عن إزالة النجو بأقل من ثلاثة أحجار، وهل العدد مطلوب من حيث هو أم أن المراد الصورة التي تنقي المحل؟ الظاهرية يقولون: ثلاث مسحات بثلاثة أحجار، والجمهور يقولون: لو أن عنده حجراً كبيراً وله ثلاثة أضلاع وتمسح بكل ضلع من الحجر الواحد فقد حصلت ثلاث مسحات وأجزأه ذلك؛ لأن الغرض ليس العدد من حيث هو، ولكن التكرار للتأكد من إنقاء المحل، وكما قالوا أيضاً في إطعام المساكين في الكفارة.
فمثلاً إطعام عشرة مساكين في كفارة اليمين، فهل المراد عشرة بالعدد، أم أننا لو أعطينا إطعام العشرة لثلاثة أو خمسة فإنه يجزئ، وأن المراد بالعشرة بيان المقدار التي تقع به الكفارة؟ نقول: سواء وصل عدد الإطعام إلى العشرة أو أن إطعام العشرة أعطي لخمسة، فيكون المراد في عدد العشرة المقدار الذي تصح به الكفارة، فكذلك هنا قوله: (أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار) فلو وجد حجران يتأتى بهما ثلاث مسحات أو حجر واحد يتأتى به ثلاث مسحات أجزأ ذلك، ما عدا الظاهرية فإنهم يقولون: لابد من ثلاثة أحجار معدودة.(28/11)
النهي عن الاستنجاء برجيع أو عظم
قال: (أو أن نستنجي برجيع أو عظم) الرجيع: هو روث الدواب، والعظم معروف، والسبب في هذا ما جاء في حديث ابن مسعود: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى حاجته ثم قال: ائتني -أو ابغني- ثلاثة أحجار.
يقول: فما وجدت إلا حجرين وروثة، فجئت بالحجرين والروثة، فأخذ الحجرين وألقى الروثة -ويزيد بعض الرواة- وقال: ائتني بغيرها -وفي بعض الروايات- فإنها ركس) أي: إنها نجسة، ولا تزال النجاسة بنجس.
إذاً: الذي لا يجوز الاستجمار به ما كان نجساً أو عظماً، وقاسوا على العظم كل مطعوم، لأن العظم مطعوم، وجاء في بعض الروايات أن العظم إذا ألقاه المسلم وسمى الله عليه فإنه يكسوه الله لحماً للجن.
وفي ليلة نصيبين سأل الجن رسول الله صلى الله عليه وسلم الزاد فقال لهم: (لكم روث كل دواب المسلمين يعود على ما كان عليه قبل أن تأكله دوابهم) أي: فإن كان روث البرسيم فإنه يرجع برسيماً، وإن كان روث الشعير فإنه يعود شعيراً ويكون علفاً لدوابهم، وقال: وما ألقاه المسلم من عظم وسمى الله عليه يكسوه الله لحماً طعاماً لكم.
فبعضهم يقول: النهي عن الاستجمار بالعظم لأنه طعام مؤمني الجن، وبعضهم يقول: العظم من حيث هو حاد يجرح ولا ينقي، وإذا استنجى بمستطيل العظمة -بجرمها- فالعظم أملس، والأملس لا ينقي، وعليه: لا يصح الاستجمار بكل ما كان مثل العظم في ملاسته، فلو أخذ قارورة صغيرة من الزجاج واستنجى بها لم يصح لأنه أملس لا ينقي، أو أخذ مثلها من الأجرام الأخرى من العاج أو من الأحجار الناعمة فهذا لا يجزئ.
وبالتالي فإن كل ما كان يشاكل الحجارة في اليبوسة والخشونة فإنه يجزئ، ولو كان هناك قماش متين كالصوف مثلاً فإنه يجزئ، أما الحرير الناعم لا يجزئ؛ لأنه لا ينقي، وإذا كان هناك ورق خشن كما يوجد في بعض المحلات ورق خاص لبيوت الخلاء فهذا يجزئ.
وهكذا النهي عن الاستجمار بكل محترم طعاماً كان للإنس أو الجن، وما كان طعاماً للإنس تلك نعمة ويجب أن تكرم وتحفظ لا أن تضيع وتتلف وتخالط النجاسة، فلا يجوز أن يستجمر بالتمر أو الرمان أو التفاح؛ لأنه لا يجوز تقذيره، ويحرم عليه أن يستعمله في هذه الحالة.(28/12)
حديث أبي أيوب في النهي عن استقبال القبلة واستدبارها
قال المؤلف: [وللسبعة عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه: (ولا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها بغائط أو بول ولكن شرقوا أو غربوا) ] .
أبو أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه يذكر هذا الحديث: (لا تستقبلوا القبلة بغائط أو بول ولا تستدبروها) ، فزاد النهي عن الاستدبار على حديث سلمان.
وأبو أيوب سافر إلى الشام، وجاء في آخر الحديث: (فقدمنا الشام، فوجدنا بيوت الخلاء قد بنيت إلى القبلة، فكنا ننصرف أو ننحرف -الرواية المشهورة: ننحرف- ونستغفر الله) ، أي: المقعدة موجهة إلى القبلة، وهو مضطر إليها، وحينما يجلس على تلك المقعدة ينحرف ويجعل اتجاهه شرقاً أو غرباً، وهذه يستطيع أن يتصرف فيها الإنسان وإن كان ليس على كمال الصورة من تجنب القبلة تماماً لكن ينحرف عن القبلة قدر استطاعته، وبعضهم يرويها: (ننصرف) أي: ننصرف عن تلك المحلات ولا نقضي الحاجة فيها لكونها متجهة إلى القبلة.
ولكن قوله: (ونستغفر الله) أنسب لـ (ننصرف) منها لـ (ننحرف) .
والجمهور يقولون: إنها أنسب لـ (ننحرف) لأن انحرافه ليس انصرافاً كاملاً، فهو يجلس والمقعدة متجهة إلى القبلة، وقدماه عليها إلى القبلة، لكنه ينحرف بصدره أو بجسمه عنها، فيستغفر الله لعدم تمام الاتجاه إلى الشرق أو الغرب، وفيه نوع اتجاه إلى القبلة، وإن كان أقل ممن لو كان مستقيماً إليها.
وبعضهم يقول: ونستغفر الله لمن بناها على تلك الحال، سواء ننصرف ونستغفر الله لأصحابها، أو ننحرف ونستغفر الله لأنفسنا لقضاء الحاجة على تلك الصورة التي ليست كاملة في الابتعاد عن الاستقبال أو الاستدبار.
والله تعالى أعلم.
وهنا مما يذكر أن بعض العلماء -ومنهم أبو أيوب رضي الله تعالى عنه- يمنع الاستقبال والاستدبار سواء في الفلاة أو في بيوت الخلاء، ولكن جاء عن جابر أنه قال: (نهينا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، ولكني رأيت رسول الله قبل وفاته بسنة يستقبل القبلة بالبول) فقالوا: هذا ناسخ لما قبله، والآراء والأقوال في ذلك متعددة، ولكن مجمل ذلك أن النهي منصب على الخلاء ما لم يكن هناك ساتر، وأن الأولى في بيوت الخلاء ألا تكون متوجهة إلى القبلة، فينبغي على الإخوة الذين ببنون بيوتهم أن يراعوا هذه الحال، ولا يجعلوا بيوت الخلاء -في الجلسة عليها- مستقبلة للقبلة أو مستدبرة لها، ولكن يجعلها متجهة إلى الشرق أو إلى الغرب، وهذا أسلم وأدعى لأن يكون بعيداً عن الخلاف الموجود، سواء قلنا بحديث جابر هذا أو بحديث سلمان أو بغيره، فيكون هذا أدعى لطمأنينة النفس.
والله تعالى أعلم.(28/13)
وجوب الاستتار عند الغائط
[وعن عائشة رضي الله عنها قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى الغائط فليستتر) رواه أبو داود] .
هذا من آداب قضاء الحاجة، ومعناه: ألا يجلس للبول حيث يراه المارة أو يراه الناس، وجاء في بعض الحديث (ولو يجمع كثيباً من الرمل) .
وكان صلى الله عليه وسلم من عادته أن يستتر إما في مكان مطمئن وهو الغائط، أو يستتر ولو بحائش من نخل أو بشجر أو بأي شيء، وبعض الناس يقول: قد يكفي الاستتار بطرف الثوب من الوراء، ولكن قد لا يتمكن الإنسان من ذلك أو يكون ثوبه ضيقاً لا يسع هذا، فلابد أن يتخذ له سترة من الناس.(28/14)
الذكر عند الخروج من الخلاء
[وعنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من الغائط قال: غفرانك) أخرجه الخمسة، وصححه أبو حاتم والحاكم] .
انتهينا من الكيفيات والهيئات والحالات التي يكون عليها الإنسان في قضاء الحاجة، جاء هنا في هذا الحديث ما يقول إذا خرج من الخلاء.
قولها: (كان) يدل على الدوام والاستمرار.
(كان صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك) : تقدم لنا أنه إذا دخل الخلاء قال: (اللهم إني أعوذ بك من الخُبُث والخبائث، وإذا خرج قال: غفرانك) .
(غفرانك) منصوب على حذف العامل، بمعنى: أسألك غفرانك، أو على أنه مفعول مطلق والتقدير: اغفر غفرانك، فلأي معنى من المعاني طلب المغفرة، فإن طلب المغفرة أنما يكون عن ذنب قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:135] ، فأي ذنب فعله هنا حتى يقول: (غفرانك) .
يذهب العلماء إلى البحث عن الموجب لطلب الغفران في هذه الحالة، فبعضهم يقول: ربما لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على جميع أحيانه، وما كان يغفل عن ذكر الله أبداً، وإذا كان عامة المؤمنين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون.
إلخ، فالنبي صلى الله عليه وسلم من باب أولى، وقد جاء في حقه: (تنام عيناي ولا ينام قلبي) فقالوا: وقت نزوله لقضاء حاجته لا يستطيع أن يذكر الله، فهو يتعطل عن ذكر الله مدة وجوده في بيت الخلاء، فإذا ما انتهى اعتبر امتناعه عن ذكر الله تلك الفترة كأنه ذنب وتقصير، فيطلب من الله الغفران عن هذا التقصير، فكأن المعنى: أننا أكلنا كثيراً واحتجنا إلى بيت الخلاء، فانشغلنا بالطعام والشراب، وتسببنا في ما يبعدنا عن ذكر الله.
وبعضهم يقول: إنما يقول: (غفرانك) لأنه كل إنسان حينما أنعم الله عليه بنعمة العافية، ورزقه الطعام والطيبات من الرزق، وأكل واستمتع وانتفع في بدنه، ثم إن هذا الخارج عبارة عن فاضل هذه النعمة بعد أن أخذ منها فائدتها واستفاد الجسم منها، ويسر الله خروج المؤذي منها، فإذاً: هذه نعم متوالية: نعمة العافية، ونعمة الطيب من الرزق، ونعمة الاستمتاع بالطيب الحلال، ثم نعمة وإخراج المؤذي من تلك النعمة وفضلاتها نعمة أخرى.
ولذا يقولون: إن بعض الملوك دخل عليه شخص من زهاد الدنيا وقال: ماذا تطلب؟ قال: وما الذي لديك؟ قال: ما تريده.
قال: كل ما عندك لا يساوي بولة ولا كأس ماء.
قال: كيف هذا؟ قال: إذا كنت في فلاة ونفد ماؤك وأشرفت على الموت وتطلب كأس ماء، أتشتريه بالملك أو لا؟ قال: نعم.
قال: إذاً: ملكك لا يساوي إلا كأس ماء، وإذا شربتها واحتبس عليك البول، وطلبت إخراجه، أتدفع ملكك في إخراج هذا البول أو لا؟ قال: نعم.
قال: إذاً: ملكك لا يساوي كأس ماء تشربها ولا بوله تخرجها.
ومن هنا -أيها الإخوة- كان من نعم الله على الإنسان أن متعه بالصحة وأنعم عليه بطيبات الرزق، واستمتع بطعمها، واستفاد بما أودعت من فوائد في جسمه، ثم أنعم الله عليه بإخراجها.
والله -يا إخوان- لقد رأيت إنساناً في حوالي سن الأربعين منذ أكثر من أربعين سنة يدور في الشوارع ويصيح بسبب إمساك عنده، وعجز الناس عن أن يسعفوه بشيء، فإذا حبس في الإنسان فضلات الطعام فهذه مصيبة.
قال العلماء: فالنبي صلى الله عليه وسلم استشعر نعمة الله عليه بالصحة، وبالرزق الطيب، وبالاستفادة من هذا الرزق، ثم يسر عليه خروج هذا المؤذي، فكأنه يقول: لا يستطيع الإنسان أن يشكرها لله سبحانه وتعالى، فيستغفر على التقصير من أنه لم يقدم لله من العبادات ومن الذكر ما يعادل تلك النعم المتعددة.
إذاً (غفرانك) إما لأنه منع من ذكر الله في تلك الفترة، أو لأنه استشعر نعم الله عليه، واستشعر التقصير في شكره عليها، فيطلب الغفران لذلك.
وهذا تنبيه لنا على أن نستشعر نعم الله علينا، وأن نسأل الله دائماً وأبداً أن يوزعنا شكر النعمة ولو كانت شربة ماء، ولو كانت خروج فضلات من جسمه؛ لأن هذا سواء كان في الإدخال أو في الإخراج فهي نعمة من الله سبحانه وتعالى.(28/15)
الحكمة في النهي عن الاستنجاء بالروثة والعظم
[وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين ولم أجد ثالثاً، فأتيته بروثة فأخذهما وألقى الروثة، وقال: هذا رجس -أو ركس-) أخرجه البخاري، وزاد أحمد والدارقطني: (ائتني بغيرها) ] .
يأتي المؤلف رحمه الله بحديث ابن مسعود هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أتى الغائط وقضى حاجته، قال: فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فأتيته بحجرين ولم أجد الثالث، فأتيته بروثة؛ والروثة تكون غالباً للحمار أو للبغل أو للفرس، والبعرة تكون للبعير، والخثل يكون للبقر.
وروث ما لا يؤكل لحمه نجس، وفضلات ما يؤكل لحمه طاهر عند كثير من العلماء ما عدا الشافعي.
فهنا ابن مسعود ذهب ليأتي بثلاثة أحجار ما وجد إلا حجرين، فألغى وصف الحجرية وجاء بالروثة اجتهاداً منه بأن يأتي بثلاثة أحجار.
فلما أخذها النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الحجرين ورد الروثة، وقال: (ائتني بغيرها، ثم قال له في سبب ردها: إنها (رجس) بالجيم أو (ركس) بالكاف) .
الرجس والركس هو: النجس؛ فأخذ العلماء بأنه لا يجوز الاستنجاء بشيء نجس؛ لأن النجاسة لا تزال بنجس.
ولذا قال بعض العلماء: لم يكتفِ النبي صلى الله عليه وسلم بحجرين، بل طلب الثالث، وقال ابن حزم: لابد من الأحجار الثلاثة لثلاث مسحات.
والله تعالى أعلم.
[وزاد أحمد والدارقطني: (ائتني بغيرها) ] .
يعني: لم يكتف بالحجرين، بل طلب حجراً ثالثاً.
[وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يستنجى بعظم أو روث، وقال: إنهما لا يطهران) رواه الدارقطني وصححه] .
أما العظم فلأنه أملس، وأما الروث فلأنه نجس، فلا يصح واحد منهما أن يستعمل في الاستنجاء، وهما لا يطهران، وعلى هذا لا يجوز الاستجمار بالعظم ولا بالروث، ويزاد على ذلك أيضاً العلة التي ذكرها العلماء في أنها طعام للجن ودوابهم.
والله تعالى أعلم.(28/16)
كتاب الطهارة - باب قضاء الحاجة [4]
إن ديننا الإسلامي الحنيف دعا إلى النظافة والطهارة، وجعل لذلك آداباً يلتزم المؤمن بها، منها ما هو واجب ومنها ما هو مستحب، ومن ذلك: الاستنزاه من البول، وتنقية المكان من نجاسة البول والغائط، والجمع بين الحجارة والماء لأجل طهارة المحل ونظافته، ولا يعني ذلك أن يبالغ العبد حتى يصل إلى الوسوسة والشك، فإن هذا مذموم في الشرع، ومنهي عنه.(29/1)
وجوب التنزه من البول
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه) رواه الدارقطني] .
الاستنزاه من البول ومن جميع النجاسات واجب سواء كان للصلاة أو غيرها، والبعض يقول: الوجوب فيه من أجل الطهارة للصلاة، والجمهور على أن الواجب الاستنزاه من القذارات ولو لم تكن نجسة، ثم يجب التجنب لكل النجاسات قال تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] كما قيل في بعض أوجه التفسير في هذا اللفظ الكريم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (استنزهوا) أخذ منه العلماء أن البول نجس ينبغي التنزه عنه، وكيف يكون التنزه من البول؟ قالوا: بعدم مخالطته.
وفي بعض الروايات: (استبرئوا من البول) كما في حديث عذاب القبر لرجلين، الذي جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه مر بقبرين فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير؛ ثم قال: بلى إنه لكبير! أما أحدهما فكان لا يستتر -وفي رواية: فكان لا يستنزه، وفي رواية: فكان لا يستبرئ- من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة بين الناس) .
، وهذا الحديث أطال الشوكاني في شرحه في نيل الأوطار.
: (استتروا من البول أو استنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه) .
(عامة) من ألفاظ العموم، وبعضهم يقول: فإن عذاب القبر منه، وقالوا: مناسبة عذاب القبر من البول ليس في ذاته، فإنه لم يترتب العذاب على عدم التنزه من البول أو الاستبراء من البول، ولكن لأنه يؤدي الصلاة وهو على تلك الحالة، والصلاة يشترط فيها طهارة البدن والثوب والمكان، فهو حينئذ إذا لم يستنزه من البول وصلى سيكون فاقد شرط صحة الصلاة، فتكون الصلاة باطلة، ومن بطلت صلاته كان هذا مصيره، وسيأتي زيادة الإيضاح لذلك بعد الحديث الآتي إن شاء الله.(29/2)
الأدلة الواردة في إثبات عذاب القبر
وهنا موضوع أساسي، وإن كان ليس من آداب قضاء الحاجة، ولكنه من لازم هذا الحديث، ألا وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن عامة عذاب القبر منه) فهذا الحديث نص صريح في وجود عذاب القبر، وهناك من أنكر ذلك كالمعتزلة ومن نحا نحوهم، ولكن الجمهور يثبتون عذاب القبر لنصوص متعددة منها هذا الحديث، ومنها قول المرأة اليهودية التي كانت عند عائشة رضي الله تعالى عنها وأكرمتها، فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر، فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم قالت:: (إن فلانة اليهودية قالت لي كذا، أيعذب الناس في قبورهم؟ قال: بلى يا عائشة) .
وكذلك الحديث الذي جاء في البكاء على الميت: (إن الميت ليعذب في قبره ببكاء أهله عليه) هذا حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، وعائشة رضي الله تعالى عنها لما سمعت ذلك قالت: (رحم الله أبا عبد الرحمن، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة يهودية ماتت، وهم يبكون عليها: إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها) أي: لكونها يهودية.
ومهما يكن من شيء فقد ثبت عذاب القبر كما ثبت نعيمه، وذلك في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (القبر إما حفرة من حفر النار وإما روضة من رياض الجنة، وإذا أسند العبد في قبره -أي: بعد السؤال- فالمؤمن أول ما يفتح له باب من النار، ويقال له: كان هذا مقعدك لو لم تكن مؤمناً، ثم يسد عنه ويفتح له باب من الجنة، ويقال له: ذاك مقعدك يوم القيامة، فالكافر يقول: رب! لا تقم الساعة.
والمؤمن يقول: يا رب! أقم الساعة أقم الساعة) .
وسمعت من والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: من العلماء من استدل على عذاب القبر من كتاب الله في حق آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} يعني: قبل أن تقوم الساعة {غُدُوًّا وَعَشِيًّا} أي: صباحاً ومساءً، إذاً: هذا استنتاج من كتاب الله يثبت وجود عذاب القبر لأصحابه غدواً وعشياً، ثم يكون لهم يوم القيامة شيئاً آخر.(29/3)
عذاب البرزخ ونعيمه وتعلقه بالبدن أو الروح
وهنا بحث طويل -بالنتيجة فيه والله تعالى أعلم- وهو: هل عذاب القبر للجسم وقد فني وصار تراباً أم أنه للروح، أو للروح مع الجسم؟ ليس هناك نتيجة قطعية، لأن عالم البرزخ عالم غيب، ولا يستطيع عقل البشر أن يتصور حقيقة عالم البرزخ، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم من الأخبار الأمر العجيب، جاء في حق نبي الله موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به مر عليه وهو قائم في قبره يصلي، ثم لما وصل بيت المقدس فإذا هو مع الأنبياء في استقباله، ثم لما عرج به صلى الله عليه وسلم فإذا به في السماء السادسة، فإذاً موضوع البرزخ أمر لا يعلم حقيقته إلا الله.
وجاء في حق الشهداء: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] وأجسامهم في الأرض مدفونة، وقدمنا ما ثبت في حق شهداء أحد لما دفنوا في أرض المعركة على ما هو الأصل والسنة في ذلك: أن شهداء المعركة يدفنون في موطن مصرعهم ولا ينقلون، ولكن جاء سيل وجرف بعض القبور من شهداء أحد، منهم سيد الشهداء عم الرسول صلى الله عليه وسلم حمزة؛ فنقلوه من مجرى السيل إلى الربوة المرتفعة التي هو فيها الآن، يقول مالك: لما جرف السيل الأرض عن قبورهم وجدوا أجسادهم طرية كأنهم دفنوا بالأمس، وذلك بعد أربعين سنة من دفنهم، فهذه حالة لا يمكن للإنسان أن يتصورها بعقله.
وذكرت لكم القصة التي ذكرها لي بعض أعضاء الهيئة الذين كانوا في منطقة أحد، قالوا: توفيت لنا طفلة، فتباطأنا أن نذهب بها إلى البقيع، وقلنا: ندفنها هنا في مقبرة الشهداء، فذهب أبوها ليحفر لها في مقبرة الشهداء، فما لبث أن واجهه الدم في وجهه، فألقى بالمسحاة وتحسس، فإذا المسحاة قد مست فخذ رجل، وتطاير منه الدم على وجهه، نحن إذا قلنا: إنهم أحياء وهم في هذا التراب مقبورين، كيف نتصور حياة لهؤلاء؟ بماذا يتغذون؟ وكيف يتنفسون؟ لكن هم أحياء عند ربهم يرزقون، كيف يرزقهم؟ هذا شيء لا دخل لنا فيه، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم في الوصال في الصوم أنه قال: (لست كأحدكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقين) وقالوا: لو كان يطعمه ويسقيه كما نطعم نحن ونشرب لم يكن هذا صياماً، ولكن (عند ربي) والله سبحانه وتعالى أعلم بكيفية إطعامه وسقيه وهو في الحياة بين أظهرنا، فكيف يكون الحال في موضوع القبر؟!(29/4)
تحقيق الخلاف في طهارة أبوال وأرواث مأكول اللحم
الرسول صلى الله عليه وسلم ينص هنا ويأمرنا ويرشدنا: (استنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه) والحديث الآخر: (أما أحدهما فكان لا يستتر من البول -واللفظ الآخر: من بوله-) فأخذ بعض العلماء كلمة: (من البول) على عمومها، وجعل كل بول من كل حيوان يجب أن نستنزه منه، والبعض أخذ هذا العام وخصصه بالخاص وهو لفظ (بوله) أي: بول الإنسان.
ثم قسموا بول الحيوان إلى قسمين: ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل لحمه، فما لا يؤكل لحمه فبوله نجس عند الجميع، وما يؤكل لحمه فبوله طاهر عند مالك وعند أحمد، وقال الشافعي وأبو حنيفة: بوله أيضاً نجس كعامة الأبوال.
والذين قالوا بطهارة بول مأكول اللحم قالوا بأنه جاءت نصوص تؤيد هذا، منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء العرنيون واجتووا المدينة ومرضوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يذهبوا مع رعاة إبل الصدقة، فيكونوا معهم في البادية، وليشربوا من ألبان الإبل ويغتسلوا من أبوالها، وكذلك الأمر (صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في معاطن الإبل) وإذا صلوا في مرابض الغنم، وفيها أبوالها وأبعرتها، فيكون قد صلى في موطن فيه بول مأكول اللحم، فإذاً: أبوالها طاهرة.
والشافعي -كما أشرنا- يعتمد على عموم الأمر بالتنزه من البول على أن (ال) للاستغراق فهي تستغرق جميع البول.
وبعض العلماء يقول: (ال) هنا للعهد، أي: عهد الإنسان المخاطب، وهذا لعله الأرجح، والله تعالى أعلم.(29/5)
وجوب ارتياد المكان الصالح للبول
وهناك أدب من آداب التخلي يساعد على الاستنزاه من البول، وهو ارتياد مكان البول، فمثلاً يقولون: من المواطن التي نهي عن البول فيها تحت الشجر المثمر، أو في ظل الناس، وموارد المياه، فهذه الأماكن نهى صلى الله عليه وسلم أن يقضي الإنسان حاجته فيها؛ لما فيه من مضرة للناس، وكذلك قارعة الطريق للحديث: (اتقوا الملاعن الثلاث) إلخ.
ويقولون أيضاً: مما نهي عن البول فيه لحكم عديدة الجحر، فإذا وجدت جحراً في الأرض فلا تبل فيه؛ لأنه جاء في تفسير بعض الروايات أنها مساكن الجن، أو مأوى الحشرات، فإذا كان الجحر فيه ثعبان أو حشرة مؤذية وأحست ببول الإنسان فإنها تبادر بالخروج، وحينئذ يفزع منه، وربما أصابه من بوله في حالة الفزع.
كذلك المكان الصلب، لا ينبغي للإنسان أن يبول فيه؛ لأن الأرض الصلبة ترد رذاذ البول على الإنسان، بل ينبغي أن يرتاد لبوله مكاناً رخواً مثل الرمل والتراب، ومثل هذه الأشياء اللينة؛ فإنها تتشرب البول ولا ترده على صاحبه.
ومما يذكرون في باب طلب العلم: أن إنساناً توجه إلى طلب العلم وهو كبير السن، وكان قد كف بصره، فحضر مجلس علم ولم يستوعب كل ما قيل، فأخذ على نفسه عهداً أن يذهب ويحضر في مجلس العلم، وإذا استوعب مسألة اكتفى بها ورجع، هكذا يقولون، وكان معه ولده يقوده من بيته إلى مقر التعليم، وكان من قرية والمعلم الذي يتعلم عنده في قرية أخرى، فخرج مرة ثم احتاج أن يبول، فجلس وكان مجلسه وهو لا يرى على مكان صلب، فأحس برذاذ البول يرجع عليه، فلما انتهى قام وجاء قافلاً إلى بيته، فقال ولده: لماذا لا تذهب إلى مجلس العلم؟ قال: إني عاهدت نفسي أن أكتفي بفائدة واحدة في كل ليلة، وقد استفدت هذه الليلة.
قال: ماذا استفدت؟ قال: استفدت أني لا أريق البول على أرض صلبة؛ لأن ذلك يعكس رذاذ البول على الإنسان.
وجاء راجعاً!! وكذلك لا يستقبل بالبول مكاناً مرتفعاً؛ لأن المكان المرتفع يجعل البول يسيل عليه، فإذا كان مستتراً بثوبه فقد يصيبه من هذا البول النازل.
فإذاً: يتجنب الإنسان مواضع أو هيئات لا يمكن أن يستنزه من البول فيها، أو أن يصيبه من بوله إذا فعل شيئاً من ذلك، وهكذا يرشدنا صلى الله عليه وسلم إلى الاستنزاه من البول، ويخبرنا بأن عامة عذاب القبر منه.
والله تعالى أعلم.
[وللحاكم: (أكثر عذاب القبر من البول) وهو صحيح الإسناد] .
وهذه الزيادة تبين كلمة (عامة) فإنها قد تكون للشمول وقد تكون للمبالغة، وجاءت كلمة (أكثر) تبين المقصود، ولماذا كان أكثر؟ قالوا: لأن بعض الناس ربما يتساهلون في ذلك.
ومن هنا -أيها الإخوة- نعلم بأن عادات بعض الشعوب -وخاصة في الآونة المتأخرة عند من غلبتهم عادات وتقاليد ما يسمى بالحضارة فإنهم قد لا يتنزهون من البول، وقد يريق أحدهم بوله قائماً في مكان معين لذلك، ولا يستنزه منه؛ أي: لا يغتسل ولا ينشفه بمنديل ولا ورق ولا شيء، ويكتفي بأنه أراق بوله ثم ذهب! والإسلام يأتي بهذه التعليمات ويحث على النزاهة أو الاستنزاه من البول لقذارته ولنجاسته في وقت واحد.
فإذاً: أكثر عذاب القبر من البول مع رواية: (عامة عذاب القبر من البول) يدل على شدة خطره ووجوب التنزه منه.(29/6)
تفريق الشرع بين المتساويات لحكمة
وتقدم لنا في باب إزالة النجاسة استثناء بعض الأبوال للآدميين، وهو حديث أبي السمح: (يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام) فليس معنى (يرش من بول الغلام) ألا يتعرض الإنسان إليه أو أن يتركه، ولكن من العلماء من قال: بول الغلام كبول الجارية نجس، ولكن في تطهيره تخفيف على بول الجارية، ولكن بعض المتأخرين كـ المتولي من الشافعية ذكر علة في ذلك وقال: إن طبيعة بول الجارية أشد كثافة من بول الغلام؛ لأن عنصر الأنوثة زائد في بول الجارية، يؤثر عليه أكثر من عنصر الذكورة في بول الغلام، فيكتفى في بول الغلام برشه فيزيل نجاسته؛ لأنها أخف من نجاسة بول الجارية، فيغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام.
وقال بعض الناس: إنكم تفرقون بين متساويين، وهذا لا يجوز.
فقيل لهم: الشرع هو الذي فرق وليس هذا من عندنا، فإذا كان الأمر كذلك ورجعنا إلى الأصل فإنهما ليسا متساويين، بل هناك فرق بينهما، وقد وجدنا تفريق الإسلام بين المتساويين فعلاً في غير هذا الموطن، كما في الحديث: (أحلت لنا ميتتان ودمان ... ) فذكر الكبد والطحال وهو دم، ولكنه دم حلال، وغيره دم نجس حرام.
إذاً إذا جاء الشرع بتفريق بين متساويين في نظرنا أو في علمنا فنأخذ بما جاء عن الحكيم العليم سبحانه، أو عنه صلى الله عليه وسلم فهو لا ينطق عن الهوى، وألغينا ما نتصوره نحن من أن ذلك لا يجوز عقلاً؛ لأن الشرع لا يخضع للعقل في الحكمة أو في حقائق الأمور، والله تعالى أعلم.
قوله: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، بلى! إنه لكبير) يذكر العلماء في هذا النص أنه جاء منه السلب والإيجاب في مكان واحد، فنفى أن يكون تعذيبهما من كبير، ثم أثبت أنه كبير كيف يكون ذلك؟ فقالوا: كبير وليس كبير مع اختلاف الجهة، وانفكاك الجهة ينفي التعارض، كما قالوا: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة وصلى فيها) وجاءت رواية: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة ولم يصل فيها) فهذان حديثان متغايران إثباتاً ونفياً، فإذا اختلف الزمان أو المكان فهنا ينتفي التعارض، فقالوا: نعم، دخل عام الفتح ولم يصل، ودخل في حجة الوداع فصلى، فالذي ذكر عدم الصلاة مع الدخول أراد وقتاً معيناً، والذي قال: دخل وصلى.
أراد وقتاً آخر، فلا مانع من أن يدخل في وقت من الأوقات ولم يصل، ويدخل في وقت آخر ويصلي، ولا يكون هناك تعارض في الأخبار.
وهنا قوله: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير) فقوله: (بلى إنه كبير) أي: بالنسبة لحكمه عند الله، وقوله: (وما يعذبان في كبير) أي: بالنسبة للإنسان من حيث إمكان التحرز منه؛ لأن الاستتار والاستنزاه والتحفظ من البول هذا ليس بكبير على الإنسان، بل إنه ميسر له، وفي إمكانه أن يستتر ويستبرئ، وليس في ذلك كبير مشقة عليه.
إذاً: (وما يعذبان في كبير) أي: لا يشق على المكلف أن يفعله.
(بلى إنه لكبير) أي: كبير عند الله {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15] ، فالمعنى: ليس بكبير بالنسبة للمكلف، وإنه لكبير عند الله، إذاً ليس هناك تعارض بين إثبات أنه كبير وبين نفي أن يكون كبيراً؛ لأن نفي أن يكون كبيراً بالنسبة للإنسان؛ من حيث أنه يمكنه أن يتحفظ منه دون مشقة عليه، ولكنه من جهة أخرى عند الله كبير؛ لأن الله طيب ولا يقبل إلا ما كان طيباً، وإن الله جميل يحب الجمال، والصلاة من شرطها الأساسي الطهارة فهو يقف بين يدي الله، وهي عماد الدين، ويترتب عليها صحة الصلاة؛ إذاً: يكون أمره كبيراً.
قوله: (والآخر كان يمشي بالنميمة بين الناس) النميمة: من نم ينم، والنماء الزيادة، والنمام -عافانا الله وإياكم- يسمع الكلمة وينمها -أي: يزيدها- وينقلها إلى الآخرين، وهذا من أخطر ما يكون من أدواء المجتمعات وأمراضها، وكم يوقع من الفتن! ولهذا عظم الله أمر النميمة، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أنها من أسباب عذاب القبر؛ لما يترتب عليها من المفاسد وقطيعة الأرحام، ومن إفساد ما بين الأخوين أو الزوجين أو الولد وأبيه.
وهناك أشخاص -عافانا الله وإياكم- لا يطيب لهم الحديث إلا أن ينموا بين الناس، ويقول بعض العلماء: النميمة من الكبائر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رتب عليها العذاب.(29/7)
كيفية القعود في الخلاء
[وعن سراقة بن مالك رضي الله عنه قال: (علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخلاء أن نقعد على اليسرى وننصب اليمنى) رواه البيهقي بسند ضعيف] .
هذا الحديث وإن كان سنده ضعيفاً إلا أن معناه صحيح.
تعلمون سراقة وقصته في الهجرة، فهو الذي لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وساخت فرسه في الأرض، وطلب الأمان.
إلخ، وهو هنا يخبر بأن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم هذا الأدب وتقدم الأثر بأنه صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا كالوالد لكم أعلمكم: لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها بغائط ولا بول ولكن شرقوا أو غربوا) فمن شفقته صلى الله عليه وسلم بالأمة أنه يعلمها كل ما ينفعها، وقد تقدم معنا في حديث سلمان الذي فيه ذكر آداب الخلاء، وكذا كما في حديث سراقة هنا.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا جلس أحدكم في الخلاء فليجلس على رجله اليسرى ولينصب اليمنى) معناه: أن يجعل القدم من الأرض معتدلة كما لو كان واقفاً، وينصب قدم الرجل اليمنى ويكون مستنداً على رءوس أصابعها، فلا يمكن قدم الرجل اليمنى من الأرض كما يمكن اليسرى، واليسرى تكون متمكنة من الأرض كما لو كان يمشي، والرجل اليمنى تكون القدم فيها مرتفعة، ويستند على رءوس أصابع القدم.(29/8)
الحكمة في القعود على الرجل اليسرى ونصب اليمنى عند التغوط
قوله: (أن ننصب اليمنى، ونقعد على اليسرى) .
يقول العلماء: ما السبب في هذا؟ فأجاب بعض العلماء بأن هذا أمر شكلي؛ تكريماً لليمنى أن تكون متمكنة من الأرض كاليسرى في تلك الجلسة.
والآخرون قالوا: هناك حكمة خلقية في خلقة الإنسان، وهي: أن هذا الجلوس يساعد على خروج الفضلات، ويقول الأطباء: بأن المستقيم الذي يخرج الفضلات إلى الخارج يأتي من جهة اليسار، فإذا ما نصب اليمنى وجلس على اليسرى سيميل -بطبيعة الحال- بارتفاع اليمنى إلى جهة اليسار، فيكون بميلانه إلى اليسار ويده منضمة هكذا بمثابة من يعتصر المستقيم ليساعد على خروج الخارج بيسر، وخاصة إذا كان هناك إمساك فإن هذه الهيئة على هذا الوضع تسهل عملية التبرز، وتساعد على إخراج ما في الجسم من فضلات، ويكون ذلك من تعاليم النبي صلى الله عليه وسلم، ومنه فرق بين اليمنى واليسرى.
ويقول بعض المستحدثين: كيف للنبي صلى الله عليه وسلم أن يرى ذلك أو يعلم ذلك في تشريح الإنسان أو في وضع أعضائه الداخلية؟ وذكر في مواطن أخرى الأمور الخارجية كقوله: (كل سلامى من ابن آدم كل يوم عليه صدقة) وقالوا: ثلاثمائة وستون مفصلاً في الإنسان كيف عدها؟! إذاً علم التشريح يبين تلك المواضع والوظائف.
وهذا عالم بحار غربي أسلم بسبب ما جاء في القرآن الكريم على صفة البحر {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:40] ووجد ذلك فعلاً في البحر الأسود، وهو أشد البحار أمواجاً وخطورة، ولما سمع الآية قال: عجيب! محمد لم يخرج من الجزيرة، ولم يركب البحر، ولم يزاول أعمال البحارة، كيف استطاع أن يصف هذا الوصف؟! لابد أن يكون ذلك بوحي من الله؛ إذاً: هذا دين صحيح، وهذا رسول صادق.
فأسلم لهذه الآية الكريمة.
فكذلك كثير من المسيحيين الذين سلموا من التعصب، أو طلبوا العلم والحقيقة بذاتها، كثيراً ما يتأملون في بعض الأحاديث فيما يتعلق بالإنسان في تركيبه أو تكوينه إلى غير ذلك، فيهديهم الله سبحانه وتعالى ببعض هذه النصوص إلى الإسلام وإلى حقيقته.
وهاهنا عملية بسيطة علمنا فيها رسول الله إذا جلسنا إلى الخلاء أن نجلس على اليسرى وأن ننصب اليمنى، هذا إذا أمكن للإنسان، أما إذا كان شخصاً مريضاً أو بديناً لا يستطيع أن يجلس على رجل واحدة، فلا يستطيع أن يجلس على هذه الحالة، فلا نقول له: لابد من أن تفعل ذلك؛ لأن هذا يشق عليه، بل بقدر المستطاع ما دام أنه في مجرى التعليم، وأنه لأمر ترجع نتيجته إلى الإنسان في ذاته، والله سبحانه وتعالى أعلم.
بالمناسبة: ربما يقول إنسان: نحن المسلمين جاءت إلينا بعض المظاهر في الحياة عن غيرنا، كهذه المقاعد الإفرنجية، وهي فعلاً جاءتنا من الإفرنج، يجلس الشخص عليها جلوسه على الكرسي ويقضي حاجته، فلا يستطيع أن ينصب اليمنى ولا أن يجلس على اليسرى، بل إنه رافع لرجليه، فيكون هذا مخالفاً للسنة، فهو بدعة.
نقول: لا، إذا كان للإنسان بديل، ويصعب عليه الجلوس على بيت الخلاء العادي والقيام عنه، ولكن هذه التي وجدت -كما قيل- إفرنجية تساعد على قضاء حاجته برفق فلا بأس، فإذا كان الأمر كذلك فالإنسان ينظر ما يمكن أن يستريح به، وكيف يمكن أن يقضي حاجته على راحته، وأن يتمكن من أداء طهارته، سواءً كان على كرسي عربي أو على إفرنجي، أو كان في الخلاء، أو ينصب اليمنى أو يجلس عليهما، إنما ذلك من باب الأفضلية وليس بواجب، ولا يعاب على إنسان استعمل هذه المقاعد الأخرى؛ لأنه ربما يكون أيسر له، ويعجز أن يستعمل غيرها، والله تعالى أعلم.(29/9)
حديث النتر عند البول وكلام العلماء عليه
[قال: وعن عيسى بن يزداد عن أبيه رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاث مرات) رواه ابن ماجة بسند ضعيف] .
هذا أدب من الآداب، ولاحظوا هذا الترتيب فإن المؤلف دقيق جداً! فإنه ذكر لنا في حالة قضاء الحاجة أن نجلس على اليسرى وننصب اليمنى، وأن ذلك يساعد على إخراج الفضلات، ثم يعقبه بهذا الحديث -وإن كان ضعيفاً- (إذا بال أحدكم فلينتر ذكره) .
(ينتر) بمعنى: يحرك طرف ذكره؛ لكي يخرج ما يمكن أن يكون في قصبة الذكر من بقايا البول، ولكن لما كان هذا الحديث ضعيفاً، وهذا الفعل فيه تكلف ولسنا مكلفين به في شيء، ولا يكون نجساً تجب طهارته إلا إذا خرج عن خارج الجسم، وقبل أن يكون خارج الجسم فالمثانة تكون مليئة بالبول وهو قائم يصلي، فهذا داخل الجسم لا تكليف في ذلك، ولذا قالوا: إن المبالغة في نتر الذكر قد تؤدي إلى سلس البول، وعند التحقيق نجد أن سلس البول سببه ضعف العضلة العاصرة، فالعضلة العاصرة عند البول، والعضلة العاصرة عند الغائط وظيفتها أنها تمسك ولا تخرج شيئاً إلا بإعطاء تعليمات لها من المخ بأن ترتخي ليخرج البول أو الغائط، فهي تعتصر وتمنع أن ينزل من البول شيء إلا إذا استرخاها العقل وقال لها: اتركي الاعتصار ليخرج البول في طريقه، وكذلك العضلة العاصرة للغائط تمسك المخرج حتى لا يخرج شيء إلا عند إرادة ورغبة الإنسان.
وقالوا: إن استعمال نتر الذكر بكثرة قد يؤدي إلى ضعف تلك العضلة، فلا تقوى على الاعتصار، فيتفلت منها بعض قطرات البول، ويصبح مبتلى بالسلس.
ويقولون: إن بعض السلف كان يفعل ذلك، فأصيب بهذا فترة، وبعضهم سمع حديث: (استنزهوا من البول) فكان يأخذ زجاجة، وإذا دخل الخلاء يفرغ بوله في تلك الزجاجة، ثم إذا خرج تخلص منها، فقال له ولده بلطف: يا أبت! لماذا تفعل ذلك؟ قال: تحفظاً من البول قال: هل فعل ذلك رسول الله؟ قال: لا.
قال: هل فعل ذلك خلفاؤه الراشدون؟ قال: لا.
قال: هل فعله أحد من أصحابه الكرام؟ قال: لا.
قال: ألا يكفيك ما يكفيهم؟ قال: بلى -والله- وتركها وقال: الحمد لله الذي جعل هدايتي على يد ولدي.
فالمبالغة في هذه الأمور قد تزيد عن حدها، فالذي يتحفظ من البول ليستنزه منه فوق العادة قد يؤدي به ذلك إلى الوسوسة، ويخرجه عن حد الطاقة العادية، والذي ينتر ذكره ليخرج ما بقي هذه أيضاً قد يكون فيها مبالغة، ولكن إذا كان الإنسان مبتلى بالسلس وبقي شيء ولا يمكن أن يخرج إلا بهذا الأمر فلا بأس.
وهناك مسألة تتعلق بخروج المني بعد الغسل: إذا انفصل المني عن الصلب ولم يخرج إلى الخارج ثم خرج بعد الغسل، هل يعيد الغسل أم لا؟ فقوم قالوا: لا غسل عليه لأنه لم يخرج من الخارج.
وقوم قالوا: إذا تحرك من مكانه ففيه الغسل، ثم إذا خرج بعد ذلك هناك من يقول: يغتسل؛ لأنه خرج إلى الخارج.
وهناك من يقول: لا يغتسل؛ لأنه اغتسل منه من قبل.
ويتفقون على أن الإنسان بعد أن يخرج المني يستحسن له أن يريق البول؛ لأنه إذا كان في القصبة شيء من بقايا المني فإن البول يزيله، لا لأنه نجس يطهر محله؛ فالمني طاهر عند الجمهور، ولكن حتى لا يبقى في ذلك المكان، وربما يحصل التهاب في المكان الذي بقي فيه، وإذا جاء البول وأخرجه أخلى المحل من آثاره وسلم من آفاته.
فماذا تعمل المرأة، وليس عندها طريق في الاستنتار، إذاً الغرض من هذا أن يتأكد الإنسان قبل أن يقوم من مكانه بأن بوله قد انتهى، ولاسيما الذين أصيبوا بمرض (البروستاتا) فقد تضغط على الحالب، أو تجعل البول ينزل ببطء، فيظن أن البول قد انتهى، وإذا قام فإذا بشيء يسبقه.
إذاً: الغرض من أن ينتر الرجل ذكره هو التأكد من أنه قضى بوله وانتهى، وقد جاء في حديث الأعرابي: (لا تزرموه) أي: اتركوه لينزل البول بطبيعته.
وعلى كل: فالحديث سنده ضعيف، والجمهور لم يأخذوا به، والغرض منه التأكد من إنهاء عملية إراقة البول كاملة؛ حتى لا يبقى شيء في الطريق إذا قام وتحرك نزل عليه وعلى ثيابه، والله تعالى أعلم.(29/10)
مسألة الجمع بين الحجارة والماء حال الاستنجاء وكلام العلماء فيها
قال: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أهل قباء فقال: إن الله يثني عليكم.
فقالوا: إنا نتبع الحجارة الماء) رواه البزار بسند ضعيف، وأصله في أبي داود، وصححه ابن خزيمة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بدون ذكر الحجارة] .
هذا الحديث -يا إخوان- يأخذ حيزاً كبيراً، والأصل فيه قوله سبحانه وتعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108] والواقع أن تناول هذه الآية يرتبط بما قبلها فيما يتعلق بمسجد الضرار؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين فقال: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة:108] بخلاف مسجد الضرار فإنه أسس ليكون مأوى للذين يحاربون الله ورسوله، فهنا كانت مقارنة.
وقد جاء في قوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة:108] (أنه تشاحَّ رجلان قال أحدهما: هو مسجد قباء.
وقال الآخر: هو مسجد رسول الله.
فأتيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ من حصباء الأرض وضرب بها أرض المسجد، فقال: مسجدكم هذا، مسجدكم هذا (ثلاث مرات)) وهذه الآية نزلت في قباء قطعاً؛ لأنها في مقابلة مسجد الضرار، وبين سبحانه وتعالى أنه: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيه} [التوبة:108] فلما ذكر سبحانه مسجد الضرار، ومنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوم فيه أبداً، وجاء بالمسجد الآخر وقال: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة:108] فهو المراد بذلك.
وقوله: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة:108] هذه الأولية هل هي أولية زمنية أم أولية أفضلية؟ إن كانت أولية الزمنية فمسجد قباء بني قبل هذا المسجد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بناه قبل أن يصل إلى المدينة، وقبل أن يشرع في بناء هذا المسجد، وإن كان من الأولولية والأفضلية فمسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والواقع الذي ترتضيه العقول والنصوص أن المقارنة تصلح لكل مسجد على وجه الأرض أسس من أول يوم على تقوى، لأن هناك مساجد تقام للرياء والسمعة، كمن يبني مسجداً ليجعل له ضريحاً فيه، يكون المسجد وسيلة إلى أن يدفن في هذا المسجد، وكمن يبني مسجداً لأجل أن يغتصب الأرض، وقد تكون هناك عوامل أخرى، فمعنى: {أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة:108] : أنه ليس هناك دخل، وليس هناك غبن، وليس هناك غش ولا غرض آخر، فهو أحق من أن يقوم الإنسان في مسجد فيه شبهة أو تهمة مما يتجنب أمره، فهي عامة.
إذاً على هذا: سبب النزول -كما يقول علماء الأصول- قطعي الدخول في النص، وسبب النزول هو مسجد قباء، فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم وسألهم: (إن الله يثني عليكم -أي: في الطهارة- ماذا تفعلون؟) هناك تأتي بعض الروايات: (إنا نستنجي بالماء) وهناك الرواية المشهورة: (إنا نتبع الماء الحجارة) يعني: نستجمر بالحجارة أولاً ثم نغسل ونستنجي بالماء بعد ذلك، إذاً هذا هو السبب.
ولهذا قال العلماء: أيها أفضل: الاستجمار فقط بالحجارة أم الغسل بالماء فقط، أم الجمع بينهما؟ واتفقوا على أن الجمع بينهما أفضل.
وبعض العلماء يقول: لم ينقل لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل الحجارة والماء، ففي قضية تبوك حديث المغيرة: (ائتني بثلاثة أحجار) وحديث ابن مسعود: (فأتيته بحجرين وروثة) وحديث المغيرة: (ثم جاء فصببت على يديه فتوضأ) وكانت الإداوة مع المغيرة فقالوا: الرسول لم يجمع بين الحجارة والماء في حديث عرفناه.
والآخرون استدلوا بقوله: (إن الله يثني عليكم) فبينوا السبب في ثنائه عليهم ما هو، فقالوا: (نتبع الماء الحجارة) ولا شك أن استعمال طهورين أولى من استعمال طهور واحد، ولا شك أن الماء ينقي.
وقد قيل لبعض السلف: تستنجي بالماء؟ قال: إذاً تظل يدي منتنة؛ لأنه يباشر النجوى باليد في غسل الماء، وأما استعمال الحجارة فإن اليد لا تباشر النجاسة، فكان البعض يكره استعمال الماء؛ لأنه يباشر النجاسة بيده عند الغسل.
والبعض يقول: هذه طهارة، وينبغي استعمالها، واتفقوا على أن الجمع بين الطهورين أفضل، فيستجمر بالحجارة ولا يباشر النجوى بيده، ثم يغسل بالماء ما أبقت الحجارة في ذلك المحل، وهذا أخذاً من هذا الحديث: (إنا نتبع الماء الحجارة) يعني: نستعمل الحجارة أولاً بالاستجمار، ثم نتبع الاستجمار بالغسل بالماء، فنجمع بين الأمرين.
والله تعالى أعلم.(29/11)
كتاب الطهارة - باب الغسل وحكم الجنب [1]
ينبغي معرفة مدى اهتمام الإسلام بالمظهر العام للمسلمين، فقد شرع أنواعاً من الأعمال، منها ما هو واجب ومنها ما هو سنة، والرجال والنساء فيها على ااسواء، ومن تلك الأعمال الغسل لمن جامع، سواء أنزل أم لم ينزل، والغسل لمن أسلم، والغسل يوم الجمعة، وغيرها.(30/1)
شرح حديث: (الماء من الماء)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله تعالى:-[عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الماء من الماء) رواه مسلم، وأصله في البخاري] .
ذكر المؤلف رحمه الله باب الغسل، وأورد فيه عدة أحاديث، وبدأها بقوله عليه الصلاة والسلام: (الماء من الماء) ، فما المقصود بالحديث؟ قالوا: هذا من حسن الجناس في اللغة؛ لأن الماء الأول غير الماء الثاني، فالماء الأول هو: الماء المعهود للشرب والغسل، وأما الماء الثاني فالمقصود به المني.
والمعنى: أن استعمال الماء -للغسل- يكون من الماء الذي يخرج من الرجل، ومفهوم المخالفة: إذا لم ينزل المني فلا يجب الغسل، وسيأتي الجمع بين هذا الحديث وبين حديث: (إذا جلس بين شعبها) ، فلو أن إنساناً أتى أهله فأكسل -لم ينزل- فهل يجب عليه الغسل؟ إذا نظرنا إلى رواية أبي سعيد: (الماء من الماء) ، فهذا النص بهذا اللفظ لا يمنع أن يكون الماء من شيء آخر، لكن جاء الحديث بالحصر: (إنما الماء من الماء) ، والحصر كما يقولون: يحصر المبتدأ في خبره، فإذا قيل: إنما الماء من الماء، فلا غسل إلا لنزول المني فقط، لكن: (الماء من الماء) بدون حصر معناه: أن الغسل قد يكون من غير النزول كالجماع بدون إنزال مثلاً، وهناك من يقول: من أتى أهله فأكسل -لم ينزل المني- فلا غسل عليه.
وسبب هذا الحديث: أن أحد الصحابة كان على بطن زوجه، فناداه النبي صلى الله عليه وسلم، فأعجل وقام ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن اغتسل، فاعتذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب تأخره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا عليك، إنما الماء من الماء) ، ما دمت أعجلت عليها ولم تنزل، فلا غسل عليك، لأن الغسل لا يجب إلا مع النزول، وإنما عليك أن تغسل فرجك، فأخذ بعض العلماء من هذا أن من جامع ولم ينزل فلا غسل عليه.
ثم جاء الحديث الآخر: (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل) ، قال بعضهم: الشعب كناية عن اليدين والرجلين، وذلك كناية عن الجماع، وأكد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم جهدها) والجهد من الجهد، وهو: الطاقة؛ لأن المرأة تبذل جهداً، أو أن الرجل يحملها جهداً في هذه العملية، وذكر ابن دقيق العيد أن من معاني الجهد لغة: النكاح، فقوله: (ثم جهدها) بمعنى: وطئها.
وجاء في حديث آخر: (إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، أنزل أو لم ينزل) .
وجاء أيضاًَ: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم -قبل الحجاب- وعائشة جالسة فقال: إني لآتي أهلي وأكسل -لا أنزل المني- أعلي غسل؟ فقال: إني أفعله أنا وهذه ونغتسل) .(30/2)
الراجح في مسألة حكم الغسل لمن جامع ولم ينزل
والتحقيق عند العلماء أن من جامع ولم ينزل فعليه غسل.
وجاء أن بعض الصحابة كان يقول: من جامع ولم ينزل فلا غسل عليه،.
وقال آخرون: عليه الغسل، فاختلفوا بين يدي عمر، فجاء علي رضي الله تعالى عنه فسأله عمر: ما تقول أنت؟ قال: وعلام تسألني وبجوارك أمهات المؤمنين؟! فأرسل إليهن فسلهن فإنهن أعلم بذلك منا.
وهذا من ضمن ما يذكره العلماء من حكمة تعدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنهن ينقلن عنه بعض تصرفاته الخاصة مما يستفاد منها في التشريع، فأرسل عمر لـ أم سلمة رضي الله تعالى عنها فقالت: سلوا عائشة فإنها أعلم بذلك مني، فذهبوا وسألوا عائشة رضي الله عنها فقالت: (إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل) ، وفي بعض الروايات أن بعض أقاربها سألها وكان غلاماً: الرجل يجامع أهله ولم ينزل؟ قالت: مثله كمثل الفروج؛ سمع الديكة تصيح فصاح، يا ابن أختي! إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل.
فلما جاء رسول عمر رضي الله تعالى عنه ونقل له حديث أم المؤمنين عائشة: (أنه إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل) ومعناه: ولو لم يحصل إنزال، فقال عمر: لا أسمع بأحد يقول: لا غسل إلا من إنزال، إلا جعلته مثلة لغيره، فجاء أبي بن كعب فقال: لا تعجل يا أمير المؤمنين: كان في بادئ الأمر رخصة لنا، ولا غسل إلا لمن أنزل، ومن جامع ولم ينزل فلا غسل عليه، ثم عزم علينا.
وكذلك في الخبر الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكره في بعض الروايات: (أفعله أنا وهذه ولا نغتسل، قال الراوي: ثم عزم علينا بعد ذلك) ، وجاء: (أفعله أنا وهذه ونغتسل) .
ومن هنا نعلم: أن بعض المسائل قد تخفى على بعض الصحابة، مما تعم بها البلوى كما يقال؛ لأنها قضية بين الزوجين، وتحدث في كل ليلة، وفي كل ظهيرة، وفي كل وقت، ليس فيها تحديد زمان، ومع ذلك حكمها يخفى على بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
إذاً: مع طول الوقت ووجود الخلاف ووجود التساؤل تبلورت المسائل، وما كان مختلفاً فيه أو متجاهلاً أمره على البعض تمت معرفته؛ ولذا نجد هذه المسائل التي تسمى: بالمذهب ما جاءت عفواً، ولا قام بها الإمام في المذهب وأملاها على الناس، ولكن جزئيات وأحداث ووقائع تقع وينظر فيها الإمام على مقتضى النصوص السابقة التي وصلته، ويصدر رأيه وفتواه فيها، فتجمع ثم يأتي أصحابه وأتباعه من بعده، وتأتي أحداث وتأتي وقائع فينظرون فيها على مقتضى قواعد إمامهم وما تقدم له، وعلى أسس فتواه في نظائرها، فيضمون الأشباه والنظائر إلى أن اكتمل المذهب؛ وهو من عمل الإمام ومن عمل أتباعه وأصحابه، وتكون من المجموع مذهب فلان، من فعله وفعل تلاميذه وأتباعه.
فهل قضية مثل هذه يختلفون فيها؟ نعم، ولا مانع، وعمر يتوقف ويسأل علياً، ويسأل أمهات المؤمنين، فيخبره أبي بأن ذلك الأمر كان في بادئ الأمر رخصة ثم عزم علينا.
إذاً: انتهى الخلاف في هذه القضية بذلك المجلس العلمي الذي ترأسه أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه، وبنوا رأيهم وحكمهم على ما أتاهم من أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، وانتهى الأمر بوجوب الغسل.(30/3)
حجة القائلين بعدم نسخ حديث: (الماء من الماء)
حديث: (الماء من الماء) ، هناك من يقول: قد نسخ بحديث: (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل) .
، والصحيح أنه ليس منسوخاً؛ والمؤلف أدرك ذلك؛ ولذا جاء بحديث المرأة التي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل على المرأة غسل إن هي احتلمت؟ فقال: نعم، إذا رأت الماء) .
إذاً: للمرأة ماء، وللرجل ماء، وكانت أم سلمة موجودة فغطت وجهها وقالت: فضحت النساء، وهل المرأة تحتلم؟! استنكرت ذلك؛ لأنها ما احتلمت ولم تسمع بأن المرأة تحتلم، ولكن وجد ذلك من عدد من الصحابيات رضوان الله تعالى عليهن، وفي بعض الروايات: (النساء شقائق الرجال) ، يعني: يجري على النساء في المنام ما يجري على الرجال، فقال: (نعم، تغتسل إن هي رأت الماء) ، لا لمجرد الاحتلام بل لرؤية الماء.
وهل قوله: (رأت) رؤية علم إذا أحست بخروج الماء؟ قالوا: رؤية المرأة للماء لا يتعين خروجه؛ لأن ماءها يجد مكاناً يكمن فيه ولا يبرز إلى الخارج، فإذا أدركت أنه خرج ماؤها وانفصل عن مكانه ولو لم يبرز إلى الخارج فعليها غسل، بخلاف الرجل فإذا جاوز ماء الرجل مكانه فليس عنده مكان في الداخل يكمن فيه، بل يخرج إلى الخارج حالاً.
وهكذا حديث: (إذا رأت المرأة ما يرى الرجل) ليس هناك جلوس بين الشعب، وليس هناك جهد، وليس هناك مجاوزة ختان لختان، ولكن شيء في المنام رأته تسبب في خروج الماء، فعليها غسل، وسيأتي تتمة الحديث.
إذاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (الماء من الماء) شمل المرأة؛ فالمرأة إذا رأت ماءها باحتلام أوبغيره فعليها الغسل مثل الرجل في ذلك.
إذاً: حديث: (إنما الماء من الماء) لا يصح ادعاء نسخه؛ لأنه يبقى معمول به في غير الجماع؛ وهو الاحتلام، سواء كان للرجل أو كان للمرأة.
وبالمناسبة يقولون: إذا رأى الرجل المني في ثوبه ولم يذكر احتلاماً، فيغتسل لقوله: (الماء من الماء) ، وقد وقع لأمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه أنه بعد أن صلى الصبح ذهب إلى الجرف، وبعد أن طلعت الشمس وجد في إزاره المني، فقال: ما أراني صليت الصبح إلا وأنا جنب.
وفي بعض الروايات قال: لما أصبنا الودك لانت العروق وجرى الماء؛ لأنه في عام الرمادة آلى على نفسه ألا يأكل دهناً ولا يأكل لحماً حتى يأكل ذلك كل المسلمين؛ فلما أخصبت الأرض وعادت الأمور إلى مجاريها وأكل، قال: فلما أصبنا الودك- والودك هو: الشحم المذاب- لا نت العروق - كانت يابسة - فجرى الماء، فغسل إزاره وأعاد صلاته، ولم يأمر الناس الذين صلى بهم أن يعيدوا صلاتهم.
ومن هذا أخذ العلماء: أن الصلاة إذا وقع فيها شيء من جانب الطهارة والنجاسة فخرج وقتها فلا إعادة.(30/4)
هل صلاة الإمام مرتبطة بصلاة المأموم أم أن كلاً منهما صلاته مستقلة؟
ابن عبد البر يتساءل في التمهيد: هل صلاة المأموم مرتبطة بصلاة الإمام صحة وبطلاناً، أم أن كلاً منهما صلاته مستقلة عن الآخر؟ رجح أن كلاً منهما صلاته مستقلة عن الآخر؛ بدليل: أن الإمام لو نابه شيء في الإمامة، وخرج من الصلاة فالمأمومون لا شيء عليهم، وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه: (كبر في صلاة من الصلوات، ثم أشار إليهم بيده أن امكثوا فذهب ثم رجع وعلى رأسه أثر الماء) .
أي: اغتسل- فعندما كبر كأنه كان قد وجب عليه غسل ونسي، وتذكر وكان الناس قد كبروا وراءه، فلما تبين أن تكبيرته التي وقعت واقتدى به الناس فيها غير صحيحة؛ ما بطلت تكبيرات المأمومين، وقال: مكانكم.
وبقوا على تكبيرة الإحرام السابقة قياماً حتى دخل فاغتسل فجاء وكبر لنفسه وأتم الصلاة.
إذاً: صلاة المأموم غير مرتبطة بصلاة الإمام في الطهارة صحة وبطلاناً.
وهذا لا يخلو من خلاف عند العلماء كما نعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: (الماء من الماء) وفي رواية أخرى: (إنما الماء من الماء) ، وبعضهم يقول: من أدوات الحصر تعريف الطرفين بأداة التعريف أل، وتعريف الطرفين يدل على الحصر، تقول: الشاعر زيد، فالمبتدأ المحلى بأل معرف، والخبر علم معرف، ومن أدوات الحصر، تقديم ما حقه التأخير، مثل قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] أصلها: نعبدك ونستعينك، فكاف الخطاب قدم وجيء معه (بإيا) لينطق بالكاف معه؛ لأنه لا ينطق به وحده، فلما قدم ما حقه التأخير بعد الفعل دل على الحصر: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] لا نعبد سواك، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] لا نستعين بغيرك وهكذا، فيتفق الأسلوب الأول مع الثاني إلا أنهم يقولون: أشد أدوات الحصر (إنما) لأنها بذاتها أداة مستقلة، وكذلك النفي والإثبات مثل: لا شاعر إلا زيد.
(لا) هذا نفي، و (إلا) إثبات، وهي أقوى من (إنما) لأنها جاءت في (لا إله إلا الله) فلا إله: نفي لجميع الآلهة، وإلا الله: إثبات للمولى سبحانه وتعالى.
إذاً: {الماء من الماء} ، كان في أول الزمن رخصة، والمعنى: لا ماء -غسل- من جماع دون إنزال، ثم عزم عليهم وأصبح الحديث خاصاً بالاحتلام إذا خرج الماء، والله تعالى أعلم.(30/5)
شرح حديث: (المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل)
قال رحمه الله: [وعن أنس رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -في المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل- قال: تغتسل) متفق عليه.
زاد مسلم: (فقالت أم سلمة: وهل يكون هذا؟ قال: نعم.
فمن أين يكون الشبه؟) ] أنس رضي الله تعالى عنه اختصر الحديث، ومن هي المرأة؟
أم سليم بنت أبي طلحة، وكانت أم سليم وأبو طلحة بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كالأهل، وكان كثيراً ما يرتاد بيتها، وقال في بعض مجيئه: (يا أبا عمير ما فعل النغير؟) وأبو عمير أخو أنس، فكان الرسول يغشاهم بكثرة، ولهم أخبار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت أم سليم تصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته، وفي حنين جاء أبو طلحة وقال: (يا رسول الله! أم سليم معها خنجر! قال: (ما تفعلين به يا أم سليم؟! قالت: إذا جاءني كافر أبعج به بطنه) ، فكانت لها صلة بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأقول: لعله لتلك الصلة تجرأت وسألت مثل هذا السؤال، ولكن في روايات الحديث مقدمة لطيفة، وهي: أن أم سليم أتت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! إن الله لا يستحي من الحق، -كأنها تعتذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتسأل في أمر يستوجب الحياء، ولكن الله لا يستحي من الحق، والله يبين كثيراً من الحقوق من هذا القبيل بالكناية اللطيفة- هل على المرأة من غسل إن هي رأت ما يرى الرجل في منامها؟ فقال: نعم، إذا رأت الماء) ، وكانت أم سلمة رضي الله تعالى عنها حاضرة، فقيل: إنها غطت وجهها وقالت: فضحت النساء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل أنها قالت: أوتحتلم المرأة يا رسول الله؟! تستنكر سؤال أم سليم، والإنسان إذا لم يجرب الشيء أو لم يسمع به أو ما مر عليه يستنكره، كما جاء عن موسى عليه السلام كليم الله مع الخضر: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} [الكهف:68] ، شيء يجهله الإنسان قد لا يصبر عليه، فهي تعجبت وسألت، فبين لها صلى الله عليه وسلم فقال: (نعم، فمن أين يكون الشبه؟) أي شبه؟ شبه المولود من أبويه؛ لأن المولود لا يخرج عن دائرة الأبوين قرب أم بعد، ويقولون في علم الوراثة: إن الجنين إما أن يحمل خصائص الأبوين القريبين أو الأبوين البعيدين، وفي حديث صاحب الإبل لما رأى مغايرة في ولده، دخله الشك فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له (ألك إبل؟ قال: نعم.
قال: ما ألوانها؟ قال: حمر، قال: هل فيها جمل أورق؟ قال: نعم.
قال: من أين جاء؟ قال: لعله نزعه عرق، فقال صلى الله عليه وسلم -في ولده الذي اشتبه عليه-: لعله أيضاً نزعه عرق) أي: من أجداده أو أعمامه أو أخواله.
وعلى هذا يقولون في علم الأجنة: إن الحيوان المنوي على هيئة الدبوس، ويحمل جينات في مذنبه - يعني: مثل الجيوب -، وكل جينة فيها خصائص الوراثة من أبوي الطفل: من لونه ومن طبعه، ومن شجاعته أو جبنه، ومن كرمه أو بخله، إلى آخره.
فينشأ الإنسان من هذه الجينات فيشابه أحد الأبوين.
ومتى يكون شبهاً لأبيه أو لأمه؟ في الحديث: إذا غلب ماء الرجل ماء المرأة أشبه الولد الأب، يعني: حسب كثرة ماء الأبوين، والواقع: أن هذا كما يقولون من علم التشريح وعلم الأجنة، وهذه مجالات علمية حديثة لم تكتشف إلا متأخرة، والرسول صلى الله عليه وسلم عندما تكلم في ذلك لم يدخل مختبراً ولم يدخل معملاً، ولم يجر تجارب، وإنما كان ذلك وحي من الله، لا كما يقول بعض المتأخرين: إنها اجتهاديات منه صلى الله عليه وسلم لا تصدق.
نقول: لا، الاجتهاديات في أمور الدنيا، أما الإخبار فهذا وحي، وقد جاء مما يكون فيه الاجتهاد لما قال لهم: (علام تؤبرون النخل؟ قالوا: إذا لم نؤبره يشيص، فقال: إن كان الله كاتب لكم شيئاً من الرزق يأتي، فتركوه فجاء شيصاً، فقالوا: تركنا فحصرتنا، قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم مني) ؛ لأن الدنيا مبناها على التجارب، وكما قال الغزالي رحمه الله: العلوم أربعة: علوم عقلية، وعلوم تجريبية، وعلوم إلهية، وعلوم ظنية.
فالعلوم التجريبية: هي الطب، ولهذا كل أسبوع بل كل يوم يأتينا في الطب جديد، نتيجة للتجارب، وتسمعون وتقرءون: اكتشف كذا بسبب إجراء العلماء تجربة كذا، ولهذا يكون الطبيب الذي يقتصر على حمل شهادته مجمداً، والطبيب الحقيقي هو الذي يتابع الدورات، ونتائج المؤتمرات، ونتائج الأبحاث؛ لأنها تتجدد بتجدد التجارب.
والأمور العقلية: مثل الرياضيات، فإنها لا تختلف أبداً! (1+1=2، 6-5=1) ولكن إذا حصل خطأ فمن العقل الذي يجريها.
وأما الظنيات: فما يقال عن مواقع النجوم وعن سيرها وعن أفلاكها هذه مبنية على الظنيات، وقد تكون الظنيات تبلغ إلى حد العلم -كما هو موجود الآن- لوجود الاكتشافات الحديثة.
وأما الإلهيات: فطريقها التوقف والنقل الصحيح عن المعصوم، وكل ما يتعلق بالإلهيات من الأمور المغيبة؛ {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [التوبة:94] ، {وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4] فما كان غيباً فلا يمكن معرفته لا بالتجربة ولا بالظن ولا بالعقل، ولكن بالنص الإلهي من الوحي، سواء كان من كتاب أو من سنة.
إذاً: الغيبيات مرجعها إلى الوحي المنزل الصادق المصدوق، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن الشبه يكون من ماء أحد الأبوين؛ إما الأم وإما الأب، وأما التذكير والتأنيث فله الآن مباحث عديدة، والله سبحانه وتعالى جعل في ماء الرجل خصائص التذكير والتأنيث، ولا دخل للمرأة في ذلك أبداً، جاء في آية النجم: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} [النجم:46] فالزوجان الذكر والأنثى من نطفة الرجل، وماء الرجل هو الذي يحدد الذكورة والأنوثة، والأم صالحة للجانبين كالأرض: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ.
} [البقرة:223] والحرث: الأرض التي تزرع، ونوعية الزرع من الزارع؛ إن أراد قمحاً بذر قمحاً، وإن أراد فولاً بذر فولاً، فنوعية الزرع من الزارع وكل ذلك بإذن الله تعالى، والله تعالى أعلم.(30/6)
شرح حديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل من أربع ... )
قال رحمها لله: [وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت ( {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل من أربع: من الجنابة، ويوم الجمعة، ومن الحجامة، ومن غسل الميت) رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة.
] .
قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان صلى الله عليه وسلم يغتسل من أربع ... ) هل لهذا العدد مفهوم مخالفة؟ يعني: هل هذا حصر لاغتسالاته صلى الله عليه وسلم أم أنه مجرد إخبار؟ جاء في هذا الحديث أنه كان يغتسل من أربع، وفي حديث أم سلمة أنه كان يغتسل من خمس.
، وفي حديث صفية أنه كان يغتسل من عشر، وهل هناك معارضة؟ لا توجد معارضة، كل تخبر بشيء مما كان يغتسل منه، فهنا: (كان يغتسل من الجنابة، ويوم الجمعة، ومن الحجامة، ومن غسل الميت) ونحن نعلم أنه كان يغتسل للعيدين، وكان يغتسل لإحرامه، وكان يغتسل لدخول مكة، وكان يغتسل لوقوفه في عرفات.
إذاً: هناك مواطن للاغتسال عديدة، وعلى هذا: إخبار أم المؤمنين عائشة لا يدل على حصر موجبات الغسل في هذه الأربعة، ثم هي جمعت لنا كما يقال: كشكولاً، وهل كل هذه الأربعة سواء في الحكم؟ فهل غسل الجمعة كغسل الجنابة؟ وهل غسل الجنابة كالغسل من الحجامة؟ وهل غسل الميت كغسل الجمعة؟ كل هذه مختلف في حكمها إلا غسل الجنابة فهو متفق عليه.
إذاً: كان يغتسل من أربع، مبدئياً لا مفهوم لهذا العدد، من أربع من خمس من عشر على حسب ما جاء النص وثبت.
فالموضع الأول هو غسل الجمعة: وسيأتي المؤلف إلى تفصيل هذه الأربعة، فكأنه قدم حديث عائشة بهذه الأربعة مجملة ثم يشرع في تفصيلها، فإذا كان المؤلف سيشرع في تفصيل هذه الأربعة، فنترك الكلام على تفصيلها إلى ما سيأتي به المؤلف؛ لأنه سيذكر الخلاف، سواء في غسل الجمعة، أو في غسل الحجامة، أو غسل الميت، أما الغسل من الجنابة فقد انتهينا منه، وهذا موضع إجماع.
إذاً: بقي علينا بيان الكلام التفصيلي في هذه الأمور الأربعة.(30/7)
شرح حديث: (أمر ثمامة أن يغتسل عندما أسلم)
قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (في قصة ثمامة بن أثال عندما أسلم وأمره النبي صلى الله عليه وسلم: أن يغتسل) رواه عبد الرزاق، وأصله متفق عليه.
] تجاوز المؤلف تلك الأربعة وجاء بقضية أخرى ليلحقها بالأربعة، ثم يأتي إلى التفصيل.
يقول: (إن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة ثمامة بن أثال أمره أن يغتسل) .
ثمامة سيد بني حنيفة، وكان في طريقه إلى مكة معتمراً، فأخذته خيل المسلمين وجاءوا به أسيراً، فربط في سارية المسجد، وكان يؤتى بحلب سبع شياه فيشربها، وكان صلى الله عليه وسلم يمر عليه ويقول: (كيف بك يا ثمامة؟) فيقول: يا محمد! إن تمنن تمنن على كريم، وإن ترد فداءً أعطيتك ما يرضيك، وإن تقتل تقتل ذا دم، يعني: دمي لا يصير هدراً، فأهلي سيطالبون به، فما زال على ذلك ثلاثة أيام، والرسول يسأله ويجيب بهذه الإجابة، وفي اليوم الثالث قال: (اتركوا ثمامة) فأطلقوه، فلما أطلقوه أتى إلى الصحابة وقال: ماذا يفعل من أراد أن يدخل دينكم؟ قالوا: يغتسل، فذهب فاغتسل، فجاء فنطق بالشهادتين بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: لِمَ لَمْ تفعل ذلك من أول يوم؟ قال: لا، خشيت أن تقولوا: أسلم خشية السيف، فلما أطلق سراحي جئت بحريتي.
إذاً: الرواية هنا في قصة ثمامة أنه سأل وأخبره الصحابة فذهب إلى بيرحاء، وكانت عند مقدمة المسجد في الجهة الشمالية، -وكانت موجودةً إلى وقت قريب قبل هذه التوسعة الأخيرة- فاغتسل هناك وجاء إلى صلاة الظهر وجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلم.
هنا يقول (إن الرسول أمره أن يغتسل) ، وهل كل من أسلم جديداً نأمره بالاغتسال أم لا؟ نعم على قول الجمهور ما عدا أبا حنيفة رحمه الله فإنه يقول: لا غسل عليه؛ لأن الإسلام يجب ما قبله.
وبعضهم يقول: إن كان قد وقعت عليه جنابة ولم يغتسل أمرناه بالغسل.
وبعضهم يقول: يغتسل، أجنب أو لم يجنب.
والجمهور على أن غسل من أراد الإسلام ليس بفرض؛ لأنهم في غزاتهم وفي إسلامهم وفي دخول الناس في الدين أفواجاً ما ثبت أن الرسول أمر إنساناً أسلم أن يغتسل، كما يفعل بعض المتأخرين؛ يلزم من يريد الإسلام أن يختتن، فلربما ترك الإسلام من أجل ذلك.
الذي يهمنا في هذا الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أن يغتسل، وهل هذا الأمر للوجوب أو للاستحباب؟ قالوا: ليس للوجوب؛ لأننا وجدنا صوراً عديدة ممن دخل في الإسلام ولم يأمرهم قادة الجيوش وأمراؤهم أن يغتسلوا، وجاءت الوفود وأسلموا في المدينة -وفد ثقيف، ووفد تميم- وما أمروا أن يغتسلوا قبل أن يسلموا.
إذاً: الأولى أن يغتسل، ولكن ليس بشرط في صحة إسلامه، فيصح الإسلام ويقبل منه ولو لم يغتسل.
ثم كان من شأن ثمامة أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني كنت معتمراً فأخذتني خيلك وأنا في طريقي إلى العمرة، قال: امض فاعتمر - أو: أتمم عمرتك) ولما جاء مكة وعلم أهل مكة أنه أسلم آذوه هناك، فتوعدهم ورجع إلى بلاده ومنع الميرة -الطعام- أن تأتي إلى مكة، وكان وادي حنيفة يمول مكة بالحنطة، فجاء أهل مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه: أن يأمر ثمامة أن يسمح للميرة أن تأتي إلى مكة، فإن فيها الخالات والعمات، وذوي الأرحام وقد منعها، فكتب إليه بذلك ففعل.
إذاً: الموضوع هنا زائد عن الأربعة، وهو أمر من أراد أن يدخل في الإسلام أن يغتسل، وهذا بصرف النظر عن الوجوب أو عن الندب، فيغتسل من أربع، وهذه زيادة على الأربع، فصار إلى الآن خمس اغتسالات، والله تعالى أعلم.(30/8)
شرح حديث: (غسل يوم الجمعة واجب ... )
قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) أخرجه السبعة.
] نعلم جميعاً أن يوم الجمعة من خصائص هذه الأمة، وقد جاء أن اليهود ما حسدوا المسلمين على شيء كما حسدوهم على يوم الجمعة، وقول: آمين.
ويوم الجمعة اختصت به هذه الأمة وضيعته اليهود والنصارى، فاليهود أخذوا يوم السبت، والنصارى أخذوا يوم الأحد، وهدى الله هذه الأمة ليوم الجمعة.
ويوم الجمعة كان يسمى في الجاهلية بيوم العروبة، وقد صلى بعض الصحابة يوم الجمعة قبل أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً من مكة إلى المدينة؛ وسبب ذلك أن اليهود كانوا يجتمعون يوم السبت لعبادتهم ولأذكارهم، فيخصون ذلك اليوم بالعبادة وينقطعون عن العمل، فرأى بعض الأنصار الأولين أن يتخذوا يوماً يجتمعون فيه، ويذكرون الله كما يفعل اليهود، فدعاهم شخص فذبح لهم شاة وصنع لهم طعاماً، وصلوا الجمعة - أي: ركعتين- في المدينة قبل أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم.
وأحكام هذا اليوم كثيرة جداً، وسبق أن نبهت عليها، ومن أراد استقصاء أحكام يوم الجمعة فإنه يطول عليه، والكلام عن يوم الجمعة أشبه ما يكون بالكلام عن الحج، وأشرنا إلى أكثرها في تتمة أضواء البيان عند قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة:9] مع قوله: {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10] .
ومن أحكامها التي تعرض لها المؤلف هنا: الغسل ليوم الجمعة، فعن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) .
مما نلاحظه في هذا الحديث مدى عناية الإسلام بالمظهر والنظافة، وخاصة في أيام الأعياد والمجتمعات، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ماذا على أحدكم إذا اتخذ ثوباً لجمعته سوى ثوب مهنته؟) وهذا تنظيم عجيب! أعمال المهنة سواء كانت زراعة للمزارع، أو نجارة للنجار، أو حدادة للحداد، أو أو، كل إنسان له مهنة يحتاج إلى لباس يناسبها يتحمل ما يجري عليه أثناء العمل، فإن أتى الجمعة فمن باب حسن المظهر، ومن باب حسن السمت أن يلبس من أحسن ما يملك، وقد ذكر البخاري في الأدب المفرد: (حسن السمت من الإيمان) ، ومشهور عن كثير من العلماء أنهم يعنون بسمتهم، وكما جاء عن ابن عمر في التجمل للزوجات قوله: إنهن يردن منا ما نريد منهن.
وجاء عن مالك رحمه الله أنه ما كان يجلس للحديث إلا بعد أن يغتسل ليكون في أحسن هيئة، وذكرنا في قصته مع هارون الرشيد، حينما أتاه هارون الرشيد فلم يفتح له حالاً ولكن ذهب واغتسل، وأبدل ثيابه وتطيب ثم أذن له، فقال له هارون الرشيد ما شأنك؟! طلبناك فامتنعت علينا، وجئناك فحبستنا على بابك، فقال له: علمت أنك لم تأت لدنيا ولكن للحديث، فكرهت أن أجلس للحديث وأنا على غير هيئة مكتملة.
والله تعالى يقول: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] .
وعمر رضي الله تعالى عنه رأى حلة تباع عند باب المسجد، فأخذها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اشتر هذه، لتلبسها في الأعياد، وتتجمل بها عند الوفود.
وجاء في بعض الآثار: إذا اجتمعتم فتجملوا.
إذاً: عناية الإسلام بالمظهر أو بالهيئة أو بحسن السمت عناية فطرية وطبيعية، وتدل على الذوق والرقي في الإسلام.(30/9)
كتاب الطهارة - باب الغسل وحكم الجنب [2]
ينبغي للمسلم معرفة الأحكام التي لها تعلق بحياته سواء منها اليومية أو الموسمية، ومن هذه الأحكام ما يتعلق بيوم الجمعة: كحكم الغسل يوم الجمعة، وحكم الأذان الأول لها، وغير ذلك.(31/1)
أحكام غسل يوم الجمعة
باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، ثم أما بعد: فقد وصلنا إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) .
نجد الظاهرية يقولون: الغسل لليوم، واليوم: من الفجر إلى غروب الشمس؛ لأن اعتبار اليوم في الصوم من الفجر إلى غروب الشمس، وقيل: الغسل لصلاة الجمعة، فلا يشرع بعد انقضائها.
ولكن إذا نظرنا إلى مشروعية الغسل يوم الجمعة من بين بقية الأيام؛ نجد أن العلة المناسبة للغسل في هذا اليوم إنما هي لاجتماع الناس، وقد سماه الرسول: يوم عيد، أما لو كان للنظافة ونحو ذلك فأيام الأسبوع كلها تستوي في ذلك.
إذاً: في هذا الحديث حث للمسلمين على الاغتسال في يوم الجمعة.
ثم نأتي إلى التحديد؛ قال: (غسل يوم) ، فأضاف اليوم إلى الجمعة، ومن هنا أخذ الجمهور أن علة الغسل هي الاجتماع للجمعة.(31/2)
أقوال العلماء في وقت الغسل للجمعة
ومن مباحث هذا الغسل: متى يكون وقته؟ فنجد مالكاً رحمه الله يستحب أن يكون في أول لحظة يذهب فيها المصلي إلى المسجد، وأن يذهب إلى الجمعة بطهارة هذا الغسل.
والجمهور يقولون: كلمة (يوم) يبدأ من طلوع الفجر، فلو اغتسل بعد طلوع الفجر وقصد به الغسل ليوم الجمعة أجزأه.
ولكن إذا جئنا إلى الغرض كما بينته أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، نجد أن قول مالك هو أنسب الأقوال؛ لملاحظة الوصف المناسب لترتب الحكم عليه.
والغسل عند الجمهور -الأئمة الأربعة وغيرهم- إنما هو من أجل حضور الجمعة، فإذا فاتت الجمعة أصبح الغسل ليس ليوم الجمعة؛ ولكن غسلاً عادياً كما لو اغتسل من الحر أو من غيره.(31/3)
حكم الاغتسال للجمعة
قوله: (واجب) ، الواجب هو: اللازم، فوجوب الغسل هنا مقيد على كل محتلم -أي بالغ-.
ونظير ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة حائض إلا بدرع وخمار) ، وهل الحائض وقت الحيض تصلي؟ لا تصلي، ولا تصح صلاتها، ولكن قوله: (حائض) أي: بلغت سن الحيض؛ لأنها أصبحت بالغة مكلفة، وعلامة بلوغها: أن يأتيها الحيض، وهنا كذلك: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) يعني: على كل من بلغ سن الحلم.
نص الحديث يدل على أن غسل يوم الجمعة واجب، فهل يوجد صارف يصرف هذا الوجوب إلى الندب؟ نجد المؤلف رحمه الله تعالى يسعفنا حالاً، ويأتي بحديث سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت) ، هل توضأ لصلاة الصبح أو لصلاة العصر؟ لو استثنينا الجمعة سيتوضأ أربع مرات، إذاً: من توضأ يوم الجمعة للجمعة، وهذا يؤيد ما ذكرناه: من أن الغسل للجمعة هو من أجل الجمعة.
قال صلى الله عليه وسلم: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت) لا مانع، أجزأه (ومن اغتسل فالغسل أفضل) .
إذاً: كون الغسل يوصف بالأفضلية يخرجه عن حد الوجوب، لكن قالوا: ماذا يمنع أن يكون واجباً وأفضل؟ لكن مقدمة الحديث: (من توضأ فبها ونعمت) ، ونعم: من أفعال المدح، وبئس: من أفعال الذم، فالحديث امتدح من توضأ يوم الجمعة، ولكن أرشد إلى ما هو الأفضل، ومن هنا اختلف العلماء في حكم الغسل للجمعة لكل محتلم: أما الظاهرية فإنهم على وجوب الغسل على كل محتلم يوم الجمعة، ويجزئ عندهم الغسل ولو بعد العصر؛ لأنه يصح وينطبق عليه أنه اغتسل يوم الجمعة، فهم يرونه واجباً على الإنسان لليوم.
أما الجمهور فقد اتفقوا على أن الغسل يوم الجمعة للجمعة ليس بواجب، والذي صرف حديث الوجوب عن وجوبه حديث: (فبها ونعمت) .
وإذا كان الأمر كذلك، فإن القضية قد جرى فيها الخلاف والنزاع، وجاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها ما يحل هذا النزاع، وهو أن الغسل في بادئ الأمر كان واجباً، وإنما رخص في تركه فيما بعد.
إذاً: الغسل ليوم الجمعة أخذ مرحلتين: المرحلة الأولى: مرحلة الإيجاب لزوماً.
المرحلة الثانية: مرحلة الندب تفضيلاً.
قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: كان المسلمون عملة أنفسهم، وكان المسجد ضيقاً، ويأتي الحر، ويأتي الناس من العالية يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم فيأخذهم العرق، فتظهر منهم روائح يؤذي بعضهم بعضاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو اغتسلتم لهذا اليوم) ، ثم جزم فقال: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) ، فلما وسع الله على المسلمين - هذا قول عائشة رضي الله تعالى عنها - وكفوا مئونة العمل بما أتاهم من العلوج من الأسارى، وتوسع المسجد، صار الغسل مندوباً، ورخص في تركه صلى الله عليه وسلم.
إذاً: الأمر بالغسل كان في بادئ الأمر واجباً لعلة، ولما زالت العلة تحول الوجوب إلى الندب، هذا قول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها.
والذين يقولون ببقاء الوجوب يقولون: هذا اجتهاد منها، وهذا ربط للواجب بعلة ما ندري هل هي صحيحة أم لا؟(31/4)
أدلة الجمهور على نسخ حديث: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم)
ومما أرده الجمهور كدليل على النسخ وبقاء الندب: ما يرويه مالك رحمه الله تعالى في الموطأ: أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يخطب للجمعة، فدخل رجل، والرواية الأخرى تسميه: عثمان بن عفان، فقطع عمر الخطبة وقال: (أية ساعة هذه؟) ما الذي أخرك إلى هذا الوقت حتى جئت أثناء الخطبة؟ فقال: (يا أمير المؤمنين! انقلبت من السوق فسمعت النداء فما زدت على أن توضأت) ، يعني: ليس واجباً علي أن آتي قبل أن ينادى لها، وإلى هنا احتجاج على ظاهره، فما أن سمع عمر رضي الله تعالى عنه قوله: إلا أن توضأت وجئت؛ قال: (والوضوء؟!) يعني: تأخرت واكتفيت بالوضوء ولم تغتسل، (وقد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل) .
وهذا بعض من يقول بالوجوب يحتج به، ومن يقول بالندب يحتج به أيضاً.
فالذين قالوا بالوجوب قالوا: لولا أن غسل يوم الجمعة واجب ما أباح عمر لنفسه أن يعاتب مثل عثمان على تركه.
وأجاب الآخرون فقالوا: أترون عمر يترك عثمان يجلس للصلاة مع تركه لواجب ولا يأمره بالذهاب للاغتسال؟ وقبل ذلك: أترون عثمان يترك واجباً عليه، ويأتي بالوضوء ويترك الغسل؟ ثم مجموع الصحابة الحاضرين يسمعون من الطرفين، فهل عابوا على عثمان، وقالوا له: ارجع فاغتسل.
إذاً: عمر أقر عثمان على ترك الغسل، وعثمان جاء بغير اغتسال، والحاضرون من الصحابة أقروا عثمان على مجيئه بغير اغتسال، ولا يمكن لـ عثمان ولا لـ عمر ولا للحاضرين أن يقروا إنساناً عادياً على ترك واجب يتوقف عليه أمر الجمعة.
إذاً: اعتبر كإجماع من الحاضرين على إقرار ما كان من عثمان رضي الله تعالى عنه.(31/5)
الأذان الأول للجمعة
وتتمة لهذه القضية: لما تأخر عثمان واعتذر وقال: سمعت النداء فتوضأت وجئت، وكان مكانه وراء الزوراء، فتوضأ وجاء، ففاته جزء من الخطبة، ولما آلت إليه الخلافة أنشأ أذاناً جديداً قبل الوقت، وجعل المؤذن في السوق على الزوراء، وأين كانت الزوراء؟ الذين عاصروا المدينة قبل هذه التوسعة التي استوعبت المدينة بكاملها يعرفون الباب المصري، ويعرفون مسجد فاطمة الزهراء، وهذا محرف عن الزوراء، وقد اطلعت على صك في المحكمة للأشراف يحدد طريق الزوراء، ويحدد وقف الأشراف، وكان موجوداً داخل السور هناك.
إذاً: الزوراء كانت خارج سور المدينة وراء الباب المصري إلى جهة سوق القفاصين، إلى تلك الجهة، أي: في الشمال الغربي عن المسجد.
فعلى هذا: عثمان أوجد أذاناً قبل أذان الوقت الذي تصح فيه الصلاة في السوق؛ لينبه أصحاب السوق إلى أن الوقت قد دنا وقرب، ليرجعوا إلى بيوتهم ليغتسل المغتسل، ويتأهب المتأهب، فيصل إلى المسجد قبل أن يؤذن للوقت وقبل أن يشرع الإمام في الخطبة، وكانت هذه سنة سنها عثمان رضي الله تعالى عنه.
والشيء بالشيء يذكر: الأذان الأول الذي أوجده عثمان رضي الله تعالى عنه كان ينادى به على المنائر، وكان الأذان الذي هو للوقت حينما يصعد الإمام المنبر، وهذا الأذان الذي هو للوقت تبتدأ بعده الخطبة.
وقد تعبت في البحث عن الوقت بين الأذان الأول والثاني للجمعة، وأنسب ما يقال في ذلك: إنه يكون بما يكفي من كان في السوق أن ينقلب إلى بيته ويأتي إلى المسجد، لكن تحديده بالساعات والدقائق لم أقف عليه.(31/6)
حكم الصلاة بين الأذان الأول والثاني يوم الجمعة
مسألة: من كان جالساً في المسجد ثم يقوم ويصلي ركعتين بين الأذان الأول والثاني الذي تصح فيه الصلاة، هل هذا مشروع؟ هذه المسألة مستجدة، وقد سئل ابن القيم عن ذلك، فقال كلمة أود ألا يستعملها طالب علم: من ظن أنها سنة فهو أجهل من حمار أهله، وسئل عنها ابن تيمية رحمه الله -وهو شيخه- فكتب فيها رسالة وهي موجودة ضمن المجموع، وكان جواب ابن تيمية رحمه الله جواب داعية، وأنا أقول: إن في هذه الرسالة فلسفة الدعوة، وحكمة الداعي؛ فقال رحمه الله: ليعلم كل إنسان أن تلك الصلاة لم تكن موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عهد أبي بكر ولا عمر، ولكنها وجدت في عهد عثمان؛ لأن عثمان هو أول من أنشأ هذا الأذان، وكان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر أذان واحد عند دخول الوقت، وكان بلال عندما يذهب يسوي الصفوف يقول للرسول صلى الله عليه وسلم في غير الجمعة: لا تسبقني بآمين، وكان في يوم الجمعة يفرغ من الأذان على سطح المسجد أو البيت المقارب له، ويشرع الإمام في الخطبة، وجاء في صحيح البخاري في باب: رجم المرأة، أن عمر لما جلس على المنبر وفرغ المؤذن من الأذان قام يخطب.
إذاً: في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وعهد أبي بكر وعمر كان أذاناً واحداً، وحينما يفرغ المؤذن وقبل أن ينزل من السطح يشرع الخطيب في الخطبة، فما كان هناك وقت يمكن لإنسان أن يصلي فيه، وإنما وجد الوقت حينما جاء عثمان رضي الله تعالى عنه وأوجد الأذان الأول، وأصبح هناك أذانان.
فـ ابن تيمية رحمه الله تعالى ورضوان الله تعالى عليه، وجزاه الله أحسن الجزاء في هذه الحكمة في الدعوة قال: ينبغي لطالب العلم وقد علم ذلك ألا يفعلها في نفسه، وإذا رأى من يفعلها فماذا يكون الحال؟ لينظر: إن كان ممن يظن فيه قبول النصيحة بين له، وإن كان يخشى إن هو بين له أن يجفوه ويتهمه بمحاربة السنة أو الصلاة فالترك أولى، وليلتمس له عذراً من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين صلاة) ، والأذان الأول الذي شرعه عثمان دخل في حيز المشروعية؛ لأنه مشروع من خليفة راشد، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) ، فما أوجده عثمان رضي الله تعالى عنه أصبح مشروعاً لأنه سنة خليفة راشد.
يهمنا في هذا التوجيه الكريم: أخذ العذر لمن يصلي في ذلك الوقت.(31/7)
حكم الأذان الأول يوم الجمعة
يقول بعض العلماء: إن عثمان لم يأت بجديد، ولكن كرر صورة أصلها ثابت عن رسول الله، وذلك ما وقع في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجود أذانين للصبح، وقوله: (إن بلالاً ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم) ، فكان بلال يؤذن قبل الوقت، وبين صلى الله عليه وسلم علة ذلك: (ليرجع القائم، ويتسحر الصائم) ، فعندما يسمع أذان بلال يعلم أن الوقت قد قرب؛ ولذا ينص الفقهاء على أن من أحيا تلك السنة، وجعل مؤذنين للفجر، فيجب ألا يتغايرا ولا يتبادلا، بل يكون الذي يؤذن أولاً شخصاً معروفاً، وصوته معروف؛ حتى إذا سمعه الناس عرفوا أنه الأذان الأول الذي لا يحل الصلاة ولا يحرم الطعام، وإذا جاء الأذان الثاني فهو الذي يحل الصلاة ويحرم الطعام على الصائم.
فقالوا: إن عثمان رضي الله تعالى عنه وجد السنة النبوية أوجدت أذاناً قبل وقت الفجر لعلة؛ وهي: أن يرجع القائم؛ أي: الذي يقوم الليل إذا أراد أن يجدد طهارة، وإذا أراد أن يصوم يتسحر، فلما وجد الناس اشتغلوا في أسواقهم حتى وألهتهم عن الوقت، ولو انتظر الإنسان حتى ينادى للجمعة ربما فاتته نصف الخطبة أو الخطبة كلها؛ والله سبحانه يقول: {إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة:9] فـ عثمان عمل بهذا؛ كما في قاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فلو أن إنساناً كان منزله بعيداً عن مسجد الجمعة ولو أنه تأخر حتى يسمع النداء ثم توجه، تفوته الصلاة، فيتعين عليه وجوباً أن يسعى إليها قبل أن ينادى لها، فلو أن إنساناً في العالية أو قباء- وكانوا يأتون إلى الجمعة هنا- جلس هناك حتى سمع الأذان، ثم أخذ يتوضأ ومشى على قدميه إلى أن يأتي، فهل يدرك الجمعة؟ لا يدركها، إذاً: يتعين على من حاله كذلك أن يسعى إليها قبل وقت النداء إليها بما يكفيه أن يصل إلى المسجد، فلا ينادى إليها إلا وهو موجود فيه.
ونرجع إلى موضوع الغسل ليوم الجمعة، وقد وجدنا فيه حديثين: الحديث الأول: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) ، والحديث الثاني: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) فبعضهم يقول: الأول نسخ بالثاني، نقول: لا، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: كان الغسل واجباً عليهم مراعاة لظروف حياتهم، فلما تغيرت الظروف تغيرت الفتوى، وتغير الحكم، فأصبح الغسل مندوباً إليه، ومن تركه صحت جمعته، كما استدلوا بقضية عثمان رضي الله تعالى عنه مع أمير المؤمنين عمر بحضرة الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، والله تعالى أعلم.(31/8)
حكم الوضوء لمن حمل ميتاً والغسل لمن غسله
وأما حكم الوضوء لمن حمل ميتاً والغسل لمن غسله فجمهور العلماء على أن ذلك ليس بواجب عليه، وإنما هو مندوب إليه، وقالوا: حديث متكلم فيه: (من حمل ميتاً فليتوضأ، ومن غسله فليغتسل) متكلم فيه، وجاءت آثار عن السلف رضوان الله تعالى عليهم أنهم حنطوا موتى ولم يغتسلوا، ومن أشهر ذلك: ما جاء في موطأ مالك رحمه الله: أن أسماء زوج الصديق رضي الله تعالى عنهما يوم أن توفي رضي الله تعالى عنه هي التي تولت غسله، ثم خرجت على الناس وقالت: أيها الناس! لقد غسلت أبا بكر وأنا اليوم صائمة، وهذا اليوم شديد البرد، فهل تجدون علي من غسل؟ إذاً: عندها خبر عن تغسيل الميت والغسل، وهذه قضية متداولة، لكنها لم تتأكد من الإيجاب على أن من غسل ميتاً يغتسل، فكلهم أجابوها: لا نرى وجوباً عليك.
وقد عدد ابن عبد البر في الاستذكار آثاراً منها: (من غسل ميتاً فأصابه منه شيء فليغتسل، ومن غسل ميتاً فلم يصبه منه شيء فلا شيء عليه) .
وهكذا يستحب الوضوء لمن حمل ميتاً، لا لحمل الميت لأن الميت -أصلاً- طاهر، وهو لم يباشره، إنما يباشر خشب النعش وقالوا عن علة ذلك: ليكون على استعداد للصلاة عليه عندما توضع الجنازة، لكن إذا جاء وهو بغير وضوء ووقف الناس يصلون فهو يقف منعزلاً عنهم، وإن ذهب وتوضأ فقد تفوته الصلاة.
إذاً: قوله: (من حمل ميتاً) أي: من أراد أن يحمل ميتاً فليتوضأ ليكون على استعداد للصلاة على الميت حينما يصلي عليه المصلون.
وذكروا عن عبد الله بن عمر أنه حنط طفلاً له؛ أي: غسله وكفنه، ودخل المسجد وصلى عليه، ولم يغتسل ولم يتوضأ، وكذلك سعيد بن العاص حنط فلاناً ولم يغتسل، بل ولم يتوضأ وصلى، فذكروا آثاراً عديدة تدل على أن الوضوء لحمل الميت، أو الغسل من تغسيله، إنما هو على سبيل الندب والتهيؤ للصلاة عليه مع المصلين، والله تعالى أعلم.(31/9)
حكم الاغتسال لمن احتجم
أما الحجامة: فلم يأت نص صحيح صريح في الغسل منها، وإنما جاءت النصوص بأنه غسل الدم، وجاءت النصوص بأنه احتجم وهو صائم، وجاءت النصوص بأنه توضأ، وقيل: الوضوء بمعنى الغسل، وقيل: لا ندري هل كان متوضأ قبل أن يحتجم أم لا؟ وهل كان وضوءه للحجامة؟ لم يأت من قوله عليه الصلاة والسلام نص قولي بأن من احتجم يغتسل، إنما اغتسل صلى الله عليه وسلم بعد الحجامة، فهل كان ذلك عن الحجامة أم لأمر غير ذلك؟ جاء عن بعض السلف أنه غسل ميتاً فاغتسل، فقال: لا تظنوا أني اغتسلت لأني غسلت الميت، بل اغتسلت للحر.
فهذه نصوص ترجح رأي الجمهور بأن من غسل ميتاً ليس بواجب عليه أن يغتسل كغسل الجنابة الذي جاء في هذا الحديث.
وعلى هذا: يأخذ العلماء أن دلالة الاقتران ليست قوية، ولا تؤدي إلى الوجوب أو المساواة؛ لأن عائشة رضي الله تعالى عنها جمعت بين الغسل للجمعة وللجنابة وللحجامة ولتغسيل الميت، فكلها قرنتها في سياق واحد، فهل الاقتران يدل على أن حكمها واحد؟ نجد الفرق بين الغسل للجنابة، والغسل للجمعة، والغسل للحجامة، والغسل للميت، فليس هناك غسل متفق على وجوبه إلا غسل الجنابة، وتقدم التنبيه على تلك الأنواع الأخرى المذكورة في الحديث، والله تعالى أعلم.(31/10)
شرح حديث: (كان يقرئنا القرآن مالم يكن جنباً)
قال رحمه الله: [وعن علي رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن ما لم يكن جنباً) رواه الخمسة، وهذا لفظ الترمذي وصححه، وحسنه ابن حبان.
] هذا الحديث يكثر السؤال عنه، وخاصة ممن يحفظن القرآن من النساء عندما تطرأ عليهن الدورة الشهرية؛ لأن الحيض والجنابة لهما نفس الحكم، فالجنب ممنوع من الصلاة، وممنوع من المكث في المسجد، وقد قرنهما صلى الله عليه وسلم في قوله: (إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب) ، وساوى بينهما، وقد ذكرنا أن دلالة الاقتران لا تستوجب المساواة في الحكم، ولكن النصوص الأخرى تدل على أن الحائض تمنع من المكث في المسجد لا مجرد العبور.
وهنا قال علي رضي الله تعالى عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئنا القرآن ما لم يكن جنباً) .
علي رضي الله تعالى عنه يحكي لنا فعل النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يقرئنا) أي: يقرأ علينا ونسمع منه القرآن، ما لم يكن جنباً، إذاً: ما لم يكن جنباً يقرئنا، وإذا كان جنباً فلا يقرئنا.
وقد يكون هذا حكاية فعل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن نقل علي أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه توضأ وقرأ القرآن، ثم قال: هكذا من أراد أن يقرأ القرآن، أما إذا كان جنباً فلا ولا حرفاً) وكلمة: (ولا حرفاً) الحرف: يطلق على الجملة، وعلى الآية، وعلى الكلام الكثير من القرآن، يقول صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف) ، أي: على هيئة من القراءة، ومثال حرف واحد في عرف هذا الحديث: {ن وَالْقَلَمِ} [القلم:1] {ص وَالْقُرْآنِ} [ص:1] ، فلو قرأ حرفاً يقصد به التلاوة فهو آثم، ولكن إذا قرأ أو ذكر على لسانه لفظاً من القرآن كدعاء كقوله: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذا هديتنا.
على أنه يدعو ويسأل الله، ولا يريد به تلاوة؛ فلا شيء عليه لأنه يعتبر ذكر، والجنب والحائض كل منهما يذكر الله بغير القرآن.
وفي قصة أسماء لما حاضت عند أبيار علي، وسأل أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: (مرها فلتغتسل وتفعل كل ما يفعله الحاج غير أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر) .
والحاج يلبي، ويحمد الله، ويسبح، ويدعو، ويأتي إلى عرفات، ويذكر الله هناك وعند المشعر الحرام، ويرمي الجمرات.
إذاً: الحاج له أذكار في مواطن متعينة، فالحائض تفعل كل ما يفعله الحاج إلا الطواف بالبيت حتى تطهر.
واتفقوا على أنها إن كانت طاهرة وطافت بالبيت وذهبت لتسعى، ثم على الصفا لأول وهلة فاجأتها الحيضة؛ فإنها تكمل سعيها عند الأئمة الثلاثة، ومالك يستحب أن يكون الساعي على طهارة، لكنهم أجمعوا على أنها لو سعت وهي حائض بعد أن طافت وهي طاهر فسعيها صحيح، وهي في سعيها تذكر الله.
إذاً: الحائض لها حكم الجنب في هذا الأمر.(31/11)
أقوال العلماء في حكم قراءة الحائض والجنب للقرآن
ما موقف العلماء من ذلك: أما الجنب فمتفق عليه، وأما الحائض فالأئمة الأربعة -عدا مالك - منعوها من قراءة القرآن، ومالك يقول: المنع للجنب باتفاق؛ لأن وقت الجنابة محدود، واغتسال الجنب في يده؛ وبإمكانه رفعه في أي وقت أحب، بخلاف الحائض: (حيضتك ليس في يدك) فأمرها ليس إليها {حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة:222] .
إذاً: مدة الحيض للحائض طويلة، فـ مالك ينقل عنه أنها إذا كانت تحفظ من كتاب الله، ولها ورد يومي حتى لا تنساه؛ فلها أن تقرأ وردها ولو كانت في حيضتها؛ لأنه تعارض النهي عن قراءتها والنهي عن نسيان القرآن.
والجمهور يقولون: لا.(31/12)
حكم مس القرآن للحائض
الفتاة في المدرسة إذا كان عندها حصة قرآن، وكانت حائضاً، فهل لها أن تعتذر وألا تسمِّع ما عليها من حفظ؟ أقول: لو فتح هذا الباب لاعتذر به أكثر الفتيات، ولهذا فلا بأس بأن تسمع الفتيات في المدرسة القرآن، لكن دون أن تمس المصحف، ولا بأس بأن تكون معها إحدى زميلاتها غير حائضة وتمسك لها المصحف، أو أن يُفتح لها وتنظر إليه بعينها دون أن تلمسه.
وهي لا تقرأ ولا تمس المصحف، ولكن تنظر وتتابع، لكن الفتاة ماذا تفعل؟ إن قلنا: تعتذر وتسمِّع ما وجب عليها في الحصة الأولى أو في الحصة الثانية حينما يرتفع العذر، فهذه يمكن نعالجها.
ولكن إذا صادف وقت حيضتها يوم اختبارها، وجاء اختبار القرآن وهي حائض، فلو اعتذرت ضيعت على نفسها سنة واعتبرت راسبة، وهي حافظة! فماذا تفعل؟ الله تعالى أعلم قبل كل شيء، ولكن لو نظرنا إلى الضروريات، وأن مالكاً يرى أن التي تخشى النسيان لها أن تقرأ، وأيهما أشد عذراً.
التي تخشى من النسيان مع أنها يمكن أن تتدارك ذلك في طهرها، فبدل أن تكرر وردها مرة تكرره عشراً، أم هذه التي ستقدم على الاختبار؟ هذه الأمور أعتقد لو اعتبرناها فيمكن القول بالسماح لها بأن تقرأ من حفظها دون أن تمس المصحف، فتقرأ موضع السؤال فحسب ولا تزد على ذلك، وقد وجدنا إمام دار الهجرة يجيز لها ذلك لعذر أقل من هذا، وأعتقد لو قيل بهذا لكان حلاً عملياً، ويرفع الحرج عن الناس، والله تعالى أعلم.(31/13)
كتاب الطهارة - باب الغسل وحكم الجنب [3]
مما يهم المسلم في حياته الزوجية معرفة أحكام الجنب، كالوضوء عند إرادة العود مرة أخرى، والوضوء عند الأكل والشرب، والوضوء عند إرادة النوم، وكيفية غسل الجنابة، وحكم استعمال المناشف بعد الغسل.(32/1)
شرح حديث: (إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود ... )
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
ثم أما بعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ بينهما وضوءاً) رواه مسلم، زاد الحاكم: (فإنه أنشط للعود) ] .
لا زلنا فيما يتعلق بالجنب من الأحكام، ومنها إذا أتى الرجل أهله -وهذا كناية عن الجماع- ثم أراد أن يعود في تلك الليلة إلى أهله، وهذه أمور شخصية تعود إلى ذات الإنسان نفسه وإمكانياته، فهل له أن يعود دون أن يحدث غسلاً أو وضوءاً مكانه؟ هنا الحديث يقول: (إذا أتى أحدكم أهله وأراد أن يعود فليتوضأ بينهما وضوءاً) ، وهذا النص أمر النبي صلى الله عليه وسلم من أتى أهله، ثم وجد في نفسه رغبة للعودة مرة أخرى، ألا يعود مباشرة بل يتوضأ ثم يعود، وقوله صلى الله عليه وسلم: (فليتوضأ بينهما) إلى هنا كان يكفي في التشريع، ولكن قال: (وضوءاً) ، وعلة ذلك كما يقول العلماء: تأكيد بالمصدر لينفي المجاز، ويدل على حقيقة الماهية، كما جاء في قوله سبحانه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] أي: ليبين أن الله كلم موسى كلاماً حقيقياً، وليس من باب المجاز، كأن يكون نفث في روعه، فقوله: (فليتوضأ بينهما وضوءاً) يؤكد أن المقصود هو الوضوء الشرعي المعروف، وجاء في بعض الألفاظ: (وضوءه للصلاة) ، فيكون هذا التصريح صارفاً المعنى اللغوي وهو غسل اليدين والوجه إلى المعنى الشرعي الذي يبدأ بغسل اليدين وينتهي بغسل القدمين وقبل ذلك غسل الفرج.
وقد نبه كثير من الأطباء على ضرورة غسل الفرج بعد المباشرة؛ لأن في الفرج رطوبة، ويخرج من الرجل ماء، فإذا ترك ذلك وجف على المحل فإنه قد يؤلم ويضر، وأقل شيء يبقى في الجلد فيسبب حساسية أو حرارة أو شيئاً من هذا، فإذا أتى أهله ولو لم يرد أن يعود فليغسل فرجه، ثم جاءت الزيادة على هذا الحديث مبينة الحكمة من وراء هذا الوضوء والثمرة منه، لأن هذا الوضوء لا يرفع حدثاً ولا يبيح صلاة؛ ولذا من ألغاز الفقهاء: ما هو الوضوء الذي لا ينقضه إلا الجنابة؟ هو هذا الوضوء إذا أراد أن يعود، فإذا عاد وأراد أن يعود مرة ثالثة فليتوضأ أيضاً بينهما وضوءاً، والجنابة في العود الثاني قد نقضت ذلك الوضوء، فهذا الوضوء لا يرفع حدثاً ولا يبيح صلاة، ولكنه لأي شيء؟ قالوا: أولاً: للنظافة، وثانياً: ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (فإنه أنشط للعود) يا سبحان الله! إلى هذا الحد يرشد النبي صلى الله عليه وسلم في الأمور الشخصية، وهذه -يا إخوان- أخطر ما يكون في الحياة الزوجية؛ لأن من أتى أهله وليس عنده نشاط، فلربما تتراخى قوى الرابطة الزوجية، وكم من مشاكل تحصل بسبب ذلك؛ ولذا في مسألة العنين ذكر العلماء أنه يمهل سنة، حتى تمر عليه فصول السنة الأربعة، فإن كان متأثراً من الحرارة، تأتي البرودة في الشتاء، وإن كان متأثرا من البرودة تأتي الحرارة في الصيف، وهكذا، فإذا مرت عليه السنة بفصولها الأربعة وعجز في الوصول إلى أهله فحينئذ يعتبر عنيناً، وللزوجة حق المطالبة بالفراق، والمهلة بعد أن ترفع أمرها للقضاء، والقاضي هو الذي يمهله تلك المهلة، وقد تختلف الأمور، ويكون للقاضي وجهة نظر، فيجعل المدة أقل أو أكثر.(32/2)
حكم الوضوء للجنب إذا أراد العود
نأتي إلى الحكم الفقهي في هذا الوضوء: (إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ) ، اللام هنا: لام الأمر؛ لأنه عند الأصوليين: لام الأمر مع المضارع من صيغ الأمر الذي يقتضي الوجوب، وأكده بالمصدر ليدل على أن المطلوب هو الوضوء الكامل، وليس مجرد غسل الفرج فقط؛ لأن الوضوء لغة يطلق على النظافة، وغسل الفرج يكون من النظافة، فجاء بالمصدر (وضوءاً) ليؤكد على أن الوضوء الشرعي هو المقصود.
وهل معنى (فليتوضأ) وجوب الوضوء أم له أن يأتي أهله ولو لم يتوضأ؟ يقولون: إن هذا الوضوء ما قال بوجوبه إلا داود الظاهري ومن تبعه، والجمهور على أنه سنة؛ لأنه من باب الإرشاد، وبين الحكمة والنتيجة منه وهو أنه أنشط للعود، فكأن قائلاً يقول: وإذا كان نشيطاً فهو ليس بحاجة إلى منشط، ولكن يستثنى من ذلك غسل الفرج، ويتحتم غسل الفرج إذا أتى جاريته ثم أراد أن يأتي الزوجة، فإنه يتعين عليه أن يغسل ذكره، وهذا من حق الزوجة عليه؛ لأن إتيانها بعد إتيان غيرها من غير غسل الفرج فيه إيذاء لها، وقد يكون فيه مضرة عليها.
يأتي هنا بحث آخر، لو كان عنده عدة زوجات، وأراد أن يطوف عليهن في ليلة واحدة، قالوا: (جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه مرة طاف على نسائه ولم يغتسل إلا عند الأخيرة) ، ولم يذكر عنه أنه غسل فرجه، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه طاف على نسائه واغتسل عند كل واحدة منهن، ثم قيل له: ألا تجعل هذا في الآخر؟ قال: (هذا أطيب وأطهر) أي: الاغتسال بعد كل واحدة على حدة، ومن هنا قالوا: إن الوضوء هنا إنما هو للندب والاستحباب، وليس للوجوب؛ لأن حكمته أنه أنشط للعود مرة أخرى، والله أعلم.(32/3)
شرح حديث: (كان رسول الله ينام وهو جنب ... )
قال رحمه الله: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام وهو جنب من غير أن يمس ماء، وهو معلول) ] .
من أحكام الجنابة: إذا أجنب الرجل فهل ينام وهو جنب؟ وهل يأكل وهو جنب؟ وهل يشرب وهو جنب؟ كل هذه الأمور جاءت فيها النصوص، وبدأ المؤلف بموضوع النوم الذي ورد في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام وهو جنب من غير أن يمس ماء) ، وجاءت أحاديث أخرى كحديث عبد الله بن عمر أنه صلى الله عليه وسلم سئل: (أينام الجنب قبل أن يغتسل يا رسول الله؟! قال: نعم، إذا توضأ) ، وهنا: (من غير أن يمس ماء) ، قال بعض العلماء: ماءً هنا عام؛ ماء الغسل أم ماء الوضوء؟ فالجمهور على إطلاق الماء لا لوضوء ولا لغسل، والآخرون قالوا: لا، لو لم تأت الأحاديث الأخرى لكان الحمل على الإطلاق واقع، ولكن جاءت أحاديث أخرى (نعم إن هو توضأ) ، وجاء في حديث عائشة: (وكان جنباً يتوضأ وينام يتوضأ ويأكل) ، فإذا أثبتت الوضوء، والوضوء مس ماء، ثم نفت الماء؛ فيكون الماء المنفي هو ماء الغسل، ويكون ماء الوضوء ثابتاً بحديث عائشة نفسها، وبحديث ابن عمر وغيره أنه صلى الله عليه وسلم أباح للجنب أن ينام قبل أن يغتسل إذا هو توضأ.
وجاء عند ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم - وهذا يذكره السيوطي في تعليقه على موطأ مالك - سئل: (أينام الجنب يا رسول الله؟! قال: نعم إن هو توضأ، فإني أخشى أن يموت في تلك الليلة وهو جنب فلا يحضره جبريل) ، فبين صلى الله عليه وسلم العلة في وضوئه عند نومه، وهنا قالوا: ما الغرض من الوضوء، فالوضوء لا يرفع حدثاً ولا جنابة؟ قالوا: أولاً: مع الوضوء غسل الفرج، وهذه النقطة الأساسية الحساسة.
ثانياً: إذا توضأ فهو بين أحد أمرين: إما أنه بوضوئه خفف حكم الجنابة، أو إنه إذا لامس الماء وباشر الماء وتوضأ، فلعل ذلك يدفعه إلى الغسل، فيكون الوضوء مقدمة وتنشيطا لما هو المطلوب من أن يغتسل.
يهمنا في هذه الجزئية: أن الجنب ممنوع من تلاوة القرآن، ومن حمل القرآن، ومن الطواف, وهنا هل تمنعه الجنابة من النوم؟ بين صلى الله عليه وسلم أنها لا تمنعه، ولكن قال: (إن توضأ) .
وهل الوضوء من الجنابة واجب كالوجوب للصلاة أم أنه من باب الإرشاد والتوجيه؟ رواية ابن ماجة: (أخشى أن يموت فلا يحضره جبريل) تدل أن الأمر هنا من باب الإرشاد وبيان الأفضلية، ومن الذي لا يريد أن يحضره جبريل عند الوفاة؟ كل إنسان يرجو ذلك.
إذاً: الأولى أن ينام الجنب بعد أن يتوضأ، فإذا توضأ فلعله يخطو خطوة أخرى وينشط ويغتسل وينتهي الأمر.(32/4)
حكم الأكل والشرب حال الجنابة
بقي التساؤل عن الأكل والشرب للجنب، وقد وسع هذا البحث صاحب المنتقى، وفصل فيه الشوكاني تفصيلاً طيباً جداً، وهو موجز من فتح الباري في شرح صحيح البخاري، وقد جاءت النصوص أيضاً في الأكل والشرب، فقالوا: (هل يأكل الجنب يا رسول الله؟! قال: نعم إن هو توضأ) ، فجمهور العلماء حمل الوضوء هنا على الغسل نظافة؛ لأنه لم يأت تأكيده بالمصدر كما جاء في النوم، وقالوا: إن الأكل يحتاج إلى نظافة في يديه، فقد يكون مس فرجه، وقال بعضهم: إن الوضوء هنا هو الوضوء الشرعي المعروف.
وروى عند البيهقي رحمه الله تعالى عن عائشة رضي الله عنها أن أبا موسى -أو شخصاً آخر- سألها قال: يا أم المؤمنين! إني أستحي، -أي: إنه يجول بخاطري أمور وأستحي أن أواجهك بها- هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام وهو جنب؟ قالت: نعم، كان أحياناً يغتسل وينام، وأحياناً ينام ويغتسل.
قال: هل كان يغتسل في أول الليل أو في أوسطه أو في آخره؟ قالت: كان أحياناً يغتسل في أول الليل، وأحياناً يغتسل في أوسطه، وأحياناً في آخره، قال: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة، وهل كان يأكل معك وأنت حائض؟ قالت: نعم، كنت آكل معه فآخذ العظم فأتعرقه ثم أناوله إياه فيتعرقه بفمه بعد فمي، وكنت آخذ القدح فأشرب ثم أناوله إياه فيضع فاه موضع فيَّ فيشرب، وكان في كل مرة يقول: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة، ثم سألها هل كان يوتر عليه الصلاة والسلام قبل أن ينام؟ فقالت: أحياناً وأحياناً.
ففي هذا الحديث رد على اليهود، فقد جاء في الحديث: (قدمنا المدينة فإذا اليهود إذا حاضت المرأة لا يؤاكلونها ولا يشاربونها، فقال صلى الله عليه وسلم: اصنعوا كل شيء غير الجماع) ، وعلى هذا فمن أراد العود بعد الإتيان، فيستحب له الوضوء قبل العود، وكذا الوضوء للأكل، وكل ذلك مندوب إليه وهو أولى، ولكن لم يقل بالوجوب إلا داود الظاهري ومن وافقه، وبالله تعالى التوفيق.
المؤلف ذكر أن كثيراً من أحكام الجنب، وهو ألا يقرأ القرآن، وكذا حمل المصحف، كما جاء في الحائض في رواية مالك أن ابن عمر قال لجارية: (ناوليني المصحف، قالت: إني حائض، قال: حيضتك ليست في يدك، ناوليني من العلاقة) وعلاقة الكيس هو الذي فيه المصحف، أما أن تباشره فلا.(32/5)
شرح حديث: (صفة غسل النبي صلى الله عليه وسلم من الجنابة)
قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة، يبدأ فيغسل يديه، ثم يفرغ بيده على شماله فيغسل فرجه ثم يتوضأ، ثم يأخذ الماء، ثم يدخل أصابعه في أصول الشعر، ثم حفن على رأسه ثلاث حفنات، ثم أفاض على سائر جسده، ثم غسل رجليه) متفق عليه واللفظ لـ مسلم.
ولهما من حديث ميمونة: (ثم أفرغ على فرجه فغسله بشماله ثم ضرب بها الأرض) ، وفي رواية: (فمسح بها التراب، وفي آخره: ثم أتيته بالمنديل فرده، وفيه: فجعل ينفض الماء بيده) .
] هذا شروع في كيفية الغسل من الجنابة: كيف يغتسل من الجنابة؟ أما الوضوء فقد جاء القرآن الكريم ببيان كيفيته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] ، وجاءت السنة النبوية وبينت هذه الأعضاء، فأضافت إلى غسل الوجه المضمضة والاستنشاق، وأضافت إلى مسح الرأس مسح الأذنين، وأضافت تخليل الأصابع، وهذا تأكيد في الغسل، أما غسل الجنابة فلم يأت فيه تفصيل {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] ، فهنا تأتي السنة فتفصل ما أجْمل القرآن في أمر الغسل.
جاء حديث عائشة رضي الله عنها، وحديث ميمونة، وحديث حفصة، وكل هذه الأحاديث بمجموعها تبين لنا كيفية الغسل من الجنابة.(32/6)
غسل الكفين
بدأ المؤلف رحمه الله تعالى بحديث عائشة رضي الله عنها، لأنه أشمل وأجمع، ولا شك أن أمهات المؤمنين هن أعرف الناس بغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهن يشاركنه في هذا العمل، ماذا قالت عائشة؟ قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه) والمراد باليدين: الكفان وليس الذراع، وجاء في بعض الروايات أنه يأخذ الحلاب - وهو الإناء الذي يحلب فيه - فيصب على يديه ويغسلهما، كما جاء في غسل اليدين في الوضوء لمن كان نائماً، (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلهما ثلاثاً) فكان أيضاً صلى الله عليه وسلم يأخذ هذا الإناء الذي كان يحلب فيه، ويغترف من الإناء الذي فيه ماء الغسل، ويصب على يديه ويغسلهما ثلاثاً، هذا أول الأمر.(32/7)
غسل الفرج
(ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه) .
يفرغ من الحلاب أو يقترب فيأخذ بيديه من الإناء بعد غسلهما.
ولكن هنا تقول: (يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه) ، لأنه ورد حديث: (لا يمسن أحدكم فرجه بيمينه) ، فاليمين لا تباشر هذه الأماكن، بل يفرغ باليمين على الشمال فيغسل فرجه، ويقدم الوضوء على الغسل؛ لأنه ألزم لنظافة المحل قبل أن تجف رطوبته، وليكون احترازاً لئلا يعود إلى مس هذا المحل فينتقض وضوءه بمس فرجه، فيغسل فرجه قبل أن يتوضأ وقبل أن يفيض الماء على جسده؛ لتبقى الطهارة بلا ناقض.
نأتي إلى حديث ميمونة، وفيه زيادة أنه بعد غسل فرجه عليه الصلاة والسلام يضرب يديه بالتراب، وفي بعض الروايات: بالجدار، قالت ميمونة: (ولو شئتم لأريتكم أثر يده في الجدار من ذلك الغسل) ، وأخذ العلماء من هذا أن التراب يزيل ما يمكن أن يكون قد علق باليد من لزوجة آثار الوطء، أو أنه فعل ذلك ليزيل ما بقي من الرائحة.(32/8)
الوضوء
في البداية غسل كفيه، ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل فرجه، ثم يتوضأ.
وهل المقصود الوضوء اللغوي -غسل الكفين مع الوجه- أم الوضوء الشرعي -غسل أعضاء الوضوء كاملة-؟ الجمهور على أن المقصود هو الوضوء الشرعي، لأنه جاءت التفصيلات بأن يتمضمض ويستنشق ويغسل وجهه، فقوله: (ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر، ثم يؤخر غسل رجليه بعد أن يفرغ الماء) ، المقصود من ذلك الوضوء الشرعي لا اللغوي.
وهنا مسألة: عندما يتوضأ هل يغسل القدمين في هذا الوضوء أم يؤخر غسل القدمين حتى يفيض الماء على سائر جسده؟ سيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله.(32/9)
تخليل الشعر
وقولها: (ثم يتوضأ ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر) ، بعد أن يتوضأ يأخذ الماء ويصبه على رأسه، ويدخل أصابعه إلى أصول الشعر، ومن المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له جمة تضرب إلى منكبيه إن أطالها أو إلى شحمة أذنه إن قَصَّرها، ويدلكها ثلاثاً حتى يغلب على ظنه أن الماء قد وصل إلى أصول منابت الشعر.(32/10)
صب ثلاث حفنات من الماء على الرأس
وقولها: (ثم حفن على رأسه ثلاث حفنات) ، الحفنة: هل هي بكف واحد أو بكفين؟ اللغة الدارجة: الحفنة بالكف، والحفان بالكفين، تقول: هذا من الإحفان، فقال: حفن بكفه ثلاث حفنات، وجاء في بعض الروايات: (بكفه) ، على الإفراد، وجاءت بعض الروايات: (بكفيه) ، على التثنية.(32/11)
إفاضة الماء على سائر البدن
وقولها: (ثم أفاض على سائر جسده) أي: بعد أن غسل يديه غسل فرجه، ثم دلك يديه بالتراب، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم بدأ بالرأس فأدخل الماء إلى أصول الشعر، حتى ظن أنه أرواه -كما في بعض الروايات- ثم أخذ ثلاث حفنات فأفرغها على رأسه.
وهل يثلث الغسل كما يثلث الوضوء أم أن هذا من باب تأكيد غسل الرأس فقط؟ الجمهور أنه يستحب أن يثلث كما في الوضوء، فأخذ ثلاث حفنات للحيطة والتأكيد وأفاضها على رأسه.
إذاً: الرأس بدأ بتخليله حتى يصل إلى أصول منابت شعره، وإذا كانت لديه لحية كثة فهل يخللها أم لا؟ قالوا: نعم يخللها إلحاقاً لها بشعر الرأس، خاصة إذا كانت كثة، فإذا أفاض على رأسه ثلاث حفنات فماذا بعد ذلك؟ قالت: (ثم أفاض على سائر جسده) .
الإفاضة: تعميم الجسد بالماء، وقولها: (على سائر) أي: الباقي بعدما تقدم؛ لأن سائر ليست بمعنى الجميع، بل بمعنى الباقي، فكأن سائر جسده بقية الأعضاء التي لم يمسها الماء، وقال بعضهم: الإفاضة على سائر الجسد تشمل الرأس وأعضاء الوضوء، ويكون غسلها أولاً بصيغة الوضوء تكريماً لأعضاء الوضوء ثم يشملها الغسل مع سائر البدن.
وجاءت بعض الروايات بأنه يبدأ بشقه الأيمن، يفيض الماء على شقه الأيمن، ثم يفيض الماء على شقه الأيسر، ثم يتأخر ويغسل قدميه تتمة للوضوء الذي أوقعه قبل غسل رأسه وإفاضة الماء على جسده.
وهنا مسألة: هل الدلك واجب في هذا الغسل؟ الجمهور لا يقولون بوجوب الدلك، بل يقولون: إنه إذا جرى الماء على الجلد، وتأكد الإنسان من أن الماء قد وصل إلى أصل كل شعرة؛ فإن ذلك يكفي، ومالك يقول: لا بد من الدلك، ويتعين على المغتسل من الجنابة أن يدلك جلده بقدر ما تطول يداه، قالوا: لماذا تشترط هذا؟ قال: لنتأكد من تعميم الماء على سائر الجسد، وفي أثر موقوف على علي: (تحت كل شعرة جنابة) فإذا كان كذلك فلا بد من التأكد من إيصال الماء إلى جميع البشرة.
وبعض الروايات تقول: (ثم غسل رجليه) ، وبعض العلماء يقول: إن قلنا: إن الوضوء السابق للغسل كالوضوء للصلاة فيتعين غسل القدمين أولاً، وقال بعضهم: حتى وإن قلنا: إنه كالوضوء للصلاة فيمكن تأخير بعض الأعضاء، وفصلها بجزء من الزمن، وقال مالك رحمه الله: إن كان المكان الذي وقف ليغتسل فيه نظيفاً فإنه يغسل قدميه مع الوضوء أولاً، وإن كان غير ذلك بأن كان تراباً أو كان طيناً وسيعلق فيهما من أثر الغسل فيؤخرهما، ثم بعد أن ينتهي من الغسل ينتقل إلى مكان آخر جاف فيغسلهما فيه.
وهكذا يتم من مجموع حديث عائشة مع حديث ميمونة كيفية غسل النبي صلى الله عليه وسلم من الجنابة، وتبقى بعض الجوانب في اغتسال الرجل مع المرأة في وقت واحد وقد تقدم قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يغتسل الرجل بفضل المرأة، أو المرأة بفضل الرجل) .(32/12)
حكم استعمال المناشف بعد الوضوء
وفي حديث ميمونة رضي الله عنها: (ثم أتيته بالمنديل) المنديل: (المنشفة) ، يقول علماء اللغة: سمي هذا النوع من القماش باستعماله منديلاً (مفعيل) من الندل، والندل: الخسيس -عافانا الله وإياكم- لأن المنديل دائماً يستعمل للتنظيف، ولا يستعمل في أشياء مشرفة، بل يستعمل في الأشياء الدنية؛ ولذلك سمي منديلاً، قالت: (فأتيته بالمنديل) ، وفي رواية: (وأتيته بالخرقة فردها وجعل ينفض الماء بيده) ، وهنا يقول العلماء: ما حكم استعمال المناشف بعد الغسل؟ قال بعض العلماء: هذا عائد لاختلاف الجو، ففي الشتاء ينبغي ذلك؛ مخافة التعرض للمرض، بخلاف الصيف، وقد جاء في بعض الروايات أنه عليه الصلاة والسلام استعمل المنديل كما في رواية أم سلمة.
والخلاصة: أن استعمال المناشف -المناديل- بعد الغسل راجع للمصلحة، والله أعلم.(32/13)
كتاب الطهارة - باب الغسل وحكم الجنب [4]
يجب على كل مسلم ومسلمة معرفة أحكام الغسل من الجنابة والحيض؛ لأن الناس يتكرر منهم الغسل من الجنابة أو من الحيضة بالنسبة للمرأة، وقد بين أهل العلم أحكام ذلك ومستحباته وآدابه اعتماداً على الكتاب والسنة.(33/1)
شرح حديث: (إني امرأة أشد شعر رأسي ... )
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
ثم أما بعد: فلا زلنا في باب الغسل وحكم الجنب، وقد وصلنا إلى قول المؤلف: [وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قلت: (يا رسول الله! إني امرأة أشد شعر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة؟ - وفي رواية: والحيضة - قال: لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات) رواه مسلم] .
أتى المؤلف رحمه الله تعالى بحديث أم سلمة أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم قائلة: (إني امرأة أشد شعر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة؟ -وفي رواية: والحيضة؟ - فقال لها صلى الله عليه وسلم: لا، يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات) ، وهذا الحديث موضوعه في نقض المرأة شعرها إذا كان مشدوداً، وشد الشعر يكون بظفره ظفائر، وسيكون الكلام هنا على حكم نقض ظفائر الشعر عند غسل المرأة من الجنابة والحيض، وبهذا الحديث يستدل من يقول: إن المرأة لا تنقض شعر رأسها للغسل سواء كان للجنابة أو كان للحيض، ولكن الجمهور على المغايرة بين غسل المرأة ونقض شعرها للجنابة وغسلها للحيضة، وفي الجملة تقدم لنا في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها في صفة غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أجمع حديث في غسل النبي صلى الله عليه وسلم حيث قالت: (فيدخل أصابعه في أصول الشعر) ، والنبي صلى الله عليه وسلم أدخل أصابعه في شعر الرأس إمعاناً وتأكداً من وصول الماء إلى أصول الشعر، فإذا كان الشعر بذاته مظفراً فهل يصل إليه الماء أو لا يصل؟ ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: (يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات) أنه يكتفى بذلك سواء دخل الماء خلال الشعر أو لم يدخل، وكما يقولون: إن الشعر غضروفي لا يمنع دخول الماء، ولكن الماء يمر عليه بملامسته، وكذلك ريش الطير، فحينئذ يقول البعض: إن المرأة لا تنقض شعر رأسها، ولكن وجدنا في حديث آخر لأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها في الحج حينما حاضت قال لها: (لا عليك، انقضي شعرك - وفي بعض الروايات: وامتشطي - واغتسلي، وقولي: حجة في عمرة) ، وكان غسل عائشة رضي الله عنها وهي محرمة، وهذا الغسل ليس لرفع حدث الحيضة، أما الحيضة فلم تطهر منها إلا بعد النزول من عرفات، فكونه يأمرها وهي حائض أن تفك ظفر شعرها، فلأن يكون فك ظفر الشعر لرفع حدث الحيضة من باب أولى، وقد جاء في بعض الروايات في غسل الحائض: أنها تنقض شعرها، وفرق بعض الفقهاء بين الغسل للجنابة والغسل للحيضة؛ لأن الجنابة أهون أو أخف من حدث الحيضة، وحدث الجنابة يتكرر، أما حدث الحيضة ففي الشهر مرة، فلو كلفت المرأة بنقض شعرها عند كل جنابة لكان في ذلك مشقة عليها، أما نقضها لشعرها عند غسل الحيضة فلا يكون إلا في الشهر مرة، وهذا لا مشقة فيه، وهذا هو خلاصة القول في ذلك.
وقد جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان يأمر النساء بنقض شعرهن إذا اغتسلن من الجنابة ومن الحيض، فبلغ ذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فعابت عليه ذلك وانتقدته كما سيأتي.
وأما أقوال العلماء في حكم نقض المرأة شعرها عند غسل الجنابة والحيض: فالجمهور على التفرقة بين غسل الحيض وغسل الجنابة، وأنها لا تنقضه من الجنابة، وتنقضه للحيض، وجاء في بعض الروايات -في صفة الغسل للجنابة- أنها تجمعه بين كفيها، وتضغطه بيدها ليتخلل الماء داخل الشعر، وقال مالك رحمه الله: إن كانت الظفيرة مشدودة شداً قوياً تمنع تخلل الماء داخل الشعر فإنها تفكها، سواء كان ذلك في جنابة أو كان في حيضة.
وهل الرجل يلحق بالمرأة إن كان له ظفائر؟ قيل: إنه يلحق، وإن كان النص لم يأت فيه، ويوجد خلاف في قياسه على المرأة، وفي بعض البوادي بعض الرجال يطيل شعره ويظفره كما تظفره المرأة، فيكون حكمه وحكم المرأة في هذا سواء.
والقول الثاني في حكم ظفائر المرأة أنها لا تفكه كما سيأتي في حديث عائشة الأخير، وهناك من يقول: تفكه فيهما كما جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، وهناك من يفرق بين الجنابة وبين الحيضة، وهناك من يفرق بين شدة الظفر وقوته وبين سهولته وليونته، وهذا حاصل ما جاء في هذه المسألة.(33/2)
شرح حديث: (إني لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب)
قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب) رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة] .
حديث أم سلمة السابق في كيفية الغسل، وماذا تفعل المرأة في شعرها؟ وحديث عائشة هذا من أحكام الجنابة، وكان من حقه أن يكون مع حديث المنع من قراءة القرآن ونحوه، ونص الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الأمر خرج على الناس، وكانت البيوت المجاورة للمسجد مفتحة أبوابها إلى المسجد، وطريقهم إلى بيوتهم من المسجد دخولاً وخروجاً، فأمر بتحول هذه الأبواب عن المسجد.
ولما أراد عمر أن يوسع المسجد، أراد أن يشتري من العباس داره فامتنع وقال: إنها دار أقطعنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أبيعها، فألح عليه عمر؛ لأن المسجد ضاق على المسلمين، ولا سبيل إلى التوسعة من المشرق، وأما جهة المغرب ففيها حجرات أم المؤمنين، وقال له عمر: إن بعتني أعوضك عنها الثمن التي تريد، أو أعطيك أرضاً أينما تريد، وأبني لك داراً فيها كيفما تريد، قال: لا، لا أعطيكها أبداً، وأخيراً قال: سآخذها، قال: لأنك أمير المؤمنين؟ لن تأخذها! قال: اختر من شئت نحتكم إليه، فاختاروا أبي بن كعب، وتحاكما إليه، وذكرلهما قصة بناء بيت المقدس، وأن الله أوحى إلى نبيه داود: أن ابن لي بيتاً، قال: يارب! وأين أبنيه لك؟ قال: حيث ترى الفارس المعلم شاهراً سيفه، فأرسل الله له ملكاً في صورة فارس شاهراً السيف واقفاً في حوش، فضرب داود عليه السلام صاحب الحوش بيده وقال له: ثامني على حوشك، قال: اشتر، قال: بمائة ألف، قال: بعتك، ثم قال: يا نبي الله! أستنصحك: الثمن خير أم الأرض؟ قال: لا، الأرض خير، قال: أقلني.
قال: أقلتك، قال: مائتي ألف، قال: بعتك، ثم قال: أستنصحك، الأرض خير أم الثمن؟ قال: الأرض، قال: أقلني، قال: أقلتك، قال: ثلاثمائة، وهكذا خمس مرات حتى وصل الثمن إلى خمسمائة، ثم قال له نبي الله داود: سل ما شئت أقدمه إليك؛ لأني أريد أن أبني فيه بيتاً لله، قال: أو تفعل؟ قال: نعم، قال: تملأ علي بيتي نعماً؛ إبلاً وبقراً وغنماً، فنادى نبي الله داود في بني إسرائيل: أن املئوا له بيته إبلاً وبقراً وغنماً، ولما جاء الليل ذهبوا إليه في بيته يهددونه، فلما أصبح قال: يا نبي الله! أبيعاً أم غصباً؟ قال: بل بيعاً، وسأله: ما الذي حصل؟ قال: إن بني إسرائيل جاءوني وهددوني بكذا وكذا، قال: لا، بيعاً ورضاً، فقال: يا عمر أتأخذه غصباً من العباس؟ قال: لا آخذه غصباً، ولكن يتخير العوض الذي يريده، قال: لا أريد، قال: إذاً انتهينا، فعندما خرج عمر استوقفه العباس وقال: انتهيت؟ قال: نعم، قال: لا سبيل لك علي، قال: نعم، قال: إذاً: البيت تبرعاً مني لمسجد رسول الله وللمسلمين عامة، قال: ولماذا من قبل؟ قال: في الأول كنت تأتي بسلطانك وسلطتك، فامتنعت عليك، والآن بالرضا وبالطيبة أنا أقدمه للمسلمين توسعة للمسجد.
ودار العباس كانت بالجهة الغربية، وكذلك دار أبي بكر رضي الله عنه، وكان في الجهة الشمالية بعض حجر زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحجر أخرى لأناس، وقد كانت أبواب تلك البيوت المبنية حول المسجد كلها مشرعة إلى المسجد، وكان طريق أهلها إلى بيوتهم من المسجد، ففي آخر الأمر نادى صلى الله عليه وسلم -كما جاء في رواية عائشة - بأعلى صوته: (حولوا هذه الأبواب عن المسجد) ، ومن الغد لم يحصل شيء، وانتظروا لعله يأتي تغيير لهذا الأمر أو تأتي رخصة، ثم من الغد وقف ونادى بأعلى صوته، ولم يفعل أحد شيئاً، وفي اليوم الثالث قال: (حولوا هذه الأبواب عن المسجد، فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب -ثم استثنى- إلا باب أبي بكر) .
وحد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المؤشر عليه بالتاج الأخضر المقابل لمجلسنا الآن: هذا حد مسجد النبي، وبعد عودته صلى الله عليه وسلم من غزوة خيبر، قال صلى الله عليه وسلم: (حولوا هذه الأبواب عن المسجد، فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب) ، والعلة أنه عندما تكون البيوت مشرعة أبوابها إلى المسجد، والبيوت فيها الجنب والحائض فيمرون من المسجد للوصول إلى بيوتهم، فلما تتحول تلك الأبواب إلى الخارج يستقلون عن المسجد، وتكون البيوت بأبوابها خارجة عن المسجد، إلا بيت أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وقال بعضهم: كان بيت عمر وبيت عثمان وبيت العباس كلها مشرعة إلى المسجد، فكلها تحولت، وبقيت خوخة أبي بكر.
وبعضهم قال: هذا من التنبيه ولفت الأنظار إلى مكانة أبي بكر وقوة ارتباطه برسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: (إني لا أحل) معناها: أن المسجد حرام على الحائض وعلى الجنب.(33/3)
هل المقصود من الحديث المكث أم المرور؟
مسألة: قوله عليه الصلاة والسلام: (لا أحل) ، هل هو المكث على الدوام أم المرور؟ قوله سبحانه: {وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء:43] قالوا: هذا في السفر، وقوم قالوا: هذا في الصلاة، فالجنب والحائض يمكن أن يكونا عابري سبيل، وبعضهم يقول: ليس على الاختيار لكن عند الاضطرار، فلو أن امراة حائضاً أفزعت ولم تجد ملجأً إلا المسجد، فلا بأس أن تدخل المسجد فراراً من الفزع، أو تريد أن تأخذ ماء من المسجد؛ لأن المسجد فيه بئر، ولا تجد ماء قريباً منها إلا في المسجد؛ فلا بأس أن تعبر وتأخذ الماء وتخرج، فهذا عبور سبيل، وكذا الجنب كأن يكون نائماً واحتلم فيعبر حتى يخرج.
وعلى كل: فإنهم أجمعوا على أن الجنب والحائض لا يمكثان في المسجد، فلا يأتي أحدهما يقول: أريد أن أستريح أو أستظل أو أن أنتظر فلاناً، لا، أما مجرد العبور فلا مانع، وقد جاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة: (ناوليني الخمرة من المسجد) وابن دقيق العيد يقول: وجاءت رواية: (من المسجد ناوليني الخمرة) وبينهما فرق: لأنه إذا قال لها: ناوليني الخمرة من المسجد -والخمرة: هي التي تشبه السجادة التي نصلي عليها- تكون (من) لانتهاء الغاية، قالت: (أنا حائض، قال: حيضتك ليست في يدك) ، إذاً: هي ستدخل المسجد وتأخذ الخمرة وتأتي بها إليه، ويكون هو عند هذا القول في بيتها، وهذا يقتضي أنها ستدخل المسجد وهي حائض، ولكن لا تمكث فيه، بل مجرد عبور سبيل، أما الرواية الثانية: قال لها: (من المسجد) (من) هنا لابتداء الغاية، فحينما قال لها ذلك كان هو في المسجد، (قال لها من المسجد: ناوليني الخمرة) كان هو في المسجد كانت هي في بيتها، فتأتي بالخمرة، وهو عند باب الحجرة، والحجرة مشرعة على المسجد، فيكون هو في المسجد وهي في حجرتها، ويتناول منها الخمرة.
وجاء عن إحدى زوجاته صلى الله عليه وسلم قالت: (كانت إحدانا تكون حائضاً، فتقوم فتأخذ الخمرة وتفرشها في المسجد لرسول الله) ، وهذا نص صحيح صريح بأن الحائض تدخل المسجد.
قالوا: والجنب لا يمكث في المسجد على حدثه، لكن كونه يمر مروراً للحاجة فلا مانع من ذلك، وقد كره بعض الفقهاء أن يتخذ المسجد طريقاً؛ لأنه امتهان للمسجد، ومرورٌ به دون أن يؤدي تحية المسجد؛ لأنه عابر سبيل.
إذاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (إني لا أحل المسجد) ، هذا عام في جميع المساجد، (أل) للجنس، سواء كان في مسجده صلى الله عليه وسلم أو غيره، فالحكم لجميع المساجد، فلحرمتها لا ينبغي للجنب ولا للحائض أن يمكثا فيها، أما للضروريات فلها أحكام تخصها، والله تعالى أعلم.(33/4)
شرح حديث: (كنت اغتسل أنا ورسول الله من إناء واحد)
قال رحمه الله: [وعنها رضي الله عنها قالت: (كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد تختلف أيدينا فيه من الجنابة) متفق عليه.
وزاد ابن حبان (وتلتقي أيدينا) .
] عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد - وفي بعض الروايات: من الجنابة -وتختلف أيدينا فيه) أي: في هذا الإناء، والحديث له تتمة تتعلق بفك ظفر الشعر، وقولها في نفس هذا الحديث: (وإني أشد شعر رأسي وأغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، تختلف فيه أيدينا، ولا أزيد ثلاث حفنات على شعري) ، وكأنها تقول: ولا أنقض شعري ورسول الله صلى الله عليه وسلم يراني، وهذا الحديث قالته جواباً على ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فقد بلغها أن ابن عمر كان يأمر النساء أن ينقضن ظفائر شعورهن في غسل الجنابة وغسل الحيض، فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن! يأمر النسوة أن ينقضن شعرهن عند الغسل، أفلا يأمرهن بحلق رءوسهن؟! وهذا نوع من التأنيب على الفتوى على غير ما يراه الإنسان، ثم جاءت بالخبر وقالت: (كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد -يعني: وهو يراها- وكنت أشد شعري، ولا أزيد على أن أصب على رأسي ثلاث حثيات) فذكرت شد شعرها، وأنها لا تزيد على ثلاث حثيات، وذكرت أنها تغتسل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، ومقتضى ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أجاز ذلك العمل لها، وهو غسلها ظافرة شعرها ولم تنقضه، واكتفاؤها بثلاث حثيات.
إذاً: أتانا أثر عن عائشة رضي الله عنها في عدم نقض الشعر المظفر، ووجدنا أثراً لـ ابن عمر أنه كان يأمر النسوة أن ينقضن شعر رءوسهن، فوجدنا القولين مختلفين، فبأيهما نأخذ؟ جاء عنه صلى الله عليه وسلم -في بعض الروايات- أنه أمر النسوة أن ينقضن شعرهن لغسل الحيضة، وقد جمع صاحب المنتقى فيه آثاراً كثيرة، وكذلك ابن عبد البر في الاستذكار أورد آثاراً عديدة، والجمهور يفرقون بين غسل الجنابة وغسل المرأة من الحيضة، فيوجبون نقض شعرها من غسل الحيضة دون غسل الجنابة، وأما الإمام مالك رحمه الله فقال: ننظر إن كان شد الشعر شديداً يمنع وصول الماء إليه فتفكه، وإن كان شد شعر الرأس ليناً يسمح بوصول الماء فلا حاجة إلى نقضه.(33/5)
ما يستفاد من الحديث
ما يستفاد من الحديث؟ أولاً: جواز اغتسال الزوجين معاً في وقت واحد.
ثانياً: صحة اغتسال الرجل بفضل المرأة والعكس، وقد تقدم معنا في باب المياه نهي النبي صلى الله عليه وسلم الرجل عن الاغتسال بفضل المرأة، ونهي المرأة أن تغتسل بفضل الرجل، ووجدنا البحث هناك إذا خلت به لغسل حيضة أو إذا خلت به لغسل جنابة، أما إذا كانا معاً كما في هذا الحديث فلا بأس؛ ولهذا يقول ابن دقيق العيد: النهي هناك إذا خلت به فلا يستعمله الرجل بعدها، ومذهب ابن عمر رضي الله تعالى عنهما إذا خلت به في غسل حيضتها، وعلل الفقهاء بأن المرأة الحائض عندما تريد تنظف المحل فلربما أفسدت الماء بشيء من ذلك المحل، ولكن إذا أفسدته أفسدته على نفسها أيضاً، فقالوا: المنع إذاً خلت به المرأة لغسل الحيضة أما غير ذلك فلا مانع، وهنا قالت: (نغتسل معاً) قال العلماء: إذا شرعا معاً، ومن المعلوم أنهما إذا اغتسلا معاً لابد أن أحدهما ستسبق يده إلى الإناء فيغترف، ويأتي الآخر ويغترف من بعده، وهكذا تتابع الأيدي من الطرفين على ذلك، فإذا اغترف الزوج أولاً اغتسلت هي بفضل مائه، وإذا اغترفت هي أولاً اغتسل هو بفضل مائها، وعلى هذا يكون هذا الحديث ناسخاً لحديث (لا تغتسل المرأة بفضل الرجل، ولا الرجل بفضل المرأة) .(33/6)
شرح حديث: (إن تحت كل شعرة جنابة)
قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن تحت كل شعرة جنابة، فاغسلوا الشعر وأنقوا البشر) رواه أبو داود والترمذي وضعفه.
ولـ أحمد عن عائشة رضي الله عنها نحوه، وفيه راو مجهول.
] أتى المؤلف رحمه الله بهذا بعد موضوع نقض الشعر للمرأة، وكأنه يلمح إلى ضرورة نقض شعرها، وهذا الحديث وإن كان ضعيفاً فإنهم يقولون: هذا الحديث موقوف على علي رضي الله تعالى عنه، وبعضهم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والموقوف إذا لم يكن موضوعه محل اجتهاد يعطى حكم الرفع؛ لأن إثبات حكم الجنابة تحت كل شعرة، ليس من الاجتهاد، وإن كان موقوفاً على علي فيقال: يعطى حكم المرفوع؛ لأن علياً رضي الله تعالى عنه ليست عنده الإمكانيات لأن يحكم بأن تحت كل شعرة جنابة، إذاً: فلا يكون قد قال ذلك إلا بعد أن سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لم يصرح بسماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سواء كان مرفوعاً كما هو هنا، أو كان موقوفاً على علي -كما في بعض الروايات- فإن الموقوف هذا يعطى حكم الرفع؛ لأن موضوعه لايستفاد بالاجتهاد والرأي.
إذا كان تحت كل شعرة جنابة، فإن هذا من باب التأكيد، وإن لم تكن هناك شعرة، كأن يكون المغتسل أقرعاً، فكل جزئية تعادل شعرة في الجسم تحتها جنابة؛ ولذا أردف الخبر بأن تحت كل شعرة جنابة بما هو أعم فقال: (فاغسلوا الشعر، وأنقوا البشر) ، فغسل الشعر إذا كان مظفوراً مشدوداً لا يتأتى، وهذا يرجح أولوية نقض الشعر المظفور ليتمكن من غسله، وقوله: (وأنقوا البشرة) ، البشرة: من المباشرة، وسمي الآدمي بشراً؛ لأن بشرته مكشوفة بخلاف الحيوان فجلده مغطى بشعر أو صوف أو غير ذلك، ولا يوجد حيوان مكشوف البشرة إلا الإنسان، ومن هنا كانت البشرى، إذا سمع خبراً ساراً تغيرت أسارير بشرة وجهه، وظهرت على وجهه علامات الاستبشار، فهي مأخوذة من البشرة.
وبشرة الإنسان هي جلده، فكل ذرة من ذرات الجلد الظاهرة يجب إنقاؤها، وليس مجرد غسلها، ومن هنا أخذ مالك رحمه الله ضرورة الدلك؛ ليتحقق الإنسان في غسله أنه أنقى البشرة، وذكر ابن عبد البر عن كثير من المالكية أنه يبذل جهده؛ لأن المالكية المتأخرين يقولون: إذا لم تلتق يديه من وراء ظهره، ولم يشمل ظهره كله؛ يأخذ خرقة أو يأخذ منديلاً ويمرره على ظهره؛ ليتأكد أنه دلك جميع بشرته، وقال ابن عبد البر عن أصحاب مالك: لو أنه لم يفعل هذا التدليك المطلوب وكرر إضافة الماء فإن ذلك يجزئه عن الدلك، كما يحصل الآن عندما تقف تحت الدش والماء ينصب متوالياً، فيقول: إذا تكررت إفاضة الماء وتوالت فهي مظنة وصول الماء إلى جميع البشرة، أو إذا انغمس في ماء ومكث مدة، أو تحرك في الماء فإن هذا مظنة تعميم الماء إلى جميع البشرة.
وعند الآخرين يكفي إذا تأكد من وصول الماء ولو من صبة واحدة، وقد جاءت السنة أنه أفرغ على جسده ثلاث مرات.
وعلى كل: فما يتعلق بالتدليك وما يتعلق بإنقاء البشرة إنما هو تأكيد لرفع الجنابة عن جميع الجسم، وقد رأينا في الوضوء أنه إن ترك لمعة فقد جاء الوعيد (ويل للأعقاب من النار) وابن عبد البر يقول: إن الله سبحانه أمر المسلم أن يغسل أعضاء الوضوء، وغسلها لا يتأتى إلا بإمرار الماء عليها مع الدلك كما تغسل الثوب أو الإناء، أما مجرد مرور الماء على العضو فهذا ليس بغسل وإنما هو صب للماء، ولا يتحقق الغسل إلا بالدلك والفرك، ويقول: إن الله سبحانه وتعالى قال: في الغسل: {وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء:43] ، فكيف يكون الاغتسال الذي جاء مجملاً في كتاب الله مع الوضوء الذي جاء مفصلاً؟ فكما أمر الله المتوضئ أن يغسل أعضاء الوضوء، ولا يتحقق غسل الأعضاء إلا بإمرار اليد عليها، وعدم إمرار اليد لا يسمى غسلاً، بل يسمى إفاضة الماء على العضو؛ وكذلك في الغسل عليه أن يمر يديه على سائر بشرته كما يمر يده على أعضاء الوضوء التي جاء التنصيص عليها، والجمهور أنه كيفما اغتسل أجزأه.(33/7)
حكم الوضوء بعد غسل الجنابة
وبقي مسألة في هذا الباب: إذا اغتسل، هل يصلي بهذا الغسل أم يتوضأ؟ تقدم في حديث عائشة (توضأ وضوءه للصلاة) يعني: مثل وضوئه للصلاة سواء بسواء، ثم أدخل أصابعه في أصول الشعر، ثم أفاض الماء على رأسه وحثى على رأسه ثلاث حثيات، فقالوا: إذا توضأ أولاً ثم اغتسل على ما قالت أم المؤمنين عائشة، وفي أثناء الغسل لم يمس فرجه بعد وضوئه، فإنه يصلي بهذا الغسل المسبوق بالوضوء.
ويقول ابن عبد البر: لم يأت نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه توضأ بعد الغسل، ولكن إذا حدث أثناء الغسل ما ينقض الوضوء الأول، فإنه لابد له من أن يتوضأ، وأكثر العلماء يقولون: إن الحدثين يتداخلان: الحدث الأصغر مع الحدث الأكبر، فإذا اغتسل وعمم البدن أثناء الغسل ناوياً رفع الحدثين معاً؛ فإن الحدث الأصغر يتداخل مع الحدث الأكبر، ويصبح طاهراً من الحدثين، فيصلي بهذا الغسل، والله تعالى أعلم.(33/8)
كتاب الطهارة - باب التيمم [1]
لقد خص الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بخصائص جمة، وهذه الخصائص لا يشركه فيها أحد من الأنبياء، ومنها: أنه نصر بالرعب مسيرة شهر، وأحل له أخذ الغنائم، وأعطي الشفاعة، وبعث إلى الناس كافة، ومنها: أنه جعلت له الأرض ولأمته مسجداً وطهوراً، فإذا لم يجد أحد من أمته الماء ليتوضأ أو ليغتسل فليتيمم وليصلِّ حيث شاء.(34/1)
مشروعية التيمم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [باب التيمم: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراًً، فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل) ، وذكر الحديث.
وفي حديث حذيفة رضي الله عنه عند مسلم: (وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء) ، وعن علي رضي الله عنه عند أحمد: (وجعل التراب لي طهوراً) ] .
انتقل المصنف رحمه الله إلى الطهارة الترابية وهي التيمم، والتيمم لغة: القصد، يقال: يممت جهة كذا أي: قصدتها، أو تيممت إلى جهة كذا قصدتها.
وشرعاً: القصد إلى الصعيد الطيب عند عدم وجود الماء، لمسح الأعضاء على صفة مخصوصة.
وهذا الباب مما يدل على مدى سماحة الإسلام، ومجيء البدائل من الأصل المفروض، وهذا أولها.
فالأصل في الطهارة أن تكون بالماء، ولكن إذا عدم الماء أو تعذر استعماله فلا يتعطل التشريع، ولا تتوقف العبادة، بل يأتي البديل وهو التيمم، سواء كان التيمم رخصة أو عزيمة، فإنه نيابة مؤقتة، أو دائماً على حسب الظروف في استعمال الماء.
ونجد البدائل في الإسلام عندما تأتي الشدائد أو المضايقات والعجز، وفي بعض الأحيان تسمى رخصة، وأحياناً تكون عزيمة.
فإذا انتهينا من الطهارة وجئنا إلى الصلاة فإن الأصل فيها: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] ، فإذا عجز الإنسان عن القيام جاءته الرخصة في أن يصلي جالساً، وإذا عجز عن الجلوس صلى وهو على جنبه، أو مستلقياً على ظهره.
وإذا جئنا إلى الصيام فإن الأصل: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] ، فإذا كان عاجزاً عن الصوم أو تلحقه به مشقة من مرض أو سفر أو ما يلحق بالمرض والسفر، فإنه تأتي الرخصة في الفطر والقضاء في أيام أخر: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:185] .
وتأتي الزكاة ولا تجب إلا على الغني الذي يملك نصاباً، ويبقى عنده مال وهو مستغنٍ مستغنياً عنه حتى يحول عليه الحول في يده، فحينئذٍ يثبت غناه فتفرض عليه الزكاة.
ونأتي إلى الحج فنجد من أول مشروعيته: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] .
ونأتي إلى الجهاد فنجد: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ} [الفتح:17] وهكذا.
ومن هنا لم يكن في التشريع الإسلامي ما يسمى طريقاً مسدوداً، بل كلما عجز الإنسان جاءته الرخصة، والتيمم يختلفون فيه على ما سيأتي إن شاء الله: هل هو عزيمة أو رخصة؟ كما اختلفوا في إباحة الميتة، إذا نفد الطعام ولم يجد ما يسد رمقه ووجد الميتة، وهي محرمة في الأصل، فإنه أبيح للمضطر: {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة:173] فإباحة الميتة عزيمة أم رخصة؟ قالوا: إنها رخصة، ولكن قد تكون عزيمة إذا خاف على نفسه الموت ولم يجد غيرها.
وهنا في التيمم مباحث كثيرة من حيث العزيمة والرخصة، ومن حيث أنه مبيح للصلاة أو رافع للحدث، وهذه كلها جوانب فقهية تتعلق بموضوع التيمم، وسيذكر المؤلف بعض النصوص الموجودة في هذا الباب، وسنشرحها إن شاء الله تعالى.(34/2)
من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم
والتيمم ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، فلا حاجة إلى بحث جوازه أو مشروعيته، وقد بدأ المؤلف رحمه الله تعالى بشيء من بيان المشروعية مع خصوصيات المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومنها: حديث جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي) ، قوله: (أعطيت) فعل مبني للمجهول، أو لنائب الفاعل، ومعلوم أن الذي أعطاه هو الله سبحانه وتعالى، بدليل قوله: (لم يعطهن أحد قبلي) ، وقد اعتبروا هذه الخمس من خصائصه صلى الله عليه وسلم.
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحصر ما أعطيه دون الأنبياء في الخمس، وإنما قال: (أعطيت خمساً) ، ويمكن أن يعطي خمساً أخرى أو عشراً، ولهذا ذكر السيوطي أنه عد ما اختص به النبي صلى الله عليه وسلم فوصل إلى مائتي صفة، وذكر ابن حجر في فتح الباري ثمانية بنصوصها.
وهناك أمور تمر على الإنسان وقد لا يعلم أنها من خصائصه صلى الله عليه وسلم، والقاعدة في بيان خصائصه: إما أن يأتي النص عليها، كما جاء في الواهبة نفسها للرسول صلى الله عليه وسلم، فقد جاء القرآن بالتنصيص: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50] ، فهذا نص قرآني على أن هذه الصورة من صور الزواج خالصة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي أن المرأة إذا رغبت في زواجها من رسول الله، فجاءت ووهبت نفسها لرسول الله، فإنه يحق له أن يتزوجها بدون صداق ولا ولي ولا شهود، وهذا من خصائصه، قيل: لأن الولي لا حاجه إليه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، أما غيره فلا يحق له أن يتزوج امرأة بالهبة كما هو معلوم.
ونرجع إلى الخمس المذكورة في هذا الحديث، فنجد أنه صلى الله عليه وسلم استهل حديثه بقوله: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي) ، وفي رواية: (أحد من الأنبياء قبلي) ، وإذا كان لم يعطهن أحد قبله فهل يعطى أحد بعده شيئاً منها؟ الجواب: لا؛ لأن الرسالة انتهت، والعطاء والإكرام من الله سبحانه وتعالى بتخصيص فرد من الأفراد بشيء لم يكن لغيره قد انتهى أمره، اللهم إلا أمور ليست في التشريع، كما قالوا عن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم: أنه كانت تمر به الملائكة فتسلم عليه وكان يراها، فحدث، أن اكتوى، فامتنعت الملائكة عن التسليم عليه، وعن رؤيته، فلما ترك الكي عادت إليه، وقال: قد عاد إليَّ ما كان أولاً.
وكذلك العباس رضي الله تعالى عنه لما جاء إلى بيت رسول الله، واستأذن على رسول الله فلم يأذن له، والباب مفتوح، وهو يراه في داخل البيت، فغضب العباس، وكان في بني هاشم نوع حدة، فجاء راجعاً إلى بيته، فقال له عبد الله: لا تغضب يا أبي! لعله مشغول عنك بالرجل الذي كان يتحدث معه، فقال: وهل معه رجل؟ قال: بلى، قال: ما رأيته، فرجع العباس مرة أخرى، فاستأذن على رسول الله فأذن له، فدخل وقال: (ما شأنك يا ابن أخي استأذنتك أولاً ثلاث مرات فلم تأذن لي، وقال لي الغلام: إنه كان عندك رجل تحادثه؟ فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى ابن عباس وقال: أرأيته يا غلام؟ قال: بلى، قال: ذاك جبريل كان عندي آنفاً) ، فهذا قد يكون من خصوصياته، ولكن وجدنا في مجلس عام في حديث عمر: (بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل) ، وذكر من صفاته، فهذا في مجمع عام، وفي النهاية قال لهم صلى الله عليه وسلم: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم) .
فقد يخص الله بعض العباد ببعض الخصائص التي ليست للآخرين، كإجابة الدعوة، فليس كل إنسان مجاب الدعوة، ولكن يوجد من بعض عباد الله الصالحين كما قال صلى الله عليه وسلم: (لو أقسم على الله لأبره) .(34/3)
قذف الرعب في قلوب الأعداء
قال عليه الصلاة والسلام: (نصرت بالرعب مسيرة شهر) .
والرعب: هو الخوف، والمسيرة نسبة إلى موضع السير، والمعنى: مسافة ما يسير الإنسان شهراً بالسير العادي على الأقدام أو على الإبل، قالوا: مسيرة شهر أمامه، ومسيرة شهرٍ وراءه، ومسيرة شهر عن يمينه، ومسيرة شهر عن يساره، فكل من سمع به على بعد شهر فإنه يخاف منه، وجاء في بعض الروايات: (نصرت بسيفي) أي: بالسمعة، ومن المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم رءوف رحيم، والرءوف الرحيم لا يخاف الناس منه، إنما يخافون الناس من البطاش والجبار والظالم، ولكنه رءوف رحيم ومع ذلك يخافون منه! وقوله: (نصرت) ، هذه النصرة كما يقولون: لو كان وحده وليس معه من الجيش أحد فإنه بمجرد وجوده في مكان ويسمع به أي إنسان ولو على بعد مسيرة الشهر فلابد أن يرتجف قلبه خوفاً من رسول الله؛ لما أعطاه الله من النصر على أعدائه.
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات كما يقول الراوي: نزلنا منزلاً وكان الظل شحيحاً، فكنا نترك الشجرة المظلة لرسول الله ونتجنب عنه -أي: ليقيل وينام- فجاء إلى ظل شجرة وعلق سيفه بغصنها ونام، فجاء أعرابي وأخذ السيف واستله من جرابه، وأيقظ النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد! من يعصمك مني؟ -السيف في يده، وهذا أعزل وجالس في الأرض وهو متمكن بقيامه- قال: الله، فسقط السيف من يد الأعرابي فتناوله صلى الله عليه وسلم وقال: يا أعرابي! من يعصمك مني؟ فقال: العفو يا محمد.
فهذا من نصرة الله، فإنه لم يأتِ أصحابه حوله، ولم يستصرخ أحداً، ولا استنجد بأحد، ولا نادى أحداً، ولكنه استعان بالله.
ومن المعلوم أن نصرة الأنبياء في مثل تلك الوقائع ليست بدعاً من الأمر، فالقرآن الكريم قد ذكر عدة وقائع، فهذا الخليل عليه السلام عندما وضعوه في المنجنيق وأرادوا إلقاءه في النار وهي ملتهبة مستعرة، ويأتي جبريل ويقول: ألك حاجة؟ فيقول له: أما منك فلا، وأما من الله فنعم، قال: أفلا تدعوه؟ قال: علمه بحالي يغني عن سؤاله، فكانت نصرة الله له أقرب من كل شيء، وقد جاء في الحديث: (ضجت الملائكة لما رأته في المنجنيق وقالوا: إن سألكم عوناً فأعينوه إن استطعتم) ، ولم يسأل أحداً شيئاً، وكانت نصرة الله له بقوله: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا} [الأنبياء:69] .
وموسى عليه السلام لما وقف على حافة البحر، ونظر من معه فإذا فرعون وجنوده وراءهم، فقالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] البحر أمامنا، والعدو وراءنا، فقال موسى: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] ، وكلمة (معي) نجدها في الغار عندما وصل الطلب من قريش لرسول الله إلى فم الغار وقال الصديق: (يا رسول الله! والله لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا، فقال: ما بالك باثنين الله ثالثهما) ، قال تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] .
وهكذا نجد نصرة الله للرسل عامة، ولكن أن يكون النصر على مسيرة شهر، فهذا مما اختص به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدق الله: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:51] .(34/4)
جعل الأرض كلها مسجداً وطهوراً
قال صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض مسجداً) .
والجعل: التصيير، تقول: جعلت الطين خزفاً، وجعلت الخشب باباً، وجعلت الطحين خبزاً، والأرض موجودة من قبل، ولكن الجعل منصب على الوصف الطارئ، و (الأرض) جنس -كما يقولون- الكوكب الذي نعيش عليه، و (أل) هنا للاستغراق، فتشمل جميع أجزاء الأرض مشارقها ومغاربها، شمالها وجنوبها، أعلاها وأسفلها، وكلمة (لي) مفهومها أنها لم تجعل لغيره، وقوله: (مسجداً وطهوراً) هل المسجد والطهور خصلة واحدة؟ التحقيق في العدد أنها خصلة واحدة؛ لأننا لو عددناهما خصلتين لكان المذكور في الحديث ست خصال، والمذكور في الحديث في الجملة خمس، وهذا من الأساليب النبوية، وهو الأبلغ، أن تذكر القضية مجملة ثم يفصل في أجزائها.
و (مسجِد) على وزن مفعِل، من سجد يسجد فهو مسجد، على خلاف القياس، وهو موضع السجود، كمجلس، يقال: هذا مجلس زيد أي: مكان جلوسه، وهذا مسجد زيد أي: مكان سجوده، وهل المراد بالمسجد هنا المعنى اللغوي أم المعنى الشرعي؟ بمعنى هل المراد أن يجوز أن يبنى المسجد في أي جزء من الأرض، أم المراد أن جميع أجزاء الأرض مسجد بمعنى موضع للسجود، ولو لم يكن هناك مسجد مبني؟ المعنى الثاني أعم، وكأن الأرض كلها مسجد كبير جداً في جميع أجزاء الأرض.
وقوله: (وطهوراً) ، والأرض تكون طهوراً، وكلمة (الأرض) تشمل جميع طبقاتها، والأرض أنواع كما بين صلى الله عليه وسلم في قوله: (مثلي ومثل ما بعثني الله به من الحق كمثل أرض خصبة شربت الماء وأنبتت، وأرض قيعان لم تمسك ماءً ولم تنبت كلأ، وأرض أمسكت الماء ولم تنبت واستفاد بها غيرها) ، فقوله: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) ، يعم كل أرض، وسيأتي بيان هذا الطهور وكيف نتطهر بالأرض.
إذاً: التعميم هنا والمجيء بـ (أل) وهي لجنس الأرض، أخذ العلماء من ذلك أن طهور الأرض يصلح بكل أنواع أجزائها، سواء كانت رملاً، أو حصى، أو صخرة ملساء، أو أرضاً طيبةً منبتة، أو غير ذلك؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) ، كما تصح الصلاة في جميع أجزاء الأرض، سواء كانت صخرة ملساء، أو رملاً بيضاء، أو حصوة، أو حجارة، أو حتى على رأس جبل فإنه تصح الصلاة فيه، وكذلك تصح الطهارة منه، وهذا هو ما أخذ به من يقول بأن التيمم يصح أن يكون على جميع أجزاء الأرض.
وقوله: (فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل) ، (أي) من صيغ العموم، و (ما) هنا موصولة وهي من صيغ العموم، فتعم كل رجل وكل امرأة (أدركته الصلاة) في أي بقعة من بقاع الأرض، (فعنده مسجده وطهوره) مسجده أي: الذي يصلي فيه، وطهوره الذي يتطهر للصلاة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل) أي: من أمته، فالأمم الماضية ما كانت تصح لهم الصلاة في عموم الأرض؛ لأن هذا مما خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم في شخصه ولأمته معه، وكان الأنبياء والأمم من قبل لا تصح صلاتهم إلا في أماكن العبادة، سواء كانت البيع، أو الكنائس، أو مواطن العبادة التي تختص بهم، أما عموم الأرض فلم يرخص لهم فيها، وجاءت هذه الأمة فكانت صلاتها تصح في المساجد التي بنيت للصلاة، وتصح في أي جزء من أجزاء الأرض، فأيما رجل أدركته الصلاة في سفر أو في حضر، وليس عنده مسجد فعنده مسجده، أي: وجه الأرض، وإذا لم يجد الماء فعنده الأرض يتطهر بها ويصلي عليها، أي: أنه لا يعفى أي رجل من أداء الصلاة، فلا يقول: لا يوجد مسجد، فعنده مسجده، ولا يقول: ليس عندي ماء أتوضأ، فعنده طهوره.
إذاً: لا عذر لأي رجل كان في أي بقعة كانت أن يترك الصلاة لعدم وجود مسجد مقام، أو لعدم وجود ماء يتطهر به، فعنده في أي مكان كان مسجده وهو وجه الأرض، وعنده طهوره الذي هو جزء الأرض المكشوف لنا.
وقوله: (فأيما رجل) تلحق به المرأة أيضاً، فلو أن عائلة بكاملها رجالاً ونساءً، أو قبيلة في رحلة، أدركتهم الصلاة ولم يجدوا الماء، فإن الجميع رجالاً ونساءً يتيممون ويصلون.(34/5)
حكم التيمم بغير التراب مما هو من صعيد الأرض
[وفي حديث حذيفة رضي الله عنه عند مسلم: (وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء) ] .
من فقه المؤلف رحمه الله أنه جاء باللفظ الأول: (وجعلت لي الأرض) ، والأرض عامة، ثم جاء باللفظ الآخر: (وجعلت تربتها) يقولون: إن التربة والأرض سواء، وتربة كل جزء من الأرض بحسبها، يقال: هذه الأرض تربتها خصبة، وهذه الأرض تربتها رمل، وهذه الأرض تربتها حصى، وهذه الأرض تربتها صخر، فتربة كل مكان بحسبه.
إلا أن البعض قال: (تربتها) نوع خاص منها هو الذي يمكن أن يكون منه التيمم، وهنا سنبدأ في تخصيص عموم الأرض، ويبين ذلك الأثر الذي يأتي بعد هذا، وهو عن علي عند أحمد: (وجعل التراب لي طهوراً) ] ، وهذا نص صريح، والتراب متميز عن أجزاء الأرض من غيره؛ لأن الأرض ليست كلها تراباً، وكذلك الطين، والرمل الأبيض الناصع، والحصا والصخرة الملساء، فالتراب: ما كان من الأرض صالحاً للزرع والإنبات، وكان له غبار.
فمن هنا لوجود هذه الروايات هناك من أخذ بالعموم وقال: يصح التيمم على جميع أجزاء الأرض، كـ مالك وأبي حنيفة رحمهم الله.
وقال الشافعي: لابد من وجود تراب، وإذا وجد التراب ولو في غير الأرض صح التيمم، كما يقول النووي رحمه الله: لو جاء إلى كيس من الحب معرض للهواء والغبار والتراب، أو إلى مفرشة مليئة بالغبار، فضرب عليها، وتصاعد غبار التراب من هذا الكيس أو من هذه المفرشة؛ صح التيمم عليه؛ لأن الغرض هو التراب.
والجمهور يقولون: إن الله يقول: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء:43] ، فلا بد من القصد للصعيد، وهو وجه الأرض.
إذاً: العلماء مجمعون على مشروعية التيمم، ولكنهم اختلفوا في هل عموم الأرض على النص الأول العام أم على التربة؟ وهل التربة تتميز عن عموم الأرض؟ وإذا كان التراب على جدار أو على كيس أو على مفرشة أو نحو ذلك فهل يصح التيمم؟ فـ الشافعي رحمه الله أخذ بأثر علي، وجعل التراب حيثما كان ولو لم يكن مباشراً للأرض؛ لأن التراب عوض عن الماء.
والآخرون قالوا: الذي يصح منه التيمم هو وجه الأرض؛ لقوله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا} [النساء:43] ، والصعيد: ما تصاعد وارتفع عن وجه الأرض، حتى قال المالكية: صعيد الأرض ولو كان حجراً أملساً، فلو أن صخرة بالوادي كانت مليئة بالتراب وجاء السيل وغسلها، ثم جاء إنسان في وقت من الأوقات ولم يجد ماء، ووجد تلك الصخرة الملساء، فإنه يصح التيمم عليها ولو لم يكن بها ذرة غبار ولا تراب.
إذاً: إلى هنا بيان اختلاف العلماء رحمهم الله في نوعية ما يصح منه التيمم من الأرض، وهم مجمعون على أن جميع أجزاء الأرض تصح الصلاة عليه، فلو كان هناك إنسان في قمة جبل، ثم حان وقت الصلاة، فلا نلزمه أن ينزل إلى بطن الوادي ليصلي، بل يصح أن يصلي في قمة الجبل ولو كان أملساً مثل الرخام المنعم.
وقالوا: كما تصح الصلاة وتكون الأرض مسجداً بعمومها وجميع أنواع أجناسها، سواء في رملة، أو في حصوة، أو في صخرة، أو في تراب، أو في غير ذلك، فكذلك الطهور قرين المسجد، فعنده مسجده وطهوره، فإذا كان عنده مسجده والأرض صخرة ملساء وقلنا: لا يصح التيمم، صار عنده مسجده فقط، وعليه أن يبحث عن طهوره، وهذا ينافي الحديث.
وعلى هذا يكون الراجح من هذه الأقوال: أن أي جزء من أجزاء الأرض بطبيعته فإنه يصح التيمم عليه كما تصح الصلاة فوقه.
والمؤلف لم يذكر من الخصائص الخمس إلا اثنتين، ثم قال: (وذكر الحديث) ، أي: أن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه ذكر بقية الحديث، ولكن المؤلف اقتصر من الحديث على ما هو محل الشاهد هنا، وهو قوله: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) ، وما دام أن المؤلف قد ذكر قوله عليه الصلاة والسلام: (نصرت بالرعب مسيرة شهر) فلا بأس أن نقف على بقية الخصال الخمس التي اختص بها خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه.(34/6)
إباحة الغنائم
قال صلى الله عليه وسلم: (وأحلت لي الغنائم -وفي لفظ: المغانم- ولم تحل لأحد قبلي) .
الغنائم والمغانم: هي ما يناله الجيش المنتصر من ممتلكات الجيش المنهزم، من أموال وحيوانات وسلاح وغيرها، فيقول صلى الله عليه وسلم: أنا أول من أحلت له الغنائم، أما الأمم الماضية فلن تكن حلالاً لهم، والأنبياء قبل النبي صلى الله عليه وسلم كانوا على قسمين: قسم أمر بالقتال ووعده الله بالنصر: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} [غافر:51] .
وقسم لم يؤمر بقتال فليست عنده مغانم، فالذين أمروا بالقتال وكانوا يغنمون من العدو، كانوا يجمعون المغانم والغنائم في مكان واحد، فإن كان عملهم خالصاً وسلم من الغلول -أي: لا يوجد شخص من الجيش أخفى شيئاً لنفسه- نزلت عليه نار وأحرقته، كما حدث في قضية قابيل وهابيل لما قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، وهو أن نزلت نار فأحرقت القربان الذي قبل عند الله.
فكانت تنزل نار فتحرق تلك الغنائم، ولا يمتلك الجيش المقاتل منها شيئاً، ويُذكر عن نبي من الأنبياء أنه قاتل وجنده فغنموا مغانم ووضعوها، فلم تنزل نار لتحرقها، فقال لرؤساء القوم: فيكم غلول منع من نزول النار لإحراقها، فكان كل واحد يقول: لا يوجد عندنا الغلول، فدعا رؤساء الجند وقال: ليبايعني كل واحد على قومه، فبايعوه، إلا واحد لصقت كفه بكف نبي الله، فقال: في قومك الغلول، ائتني بهم ليبايعوا واحداً واحداً، فجاءوا وبايعوه، فلصقت كف الغال بكف النبي عليه السلام، فقال: أنت عندك الغلول، فأخرج رأس ثور من ذهب وألقاه، فنزلت النار وأحرقته.
فكانت الأمم الماضية والرسل المتقدمون إذا غنموا لا يقتسمون الغنائم، ولكن هذه الأمة أحلت لهم الغنائم، وكلمة (أحلت) تشعر بأنها لم تكن حلالاً من قبل، كما في آية الصيام: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187] ، وقبل نزول الآية لم يكن الرفث -وهو الجماع- حلالاً.
وبعض العلماء يقول: المراد بالمغانم هنا بعضها وهو الخمس، فيتصرف فيه صلى الله عليه وسلم كيفما شاء، كما جاء في الآية: {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر:7] الآية.
وبعضهم يقول: بل المراد جميع الغنائم، كما جاء في سورة الأنفال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1] ، فما أعطى للآخرين شيئاً وهو الذي يعطي المقاتلين حصتهم، ثم جاء التقسيم: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41] ، والأربعة الأخماس تكون للمقاتلين، وهذا مما اختص به رسول الله صلى الله عليه وسلم.(34/7)
الشفاعة العظمى
قال صلى الله عليه وسلم: (وأعطيت الشفاعة) ، الشفاعة هنا جنس عام، وأصل الشفاعة: من الشفع، والشفيع يأتي مع الشخص المفرد فيجعله شفعاً، فإن الشخص وحده وتر فرد، فإذا ضم إليه من له حاجة إليه فإن هذا الذي جاء معه يشفعه، فصار هو والذي جاء شفعاً وليس وتراً، والشفيع: هو الذي يأتي مع المشفوع فيه فيكون شفعاً معه.
وعرفاً: هو الذي يسأل من عنده الحاجة للمشفوع له، وغالباً يكون الشفيع أو الشافع ذا منزلة عند المشفوع عنده؛ لأن الشخص بذاته قد لا يعنى به من عنده الحاجة، وإذا أتاه قد لا ينظر إليه أو لا يقضيها له، فإذا أتاه من له مكانة عنده ربما قضى حاجة المشفوع له بموجب وجود الشافع الذي أتى معه.
والشفاعة يوم القيامة: هي أن يشفع الشافع في غيره، إما بعدم دخول النار وقد استحقها، وإما بدخول الجنة وهو لم يستحقها، وإما بإخراجه من النار وقد دخلها.
والشفاعة من حيث هي بهذه الصفات يشارك فيها الكثيرون، فالعالم يشفع في جيرانه وفي أهله، والطفل يشفع في أبويه، والشهيد يشفع في سبعين من أهله، فهناك من الأشخاص من يعطيهم الله حق الشفاعة في الأفراد.
ولكن الشفاعة هنا للجنس، وإذا أطلق الجنس انصرف إلى أكمل أفراده، يقال: جاء الرجل، والرجل هو إنسان في مقابل المرأة، لكن إذا أطلق وقيل: جاء الرجل، فالمعنى: الأمثل في الرجال الذي ينصرف إليه الاسم كعلم عليه لتميزه، وقد يكون نسبياً، فيقال: جاء الرجل الشجاع، جاء الرجل الكريم، جاء الرجل العاقل، وذلك إذا كنا في قضية حول الشجاعة والجبن، وحول الكرم والشح، وحول الحلم والغضب، فيقال: جاء الرجل، أي: الرجل الذي هو أحق بهذه الصفة عند الناس.
واسم الجنس قد يكون علماً للغلبة على فرد، مثل كلمة (المدينة) ، فإذا أطلقت المدينة التي هي في أصل اللغة نكرة ودخلتها (أل) التعريف، فيراد بها المدينة المنورة، مع أنها تصدق على كل مدينة من مدن العالم، ولكن أصبحت علماً على المدينة المنورة.
وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت الشفاعة) ، تصرف الشفاعة عند الإطلاق على أعلى فرد من أفراد الشفاعة، وهي الشفاعة العظمى.
والشفاعة المذكورة هنا هي الشفاعة التي اختص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم دون بقية الرسل والأنبياء وجميع الخلق، وهي ما يسمى عند العلماء: بالشفاعة العظمى، وهي المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم: (يحشر الناس حفاة عراة، وتدنو الشمس من الرءوس بقدر الميل، ويشتد الأمر بالناس، حتى يقول بعضهم لبعض: ألا تطلبون مجيء الرب لفصل القضاء؟ ألا تجدون من يشفع لنا؟ فيذهبون إلى أبي البشر آدم عليه السلام ويقولون: يا آدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيديه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك الجنة، ألا ترى ما نحن فيه؟ اذهب فاشفع لنا عند ربك ليأتي لفصل القضاء، فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولقد نُهيت عن الأكل من الشجرة فأكلت منها؛ فإني أستحي أن أسأل ربي، نفسي نفسي، اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إلى إبراهيم عليه السلام فيقولون: يا إبراهيم! أنت خليل الرحمن، وأنت وأنت وأنت.
فيقول: نفسي نفسي، اذهبوا إلى موسى كليم الله، فيأتون موسى فيقولون: يا موسى! أنت كليم الله، فيقول: إني قتلت نفساً لم أومر بقتلها، نفسي نفسي، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون إلى عيسى، فيعتذر ويقول: اذهبوا إلى محمد، فيأتون إلى محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه فيقول: أنا لها أنا لها) .
وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن لكل نبي دعوة مستجابة، وقد تعجل كل بني بدعوته على قومه في الدنيا، -قال: (وأنا ادخرت دعوتي إلى يوم القيامة) ، فاخرها لذلك اليوم، يقول: (فأذهب فأسجد تحت العرش، فيلهمني الله بمحامد لم أكن أعلمها) ، ونحن نذكر في الدعاء: (اللهم إنا نسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) ، فهناك يعطي الله رسوله في ذلك المقام مما استأثر به في علم الغيب عنده، فيحمد الله بتلك الأسماء في ذلك المقام، وهي المناسبة لذلك لهذا الموقف الحرج الشديد، إلى أن يقبل الله منه فيقول: (يا محمد! ارفع رأسك، واشفع تشفع، وسل تعط) ، فيسأل المولى سبحانه المجيء لفصل القضاء، أو أن يعجل فصل القضاء.
وهذه الشفاعة هي المقام المحمود الذي وعده الله، والذي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نسألها من الله له عندما قال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة لا تنبغي إلا لعبد من عباده، وأرجو أن أكون أنا هو) ، فهذا هو المقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون، وهي الشفاعة العظمى؛ لأنها تشمل جميع الأمم وجميع من في الموقف.
إذاً: الشفاعة في قوله: (وأعطيت الشفاعة) وإن كانت اسم جنس عام إلا أنها تصرف لأعلى أفراد الجنس، وبقية الشفاعات يذكرون أنها سبعة أنواع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يشفع فيمن استحق دخول النار أن لا يدخلها، ويشفع فيمن لا يستحق الجنة فيدخلها، ويشفع ثلاث أو أربع مرات لمن دخل النار بالفعل أن يخرجه الله منها، كما في الحديث: (يا رب! أمتي، فيقول: اذهب فأخرج من تعرف من أمتك من النار) ، وفي بعض الروايات: (فيحد لي حداً في النار ويقول: اذهب فأخرج من وجدت من أمتك في النار) أي: في هذا الحد، ثم يرجع مرة ثانية وثالثة وهكذا.(34/8)
بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة
قال صلى الله عليه وسلم: (وكان النبي يبعث في قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة) .
هذه هي الخامسة، وهي عموم وشمول الرسالة، فقد كان النبي يبعث في قومه خاصة، فلوط بعث في قومه، وإبراهيم بعث في قومه، ونوح بعث في قومه، وإن كان نوح عليه السلام بعد الطوفان أصبح لجميع من على وجه الأرض؛ لكن هذا العموم طرأ بعد أن غرق كل من عدا من آمن معه؛ ولكن أصل بعثته لقومه خاصة: {يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [نوح:2] {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} [نوح:1] ، فبعد أن وقع الطوفان، وغرق سوى من لم يؤمن، أصبح لا يوجد على الأرض إلا من تبعه، فلا نقول: إن رسالته عامة للناس؛ لأن هذا العموم طارئ بعد فناء من لم يؤمن، فأصل رسالته عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام خاصة لقومه.
وهكذا صالح أرسل إلى ثمود، وهود أرسل إلى عاد، وهكذا كل واحد من الأنبياء أرسل لقومه، إلا بعثة النبي صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ:28] ، فرسالته عامة للأسود والأبيض والأحمر، والعربي والعجمي، وكل بشر على وجه الأرض شملته رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: (ما من أحد سمع ببعثتي ولم يؤمن بي إلا دخل النار) ، (سمع) من أي الأجناس، في أي بقعة على وجه الأرض، وأعتقد أنه لا يوجد على وجه الأرض بشر إلا وقد سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم، اللهم إلا -في نظري- أولئك البشر الذين يعيشون في بعض الغابات في آسيا، ولم يتعرفوا على البشر، ويعيشون عراة تحت الأشجار، وبعض الدول هناك تذهب وتأخذهم كما يؤخذ الصيد، وتأتي بهم إلى المدن وتحاول أن تلبسهم فيمزقون اللباس، فجعلت لهم بيئة كبيئة الغابة بالفعل، وجعلت أنهاراً في وسط الأشجار، فتأتي أول ما تأتي بهم وتطلقهم في هذه الغابة المصنوعة، وبعد فترات تجعل لهم أكواخاً صغيرة، وتضع أطعمة في بعض الصحون، فيأكلون الأطعمة ويكسرون الصحون، وعندما يتآلف الشخص منهم يأتون إليه بنوع من القماش، ويفتحون فيه فتحة من الوسط ويدخلون رأسه، ويتركونها عليه جزء منها من الأمام، وجزء منهما من الوراء، فإذا بهم يخلعونها ويرمونها، ويعودون إلى العراء، وبعد فترة يألفون هذا اللباس، ثم بعد ذلك يعطون قميصاً واسعاً، ثم بعد ذلك يخاط القميص والسراويل ويألفون عليها وهكذا.
ويحكون عنهم أنه إذا برز واحد من طرف الغابة التي يعيشون فيها ورأى بشراً من بعيد هرب ودخل إلى الغابة، فهؤلاء لا أدري هل بلغتهم الدعوة أو لم تبلغهم؟! الله أعلم، ولكن الذي يهمنا أن دعوة رسول الله عامة حتى لهؤلاء، وعلى ولاة المسلمين أن يعملوا على إبلاغها لهؤلاء ما استطاعوا لذلك سبيلاً.
وهذه الخصيصة تعتبر من الخصائص المتميزة التي ذكرت، ومن أراد الوقوف على أكثر من ذلك فليرجع إلى فتح الباري، أو إلى الخصائص للسيوطي، أو إلى الخصائص النبوية للبيهقي، فهناك أشياء عديدة في شخصه صلى الله عليه وسلم، وفي قوته وشجاعته وكرمه، وفي بيته مع نسائه، وأشياء عديدة يمكن أن تمر بالإنسان في بعض الأحاديث فيدرك خصوصيتها.
أما ما لم يأت التنصيص على خصوصيتها لرسول الله فإن العلماء يقولون: كل ما أمر به ولم يفعله فعدم الفعل له من خصائصه، وكل ما نهى عنه وفعله فهو من خصائصه ولا يقتدى به في ذلك، وبالله تعالى التوفيق.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه.(34/9)
كتاب الطهارة - باب التيمم [2]
من رحمة الله بعباده أن فرض عليهم الفرائض وأوجبها على قدر الاستطاعة، وجعل لكل ما لم يقدر عليه العبد بديلاً، ومن ذلك: الطهارة للصلاة بالماء، فإن لم يجد العبد ماء ليتوضأ كي يصلي أو ليغتسل إن كان جنباً، أو لم يستطع أن يستعمل الماء لمرض أو خوف، فإنه يعدل إلى التيمم.(35/1)
شرح حديث عمار بن ياسر في صفة التيمم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: (بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة، فأجنبت، فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا، ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه) متفق عليه، واللفظ لـ مسلم.
وفي رواية للبخاري: (وضرب بكفيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه) .
] .
بعث النبي صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه، في حاجة، ولم أقف على تلك الحاجة، يقول: فأصابتني جنابة وليس عندي ماء، فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة، وهذا الفعل منه رضي الله تعالى عنه يعتبر من استعمال القياس، فإن التيمم جاء في الوضوء وجاء أيضاً في الجنابة، وهو لا يعلم الكيفية، فقاس التيمم من الجنابة على الغسل من الجنابة بالماء، والغسل من الجنابة يعمم فيه جميع البدن، بخلاف الوضوء في الحدث الأصغر، فإنه تغسل أعضاء خاصة من البدن، فهو ظن أن التيمم ينبغي أن يعمم جميع البدن كما يعممه الغسل بالماء، ففعل تلك الصورة، فلما أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذكر له ما وقع منه، فقال له صلى الله عليه وسلم: (إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا!) ، أي: أن تفعل هكذا، والقول قد يأتي محل الفعل، يقال: قال بيده هكذا وفعل، قال برجله هكذا ودفع الأمر، قال برأسه هكذا، أي: أشار وفعل.
قال: (فضرب بيديه الأرض) ، فيتعين هنا إحداث الضرب، أما أن يمسها أو يجرها على الأرض فليس من صورة التيمم، فعليه أن يضرب بيديه الأرض، واليد تطلق من الكف إلى الذراع إلى الزند إلى المنكب، ولكن الذي يضرب به الأرض إنما هو الكفان.(35/2)
ضرب اليدين في الأرض للتيمم
والضرب باليدين على الأرض هي أول حركة في التيمم، وهذا متفق عليه، ولكن يأتي البحث في: ماذا يمسح؟ وفي عدد الضربات، وهذا هو ما يدور القول فيه في كيفية التيمم، أهو ضربة واحدة أم هو ضربتان؟ وهل يمسح الكفان والوجه فقط أم يمسح إلى المرفقين أم يمسح إلى المنكبين؟ وهل هي مسحة واحدة أو مسحتان؟ كل ذلك ورد، أما عن الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يأت إلى المنكب، ولكن جاء عن بعض السلف.
أما مسح الكفين والمرفقين فجاءت فيه النصوص، كما في حديث عبد الله بن عمر الذي ساقه المؤلف بعد حديث عمار، وبعض روايات عمار أيضاً إلى المرفقين.
إذاً: حديث عمار فيما يتعلق بالجنابة انتهينا منه، وذكرنا أن التيمم يشرع للجنابة كما يشرع للحدث الأصغر، ثم يأتي هنا تعليم النبي صلى الله عليه وسلم في مقام التعليم والبيان، ولا يجوز تأخير التعليم أو البيان عن وقت الحاجة؛ لأن عماراً لم يعلم كيف يتيمم من الجنابة، والرسول بين، والبيان في معرض التعليم هو الأساس والأصل.(35/3)
مسح اليد اليسرى على اليمنى
قال: عمار: (فضرب بيديه الأرض ثم مسح الشمال على اليمين) .
أي: أنه مسح اليمنى أولاً، ثم مسح الشمال، فذكر عمار هنا التيامن بين اليدين، فاليمين تمسح قبل الشمال، ثم تمسح الشمال.
وهنا يقول عمار: مسح الشمال على اليمين، أي: قدم مسح اليدين على مسح الوجه، وهذا في ترتيب حديث عمار الذي ساقه المؤلف في معرض التعليم.(35/4)
مسح الوجه والكفين
قال: (وظاهر كفيه ووجهه) .
باطن الكف حده ما تنكف عليه الأصابع، فالجزء الذي لا تقع عليه الأصابع عند قبضها ليس من باطن الكف؛ لأنه لا تأتي عليه الأصابع، والكف من بعد أطراف الأصابع إلى نهايتها، وظاهر الكفين يبدأ من الرسغ، وهو موضع الحركة والاتصال بين الكف وبين الذراع، فهذا هو ظاهر الكف مع الأصابع.
فـ عمار ذكر لنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره أن يضرب بكفيه الأرض، أي: ضربة واحدة، ثم يمسح الشمال على اليمين، أي: أنه قدم اليدين وقدم اليمنى على اليسرى، ثم يمسح ظاهر الكفين، ولم يذكر هنا إلى المرفقين، ولكنه لما قال: (ثم مسح الشمال على اليمين) ، يمكن أن يقال: إن هذا يشمل اليدين إلى المرفقين، على ما سيأتي في الرواية الثانية.
ثم بعد مسحِ اليدين مسحَ وجهه وظاهر كفيه، فيكون عاد إلى الكفين ومسح ظاهرهما وذلك بعد الوجه.(35/5)
نفخ الكفين بعد ضربهما في الأرض للتيمم
وفي رواية للبخاري: (وضرب بكفيه الأرض ونفخ فيهما) .
قوله: (وضرب بكفيه الأرض) هذا متفق عليه في كل الأحاديث، وقوله: (ونفخ فيهما) أي: بعدما يضرب الأرض بيديه يقربهما من فيه وينفخ فيهما، وفي بعض الروايات: (فنفض بعضهما ببعض) ، وهذه النفخة وافق عليها الأئمة الثلاثة، وخالف في ذلك الشافعي؛ لأنه يقول: النفخ يذهب التراب الذي علق باليدين، والآخرون يقولون: إن النفخ ليس قوياً، إنما الغرض منه -سواء النفخ أو ضرب الكفين بعضهما ببعض- أنه قد يعلق بالكفين حصاة أو قذاة أو عود صغير، فلو مسح به وجهه فقد يؤذيه هذا الذي علق باليد، فالنفخ فائدته أنه يذهب هذا الذي علق باليد، إذاً ليس المراد بالنفخ إذهاب ما علق باليدين من تراب إن كان على أرض ترابية، فهذه النفخة يوافق عليها الأئمة الثلاثة رحمهم الله، ويأخذون بها، والشافعي يقول: لا ينفخ؛ لأنه يذهب أثر التراب من يديه.
قال: (ثم مسح بهما وجهه وكفيه) ، إذاً رواية البخاري تقدم الوجه على اليدين، ولهذا ساقها المؤلف ليبين أن الصحيح والراجح هو تقديم الوجه على اليدين، والله تعالى يقول: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة:6] ، فذكر الوجه قبل اليدين، وهذا هو المشهور والمعمول به عند الجميع.(35/6)
شرح حديث: (التيمم ضربتان ... )
[وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين) ، رواه الدارقطني وصحح الأئمة وقفه] .
إذاً: حديث عمار رضي الله تعالى عنه متفق عليه، وتتفق الروايات كلها عن عمار بأن التيمم ضربة واحدة، وفيه روايتان: رواية تقديم اليدين على الوجه، وتقديم اليمنى على اليسرى، ورواية أخرى صحيحة عند البخاري فيها تقديم الوجه على اليدين، ورواية عمار في الموضعين ذكر فيها الوجه والكفين، ولكن جاء عن عمار أيضاً -كما ذكر ذلك ابن عبد البر - المسح إلى المرفقين.
وهنا يأتي المؤلف رحمه الله برواية عبد الله بن عمر وقد اختلفوا في رفعها وإرسالها ووقفها عليه، فيقول ابن عمر رضي الله تعالى عنه: (التيمم ضربتان) ، وهذا ليس من باب الاجتهاد بالرأي، فلو لم تكن مرفوعة نصاً فهي مرفوعة حكماً، وكونها مرسلة -المرسل هو سقوط الصحابي- هذا لا يطعن في الحديث؛ لأن الصحابي ولو لم نعرفه فهو عدل مقبول.
إذاً: رواية عبد الله بن عمر قوية يحتج بها، وقد قال فيها: (التيمم ضربتان) ، وفي حديث عمار: (ضربة واحدة) ، ثم فصل ابن عمر في هاتين الضربتين، فقال: (ضربة للوجه) ، فقدم الوجه على اليدين، (وضربة لليدين إلى المرفقين) ، فزاد على حديث عمار رضي الله تعالى عن الجميع بأن ذكر أن التيمم ضربتان، وزاد أن مسح اليدين ليس إلى الكفين فقط، ولكن إلى المرفقين مثل الوضوء.(35/7)
خلاف العلماء في عدد ضربات التيمم وفي المسح إلى المرفقين
وهنا يأتي العلماء إلى البحث في هذه المسألة: فـ الشافعي وأحمد يقولون: لابد من الضربتين، ولابد من المسح إلى المرفقين، ومالك رحمه الله يقول: التيمم ضربتان، ولكن ضربة للوجه وضربة للكفين فقط، وأبو حنيفة رحمه الله يقول: ضربة واحدة للكفين.
فكما وجدنا الاختلاف السابق في المسح، وجدنا هنا تعدد الضرب، ووجدنا بلوغ المسح إلى المرفقين، وكما وجدنا الخلاف في نوعية ما يتيمم عليه من أجزاء الأرض، وجدنا الخلاف هنا بسبب الألفاظ الواردة، فحديث ابن عمر يقول: (إلى المرفقين) ، وحديث عمار يقول: (ومسح بهما وجهه وكفيه) .
ونجد بعض الروايات عن مالك رحمه الله يقول: إن اقتصر على الكفين أجزأه، وأحب إليَّ إلى المرفقين، والذين قالوا بالمسح إلى المرفقين أخذوا طريق القياس أيضاً وقالوا: إن التيمم بديل عن الوضوء، واليدان يغسلان إلى المرفقين، فيكون المسح في التيمم كالغسل في الوضوء يبلغ بهما إلى المرفقين.
والآخرون قالوا: إن الآية الكريمة: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء:43] ، جاءت فيها اليد مطلقة فيما يتعلق بالتيمم، ولم يأت تحديدها في كتاب الله، وجاءت الآية في الوضوء الذي هو الأصل بقيد المرفقين، وجاءت أيضاً اليد مطلقةً في حكم قطع يد السارق: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] ، ولم تحدد موضع القطع، وجاءت السنة وعينت موضع القطع من الرسغ، أي: الكف.
فهنا يقول بعضهم: تحمل اليد المجملة في التيمم: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء:43] على آية القطع في السرقة، وأن السنة حددتها بالكف فقط.
وقال الآخرون: إن كانت القضية قضية قياس فقياس التيمم على الوضوء أولى؛ لأن كلاً منهما طهارة، فقياس طهارة التيمم على طهارة الماء أولى من قياس اليد في التيمم على اليد في قطع يد السارق.
ولكن المحققين من أهل الأصول يقولون: لا يصح القياس في كلا الأمرين؛ لأن من شرط القياس أن يساوي الفرع الأصل، والفرع هنا ليس مساوياً للأصل؛ لأن الأصل: طهارة مائية بغسل، والفرع هنا: تيمم تعبدي في الصورة والهيئة، ونحن لا ندرك الحقيقة، ولو قال قائل كما قال أبو حنيفة رحمه الله: إن الوضوء من الوضاءة وهو النظافة، فماذا يقول في التيمم وهو من تعفير الوجه بالتراب؟ هو إذاً أمر تعبدي، وقد يقال: إنه سد فراغ، وإشباع للروح والتطلع؛ لأن الماء يتطهر به للصلاة، فإذا لم يجد الماء ولم يكن للماء بديلاً كان في النفس شيء، فلما أعطي التراب تيمماً بدلاً من الوضوء، كأنه أعطي بديلاً عن مفقود، والبديل عن المفقود تطمئن إليه النفس وتستريح، فالمجال ليس مجال قياس.
إذاً: بقيت النصوص التي تذكر تارة ضربة واحدة وإلى الكفين، وتارة ضربتين ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، وأحسن ما قيل في ذلك هو ما قاله مالك رحمه الله: أنه من حيث الإجزاء تجزئ ضربة واحدة، ويجزئ الاقتصار على الكفين، ومن حيث الكمال والأوفى والأتم والأحسن في التيمم ضربتان وإلى المرفقين.
إذاً: أقل ما يجزئ في التيمم ضربة واحدة، والاقتصار على الكفين، وأكمل التيمم ضربتان، وليس ثلاثاً كالوضوء، وأن يبلغ بالمسح المرفقين.(35/8)
الأسلوب البلاغي في حديث عمار
بقي جانب الأسلوب البلاغي، وهو ما ينبغي على طالب العلم أن يمعن النظر فيه، ولنأت مرة أخرى إلى حديث عمار تصور كأنك تشاهد المنظر رجل أجنب في الخلاء، وهو لا يعلم حكم التيمم، فأتى بأقصى ما يمكن للعقل أن يتصوره، وهو أن يتمرغ في التراب من شعره إلى ظفره، فعل أقصى ما يمكن أن يفعله إنسان في العقل، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوجد النبي من عمار مبالغة وزيادة على الواجب، ولو بالغ إلى المنكب فقط فقد يقال: ما زال في حدود اليد، ولكن جسمه كله! فيكون صلى الله عليه وسلم قابل المبالغة من عمار والزيادة الكثيرة عن المطلوب بأقل ما يجزئ، وقال: (إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا) ، فضرب الأرض ضربة واحدة في مقابل تمرغه في الصعيد، ويكون ذلك مقابلة للمبالغة في الزيادة عن المطلوب بمبالغة في أقل ما يجزئ.
أما في الأمر العادي فليس هناك صورة بلاغية، كحديث ابن عمر فإنه جاء على الأمر العادي، والتشريع ابتدائي، فيكون التيمم على أوفى ما يكون وأكمل أن يكون ضربتين، وعلى هذا كما قال مالك رحمه الله: أقل ما يجزئ ضربة واحدة وإلى الكفين، والشافعي يقول: لا يجزئ إلا ضربتان وأن يبلغ بالمسح إلى مرفقيه.
إذاً: القضية في الكيفية دائرة بين ضربة وضربتين، وبين الاجتزاء بالكفين أو البلوغ إلى المرفقين.
ومما يتعجب منه أننا نجد بعض المشايخ عند الشافعية يمسح على اليدين في التيمم بشكل هندسي، يقول: ضرب أولاً ومسح بها وجهه، ثم ضرب الثانية ومسح الشمال على اليمين، فيبدأ ببطن كفه اليسرى على ظهر كفه اليمنى، أي: ببطن أصابع اليد اليسرى على ظهور أصابع اليد اليمنى، ثم يمر بأصابع يده اليسرى حتى يأتي إلى المرفق، ثم ينقلب ببطن الكف اليسرى على بطن اليد اليمنى، ويصعد بها إلى أن يلتقي الكف بالكف، ويمسح الإبهام بالإبهام، والأصابع بالأصابع، ثم يعود إلى اليسرى فيفعل بها مثلما فعل باليمنى؛ لأنهم يقولون: الجزء الذي يمسح به اليد اليمنى باليسرى يجب أن يكون موزعاً بين ظاهر اليد وبين باطنها، ولا يمسح هنا ثم يرجع ويمسح هناك؛ لأنه سيصير كأنه استعمل المستعمل، ولم يبقِ للبطن مما كان يمسح به ظاهر اليد، وهكذا حتى يأتي إلى المرفق، ثم يبدأ مرة أخرى باليمنى على اليسرى.
ونخلص من هذا كله: بأن من اقتصر على ضربة واحدة للوجه والكفين فلا نعيب عليه، ومن زاد وأخذ ضربتين واحدة للوجه والأخرى لليدين إلى المرفقين فلا نعيب عليه، وكلاهما فيه سنة، وكلاهما قال به أئمتنا رحمهم الله، والله تعالى أعلم.(35/9)
كتاب الطهارة - باب التيمم [3]
من المسائل المتعلقة بالتيمم: جواز التيمم لمن لم يجد الماء ولو كانت المدة طويلة، ومنها: لو تيمم رجل وصلى، ثم وجد الماء، فإنه لا يعيد الصلاة، وإن وجد الماء أثناء الصلاة فإنه يقطعها ويتوضأ ويصلي، ومن تلك المسائل: جواز التيمم لمن خاف على نفسه الهلاك من استعمال الماء، لمرض ونحوه، كأن يكون الماء شديد البرودة، ولم يستطع استعماله، ونحو ذلك من الاعذار.(36/1)
شرح حديث: (الصعيد وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصعيد وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتقِ الله وليمسه بشرته) رواه البزار، وصححه ابن القطان، لكن صوّب الدارقطني إرساله، وللترمذي عن أبي ذر نحوه وصححه] .
بعد ذكر المؤلف بيان مشروعية التيمم في قوله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً) ، وبيان نوعية ما يتيمم به في قوله صلى الله عليه وسلم: (وجعلت تربتها لنا طهوراً) ، وبيان الكيفية وهي ضربة أو ضربتان إلى الكفين أو المرفقين، أتى هنا إلى التوقيت في التيمم، وهل التيمم مؤقت بوقت، أو أنه مطلق الزمان؟ فقد وجدنا توقيت المسح على الخفين بيوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، فجاء المؤلف رحمه الله بحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الصعيد) ، ولم: يقل التراب ولا التربة على عموم ما تقدم.
(طهور المسلم) ، كلمة (طهور) جاءت في قوله تعالى: {مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48] ، وهي وصف للماء الذي يتطهر به، فالصعيد طهور المسلم، ولذلك قالوا: إن التيمم طهور كطهور الماء، ولفظ (المسلم) هنا للأغلبية، فإذا كانت أسرة أو عائلة أو جماعة ولم يجدوا الماء فالتيمم للمرأة وللرجل سواء.
وأصل الحديث أن أبا ذر رضي الله تعالى عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (هلك أبو ذر يا رسول الله! قال: وما أهلكك؟! قال: كنت أكون في الخلاء ومعي أهلي وتصيبنا الجنابة وليس عندي ماء، فقال له صلى الله عليه وسلم: الصعيد طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين) ، وهنا إلى أسلوب المبالغة، فهل سيعيش الإنسان في فلاة لا يجد الماء عشر سنين؟! وإذاً كيف تكون حالته وحياته؟! لابد أنه سيقيم في مكان لا ماء فيه عشر سنين ويتيمم للجنابة وللحدث، أو يكون الماء قليلاً لا يكفي إلا لطعامه وشرابه؛ لأنه من المتفق عليه أنه إذا كان الإنسان في الخلاء وليس معه من الماء ما يكفي إلا لشرابه، وطهي طعامه، ولدابته التي يركبها ليسقيها، ولم يزد على ذلك؛ وفّر الماء لشرابه، ولإنضاج طعامه، ولعجينه ولدابته وتيمم، ويعتبر فاقد الماء؛ لأنه ليس عنده ماء زائد عن حاجته، فإذا كان عنده ماء زائد عن حاجته، وحاجة كل حيوان محترم معه، فله أن يوفر الماء للحيوان؛ لأنه سوف يموت إذا لم يشرب، ولنفسه من باب أولى في مصالحه: في الشراب، والقهوة، والطعام، والعجين، وإذا لم يزد عن ذلك شيء تيمم ووفر الماء للضروريات تلك.
فهنا يقول صلى الله عليه وسلم: (الصعيد طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين) (لو) هنا حرف امتناع لامتناع (لم يجد الماء عشر سنين) هذا هو أقصى ما يمكن أن يتصوره إنسان أنه لن يجد الماء في تلك المدة، فإذا كان لأسبوع أو لشهر أو لشهرين فمن باب أولى أنه لا مانع في ذلك.
إذاً: لا توقيت في استعمال التيمم ما دام أنه على ما وصف الله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:43] ، وكما أجمع العلماء: أن من كان مريضاً لا يستطيع استعمال الماء فإنه له أن يتيمم.
إذاً: إن عدم الماء أو عدمت الاستطاعة على استعمال الماء وكان موجوداً؛ فإنه حينئذٍ يعمد إلى التيمم، وإلى متى؟ لا تحديد في ذلك ما دام مريضاً لا يستطيع استعمال الماء، وما دام على غير ماء لم يجده، فإنه يستعمل التيمم دون تحديد بزمن، لا يوم وليلة، ولا ثلاثة أيام، ولا شهر ولا شهران، ولا غير ذلك.(36/2)
هل التيمم مبيح للصلاة أم رافع للحدث؟
ثم قال (فإذا وجد الماء) أي: بعد العشر سنوات، (فليتقِ الله وليمسه بشرته) ، يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: هذا الحديث من المشكلات.
فقوله: (فإذا وجد الماء فليتقِ الله وليمسه بشرته) ، هل يمسه بشرته لما مضى وتيمم من أجله، أو يمسه بشرته لما يستقبل من الصلوات الجديدة ويصليها بطهارة مائية؟ ومن هنا ينشأ السؤال: رجل أجنب وتيمم وصلى، ثم بعد يوم أو يومين وجد الماء، فهل يمسه بشرته لتلك الجنابة الماضية، أو لما يستقبل من الجنابة أو الحدث؟ وهل التيمم رافع للحدث أو مبيح للصلاة؟ والإشكال في ذلك يقول رحمه الله: إذا كان قد صلى بالتيمم فمن قال: إنه رافعٌ للحدث فإن الصلاة صحيحة، والحدث ارتفع وإلا لما صحت الصلاة، والآخرون يقولون: لو لم يكن الحدث باقياً لما أمره أن يغتسل بعد أن وجد الماء.
إذاً: إن قلنا: يغتسل فمعناه: أن الحدث موجود، وإن قلنا: يصلي، فمعناه: أن الحدث ارتفع، فالأمران متعاكسان في هذا الحديث, ولذلك من قال: إن التيمم ليس رافعاً للحدث، ولكن الحدث ليس موجوداً وقت الصلاة, قال: إنما التيمم رافع للحدث وقت الصلاة.
ولكن يقال: التيمم مبيح للصلاة وليس رافعاً للحدث، فهو مبيح للصلاة مع وجود الحدث، وذلك نظير الرخصة في أكل الميتة، فإن النص بتحريم الميتة موجود وهي محرمة، لكن أبيحت مع التحريم للضرورة والاضطرار, إذاً فحكم نجاسة الميتة عندما يأكلها المضطر موجود، ولكنها أبيحت له إبقاءً على حياته، قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] فهي محرمة ولكن: {فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:173] (فلا إثم) للحرمة الموجودة، وكذلك هنا حينما لم يجد الماء، فتيمم مع وجود الحدث، لكنه أبيح له أن يصلي بهذا التيمم.
وقوله: (فليتقِ الله وليمسه بشرته) ، يقول العلماء: يمسه بشرته للجنابة الماضية، ويكون الحدث باقياً، ويترفع بعد أن وجد الماء لعدة سنوات أو أيام، وهل يمسه للمستقبل؟ نقول: أما للمستقبل فلا يحتاج؛ لأن الله يقول: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] ، فالأمر بالغسل للجنابة مع وجود الماء موجود ولا يحتاج إلى التنبيه عليه هنا.
إذاً: قوله: (فليمسه بشرته) ، إنما هو للحدث المتقدم الذي تيمم بسببه وصلى، ويؤيد هذا قضية المرأة ذات المزادتين، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة، وعند رجوعهم انتهى الماء عليهم، فأرسل علياً رضي الله تعالى عنه ومعه شخص آخر ليطلبا الماء، فذهبا يطلبان الماء، ومشيا مدة طويلة فلم يجدوا ماءً، ثم وجدا ضعينةً راكبة على بعير بين مزادتين، وهي امرأة من المشركين كانت على بعير لها، وعلى البعير مزادتان، أي: قربتان كبيرتان مليئتان بالماء، فسألاها: أين الماء؟ فقالت: الماء عهدي به أمس الساعة -أي: من أمس مثل هذا الوقت وأنا أمشي من عند الماء- ففكر: هل يذهبان ويبحثان عن الماء بعد أربعة وعشرين ساعة؟ فتشاورا فاقتاداها إلى رسول الله بما معها، قالا لها: إذاً اذهبي معنا إلى رسول الله، فقالت: من رسول الله؟ ذاك الصابئ؟ قالا: الذي تعنين، فأتيا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر بإنزال المزادتين، ثم أخذ من كل واحدة من المزادتين جزءاً في إناء، وقرأ ودعا وبرك في ذلك، وأعاد الماء الذي قرأ فيه ودعا في المزادتين، ثم نادى في الجيش: من أراد الماء ليشرب؟ من أراد ليسقي دابته؟ من أراد ليملأ وعاءه؟ فامتلأت أوعية الجيش, وشرب الناس وسقوا دوابهم، واكتفوا في كل حاجتهم من الماء.
وقد كان صلى الله عليه وسلم في صبيحة ذلك اليوم رأى رجلاً معتزلاً الناس لم يصل، فقال: (ما بالك لم تصل مع الناس, ألست بمسلم؟! قال: بلى يا رسول الله! ولكن أصابتني جنابة ولا ماء، قال: الصعيد وضوء المسلم) ، فتيمم الرجل وصلى، فلما جيء بالمزادتين وأفاض الله على الجميع بالماء، أخذ ماءً في إناء وقال: أين الرجل؟ يقصد الذي أجنب، قال: هأنا, قال: (خذ هذا فأفرغه على جسمك) ، وهنا يقال: الرجل تيمم وصلى، ثم دعاه الرسول وأعطاه الماء، وأمره أن يغتسل الجنابة التي تيمم لها؛ لأنه لم يجنب جنابة جديدة، ولم نعلم ذلك، وحتى لو أجنب ما علمنا بذلك، نحن نعلم الجنابة المتقدمة فقط.
وفي تتمة هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للمرأة: (انظري ما انتقصنا من مائك شيئاً، ولكن الله الذي سقانا، وقال: اجمعوا لها، فجمعوا لها ما معهم من الطعام وحملوه على المزادتين) ، وذهبت إلى قومها فقالت: يا قوم! رأيت عجباً، رجلاً إن كان ساحراً لهو أعظم السحرة، وإن كان نبياً لهو نبي حقاً، وقصت لهم القصة, فكان الصحابة إذا أغاروا على الأحياء يتجنبون حيها إكراماً لها؛ فقالت: يا قوم! والله ما ترككم القوم عجزاً عنكم، ولكن إكراماً لكم، فأسلموا خيراً لكم, فأسلموا.
والذي يهمنا في هذه القضية من الفقه أن الرجل تيمم وصلى، وهذه الجنابة باقية عليه، بدليل أنه صلى الله عليه وسلم أعطاه الماء لما علم من الجنابة السابقة، وأمره أن يغتسل، ولكن هل أمره أن يعيد الصلاة؟ لا؛ لأن الوقت قد خرج.(36/3)
حديث أبي سعيد في الرجلين اللذين تيمما وصليا ثم وجدا الماء
[وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء، فتيمما صعيداً طيباً فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهم الصلاة والوضوء، ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له, فقال للذي لم يعد: أصبت السنة وأجزأتك صلاتك، وقال للآخر: لك الأجر مرتين) رواه أبو داود والنسائي] .
يسوق المؤلف رحمه الله تعالى هذا الحديث عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: (خرج رجلان) فكونه لم يسم الرجلين لا يضر في الحديث؛ لأن الرجلين ليسا موضع تشريع خاص بهما، ولكنه يحكي ما وقع منهما، وما بينه صلى الله عليه وسلم من فعلهما، وهذا من أهم أحاديث التيمم.
هذان الرجلان خرجا في سفر وليس عندهما ماء، وأدركتهما الصلاة، فتيمما وصليا، وإلى هنا فعلا شيئاً عادياً, صليا بطهارة مشروعة وهو التيمم عند انعدام الماء، ثم مضيا في طريقهما فوجدا الماء الذي كان مفقوداً عند التيمم، والوقت باقٍ لم يخرج، وهنا اجتهد الرجلان، وكما يقول العلماء: يجوز الاجتهاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن في غيبته لا في حضوره، أما في حال حضوره فلا اجتهاد لأحد، ولا يقدم أحد شيئاً بين يدي رسول الله.
ولنفرض أنهما سافرا ودخل وقت العصر وليس عندهما ماء، فتيمما وصليا في أول الوقت، وفي أثناء المسير عند اصفرار الشمس وجدا الماء، فهم الآن في وقت العصر التي صلياها، فحينئذ اجتهد الرجلان، أما أحدهما فرأى أن الوقت باقٍ, وهو مطالب بالصلاة بطهارة مائية: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] ، فتوضأ وأعاد الصلاة بهذا الوضوء، ليوقع الصلاة بطهارة مائية كما أُمر, والآخر نظر إلى شيء آخر وقال: لقد صليت بطهارة مشروعة، تيممت كما أمرني الله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:43] ، وقد أديت الصلاة بوجهها المشروع وانتهيت من أدائها ومضت، فكوني أجد الماء بعد ذلك لست مطالباً بإعادة الصلاة؛ لأنني صليتها بطهارة مشروعة جائزة لي، إذاً أنا عملت عملاً صحيحاً شرعياً, أما أن أوجب على نفسي إعادة الصلاة بطهارة الماء فأنا لا أرى ذلك ولم أفعل.
إذاً: اختلاف وجهات النظر فيما لا نص فيه أمر وارد, ولم يعب الذي توضأ وصلى على من لم يتوضأ ولم يصلِّ, ولم يقل له: أنت مقصر، وإنما قال: هذا اجتهادي أنا في نفسي, والثاني لم يقل له: أنت مبتدع أو مخالف، ولم يعب عليه؛ لأن كلاً منهما عمل باجتهاده الخاص، وليس عند أحدهما نص يوقف الآخر عنده, وقد جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه أنه مر عليه رجلان فقال: من أين جئتما؟ قالا: من عند فلان, قال: ماذا تصنعان عنده؟ قالا: كنا نحتكم إليه في قضية كذا, قال: بم حكم لكما؟ قالا: حكم بكذا, قال: لو كنت أنا لحكمت بغير ما حكم به, فقالا: وما الذي يمنعك أن تحكم بيننا وأنت أمير المؤمنين بما تراه؟ فقال لهما: -وهذا محل الشاهد, وينبغي على طالب العلم الحرص كل الحرص على هذا المنهج؛ لأنه هو الذي يبقي المودة والأخوة، وصفاء النفس، وطهارة القلب بين طلبة العلم- قال: لو كنت أردكما إلى نص رسول الله أو كتاب الله لفعلت، ولكني سأردكم إلى رأيي، وليس الرأي بأولى من الرأي.
مع أنه أمير المؤمنين، وهو خليفة راشد، والرسول يقول: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) ، فلما لم يكن عنده نص من كتاب ولا سنة توقف، وقال: ولكني سأردكم إلى رأيي.
وقد بين لنا القرآن الكريم في قضية داود وسليمان: {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء:78] ، فداود عليه السلام حكم لأهل الحرث بالغنم عوضاً عن الحرث الذي أتلفته, وسليمان قال: أنا سأحكم بغير هذا، وعندي وجهة نظر أخرى، قال: تكون الغنم عاريةً عند أهل الحرث ينتفعون منها، وأصحاب الغنم يقومون على الحرث حتى يصلح على ما كان عليه من قبل، فمثلاً: إذا أكلت الغنم القمح في صغره، فهو يمكن أن ينبت ويطلع، فالشجر الصغير يمكن أن يورق وتطلع أغصانه، ويأتي بالثمار، فإذا ما استوى الحرث على ما كان عليه رد الحرث لأصحابه، وردت الغنم لأصحابها، وقال الله سبحانه وتعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79] ، ثم قال: {وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الأنبياء:79] .
فكما قال الفقهاء: صوب الله حكم الاثنين؛ فحكم داود صحيح، وحكم سليمان صحيح، ولكن حكم سليمان أكثر فهماً وأجمع للمصلحتين، ونحن لو نظرنا في قضائنا اليوم: (على اليد ما أخذت، وعلى العين ضمان ما أتلفت) ، فداود حكم بهذه القاعدة، وسليمان عليه السلام رأى إلى ضمان مصلحة الطرفين.
وهنا عمر رضي الله تعالى عنه الملهم المحدث يقول: لو كنت أردكما إلى نص من كتاب أو من سنة فعلت ونفذت؛ لأنه لا اجتهاد مع النص، ولكن رأيي، وليس الرأي أولى من الرأي) ، ولهذا في نظام القضاء لو أن قضية عرضت على قاض، وهي مسألة اجتهادية لا نص فيها، وحكم فيها، فإن حكمه يمضي، ولا يحق لحاكم يأتي بعده -ولو كان أعلى منه رتبة- أن ينقض ذلك الحكم؛ لأنه سوف ينقضه لرأيه الخاص، وليس رأياً بأولى من رأي، أما إذا كان مخالفاً نصاً فينقض لمخالفة النص.
فهذان رجلان مستويان في الدرجة، أدركتهما الصلاة ولا ماء عندهما، وهما يعلمان الحكم بأن الصعيد طهور المسلم، فتيمما وصليا، ثم طرأ عليهما ما جدد الفكر، واستوجب النظر، وهو أنهما وجدا الماء في الوقت، فحينئذٍ لو لم يكونا صليا بالتيمم فسوف يكون الواجب عليهما الوضوء والصلاة، لكنهما صليا وأديا ما عليهما، فأعاد أحدهما الصلاة بوضوء، والثاني لم يعد، وإلى هنا عمل كل منهما مغاير للآخر، والمرجع في هذا إلى الله ورسوله، فالرسول صلى الله عليه وسلم فصل في القضية، وهذا مما يبين منزلة صدر الإسلام وسلف الأمة، وأصحاب رسول الله الذين يتلقون العلم مبدئياً حياً طرياً من رسول الله مباشرة، فإذا جاءنا حكم عن صحابي عن رسول الله وجب أن نرفع به رأساً، ويجب أن نسترعيه الانتباه، ونعلم بأن هذا أحق ما يمكن أن يؤخذ فيه الأحكام.
فأجابهما صلى الله عليه وسلم على ما كان منهما، وقال للذي لم يتوضاً والصلاة لم يعد: أصبت السنة، والسنة هي الطريقة، وقد تستعمل السنة في مقابل الفرض في ذلك الوقت، وهو أمر اصطلاحي، كما جاء في حق رمضان: (إن الله افترض عليكم صيامه، وسننت لكم قيامه) ، وليس قيام الليل يعدل صيام النهار، فالصوم فرض: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] ، ولكن القيام من النوافل والسنن، فهنا نص صلى الله عليه وسلم على الفرق بين العملين، العمل الذي هو فرض وعين على كل مكلف، والعمل الذي هو سنة مندوب إليه، فقال للذي لم يعد واكتفى بالعمل الأول: (أصبت السنة) ، والسنة: هي الطريقة، كما قيل: من معشر سنت لهم آباؤهم ولكل قوم سنة وإمام أي: لكل معشر طريقة وإمام يقتدون به، وقوله: (سنت لهم آباؤهم) أي: رسمت لهم الطريقة والمنهج في حياتهم.
وقوله صلى الله عليه وسلم للذي اكتفى بالعمل الأول: (أصبت السنة) ، يدل على أن صلاته صحيحة؛ ولهذا أخذ العلماء أن من تيمم في أول الوقت لانعدام الماء، ثم وجده في الوقت، فإن صلاته صحيحة؛ لأن إصابة السنة معناها إصابة الصواب، فهو نص على أن الصلاة صحيحة مجزئة، وأنه أصاب السنة بعمله ذلك.
وقال للآخر: (لك الأجر مرتين) .
وذلك لأنه فعل الصلاة مرتين، مرة بالتيمم، ومرة بالوضوء، وبعضهم يقول: (لك الأجر مرتين) أي: لاجتهادك، ولكن الأول كذلك اجتهد في اكتفائه بالتيمم وصلاته التي مضت، فالتحقيق كما يقوله الكثيرون: (لك الأجر مرتين) ، لأنه أعاد الصلاة مرتين، مرة بالتيمم، ومرة بالطهارة المائية.(36/4)
المفاضلة بين الذي أصاب السنة والذي حصل على الأجر مرتين
وهنا يأتي نقاش العلماء النقاش الطريف: أيهما أفضل: الذي أصاب السنة أو الذي حصل على الأجر مرتين؟ نقول: الذي حصل على الأجر مرتين، وهذا هو الذي تميل إليه النفس؛ لأنه قال للذي لم يعد: (وأجزأتك صلاتك) ، ولفظ الإجزاء هو أقل ما يمكن أن يحصل عليه، وليس بعد الإجزاء من نقص فيكون ذلك قد أجزأته صلاته، ولكن الذي أصاب الأجر مرتين أجزأته وزيادة.(36/5)
مسألة: إذا وجد المتيمم الماء بعد أن تيمم وقبل أن يصلي
وهذه مسألة يبحث الفقهاء فيها وهي: إدراك المتيمم الماء بعد أن تيمم وقبل أن يصلي، فيقولون بالتقسيم العقلي: تيمم وقبل أن يصلي وجد الماء، فهل يصلي بتيممه، أم أن الماء موجود وهو ما شرع في الصلاة فيتوضأ؟ نقول: يتوضأ، وهذا باتفاق العلماء، إلا قول لـ داود الظاهري.
فإذا تيمم ووجد الماء قبل الشروع في الصلاة، فالجمهور على أنه يبطل التيمم بوجود الماء؛ لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:43] وقد وجده.(36/6)
مسألة: إذا وجد المتيمم الماء أثناء الصلاة
مسألة: تيمم وشرع في الصلاة، ثم وجد الماء أثناء صلاته، فهل يخرج من الصلاة ليتوضأ ويأتي بالصلاة بوضوئها أو يستمر في صلاته؟ يبطل التيمم بوجود الماء؛ لأن التيمم مشروط فيه: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء:43] وقد وجد فألغي التيمم.
والشافعي رحمه الله ومن وافقه يقولون: الله تعالى يقول: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] ، فهو قد دخل في الصلاة بوجه شرعي معلوم، وأصبح مطالباً أن لا يبطل صلاته بالخروج منها.
ولكن الجمهور يقولون: الطهارة المائية شرط أساسي، والتيمم ما جاء إلا نيابة عن الماء عند فقده، فإذا وجد الماء في أثناء الصلاة لم يبق للتيمم سبب.
وفي بعض المذاهب يقولون: إذا نهق الحمار بطلت صلاة المتيمم، وما هو الذي أبطل الصلاة بنهيق الحمار؟ قالوا: كأن طلب الماء فلم يجده، فأرسل شخصاً بحمار ليأتي بالماء، فاستبطأه فتيمم، ثم دخل في الصلاة، فإذا هو بالحمار ينهق من ورائه، فعلم أن الماء قد حضر، فحينئذ تبطل صلاته بالتيمم لحضور الماء، وهذا من نواقض التيمم زيادة على نواقض الوضوء.
إذاً: إن أدرك الماء وهو في أثناء الصلاة بطلت صلاته، وعليه أن يخرج من تلك الصلاة؛ لأنها لم تعد صلاة؛ لعدم استيفائها الطهارة المائية، وقد وجد الماء.
وإن وجد الماء في الوقت بعد أن تيمم وصلى، فهذه قضية هذا الحديث الموجود عندنا، وباتفاق الأئمة الأربعة أنه قد أجزأته صلاته؛ لأنه صلاها وأداها، وخرج من عهدتها، فبقاء الوقت مع وجود الماء أمر جديد يكون لما يستقبل من الصلوات الأخرى.
وإذا تيمم وصلى وخرج الوقت ثم وجد الماء، فلا إشكال أن الصلاة التي صلاها مضت لطريقها، وعليه أن يستعمل الماء لما يستقبل من الصلوات الآتية.(36/7)
حكم التيمم لمن يخشى على نفسه الهلاك من استعمال الماء
[وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل: {وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء:43] قال: (إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله والقروح فيجنب، فيخاف أن يموت إن اغتسل، تيمم) رواه الدارقطني موقوفاً، ورفعه البزار، وصححه ابن خزيمة والحاكم] .
هذه قضية من العقد في باب التيمم، يقول تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء:43] الآية، فبين أن الإنسان إذا كان على سفر ولم يجد ماء فإنه يتيمم، لكن إن كان واجداً للماء ولم يقدر على استعماله، فـ ابن عباس يقول: إذا كانت بالرجل الجراحة، فيجنب، ويخشى على نفسه إن هو اغتسل الهلاك -أي: الموت- بسبب الجراح؛ فإنه يتيمم.
ولكن إذا كانت الجراح مع استعمال الماء ليس فيها موت، ولكن فيها إيلام، وتأخير برؤ جراحه، وإذا لم يكن به جراح بالكلية، ولكن الماء شديد البرودة، والجو بارد لا يقوى على برودة الماء مع برودة الجو، فهل يتيمم أم عليه أن يغتسل من جنابته في شدة البرد مع برودة الماء؟ تحمل برودة الماء في برودة الجو تختلف فيه أجساد الناس، فبعض الناس قد يزيح الثلج عن وجه الماء ويغتسل، وبعضهم لا يستطيع حتى أن يغسل وجهه، وقد كان هناك أعرابي مسافر، فنزل في بعض منازل سفره فوجد غديراً فيه ماء، ومن شدة البرد تكونت طبقة من الثلج على وجه الماء، فجاء هذا الأعرابي وخلع ثوبه، وأزاح الثلج عن الماء ونزل فاغتسل، وخرج ولبس ثيابه، وكان معاوية بن أبي سفيان يرى هذا الرجل، فأُعجب بقوته وتحمله، فاستصحبه معه، وكان شاعراً، فمدح معاوية بمدائح وحي الطبيعة: أنت كالكلب في حفاظك للود وكالتيس في قراع الخطوب فقالوا: ويلك كيف تمدح أمير المؤمنين بهذا المدح؟ فقال: اتركوه، هذا خير ما يعلم؛ لأن الكلب عنده وفي، والتيس في قراع الخطوب أقوى من الحيوانات، فهذا ما يشاهد من بيئته، فلما أخذه معه وعاش عيشة الترف وتثقف بالمجتمع والحياة المتحضرة تغيّر، فهو القائل: عيون المها بين الرصافة والجسر قتلنني من حيث أدري ولا أدري ففرق بين التيوس والكلاب، وبين عيون المها وقتلنني، فلما رجع معاوية من رحلته إلى الحج مرة أخرى ومعه هذا الرجل ونزلوا في ذاك المنزل وفي شدة البرد، ناداه معاوية وقال: هلم! تذكر وقت كذا عندما اغتسلت هنا، قال: نعم، قال: فافعل الآن! وقال: لا إن البرودة تقتلني، قال: لماذا فعلت ذلك في العام الماضي؟ قال: العام الماضي كنت في البادية، أما الآن فقد عشت معك في الرفاهية والنعيم، وفي الدفء، فلا أقوى عليه الآن.
إذاً: التحمل لشدة برودة الماء أمر نسبي، وليس كل إنسان يقدر عليه، لكن إن عرف من نفسه أن ذلك يضره فلا بأس بالتيمم.
ونأتي إلى قصة عمرو بن العاص عندما أمّره رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرية، فلما في طريقه وقد دنا من العدو احتلم، فلما أصبح ذكر ذلك لأصحابه، ثم تيمم وصلى بهم، وهم مأمورون باتباعه لأنه أميرهم، فقالوا: كيف تصلي وأنت جنب؟ قال: أنا أميركم وأنا المسئول، فلما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله! عمرو صلى بنا وهو جنب، تيمم ولم يغتسل، فقال له صلى الله عليه وسلم: (أصليت بأصحابك جنباً يا عمرو؟ قال: بلى، قال: ولماذا؟ قال: يا رسول الله! إن الليل شديد البرد، والماء شديد البرودة، وأخشى إن اغتسلت به هلكت، والله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29] والعدو قريب منا، فخشيت إن أنا أوقدت ناراً لأدفئ الماء أن يشعر بنا العدو، فتيممت، فتبسم صلى الله عليه وسلم وأقر فعله، ولم يأمره بإعادة تلك الصلاة) .
إذاً: قول ابن عباس رضي الله تعالى عنه: إذا كان الرجل به الجراحة في سبيل الله، فأجنب، فخشي إن هو استعمل الماء -سواء كان لبرد أو لغيره؛ لأن الجراح قد تتأذى بالماء ولو لم يكن بارداً- أن يهلك، فإن له أن يتيمم، يقاس على ذلك بعض الأمراض الجلدية التي لا تقبل الماء، كأنواع الجدري -عافانا الله منه- أو ما يسمى (بالعنقز) عند بعض الناس، وهي حبوب صغيرة تظهر على الجلد فيها ماء قليل، وتغيّر الجلد، ولا يستطيع صاحبه أن يستعمل الماء؛ لأنه ينشر الداء على الجلد.
إذاً: من أجنب وخاف على نفسه الهلاك باستعمال الماء، سواء بسبب جراح، أو بسبب شدة البرد وبرودة الماء وهو لا يقوى على ذلك، ولا يستطيع أن يدفئ الماء، فحينئذ يكون له حق التيمم.
لكن هل هذا في جميع الحالات أم أنه في السفر فقط؟ لأن بعض العلماء يمنع التيمم للجنابة في الحضر، لكن إذا كان لمرض فهذا يستوي فيه الحضر والسفر، أما إذا كان لعدم الماء فيقل ويندر أن يعدم الماء في الحضر، قد يعدم في البادية والصحراء، لكن في الحضر هو محل إقامة الناس، والناس لا يقيمون إلا على الماء، والله تعالى أعلم.(36/8)
كتاب الطهارة - باب التيمم [4]
من المسائل المتعلقة بالتيمم: أن الإنسان إذا كان واضعاً جبيرة على جرح أو كسر جاز له المسح عليها لخوف ضرر الماء، وإذا كان به جرح يخشى ضرره من استعمال الماء فيتيمم ويعصب على جرحه ويمسح عليه.(37/1)
شرح حديث علي بن أبي طالب في المسح على الجبائر
[وعن علي رضي الله عنه قال: (انكسرت إحدى زندي، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرني أن أمسح على الجبائر) رواه ابن ماجة بسند واه جداً] .
يذكر الفقهاء أن من أشكل مسائل الفقه على طلبة العلم مسألتين: المسألة الأولى: المبتدئة في الحيض التي لم تستقر حيضتها، ولذلك يقول الشوكاني: جاءوا بالمتحيرة فتحيروا فيها.
والمتحيرة: هي المبتدئة في حيضها التي لم تستقر حيضتها، فتارة تحيض خمسة أيام، وتارة تحيض ثلاثة أيام، وتارة تحيض عشرة أيام، وتحيرت في مدة حيضتها، فماذا تفعل؟ المسألة الثانية: المسح على الجبيرة، ويبحث موضوع المسح على الجبيرة من عدة جهات، وفيها المكثر والمقل.
يقول: علي رضي الله تعالى عنه: (انكسرت إحدى زندي) والزند: عظم، فاليد من المرفق إلى الرسغ فيها عظمان يسميان الزندان، فيقول علي رضي الله تعالى عنه: انكسرت إحدى زندي، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم (فأمرني أن أمسح على الجبائر) .
ومعنى ذلك: أن علياً رضي الله تعالى عنه وضع جبيرة على الكسر، ومعالجة الكسر بالجبيرة أمر طبي معروف من قديم، وهذا من خصائص طب العرب أنهم يجبرون الكسر، وقد يكون هناك شخص متمرس في ذلك عملياً أحذق من طبيب متخرج في غرفة العمليات، وطالما جاء إنسان إلى المستشفيات وأعطي العلاج اللازم، وعملت له الجبيرة على أحسن ما يكون في الطراز الحديث، فيلتئم الكسر على غير مثال، فيأتي إلى شخص تعلم الطب العربي، فيكسر ذلك العظم مرة أخرى، ويعيده ويجبره، فيصبح على أحسن ما يكون.(37/2)
وضع الجبيرة على الكسر لا يشترط له طهارة مسبقة
قال علي رضي الله عنه: (فأمرني -أي: الرسول صلى الله عليه وسلم- أن مسح على الجبيرة) ، فإذا كان في حدث أصغر فإنه يغسل أعضاء الوضوء ما عدا الموضع الذي عليه الجبيرة فإنه يمسحه مسحاً فقط، والمسح على الجبيرة يبحث فيه من الجهات الآتية: أولاً: هل يشترط أن يكون وضع الجبيرة وهو على طهارة من الحدث -كما في لبس الخفين، أم لا يشترط؟ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الخفين: (دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين) ، فمسح على الخف، إلا أن الخف مؤقت بيوم وليلة أو ثلاثة أيام، أما الجبيرة فيمسح عليها مدة وجودها.
فبعض العلماء يقول: إن كان وضع الجبيرة على طهارة هذا العضو من الحدث فإنه يمسح ولا إعادة عليه، وإن كان وضعها على العضو وهو محدث فهو مطالب بغسل العضو، ولكنه قد تعذر الغسل، والمسح إنما هو لاستباحة الصلاة، فيعيد الصلاة، ثم ينظر مرة أخرى إلى الجبيرة هل هي موضوعة للجرح أو للكسر حينما وضعها، وهل أخذت من السليم أكثر ما يمكن أن تمسك به أم لا؟ لنفرض مثلاً: أن طول الكسر (5سم) ، فوضع جبيرة تحتاج إلى زيادة (3سم) من طرف، وإلى (3سم) من الطرف الآخر لتثبت على محل الجرح، فأصبح طولها بمجموعها (11سم) للإمساك، لكن الذي وضع الجبيرة -على الكسر (5سم) - جعل طرفها من جهة يستغرق (10سم) في السليم، ومن الجهة الثانية يستغرق (10سم) من السليم، فزاد واستغرق من السليم (7سم) من كل طرف، فإذا مسح فيكون قد مسح زيادة على محل الكسر.
وهناك من يقول: إن زاد في الجبيرة على قدر ما يمسكها على الصحيح فهو متعدٍ، ويكون قد مسح على ما لا يحق له المسح عليه لسلامته، فكان عليه أن يغسل الزائد عن قدر ما يمسك الجبيرة، فإذا أزيلت الجبيرة فعليه أن يعيد الصلاة، وتكلموا في ذلك كلاماً كثيراً.
ولكن إذا نظرنا إلى عموم قوله سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] فإذا مكثت الجبيرة -كما يحصل في بعض الأحيان- شهراً أو شهرين فإن أمره بأعادة الصلوات لهذه المدة فيه مشقة، وأيضاً عندما يريد أن يضع الجبيرة على الكسر هل يقال له: اذهب فتوضأ ثم ائت نضع الجبيرة؟ مع أنه في حالة يحتاج فيها إلى المبادرة بالعلاج.
إذاً: الرسول صلى الله عليه سلم لم يستفسر من علي عن حالة الجبيرة على كسر زنده، لم يقل له: هل كنت متوضئاً أم لا؟ ولم يقل له: هل استغرقت من السليم أكثر من الحاجة أم لا؟ بل إنه رأى جبيرة وضعت على كسر فأمره أن يمسح عليها.(37/3)
الجبيرة التي يمسح عليها
ما نوع الجبيرة التي يمسح عليها؟ هل تعتبر الجبيرة مجرد رباط شاش طبقة واحدة على الجرح، أم أن الجبيرة تكون سميكة كما يجعل الآن أجزاء من الخشب أو من الجريد، ومعها أنواع من الجبس كما هو معروف في المستشفيات، أو تلف بخرق من الصوف، أو يجعل معها مثلاً من البيض والنورة ومن المواد الأخرى كما في الطب العربي؟ فإذا كانت سميكة بالجبس أو بالخشب ولفافات الصوف وتلك المتانة فهي التي يمسح عليها، أما إذا كانت خفيفة والجرح والعضو بين، فهذه قالوا: لا يمسح عليها؛ لأنها لا تحتمل المسح، وإذا كان الجرح لا يقوى أن يباشر بالماء فهل يمسح؟ قالوا: إذا كان الجرح خفيفاً كأن يكون في اليد، ويمكن أن يمر يده على الجرح بدون تألم فليفعل، وإذا احتاج إلى الجبيرة بالوضع الذي تقتضيه حالة الجرح فيمسح على الجبيرة، والله سبحانه وتعالى أعلم.(37/4)
شرح حديث جابر في الرجل الذي شج فاغتسل فمات
[وعن جابر رضي الله عنه -في الرجل الذي شج فاغتسل فمات- قال: (إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده) ، رواه أبو داود بسند فيه ضعف، وفيه اختلاف على رواته] .(37/5)
خطر الفتوى بغير علم
قدم لنا المؤلف رحمه الله كلام ابن عباس: فيمن تكون به الجراحة في سبيل الله وخشي على نفسه الهلاك فماذا يفعل؟ ثم جاء بهذا الحديث الذي فيه أن الرجل هلك بالفعل، رجل شج في سبيل الله، فأجنب فسأل من بحضرته: ماذا أفعل هل أتيمم أم أغتسل؟ فقالوا: لابد من الغسل: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] ، فسمع الرجل الكلام واغتسل مع شجة الرأس، فتأثر الدماغ، فمات الرجل بسبب وصول الماء إلى الشجة في الدماغ، ولما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قتلوه قتلهم الله، هلّا سألوا إذ لم يعلموا، إنما دواء العي السؤال!) ، وهذا هو الخطأ والخطر في تولي الفتيا بغير علم، لما سألهم هذا المسكين فتقدموا وتبرعوا بالفتوى، وقالوا: عليك أن تغتسل، وكان ذلك خطأ منهم، فبخطئهم قتلوه، ومن هنا كان السلف رضي الله تعالى عنهم يتدافعون الفتوى كل المدافعة، ويخشون منها كل الخشية، ويقولون: (أجرأ الناس على الفتوى أجرأهم على النار) .
فهؤلاء بكلمة خرجت منهم قتلوا الرجل، واستحقوا الدعاء عليهم من رسول الله: (قتلوه قتلهم الله!) ، أي: مجازاةً على إفتائهم بغير علم، (هلّا سألوا إذا لم يعلموا) ، فالواجب على من لم يكن عنده علم، وسُئل عن شيء، أن لا يبادر إلى الفتوى فيه، وعليه أن يسأل من عنده علم في ذلك، ونحن نعلم قصة عمر رضي الله تعالى عنه لما خرج إلى الشام ووصل إلى بلدة بين المدينة والشام، وأخبره الناس بأن الطاعون بالشام، فنظر وتحير هل يمضي إلى الشام وفيها الطاعون أم يرجع حتى يرتفع الطاعون عن الشام؟ ثم استشار الناس، فقال: يا ابن عباس! ادع لي شيوخ المهاجرين، فدعاهم، فسألهم فاختلفوا عليه، فقوم قالوا: نرى أن ترجع؛ لأن معك أصحاب رسول الله فلا تقدمهم على الطاعون فيهلكهم.
وقوم قالوا: إنك خرجت لأمر الله فتوكل على الله وامض، فلما اختلفوا عليه قال: قوموا عني، وقال لـ ابن عباس: ادع مشيخة الأنصار، فجاءوا فاختلفوا عليه أيضاً، فقال: قوموا عني، ثم قال: ادع لي مشيخة قريش، فدعاهم إليه فلم يختلف عليه واحد منهم، وقالوا: نرى معك وجوه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا نرى أن تدخل بهم على الطاعون، ولما اتفقوا مع عمر في ذلك ومعه بعض الناس الذين قالوا: لا تدخل عليهم، ترجح عنده ذلك، ثم أعلن وقال: إني مصبح على ظهر، أي: راجع، فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان غائباً، وقال: يا أمير المؤمنين! عندي علم في ذلك، قال: وما هو؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا كان الطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها فراراً منه) ، فحمد الله سبحانه وتعالى على إصابته للوجهة السليمة، بأنه أراد العودة، فأكد ذلك عنده، فجاء راجعاً.
الشاهد: أنه لما لم يكن عند عمر نص في الموضوع استشار وسأل، ولما اختلفوا عليه، وجاءت القرائن، وترجح عنده العودة، قرر أن يعود، فجاءه العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرح بذلك، كما جاء عن ابن مسعود وغيره في المتوفى عنها زوجها ولم يدخل بها، وقضى فيها بالصداق والعدة والميراث، ثم قام قائم وقال: لقد قضى بذلك رسول الله، فحمد الله على موافقته لما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهنا رجل أصيب ولم يعلم الحكم، وسأل الحاضرين، فكلهم اجتهدوا وأخطئوا، وهذا لا يغتفر في الاجتهاد، فلا يقال لكل مجتهد: إن أخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران؛ لأنهم لم يكونوا من أهل الاجتهاد في هذا الموضوع، وإنما يكون الاجتهاد من أهل الخبرة، والذين لديهم خلفيات في النصوص، ويستطيعون أن يردوا الفرع إلى الأصل، وأن يقيسوه على غيره، أو يدخلوه ضمن قاعدة من قواعد الفقه، أما أن يأتي شخص بدأ يطلب العلم بالأمس، واليوم ينصب نفسه مفتياً ومجتهداً، فهذا يؤدب ولا يحق له ذلك، وإذا أخطأ فإنه يحاسب على خطئه، كما لو جاء إنسان ودخل كلية الطب وأخذ قلماً، ثم بعد ذلك أخذ حقيبة وأخذ أدوات وقام يعمل عمليات جراحية، فإذا أتلف شيئاً فإنه يغرمه؛ لأنه لم يتأهل بعد لأن يكون جراحاً يجري العمليات الجراحية.
وهكذا الفتوى في الدين إذا لم يكن مؤهلاً للفتوى وأفتى بخطأ فلا يقال: له أجر في اجتهاده؛ لأنه لم يتأهل.(37/6)
ماذا يفعل من أصيب بجرح وأراد أن يغتسل أو يتوضأ؟
لقد دعا صلى الله عليه وسلم على هؤلاء الناس، ثم بين فقال: (إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه خرقة) أي: يتيمم للموضع الذي لا يستطيع أن يغسله، وليست عليه جبيرة يمسح عليها، إنما يضع خرقة للجرح لمداواته ودفع الماء عنه، ولهذا قالوا: إذا كان في عضو من أعضاء الوضوء جرح ليست عليه جبيرة، ولا يستطيع أن يسمح عليه، فيغسل السليم ويتيمم للجرح ويصلي بذلك، فيأتي بما يستطيع له.
فهذا الذي شج يتيمم لموضع الشجة التي لا جبيرة عليها تمسح، ولا يمكن إمرار الماء عليها، ثم يعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها، إن كانت الخرقة سميكة صالحة للمسح، (ثم يغسل سائر جسده) أي: الموضع السليم الذي يقبل الغسل وإمرار الماء عليه، والله تعالى أعلم.(37/7)
شرح حديث ابن عباس في عدد الصلوات التي تصلى بالتيمم الواحد
[وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (من السنة أن لا يصلي الرجل بالتيمم إلا صلاة واحدة، ثم يتيمم للصلاة الأخرى) رواه الدارقطني بإسناد ضعيف جداً.
] في نهاية باب التيمم يأتي المؤلف رحمه الله تعالى بهذا الأثر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنه قال: (من السنة) ، وإذا قال الصحابي: من السنة فإنه يصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولاسيما إذا كان الموضع ليس موضع اجتهاد، ولا تقبل فيه آراء الرجال؛ لأن كون الصلاة تصح أو لا تصح، وصحة الصلاة وعدمها لا يحكم به إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقوله: (من السنة) : أي: المعروفة عندنا، والتي عليها العمل عندنا، أن المتيمم لا يصلي بتيممه إلا صلاة واحدة، ويتيمم للصلاة الأخرى التي تأتي.(37/8)
خلاف العلماء في مسألة كم يصلى بالتيمم الواحد؟
وهذه المسألة تباعد الخلاف فيها، حتى قال ابن عبد البر رحمه الله: لقد جمعت فيها كتاباً، أي: جمع الآراء والأقوال، واستدلال كل فريق لما ذهب إليه.
وغالب ما يبنى عليه الخلاف في هذه المسألة هو ما تقدم بحثه: هل التيمم مبيح للصلاة أو رافع للحدث؟ فمن اعتبر التيمم رافعاً أعطاه حكم الوضوء، ومن اعتبره مبيحاً قصره دون الوضوء، ومجمل الأقوال في ذلك هي: عند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه إذا تيمم صلى ما شاء من الصلوات المفروضة ما لم يحدث، فهو عنده كالمتوضئ تماماً.
وأبو حنيفة رحمه الله، مبناه في ذلك على أن التيمم حكمه حكم الوضوء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (الصعيد وضوء المسلم) ، فقال: الرسول صلى الله عليه وسلم سمى الصعيد وضوءاً، ولم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم تحديد، ومن هنا قال أبو حنيفة رحمه الله: يجمع بالتيمم الواحد عدة فروض كما يجمعها بالوضوء، ولا يبطل الوضوء إلا الحدث، وهو الذي يبطل التيمم من باب أولى، وبالتالي له أن يصلي بالتيمم الفرض والفرضين والنوافل التابعة لها، ويفعل بالتيمم كل ما يفعله بالوضوء، ولا يتعين بنية، فلو تيمم للمغرب ودخل المسجد الحرام وصلى المغرب وقام وطاف بذلك التيمم، وصلى ركعتي الطواف، وتنفل بين المغرب والعشاء ما شاء، ثم صلى العشاء بذلك التيمم؛ صح، فهذا قول أبي حنيفة.
ويقول الإمام مالك رحمه الله: إذا تيمم للفريضة فلا يصلي نافلتها قبلها بهذا التيمم، ولو تيمم لصلاة الصبح فصلى ركعتي الفجر قبل الصبح بذلك التيمم فعليه أن يتيمم للصبح مرة أخرى، بخلاف النافلة بعد الفريضة، فإذا تيمم للظهر فله أن يصلي سنة الظهر التي بعدها.
والشافعي رحمه الله يقول: يصلي الفريضة وراتبتها قبلها أو بعدها، فلو كان سيجمع بين فريضتين في سفر بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء، فتيمم للظهر وأقام الصلاة للعصر، فيتيمم للعصر في مكانه، وإن كان في مكان واحد وفي وقت واحد، ولكن لفريضتين.
والإمام أحمد كذلك يقول: يصلي الفريضة ونافلتها قبلها أو بعدها، وعند أحمد أيضاً كما يذكر صاحب المغني: إذا تيمم للفريضة صلى النافلة وصلى على الجنازة بذلك التيمم؛ لأن نيته في التيمم للفريضة، وهي أقوى من النافلة، والنافلة أقوى من الصلاة على الجنازة؛ لأنه كما قال ابن عمر: (إنما هي دعاء ليس فيها ركوع ولا سجود) .
وبهذا نرجع مرة أخرى إلى أثر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وكونه بسند ضعيف جداً أُخذ العمل به على ما قدمنا؛ لعدم معارضته لما هو أصح منه أو أقوى.
نأتي إلى مناقشة من يقول: التيمم لا يصلى به إلا فريضة واحدة حتى في الجمع في السفر، وقالوا: الأصل في ذلك أنه عندما تيمم لصلاة الظهر مثلاً، لم يتيمم إلا بعد أن بحث عن الماء فلم يجده؛ لأن الله سبحانه وتعالى أولاً قال: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] ، فأمر بالوضوء عند القيام لكل صلاة، ثم قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة:6] إذاً: عدم وجود الماء يكون بعد البحث والطلب، فهو قد بحث عن الماء وطلبه فلم يجده، فجاز له أن يتيمم؛ لأن التيمم مشروط بعدم وجود الماء، فإذا تيمم للظهر وصلاها، ثم جاء وقت العصر، فعليه أن يعيد الكرة بأن يطلب الماء، فإن وجده استعمله، فإن لم يجده فعنده النص: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة:6] .
إذاً: عليه أن يطلب الماء لكل صلاة، وله أن يتيمم إذا لم يجد الماء بعد الطلب.
وقالوا: اتفق العلماء على أنه لا يحق لمن يصلي بالتيمم أن يتيم قبل دخول الوقت؛ لأن التيمم ضرورة تبيح الصلاة، والصلاة لم يأت وقتها بعد.
وقالوا كذلك: لا يحق له أن يصلي الصلاة الثانية بالتيمم الأول؛ لأن تيممه قبل دخول وقت الثانية، فيكون كالذي تيمم للحاضرة قبل وقتها، وهذا لا يصح.
ثم قالوا أيضاً: كان الأصل في الطهارة مبدئياً (إذا قمتم فاغسلوا) و (إذا قمتم) تقتضي التكرار، أي: كلما قمتم فاغسلوا، وهي الطهارة الأساسية المائية، فقد كان الأمر في البداية إفراد كل صلاة بوضوء، ثم خفف ذلك وجازت عدة صلوات بوضوء واحد، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى عدة صلوات بوضوء واحد، كما في حديث عمر في فتح مكة.
ولكن لم يأت في التيمم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاتين بتيمم واحد، فيبقى الوضوء في طريقه ما لم يحدث: (إذا توضأ صلى ما شاء ما لم يحدث) ، ويبقى التيمم في طريقه عند عدم وجود الماء، وعدم الوجود يكون بعد الطلب، والطلب يكون بعد دخول الوقت.(37/9)
مباحث متعلقة بالنية في التيمم
مسألة: لو أن إنساناً بعد ما صلى الفريضة في مكانه تذكر صلاة فائتة عليه، نسيها بالأمس وأراد أن يقضيها الآن، فهل يصليها بتيمم الفريضة التي صلاها الآن أم يتيمم لها؟ قالوا: يتيمم لها؛ لأنه لا يصلى بتيمم واحد إلا صلاة واحدة، وهناك تفريعات على هذه المسائل في هذا الأثر وغيره، فهم مجمعون على أن النية في التيمم ركن، وكذلك في الوضوء، إلا الإمام أبا حنيفة رحمه الله فإنه يقول: النية ليست شرطاً في الوضوء؛ لأن الوضوء نظافة، أمر معقول المعنى، فكيفما غسلت أعضاء وضوئك تم الوضوء، والجمهور يقولون: الوضوء عبادة، والعبادة لابد فيها من النية: (إنما الأعمال بالنيات) ؛ لأنك قد تغسل أطرافك، وقد تغتسل ولم تنو طهارة، وقد تتبرد من الحر.
إذاً: يمكن غسل الأعضاء والجسم بدون إرادة الطهارة، والنية هي التي تميز بين الطهارة والعادة، والنافلة والفريضة، ففي صلاة الصبح السنة ركعتان، والفريضة ركعتان، وما الذي يفرق بينهما؟ النية هي التي تعين النافلة من الفريضة، وإن اختلفت الصورة، ففي الفريضة يجهر بالقراءة، وفي النافلة يسر بها، لكن عدد الركعات سواء، فالنية هي التي فرقت.
إنسان عليه قضاء من رمضان، وجاء يوم الإثنين، وأراد أن يصوم، فصام يوم الإثنين على أنه نافلة ونسي القضاء الذي كان عليه، فهل يجزئ صومه بنية يوم الإثنين عن القضاء الذي عليه سابقاً؟ لا يجزئ.
إذاً: إذا اتحدت صورة العمل بين الفرض والنافلة، وبين العبادة والعادة، فالذي يفرق في ذلك هو النية، فالأئمة الثلاثة قالوا: النية فرض في الوضوء والغسل والعبادات، والإمام أبو حنيفة رحمه الله قال: إنما هي أعمال معقودة المعنى بالنظافة، فإذا حصلت ولو لم ينو أجزأت.
لكن التيمم حتى عند الإمام أبي حنيفة تتعين فيه النية؛ لأنه ليس نظافة، وليس تبرداً كما في الوضوء، فقال: تتعين النية في التيمم، وتكون النية للصلاة، والنية للطواف، والنية لقراءة القرآن، والنية لحمل المصحف، والنية للمكث في المسجد، كل هذه من الأمور التي يشرع لها الطهارة، فهناك من يعتبر قاعدة: (إذا نوى الأعلى جاز له به الأدنى، وإذا نوى الأدنى لا يصح له به الأعلى) ، فإذا بحث عن الماء فلم يجد ماء، ويريد أن يقرأ في المصحف، فتيمم لمس المصحف، فهل يطوف بهذا التيمم؟ وأيهما أقوى في مشروعية الطهارة الطواف أم مس المصحف؟ لاشك أن الطواف أقوى؛ لأن الطواف بالبيت صلاة، والطهارة لصلاة النافلة أقوى من الطهارة لمس المصحف؛ لأن الصلاة منصوص عليها، وإذا أراد أن يصلي الفريضة في الوقت، قالوا: إن نوى الظهر مثلاً جاز له ما كان دون الفريضة بنوافلها، كمس المصحف، والطواف بالبيت، والمكث في المسجد، والصلاة على الجنائز؛ لأنها في مرتبة أدنى من مرتبة الفريضة في الطهارة، أما إذا تيمم لما هو أقل كما ذكر مالك، كأن تيمم وصلى ركعتي الفجر، فركعتا الفجر أقل من الفريضة، فلا يصلي بهذا التيمم الفريضة، وعليه أن يتيمم للفريضة؛ لأنها أقوى من النافلة، وإذا تيمم للطواف فلا يصلي به الفريضة؛ لأن الفريضة أقوى من الطواف وهكذا.
إذاً: لابد من النية في التيمم، وهل تكون النية برفع الحدث أو باستباحة الصلاة؟ من اعتبره وضوءاً فيكون عنده بنية رفع الحدث، ومن لم يعتبره وضوءاً فينوي به استباحة الصلاة، ولذا يقول صاحب المغني: من تيمم بنية رفع الحدث فإن التيمم باطل؛ لأنه لا يرفع الحدث؛ فـ أحمد عنده التيمم لا يرفع الحدث.
إذاً: ينوي في التيمم استباحة ما يتيمم من أجله، كأن يستبيح به الطواف، أو مس المصحف، أو المكث في المسجد، أو الصلاة على جنازة، هذه كما قيل رخصة يستبيح بها هذا العمل الممتنع عنها بدون طهارة، إذاً لا ينوي بتيممه رفع الحدث؛ لأن الحدث باقٍ.
ووجدنا الإمام أبا حنيفة رحمه الله يعتبر التيمم والوضوء سواء، يفعل بهذا ما يفعل بذاك، ولا ينتقض التيمم إلا بنواقض الوضوء أو وجود الماء.
ووجدنا مالكاً رحمه الله يقول: إنما التيمم مبيح لفريضة وقتها، ونافلتها التي بعدها، أما التي قبلها فلا.
ووجدنا الشافعي رحمه الله يزيد على مالك: النافلة التي قبلها.
وبالله التوفيق، والله أعلم.(37/10)
كتاب الطهارة - باب الحيض [1]
كتب الله الحيض على بنات آدم، وفي الحيض أحكام كثيرة، ومسائل عديدة، والمرأة قد تحتار فيما خرج منها: هل هو دم حيض أو استحاضة؟! وقد جاء في السنة ما يزيل هذا الإشكال، وما يرفع هذه الحيرة، وهذا من كمال الشريعة.(38/1)
شرح حديث: (إن دم الحيض دم أسود يعرف)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها: (أن فاطمة بنت أبي حبيش كانت تستحاض، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن دم الحيض دم أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي) رواه أبو داود والنسائي، وصححه ابن حبان والحاكم، واستنكره أبو حاتم] .
الحيض فيه مشاكل عديدة، وتفريعات لا نهاية لها، ويقولون: ليس هناك تفريعات أكثر من مسائل المسح على الجبيرة والحيض.
والحيض قد يتبعه استحاضة، وليست هناك نصوص قاطعة فيما يتعلق بأمر حيض النساء، والحيض من شئون النساء كما قال صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين عائشة: (إنه أمر كتبه الله على بنات آدم) ، ونحن ندرس باب الحيض؛ لكي نكون مرجعاً لنسائنا، فكل واحد منا عنده زوجة أو أم أو بنت أو أخت، وهن يحتجن إلى معرفة أحكام الحيض، وأولى من يبين لهن ذلك هو وليهن من ابن أو أخ أو أب أو زوج.
والمؤلف رحمه الله تعالى اختصر هذا الباب، وأتى بأربعة أحاديث أصول تجمع باب الحيض والاستحاضة.(38/2)
معنى الحيض
الحيض في أصل اللغة: السيلان، تقول العرب: حاض الوادي، أي: سال، وبعضهم يقول: الحيض هو: التجمع، ومن فقه اللغة أنك إذا وجدت مادتين متحدتين في أكثر الحروف واختلفتا في حرف واحد فاعلم أن بين المادتين صلة، وإذا نظرنا إلى كلمتي: حيض وحوض، فالفرق بينهما: الياء والواو، والحوض لاجتماع الماء، والحيض دم يتجمع في الرحم، ولا تناقض بين أصل الاشتقاق؛ لأن الدم الذي يتجمع في الرحم سيسيل ويخرج إلى الخارج.
وهناك معنى آخر للحيض، تقول العرب: حاضت البيضة، إذا فسدت، وصارت لا تصلح لإنتاج فروخ، ولا للأكل؛ لأنه امتزج بياضها بصفارها، فتتعفن إذا مكثت طويلاً، والحيض يجمع هذه المعاني الثلاثة، يقول الأطباء: إن للرحم دورتين: دورة شهرية، ودورة سنوية، أما الدورة الشهرية فهي دورة الحيض في كل شهر، وليس المراد بالشهر: الشهر القمري أو الشمسي، ولكن شهر الدورة هو: ما بين أول الحيضة الحاضرة وأول الحيضة المقبلة، وغالباً يكون ثمانية وعشرين يوماً، فهذه هي الدورة الشهرية، وهذا هو شهر المرأة في حيضتها.(38/3)
سبب الحيض
وسبب الحيض أن المرأة تفرز البويضة التي يلقحها الحيوان المنوي، فتخرج من المبيض إلى طريق البوق أو إلى فم الرحم، فتنتظر المني من الرجل ليلقحها، فإذا تلقحت علقت بجدار الرحم، وهي العلقة عند الأطباء، ثم بعدما تمضي عليها الأربعينات المعروفة تنفصل عن جدار الرحم بخيوط دموية رفيعة، وتكثر بعد ذلك وتصير حبل السرة الذي يغذي الجنين داخل الرحم، وتأخذ دورتها السنوية في فترة الحمل، لكن إذا لم تلقح البويضة، أو جاءها مني لا يصلح للتلقيح، ومضت مدة التلقيح؛ فإن الرحم يلفظها، وقد كان الرحم مهيئاً ينتظر الحمل المقبل، ولمَّا لم يأت الحمل نكث ما بداخله، فيخرج هذا الدم ومعه مواد أخرى من الرحم؛ لتنظيفه واستقبال بويضة جديدة.
إذاً: الدورة الشهرية عند المرأة هي: الحيض المعروف لغة وشرعاً، وهو نتيجة لدورة طبيعية في الرحم، فإن أتى الحمل توقف الحيض، وإن لم يأت الحمل خرج دم الحيض، إلا إذا كانت هناك موانع أخرى كحالة الرضاع، وحالة المرض، وغير ذلك.
وتكلم الفقهاء عن أقل الحيض وأكثره، وأقل الطهر وأكثره، فما كان زيادة عن أكثر مدة الحيض فهو استحاضة، وما كان أقل من مدة الطهر بين الحيضتين فهو استحاضة، وهذا سيأتي التنبيه عليه إن شاء الله في نهاية هذا الباب.
وهذه النصوص الأربعة التي ذكرها المؤلف رحمه الله تعالى في هذا الباب تشتمل على حالات الاستحاضة، والاستحاضة إما أن تكون مؤقتة أو تكون دائمة، ومعنى مؤقتة: أن يزيد دم الاستحاضة عن مدة الحيض، فإذا زاد عنها اعتبر الزائد استحاضة، والدائمة أن ترى الدم دائماً، ولا ترى طهراً، ولا ينقطع عنها الدم.(38/4)
الاستحاضة
لقد بدأ المؤلف رحمه الله بأحاديث الاستحاضة ليبين: ماذا تفعل المستحاضة في صلاتها وصيامها عند وجود الاستحاضة؟ عن عائشة رضي الله عنها أن فاطمة بنت أبي حبيش كانت تستحاض.
وهناك عدة نسوة كن يستحضن، مثل بنات جحش الثلاث، وهذه كانت تستحاض، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن دم الحيض دم أسود يعرف) .(38/5)
رجوع المستحاضة إلى التمييز
المستحاضة عند الفقهاء إما أن تكون ذات عادة شهرية سابقة، فهي تعرف مدة حيضتها، فيطبق عليها الدم فلا تعرف حيضاً من استحاضة، وإما أن تكون مبتدئة بالحيض، وتأتي حيضتها طويلة، ولا تعرف مدة حيضتها، ولا ما زاد عليها من استحاضة، فهنا ردها النبي صلى الله عليه وسلم إلى اللون، فقال: (إن دم الحيض دم أسود يُعرَف) ، وفي رواية: (يعرُف) فيعرف من المعرفة، ويعرُف من العرف وهو: الرائحة، فهو يُعرَف تعرفه النسوة بسواده، ودم الاستحاضة ليس أسوداً، بل هو نزيف كما في الحديث: (إن ذلك عرق) ، وقال: (إنما هي ركضة شيطان) ، فالاستحاضة نزيف دم طبيعي يخرج من العرق كالدم الذي يخرج من جرح في اليد أو غيرها، أما دم الحيضة فليس دماً خالصاً، بل فيه من فضلات الرحم، وفيه من المواد الأخرى التي يفرزها جدار الرحم مما كان مبطناً فيه، فيجتمع مع الدم سوائل أخرى؛ ولهذا فإن دم الحيض لا يتخثر، أي: لا يتجمد، بخلاف الدم الذي يخرج من العرق فإنه لصفائه ولخلوصه من السوائل الأخرى؛ إذا مكث قليلاً تجمد مثل الدم المسفوح من الذبيحة فإنه بعد فترة يتجلط ويتجمد.
معنى الحديث: أنه ما دام قد التبس عليك أمر الحيضة من الاستحاضة؛ فاعلمي أن دم الحيض متميز بلونه ورائحته، فدم الحيض رائحته كريهة منتنة؛ لما يحمله من المواد المخاطية من الرحم، أما دم الاستحاضة فليست له رائحة كريهة؛ لأنه دم طبيعي يخرج من العرق كدم الفصد والجرح ونحوه.
فأرشدها أن تنظر إلى الدم الذي يخرج منها، فإذا كان الدم الخارج منها أسوداً له رائحة فهو دم حيض، وسيستمر معها خمسة أيام أو ثلاثة أيام أو أربعة أيام، فتعتبر الأيام التي يكون فيها الدم أسوداً منتناً أيام حيض، وما بعد ذلك تعتبرها استحاضة، فتتطهر بعد مضي حالة الدم المعروف، وتغتسل ثم تصلي وتصوم مع وجود الدم الآخر الذي ليس أسوداً، وليست له رائحة.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (فإذا كان ذلك فأمسكي) .
أي: فإذا كان ذلك الدم الأسود فأمسكي عن الصلاة؛ لأنك في حالة حيض، والمعروف عند أطباء أمراض النساء أن متوسط عادة النساء خمسة أيام، وأن من تحيض أقل من يومين أو تزيد عليها الحيضة عن ثمانية أيام فلتراجع الطبيب، فعند الأطباء أن الحيضة لا تقل عن يومين ولا تزيد عن ثمانية أيام، ولكن أقل مدة الحيض يوم وليلة عند الجمهور، وثلاثة أيام عند أبي حنيفة رحمه الله، ولحظة عند مالك فيما يتعلق بالصلاة والصيام، وثلاثة أيام فيما يتعلق بعدة الطلاق ونحوها.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (فإذا ذهبت أيامها -أي: أيام الدم الأسود- فاغتسلي) أي: اعتبري نفسك خرجت من الحيضة، ودخلت في الاستحاضة، فاغتسلي للطهر من الحيض.(38/6)
كيف تتوضأ المستحاضة
وقوله عليه الصلاة والسلام: (فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي) .
أي: فإذا كان الآخر يعني: غير الأسود، وهو دم الاستحاضة، فليس هناك إلا قسمان فقط: أسود وآخر لونه أحمر قاني، فهنا قال: (توضئي وصلي) ، وهل تتوضأ وتصلي فقط أم تغتسل عند نهاية الدم الأسود من الحيض؟ تغتسل كما بين الله سبحانه في قوله: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة:222] ، فطهر الحائض هو: انقطاع الدم عنها، وتطهرها هو اغتسالها، فالمستحاضة تعرف طهرها بذهاب الدم الأسود، وحينئذٍ تعتبر نفسها قد طهرت من الحيضة، فتغتسل، ثم تتوضأ لكل صلاة بعد ذلك.(38/7)
جلوس المستحاضة في مركن
قال رحمه الله: [وفي حديث أسماء بنت عميس عند أبي داود: (ولتجلس في مركن) ] .
هذه رواية أبي داود عن أسماء رضي الله عنها، فإنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أستحيض حيضة كبيرة، فقال: (فلتجس في مركن) ، والمركن هو: حوض كبير أو إناء كبير مثل البانيو الآن أو الأحواض النايلون، فتملأه بماء وتجلس فيه، فإذا رأت الصفرة على وجه الماء فهذا علامة على أن تلك الصفرة من دم الاستحاضة، وليست من دم الحيض؛ لأن دم الحيض لا صفرة فيه، فهو أسود، فإذا رأت الصفرة فهي مستحاضة.(38/8)
غسل المستحاضة غسلاً واحداً عند انقطاع حيضتها
وقوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا رأت صفرة فوق الماء فلتغتسل للظهر والعصر غسلاً واحداً) .
بين صلى الله عليه وسلم أن المستحاضة تتوضأ لكل صلاة مع الاغتسال عن الحيضة في نهاية مدتها، وبعد ذلك تتوضأ لكل صلاة، فتغتسل غسلاً واحداً -كما في رواية عائشة - في نهاية الحيضة عند انقطاع اللون الأسود، وبعد ذلك تتوضأ لكل صلاة ولو لم تحدث حدثاً آخر، ولو لم يخرج من السبيلين شيء، لا ريح ولا بول، فلا موجب للوضوء غير دم الاستحاضة، فأرشدها صلى الله عليه وسلم أن تتوضأ لكل صلاة، وهل هذا الوضوء يقطع الدم؟ لا، لكن هذا الوضوء للضرورة؛ لأن الخارج من السبيلين ينقض الوضوء، فهي تتوضأ، وبعد أن تتوضأ يخرج الدم، وقد أمرها صلى الله عليه وسلم -كما سيأتي- أن تستثفر وتضع الكرسف، أي: القطن، حتى لا ينزل الدم على ثيابها، وعلى جسمها، وعلى الأرض التي تصلي عليها، فعندما تستثفر سيخرج الدم، وسينتهي إلى ما تجعله من قطن أو قماش، ولا يسقط على الأرض، فلما كان الدم سيخرج، فالأصل عدم بقاء الطهارة مع خروج الدم كخروج البول والريح، ولكن تتوضأ للضرورة، فما دامت الطهارة ضرورية فلا ينبغي أن تتوضأ قبل دخول الوقت، وإذا توضأت فتصلي الصلاة التي توضأت لها، وتصلي كذلك النوافل، وتفعل ما يفعله غير الحائض؛ لأنها طهرت بانقطاع الدم الأسود، وبعد الغسل الأول تتوضأ لكل صلاة، ولو لم ينتقض الوضوء بناقض آخر.
قال عليه الصلاة والسلام: (ولتجلس في مركن، فإذا رأت صفرة فوق الماء فلتغتسل للظهر والعصر، غسلاً واحداً) .
إذا رأت الصفرة أي: انتهت الحيضة وجاءت الاستحاضة، وعلامتها: رؤية صفرة فوق الماء الذي في المركن الذي جلست فيه، وهذا نوع من العلاج يساعد على عدم تركز الدم في المهبل أو في محله، ويساعد على إخراجه إلى الخارج.
قال عليه الصلاة والسلام: (فلتغتسل للظهر والعصر جميعاً، وتغتسل للمغرب والعشاء جميعاً، ولتغتسل للصبح غسلاً آخر) ، بينما في حديث عائشة ذكر بعد اغتسالها من الحيضة أنها تتوضأ لكل صلاة، وفي حديث أسماء أنها تجمع بين كل صلاتين بغسل، وهل تقدم المتأخرة مع المتقدمة أم تأخر المتقدمة مع المتأخرة؟ أي: هل تجمع جمع تقديم أم جمع تأخير؟ لم يبين لنا في هذا الحديث كيف تجمع بين الصلاتين بهذا الغسل، فهل تغتسل للظهر والعصر، وتغتسل للمغرب والعشاء؛ في وقت إحداهما على اختيارها، كالمسافر إن شاء جمع جمع تأخير، وإن شاء جمع جمع تقديم؟ لا، فسيأتي لنا النص بأن هذا الجمع جمع صوري، بأن تؤخر الظهر إلى آخر وقتها، فتصلي الظهر في آخر الوقت، فيدخل وقت العصر فتصليه في أول الوقت، فتكون اغتسلت للصلاتين، وصلت كل صلاة في وقتها، إلا أن الصلاة الأولى كانت في آخر وقتها، والصلاة الثانية في أول وقتها، فتكون جمعت بين الصلاتين في الصورة، ولكن في الحقيقة فإن كل صلاة وقعت في وقتها.
إذاً: تغتسل للظهر والعصر معاً، وتغتسل للمغرب والعشاء معاً، وتغتسل للصبح، ولم يبين هنا كيفية اغتسالها للصلاتين، وسيأتي النص في بيان ذلك.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (وتتوضأ فيما بين ذلك) .
أي: تتوضأ فيما بين ذلك لتلاوة القرآن، وللطواف، ولصلاة نوافل، ولما يحتاجه العمل الديني من طهارة.(38/9)
شرح حديث: (إنما هي ركضة من الشيطان)
قال رحمه الله: [وعن حمنة بنت جحش قالت: (كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم أستفتيه، فقال: إنما هي ركضة من الشيطان، فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام ثم اغتسلي) .
حمنة بنت جحش ثالث ثلاث من بنات جحش كن يستحضن، ويقول بعض أطباء أمراض النساء: إن الحيض والاستحاضة لهما تعلق كبير بالوراثة، في مدتها وغزارة دمها، فقالت حمنة: كنت أستحاض حيضة كثيرة، وقالت: إنما أثج ثجاً، فقال: (افعلي كذا وصلي ولو قطر الدم على الحصير) ، كما في رواية، فهي كانت تستحاض استحاضة كبيرة شديدة فجاءت تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها: (إنما هي ركضة من الشيطان) ، أي: هذه الحيضة الطويلة الكثيرة الزائدة إنما هي ركضة من الشيطان، والفقهاء يقولون: هي ركضة على الحقيقة، فالشيطان ركضها في رحمها حتى فجر العروق، فخرج الدم من الرحم؛ كي يشكل عليها أمر طهارتها، ويختل عليها أمر صلاتها، فهو يريد أن يفسد عليها أمر دينها، وهل هذا حقيقة أو مجاز؟ نحن نقول كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنما هي ركضة من الشيطان) ، والأطباء يعبرون عنها بالنزيف الرحمي، والنزيف الرحمي عندهم له أسباب عديدة، ولا يعرفون كلمة: ركضة شيطان، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن زيادة الدم عن الحيضة الطبيعية التي يعرفها سائر النساء؛ ليست بسبب مرض، ولا حرج على المرأة فيها؛ لأنها لا تملكها ولا تستطيع دفعها، إنما هي ركضة من الشيطان.
وقال عليه الصلاة والسلام: (فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام) ، وقد أشرنا إلى أن أكثر الحيض عند الأطباء ثمانية أيام، والرسول صلى الله عليه وسلم قصرها على ستة أو سبعة، وقد يختلف حيض النساء من يوم إلى يومين إلى ثلاثة إلى أربعة إلى سبعة، ولكن هذا متوسط حالات النساء، وقد يكون الحيض عشرة أيام؛ ويكون حيضاً طبيعياً، ويهمنا هنا التعليم النبوي لـ حمنة رضي الله تعالى عنها لما اختلط عليها الدم وتواصل، ولم تعلم مدة حيضها من حيضتها، ولا يوجد لون أسود يفرق بين الحيضة والاستحاضة، فلو كان عندها علامة تفرق بها بين الحيضة والاستحاضة مثل اللون لردها إلى صفة الدم كما رد من قبلها، ولكن قال: (تحيضي) أي: في علم الله، فامكثي حائضاً، واعتبري حيضتك من كل شهر ستة أو سبعة أيام، وهذا متوسط عادة غالب النساء، وهناك من تحيض يوماً واحداً، وهناك من تحيض يومين فقط، وتنتظم حيضتها على ذلك، وهناك من لا تزيد على ثلاثة أيام، وهناك من تصل إلى عشرة أيام، لكن متوسط الحيضة عند غالب النساء ستة أو سبعة أيام.
فالمستحاضة لها حالتان: حالة يكون الدم المتواصل عندها يتميز بعضه عن بعض باللون والرائحة، فما تميز بلون ورائحة فهو حيضة، وما لم يتميز بشيء من ذلك فهو استحاضة، وهذه حمنة دمها ليس فيه تمييز، فكله على لون واحد، كله أسود أو أحمر أو بين بين، ودم الحيض أسود يميل إلى اللون البني، ودم الاستحاضة لونه بعيد عن هذه الألوان، فإذا لم تميز المستحاضة أيام حيضها، ولم يوجد في الدم الخارج منها ما يميز بعضه عن بعض فماذا تفعل؟! تتحيض على غالب حيض النساء، ومتى تجلسها؟ تتخير، فتعتبر أول الشهر مثلاً حيضها، فتجلس ستة أيام أو سبعة أيام وتعتبرها حيضة، فتغتسل وتأخذ حكم الطاهرة، وهكذا أول كل شهر تجلس من واحد في الشهر إلى ستة أو سبعة، وهكذا تعتبر الشهر دورة كاملة، وتتحيض فيه ستة أو سبعة أيام من أول الشهر إلى سابع يوم، وتكون هذه حيضتها المعتبرة، وتمتنع فيها عن الصلاة وعن الصيام وعن الوطء، ثم بعد نهاية الأيام المذكورة تعتبر نفسها قد طهرت فتغتسل، ثم بعد ذلك تتوضأ لكل صلاة، وهل تغتسل وتجمع بين الصلاتين؟ قال عليه الصلاة والسلام: (فتحيضي ستة أيام أو سبعة ثم اغتسلي، فإذا استنقأتي فصلي أربعاً وعشرين أو ثلاثة وعشرين وصومي وصلي، فإن ذلك يجزئك) .
قوله: (فإذا استنقأتي) يعني: اعتبرتي نفسك قد استنقأتي من دم الحيضة بعدد الأيام، أما النقاء حقيقة فليس بحاصل؛ لأن الدم موجود، لكن المعنى: اعتبرتي نفسك قد استنقأت من الحيضة بعدد الأيام التي اعتبرتيها حيضاً، وقد تعتبر الأيام من نصف الشهر، وقد تعتبر الأيام من أوله أو آخره، فإذا حددت لنفسها وقتاً من الشهر تعتبره حيضاً؛ فإذا انقضت تلك الأيام فتغتسل، ويكون حكمها حكم الطاهرة، فتصلي أربعة وعشرين يوماً، وهذا الحديث لم ينظر إلى أن الدورة الشهرية عند المرأة -كما يقول الأطباء- ثمانية وعشرين يوماً، ولكن نظر إلى الشهر بهلاله، فإذا تحيضت ستة أيام فقد بقي من الثلاثين أربعة وعشرون يوماً، وإذا تحيضت سبعة أيام فقد بقي ثلاثة وعشرون يوماً، فتصلي بقية الشهر بعد الستة أو السبعة الأيام التي اعتبرتها حيضة.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (وصومي وصلي فإن ذلك يجزئك) .
أي: بعد الستة أو السبعة أيام؛ اغتسلي للحيضة، واعتبري نفسك كالطاهر، وصومي بقية الشهر وصلي كذلك، ولزوجها أن يأتيها، ولكن الأولى الابتعاد عن وطئها من ناحية صحية، وليس من الناحية الشرعية.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (وكذلك فافعلي كل شهر كما تحيض النساء) .
أي: وكذلك فافعلي كل شهر: تتحيضين ستة أو سبعة أيام، وتعتبرين نفسك بقية الشهر طاهرة، فتغتسلين عند نهاية أيام الحيض، ثم تصومين وتصلين إلى نهاية الشهر، وهكذا دواليك كل شهر.(38/10)
جواز الجمع الصوري للمستحاضة
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (فإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر ثم تغتسلي حين تطهرين) .
هنا بين كيفية اغتسالها للظهر والعصر معاً، بأن تؤخر الأولى إلى آخر وقتها، وتقدم الثانية إلى أول وقتها، وتغتسل غسلاً واحداً لهما، وفي الحديث الأول: الوضوء لكل صلاة، وهنا قال: (فإن قويت) ، أي: إذا كان لا يشق عليك، لا يوجد شدة برد، أو قلة ماء، أو عدم تحمل الماء.
إذاً: المبدأ الأساسي مع حمنة أن تتوضأ لكل صلاة بعد الغسل عن الحيضة، لكن الأكمل والأطيب إن قويت أن تؤخر الظهر، وتقدم العصر، ثم تغتسل لهما، وتؤخر المغرب، وتقدم العشاء، وتغتسل لهما، ثم تغتسل للصبح في وقتها، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ثم تغتسلي حين تطهرين، وتصلي الظهر والعصر جميعاً، ثم تؤخرين المغرب وتعجلين العشاء، ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين؛ فافعلي) .
وهل قوله: (تجمعين بين الصلاتين) جمع حقيقي فتصلي إحداهما في وقت الأخرى أم هو جمع صوري بأن تصلي كل صلاة في طرف وقتها؛ فهذه في آخر وقتها، وتلك في أول وقتها؟ هو جمع صوري، وليس بجمع حقيقي؛ لأن كل صلاة وقعت في وقتها.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (وتغتسلين مع الصبح وتصلين) قال: وهو أعجب الأمرين إلي.
قوله: (وهو أعجب الأمرين إلي) ، اختلف العلماء في هذه الجملة، هل هي من قوله صلى الله عليه وسلم أو من قولها هي؟ والأمران هما: الوضوء لكل صلاة، والغسل للصلاتين، فأيهما أعجب في الحكم؟ الأعجب في الحكم الاغتسال والجمع بين الصلاتين، لكن من قال: أعجب إلي؟ جل العلماء أن هذه الجملة راجعة إلى حمنة، فهي قالت: هو أحب الأمرين إلي، أي: أن أغتسل للصلاتين معاً، وأؤخر الظهر وأقدم العصر.
وقد كانت بعض المستحاضات تغتسل لكل صلاة، قال الجمهور: هذا من عندها هي، ولا موجب لإعادة الغسل بعد انتهاء فترة الحيض، سواء كان بالأيام أو كان باللون، فالغسل للحيض واحد، سواء اعتبرناه بلونه أو اعتبرناه بأيامه، فما الموجب للغسل بعد ذلك؟ والدم الخارج بعد الحيض دم نزيف، وهو لا يستوجب غسلاً، ولكن كان ذلك أحب إليها احتياطاً وتورعاً وإنقاءً لنفسها، فكانت تغتسل وتجمع بين الصلاتين.
إذاً: الحديث الأول موضوعه: تمييز الحيضة من الاستحاضة باللون، وأن تغتسل للحيضة ثم تتوضأ لكل صلاة، أو تغتسل للظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً، والحديث الثاني بين أن اغتسالها للظهر والعصر وجمعها بينهما يكون جمعاً صورياً، وهذا أحب الأمرين للرسول صلى الله عليه وسلم أو للمرأة، على الخلاف، والجمهور أنه للمرأة.(38/11)
رجوع المستحاضة إلى عادتها السابقة
قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة بنت جحش شكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الدم، فقال: (امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثم اغتسلي، فكانت تغتسل لكل صلاة) .
رواه مسلم.
وفي رواية للبخاري: (وتوضئي لكل صلاة) وهي لـ أبي داود وغيره من وجه آخر] .
أم حبيبة هي أخت حمنة، وأختهما أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنهن.
وانظروا إلى حسن ترتيب المؤلف لهذه الأحاديث الثلاثة، أم حبيبة رضي الله تعالى عنها جاءت تشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم استحاضتها، فماذا قال لها؟ لم يقل لها: دم الحيض أسود، ولم يقل لها: تحيضي في علم الله ستة أو سبعة، بل قال لها: (امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك) ، فهذا قسم ثالث، كانت لها حيضة منتظمة، تعرف أيامها، وتمكث مدتها، ثم اختلط الأمر عليها بعد أن كانت لها عادة معروفة تمسك فيها عن الصلاة والصيام، فردها النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما كانت عليه قبل الاستحاضة، فقال: (امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك) أي: تمسك عن الصلاة والصوم، يعني: كم كنت تحيضين قبل هذا الحال الجديد؟ لو كانت ثلاثة أيام، فامكثي ثلاثة أيام، أو خمسة أيام فامكثي خمسة، وهكذا ستة أيام أو تسعة أيام، فقدر ما كانت تحبسك حيضتك قبل الاستحاضة فهي مدة حيضتك الآن مع اختلاط الأمر عليك.
إذاً: المستحاضة قد تكون ذات دم يعرف، وقد تكون لا تميز الدم، وليست لها حيضة من قبل، فتمكث ستة أو سبعة أيام، وقد تكون لها حيضة منتظمة قبل الاستحاضة فترجع إلى مدة حيضتها قبل ذلك.
وقوله هنا: (امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك) ، فيه ردها إلى العادة القديمة، فليس هنا حكم زائد، ولا حكم جديد، إنما ردها إلى ما كانت عليه؛ ولهذا يقول مالك رحمه الله في مسائل الحيض: لقد وكل الله أمر النساء إليهن، ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن: من الولد، ومن دم الحيض، ومن الاستحاضة، فهي ترجع إلى مدة حيضتها، والنبي عليه الصلاة والسلام ما قال: كم كانت تحبسك؟ ثم ألزمها بشيء، لا، بل ردها إلى ما كانت عليه، وهي المسئولة عن ذلك، وهي أمانة بينها وبين الله.
وقوله: (ثم اغتسلي) أي: اغتسلي بعد مضي مدة حيضتك الأولى، واعتبري نفسك قد طهرتي، وما زاد عن مدة حيضتك الأولى بعد الاغتسال يكون استحاضة، فإذا اغتسلتي للحيضة فما عليك إلا الوضوء لكل صلاة، ولا تغتسل لكل صلاة، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام ما قال لها: اغتسلي لكل صلاة بل اغتسلي بعد الحيضة، فأمرها أن تغتسل من حيضتها الاعتبارية، ولكن هي من أجل الصلاة كانت تغتسل لكل صلاة، قالوا: هذا من فعلها هي، ولا يكون حكماً سارياً على بقية النساء، وقد جاءت الروايات موضحة لذلك.
وفي رواية للبخاري: (وتوضئي لكل صلاة) .
هذا هو ما أمرها النبي عليه الصلاة والسلام به: اغتسلي بعد مدة حيضتك الأولى، ثم بعد ذلك توضئي لكل صلاة، وقد تقدم قوله: (توضئي لكل صلاة) في رواية عائشة أول الباب، ثم في رواية أسماء: أنها تجمع بين الصلاتين بغسل، وجاء الحديث الآخر أنها تؤخر وتقدم وتغتسل للصلاتين، وجاء هنا في رواية البخاري أنها تغتسل بعد حيضتها المعتبرة، ثم تتوضأ لكل صلاة، وهذا الذي استقر عليه الأمر عند العلماء، أن المستحاضة تغتسل في نهاية حيضتها الاعتبارية، وتتوضأ لكل صلاة عند وجود دم الاستحاضة.
فإذا اغتسلت مستحاضة لكل صلاة من نفسها فلها ذلك، وإن قويت أن تغتسل وتجمع بين الوقتين، فتصلي في أول هذا، وآخر ذاك فلا مانع، وإن توضأت لكل صلاة، وصلت كل صلاة في وقتها فلا مانع.
الخلاصة أن المستحاضة لها ثلاث حالات: أن تميز بين دم الحيضة ودم الاستحاضة، إما باللون وهو السواد، وإما بالرائحة وهو النتن، وإما بالكثرة والغزارة، فدم الحيض أكثر عند خروجه من دم الاستحاضة، فتعمل بالتمييز.
وإذا التبس الأمر عليها، ولم يتميز الدم، فترد المستحاضة إلى غالب حيضات أغلب النسوة ستة أو سبعة أيام.
وإذا كانت لها حيضة سابقة، فإنها ترد إلى حيضتها التي كانت قبل الاستحاضة، وتغتسل وتطهر لمضي الحيضة الاعتبارية عند الجميع.
بعد ذلك ماذا تفعل؟ جاء أنها تغتسل للوقتين، وجاء أنها تغتسل لكل صلاة، وجاء أنها تتوضأ لكل صلاة بعد الغسل الأول، وهذا هو الواجب على المستحاضة.(38/12)
المستحاضة المبتدئة
حالات المستحاضة أربع، وقد ذكرنا ثلاث حالات، والرابعة هي: المبتدئة التي بدأها الحيض، ثم استمر عليها الدم ولم تعرف حيضها من استحاضتها، وليس هناك لون ولا رائحة تميز به، وليست عندها حيضة سابقة، ولا تعرف لها عادة حتى ترد إليها، ولا ترد إلى غالب عادات النساء لأن الكلام على أول ما يأتيها الدم وآخره، فمن العلماء من يقول: إنها تنتظر إلى أقصى مدة الحيض، وأقصى مدة الحيض عند الإمام أبي حنيفة رحمه الله عشرة أيام، وعند الأئمة الثلاثة خمسة عشر يوماً، فالإمام أبو حنيفة يرى أن أقل مدة الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة، والأئمة الثلاثة يرون أن أقل مدة الحيض يوماً وليلة، وأقصاه خمسة عشر يوماً، ومالك يفرق بين الحيض بالنسبة للصلاة والصوم، والحيض بالنسبة للعدة في الطلاق، فيعتبر الحيض بالنسبة للصلاة أو الصوم ولو ساعة من النهار، فلو حاضت المرأة في نهار رمضان ساعة من النهار فقط أفطرت ذلك اليوم، واعتبرت تلك الساعة حيضة، أما إذا كانت في عدة الطلاق فلا تعتبر تلك الساعة حيضة، ولا تعتد إلا إذا كانت الحيضة يوماً وليلة مثل الأئمة الآخرين.
هذه المبتدئة بعضهم يقول: تجلس إلى آخر انقضاء مدة الحيض، فإذا استمر بعد ذلك اعتبرت نفسها مستحاضة بعد مضي الخمسة عشر يوماً، وبعضهم يقول: المبتدئة تقعد عن الصلاة والصوم يوماً واحداً -وهو أقل مدة الحيض- احتياطاً، ثم تصلي وتصوم، وتعمل ذلك ثلاثة أشهر، فإن استمر الدم إلى ما بعد نهاية مدة الحيض في الثلاثة الأشهر، فإنها تنتقل إلى التمييز إن حصل، أو إلى غالب ما تحيضه النساء ستة أو سبعة أيام.
إذاً: هذه المبتدئة التي لم تعلم لها عادة سابقة، ولم تجد في الدم مميزاً، فإنها تجلس عند البعض أقل مدة الحيض، ثم تغتسل وتعتبر الباقي استحاضة، وتصلي وتصوم إلى ثلاثة أشهر، فإن استقرت على هذا رجعت إلى غالب عادة النساء.
ومنهم من يقول: من أول ما ترى الدم تجلس إلى أقصى مدة الحيض، وهذا هو اليقين، وبعد الخمسة عشر يوماً تغتسل، فإن استمر معها بعد الخمسة عشر يوماً فهو استحاضة، وإن كانت صامت قبل ذلك فإنها تقضي صومها؛ لأنها صامته في حالة الحيض.(38/13)
كتاب الطهارة - باب الحيض [2]
كرم الإسلام المرأة، وجعل لها أحكاماً خاصة فيما يتعلق بالحيض والنفاس، وهذا يدل على كمال الشريعة السمحة، وإعطائها لكل ذي حق حقه، وحسن أحكامها التي توافق العقل الصحيح المجرد عن اتباع الهوى.(39/1)
شرح حديث: (كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئاً)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المؤلف رحمه الله: [وعن أم عطية رضي الله عنها قالت: (كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئاً) .
رواه البخاري وأبو داود واللفظ له] .
حديث أم عطية رضي الله تعالى عنها قالت: (كنا لا نعد الكدرة ولا الصفرة شيئاً) ، وفي بعض الروايات: (كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، وبهذا يكون الخبر مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهو علم به وأقرهن عليه، وفي رواية: (بعد الطهر) .
ويتفق العلماء على أن المرأة إذا رأت الطهر ثم أعقب ذلك كدرة، أي: ماء مكدراً بلون الحمرة، أو ماء مكدراً بلون الصفرة، فلا تعتبر هذه الكدرة ولا الصفرة شيئاً بالنسبة للحيضة، وتبقى على طهرها الذي دخلت فيه، ويتفقون على أنها إذا رأت هذه الكدرة أو الصفرة أثناء الحيضة، بأن جاء بعدها دم أسود أو جاء بعدها دم العادة المعروف؛ فإنها تكون من أيام الحيض، فمثلاً: رأت الدم ثلاثة أيام، ورأت الكدرة والصفرة يوماً أو يومين، ثم رأت بعد ذلك الدم بقية الستة أو السبعة الأيام؛ فتلك الكدرة وتلك الصفرة في اليومين وسط العادة تعتبر حيضة لا تصلي فيها، ولا تصوم فيها، أما إذا رأت ذلك بعد أن طهرت وتطهرت واغتسلت فلا يلتفت لذلك.
وكيف تعرف المرأة أنها طهرت من الحيض؟ ثبت عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (أن نساء الأنصار كن يرسلن إليها في الدلجة -يعني: في غلس الليل- بالكرسف) ، أي: بالقطن فيه الماء من محل الحيض، وقد اشتبه عليهن: هل هذا يعتبر طهراً أم لا؟ فتقول رضي الله عنها لهن: (لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء) ، والقصة البيضاء هي: ماء أبيض ثخين، يفرزه الرحم في نهاية الحيض، فتعلم به المرأة أن الحيض قد انتهى، ويقول الأطباء: إن هذا الماء الأبيض الذي يعقب الحيض هو بمثابة التليين لجدار الرحم؛ ليكون مبطناً ملطفاً بهذا الماء؛ ليستقبل البويضة الجديدة بعد أن نبذ وأخرج البويضة القديمة التي لم تلقح، فيقولون: هو بمثابة المهاد والفراش للضيف الجديد المنتظر.
فالحيض إذا انتهى أفرز الرحم هذه المادة البيضاء؛ ليبطن بها جدار الرحم ويلطفه، حتى إذا جاءت البويضة ووجدت هذا الماء علقت به.
إذاً: المرأة تعرف نهاية حيضتها إذا رأت القصة البيضاء، فإذا رأت القصة البيضاء علمت أنها طهرت، وبقي عليها أن تتطهر أي: تغتسل، فإذا رأت القصة البيضاء فلا تنظر إلى ما يأتي بعد ذلك، كما قال الفقهاء رحمهم الله في الدم المسفوح: إذا ذبحت الشاة، ثم أخذ اللحم ووضع في القدر، وغلا به الماء، فربما يظهر على وجه الماء لوناً أحمر من أثر الدم الذي داخل العروق في اللحم، فهذا لا ينظر إليه، ولا يضر اللحم، ولا يقال: إنه دم نجس؛ لأنه من بقايا الدم في العروق، وليس مسفوحاً، فكذلك الكدرة أو الصفرة عندما تراها المرأة بعد أن رأت الماء الأبيض واغتسلت، فإنها لا تعتبر هذا شيئاً، ولا تترك صلاتها ولا صيامها، والله تعالى أعلم.(39/2)
شرح حديث: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح)
قال رحمه الله: وعن أنس رضي الله عنه: (أن اليهود كانت إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اصنعوا كل شيء إلا النكاح) رواه مسلم] .
تأملوا -يا إخوان- هذا الحديث، فهو يعطينا تاريخ المرأة عند اليهود، وهي أمة ذات كتاب، قدم المسلمون المدينة فوجدوا اليهود إذا حاضت المرأة فيهم، لا يؤاكلونها، ولا يشاربونها، ولا يساكنونها في مسكن واحد، بل يعزلونها ويقولون: إنها نجسة، ولما رأى المسلمون اليهود يفعلون ذلك -وهم أهل كتاب- وقعت عندهم شبهة، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فعل اليهود، فقال لهم: (اصنعوا كل شيء) أي: من المؤاكلة والمشاربة والمضاجعة والمساكنة، وكل شيء يفعله الزوج مع زوجه افعلوه (إلا النكاح) أي: الجماع، أما: النكاح بمعنى العقد فليس هناك مانع، فيجوز أن يعقد عليها وهي حائض، لكن إلا الجماع، كما قال تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] ، فلما بلغ هذا اليهود قالوا: والله! إن هذا الرجل ما ترك شيئاً إلا وخالفنا فيه، فكان عليه الصلاة والسلام يحرص على مخالفتهم.
فنقول للعلمانيين ولأصحاب الحداثة وللذين لا يلتزمون بتعاليم الإسلام وللذين ينادون بتحرير المرأة وإنصافها وإعطائها حقها: انظروا إلى تاريخ المرأة عند اليهود، وهم أهل كتاب، فيعتبرونها -لأمر لا قدرة لها فيه، ولا مدخل لها في حدوثه- نجسة، وكان ينص القانون الفرنسي في عهد نابليون أو قبله: أن المرأة مخلوق نجس، ولا يحق لها أن تمس الكتاب المقدس، بينما صحف القرآن جمعها زيد بن ثابت زمن أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ثم توفي فانتقلت إلى عمر رضي الله تعالى عنه، فلما توفي كانت تلك الصحف الأساسية عند حفصة بنت عمر زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما أراد عثمان رضي الله تعالى عنه أن يكتب المصحف الأم؛ استأذنها واستعارها منها على أن يردها إليها بعد نهاية المهمة، فأهل القانون الوضعي والأوروبيون والذين يدعون الحضارة يقولون: المرأة مخلوق نجس بصفة عامة، واليهود لا يأكلون ولا يشربون معها، ولا يستخدمون الإناء الذي تأكل وتشرب منه، ولا الفراش الذي تنام عليه، فيعزلونها جانباً عن سكنهم وعن طعامهم وشرابهم؛ بحجة أنها نجسة لحيضتها.
إذاً: من الذي يستحق أن ينكر عليه فيما يتعلق بالمرأة: اليهود ومن سار على شاكلتهم ومنوالهم أم المسلمون الذين يكرمون المرأة ويقول رسولهم صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا كل شيء إلا الجماع) ؟ جاء في سنن البيهقي رحمه الله أن رجلاً قال لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أخبريني يا أماه! أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر أول الليل أم آخره؟ فقالت: من كل الليل أوتر: من أوله وأوسطه وآخره، قال: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة، أخبريني أكان يغتسل من الجنابة قبل أن ينام أم ينام قبل أن يغتسل؟ قالت: أحياناً يغتسل ثم ينام، وأحياناً ينام ثم يغتسل، قال: الله أكبر، الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة، أخبريني أكان يأكل معك وأنت حائض؟ قالت: كنت آكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فآخذ اللحم أنهشه بفمي ثم أعطيه إياه فيأكل منه من بعدي، وكنت أشرب من القدح فأعطيه إياه فيضع فاه موضع فمي ويشرب، قال: الله أكبر، الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة.
فالمرأة كانت مهانة عند اليونان والرومان، وكانوا يعاملون المرأة معاملة وحشية، وكانت المرأة في بعض الشعوب تدفن مع زوجها وهي حية! ويقولون: إنها بعد موت زوجها لا قيمة لها، وكانت في الجاهلية تورث وتباع، وكانت توأد وهي حية، فجاء الإسلام فكرم المرأة حتى وهي حائض، وجعل للحائض جميع حقوق المرأة ما عدا موضع الأذى، وذلك لمصلحتها ومصلحة زوجها، قال الله: {قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] ، فالجماع عند الحيض أذى على الرجل؛ لوجود التلوث بالدم، وأذى على المرأة؛ لأن أعصابها لا تحتمل الجماع.
هذا الحديث يعنونون عليه بباب: ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض؟ وسيأتي زيادة إيضاح لذلك في حديث أم المؤمنين عائشة أنها قالت: (كانت إحدانا إذا حاضت وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم منها شيئاً أمرها أن تتزر ويباشرها) .
إذاً: كان اليهود يعاملون الحائض تلك المعاملة السيئة، فجاء الإسلام ونقض عليهم ذلك، ونبذ أحوالهم، وبين للمسلمين أن الحائض امرأة عادية، وهذا ليس بيدها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنه أمر كتبه الله على بنات آدم) .
إذاً: يجوز للرجل من امرأته الحائض كل شيء -كما صرح الشوكاني - من التقبيل واللمس والتمتع وكل شيء إلا الجماع، والعلماء يتفقون أنما فوق سرة المرأة لزوجها أن يتمتع به، وما تحت الركبة كذلك، واختلفوا فيما بين السرة والركبة، هل له أن يتمتع بذلك؟ قالوا: نعم له ذلك، إذا طرح على فرج المرأة ثوباً يمنعه منها، لكن الناس يختلفون في ذلك الأمر، فإذا كان الشخص يعلم من نفسه أنه يملك نفسه عن الجماع في الفرج فله ذلك، وإذا كان يعلم من نفسه أنه قد ينزلق فليبتعد.
وعلى كلٍ، فكل شيء من الحائض جائز من المؤاكلة والمشاربة والمماتعة والمساكنة إلا الجماع، وهو نص القرآن الكريم: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] .
ويبحث علماء التفسير في كلمة: (المحيض) ، فمحيض على وزن: مفْعِل، ومفعل يطلق للزمان والمكان، مثل: مجلس موعد، تقول: هذا مجلس فلان، فهو اسم مكان، وتقول: هذا موعد مجيء فلان أو موعد جلوسه.
فهذا اسم زمان، واسم الزمان واسم المكان والمصدر الميمي يتفقون أن صيغته على وزن: مفعل، فهل المحيض اسم مكان الحيض أو اسم زمان مدة الحيض أو مصدر ميمي؟ ومهما يكن من شيء فإن الفقهاء متفقون على تحريم وطء الحائض كما جاء في الحديث: (إلا النكاح) ، والنكاح هنا بمعنى: الجماع، والنكاح قد يطلق على العقد، ويطلق على الدخول بالمرأة، فأما العقد فلا مانع أن يعقد عليها وهي حائض، ولكن لا يجامعها وهي حائض.(39/3)
شرح حديث: (كان النبي عليه الصلاة والسلام يأمرني فأتزر)
قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض) متفق عليه] .
جاء في بعض الروايات أنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفراش، ففاجأتها حيضتها، فقامت من الفراش مبتعدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (ما شأنك -يا عائشة - لعلك حضت؟ قالت: نعم، قال: لا عليك، شدي عليك إزارك، وارجعي إلى فراشك) .
فالحائض تشد إزارها عليها، وتكون مع زوجها، ويباشرها من فوق الإزار كيف شاء، ويباشرها أيضاً فيما عدا ما بين السرة إلى الركبة من أعلاها وأسفلها كيف شاء، ولا شيء عليه.
قالت أم المؤمنين: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد إحدى نسائه وهي حائض، أمرها أن تتزر، وهي تقصد نفسها أو غيرها، وقد جاء ذلك أيضاً عن صفية وعن أم سلمة، وهذا أمر سائغ، وسيأتي أنه صلى الله عليه وسلم سئل: ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض؟ وهذا أمر غير مختص به صلى الله عليه وسلم، بل هو عام للأمة كما سيأتي بيانه إن شاء الله.(39/4)
شرح حديث: (يتصدق بدينار أو بنصف دينار)
قال رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض قال: (يتصدق بدينار أو بنصف دينار) رواه الخمسة، وصححه الحاكم وابن القطان، ورجح غيرهما وقفه] .
هذا الخبر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بأن من أتى زوجه وهي حائض أو جاريته وهي حائض، فليتصدق بدينار أو بنصف دينار، و (أو) هنا ليست للشك، ولكنها للتنويع، ففي حالة يتصدق بدينار، وفي حالة يتصدق بنصف دينار، أما الحالة التي يتصدق فيها بدينار فهي في فورة الحيضة، أي: في شدة جريان الدم، والأطباء يقولون: الحيضة في أول يوم ضعيفة، واليوم الثاني والثالث أشدها، وفي اليوم الرابع وما بعده تتناقص حتى تنقطع، وحالات النساء تختلف في هذا، فينظر في حالة الدم عندما أتاها زوجها: فإذا كان في شدته فعليه دينار، وإذا كان في ضعفه وقلته فعليه نصف دينار.
والحديث -كما ذكر المؤلف- هناك من صححه مرفوعاً، وهناك من جعله موقوفاً على ابن عباس من قوله، ولكن مثل هذا الحكم -وهو الأمر بالصدقة- الظاهر أنه مرفوع، فإن أموال الناس معصومة، ولا يتأتى لإنسان أن يقول فيها برأيه، وأن يأتي بحكم من عنده واجتهاده، فهو إن لم يكن مرفوعاً صناعة فهو مرفوع حكماً، ولكن يذكر الشوكاني وغيره أن الحديث فيه مقالات، وأن في سنده ما يضعفه، ومن هنا اختلفوا هل هذا الدينار أو النصف الدينار واجب أو على سبيل الندب؟ فبعض العلماء على أنه واجب لنص الحديث، وإن كان في سنده مقال، فقالوا: يتصدق بدينار إذا كان الدم شديداً، أو بنصف دينار إذا كان الدم قليلاً، وبعض العلماء يقول: ليس بواجب، ولكنه للاستحباب.
فالزوجة أحلها الله لزوجها، وعند مجيء الدم يحرم عليه وطؤها تحريماً مؤقتاً، وكونه يجامعها وهي حائض خطيئة، وكفارة تلك الخطيئة أن يتصدق، فمن أتى أهله وهي حائض لا نقول: إنه أتى محرماً كالزنى، ولكنه ارتكب مخالفة ونهياً، ولا يبعد أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل هذا الدينار والنصف الدينار للردع من ذلك، فهم في ذلك الوقت ما كل إنسان منهم يملك ديناراً ولا نصف دينار، وإن امتلكه فليس بزائد عن حاجته، وقل من يتوفر عنده الدنانير، فيكون جعل ذلك حتى لا يقع الرجال على النساء وقت الحيض، تنفيذاً لقوله سبحانه: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] .
ويقولون: المرأة في حالة الحيض أعصابها ونفسيتها مختلفة، وجسمها غير طبيعي، فإذا جامعها زوجها تتوتر أعصابها؛ لأن خلاياها وكل أجزاء جسمها تختل، وتختلف حالة الحيض عن حالة الطهر، وإذا انتهى الحيض وجاء الطهر كانت في أشد الاستعداد لذلك العمل.
فهذا الحديث فيه الزجر والمنع من تطلع الرجال إلى النساء عند المحيض، والله تعالى أعلم.(39/5)
شرح حديث: (أليس إذا حاضت المرأة لم تصل ولم تصم؟)
قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أليس إذا حاضت المرأة لم تصل ولم تصم؟) متفق عليه في حديث طويل] .
يبين المؤلف رحمه الله حكم الحائض بالنسبة للصلاة وللصيام؛ لأنهما أهم شيء في حياتها وفي دينها، والحديث طويل، وهو: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أنه اطلع على أهل النار، ووجد أكثر أهلها النساء؛ فقامت امرأة وقالت: ما شأن النساء أكثر أهل النار؟! فقال صلى الله عليه وسلم: (لأنهن يكثرن اللعن، ويكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن) ، وهذا على سبيل حكم الكل، وليس الكلي، ففي الجملة المرأة أنقص ديناً وعقلاً، ولكن قد يوجد بعض النساء أرجح عقلاً من عشرات الرجال، وقد يوجد في النساء من هي أرجح في الدين والعبادة والتورع من عشرات الرجال، لكن ذلك من حيث العموم، فقالت المرأة: ما نقصان عقلها ودينها؟! فقال صلى الله عليه وسلم: (أما نقصان عقلها فشهادتها نصف شهادة الرجل) كما قال الله: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] ، قال: (وأما نقصان دينها فأليس إذا حاضت المرأة لم تصل ولم تصم؟) ، وكونها لا تصلي ولا تصوم نقص في دينها، فالرجل يصلي بصفة دائمة، ويصوم بصفة دائمة، ولكنها يأتيها ما يمنعها، فقوله صلى الله عليه وسلم: (أليست المرأة إذا حاضت لا تصلي ولا تصوم؟) معناه: أن الحائض تمتنع عن الصلاة، وتمتنع عن الصيام، فلا يجوز للحائض أن تصلي، ولو استباحت ذلك لكفرت عياذاً بالله، ولا يصح لها أن تصوم، ولو صامت فلا يعتبر صيامها، ولو استحلت ذلك لكفرت عياذاً بالله.
وهل المرأة تقضي ما فاتها من الصلوات والصيام أثناء حيضها؟ جاءت زوج عبادة بن الصامت إلى أم المؤمنين عائشة وقالت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: (كان يصيبنا الحيض فنقضي الصوم ولا نقضي الصلاة) ، وفي بعض الروايات أنها قالت: (أعراقية أنت؟! قالت: لا، ولكني مستفسرة) ، وقولها: (أعراقية) ؛ لأنه كان مشتهراً عن أهل العراق أنهم أهل الجدل والقياس، والمعتزلة يقدمون العقل في كثير من قضايا الإسلام، ومن أهل البدع من يقول: إنها تقضي الصلاة، وهذا السؤال هو شبه اعتراض عقلي، أي: كيف هذا، فهذه صلاة فريضة وهذا صوم فريضة، ثم فرق بين الفريضتين، فريضة تقضيها وفريضة لا تقضيها؟! وهذا من استعمال القياس العقلي، فقالت لها هذا الجواب: أعراقية أنت؟! أي: أأنت قياسية، تعملين بالقياس مع وجود النص؟ وأما القياس في غير وجود النص فهو من أصول الفقه وأصول الدين، لكن إذا وجد النص فلا قياس، ويسمى عند الأصوليين: فاسد الاعتبار؛ لأن النص موجود.
فهي سألت كيف تقضي الحائض الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فأجابت أم المؤمنين بقولها: كنا نحيض ونؤمر بذلك، وما كنا نسأل عن السبب ولا عن العلة، فهي أمور تعبدية نتقبلها بالسمع والطاعة، ولا نسأل عن السبب ولا عن الفرق، ولكن العلماء قالوا: هناك فرق، وليس قضاء الصلاة وقضاء الصوم مستويان، ومن شرط صحة القياس أن يستوي الطرفان: المقيس مع المقيس عليه.
فمثلاً: الربا في البر مع الشعير أو مع الذرة؛ لأنهما يستويان في كونهما قوتاً مدخراً، ولكن الصوم والصلاة ليستا متفقتين، لماذا؟ لأن الصوم يأتي مرة واحدة في السنة، والحيض يأتي في الشهر -غالباً- مرة واحدة، فإذا حاضت خمسة أيام أو سبعة أيام في رمضان، فيسهل عليها أن تقضي السبعة أيام في بقية السنة، وهذا لا مشقة عليها فيه، وأما إذا كانت تؤمر بقضاء الصلاة فسبعة أيام تضرب في خمسة يساوي خمسة وثلاثين صلاة، فتحتاج سبعة أيام من الأيام الأخرى لتقضيها في غير أيام الحيضة، فعلى هذا؛ لما كانت الصلاة تتكرر كل يوم، وهي تحيض عدة أيام، وقد يستمر حيضها إلى أكثر مدة الحيض وهي الخمسة عشر يوماً، فستقضي الصلاة خمسة عشر يوماً مع صلاة الخمسة عشر يوماً، وتكون الفائتة بقدر الحاضرة، وهذه مشقة ظاهرة؛ ولهذا سقط عنها قضاء الصلاة.(39/6)
شرح حديث: (افعلي ما يفعل الحاج ... )
قال رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لما جئنا سرف حضت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري) متفق عليه في حديث طويل] .
هذا الحديث مثل الحديث المتقدم: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح) وهنا قالت عائشة: لما جئنا سرف، وسرف على مرحلتين من مكة في طريق المدينة، وكانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وكانت محرمة بالعمرة متمتعة، ولما دنت من مكة فاجأتها الحيضة، وكانوا قدموا مكة صبح رابعة من ذي الحجة، أي: وفي اليوم الثامن بعد أربعة أيام سيذهبون إلى عرفات، وهي لن تطهر في هذه المدة، فهي بين أحد أمرين: أن تجلس في مكة حتى تطهر وتكمل عمرتها ويفوتها الوقوف بعرفة، أو تدرك الحج، فالرسول صلى الله عليه وسلم دخل عليها وهي في خيمتها في سرف، فوجدها تبكي، فقال: (ما يبكيك يا عائشة؟! لعلك نفست؟ قالت: نعم) والنفاس من أسماء الحيض مثل: العراك، والفورة، والدم، فقال: (هذا أمر كتبه الله على بنات آدم) ، أي: لست أنت وحدك التي يأتيك الحيض، وليس أمرك بيدك.
ومعلوم أن الحج أعماله كلها تدور على ذكر الله، فهل لها أن تذكر الله، فتلبي، وتأتي المشعر الحرام، وتأتي عرفات، وتقول ما جاء في الحديث: (خير ما قلته أنا والنبيون قبلي في هذا اليوم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له ... ) إلى آخره، وتعمل بالآية: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] أم أنها تمتنع بسبب حيضتها؟ الحديث الأول يتعلق بأمر اليهود في أمور الدنيا، وفي الأمور الخاصة، والأمور العائلية، والمعاشرة الزوجية، وحديث عائشة في الأمور الدينية، فقال لها: (افعلي -مع وجود حيضتك- ما يفعل الحاج) ، وقد أمرها أن تغتسل، وأن تدخل الحج على العمرة، فتقول: لبيك حجة في عمرة، وصارت قارنة من مكانها في سرف، واغتسلت من أجل إدخال الحج على العمرة للنسك وليس للحيضة، وأصبحت بعد ذلك قارنة، فجاز لها أن تجلس عند البيت، وتخرج مع الحجاج إلى عرفات، وتنزل من عرفات إلى المشعر الحرام، ومن المشعر الحرام إلى منى، وترمي الجمرات، ثم تنتظر، فإن طهرت في تلك الحالة اغتسلت، وطافت طواف الإفاضة عن الحج والعمرة المقترنين، وبهذا أكملت حجها، فالحديث الأول في أمور الدنيا والمعاشرة، وهذا في أمر الدين والعبادة: (افعلي ما يفعله الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري) .
وإذا نهاها عن الطواف بالبيت، فما هو أشد تطلباً للطهارة: الصلاة أم الطواف؟ الصلاة؛ لأن الرسول قاس الطواف على الصلاة في قوله: (الطواف صلاة) ، فالطواف فرع عن الصلاة، فإذا منعت من الطواف بالبيت بسبب الحيضة، فمنعها من قراءة القرآن في الصلاة من باب أولى.
وهل تقرأ القرآن؟ القرآن هو لب الصلاة، وجاءت الأحاديث بمنع الحائض من قراءة القرآن ومن حمل المصحف.
إذاً: قوله: (اصنعي كل ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت) ، ونضيف إلى عدم الطواف: قراءة القرآن وحمل المصحف، وهذا يبين لنا أن الحائض تذكر الله بغير التلاوة، وتفعل كل ما يفعله الحجاج: من الأذكار، ومن الوقوف بعرفات، والوقوف بمزدلفة، وذكر الله عند المشعر الحرام، وذهابها إلى منى، ورميها الجمار، والتكبير مع كل حصاة، وتنحر أيضاً إذا كان عليها نحر إن كانت تحسن النحر أو تنيب من ينحر عنها، والنبي صلى الله عليه وسلم (نحر عن نسائه بقرة) .(39/7)
شرح حديث: (إتيان الحائض فيما فوق الإزار)
قال رحمه الله: [وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض؟ فقال: ما فوق الإزار) رواه أبو داود وضعفه] .
سبق أن ساق المؤلف رحمه الله حديث: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح) ، وهذا عام، فله أن يصنع كل شيء حتى ما تحت السرة، ما لم يكن هناك إيلاج وجماع، وهنا سأل معاذ: ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض؟ لم يقل: يحل له كل شيء إلا النكاح مثل الحديث السابق؛ لأنه كان في مقابلة تعامل اليهود، فاليهود منعوا التعامل معها في كل شيء، والإسلام أباح التعامل معها في كل شيء، إلا شيئاً واحداً وهو الجماع، فهو مقابل لتعنت اليهود مع الحائض، وحديث معاذ توجيه وتعليم لما هو الأكمل والأحوط للرجل، وهو ما فوق الإزار.
وهل له ما فوق الإزار ولو كان في مقابل الفرج في منطقة الاتزار؟ الحديث يحتمل الأمرين، والإزار العادي يكون من السرة إلى الركبة، ويكون الإزار حاجزاً وحاجباً بين الجسم والجسم، قال بعض العلماء: المباشرة تكون مكان الاتزار، وهذا هو الظاهر، أما كونه يباشر الفرج بحاجز الإزار فهذا قد يؤدي إلى إثارة المرأة، وقد يكون فيه إيذاء عليها.
إذاً: ما فوق الإزار هو محل إزار المرأة، وهذا قول الجمهور، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: (فيأمرها فتتزر ويباشرها) ، والله تعالى أعلم.(39/8)
شرح حديث: (كانت النفساء تقعد بعد نفاسها أربعين يوماً)
قال رحمه الله: [وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (كانت النفساء تقعد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد نفاسها أربعين يوماً) رواه الخمسة إلا النسائي واللفظ لـ أبي داود، وفي لفظ له: (ولم يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بقضاء صلاة النفاس) ، وصححه الحاكم] .
المؤلف رحمه الله انتهى من مباحث الحيض، ولكنه لم يبين لنا مدة الحيض صراحة، ولكن ذكر حديث المستحاضة: تحيضي ستة أيام أو سبعة أيام، والفقهاء حددوا أقل مدة الحيض وأكثره، فالحنفية قالوا: أكثر الحيض عشرة أيام، والجمهور على أنه خمسة عشر يوماً، وأقله يوم وليلة، وغالبه سبعة أيام.
فأقل الحيض وأكثره معلوم عند العلماء والحمد لله، علماً بأن حالات النساء تختلف، ولكن جعلوا هذا هو الحد الأقصى والحد الأدنى، فما كان من دم دون الحد الأدنى فليس بحيض، وما كان من دم فوق الحد الأعلى فليس بحيض.
ودم النفاس يأخذ حكم دم الحيض في ترك الصلاة، وترك الصيام، وترك القراءة، وعدم حمل المصحف، وتحريم الوطء، فدم النفاس ودم الحيض في ذلك سواء، وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحيض نفاساً كما في قوله: (لعلك نفست؟) ، فإلى متى تجلس المرأة بعد نفاسها؟ هذا الحديث يبين أقصى مدة الدم في النفاس، وأقل دم النفاس لحظة، فلو نفست اليوم وانقطع دمها غداً ولم تر شيئاً فقد طهرت، وتأخذ حكم الطاهر، وليس بلازم أن تستمر إلى أربعين يوماً إلا في الجماع من باب الندب؛ لأنها بعد الولادة ليست مستعدة للجماع، والمحل غير صالح، فإذا كملت الأربعون يوماً صار الرحم يقبل ما كان يقبله قبل الحمل، وهل هذا محل اتفاق؟ ليس محل اتفاق، هناك من يرى أن أقصى النفاس خمسون يوماً، وبعضهم يراه ستين يوماً، والعبرة بغالب حالات النساء، وقد أشرنا أن دم الحيض ودم النفاس يختلف في أسرة دون أسرة، ويختلف في قرية دون قرية، ويختلف في إقليم دون إقليم، ويختلف في فصل دون فصل، فهو في الأيام الباردة غير الأيام الحارة.
قالوا: أقصى ما تجلس النفساء بعد دم النفاس أربعون يوماً، وهناك من قال: خمسون، أو خمسة وخمسون، أو ستون، وليس بعد الستين خلاف.
لو أن المرأة ولدت ونزل الدم، وفي آخر النهار انقطع عنها الدم، فهل انتهت من نفاسها أم لابد أن تجلس أربعين يوماً؟ انتهت، وإذا ولدت ولم ينزل ولا قطرة دم فهل لازم أن تجلس أربعين يوماً أم ليس هناك دم نفاس؟ ليس هناك شيء، وهذه ولادة الجفوف، فبعض النسوة تلد المولود ولا ينزل معه دم، فبنزول الولد ينتهي نفاسها، ولا تحتاج أن تجلس أي مدة بعد نزول الولد إذا لم يوجد الدم.
إذاً: هذا الحديث يبين لنا الحد الأقصى الذي تجلسه المرأة في نفاسها، فإذا زاد عن الأربعين يوماً خمسة أيام فماذا نعتبر هذه الأيام الخمسة؟ يقول الفقهاء: إن كانت الزيادة وافقت زمن حيضتها فهي حيض، أي: أنها انتقلت من نفاس إلى حيض، فتترك الصلاة والصوم، فمثلاً: كانت ترى الحيضة يوم ثلاثة وعشرين من كل شهر، فنفست، وبعد الأربعين يوماً صادف يوم ثلاثة وعشرين، وهو زمن حيضتها، فتترك الصلاة؛ لأنها انتقلت من نفاس إلى حيض.
أما إذا كانت حيضتها تأتيها في أول الشهر أو في نصف الشهر، وانتهى دم نفاسها يوم خمسة وعشرين من الشهر، ولكن استمر الدم إلى يوم الثلاثين، فهذه الخمسة الأيام الزائدة من بعد يوم خمسة وعشرين التي هي نهاية الأربعين تكون استحاضة، والله تعالى أعلم.(39/9)
كتاب الصلاة - باب المواقيت [1]
جعل الله للصلوات الخمس مواقيت محددة الأول والآخر، وقد بين الله ورسوله هذه المواقيت، وشرحها العلماء، وأطالوا في ذلك؛ لأنها متعلقة بأفضل العبادات، وأعظم القربات، فالصلاة لا تقبل إلا بعد دخول وقتها، فوجب معرفة المواقيت للقيام بالصلاة في وقتها المحدد شرعاً.(40/1)
مقدمات أصولية تتعلق بالمواقيت
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [كتاب الصلاة، باب المواقيت] .
المواقيت: جمع موقت، والموقت هو الوقت المؤقت لشيء ما، وبدأ المؤلف رحمه الله تعالى قائلاً: كتاب الصلاة، ثم قال: باب المواقيت ليبين لنا أن مواقيت الصلاة من ضمن مباحث الصلاة.
وهذا الباب جعله الإمام مالك رحمه الله أول أبواب الموطأ، وقال: باب الوقوت (جمع كثرة لوقت) وقالوا: إنه راعى الأوقات المختلفة في أداء الصلاة من أفضلية الوقت إلى آخر ما يجزئ في الوقت من الوقت الضروري، ووقت القضاء لمن نام أو نسي، وهناك أوقات الصلوات الخمس، ووقت الجمعة، وغير ذلك.
والتوقيت للصلاة واجب كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] ، أي: موقتاً بزمن.(40/2)
تقسيم أوقات العبادة إلى مضيقة وموسعة
العبادات المؤقتة ينقسم وقتها بالنسبة إليها إلى قسمين: القسم الأول: وقت موسع.
القسم الثاني: وقت مضيق.
فالوقت الموسع كأوقات الصلوات، فمثلاً: وقت صلاة الظهر من زوال الشمس إلى مجيء وقت العصر، ووقت العصر من أول وقتها إلى غروب الشمس، ومعنى موسع: أن يستطيع الإنسان أن يأتي بالفريضة في وقتها ثم يأتي بمثلها معها في وقتها.
والوقت المضيق كصوم رمضان، فشهر رمضان هو وقت الصوم، وهو مضيق بمعنى: أنك لا تستطيع أن تأتي في يوم من رمضان بفريضتين: فريضة شهرك الحاضر وقضاءً عما عليك من الماضي، بخلاف وقت الصلاة، فإنك تستطيع أن تُصلي الحاضرة، وتُصلي النافلة، وتُصلي ما كان عليك من قضاء في الوقت الواحد، وفي الصلوات قد يصبح الوقت الموسع مضيقاً إذا لم يبق من الوقت إلا ما تدرك به صلاة الوقت الحاضر.(40/3)
تقسيم خطاب الشرع إلى خطاب تكليف وخطاب وضع
والله سبحانه وتعالى بين توقيت العبادات من باب خطاب الوضع؛ لأن خطاب الشرع ينقسم إلى قسمين: خطاب التكليف، وخطاب الوضع.
فخطاب التكليف هو: الذي فيه الأمر والنهي بالتشريع أو التحريم.
وخطاب الوضع هو: العلامة أو الشرط أو المانع المتعلق بهذا العمل الذي كُلف به المسلم.
فقوله سبحانه وتعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] هذا خطاب تكليف، كلف فيه المسلم أن يقيم الصلاة وأن يؤتي الزكاة، وقوله سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] خطاب تكليف؛ كلف فيه المسلم بالصوم.
ولكن تحديد متى نصوم ومتى نصلي يجيء بيانه بخطاب الوضع، فقال سبحانه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] ، فعين لنا زمن الصوم الذي فرض علينا، وكذلك قال: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78] ، فهذا خطاب وضع من جهة بيان وقت الصلاة، فنصلي لدلوك الشمس، وهو تحركها بعد الاستواء عن كبد السماء إلى جهة الغرب، {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} أي: ظلمة الليل.
فدلوك الشمس شمل الوقت المشترك لصلاتي: الظهر والعصر، وغسق الليل شمل الصلاتين المشتركتين في ذلك الوقت وهما: المغرب والعشاء، ثم قال: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} وهو: مشتمل على صلاة الصبح، فهذا الخطاب الذي بين أوقات الصلوات يسمى: خطاب وضع، والخطاب الذي جاء بتكليف المكلف بالواجب عليه في العبادات هو خطاب تكليف.
كذلك الحج، قال الله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] فهذا خطاب تكليف، فعلى كل مستطيع أن يحج، ولكن متى نحج؟ جاء خطاب الوضع في قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] ، فبين لنا وقت الحج، والسنة بينت أنه من أول شوال، فيجوز الإحرام في شوال، وذي القعدة، وجزء من ذي الحجة، وهذا ببيان النبي صلى الله عليه وسلم.(40/4)
دخول الوقت شرط لصحة الصلاة
إذاً: مالك رحمه الله راعى في كتابه الموطأ أن أول ما يكلف به العبد فعلاً الصلاة، ولكن الصلاة تبدأ من الميقات أي: من التوقيت، أي: بدخول الوقت، والطهارة شرط لصحة الصلاة، ودخول الوقت شرط لصحة الصلاة، فمن صلى صلاة قبل وقتها فلا يعتد بها، ومن صلى صلاة دون أن يتوضأ فلا يعتد بها، فراعى أن أول ما يكون هو دخول الوقت، فإذا دخل الوقت وجب عليه أن يتوضأ ليصلي، لقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا.
} [المائدة:6] ، ولا يكون القيام إلى الصلاة إلا بعد دخول وقتها، ولكن كتب الحديث المرتبة على أبواب الفقه قد يختلفون في البداية، فبدأ البخاري صحيحه بباب الإيمان والعلم، وكذلك فعل مسلم فبدأ بباب الإيمان، وجاء أبو داود فبدأ بكتاب الصلاة، وبدأ كتاب الصلاة بالطهارة؛ لأنها شرط في صحتها، ثم جاء بعد ذلك بستر العورة وهو باب اللباس، ثم أتى بالمساجد ومواضع الصلاة، وكذلك فعل غيره.
والذي يهمنا أن الناس يختلفون في ترتيب كتب الفقه، ولكنهم مجمعون في الجملة بأنهم يبدءون بالعبادات، ثم بالمعاملات، ثم بالأحوال الشخصية، ثم بالجنايات، ثم بأحكام القضاء؛ لأن العبادات فرض عين على كل شخص، فهي أهم، وهي حق الله على العباد، والمعاملات هي لمصلحة الناس فيما بينهم من بيع وشراء وكفالة وضمان وحوالة إلى غير ذلك، وكذلك الأحوال الشخصية من الأنكحة والعشرة الزوجية وحق الزوجات والأولاد والنفقات والطلاق والعدد ونحو ذلك.
ويؤخرون بعد هذا باب القضاء؛ لأن الإنسان في الغالب بعد أن يبيع ويشتري ويتكسب ويتزوج يصير له الأولاد، فتقع المشاكل مع الجيران، فيأتي باب القضاء، فكتب الفقه تتفق على هذا الترتيب في الجملة، وبعضهم قد يقدم باباً على باب، ولكن من حيث الجملة فالترتيب عبادات، معاملات، أحوال شخصية، جنايات، قضاء.
انتهى المؤلف رحمه الله من كتاب الطهارة من وضوء، ومن غسل، وبيان حكم الجنب، والتيمم، والإنسان يتطهر استعداداً للصلاة؛ لأن الطهارة سواء بالوضوء أو بالغسل تصح قبل دخول الوقت، فهو قد يتهيأ للصلاة قبل دخول وقتها.(40/5)
(يريد الله بكم اليسر) قاعدة عامة في التكاليف
انتهى المؤلف رحمه الله من مقدمة الصلاة، وشرطها الأساسي وهو الطهارة، ثم جاء بعد ذلك بكتاب الصلاة، وبدأ كتاب الصلاة بالوقت؛ لأنها لا تؤدى إلا في وقتها المحدد لها، ومن ناحية أخرى نجد كل خطاب الوضع مرتبطاً بعلامات كونية أو أمور وضعية متعارف عليها، ويستوي في معرفتها أعلم الناس هندسة وعلوماً عامة وأجهل الناس بتلك العلوم، فيستوي فيها العامي والمتعلم.
فمثلاً أوقات الصلوات الخمس رُبطت بأمور بأمور يستوي في معرفتها العامة والخاصة، بل قد يكون العامي صاحب البادية أعرف بها من الحاضر، حيث جعل الله مواقيت الصلاة مرتبطة بحركة الشمس، فالفجر من انفجار النهار عن ظلام الليل، وهي نتيجة اقتراب الشمس من الظهور، وتقدم أشعتها، فيظهر بعض الضوء، ويتميز الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، والظهر حينما تزول الشمس عن كبد السماء ونرى الفيء.
فالشمس حينما تشرق، تأخذ في نصف الدائرة، فإذا توسطت نصف الدائرة وهو الربع الأول من الدائرة الكاملة، يمتد ظل كل شيء إلى الغرب، فلما تزحزحت عن نقطة الصفر في متوسط الدائرة، وانحازت إلى الربع الثاني إلى جهة الغرب؛ تحول الفيء إلى الشرق، فنحن وإن كان بيننا وبين الشمس مئات الآلاف من الأميال فإننا ندرك حركتها عندنا في الأرض؛ بتحول الظل من الغرب إلى الشرق، ثم يأتي وقت العصر عندما يصير ظل كل شيء مثله، ثم يأتي وقت المغرب عندما تغرب الشمس، وما بين الظهر والمغرب وقت للعصر.
الذي في البادية أدرى بالأوقات من الذي في الحاضرة؛ لأن الحضري ساكن في شقة أو في بيت وربما لا يراقب الشمس، وخاصة طلوع الشمس، وأهل البادية أعرف بذلك من الآخرين.
والمغرب وقته من غياب الشمس إلى أن يغيب الشفق الأحمر، وهو الحمرة التي في الأفق، ومن غيبوبة الشفق إلى طلوع الفجر وقت للعشاء.
فهذه معالم وأمارات وتوقيت يتفق في معرفتها الجميع؛ لأن التشريع للجميع، ولا يكلف الله الناس معرفة علم الفلك، ولا يجب أن نعرف أوقات الصلاة بتوقيت فلكي، وإنما جاءت الساعة تسهيلاً وتقريباً لذلك، ولهذا لو رأينا ساعة الفلك مغايرة لساعة الجيب؛ لألغينا ساعة الجيب، فلو أن الساعة في جيبك تشير أنه بقي على المغرب نصف ساعة، ورأيت الشمس تغرب بعينك، فبأي الساعتين تعمل؟ هل بساعة الشمس التي تنظر إليها بعينك أو الساعة التي في يدك؟ تلغي الساعة التي في يدك وتعدلها، وكذلك صوم شهر رمضان، والعالم كله يعرف متى يدخل رمضان ومتى يخرج رمضان، وهل نعرف ذلك بالحساب كما يقولون؟ لا، لحديث: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته) ، ورؤية الهلال أيسر في البادية من الحاضرة، فالحاضرة فيها دخان، وكهرباء، وو إلى آخره، وأضواء الكهرباء تضعف من البصر، بخلاف أهل البادية فهم حديدو الأبصار، يرون الهلال في أول يوم، ويعرفون منازله، ويطلبونه فيه، وكذلك الحج.
والزكاة جُعِل قدرها (2.
5%) وهذا المقدار لا يغلط فيه الإنسان عند الحساب، وقال الله في زكاة الزروع: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] فهذا تكليف، وقال: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] وهذا خطاب وضع، وكم قدر الزكاة؟ بينت السنة أنه إما العشر وإما نصف العشر، وهذه أمور عامة يعلمها العامة والخاصة، وهذا دليل على أن الإسلام هو الدين الباقي، والدين الشامل، وهو دين الفطرة؛ لأنه يستوي فيه جميع الخلق: من عرب، ومن عجم، ومن حضر، ومن بدو، ومن متعلم، ومن عامي.
فبدأ المؤلف كتاب الصلاة بالمواقيت، وجاء بالأحاديث المتعلقة بالباب، وفيها الكفاية إن شاء الله.(40/6)
بيان النبي صلى الله عليه وسلم لأوقات الصلاة
قال المؤلف رحمه الله: [عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وقت الظهر إذا زالت الشمس، وكان ظل الرجل كطوله مالم يحضر وقت العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط، ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس) رواه مسلم] .(40/7)
معنى زوال الشمس
قوله: (إذا زالت الشمس) ، معنى زالت: ذهبت عن كبد السماء؛ لأنها تشرق في أول الأمر من المشرق، وتأخذ في حركتها في نصف الدائرة، ويقولون: قدر ثماني عشر، والدائرة الكاملة قدرها ست وثلاثون درجة، فهي تأخذ ثماني عشرة درجة في هذا الوجه، وثماني عشرة درجة في الوجه الثاني من جهة الأرض، فتكون ثماني عشرة درجة مضيئة بطلوع الشمس، وثماني عشرة درجة ليل؛ لعدم وجود الشمس هناك، فإذا أخذت نصف الثماني عشرة درجة، فهي تسعة، وهذا هو وسط وكبد السماء، وفيء الزوال يختلف صيفاً وشتاء، بل ويختلف على درجات الأرض، فهو على مستوى خط الاستواء يختلف على مدار السرطان أو على الجهة الشمالية أو الجهة القطبية، حتى إنه في منتهى تكوير الأرض في السويد والنرويج من جهة القطب المتجمد الشمالي قد يختفي الظل، وقد يبقى النهار عدة أشهر، والليل عدة أشهر، وقال لي إنسان: جلسنا هناك على قمة ونحن ننظر الشمس، ففي حوالى دقيقة واحدة اختفت الشمس من جهة، وظهرت من الجهة الثانية حالاً، ولم يوجد هناك فترة طويلة!! إذاً: تختلف مواقيت زوال الشمس عن كبد السماء بالنسبة لسقوط ظل أشعتها إلى الأرض، فعند الزوال في وقت اعتدال الليل والنهار تكون الأشعة متعامدة من السماء إلى الأرض على زاوية قائمة، وفي بعض الفصول في الشتاء أو في الربيع أو في الخريف، يكون ظل الزوال قدماً أو قدمين إلى ستة أقدام بقدم الإنسان.
ونحن لا نستطيع أن نحدد مكان الشمس في كبد السماء في نقطة الصفر، ولا نعلم أول زوالها وتحولها إلى الغرب؛ لأن المسافة بعيدة جداً، ولكن يكفي أن ننظر إلى ظل الأشياء في الأرض، فما دام الظل إلى جهة الغرب فهي لا زالت في الربع الذي من جهة المشرق، وإذا تحول الظل إلى المشرق فقد زالت الشمس، ويسمى الظل بعد الزوال فيء؛ لأنه رجع، فنعرف بذلك أن الشمس زالت عن كبد السماء.
وقوله: (إذا زالت الشمس) ؛ لأن نقطة الزوال بالذات لا تصح فيها الصلاة، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة وقت قيام الشمس في قائم الظهيرة، وهو وقت الاستواء قبيل الزوال، وجاء في الحديث: (ثلاث ساعات، نهينا أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا: حينما تطلع الشمس من المشرق حتى يكتمل طلوعها وترتفع، وحينما يقوم قائم الظهيرة -أي: تكون الشمس في كبد السماء بالذات- وحينما تضيَّف الشمس للغروب، حتى يكتمل غياب قرص الشمس) ، فهذه الأوقات الثلاثة نهي عن الصلاة فيها، وعن قبر الموتى فيها، لكن يجوز قضاء الفائتة فيها.
وقد جاء في الحديث: (من أدرك من العصر ركعة فقد أدرك العصر) ، يعني: أدرك الوقت، وإلا فإنه سيصلي الركعات الثلاث الباقية بعد غياب القرص، فسيغيب القرص وهو يصلي، وهذا مستثنى من النهي عن الصلاة عند غروب الشمس أو عند شروقها، فقد جاء في الحديث: (من أدرك من الصبح ركعة قبل طلوع الشمس فقد أدرك الصبح) ، وهذه هي الأوقات الاضطرارية.
والأوقات الاضطرارية تكون لإنسان نسي الصلاة، أو نام عن الصلاة، أو لصبي بلغ، أو كافر أسلم، أو مجنون أفاق، أو امرأة كانت حائضاً فطهرت، فهؤلاء من صلى منهم حينذاك وكان الوقت مثلاً قبل شروق الشمس بما يسع ركعة، فتوضأ واستعد للصلاة، ولم يبق على طلوع الشمس إلا ما يسع ركعة، فيصلي تلك الركعة ويكون قد أدرك الصبح في وقتها، وكذلك الحائض إذا طهرت قبل أن تشرق الشمس بما يسع ركعة، فعليها أن تصلي الصبح، وكذلك الصبي إذا بلغ في هذا الوقت، والمجنون إذا أفاق في هذا الوقت، والكافر إذا أسلم في هذا الوقت؛ فإننا نكلفه بالصلاة؛ لأنه أدرك جزءاً من الوقت، وهو الجزء الضروري لأصحاب الأعذار.
والمؤلف هنا ذكر أحاديث المواقيت العامة لعامة الناس، أما أحاديث أهل الأعذار فسيأتي الإشارة إليها كما في الحديث: (من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر، ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تشرق الشمس فقد أدرك الظهر) .
وكذلك يستثنى من كراهة الصلاة في وقت الاستواء قضاء الفائتة، وسيأتي التنبيه على الأوقات المنهي عن الصلاة فيها إن شاء الله.(40/8)
وقت صلاة الظهر
قوله رحمه الله: (وقت الظهر إذا زالت الشمس، وكان ظل الرجل كطوله، ما لم يحضر وقت العصر) .
أي: فإذا زالت الشمس عن كبد السماء دخل وقت الظهر، وقوله: (وكان ظل الرجل كطوله) : الرجل مجرد مثل، والمراد أن يكون ظل كل شيء مثله، فإذا غرست عوداً أو غرست عصاً أو كان هناك بيت، وكان الظل بمقدارها؛ فحينئذ دخل وقت الظهر.
وبهذه المناسبة يقولون في بعض الرياضيات: هذه المنارة كيف تعرف طولها؟ يقولون: تستطيع أن تعرف طولها بعصا طولها متر واحد، فإذا جئت بين الظهر والعصر وغرست العصا، وأخذت مقياسها من الأرض إلى أعلاها، وتأخذ امتداد ظلها وطولها مثلاً متر، وطول ظلها على الأرض مترين مثلاً، فتكون نسبة الظل إلى الشاخص اثنين إلى واحد، فتعرف بذلك طول المنارة أو عمود الكهرباء أو النخلة الطويلة أو أي جرم ممتد، فتأخذ ظله، فلو كان مثلاً مائة متر، وأنت عندك العصا وقد عرفت مقدار ارتفاعها، وكان ظلها ضعفها، فإذا كان ظل العصا ضعفها فكذلك النخلة أو المنارة يكون ظلها ضعفها، فإذا وجدت الظل مائتي متر فيكون ارتفاعها مائة متر، أو وجدت ظلها مائة متر فيكون ارتفاعها خمسين متراً فقط، وهكذا.(40/9)
وقت صلاة العصر
قوله: (ووقت العصر ما لم تصفر الشمس) .
أي: وقت العصر بعد أن يصير ظل الإنسان مثله ما لم تصفر الشمس، وهذا الوقت الاختياري، وهو وقت الفضيلة، مع أن وقت العصر يمتد إلى ما قبل غروب الشمس بما يسع ركعة، وهو الوقت الاضطراري.
فالعصر له وقت فضيلة، ووقت اختيار، ووقت اضطرار، فالوقت الاختياري بعد أن يصير ظل كل شيء مثله بعد ظل الزوال.
ومعنى قول الفقهاء (بعد ظل الزوال) : أن للشيء ظل وقت الاستواء، ويكون قدره قدماً أو قدمين، وهذا حينما تكون الشمس في كبد السماء؛ لأن أشعة الشمس في فصل الشتاء لا تنزل متعامدة على الأرض، بل تنزل بزاوية منحرفة، وهذا الانحراف يجعل للشيء ظلاً عندما تكون الشمس في كبد السماء، ولكن في شدة الصيف، وعندما يستوي الليل والنهار؛ تكون أشعة الشمس متعامدة، فتنزل على رأس الشاخص فلا يكون له ظل عند الاستواء.
فهناك ظل للزوال يختلف باختلاف الفصول وباختلاف مواقع الأرض من العالم، فننظر قدر ظل الزوال حينما زالت الشمس، فنحسب الظل الموجود وقت الزوال، ثم نضيفه إلى الظل الموجود وقت قياس الظل، فإذا صار ظل كل شيء مثله عدا ظل الزوال، فيكون هذا آخر وقت الظهر.
إذاً: حينما تكون الشمس في كبد السماء فإما أن يكون للشيء ظل في الأرض موجود بالفعل، وذلك لعدم تعامد أشعة الشمس على الأرض، وإما ألا يكون له ظل، وآخر وقت الظهر عندما يصير ظل كل شيء مثله، فإن كان يوجد ظل للزوال أضيف إلى ظل الشاخص، وإن لم يكن له ظل عند الاستواء فنحسب ظله فقط.
يقول: (ما لم تصفر الشمس) فهذا آخر وقت العصر الفضيل، ولماذا تكون الشمس مصفرة عند الشروق، وعند الغروب تكون محمرة؟ يقولون: في أول خروجها تختلط أشعتها بالرطوبة التي كانت في الليل، فتكوِّن هذه الرطوبة مع أشعة الشمس البيضاء هذه الإضاءة، هكذا يعللون، ولا ندري بحقيقة ذلك، فإذا أخذت الشمس ترتفع ذهبت رطوبة الجو، واكتمل ضوء الشمس وشعاعها، فصارت بيضاء نقية.
إذاً: وقت العصر من نهاية وقت الظهر ما لم تصفر الشمس، وهذا هو الوقت الفضيل الذي ينبغي ألا تؤخر العصر عنه إلا لضرورة، وبعد اصفرارها يدخل وقت الاضطرار، والذي يصلي العصر بعد اصفرارها يصليها أداء باتفاق الجميع، فوقت العصر يمتد إلى ما قبل غروب الشمس بما يسع ركعة، ولكن الأفضل أن تصلي في الوقت الفضيل، وهو ما لم تصفر الشمس وتتغير، وقد جاء في الحديث: (الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر ماله وأهله) ، فالرجل يصلي العصر، ويدرك وقتها، ولما فاته من وقتها الفضيل أفضل من أهله وماله.
إذاً: وقت الفضيلة للعصر، من بعد خروج وقت الظهر إلى أن تبدأ أشعة الشمس بالاصفرار، وما بعد الاصفرار فهو وقت ضروري.(40/10)
وقت صلاة المغرب
قوله: (ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق) : العصر ينتهي وقته بغروب الشمس، ويقولون: كل صلاة يبدأ وقتها بنهاية ما قبلها إلا الظهر؛ لأن ما قبلها وهو الفجر ينتهي بطلوع الشمس، وما بين طلوع الشمس إلى زوال الشمس ليس من وقت الصبح ولا من وقت الظهر، ولهذا يقولون: إن أول الأوقات وقت الظهر، وأول ما نزل جبريل عليه السلام ليبين للنبي صلى الله عليه وسلم أوقات الصلاة إنما كان في صلاة الظهر، ويقولون: إن آدم أول ما نزل إلى الأرض صلى صلاة الظهر، فيقولون: إن الظهر هي أول التوقيت، فأول الأوقات الظهر، يليها العصر، ثم في نهياتها يليها المغرب، ثم في نهايتها يليها العشاء، ثم في نهايته يليه الصبح، وما بين الصبح والظهر فترة طويلة بين الوقتين.
ونذكر حديث جبريل عليه السلام عندما بيَّن للرسول صلى الله عليه وسلم أوقات الصلوات، وذلك بعد ليلة الإسراء والمعراج إذ فرضت الصلاة، وفرضها الله على رسوله كفاحاً، ونعلم بالقصة عندما خففها من خمسين إلى خمس، فلما نزل صلى الله عليه وسلم، لم يأته جبريل لصلاة الصبح، ولكن جاءه لصلاة الظهر، وجاءه في يومين متواليين، فصلى به في اليوم الأول الصلوات الخمس في أول وقتها، ثم من الغد صلى به الصلوات الخمس في آخر وقتها إلا المغرب فإنه صلاها في اليومين في وقت واحد، ولذا كان وقتها ضيقاً عند المالكية كما سيأتي في بيان وقتها.
وثبت أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة عن وقت الصلاة، فقال: (صل معنا، فصلى من الغد الصلوات الخمس في أول أوقاتها، ومن بعد الغد صلى الصلوات الخمس في آخر وقتها، ثم قال: أين السائل عن أوقات الصلاة؟ فقال: هأنذا يا رسول الله! فقال: ما بين هذين وقت) .
وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أن الصلاة كتاب موقوت، وأشار القرآن إلى أوقات الصلاة كما في قوله تعالى: {أًقِمِ الصَلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78] ، وجاءت السنة وبيّنت وفصلت الأوقات، وبيّن صلى الله عليه وسلم أول الوقت وآخره، وأخبر أن أفضل الأعمال إيمان بالله ثم الصلاة في أول وقتها.
فالمغرب يمتد وقته ما لم يغب الشفق، ولكن الأفضل في المغرب أن يبادر به، وعند المالكية أن وقت المغرب لا يمتد إلى الشفق إلا عند الضرورة، وعندهم أن وقتها يخرج بالأذان والإقامة وصلاة ركعتين وصلاة الفريضة وصلاة ركعتين، وبهذا ينتهي وقت المغرب الاختياري؛ لأن جبريل صلى برسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب في اليومين في وقت واحد، والرسول صلى الله عليه وسلم لما بيّن للأعرابي الأوقات صلى المغرب أيضاً في وقت واحد، وفي بعض الروايات أنه أخره إلى غياب الشفق وقال: (ما بين هذين وقت) .
إذاً: السنة بينت أوقات الصلاة، وفي هذا الحديث قال عليه الصلاة والسلام: (والمغرب ما لم يغب الشفق) ، والشفق عند الجمهور أنه الحمرة التي تكون عند غروب الشمس، وهي كالصفرة التي تكون قبيل طلوع الشمس، وكلها من آثار أشعة الشمس، فالاصفرار قبل طلوع الشمس، فأشعة الشمس تسبق إلينا قبل أن تبرز الشمس، والشفق هو: بقايا أشعة الشمس بعد أن غربت الشمس.
إذاً: الشفق الحمرة، وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أن الشفق هو: البياض، والبياض يأتي بعد الحمرة، وبعض المفسرين والعلماء قال: لقد رقبت الشفق الأبيض، فإذا به قد يبقى إلى نصف الليل.
إذاً: الشفق هو الحمرة، وسيأتي بيان دليله.(40/11)
وقت صلاة العشاء
قوله: (ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط) : وقت صلاة العشاء يبتدئ من غياب الشفق، ولكن الأفضل تأخيرها مثل الظهر في شدة الحر، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم) .
وأفضل الأعمال بعد الإيمان بالله الصلاة في أول وقتها، كما جاء في السنة إلا الظهر في شدة الحر فإنه يبرد بها، وإلا العشاء فالأفضل في وقتها التأخير، ودليله حديث أنه أخرها ذات ليلة: (أن النبي عليه الصلاة والسلام أخر العشاء يوماً ثم خرج وقال: إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي) ، فكان عليه الصلاة والسلام إذا رآهم اجتمعوا عجل بالعشاء، وإذا رآهم تأخروا أخرها، لينتظر المتأخرين ليدركوا الصلاة معه.
إذاً: وقت العشاء يبدأ من ذهاب الشفق الأحمر، ولكن الأفضل تأخيرها كما جاء في الحديث: (إلى نصف الليل الأوسط) .
وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم أخّر العشاء يوماً، وأعتم بها، حتى كانت تخفق رءوسهم من النعاس، ثم خرجوا صلوا معه ولم يتوضئوا كما في حديث ابن عباس، وتقدم إيراده في نواقض الوضوء، في مسألة النوم هل هو ناقض أو مظنة للنقض.
فهم كانوا يجلسون في المسجد بعد المغرب، وينتظرون العشاء، وكان يطول الوقت بهم حتى تخفق رءوسهم من النعاس، وفرق بين النعاس وبين النوم، فخرج عليهم وهم في مجالسهم فقال: (ليس على وجه الأرض غيركم يعبد الله، وإنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي) ، فهو عليه الصلاة والسلام أخر العشاء أحياناً لبيان الأفضلية، وهديه عدم التأخير الكثير للعشاء، وهذا هو الحكم العام.(40/12)
وقت صلاة الصبح
قوله: (ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر مالم تطلع الشمس) .
وقت صلاة الصبح من طلوع الفجر إلى شروق الشمس، والفجر فجران كما قال صلى الله علي وسلم: (الفجر فجران: فجر يلوح في الأفق كذنب السرحان -أي: مرتفع عمودي مثل ذنب الذئب- وفجر ينتشر -كجناحي الطير- يمتد في الأفق) ، فالفجر الأول لا يُحل الصلاة، ولا يُحرم الطعام، وهو لحظات ويختفي، والفجر الثاني هو الذي يحل الصلاة، ويحرم الطعام على الصائم.
قال الفخر الرازي رحمه الله في تفسيره: الفجر الأول فيه آية من أعظم آيات القدرة الإلهية، وذلك أن الفجر الثاني مسبب عن اقتراب الشمس، فسبقت أشعتها حتى انفجر ضوء الفجر من ظلام الليل، فطلوع الفجر الصادق هو نهاية الليل، وهو أثر من آثار حركة الشمس وقربها منا، والشفق هو: بقايا حركة الشمس وذهابها عنا، فالفجر الثاني والشفق أثران من آثار الشمس، وهذا معقول في السببية، لكن الفجر الأول نور يمتد في الأفق، ومن أين يأتي هذا النور؟ هل هناك كوكب أضاء تلك اللحظة حتى ظهر هذا الفجر، ثم ذهب ذلك الكوكب؟ لا يوجد! وهل هو من القمر؟ لا يوجد قمر! وهل هو أثر من الشمس؟ لكن الشمس ما زالت بعيدة! قال: وهذا دليل على قدرة المولى سبحانه بأن يوجد المسبب بدون سبب، وليس السبب إلا أمراً معقولاً بالنسبة إلينا، والله سبحانه قادر على أن يوجد الشيء بلا أسباب، بل بمحض الإرادة والقدرة الإلهية، فليس هناك شمس، وهذا أثرها! ونحن نقرأ في أحوال الجنة {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة:35-37] ، فالحور العين اللاتي في الجنة خلقهن الله من غير أبوين، فهن لسن من ذرية آدم وحواء، وإنما أنشأهن الله إنشاء من غير أب ولا أم.
البشر من ذرية أبينا آدم وأمنا حواء كما قال الله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1] ، وخلق الله عيسى من مريم من غير أب، فهناك أسباب ومسببات، لكن الحور العين في الجنة خلقت بلا أب ولا أم، والطيور التي في الجنة ليست من نسل طيور، وكذلك اللحوم الموجودة، والفواكه الموجودة، لا نقول: إن الفواكه من غرس في الجنة، وإن الطيور الموجودة هناك يكون لها بيض وعشش ثم تفقس البيض عن طيور، بل ينشئها الله سبحانه وتعالى بدون أن يتوقف وجودها على سبب مادي.
فكذلك الفجر الأول هو دليل على قدرة المولى سبحانه، ودليل على أنه قادر أن يوجد الشيء بدون مسببات مادية، وأما الفجر الصادق الذي به تحل الصلاة، وبه يحرم الأكل والشرب على الصائم.
فيكون عند انتشار الضوء في آخر الليل، وذلك حين يتبين الخيط الأبيض وهو الفجر، من الخيط الأسود وهو الليل.
قال المؤلف: [وله من حديث بريدة في العصر: (والشمس بيضاء نقية) ] .
في الحديث الأول قال: (ما لم تصفر الشمس) ، وهنا ذكر مفهومه وهو: (والشمس بيضاء نقية) ، أي: ما دخلتها الصفرة ولا الحمرة.
قال المؤلف: [ومن حديث أبي موسى: والشمس مرتفعة] .
أي: لم تتضيف للغروب، وقد ذكرنا أن دائرة الشمس من شروقها إلى غروبها ثماني عشرة درجة، ووقت الزوال عند الدرجة التاسعة من الثماني عشرة، وما بين كبد السماء إلى الغروب تسع درجات، فحينما تزول الشمس من كبد السماء إلى جهة الغروب تكون أمامها تسع درجات، وبعد أربع درجات ونصف تكون الشمس في نصف ربع الدائرة العلوي، فوقت العصر حين تكون الشمس في نصف الربع الأعلى، وحينئذ تكون الشمس بيضاء نقية؛ لأنها لم تقترب جداً من جهة الغروب، وعندما تقترب من جهة الغروب تحمر أو تصفر.(40/13)
أفضل أوقات العصر والعشاء(40/14)
صلاة العصر في أول وقتها
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أبي برزة الأسلمي رضي الله تعالى عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر، ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية) ] .
قال الراوي: كنا نصلي العصر مع النبي صلى الله عليه وسلم، أي: بالمدينة، فينقلب أحدنا إلى رحله، وبعضهم كان رحله في العوالي، مثل أهل قباء، ومن عتبة مسجد قباء إلى باب السلام ثلاثة كيلو كما هو معروف، فيمشي هذه المسافة والشمس حية، بمعنى: لم يبدأ عليها التغير؛ لأن التغير بداية موتها أي: بداية غروبها، فمعنى قوله: والشمس حية، أي: على حقيقتها وسلامتها من التغير، قياساً أو تشبيهاً بالتغير الذي يطرأ على الإنسان بالمرض، ويؤدي به إلى الموت، والشمس حية أي: نقية قوية في ضوئها وحرارتها.(40/15)
استحباب تأخير العشاء
قال: [ (وكان يستحب أن يؤخر من العشاء) ] .
أي: وكان صلى الله عليه وسلم يستحب -وليس بواجب- أن يؤخر من العشاء، ولكن إذا كان المسجد له جماعة من المصلين ينتابونه من أماكن مختلفة، فينبغي على الإمام ألا يشق عليهم، إلا إذا كانوا أهل حي معين، وكانوا أفراداً مخصوصين، مثل أن يكونوا في بادية أو في منطقة أهلها قد اتفقوا فيما بينهم وتراضوا على أن يؤخروا العشاء؛ فلا مانع من ذلك؛ لأنه من حقهم، وقد رضوا بأن تؤخر العشاء.
ولكن المساجد العامة مثل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الآن، فإنه ينتابه الناس من الآفاق، وربما تأتيه النسوة وقد تركن الأطفال في البيوت، ووراءهن أعمال كثيرة من تحضير العشاء وغير ذلك، فلا ينبغي تأخيرها حينئذٍ، إنما يستحب تأخيرها لمن كان وحده ولا يتعلق به حق الآخر، أو لمن كانوا جماعة وتواطئوا على ذلك، فلا مانع من أن يؤخروها، إذا حصل الاتفاق بينهم.
أما المساجد العامة التي يأتيها عامة الناس وخواصهم، ويأتيها النساء والرجال، فلا ينبغي تأخيرها، بل تقديمها أول الوقت أنسب وأرفق لمصلحة العباد.(40/16)
كراهة النوم قبل العشاء والحديث بعدها
قال: [ (وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها) ] .
كان يكره النوم قبلها؛ أي: ما بين المغرب والعشاء، ويقولون: الصلاة في هذا الوقت هي صلاة الأوابين، وبعضهم يقول: صلاة الأوابين هي صلاة الضحى حين ترمض الفصال، أي: يشتد حر الرمل على الفصيل الصغير، فلا يستطيع أن يتحملها فيبرك.
فيكره النوم قبل العشاء؛ لأنه قد يمتد به النوم إلى أن يطلع الفجر فتفوته العشاء، أو ينتبه في ثلث الليل الأخير، وهذا تأخير عن وقتها الفضيل، فيصليها في وقت الضرورة.
وكان يكره الحديث بعدها؛ لأن الحديث بعدها يطيل السهر، وإطالة السهر تقلل النوم، وإذا حصل ذلك استمر به النوم حتى طلوع الفجر أو طلوع الشمس، فدفعاً للمضرة كره النوم قبلها حفاظاً على العشاء، والحديث بعدها حفاظاً على الصبح حتى لا يغلبه النوم.
وعلى أن يرتب وقته بالليل، ليضمن حفظ صلاته، فلو كان الإنسان متعباً مرهقاً ولم يجد فرصة للنوم إلا بعد المغرب، وأراد أن يغفو غفوة أو يستلقي أو يستريح، فعليه أن ينبه أهله أن يوقظوه عند أذان العشاء، وبالنسبة للكلام بعد العشاء، يقولون إنه لا ينبغي الكلام بعد العشاء إلا مع الضيف، والزوج مع زوجه، وطالب العلم في مدارسته، وأشياء معينة محدودة، وما عدا ذلك فيكره حفاظاً على الفجر.(40/17)
مشروعية اتخاذ منبه ونحوه للإيقاظ للصلاة
يجب أن ننتبه إلى ما نحن عليه اليوم، خصوصاً مع هذه الأجهزة المخترعة الجديدة التي لم تكن من قبل، وتستغرق منا أكثر من نصف الليل، أو إلى ثلث الليل، والناس حولها وهي تشغلهم وتلهيهم، فإذا ذهب أحدهم لينام لا يوقظه إلا حر الشمس، فهذا تفريط منه، لكن إذا اضطر الإنسان للسهر كأن جاءت مناسبة أو كان عنده مشكلة سهر لها، أو عنده ضيوف أو كان عنده مريض سهر عليه؛ فينبغي أن يعمل الاحتياط من أجل صلاة الصبح، مثل الساعات المنبهة التي فيها الجرس أو ساعة التلفون أو أي وسيلة من الوسائل التي توقظه لصلاة الصبح.
وعمل هذه الاحتياطات من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد رجع مرة من بعض الغزوات، وعرس بآخر الليل في بعض الأودية، وقال: (من يكلأ لنا الصبح؟) فقال بلال: أنا يا رسول الله! والمعنى: من يحرسه ويوقظنا حينما يرى الفجر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم علم بأنهم في عودة من غزوة بعد سفر طويل، والتعب موجود، فيخشى أن يغلب عليهم النوم ولا يستيقظون من شدة التعب حتى يطلع الفجر ويخرج الوقت، فاتخذ وسيلة لحفظ الوقت بحسب ظروفهم.
(فجلس بلال وقام يصلي ما شاء الله، ثم أناخ راحلته، وأسند ظهره عليها ووجهه إلى المشرق ليرى الفجر، فما كان منه إلا أن نام، وناموا جميعاً، وما أيقظهم إلا حر الشمس، ففزعوا وكانوا يتحاشون أن يوقظوا رسول الله عليه الصلاة والسلام إذا كان نائماً، مخافة أن يكون في حالة من تلقي الوحي، لكن عمر رضي الله تعالى عنه أخذ يكبر بصوت مرتفع حتى استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى أن الشمس قد ارتفعت قال: اركبوا، حتى خرجوا من ذلك الوادي، ثم نزلوا فتوضئو وأمر بلالاً فنادى للصلاة ثم أقام فصلى بهم، ولما رأى استياء الناس قال: إن بهذا الوادي شيطاناً، فمن نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها حين يذكرها، ثم قال لـ أبي بكر: يا أبا بكر! إن بلالاً قام يصلي من الليل ما شاء الله ثم جاءه الشيطان يهدهده كما تهدهد الأم طفلها حتى نام، ثم قال لـ بلال: أين الصبح يا بلال؟! قال: أخذ بروحي الذي أخذ بأرواحكم -أي: أنا واحد مثلكم- ثم قال: ماذا جرى عليك؟ فذكر له مثل ما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام لـ أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فقال أبو بكر: أشهد أنك رسول الله) .
الشاهد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما علم أنهم مظنة أن يغلبهم النوم، لما لحقهم من مشقة السفر وعودتهم من الغزو وتأخرهم في النوم؛ أوكل من يوقظهم لصلاة الفجر، ولكن الله أراد شيئاً آخر؛ أراد أن يوقع ذلك بهم في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبين لنا ماذا نفعل إن وقع لنا مثل ذلك، فهل نصليها بعد وقتها؟ وهل نجتاز ذلك المكان لكونه فيه شيطان؟ إذاً: الشياطين في بيوت الناس كلهم.
قال ابن عبد البر: الإخبار بأن الوادي فيه شيطان أمر خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم، فالله أخبره بذلك، أما نحن فقد يكون الشيطان معنا ولا ندري، وليس بلازم على من وقع عليه مثل ذلك في مكان أن يخرج منه، بل يصلي الصلاة حينما ذكرها أو قام عنها.(40/18)
وجوب القضاء على من ترك الصلاة عمداً
هذا، وقد أطال ابن عبد البر البحث في الاستذكار في حوالى عشر صفحات في إقامة الدليل على أنه من كان في ذمته صلوات فائتة عليه، فيجب عليه إلزام أن يؤديها، وشنّع على ابن حزم في مخالفته في هذا، وقال: قد خالف مذهبه ومذهب شيخه داود، فإن من علماء الظاهرية من ذكر أن من اشتغل بأمر ففاتته الصلاة فعليه قضاؤها، وكذلك الحائض في بعض الحالات، وذكر حالات أوجب على أصحابها أن يقضوا ما فاتهم.
قال: وهؤلاء تركوها عمداً، فعليهم القضاء، فقول ابن حزم: لا قضاء على من تركها عمداً مخالف لإجماع المسلمين، وقد خالف حتى مذهب شيخه بالذات، فلم يوافقه أي أحد، ثم قال: وادعى أن بعض السلف يوافقه على رأيه، وهذا خطأ، ولا يصح عن أحد من المسلمين ذلك، لا من الصحابة ولا من التابعين، فلا نعلم أحداً منهم قال: إن من ترك الصلاة عمداً لا يقضيها.
وقد ذكر غير ابن عبد البر عن ابن عباس أنه سئل عمن ترك صلوات هل يقضيها أم لا؟ فقال: سبحان الله! النائم والناسي -وهما معذوران- يطالبان بقضائها، وهذا العاصي الآثم لا يطالب بالقضاء! أي: فالعقل لا يستسيغ ذلك.
والله تعالى أعلم.(40/19)
كتاب الصلاة - باب المواقيت [2]
حددت الشريعة أوقات الصلوات، وكل الصلوات يستحب المبادرة بأدائها في أول وقتها إلا صلاة الظهر في شدة الحر، وصلاة العشاء إذا انتفت المشقة في تأخيرها، ويستحب إطالة القراءة في صلاة الفجر والتغليس بها، ويتعلق بما ذكر مناقشات وخلافات فصلها العلماء، ورجحوا بينها.(41/1)
حديث رافع بن خديج بتعجيل وقت المغرب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: كنا نصلي المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فينصرف أحدنا وإنه ليُبصر مواقع نبله] .
الله أكبر! هذه الرياضة، رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه من الشباب المشهورين بالرماية، وفي بعض الغزوات رده رسول الله صلى الله عليه وسلم لصغر سنه وأجاز غيره، فذهب إلى أبيه وبكى وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز فلاناً ومنعني، وإني -والله- أصرعه، فتصارعا فصرعه، فأجازه، وكان قد قيل لرسول الله عليه الصلاة والسلام: إن رافعاً الذي رددته رامٍ، فجيء به واختبر، فأجازه؛ لأنه رام، أي: متمرن على الرماية قبل أن يبلغ السن الذي يجيز له أن يشارك في القتال في سبيل الله.
قال: (كنا نصلي المغرب مع النبي صلى الله عليه وسلم فينصرف أحدنا -من الصلاة- وإنه ليبصر مواقع نبله) ، النبل هي السهام التي توضع في القوس ويرمى بها، وأين كان هذا؟ وهل كانوا يقاتلون؟ وهل كان حينئذٍ قتال في المدينة؟ وهل وقت القتال تنظر مواقع النبل؟ لا، فالنبل تصوب إلى العدو وتذهب، ولكنهم كانوا يتدربون.
وتعرفون مسجد السبق في الباب الشامي، وهو الآن عند موقف النقل الجماعي قبل ثنية الوداع، فهذا المسجد بني في موضع السبق.(41/2)
مشروعية السبق برمي النبل
والسبق عند العلماء هو المسابقة، ويبوب الفقهاء في مصنفاتهم (باب السبق والمناضلة) ، والسبق يكون بالخيل، والمناضلة تكون بالسهام، فكانوا يخرجون -ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم- وينصبون الهدف، ويتبارون أيهم يصيب أكثر.
وتكون المسابقة بين شخص مقابل شخص، أو فريق مع فريق، وقد جاء (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بفريقين متناضلين منهم بنو بياضة، فقال لبني بياضة: أنا معكم، فأمسك الفريق الثاني أن يرمي شيئاً، فقال: ما بالكم لا ترمون؟ قالوا: كيف نناضل قوماً معهم رسول الله؟ فقال: ارموا وأنا معكم جميعاً) .
وطريقة المناضلة أن يجعلوا هدفين: هدفاً لهذا الفريق، وهدفاً لهذا الفريق، ويكونان متساويين في المسافة وفي الارتفاع وفي المقدار، ثم يحدد الرمي في عشرة أسهم مثلاً، فمن يصب من العشرة أكثر من خصمه فهو السابق، فبعضهم يصيب العشرة كاملة، أو تسعة أو ثمانية، وبقدر ما يتفوق أحد الفريقين يكون له السبق.
فكانوا يخرجون إلى ذلك المكان بعد العصر ويتسابقون -ويشترط العلماء لهذا شروطاً مذكورة في كتب الفقه- فكانوا يؤدون هذه الرياضة والرسول صلى الله عليه وسلم أحياناً معهم، وأحياناً ليس معهم، فإذا أنهوا السبق وحان موعد صلاة المغرب صلوا، فإذا انصرفوا من صلاتهم يبصر أحدهم مواقع نبله، وذلك بعد الانصراف من صلاة المغرب مع بقاء ضوء النهار، قبل دخول شدة الظلام، فكان الواحد منهم ينظر موقع النبل، هل أصاب الهدف أو وقع يميناً أو يساراً.
وهذا يدل على أنهم كانوا يصلون المغرب في أول وقتها، فحديث رافع يبين لنا أنهم كانوا يصلون المغرب في أول وقتها، حتى إنهم بعد أن ينصرفوا من صلاتها ليتمكن الواحد منهم من أن يرى مواقع النبل.
وهذا الحديث يدل على مشروعية هذه الرياضة وهذه المسابقة، وقد كان صلى الله عليه وسلم يسابق بين الخيل التي لم تضمر من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق، وبين الخيل المضمرة إلى الحيفاء وراء بئر عثمان، والسباق على الخيل والمناضلة على السهام من أسباب الاستعداد للجهاد، فكان صلى الله عليه وسلم يمرن الصحابة على كل ما يساعدهم على الجهاد، والنبي عليه الصلاة والسلام قد صارع وحمل الأثقال وناضل بالسهام وسابق بالخيل.(41/3)
مشروعية تعلم المصارعة وإتقان رياضة الدفاع عن النفس
أما المصارعة فكانت مع ركانة قبل الهجرة، وكان ركانة لا يصرعه أحد، فقال له صلى الله عليه وسلم: (ألا تسلم يا ركانة؟! قال: يا محمد! صارعني فإن غلبتني فلك شاة! فصارعه رسول الله عليه الصلاة والسلام فصرعه، فقال: واعجبا! والله ما أحد قبلك ألصق جنبي بالأرض، هذه شاة، أتعود يا محمد؟! قال: نعم، فصرعه الثانية، فأعطاه الشاة الثانية، قال: الآن الثالثة وهي النهاية، فعادا المرة الثالثة فصرعه فأخذ ثلاث شياه.
فقال ركانة: يا ويلتاه! ماذا أقول لأهل الغنم في ثلاث شياه في وقت واحد؟ إن قلت: واحدة أخذها الذئب، وواحدة هربت فلم أدركها، فماذا أقول في الثالثة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: يا ركانة! لا أجمع عليك غبنين: غبن الانهزام وغبن الشياه، خذ شياهك فهي لك.
فتعجب من شجاعته وقوته ثم من كرمه صلى الله عليه وسلم، قال: أتعجب من هذا يا ركانة؟! قال: إي والله يا محمد! قال: ألا أريك ما هو أعجب من ذلك؟ قال: بلى، فنظر صلى الله عليه وسلم إلى شجرة هناك فأشار إليها أن هلم إليّ، فجاءت تخط الأرض كالمحراث، حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال لها: عودي حيث كنت! فرجعت كما كانت؛ فأسلم ركانة) .
أعتقد أن مهندسي الزراعة في العالم كله في الأراضي الباردة والحارة، لا يستطيعون أبداً أن يدركوا أو يكيفوا كيف انجذبت جذورها! وكيف جاءت تخط في أرض يابسة! ثم رجعت إلى مكانها وهي على حالها! كيف حصل هذا؟! هذا أمر غريب على العقل، ولكن المعجزة فوق إدراك العقل وتصوره.
إذاً: صارع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمصارعة من الإعداد للجهاد، فقد يكون القتال بالسلاح الأبيض، ومن شارع إلى شارع، ومن دار إلى دار، فيضطر المقاتل عندها إلى القتال باليد، وإن كان القتال الآن بالأسلحة الذرية وبالاقتصاد وبأشياء كثيرة؛ لكن قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَة} [الأنفال:60] ، يشمل كل قوة، ولا حد للاستطاعة ألبتة.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم مر على شباب يتبارون في حمل صخرة، فبعضهم يقدر على رفعها، وبعضهم يعجز، فقال: (أريكم؟ وحملها بين يديه ورفعها ووضعها) ، وهذا حمل الأثقال.
وكذلك سابق عائشة فسبقته مرة وسبقها مرة، وكان مرة على ناقته القصواء فسبقها أعرابي فقال: (حق على الله ألا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه) .
يهمنا أن الصحابة كانوا يخرجون من صلاة المغرب، وينظرون مواقع نبلهم، وعند العرب أن من اتصف بثلاث صفات سمي كاملاً وهي: أن يكتب بالقلم، ويجيد الرمي، ويحسن السباحة، فمن اجتمعت فيه تلك الخصال الثلاث قالوا: إنه من الكمل، أي: كملت صفة الرجولة فيه.(41/4)
حكم تأخير صلاة العشاء إذا انتفت المشقة
قال المؤلف: [وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (أعتم النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة بالعشاء حتى ذهب عامة الليل ثم خرج فصلى وقال: إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي) رواه مسلم] .
قول عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: (أعتم النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة) ، أعتم: أي: دخل في العتمة مثل أصبح، ومثل أمسى، أي: دخل في الصباح ودخل في المساء، والعتمة هي: ظلام الليل.
وقولها: (ذات ليلة) أي: أن ذلك لم يكن مما يداوم عليه صلى الله عليه وسلم، ولكن ليلة من الليالي أعتم بالعشاء حتى ذهب عامة الليل، وبعضهم يقدر ذلك بنصف الليل، وبعضهم بثلثي الليل، إلى غير ذلك من التقديرات.
ثم خرج على أصحابه، وقد كانوا ينتظرون خروجه ليصلي بهم صلاة العشاء، وفي رواية ابن عباس: حتى كانت تخفق رءوسنا بالنوم، فكانوا جالسين ينتظرون الصلاة، ومع طول الوقت، وعدم تعودهم على السهر؛ كانت تخفق رءوسهم بالنعاس، وهو من مقدمات النوم، ولما خرج عليهم صلوات الله وسلامه عليه وهم على تلك الحالة قال لهم: (إنه لوقتها) ، أي: هذا الوقت الذي جئتكم فيه هو وقت العشاء (لولا أن أشق على أمتي) .(41/5)
مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم لمصلحة أمته
وقد ذكرنا أنه عليه الصلاة والسلام كان يرغب في الشيء ويريده ولكنه يتركه مراعاة لمصلحة الأمة، سواء كان خوفاً من مغبة ذلك وما يترتب عليه، أو كان رفعاً للحرج وللمشقة، ومن ذلك قوله في السواك: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) ، فالأمر يقتضي الوجوب والإلزام، فلم يأمرهم أمر إيجاب وإلزام ولكن أمر توجيه وإرشاد.
وكذلك من شفقته بالأمة عليه الصلاة والسلام أنه لما صلى بعض الناس بصلاته صلى الله عليه وسلم في رمضان، ولم يعلم بهم، وفي الليلة الثانية والثالثة كثر الناس حتى امتلأ المسجد بهم، فصلوا العشاء ولم يخرجوا، وبقوا ينتظرون خروج النبي صلى الله عليه وسلم كما كان يخرج في الليالي السابقة ليصلي فيصلون بصلاته قيام الليل، فلما وجد المسجد مليئاً بالناس سأل عائشة فقال: (يا عائشة! ما بال الناس مجتمعون؟! ألم يصلوا العشاء؟! قالت: بلى صلوها، ولكن ينتظرون خروجك لتصلي فيصلون بصلاتك كما صلى بصلاتك من قبلهم في الليالي الماضية، فقال: ارفعي حصيرتي، ولم يخرج تلك الليلة، ولما استبطئوا خروجه أخذوا الحصباء يرمون بها باب البيت -لينبهوه صلوات الله وسلامه عليه للخروج إليهم وكأنهم يقولون: نحن في انتظارك- فلم يخرج إلا في صلاة الفجر وقال: أما إنه لم يخف عليّ صنيعكم البارحة -أي: أنا بحمد الله لم أبت غافلاً ولم أكن نائماً، بل كنت أعلم بوجودكم- ولكن خشيت أن أخرج إليكم فأصلي بكم فتكتب عليكم فلا تستطيعوها) .
فكان عدم خروجه إليهم مع أن هذا من في فعل الخير، حيث يصلون في مسجد رسول الله مقتدين برسول الله في شهر مبارك، ولكن لرأفة النبي بالأمة وشفقته عليهم خشي أن يخرج فيكتبها الله عليهم، وتصبح واجبة عليهم في الليل، كما أن الصيام واجب عليهم في النهار، فتلحقهم بذلك مشقة، وإذا لحقتهم مشقة فما كل الناس يستطيع أن يفعل ذلك.
ولما عرج به صلى الله عليه وسلم وفرض الله عليه خمسين صلاة، مر بموسى عليه السلام وهو في السماء السادسة، فقال: (ماذا فرض الله عليك؟ قال: فرض عليّ وعلى أمتي خمسين صلاة، قال: ارجع إلى ربك وسله التخفيف، فالتفت إلى جبريل يستشيره، فقال: نعم، فرجع به جبريل إلى ربه، وسأله التخفيف، فخفف عنه خمساً، ونزل إلى موسى، ولم يزل يتردد بين موسى وبين ربه، وموسى يقول له: سله التخفيف، فإني قد بلوت بني إسرائيل قبلك -وهم أشد من أمتك أبداناً وقوة- بأقل من ذلك، فلم يستطيعوا لهذا، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فحينما انتهت إلى خمس، قال: لقد استحييت من كثرة مراجعتي ربي، فقال المولى له: يا محمد! هي خمس بالعدد وخمسون في الأجر) ؛ أي: لأن الحسنة بعشر أمثالها.
الشاهد أن موسى نصحه وقال له: لقد بلوت بني إسرائيل قبلك بأقل من هذا فلم يستطيعوا، إذاً: التخفيف على الأمة هو الأولى، وكان من سنته ومنهجه صلى الله عليه وسلم -كما تقول أم المؤمنين عائشة - أنه ما خير صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وفي الحديث: (يسروا ولا تعسروا) .(41/6)
إعتام النبي صلى الله عليه وسلم بالعشاء ليلة لبيان الجواز والفضيلة
أعتم بهم ذات ليلة، وليس كل ليلة، أو كل أسبوع مرة، أو كل شهر مرة أو مرتين، بل ليلة ليبين الأفضل والجواز، وهذا في حق الأفراد لا في حق أئمة المساجد؛ لأن المساجد يأتي إليها أجناس الناس المختلفة قوة وضعفاً، كما في الحديث: (من أمّ بالناس فليخفف، فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة) .
إذاً: أعتم ذات ليلة ليبين الفضيلة، ولم يُعتم بعدها، واستقر الأمر على أن يصلي العشاء في أول وقتها، وفي بعض الروايات أنه قال: (إنه لا ينتظرها على وجه الأرض غيركم) ، يعني: يريد أن يخفف عنهم عناء السهر الذي سهروه، فأخبرهم بأن سهرهم هذا لا نظير له على وجه الأرض، أي: أنتم الذين خصكم الله بهذا الفضل، ولا يوجد على وجه الأرض من ينتظر صلاة كانتظاركم، ففرحوا بهذه الخصوصية والأفضلية، وهان عليهم ما مضى من سهر وانتظار لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: النبي عليه الصلاة والسلام أعتم ذات ليلة، وهل استمر على ذلك؟ لا، بل رجع إلى ما كان عليه من قبل، وهو صلاته بهم في أول الوقت، أو كما قال الراوي: (أما العشاء فكان يصليها أحياناً وأحياناً، إذا وجدهم اجتمعوا عجل، وإذا رأى منهم تأخيراً أخر) ، وذلك انتظاراً لمن لم يحضر حتى لا تفوته الجماعة.(41/7)
شرح حديث تأخير صلاة الظهر وقت اشتداد الحر
قال المؤلف: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم) متفق عليه] .
هذا الحديث أخذ حيزاً كبيراً في كتب شروح الحديث، وكثُر الكلام والمناقشة حوله من جهتين: من جهة الحقيقة والمجاز في قوله: (من فيح جهنم) ، ومن جهة الفقه في قوله: (أبردوا) .(41/8)
خلاف العلماء وأدلتهم في مسألة الإبراد بالظهر
ثبت في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (اشتكت النار إلى ربها وقالت: يا رب! أكل بعضي بعضا، فأذن لها بنفسين: نفس في الصيف، ونفس في الشتاء، فأشد ما تجدون من الحر فهو من نفسها في الصيف، وأشد ما تجدون من الزمهرير فهو من نفسها في الشتاء) .
ومعنى قوله: (أكل بعضها بعضاً) ، أي: أن حرها وأوارها قد اشتد فطلبت من ربها أن يخفف عنها، فسمح لها بنفسين، فأشد ما تجدون من الحر فهو من نفسها، وأشد ما تجدون من البرد فمن نفسها، فالنار فيها حر وبرد! فيها الزمهرير وهو شدة البرد، وفيها النار والحميم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة) ، أي: بصلاة الظهر، فهل الإبراد بصلاة الظهر أولى أو مراعاة فضيلة أول الوقت؟ جاء في الحديث: (أحب الأعمال إلى الله إيمان بالله ثم الصلاة على أول وقتها) ، وجاء الحديث الذي فيه مقال: (أول الوقت رضوان الله، وأوسطه رحمة الله، وآخره عفو الله) ، فهناك أحاديث متعادلة متقابلة.
فالجمهور على أن الأفضل أن تكون جميع الصلوات في أول الوقت إلا الظهر في شدة الحر فيبرد بها، وإلا العشاء فتؤخر إلى ثلث الليل، فهاتان الفريضتان الأفضل فيهما التأخير، كما قال أحمد رحمه الله: كل الصلاة على أول وقتها أفضل إلا الظهر في الحر وإلا العشاء إلى ثلث الليل، أي: لمن لم يشق عليه ذلك.
ومن العلماء من يرجح أن الظهر تصلى في أول وقتها، ولكن يعارضه هذا الحديث الصريح.
والشافعي رحمه الله يقول: يُنظر لحال المصلين، فإذا كانوا يمشون في ظل، ويأتون إلى المسجد بلا مشقة عليهم، فإنهم يصلون الظهر في أول وقتها، وإن كانوا يمشون في الشمس، وفي شدة الحر فإن الأفضل أن يؤخروها.
ومنهم من يقول: يختلف الحكم إذا كانوا يأتون من مكان بعيد إلى المسجد أو يأتون من قُرب المسجد، فيراعى حال المصلين بالنسبة لشدة الحر.
فالقائلون بأن الظهر تؤخر نظروا إلى هذا الحديث، وهناك حديث آخر رواه مالك في الموطأ فيه: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة حر الشمس والرمضاء على أكفنا وجباهنا، فلم يَشكُنا، أو: فلم يُشكِنا) أي: لم يسمع شكوانا، وأمرنا بالصلاة في أول وقتها.
فهناك حديث الإبراد، وهناك حديث: (شكونا فلم يشكنا) ، فقالوا: إن حديث: (شكونا) ، ناسخ للإبراد وحديث: (إذا اشتد الحر فأبردوا) قاله صلى الله عليه وسلم في سفر.
يرد عليهم بأن دعوى النسخ تحتاج إلى إثبات التاريخ، والذين يقولون بالإبراد استدلوا أيضاً بحديث: أنه صلى الله عليه وسلم كان في سفر فحضر الظهر، وأراد المؤذن أن يؤذن فقال له: (أبرد أبرد) أي: لا تؤذن الآن، ورجح الجمهور الإبراد بالظهر إذا كان يشق على الناس الحضور إلى المسجد وقت الحر، بألا يكون هناك ما يظلهم وكانت تلحقهم المشقة في مجيئهم إلى صلاة الظهر في وقت شدة الحر.(41/9)
الحكمة من الإبراد بالظهر في شدة الحر
فإن قيل: ما هي الحكمة من الإبراد بالظهر في شدة الحر؟ فالجواب: لأن شدة الحر تجعل الناس في قلق وعدم طمأنينة، وهذا ينافي المطلوب في الصلاة من توافر الطمأنينة ليفقه المصلي ما يقول، وليكون على خشوع بين يدي ربه في صلاته، فإذا كان في شدة الحر فهو قلق مضطرب منزعج، فلا يمكن أن يوفي الصلاة حقها في تلك الحالة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (أبردوا) .
وجاء في الأثر: ثلاث ساعات نُهينا عن الصلاة فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا، وذكر منها: حينما تكون الشمس في كبد السماء حتى تزول، فقالوا: النهي عن الصلاة في ذلك الوقت؛ لأن النار تُسجر في ذلك الوقت.
واستشكل بعض العلماء هذا فقال: إذا كانت النار تسجر في ذلك الوقت، فإنه أدعى إلى أن نصلي، ونسأل الله العفو والمغفرة، ونسأل الله السلامة من النار.
وأجاب بعض العلماء عن ذلك فقال: إنّ كون النار تسجر في ذلك الوقت، إشعار بما يكون من المولى سبحانه من غضب، حتى جعل النار بتلك الحالة في ذلك الوقت، والسائل حينما يسأل يراعي حالة أو صفة المسئول، فلو كانت لك حاجة عند إنسان فإنك تراعي وقت رضاه، ووقت سماحته، ولا تسأله وقت غضبه وشدته، إنما تراعي وقت رضاه، ووقت رحمته، ووقت انبساطه، وهذا في حق المخلوق، والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك كله، لكن ينبغي أن تكون صلاتنا وسؤالنا في غير حال غضب المولى سبحانه، كما جاء في حديث الشفاعة، حينما يذهب أهل الموقف إلى آدم ثم إلى نوح ثم إلى إبراهيم، فكل منهم يعتذر ويقول: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله) ، ولم يتقدم أحد منهم لطلب الشفاعة؛ ثم يذهبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد ادخر دعوته لذلك اليوم، فيشفع لهم.
إذاً: شدة الحر من فيح جهنم فأبردوا من أجل تلك الحالة؛ لأن الدعاء في ذلك الوقت ليس كالدعاء في حالة هدوئها، وعدم فيحها.
يهمنا في الفقه أن الأفضل مراعاة حال المصلين في صلاة الظهر، كما هو مذهب مالك رحمه الله، ففي الشتاء نصلي الظهر في أول وقتها؛ لأنه ليس هناك دواع للإبراد بها.
قالوا: الجواب عن حديث: (شكونا فلم يشكنا) ؛ لأنهم طلبوا التأخير إلى وقت طويل حتى تبرد الحصباء، وجاء في بعض الآثار: (شكونا فلم يشكنا، فكان أحدنا يسجد على طرف كمه، وعلى طرف ردائه، وكان أحدنا يأخذ القبضة من البطحاء يمسكها في يده طيلة ما هو قائم للقراءة والركوع، فإذا سجد بسطها ليسجد عليها) ، لأنها تكون قد بردت في يده في تلك المدة.
فيكون قوله: (فلم يشكنا) أي: لأنهم طلبوا مدة أطول للإبراد، ولكن هذا في الواقع يحتاج إلى إثبات؛ لأنهم ما طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم مدة معينة، بل شكوا إليه الحر فقط، وشكوى الحر تتضمن الانتظار حتى يذهب حرها، وحر الرمضاء لا يذهب إلا قريب العصر، فيكون فيه تأخير صلاة الظهر إلى حد بعيد.(41/10)
حد الإبراد
وقد ذكر البيهقي رحمه الله عن عمر بن عبد العزيز أنه لما كان أميراً على المدينة لبني أمية، كان يصلي الظهر في شدة الحر الساعة الثامنة على التوقيت الغروبي، أي: في وسط الوقت الذي بين أول وقت الظهر وأول وقت العصر، فبعض الناس يجعل ذلك حد الإبراد.
وبعضهم يقول: هذا شيء كثير.
وبعضهم يفرق بين الشخص في حد ذاته وبين مساجد الجماعة، فالمصلي المنفرد له أن يصلي الظهر في أول وقتها، أما مساجد الجماعة التي يرتادها الناس من بعيد، وتلحقهم بسبب ذلك مشقة الحر، فعلى الإمام أن يبرد بصلاة الظهر، هذا ما يتعلق بالناحية الفقهية.(41/11)
معنى: إن شدة الحر من فيح جهنم
وقوله: (فإن شدة الحر من فيح جهنم) .
الفيح: هو النفس والهواء، فزهم النار عُبر عنه بفيح جهنم، واختلف العلماء: هل فيح جهنم على الحقيقة أو على المجاز؟ جاء في بعض الروايات: أن الفرق بين نار الدنيا ونار الآخرة سبعون درجة، فنار جهنم أشد من نار الدنيا بسبعين درجة، فإذا كانت شدة الحر من فيح جهنم، فهل تنفست النار فعلاً على الحقيقة، فحصل شدة الحر في الصيف بسبب فيحها؟ وهل هذا الحر الذي نجده في الصيف هو فعلاً من نفسها أو من هوائها ووصل إلى الأرض، أو أن هذا على سبيل التشبيه، والمعنى: أن شدة الحر يشبه شدة حر جهنم؟ بعض العلماء يقول: الحديث على التشبيه، والبعض الآخر يقول: ما المانع أن يكون على الحقيقة! فالنار اشتكت فعلاً على الحقيقة، وخلق الله لها القدرة على النطق فاشتكت إلى ربها، كما ينطق الله يوم القيامة الأعضاء والجلود، كما قال الله: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ} [النور:24] ، وقال: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21] ، وقال الله عن السماوات والأرض: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] ، وقال: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْر} [سبأ:10] ، وقال: {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص:19] ، وقال: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] فلا مانع من أن الله خلق في النار القدرة على النطق حتى اشتكت، أو أنه جعل عندها قوة التعبير، وعلم شكواها.
فالمسألة دائرة في هذا بين الحقيقة والمجاز.
والنووي رحمه الله يذكر أن كثيراً من العلماء حملوا الحديث على ظاهره، وذكر البيضاوي عن بعض العلماء أن الحديث على التشبيه وعلى المجاز وليس على الحقيقة؛ لأن فيح جهنم لو قيس بما نحن فيه من الحرارة لكان بعيداً كل البعد؛ لأن نار جهنم تزداد سبعين ضعفاً عن النار التي تكون في الأرض، ومهما اشتد الحر في وقت القيلولة فلن يصل إلى حد النار الموجودة في الدنيا، وهي واحد من سبعين جزءاً من نار جهنم، قالوا: فالحديث -إذاً- على التشبيه.
وابن عبد البر رحمه الله قد أطال الكلام في الاستذكار حول هذه المسألة، ومن أراد الاستزادة في هذا الموضوع فليرجع إليه، ومما قاله في ذلك: لا مانع على قدرة الله أن يكون ذلك على الحقيقة، ولا أحد ينفي قدرة الله، ولكن الكلام في واقع الأمر، فهل قوله: (من فيح جهنم) على الحقيقة أو هو تشبيه بفيح جهنم؟ وبعضهم يقول: إن العرب إذا أرادت أن تضرب مثلاً لشيء تشبهه بأعلى ما يمكن فتقول مثلاً: فلان نار في طبعه، أي: أنه حار الطبع كالنار، فيمكن أن يشبه الشيء بأقصى ما يمكن من درجاته وبعده، ليُبين إلى أي حدٍ ومدى وصل في هذه الصفة.
على كلٍ: فإن الجمهور على أن الإبراد تراعى فيه مصلحة المصلين، بدليل أن الحكم معلل بشدة الحر، فإذا كان في الشتاء فلا إبراد، وإذا كان أهل المسجد حوله، ولا يأتون من مكان بعيد، كأن يكون المسجد في وسط السوق، فيأتون من السوق إلى المسجد، والمسافة بينهما أمتار قليلة، فإذا سمعوا النداء خرجوا من حوانيتهم ودكاكينهم إلى المسجد، فليس هناك شدة حر، ولا فيح ولا مشقة، فيصلون الظهر في أول وقته، فيراعى في ذلك حالة المصلين، أما إذا كانوا يأتون من بعيد، وليس هناك ما يظلهم من الشمس أبردوا.
وهناك من يقول: يراعى في ذلك المساجد العامة ولا يدخل في ذلك من يصلي منفرداً؛ لأن الفرد قد يصلي في مكان يكنه، إذا كان لا يتحمل مشقة الذهاب إلى المسجد، كأن يكون من أهل الأعذار، فيصلي في بيته فهذا لا يبرد بالظهر، ومثله من كان مع جماعة في موضع لا تلحقهم مشقة المسير إلى المسجد العام، والله تعالى أعلم.(41/12)
الإسفار بصلاة الفجر والتغليس بها
قال المؤلف: [وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أصبحوا بالصبح فإنه أعظم لأجوركم) رواه الخمسة، وصححه الترمذي وابن حبان] .
تقدم أنه كان صلى الله عليه وسلم ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه، و (كان) تدل على الدوام والاستمرار، فكان من شأنه ومن سنته ومن منهجه وفعله المستمر أن ينفتل من صلاة الغداة -وهي الصبح- حين يعرف الرجل جليسه، وكان يقرأ بالستين إلى المائة؛ ومتى كان يبدأ صلاة الفجر إذا كان عند نهايتها بعد أن يقرأ الستين أو المائة يعرف الرجل جليسه؟ كان يبدأ بها في الغلس، أي: أول انبلاج الفجر.
وهنا يقول صلى الله عليه وسلم: (أصبحوا بالصبح) ، وفي رواية: (أسفروا) .
أصبحوا بالصبح، أي: ادخلوا في الصبح، وقوله: أسفروا هو: من الإسفار، وهو النور، ومنه سمي السفر سفراً؛ لأنه يكشف وينير عن حقيقة الإنسان في سفره، فالإنسان في حالة إقامته قد تكون أخلاقه فاضلة، فعنده حلم وكرم ومساعدة وتسامح، لكن إذا كان في السفر تأتي المشقة والتعب، فبعض الناس لا يراعي إلا راحة نفسه، ولا يراعي الآخرين، فالسفر يسفر ويكشف عن حقيقة الأشخاص وطبائعهم؛ لأنه يُظهر الشخص على حقيقته، فهنا يقول رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصبحوا، أو أسفروا) ، وظاهره أن الصلاة يستحب تأخيرها! وهذا متعارض مع حديث: (كان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه) ، مع أن قراءة النبي عليه الصلاة والسلام كانت بالستين إلى المائة، فأيهما أرجح؟ الشوكاني رحمه الله تكلم على حديث: (أصبحوا) وبين أنه في بعض طرقه ضعفاً، وذكر أنه لا ينهض لمعارضة ما هو أقوى منه، ويدل على صلاة الفجر وقت الغلس حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم ينصرف من صلاة الصبح، ونسوة الأنصار في المسجد فلا يعرفن من الغلس) ، والغلس هو الظلام.
إذاً: الأحاديث التي فيها أنه صلى الله عليه وسلم كان يغلس بالصبح أكثر وأقوى من حديث: (أصبحوا أو أسفروا) ، ثم بعضهم يقول: إن حديث: (أصبحوا أو أسفروا) ليس معناه: أخروا صلاة الصبح حتى يحصل الإسفار ويأتي الصبح، فقد كان صلى الله عليه وسلم أحياناً يدخل في صلاة الصبح بغلس ويُطيل القراءة حتى لا يخرج منها إلا مسفراً أو مصبحاً، ولكن قد يكون في ذلك مشقة، وهو عليه الصلاة والسلام كان يراعي حالة من خلفه، فمن أمّ الناس فليخفف، ولكن ربما فعل ذلك مرة أو أمر بذلك لبيان الجواز، ولكنه داوم على ما هو الأفضل، فكان يغلس بها.
وعلى هذا جمهور المسلمين وأكثر العلماء ومنهم الأئمة الثلاثة، فعندهم أن صلاة الصبح تصلى من أول انفجار الفجر بغلس، والإمام أبو حنيفة رحمه الله أخذ بحديث رافع، ورأى أن تأخير الصبح إلى الإسفار أعظم للأجر وأفضل، فالمسألة دائرة بين أن نسفر بها أو نغلس بها، وأكثر الأحاديث على التغليس بها، وهو أن تصلى الصبح في أول وقتها بغلس، والله تعالى أعلم.(41/13)
الوقت الاضطراري للفجر والعصر
قال المؤلف: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) متفق عليه] .
تقدم لنا في تحديد الأوقات أن صلاة الظهر حينما تزول الشمس عن كبد السماء إلى أن يصير ظل كل شيء مثله زيادة على ظل الزوال، ووقت العصر من أول ما يصير ظل كل شيء مثله إلى اصفرار الشمس، إلى تضيفها للمغيب.
فالعصر له عدة أوقات، وقد ذكر النووي عن الشافعية أن للعصر أوقاتاً متعددة: وقت الفضيلة في أولها، ووقت الإباحة حينما يصير ظل كل شيء مثليه، ووقت الكراهية حينما تصفر الشمس.
وهذا الحديث فيه بيان وقت الضرورة، وذلك لمن كان نائماً أو كان ناسياً أو اشتغل عنها، فأدرك من العصر ركعة بقراءتها وبركوعها وبسجدتيها قبيل غروب الشمس، وبعد أن أكمل الركعة غربت الشمس؛ فقد أدرك العصر، بمعنى أدرك وقتها، فإنه يُصلي بعد غروبها ثلاث ركعات تتمة للأربع، وهذا أضيق وقت للعصر.
ويبحث الفقهاء لو أن الحائض طهرت قبل أن تغرب الشمس بما يسع ركعة، فهل تلزمها صلاة العصر أم لا؟ ولو أن الكافر أسلم قبل غروب الشمس بما يسع ركعة فهل تلزمه هذه الصلاة أم لا؟ ولو أن الصبي بلغ الحلم قبل غروب الشمس بركعة فهل تلزمه هذه الصلاة أم لا؟ يقولون: نعم؛ لأنه أدرك الوقت بالركعة، فعليه أن يصلي هذه الصلاة التي أدرك من وقتها ركعة، وإذا كان الوقت قبل غروب الشمس بما يسع خمس ركعات، فأسلم الكافر أو طهرت الحائض أو بلغ الصبي، فإن على هؤلاء الثلاثة صلاة الظهر والعصر معاً؛ لأن وقت الظهر والعصر مشترك بينهما، فيدرك الظهر بأربع ركعات، والعصر بركعة، وكذلك لو حصل ذلك قبل الفجر بأربع ركعات، فإنه يلزمهم صلاة المغرب وصلاة العشاء، فيدركون المغرب بثلاث والعشاء بركعة.
فمن أدرك من العصر ركعة قبل غروب الشمس فقد أدرك الوقت، وتكون صلاته أداءً وليست قضاء، وكذلك من لزمته الصلاة قبل غروب الشمس بركعة فإن عليه أن يُصلي تلك الصلاة، وكذلك الحال في الصبح، فمن أدرك ركعة قبل طلوع الشمس فالحكم في ذلك واحد.
الحديث هذا فيه مجالات من البحث الفقهي، ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة عند غروب الشمس، وعند شروقها، وعند استوائها، كما في حديث: (ثلاثة أوقات نهينا عن الصلاة فيها، وأن نقبر فيهن موتانا) ، ومن أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس فإنه سيصلي أثناء غروبها وبعد غروبها الثلاث الركعات الباقية، فيكون قد صلى عند غروبها، وكذلك من أدرك ركعة قبل طلوع الشمس فسيصلي الركعة الثانية في أثناء طلوعها، فيكون قد صلى في الوقت الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم، ويجيبون عن ذلك بأن النهي متعلق بابتداء الصلاة بأن تُنشئ صلاة وتبتدأها في تلك اللحظات، أما أن تكون في صلاة ويدركك غروبها أو يُدركك شروقها؛ فليس داخلاً في النهي.
قال: [ولـ مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها نحوه وقال: سجدة بدل ركعة، ثم قال: والسجدة إنما هي الركعة] .
هذا طرف من هذا الحديث، ومن العلماء من يقول: من أدرك السجدة فقد أدرك الركعة، والسجدة جزء من الركعة، وبعضهم يقول: الركعة هي بكامل أركانها من القراءة والركوع والرفع والسجود والجلوس بين السجدتين والسجدة الثانية، فهذه هي أركان الركعة، فيقولون: من أدرك السجدة -وهي جزء من الركعة- فقد أدرك الصلاة، يا سبحان الله! وهل يُدرك السجدة إلا من أدرك الركعة من أولها، فمن سجد فقط فلا تعتبر سجدة في حقه، ولا يصح أن يأتي عند غروب الشمس ويسجد! لا، بل سيأتي ويكبر تكبيرة الإحرام، ثم يقرأ الفاتحة وما تيسر معها من آية أو سورة قصيرة، ثم يركع، ثم يرفع، ثم يسجد.
وهل المعتبر من أدرك الركعة قبل أن تغرب الشمس أو من أدرك تكبيرة الإحرام؟ في بعض الروايات أنه من أدرك تكبيرة الإحرام قبل غروب الشمس فقد أدرك الصلاة، إذاً: رواية (من أدرك السجدة) ، فيها أن إدراك الركعة إنما هو من أولها إلى آخرها، أي: ركعة كاملة بكامل أركانها، ولهذا جاءت هذه الرواية: (من أدرك السجدة) ، وليس المراد جزءاً من الركعة فقط، ولكن أدرك الركعة من أولها إلى السجدة قبل غروب الشمس عليه، بخلاف ما إذا كبر تكبيرة الإحرام فلما كان يقرأ الفاتحة غربت الشمس، فإنه في هذه الحال لم يدرك السجدة، أي: لم يدرك السجدة قبل غروبها على هذه الرواية.
ولكن جاءت رواية فيها: (من أدرك تكبيرة الإحرام قبل غروب الشمس فقد أدرك الصلاة) ، وهذا هو وقت الضرورة، كأن يكون نائماً، ولم يستيقظ إلا في ذلك الوقت، أو امرأة كانت حائضاً ولم تطهر إلا في ذلك الوقت، أو الذين طرأ عليهم الوجوب والإلزام كالصبي إذا بلغ في ذلك الوقت، أو الكافر إذا أسلم في ذلك الوقت.(41/14)
كتاب الصلاة - باب المواقيت [3]
نهى النبي صلى عليه الصلاة والسلام عن الصلاة في سبعة أوقات، وكان النهي في بعض هذه الأوقات أشد من البعض الآخر، ومع ذلك فقد أمر عليه الصلاة والسلام بصلاة تحية المسجد عموماً، فتعارض الأمر والنهي في حق من دخل المسجد في وقت من أوقات الكراهة، واختلف العلماء في الجمع بين الحديثين اختلافاً كبيراً.(42/1)
الأوقات المنهي عن الصلاة فيها
قال المؤلف: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس) متفق عليه، ولفظ مسلم: (لا صلاة بعد صلاة الفجر) ] .
هذان الوقتان من عدة أوقات نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها، وهي سبعة أوقات: الوقت الأول: ما بين الأذان والإقامة في صلاة الفجر، فلا يجوز للإنسان أن ينشئ صلاة من ذلك الوقت إلا ركعتي سنة الفجر، فلو أن إنساناً دخل المسجد بعد أذان الفجر، فإنه يصلي ركعتين سنة الصبح، ولا يحق له بعد صلاة هاتين الركعتين أن ينشئ تطوعاً حتى لو كان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي الصلاة فيه بألف صلاة، حتى ولو كان الإمام سيؤخر الإقامة مدة طويلة، فلا يقل أحد: أصلي ركعتين ركعتين إلى أن تقام الصلاة، فإن ذلك لا يجوز.
إذاً: الوقت الأول من أوقات النهي: ما بين الأذان والإقامة في الفجر إلا ركعتي الفجر أي: سنة الصبح.
الوقت الثاني: بعد الفراغ من صلاة الصبح إلى أول طلوع الشمس، فلا يصلي في هذا الوقت نافلة، إلا من فاتته سنة الفجر؛ فمن دخل المسجد والإمام يصلي الفجر، فإنه يدخل مع الإمام في الصلاة، ولا يفعل كما يفعل بعض الناس، فإن البعض إذا دخل والإمام يصلي أخذ وصلى سنة الصبح، ثم يدرك الإمام في الفريضة، وهذا هو ما يقول به بعض المذاهب، ويقولون: يجوز ذلك حتى لو فاتته ركعة أو جزء من الركعة الثانية، وهذا مخالف للسنة، فإذا دخل والإمام في الصلاة فإنه يدخل معه في الفريضة، وبعد أن يسلم الإمام يصلي السنة قبل أن تطلع الشمس.
فمن لم يصل سنة الصبح صلاها إن شاء بعد الصلاة قبل طلوع الشمس، وإن شاء أخرها إلى بعد طلوع الشمس.
إذاً: الوقت الثاني بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس إلا سنة الفجر لمن لم يدركها قبل الصلاة.
الوقت الثالث: حينما يبدو طرف الشمس الأعلى عند الشروق، فيمسك عن الصلاة حتى يكتمل القرص ويرتفع قدر رمح.
بمعنى: أنك ترى قرص الشمس مرتفعاً عن وجه الأرض بمقدار رمح، فيكون بين قرص الشمس والأرض قدر الرمح، وهو بمقدار قامة إنسان تقريباً، فإذا طلعت الشمس وارتفعت عن وجه الأرض قدر رمح فقد زالت الكراهة.
الوقت الرابع: حينما تستوي الشمس في كبد السماء حتى تزول، وبعضهم يقول: إلا يوم الجمعة، فإنه تجوز الصلاة في هذا الوقت، سواء كانت الفريضة أو النافلة، والفريضة على رأي الجمهور لا تصح إلا بعد تحقق الزوال، وقد حقق الإمام مالك رحمه الله ذلك في الموطأ بما لا مزيد عليه، ولكنهم أجازوا صلاة تحية المسجد للقادم يوم الجمعة سواء قبل أن يصعد الإمام أو بعد أن يصعد على المنبر ليخطب، فإذا دخل المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين، فإذا دخل عند استواء الشمس في كبد السماء يوم الجمعة فله أن يصلي، وأما عدا يوم الجمعة فلا.
الوقت الخامس: بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس.
الوقت السادس: عند تضيف الشمس للغروب، ونزول قرنها الأدنى عن النظر، فينتظر حتى يتكامل غروب قرص الشمس.
الوقت السابع: لمن كان جالساً في المسجد يوم الجمعة، وجاء الإمام وصعد المنبر، فتمنع الصلاة حينئذٍ على من كان جالساً قبل صعود الإمام، أما القادم من الخارج بعد صعود الإمام أثناء الخطبة؛ فإن الأئمة الثلاثة يجيزون له الصلاة ومالك رحمه الله يكره له ذلك.
والأمر دائر بين ترجيح الإصغاء والإنصات للخطيب أو الاشتغال بصلاة تحية المسجد، وقد جاء في النص أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب فرأى رجلاً دخل فجلس، فقطع الخطبة وقال له: (أصليت ركعتين؟ قال: لا، قال: قم، فاركعهما، وتجوز فيهما) أي: اركعهما أداء لحق المسجد، وتجوز فيهما حتى لا تفوتك الخطبة.
فهذه هي الأوقات السبعة المنهي عن الصلاة فيها، ولكن أشدها نهياً وأوضحها هو ما بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، وعند الغروب، وما بعد صلاة الصبح إلى شروق الشمس وأثناء الشروق، وكذلك حينما تكون الشمس في كبد السماء.(42/2)
حكم صلاة تحية المسجد في أوقات النهي
وهنا يبحث عامة علماء الحديث قضية من أشد القضايا إشكالاً، وهي تعارض حديثين، هما حديث: (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس) ، وحديث: (إذا أتى أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) ، فتعارض النصان في الظاهر.
ففي الحديث الأول قال: (لا) وهي نافية، (صلاة) وهي نكرة عامة تشمل جميع الصلوات (بعد العصر) وهذا خاص في الزمن، فهذا الحديث عام في الصلوات، وخاص في الزمن أي: فيما بين العصر إلى الغروب.
وفي الحديث الثاني -وكلاهما صحيح ثابت كالجبل- قال: (إذا أتى أحدكم المسجد) وقوله: (أتى) عام في الزمن، (فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) ، وهذا خاص في الصلاة، ولذا يقول العلماء: بين الحديثين عموم وخصوص من وجه، فما كان عاماً في الحديث الأول كان خاصاً في الثاني، وما كان عاماً في الثاني كان خاصاً في الأول، وهذه من أدق المواضيع، وأرجو أن ييسرها الله سبحانه وتعالى.
والقاعدة عند علماء الحديث: لو جاء حديث عام من وجه، وجاء حديث خاص؛ حملنا الخاص على العام، وخصصناه بهذا الحديث المخصص له، كما جاء قوله: (أن في أربعين شاة شاة) مطلق، وجاء أن في سائمة الغنم الزكاة، وسائمة وصف خاص، فنقيد الإطلاق في قوله: (في أربعين شاة شاة) بالسوم الموجود في الحديث الثاني، فأصبح المعنى: في أربعين شاة سائمة زكاة، فهنا حديث عام وحديث خاص، فحملنا العام على الخاص، وخصصناه بما جاء في الحديث الثاني، وبهذا تجتمع النصوص.
وهنا حديث: (لا صلاة بعد العصر) ، الصلاة عامة، والوقت خاص، وإذا جئنا إلى حديث تحية المسجد فالوقت عام، فهل نخصص عموم الوقت في الإتيان إلى المسجد بخصوصه بعد الصلاة؟ فنقول: إذا أتى أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين إلا بعد العصر، فنكون قد خصصنا عموم الإتيان في الزمن بخصوص الوقت في الحديث الآخر، ويكون هذا جمعاً صحيحاً.
لكن من العلماء من يقول: (لا صلاة بعد العصر) إلا تحية المسجد، ويأتي بالخصوص في تحية المسجد، ويخصص به عموم النكرة في قوله: (لا صلاة) .
إذاًَ: كل من الحديثين مخصص للثاني، وكل منهما قابل عمومه للتخصيص بالمخصص الذي في الآخر، ولكن أي الحديثين نخصص به الآخر؟ هذا هو محل النزاع.
يقول ابن دقيق العيد رحمه الله: إذا لم يمكن تخصيص عموم أحدهما بخصوص الآخر، فليس أحدهما أولى من الآخر، فينبغي أن نطلب مخصصاً من الخارج، قال: فرجح الجمهور تخصيص الصلاة وأنها ممنوعة بعد العصر بحديث آخر، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه) ، قالوا: فجانب النهي أقوى وألزم في الالتزام به من جانب الأمر، فقوله: (لا صلاة بعد العصر) نهي، وقوله: (إذا أتى أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) ، مضمونه الأمر بالصلاة، فإذا تعارض الأمر والنهي قدم النهي، والأمر بتحية المسجد سنة بالإجماع، والنهي أقل ما يكون فيه الكراهية إن لم يكن التحريم، فلأن نجتنب مكروهاً خير من أن نفعل مندوباً.
ومن هنا رجح ابن دقيق العيد أن حديث: (لا صلاة بعد العصر) عام في الصلوات كلها حتى تحية المسجد، ولا يخص من الصلوات إلا إذا جاء مخصص بصلاة معينة، كحديث: (من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها حين يذكرها) ، فلو أن رجلاً صلى العصر، وقبل أن تغرب الشمس تذكر أنه لم يصل الظهر، فعليه أن يصليها حين ذكرها، ويخص من النهي أيضاً الصلاة على الجنازة وصلاة ركعتي الطواف، وقد جاء في الحديث: (يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت، وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار) ، فقوله صلى الله عليه وسلم: (أية ساعة) مراعاة للنهي عن الصلاة بعد العصر، فكأنه يقول: في أية ساعة ولو من الساعات المنهي عن الصلاة فيها.
فحديث: (لا صلاة بعد العصر) يعم كل صلاة بعد العصر، فأخذ الجمهور بعمومه إلا ما خصه الدليل.
والشافعي رحمه الله خصص النهي بالصلاة المطلقة التي ليس لها سبب شرعي، أما الجمهور فعمموا قوله: (لا صلاة بعد العصر) مطلقاً، وعمر رضي الله تعالى عنه ثبت عنه أنه رأى رجلاً يصلي بعد العصر في المسجد النبوي، فضربه وقال: أتصلي بعد العصر؟! وهناك من يقول: تجوز الصلاة ذات السبب بعد العصر إذا لم يتحر اصفرار الشمس، لحديث ابن عمر: (لا تحروا اصفرار الشمس بالصلاة) ، فإذا صلى بعد العصر في أول الوقت صلاة ذات سبب فذلك جائز؛ لأن الشمس ما زالت حية بيضاء نقية.
ومعنى الصلاة ذات السبب: أي: سبب موافق في الزمن، أو سبب سابق، أو سبب لاحق، فالسبب السابق هو دخول المسجد، فهو سابق عن الصلاة، والسبب اللاحق هو الصلاة قبل الإحرام بالعمرة أو الحج؛ لأنك تصلي ثم تحرم، والسبب الملازم الموافق هو صلاة الكسوف؛ لأن صلاة الكسوف تكون وقت كسوفها، لا يتقدمها ولا يتأخرها، وعند الشافعية: أن صلاة ذوات الأسباب المقارنة والسابقة تجوز وقت النهي، أما ذات السبب اللاحق فلا تؤدى وقت النهي، ولهذا لا يصلون سنة الإحرام وقت النهي؛ لأن الإحرام يأتي بعدها، والله تعالى أعلم.(42/3)
الثلاثة الأوقات المنهي عن الصلاة ودفن الموتى فيها
قال المؤلف: [وله عن عقبة بن عامر: ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول الشمس، وحين تتضيف الشمس للغروب] .
هذا الحديث مع أحاديث الباب تعتبر من باب تعارض الحديث، وللعلماء فيها مذاهب شتى، والنصان اللذان سمعناهما نستفيد منهما أن الأوقات المنهي عنها متفاوته في الكراهية.
وقوله: (ثلاث ساعات كان صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن، وأن نقبر موتانا) أول ساعة من هذه الساعات الثلاث هي: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، ثم: حين يقوم قائم الظهيرة.
وقيام قائم الظهيرة هو عند استواء الشمس في كبد السماء، وكما يقول علماء الهندسة: تكون في زاوية قائمة، أي: ليست حادة ولا منفرجة، وقد جاء في بعض النصوص أنه حينما تكون الشمس متعامدة على رأسك كالرمح، أي تنزل أشعة الشمس مستقيمة من السماء إلى الأرض.
وقوله: (حتى تزول عن كبد السماء) : معرفة زوالها لا نستطيع تحديده بالنظر إلى الشمس بذاتها، ولكن بالنظر إلى الظل؛ لأن الظل معاكس لوجود الشمس، فحينما تكون الشمس في المشرق يكون الظل إلى المغرب، وحينما تتحول الشمس من كبد السماء من نقطة الصفر إلى الغرب يتحول الظل إلى الشرق، فنحن نعرف متى تزول الشمس عن كبد السماء ومتى لا تزول بالنظر إلى الظل في الأرض.
وقوله: (وحين تتضيف الشمس للغروب) أي: حتى تغرب.
هذه الأوقات الثلاثة هي من الأوقات السبعة المنهي عن الصلاة فيها؛ ولكنها تميزت عن بقية الأوقات بالنهي عن الصلاة مع إضافة النهي عن قبر الموتى، ولهذا كانت هذه الأوقات الثلاثة أخص وأشد من غيرها.
أما وقت ابتداء ظهور حاجب الشمس، أي: قرص الشمس الأعلى، إلى أن يكتمل ظهور قرص الشمس على وجه الأرض، ويرتفع عن سطح الأرض قدر رمح، وهو قدر قامة الإنسان تقريباً؛ فهذا الوقت يتفق الجميع بدون استثناء أنه لا تصح الصلاة فيه إلا وقت الضرورة الذي تقدم في حديث: (من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح) ، فهو سيصلي الركعة الثانية أثناء طلوع قرص الشمس حتى ترتفع، وهذا هو الوقت الذي نهينا عن الصلاة فيه؛ لكن الصلاة في هذه الحالة ليست ابتداء ولا مستقلة، وإنما هي تابعة لدخوله في الصلاة قبل أن يبدأ قرص الشمس بالظهور.
وذكر ابن عبد البر عن بعض الفقهاء أنه يمنع من صلاة الصبح في ذلك الوقت، لكن يحمل هذا المنع على ما إذا بدأ الصلاة عند ظهور قرص الشمس، أما إذا بدأ الصلاة قبل أن يظهر قرص الشمس فإنه يكمل صلاته، ولا يضره أن تطلع عليه الشمس وهو في الصلاة.
أما الصلاة المطلقة عند بزوغ الشمس أو تضيفها للغروب، فلا يجوز باتفاق الجميع أن ينشئ صلاة في تلك الحالة إلا إذا كان سيصلي الصبح الفائتة أو العصر الفائتة.(42/4)
حكم التنفل وقت الزوال يوم الجمعة وغيرها
أما الصلاة عند الزوال فالجمهور على أنه ممنوع من الصلاة فيه حتى تزول، ويروي بعض المالكية عن مالك أنه لا يمنع من الصلاة في ذلك الوقت ولا يحبها، أي: لا يمنع من صلى في ذلك، ولا يحب أن يصلي الإنسان في ذلك الوقت.
إذاً: مالك رحمه الله يوافق الجمهور في عدم استحبابها، ولكنه يخالفهم في عدم منعه منها، ويستدل المالكية لقول مالك بحديث التبكير إلى الجمعة، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: (وصلى ما تيسر له حتى يخرج الإمام) ، قالوا: والإمام لا يصعد المنبر إلا بعد دخول وقت الجمعة، ووقت الجمعة لا يكون إلا بعد زوال الشمس، فالقادم سيصلي حينما تكون الشمس في كبد السماء.
والجمهور يقولون: نعم، في يوم الجمعة نوافق المالكية، فننهى عن الصلاة عندما يقوم قائم الظهيرة ما عدا يوم الجمعة؛ لأنه جاء عنه صلى الله عليه وسلم أن القادم يقدم فيصلي يوم الجمعة حتى يخرج الإمام، ودليله حديث: (وصلى ما تيسر له) ، قالوا: فيوم الجمعة مخصوص من بقية الأيام، ومالك يقول: ما دمتم خصصتم يوم الجمعة فبقية الأيام سواء.
إذاً: الأوقات الثلاثة فيها وقتان يتفق الجمهور على أنه لا صلاة فيهما إلا في تلك الحالة الضرورية لمن أدرك من الصبح ركعة وسيتم الصلاة عند ظهور الشمس، أو من أدرك من العصر ركعة وسيتم العصر عند غروب الشمس، وما عدا ذلك فلا.
بقي حينما تكون الشمس في كبد السماء، فـ مالك لا يمنع ولا يحب، والجمهور يوافقون مالكاً في يوم الجمعة خاصة؛ ويخالفونه فيما عداها.
ويروى عن مالك أنه قال: لم أزل أرى أهل العلم في بلادنا يصلون وقت الزوال، ويحمل هذا على ما جاءت به النصوص الأخرى بأنه في يوم الجمعة فقط.(42/5)
حكم التنفل في المسجد الحرام في أوقات النهي
ويستثنى من النهي الصلاة بعد العصر في مكة، لعموم الحديث: (يا بني عبد مناف! لا تمنعن أحداً طاف بهذا البيت وصلى في أية ساعة شاء من ليل أو نهار) ، والجمهور قالوا: يجوز الطواف في كل لحظة، وتجوز ركعتا الطواف في كل لحظة، وقوله: (في أية ساعة شاء) ، هذه الساعة تشمل وقت الغروب، ووقت الشروق، ووقت قيام قائم الظهيرة.
ولكن مالكاً رحمه الله يرى أنه من طاف بعد صلاة الصبح فلا يصلي ركعتي الطواف حتى تطلع الشمس، ومن طاف بعد العصر فيؤخر ركعتي الطواف إلى ما بعد غروب الشمس، والجمهور يجوزون ركعتي الطواف بعد الصبح وبعد العصر وعند الشروق وعند الغروب وعند قيام قائم الظهيرة، وبعض هذه الأوقات قصيرة وضيقة، لكن الإشكال في الأوقات الطويلة الواسعة.(42/6)
تعارض حديث النهي عن الصلاة بعد العصر وحديث الأمر بتحية المسجد
حديث: (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس) ، يعارضه في الظاهر حديث: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) .
فلو افترضنا أن إنساناً دخل المسجد فوجد لوحتين مكتوب في إحداهما: لا تجلس حتى تصلي، وفي الأخرى: لا صلاة بعد العصر، فإذا جاء في الضحى فإنه يعمل باللوحة الأولى التي فيها: لا تجلس حتى تصلي ركعتين، وهل اللوحة الثانية تعترضه؟ لا تعترضه؛ لأنه دخل وقت الضحى، والنهي إنما هو عن الصلاة بعد العصر، لا عن الصلاة وقت الضحى، فوجد الطلب يتوجه إليه بألا تجلس حتى تصلي ركعتين، فالطلب متوجه إليه بدون معارض، وكذلك الأمر لو دخل بعد الظهر قبل صلاة العصر، أو دخل بعد المغرب، أو دخل بعد العشاء، فسيجد طلب تحية المسجد قائماً، ولا يجد ما يعارضه.
لكن لو دخل بعد العصر، فسيجد اللوحة الأولى تطالبه بألا يجلس حتى يصلي؛ لأن قوله: (إذا أتى أحدكم) مطلق في كل وقت، فيشمل بعد الظهر وبعد المغرب وبعد العصر، وسيجد اللوحة الثانية: (لا صلاة بعد العصر) ، أي: حتى تغرب الشمس، وقوله: (لا صلاة) ، يشمل كل صلاة حتى تحية المسجد، فماذا يفعل؟ هل يأخذ بحديث: (إذا أتى أحدكم) ؛ لأنه يشمل صلاة تحية المسجد في كل الأوقات حتى بعد العصر، أو يعمل باللوحة الثانية التي فيها: (لا صلاة بعد العصر) ، أي: حتى صلاة تحية المسجد.(42/7)
اختلاف الفقهاء في الجمع بين الحديثين
اختلف الأئمة رحمهم الله، فـ الشافعي رحمه الله يقول: قوله: (لا صلاة) عام شامل لكل الصلوات، ولكنه يصرف إلى الصلوات التي لا سبب لها، أما إذا كانت الصلاة لها سبب يقتضي إتيانها فليست داخلة في النهي، وتكون مستثناة من عموم الصلاة، فهو رحمه الله خصص عموم حديث: (لا صلاة) ، واستثنى من هذا العموم ذوات الأسباب، فكأنه يقول: لا نصلي بعد العصر إلا ذات السبب فنصليها لسببها.
والجمهور يقولون: لا نصلي بعد العصر أي صلاة سواء كانت بسبب أو بغير سبب.
لعلنا الآن نستطيع أن نفهم وجه تعارض الحديثين، فحديث: (لا صلاة بعد العصر) يشمل جميع الصلوات، فلا تصلى تحية المسجد بعد العصر، وهذا على رأي الجمهور أن جميع الصلوات لا تصلى بعد العصر؛ لأن قوله: (لا صلاة بعد العصر) نكرة عامة تشمل جميع الصلوات، فقالوا: جميع الصلوات منهي عنها بعد العصر.
والشافعي قال: لا، فقوله: (لا صلاة) يستثنى منه ذوات الأسباب مثل تحية المسجد، لقوله: (إذا أتى أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) ، فـ الشافعي يقول: الركعتان مستثنيتان من عموم النهي عن الصلاة بعد العصر، والجمهور يقولون: عموم النهي عن الصلاة بعد العصر لا يستثنى منه تحية المسجد.
فمذهب الشافعي أن تحية المسجد تصلى بعد العصر؛ لأنها ذات سبب، فيكون خصص عموم النهي بتحية المسجد، فقال: أستثني وأخص تحية المسجد من عموم قوله: (لا صلاة) والجمهور قالوا: لا، نحن نخصص عموم قوله: (إذا أتى) ، فإن الإتيان عام في جميع الأوقات، لكن نخصص من ذلك صلاة تحية المسجد بعد العصر، فتصلى في كل وقت إلا بعد العصر.
نكرر ذلك فنقول: الشافعي يقول: أنا أخصص عموم الصلاة بتحية المسجد، فأصليها بعد العصر، وأنتم تقولون: لا صلاة بعد العصر، فأقول لكم: استثنوا تحية المسجد بعد العصر، والجمهور يقولون للشافعي: لا، نحن لا نستثني تحية المسجد من عموم النهي عن الصلاة بعد العصر، فننهى عن تحية المسجد بعد العصر، وإذا كان الأمر كذلك ودخل رجلان المسجد بعد العصر، فأحدهما مثلاً أخذ بمذهب الشافعي، فصلى تحية المسجد، والثاني على مذهب الجمهور فترك صلاة تحية المسجد، فسيقول له الذي صلى: لماذا لم تصل؟ والذي لم يصل سيقول له: وأنت لم صليت؟ فكل منهما عنده حديث فيه عموم وخصوص، فمن تابع الجمهور سيقول: أنا أخصص عموم الوقت ببعد العصر، فحديث: (إذا أتى أحدكم) عام في كل وقت، ولكن نخرج منه بعد العصر؛ للنهي عن الصلاة بعد العصر، والثاني سيقول له: يا أخي! قوله: (لا صلاة) عام في كل الصلوات، لكن أنا أخصص عموم الصلاة بذوات الأسباب، فكل منهما له وجه، ولا نستطيع أن نحكم على واحد منهما أنه صاحب الحق؛ لأن هذا يقول: أنا أخصص الوقت، وهذا يقول: أنا أخصص عموم الصلاة، فكل منهما له وجه، ولا يحق لهما أن يتخاصما؛ لأنهما متساويان في الحجة، فكل منهما يخصص عموم ما عند الآخر بخصوص ما عنده، وليس أحدهما بأولى من الآخر، فماذا نفعل؟(42/8)
قول ابن دقيق العيد في طريقة الجمع بينهما
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: ما دام كل من الطرفين عنده نص يعمل به، ويخصص به عموم الآخر، وكل منهما له حق أن يخصص عموم الآخر؛ لأن الحديثين صحيحان، فينبغي أن نطلب مرجحاً لأحد الحديثين من الخارج، أي: اتركوا الحديثين في مكانهما، واتركوا اللوحتين المعلقتين، وابحثوا عن مرجح لأحد الجانبين.
فالشافعية قالوا: حديث: (لا صلاة بعد العصر) لم يبق على عمومه، فقد خرجت منه بعض الأشياء، فمن نام عن الصلاة أو نسيها، ثم تذكر الصلاة الفائتة بعد العصر فإنه يصليها بعد العصر، فحديث: (لا صلاة بعد العصر) يستثنى منه صلاة قضاء الفائتة عند الجميع، فهذا العموم بعد أن كان مائة في المائة أصبح تسعين في المائة، وإذا طاف بالبيت بعد العصر ثم أراد أن يصلي، فالجمهور يسمحون له أن يصلي ركعتي الطواف، وهذا أيضاً يضعف العموم، فكأن العموم حزمة تراخت قليلاً.
فقال الشافعية: إذا كان عمومكم أخذ يخرج منه بعض الأفراد، فنحن أيضاً نخرج ذات السبب، فيكون النهي متوجهاً للصلاة التي لا سبب لها، فلو أن إنساناً صلى العصر وجلس في مصلاه، وبعد أن صلى العصر قام ليصلي فنقول له: لا تصل؛ لأنها صلاة لا سبب لها، ونوافقكم في النهي عن تلك الصلاة؛ لأنها لا سبب لها، لكن التي لها سبب، والإنسان يطالب بأدائها، فنحن نخرجها من عموم الوقت المنهي عن الصلاة فيه، كما أخرجتم أنتم بعض الصلوات الداخلة في عموم قوله: (لا صلاة) قال الجمهور: تلك الصلوات التي خرجت من العموم خرجت بنص مستقل، وما خرج بنص مستقل لا يعترض به على العموم؛ لأن قضاء الصلاة لمن نام عنها أو نسيها قد جاءت مشروعيته في حديث: (من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها حين يذكرها) ، فهذا النص أخرجها من العموم، وكذلك سنة ركعتي الطواف خرجت بنص مستقل.
وقد قال الشوكاني في بحث هذه القضية: إذا خرج بعض أفراد العام من عمومه فإنه لا يقدح عمومه، فهذا عام، ولكن أخرّجنا منه البعض بنص، فيبقى الباقي على عمومه، فلو قلت لشخص: هؤلاء عشرة أشخاص، فأعط كل واحد منهم درهماً يوم السبت، ثم جئته يوم الجمعة وقلت: لا تعط فلاناً وفلاناً، فمن العموم المتقدم تعطي كل واحد من الثمانية الباقين درهماً درهماً، فهل بقي لهم حق في الدرهم أو خرجوا من العموم؟ بقي لهم حق، ولفظ العموم باق عليهم، فهم داخلون في العموم المتقدم، ولذا يقول الشوكاني: خروج بعض أفراد العام لا يقدح في عمومه؛ لأن حكم العموم يبقى لمن بقي بعد الخاص الذي أخرج.
الشافعي رحمه الله يقول: إن ذوات الأسباب ليست داخلة في النهي، والآخرون يقولون: إنها داخلة مع غيرها، ولا نخرج من هذا العموم إلا ما أخرجه نص مستقل.
ثم لا يزال التعارض قائماً؛ لأنه لو خرج بعض الأفراد وبقي العام على عمومه، فالباقي من العموم متعارض مع عموم الأمر بتحية المسجد، فنطلب دليلاً خارجياً لا من عند الشافعية، ولا من عند الجمهور، وهو القاعدة المشهورة عند الأصوليين: إذا تعارض أمر ونهي فإنه يقدم النهي.
وابن عبد البر أتى بدليل عجيب قوى به حجة الجمهور، وهو قوله تعالى في صوم رمضان: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] فالأيام الأخر هذه هي ثلاثمائة وثلاثون يوماً، وهي ما عدا شهر رمضان، لكن جاء النهي عن صوم يومي العيدين، فهل يجوز لإنسان أن يصوم يوم العيد لقضاء رمضان؟ لا يجوز، فإن قيل: أليس يوم العيد داخلاً في الأيام الأخر؟ نقول: يوما العيدين هما من ضمن الأيام الأخر، لكن جاء النهي عن صومهما خاصة، فهنا قدم النهي على الأمر؛ لأن الأمر هنا هو القضاء في عدة من أيام أخر، ولكن ثبت النهي عن صوم يومي العيد، وهما من ضمن الأيام الأخر، فنقدم جانب النهي، ولا نقول: العيدان من الأيام الأخر، فيصح فيهما القضاء! ولكن نقول: الأيام الأخر عامة، والعيدان من ضمنها، ولكنهما خرجا بنص خاص يحرم صومهما.
قالوا: إذا كان الأمر دائراً بين جانب يطلب فعلاً وجانب ينهى عن فعل، فأي الجانبين نقدم؟ وأيهما أقوى في الطاعة والامتثال؟ القاعدة العامة عند العقلاء أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وكذلك المنهي عنه شرعاً مقدم على المأمور به شرعاً، خاصة إذا كان المأمور به ليس فرضاً واجباً، ولا فرضاً كفائياً كصلاة الجنازة، وقد جاء في الحديث الصحيح: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه) ولم يقل: فاجتنبوه ما استطعتم؛ لأن الترك ليس فيه استطاعة أو عدم استطاعة، فهو أمر سلبي، بل اتركوه كله.
إذاً: جانب النهي أقوى في المعادلة من جانب الطلب، خاصة إذا لم يكن فرضاً عينياً ولا كفائياً، وتحية المسجد هل هي فرض أو نافلة؟ نافلة بإجماع المسلمين، حتى ابن حزم نص على ذلك، ومن قال بوجوبها فقد أوجب ست صلوات! والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (خمس صلوات كتبهن الله في اليوم والليلة) .(42/9)
مذهب الجمهور في الجمع بينهما
إذاً: عندنا تعارض بين طلب مسنون وبين نهي بالكلية، وأقل درجات النهي عند الأصوليين الكراهية، فإذا تعارضت اللوحتان لمن دخل المسجد بعد العصر، فإحداهما تقول: افعل سنة، والأخرى تقول: لا تفعل شيئاً، فأيهما أقوى في طلب الامتثال؟ هل يرتكب مكروهاً لفعل سنة؟ لا، ومن هنا رجح الجمهور أن النهي عن الصلاة بعد العصر يشمل جميع الصلوات، فلا تجوز صلاة ذات سبب أو غير ذات سبب في وقت الكراهة.
ثم إننا نجد في السنة حديثاً فيه: (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب) ، وفي نص آخر: (لا تحروا غروب الشمس بالصلاة) ، ولا تحروا أصلها: لا تتحروا، فإذا أخذنا هذا النص؛ وربطناه بحديث: (ثلاث ساعات كان ينهانا عن الصلاة فيهن) ، فالوقتان عند غروب الشمس وشروقها داخلان في عموم النهي، وهما أخص الأوقات الثلاثة لقوله: (لا تحروا) ، فهل يكون النهي لخصوص بعد العصر أو لخصوص غروب الشمس وشروقها؟ لخصوص الغروب والشروق؛ لأنه جاء في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الساعات الفاضلة للصلاة، والأوقات الممنوع من الصلاة فيها فقال: (إذا كان ثلث الليل الآخر فصل، فإن الصلاة مشهودة حتى تصلي الصبح، ثم أمسك عن الصلاة حتى تشرق الشمس، ثم صل فإن الصلاة مشهودة حتى تستوي الشمس في كبد السماء، ثم أمسك حتى تزول، ثم صل فإن الصلاة مشهودة إلى بعد العصر) ، وفي رواية: (إلى أن تتضيف الشمس إلى الغروب) .
إلى آخر الحديث.
وكان عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه إذا سئل عن الصلاة بعد العصر يقول: أنا لا أنهى عن الصلاة مخافة من قوله سبحانه: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق:9-10] ، ويقول: أنا لا أنهى أحداً صلى في أية ساعة، ولكن لا تحروا بالصلاة طلوع الشمس أو غروبها.
وجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه القول الفصل في ذلك، فإنه رأى زيد بن خالد يصلي بعد العصر، فضربه بالمقرعة وهو في الصلاة، فلما أنهى صلاته قال: لماذا تضربني يا أمير المؤمنين؟! فقال: أتصلي بعد العصر؟ فقال: نعم، أصلي ركعتين، ولن أتركهما، فاضرب كما تريد! فقال: يا زيد! إني لم أضرب عليهما إلا أني خشيت أن يتمادى الناس بالصلاة بعد العصر إلى أن تغرب الشمس، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تحروا بالصلاة غروب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان) ، وبين علة أخرى للنهي بقوله عليه الصلاة والسلام: (فإن قوماً يسجدون لها في ذلك الوقت) ، وكره أن يشابه المسلم الكافرين بالصلاة في ذلك الوقت، ومن مقاصد الشرع مخالفتهم.
إذاًَ: عمر كان يضرب عن الصلاة بعد العصر سداً للذريعة، حتى لا يصلي أحد عند الغروب.(42/10)
تجويز بعض العلماء للصلاة بعد العصر والشمس بيضاء نقية
إذاً: من لم يتحر غروبها، وصلى بعد العصر والشمس بيضاء نقية، فإنه لم يتحر الصلاة عند غروبها، ولم تحصل منه المشابهة للكافرين، وقد أخذ بهذا المذهب الوسط ابن عمر وعائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهما وغيرهما من الصحابة، فجوزوا الصلاة بعد العصر في أول الوقت قبل أن تتغير الشمس، وجوزوا الصلاة بعد الصبح في أول الوقت قبل بزوغ الشمس.
واستدلوا بما أسلفنا، وبصلاة النبي عليه الصلاة والسلام بعد العصر ركعتين، وكان قد شغل عن ركعتي سنة الظهر بسبب وفد عبد القيس، ثم داوم عليهما، فكانتا قضاءً في أول الأمر، وبعد ذلك لم يصلهما قضاء.
وقد قيل: إن هذا خاص برسول الله؛ لأنه كان صلى الله عليه وسلم إذا فعل فعلاً داوم عليه، فهذا من خصوصياته، وقد قالت له أم سلمة: (أفنقضيهما إن فاتتا؟ فقال: لا) ، وهو إذا فعل شيئاً ثم نهى عنه فإنه من خصوصياته، كما جاء في الوصال في الصوم، فإنه نهاهم عن الوصال فقالوا: إنك تواصل، فقال: (لست كهيئتكم) ، ثم واصل بهم إلى يومين، وفي اليوم الثالث رءوا الهلال وقال: (لو لم نر الهلال لزدتكم) ، قال الراوي: كالمنكل بهم؛ لأنهم ما امتثلوا في أول الأمر.
وعلى هذا قالوا: صلى النبي عليه الصلاة والسلام الركعتين قضاء، ثم داوم عليهما بعد ذلك، وهذا من خصوصياته صلى الله عليه وسلم، فكان إذا بدأ عبادة داوم عليها، فنقول للشافعية: ليس لكم حق في قياس ذوات الأسباب في الوقت المنهي عنه بصلاة النبي عليه الصلاة والسلام بعد العصر؛ لأن صلاته في ذلك الوقت من خصوصياته.
واستدلوا أيضاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي بعد الصبح، فقال له: (ألم تصل الصبح معنا؟ قال: بلى يا رسول الله! ولكني لم أكن صليت ركعتي سنة الصبح فصليتهما الآن، فسكت عنه) ، والنبي عليه الصلاة والسلام إذا سكت عن فعل فقد رضيه، فأجاز قضاء سنة الفجر، وهما ذاتا سبب، قالوا: فنحن كذلك نصلي ذات السبب بعد الصبح، فأجاب الجمهور بقولهم: هذه قضية عين ونخصها بعينها، ونقول: كل من فاتته سنة الصبح فهو بالخيار: إن شاء صلاها بعد الصبح، وإن شاء أخرها إلى ما بعد طلوع الشمس، ولا نقيس عليها غيرها كتحية المسجد وما شاكلها.
أيها الإخوة: هذه المسألة طويلة الذيل، وكثيرة التفريع، وابن عبد البر في الاستذكار أطال النقل والكلام فيها إلى حد بعيد، ثم جاء أخيراً بقضية الصوم ويوم العيد في خاتمة البحث، ورجح ما ذهب إليه الجمهور أنه لا صلاة شاملة عامة في جميع أنواع الصلوات إلا ما أخرجه الدليل، والدليل أخرج ما يلي: ركعتا الطواف في مكة، وقضاء الفوائت، وكذلك صلاة الجنازة بلا خلاف، وقالوا: تجوز صلاة الجنازة عند قيام قائم الظهيرة، وعند الغروب، وعند الشروق إذا خيف على الجنازة أن تتغير، فحينئذٍ يجوز الدفن في ذلك الوقت، مراعاة لكرامة الإنسان، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأرجو من الله أن تكون هذه المسألة قد ظهرت لكم ولو بقدر خمسين في المائة، ونحن راضون فيها بهذا، وغيرها من المسائل نريد ظهورها لكم تسعين في المائة، لكن هذه المسألة يكفينا منكم خمسين في المائة.
[والحكم الثاني عند الشافعي من حديث أبي هريرة بسند ضعيف وزاد: (إلا يوم الجمعة) ، وكذا لـ أبي داود عن أبي قتادة نحوه] .
يوم الجمعة استثناه الجمهور من عموم النهي عن الصلاة عند قائم الظهيرة، لا عند الشروق ولا عند الغروب، وأما مالك فإنه عمم جواز الصلاة عند قائم الظهيرة في غير الجمعة مع أنه يكره ذلك فقال: لا أمنع ولا أكره.(42/11)
كتاب الصلاة - باب المواقيت [4]
تحديد أوقات الصلوات من أهم المهمات، لا سيما وقت صلاة الفجر؛ لأن الفجر فجران، فجر كاذب، وفجر صادق، فلابد من التمييز بينهما، وقد بين عليه الصلاة والسلام الفرق بينهما، وشرح العلماء ذلك.
ومن فوائد معرفة أوقات الصلوات أن يحرص على أداء الصلاة في أول وقتها، فإن ذلك من أفضل الأعمال عند الله تعالى.(43/1)
حرمة منع أحد من الطواف وركعتيه متى شاء
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداًَ طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار) رواه الخمسة، وصححه الترمذي وابن حبان] .
هذا من الأسلوب الرفيع، والبلاغة الواضحة، فيقول صلى الله عليه وسلم: (يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار) ، وإذا كان الغرض عدم منع الناس من الطواف فكان يكفي أن يقول: لا تمنعوا أحداًَ يطوف بهذا البيت، وهذا يؤدي الغرض، لكن قال: (يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى ... ) .
ويقولون: إن السبب هو مخافة أن يأتي بعض الملوك أو بعض الجبابرة أو بعض الأشخاص، فيمنع الناس من المطاف من أجل ذلك الشخص، وهذا كرهه العلماء إلا لمصلحة راجحة، مثل أن يخاف على حياة شخص كما يفعل الآن بعض الأحيان من الاتجاهات السياسية أو الاتجاهات الأمنية، والمصلحة تقتضي ذلك، لا لتعظيمه ولا لتوقيره دون الناس، فالبيت أعظم، لكن ولي الأمر هو المسئول عن ضمان هذه الشخصية التي دخلت الحرم في ضمانه وأمانه وتحت تصريحه بنفسه.
إذاً: قوله: (لا تمنعوا أحداً طاف وصلى) هو على العموم، أي: بمقتضى قيامكم على البيت، لكن قال زيادة على هذا النهي عن منع الطائف والمصلي: (أية ساعة من ليل أو نهار) ، فما حاجة المجيء بهذه الجملة؟ وهي للعموم لا للخصوص؟ الجواب: لأن هناك بعض الأوقات قد نُهي عن الصلاة فيها، فرفع ذلك الحظر، ورفع النهي عن الصلاة في تلك الأوقات من ساعات الليل والنهار، أي: لا تمنعوا أحداً في أي وقت من الأوقات، ولو بعد العصر أو بعد الصبح.
إذاً: مجيء هذه الجملة الأخيرة يستفاد منه أنه قد سبق النهي عن الصلاة في ساعات معينة، واستثنى منها صلاة ركعتي الطواف، وهذا الحديث من أوضح الأدلة على أن صلاة ما سوى ركعتي الطواف لا تجوز، وأما هذه فقد خرجت بنص مستقل، ولماذا؟ يقولون: لأن البيت يأتيه الناس في جميع الأوقات، وقد يأتي الرجل فيطوف ويذهب، وقد يأتي مع جماعة كذلك، فإذا منع الناس من الطواف والصلاة في أوقات معينة، فطاف بعضهم بعد العصر مثلاً وأرادوا أن يسافروا، فهل نحبسهم حتى تغرب الشمس وكل واحد منهم قد طاف ولم يبق عليه إلا الصلاة؟ لا.
إذاً: لجواز الطواف في أية ساعة من ليل أو نهار أبيح للطائف أن يصلي ركعتي الطواف في أي ساعة شاء من ليل أو نهار.(43/2)
بيان معنى الشفق
[وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الشفق الحمرة) رواه الدارقطني، وصححه ابن خزيمة، وغيره وقفه على ابن عمر] .
هذا تفسير لحديث: (ووقت المغرب إذا غربت الشمس ما لم يغب الشفق) ، فما هو الشفق؟ اختلفوا في معنى الشفق لغة، فقيل: هو الحمرة الباقية إثر غروب الشمس، وقيل: هو بياض يكون بعد تلك الحمرة، فالجمهور على أن الشفق الحمرة، فإذا غاب الشفق دخل وقت صلاة العشاء، وقبل أن يغيب الشفق تصح صلاة المغرب أداء، والإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: الشفق هو البياض الذي يكون بعد تلك الحمرة، ولذا ساق المؤلف هذا الحديث ليبين تعيين الشفق.
وهل هذا التفسير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو موقوف على ابن عمر؟ هذه المسألة موضع اجتهاد واختلاف نظر، ولا يقال فيها: إن كان موقوفاً فله حكم الرفع؛ لأنه ليس أمراً غيبياً، وليس أمراً غير حسي، بل هو حسي ولغوي، لكن ولو كان موقوفاً على ابن عمر رضي الله تعالى عنه، فإنه من أهل اللسان، وهو أعرف به من غيره، والله تعالى أعلم.(43/3)
الفجر فجران
[وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الفجر فجران: فجر يُحرم الطعام، وتحل فيه الصلاة، وفجر تحرم فيه الصلاة -أي صلاة الصبح- ويحل فيه الطعام) رواه ابن خزيمة والحاكم وصححاه] .
ساق المؤلف رحمه الله تعالى في باب المواقيت حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الفجر فجران) ، وقد تقدم بيان وقت صلاة الصبح، وأنه حينما ينفجر النهار من الليل، وتقدم حكم من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس.
وهنا يبيّن المؤلف حقيقة الفجر الذي بطلوعه يدخل وقت الصلاة، ولما كان الفجر كلمة مشتركة بين مسميين؛ بيّن النبي صلى الله عليه وسلم كلاً منهما وحكمه، فقال: (الفجر فجران: فجر يحرم الطعام، ويحل الصلاة) أي: يحرم الطعام على الصائم، ويُحل الصلاة، أي: صلاة الصبح، (وفجر يحل الطعام ويحرم الصلاة) أي: صلاة فجر ذلك اليوم، بخلاف صلاة الليل أو الوتر أو نحو ذلك، وقد بيّن صلى الله عليه وسلم الفرق بين الفجرين بعلامة حسية لكل منهما، فأما الفجر الذي يُحل الطعام، ولا يُحل الصلاة فإنه يذهب مستطيراً في الأفق كذنب السرحان، والسرحان هو الذئب، وهذا الفجر يأتي قبل نهاية الليل، ويكون كالعمود الأبيض ممتداً من الأرض إلى السماء.
وأما الفجر الثاني فبينه صلى الله عليه وسلم بكونه مستطيلاً كجناحي الطير، وفي بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم وضع أصبعيه المسبحتين من اليمنى واليسرى بحذاء بعض ثم مد يديه يميناً ويساراً، والمسبحة هي التي تلي الإبهام، فقرن صلى الله عليه وسلم بين أصبعيه ثم مد يديه، وهكذا يكون الفجر الذي تجوز فيه الصلاة، ويحرم فيه الطعام على الصائم، فهو يمتد في الأفق يميناً ويساراً، أما الأول فإنه يمتد من الأرض إلى السماء كالعمود، والفجر الأول يسميه الناس: الفجر الكاذب، ومعنى ذلك: أنه ليس فجراً حقيقاً يتوقف عليه الصوم والصلاة.
قال الفخر الرازي في تفسيره: إن هذا الفجر الأول من أعظم الدلائل على قدرة الله، فإنه إيجاد موجود بلا سبب، وذلك أن الفجر الثاني عندما ينتشر في الأفق إنما هو أثر من آثار اقتراب الشمس منا، فإذا اقتربت الشمس منا انفجر الضوء من الظلام، وهو المعبر عنه في آية الصوم بالخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، قال: فهذا الفجر الثاني مسبب عن سبب وهو ضوء الشمس، وكلما اقتربت الشمس منا كلما اشتد النور إلى أن تشرق الشمس على وجه الأرض، فالفجر الثاني مسبب عن سبب وهو الشمس، أما الفجر الأول فلا نعلم له سبباً! فهو موجود بإيجاد الله له بدون أي سبب، وبدون أن يتوقف على شيء ينشأ عنه.
ولو تأملنا لوجدنا أشياء عديدة أنشأها الله سبحانه وتعالى بلا سبب، مثل حور الجنة، يقول سبحانه: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} [الواقعة:35] ، فلم تكن لهن ولادة، ولم يكن هناك مبدأ آدم وحواء، ولكن الله سبحانه أنشأ الحور العين أكرمنا الله وإياكم بهن في الجنة.
وينشئ أيضاً الولدان، وكذلك غرس الجنة ونعيمها وثمارها وأنهارها دون أن تكون متسببة عن غيرها، فأنهار الدنيا متسببة عن أمطار، فماء المطر ينزل من السماء فيجري ودياناً وأنهاراً، وكذلك حليب الدنيا وعسل الدنيا وغير ذلك، أما حليب الجنة وماء الجنة وعسل الجنة وخمر الجنة؛ فكل هذه ينشئها الله سبحانه دون سبب، وقد علمنا بانعدام جزء السبب لا كامل السبب في بعض أمور الدنيا، فخلق الله آدم من تراب، فخلط هذا التراب بماء فصار منه بشراً سوياً، بلا أب ولا أم، ثم خلق منه حواء، فهي امرأة جاءت من أب بلا أم، وأما عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فإنه رجل من امرأة بلا أب، وسائر البشر من أب وأم، وهي سنة الله في خلقه، قال الله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1] .
إذاً: هذا الفجر الأول -كما أشار إليه هذا الإمام- آية وعلامة تحدث كل يوم، تدل على قدرة الله في إيجاد مسببات بلا أسباب، والذي يهمنا في الفقه أن هذا الفجر الأول لا يمنع الصائم من الطعام، ولا يُبيح للمصلي صلاة الصبح، ثم يأتي الفجر الثاني وهو على العكس من ذلك، يُحرم الطعام على الصائم، ويبيح الصلاة للمصلي، وبيّن صلى الله عليه وسلم الفرق بينهما بأن الأول يمتد كذنب السرحان وهو الذئب، والثاني ينتشر في الأفق كجناحي الطير، والله تعالى أعلم.
[وللحاكم من حديث جابر نحوه، وزاد في الذي يُحرم الطعام: (إنه يذهب مستطيلاً في الأفق) ، وفي الآخر: (إنه كذنب السرحان) ] .
وهذا من البيان العملي لربط الأحكام بالمظاهر المعروفة للجميع، فصفة الفجر الأول أنه يذهب مستطيراً كذنب السرحان، وما أظن واحداً من العرب يجهل معنى السرحان، وصفة الفجر الثاني أنه يكون كجناحي الطير في الأفق، وذلك يكون في نهاية الليل وأول النهار.(43/4)
أفضل الصلاة في أول وقتها
[وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصلاة في أول وقتها) رواه الترمذي والحاكم وصححاه، وأصله في الصحيحين] .
جاءت الرواية: (في أول وقتها) ، وجاءت رواية أخرى: (على وقتها) ، والفرق بينهما: أن (في) ظرف للأفضلية، فتكون أفضل الأعمال الصلاة في أول الوقت، وعلى الرواية الثانية: (على وقتها) تكون الفضيلة ممتدة على كامل الوقت، ولكن جمهور العلماء يقولون: على: حرف استعلاء، وتكون قد اشتملت على الوقت كله، فقوله: (على وقتها) يفسره: في وقتها.(43/5)
توجيه إجابة النبي عن أفضل الأعمال بأجوبة مختلفة
يقول بعض العلماء: هذا الحديث فيه إشكال، وهو: كيف تكون الصلاة -وهي فرع عن الإيمان- أفضل الأعمال، وكان ينبغي أن يكون الإيمان أفضل الأعمال؛ لأنه الأساس؟ الجواب: لا حاجة إلى هذا الإشكال، فقد جاء الحديث الصريح أن رجلاً قال: (يا رسول الله! أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: إيمان بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: الصلاة على أول وقتها) ، وسأله رجل آخر عن ذلك فقال صلى الله عليه وسلم: (إيمان بالله، قيل: ثم ماذا؟ قال: بر الوالدين) ، وسأله آخر أيضاً فقال: (إيمان بالله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله) ، لكن يرى بعض العلماء أن في هذا شبه تعارض، فالسؤال واحد والجواب مختلف! ولكن أجاب ابن دقيق العيد وغيره عن هذا فقال: ليس هناك اختلاف، وليس هناك تعارض، بل هذا مراعاة لحال السائل وما يصلح له، فرأى رجلاً لا يستطيع أن يكابد الجهاد، فهو ضعيف البنية، فلما سأل عن أفضل الأعمال أرشده لما يصلح له، فقال: (إيمان بالله ثم الصلاة على وقتها) ؛ لأنه مهما كان ضعيفاً، فإنه لا يعجز أن يصلي الصلوات على أول وقتها.
ولما سأله الثاني وعرف أن له أبوين قال له: (إيمان بالله، ثم بر الوالدين) ، وليس المعنى: بر الوالدين مع ضياع الصلاة، فالصلاة كتاب موقوت، والصلاة أمرها معلوم من الدين بالضرورة، فالمعنى: أنه بعد الصلاة وبعد أداء الواجبات المفروضة فإن بر الوالدين من أفضل الأعمال، ولما رأى الثالث قوياً جلداً أرشده إلى أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله وهو الجهاد في سبيل الله؛ لأن حالته تناسب ذلك.
وقد جاء في بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً مع بعض أصحابه، فمر فتىً شاب قوي فقال رجل: (لو كان جلد هذا وشبابه في سبيل الله! فقال صلى الله عليه وسلم: إن كان خرج يسعى ليعف نفسه فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على زوجه وعلى أهله وأبويه فهو في سبيل الله ... ) إلى آخر الحديث، والشاهد: أن الناس يرون الجهاد أنسب للأقوياء.(43/6)
مراعاة حال المستفتي دون الخروج عن السنة
ومن هنا ينبغي على المفتي أن يراعي حالة المستفتي إذا سأله عن شيء عام، فينظر إلى حالته وما يناسبه، فإذا كان يناسبه الصلاة أرشده إليها، وإذا كان يناسبه الصيام أرشده إليه، إلى غير ذلك من الأعمال، ولكن لا ينبغي أن يخرج مراعاة لحال السائل عن حدود ما شرع الله، ويغير سنة رسول الله.
وقد ذكر في تاريخ الأندلس أن ملكاً وقع على جارية له في نهار رمضان، فاستفتى بعض العلماء فقال له: لا كفارة لك في هذا الوطء إلا أن تصوم شهرين متتابعين، فقال له زملاؤه من العلماء: لم أمرته بصيام شهرين؟ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاءه الرجل الذي قال: (هلكت وأهلكت! قال: وما أهلكك؟ قال: واقعت أهلي في نهار رمضان، فقال: أتجد رقبة تعتقها؟ قال: والله لا أملك إلا هذه، قال: أتستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: وهل وقعت فيما وقعت فيه إلا من الصيام! قال: هل تجد ما تطعم ستين مسكيناً؟ قال: والله! ما عندي ما أطعم أهلي، فقال: اجلس، فأتي بفرق من طعام فقال: أين السائل؟ خذ هذا فأطعمه أهلك) ، فالسنة -في كفارة من وطء في نهار رمضان- بدأت بعتق رقبة، ثم ثنت بصيام شهرين متتابعين، ثم ثلثت بإطعام ستين مسكيناً، وهذا المفتي لما سأله الملك قال: لا كفارة لك إلا صيام شهرين متتابعين.
فقالوا له: لماذا غايرت الترتيب الذي جاء في السنة؟ قال: هذا ملك، ولديه الكثير من الجواري والعبيد، فلو قلت له: أعتق رقبة، لكان يمكنه أن يجامع في كل يوم في نهار رمضان، ويعتق رقبة، فهو نظر إلى حالته، ووجد أنه لا يردعه إلا الصوم، لكن قالوا له: ليس هذا عليك، بل عليك أن تخبره بعتق رقبة، وهذا هو ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته، ولا يصح الاجتهاد المخالف للسنة.
ونقول أيضاً: إن الخير في السنة، فلو كان ملكاً وأمكنه أن يعتق عن كل جماع رقبتين أو أكثر، فإنه أفضل من أن يصوم؛ لأنه -كما يقول الأصوليون- الخير المتعدي خير من الخير اللازم لصاحبه، فإذا أعتق الملك أمة وصارت حرة، فإن كل من تنجبه سيكونون أحراراً، فهو إذا أعتقها فكأنما أوجدها من العدم إلى الوجود، أي من الرق إلى الحرية، فيصير لها أحكام الأحرار، وكذلك العبد، حتى أنه يصير صالحاً للقضاء، وصالحاً للجهاد، وصالحاً للقيادة، وصالحاً للإمارة والولاية، فيكون هناك خير كثير، وكذلك الأمة تنجب لنا أحراراً، فإذا أعتق ثلاثين جارية، فإنه حرر ثلاثين رقبة، أما لو صام عشرين شهراً فما الذي سيعود على الناس من صومه؟ لن يعود على الناس من صومه شيء.
إذاً: لا ينبغي في مراعاة حال السائل تجاوز ما سنه الله وشرعه وسنه رسول الله.
وظن المفتي أن في ذلك المصلحة خطأ، بل المصلحة كل المصلحة في اتباع ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان الأمر كما قال هذا المجتهد، لقال: صوم شهرين متتابعين أو عتق رقبة، ولكنه لم يقل هذا، بل قال: (أتجد رقبة؟ قال: لا أملك إلا رقبتي!) .
إذاًَ: على المفتي أن يراعي حال المستفتي حينما يكون في الأمر سعة، ويكون هناك أنواع متعددة، فيرشده إلى ما يلائمه، وما يصلح مع حاله، كما سئل عليه الصلاة والسلام: أي الأعمال أفضل؟ فقال: (الصلاة في أول على وقتها) وفي الحديث الآخر أجاب إجابة أخرى، فالسؤال واحد، وتنوعت الإجابة، وليس في هذا خلاف، وليس فيه تعارض، ولكن فيه مراعاة حال السائل وما يصلح له.(43/7)
فضل الصلاة في أول الوقت
نستفيد هذا الحديث: أن الصلاة في أول الوقت من أفضل الأعمال، والمؤلف أتى بهذا الحديث بعد بيان حديث: الفجرين، وتقدم حديث: (أصبحوا بالصبح فإنه أعظم لأجوركم) ، وبه أخذ الأحناف.
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كان نساء الأنصار يشهدن صلاة الفجر مع رسول الله متلفعات، ثم ينصرفن من الصلاة وما يعرفهن أحد من الغلس) فهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يبكر بصلاة الصبح، وقوله: (أصبحوا بالصبح) ، فعله مرة واحدة وتركه، وكان صلى الله عليه وسلم يداوم على صلاة الصبح في أول وقتها، وقد ذكرنا أن أفضل صلاة الصبح إنما هو في أول وقتها، وجاء في الحديث: (إنه كان ينفتل من صلاة الصبح حين يعرف الرجل جليسه، وكان يقرأ بالستين إلى المائة) ، ولذا جمع بعض العلماء بين النصوص: بأنه كان يغلس بالصبح، ويطيل فيها القراءة، ولا يخرج منها إلا وقت الإسفار، وقد تقدم هذا المبحث.
وجاء المؤلف بهذا الحديث هنا، بعد حديث: (الفجر فجران) ليبين أن أفضل صلاة الصبح في أول وقتها، والحديث عام في جميع الأوقات.(43/8)
استثناء صلاة العشاء وصلاة الظهر وقت الحر من أفضلية أول الوقت
ولا ننسى أن تأخير صلاة الظهر في شدة الحر، وصلاة العشاء أفضل، كما جاء في الحديث: (إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم) ، فالأفضل في الظهر عند شدة الحر تأخيرها عن أول وقتها، وذلك للذين يأتون من بعيد، ولا يجدون فيئاً يستظلون به إلى المسجد، وكذلك العشاء يستحب أن تؤخر، فإنه صلى الله عليه وسلم أخر العشاء ليلة إلى ثلث الليل، ثم خرج، وقد كانت رءوسهم تخفق فقال: (ما على وجه الأرض غيركم ينتظر هذه الصلاة، وإنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي) ، فأخر العشاء إلى ثلث الليل، وقال: (إنه لوقتها) وكان يحب ذلك، ولكن كان يُعجل بها حتى لا يشق على المصلين، وقد كان صلى الله عليه وسلم يدخل في الصلاة وفي نيته الإطالة ثم يخفف عندما يسمع بكاء الأطفال رحمة بقلوب الأمهات.
وعلى هذا؛ فهذا الحديث عام، ولكن يخص منه ما جاءت النصوص بفضل تأخيرها عن أول وقتها، وهي صلاة الظهر إذا اشتد الحر، وصلاة العشاء لمن لم يشق عليه ذلك، والله تعالى أعلم.(43/9)
تفضيل أول وقت الصلاة وأوسطه على آخره
قال المؤلف: [وعن أبي محذورة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول الوقت رضوان الله، وأوسطه رحمة الله، وآخره عفو الله) أخرجه الدارقطني بسند ضعيف جداً، وللترمذي من حديث ابن عمر نحوه، دون الأوسط، وهو ضعيف أيضاً] .
أبو محذورة هو مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وفي جعله مؤذناً قصة، وهي أنه لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من حنين واقترب من مكة نزل منزلاً، فخرج الصبيان من مكة لينظروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك المنزل أذن مؤذن رسول الله للصلاة، فقام الصبيان يحاكون المؤذن، كما هي عادة الصبيان في تقليد الكبار أو في محاورتهم، فسمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعجبه أذان أبي محذورة، فقد كان متميزاً عن أذان الصبيان، فناداه، فلما جاء ذكر له الأذان، فقال: (اذهب فأنت مؤذن أهل مكة) ، ومن هنا نأخذ أن الغلام المميز يصح أذانه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نصب هذا وهو غلام يحاكي أذان الكبار، وقد أعجبه صوته، وفيه أيضاً أن نتخير للأذان من كان حسن الصوت دونما تغنج، ودونما تكسر، حتى لا يخرج بأذانه عن اللائق بهذا الشعار العظيم.
يقول رضي الله تعالى عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول الوقت رضوان الله، وأوسط الوقت رحمة الله، وآخر الوقت عفو الله) ، وبصرف النظر عن ضعف السند، يقول العلماء: الفرق بين رضوان الله ورحمة الله وعفو الله: أن الرضوان أعلى الدرجات، كما قال الله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119] ، والرحمة هي: سعة فضل من الله على العبد، والعفو لا يكون إلا عن تقصير، فكأن الصلاة آخر الوقت لا تكون إلا من مقصر، سواء كان هذا التقصير عن عذر فيعفى، أو كان عن إهمال أو عن انشغال فلا يعفى عن تقصيره، ولكنه يستحق العفو، فليسأل الله العفو، والحديث سنده ضعيف جداً، ولكن نقول: إنه في فضائل الأعمال، ولا يترتب عليه حلال وحرام، وإنما يبين فضيلة أول الوقت وأوسط الوقت على آخره، والله تعالى أعلم.(43/10)
حكم صلاة التطوع بعد طلوع الفجر
قال المؤلف: [وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة بعد الفجر إلا سجدتين) أخرجه الخمسة إلا النسائي، وفي رواية عبد الرزاق: (لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر) ، ومثله للدارقطني عن عمرو بن العاص رضي الله عنه] .
هذا بيان وقت من الأوقات المنهي عن الصلاة فيها، وتقدم أنها سبعة أوقات، وهذا الوقت من بعد طلوع الفجر حتى صلاة الصبح، ويستثنى من ذلك ركعتان، وما هما الركعتان؟ بينت الرواية الأخرى أنهما سنة الصبح، فإذا طلع الفجر وأذن المؤذن وانتظر الناس الإقامة؛ فما بين الأذان وإقامة الصلاة للصبح لا يجوز التنفل، لكن يجوز ركعتان فقط وهما ركعتا الفجر، أي: سنة الصبح، وما عدا ذلك لا يجوز، اللهم إلا ما جاء في حق من نام عن الصلاة أو نسيها فإنه يصليها حين يذكرها.
وجاء عن كثير من العلماء ومنهم علي رضي الله تعالى عنه أن هذا الوقت يجوز فيه صلاة الوتر لمن نام عن الوتر واستيقظ في ذلك الوقت، ولم يكن قد أوتر، فله أن يوتر بعد طلوع الفجر قبل أن يصلي ركعتي الصبح ثم يصلي سنة الصبح، ثم يصلي الفريضة، فقد جاء عنه أنه خرج يوماً لصلاة الصبح فأراد المؤذن أن يقيم الصلاة، فأشار إليه أن اصبر حتى أوتر.
وجاء عن مالك رحمه الله أنه سئل عن صلاة الوتر في ذلك الوقت، فقال: لا بأس، لكن أكره أن يتعمد ذلك؛ لأن في بعض الروايات: (إذا طلع الفجر فلا وتر) .
وعند الأحناف أن الوتر واجب، وهم يفرقون بين الواجب والفرض، فالفرض ما ثبت بنص قطعي من كتاب أو سنة متواترة، والواجب ما ثبت بغير ذلك، فهم يرون أن الوتر واجب، وأنه يقضى ولو بعد طلوع الشمس، وبعضهم يقول: إلى ما قبل الزوال، أي: لا يترك أبداً؛ لأن صلاة الوتر جاءت فيها نصوص شديدة، مثل حديث: (من لم يوتر فليس منا) ، وحديث: (أوتروا يا أهل القرآن! فمن لم يوتر فليس منا) إلى غير ذلك.
إذاً: هذا الوقت من طلوع الفجر إلى صلاة الصبح لا صلاة نافلة فيه، اللهم إلا قضاء الصلاة الفائتة أو ركعتي الفجر أو الوتر لمن لم يكن أوتر إذا نام عن الوتر واستيقظ في ذلك الوقت.(43/11)
حكم الصلاة بعد العصر
قال المؤلف رحمه الله: [وعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر، ثم دخل بيتي فصلى ركعتين، فسألته، فقال: شغلت عن ركعتين بعد الظهر فصليتهما الآن، فقلت: أفنقضيهما إذا فاتتا؟ قال: لا) أخرجه أحمد، ولـ أبي داود عن عائشة رضي الله تعالى عنها بمعناه] .
تقدم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس) ، وقد علم الجميع ذلك، ثم رأت أم سلمة الحكيمة رضي الله تعالى عنها من النبي عليه الصلاة والسلام خلاف ذلك.
وأنا أسميها: الحكيمة لمواقف عديدة صدرت منها، فالنبي عليه الصلاة والسلام دخل عليها بعد العصر فإذا به يصلي! وهي تعلم منه أنه (لا صلاة بعد العصر) ، فحملت ذلك منه على النسيان، فقالت لجارية عندها: قومي بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقولي له: كنت تنهى عن الصلاة بعد العصر، وها أنت تصلي بعد العصر، قالت: ثم تأخري عنه، يعني: ذكريه إن كان ناسياً، فاستمر صلى الله عليه وسلم في صلاته، ولما صلى الركعتين انقلب إليها يعلمها، فقال: (هاتان ركعتان كنت أصليهما بعد الظهر) ، ونحن نعلم أن للظهر سنة: ركعتين قبلها، وركعتين بعدها، أو أربعاً قبلها أو أربعاً بعدها.
قال: (هاتان ركعتان كنت أصليهما بعد الظهر، فجاءني وفد عبد القيس بأموالهم -وفي رواية:- بإيمانهم، فشغلت بهم عنهما، فها أنا أصليهما) ، فبين صلى الله عليه وسلم سبب صلاته هاتين الركعتين بعد العصر، ففهمت أم المؤمنين أنه قضاهما؛ لأن سنة الظهر ينتهي وقتها بصلاة العصر؛ لأنها صلاة مرتبطة بالظهر، والسنن الرواتب مرتبطة بفريضتها، فأدركت أنه يقضيهما وليستا أداء، ولهذا قالت: أفنقضيهما إذا فاتتا؟ تعني: إذا فاتتا علينا نحن أيضاً، بأن انشغلنا عنهما، فهل نقضيهما أيضاً بعد العصر؟ فكان جوابه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا) ، ثم إنه داوم على هاتين الركعتين بعد العصر؛ فيقول الجمهور: من القواعد الأصولية أنه صلوات الله وسلامه عليه إذا أمر بشيء ولم يفعله فهذا من خصوصياته، أو نهى عن شيء وفعله فهو من خصوصياته، مثاله لما جاء أبو أيوب بطعام فيه من البقول، فأمرهم عليه الصلاة والسلام بأكلها ولم يأكل هو منها، فعدم أكله منها وهي مطبوخة من خصوصياته، ولذا قال عمر رضي الله تعالى عنه: أميتوها طبخاً، يعني: تلك البقول التي تجعل في الطعام من بصل ومن ثوم ومن كراث ونحو ذلك، الشاهد أنه أمرهم أن يأكلوها، وامتنع هو، فكان امتناعه منها خاصاً به.
وكذلك هنا نهى عن الصلاة بعد العصر وصلّاها، فكانت صلاته لها وقد نهى الناس عنها من خصوصياته، لكن قال بعض العلماء: صلاة النبي عليه الصلاة والسلام ركعتين كل يوم بعد العصر مع المداومة عليها مشكل، وليس هناك موجب للقضاء، وليس هناك ما يشرعها من جديد، فأجاب بعض العلماء بأنه كان صلى الله عليه وسلم إذا بدأ عملاً داوم عليه ولا يقطعه.
ومن أمثلة ما نهى عنه وكان يفعله لأنه من خصوصياته: الوصال في الصوم، فإنه نهى عن الوصال وواصل، فكان الوصال من خصائصه، ولذا عندما ألحوا عليه في وصالهم مثله، قال: (لست كأحدكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني) ، ولا ينبغي الخوض بالعقل في هذا، والتساؤل ماذا كان يطعمه؟ وماذا كان يسقيه؟ وإذا أطعمه وسقاه فهل يكون ذلك وصال مع أنه يأكل ويشرب مما يطعمه ربنا ويسقيه أم ليس هناك وصال؟ نقول: لا، فالشهداء عند ربهم يرزقون، ونحن لا ندري كيف يرزقون، وماذا يرزقون، فكذلك صلى الله عليه وسلم يعطيه ربه قوة الطاعم والشارب، فيعطيه قوة، ويعطيه عوناً، ويعطيه ما شاء، وهذا لا دخل لنا فيه، قال: (أبيت يطعمني ربي ويسقيني) ، فنقول: نعم، كما قال صلى الله عليه وسلم.
إذاً: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي هاتين الركعتين بعد العصر، وجاء عن زيد بن خالد أنه صلى بعد العصر ركعتين فرآه عمر، فضربه بالدرة وهو يصلي، فلما انتهى من صلاته، قال له: اضرب يا أمير المؤمنين! فهما ركعتان أصليهما ولن أتركهما، فقال: يا زيد! ما ضربتك عليهما إلا أني خشيت أن يصلي الناس بعد العصر فيتمادوا في صلاتهم حتى غروب الشمس، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند غروب الشمس، فـ عمر كان يضرب من يصلي بعد العصر.
وابن عمر كان يروي حديثاً: (لا تحروا بصلاتكم غروب الشمس) ، فـ ابن عمر كان يرى جواز الصلاة ما لم تصفر الشمس، وعمر كان يضرب الناس على الصلاة من أول الوقت سداً للذريعة، أي: مخافة أن يصلي هذا في أول الوقت، ثم يأتي الثاني وينظر إليه فيصلي، ويأتي الثالث بعده فيصلي، وهكذا يتوالى الناس بالصلاة بعد العصر مباشرة والشمس بيضاء، ثم تمتد صلاة الناس إلى غروب الشمس، وكل واحد يتابع الذي قبله، فـ عمر منع من ذلك سداً للذريعة.
إذاً: يهمنا من هذا الحديث أنه لا صلاة بعد العصر كما تقدم البحث فيه، وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم الركعتين بعد العصر اعتبرها العلماء من خصوصياته صلى الله عليه وسلم.(43/12)
كتاب الصلاة - باب الأذان [1]
الأذان من شعائر الإسلام العظام، فقد تضمن إعلان أصول الإسلام، ففيه تكبير الله وتعظيمه، والشهادة له بالوحدانية، ولنبيه بالرسالة، وفيه الدعوة إلى عمود الإسلام وهو الصلاة، والترغيب فيها، وهذه الشعيرة العظيمة لها أحكام وآداب ينبغي العلم بها.(44/1)
مشروعية الأذان
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [باب الأذان: عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه قال: (طاف بي وأنا نائم رجل فقال: تقول: الله أكبر، الله أكبر، فذكر الأذان -بتربيع التكبير من غير ترجيع، والإقامة فرادى، إلا قد قامت الصلاة- قال: فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنها لرؤيا حق ... ) الحديث، أخرجه أحمد وأبو داود، وصححه الترمذي وابن خزيمة] .
لاحظوا ترتيب المصنف في التبويب، فإنه بعدما أنهى أحاديث توقيت الصلوات الخمس، جاء بباب الأذان، فكأنه يقول: إذا دخل الوقت جاء الأذان، وإذا أذن جاءت الإقامة، وإذا أقام جاءت الصلاة، وهذه صفتها وكيفيتها.
والأذان لغة: الإعلام، وكل كلمة وجدت فيها: الهمزة والذال والنون فاعلم أنها من مادة الأُذن، وفقه اللغة يقول: إن أصل وضع اللغة للمحسوس ثم يتفرع عنه إلى المعنوي، فالأُذن هي مادة أذن، وكلما سمعت بكلمة مركبة من هذه الحروف فاعلم بأن فيها إعلام.
تقول: الآذن والمأذون، الآذن هو الذي يُلقي في أذن المستأذن الإذن بالدخول، وتقول: هذا مأذون وهذا آذن، أذنت لك في كذا، آذني في كذا، وقال الشاعر: (آذنتنا ببينها أسماء) .
يعني: أعلمتنا وأنذرتنا، وهكذا أصل مادة الأذان من الأُذن؛ لأن المتكلم يلقي في أذن السامع ما يريد أن يلقيه، فكان الأذان إعلاماً، وهو في الشرع: إعلامٌ مخصوص بلفظ معين في وقت معين.
وشرع الأذان بعد مجيء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكانوا في بادئ ذي بدء يعلم بعضهم بعضاً بالوقت، فإذا مر إنسان على بيت آخر قال له: جاء الوقت، وهكذا يمر بعضهم على بعض، فيُعلم بعضهم بعضاً بدخول الوقت حتى يجتمعوا إلى المسجد، فإذا دخل الوقت يصلون.
ثم اجتمعوا وتشاوروا ليروا وسيلة مناسبة ليعلموا بها دخول الوقت، فقال بعضهم: (نتخذ ناقوساً، فقال صلى الله عليه وسلم: الناقوس للنصارى، وقال بعضهم: ننفخ بوقاً، فقال صلى الله عليه وسلم: البوق لليهود، وقال بعضهم: نوقد ناراً، فقال صلى الله عليه وسلم: النار للمجوس) ، وإيقاد النار إعلام سريع، فهو مثل البريد أو المواصلات، وكان يمكن أن يصل الخبر من الحجاز إلى العراق عن طريق النار في ربع ساعة، وقد كان الناس في الحالات الخطيرة الهامة، إذا كانوا ينتظرون جيشاً مغيراً أو ينتظرون قدوم أمر خطير؛ يجعلون المنارات على رءوس الجبال، وفيها موضع يوقد فيه النار، وتعلمون مدى سرعة الضوء، فسرعة الضوء أسرع من سرعة الصوت، فإذا وصل الخبر المدينة أشعل صاحب المدينة النار في منارته، وهكذا الذي يليه، وليكن بينهما -مثلاً- مائتا كيلو، فإذا رأى النار فإنه حالاً حينما يرى ضوء النار من المدينة يشعل النار عنده، وحينما يشعل النار عنده يرى الآخر ضوءها ولو من بعد مائتا كيلو أو أكثر من ذلك فيشعلها، وهكذا حتى يصل الخبر بإشعال النار إلى بغداد مثلاً، وذلك قد يكون في نصف ساعة، وهذا أسرع من الطائرة، وأسرع من الصاروخ.
المهم أنهم عرضوا وسائل الإعلام، وكلها أعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها مشهورة عند كافرين، ونحن قد أُمرنا أن نخالفهم، لا أن نسير في ركابهم، بل لا نشابههم في شيء، فانصرفوا ولم يتفقوا على شيء، فجاء عبد الله بن زيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! رأيت فيما يرى النائم، ولم أكن بنائم) أي: هو في حالة بين كونه نائماً وغير نائم، وهذه حالة قد تعرض لبعض الأشخاص، فيرى بعض الأشياء وهو في أوائل النوم، ولم يتمكن النوم منه، ولم يكن مستقيظاً تمام الاستيقاظ، بل يكون في حالة بين بين، قال: (رأيت فيما يرى النائم، ولست بنائم، رجلاً عليه بردين أخضرين يحمل ناقوساً، فقلت: هل تبيع لنا هذا الناقوس؟ قال: وماذا تفعلون به؟ قلت: نعلم به للصلاة قال: ألا أدلك على غير ذلك؟ قال: بلى، فألقى عليه الأذان -كما هو معروف الآن- ثم تنحى قليلاً وقال: ثم تقولون -وألقى عليه ألفاظ الإقامة-، فجاء عبد الله بن زيد إلى الرسول فأخبره بذلك، فلما سمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنها لرؤيا حق، قم فألقه على بلال فإنه أندى صوتاً منك) ، فالذي رأى الرؤيا، وشرع الأذان على يده لم يباشره، ولكن باشره من هو أولى منه.
ومن هنا نأخذ أن تعيين المسئوليات يكون بحسب من يصلح لها، لا بحسب مراعاة شخص أو مناسبة أخرى، فهذا الذي رأى الرؤيا بالأذان ألقاه على بلال، وقام بلال ورفع الصوت به، فلما سمع عمر رضي الله تعالى عنه تلك الألفاظ جاء يجر رداءه وقال: (يا رسول الله! والذي بعثك بالحق! لقد رأيت مثل ما أسمع الآن فيما يرى النائم) ، وهكذا شرع الأذان برؤيا منام، وجاء على يدي بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهنا نجعل الفقه في جانب، وننظر إلى هذا الواقع، رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقى وحي الله في كل صغيرة وكبيرة، وهذا الأذان -وهو أعظم شعار في العالم الإسلامي- يشرع بهذه الطريقة، فلم يوح به على النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأته جبريل عليه السلام ويعلمه الأذان مباشرة أمام الناس كما جاءه وقال: أخبرني عن الإسلام؟ أخبرني عن الإيمان؟ أخبرني عن الإحسان؟ أخبرني عن الساعة؟ وكل ذلك يجيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما عدا أمر الساعة، ثم ولى، فقال: (أعيدوه، فلم يدركوه، فقال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمور دينكم) ، ونظير ذلك عند مقدمه صلى الله عليه وسلم من الهجرة، عندما هاجر من مكة إلى المدينة، فكان رسول الله يأتيه الوحي، لكن عندما تلقاه الناس وشيعوه من قباء إلى المدينة، كل منهم يقول: هلم عندنا يا رسول الله! كان يقول: (دعوها فإنها مأمورة) -أي: الناقة التي يركبها- فكان يوحى إليه في الصغيرة والكبيرة ولكن هنا يقول عن ناقة عجماء: (إنها مأمورة) ولماذا هذا؟ لاشك أنه لحكمة عظيمة، أما موضوع الأذان فنقول -والله تعالى أعلم-: لقد جاء الأذان بإكرام رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث جعلت الشهادة برسالته قرينة بشهادة لا إله إلا الله، حيث يقول المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله، مرتين، ثم يقول: أشهد أن محمداً رسول الله، مرتين، فلما كان في الأذان تعظيم وتكريم للرسول صلى الله عليه وسلم باقتران اسمه مع اسم رب العالمين، وكان ذلك حظ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا شرع بواسطة أحد الناس وأفرادهم، فإنه يكون قاطعاً لألسنة أولئك المتربصين الذين يرمون سهام التشكيك في ضعاف الناس، فلو شرع على لسان النبي لقالوا: إن محمداً هو الذي جاء باسمه مع اسم الله، ولكن لما جاء بواسطة شخصين غير رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلا يستطيع إنسان -مهما بلغ به التشكيك، ومهما بلغ به الحقد على الإسلام- أن يطعن في رسول الله بذلك، بل أتى به من أتى، ثم هو قرر أنها رؤيا حق، فتشريع الأذان ليس برؤيا من حيث هي، ولكن بتقريره صلى الله عليه وسلم أن تلك الرؤيا حق، أي: أن ألفاظ الأذان حق.
فيكون مشروعاً، والسبب تلك الرؤيا، ثم التثبيت والتقرير منه صلى الله عليه وسلم.(44/2)
حكم الأذان قبل دخول الوقت
قال المصنف رحمه الله [وعن ابن عمر رضي الله عنهما: (أن بلالاً أذن قبل الفجر فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع فينادي: ألا إن العبد نام) رواه أبو داود وضعفه] .
هذا الحديث مما احتج به الإمام أبو حنيفة على أنه لا يجوز أذانٌ قبل الوقت، وبلال رضي الله تعالى عنه أذن، وكان هو المؤذن للصلاة، فإذا بأذانه وقع قبل تحقق طلوع الفجر، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى حيث أذن وينادي بصوت مرتفع: (ألا إن العبد قد نام) ، وهذه صفة العبودية لله سبحانه وتعالى وحده؛ لأن بلالاً قد أعتق؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه اشتراه وهو في مكة وأعتقه، فهو عتيق لـ أبي بكر رضي الله عنه قبل أن يهاجر رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
(ألا إن العبد قد نام) ، وإذا كان قد نام فيكون قد غفل عن تعيين الوقت، والأذان في الوقت بدقة، فرجع ليعلم الناس بهذا؛ لأن أذانه سيغر من يصلي في البيوت، ومن يريد الصيام عن الطعام، فلما يعلموا بأنه قد نام، وأن الأذان الأول جاء في غير وقته؛ يستطيع الصائم أن يأكل، ويعيد الذي صلى صلاته؛ لأنها وقعت قبل الوقت.
فالإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: هذا بلال أذن قبل الوقت، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعلم عن نفسه بأنه قد نام.
إذاً: بلال ما كان يؤذن إلا في الوقت، ولكن السنة أثبتت أن بلالاً كان يؤذن قبل الوقت، والذي يؤذن في الوقت إنما هو ابن أم مكتوم.(44/3)
اختلاف العلماء في الأذان للجمعة قبل الزوال
أخذ الجمهور من هذا الحديث: أنه لا يجوز الأذان للصلاة إعلاماً بدخول الوقت قبل أن يدخل الوقت، وهذا في جميع الأوقات الخمسة ما عدا الجمعة، فإنهم اختلفوا في جواز الأذان لها قبل دخول الوقت، فالأئمة الثلاثة يقولون: لا يؤذن للجمعة إلا بعد دخول وقت صلاة الظهر، وهو: زوال الشمس عن كبد السماء، ومالك رحمه الله يذكر في الموطأ: أن جعفراً كان له طنفسة عند جدار المسجد الغربي، فإذا غطاه الظل أذّن المؤذن وبدأ في صلاة الجمعة، ومعلوم أن الظل أو الفيء لا يكون إلى جهة المشرق إلا بعد زوال الشمس عن كبد السماء إلى جهة الغرب؛ لأن الظل عكس الشمس، إذا كانت الشمس في المشرق فالظل يكون إلى المغرب، وإذا كانت في المغرب فالظل يكون إلى المشرق، فنص مالك رحمه الله: أنه لا يجوز النداء للجمعة إلا كما يجوز للظهر، وهذا ما عليه المذاهب الثلاثة.
أما الإمام أحمد رحمه الله فإنه يجوّز صلاة الجمعة قبل الزوال، ولهذا يجيز الأذان لها قبل ذلك، ويقول: الجمعة عيد، وتصح صلاة العيد إذا ارتفعت الشمس وقت الضحى إلى قبل الزوال، فالأمر عند أحمد متسع، ولكن المنصوص عن أحمد: أن المستحب ألا تكون الجمعة إلا بعد الزوال.
إذاً: مذهب أحمد جواز إيقاع صلاة الجمعة قبل الزوال، ولكن المستحب عنده ألا تكون إلا بعد الزوال، وبهذا يتفق مع الجمهور، والله تعالى أعلم.(44/4)
مشروعية القول مثل ما يقول المؤذن
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن) متفق عليه] .
هذا الحديث -يا إخوان- يستوجب وقفة طويلاً؛ وذلك لهذه السنة النبوية الشريفة: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول) ، والمثلية هنا ليست في الهيئة والكيف، ولكن في اللفظ فقط؛ لأن المؤذن يقول بصوت مرتفع ليسمع الآخرين، ولكن نحن إذا كنا في المسجد أو في الطريق أو في البيت أو في أي مكان إنما نحكي قول المؤذن لأنفسنا لا للغير؛ لأننا لا ننادي أحداً يأتي إلينا، وهذا ملفت للنظر! أنا أسمع المؤذن وأعي ما قال، فإذا قال: الله أكبر، أدركت معنى ذلك، وإذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، أدركت كذلك، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، كل هذه معانٍ أنا أدركها، فلماذا أقول بلساني وأسمع نفسي أو من بجواري هذا القول؟ نتأمل ذلك من جانبين: الجانب الأول: معاني الأذان، نجد الأذان قد جمع قواعد التوحيد وأصوله، ونظير ذلك التلبية في الحج، فالتلبية إعلان برفع الصوت، وهي شعار الحج، والأذان نداء برفع الصوت وهو شعار الإسلام، وإذا أخذت اللفظ الأول: (الله أكبر الله أكبر) فإنك تستشعر عظمة الله، وأنه أكبر من كل كبير، ما قال: الله كبير، بل أكبر -أفعل التفضيل- كل ما كبر في نظرك أو في اعتقادك أو في حسبانك فالله أكبر من ذلك.
وتأتي بالشهادتين تجدد العهد مع الله أنك تشهد أن لا إله إلا الله، وتجدد العهد بأنك تشهد أن محمداً رسول الله، وهما شهادتان يجزئ التلفظ بهما في العمر مرة واحدة، فيدخل الإنسان بهما الإسلام، ولكن تجديدهما أفضل الذكر وأقرب القربات إلى الله سبحانه وتعالى.
فإذا سمعت (حي على الصلاة) فهو نداء يناديك باسم الله الأكبر، و (حي) بمعنى: أقبل على الصلاة التي هي عماد دينك، وهي حصن لك، تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتعين على نوائب الحياة {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] .
و (حي على الفلاح) تشعرك بفلاحك في الدنيا والآخرة، و (الله أكبر) حتى لا يشغلك عنها شيء، (لا إله إلا الله) .
فإذا تأملنا معاني هذه الألفاظ تحتم على السامع أن يقولها بلسانه ويسمع نفسه، لتكون عملياً تطرق القلب، وتملأ السمع، فيكون في حالة الأذان متوجهاً إلى الله سبحانه.
الجانب الثاني: المؤذن يؤذن وأنت في شغل، ففي الفجر وأنت في نوم، وفي الظهر وأنت في القيلولة، وفي العصر وأنت في العمل، وفي المغرب وأنت في عملٍ أو على طعام، وكذا في العشاء، فكل أوقات النداء أوقات شغلٍ، فإذا سمعت (الله أكبر) وكنت في نومك أو في عملك عرفت أن الله أكبر، ويجب أن تقوم وتنهض وتجيب حي على الصلاة، حي على الفلاح، فإذا كنت في عملك في النهار مشتغل في متجرك، أو مشتغل في مصنعك، أو مشتغل في عمل بيتك، مهما عظم هذا العمل، وتسمع (الله أكبر) ؛ علمت بأن الله أكبر مما في يدك، ومما يشغلك عن أداء الصلاة، فمن أجاب هذا النداء تهيأ له.
وتوقيت الصلوات مرتبط مع تلك الحركة الكونية للشمس، وهذا الضوء الذي ينفجر من ظلام الليل آية من آيات الله، ثم إذا بالشمس تدور حتى تصل إلى كبد السماء، ثم تتحول إلى الغروب، ثم تتضيف إلى الغروب، ثم هي تغرب من هذا الكون عن هذا الجهة وتمضي في سبيلها، حركات يتغير من أجلها الكون بأسره! وإذا تأمل الإنسان هذا، وكان خالي الذهن، وجلس في عراء من الأرض، وعند نهاية الليل وعند إقبال النهار، يتأمل في هذا الكون ليل يمضي، وفجر يأتي، وحركة لا يقدر عليها إلا القوي المتعال، فيستدل بتفكره في هذه الحركة الكونية على عظمة الله وقدرة الله، فإذا سمع المؤذن يقول: الله أكبر، فكأنه يقول له: إن الذي يأتي بهذه الحركة، ويغير مجرى الزمن، ويغير أوضاع الكون هو الله، فيمتلأ قلبه إيماناً بالله.
وهكذا تتعلق أوقات الصلوات الخمس بتغير أحوال الزمن وبمسيرة الشمس، وكل حركة في ذلك تنادي بأن الله أكبر.
إذاً: الأذان ليس مجرد كلمات تطرق السمع، ولكنها معانٍ جليلة، تعلقت بأحداث كونية عجيبة، ولهذا جاءت السنة النبوية بأن تصغي إليه، وتردده، فإذا كنت تعمل بيدك وأذنك مع المؤذن ولسانك يحكي قوله فما يفرغ المؤذن من أذانه حتى تكون قد استخلصت نفسك مما أنت فيه، وجمعت شعورك وإحساسك إلى معاني هذا النداء، فتنفض يدك مما أنت فيه، وتذهب وتتوضأ وتأتي إلى بيت الله لأداء الصلاة.
فقوله: (إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول) ، ليست المسألة بالعبارات، وليست المسألة ذكر كلمات، ولكن لتعيش بوجدانك وروحانيتك وإحساسك وشعورك مع هذا النشيد الأعلى: الله أكبر، لا إله إلا الله.(44/5)
ترديد الأذان لمن سمع مؤذنين في وقت واحد
وهنا مباحث فقهية: إذا كنت تسمع أذاناً واحداً فإنك تقول مثل ما يقول وتخرج من العهدة، وإذا كان هناك أذانان، سواءً في مسجد واحد يأذنان معاً أو متواليين أو في عدة مساجد وتسمع أذان كل مسجد عقب الأخر هل تكتفي بإجابة المؤذن الأول فقط أو تردد مع كل مؤذن الأذان كل ما سمعت ذلك؟ يوجد قاعدة أصولية: إذا تعدد السبب هل يأتي المسبب أم لا؟ هناك حالتان: - حالة يتعين فيها الإتيان بالمسبب في كل مرة.
- وحالة يجزئ فيها مرةً واحده.
فمثلاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (آمين، آمين، آمين) حينما صعد المنبر، فقالها ثلاث مرات في ثلاث درجات، وسئل عن ذلك فكان مما قال: (أتاني جبريل عليه السلام فقال: رغم أنف امرئ ذكرت عنده ولم يصل عليك، قل: آمين) ، فقالوا: إن تكرار الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند سماع ذكره متعين، فهذا متعدد السبب، ويتعين إيجاد المسبب عند وجوده، فكلما سمعت ذكره صلوات الله وسلامه عليه تعين عليك أن تصلي وتسلم عليه.
وهناك من الأمور ما يتعدد ويتكرر ويجزئ عنها شيء واحد مرة واحدة، كما في نواقض الوضوء، لو أن إنساناً كان على وضوء ثم أحدث ما ينقض الوضوء ثم أحدث حدثاً آخر ثم أحدث حدثاً آخر، فإنه يجزئ عن ذلك كله وضوء واحد؛ لأن الأحداث لا تجدد الحدث عند الإنسان، الحدث هو واحد وإن تعددت أسبابه، فيكفي لرفعه وضوء واحد، وكذلك الغسل إذا لم يغتسل للحدث الأول ولا للثاني فإنه يجزئ عنه غسل واحد.
فهل الأمر يقتضي تكرار المأمور به أم لا؟ فهنا قال: (إذا سمعتم فقولوا) ، قد سمعنا الأول وقلنا مثله، فهل نقول مثل المؤذن الثاني بالأمر الأول؟ أكثر العلماء أنه كلما سمعت مؤذناً يؤذن فعليك أن تقول كما يقول، وهناك من يقول: تكفي المرة الأولى، ولكن الأول أصح.(44/6)
حكم ترديد الأذان أثناء الصلاة
وهل تقول كما يقول المؤذن وأنت في صلاة؟ بعض العلماء يقول: نعم؛ لأن الأذان كله ذكر لله، وأنت في الصلاة تذكر الله سبحانه وتعالى، وعند (حي على الصلاة) تقول: (لا حول ولا قوة إلا بالله) ، وهناك من يعارض إذا كنت في صلاة وسمعت المؤذن.
والبعض يقول: إن في الصلاة لشغل، فلا تجبه وأنت في الصلاة، وبعضهم يقول: يجوز ذلك في النافلة ولا يجوز في الفريضة؛ لأنه يتسامح في النوافل مالا يتسامح في الفرائض، والله تعالى أعلم.
واختلف الفقهاء في مسألة: هل تقول كما يقول مقيم الصلاة حين يشرع في إقامتها أو أن ذلك خاص في الأذان فقط؟(44/7)
ما يقول السامع للأذان عند الحيعلتين؟
[ولـ مسلم عن عمر رضي الله عنه في فضل القول كما يقول المؤذن كلمةً كلمةً سوى الحيعلتين فيقول: لا حول ولا قوة إلا بالله] .
هذا استثناء في ترديد الأذان، فحينما يقول المؤذن: (الله أكبر، الله أكبر) تحكي ما يقول، وإذا جاء إلى الحيعلة وقال: (حي على الصلاة، حي على الفلاح) فهل تحكي هذه العبارة بلفظها؟ هناك من يقول: لا تحكيها، ولكن تقول محلهما: (لا حول ولا قوة إلا بالله) ، ولماذا؟ قالوا: لأن قولك: حي على الصلاة نداء لغيرك ليحضر إلى الصلاة وأنت ما ناديت أحداً، و (حي على الفلاح) معنى خارج عن معنى الأذان المتعلق بالصلاة، فيقولون: في هذه الحالة تقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وتشعر نفسك بأنه لا حول ولا قوة لك على إجابة نداء المؤذن إلا بالله، هو يناديك وأنت تقول: نعم أستعين بالله على إجابتك، لا حول لي ولا قدرة لي ولا قول لي على أن أجيبك إلا بالله سبحانه وتعالى.
وهذا إشعار بالضعف والعجز، واستكانة بين يدي الله حتى يعينك على إجابة المنادي: (حي على الصلاة) .
وبعض العلماء يقول: تقول الحيعلتين، وتعقبهما بقولك: لا حول ولا قوة إلا بالله.
يعني: تجمع بين اللفظين فتقول: (حي على الصلاة حي على الصلاة) لا حول ولا قوة إلا بالله.
والعلماء يقولون في معنى الحوقلة: لا حول عن معصية، ولا قدرة على طاعة إلا بالله، وهذا عين التوحيد؛ لأن الإنسان ضعيف بالنسبة للمعصية، فالنفس والهوى والشيطان وميول الرغبات كل ذلك عوامل تدعوه إلى المعصية، فكيف يصد هذه العوامل المجتمعة إلا بالله سبحانه وتعالى، وكذلك فعل الطاعة لا تقدر عليها إلا بالله.
قال الله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} [البقرة:45] أي: ليست بهينة، وهذه الكبيرة كيف تؤديها؟ بقوة من الله سبحانه {إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] هم خاشعون لله، ومن كان خاشعاً لله كان له عون من الله سبحانه وتعالى.
إذاً: عند الأذان تحكي ألفاظه، وعند الحيعلتين هناك من يقول: لا حاجة أن تذكرهما؛ لأن معناهما لا يتحقق عندك، وتقول محلهما: (لا حول ولا قوة إلا بالله) وهذه الكلمة أعطيها الرسول صلى الله عليه وسلم من كنز تحت العرش ليلة الإسراء، كما أعطي فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، والله سبحانه وتعالى أعلم.(44/8)
مشروعية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان سراً
هذا الحديث من أعظم الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم، (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول) ، إلى هنا أكتفى المؤلف وتتمة الحديث: (ثم صلوا عليّ وسلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة لا تنبغي إلا لعبدٍ واحد، أرجو الله أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة كنت له شفيعاً يوم القيامة) .
السنة بعد أن ينتهي سامع الأذان من حكاية المؤذن أن يصلي ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم سراً كما حكى ألفاظ المؤذن، وكذلك المؤذن حينما يفرغ من الأذان بصوته العالي الذي ينادي به الناس، يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم سراً ليكون ممتثلاً، وكما يقول السامع للأذان ذلك، كذلك أيضاً المؤذن، ويقول -ما علمنا صلى الله عليه وسلم- مثل السامع: (آت محمداً الوسيلة والفضيلة) .
وفي هذا الحديث ما ينبغي التنبيه على أن بعض الجهات أخذ من هذا الحديث الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب كل أذان بصوت مرتفع كألفاظ الأذان! وأدخلوا الصلاة والتسليم على النبي صلى الله عليه وسلم في الأذان بناءً على ذلك! قالوا: فالمؤذن يصلي عليه كما كان يؤذن لقوله: (فصلوا علي) ، فنقول: التشريع صحيح، ولكن الكيف خطأ، ما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا كان الخلفاء الراشدون، ولا المؤذنون لهم يصلون على النبي عقب الأذان بارتفاع الصوت، وهذا جعل بعض الجهال يظنون إلى اليوم أنها ضمن الأذان وضمن ألفاظه.
وهذا لا ينبغي.
قال ابن الحاج في المدخل: لا شك أن الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفضل القربات، ويكفي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى عليّ مرة واحدة صلى الله عليه بها عشر مرات) ، واحدة منك يا عبد يا مسكين تقابل بعشر مرات من رب العالمين! أي فضل أعظم من هذا؟ فإذا كان الأمر كذلك فلا ينبغي أن تأتي بها إلا في المواضع التي شرعت فيه، وما شرعت الصلاة والسلام على رسول الله عقب الأذان بصوت مرتفع كالأذان، فقال رحمه الله -وهو الحق-: نعلم أن هناك مواطن لا يجوز الدعاء فيها، حتى أعظم القربات، فالقرآن هو أعظم القربات فبكل حرف منه عشر حسنات، ومع ذلك نهينا عن قراءة القرآن في الركوع وفي السجود، مع أن الإنسان أقرب ما يكون من الله وهو ساجد، ومنعت هذه في تلك، فكل شيء مكانه، ولا ينبغي الابتداع، ولا ينبغي إيجاد ما لم يوجد من قبل، وكما قال مالك رحمه الله: (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها) .
والله تعالى أعلم.(44/9)
مشروعية الدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان بالوسيلة
وقوله: (ثم سلوا لي الوسيلة) ، بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها منزلة في الجنة رفيعة لا تنبغي إلا لعبد واحد بلا مشاركة، ويقول صلى الله عليه وسلم (أرجو أن أكون أنا هو) .
يا سبحان الله! ومن يتقدم عليه إليها؟ ومن هو أحق بها منه؟ لا أحد، ولكن هذا تواضع منه مع رب العزة، ولم يأتل على الله بأنه صاحبها، ولكنه حسن الظن بالله، والتواضع بين يدي الله، وإن كان يعلم أنه أفضل الخلق صلوات الله وسلامه عليه، وأنها لا تنبغي لغيره، ولكن تأدباً مع الله واحتراماً لقدرة الله وعطائه وحكم إرادته المطلقة، قال: (أرجو) ، وهذا الرجاء حقيقة، ولن تكون إلا له.
والمقام الرفيع الذي وعده هو الشفاعة العظمى حينما يحشر الناس جميعاً في صعيد واحد، وتدنو الشمس من الرءوس، ويلجم الناس العرق، ولم يكن بين الشمس وبين رءوسهم إلا قدر ميل.
قيل: ميل المرود الذي للمكحلة، وقيل: ميل المسافة، ومهما يكن من شيء فالشمس الآن في الصيف بيننا وبينها بلايين الأميال ومع ذلك يتضرر الإنسان من حرارتها، فإذا كانت يوم القيامة بقدر ميل واحد.
أي: كيلو ونصف فكيف يكون الحال؟ (فيضج الناس، ويقولون: ألا ترون ما نحن فيه، ألا تطلبون من يشفع لنا عند ربنا، ليأتي لفصل القضاء، فيقولون: ومن يشفع لنا؟ قالوا: اذهبوا إلى نوح أبي البشر فيذهبون إلى نوح فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله قط، وإني قد دعوتي على قومي دعوةً أغرقتهم، اذهبوا إلى إبراهيم خليل الرحمان، فيأتون إلى إبراهيم ويعتذر لهم أيضاً، ويقول: أذهبوا إلى موسى كليم الله، فيذهبون إلى موسى ويعتذر، ويقول: اذهبوا إلى عيسى روح الله، فيأتون إليه ويعتذر ويقول: اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيذهبون إليه فيقول صلى الله عليه وسلم: أنا لها، أنا لها، ويذهب حتى يسجد تحت العرش، ويلهمه الله بمحامد وتسابيح لم يكن يعلمها من قبل) ، وهذا مثل الحديث: (أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) ، فما استأثر سبحانه به في علم الغيب عنده يلهمه رسوله في ذلك الوقت، (فيسبح الله ساجداً إلى ما شاء الله حتى يقول له المولى سبحانه: يا محمد! ارفع رأسك، وشفع تشفع، فيقول: يا رب! فصل القضاء) ، وهذه الشفاعة العظمى التي شملت الأمم جميعها بما فيهم من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهو المقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون.
ثم تتوالى الشفاعات بعد ذلك، وهي سبعة أنواع، يشفع في قوم استحقوا النار ولم يدخولها، ويشفع في قوم لترتفع درجاتهم في الجنة، ويشفع في أناس دخلوا النار فعلاً فيخرجون منها، إلى غير ذلك من أنواع الشفاعات.
في هذا الحديث يبين صلى الله عليه وسلم أن مستمع المؤذن يقول كما يقول المؤذن، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسأل الله له الوسيلة والمقام المحمود، فمن فعل ذلك كان له وعد عند رسول الله بالشفاعة ووعده صادق، والله سبحانه وتعالى أعلم.(44/10)
مشروعية اتخاذ المؤذن
قال المصنف رحمه الله: [وعن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! اجعلني إمام قومي، فقال: أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً) أخرجه الخمسة، وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم.
] هذا الصحابي كان في وفد، وكان أصغرهم سناً، وكان بالغاً، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اجعلني إمام قومي، فقال: أنت إمامهم، ويقولون: إنه كان يمر عليه الوفود فيتلقاهم في الطريق فيسمع منهم القرآن، ويحفظ منهم ما سمعوا من رسول الله، فكان قد جمع بعض السور الصغار من القرآن الكريم، وهذا لا يتنافى مع حديث: (يؤمكم أقرؤكم لكتاب الله) ، فهذا إذا تعدد القراء نظرنا من هو أقرأ وأحسن تلاوة، في تجويده وإخراج الحروف من مخارجها، وإعطاء الحروف حقها، والمد والإدغام ونحو ذلك، ويكون أحفظ من الآخرين، فإذا تساووا في ذلك نظرنا من هو أقرؤهم، وقدمناه للإمامة، مع توافر الشروط الأخرى، وهي: أن يكون تقياً ورعاً يعرف حق هذا المقام العظيم بين يدي الله، كما جاء في الحديث -وهو مكتوب عندكم في المحراب هناك-: (تخيروا أئمتكم فإنهم وافدوكم إلى الله) ، فالإمام يتقدم القوم ويسأل الله: اهدنا الصراط المستقيم، يسأل لنفسه ولمن معه، فينبغي تخير الإمام، قال ابن الحاجب: كان في المغرب لا يقدم للإمامة إلا من شهد له أهل القرية بصلاحه وأفضليته على الجميع، أما في بعض البلدان الأخرى -وقد سماها ولا أريد أن أسميها- فإن الإمامة عندهم مرهونة بالنقود، وقد يتولاها من هو كذا وكذا! وهنا قوله: (اجعلني إمام قومي) ، كيف يطلب الإمامة وهي ولاية، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من طلب ولايةً أو إمارةً لا نعطيه إياها) ؟ قالوا: إذا علم الإنسان من نفسه الاستطاعة بالقيام بحق الولاية، وإنها ستضيع إذا أسندت إلى غيره لعدم وجود الأكفاء، فيتعين عليه أن يتقدم لحفظها لا لحظ نفسه، واستدلوا بقصة نبي الله يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فإنه عندما عبر الرؤيا للملك، وذكر له الأمر قال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} [يوسف:55] ، وهذه ولاية على الأرزاق {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] أي: عندي الأهلية، ولو تركت لغيره لضاعت، فكان من حقه أن يتقدم لطلب الولاية لحفظها، وهكذا القضاء والإفتاء والأذان والإمامة وكل عمل ديني محض.
وقوله هنا: (واقتد بأضعفهم) ، كيف يقتدي بأضعفهم والمأمومون يقتدون به هو؟ المعنى: أنك ستكون إماماً، فلا تجعل السلطة والاختيار لك في أن تفعل ما شئت، وتطيل عليهم، بل اقتد بأضعف من يصلي وراءك، فليكن أضعف المأمومين هو القدوة لك، فلا تثقل عليه ولا تؤذيه بالإطالة، إنما عليك أن تراعي حال المأمومين.
وقد عرفنا قصة معاذ بن جبل رضي الله عنه، وقد جاء في حقه أنه: (أعرفكم بالحلال والحرام) ، فكان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء في المسجد الشريف، ثم يذهب ليصلي بأهل قباء العشاء، فدخل ذات ليلة في صلاة العشاء، وكان رجل يعمل طيلة نهاره في بستانه فدخل في الصلاة معه فإذا بـ معاذ بعد أن قرأ: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] آمين يقرأ: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1-2] ، وشرع في أول البقرة، فقال الرجل في نفسه: والله! لن يقف حتى يختمها، فانعزل عنه، وصلى منفرداً، ورجع إلى بيته، وفي بعض الروايات أنه حينما أتى إلى المسجد أرسل نواضحه وتركها تمضي إلى البيت، ودخل في الصلاة وهو لا يدري: هل ستذهب إلى البيت أو لا؟ وهو طول النهار يعمل، فهو متعب، فإذا قام وراء الإمام الذي يشرع في الأولى بالبقرة، فربما الركعة الثانية يقرأ فيها بآل عمران! ومتى ينتهي؟! فاختصر الطريق من قريب، وصلى وذهب إلى بيته، وعلم معاذ بذلك، فقال: إنه رجل منافق، ما صبر على الصلاة! والمنافقون يأتون الصلاة وهم كسالى، فبلغ الرجل مقالة معاذ في حقه، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم واشتكى من معاذ؛ لأنه رماه بالنفاق، وقد فعل كذا وكذا، فاستدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (أفتان أنت يا معاذ؟!) ، سبحان الله! رجل يقرأ بالبقرة في ركعة ويقول له: أنت فتان! إنه اجتهد، وغلب جهة العاطفة، وهو كان حديث عهد بالصلاة خلف رسول الله، وحديث عهد بسماع تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديث عهد بصلاة أمهم فيها رسول الله، وتلك حالة روحية تجعل عندهم انفتاح وانفساح وقدرة على إطالة القيام ولو الليل كله، ولكن غيره ليس مثله، فقال له: (أفتان أنت؟) ، ولماذا؟ وأين الفتنة؟ تطويلك هذا يؤدي إلى ترك الجماعة وتفرق الناس، وستكره الناس للصلاة، وهذه أعظم فتنة، أين أنت من {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] ، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1] وذكر له سوراً قصاراً من المفصل.
فقوله: (واقتد بأضعفهم) ، سواءً كان لكبر سن أو كان لمرض أو لاشتغال، فيجب أن تراعي المصلين الذين خلفك، وتقتدي بأضعفهم، وتراعي ما يستطيعه من الإطالة والقيام والقراءة.
وقوله: (واتخذ مؤذناً) ، فيه أدب التعيين، ما كل إنسان يأتي يؤذن، إنما يكون المؤذن مرتب من المسئول؛ لأن الأذان إعلام لأداء الصلاة لله، وهذا عمل رسمي، فلا ينبغي لكل من هب ودب أن يأتي ويؤذن، هل ندري من يحسن الأذان أم لا؟ هل ندري أمانته واستقامته أم لا؟ لا ينبغي لأي إنسان أن يقدم على الأذان إلا بإذن مأذون من الإمام أو من ولي الأمر، اللهم إلا المساجد العامة التي على الطرقات، وليس لها مؤذن خاص، ولا إمام خاص، وبينت على الطريق لمن تحضره الصلاة فيصلي؛ فلا مانع لمن حضر الوقت وهو حاضر أن يؤذن، وكذلك من حضر الصلاة أم بالناس، ولو تعددت الجماعات في هذه المساجد فلا مانع.
أما المساجد المقيمة عند أحياء عامة، وثابت أهلها وسكانها؛ فلا ينبغي أن يؤذن مؤذن إلا مأذون له، ولا يؤم الناس إلا معين فيها، ولا يجوز إعادة الجماعات في تلك المساجد مرتين أبداً.(44/11)
جواز إعطاء المؤذن أجراً على سبيل الهبة والعطاء لتفرغه
وقوله: (لا يأخذ على أذانه أجراً) ، هذا هو الأكمل والأفضل فمن يعمل القربة، ويجب عليه أن يحسن النية، ويحتسب الأجر عند الله سبحانه وتعالى، لكن إذا اتخذ بمعنى: كلف، والاتخاذ تكليف، والتكليف فيه التزام، والالتزام فيه شغل عن واجبه وواجب أهله، فماذا يفعل؟ قالوا: لا يعطى أجراً بعقد إجارة، ولكن يعطى بنية الهبة، ومن باب العطاء، ولا مانع من ذلك، وعلى هذا أجاز العلماء إعطاء المؤذن والإمام وكل من كان عمله قربة في الإسلام، فيأخذ لا على عقد المؤاجرة، ولكن على سبيل الهبة والعطاء، وعلى سبيل الرزق من بيت مال المسلمين، والله تعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين.(44/12)
كتاب الصلاة - باب الأذان [2]
يشرع اتخاذ إمام ومؤذن لكل مسجد تقام فيه جماعة، ويختص كل منهما باختصاصات، وهذا يدل على مشروعية توزيع الاختصاصات في الإسلام، فالإسلام دين ينظم الأمور ويرتبها على أحسن وجه، وقد جاءت السنة ببيان كثير من آداب المؤذن حتى يقوم باختصاصه على أكمل وجه.(45/1)
حكمة الأذان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: يقول المصنف رحمه الله: [وعن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم) الحديث أخرجه السبعة] .
هذا الحديث تكملته: (وليؤمكم أقرؤكم) ولنبين رأي من يقول: إن هذه صيغة أمر: (وليؤذن لكم أحدكم) ، واعتبر الأذان واجباً من الواجبات، وتقدمت معنا هذه المسألة: هل الأذان حق للإعلام بدخول الوقت أو حق للصلاة؟ على القول بأنه إعلامٌ لدخول الوقت، فإذا كان القوم مجتمعين أو كانوا قد سمعوا أذاناً من مسجد آخر، فإنه يكفيهم؛ لأنهم قد علموا بدخول الوقت، وإذا كان الإعلام للصلاة، فإنهم يؤذنون للصلاة، ولو سمعوا أذان مسجد آخر.
وأعتقد أن الراجح كون الأذان للصلاة، وليس للوقت، أو هو لهما معاً، وكونه للصلاة أرجح، لقضية تعريس النبي صلى الله عليه وسلم وانتباههم بعد ارتفاع الشمس، وفي الرواية الصحيحة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً فأذن، وكونه أذن بعد خروج الوقت يرجح أن ذلك للصلاة، وإن كانوا يقولون: الإقامة للصلاة آكد من الأذان، فهنا قال: (وليؤذن لكم أحدكم) ، صيغة أمر تقتضي وجوب الأذان، وهذا الأمر لهم كان حين عودتهم إلى ديارهم وهم في السفر، وكذلك الحال في الحضر، وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا غزا غزوة ومر بقوم ولم يعلم عن حالهم: أهم مسلمون أو من المشركين؛ فإنه ينتظر إلى وقت الصلاة، فإذا سمع أذاناً علم أنهم مسلمون، ولم يغر عليهم، وكان غالباً ما ينشئ الإغارة بعد طلوع الفجر أول النهار، فكان ينتظر أن يسمع منهم أذان الفجر، فإن هم أذنوا علم أنهم مسلمون، فجنب عنهم، وإن لم يؤذنوا علم أنهم غير مسلمين؛ لأنهم لم يقيموا شعار الإسلام.
قال مالك رحمه الله: إذا ترك أهل قرية الأذان قوتلوا عليه، حتى ولو كنا نعلم أنهم مسلمون، ويصلون، ويصومون، لكنهم تكاسلوا عن الأذان للصلوات واكتفوا بالإقامة، فإنهم يقاتلون حتى يؤذنوا؛ لأن الأذان أصبح شعار من شعارات الإسلام، كما يقال عن التراويح: إنها سنة رمضان، وشعار المسلمين في رمضان، فمن عطلها في المساجد فهو مخطئ وعلى أهل القرية إحياء قيام التراويح في المساجد، وإن كانت في البيت هي أفضل منها في المسجد، لكن إقامتها في المساجد شعار من شعارات الإسلام؛ فينبغي أن يحافظ عليه، ولا يجوز تعطيلها، والله تعالى أعظم.(45/2)
الترسل في الأذان والحدر في الإقامة
قال رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـ بلال: (إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحدر، واجعل بين أذانك وإقامتك مقدار ما يفرغ الآكل من أكله) الحديث رواه الترمذي وضعفه] .
هذه التعليمات في هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم في كيفية الأداء للأذان والإقامة، قد تعلم المؤذن ألفاظ الأذان والإقامة، ولكن كيف تكون صيغة الأداء؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ بلال: (إذا أذنت فترسل) ، كما يقال لشخص يمشي: على رسلك، كما في قصة البعير الذي هاج على صاحبه، ولما ذهبوا عنده رأى أبو بكر رضي الله تعالى عنه أن البعير هائج داخل البستان، فقال لرسول صلى الله عليه وسلم: على رسلك يا رسول الله! فإن البعير هائج، وتقدم صلى الله عليه وسلم إلى البعير الهائج في البستان، وكانت المفاهمة كما تقدم بيان ذلك مراراً.
فترسل.
أي: تمهل واجعل بين كل جملة وجملة فراغاً.
بينما قال في الإقامة: فاحدر، والحدر هو كما تقول: انحدر السيل.
أي: أسرع، والانحدار: الانصباب من علو إلى أسفل، ويكون في ذلك إسراع.
وما الفرق بين الأذان والإقامة؟ كما يقال: لكل مقام مقال، وهذا هو سر البلاغة، الأذان هو إعلام للغائب بدخول الوقت، والغائب مختلف البعد فيحتاج إلى تطويل في الأذان حتى يعلم أكثر عدد ممكن من الناس؛ لأنه لو أتى بألفاظ الأذان في دقيقتين يكون قد انتهى ومن لم ينتبه لم يسمع شيئاً، بخلاف ما إذا لو أتى بالأذان في ربع ساعة مثلاً، ومن العجب ما حكاه بعض العلماء من البدع أن بعض القرى كانت تحتم على المؤذن أن يستغرق نصف ساعة في أذانه! وهذا تطويل أكثر من اللازم، وقد يؤخر الصلاة عن أول وقتها.
فترسل.
أي: أنك لا تسرع في أداء ألفاظ الأذان فتفوت على الكثيرين السماع، فتمهل في الأذان وترسل بحيث أن الأذان يأخذ وقتاً أوسع، لإبلاغ البعيدين، فيكون فيه فرصة أوسع لتعميم البلاغ والنداء للمصلين.
أما الإقامة فهم موجودون، ولا ينادي بعيداً، إنما هو يعلم الحاضرين بأن الإمام قد حضر، وأنه قد تهيأ وقام في محرابه، ولم يبق إلا أن تقوموا للصلاة اقتداء بالإمام، فالإقامة إشعار بأن الإمام قد حضر، وأن الصلاة ستقام الآن.
إذاً: لا في حاجة إلى الترسل فيها، ولا حاجة إلى الإطالة فيها، إنما هي مجرد إشعار بقرب شروع الإمام في أداء الصلاة ليتهيئوا إلى القيام، وإلى تعديل الصفوف، كما هي السنة، وكان بعضهم يقوم إذا رأى الإمام، ومنهم من يقوم حتى يقول المقيم: قد قامت الصلاة، وبعضهم يقول: إن السنة في القيام للصلاة حينما يشرع المؤذن في الإقامة.
أي: يقوم حينما يسمع قول المؤذن: قد قامت الصلاة، فلا يبادر بالقيام حينما يسمع المؤذن يقول: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، إنما ينتظر حتى يصل إلى قوله: (قد قامت الصلاة) فينهض ويقوم، والبعض يقول: هذا بحسب حالات الأشخاص، فهناك إنسان خفيف البنية سريع الحركة بمجرد أن يسمع الإقامة يكون قد نهض، ولا ينهض بعجلة وبخفة؛ لأن المقام مقام طمأنينة وسكينة، ولهذا السنة لمن سمع الإقامة وهو خارج المسجد ما جاء في الحديث: (فائتوها وعليكم السكينة والوقار، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم، فاقضوا أو فائتموا) ، ولا ينبغي الإسراع للصلاة لمن سمع الإقامة؛ لأن الإسراع قد يخل بالمروءة، وهو مذهب للخشوع والخضوع.
فإذا سمع الإنسان وهو في المسجد المقيم نهض إذا كان ثقيل الحركة كبير السن، ضعيف البنية، لو أنه انتظر حتى يقول: قد قامت الصلاة، ولربما كبر الإمام تكبيرة الإحرام وهو لم ينهض بعد، فهو أعلم بحالته، وتقدير ظروفه، وبالوقت الذي يبدأ بالقيام فيه حتى يكون قائماً مستوياً حينما يكبر الإمام تكبيرة الإحرام حتى لا تفوته تكبيرة الإحرام.
فقوله: (يا بلال! إذا أذنت فترسل) ، أي: تمهل، لا تسرع وتتعجل، (وإذا أقمت فاحدر) أي: فأسرع، وليكن هناك فرق بين أداء الأذان وبين أداء الإقامة؛ لأن لكل واحد منهما مهمة تتناسب مع كيفية الأداء، فالأذان نداء إلى البعيدين، فيحتاج إلى ترسل وإعطاء فرصة أكثر، والإقامة إعلام للحاضرين فلا حاجة إلى زيادة الوقت.
وقوله: (واجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله) ، هذا تحديد بواقع الحال، بحيث أن الإنسان لو كان على طعام وأذن المؤذن فلو أنه عجل بالإقامة لكان هذا الآكل بين أحد أمرين: إما أن يقضي حاجته ونهمه من طعامه فتفوته تكبيرة الإحرام وقد تفوته الركعة الأولى، وإما أن يترك الطعام ونفسه متعلقة به، وهذا يشوش عليه صلاته، كما جاء في الأثر: (إذا قدم العَشاء، وقامت العِشاء، فقدموا العَشاء على العِشاء) ، قالوا: هذا لمن كان جائعاً ونفسه متعلقة بالطعام، وأما إذا كان شبعان ولا يهمه أن يقدم العشاء أو يؤخر، فيقدم صلاة العشاء من باب أولى.
فهنا جعل صلى الله عليه وسلم بين الأذان والإقامة قدر ما يفرغ الآكل من أكله، وقد يقول إنسان: الناس يتفاوتون في طبيعة الأكل، فهناك من يأكل على تمهل فيتم المضغ للأكل ويشرب الماء، وهناك من يعجل، والعامة تقول: إذا أكلت فكل أكل الجمال، وإذا كذا فافعل فعل الرجال، يعني: لا تكن مثل بعض الناس أو صنف من الناس يستغرق الساعة والساعة والنصف في تناول الطعام، حديث وكلام وسمر وإلى آخره، لا، بل طبيعة وسط الناس.
وجاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقيم المقيم فيذهب أحدهم إلى الخلاء، ويقضي حاجته، ويتوضأ، ويأتي ويدرك النبي عليه الصلاة والسلام في الركعة الأولى، وقد يؤذن المؤذن فيذهب الذاهب إلى قضاء حاجته ويتوضأ وما قد قامت الصلاة.
وتقدم أنه كان صلى الله عليه وسلم، في صلاة العشاء أحياناً وأحياناً، إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم تأخروا أخر، مراعاة لظروف الناس، فإذا تعود جماعة مسجد معين أو قرية معينة شيئاً؛ روعي ظروف هؤلاء الجماعة، أما التشريع العام فأقل ما يكون بين الأذان والإقامة قدر ما يفرغ الإنسان العادي من طعامه، والله تعالى أعلم.(45/3)
استحباب الأذان على وضوء
قال المصنف رحمه الله: [وله عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله وسلم قال: (لا يؤذن إلا متوضئ) وضعفه أيضاً] .
هذا الحديث من أحكام الأذان، وهذه الصيغة صيغة الحصر، (لا وإلا) من أقوى صيغ الحصر، كأنه ينفي أذان غير المتوضئ، ولا يأذن لغير متوضئ، فمفهوم ذلك أن غير المتوضئ لا يؤذن، ولكنهم مجمعون -لضعف هذا الحديث- على أنه لو أذن غير المتوضئ فإن الأذان صحيح ولا يعاد، بخلاف الجنب، فإنهم يختلفون فيه: فمنهم من يقول: يصح أيضاً ولا يعاد، ومنهم من يقول: لا يصح الأذان مع الجنابة، ويقولون: الأمر هنا تعليم وإرشاد؛ لأن المؤذن بعد الأذان إنما ينتظر في المسجد، وينتظر مجيء الإمام ليقيم الصلاة، ويصلي مع الناس، ولا ينادي الناس للصلاة ويخرج ليتوضأ، فنحن لا نعرف متى يرجع، ولا ننتظر حتى يأتي، ومن أذن فهو يقيم، فهذا تعليم وإرشاد بحيث يكون متهيئاً للصلاة، لا يضطر إلى أن يخرج بعد أن يؤذن من المسجد ليتوضأ.
وقالوا: ونظير هذا أن من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ، قالوا: حمل الميت ليس حدثاً يوجب الوضوء، ولكنه من باب الإرشاد، بحيث أنه إذا حمل الميت وجاء ووضعه سواءً كان في المسجد أو كان عند المقبرة على خلاف في ذلك، وقاموا للصلاة عليه؛ فلا يحتاج إلى الوضوء فيحمله ثم يتخلى عنه عند الصلاة عليه! ولذا ينبغي أن يكون متوضئاً متهيئاً للصلاة عليه، أما إذا حملها وهو غير متوضئ فإن الناس يصلون عليه وهو لا يستطيع أن يصلي عليه، فيكون ذلك قصوراً منه، فوت على نفسه ثواب الصلاة على الجنازة، ويكون في صورة غير لائقة.
قالوا: وكذلك هنا: (لا يؤذن إلا متوضئ) ، فأجمعوا واتفقوا على أن المؤذن إذا أذن وهو على غير وضوء على حدث أصغر؛ فإن الأذان لا يعاد، واختلفوا لو كان جنباً، وفيما إذا أذن صبي دون البلوغ، وفيما لو أذنت امرأة، وفيما لو أذن غير مسلم، قيل: يعاد الأذان، ولا يعتد بأذان هؤلاء الأشخاص.
وبهذه المناسبة يتفقون أنه يجوز لو كان هناك خطيب للجمعة وإمام للصلاة، فلا مانع، وتصح الجمعة بخطيب على حده وإمام على حده، فيمكن أن يكون الخطيب غير إمام، وأن يكون الإمام غير الخطيب، فلو خطب وهو غير متوضئ لا تعاد الخطبة؛ لأنها مجرد ذكر وموعظة بخلاف الإمام، فلابد أن يكون على طهارة كاملة من الحدثين، فالمؤذن والخطيب يصح عملهما ولو كانا غير متوضئين، أما الجنابة فلا.(45/4)
المؤذن أحق بالإقامة
قال المصنف رحمه الله: [وروى زياد بن الحارث رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ومن أذن فهو يقيم) وضعفه أيضاً] .
هذا أيضاً من باب التعاليم والآداب في الأذان، من أذن فهو يقيم، وهذه الحكمة واضحة عندما نكون جالسين في المسجد ونسمع المؤذن، وعلمنا بدخول الوقت، ومن أراد أن يتنفل نافلة قبلية تنفل، ثم بعد ذلك سمعنا إنساناً آخر يقيم الصلاة فإنه يلتبس علينا: هل هذه إقامة الصلاة بعد الأذان الذي سمعناه أم هو أذان في مسجد آخر؟ أما إذا كان نفس المؤذن هو الذي يقيم فإننا قد علمنا من هو بأذانه الأول عندما دخل الوقت.
ويمكن أن يكون للإقامة شخص آخر فيكون أدعى لمعرفة الإقامة أن الأول أذان والثاني إقامة، وسيأتي عن عبد الله بن زيد أنه لما رأى الأذان تطلع أن يكون مؤذناً؛ لأنه هو صاحب القضية، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (قم فأمله على بلال فإنه أندى منك صوتاً قال: اجعلني أقيم.
قال: أقم) ، ويقولون: هذه الرواية وإن كان فيها ما فيها، فهي أول مرة استجابة لطلبه وتطييب لخاطره، ولكن بعد ذلك الذي يؤذن هو الذي يقيم، واتفقوا أنه إذا أذن إنسان وأقام آخر وصلوا الصلاة بتلك الإقامة أن الإقامة صحيحة، ولا تحتاج إلى إعادة.
مثلاً: المؤذن كان له عذر ولم يستطع أن يقيم الصلاة، فأناب غيره ليقيمها، حتى الإمام يجوز أن يقيم الصلاة بدل المؤذن أو أي أحد من الحاضرين يجوز أن يقيم الصلاة بدل المؤذن، ثم إذا حضر المؤذن فلا حاجة إلى إعادة الإقامة من المؤذن؛ لأنه سقط حقه في غيبته أو في عدم تقدمه ابتداءً.
إذاً: الأولى والسنة أن من أذن فهو يقيم، ولو قدر أنهم قدموا شخصاً آخر ليقيم الصلاة؛ لأن المؤذن كان على غير وضوء أو انتقض وضوءه فذهب ليتوضأ، وغاب علينا وأراد الإمام وهو أملك بالإقامة أن يقيم الصلاة؛ فإنه يقدم شخصاً من الحاضرين ليقيم الصلاة في غيبة المؤذن الذي كان له حق الإقامة، ثم لا تقام الإقامة بعد حضوره.(45/5)
حكم إقامة الصلاة لغير المؤذن
قال المصنف رحمه الله: [ولـ أبي داود من حديث عبد الله بن زيد أنه قال: (أنا رأيته) ، يعني: الأذان (وأنا كنت أريده) ، قال: (أقم أنت) وفيه ضعف أيضاً] .
هكذا رواية عبد الله بن زيد أنه لما رأى ألفاظ الأذان في المنام أو كما يقول الأحناف: تلقاه عن ملك، على الخلاف في الرواية؛ لأن رواية عبد الله بن زيد فيها: (رأيت كأني وأنا في النوم أقول: نائم ولست بنائم) .
يعني: بين المنام واليقظة، في حالة بين وبين، فالأحناف حملوا هذه الحالة على أن الرجل الذي رآه عبد الله بن زيد لابساً حلة خضراء ويحمل كذا وكذا أنه ملك نزل ليعلم عبد الله ألفاظ الأذان، وسواءً كان ملكاً أو كانت رؤيا منام، فالرؤيا الصالحة جزء من ست وأربعين جزءاً من النبوة، فلما أجرى الله سبحانه وتعالى هذه السنة على يده، وأراه إياها، رأى أن لنفسه حقاً فيها، وقال: (كنت أريده) ، أي: كنت أريد الأذان؛ لأنه شرف عظيم وفضل كبير، وقد قال عمر: لولا الإمامة لكنت مؤذناً، أو لو كنت أستطيع الأذان لأذنت، فالمؤذن يشهد له كل من سمع صوته من شجر وحجر ومدر، والمؤذنون أطول الناس أعناقاً، ويوجد آثار كثيرة في فضل المؤذنين.
فكان يريده لنفسه لأنه الذي رآه، ولكن كونه الذي رآه شيء، وموضوع الأذان شيء آخر، فموضوع الأذان إعلام، والأحق بالإعلام من كان أندى صوتاً، أما كونك رأيته وصوتك دون صوت بلال في ارتفاع الصوت أو النداوة أو القبول أو الصيغة وحسن إصغاء الناس إليها فهذا أدعى لأن يتولى هو الأذان؛ لأنها صفات ذاتية في الأذان، وكونك أنت رأيته يكفيك شرفاً وفضلاً، أما أداء الأذان بذاته فنحن نريد الإعلام، والإعلام أحق به من كان أندى صوتاً، وهذا من وضع الشيء في موضعه، لكن من حقه أن يتطلع، فقال له صلى الله عليه وسلم: (أقم أنت) ، يعني: نحن جعلنا الأذان لـ بلال لأنه أندى منك صوتاً، وهذا هو الوصف المناسب للحكم، وأما أنت لكونك رأيته وتتطلع إليه فأقم، والإقامة شريكة الأذان، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم سماها أذاناً في قوله: (بين كل أذانين صلاة) ، وهما الأذان والإقامة، والإقامة تكون بألفاظ الأذان.
إذاً: من أذن فهو يقيم، وعبد الله بن زيد تطلع للأذان فجعله عليه الصلاة والسلام أن يقيم وبلال يأذن، ومن هنا قالوا: لو أقام غير المؤذن صحت الإقامة ولا تعاد.(45/6)
المؤذن أملك بالأذان والإمام أملك بالإقامة
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤذن أملك بالأذان، والإمام أملك بالإقامة) ، رواه ابن عدي وضعفه، وللبيهقي نحوه عن علي رضي الله عنه من قوله] .
هذا يمكن أن نسميه توزيع المسئولية وتوزيع الاختصاصات، نحن نعلم بأن الإمام من حيث هو أعلى منزلة من المؤذن، الأجر لا نتكلم عليه هنا، لكن المنزلة في الدين أو المنزلة في الناس فإن الإمام أعلى منزلة من المؤذن، ولهذا يقولون: النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم كانوا يؤمون الناس في الصلاة ولم يكونوا مؤذنين.
فالمؤذن أدنى مرتبة من الإمام، ولكن كما في الحديث: (المؤذن مؤتمن، والإمام ضامن) ، فهم أمناء على الوقت؛ لأنهم مع التكرار والتعود أصبحوا يعرفون الوقت بسرعة ولو لم تكن هناك آلة، ولو لم تكن هناك وسيلة لقياس الزمن، مع أن مقاييس الزمن معروفة من قبل بالظل، فإذا كان المؤذن كل يوم خمس مرات يتتبع الأوقات، يتتبع طلوع الفجر، ويتتبع زوال الشمس، ويتتبع ظل كل شيء مثله، ويتتبع الغروب، ويتتبع غياب الشفق، في كل الأوقات الخمسة؛ فهذا أنه بعد شهر يصير هذا شيء جبلي عنده، حتى لو نظر إلى الأفق ونظر إلى الساعة فاختلفا فإنه يقدم الأفق على الساعة.
وكان الأفق أضبط عنده من الساعة.
إذاً: المؤذن أمين على الوقت.
ومن هنا: إذا سمعنا المؤذن يؤذن لا نحتاج إلى بينة على دخول الوقت، وعلى صحة الصلاة، وعلى الإمساك في الصيام، وعلى الإفطار في رمضان؛ لأننا نكون جالسين في المسجد، وما رأينا هل الشمس غربت أو لم تغرب ما ندري، حتى الساعة في أيدي الناس هذه تقدم دقيقتين وهذه خمس وهذه تؤخر، وهذه كذا، لكن حينما نسمع المؤذن نلغي هذه الساعات التي تقدم والتي تؤخر، وما نسأل فيها، وعندنا المؤذن أمين على صيامنا بوقت دخول الفطر، وكل الذين في المسجد من آلاف مؤلفة، ومن في البيوت من حريم ورجال وصغير وكبير يأتمنون المؤذن على دخول الوقت، ويأتمنونه على الإفطار.
وبعض العلماء يذكر هنا مسألة أصولية وهي: أن قبول خبر المؤذن وائتمان المؤذن على الوقت، وترتيب الأحكام الشرعية من صلاة وإمساك وإفطار على أذانه؛ يعتبر أقوى دليل على قبول خبر الواحد؛ لأن المؤذن شخص واحد، والأمة كلها تقبل خبره، وتعمل به، فتؤدي الصلاة والصلاة لا تؤدى إلا في وقتها، ويمسك عن الطعام من أجل الصيام فيحرم ما أحل الله، ويفطر ويأكل ويستحل ما كان حراماً، وكل ذلك بخبر الواحد، فقالوا: إن قبول المؤذن في إخباره عن الوقت وائتمانه عليه أقوى دليل في قبول خبر الواحد عند الأصوليين، والله تعالى أعلم.(45/7)
مشروعية توزيع الاختصاصات وترتيب الأمور
هنا المؤذن أملك بالأذان، وأمين على الوقت، والإمام أملك بالإقامة، فالإمام هو الذي يرى أن نقيم الصلاة الآن أم ننتظر بعض الناس المتأخرين قد يرى أن نقدم الإقامة إذا كان في المسجد جماعة من النسوة معهن الأطفال، وسمع الصراخ، والصياح أو هناك شيء حدث ويحتاجون إلى أن يعجلوا الصلاة.
إذاً: الإمام الذي يملك أن نقيم الآن أو نتأخر، نتعجل بالإقامة في أول وقتها أو نؤخرها.
ويقولون: إذا اختلف الإمام والمؤذن في الوقت، فقال الإمام للمؤذن: قم فأذن، قال: لا، الوقت ما جاء، هل نأخذ بكلام المؤذن أم بكلام الإمام؟ المؤذن؛ لأن هذا اختصاصه، والإمام ما هو ضابط للوقت كضبط المؤذن، ولو أنهم اتفقوا وأذن المؤذن ثم بعد فترة قال الإمام: يا مؤذن! أقم الصلاة، قال: لا، انتظر، نأخذ بكلام الإمام؛ لأن الإمام أملك بالإقامة، كما أن المؤذن أملك بالوقت، وهذا نسميه توزيع الاختصاص، حتى لو كنا في عمل دنيوي فهناك ذوي اختصاص في جانب من الجوانب، فينبغي أن نقدم من كان اختصاصه في هذا الموضوع ولا نحابي في ذلك.
وفي السنة النبوية: (أعرفكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضكم زيد، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة) وقال لـ ابن العباس: (اللهم! فقهه في الدين، وعلمه التأويل) فإذا اختلفوا في فريضة من الميراث فالمقدم رأي زيد، بالرغم أن فيهم أبو بكر وعمر، وهم أفضل منه، لكن هو مختص بذلك، وكذلك لو اختلفوا وتنازعوا في حلال أو حرام فرأي معاذ مرجح.
ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبني المسجد النبوي البناية الثانية، وكان ذلك بعد عودته من خيبر، وكان المسجد الأول (60×70) ذراعاً، وكان من جذوع النخل كما تعلمون، وكثر الناس، فأراد أن يوسع المسجد إلى أن صار (100×100) ، وكان هناك رجل من بني حنيفة وفد إلى المدينة، فرأى رجلاً من الأنصار يخلط الطين بالتبن، فلم يعجبه عمله فقال: أرني وأخذ منه المسحاة، وأخذ يخلط الطين، والرسول صلى الله عليه وسلم ينظر فقال: دعه لهذا العمل فإنه أعرف به منك، وهذا إسناد العمل للمختص فيه.
فلو جاءنا مهندس معماري وعنده مشروع زراعي، وعنده رجل خبير في الزراعة بدون دراسة، فهل يقدم المهندس المعماري أو الفلاح الخبير المجرب عشرين أو ثلاثين سنة؟ الفلاح الذي اكتسب الخبرة والتجارب، وكذلك العكس لو عنده مشروع معماري، وجاءنا مهندس زراعي، وجاء معلم من المعلمين العاديين واختلفوا، وكل له وجهة نظر فمن نقدم؟ نقدم المعلم الذي له تجارب عشرين ثلاثين أربعين سنة في البنيان، وهذا مهندس زراعي تخصصه في الزراعة.
إذاً: توزيع الاختصاصات من صميم الإسلام، كذلك التخصص في مادة دنيوياً أو أخروياً إلا أن تخصص المادة العلمية اليوم فيه جوانب سلبية، فالطالب درس الابتدائي والمتوسطة والثانوي على قدر في العلوم، وجاء إلى الكلية ودرس منهج الكلية، والكلية قد تكون نظرية كالجامعة الإسلامية، لأن دروسها كلها نظرية، وليست عملية، وقد تكون عملية، مثل: كلية هندسة، كلية طب، مكنيكا، كهرباء، فهذه أشياء عملية، فهو يدرس ويطبق بالعمل، فإذا كانت هذه الحالة، ودرس المنهج العام ثم أراد أن يتخصص في فن من الفنون أو علم من العلوم ففي الجامعة الإسلامية -مثلاً- كلية الشريعة، فيها أصول وفقه وتفسير وحديث ومصطلح، فأراد أن يتخصص في مادة من تلك المواد الرئيسية بخلاف المواد الفرعية.
مثل: النحو والصرف والبلاغة، فهي في كلية الشريعة فرعية وليست أصلية، ولا يقبل من خريج الشريعة أن يتخصص في اللغة؛ لأن اللغة أساسية في كلية اللغة، وأما الحديث والتوحيد والتفسير فهي علوم فرعية في كلية اللغة، وهكذا.
إذاً: لكل كلية منهجها ودروسها الأساسية والتكميلية، فإذا كان الطالب في كلية الشريعة وأراد الماجستير في أصول الفقه فهذا من حقه، والناحية السلبية هي أن يكرس جهده كله في أصول الفقه ويكون ذلك على حساب المواد الأخرى من فقه وحديث وتفسير، فلا يكون مبرزاً في بقية المواد كما هو مبرز في مادة الأصول، وهذه ناحية سلبية بالنسبة للمواد الأخرى، وحينما كان عدد الطلاب محدوداً كان يتعين على كل متخرج أن يكون مبرزاً في جميع المواد التي في الكلية، ولما كثر المتخرجون وازداد العدد فلا مانع أن نخصص هذا في الأصول، ونخصص هذا في الفقه، ونخصص هذا في الحديث، ومن مجموع المتخصصين يكون عندنا منهج تخصصي في مواد الكلية كلها.
وينبغي على الطالب في ذاته إن اختار مادة يتخصص فيها ألا يغفل، بقية المواد؛ لأنه كما كان يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: العلوم أقران.
فالأصولي لا يستغني عن الفقه للتشبيه والتمثيل والبيان، والفقيه لا يستغني عن أصول الفقه ليبني ويستنبط على أصول الأحكام، وكل منهما لا يستغني عن الحديث؛ لأنه مرجع لاستنباط الأحكام، وكذلك التفسير.
إذاً: المؤذن أملك بالوقت، والإمام أملك بالإقامة، وهذا من توزيع الاختصاصات، فكل في حده، وكل في مجاله، والله تعالى أعلم.(45/8)
الترغيب في الدعاء بين الأذان والإقامة
قال المصنف رحمه الله: [وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة) رواه النسائي وصححه ابن خزيمة] .
هذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم أنه لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة، وهل هذا أسلوب حصر كالأساليب المتقدمة أو خبر عار عن الحصر؟ لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة، هل تعرض لأوقات أخرى؟ ما تعرض لها.
إذاً: هذا إخبار بالنسبة لموضوع الباب، وهو الأذان والإقامة، وهناك مواطن كثيرة جداً يستجاب فيها الدعاء، كالساعة التي في يوم الجمعة عند صعود الإمام إلى المنبر إلى الفراغ من الخطبة والصلاة، وفي الثلث الأخير من الليل، ودعاء المظلوم، وفي حالة عمل الخير وعمل البر، وعقب ختم القرآن، فلكل ختمة دعوة مستجابة، ويوم عرفة، وليلة الجمعة، وليلة العيدين، وكل هذه مواطن يستجاب فيها الدعاء، ولكن المؤلف هنا أتى بما يتعلق بالأذان والإقامة.(45/9)
الدعاء بعد الأذان
قال المصنف رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قال حين يسمع النداء: اللهم! رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة) أخرجه الأربعة] .
هذا تتمة الحديث المتقدم: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، ثم سلو الله لي الوسيلة، فمن سأل الله لي الوسيلة كنت له شفيعاً يوم القيامة) ، فهنا يعطينا الصيغة التي بها نسأل الله الوسيلة له صلى الله عليه وسلم، (من قال حين يسمع الأذان) ، أي: وقال مثلما يقول المؤذن وصلى علي ثم قال: (اللهم! رب هذه الدعوة) ، الدعوة إلى الصلاة، أنت تدعو: حي على الصلاة والفلاح فهذه دعوة تامة.
(والصلاة القائمة) ، هذه الصلاة عماد الدين، ومكانتها عند الله عظيمة.
(آت محمداً) ، في هذا الحديث لفظ محمد مجرد عن السيادة، وبعض العلماء ينظر بعمق ويقول: نحن نسأل له، والمسئول له يجب أن يكون في مقام التواضع مع المسئول، فهل عندما نسأل له الوسيلة نسيده ونعظمه وهو سيد وعظيم أم أن المناسب للمقام -مع تكريم النبي صلى الله عليه وسلم- أن نقول كما قال صلى الله عليه وسلم: (آت محمداً الوسيلة) ؟ المناسب الثاني، وحينما يكون المقام مقام تكريم وتعظيم فلا بأس بذكر السيادة، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا وسيد العالمين وسيد الثقلين أجمعين محمد صلى الله عليه وسلم.
لا مانع من ذلك لكن هنا: (آت محمداً الوسيلة) ، وقد بين صلى الله عليه وسلم أنها منزلة رفيعة في الجنة لا تنبغي إلا لشخص واحد، قال: (وأرجو أن أكون أنا هو) .
إذاً: هذه الصيغة التي نسأل الله له بها الوسيلة.
الدعوة التامة بكل أركانها، وتامة بكل تشريعاتها، لا نقص فيها أبداً، في هيئتها في أدائها في مهمتها، وما يعود على الإنسان منها فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتعين على نوائب الدهر.
(الوسيلة) ، أي: تلك المنزلة الرفيعة.
(والمقام المحمود الذي وعدته) ، المقام المحمود هو مقام الشفاعة العظمى حينما يعتذر عنها جميع الأنبياء آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام، ويتقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشفع لهم عند رب العزة سبحانه، حتى يأتي لفصل القضاء، فتكون شفاعة شاملة للأمم مع أنبيائهم، وهو المقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون صلوات الله وسلامه عليه.
قال: (حلت له شفاعتي) ، هذا وعد منه صلى الله عليه وسلم أن من فعل ذلك استحق شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونسأل الله حسن الختام بحسن ختام هذا الحديث الذي فيه إرهاص بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، ونسأل الله أن يكرمنا وإياكم جميعاً بشفاعته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(45/10)
كتاب الصلاة - باب شروط الصلاة [1]
من شروط الصلاة: طهارة البدن واللباس والمكان الذي تصلي فيه، ويجوز الصلاة بالنعلين الطاهرتين إذا لم يكن هناك مانع مثل أن يكون المسجد مفروشاً ويخشى تضرر الفراش بالنعال، أو إذا كانت الصلاة بالنعال ستسبب فتنة وخلافاً.(46/1)
مسائل في الصلاة(46/2)
طهارة النعلين من الأذى والمراد به
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه فطهورهما التراب) أخرجه أبو داود، وصححه ابن حبان] .
تقدم شيء من الكلام على الصلاة في النعلين، وجاء المؤلف رحمه الله تعالى تبعاً لذلك بهذا الحديث، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وطئ أحدكم الأذى بنعليه فطهورهما التراب) ، والحديث المتقدم هو: (إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر أسفل نعليه، فإذا رأى أذى أو قذراً فليمسحهما في التراب وليصل فيهما) ، وهما دليلان على طهارة النعل بالمسح بالتراب.
والأذى والقذر حمله بعض العلماء على النجاسة، والتحقيق أنهما أعم من كونهما نجسين، قال البيهقي: يحتمل أن يكون الأذى من الطاهر المستقذر، كما يقولون عن الطين الذي في الطريق: هو أذى مع أنه طاهر.
وقال الشافعي رحمه الله: اليابس من القذى أو الأذى أو ما هو أخص كالنجاسة يطهر إذا ذهبت منه العين، وذهب اللون، وذهبت الرائحة.
أما إذا كان النعل به أذى أو قذى -على المعنى الأعم أو المعنى الأخص- رطباً فيقول الشافعي رحمه الله: لا يطهره إلا الماء.
وجاء عن مالك رحمه الله تعالى أن الحديث محمول على ما يستقذر في اليابسات، فإذا مر على يابس مستقذر وعلق شيء منه، فإنه إذا مر على يابس آخر طهره، كما جاء في إطالة ذيل ثوب المرأة، فإن اليابس الآخر الطاهر سيستخلص ما علق بذيل المرأة من الأذى أو القذى اليابس، ولن يبقى شيء هناك.
وقد حكى مالك رحمه الله الإجماع على أن النجاسة لا تطهر إلا بالماء، خلافاً للإمام أبي حنيفة رحمه الله الذي يقول: إن كل مائع طاهر يزيل النجاسة لأن النجاسة عنده حكم ظاهر المراد إزالة عينها، والجمهور أنه تعبدي، ولا يستعمل في إزالة النجاسة إلا الماء، ومن هنا قال البيهقي: يحتمل أن يكون الأذى أو القذى هو كل طاهر مستقذر.
ويقول الآخرون: لو أن إنساناً لم يلبس النعل، ومشى حافياً، ووطئ الأذى أو القذى، وكان في هذا الأذى أو في هذا القذى نجاسة، فهل تطهر قدمه بدلكها في التراب، أم يتعين عليه غسلها؟ قالوا: إن النجاسة في الثوب والبدن لا يزيلها إلا غسلها بالماء، وكذلك النجاسة إذا كانت معروفة بالحواس، فإما أن تعرف بالرؤية بلونها، أو بالشم برائحتها، أو بالجرم بالعين، فلا بد من إزالة عينها وإزالة رائحتها وإزالة لونها، وإلا فلا يصح أن يصلي بهذه النعل.(46/3)
حكم الصلاة في النعلين
هذا الموضوع يهم في الدرجة الأولى طلبة العلم؛ لأن العامة لا يصلون في النعلين تحرجاً، والذي يفعل ذلك -خاصة في هذه الآونة- هم بعض الإخوة طلبة العلم؛ لحديث: (خالفوا اليهود وصلوا في النعال) ، وحديث: (إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر أسفل نعليه) ، وفيها أمر بالصلاة في النعلين.
وأنبه إلى الرجوع في هذا إلى معالم السنن، وإلى شرح السنة، أو إلى سنن أبي داود، أو إلى سنن الترمذي، أو إلى فتح الباري، أو إلى شرح ابن دقيق العيد للعمدة فسنجد حديث أنس رضي الله تعالى عنه أنه سئل: هل صلى النبي صلى الله عليه وسلم في نعليه؟ فقال: نعم.
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من شاء فليصل في نعليه، ومن شاء فليخلعهما) ، وعلقوا على ذلك لأن هذا ناسخ للأمر الذي جاء في حديث: (إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر أسفل نعليه) ، قالوا: (فليصل) هنا أمر، نسخه عن الوجوب قوله: (إن شاء) .
قال ابن دقيق العيد في مبحث دقيق نقله عنه ابن حجر في فتح الباري: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم المسجد) ، وكذلك ما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، حيث كان في فتح مكة -وقيل: بالمدينة- فقرأ بأول سورة المؤمنون، وأخذته كحة فاختصر القراءة، وقد أمره جبريل أن يخلع نعليه فخلعهما، فخلعوا نعالهم، فلما سلم قال: (ما حملكم على خلع نعلكم؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا.
قال: أما إنه أتاني جبريل عليه السلام فأخبرني أن في نعلي أذى فخلعتهما) ، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر.
إلخ) ، فهذا تتمة لحديث جبريل عليه السلام.
قال بعض العلماء: جبريل عليه السلام أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك بعد أن دخل في الصلاة، وفي رواية من هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم لما خلع نعليه جعلهما عن يساره، ثم قال: (إذا خلع أحدكم نعليه وصلى فلا يجعلهما عن يمينه، ولا عن يساره فيؤذي بهما جاره) ، وفي بعض الروايات: (لا يجعلهما عن يمينه ولا عن يساره فتقع عن يمين جاره) ، وعلّق على ذلك الخطابي بأن هذا من باب احترام الجوار، واحترام الصلاة.
لذا ينبغي أن يجعل الإنسان في الجانب الأيمن أفضل النعلين.
قال صلى الله عليه وسلم: (وليجعلهما بين قدميه) ، فهذه هي السنة في وضع النعلين، فإذا كان يريد ابتداءً أن يصلي، ويريد أن يضع النعلين فلا يضعهما عن يمينه؛ لأن هذا -كما يقال- ليس من الاحترام الكامل، ولا عن يساره فيأتي أحد فيصلي بجواره فتكون نعليه عن يمين هذا المصلي فيؤذيه بها، ولا تلقاء وجهه؛ لأنه إذا سجد ستكون أمامه، فيكون هذا المنظر غير لائق بالصلاة، ولكن ليجعلهما بين قدميه.
قالوا: هناك جزء مضى من الصلاة قبل أن يخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء جبريل وأخبره بالأذى، فلو قدرنا أن الأذى كناية عن النجاسة فكيف يُقَرُّ النبي صلى الله عليه وسلم وقد أوقع جزءاً من صلاته وهو متلبس بنجاسة، وكان الأولى أو الأنسب أو المتوقع أن يبادر جبريل عليه السلام فيخبره قبل أن يدخل في الصلاة بتلك النجاسة؛ لأن الأكمل في حقه صلى الله عليه وسلم أن يكون أطهر وأبعد من هذا كله؟ قالوا: كلمة (أذى) لا تحمل على النجاسة؛ لأنها لو كانت نجاسة لكان النبي صلى الله عليه وسلم في ابتداء الأمر صلى بنجاسة، وهذا لا يليق، ولا تصح الصلاة به، وكذا قال البيهقي في السنن: يحتمل قوله: (قذى أو أذى) أنه طاهر يستقذره الناس، أو طاهر مستقذر.
قال ابن دقيق العيد: قوله في الحديث: (فليحتهما، وليصل فيهما) ليس دليلاً على استحباب الصلاة في النعلين، وإنما هو إباحة بمعنى الرخصة، وقال: أما كونه مستحباً فليس بوارد؛ لأنه ليس من الزينة التي أمرنا بأخذها عند المساجد في قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] ، فإن كان داخلاً في معنى الزينة فهو مطلوب ومستحب، ولكن النعل يلامس الأرض، ويخالط الأذى والقذى، فيضعفه ذلك عن منزلة الاستحباب، ولا يدخل في الآية.
وقال: إن إزالة النجاسة هي المرتبة الأولى في التشريع؛ لأنها من درء المفاسد، ودرء المفاسد إنما هو في الضروريات كما يقال، وأخذ الزينة هو الدرجة الثانية، والتشريع يدور حول درء المفاسد وجلب المصالح من التحسينيات والكماليات إلى كل ركن في الإسلام.
والاستحسان يدخل في جميع العبادات، وهو الترقي بتلك العبادة، فمن باب الاستحسان أخذ الزينة، وكمال اللباس، والعناية بالنظافة، وطهارة الثياب والمكان طهارة كاملة، وقد جاء في الحديث: (ما على أحدكم أن يتخذ ثوبين للجمعة سوى ثوبي مهنته) ، وكذلك أن يغتسل، وأن يتطيب، فهذا استحباب، والأصل هو صلاة الجمعة.
فدرء المفاسد بتجنب النجاسات هو درجة أعلى، وأشد طلباً من درجة الاستحسان والكمال، فالحفاظ على ترك النجاسة أولى في التشريع وأهم من الحفاظ على الزينة في اللباس.
قال: فليس هناك داعٍ إلى الصلاة في النعلين، إلا إذا كان داخلاً في عموم قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] ، وهذه هي الدرجة الثانية في التشريع، وتجنب النجاسة هي الدرجة الأولى في التشريع.
قال: وعلى هذا فليس في الحديث ما يدل على استحباب الصلاة في النعلين، والنبي صلى الله عليه وسلم لما سئل قال: (إن شئت فاخلعها، وإن شئت فصل فيهما) .
ونحن في هذه المسألة بحاجة إلى التوسع والاستقصاء؛ لما يحدث فيها من أخذ وعطاء مع بعض الإخوة الغيورين على السنة، وهم يقولون: إن التعليل هو قوله عليه الصلاة والسلام: (خالفوا اليهود وصلوا في النعال؛ فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا في خفافهم) .
فما دام ان ابن دقيق العيد يقول: الصلاة في النعلين ليست مستحبة، وغيره يقول: هي مسنونة -كما قال الشوكاني الذي جمع كل هذه الأقوال التي أشرت إلى مراجعها، وانتهى إلى أن الأصل المشروعية- فنقول: الأصل جواز الصلاة في النعلين، وهي مشروعة، ولكن مع التحفظ من وجود أذى أو قذى، ولو كان لابس الخفين وفوق الخفين نعلان يباشر بهما الأرض فإنه يصلي بالخفين ولا غبار على ذلك، ولا أحد ينكر عليه.
أما النعلان اللذان يباشر بهما الطريق، ويدخل بهما بيت الخلاء فإنه قد يتساهل في نظافتهما، ولا يكفي أن ينظر فيهما ويحتهما في التراب، فهل هو بهذا الحت قد طهرهما؟ فالأئمة رحمهم الله اختلفوا في تحقيق المناط في تطهير النعلين بالحت حتى ذهاب عينها وذهاب لونها وذهاب رائحتها، وهناك من يقول: هذا في اليابسات وهناك من يقول: يحتمل أن يكون هذا في الطاهر المستقذر.
فالأحوط أنه لا حاجة إلى الإصرار على الصلاة في النعلين، مادام أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى منتعلاً وصلى حافياً، أي: صلى على كلتا الحالتين.
ولو أن إنساناً في سفر نزل في أرض فلاة وهو بنعليه، فنظر فيهما فلم يجد فيهما أذى ولا قذى، ولا يستطيع أن يصلي على الحصباء؛ لأنه يتأذى من ذلك فنقول: يصلي في نعليه لهذه الحاجة، ولا مانع من ذلك، فإذا لم يكن هناك حاجة فليخلعهما.
فالصلاة في النعلين رخصة يباح فعلها، والرخصة معللة بقوله: (خالفوا اليهود) ، فهل نقول: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؟ أشرنا أنها لا تدخل تحت هذه القاعدة؛ لأنه ليس هناك الأمر المطلق بالصلاة في الخف، وإنما لعلة بذاتها، والذي يهمنا الآن هو تنبيه الإخوة ألا يجعلوا هذه المسألة مثار خلاف ونزاع بينهم.
ومن الحكمة النبوية الكريمة أنه صلوات الله وسلامه عليه كان يترك الأمر الذي يحبه ويتقرب بفعله لما يترتب عليه من مفاسد أخرى، ومن ذلك حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعلى عنها عندما سألته أن يدخلها الكعبة لتصلي فيها، فأخذ بيدها وقال: (صلي في الحجر؛ فإنه من البيت) ، وذكر أن قومها قصرت بهم النفقة عن إقامة الكعبة على قواعد إبراهيم، فتركوا من البيت جزءاً حجروا عليه حتى لا يضيع في المسح، ثم قالت: ما بال الباب مرتفعاً؟ قال: (ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا، ولولا حداثة قومك بكفر لهدمت الكعبة، ولأقمتها على قواعد إبراهيم، ولجعلت لها بابين: باب للداخل، وباب للخارج، وسويتهما بالأرض) ، فهو رغب أن يجعل الكعبة على تلك الحالة، ولكن ترك ذلك مراعياً ما يترتب عليه من رد الفعل في نفوس قريش؛ لأنهم كانوا حدثاء عهد بشرك.
وكذلك لما شرب من بئر زمزم قال للسقاة: (انزعوا يا بني عبد المطلب؛ فلولا أن يغلبكم الناس لنزعت معكم) ، فرغب أن يأخذ الدلو ويسقي نفسه، ولكن خاف أن يأتي كل مسلم فيقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نزع بالدلو فأنا أنزع مثله، فإذا أراد جميع الحجاج أن ينزعوا بالأدل فيسغلبون السقاة على زمزم.
فكان صلى الله عليه وسلم يترك الشيء الذي يرغب فيه خوفاً مما يترتب عليه، وهذا يسميه علماء الأصول سد الذرائع، وهو ترك الجائز مخافة الوقوع في الحرام، والأصل فيه من كتاب الله قوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] ، فلو أنكم سببتم أصنامهم فهذا ليس فيه مانع، وهي تستحق ذلك، ولكن إن فعلتم ذلك فنتيجة ذلك أن يسبوا الله، فلو أنكم سببتم آلهتهم سبوا إلهكم.
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا: وهل يسب الرجل أباه؟ قال: نعم.
يسب أبا الرجل فيسب أباه) ، فهو السبب في سب أبيه.
وأذكر قصة لشخص أشهد الله أني أراه على الفطرة، وهو إنسان فيه خير كثير، وكانت مخالطته للناس قليلة، وكان يحافظ على الصلوات جماعة، وكان يلبس نعلين كبيرتين ويصلي بهما، وكان معه عصا منحنية يتوكأ عليها، ففي يوم من الأيام في صلاة العصر صلى بجانبي، وعكس ا(46/4)
حكم الكلام في الصلاة
قال رحمه الله تعالى: [وعن معاوية بن الحكم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) رواه مسلم] .
هذا من بيان شروط الصلاة، فلا تصح الصلاة إذا وقع فيها كلام الناس، ويراد بكلام الناس الكلام الذي منشأه من الناس، وإلا فالناس يتكلمون بالتسبيح والتكبير وغير ذلك مما أصله من التشريع، بأن يكون نصاً قرآنياً، أو حديثاً نبوياً، فإذا قرأ الإنسان القرآن فهذا كلامه، والأصل فيه أنه كلام المولى سبحانه، وهذه قضية عقدية لها مكانها.
ونعلم جميعاً أنه إذا قال إنسان: (اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم) فهذا ليس من كلام الناس؛ لأن الله أمر بأن تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وإن اختلفت الصيغ فالأولى أن يتحرى الإنسان الصيغ الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أنواع الصلاة الإبراهيمية في تشهد الصلاة.
فكلام الناس هو ما أنشأه الناس من عندهم، وإذا جئنا إلى بعض المواطن نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد المصلي في سجوده أن يجتهد في الدعاء، فقال: (أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء) ، فالدعاء قد يكون من كتاب أو سنة، وقد يكون من كلام الإنسان يسأل الله حاجة له خاصة، فيقول: اللهم! اشف ولدي اللهم! نجح ولدي، اللهم! رد علي غائبي بخير.
فهذا كلام الإنسان في مصلحته الشخصية، وعموم الدعاء مطلوب ومشروع، قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] ، والنبي صلى الله عليه وسلم أوصى ورغب الإنسان أن يدعو الله في السجود.
قال بعض العلماء: يجوز أن تدعو الله بما ورد في الكتاب على تأويل الدعاء، لا على تأويل التلاوة، فتقول -مثلاً-: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ... ) ، (رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي، وأن أعمل صالحاً ترضاه، وأصلح لي في ذريتي، إني تبت إليك وإني من المسلمين) .
فهذه ألفاظ دعوات يأخذها الإنسان من الكتاب، ويتكلم بها لا على أنها تلاوة، ولكن على أنها دعاء وطلب.
ولهذا فإن الجنب والحائض إذا أتيا بهذه الألفاظ من الأدعية من الكتاب وهما لا يريدان تلاوة، وإنما يريدان التعبد بالدعاء بهذه الألفاظ فلا مانع، وإن كان الجنب والحائض يمنعان من تلاوة القرآن، كما قال علي رضي الله تعالى عنه: (لا، ولا حرفاً واحداً) .
فكلام الناس المراد به ما عدا ما شرعه النبي عليه صلى الله عليه وسلم من التسبيح والتحميد والتكبير؛ لأن المصلي يحمد الله، سواءٌ كان في الفاتحة، أم عند الرفع من الركوع، والتسبيح يكون في الركوع وفي السجود، وهذا من كلامه، فيسبح الله ويحمد الله.
والمنهي عنه في الصلاة هو ما يبينه الحديث الذي يأتي بعده: (يكلم أحدنا صاحبه في حاجته) ، كأن يقول: أين كنت أمس؟! وكيف حال المريض الذي كان عندكم؟! وما هو السعر اليوم في السوق؟ وهل فلان أتى أم لم يأت؟ فكلام الناس هذا الذي في مصلحة الناس لا دخل له في العبادة، ولا يجوز في الصلاة.
وقد كانوا يتكلمون في الصلاة فنهوا، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير ... ) إلخ.(46/5)
الدعاء بما لم يرد
مسألة: هل للمصلي أن يسأل الله في قنوته أو في سجوده بما أراد، أو يتقيد بما هو وارد؟ بعض المالكية يقول: ما هو مشروع في العبادة يتقيد به، كالقنوت في الصلاة، والقنوت في النوازل، فينبغي أن يتقيد القانت بما ورد من الدعاء في تلك المناسبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يدخل من كلام الناس شيئاً؛ لأن القنوت عبادة.
وهناك من يقول: ما دام الباب باب دعاء فله أن يدعو بالمناسب، والرسول صلى الله عليه وسلم قنت شهراً يدعو على رعل وذكوان، وقد سماهم بأعيانهم كما في قصة أصحاب الرجيع، وهم القراء الذين استشهدوا.
مسألة: إذا كان في الصلاة فهل له أن يتكلم بالقرآن مخاطباً لإنسان سأله عن شيء، أو استفسر عن شيء، أو رأى شيئاً ويريد أن ينبه عليه فتلا آية من كتاب الله ليدل على المطلوب؟ الجمهور يقولون: لا.
لأن هذا يخرج القرآن إلى كلام الناس فيجيب به الآخرين.
وسيأتي أنه صلى الله عليه وسلم كان في صلاة النافلة يأذن بالتنحنح، أو يرد السلام بإشارة اليد.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (أن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس) يدل على أنه لا ينبغي لإنسان وهو في الصلاة أن يتكلم بكلام الناس، ولو فعل بطلت صلاته، ولو كان حرفاً واحداً يؤدي معنى.
فلو أن إنساناً وقف بجوارك وقال: أجاء زيد؟ فقلت: (لا) فهذا حرف، لكن هذا الحرف يتضمن نفي جملة، أي: لم يأت.
لأن النفي هنا راجع إلى جملة المجيء، وأنت تقول: (لا) ، فـ (لا) وحدها ليست كلمة، كما قال ابن مالك في الألفية: كلامنا لفظ مفيد كاستقم واسم وفعل ثم حرف الكلم فكلمة (استقم) هي كلمة واحدة، وهو يقول: كلامنا لفظ مفيد.
ويقول النحاة: لفظ مركب.
والإفادة حصلت بكلمة (استقم) ؛ لأن المعنى: (استقم أنت) ، فهي كلمة متضمنة جملة كاملة.
وكذلك الحروف المستعملة في المعاني، نحو: يا زيد فـ (يا) تقوم مقام الفعل: (أناديك) ، فكذلك إذا حصل كلام ولو بحرف واحد يؤدي معنى يحسن السكوت عليه فحينئذٍ تبطل الصلاة.(46/6)
نسخ جواز الكلام في الصلاة
قال رحمه الله تعالى: [وعن زيد بن أرقم أنه قال: (إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكلم أحدنا صاحبه بحاجته، حتى نزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام) ، متفق عليه، واللفظ لـ مسلم] .
هذا الحديث يشعر بأن الصلاة مرت بأطوار، وقد ذكر ابن كثير رحمه الله في تفسيره أن الصلاة مرت بثلاث حالات، منها الإعلام بها، فكان يعلم أحدهم صاحبه بالصلاة، فهذا الطور الأول، ثم جاء الأذان بعد ذلك.
وكان الرجل المسبوق يأتي فيسأل من في الصف: كم صليتم؟ فيشير بأصابعه ولا يتكلم: صلينا ركعة أو صلينا اثنتين، فيصلي المسبوق ما فاته بسرعة، ثم يلحق الإمام في الركعة التي هو فيها، ويتساوى معه في عدد الركعات، فإذا أتم الإمام صلاته يكون هو أيضاً قد أتم؛ لأنه أتى بما سبق به أول ما جاء، فإذا سلم الإمام سلم معه؛ لأنه أتى بما نقص عليه قبل أن يتابع الإمام.
فجاء معاذ بن جبل وقال: والله لا أجد النبي صلى الله عليه وسلم على حالة في الصلاة إلا تابعته عليها.
فجاء ذات مرة وقد فاته من الصلاة شيء، فدخل مع الرسول صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه، ولم يأت بشيء قبل، ولم يسأل أحداً، ولما سلم النبي صلى الله عليه وسلم علم ما الذي فاته من صلاته، فقام يقضي ما فاته، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم هذا العمل من معاذ فقال لهم: (إن معاذاً قد سن لكم في الصلاة سنة فاقضوها) .
فكان الواحد منهم يكلم صاحبه في الصلاة بحاجته، حتى نزل قوله سبحانه: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] .
ونص الآية الكريمة فيه عطف الخاص على العام، وهذا يستدعي الاهتمام بهذا الخاص على أفراد عمومه، ومثله قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} [البقرة:98] ، فجبريل داخل في عموم (ملائكته) ، ولكن عطف جبريل على عموم الملائكة يدل على خصوصية جبريل عليه السلام؛ لأن اليهود لما سألوا: من الذي يأتيك بالوحي يا محمد؟! قال: (جبريل) .
قالوا: هذا عدونا من الملائكة؛ لأنه يأتي بالعذاب، وأما ميكائيل فهو صديقنا؛ لأنه يأتي بالأرزاق.
فهم أبدوا عداوة لجبريل بخصوصه، فجاءت الآية الكريمة ترد عليهم: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} [البقرة:98] ، وخص جبريل الذي يتخذونه عدواً، فيكون عطف جبريل عليه الصلاة والسلام على عموم الملائكة لأمر أثاره اليهود بخصوصه هو.
وهنا كذلك قال الله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة:238] ، والصلوات خمس صلوات، والوسطى منها بلا شك، فخص الوسطى من تلك الصلوات بالحث عليها بذاتها، فتكون موضع عناية ورعاية أكثر من عموم الصلوات الداخلة في اللفظ العام: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة:238] .(46/7)
اختلاف العلماء في تعيين الصلاة الوسطى
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في تحديد الصلاة الوسطى، فـ مالك رحمه الله يقول: هي صلاة الصبح.
وقال بعضهم: كل الصلوات الخمس صالحة لأن تكون الوسطى؛ لأن الوسطية في الصلوات نسبية.
ولكن لو قلنا: الصلوات الخمس صالحة لأن تكون الوسطى فمعناه أن الصلوات الخمس كلها صلوات وسطى، ونحن عندنا الوسطى واحدة فقط كما في هذه الآية؛ لأنه تعالى قال: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة:238] ، ثم خص واحدة من تلك الصلوات وجعلها الوسطى.
فـ مالك رحمه الله قال: إنها صلاة الصبح.
والجمهور يقولون: الصلاة الوسطى هي صلاة العصر.
فما موجب تخصيص مالك لصلاة الصبح؟ وما موجب تخصيص الجمهور لصلاة العصر؟ أما مالك رحمه الله فإنه نظر إلى شدة اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة الصبح، وقوله: (لقد هممت أن آمر رجلاً يؤم الناس، ثم أنطلق برجال معهم حزم من حطب، فأحرق على أناس بيوتهم) ، وهم: الذين لم يشهدوا صلاة الصبح.
وأي اهتمام أكثر من هذا، فهو قد هم أن يحرق البيوت على من فيها لأنهم لم يصلوا الصبح، ولكن البيوت فيها النساء، وليست الجماعة واجبة عليهن، والبيوت فيها الصبيان وليست عليهم الفريضة، فكونه يقول: (لقد هممت) والرسول صلى الله عليه وسلم ما يهم بأمر إلا وهو مهتم بشأنه يدل على عظم قدر صلاة الصبح.
قال مالك: هذا الاهتمام أشد ما سمع؛ لأنه في سبيل أن يحرق على الناس بيوتهم، وفيهم من ليس مكلفاً بالصلاة.
وقال أيضاً: صلاة الصبح هي وقت نوم وغفلة، وكثير من الناس قد يغلبه النوم فيها، ويضيع صلاة الصبح، فيكون هذا الحث عليها.
أما الجمهور فقالوا: صلاة العصر وقد جاءت نصوص كثرة تبين ذلك منها: حديث غزوة الأحزاب لما شغلوا بالعدو -ولم تكن قد شرعت صلاة الخوف- حتى دخل الليل، فـ عمر رضي الله عنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: والله -يا رسول الله- ما صليت العصر حتى كادت الشمس أن تغرب! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله! ما صليتها) ، ثم دعا على المشركين فقال: (ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر) ، فالصلاة الوسطى التي شغلوهم عنها هي صلاة العصر، وبعد ذلك صلى المغرب والعشاء، وهما تشتركان في الوقت، فالتي فاتهم وقتها هي صلاة العصر، فسماها صلى الله عليه وسلم بأنها صلاة العصر.
وجاء بسند صحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أنها طلبت من زيد أن يكتب لها مصحفاً، فقالت: إذا وصلت إلى هذه الآية الكريمة: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] فآذني -تعني: أعلمني وأخبرني أنك وصلت- فلما وصل أخبرها، فقالت: اكتب: (والصلاة الوسطى صلاة العصر) ، وهذا تفسير منها للآية، وأم المؤمنين رضي الله تعالى عنها حاشاها أن تزيد كلمة في كتاب الله، ولكن كان السلف رضوان الله تعالى عليهم يجعلون بعض الألفاظ شارحة أو مفسرة لمعنى غامض أو هامٍّ على هامش المصحف، فكتب على هامش المصحف: (الصلاة الوسطى) ؛ لأن الصلاة الوسطى ما جاءت في القراءة، ولا ثبتت قراءة في كتاب الله، لكنها أملتها عليه كأنه من باب الشرح، وتكون في حافة المصحف.
ولهذا أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه لما أتاه من يشتكو إليه اختلاف القراء في القراءات جمع القراء، وجمع الكتاب، وكتب المصحف الإمام، فطلب الصحف التي كانت عند أم المؤمنين حفصة رضي الله تعالى عنها، وهي التي جمع فيها القرآن في عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ثم انتقلت من أبي بكر إلى عمر، ثم كانت عند حفصة ابنة عمر رضي الله تعالى عن الجميع، فاستعارها منها لينقل المصحف على رسم واحد، وأمر كل من كان عنده مصحف كتبه لنفسه أن يحرقه، حتى لا يطول الزمن ويدخل ما كان في الهوامش في صلب القرآن، فأحرق الجميع ما كان بأيديهم، واكتفوا بالمصحف الإمام الذي قرئ على عثمان رضي الله تعالى عنه، وأصبح المصحف الذي يرجع إليه العالم الإسلامي، وجعله خمس نسخ، وأرسل كل نسخة إلى مصر من الأمصار ومعها قارئ يقرئ الناس، فأخذوا القرآن سماعاً ووجادة.
فأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أملت على الكاتب أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، ولم ينكر الكاتب، ولم ينكر عليها من سمع بذلك.
فالجمهور على أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر؛ لما قاله صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب، ولقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها عند إرادتها كتابة مصحف لها.
وقال الجمهور: إن جميع أوقات الصلاة تأتي عند فراغ الناس إلا العصر، فصلاة الصبح يكون الناس فيها فارغين من الأعمال، وما على الإنسان إلا أن يصلي ثم يرجع لينام كما شاء، وصلاة الظهر تأتي عند القيلولة والناس قد ملوا من العمل وجاؤوا إلى بيوتهم للقيلولة وللغداء والراحة، فهم في فراغ، والمغرب يكون عند انتهاء النهار وأول الليل، فيأوي الناس إلى بيوتهم وهم فارغون، وكذلك في العشاء يكونون في بيوتهم فارغين، فجميع الصلوات الخمس تأتي أوقاتها عند فراغ الناس من العمل إلا العصر، فهي في وقت شدة العمل، أو هي في أوسط أوقات العمل.
وقد جاء عن بعض الصحابة أنه قال: كنا نصلي العصر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فيذهب الذاهب إلى بني عوف فيجدهم يصلون العصر.
قال الشراح: كانوا يؤخرون العصر في المدينة؛ لأنهم أصحاب فلاحة وأعمال، فكانوا يقيلون، فإذا قاموا من القيلولة استأنفوا العمل، فيأتي وقت العصر وهم في وسط عملهم، فإن تركوا العمل في أول وقت الصلاة وصلوا تكون العودة إلى العمل ثقيلة، ولكنهم يتمادون في العمل شيئاً ما حتى يذهب شيء من أول الوقت، ثم يصلون العصر ولا يعودون إلى العمل.
فكان يأتي وقت العصر والناس في شدة عملهم، ولهذا كانوا يشغلون عنها، وكانوا يؤخرونها، وكانت أعمالهم تعوقهم عنها، فجاء التنبيه عليها؛ لأنها في حاجة إلى العناية والرعاية؛ لأن أشغال الناس تكون في وقتها أشد ما تكون.
والله تعالى أعلم.(46/8)
كتاب الصلاة - باب شروط الصلاة [2]
من كان يصلي وأراد أن ينبه الإمام على خطأ، أو ينبه أحداً على أي أمر فله أن يسبح إن كان رجلاً وأما المرأة فتصفق.
ويجوز للمصلي أن ينحنح في الصلاة للحاجة، وأن يرد السلام بالإشارة، وأن يحمل صبياً إذا احتاج إلى حمله، وأن يبكي، وأن يقتل الحية والعقرب وكل هذا من سماحة الشريعة وتيسيرها.(47/1)
أفعال يجوز فعلها في الصلاة(47/2)
تسبيح الرجال وتصفيق النساء إذا حدث شيء في الصلاة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء) متفق عليه، زاد مسلم: (في الصلاة) ] .
تقدم الكلام على النهي عن الكلام في الصلاة، كما بيناه في سبب نزول قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] ، وجاء النص: (فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام) .
والقنوت له معان فوق عشرة، منها السكوت، ومنها الخشوع، ومنها دوام العبادة، ومنها خشية الله، وكل هذه من معاني القنوت.
وأتى المؤلف رحمه الله تعالى في هذا الباب بعدة نصوص لبعض الصور التي قد تطرأ على المصلي فيحتاج إلى أن يتكلم، وهو منهي عن الكلام أثناء الصلاة، فماذا يفعل؟! فأورد قول النبي صلى الله عليه وسلم: (التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء) ، والمعنى: أن المصلي إذا نابه شيء وأراد أن ينبه عليه، ولا يستطيع أن يقول: يا فلان! احذر كذا، أو يا فلان! افعل كذا، أو إذا كان مأموماً وسها إمامه، فهو لا يستطيع أن يقول: يا إمام! أنت سهوت فتركت ركعة، أو أنت قمت من الركعة الثانية، ولو قال هذا بطلت صلاته؛ لأنه مأمور بالسكوت، منهي عن الكلام، فإن له أن ينبه الإمام بأن يسبح فيقول: سبحان الله.
وكذلك إذا كان إنسان في صلاته، وأمامه إنسان يريد أن يكلمه، فحينما همّ بالانصراف قال: (سبحان الله) فلفت نظره لذلك، فجلس ينتظر ما وراء قوله: سبحان الله.
وفي بعض الحالات قد يضطر الإنسان أن يخرج من الصلاة للضرورة، كإنسان يصلي وطفل أمامه، وأمام الطفل شيء خطير، كنار تلهب، أو كهرباء، أو شيء آخر، وخشي على الطفل أن يهلك، فله أن يخرج من صلاته وينقذ الطفل، وآخرون يقولون: لا.
لكن يبقى في صلاته ويسعى ويأخذ الطفل ويبعده، وله أن يسبح ليسمع أحداً قريباً فينتبه لهذا التسبيح، ويدرك الغلام.
فالرجل إذا نابه شيء في صلاته يقول: سبحان الله.
وهذا هو (التسبيح) من باب النحت، والتحميد قول: (الحمد لله) ، والتهليل: (لا إله إلا الله) ، والتكبير: (الله أكبر) ، والحوقلة: (لا حول ولا قوة إلا بالله) ، فهذه كلمات نحتت، وهي تدل على جمل كاملة، فالتسبيح للرجال، فإذا نابه شيء قال: (سبحان الله) ؛ لينبه غيره، والإمام إذا سمع المأمومين يقولون: (سبحان الله) .
وكان على شك رجع إلى صوابه وإلى يقينه، واستفاد من قولهم: (سبحان الله) .
أما المرأة إذا نابها شيء فلكون صوتها لا ينبغي أن يرتفع، ولا ينبغي أن يسمعه الأجانب فإنها تصفق، ولا تصفق كما تصفق في اللعب، وإنما قالوا: بإصبعين من يمينها على يسراها، وهل ذلك في باطن الكف أم في ظاهره؟ بعضهم يقول: في باطن الكف والغرض من هذا التنبيه، فبإصبعين من كفها الأيمن تضرب كفها الأيسر مرتين أو ثلاثاً أو أكثر حتى تنبه من تريد أن تنبهه.
فنحن نهينا عن الكلام، وأمرنا بالسكوت عندما نزل قوله سبحانه: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] أي: خاشعين صامتين لا تتكلمون.
فلو أن إنساناً تكلم سهواً أو جهلاً فماذا يكون الحكم؟ الجواب: إن كان ناسياً فلا شيء عليه عند الأكثر؛ لقوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا} [البقرة:286] ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان) .
وإذا تكلم جاهلاً بالحكم فبعضهم يجعل الجهل كالنسيان، وبعضهم يقول: الجاهل لا يعذر؛ لأن هذه أمور تعرف من الدين بالضرورة، ودليل القائل بأن الجاهل كالناسي حديث معاوية بن الحكم لما عطس بجواره رجل، فقال: يرحمك الله.
ولما أنهى صلى الله عليه وسلم صلاته دعاه وقال: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التكبير والتسبيح وقراءة القرآن) ، فهو قالها جهلاً، ولم يأمره صلى الله عليه وسلم بإعادة صلاته، مع أنه تكلم جاهلاً.
والآخرون يقولون: هذا كان في أول التشريع، وما كان يعلم الجميع حكم هذا، وهو لم يعلم حكم ذلك، وخاصة الذين ذهبوا إلى الحبشة، وكان النهي عن الكلام في الصلاة في مكة قبل الهجرة، وبعد الهجرة علموا بذلك.
فالمؤلف رحمه الله بيّن لنا أن المصلي لا يحق له أن يتكلم، وأنه يلزمه أن يسكت، ثم ذكر عدة نصوص لعدة حالات، وهذا من حسن التأليف.(47/3)
البكاء في الصلاة
قال رحمه الله تعالى: [وعن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء) ] .
هذا الصحابي الجليل يروي لنا أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل، أي: القدر الكبير الذي يغلي.
والأزيز من أسماء الأصوات، كما تقول: خرير الماء، وتقول: صفير الطيور، وزقزقة العصافير، وصلصلة الجرس، وغليان الماء.
والألفاظ التي فيها تكرار الحروف تدل على حركة، أو على صوت، قالوا: الأزيز هو: صوت يكون داخل الصدر لانفعال الإنسان، ولا يكون باللسان ولا بالهمهمة، إنما يكون لانفعال داخلي في صدر الإنسان، وسبب ذلك هو انفعال نفسي، كأنه يريد البكاء ويحبس بكاءه، فهو صوت في جوف الإنسان وفي صدره.
فهو صوت يعيه السامع، فهل هذا كلام مما نهي عنه، أم أنه خارج عن حد الكلام فلا يبطل الصلاة؟ قالوا: إن البكاء بالعين بدون التلفظ باللسان، والأزيز في الصدر بدون حرف يخرج منه لا يبطل الصلاة، وهي حالة -كما يقولون- روحية تغلب على صاحبها ولا يمكلها، وتتحكم هي فيه، كما جاء في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس.
فقالت: إنّ أبا بكر رجل أسيف لا يتمالك عينيه أن يقوم مقامك، فقال: مروا أبا بكر، فإنكن صواحب يوسف) .
فأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كان لها نظر بعيد جداً، وله أثره في الخلافة؛ فقيام أبي بكر رضي الله تعالى عنه إماماً بالناس بدل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في مرضه يدل على أن الذي سيتولى الصلاة بعده هو الذي سينيبه صلى الله عليه وسلم ويستخلفه بعده، وإن لينص عليه، وهذه واحدة.
والثانية: إذا كان لك شخص عزيز كريم في عمل، فسافرت ورجعت ووجدت إنساناً غيره في هذا العمل فحالاً تتساءل بلهفه: أين فلان؟ وتخاف أن يكون وجود فلان هذا كناية عن وفاة الأول، وهذا قام مقامه، فالقلب يتأثر حينما يرى شخصاًآخر يقوم مقام من تعلق قلبه به، فـ عائشة رضي الله تعالى عنها حسبت حسابين: الأول: حسبت أن يحزن الناس حين يرون أبا بكر قام مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا نوع من التشاؤم، وأي مسلم يجد شخصاً في مكان رسول الله يتأثر ويتألم؛ لأنه لا يريد أن يغيب رسول الله عن هذا المقام.
والثاني: أدركت أم المؤمنين عائشة أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر أن يصلي بالناس مقدمة لاستخلافه، ولذلك لما اجتمع الصحابة رضي الله تعالى عنهم في السقيفة صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر: أيها الحاضرون! هذا أبو عبيدة، وهذا عمر، فاختاروا من شئتم، وبايعوا له ولا تختلفوا، فقال عمر: سبحان الله! ارتضاك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا بالصلاة، ولا نرتضيك لدنيانا! مد يدك لأبايعك فبايعه، فكان أمره صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر أن يصلي بالناس فيه إشارة إلى أنه هو الذي سيتولى الأمر من بعده.
فإذا كان الأمر كذلك فأم المؤمنين عائشة خافت إذا أمر رسول الله أبا بكر أن يصلي بالناس، أن يقال: هي التي دفعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقدم أباها؟ ولا تسلم من التهمة، وحفصة موجودة، وعائشة موجودة، وهذه بنت عمر وهذه بنت أبي بكر، فأقل شيء أن يقال: هي التي من وراء هذا، وهي التي سعت، وهي السبب، فلما كان هذا الاتهام وهذا التساؤل محتملاً -وهو خطير حين تتهم أنها هي وراء اختيار أبيها- أعلنت للناس عند رسول الله قولها له: إن أبا بكر رجل أسيف، إذا قام في الصلاة لا يتمالك عينيه من البكاء، فكأنها تقول: لا يصلح لذلك، فإذا حصل ذلك تقول: أنا ليس لي ذنب، كان رأيي من قبل أنه لا يصلح لهذا.
ومن هنا ندرك معنى قوله: (إنكن صواحب يوسف) ، فما الذي جاء بصواحب يوسف إلى هنا؟ والجواب: لأنهن أخفين شيئاً وأظهرن شيئاً آخر، وأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصد عائشة وأنها تريد أن تدفع عن نفسها شبهة التهمة بأن لها سبباً في تقديم أبي بكر على غيره.
والشاهد من هذا قول عائشة: (إن أبا بكر رجل أسيف، إذا قام في الصلاة لا يتمالك عينيه من البكاء) ، فالبكاء لا يبطل الصلاة، والبكاء والأزيز يكون في حالة الخشوع، وحالة الخوف من الله سبحانه وتعالى، وقد يكون في الصلاة، وقد يكون خارج الصلاة، وهي منح يمنحها الله سبحانه وتعالى للمؤمن الصادق، ومن علامات ليلة القدر رقة القلب، كما قالت عائشة: ألا تجد في نفسك أحياناً رقة القلب ودمعة العين؟ فذاك إذا صافحك جبريل، فأحياناً الإنسان يحس برقة قلبه، وتدمع عينه ولا يعرف السبب، وقد يكون عقب قراءة آية، أو عقب تأمل في موقف، غير ذلك، وقد يكون لمجرد انطلاقه بروحه في عالم ملكوت المولى سبحانه، فيجد عالماً بعيداً يرقق قلبه، ويدر دمعته.
فالإنسان قد يعرض له ما يرقق طبعه، ويزيد قوة روحه، فتحصل له هذه الحالة، فقد يبكي ويفرج عن نفسه، وقد يكتم البكاء، قال ابن تيمية رحمه الله: القوي الذي يكظم ذلك، ويقدر على نفسه، بخلاف هؤلاء الذين يصيحون ويصرعون، ويقولون: المخلص المكثر من العبادات قد يحدث له حالة صرع وغيبوبة مع الله سبحانه وتعالى، ولكن هذا لضعفه، وقوي الشخصية هو الذي يتحمل هذه النفحة، ويتحمل هذا الانفعال، ويتماسك.
فأزيز صدره صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة لشدة خشوعه بين يدي الله، ولذة مناجاته لله، فإذا حصل مثل هذا للإنسان وهو في صلاته لا يبطلها، والله تعالى أعلم.(47/4)
التنحنح في الصلاة للحاجة
قال رحمه الله تعالى: [وعن علي قال: كان لي من رسول الله صلى الله عليه مدخلان، فكنت إذا أتيته وهو يصلي تنحنح لي.
رواه النسائي وابن ماجة] .
قوله: كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدخلان، أي: إذا جئته وهو في حجرة عائشة واستأذنته للدخول، فكان له مدخلان، فعند مدخل يقول: ادخل، إذا لم يكن في الصلاة، وعند مدخل يتنحنح إذا كان في الصلاة، ولا يمكن أن يقول: ادخل، فقد أمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام، وبعض الناس يمثل النحنحة بصفارة الإنذار، فالتنحنح صوت يخرج من الحلق بدون حروف أو كلمات، فإذا تنحنح المصلي، لم ينطق بكلمة، وإنما أسمع صوتاً أخرجه من الحلق، فكان النبي عليه الصلاة والسلام إذا تنحنح يعرف علي رضي الله تعالى عنه أنه في الصلاة، فيعلم أن الرسول أذن له بالدخول.
والتنحنح في الصلاة لا يبطلها، ولو كان يبطلها ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضهم يقول: هذا في النافلة، أما في الفريضة فلا؛ لأن النحنحة ربما تخرج حرفاً دون قصد، مثل: (أح أح) فيخرج الهمزة والحاء، فقالوا: لا يجوز التنحنح في الفريضة، وقالوا: كان علي رضي الله تعالى عنه لا يذهب يستأذن على رسول الله إلا وهو في بيته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في بيته النافلة، ولو كان في المسجد لم يستأذن عليه علي؛ فإن المسجد بيت الله، وكل الناس يدخلون المسجد بلا استئذان، كما جاء عن الحسن رضي الله تعالى عنه أنه قال: (إذا أردت أن تدخل على ربك بلا استئذان، وتخاطبه بلا ترجمان، فأسبغ وضوءك، واستقبل القبلة، وقم في محرابك، وكبر للصلاة) ، فعندما تدخل المسجد تقول: باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنبي، وافتح لي أبواب رحمتك.
وتدخل وتقوم في محرابك، وتخاطب ربك بلا ترجمان، وكم في الصف الواحد من ألسنة متعددة؟ وكلهم يناجي ربه بلسانه! فحديث علي رضي الله تعالى عنه يدل أن هذا الاستئذان كان في البيت، وهو يصلي النافلة، وهل يجوز ذلك في الفريضة أم لا؟ قيل: في الفريضة لا، والحاجة لا تدعو إلى ذلك في الفريضة، ولكن تدعو إلى ذلك في النافلة في البيت.
ولو قدر أن مريضاً أو خائفاً أو غيرهما ممن تصح له الصلاة في بيته، كان يصلي فرضه فاستأذن عليه إنسان، فهل يتنحنح في الفريضة كما تنحنح رسول الله صلى الله عليه وسلم في النافلة؟ الذين يفرقون بينهما يقولون: النافلة يغفر فيها ما لا يغفر في الفريضة، بدليل أن المسافر يتنفل على راحلته، ويومئ حيث ما توجهت به، بخلاف الفريضة فلابد أن ينزل إلى الأرض ويركع ويسجد وهو على الأرض، ويكون مستقبل القبلة، ففرق بين الفريضة وبين النافلة، والله تعالى أعلم.(47/5)
رد المصلي للسلام بالإشارة
قال رحمه الله تعالى: [وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قلت لـ بلال: كيف رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليهم حين يسلمون عليه وهو يصلي؟ قال: يقول هكذا وبسط كفه.
أخرجه أبو داود والترمذي وصححه] .
في قوله: كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليكم السلام؟ قال: (يقول هكذا وبسط كفه) .
اختلف أهل العلم: هل بسطه كان إلى الأعلى، أم بغير ذلك؟ فبعضهم يقول: يقبض أصابعه ويمد السبابة، وبعضهم يقول: يمد الكف كاملاً، وهو دليل على جواز رد السلام بالإشارة.
ويقول بعض العلماء: هذا الرد كان قبل النهي عن الكلام؛ لأن الرد بالإشارة كالكلام، فكأنك تتكلم.
والآخرون يقولون: إن الحركة باليد ليست كلاماً، والنهي عن الكلام في الصلاة المراد به كلام الناس في الصلاة.
وقالوا: هذه الحركة كانت قبل الهجرة، وقبل أن يسافروا ويهاجروا إلى الحبشة، فقد جاءت الأخبار بأن بعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا في مكة يسلمون على المصلين ويردون عليهم السلام، وهذا يدخل في عموم قول الراوي: (كان أحدنا يحدث صاحبه بحاجته وهو في الصلاة، حتى نزل قوله سبحانه: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام) .
قالوا: قوله: نهينا عن الكلام، أي: بعد الهجرة في المدينة، وكان تكليم بعضهم لبعض في مكة قبل الهجرة إلى المدينة، فكانوا يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، ويرد عليهم السلام بالقول؛ لأنهم لم ينهوا عن الكلام في الصلاة، فهاجر بعض الصحابة إلى الحبشة، فلما رجع أحدهم من الحبشة قبل الهجرة إلى المدينة دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فسلم عليه فلم يرد عليه، قال: فجمعت الماضي والحاضر -يعني: أخذت أفكر في تاريخي الإسلامي وفيما مضى وفي حاضري- فظن أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يرد عليه سخطة عليه، وما علم أنهم قد نهوا عن الكلام، فاشتد الحال عليه، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرد عليه، ولما سلم النبي صلى الله عليه وسلم وفرغ من الصلاة رد عليه السلام، وقال له: (إن في الصلاة لشغلاً) ، يعني: كنت مشغولاً بصلاتي عن أن أرد عليك السلام.
فاستدلوا بحديث: (إن في الصلاة لشغلاً) ، بأن من سُلم عليه وهو في الفريضة لا يرد، وإذا أنهى صلاته رد السلام على من سلم عليه، أما في النافلة فيبسط اليد.
وبعضهم يقول: إن النهي عن الكلام وقع في مكة أيضاً؛ لأنه في بعض روايات الرواية المتقدمة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رد السلام بعد الصلاة، قال له الصحابي: ماذا حدث يا رسول الله؟ قال: (إن الله يحدث من أمره ما شاء، وقد أحدث من أمره أنه نهانا عن الكلام في الصلاة) ، ومن هنا وقع الخلاف بين العلماء في مسألة من سلم عليه وهو يصلي، ففي هذا الحديث أنه كان يبسط كفه، وفي الحديث الآخر: (إن في الصلاة لشغلاً) ، ورد على المسلِّم بعد أن فرغ من صلاته، فجمعوا بين الحديثين وقالوا: حديث: (إن في الصلاة لشغلاً) يحمل على ما إذا كانت فريضة، فلا يرد ولا يبسط كفه، وإذا فرغ من صلاته رد السلام على من سلم عليه، وإذا كان في نافلة رد بالإشارة وبسط كفه لمن سلم عليه، والله تعالى أعلم.(47/6)
حمل المصلي للصبي للحاجة
قال رحمه الله تعالى: [وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها.
متفق عليه، ولـ مسلم: (وهو يؤم الناس في المسجد) ] .
حديث أمامة بنت زينب -كما يقول ابن دقيق العيد - فيه إشكالات، وأمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو جدها، وأبوها أبو العاص بن الربيع زوج زينب، وهو ابن أخت خديجة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخديجة هي التي خطبت زينب لابن أختها، فتزوج ابن خالته.
وكان صلى الله عليه وسلم يحب أمامة حباً جماً، حتى إنه أتى بقلادة فقال: (لأعطينها لأحب أهلي إلي) فقالوا: لمن يعطيها؟ فقال بعضهم: مَنْ غير الصديقة بنت الصديق؟ فإذا به صلى الله عليه وسلم يدعو بـ أمامة فألبسها إياها.
وفي هذا الحديث أنها تعلقت به صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فمتى كان هذا، وفي أي صلاة؟ أكثر الروايات على أنها في صلاة الظهر أو العصر في المدينة، وبعض الناس يقول: كان هذا قبل الهجرة عند إباحة الكلام وإباحة الحركة.
لكن واقع التاريخ يرده؛ فـ زينب رضي الله تعالى عنها أُسر زوجها أبو العاص يوم بدر، ولما جاء فكاك الأسارى، أرسلت زينب رضي الله عنها بقلادة لها لتفدي زوجها، وتلك القلادة كانت لـ خديجة رضي الله تعالى عنها، وقد أهدتها إليها ليلة زواجها بابن أختها، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك القلادة ذكرته بـ خديجة، وأخذته العاطفة، فقال لأصحابه: (إن رأيتم أن تردوا إليها قلادتها وأسيرها فعلتم) ، فقال: (إن رأيتم) ، ولم يلزم؛ لأن الأسارى حق للمقاتلين، وهو صلى الله عليه وسلم لا يبطل حقاً لحق آخر، وقد روي أن العباس لما أخذ أسيراً يوم بدر قال الأنصار: ائذن لنا -يا رسول الله- أن نفكه بلا فداء.
فقال: (لا؛ والله، ولا درهماً واحداً) ، وقد كان قادراً على أن يدفع الفداء.
فرد المسلمون لـ زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلادتها، وأطلقوا العاص بن الربيع، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرسل إليَّ ابنتي زينب) ، فقال: سأرسلها إليك، وأرسل صلى الله عليه وسلم رجلين ينتظرانها في التنعيم، فجاءت إليهما، وردوها إلى المدينة، وكانت أمامة معها.
فـ زينب ما جاءت بـ أمامة معها إلا بعد الهجرة.
فهذا العمل كان بعد النهي عن الكلام، وبعد أن منعت الحركة في الصلاة، فكيف يحمل طفلة معه؟ وكيف تحرك هذه الحركات؟ ثم من ناحية أخرى تلك طفلة ليست بالغة، وليست في حد التمييز، فكيف حملها مع أنه لا يؤمن أن يحدث منها شيء ينزل على رسول الله وهو يصلي؟ فالإشكالات متعددة.
فمن العلماء من يقول: إن هذا الأمر قد نسخ بالأمر بالسكوت والنهي عن الكلام.
لكن قيل: كيف ينسخ قبل أن يقع؟ لأنه وقع في المدينة، وقيل: إن هذا من خصوصياته صلى الله عليه وسلم، فالله أعلمه أن أمامة لن تحدث شيئاً حتى تنتهي الصلاة، لكن قال قوم آخرون: الخصوصيات تحتاج إلى دليل.
وأشكل على الشافعية وغيرهم الحركة إذا سجد، وإذا قام وهو حاملها، والحركات المتوالية تبطل الصلاة، فعندهم ثلاث حركات متواليات تبطل الصلاة، فأجاب بعضهم بأن أمامة كانت تتعلق هي برسول الله صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنها جاءته وهو ساجد، فلما أراد القيام تعلقت به وهو لم يحملها، فلما أراد أن يسجد وضعها، فكانت منه حركة واحدة في كل ركعة.
وأجيب عن ذلك بأنه جاء في رواية: (كنا ننتظر النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة، فخرج علينا حاملاً أمامة بنت زينب، فصف وصففنا وراءه وصلى بنا) ، فهي لم تتعلق به، بل هو الذي أتى يحملها معه من البيت، فهو الذي يضعها، وهو الذي يحملها.
وقال بعض العلماء: هذه حالة لضرورة، إذ لم يجد من يكفيه مؤنة حفظها ورعايتها في البيت، وهو جدها وولي أمرها، فاضطر أن يحافظ عليها، فحملها معه وأتى بهذه الحركات، والضرورة مبيحة للمحظور.
يقول ابن دقيق العيد رحمه الله: كل ذلك يمكن أن يرد، وليس لنا إلا التسليم لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلو كان واحد منا عنده طفلة فهل هي كـ أمامة بنت زينب؟ أي: هل له أن يعاملها معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أمامة بنت زينب؟ وهل فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بها أو بغيرها مرة أخرى؟ الجواب أنه حدث مع الحسن والحسين في البيت، فقد سجد صلى الله عليه وسلم وجاء الحسن وامتطى ظهره، وانتظر صلى الله عليه وسلم ساجداً حتى نزل، فقالوا: ما هذا يا رسول الله؟! قال: (إن ابني قد ارتحلني -يعني: اعتبرني راحلة له- فكرهت أن أعجله عن حاجته) ، لكن في الفريضة لم يأت هذا.
وأما هل جاء عن أبي بكر، أو عمر، أو عثمان، أو علي، أو عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعل مثل ذلك فأنا لم أقف على شيء من هذا.
فلم يبق عندنا إلا وجه واحد، وهو أنه من كان معه طفل، وكانت هناك حاجة ماسة لحمله، واقتضت الضرورة أن يحفظه، ولو تركه لذهب يميناً ويساراً، وربما خرج من باب المسجد إلى الشوارع وهي مليئة بالسيارات فحينئذ له أن يحمله في صلاته.
وقد قال بعض العلماء: ورد النهي عن استصحاب الصغار إلى المساجد، فكيف جاء بـ أمامة بنفسه؟ قالوا: نعم، ينبغي أن تصان المساجد عن الصبيان والمجانين، فلا تأتي وتترك الصبي يلعب في المسجد.
ولقد شاهدنا أطفالاً صغاراً لا يعرفون شيئاً، وأهلهم يأتون بهم ويتركونهم، فيجعلون المسجد ملعباً.
فيمنع الأطفال من اللعب في المساجد، أما إذا جاء رجل ولزم طفله فلا مانع، لكن أن يأتي به ويتركه يعبث بالمصاحف، أو يلعب، أو يؤذي الآخرين، أو يصيح ويبكي، فهذا يمنع.
وعلى هذا لو أن الإنسان كان في حالة اضطرار، وليس عنده في البيت أحد، وعنده ولد وليس عنده من يرعاه، فإن تركه وأغلق الباب خاف عليه أن يحدث شيئاً، فله أن يأخذه معه إلى المسجد.
وإذا جاء إلى المسجد فهو أمام أحد أمرين، إما أن يقبضه بيده، وإما أن يتركه عرضة للخطر.
فنقول له: عامله كمعاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لـ أمامة.
بقيت مسألة الاحتراز من نجاسة الطفل، فبعضهم قال: إن من خصوصيته صلى الله عليه وسلم أن الله أعلمه بأنها لن تحدث شيئاً، ولن تفسد صلاته.
وبعضهم يقول: إن ثياب الأطفال محمولة على الطهارة ما لم تشاهد فيها النجاسة.
وبعضهم قال: كان من عادة أهل المدينة أن ينظفوا الأطفال في أوقات معينة، فلعله حمل أمامة بعد تنظيفها، وقد ذكروا أشياء كلها للاحتراز من أن يوجد شيء يعارض الصلاة.
والواجب على الأم وعلى الأب، وعلى كل من يصحب طفلاً معه إلى المسجد أن يحتاط مع هذا الطفل فيما لو أحدث شيئاً، حتى لا يلوث المسجد، فالطفل ليس بعاقل، وليس له تمييز، فقد يحدث منه ما يحدث، فينجس المسجد، أو ينجس ملابس الأم فيفسد عليها صلاتها، فإذا ألبسه الحافظة وأدله المسجد للضرورة فلا بأس.
وقد عقدت لجان لمعالجة هذه القضية، حتى إنه في بعض الاجتماعات اقترح مدير الشرطة أن تجعل استراحات على أبواب المساجد، فكل أم تجيء بطفلها تضعه في الاستراحة، وبعد أن تنتهي من الصلاة تأخذ طفلها وتذهب.
ولكن أي أم ستترك طفلها في الاستراحة؟ وأي أم ستضمن راحة ولدها فيها؟ ، فكان هذا حلاً غير عملي.
ولكن الحل العملي هو ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة أمامة بنت زينب.
وقد يقال: لماذا نسبها الراوي إلى أمها فقال: أمامة بنت زينب، ولماذا لم ينسبها إلى أبيها؟ والجواب: ذلك لبيان عاطفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، فـ أمامة هي بنت زينب بنت رسول الله فهو جدها، وهو مسئول عنها، أما لو قال: أمامة بنت أبي العاص فإنه سيقال: من هو أبو العاص؟ فيطول الشرح حتى نعلم أنها بنت زينب بنت رسول الله، فاختصاراً قال: بنت زينب.
ومن النسبة إلى الأم ما تذكره كتب الأدب أن محمد بن الحنفية والحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما كانا أخوان لأب، فأبوهما علي، ومحمد أمه من بني حنيفة، والحسن أمه فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، فذكروا أنهما خرجا إلى السوق، وكان بينهما ما قد يقع بين الإخوان في الأسواق، فرجعا متغاضبين، وذهب كل إلى بيته، فإذا بـ محمد رضي الله تعالى عنه يأخذ قصاصة من الورق ويكتب فيها: (من محمد بن الحنفية -ولم يقل: ابن علي - إلى الحسن بن فاطمة بنت رسول الله -وانظر إلى هذا! فقد أبرز نسب الحسن إلى رسول الله تكريماً للحسن، وليبني عليه ما يأتي بعده- قال: أما بعد: فقد علمت ما كان بيني وبينك، ولقد هممت أن آتيك إلى بيتك لأستسمحك وأسترضيك، ولكن كرهت أن يكون لي فضل السبق عليك وأنت ابن بنت رسول الله -يعني: أنا ابن الحنفية، أبي وأبوك واحد، لكن أمينا مختلفتان، فلا ينبغي أن يكون لي فضل عليك- قال: فإذا وصلك كتابي فخذ عليك ثيابك، وشد نعليك، وائتني في البيت؛ ليكون لك الفضل عليّ.
فانظر كيف كانوا يؤثرون على أنفسهم حتى في مكارم الأخلاق! وهكذا أبرز نسبة الحسن إلى رس(47/7)
الحركة والكلام لمصلحة الصلاة
قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقتلوا الأسودين في الصلاة: الحية والعقرب) أخرجه الأربعة، وصححه ابن حبان] .
جاء المؤلف رحمه الله تعالى بهذا الحديث لبيان شروط الصلاة، فمن شروط الصلاة ستر العورة واستقبال القبلة، وفي حديث أمامة حصلت حركات من حملها، ولكنها حركات لا تبطل الصلاة.
وأما الكلام في الصلاة فخلاصة ما يقوله الفقهاء أنه ينقسم إلى قسمين: كلام لصحتها، وكلام لا علاقة له بصحتها، قالوا: إن الكلام لصحة الصلاة مع الإمام جائز في بعض الأحوال، كما جاء في سهوه صلى الله عليه وسلم في حديث ذي اليدين عندما قال: (أصدق ذو اليدين؟) وقال هذا بعد أن سلم صلى الله عليه وسلم من ركعتين، فسكت القوم مخافة أن يكون حدث في دين الله شيء، فتكلم ذو اليدين -وكان رجلاً في يديه طول- فقال: يا رسول الله! أقصرت الصلاة أم نسيت؟ -يعني: هل الصلاة قصرت من أربع إلى ركعتين أم أنت نسيت الركعتين الباقيتين؟ - فقال: (كل ذلك لم يكن، فقال: بعض ذلك قد كان!) .
وهذه الجملة المناطقة الآن يبنون عليها قواعدهم، فقوله: (كل ذلك) يقولون فيه: هذه صورة كلية، وجاء النفي فيكون النفي للجميع، يعني: ما قَصرت ولا نسيت، ونقيضها -كما يقولون- الجزئية الموجبة، فقوله: (بعض ذلك قد كان) ، يعني: بعض ذلك حصل.
فالتفت إلى الصحابة وقال: (أصدق ذو اليدين؟ قالوا: نعم) .
فحصل كلام من ذي اليدين، وكلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلام من المصلين، فتوجه صلى الله عليه وسلم إلى القبلة، وأتى بالركعتين، ثم أتى بسجود السهو، وتمت الصلاة.
قالوا: إذا كان في مثل هذه الصورة فلا يبطل الصلاة، والحركة إذا كانت لمصلحة الصلاة لا تبطلها، وجاء في الحديث: (أفضل خطوة يخطوها المسلم أن يخطو إلى الصف أمامه ليتمه) ، فإذا وجدت فرجة أمامك فاخط خطوة إلى الصف، وسد الفرجة التي فيه.
وهنا قال: (اقتلوا الأسودين: الحية والعقرب) ، وقتل الحية والعقرب لابد له -قطعاً- من الحركات، ولو كانا مقيدين فستأخذ آلة تضربها بها، فأخذك الآلة وضربك إياها حركة، مع أنها إذا شعرت بك لن تستلم لك، بل ستهرب يميناً ويساراً، وتتبعها حتى تقتلها، وأنت في الصلاة، فترجع إلى موقعك.
فهذه الحركات لمصلحة الصلاة؛ لأنك لا تستطيع أن تصلي والحية جوارك، فمن مصلحتك ومصلحة الصلاة أن تقتلها.
وقالوا أيضاً: لو أن الإنسان في صلاة، ورأى الأسد مقبلاً عليه، فله أن يشرد، ولكن أين ذهب فالأسد سيسبقه، فقالوا: إذا وجد شجرة صعد عليها، وهو في كل ذلك لا يتكلم، ويكمل صلاته فوق الشجرة إيماءً.
ولو كان عدوك جاءك وأنت تصلي وقد سل سيفه ليقتلك، فلك أن تسل سيفك وتسايفه وأنت تصلي، وهكذا لو كنت تصلي فجاء إنسان وخطف متاعك، فلا تستسلم وتقول: أنا أصلي فسأدعه يذهب لا، بل اتبعه واجر وراءه حيثما سار، وبعد أن تأخذ متاعك أكمل صلاتك في مكانك هناك، ولا حاجة أن ترجع إلى المكان الأول؛ لأنه يكون عملاً زائداً على مصلحة الصلاة.
فهنا يأمرنا صلى الله عليه وسلم أن نقتل الحية والعقرب في الصلاة، وقتل الحية والعقرب يستلزم الحركة، والله تعالى أعلم.(47/8)
كتاب الصلاة - باب سترة المصلي
من سنن الصلاة وآدابها اتخاذ السترة للمصلي إذا كان إماماً أو منفرداً، وهي من أسباب الخشوع في الصلاة، وبها يصون المصلي صلاته من أن تقطع بمرور أحد بين يديه، وفي السترة أحكام كثيرة في صفتها، ومقدار ما يكون بين المصلي وسترته، وحكم من مر بين يديه، وغير ذلك، وقد بين العلماء رحمهم الله ذلك، وشرحوا الأحاديث الواردة فيها، واختلفوا في بعض مسائلها.(48/1)
شرح حديث: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه ... )
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [عن أبي جهيم بن الحارث رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه من الإثم لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه) متفق عليه، واللفظ للبخاري، ووقع في البزار من وجه آخر: (أربعين خريفاً) ] .
هذا باب: سترة المصلي، والسترة ما يستر الإنسان أو الشيء ويغيبه عن النظر، والاستتار هو: اتخاذ السترة بينه وبين من يريد أن يختفي عنه، وقد يكون هذا الساتر مستوراً من باب المعجزة كما في قوله سبحانه مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء:45] ، وفي كتاب: البلاغة الواضحة أن هذا مفعول بمعنى فاعل، أي: مستوراً بمعنى ساتر، وهذا خطأ، بل هو على الحقيقة؛ لأن من شأن الحجاب أن يستر، والمعجزة في أن هذا الحجاب الذي يحجب ما وراءه هو بنفسه مستور، فإن أم جميل زوجة أبي لهب لما نزلت السورة الكريمة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] ؛ جاءت وفي يدها فهر، وهي تولول غيظاً، وكان صلى الله عليه وسلم جالساً بجوار أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فقال: يا رسول الله! لقد جاءت فلانة وفي يدها فهر -يعني: حجر مستطيل- وإني أخشى عليك منها، قال: (لا عليك، سأقرأ قرآناً يحجبني الله عنها) ، فقرأ قرآناً فجاءت هذه المرأة ووقفت على أبي بكر وقالت: أين صاحبك؟! وهو جالس بجانبه، لكن حجبه الله بحجاب، وهذا الحجاب مستور عنها، ولو كان الحجاب بائناً لكشفت ما وراء الحجاب وتطلعت، لكنه مستور عنها، فهو ساتر مستور، وهو حجاب مستور على الحقيقة، وهو وجه الإعجاز، فقال: ما شأنك؟! قالت: لقد هجاني؛ لأنها اعتبرت سورة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] ، وقوله فيها: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد:4] هجاء، أي: مذمة، فقال لها: أما إن صاحبي ليس بهجاء، فقالت: أنت مصدق، ومضت في سبيلها.
قالوا: وكذلك ليلة الهجرة قرأ قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9] فحجبه الله عن الفتية.
وجاء في حديث عائشة رضي الله عنها (أنها اتخذت سترة فيها تصاوير، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم ورأى التصاوير في تلك السترة لم يدخل بيتها، ورأت في وجهه الغضب، فأماطتها، وقطعتها ذيولاً للوسائد) .
فأصل السترة في اللغة هو: ما يستر غيره، لكن السترة لا تغطي المصلي هنا، ولكن هي: ما يتخذه المصلي بين يديه في صلاته.
وبعض العلماء يقول: معنى السترة في اللغة موجود في سترة المصلي؛ لأن الغرض من وضعها ستر النظر أثناء القيام عن التعدي إلى بعيد فينشغل المصلي، فشرعت السترة ليكون نظره وهو قائم عند سترته، وقالوا: إذا ركع كان نظره عند أطراف قدميه، وإذا سجد كان نظره إلى أرنبة أنفه، وإذا جلس في التشهد كان نظره ما بين سترته وركبتيه، ويقولون: حُدَّ النظر من أجل ألا يتطلع يميناً ويساراً؛ لأن هذا مخل بالخشوع والخضوع في الصلاة.
وقد جاء أن الذي يتخذه المصلي أمامه بين يديه يحتجر به المكان الذي يصلي فيه، ويصبح من حقه هو، وسموا هذه العلامة أو هذا الحد الفاصل سترة؛ لأنها تمنع المار أن يقتحم على المصلي حماه، وهل العلة من اتخاذها هو منع التشويش على المصلي، أو هو فصله عن القبلة مؤقتاً، أو غير ذلك؟ الله تعالى أعلم.
والمؤلف رحمه الله أورد هذه الأحاديث في هذا الباب، ورتبها ترتيباً حسناً، وهذا يدل على فقه المؤلف رحمه الله، فبعد أن ذكر أحكامها، والأمر بها، والنهي عن المرور بين يدي المصلي، وما يقطع الصلاة، ذكر في الأخير حديث: (لا يقطع الصلاة شيء، وادرءوا ما استطعتم) ، فكأنه أورد تلك النصوص ليبين كراهية الصلاة بدون سترة، والمنع من المرور بين يدي المصلي، وبين أخيراً علاقة المرور بصحة الصلاة.
والمتأمل في عموم النصوص الواردة في سترة المصلي يجدها تدور على: السترة، وعلى المار بين يدي المصلي، وعلى المصلي، فقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فلا يترك أحداً يمر بين يديه) ، فهذا خطاب للمصلي، وقوله عليه الصلاة والسلام: (لو يعلم المار ... ) خطاب للمار، فجاءت النصوص تارة للمصلي، وتارة للمار، وجاءت أيضاً في صفة السترة، وفي مقدارها، فهي مثل مؤخرة الرحل، وبين الفقهاء رحمهم الله كم يكون بين المصلي وسترته، وإذا لم يجد مثل مؤخرة الرحل فماذا يفعل؟ قالوا: يخط خطاً، وكيف يكون الخط؟ هل يكون مستقيماً معترضاً، أو مستطيلاً إلى جهة القبلة، أو منثنياً كالمحراب؟ كل ذلك بينه الفقهاء رحمهم الله على خلاف عندهم في بعض المسائل مثل مشروعية الخط.
هذه هي جوانب مبحث السترة للمصلي، ولم يقل أحد من العلماء باشتراط السترة لصحة الصلاة، قال ابن عبد البر: اتفقوا أنه ينبغي للمصلي أن يتخذ سترة، ولم يقل أحد ببطلان الصلاة بدون سترة إلا أقوالاً شاذة خارجة وبعيدة عن مذاهب الأئمة الأربعة، وعلماء الحديث قاطبة.(48/2)
التشديد في المرور بين يدي المصلي
مالك رحمه الله عقد في الموطأ باباً بعنوان: التشديد في المرور بين يدي المصلي، فكان عنواناً مطابقاً للحديث فعلاً، ثم جاء بباب: الرخصة في المرور بين يدي المصلي؛ لأنه ما من عزيمة إلا ومعها رخصة غالباً لبعض الظروف، مثل أن يكون المصلي مفرطاً ويكون الإثم عليه، كأن يصلي في ممر المشاة، فيكون عرض نفسه للمرور بين يديه بدون سبب، فهو المتسبب، وقد يكون الإثم من جهة المار، وذلك إذا كانت له سعة للابتعاد عن يدي المصلي، فتعمد المرور فهو آثم، وعلى هذا فكل من المصلي والمار مخاطب ومحذر من أن يفرط في أمر السترة.
والنصوص المذكورة في الباب تدور على: حكم اتخاذ السترة، وعلاقة ذلك بالمصلي، وعلاقة ذلك بالمار، ونوعية وكيفية السترة.
نرجع إلى الحديث الأول: (لو يعلم المار) ، قوله: (لو يعلم) : كأنه لا يعلم قبل ذلك، فهو أمر غيب، والمراد: لو يعلم الإثم، وقوله: (بين يديه) : عبارة عن الاقتراب منه، فلو كنا في مكاننا هذا نصلي، وجاء إنسان عند الأروقة الموجودة بعيداً، وبيننا وبينه حوالى خمسين أو ستين متراً، ومر من هناك، فهل نقول: إنه مر بين أيدينا؟! العرف ينفي ذلك، لكن إذا كنت أصلي هنا، ومر إنسان بيني وبين القارئ فنقول: مر بين أيدينا، فنرجع إلى العرف لمعرفة حد بين يديه، وقال البعض: ثلاثة أذرع، وقيل: خمسة أذرع، وبعضهم قال: رمية الحجر، لكن رمية الحجر هذه بعيدة! والمار بين يدي المصلي لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون للمصلي سترة؛ فيتحقق مروره بين يديه إذا مر ما بين السترة والمصلي، أما إذا مر من وراء السترة فلم يمر بين يدي المصلي؛ لأن السترة حددت موقع المصلي وحمى مكانه، وحمى مكانه أصبح من اختصاصه إلى أن يفرغ من صلاته، وعند ذلك يرتفع الاختصاص إلى غيره.
وقوله: (ماذا عليه) ، يقول بعض العلماء: أي: من الإثم، وابن حجر قال متعقباً صاحب عمدة الأحكام: لفظة: (من الإثم) لم تذكر في كل نسخ البخاري، فهي ليست فيه، ولكن لابد من تقدير الإثم، لكون الحديث زاجراً عن المرور.
وقوله: (لكان -أي: الحال والشأن- أن يقف -أي: ولا يمشي تلك الخطوة- أربعين ... ) أربعين ماذا؟ يقولون: لم يأت تمييز العدد هنا في الصحيحين، وجاء في رواية أن الراوي قال: لا أدري أربعين يوماً، أو أربعين شهراً، أو أربعين خريفاً، والخريف هو أحد فصول السنة الأربعة، وهي: صيف وشتاء وخريف وربيع، قالوا: فالخريف كناية عن سنة كاملة، وهل يمكن أن يقف سنة فضلاً عن شهر أو يوم؟! مدة الصلاة لا تتجاوز سبع دقائق أو ست دقائق، وصلاة الجماعة من تكبير الإمام إلى أن ينتهي من الصلاة لا تزيد عن عشر دقائق.
إذاً: هذا من باب -كما قال مالك -: التشديد والتغليظ في النهي، وكل إنسان حينما يقارن بين وقوفه أربعين يوماً -على أقل تقدير- وبين الإثم الذي يلحقه يستهين بأربعين يوماً حتى لا يلحقه إثم أكبر من ذلك، فما بالك إذا لم يستغرق الوقت أربعين دقيقة؟! فلأن يقف أحسن له بكثير، وهذا يهون عليه الوقوف حتى يفرغ المصلي من صلاته.
وقوله: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه) ، وإذا كان لا يعلم هل يعذر بالجهل؟ قالوا: نعم، ولكن على المصلي أن يدفعه كدفع الصائل، يبدأ بالأسهل فالأسهل، قال البعض: حتى لو حرك عينه، ولو حرك رأسه، بأي شيء ينبهه، فإذا لم ينتبه مد يده، وإلى أي مدى؟ قالوا: مقدار ما تصل اليد، لا أن يكون بينه وبين المار متران، أو قدر مكان سجوده عدة مرات، فيخطو إليه ليرده!! فهذا ليس له حق فيه؛ لأنه لم يحتجر تلك المسافة، وإنما احتجر بالسترة لو كانت موجودة نحو ثلاثة أذرع فقط، ولذا قالوا: لو أن المار سبق وغلب وأدركه لا يحق له أن يرده مرة أخرى من حيث أتى؛ لأن هذا سيكون مروراً ثانياً، فإذا مر المرة الأولى ولم يدركه ولم يحجزه عن المرور؛ فيتركه يمضي ولا يرده.
وجاء عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها: أن عمراً مر بين يدي رسول الله وهو يصلي فرده فرجع، فجاءت ابنتها زينب تمر بين يديه فمنعها فلم تمتنع، فمنعها فلم تمتنع، ثم غلبته وتعدته، فلما صلى قال: (هن الأغلب) ، ففرق بين الجارية وبين الغلام، فهو استحى ورجع، وهذه تعدته.
وقد جاء في الحديث: (إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يمر بين يديه فليمنعه) ، وهذا يشمل الإنسان وغيره، فالمصلي يمنع حتى الحيوان من المرور بين يديه كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم (أنه كان يصلي فجاءت عنز -أو عناق- وأرادت أن تمر بين يديه، فأخذ يضايقها حتى ألصق منكبه بالجدار ومشت من ورائه، ولم تمر بين يديه) فكان لا يدع أحداً يمر بين يديه.
وقوله في الحديث: (لو يعلم المار بين يدي المصلي) ، هل هذا لكل مصل مطلقاً أم من اتخذ سترة فقط؟ قالوا: هو للمصلي الذي اتخذ سترة، فلا يمر بين السترة وبين المصلي، أما مصل لم يتخذ سترة، فقد فرط في حق نفسه، والمار إذا كان يعلم النهي فتعمد المرور بين يديه في أقل من الثلاثة الأذرع؛ فكلاهما آثم، المصلي آثم لتقصيره في عدم اتخاذ السترة، والمار آثم لتعمده المرور بين يديه وعنده مندوحة أخرى، بخلاف ما إذا كانت ليست له مندوحة فيجوز له المرور.
وقوله: (لكان أن يقف) أي: لكان الحال والشأن أنه لو وقف أربعين يوماً، أو شهراً، أو خريفاً -كما في بعض الروايات-؛ أهون له وأخف عليه من إثم مروره، فلو انتظر أربعين دقيقة لانتهت المسألة، وانتهى المصلي من صلاته، وخرج من تلك المسئولية.
وهذا عام في كل مصل، وفي كل مكان، وفي كل زمان، لكنهم يقولون: يستثنى من ذلك المار بين يدي المصلي في المسجد الحرام، وبعضهم يقول: في مكة كلها، وبعضهم يقول: في حدود الحرم كله، ولكن النص قد جاء في المسجد الحرام فقط، فجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد الحرام، والناس يمرون بين يديه، ولم يمنع أحداً، وعلل الفقهاء ذلك بأن المساجد غير المسجد الحرام الصفوف فيها منتظمة معتدلة، فيمكن للإنسان أن يذهب من طرف بعيد عن تجاه المصلي ويمشي، لكن في المسجد الحرام الصف حلقة مستديرة، فإذا كان المصلي داخل الحلقة فمن أين يخرج؟ لن يخرج إلا إذا مر بين يدي بعض المصلين فلا يتأتى المنع، ويتعذر المنع، فأبيح وخفف في ذلك.(48/3)
شرح حديث: (قدر السترة مثل مؤخرة الرحل)
قال رحمه الله: [وعن عائشة قالت: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك عن سترة المصلي، فقال: مثل مؤخرة الرحل) أخرجه مسلم] .
هذا الحديث عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم: سئل عن سترة المصلي) ، لم يبين في الرواية صيغة السؤال عن السترة، هل هو عن حكمها، أو بعدها، أو شرطها، أو شكلها؟ لم يبين في الرواية شيء من ذلك، ولكن الجواب يوحي بنوعية السؤال، فإنه سئل عن سترة المصلي، ولم يقل: تكون بعيدة أو قريبة، ولم يقل: هي واجبة أو مندوبة، ولكن قال: (مثل مؤخرة الرحل) ، والرحل له خشبتان: خشبة من الأمام، وخشبة من الخلف، وليست متينة كثيراً، وليست طويلة، يقول العلماء: مؤخرة الرحل قريبة من عظم الذراع، والذراع من المرفق إلى طرف الأنامل، وعظم الذراع من الكوع إلى المرفق، فالسترة تكون واضحة بارزة للمار مثل مؤخرة الرحل، فالسؤال كان عن حجمها، وقد كان من عادته صلى الله عليه وسلم أن تحمل العنزة بين يديه، فكان إذا خرج إلى المصلى في العيد، أو كان في السفر وحضرت الصلاة؛ غرزت العنزة في الأرض، فيصلي إليها، والعنزة: نوع من العصي في طرفها قطعة من الحديد، ولذلك يمكن أن تخترق الأرض، فكانت تغرس في الأرض، وتكون قائمة بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم.
فأقل ما يكون في السترة مثل مؤخرة الرحل، فإن وجد مثل هذا القدر في المتن وفي الطول فهذا المطلوب، فإن لم يجد مثل ذلك فسيأتي بيان ما الذي ينوب عن مؤخرة الرحل.
تنبيه: لا ينبغي للمصلي أن يصمد إلى السترة ويجعلها بين عينيه ويسجد إليها، ولكن يجعلها مائلة إلى أحد الجانبين يميناً أو يساراً، لحديث: (إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره فلا يعمد إليه عمداً، ولكن يجعله عن يساره أو عن يمينه) ، ولفظ الحديث قدم اليسار على اليمين، مع أن اليمين أفضل، وكان ومن حقه التقديم، ولكن السترة بالنسبة للمصلي كأنها إمام له، والواحد إذا صلى مع الإمام يكون موقفه عن يمينه، والإمام عن يساره، فيجعل السترة موقع الإمام.
واعلم أن الإمام في الجماعة سترة للمأمومين وراءه.
فينبغي للمصلي ألا يعمد إلى السترة فيكون في صورة من يسجد لغير الله، ومن هنا كره العلماء أن يتخذ المصلي سترة من إنسان جالس أو حيوان؛ لأنه إذا سجد والإنسان بين يديه فكأنه يسجد لمخلوق، وكذلك الحيوان، اللهم إلا إذا كان في السفر، فقد جاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان ينيخ راحلته، ويصلي إليها، ويجعلها سترة له من الناس، والله تعالى أعلم.
وهذا الحديث الذي فيه سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السترة كان في غزوة تبوك، وكانت سنة تسع، يعني في آخر الأمر، ولم يأت ما ينسخ ذلك، فمشروعية السترة باقية، وما سمعنا بحديث ينسخها.(48/4)
شرح حديث: (ليستتر أحدكم في الصلاة ولو بسهم)
قال رحمه الله: [وعن سبرة بن معبد الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليستتر أحدكم في الصلاة ولو بسهم) أخرجه الحاكم] .
قوله: (ليستتر أحدكم في الصلاة) ليس معناه: أن يتخفى عن الأنظار؛ لأنه قال: ولو بسهم، والسهم لا يخفي الإنسان عن الأنظار، فالمعنى أن يتخذ سترة، (ولو بسهم) ، والسهم ليس كبيراً، وليس متيناً كمؤخرة الرحل، فالغرض من ذلك ما يشعر المار بحرمة المصلي ولو بسهم يغرسه أمامه، وكانت تغرس الحربة أو العنزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والحربة والعنزة متقاربان، إلا أن الحربة هي أداة قتال وهي أَحَدّ، والعنزة أداة اتكاء يتوكأ عليها.
وقوله: (ليستتر) من صيغ الأوامر، فإن الفعل المضارع مع لام الأمر صيغة من صيغ الأوامر، ومن هنا أخذ من أخذ أن السترة للمصلي واجبة، ويتعين على كل مصل أن يصلي إلى سترة، فإذا خالف هذا الأمر فكأنه خالف في الطهارة، أو خالف في ستر العورة، أو خالف في استقبال القبلة، ويحكم على صلاته بالبطلان، ولكن من فقه المؤلف رحمه الله أن أعقب ذلك بحديث: (لا يقطع صلاة المرء شيء) ، وهذا يدل على أن السترة ليست بشرط.(48/5)
شرح حديث: (يقطع صلاة الرجل المسلم ... )
قال رحمه الله: [وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يقطع صلاة الرجل المسلم -إذا لم يكن بين يديه مثل مؤخرة الرحل- المرأة والحمار والكلب الأسود.
الحديث، وفيه: الكلب الأسود شيطان) أخرجه مسلم] .
قطع الصلاة بمعنى إبطالها؛ ولذا قال بعض العلماء: لا يقطع الصلاة إلا الحدث، فمن اعتبر السترة واجبة، قال: من لم يتخذ سترة ومر بين يديه أحد هذه الثلاث، بطلت صلاته، فإذا كان مرور هذه الثلاث بين يدي المصلي الذي لم يتخذ سترة تبطل صلاته، فهل مرور غيرها يقطع الصلاة؟ فلو مر رجل، أو ذئب، فهل تبطل الصلاة؟ التنصيص على هذه الثلاث يخصها، ويرفع الحكم عما عداها، وقد تكلموا على هذا الحديث، وأول من تكلم عليه أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها.
فقالت: رحم الله فلاناً -تعني: الراوي- ما فتئ أن جعلنا مع الكلاب والحمير!! وذلك لأنه روى حديث: (يقطع صلاة المرء المسلم: المرأة والكلب والحمار) ، فقالت: رحمه الله! ما فتئ أن جعلنا مع الكلاب والحمير، لقد رأيتني أنام معترضة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، وكان يطيل القراءة، فأمد قدمي -أي: بين يديه- فإذا أراد أن يسجد غمزني، فكففتهما ليسجد، قالوا: فهي امرأة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تقطع صلاته صلى الله عليه وسلم.
أجاب الآخرون وقالوا: النص جاء في المرور وليس في النوم، فقال الأولون: أخبرونا ما علة تخصيص المرأة عن الرجل؟ قالوا: الفتنة، قالوا: وأي فتنة أشد: امرأة تمر في لحظة أم امرأة نائمة مستلقية أمامه؟ أيهما أدخل في باب الفتنة؟ النائمة، فقد تتقلب يميناً وشمالاً، قالوا: لا، هذه زوجة، قال الأولون: فالرجل يشغل بزوجته أكثر من الأجنبية، وهو قد يطمع في الأجنبية، لكن نظره وفكره دائماً متجه للزوجة، وقال بعضهم: هذه خصوصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن قالوا: أين التخصيص؟ فخرجت المرأة بنفسها، وخرج معها سائر النساء.
كذلك قطع الصلاة بالحمار، جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كنت على حمار أتان -الحمار اسم الجنس، والأتان هي أنثى الحمير- والرسول صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى الظهر أو العصر؛ فمررت بالأتان بين يدي بعض الصف، ثم نزلت فصففت معهم، وتركت الأتان ترعى، فلم ينكر علي أحد) ، وكان سن ابن عباس في ذلك الوقت ثلاث عشرة سنة؛ لأنه قال: وقد ناهزت الاحتلام، قالوا: وهذا السن سن إدراك وتمييز، ولو كان هناك إنكار لأنكر عليه؛ لأنه يدرك ذلك، فمروره بالحمار بين يدي بعض الصف ولم يقطع صلاتهم؛ دليل على أن الحمار لا يقطع الصلاة، لكن قالوا: إن مروره بين الصفوف ليس مروراً بين يدي المصلين بدون السترة؛ لأن المصلين سترتهم سترة الإمام، أو الإمام بنفسه سترة لهم، ومن هنا قال مالك رحمه الله: إذا احتاج الإنسان أن يمر بين يدي الصفوف في صلاة الجماعة فلا مانع، وأكره ذلك لغير حاجة.
إذاً: من كان يريد أن يذهب لحاجته وقت صلاة الجماعة فيتجنب المرور بين الصفوف، وإذا لم يجد مكاناً إلا بين الصفوف فلا مانع؛ لأن كل من وراء الإمام سترته سترة الإمام أو الإمام بنفسه سترة لهم.
الشاهد أن من العلماء من أجاب عن قطع الحمار للصلاة بحديث ابن عباس، وأجاب الآخرون عنهم بما ذكرنا.
أما الكلب فلم يأت ما يعارضه كما جاء في المرأة وفي الحمار، فيبقى على الخبر، لكنه وصف بالأسود، وجاءت الروايات بأن الكلب الأسود شيطان، ومن العجيب أن بعضهم يفرق بين الكلب المأذون في اقتنائه وغير المأذون في اقتنائه! والصواب أن الكلب الأسود يقطع الصلاة، كما في النص، ولم يأت ما يخرجه مثل المرأة والحمار.
فهذا ما يتعلق بإبطال الصلاة وقطعها بمرور هذه الثلاث، ولا ينبغي للمصلي أن يفرط في اتخاذ السترة، ولا ينبغي للمار أن يتعدى على حرمة المصلي.
ثم قال المؤلف رحمه الله: [وله عن أبي هريرة نحوه دون الكلب، ولـ أبي داود والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما نحوه دون آخره، وقيد المرأة بالحائض] .
(قيد المرأة) أي: في حديث: (يقطع صلاة الرجل المسلم: المرأة والحمار والكلب) ، وهذه الزيادة قيدت المرأة بكونها حائضاً، ويقول الأصوليون: هذا وصف مناسب، فإذا اعتبرت الحيضة بالنسبة للمرأة كان اعتباراً مناسباً، ولكن سيأتي ما يهدم هذا كله.(48/6)
شرح حديث: (إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس ... )
قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو شيطان) متفق عليه، وفي رواية (فإن معه القرين) ] .
حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه موجه للمصلي.
وفي هذا الحديث إشكالات، فلو اتخذ المصلي سترة، وأراد إنسان أن يمر بين يديه، فقال في الحديث: (فليدفعه) أي: فليمنعه، وبأي صفة؟ رأينا في هذا المسجد النبوي الشريف بعض الأشخاص يصلي وكأنه يحمل وعاء غيظ وحقد، فإذا مر إنسان بين يديه فإذا به بكل قواه يدفعه! وهذا خطأ، يقول العلماء: دفع المار كدفع الصائل من إنسان أو حيوان ضعيف يدفع بالأسهل، فإن لم يندفع اشتد دفعه، فمثلاً: طفل صغير قام وهجم عليك، فتستطيع أن تدفعه بيدك برفق، فإذا أخذت عصاً غليظة وضربته لأنه صائل عليك فأصيب فأنت ضامن، فيجب عليك أن تتدرج في الدفع، فتشير إليه أو تدفعه برفق، فإن امتنع من هذا الدفع أو الإشارة زدت، فإن امتنع بعد هذا فيجوز أن تصل إلى حد المقاتلة.
وفي الحديث قال: (فليمنعه) ، وفي رواية: (فلا يتركه) ، وفي أخرى: (فلا يدعه) كما في الموطأ.
وقوله: (فإن أبى) أي: أشرت إليه فلم يبال، مددت يدك فنفضها، مسكت بثوبه فنفض يدك، وأصبح معانداً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن أبى فليقاتله) ، والمقاتلة قد تطلق على مجرد الخصومة، فلو رأيت اثنين يتنازعان كلاماً بينهما، تقول: هما يتقاتلان، وليس معنى (يقاتله) أن يحمل السلاح والترس والدرع ويقاتله من أجل المرور!! لا، بل (يقاتله) بمعنى: يدفعه بطريقة شديدة أكثر فأكثر؛ ولذا يقولون: لو اقتضى درأ المار إلى عمل كثير، كأن يمشي خطوات، ونحو ذلك مما يخرجه عن الصلاة، فإن هذا الفعل أشد خطراً من مجرد المرور، فقد يؤدي هذا إلى بطلان صلاته هو، وهناك من قال: يقاتله ولو أدى إلى موته!! فلو قاتله وقتله! فما الحكم؟ يقول الشافعي رحمه الله تعالى: عليه الدية في ماله، وبعض الشافعية يقولون: الدية على العاقلة؛ لأنه فعل فعلاً مأذوناً له فيه، والجمهور يقولون: لا يجوز أن يصل الحال إلى قتل المار، فإن أصيب بتلف فهناك من يقول: دمه هدر؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: يقاتله، وهناك من يقول: ما أراد بالمقاتلة أن تقتله أو تصل به إلى حد الإتلاف، إنما أراد المنع بدليل ما سيأتي: (ادرءوا ما استطعتم) ، فإذا لم تستطع أن ترده تركته، وقد أديت ما عليك، وكان الإثم عليه هو.
وقوله: (إنما هو شيطان) قالوا: مادة (شطن) بمعنى: بعد، أي: فهو بعد عن الاستجابة إليك، وبعد عن الاتباع للسنة، وبعد عن احترام المصلي في صلاته، فشيطنته عصيانه للأوامر، ورواية: (فإن معه القرين) تبين أنه ليس شيطاناً حقيقياً.
يروى (أنه صلى الله عليه وسلم رأى شاباً يتبع حمامة، فقال: شيطان يتبع شيطانة) ؛ لأن كلاً منهما متعص على الثاني، هي متعصية أن تقر له، وهو متعص عليها إلا أن يأخذها.
إذاً: كلمة (شيطان) قد تطلق على الشيطان حقيقة، وقد تطلق على شيء آخر، ومن الإنس شياطين كما قال: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام:112] ، فقوله: (إنما هو شيطان) بيان أنه مخالف، وفعله في ظاهره فعل الشياطين، وقد يكون معه يؤزه ويدفعه ويغريه، والله تعالى أعلم.(48/7)
شرح حديث: (إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئاً ... )
قال رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئاً، فإن لم يجد فلينصب عصاً، فإن لم يكن فليخط خطاً، ثم لا يضره من مر بين يديه) أخرجه أحمد وابن ماجة، وصححه ابن حبان، ولم يصب من زعم أنه مضطرب، بل هو حسن] .
يبين هنا صلى الله عليه وسلم أن على المصلي أن يتخذ شيئاً أمامه، فإن لم يجد شيئاً، لا عصاً ولا سهماً، فليخط خطاً، وأكثر الأئمة لم يقر الخط؛ لأنه لم يثبت عنده، ولم يصح الحديث فيه، لكن أحمد رحمه الله صحح الحديث وقال: من لم يجد شيئاً يستره من الناس فإنه يخط خطاً أمامه.
ثم اختلفوا في الخط هل يكون بالطول كالعصا التي يضعها بطولها أمامه أو يكون الخط معترضاً؟ أما العصا فتكون معترضة يميناً ويساراً؛ لأنه إذا جعلها بالطول ستأخذ حيزاً كبيراً تشغل الناس، وكذلك الخط، كما لو كانت عصاً يلقيها بين يديه، وقيل: يخطه من موضع سجوده إلى الأمام بطول ذراع، وقيل: يخطه مستديراً كهيئة المحراب.
وقالوا: إذا كان في أرض رمل جمع شيئاً من التراب أمامه، أو جعل أي شيء يشعر المار، والنووي رحمه الله في المجموع يقول: لو صلى على خمرة -وهي: السجادة المعروفة الآن- فإن نهايتها بمثابة السترة له؛ لأنها موضع صلاته وموضع سجوده، وما عداها مما وراءها ليس ملكاً له، وهو لم يقصد أن يحجر ما وراء مساحة السجادة، والسجادة من القدمين إلى السجود.
هذا الحديث بيان لنوعية السترة، فهي إما عنزة، وإما مؤخرة الرحل، وإما سهم، وإما عصا، وإما أن يخط خطاً، وجاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان يستتر براحلته في السفر خاصة.
وقوله: (ثم لا يضره من مر بين يديه) أي: إذا استتر بعنزة، أو بعصا، أو بمؤخرة الرحل، أو بالخط؛ فلا يضره من مر بعد السترة، ولا يتعرض له بالمنع.(48/8)
شرح حديث: (لا يقطع الصلاة شيء)
قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقطع الصلاة شيء، وادرءوا ما استطعتم) أخرجه أبو داود، وفي سنده ضعف] .
وإن كان الحديث ضعيفاً فعليه عمل الجميع، وهذا من حسن ترتيب المؤلف وتنسيقه، فإنه ساق لنا أحكام السترة، والتشديد في المرور، والتأكيد على اتخاذها، ثم بين أنه لا يقطع صلاة المرء شيء، لا امرأة ولا كلب ولا حمار ولا شيء، ولكن (وادرءوا ما استطعتم) ، فإذا كنت تصلي وأنت متخذ سترة، أو لم تتخذ سترة، أو اتخذت سترة وبعدت عنها -وهذه مخالفة منك أنت-؛ فأراد إنسان أن يمر في موضع لا يجوز له المرور فيه، فادفعه ما استطعت، فإذا غلبك ومر فلا عليك، فالإثم عليه هو، أما أنت فقد اتخذت السترة، ودرأت ما استطعت.
والناس يختلفون في ذلك، يقول الزهري: لو مر بين يدي مسكين تساهلت وتركته، ولو مر بين يدي جبار متعنت لمنعته، أي: ينظر إلى حالة الناس، فالغافل يتساهل معه، أما المتعمد للعصيان فلا يتساهل معه، لكن لا تصل إلى حد القتال بحيث تخرج عن حدود الصلاة، وبالله تعالى التوفيق.(48/9)
كتاب الصلاة - باب الحث على الخشوع في الصلاة [1]
الخشوع لب الصلاة وروحها، فلا يعرف عظمة الصلاة من لم يذق الخشوع فيها، وعلى قدر الخشوع يكون الأجر، ولما كان الخشوع بهذه المنزلة فإن الشارع الحكيم قد أحاط الصلاة بسياج منيع من الأحكام التي غايتها وفائدتها الحفاظ على المصلي من كل ما يشغله عن الصلاة حتى لا يضيع عليه الخشوع.(49/1)
ما ينافي الخشوع في الصلاة(49/2)
الاختصار في الصلاة ومعناه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل مختصراً) متفق عليه، واللفظ لـ مسلم، ومعناه: أن يجعل يده على خاصرته.
وفي البخاري عن عائشة: (أن ذلك فعل اليهود في صلاتهم) ] .
بدأ المؤلف رحمه الله تعالى هذا الباب العظيم بهذا الحديث الذي نهى فيه النبي صلى الله عليه وسلم الرجل -وكذلك المرأة- أن يصلي مختصراً، والمؤلف شرح كلمة (مختصراً) ، وهي مأخوذة من الخاصرة، والخاصرة فوق الحقو، وهو العظم، ويسمى بالحوض فوق ملتقى الفخذ بالظهر، فنهى صلى الله عليه وسلم عن هذه الهيئة -كما سيأتي فيما بعد- (في الصلاة) ، وجاء التعليل بأن ذلك من فعل اليهود، فيقفون في صلاتهم مختصرين.
وبعضهم يفسر الاختصار في الصلاة: بأنه الاختصار في القراءة، وهو أن يأخذ من بعض السور بعض الآيات مختصراً السورة.
وبعضهم فسر الاختصار بأن يختصر الصلاة، فلا يعطيها حقها من القراءة والطمأنينة في الركوع والسجود، بل يقتصر على أقل ما يجزئ، وهو الطمأنينة فحسب في الركوع وفي السجود وغير ذلك، بخلاف من يطيل ركوعه ويطيل سجوده، كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم، فقد أطال سجوده صلى الله عليه وسلم في بعض الليالي حتى قالت عائشة: (خشيت أن يكون قد قبض) أي: مات.
وجاء في الحديث الآخر: (يقرأ في الركعة الأولى البقرة وآل عمران والنساء، ثم يركع نحواً من ذلك، ثم يرفع نحواً من ذلك، ثم يسجد نحواً من ذلك، إلى آخر الصلاة) ، وهذا في النافلة؛ لأنه في الفريضة يؤم الناس، فيراعي الضعيف والمريض وذا الحاجة، فمن بعض معاني الاختصار اختصار الصلاة بعدم إيفائها حقوقها.
ومن معاني الاختصار أن يقرأ بعض الآيات من بعض السور.
وبالمناسبة فإنه قد ورد عن مالك رحمه الله أنه قال: أحب إليّ أن يقرأ سورة كاملة -ولو من قصار المفصل- من أن يقرأ نظيرها عدة مرات من سورة طويلة.
يعني أنه لو قرأ صفحة كاملة من سورة البقرة، أو آل عمران، أو يس، فخير من ذلك أن يقرأ سورة كاملة مثل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] ، أو {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ} [الفيل:1] ، أو {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] ، فإن هذا أحب عنده من أن يقرأ صفحة كاملة من سورة طويلة دون أن يكملها.
والسبب في ذلك أن من تأمل أسلوب القرآن ومنهجه، وأدرك المعاني المرتبطة يجد كل سورة من قصار السور تنفرد بوحدة موضوعها، بخلاف السور الطوال، فإنها تتعدد فيها المواضيع، فإذا جئت إلى سورة (اقرأ) وجدت أنها تتحدث عن بداية الرسالة بالقراءة والتعليم، وإذا جئت إلى سورة (إنا أنزلناه) فإنها تتحدث عن القرآن، وعن نزوله، وإذا جئت إلى سورة (البينة) وجدت فيها إقامة الدليل والحجة على المشركين وأهل الكتاب، وإذا جئت إلى سورة: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) وجدت موضوعها يتحدث عن ذات الله ووحدانيته سبحانه، وكذلك (المعوذتان) تجد كل واحدة موضوعة للاستعاذة من أشياء مخصصة.
أما البقرة وآل عمران وبقية السور الطوال فتجد فيها عدة قصص، وكل قصة مستقلة بذاتها، وتجد في سورة البقرة مواضيع عديدة، كأول خلق الكائنات، وتقسيم الناس إلى مؤمنين ومنافقين وكفار، ثم دعوة الناس إلى عبادة الله وحده بإقامة الأدلة بخلق السموات والأرض، ثم الكلام على بني إسرائيل، ثم آدم، ثم إبراهيم، إلى غير ذلك من أشياء عديدة، ومواضيع متعددة، فلربما أخذ الموضوع الواحد صفحة كاملة أو أكثر، وينبغي على كل قارئ -سواءٌ أكان وحده، أم إماماً في الصلاة- إذا قرأ من بعض السورة الطوال أن يأخذ موضعاً مكتملاً فيقرأه، ولا يبتر الموضوع ويركع، فإذا لم يمكن ذلك، أو كان يطول ذلك على المصلين فليقرأ من قصار السور.
فمن معاني الاختصار: الاقتصار على بعض الآيات من بعض السور، وكذا الاختصار في الصلاة بإنقاص بعض واجباتها، والاختصار حساً، وهو وضع اليدين على الخاصرة، وماذا في وضع اليد في الخاصرة؟ قالوا: لأن ذلك من فعل اليهود في صلاتهم، ولا ينبغي أن نتشبه باليهود في عباداتنا.
وهناك معنىً آخر، وهو أنك لو تأملت في نفسك إذا كنت في خلوة، أو في حالة ما، ووجدت نفسك مباشرة تضع يدك على خاصرتك، فإن ذلك -غالباً- لا يكون إلا في حالة الإعجاب، والنظر بتوسع فيما أعجبك، ففيها شيء من الفخر أو الاعتزاز أو التكبر، وهذا يتنافى مع الخشوع في الصلاة، والله تعالى أعلم.(49/3)
الصلاة بحضرة الطعام وما في معنى ذلك
قال المصنف رحمه الله: [وعن أنس رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا قدم العشاء فابدأوا به قبل أن تصلوا المغرب) ، متفق عليه] .
في الحديث الأول النهي عن الاختصار في الصلاة أثناء أدائها، والحديث الثاني موضوعه قبل الدخول في الصلاة، وفيهما المحافظة على الخشوع في الصلاة، ففي هذا الحديث أنه إذا قدم العشاء قبل المغرب فلنبدأ بالعشاء، مع أن المغرب وقته ضيق! وفي اللفظ الآخر: (إذا قدم العشاء والعشاء فابدأوا بالعشاء) ، فجيء بلفظ (العشاء) بدلاً من المغرب، ومهما تكن من تسمية فإنهم يقولون: إذا قدم الطعام تطلعت إليه النفس، فإذا تركه وانصرف إلى الصلاة كانت نفسه مع الطعام، وهذا يشوش عليه.
وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان يتناول طعامه، وكان بجانبه شواء تشم رائحته، فأراد المؤذن أن يقيم الصلاة، فقال: اصبر حتى ننال من هذا الشواء؛ فلا تتعلق به نفوسنا في الصلاة.
وهنا بعض المباحث الفقهية، فمن ذلك أنه لو ضاق الوقت، وقدم الطعام فهل نقدم الطعام ولو خرج الوقت؟ هناك من يقول: نعم، كالظاهرية، وهناك من يقول: يجب تقديم حرمة الوقت.
وهناك من يقول: هذا للصائم؛ لأنه طيلة نهاره صائم جائع ينتظر الطعام ويرقب المغرب، فإذا قدم طعامه فليتناول من طعامه قبل أن يصلي المغرب، وهذه كانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كانوا يتناولون الإفطار بعد الأذان وقبل الصلاة، فيتناولون تمرات مع شيء من الماء، كما يُفعل الآن في المسجد النبوي ولله الحمد؛ لأن الإنسان مع طول الوقت يتطلع وينتظر، فلابد أن يأكل ما يكسر هذا التطلع والانتظار، لاسيما بالمادة الحلوة، ولذا قالوا: من الحكمة أن يكون الإفطار على تمر ورطب؛ لأن الحلاوة تدفع شره الجوع عن المعدة، وتجعلها تكتفي بأقل مما لو لم يسبق إليها بالحلوى.
فتقديم العشاء على المغرب كان رفعاً للتشويش، أما إذا كان شبعان وقُدِّم العشاء وأقيمت صلاة المغرب فيبقى في حقه أن يُقدم المغرب؛ لأفضلية أول الوقت؛ لأن العلة منسية؛ إذ إنه قد شبع من هذا الطعام، أو في غنى عنه.
فالحكم مختص بالجائع الذي يتشوش خاطره بترك الطعام إذا قّدم الصلاة، والله تعالى أعلم.
وليس الأمر قاصراً على المغرب وعلى العشاء، بل كل أوقات الصلوات في ذلك سواء، ويمكن أن يقال أيضاً: إن ذلك يكون كذلك في حالة ما إذا كان هناك أمر هام ينشغل به المصلي، كمن عنده موعد مع إنسان في مكالمة هاتفية مهمة، وأقيمت الصلاة، وبقي من الوقت دقائق على موعد المكالمة، أو على مجيء الرسول بهذا الأمر، وإذا دخل في الصلاة يخشى أن يرن الجرس، أو إن دخل في الصلاة، يخشى أن يأتي الرسول فلا يجده.
فلو أخرت الصلاة إلى الفترة القريبة التي لا تفوّت عليك وقت الصلاة حتى تُصلي وأنت مطمئن الخاطر مستريح البال فإنه يمكن أن يقاس هذا على علة رفع التشويش الكائنة في غير الطعام، مع غير المغرب والعشاء.(49/4)
مسح الحصى عن الوجه في الصلاة
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يمسح الحصى، فإن الرحمة تواجهه) ، رواه الخمسة بإسناد صحيح، وزاد أحمد: (واحدة أو دع) ] .
هذا الحكم -أيضاً- يدور في فلك الخشوع أثناء الصلاة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا قام أحدكم في الصلاة فلا يمسح الحصى؛ فإن الرحمة تواجهه) ، فما علاقة مسح الحصى بمواجهة الرحمة؟ قالوا: لأن الإنسان في صلاته مقبل على الله سبحانه بمناجاته، مستحضر عظمة الله، مستحضر من يخاطب، ومقابل ذلك أن يكون الرحمات تواجهه، فإذا ما أخذ يمسح الحصى فكأنه انصرف عن مصدر الرحمات فانقطعت عنه.
ولكن قد تكون ضرورة، وبعضهم يقول: لا تمسح الحصى، واسجد على ما أمامك؛ لأن الحصى الذي يواجهك يحب أن تسجد عليه.
ويقولون: إن الحصاة التي يخرجها الإنسان من المسجد تخاصمه يوم القيامة، فتقول: لمَ أخرجتني من محل العبادات إلى محل القاذورات؟ ومن هنا يقول بعض العلماء: لا يجوز رمي الجمار بجمار تلتقط من المسجد؛ لأن الحصى التي في المسجد تستقر وتطمئن وتصغي وتدرك العبادة التي تسمعها، فهي تستأنس بها.
وجاء في هذا شاهد العيان الذي شهده آلاف الناس، في المسجد النبوي الشريف حينما كان صلى الله عليه وسلم يخطب متكئاً على جدع نخلة، فصُنع المنبر، فأول ما تحول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنبر حن الجذع لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان مستأنساً مستشعراً لعظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعظمة ما يُلقى من قوله، والله سبحانه قادر على أن يجعل في الجماد حساً، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] ، فهو نوع من التسبيح لا تدركونه، بل هو فوق حواسكم وفلا تفقهونه، فيحن الجذع ويسمع حنينه كل من في المسجد كحنين العُشراء، والناقة العشراء يكون في حنينها نوع من اللطف أو العاطفة حتى نزل صلى الله عليه وسلم عن المنبر وضم الجذع فسكن، ثم خيره فقال: (إن شئت أخذتك وغرستك فأورقت وأينعت وأثمرت -يعني: ترجع إلى شبابك- وإن شئت: صبرت، وكنت من غرس الجنة) ، فانظر إلى قدرة الله تعالى، حيث خاطب النبي صلى الله عليه وسلم الجماد، لكن الله جعل هذا الجماد يدرك الخطاب والجواب، فقال (أكون من غرس الجنة) .
فهذا الجدع تأثر بمدة قيام الرسول صلى الله عليه وسلم متكئاً عليه سبع سنوات؛ لأن المنبر صنع في السنة الثامنة، فلما تحول عنه افتقده.
لذا قالوا: من المعاني في النهي عن مسح الحصى أنها تحب أن تسجد عليها، وتشاركك في السجود، وكذلك ما جاء في النهي عن كفت الشعر، فقد جاء عن بعض السلف: إن الشعر يحب أن يسجد معك.
أو قال: أطلقه ليسجد معك.
أي: كما يسجد الوجه على الجبهة، فكذلك الشعر الذي في الرأس -في الجمة- يسجد مع صاحبه.
ويهمنا هنا أنه صلى الله عليه وسلم نهى المصلي أن يمسح الحصى، اللهم إلا إذا كان شيئاً لا يستطيع أن يمكن جبهته منه، فهناك نوع من الحصى المصنوع المكسر مثل أطراف المسامير والإبر، فيصعب السجود عليه، فإن استطاع أن يسويه بحيث يمكن أن يسجد عليه فذاك، وإلا أزاله، أما إذا كان رملاً، أو كانت صخرة، أو كان شيئاً أملساً يمكن أن يسجد عليه فلا حاجة لمسحه وإزالته، كما قال أبو الدرداء، أو أبو ذر: لأن أدع ذلك خير لي من الدنيا وما فيها.
وإذا كان هذا في النهي عن مسح الحصى فكيف بالذي ينظر في الساعة، ويضبطها، ويفعل غير ذلك، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن يكفت الرجل ثوبه في الصلاة، فأين الخشوع عند هذا الصنف؟! وأين إدراك ما يُقرأ؟ فهذا حاله كما قال صلى الله عليه وسلم: (لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه) ، ولن يتذوق إنسان طعم الصلاة وحلاوة المناجاة إلا إذا كان الخشوع متوافراً، وإلا كان كمريض يشرب الشهد فلا يشعر بطعمه، وبالله تعالى التوفيق.(49/5)
الالتفات في الصلاة
قال المصنف رحمه الله: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد) .
رواه البخاري، وللترمذي -وصححه-: (إياك والالتفات في الصلاة؛ فإنه هلكة، فإن كان لا بد ففي التطوع) ] .
يسوق لنا المؤلف رحمه الله في (باب الحث على الخشوع في الصلاة) ما يتعلق بالالتفات في الصلاة، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان) ، وجاء أيضاً عن أبي ذر أنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل شيء، وسألته عن الالتفات في الصلاة فقال: إنما هو هلكة، فإن كان ولا بد ففي النافلة) .
فقول أم المؤمنين عائشة -زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم-: (سألت رسول الله عن الالتفات في الصلاة ... ) فيه بيان أن الالتفات لا يكون إلا عن شغل يُشغله عن الصلاة، وهذا يتنافى مع الخشوع الذي عقد المؤلف الباب من أجله، وبيّن صلى الله عليه وسلم أن هذا الالتفات إنما هو اختلاس، والاختلاس: هو أخذ المال خفية، كشخص يعمل في محل، وتحت يده صندوق المبيعات أو الأمانات، فيختلس -أي: يأخذ- من المال خفية دون أن يعلم به صاحب المال، ولكنه -كما يقال- أمر خفي في بدايته ظاهر في نهايته، بخلاف الاغتصاب، فالغصب ظاهر في أوله ظاهر في آخره؛ لأن الغاصب لا يبالي، فيأخذ جهاراً اقتداراً، أما المختلس فهو يخشى السلطة، ويخشى صاحب المال، فيأخذ المال خلسة.
وهكذا الشيطان، يأتي للإنسان ويحمله على الالتفات بأي صورة، فيورد عليه صورة عدو، ويورد عليه صورة طلب حاجة، ويسمع أدنى صوت بجانبه، يميناً أو يساراً، ولخلو ذهنه أو فراغ قلبه عن الشغل بالصلاة يستهويه، أو يلتفت ليعرف مصدر هذا الصوت، أما إذا كان خاشعاً في صلاته مشتغلاً بما يتلفظ به، معظماً لمن يناجي، ولمن هو قائم بين يديه، فإنه لا يبالي بتلك الأصوات، أو بتلك الحركات، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن في الصلاة لشغلاً) ، أي: عما سواها.
ومن هنا كان الالتفات انشغالاً عن الصلاة، وكونه اختلاساً فالاختلاس ينقص المال، فإذا كان كل يوم يأخذ المؤتمن من المال درهماً فإنه بعد عدة أيام، وبعد عدة شهور، وبعد عدة سنوات، سيكون قد حصل في المال نقص كثير، وهكذا الصلاة التي يلتفت فيها الإنسان، فإنه قد أنقص منها بقدر التفاته، فتكون الصلاة قد نقصت، كما أن رأس المال عند المؤتمن عليه قد نقص، والمختلس قد يختلس شيئاً قليلاً، وقد يختلس شيئاً كثيراً، وكذلك الشيطان، فقد يختلس من الإنسان في صلاته بالتفاته شيئاً قليلاً، وقد يختلس شيئاً كثيراً، سواءٌ أكان في نوع الالتفات ومدى انحرافه، أم كان في كثرته ومداومته عليه، فكل ذلك نقص يقع على الصلاة.
وكون الالتفات اختلاساً ناحية تربوية، وناحية معنوية فيما ينقص من الصلاة، لكن الفقهاء يبحثون عن صحة الصلاة وعدم صحتها، فيقولون: الالتفات إما أن يكون جزئياً، أو كلياً ومعنى (جزئياً) : أن يلتفت بعنقه قليلاً وصدرُهُ لا يزال إلى القبلة، ويسمى هذا الالتفات التفاتاً جزئياً، أما إذا التفت بكليته وصدره، فبعد أن كان إلى القبلة، ذهب إلى اليمين، وانحرف بصدره عن القبلة فهذا التفات كلي، فيقولون: إن الالتفات الكلي مبطل للصلاة؛ لأنه يُفقد الصلاة شرطاً من شروط صحتها في لحظة منها، وهو شرط استقبال القبلة، وهذا في الأمور العادية والاختيار، أما إذا كان في حال الضرورة، فالضرورات لها أحكامها، كمن كان في صلاة الخوف وهو يجري، أو كان يفر من عدو وهو في الصلاة، فهو سينحرف عن القبلة قطعاً، أو كان في حالة قتل العقرب أو الحية أثناء الصلاة، فهو سينحرف عن الصلاة انحرافاً كلياً قطعاً، لكن هذه حالات اضطرارية، والضرورات تبيح المحظورات، والبحث إنما هو في الأمور العادية الاختيارية.
أما إذا صلى في جوف الكعبة فجعل الباب خلفه، وصلى إلى الجدار المقابل للباب، ثم إذا به ينحرف انحرافاً كلياً إلى اليمين ثم انحرف انحرافاً كلياً إلى اليمين -أي: إلى الجدار الثالث- فكل ذلك لا يبطل الصلاة من جهة الالتفات أو الانحراف؛ لأنه بانحرافه لم يخرج عن استقبال الكعبة، وهذا إذا كان يصلي داخل جوف الكعبة.
أما ما عدا ذلك فنرجع إلى الحالة والصورة التي بسببها التفت التفاتاً كلياً لنعرف هل هي حالة مشروعة ومرخص له فيها؟ فإذا كانت كذلك فلا تبطل الصلاة، أما إذا كان عبثاً وغفلة وسهواً منه فإن كان التفاتاً كلياً بطلت صلاته، وإن كان التفاتاً جزئياً لم تبطل الصلاة.
وأما كون الالتفات في الصلاة هلكة فلأن الاختلاس ينقص من أجر صلاته، والنقص من الأجر هلكة، فنقص مع نقص مع نقص سينتهي إلى نقص كثير يؤدي إلى الهلاك، أو أن الالتفات الجزئي قد يجعله يتعود ذلك، ثم يأتي منه التفات كلي دون أن يشعر، ويرجع ويستمر في صلاته وتكون صلاته باطلة، فتكون الهلكة.
ويهمنا أن الالتفات في الصلاة ينافي الخشوع، ثم قال في هذا الحديث: (فإن كان ولا بد -أي: إن اضطر إلى الالتفات- ففي النافلة) .
ومثال هذا ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين، إذ إنهم لما خرجوا -وقبل أن يصلوا إلى الموقعة- عرسوا في الليل، فقال صلى الله عليه وسلم: (من يحرس لنا الوادي؟) ، أي: الذي فيه العدو، فقام رجل وقال: أنا يا رسول الله فقال: (خذ عليك سلاحك، وخذ جوادك) فذهب، ثم طلع الفجر والناس ينتظرون أن يرجع هذا الفارس بالخبر فما رجع، فطال عليهم، فكان صلى الله عليه وسلم يصلي ويلتفت إلى جهة الوادي يتطلع إلى مجيء هذا الفارس، فقالوا: هذه نافلة كان يصليها صلى الله عليه وسلم، وكان يلتفت ويتطلع إلى الفارس إلى أن أذن الفجر، وصلى سنة الصبح وكان يلتفت، ثم فرغ وقال: (هل أحد منكم رأى فارسنا البارحة؟ قالوا: لا) ، فانتظروا قليلاً، ثم قاموا إلى الصلاة فجاء الفارس، فأخبره الخبر بأنهم جاءوا بإبلهم وغنمهم ونسائهم وأطفالهم، فقال (هل نزلت عن جوادك؟ قال: والله -يا رسول الله! - ما نزلت إلا لأتوضأ أو أصلي، قال: لا عليك أن تفعل فيما بعد) ، يعني: عملك هذه الليلة يكفيك، وليس معنى ذلك أنه يترك العمل بالتكاليف، فقد جاء نظير ذلك في حق عثمان رضي الله تعالى عنه حين جهز جيش العسرة، فقال له صلى الله عليه وسلم: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم) ، يعني: هذا العمل يكفيك، فيكفيك من الأجر ما تقر به عينك في الجنة وليس معنى ذلك أنه إذا حصل على ما يكفيه يترك الواجبات فالمهم أنه إن كان ولا بد فيكون الالتفات في النافلة، ولهذا قالوا: يعتفر في أحكام النوافل ما لا يعتفر في أحكام الفرائض.
فهذا ما يتعلق بالالتفات في الصلاة.(49/6)
البصاق في الصلاة وحكمه(49/7)
علة النهي عن البصق في الصلاة
قال المصنف رحمه الله: [وعن أنس قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان أحدكم في الصلاة فإنه يناجي ربه، فلا يبصقن بين يديه، ولا عن يمينيه، ولكن عن شماله تحت قدمه) ، متفق عليه.
وفي رواية: (أو تحت قدمه) ] .
في هذا الحديث النبوي الشريف -مع الحث على الخشوع في الصلاة- آداب أخوية واجتماعية، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أحدكم في الصلاة) ، وانظر إلى قوله: (إذا كان أحدكم في الصلاة فإنه يناجي ربه، فلا يبصقن) ، فإنه كان يمكنه أن يقول: لا يبصقن أحدكم في الصلاة قبل وجهه؛ فإنه يناجي ربه.
فقال: (إذا كان أحدكم في الصلاة) ليوقظ في الإنسان هذا المعنى العظيم، وهو حقيقة عمله.
فهو في صلاته يناجي ربه، والمناجاة أخص من الحديث؛ لأنها بين الصديق والصديق، ولأنها مما يحرص المتناجون أو المتناجيان على الحفاظ عليه، كما بين سبحانه في فوارق الحديث بقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] .
وكما في قصة أبناء يعقوب إذا قال تعالى عنهم: {خَلَصُوا نَجِيّاً} [يوسف:80] ، أي: يناجي بعضهم بعضاً يدبرون أو يتآمرون كيف يفعلون إذ أخذ منهم أخوهم.
فليست المناجاة أمراً علنياً ولذلك إذا كان المجتمعون ثلاثة فلا يتناج اثنان دون الآخر؛ لأن ذلك يحزنه، حيث يقول في نفسه: ماذا يقولون؟ وفي أي شيء يتناجون؟ وعن أي إنسان؟ فإذا كانوا أربعة فلا بأس أن يتناجى اثنان، والثالث والرابع يستمران في حديثهما.
فالمصلي في تلك الحالة يناجي ربه؛ لأنه يخاطب ربه سبحانه بحديث النجوى، وليس بحديث الجهر والإعلان، وكلما كان الحديث ذا أهمية أخذ طريق النجوى، سواءٌ أكان بين الصديقين، أم بين الشريكين، أم بين المهتمين بأمر خطير يخفونه عن الناس، وإذا تفاهموا فيه تفاهموا بالنجوى، ولهذا قال الحسن أو ابن المبارك: إذا أردت أن تدخل على الله بغير استئذان، وتخاطبه بلا ترجمان، فأسبغ الوضوء، وأتِ المسجد واستقبل القبلة، وكبر للصلاة فإنك تخاطب المولى سبحانه بلا ترجمان بينك وبينه، وبأي لسان يفهم عنك.
وكذلك كل إنسان عندما يدخل في صلاته يقول: (الله أكبر) ، ثم يأتي بسورة الفاتحة بما فيها من المعاني المعروفة للجميع، فهو يناجي ربه إلى أن يقول: (إياك) أي: دون سواك (نعبد) ، (وإياك) أي: دون سواك (نستعين) ، ثم يقول: (اهدنا) ، ففي هذه الحالة يجب أن يستشعر عظمة من يناجي، ويستشعر أنه يستقبل ربه، كما جاء في بعض الروايات: (فإن الله تجاه وجهه) ، وجاء أيضاً في بعض الروايات: (إن المصلي إذا أقبل على الله أقبل الله عليه) ، فإذا أعرض أعرض عنه، وهذا من آفات الالتفات كما يقولون، ومن الجفوة، فإذا كنت تكلم إنساناً، والتفت عنه، فإن هذا ليس من الأدب، فالالتفات مخلٌ بالأدب، ومتنافٍ مع الخشوع، وكذلك هنا، فإذا كان يناجي ربه ثم غلبه البصاق فلا يبصقن تجاه وجهه؛ لأن الله تجاه وجهك، فأنت تناجي ربك، وما دمت مقبلاً على الله، فالله مقبل عليك.
وهذا من الآداب الرفيعة، وإن كنا لا ندرك ولا نحس، ولكن نؤمن، ونوقن بما أخبرنا به صلى الله عليه وسلم فقال: (فلا يبصقن تجاه وجه، ولا عن يمينه) ، وجاء في بعض الروايات التعليل لهذا؛ بأن تجاه وجهه رب العالمين يناجيه، وعن يمينه ملك الحسنات، فلا يبصق عن اليمين فيؤذي الملك، ولا يبصق أمامه؛ لأنه إساءة أدب مع الله سبحانه وتعالى.
وجاء عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه أنه قال: (ما بصقت تجاه القبلة منذ أسلمت) احتراماً للقبلة في غير الصلاة، وخشوعاً في الصلاة أثناء الصلاة.
ثم بين صلى الله عليه وسلم ما نفعل إذا عرض لنا البصاق ونحن في صلاة -فإن الالتفات منهي عنه، والبصق تجاه القبلة منهي عنه- فقال (ولكن عن يساره تحت قدمه) ، فإذا كان عن يساره وتحت قدمه فستكون التفاتة جزئية؛ لأن قدمه بجواره، وفيه تعظيم للقدم اليمنى، فيكون البصق تحت القدم اليسرى.(49/8)
حكم البصق في المسجد عن اليسار تحت القدم
وقد جاء في حديث آخر: (البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها) ، وهذا لا يتعارض مع البصق تحت قدمه اليسرى في المسجد؛ لأن البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها، فإذا بصق تحت قدمه اليسرى ودفنها فقد كفّر عن خطيئته وتجنب تجاه القبلة واليمين، ولكن هذا إذا كان المسجد تراباً ويمكنه أن يدفنها.
وإذا أمكن أن يتجنب البصاق في المسجد -ولو تحت قدمه- كان أولى، ولا يقل: لا بأس فهي خطيئة مكفرة، فبما أنها خطيئة تحتاج إلى تكفير فالأولى تركها، فقد جاء في بعض الروايات: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ طرف ردائه بيديه، وبصق في طرف الثوب، ثم طبق الثوب وحكها) ، ليتشربها الثوب بدلاً من أن تكون في أرض المسجد.
وفي بعض الروايات: (لا يبصق أحدكم في المسجد فيؤذي بها أخاه المسلم في بدنه أو ثوبه) ، حتى لو دفنها فقد يأتي إنسان يجلس يتحرك فوقها، فيمكن أن تصل إليه فتؤذيه في ثوبه، وإذا كان بالإمكان تلافي هذه الخطيئة، فلا داعي لإيقاعها أصلاً، حتى لا نذهب ونبحث عن كفارتها.
وكل ذلك مراعاة لطبيعة المسجد في أول أمره، وقد مكث المسجد طويلاً وأرضه الحصباء، بل كانت طيناً، فقد جاء في حديث ليلة القدر: (رأيتني أسجد صبيحتها في ماء وطين) ، فأمطرت السماء وكان سقف المسجد من السعف والجريد، كما جاء عن بعض الصحابة قوله: (فوكف السقف إلى الأرض، ولقد رأيت الطين على أرنبة أنف رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
وبعد هذه الحادثة تعذرت الصلاة في الأرض التي فيها طين، فذهب كل رجل وجاء بالحصباء في طرف ردائه، وفرشها في محل صلاته وصلى عليها، وكثر هذا العمل، ففرش المسجد بالحصباء بأطراف أرديتهم، فنظر إليه صلى الله عليه وسلم فقال: (نعم هذا) .
ويمكن أن نقول: هذا عمل جماعي في مصلحة عامة، وفي مثل هذه الحالة ينبغي على المقيم من الرعية أن يساهم، ولا ينتظر من المسئولين أن يقوموا بكل شيء؛ إذ قد لا يستطيعون، أما إذا كانوا يستطيعون، وفي بيت المال ما يكفي لذلك، فعليهم أن يفعلوا، وهذه مهمتهم؛ لما لديهم من الإمكانيات في ذلك، أما في حالة عجزهم، أو إمكان إنجازه من قبل الرعية المقيمين، وتوفير ما في بيت المال لغيره فإن علينا أن نتعاون.(49/9)
حكم البصاق في المساجد المفروشة
وإذا كان الوضع كما هو الآن في عموم المساجد، حيث تكون أرض المسجد خرسانة، أو بلاطاً، أو رخاماً، أو فراشاً، فلا يتأتى للإنسان -إذا كان يصلي على رخام مثل الزجاج- أن يبصق عن يساره تحت قدمه، ولا يمكن أن يدفنها في الرخام وفي هذه الحالة يرجع إلى طرف ثيابه، فإن كانت ثيابه بيضاء ونظيفة فيتعين عليه أن يكون في جيبه منديل، وهذا مما تدعو إليه حياتنا العامة الآن.
كما قال عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه: (يحدث للناس أحكام بقدر ما أحدثوا) وهو قالها فيما يتعلق بالجنايات، ونحن نقول الآن: يحدث للناس تغيير في الأحكام بسبب ما حصل من تغير الأحوال بمرور الزمن وأحوال الحياة.
فهذا حديث صريح: (ولكن عن يساره تحت قدمه) ، فهل يمكن أن نطبق هذا الحديث كما يفعل بعض الإخوة الذين يتمسكون بتطبيق حرفية الأحاديث.
الجواب: لا.
ومن هنا ننتقل إلى ما كنا فيه من الصلاة في النعال، فإذا كان صلى الله عليه وسلم نهى عن البصاق تجاه القبلة لعلة محددة، وعن يمينه لعلة معينة، وأباح عن اليسار، وأن يدفنها حتى لا يؤذي بها فإنه إذا كانت صلاته في النعلين -بما يعلق فيهما- ستؤذي غيره فحينئذٍ نقول: لا تصل في النعال.
أما لو كانوا في سفر ونزلوا في الخلاء، والأرض ليست لينة أو ناعمة، وإذا خلع النعلين لا يستطيع أن يقف باطمئنان واستقرار، وكانت النعلان طاهرتين فإنه يصلي فيهما؛ لأنه مشروع، ولم يتعارض مع مصالح أخرى، فقوله: (عن يساره وتحت قدمه) كان يتناسب مع ذاك الوقت، أما الآن فقد حدث ما يتعارض مع ذلك.
فلا نستطيع أن نطبق الحديث، ونحن لا نرد الحديث، ولكن نعجز عن تطبيقه؛ لأن تطبيقه في الرخام غير ممكن، وتطبيقه على مثل الفراش اليوم غير ممكن، فلا نتمسك بحرفية الحديث مستدلين بقوله: (عن يساره تحت قدمه) ، وهذا -كما أشرت- يربي الذوق، والذوق في الأخلاق إحساس وسمو، يتفاوت الناس فيه كما بين السماء والأرض.
فانظر إلى معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه إذ يقول: منذ أسلمت ما بصقت تجاه القبلة قط، لا في صلاة ولا في غيرها.
فما هو الذي منعه؟ إن معاذاً كان كأنه يستشعر عظمة الكعبة وحرمتها عند الله، ولو كانت بعيدة لكنه تجاهها، ونحن نجزم بأن البصاق في غير اتجاه القبلة أولى من البصاق في اتجاه القبلة، ونحس بمعنى لا نستطيع أن نعبر عنه.
وكنا نرى بعض الأشخاص في المسجد النبوي في أوائل الثمانينات -ولم تكن الكهرباء قد عمت البيوت، وكان المسجد النبوي هو المقيل للناس، خاصة في رمضان- فيأتون المسجد النبوي من أجل التبريد؛ فقد كانت فيه مراوح، فربما تجد إنساناً ينام ماداً قدميه إلى القبلة، وبيننا وبين الكعبة أكثر من أربعمائة كيلو، فكنا نرى بعض الأشخاص إذا وجد إنساناً نائماً حول رجليه عن القبلة إلى الجهة الثانية، فالنائم يقوم ويقول: ما هذا؟! فيقال له: كيف تمد رجليك تجاه الكعبة! فيقول: الكعبة بعيدة، ولكن الشخص الذي أيقظه في عاطفته أن نوم هذا الشخص ماداً قدميه إلى الكعبة فيه إهانة للكعبة، مع أن النوم مع مد القدمين إلى الكعبة جائز، فالميت عند الاحتضار نوجهه، ونجعل قدميه إلى الكعبة ورأسه إلى الشمال، فالمصلي -في حياته- إذا مرض ولم يستطع أن يصلي قائماً ولا جالساً فليصلِّ نائماً مستلقياً على ظهره ماداً قدميه إلى القبلة؛ لأنه إذا أحس بالعافية وجلس فسيكون وجهه إلى القبلة، لكن لو كان العكس فجعلنا رأسه إلى القبلة، ونشط وتعافى وجلس فسيكون مستدبر القبلة، وهذا ينافي الصلاة.
فأقول: هذه عاطفة عند الناس، والخطأ والصواب شيء آخر، ويكفينا في هذا نموذج من معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه حين قال: (ما بصقت تجاه القبلة منذ أسمت في صلاة ولا في غيرها) .
فمن الذي نهاه عن هذا؟! وأين النص الذي منعه أن يبصق جهة القبلة؟ إنه إحساس عاطفي تقديراً للكعبة المشرفة.(49/10)
كتاب الصلاة - باب الحث على الخشوع في الصلاة [2]
إن للصلاة مكانة عظيمة في دين الإسلام، ولذلك عظمها الشرع، وأحاطها بسور منيع من الأوامر والنواهي التي تحافظ عليها وتزيل كل ما يشوش على المسلم صلاته أثناء وقبل أدائها، ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم أمر عائشة بتمزيق القرام الذي كانت علقته في الجدار؛ لأنه شغل النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته، واستبدل بخميصته المهداة إليه غيرها؛ لأن فيها تصاوير شغلته عن الصلاة، وأيضاً نهى صلى الله عليه وسلم المصلي أن يرفع بصره إلى السماء أثناء الصلاة؛ لأن ذلك ينافي الخشوع، والمسلم مطالب بالخشوع في صلاته.(50/1)
أحكام متعلقة بالصلاة(50/2)
احترام القبلة واليمين في الصلاة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وعنه -أي: أنس - قال: (كان قرام لـ عائشة سترت به جانب بيتها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أميطي عنا قرامك هذا؛ فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي) رواه البخاري] .
تقدم ما يتعلق باحترام القبلة واليمين، وتقدم كيف يكون وضع النعلين، حيث نهى صلى الله عليه وسلم المصلي إذا خلع نعليه أن يجعلهما قبالة وجهه، أو أن يجعلهما عن يمينه، وأما لماذا لا يجعلهما قبالة وجهه، ولا عن يمينه فقد قالوا: إذا جعلهما قبالة وجهه وسجد فكأنه ساجد للنعلين.
مع أنهما ليستاً صنماً، ولا معبوداً من دون الله! ولكن الصورة والهيئة لابد أن يكون فيها ذوق وعاطفة وأدب مع الله سبحانه وتعالى.
وأما النهي عن جعلهما عن يمينه فلقوله: (ولا عن يمينه فيؤذي بهما جاره) ؛ لأن موقفه في الصف من جهة اليمين بجوار من هو على يمينه، وإذا كان هو في الصف الثاني من جهة أخرى وجاء من جهة اليمين فيكون جاره في الصف عن يساره.
فلا يجعلها عن يساره أيضاً؛ لاحتمال أن يأتي إنسان ويقف بجواره، فتكون عن يمينه فيؤذيه بها.
قال صلى الله عليه وسلم: (ولكن بين قدميه) ، فحينما يقف يجعلها بين قدميه، فلو سجد فبين قدميه، ولو جلس للتشهد فبين ساقيه، فلن يؤذي بها أحداً.
فلا يجعلها تجاه وجه، ولا يجعلها عن يمينه، ولا يجعلها عن يساره إن توقع مجيء أحد يصلي بجواره، وكل ذلك لئلا يؤذي بها غيره.
وكذلك البصاق، فلا يؤذ به غيره، ولا يجعله تجاه القبلة؛ فإن ذلك من الجفاء، بل جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه عزل إمام قوم بسبب بصاقه إلى القبلة، فقد دخل مسجد قوم فرأى بصاقاً في جدار المسجد، فأخذ حجراً -وفي رواية: بيده- فحتها، وفي رواية: (أنه رأى الإمام يبصق تجاه وجهه، فلما أنهى الصلاة قال: لا يؤمنكم هذا بعد اليوم) ، فعزله عن الإمامة لأنه ما عنده أدب، وفعل ما لا يليق، فإحساسه ووجدانه بالأمور المعنوية مفقود، فنهى عن الصلاة وراءه وعزله لكونه بصق في الصلاة تجاه القبلة، ويكفي أنه صلى الله عليه وسلم حتها بيده الشريفة.
فقوله في الرواية الأخرى: (حتها بيده) قال بعض الشراح: أي: بدون حجر.
والصواب أنه حتها بحجر في يده، وهي صورة واحدة على الروايتين، فتولى صلى الله عليه وسلم حتها بيده وفيها الحجر، ولم يوكل ذلك لأحدٍ ممن معه، وكان يمكن أن يقول: يا فلان! حتها.
ويكون هو الآمر بحتها، ولكن لعظمة أمرها وتولى هو صلى الله عليه وسلم حتها بنفسه تأكيداً على ذلك.(50/3)
إزالة كل ما يشغل عن الصلاة
وأما حديث عائشة الذي بين أيدينا ففيه أنه ينبغي على المصلي أن يزيل أو يمنع ما يشغله في صلاته، سواءٌ أكان قبل الدخول فيها، أو بعد أن دخل فيها، فـ عائشة رضي الله تعالى عنها أنها سترت سهوة بيتها بقرام والقرام: نوع من القماش مثل الستارة فيه تصاوير، فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم، ووقع بصره على هذا القرام بعد الدخول في الصلاة نظر إلى تصاويره فشغلته، فلما انتهى صلى الله عليه وسلم من صلاته قال: (أميطي عنا قرامك) ، وفي بعض الروايات: (أن عائشة رضي الله تعالى عنها أدركت عدم رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا القرام في مكانه، فأخذته) ، والرواية الأخرى تُصرَّح بأمره صلى الله عليه وسلم: (أميطي عنا قرامك؛ فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي) ، ومن هنا قالوا: لا ينبغي أن يكون أمام المصلي ما يشغله إذا نظر فيه.
وجاء مثل هذا في بعض الأحاديث الأخرى، كما في صحيح البخاري في أنبجانية أبي جهم، والأنبجانية مثل الجبة، أهداها أبو جهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو جهم هو الذي استشارت المرأة فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أما أبو جهم فضرابٌ للنساء) ، أو: (لا يضع عصاه عن عاتقه) ، فأهدى هذه الأنبجانية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلنا يعلم أنه صلوات الله وسلامه عليه يقبل الهدية، وهذه من العلامات التي حرص عليها سلمان الفارسي، ليعرف من خلالها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قرأ في كتبهم: (لا يأكل الصدقة، ويقبل الهدية، وبين كتفيه خاتم النبوة) ، وقصته طويلة، فقد بُيع واشتُري، وخلّص نفسه، حتى وصل إلى المدينة في ملك رجل يهودي، وسمع بمجيء النبي صلى الله عليه وسلم وخروج الأوس والخزرج لاستقباله، فقال: الآن أتأكد، فأخذ شيئاً من الرطب وقال: يا محمد! هذه صدقة مني عليك وعلى أصحابك، فأزاحها إلى إخوانه وقال: (كلوا أنتم، أما أنا فلا تحل لي الصدقة) ، فعقد سلمان بيده واحدة، وكان هذا في قباء، ولما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
جاء سلمان بطبق آخر وقال: يا رسول الله! هذا شيء من الرطب ادخرته أقدمه هدية لك.
فأخذ وأكل، وأطعم أصحابه، فقال: هذه الثانية، فلما سمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هذه الثانية، كشف عن كتفيه الشريفين وقال: (يا سلمان! انظر الثالثة) ، فاستدار سلمان ونظر فوجد خاتم النبوة فأهوى عليه وقبله.
وبالمناسبة، فقد كان أحد اليهود يعرف حقيقة النبي صلى الله عليه وسلم ووصفه، ولما جاء عرفه بكل الأوصاف، وقال: إلا واحدة ما استطعت أن أتحققها، فعرض عليه قرضاً -ديناً- فأخذه صلى الله عليه وسلم إلى أجل، فجاء قبل حلول الأجل وقال: يا محمد! أعطني ديني.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم معسراً، فقال: أما إنكم يا بني عبد مناف قوم مطل، وأخذ يجر رسول الله صلى الله عليه وسلم بثيابه التي في عنقه ويردد كلامه، فسلَّ عمر السيف وقال: يا عدو الله! تخاطب رسول الله بهذه الصفة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يا عمر! كنت أحوج إلى أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن الطلب؛ لأنه صاحب حق) ، فلما سمع ذلك أخذ الرجل عمر وقال: والله ما أردت إهانة محمد، ولكني عرفت صفاته كلها -التي عندنا- إلا هذه، وهي عفوه عمن أساء إليه، ولقد أسأت إليه فإذا به كما سمعت، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
فـ أبو جهم أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنبجانية فلبسها، وقام يصلي فإذا فيها تصاوير، فلما أنهى صلاته خلعها وقال: (اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، وائتوني بخميصة أبي جهم) ، فما معنى قوله: اذهبوا بخميصة أبي جهم هذه التي أهداها إليّ، وائتوني بخميصته التي يلبسها؟ ولماذا يستبدل؟ ولماذا لم يرد الهدية إذا لم تكن أعجبته؟! قالوا: لأن أبا جهم ما أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا محبة له، فإذا رد هديته عليه، فكيف يكون الحال؟ وماذا سيقول أبو جهم؟! فلعله يقول: ردها لسخطة عليّ، أو لإساءة مني، أو لتقصير في حقه.
فلكي يرفع عن أبي جهم تلك الظنون.
قال: (ائتوني بخميصته) ، فيكون طلب الخميصة الخاصة بـ أبي جهم مقابل رد الخميصة التي أهداها إليه وردها عليه، أي: لئلا يقال: لم يقبل هديتك يا أبا جهم! .
ولذلك يقول العلماء: لا ينبغي للإنسان أن ينصب أمام وجهه -وهو في الصلاة- ما يشغله، وكذلك لا يصلي على شيء فيه ما يشغله، وأكدوا على التصاوير، وعلى الصليب، وعلى الأشياء الأخرى اللافتة للنظر.
وذكروا في ذلك أنه لو أن في البساط الذي تصلي عليه صورة أتصح الصلاة عليها أم لا؟ فذكر النووي رحمه الله أنه تصح الصلاة عليها؛ لأن الصورة في البساط ممتهنة؛ لأنها توطأ بالقدمين، ولكن لا يتعمد وضع الجبهة في السجود على الصورة، وكذلك الصليب، فقد توجد الصلبان في بعض الصناعات، ولكن يصلى؛ لأن الصليب ممتهن، لكن لا يتعمد أن يجعل جبهته في السجود على صليب من الصلبان التي في الفراش.
وأما موضوع الصور فإن عائشة رضي الله تعالى عنها لما جاء لعن المصورين، وكان القرام فيه صور قالت: (فأخذته فشققته فجعلته وسائد) أي: (مخدات) ، قالوا في ذلك: لأن القرام إذا كان طوله مترين أو ثلاثة ربما تكون فيه الصورة كاملة، فإذا ما قُطِّع تقطعت أشكال الصور، ولم يبق إلا أجزاء مختلفة، وتكون في الوسائد ممتهنة، بخلاف المعلقة؛ إذ إنها تكون للجمال، وتكون للزينة، وتكون للتكريم، وتكون لغير ذلك، فإذا ما قطعت تقطعت الصورة إلى أجزاء، وخرجت عن محظور قوله: (من صور صورة أمر يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ) ، فإذا قطعت لم تُعد صورة، فقطعة فيها رأس، وقطعة فيها أرجل، وقطعة فيها صدر، فالرأس وحده لا ينفخ فيه روح، والأرجل وحدها لا ينفخ فيها الروح، والصدر وحده لا ينفخ فيه الروح، ومن هنا قال العلماء: جزء الصورة للحاجة لا بأس به.
ونحن الآن وجدنا الاضطرار إلى جزء الصورة في البطاقة الشخصية حفاظاً على الأمن، والبطاقة الشخصية لها أصل في تاريخ الإسلام؛ لأننا وجدنا في غزوة الأحزاب أنه أرسل النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة فقال: اذهب فأتني بخبر القوم فذهب ودخل في القوم، فإذا بـ أبي سفيان ينادي في عسكره: ليعرف كلٌ منكم جليسه، أي: حتى لا يدخل فيكم من ليس منكم فيكتشف أسراركم يقول حذيفة: فبادرت من بجانبي وقلت: من أنت؟ قال: أنا فلان.
وسكت ولم يسألني.
فقوله: (فمن أنت) هو التعريف بالبطاقة الشخصية التي فيها اسمه، واسم أبويه، وميلاده، ومكان الميلاد، ورقمه الخاص الذي تحمله البطاقة، فـ (من أنت) تتضمن هذا كله.
فأساس البحث في الصورة هل هو في ذات الجسم الذي له ظل، كالتماثيل المشخصة، أو ما كان بالريشة؟ ومن أراد التفصيل الوافي في هذه المسألة فليرجع إلى نيل الأوطار يجد ما يتعلق باللباس، والصور ونوعها، والتحريم والرخصة في ذلك، ويهمنا في بابنا هذا الحث على الخشوع في الصلاة، فلا ينبغي للإنسان أن يصلي في ثوب يكون فيه من الألوان أو الرسوم ما يشغل باله، ويلفت نظره عن خشوعه في الصلاة، والله تعالى أعلم.(50/4)
النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة
قال المصنف رحمه الله: [وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة، أو لا ترجع إليهم) ، رواه مسلم] .
يذكر المصنف رحمه الله تعالى في (باب الحث على الخشوع في الصلاة) هذا الحديث، وفيه النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة.
قوله (لينتهين أقوام) (ينتهين) ، أي: يمتنعن.
(أقوام) : جمع قوم، وهو خاص بجماعة الرجال وضعاً، ويدخل فيه النسوة تبعاً، ويستشهدون لذلك بقول الشاعر: أقوم آل حصن أم نساء فجعل النساء قسيمات للقوم، وقوله: (لينتهين أقوم) يشمل الأفراد كذلك، فإذا كان النهي للجماعة فهو يشمل أفراد الجماعة واحداً واحداً، كما تقول: لينتهين بنو فلان عن أذية فلان فـ (بنو فلان) تشمل مجموعهم، وأفرادهم ضمناً.
قوله: (لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم إلى السماء) ، جاء هنا بلفظ: (في الصلاة) ، والحديث جاء تارة مطلقاً وفيه: (عن رفعهم أبصارهم إلى السماء) ، وجاء هنا مقيداً بكونه في الصلاة، وهذه الرواية: (في الصلاة) هي المناسبة لإيراد هذا الحديث في باب الحث على الخشوع في الصلاة.
والنظر بالبصر إلى السماء يكون فيه -غالباً- الانصراف عن معنى الصلاة؛ لأنه لا يخرج عن أحد أمرين: فإما أن يكون عبثاً فهو عين المقصود في النهي عنه، وإما أن يكون للتأمل، كمن كان في الليل يتأمل زينة السماء بهذه الكواكب، ويفكر في قدرة الله وفي مصنوعاته، فهذا باب والصلاة باب آخر، فيكون قد خرج عن مناجاة ربه إلى موضوع آخر وهو العظة والاعتبار بقدرة ربه، وفرق بين المناجي -وهو مستحضر لمن يناجيه رغبةً ورهبة- وبين من يفكر في مصنوعات الله وفي قدرته سبحانه وتعالى.
وقد قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:191] ، فهذا ذكر مستقل، ثم قال في التفكر: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:191] ، فجعله قسيماً للذكر.
فرفع البصر إلى السماء يتنافى مع الخشوع في الصلاة، ولو كان للتدبر في الآيات والقدرة الكائنة في هذا الخلق العظيم، وقالوا: من أدب الصلاة ألا يتعدى بصر المصلي سترته التي بين يديه؛ لأن ذلك أدعى لاجتماع حسه وحواسه لتتجاوب مع لسانه ومع قلبه فيما يتلو، وفيما يناجي به ربه سبحانه وتعالى.
وفي رفع البصر إلى السماء جاء هذا الوعيد الشديد: (أو لا ترجع إليهم) ، يعني تخطف أبصارهم، وهذا وعيد شديد بعقوبة عظيمة على الإنسان، ومن هنا قال من قال: إن نظر المصلي إلى السماء في الصلاة يبطلها؛ لأنه عمل خارج عن موضعها، وجاء الوعيد الشديد في حقه.
فلا يجوز لإنسان أن يفعل ذلك، وبعض العلماء حمل ذلك على العموم في الصلاة وفي غير الصلاة، وقالوا: فعله في الصلاة يتنافى مع الخشوع، وفي غير الصلاة، لا يفعله حياءً من الله، وكما أن المصلي لا يبصق أمامه حياء من الله وتعظيماً لوجه الله فلذلك هنا.
ولكن قوله تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:191] يدل على أن ذلك غير ممنوع؛ إذ لا يكون التفكر إلا بالرؤية التي يعملها الإنسان في ذهنه لنقل الصورة التي يراها بعينيه، والقرآن الكريم يسجل لنا قوله تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة:144] ، فكان صلى الله عليه وسلم يتطلع وينتظر أن الله سبحانه وتعالى يوليه إلى استقباله الكعبة، ليستقل عن اليهود، كما قال تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة:142] ، وكانوا يقولون: عجباً له يعيب ديننا ويستقبل قبلتنا! فكان يتطلع صلى الله عليه وسلم إلى الاستقلال الكلي.
ولهذا جاءت النصوص في أن المسلم لا يحق له التشبه باليهود والنصارى في عباداتهم ومعاملاتهم، أي: الخاصة بهم، بخلاف التعامل المشترك كالبيع والشراء وتبادل المنافع، فهذا أمر تقتضيه الحياة، وليس من التشبه المحرم، ومما يدل على جواز التعامل مع اليهود والنصارى أنه صلى الله عليه وسلم خرج من الدنيا ودرعه مرهونة عند يهودي، في آصع من طعام، فهل كان المهاجرون والأنصار عاجزين عن أن يقدموا لرسول الله آصعاً من طعام؟ لا والله، لقد حكّموه في أموالهم وفي أنفسهم، حتى في حقوقهم الأدبية، ولما جاء إلى قباء قال: (مالي لا أرى فلان بن فلان؟ قالوا: بينه وبين القوم ثأر لا يستطيع أن يأتي) ، وبعد فترة في منتصف الليل إذا به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا أبا فلان! كيف جئت وبينك وبين القوم كذا وكذا؟ قال: يا رسول الله! ما كان لي أن أسمع بمجيئك وأقعد عنك، فقال لبني عوف: أجيروه) ، فإذا أجاروه أصبح آمناً يأتي في كل وقت، (قالوا: أجره أنت يا رسول الله!) ، فهذه حقوقهم الخاصة يحكمونه فيها، ويتنازلون عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل -يا ترى- كانوا عاجزين عن أن يقدموا آصعاً من طعامٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبدون رهن؟ ولكن أعتقد -والله تعالى أعلم- أنه لما جاء النهي، وجاء التحذير من اليهود، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب) فهم من ذلك المقاطعة الكلية، حتى في الأمور الدنيوية، فتأتي هذه الحادثة لتدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعامل معهم في البيع والشراء، وهكذا الدنيا اليوم، فيها أسواق عالمية، أوروبية وأمريكية، وأسواق الشرق الأوسط، والشرق الأقصى، والشرق الأدنى، وأسواق عالمية تتبادل فيها السلع بين الدول، فهذه أمور تعامل أو معاملات لا غبار عليها، وتقتضيها الحياة، كما قيل: الناس للناس من بدو وحاضرة بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم فالتعاون من هذا القبيل لا شيء فيه.
فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يقلب وجهه في السماء ابتغاء تحويله إلى قبلة مستقلة للمسلمين، وكان تحوله إلى الكعبة بعد قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144] .
فالنهي هنا في قوله صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوام) جاء مطلقاً بلا قيد، وجاء مقيداً بالصلاة، والقاعدة عند الأصوليين أنه إذا جاء حديث في قضية مطلقاً، وجاء حديث في عين القضية مقيداً حُمل المطلق على المقيد.
كما يمثّل الأصوليون بالكفارة في القتل والكفارة في الظهار، فإن عتق الرقبة في الطهارة جاء غير مقيد بالإيمان، وجاء هناك مقيداً بالإيمان، فحُمل عتق الرقبة في جميع الكفارات على قيد الإيمان، ولا تجزئ رقبة في كفارة إلا بقيد الإيمان، وهنا كذلك، ففي هذا الحديث: (في الصلاة) ، فيحمل عموم النهي بغير القيد على ما جاء في هذا القيد، ومن رفع بصره إلى السماء في غير الصلاة لا يكون داخلاً في هذا النهي، والله تعالى أعلم.(50/5)
كتاب الصلاة - باب الحث على الخشوع في الصلاة [3]
إن الإسلام دين الآداب والأخلاق، وهناك جملة من الآداب التي تتعلق بالمسلم أثناء أدائه للصلاة، وهذه الآداب إنما شرعت للمحافظة على الصلاة والخشوع فيها، ومن ذلك أن المسلم إذا أراد وبين يديه طعام فيشرع له في هذه الحالة أن يؤخر الصلاة إذا كان في الوقت متسع، فيبدأ بالطعام، ثم يؤدي الصلاة بعد ذلك باطمئنان وخشوع، غير منشغل بالطعام، وأيضاً إذا كان يدافع الأخبثان فيشرع له البدء بقضاء الحاجة، ويُلحق بالطعام وبالأخبثين كل ما من شأنه التشويش على المصلي مع إمكانية إزالته؛ لأنه لا يكتب للعبد من صلاته إلا ما عقل منها.(51/1)
مسائل متعلقة بالصلاة(51/2)
حكم الصلاة بحضرة الطعام وما في معناه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [وله -أي: لـ مسلم - عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافعه الأخبثان) ] .
تقدم نظير ذلك في الجزء الأول، ولربما كان من الأنسب ضم هذا الحديث إلى الحديث المتقدم: (إذا قدم العشاء وحضر المغرب فابدأوا بالعشاء) ، وعلل العلماء ذلك بأنه إذا كان العَشاءُ موجوداً، وانصرف إلى الصلاة فربما انشغل ذهنه وباله، أو تطلعت نفسه إلى الطعام، فيكون تشويشاً في خاطره، وقد ذُكر عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه تناول طعام العشاء فإذا به يشم رائحة شواء -لحم يشوى-، فأراد المؤذن أن يقيم، فقال: اصبر حتى ننال من هذا الشواء، حتى لا تتعلق نفوسنا به ونحن في الصلاة.
في قوله: (لا صلاة) هل تكون (لا) نافية أو ناهية؟ فإذا قلنا: نافية فإنها تنفي الصلاة، وإذا صلى تكون الصلاة قد وجدت لا أنها انتفت! لكن الذين يقولون: إنها نافية لا يقصدون نفي الماهية، ولكن يقصدون نفي صفة تتعلق بها، أي: لا صلاة كاملة.
أو: لا صلاة مستوفاة، أو: لا صلاة مقبولة، فيأتون بصفة يمكن أن تتوجه لا النافية عليها، فتقع الماهية بدون تلك الصفة.
ولكن الذين يقولون: (لا) ناهية، يقولون: النهي موجه للمخاطب المكلف، فقد نهاه أن يفعل، فإن امتثل، امتثل النص، وإن لم يمتثل أوقع المنهي عنه ويتحمل مسئوليته.
والجمهور على أن قوله: (لا صلاة) نهي، فلا ينبغي للمصلي أن يصلي وهو على إحدى هاتين الحالتين.
قوله: (لا صلاة بحضرة طعام) أي: إذا وضع الطعام، وأقيمت الصلاة، والطعام موجود في محل الصلاة، فلا صلاة بحضرة هذا الطعام؛ لأنه ينشغل به عن الصلاة.
وإذا حضر الطعام، وكان الطعام -كما يقولون الآن- في غرفة الطعام فهل تكون الصلاة بحضرة طعام؟ قالوا: هو كذلك، على معنى (إذا قدم العشاء والمغرب فقدموا العشاء) ، فالسبب في النهي هنا هو عين السبب في النهي هناك.
ولكن -كما أشرنا سابقاً- الفقهاء رحمهم الله يبحثون في الإجزاء وعدم الإجزاء، والصحة وعدم الصحة، والآخرون ينظرون إلى شيء آخر زيادة على ذلك، وهو كمال الصلاة خشوعاً، وكمال الصلاة في الخضوع فيها، وفي استحضار القلب، وفي عدم التشويش فيها، وفي عدم الموانع التي تؤثر على الصلاة، فإذا صلى والطعام حاضراً فهل الصلاة باطلة أو صحيحة؟ وإذا كان النهي مرتبطاً بالعلة، فإنه إذ حضر الطعام وأنا شبعان، أو حضر الطعام عند أن قمت من طعام آخر فعلة النهي غير موجودة، فهل تكون الصلاة صحيحة أو باطلة؟ قالوا: لا، ليست باطلة؛ لأن النهي متعلق بالتعليل.
فلا صلاة لمن هو في حاجة إلى الطعام، كأن يأتي وقت الإفطار وهو جائع، وكالقادم من السفر الذي لم يجد الطعام، فمن كان وجود الطعام سيشوش عليه أثناء صلاته، ويذهب خشوعه فلا يصل، إلا إذا ضاق الوقت، فلو قُدِّم الطعام في آخر الوقت ولم يكن صلى، فهو بين أحد أمرين: إن أكل خرج الوقت، وإن صلى فهو مشوش، فماذا يفعل؟ والجواب: أن التشويش متفاوت، واجتناب التشويش ليس من صلب وأركان الصلاة، وإنما هو من تحسين وتكميل الصلاة بتوفير الخشوع والخضوع.
فهو من المحسنات، ولا ينبغي إضاعة الضروري من أجل تحصيل التحسين، فإذا ضاع رأس المال فكيف تبحث عن الربح؟ فإذا ضاق الوقت وقُدِّم الطعام فقد تعارض هنا تحقيق إتيان الصلاة المفروضة عليه مع تحصيل تحسينها بالخشوع والخضوع.
يقول ابن دقيق العيد -وهي قاعدة عجيبة جداً-: إذا عاد الفرع على الأصل بالإبطال حكمنا بإبطال الفرع؛ لأنه سيبطل أصله.
والخشوع في الصلاة فرع عن الصلاة، فإذا قمنا بالحفاظ على الفرع سنضيع الأصل، فهذا الفرع يصبح ملغياً باطلاً، ونحافظ على الأصل.
وهذه القاعدة لها أصل في كتاب الله، ومعمول بها عند عوام الناس، أما أصلها في كتاب الله فهي قضية الخضر -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- مع نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام لما لقيا غلاماً فقتله، فموسى عليه السلام لم يتحمّل، فهذا على جانب من التشريع، وهذا على جانب آخر، فقال: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف:74] .
فقال: يا موسى! قلت لك أول الأمر يجب أن تصبر، ثم بين له بعد قوله: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [الكهف:78] ، فقال: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً} [الكهف:80] .
فالغلام فرع بالنسبة للأبوين، وهذا الفرع يخشى منه أن يبطل الأصل وهو الأبوان بأن يرهقهما طغياناً وكفراً، والكفر هلاك، فقام الخضر وأتلف الفرع، وأبقى الأصل سليماً، ثم بيّن لموسى ذلك فقال: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} [الكهف:81] ، فما دام الأصل باقياً فإنه يأتي بفروع كثيرة.
والعامة تقول: إن بقي العود فالجثة تعود، أي: إذ مرض إنسان مرضاً شديداً، وكان بوزن أربعة، وصار مثل العود، فمادام العود باقياً فالجثة التي راحت تعود.
وكذلك المزارع حينما تكون عنده شجرة، حملت من الثمر ما يكسر الجريد ويفسد الثمر، أو يكسر الأغصان ويفسد الثمرة -والفاكهة ثمرة عن الشجرة-، فيجيء الفلاح بطبيعة الحال وبفطرته فيقطع من الثمرة هذه -وهي خضرة- حتى تخف الثمرة على الأغصان، ولا تنكسر فتفسد الشجرة، وتفسد الثمرة، فهو أتلف بعض الفرع إبقاءً على الأصل.
وهكذا هنا، فإذا قُدِّم الطعام وكان الوقت ضيقاً فإن أكل خرج الوقت، فحينئذٍ تعارض الأصل مع تحصيل الفرع، والفرع إذا حصلناه كانت النتيجة إضاعة وإبطال الأصل، فيحكم على الفرع بالبطلان، ونقول: يصلي مهما كانت حالته، فيصلي بقدر ما استطاع، ثم يرجع إلى طعامه، وهذه ناحية.
الناحية الثانية قوله: (ولا هو -أي: المصلي- يدافعه الأخبثان) ، المدافعة: مفاعلة من الدفع، فهذا يدفع يميناً وهذا يدفع يساراً، كما إذا كان شخص داخل غرفة وآخر خارجها، فهذا يدفع الباب من أجل أن يفتح ويدخل، وهذا يدفع الباب من أجل أن يرده، فهناك مدافعة، ومثله لمشادة والمخاصمة، ففيها طرفان متضادان، فهنا المصلي طرف في المدافعة، والأخبثان طرف آخر، وقد فسر الأخبثان بقوله: (حاقن، أو حاقب) ، فإذ كان يحس بالحاجة إلى تفريغ البول أو الفضلات، فإن الله تعالى جعل عضلات للمحلين تسمى العاصرة، أو الحافظة، أو القابضة، فتنقبض حتى لا يخرج شيء، وعند الحاجة للإخراج إذا امتلأ محل التجمع تشعر هذه العضلة بحاجة الإنسان إلى التفريغ، فترتخي وتفتح الطريق، ويخرج ما كان داخله، فحينما يحس الجهاز من الداخل بالامتلاء، فطبيعة تكوين الإنسان تقوم بالتفريغ، وكما يقولون: تُعطى الإشارات إلى تلك العضلة لترتخي ولتسهل الطريق للإخراج، فالإنسان بدوره قد يدافع هذا الغرض، ويبقى الأخبث يدفع للخروج، والإنسان يشتد على عضلته للمنع من الخروج، فهذا يدافع ليخرج، وهذا يدافع ليبقي الداخل في محله.
وإذا حصلت هذه المدافعة، فهل يكون هناك خشوع؟! فهو في معركة، وهو في حالة غير طبيعية، والقاعدة عند الأطباء أنه لا ينبغي تأخير الإفراغ عن وقت حاجته، ويذكرون مضاره في الغشاء المخاطي أو غيره، والصداع الذي يترتب على الإمساك أو حصر البول.
وهذا أمر جبلي في حياة الإنسان، فإن أحس قبل الدخول في الصلاة ببوادر ارتخاء العضلة، وببوادر الدفع للخروج -وهذا أمر طبيعي- فلا ينبغي أن يضغط على نفسه تكاسلاً عن الإفراغ والوضوء، فيقول: أصلي أولاً وبعد ذلك أذهب لقضاء الحاجة، فلا يجوز ذلك؛ لأنه معه سعة الوقت، وعنده حاجة تعود عليه بالمضرة، وتعطل عليه الغرض من الصلاة، وهو قوله تعالى: {وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] ، ومدافعته مع أخبثيه تلهيه عن ذكر الله سبحانه.
فعليه أن يستجيب، وأن يفرغ ويخرج أحد الأخبثين، أو كليهما معاً، ثم بعد ذلك يجدد وضوءه، ويدخل في الصلاة بدون مدافعة، وهنا يستطيع أن يتذكر، ويستطيع أن يتأمل، ويستطيع أن يحس بالخضوع بين يدي الله سبحانه.(51/3)
حكم قضاء الحاجة عند ضيق الوقت
بقيت مسألة، وهي إذا ضاق الوقت ودافعه الأخبثان، إذ الجوع يمكن الصبر عليه، بخلاف المدافعة.
قالوا: إن كان باستطاعته أن يؤدي الصلاة -ولو بالتخفيف- قبل أن يخرج الوقت صلى، ونرجع إلى قاعدة التحسين والتأصيل، وإن وجد في نفسه أنه لا يستطيع فلا يصل، وعليه أن يقضي حاجته ولو خرج الوقت؛ لأنه إن لم يفعل آذى نفسه، وربما حدث منه في صلاته ما لا ينبغي، وتفسد عليه الصلاة، ويكون لا هو حصل هذا، ولا حصل على ذاك.
وقوله: (لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان) ، العلة التي يشترك فيها حضور الطعام ومدافعة الأخبثين هي التشويش، فإبعاداً وتخلصاً من دواعي التشويش عليه وهو في الصلاة يقدمان على الصلاة.
فإذا وجد شيء آخر من طبيعته أن يشوش على المصلي فهل يدخل في الصلاة وهذا المشوش موجود، أم أنه له أن يزيله عنه، ويدخل في الصلاة وهو مطمئن، وذلك في سعة الوقت؟ والجواب أن له أن يقضي على سبب التشويش، ونستطيع أن نقول: يوجد نص في هذا، وإن لم أجد من ذكر ذلك، ولكنَّه ينطبق على ما نحن فيه، فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه خرج للصلاة، وأقيمت الصلاة، وكبر في الصلاة) ، فتذكر أنه نسي شيئاً وهو في هذه الحالة حين استقبل القبلة، وقام الناس، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف، ويشير إليهم: مكانكم، ويدخل البيت مسرعاً، ثم يرجع ويدخل في الصلاة ويصلي، ثم قال لهم: (جاءني مال من كذا وقسمته، ونيست ثلاثة دارهم لم أقسمها، فأسرعت بتقسيمها قبل أن أدخل في الصلاة) ، يعني: لو خطرت له صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فستشوش عليه، فترك الدخول في الصلاة، وذهب وأمر بتصريفها؛ لأنها لو عرضت له في الصلاة يكون كأنه ادخر شيئاً كان ينبغي أن يصرفه، وهذا يشوش عليه صلى الله عليه وسلم.
ونحن نقول كذلك: لو أن امرأة في بيتها، وضعت إناءً على الموقد، ثم قامت وتوضأت وتهيأت، وأرادت أن تصلي، فتذكرت الإناء الموجود على الموقد، وعلمت إنها إن صلت تخشى من أن يحدث شيء بسبب هذا الإناء على الموقد، بأن كان السائل فيه قليلاً، أو كانت النار شديدة، فهل تدخل في الصلاة وذهنها مع الموقد وما عليه، أم تذهب إلى الموقد وتوقفه، أو تنزل الإناء، أو تتصرف بما يطمئن نفسها؟ وكذلك الإنسان إذا نسي هل أقفل الباب أم لا، أو كان الماء في الخزان فلم يدر، هل يفيض أو لا يفيض.
فأي شيء يتذكره الإنسان قبل الدخول في الصلاة، فلو دخل في صلاته على تلك الحالة فسيشغل باله حتى يفرغ منها فإنه يذهب إليه وينهي أمره.
فعليه أن يزيل أي شاغل موجود يمكن أن يشوش عليه الصلاة، وهذا نأخذه من عموم العلة والحكمة في النهي عن الصلاة بحضرة الطعام، أو وهو يدافعه الأخبثان.
وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالقضاء: (لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان) ، فالغضب صفة نفسية، فإذا كان حزيناً، أو مشغول البال، أو جائعاً، أو عطشان فلا يقضي؛ لأن القضاء يحتاج إلى صفاء الذهن واستغراق الفكر، واستخراج المعدوم من الموجود.
فيحتاج إلى أن يكون مستقراً هادئاً؛ لأن كل هذه الأشياء ستشوش على فكره وتمنعه من الاستغراق في التفكير في أمر القضية.
فالرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن القضاء حالة الغضب، والفقهاء قاسوا عليها كل ما يشاكلها في العلة، فالغضب من الشيطان، والغضب يحمله على الإسراع في الحكم، والغضب يحمله على ألاَّ يجمع أطراف القضية، فهذا سيشوش على فكره، ويمنعه من إمعان النظر في القضية التي أمامه والنظر في أقوال الخصمين والمقارنة بينها وخضها -كما يقولون- حتى يخرج الزبدة من النزاع، فألحقوا به كل ما شوش على الفكر.
فكذلك هنا، فالحديث جاء في حضرة الطعام) ، وجاء في حالة مدافعة الأخبثين، فإذا كان كذلك ونقول: لو أن إنساناً -عافنا الله وإياكم- آلمته بطنه، وأرسل لشراء دواء من الصيدلية، فإن دخل في الصلاة فالألم لا يمكنه من الاطمئنان في الصلاة، فينتظر حتى يأتي الدواء ويتناوله.
فنستطيع أن نقول بصفة عامة: كل ما يطرأ على الشخص قبل دخوله في الصلاة فإنه ينبغي عليه أن يزيل هذا الشيء، حتى يدخل في الصلاة باستقرار وطمأنينة، ويستطيع أن يؤديها بخشوع كما أمر في ذلك، والله تعالى أعلم.(51/4)
التثاؤب في الصلاة
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: التثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع) رواه مسلم والترمذي، وزاد: (في الصلاة) ] .
هذه الحالة -كما يقولون-: لا إرادية؛ لأنها ربما تأتي تقليداً -أي: بدون شعور- وفي هذا حكايات كثيرة، بدليل أنك لو جلست عند جماعة يتثاءبون تثاءب معهم، والتثاؤب غالباً يكون من آثار ترنق النوم في العين، فبوادر النوم تأتي بالتثاؤب، وهناك التثاؤب والعطاس، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم التفرقة بينهما فقال: (العطاس من الرحمن، والتثاؤب من الشيطان) ، كما ذكر ذلك البخاري في (الأدب المفرد) ، والله تعالى أعلم.(51/5)
آداب التثاؤب والعطاس
بين صلى الله عليه وسلم أن للعطاس آداباً وحقوقاً فقال: (إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمته) ، أو: (حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصحه، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه) .
فحق على المسلم إذا عطس أن يقول: (الحمد لله) ، فيقول له السامع: (يرحمك الله) ، وذكروا في مناسبة قوله: (الحمد لله) أن العطاس قد يطرد الداء من البدن، وقالوا: إن العطاس بمثابة الزلزال يعتري جسم الإنسان، وقد يحدث عاهة فيه، ولهذا ينصح الأطباء من عطس بأنه لا يحرف عنقه يميناً ولا يساراً؛ لأنه في هذا الانحراف مع الانتفاضة ربما تختل فقرات العنق، أما التثاؤب فهو العلامة الكبيرة للكسل والنوم، فإذا كان في الصلاة وتثاءب، فهل هو ممعن الفكر في صلاته، أم أنه أخذ قناة النوم فهو ماشٍ في طريقه إليه، وهذا يتنافى مع الخشوع، والتعليم العام منه صلى الله عليه وسلم لما قال: (التثاؤب من الشيطان) ؛ لأنه هو الذي يحركه في الإنسان، وبعض الروايات: (فلا يقول: هاه هاه؛ فإن الشيطان يضحك عليه) ، وفي بعض الروايات فيها: (إذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع، وليضع يده على فيه؛ فإن الشيطان يدخل في فيه) أي: عند التثاؤب لا يفتح فاه مثل التمساح؛ لأن هذه هيئة غير لائقة، لاسيما أمام الناس.
فالتثاؤب من الشيطان، وأمر صلى الله عليه وسلم المتثائب أن يكظم ما استطاع، وجاء النهي بقيد (في الصلاة) ، وجاء أيضاً عاماً، فيحمل المطلق على المقيد، كما تقدم في رفع البصر إلى السماء مطلقاً ومقيداً في الصلاة.
وإلى هنا يكون المؤلف رحمه الله أتى بأكثر الأحاديث الدالة على اجتناب ما يحول دون الخشوع في الصلاة، وعلى الإنسان أن يتحاشى كل ما من شأنه أن يضيع الخشوع في الصلاة، سواءٌ أكان مما يقع قبل الدخول في الصلاة، فيتحاشاه قبل أن يدخل فيها ليدخل مطئمناً، أم كان أثناء وجوده وقيامه في الصلاة، كرفع البصر، وما يتعلق بالأمور التي تقع أو تعرض للإنسان وهو في صلاته بالفعل وإلى هنا انتهى المؤلف من هذا الباب.(51/6)
الخشوع في الصلاة
نرجع إلى عنوان هذا الباب: (باب الحث على الخشوع في الصلاة) ، يقول بعض العلماء: هل الخشوع في الصلاة من أركان الصلاة، أم من تحسيناتها؟ والجواب: قد علمنا أن الخشوع من تحسينات الصلاة، فلابد أن يخطر ببال الإنسان شيء وهو في الصلاة، وهذا ضروري لكل إنسان؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أنه إذا أذن المؤذن فلا يخرج الإنسان من المسجد إلا إذا كان على قصد العودة) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا أذن المؤذن خرج الشيطان وله ضراط -أي: يجري ويسرع حتى لا يسمع ألفاظ الأذان- فإذا ما فرغ المؤذن من الأذان رجع إلى المسجد، فإذا أقيمت الصلاة أسرع وخرج، فإذا انتهت الإقامة رجع وأخذ يوسوس للمصلي، حتى يقول له: اذكر كذا، اذكر كذا، لأشياء لم يكن ذاكراً لها، ليشغله عن الصلاة) .(51/7)
طرف من أحوال الناس في الصلاة
يذكرون عن أبي حنيفة رحمه الله أن رجلاً جاء وقال: يا إمام! أنا دفنت مالاً ونسيت، فماذا أفعل؟ وكيف أهتدي إليه؟ قال: إذا جاء ثلث الليل الأخير فتوضأ وصلِّ ركعتين، ولا تحدث نفسك فيهما بشيء، ومن الغد تأتيني ففعل الرجل بنصيحة الإمام، وفي السجدة الأخيرة آخر لحظة عجز عنه الشيطان، فجاءه وقال له: أنسيت المال الذي أنت دافنه؟! هو في المحل الفلاني، فاذهب وخذه قبل أن يضيع عليك، فعجّل الصلاة وذهب مباشرة إلى المال واستخرجه، وجاء إلى أبي حنيفة قائلاً: جزاك الله خيراً وجدت مالي، فتعجب الحاضرون وقالوا للإمام: ما علاقة صلاته ركعتين بالدلالة على ماله؟! فقال: أنا لم أدله، ولا أعلم الغيب، ولكن أعرف أنه إذا أخذ يصلي في ركعتين من هذا النوع، فهما هلكة على الشيطان، ولا يمكن أن يمكنه من ذلك، فحاول معه فطرده، حتى جاءه عن طريق حاجته فأصغى إليه، فدله عليها فذهب وأخذها.
ويذكر ابن عبد البر في الاستذكار في هذا الموضوع عن عمر بدون ذكر السند- أنه قال: إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة.
وأعتقد أن هذا بين بين، فتجهيز الجيش ليس بالأمر الهين، لكن لعله كان يخطر على باله تساؤلات، فإنه مسئول عن جيش مرسل للقتال، فلا يمكن يسلم عقل عمر في نوم ولا في يقظة، فهل إنسان مسئول يرسل جيشاً إلى عدو يزيد أضعافاً على عدد جيشه وقوته وينساه، ويغفل عنه! فما هذا بصحيح.
فلا بد أن يكون على باله، فإذا قام في الصلاة فلابد أن يخطر على باله، فهل ما يخطر على بال الإنسان وهو في الصلاة يبطل الصلاة؟ بإجماع المسلمين لا يبطلها، ولكن بعض المصلين -مع الأسف- إذا كبر في الصلاة إذا به يجري عمليات حسابية، ولقاءات مع أشخاص، ويستعيد ذكريات أعوام ماضية، أو يفكر في مشاريع مستقبلة، ولا يدري إلا وقد سلّم الإمام فيسلّم معه.
وقد سئل الشيخ ابن الصلاح -غفر الله له- عن بعض الأئمة أنه سها في الصلاة، فاختلف هو والمصلون، وكان هناك شخص يتوسمون فيه العقل والسمت، فرجعوا إليه فقال: والله ما أدري، أنا كل يوم حين أكبر آخذ في طريقي إلى الشام، وأنزل في المحل الفلاني، ثم المحل الفلاني، ثم نبيع ثم نرجع، وكل مرة أصل إلى هنا وأعود والإمام في السلام، أما هذه المرة فقد سلّم الإمام وأنا في نصف الطريق.
فمثل هذا ماذا نقول في صلاته؟ (ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها) .
والكلام في هذا الباب قد يثقل على الناس، ويخيفهم على صلاتهم، ولكن لنعلم أن هذا من تتمة وكمال الصلاة، وكما ذكرت سابقاً فالناس في هذا يتفاوتون كما بين الثرى والثريا، فهناك شخص تسبح به روحه حتى إنه لا يرى ولا يسمع إلا ما يقول بين يدي الله، مثل ذلك الذي قيل له: كيف تصلي يا فلان؟ قال: أجعل الكعبة أمامي، وملك الموت ورائي، والجنة عن يمني، والنار عن يساري، والصراط تحت قدمي، وأرى أنها آخر صلاتي من الدنيا.
فهذا الذي يكون على هذا الحال في صلاته هل هو مثل الذي يذهب ويأتي في طريق الشام ويبيع ويشتري؟ لا يستوون.
ونختم هذا البحث بالحديث الصحيح الذي يدل على أن العبد إذا صلى، وأدّى الصلاة موفورة أركانها، وشروطها، ولوازمها، وصعدت إلى السماء ولها طيب، وفتحت لها أبواب السماء، وقالت: حفظك الله كما حفظتني، وإذا ضعيها في أركانها، وفي واجباتها، وفي سننها، لُفّت كما يلف الثوب، وسدت دونها أبواب السماء، وردت وألقي بها في وجه صاحبها) .
وفرق بعيد جداً بين هذه الصلاة وتلك الصلاة، ولهذا نقول مرة أخرى: إن نوافل العبادات ضمان للنقص في الأركان، وكل فريضة لها نوافلها، وجاء في الحديث: (أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة الصلاة) ، فأول ما ينظر فيه من العبادات الصلاة، وفي الحقوق والمعاملات الدماء، فإذا نُظر في صلاة العبد فكانت وافية وكاملة قبلت وقبل معها غيرها، وحمل عليها، وإذا كان فيها نقص يقول المولى سبحانه: انظروا هل لعبدي من نوافل؟ فيقولون: نعم.
فيقول: اجبروا نقص فريضته من نافلته، وهذا من واسع فضل الله سبحانه، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما زاد في هذا الخبر: (وكذلك بقية العبادات، أو بقية الأعمال) .(51/8)