حكم حج من لا يصلي
السؤال
ما حكم حج من لا يصلي؟
الجواب
أما سمعتَ كلامنا قبلُ؟! الكافر لا يصح حجه، ولا يجوز أن يدخل حدود الحرم، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] فهذا الذي لا يصلي لا يحل له أن يدخل حدود الحرم، أي: ما كان داخلاً في حدود الحرم لا يجوز دخوله فيه، يُمنع منه.
فإذا كان مع رفقة وهو لا يصلي، ويعرف رفقتُه أنه لا يصلي فالواجب عليهم إذا أقبلوا على حدود الحرم أن ينزلوه، فإن أبى كلموا السلطات عنه؛ لأنه كافر، والكافر لا يجوز أن يدخل مكة، ولا يصح إحرامه بالحج، ولا حجه، ولا صيامه، حتى يعود إلى الإسلام، ويصلي.(24/30)
حكم الجاهل الذي لا يتعلم وواجبنا نحوه
السؤال
فضيلة الشيخ! نحن رأينا في عامة المسلمين في داخل البلاد وخارجها إعراضاً عن دين الله عزَّ وجلَّ؛ لا يعلمونه ولا يتعلمونه، ونقع في إحراجات كثيرة معهم في مسائل بسيطة في الدين لا يسوغ لمسلم أن يجهلها، فكيف نتعامل مع هؤلاء؟ وهل هم معذورون شرعاً؟ ومن هو الذي عليه المسئولية تجاه هؤلاء؟
الجواب
الواجب عليهم أن يتعلموا من دين الله ما يحتاجون إليه؛ فيتعلمون من أحكام الطهارة ما يحتاجون إليها، ومن أحكام الصلاة ما يحتاجون إليها، ومن أحكام الزكاة ما يحتاجون إليها، ومن أحكام الصيام ما يحتاجون إليها، ومن أحكام الحج ما يحتاجون إليها، لا بد.
يجب عليهم هذا، وهذا العلم فرض عين كما قاله العلماء.
فهُمُ الواجب عليهم أن يسألوا، ووسائل تحصيل العلم اليوم -ولله الحمد- سهلة، فالمواصلات ميسَّرة والاتصالات ميسَّرة؛ المواصلات بالسيارات، فالمسافة التي كان الناس يقطعونها في الأول في يومين يقطعونها اليوم في ساعتين، والاتصالات كذلك ميسرة، فالهاتف موجود؛ يتصلون بالعلماء ويسألونهم، فهم في الحقيقة غير معذورين.
ومع ذلك نقول: إن على العلماء واجباً؛ أن يطوفوا بالبلدان التي يكثر فيها الجهل حتى يعلموهم أمور دينهم، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يبعث الدعاة إلى البلاد ليعلموهم دينهم ويرشدوهم، وأمَرَ مالك بن الحويرث وأصحابه أن يرجعوا إلى أهليهم ويعلموهم ويؤدبوهم.
فهنا واجب على العامة، وواجب على العلماء.
السائل: أنا أقصد أنهم يتقنون أمور الزراعة والصناعة والأمور الدنيوية.
الشيخ: هم يتقنون أمور دنياهم؛ لكن أمور الدنيا ربما يعرفونها بالتجارب، وربما يكونون حريصين على أمور الدنيا أكثر من حرصهم على أمور الدين.(24/31)
وجوب التخلص من الربا الحاصل على رأس المال
السؤال
فضيلة الشيخ! أحد الإخوة كان يضع أمواله في البنك، والحمد لله وبفضل من الله عزَّ وجلَّ تاب من ذلك، وكانت الأسهم -كما يقول- سعر السهم منها (100) ريال، وحصل أن خسر هذا البنك، فصار سعر السهم (80) ريالاً، أي: أنهم أعادوا له أقل من رأس المال، وهو يعرف أنه إذا تاب له رأس ماله؛ ولكن قبل ذلك وزَّعوا أرباحاً بخمسة ريالات، وأخذ الأرباح، فهل يتخلص من الخمسة ريالات هذه، أم يجعلها ضمن رأس المال؟
الجواب
الواجب عليه أن يتخلص من هذه الخمسة ريالات؛ لأنها في وقتها تعدُّ زيادةً ورباً، فهي ليست أرباحاً بل خسارة.
فعليه أن يتصدق بما جاءه من الزيادة قبل التوبة تخلُّصاً منها، لا تقرباً إلى الله بها.
السائل: وإن كان في حين توبته أراد أن يصفي فأعطوه الخمسة ريالات؟ الشيخ: نفس الشيء، ما دام أنه الآن خسر فمعنى ذلك أن هذه الزيادة كانت قبل أن يحصل النقص برأس المال.(24/32)
حكم السلام على المصلي وكيفية رده للسلام
السؤال
فضيلة الشيخ! ما حكم السلام على المصلي؟ وكيف يردُّ المصلي إذا سُلِّم عليه؟
الجواب
السلام على المصلي لا بأس به إذا لم يُخْشَ أن يشغلَه ذلك عن صلاته، أو أن تَفْسُد صلاتُه برد السلام على المسلِّم؛ لأن من العامة من لا يعرف؛ ربما إذا قلت له: السلام عليكم، قال: وعليكم السلام.
والأَولى إذا كنتَ تريد أن تنتظر حتى يَخرج من صلاته ثم تسلم عليه فهذا هو الأفضل، وإذا كنت لا تريد البقاء فاذهب ولا تسلِّم.
أما كيفية الردِّ فالردُّ باليد فقط، ترفع يدك إشارة إلى أنك قد فهمتَ، ثم إن بقي حتى تُسَلِّم، فَرُدَّ عليه السلام باللفظ، وإن انصرف فالإشارة كافية.(24/33)
الأضحية.
مقصودها وحكم دفعها إلى البلاد الفقيرة
السؤال
هل الأفضل في هذا الزمان دفع الأضاحي إلى البلاد الفقيرة أم ذبحها هنا؟
الجواب
هذا سؤال مهم وهو دفع قيمة الأضاحي إلى بلاد فقيرة ليُضَحَّى بها هناك، فإن بعض الناس يفعل هذا، بل يزيد على ذلك أنه يضع دعايةً في الصحف أو غير الصحف لحث الناس على بعث الأضاحي إلى بلاد أخرى، وهذا يصدر في الغالب عن جهل بمقاصد الشريعة، وعن جهل بالحكم الشرعي.
المقصود بالأضحية: المقصود الأول: هو التقرب إلى الله تعالى بذبحها: فإن الذبح من أكبر العبادات، بل قرنه الله عزَّ وجلَّ بالصلاة: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] ، {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] على القول بأن النسك هنا: الذبح.
فالذبح نفسه عبادة؛ لا يمكن أبداً أن تحصل هذه العبادة إذا ما أرسلت الدراهم إلى بلاد أخرى ثمناً لأضحيةٍ، وذُبِحَت هذه الأضحيةُ عنك، وقد قال الله تعالى في كتابه: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37] .
المقصود الثاني: أن الإنسان إذا أرسلها إلى بلاد أخرى فإنه يفوته ذكرُ اسمِ الله عليها: وقد قال الله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} [الحج:34] فجعل ذكرَ اسمِ الله عِلَّةً لهذه المناسك التي جعلها الله عزَّ وجلَّ، وهذا الذكر سيفوته إن كان الذبح هناك، وربما يذبحها من لا يسمِّي أصلاً.
المقصود الثالث: أنه إذا أرسلها إلى الخارج يفوته الأكل منها: وقد قال الله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28] والأمر بالأكل منها للوجوب على رأي كثير من العلماء، فإذا أرسلتَها إلى الخارج فاتك القيام بهذا الأمر، سواء كان واجباً أم مستحباً.
المقصود الرابع: أنه إذا أرسلها إلى الخارج خَفِيَت الشعيرةُ العظيمة التي جعلها الله تعالى في بلاد المسلمين عوضاً عن الشعيرة العظيمة التي جعلها الله تعالى في مكة، فالشعيرة التي تكون في مكة هي: الهدي، والشعيرة التي تكون في بلاد المسلمين الأخرى هي: الأضحية، فالله سبحانه وتعالى جعل هذه الشعائر؛ ذبح الهدي في مكة، وذبح الأضحية في البلاد الأخرى لِتُقام الشعائر في بلاد الإسلام كلها، ولهذا جعل الله سبحانه وتعالى لمن أراد الأضحية شيئاً من خصائص الإحرام، كتجنب الأخذ من الشعر مثلاً.
المقصود الخامس: أن هذه الشعيرة ربما تموت بالنسبة لأبنائنا وبناتنا: فإذا كانت الأضحية في البيت فإن الأهل كلهم يشعرون بها، ويشعرون أنهم على طاعة، فإذا أُرْسِلَت دراهم فما الذي يُدْرِيهم بها؟ فتفوت هذه الشعيرة.
فنقول: من الخطأ الواضح أن ترسَل قيم الأضاحي إلى خارج البلاد ليُضَحَّى بها هناك؛ لأن كل هذه المصالح وربما أشياء أخرى لا تحضرني الآن كلها تفوت بهذا الأمر.
المقصود السادس: أن الناس يبدءون ينظرون إلى الأضحية نظرةً ماديةً فقط، وهي: إطعام الجائع: وهذا أيضاً ضرر، وقد قال الله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37] وإذا كنت صادقاً في أن تتعبد لله في الأضحية، وأن تنفع إخوانك المسلمين فضحِّ في بلدك، وأرسل الدراهم والأطعمة والأكسية إلى البلاد الأخرى.
ما الذي يمنعك؟! لهذا أرجو منكم -بارك الله فيكم- أن تبينوا للناس أن هذا خطأ، وأن لا يصرفوا قيمة ضحاياهم إلى البلاد الأخرى، بل يضحوا في بيوتهم.
ولا يرد على هذا أن الرسول عليه الصلاة والسلام وكَّلَ علي بن أبي طالب في ذبح هديه، أو أنه بعث بالهدي من المدينة إلى مكة؛ لأن بعثَه بالهدي من المدينة إلى مكة ضروري، إذْ لا هدي إلا في مكة، فلو ذبحه في المدينة لم يكن هدياً.
وأما توكيل علي بن أبي طالب فالرسول عليه الصلاة والسلام وكَّله؛ لأنه مشغول بأمور الناس، فالناس في حاجة إلى أن يتفرغ لهم، ومع ذلك أمَرَ مِن كل بعير بقطعة، فجُعِلَت في قدر فطُبِخَت، فأكل من لحمها وشرب من مرقها؛ فهو لم يترك الأكل منها.
فنرجو -بارك الله فيكم- أن تحرصوا على توعية الناس، وأن تقولوا: إن المسألة ليست مسألة أن الفقير ينتفع من اللحم، بل أهمُّ شيء هو التقرُّب إلى الله في الذبح الذي جعله الله قرين الصلاة، وأنت لا تُمْنَع من نفع إخوانك، فتُرسل لهم دراهم، لا مانع من ذلك.
نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم، وإلى اللقاء القادم إن شاء الله.(24/34)
لقاء الباب المفتوح [25]
صفة الحج وكذا العمرة واجب على من أراد أن يحج أو يعتمر أن يتعلم أحكامهما حتى يؤديهما على الوجه الشرعي الصحيح؛ حتى يكون عمله مقبولاً مبروراً هذا وقد بين الشيخ -رحمه الله- صفة الحج والعمرة على التفصيل، ثم أردف ذلك بالأجوبة المقنعة الممتعة على الأسئلة التي وردت إليه.(25/1)
أنواع أنساك الحج
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو اللقاء الأخير في شهر ذي القعدة عام: (1413هـ) الذي يتم في يوم الخميس، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعله وسابقاته لقاء خير وبركه.
في الأسبوع الماضي تكلمنا عن شروط وجوب الحج والعمرة.
أما اليوم فسنتكلم عن صفة العمرة والحج.
فالأنساك الشرعية ثلاثة أقسام: - حج مفرَد.
- وحج قِران.
- وحج تمتع.
فأما الحج المفرَد: فأن يحرم الإنسان بالحج مفرداً، فيقول: لبيك حجاً.
وأما القِران: فأن يحرم بالعمرة والحج جميعاً، فيقول: لبيك عمرة وحجاً، أو يحرم بالعمرة أولاً، ثم يُدْخِل الحج عليها قبل الشروع في طوافها، كما جرى ذلك لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين أحرمت بالعمرة فأصابها الحيض، فأمرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تُدْخِل الحج على العمرة، وكان ذلك قبل أن تطوف للعمرة.
أما التمتع فهو: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج -أي: بعد دخول شوال- بِنِيَّة أن يحج هذا العام، ثم يتحلل منها، ويحرم بالحج في وقته.
وهذا الأخير -أعني: التمتع- هو الأفضل؛ لأنه الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه أكثر عملاً، فإن المتمتع يأتي بالعمرة كاملة ويتحلل منها، ثم يأتي بالحج، إلا إذا ساق الهدي معه بِأَن اصطحب معه هدياً إلى مكة فإنه لا سبيل له إلا القِران فقط، أو الإفراد؛ لأن مَن ساق الهدي لا يمكن أن يتحلل إلا يوم العيد، ودليل ذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما حج أمر أصحابه أن يجعلوا إحرامهم عمرة إلا من ساق الهدي، وبقي هو صلى الله عليه وسلم على إحرامه؛ لأنه قد ساق الهدي.(25/2)
صفة العمرة
أما كيفية العمرة: فالإنسان إذا وصل إلى الميقات تجرَّد من ثيابه واغتسل وتطيب في رأسه ولحيته، كما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يلبس إزاراً ورداءً أبيضين نظيفين أو جديدين، وتفعل المرأة كما يفعل الرجل إلا في اللباس، فإنها تلبس ما تلبسه عادةً، وتلبس ما شاءت من الثياب إلا أنها لا تتبرج بالزينة، ولا تتطيب بالطيب الذي تظهر رائحتُه؛ لئلا يكون في ذلك فتنة.
فإذا أتم ذلك فليحرم.
وإذا ركب السيارة فليقل: لبيك اللهم عمرة، ولا حاجة إلى أن يقول: متمتعاً بها إلى الحج، بل يقول: لبيك اللهم عمرة، ونيته كافية.
ولا يزال يلبي حتى يصل إلى مكة.
ثم يعمد إلى الكعبة فيطوف، وهذا الطواف هو الطواف الأول، وفيه ينبغي للرجل أن يضطبع من أول الطواف إلى آخره، وأن يرمُل في الأشواط الثلاثة الأولى.
فالاضطباع: أن يجعل وسط ردائه تحت إبطه الأيمن، وطرفيه على كتفه الأيسر في كل الطواف؛ لكن لا يضطبع قبل الطواف ولا بعده، وأما الرَّمَل فيكون في الأشواط الثلاثة الأولى فقط، وهو أن يسرع في المشي مع مقاربة الخُطَا.
وفي ابتداء الطواف يستلم الحَجَر الأسود ويقبِّله، فإن لم يستطيع استلمه وقبَّل يده، فإن لم يستطيع أشار إليه ولا يقبِّل يده، ويقول في ابتداء الطواف: باسم الله والله أكبر، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاءً بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، ويجعل البيت عن يساره.
ويمسح الركن اليماني بيده اليمنى، فإن لم يستطع فإنه لا يشير إليه؛ لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والعبادات لا تثبت بالقياس.
ويقول بينه وبين الحَجَر الأسود: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] فإن قالها قبل أن يصل إلى الحَجَر الأسود وذلك فيما إذا كان الطواف زحاماً فإنه يكررها، ولو كررها عشر مرات لا يضر.
فإذا حاذى الحَجَر الأسود كَبَّر، ثم يكبِّر كلما حاذى الحَجَر الأسود، ولا يكبر عند الركن اليماني؛ لعدم وروده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فإذا أتم سبعة أشواط التي ينبغي أن يدعو فيها، ويذكر الله، ويقرأ القرآن إن أحب، وإذا رأى منكراً أنكره، وإذا رأى إخلالاً بواجب أمَرَ به؛ لأن هذا من الخير؛ لكن لا يشْغَله عن طوافه، فإذا أتمها صلى ركعتين خلف المقام، يقرأ في الأولى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] ، وفي الثانية: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] مع الفاتحة، ويُسَن تخفيفهما.
ثم ينصرف بعدهما فوراً، ولا يجلس للدعاء؛ لعدم وروده عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم يتجه بعد ذلك إلى المسعى، فإذا دنا من الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158] أبدأ بما بدأ الله به، فيرقى على الصفا ويستقبل القبلة، ويرفع يديه داعياً، ويقول: الله أكبر ثلاثاً (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير, لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده) ثم يدعو بما أحب، ثم يعيد الذكر مرة ثانية، ثم يدعو بما أحب، ثم يعيد الذكر مرة ثالثة.
ثم ينزل متجهاً إلى المروة حتى يصل إلى العمود الأخضر، فيسعى سعياً شديداً -أي: يركض- إلا إذا كان هناك زحام وتأذَّى بالركض، أو آذى غيرَه فلا يفعل.
فإذا وصل إلى المروة صعد عليها، وقال ما قاله على الصفا وهذا شوط.
وإذا رجع من المروة إلى الصفا فهذا شوط آخر، حتى يكمل سبعة أشواط.
سؤال: ماذا يقول في هذه الأشواط الطويلة؟
الجواب
يقول ما شاء من ذكر، ودعاء، وقرآن، وغير ذلك.
وأنبِّه هنا أنه يوجد كتيبات فيها الدعاء لكل شوط في الطواف، والدعاء لكل شوط في السعي، وهذه بدعة لا أصل لها ولا يُعمل بها؛ لأن كل بدعة ضلالة.
ويوجد أيضاً بعضُ الناس كلما صعد الصفا أو أقبل عليه قال: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158] ، وكذلك في المروة، وهذا خطأ، وإنما يقرأ هذه الآية إذا خرجَ من المسجد الحرام ودنا من الصفا قبل أن يصعد عليها، يقرأها مرة واحدة في أول مرة فقط.
ثم بعد السعي يقصِّر من جميع الرأس.
وبذلك تمت العمرة وأحلَّ التحلل كله.(25/3)
صفة الحج
إذا كان اليوم الثامن من ذي الحجة أحرم بالحج، فماذا يصنع؟ نقول: أيام الحج هي: الثامن، والتاسع، والعاشر، والحادي عشر، والثاني عشر (خمسة أيام) وإن شاء زاد الثالث عشر فتكون ستة، ولننظر ماذا يفعل في اليوم الأول!(25/4)
أعمال الحج في اليوم الثامن
في اليوم الأول -يوم الثامن- يحرم بالحج ضُحَىً قبل الظهر من مكانه الذي هو فيه، إن كان في مكة فمن مكة، وإن كان في مِنى فمن مِنى، وإن كان في عرفة فمن عرفة، من أي مكان كان، فيحرم بالحج من مكانه في أي مكان كان.
ثم يخرج إلى مِنى ويبقى فيها، يصلي الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والفجر قصراً بلا جمع؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يجمع في حَجِّه حين خرج إلى الحج إلا في عرفة ومزدلفة فقط.(25/5)
أعمال الحج في اليوم التاسع
فإذا طلعت الشمس يوم عرفة -وهو اليوم التاسع- فماذا يفعل؟
الجواب
يذهب إلى عرفة، وإن تيسَّر له أن ينزل بـ نَمِرة نزل إلى زوال الشمس، ثم يركب إلى عرفة، وإن لم يتيسر -كما هو الغالب في الوقت الحاضر- فليستمر في سيره إلى عرفة وينزل فيها، فإذا زالت الشمس صلى الظهر والعصر جمع تقديم، ثم تفرغ بعد ذلك للدعاء والذكر؛ يدعو الله سبحانه وتعالى ويذكره بما شاء إلى أن تغرب الشمس.
وبهذا تنتهي أعمال اليوم التاسع.(25/6)
أعمال الحج في اليوم العاشر
وفي اليوم العاشر -ومنه ليلة العاشر بعد غروب الشمس- يدفع من عرفة إلى مزدلفة، فيصلي بها المغرب والعشاء جمعاً وقصراً، ويبيت بها حتى يصلي الفجر، ثم يذكر الله عزَّ وجلَّ إلى أن يُسْفِر.
ثم ينصرف إلى مِنى، فماذا يفعل في هذه الليلة؟
الجواب
يصلي المغرب والعشاء في مزدلفة ويبيت بها، ويصلي الفجر، ويدعو، حتى يُسْفِر، وله أن يدفع في آخر الليل من مزدلفة إذا غاب القمر؛ لكن إن كان قوياً لا يشق عليه مزاحمة الناس فإنه يبقى حتى يصلي الفجر ويدعو، وإن كان ضعيفاً يشق عليه مزاحمة الناس، أو كنَّ نساء؛ فإنه لا حرج عليه أن ينصرف في آخر الليل، وليس الحكم معلقاً بنصف الليل، بل في آخر الليل، وكانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها ترتقب غروب القمر فإذا غاب دَفَعَت.
أما يوم العيد وبعد أن يصل إلى مِنى فعليه أن يفعل ما يأتي: أولاً: رمي جمرة العقبة، بسبع حصيات متعاقبات، يكبر مع كل حصاة، ثم ينصرف ولا يقف.
ثانياً: النحر، ينحر الهدي أو يذبحه، إن كان من الإبل فنَحْرٌ، وإن كان من غيرها فذَبْح.
ثالثاً: الحلق أو التقصير.
رابعاً: الطواف بالبيت.
خامساً: السعي بين الصفا والمروة.
خمسة أنساك تُفْعَل في اليوم العاشر، ولهذا سُمِّي هذا اليوم (يوم الحج الأكبر) لأنه أكثر الأيام أنساكاً، وهي أنساك متنوعة: رمي، ونحر أو ذبح، وحلق أو تقصير، وطواف، وسعي.
وهذه الأنساك مرتبة كما عرفتم: - فيبدأ أولاً بالرمي.
- ثم بالنحر أو الذبح.
- ثم بالحلق أو التقصير.
- ثم بالطواف.
- ثم بالسعي.
فتُرَتَّب هكذا وإن قدَّم بعضها على بعض فلا حرج، أعني: لو أنه حين دَفَعَ من مزدلفة استمر في السير حتى وصل إلى مكة وطاف، وسعى، وخرج إلى مِنى فرمى، ونحر أو ذبح، وقصر أو حلق فلا حرج عليه، ولو أنه رمى ثم حلق أو قصر، ثم نزل إلى مكة وطاف وسعى، ثم عاد إلى مِنى ونحر أو ذبح فلا بأس، ولو أنه رمى ثم نحر أو ذبح، ثم نزل إلى مكة وطاف وسعى، ثم حلق فلا بأس.
المهم أن تقديم هذه الأفعال الخمسة بعضِها على بعض لا بأس به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل يوم العيد في التقديم والتأخير، فما سئل عن شيء قُدِّم ولا أُخِّر إلا قال: (افعل ولا حرج) .
إذاً في اليوم العاشر ماذا يفعل؟ الجواب: يفعل خمسة أنساك: - الرمي.
- ثم النحر أو الذبح.
- ثم الحلق أو التقصير.
- ثم الطواف.
- ثم السعي.
مرتبةً هكذا.
وإن قدَّم بعضها على بعض فلا بأس، وإن أخر الطواف والسعي حتى ينزل من مِنى فيطوف ويسعى عند سفره فلا بأس، وفي هذه الحال يجزئ عن طواف الوداع.
وإن نزل من مِنى ليلاً وطاف وسعى في الليلة الحادية عشرة أو الليلة الثانية عشرة فلا بأس؛ لكن لِيُلاحِظ أن لا ينزل من مِنى إلا بعد منتصف الليل؛ لأنه لو نزل قبلُ فربما يحجزه السير عن الرجوع إلى مِنى، فيفوته المبيت، فليكن محتاطاً، إما أن ينزل مبكراً في النهار ليتمكن من الطواف والسعي والرجوع إلى مِنى قبل منتصف الليل، أو أن يتأخر حتى يمضي أكثرُ الليل، ثم ينزل ليطوف ويسعى.(25/7)
أعمال الحج في اليوم الحادي عشر
في اليوم الحادي عشر يرمي الجمرات الثلاث: الأولى، ثم الوسطى، ثم العقبة.
- فيرمي الأولى بسبع حصيات متعاقبات، يكبر مع كل حصاة، ثم يقف بعد ذلك مستقبِلَ القبلة، رافعاً يديه يدعو دعاءً طويلاً، كما جاءت بذلك السنة.
- ثم يرمي الوسطى بسبع حصيات متعاقبات، يكبر مع كل حصاة، ثم يتقدم ويقف طويلاً مستقبِلَ القبلة، رافعاً يديه يدعو الله عزَّ وجلَّ.
- ثم يرمي جمرة العقبة، ولا دعاء بعدها، فجمرة العقبة ليس بعدها دعاء، ولا يوم العيد، ولا الأيام التي بعده.(25/8)
أعمال الحج في اليوم الثاني عشر
-وفي اليوم الثاني عشر يرمي أيضاًَ الجمرات الثلاث متعاقبات: الأولى، ثم الوسطى، ثم العقبة، ثم ينصرف.
ولا يرمي في هذين اليومين -أعني: الحادي عشر، والثاني عشر- إلا بعد الزوال؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرمِ إلا بعد الزوال، وقال: (خذوا عني مناسككم) .
وبعد رمي الجمرات في اليوم الثاني عشر إن شاء تعجَّل ونزل إلى مكة وأنهى حجَّه، وإن شاء تأخَّر إلى اليوم الثالث عشر؛ لأن الله تعالى يقول: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:203] .(25/9)
أعمال الحج في اليوم الثالث عشر
فإذا كان اليوم الثالث عشر، وهو متأخر في مِنى رمى الجمرات الثلاث، كما يرميها في اليوم الحادي عشر، واليوم الثاني عشر.
وبذلك تنتهي أعمال الحج.
وإذا أراد الخروج إلى بلده فإنه لا يَخرج حتى يطوف للوداع طوافاً بدون إحرام، وبدون سعي.
تقبل الله منا ومنكم ومن جميع المسلمين، ووفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، إنه جواد كريم.(25/10)
الأسئلة(25/11)
حكم المبيت بمنى
السؤال
بالنسبة للمبيت بـ مِنى هل يلزم المبيت إلى الفجر أم نذهب قبل الفجر؟
الجواب
يقول العلماء: لا بد أن يبيت الحاج بـ منى فيها معظم الليل، أي: ثلثا الليل، إما من الأول، أو من الآخر، بمعنى أنه يزيد على النصف.(25/12)
حكم بيع محصول مزرعة بصك مزرعة أخرى
السؤال
هناك شخص عنده مزرعتان؛ مزرعة في المدينة ومزرعة هنا في القصيم للقمح، فإذا أراد أن يبيع المحصول يبيعه بصك المدينة للدولة، والدولة لا تجيز ذلك، فهل هذا يجوز؟
الجواب
لماذا لا يبيعه بصك القصيم؟! السائل: مزرعة القصيم ليس لها صك.
الشيخ: أولاً: هذا السائل -كما عرفتم- يزرع في أرض ليس فيها صك، ويقدم المحصول باسم أرض فيها صك؛ ولكن ليس فيها زرع.
سؤالي الآن: هل هذا كَذِبٌ أم صِدْقٌ؟! أسألك! السائل: كَذِبٌ.
الشيخ: كَذِبٌ! وتحصيل المال عن طريق الكذب حلالٌ أم حرام؟! السائل: حرام.
الشيخ: حرام! إذاً لا يحل هذا الشيء، والرزق لا يُسْتَجْلَب بالمعاصي، فإذا عرفتَ فاتقِ الله وأطعه، لقول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2-3] .
السائل: والصك من كلتا الأرضين ملكه؟ الشيخ: نعم؛ لكنه ما قدَّم إلا باسم الأرض التي لم تُزرع، فسيقول -مثلاً-: زرعتُ في الأرض الفلانية في المدينة وهو لم يزرع، نعم لو قبلوا بلا تعيين لو قال: هذا زرعتُه في ملكي بلا تعيين فلا بأس لو قال: هذا الزرع من أرضٍ لي أو بستان لي ولم يعين فلا بأس؛ وفي هذه الحالة لا بد أن يعين.
السائل: لكن لو قدَّم صك المدينة فسيتضح أنه زرع في المدينة.
الشيخ: نعم، بلا شك فيكون هذا كذباً.(25/13)
حكم الحج عن الغير
السؤال
فضيلة الشيخ! مرَّ في درس ماض مسألة إعطاء الحِجَّة إلى الغير، وجاء سؤال على الموضوع، وأفتيتم -جزاكم الله خيراً- بأن مَن أخذ دراهم ليحج بها عن الغير فله أن ينوِّب عنه إنساناً آخر، فيكون هذا مدعاةً إلى أن يختار الناسُ شخصاً بعينه، ولا يختارون الحِجَّة نفسها؛ لأن بعض الأشخاص يطلبون بالمعروف، ويحج بنيته، وبعضهم يطلب بالمعروف أن يحج هو فلا يسمحون له!
الجواب
الظاهر لي أنك فهمتَ خطأً؛ لأنه لا يجوز للإنسان إذا أُعْطِي حجاً أن يقيم غيره مقامَه إلا بعد مراجعة صاحبه، أو إذا قيل له: خذ هذه الدراهم وأعطها من تراه صالحاً، أما إذا عَقَدَ معه على أنه هو الذي سيحج، فإنه لا يجوز أن يعطيها غيره؛ لأنني ربما أختار هذا الرجل ولا أختار الآخر.
هذا هو الواقع.
أما ما ذكرتَ فربما فاتك شيء من الكلام.
السائل: سأعطي -يا شيخ- مثالاً على هذا: للإنسان أن يستأجر بيتاً، وله هو بدوره أن يؤجر هذا البيت من الباطن بأكثر مما استأجره لنفسه! الشيخ: هذا قياس مع الفارق.
السائل: لكن هذا المثال مرَّ مع السؤال نفسه في الدرس المذكور.
الشيخ: ولكنه قياس مع الفارق؛ لأن سُكْنى البيت لا يهم المؤجر إن سكنه زيدٌ أو عبيد، ولهذا قلنا: بشرط أن لا يكون المستأجر الثاني أكثر ضرراً من المستأجر الأول.
فهذا غير هذا.
فالمهم أنه إذا كان الشيء المؤجَّر تتفاوت فيه الرغبات؛ فإنه لا يجوز للمستأجر أن يعطيه غيره، مثال ذلك: افرض أني استأجرتك لتنسخ لي كتاباً، فحينئذٍ لا يجوز أن تعطيه غيرك لينسخه؛ لأنني ربما أختار كتابتك ولا أختار كتابة الآخر، وهكذا الحج.
مداخلة: يا شيخ! تكملة لهذا السؤال: لو أن إنساناً أتاني وطلبني بالمعروف، وقال: حج عني بنيتي، فهل لي من أجر؟ الشيخ: أنا قلتُ لكم في أثناء الدرس: أن الإنسان إذا أخذ الحج لأجل قضاء حاجة صاحبه، فما يحصل له هو من الخير في المشاعر فهذا طيب، يؤجر عليه الإنسان.(25/14)
عدة المرأة المتوفى عنها زوجها
السؤال
هناك رجل توفي، وله زوجتان، وبعد وفاته أنجبت إحدى زوجاته ولداً، والزوجة الثانية عاقر لا تنجب منذ أن تزوجها، فهل للولد أن يُخْرِج أمه بولادته هذه عن العدة؟
الجواب
إذا كان لرجل زوجتان إحداهما حامل، ثم مات، فوضعت الحامل بعد مُضْي أسبوعٍ مثلاً.
السائل: يومين! الشيخ: أو يومين، انقضت عدتها، وانقضى إحدادها، والثانية تبقى حتى تتم أربعة أشهر وعشرة أيام، وإن كانت حاملاً فحتى تضع، فربما لا تضع إلا بعد عشرة أشهر، المهم أن كل واحدة لها حكم نفسها.
السائل: أي: لا تمنعها الزوجة الثانية الباقية في عدتها! الشيخ: لا تمنعها الزوجة الثانية.(25/15)
فضيلة صلاة الجماعة وإن كانت في البيت
السؤال
رجلان صاحبا مزرعة، ولهما مسجد صغير، فمرض أحدهما ولم يستطع الذهاب إلى المسجد، والآخر هل يذهب ويصلي في المسجد منفرداً أم يصلي مع صاحبه في بيته؟
الجواب
هل المسجد يأتيه أحد؟ السائل: لا.
المسجد صغير لهما فقط.
الشيخ: وليس هناك مارَّة يمرُّون من عند المسجد؟ السائل: لا.
هما في مزرعة بعيدة عن الإسفلت.
الشيخ: إذاً: يأتي مع صاحبه، ويصلي معه جماعة في بيته أفضل من كونه يصلي في المسجد منفرداً.(25/16)
حكم رفع القدمين أثناء السجود
السؤال
يُشاهَد على بعض المصلين أنه في أثناء سجوده يرفع إحدى قدميه أو كليهما، فما حكم هذا الفعل؟
الجواب
لا يجوز للساجد أن يرفع شيئاً من أعضائه السبعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أُمِرْنا أن نسجد على سبعة أعظم: على الجبهة -وأشار بيده إلى أنفه- والكفين، والركبتين، وأطراف القدمين) ، فإذا رفع رجليه أو إحداهما، أو يديه أو إحداهما، أو جبهته أو أنفه أو كليهما، فإن سجوده يبطل، ولا يُعْتدُّ به، وإذا بطل سجوده ولم يأتِ ببدله على وجهٍ مشروع فإن صلاته باطلة.(25/17)
الاشتراط في الحج
السؤال
فضيلة الشيخ! بالنسبة للاشتراط في الحج، هل هناك حالات معينة يَشْتَرِط فيها الحاج ويقول: إن حَبَسَنِي حابسٌ فمحلي حيث حَبَسْتَنِي؟
الجواب
الاشتراط في الحج أن يقول عند عقد الإحرام: إن حَبَسَنِي حابسٌ فمحلي حيث حَبَسْتَنِي.
وهذا الاشتراط لا يُسَنُّ إلا إذا كان هناك خوف مِن مرض أو امرأة تخاف من الحيض، أو إنسان متأخر يخشى أن يفوته الحج، ففي هذه الحالة ينبغي أن يشترط، وإذا اشترط وحصل ما يمنع من إتمام النسك، فإنه يتحلل وينصرف ولا شيء عليه.
أما إذا كان الإنسان غير خائف فالسنة أن لا يشترط، بل يعزم، ويتوكل على الله، ويحسن الظن بالله عزَّ وجلَّ.(25/18)
حكم صلاة المغرب والعشاء بعد منتصف الليل في المزدلفة
السؤال
فضيلة الشيخ! إذا وصلتُ إلى مزدلفة بعد منتصف الليل، فهل يجوز لي أن أصلي المغرب والعشاء هناك، أم الأفضل أن أصليها قَبْلُ؟
الجواب
إذا خشي الإنسان بعد انصرافه من عرفة أن لا يصل إلى مزدلفة بعد منتصف الليل فإن الواجب عليه أن يصلي ولو في الطريق، ولا يجوز له أن يؤخر الصلاة إلى ما بعد منتصف الليل؛ لأن وقت العشاء إلى منتصف الليل.(25/19)
التفصيل في تداخل السنن
السؤال
هل السنن تتداخل في بعضها؟ مثل مَن أراد سنة الوضوء فإنه يدخلها في سنة الضحى!
الجواب
نعم.
يصح ذلك؛ لأن بعض السنن تكون مقصودة بذاتها، فهذه لا تتداخل، وبعض السنن يكون المقصود منها تحصيل الصلاة فقط، فمثلاً: سنة الوضوء المقصود بها أن تصلي ركعتين بعد الوضوء؛ سواء سنة الوضوء أو ركعتي الضحى، أو راتبة الظهر أو راتبة الفجر، أو السنة التي تكون بين الأذان والإقامة؛ لأن بين كل أذانين صلاة، وكذلك تحية المسجد يجوز إذا دخلتَ المسجد أن تصلي بنية الراتبة وتغني عن تحية المسجد.
أما إذا كانت العبادة مقصودة بذاتها فإنها لا تتداخل، ولهذا لو قال قائل: سأجعل راتبة الظهر الأولى -التي هي أربع ركعات- ركعتين وأنويها عن الأربع، نقول له: لا يصلح؛ لماذا؟ لأن السنة هنا مقصودة بذاتها، بمعنى أن تصلي ركعتين ثم ركعتين.
وهكذا أيضاً سنة الطواف مع سنة الفجر، مثلاً: لو انتهى الإنسان من طوافه بعد أذان الفجر وقبل الإقامة، فنوى بالركعتين سنة الطواف وراتبة الفجر فإنها لا تغني إحداهما عن الأخرى؛ لأن سنة الطواف سنة مقصودة بذاتها، وسنة الفجر سنة مقصودة بذاتها.(25/20)
حكم تقديم اليدين على الركبتين عند السجود
السؤال
عندما يخر العبد للسجود، هل يقدم يديه أم ركبتيه؟ وما الراجح في هذا؟
الجواب
إذا خر الإنسان للسجود فإنه يقدم ركبتيه، ولا يقدم يديه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، فقال: (إذا سجد أحدكم فلا يبرُك كما يبرك البعير) ، والبعير إذا برك يقدم يديه كما هو مشاهَد، فالحديث ليس لفظه: فلا يبرك على ما يبرك عليه البعير، بل لفظه: (فلا يبرك كما يبرك البعير) ، وفرق بين العبارتين.
فإذا قيل: (فلا يبرك كما يبرك البعير) فهو نهي عن الهيئة والكيفية.
وإذا قيل: فلا يبرك على ما يبرك عليه البعير، فهو نهي عن العضو الذي يسجد عليه.
وعلى هذا لو كان لفظ الحديث: فلا يبرك على ما يبرك عليه البعير لقلنا: لا تقدم الركبتين؛ لأن البعير يقدم الركبتين؛ ولكنه قال: (فلا يبرك كما يبرك البعير) أي: في الكيفية والهيئة، ومعلوم أن البعير عندما يبرك أول ما يقدم يديه؛ لكن إذا كان الإنسان فيه أوجاع في ركبته، أو فيه مرض، أو كان ثقيل الجسم، وكان نزوله على يديه أسهل فلا بأس أن يقدم يديه.(25/21)
الجمع بين حديثي: (فر من المجذوم) وحديث: (لا عدوى ولا طيرة)
السؤال
كيف نجمع بين الحديثين: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) و (لا عدوى ولا طِيَرة) ؟
الجواب
الجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) ، وقوله: (لا عدوى ولا طِيَرة) هو أنه عند التأمل لا تعارض بينهما.
فالحديث الأول: (فر من المجذوم) أراد به النبي عليه الصلاة والسلام أن يتجنب الإنسان أسباب الخطر.
والحديث الثاني: أراد أن يبين أنه لو فرض أنه حصل له عدوى فإن هذه العدوى حصلت بإذن الله، وليست كما يعتقده العرب، من أنها تعدي بنفسها، بل هي بأمر الله عزَّ وجلَّ، فيكون النفي في قوله: (لا عدوى ولا طِيَرة) أي: نفي تأثيرها إلا بإذن الله لا نفي وجودها، بل العدوى موجودة، كلٌّ يعرف أن بعض الأمراض سريعة العدوى.(25/22)
حكم من هم بسيئة فلم يعملها أو هم بها فعملها
السؤال
يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25] ، ويقول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى في آخر الحديث: (وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله تعالى عنده حسنة كاملة) كيف نجمع بين الآية والحديث؟
الجواب
الجمع بين الآية والحديث من أحد وجهين: الوجه الأول: أن قوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الحج:25] أي: من يهم فيفعل، لقول الله تبارك وتعالى في سورة الأنعام وهي مكية: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام:160] ولم يقل: ومَن هَمَّ، بل قال: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} [الأنعام:160] فيكون المعنى: مَن يرد فيه بإلحاد بظلم ويفعل، وعلى هذا فلا تعارض.
الوجه الثاني: أن يقال: إن قوله: (ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة) هذا في غير مكة وتكون مكة مستثناة من ذلك، أي: أنه يؤاخذ الإنسان فيها بالهم، وفي غيرها لا يؤاخذ.
ولكن هنا نسأل: إذا هم بالسيئة وتركها، هل يؤجر على كل حال؟ لا.
يؤجر إذا تركها لله، ولهذا جاء في تعليل هذا الحديث: (فإنه إنما تركها من جرائي) أي: من أجلي؛ لأن من هم بالسيئة ولم يعملها تختلف أحواله: الأولى: إذا هم بالسيئة فتركها لله عزَّ وجلَّ فإنه يُثاب، ولا سيما إذا كانت هذه السيئة تدعو إليها النفس دعوة شديدة فإنه يثاب أكثر، ولهذا جاء في الحديث: أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله) ترك المعصية مع قدرته عليها خوفاً من الله.
الثانية: أن يترك السيئة التي هَمَّ بها خجلاً من الناس لا خوفاً من الله، فهذا لا أجر له، بل قد يأثم على ذلك؛ لأن الترك -أعني: ترك المعصية- عبادة، والعبادة لا تكون إلا لله.
الثالثة: أن يدعها عجزاً عنها، فهذا يعاقب على نيته السيئة، ولا ينفعه عدم الفعل؛ لأنه غير قادر.
الرابعة: أن يدعها عجزاً عنها مع فعل الوسائل التي توصل إليها، فهذا يُكْتَب عليه وزر الفاعل، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار! قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل، فما بال المقتول؟! قال: لأنه كان حريصاً على قتل صاحبه) .
فترك المعصية ينقسم إلى أربعة أقسام: الأول: أن يتركها خوفاً من الله، فهذا يؤجر.
الثاني: أن يتركها خوفاً من الناس، فهذا يأثم.
الثالث: أن يتركها عجزاً دون أن يفعل الوسائل التي توصل إليها، فهذا أيضاً يأثم بالنية.
الرابع: أن يتركها عجزاً مع فعل الوسائل التي توصل إليها؛ لكن لا يتحقق مراده، فهذا يكتب عليه إثم الفاعل.
أما مَن لم يهم بالسيئة، ولم تطرأ له على بال، فهذا ليس عليه إثم وليس له أجر.(25/23)
تخصيص الصحابة بوجوب التمتع في الحج دون غيرهم
السؤال
فضيلة الشيخ! قلتم: إن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتمتع واجب على الصحابة فقط، ما دليل الصرف هذا مع أن القاعدة: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؟
الجواب
الدليل: حديث أبي ذر في صحيح مسلم: كانت لنا خاصة، وأن أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وأكابر الصحابة لم يَمْنَعوا من غير التمتع، ولا شك أنهم هم أعلم منا بمراد الرسول عليه الصلاة والسلام، وأعلم من ابن عباس بمراد الرسول عليه الصلاة والسلام، وأعلم ممن بعد ابن عباس إلى يومنا هذا.(25/24)
ضابط في معرفة البدعة
السؤال
فضيلة الشيخ! في الأسبوع الماضي قدمنا سؤالاً، وكنتُ رسولاًَ ممن خلفي، وسألنا عن اللوحات في الشوارع، وهي: سبحان الله، والحمد لله، فقال قائل منا: أليست بدعة؟! أفعلها الصحابة؟! فما هو ضابط البدعة عفا الله عنك؟
الجواب
البدعة أن يتعبد الإنسان لله بما لم يشرعه الله عزَّ وجلَّ هذه هي البدعة.
أما وسائل العبادة فإنها ليست ببدعة، فهناك فرق بين المقاصد والوسائل، فلو قال قائل -مثلاً-: مكبر الصوت في الصلاة والخطبة والمواعظ كان غير موجود في عهد الرسول، فهو بدعة! لقلنا: هذا غلط؛ لأن ذلك وسيلة لإيصال الخير إلى الناس.
وهذه اللافتات التي توجد في الطرقات وسيلة لتذكير الناس بذكر الله عزَّ وجلَّ.(25/25)
استنقاذ أموال الناس من اللصوص
السؤال
ثَمَّة عصابةٌ في بلدةٍ تسرق الناس، وقد استفحل خطرها، وليس في تلك البلدة رجال أمن، وأحد الناس يعرف وكرها ومخبأها، فهل يجوز لهذا الرجل الذي يعرف وكرها مع أناس شجعان أن يأخذوا هذه الأموال خِلْسَةً منهم، ويعرِّفونها أو يعرِفون أصحابها فيرسلونها إلى أصحابها، أم أن خِلْسَتَهم هذه تعتبر سرقة كذلك؟
الجواب
الرجل إذا رأى المال المسروق وهو يعرف صاحبه، فإنه يجب عليه وجوباً أن يستنقذه من السارق، فإذا ذهب هؤلاء الجماعة إلى أوكار هؤلاء السُّرَّاق، وأخذوا أموال الناس ليردوها إلى الناس فهم على خير كثير، ولهم أجر كبير، فليفعلوا ذلك ما استطاعوا.(25/26)
حكم المبيت خارج منى
السؤال
بالنسبة لحدود مِنى، بعض الناس مِن الذين لا يعرفون مِنى وليسوا من أهل مكة يسكنون خارج سيل الجبال داخل مِنى، أي: عند حد السيارات الآن، الذي يتم فيه إخراج السيارات من داخل مِنى، فلستُ أدري هل هذا المكان يعتبر من مِنى؟! وهل يُعفى عنهم في ذلك أم لا؟! المهم أنه قد أنكر عليهم بعض الناس، ولم يستجيبوا، وقالوا: إلا أن يكون هناك فتوى من سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن باز، أو من هيئة كبار العلماء!
الجواب
الواجب على الإنسان أن يحتاط لدينه بأن يبحث بحثاً دقيقاً عن مكان له في مِنى، فإذا لم يجد فقد قال الله عزَّ وجلَّ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ، فإذا لم يجد سقط عنه الوجوب؛ لأنه عاجز.
وقال بعض العلماء: إذا مُنع المبيت في مِنى فإنه يسقط عنه وجوب المبيت؛ لكن يجب عليه البدل، وهو فدية يذبحها ويوزعها على فقراء مكة.(25/27)
أفضل الأدعية في يوم عرفة
السؤال
ما أفضل الأدعية في يوم عرفة؟
الجواب
أفضل الذكر يوم عرفة وغيره: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
والذكر دعاء؛ لكنه دعاء ضمني؛ لأن مَن أثنى على الله بذكره عزَّ وجلَّ فلسان حاله يقول: يا رب، أثبني على هذا الذكر؛ ولهذا قال بعض العلماء: إن الذكر دعاء في الواقع؛ لأنك لو سألتَ ذاكراً: لماذا ذكرتَ الله؟ لقال: ليثيبني.
لكن إذا دعا الإنسان بالدعاء الذي يريد، مثل: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] أو يختار أدعية من القرآن، أو من السنة، فهذا طيب، ولا أعلم دعاءً خاصاً لعرفة، بل يقول الإنسان ما تيسر، إن علم من الأدعية التي في القرآن أو في السنة شيئاً فلْيَدْعُ بها؛ لأنها خير الأدعية، وإن لم يعلم فبما أراد.(25/28)
كيفية فتنة الكفار للمؤمنين
السؤال
يقول الله سبحانه وتعالى: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [الممتحنة:5] فكيف يكون المسلم فتنة للذين كفروا؟
الجواب
يكون فتنة للذين كفروا بتسلُّط الكفار عليه؛ لأن تسلط الكفار على المؤمن فتنة، حيث إنهم يؤزَرون على ذلك ويأثمون عليه، فيكون ذلك فتنة لهم.
ويحتمل أن معنى {فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [الممتحنة:5] أي: أن يفتنونا هم عن ديننا، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10] .
والآية تشتمل المعنيين جميعاً؛ لأن المعنيين لا ينافي أحدهما الآخر، والقاعدة في التفسير: أن الآية إذا احتملت معنيين لا ينافي أحدهما الآخر فإن الواجب حملها على المعنيين جميعاً.(25/29)
التوسل بالعمل الصالح لأكثر من حالة
السؤال
هل للإنسان أن يتوسل بالعمل الصالح لأكثر من شيء ولأكثر من حالة؟
الجواب
نعم.
يمكن أن يتوسل بالعمل الصالح لعدة أمور {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:173-194] هذه عدة أشياء توسلوا إلى الله بالإيمان لتحصل لهم.(25/30)
مشروعية التجارة مع أداء فريضة الحج
السؤال
هل يجوز أن يذهب رجل إلى مكة للتجارة بجانب أداء فريضة الحج؟
الجواب
نعم.
يجوز للإنسان أن يذهب إلى مكة بنية التجارة والحج، لقول الله تبارك وتعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198] ؛ لكن ينبغي له أن يُغلِّب جانب الحج.(25/31)
الهيئة التي يجب بها سجود السهو
السؤال
هل يشترط للإمام في الصلاة الرباعية أن يسجد سجود السهو بمجرد قيامه، أو بوصوله إلى القيام؟ الشيخ: قصدُك الزيادة؟ السائل: نعم، الزيادة.
الشيخ: الزيادة لا تتحقق إلا إذا وصلتَ إلى الركن الذي بعد الذي قمتَ منه، فمثلاً: لو أن الإنسان نهضَ في الرباعية ليقوم إلى الخامسة، ثم ذكر قبل أن يعتمد، فإنه يجلس ولا سهو عليه؛ لأنه لم ينتقل إلى الركن الذي يليه.(25/32)
حكم إجبار الإمام على جمع الصلاة
السؤال
ما الحكم إذا أجبر الإمام على جمع الصلاة؟ الشيخ: من يجبره؟! السائل: جماعة المسجد! الشيخ: لا يمكن أن يجبر الإمام على الجمع؛ الإمام إمام، وهو سلطان في مسجده، فإذا قال له الناس: اجمع، نظر، إن كان الناس في حال يسوغ لهم فيها الجمع وجب عليه أن يجمع؛ لأنه ولي، والولي يجب عليه أن يفعل ما هو أرفق بمن هم تحت يده، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أمَّ أحدُكم الناس فليخفف، وإذا صلى لنفسه فليطوِّل ما شاء) .
فإذا طلب منه الجماعة أن يجمع والجمع سائغ وَجَب عليه أن يجيب؛ لكنه بنفسه يجوز له أن يجمع ويجوز له ألا يجمع، مع وجود المسوِّغ، وإذا طلب منه الجماعة أن يجمع وليس الحالُ بِمُسَوِّغ للجمع، فإنه لا يجوز له أن يقبل منهم، ويقول: أنا لا أجمع؛ لأني لا أرى الجمع، فإن أصروا وقالوا: إما أن تصلي بنا جمعاً وإلا صلينا نحن، يقول: صلوا أنتم، أما أنا فلا أجمع.
وإن خاف من فتنة في مثل هذه الحال فليصلِّ بهم، وينويها نفلاً، هذا إذا خاف من فتنة، والمسألة ممكنة ولو على وجه بعيد، أن يكون هناك مسوِّغ للجمع.
أما إذا لم يكن هناك مسوِّغ فإنه لا يجوز أن يجمع، وعليه أن يقول لهم: يا جماعة، هذا حرام؛ أن أجمع بدون مسوِّغ؛ لأن الله قال: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103] والنبي عليه الصلاة والسلام فسَّر هذا الوقت، وجعل لكل صلاة وقتاً معيناً.(25/33)
وجوب العدل بين الأولاد في العطية
السؤال
هناك رجل لديه ثلاث عمارات، ولديه زوجتان، وله من إحدى الزوجتين بنت، وله من الزوجة الثانية عدة أبناء، فكتب إحدى هذه العمارات باسم ابنته الوحيدة التي من إحدى زوجاته، وكان ذلك سراً بينه وبين هذه البنت، دون أن يعلم إخوانها من الزوجة الأخرى! فهل هذا جائز؟ الشيخ: تعني: أنه أوصى لها بها، أم أعطاها لها هبة؟ السائل: هبة.
الشيخ: حال حياته.
السائل: نعم.
الشيخ: ما فعله هذا الرجل حرام عليه، بمعنى أنه لا يجوز له أن يخصص أحداً من أبنائه أو بناته بشيء من ماله؛ لأن البشير بن سعد رضي الله عنه حينما أعطى ابنه النعمان عطية، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فسأله: (هل فعلت ذلك بكل ولدك؟ قال: لا.
فقال: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) ، فرجع البشير في هبته للنعمان، وأخذها منه.
فإذا كان الرجل حياً فبلغه أن هذا حرام، فيجب أن يعود فيما فعل، وأن يمزق الوثيقة، وأن يجعل المسألة راجعة إلى حكم الله عزَّ وجلَّ، فإذا قدر الله عليه أن يموت، وكانت البنت باقية ورِثَت مع إخوانها ما تستحقه في دين الله، وربما تموت قبله.
فأنت على كل حال بلِّغ -إن شاء الله- وانصح.
السائل: وإذا أصرَّ؟ الشيخ: أنت بلِّغه فحسب، إنما عليك البلاغ.
السائل: قصدي إذا أصر على أنه لن يرجع في هذه الهبة، ثم توفي، هل تنفُذ؟ الشيخ: تُرَدُّ في الميراث، ويُجعلُ الميراثُ سواء.(25/34)
تفسير المتأخرين للقرآن
السؤال
هل إذا فسر أحد الخلف آيات قرآنية بآيات أُخَر، وكان مقنِعاً مفحِماً، هل نرد تفسيره؛ لأن السلف كان لهم تفسير مخالف لهذا؟
الجواب
إذا فسر المتأخرون الآية بتفسير لم يتكلم فيه السابقون، وكان لا يخالف، فإنه يؤخذ به، مثل تفسير كثير من الآيات الكونية بما ثبت الآن مما كان مجهولاً من قبل.
أما إذا كان يخالف ما كان عليه السلف مخالفةً واضحة كتفسير (الاستواء على العرش) بـ (الاستيلاء على العرش) ، فهذا يجب أن يُرَدَّ، ولا يجوز قبوله.
السائل: التفسير كان في سورة يوسف بالنسبة ليوسف عليه السلام، حيث قال السلف: إنه كان وزيراً للمالية، وقال المعاصرون: إنه لم يكن وزيراً للمالية وإنما كان هو الملك أو العزيز.
الشيخ: أما العزيز فليس هو العزيز؛ لأن الله قال: {قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} [يوسف:51] .
السائل: ولكن صار فيما بعد هو العزيز.
الشيخ: ربما، فهذه المسألة هل كان ملكاً أو كان وزيراً للمالية فقط، إن نظرنا إلى قوله تعالى: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] ، قلنا: إنه وزير مالية.
وإذا نظرنا إلى قول الملك: {ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} [يوسف:54] قلنا: هو أيضاً مستشار خاص.
وإذا نظرنا إلى تصرفه فيما بعد: {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ} [يوسف:62] ، وما أشبه ذلك من التصرفات، قلنا: لعله في النهاية صار هو الملك، سواءً بموت العزيز، أو بتخليه عن الملك، والله أعلم.
السائل: عفواً يا شيخ! هو لَمَّا قال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} [يوسف:55] استدل هذا الرجل المفسِّر المعاصر بأن الخزائن هي: السلطة العليا، واستدل بآيات كثيرة، منها: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [المنافقون:7] ، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} [الحجر:21] فاستدل بأنها هي السلطة العليا، وليست مجرد وزارة المالية.
الشيخ: هذا غلط منه؛ لأن قوله: {خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [المنافقون:7] مضاف ومضاف إليه، والمضاف ليس هو المضاف إليه، فالسماوات شيء، وخزائنها شيء آخر.
وقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} [الحجر:21] نفس الشيء، فالمضاف والمضاف إليه شيئان مختلفان.(25/35)
حكم حلق الشعر في الحج
السؤال
الجمهور قاسوا في أيام الحج بقية الشعر على حلق شعر الرأس أنها لا تُنْتَف ولا تُحْلَق، ألا يمكن أن يُستدل لدخول بقية الشعر في النهي عن حلقه بقول الله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29] ، لا سيما أن ابن عباس ذكر في تفسير هذه الآية أن المقصود: حلق الشعر، وتقليم الأظفار، ونحو ذلك؟ وهذا إباحة بعد نهي!
الجواب
لا يُستدل به، ولا يدل على المنع، بل يدل على أنه يُطْلَب من الإنسان أن يتنظف بعد فراغه من الحج، كما لو قلنا -مثلاً-: يُطلب يوم الجمعة أن تتنظف بتقليم الأظفار أو نحو ذلك، فلا يعني ذلك أنه ممنوع في بقية الأسبوع، فليس فيه دليل.
لكن لا شك أن القول للناس بأن يتركوا هذه الأشياء من باب الاحتياط، وتعويدِهم على تعظيم الشعائر لا شك أنه خير.(25/36)
حكم وضوء من كان على جسمه زيت ونحوه
السؤال
ما صحة وضوءِ مَن لَبَّدَ رأسه بزيت أو وضع على جسمه شيئاً من الزيت؟
الجواب
مَن لَبَّدَ رأسه بزيت أو حناء أو نحوهما فلا بأس، ويمسح عليه، وإن لم يصل الماء إلى الشعر؛ لأن هذا مما يُتَسامَح فيه؛ بدليل أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان في إحرامه مُلَبِّداً.
والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(25/37)
لقاء الباب المفتوح [26]
في هذه المادة أمور ينبغي مراعاتها في الحج والعمرة، وأهمية استغلال الأمة لمعالمها وتاريخها، ثم تأتي الإجابة عن الأسئلة الواردة.(26/1)
أمور ينبغي مراعاتها في أداء مناسك الحج والعمرة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو اللقاء الأخير في هذا العام (1413هـ) الذي حصل بعد موسم الحج، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يختم لنا عامنا هذا بالمغفرة والعفو والرضوان، وأن يختم حياتنا بالتوحيد والإيمان.
إننا نذكركم نعمة الله سبحانه وتعالى على الحجاج في هذا العام، فإن هذا العام ولله الحمد من أيسر الأعوام على الحجاج، بالنسبة للسير ولتهيئة المشاعر وللجو اللطيف الذي لم يكن فيه مشقة.
ونذكركم أيضاً بأن الحج نوعٌ من الجهاد في سبيل الله فلا بد فيه من المشقة، وكثير من المترفين التالفين إذا رأوا أدنى مشقة عليهم خرجوا من النسك وتحللوا منه ورجعوا إلى بلادهم، وكأنهم يريدون أن يكون النسك نزهة، كما يخرجون إلى المنتزهات والأودية والرمال ورءوس الجبال، وهذا من سفههم، فإن الحج نوع من الجهاد في سبيل الله، كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (يا رسول الله، هل على النساء جهاد؟ قال: نعم.
جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة) وقد أشار الله إلى ذلك في كتابه، حيث قال عز وجل: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} [البقرة:195-196] ولهذا كان من شَرَع في الحج أو العمرة ولو كان نفلاً لزمه إتمامهما، كما أن من شرع في الجهاد والتقى الصفان فإنه لا يحل له أن يفر، لقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:15-16] .
كما أذكركم بأن الحج عبادة عظيمة ومسئولية كبيرة، فلا يجوز للإنسان أن يتهاون بها بحيث يخرج إليها وهو لا يعلم شيئاً عن واجباتها وأركانها ومحظوراتها؛ لأنه يخطئ، فإذا أخطأ ثم جاء يسأل عن هذا الخطأ بعد أن وقع فربما يكون خطأً لا يمكن تلافيه، ونضرب لهذا مثلاً: بعض الناس عندما رأى الزحام في المطاف صار يدخل ما بين الحِجر والكعبة؛ لأنه أقصر وأسهل، وهذا لا شك أنه خطأ؛ لأن الإنسان إذا فعل ذلك فإن شوطه الذي حصلت فيه هذه المخالفة غير صحيح، وإن كان هذا العام -كما ذكر لي- قد وضع المسئولون على باب الحِجر من الناحية الشرقية شباكاً بحيث لا يتجاوزه أحد، ولكن ربما يكون هناك غفلة من بعض الناس فيزيح هذا الشباك ويدخل.
فالمهم أن يحتاط الإنسان لهذا النسك قبل أن يدخل فيه، وأن يحتاط لهذا النسك بعد الدخول فيه، فإذا وقع في شيء يرى أنه مخالف فعليه أن يبادر بالسؤال عنه ما دام في مكة، حتى يسهل عليه تلافي الخطأ وتكميل النسك، ولا يسأل إلا من يطمئن إلى علمه وأمانته، كما أن المريض لا يذهب إلى أي شخص كان ليعالجه؛ بل لا يذهب إلا إلى من يرجو منه المعالجة الصحيحة السليمة.
فكذلك في مسائل العبادة لا يجوز للإنسان أن يسأل إلا من يعلم أو يغلب على ظنه أنه أهل للإجابة؛ لكونه يعرف أنه عالم وأمين وثقة، حتى يكون على بصيرة من أمره، وما أكثر الذين يبلغنا عنهم إجابات في الحج والعمرة لا أساس لها، لا من السنة ولا من أقوال أهل العلم، بل هي خطأ محض، لكن العامي كالغريق يتشبث بكل شيء، فإذا وجد من يرى أنه من أهل العلم إما لهيئته أو لباسه أو ما أشبه ذلك ذهب يسأله مع أنه جاهل فيضله.
كل هذه مسائل يجب على الإنسان أن يلاحظها ليس في الحج فقط؛ بل في الحج والصيام والزكاة والصلاة والطهارة وغيرها، حتى يعبد الله على بصيرة.(26/2)
خطر العدول عن التاريخ الهجري
إن المسلمين حين كثروا وانتشروا في الأرض وحدثت لهم معاملات وأحوال غير الحال الأولى احتاجوا إلى أن يجعلوا تاريخاً يمشون عليه، وكان ذلك في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فمنهم من قال: نبتدئ تاريخ السنة من ربيع الأول؛ لأنه الشهر الذي أُنزل فيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي أول ما نزل؛ ولأنه الشهر الذي هاجر فيه صلى الله عليه وسلم ووصل إلى المدينة وكوَّن الدولة والأمة، ولكن استقر الرأي على أن يكون أول السنة شهر المحرم؛ لأنه حين ينتهي الناس من موسم الحج وينصرفوا عنه.
والحج كما نعلم هو الركن الخامس من أركان الإسلام، فيكون المسلمون قد أنهوا هذا الركن العظيم واستراحوا بعده ولاسيما فيما سبق من الزمن، حيث كانوا يتعبون في الوصول إلى مكة وفي الرجوع منها، فرأوا أن ابتداء السنة يكون في الشهر المحرم، وهذا الرأي رأي موفق وسديد، ولا ينبغي لنا نحن معشر المسلمين أن نتحول عنه إلى تاريخ الأمة الكافرة التي تبني ميقاتها على أشهر وهمية ليس لها أصل وإنما هي اصطلاحية فقط، ثم ينبغي لنا أيضاً ألا نعتبر السنوات الميلادية؛ لأن لدينا السنوات الهجرية التي هي رمز عزتنا وقوتنا وكرامتنا.
وإننا لنأسف أن بعض الناس اليوم وهم قلة ذهبوا يؤرخون بالتاريخ الميلادي، وتنكبوا عن تاريخهم الهجري الإسلامي الذي وضعه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه واتفق عليه المسلمون، ولم نجد أحداً من العلماء يؤرخ فيما سبق بالتاريخ الميلادي أبداً، إنما يؤرخون بالتاريخ الهجري، تولى الخلافة سنة كذا وكذا، يعني: من الهجرة، ولد العالم الفلاني في سنة كذا وتوفي سنة كذا، حصل كذا في سنة كذا وكذا، بالتاريخ الهجري الذي وضعه الخليفة الثاني الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهذه الكتب الآن تجد الإنسان إذا انتهى من المُؤلف قال: انتهى من تأليفه في يوم كذا، في شهر كذا من سنة كذا، كله بالهجرية، لكن دخلت الميلادية على المسلمين لما استعمر النصارى بلاد المسلمين في الشام ومصر والعراق وصارت لهم الغلبة والسيطرة؛ لأن العادة والطبيعة والفطرة تقتضي أن المغلوب يقلد الغالب، ولهذا أخذوا بهذا التاريخ، لكن هذه الدولة - السعودية باعتبارها دولة- قد جعلت تاريخها كما في نظام الحكم الصادر تاريخها هو التاريخ الهجري، وهذا لا شك أنه خير، لكن نأسف لبعض الناس الذين تنكبوا هذا وصاروا يؤرخون بالتاريخ الميلادي، مع أن نظام الدولة أن تاريخها هو التاريخ الهجري، بل نظام الأمة الإسلامية منذ وُضع هذا التاريخ في عهد عمر إلى يومنا هذا.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم اتباع سلفنا الصالح عقيدةً ومنهاجاً، وأخلاقاً وآداباً ومعاملة؛ إنه على كل شيء قدير.(26/3)
الأسئلة(26/4)
حكم ترك صلاة الجماعة لشبهة مرض
السؤال
رجل مريض إذا شم رائحة الطيب زاد مرضه، فنصحه الطبيب ألا يخرج إلى الجماعة أربعين يوماً حتى يشفى من مرضه؛ وذلك أنه إذا خرج إلى المسجد وشم الطيب من المصلين مرض، فما رأيكم حفظكم الله تعالى؟
الجواب
لا يجوز العمل بهذا القول أي: بترك الجماعة ولا ليومٍ واحد، نعم لو أن الإنسان إذا خرج رأى في نفسه أن المرض يزداد أو أنه يتأخر في البرء، فهذه حالةٌ طارئة يحكم لها بما تقتضيه تلك الحال وقت وجودها، وأما أن يقال للشخص: من تمام العلاج ألا تصل مع الجماعة فهذا ليس بمسلَّم إطلاقاً، ولا يجوز العمل به، والطيب كان الناس يدرءونه فيما سبق بأن يأخذوا معهم ما يعرف بالحلتيت يستنشقه الإنسان، فكلما شم طيباً استنشق الحلتيت حتى يزول عنه أثر الطيب.(26/5)
حكم شراء عرائس البنات
السؤال
ما حكم شراء عرائس البنات والصور الموجودة في الكتب، كصور الحيوانات والطيور وغيرها، حيث إن الأطفال يجدون في النظر إليها متعة ويتعلمون من خلال النظر إليها، فما أدري ما حكم ذلك؟
الجواب
ما يسمى بعرائس الأطفال وهي الصور المجسمة على صورة امرأة أو بنت أو ولد ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: جائز ولا إشكال فيه، وهو ما صار يصنع الآن حديثاً بحيث تكون الصور كظل ليس لها عين ولا أنف ولا فم وهذه لا إشكال في جوازها، وكان لـ عائشة رضي الله عنها بنات من هذا النوع تلعب بهن.
القسم الثاني: ما يصنع من البلاستيك ويكون على شكل الصورة الآدمية تماماً حتى في العيون والشفتين والأهداب والحواجب، حتى إن بعضها ربما تمشي وتصوت، فهذا في جوازه نظر، ولكن لا أشدد فيه؛ لأن حديث عائشة رضي الله عنها أنها كانت تلعب بالبنات، فقد يقال: إنه يدل على الفسحة والتوسع للبنت، لاسيما وأنها يحصل لها بذلك -كما قلت- شيء من المتعة، لكن مع هذا نقول: ما دام وقد وجد ما يغني عن ذلك، فلا ينبغي العدول إلى شيء مشتبه مع وجود شيء لا شبهة فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) .
أما صور الحيوانات الأخرى كالحصان والأسد وما أشبهها فلا وجه لاقتنائها إطلاقاً ويستغنى عن هذا بصور الآلات المصنوعة كالسيارة والجراف وما أشبه ذلك، فإن الصبي يلهو بها كما يلهو بصور الحيوان الأخرى، وإذا لم يكن فيها بد بأن أهدي للإنسان شيء من هذه الحيوانات فإنه يقطع رأسها ويبقيها بلا رأس ولا حرج في هذا.(26/6)
حكم الصور المعلقة على الجدران
السؤال
فضيلة الشيخ: الرسول صلى الله عليه وسلم لم يدخل حجرة عائشة عندما وجد الصور على القرام حتى قُطعت وجُعلت وسادة، هل أقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم في هذا إذا دخلت في أي مكان أو محل أو بيت؟
الجواب
لا شك أن الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم مما أمر الله به، وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] .
فإذا دخلت في بيت ووجدته قد علقت فيه الصور فارجع ولا تدخل، إلا إذا أمكنك أن تكلم صاحب البيت بأن يزيلها فإنك تأمره أو تطلب منه أن يزيلها وتدخل؛ لأن في ذلك مصلحتين: الأولى: إزالة المنكر.
والثانية: إتمام إجابتك للدعوة.
أما إذا كنت تعرف أنه لن يقبل منك ولن يزيل هذه الصور فإنه لا شك أن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم فلا تدخل، ومثل ذلك أيضاً ما يوجد من صور العائلة أو أبو العائلة أو صور الملك أو صور الأمير أو صور الوزير أو ما أشبه ذلك مما يوجد معلقاً في براويز، فإنك لا تدخل مادام هذا الشيء معلقاً حتى يُزال.(26/7)
حكم تنظيم النسل
السؤال
فضيلة الشيخ: ما الحكم في تنظيم النسل وهل هناك حالات توجب على الإنسان أن ينظم النسل إذا كان قليل اليد، وما حكم إنزال الجنين قبل أربعة أشهر؟
الجواب
تنظيم النسل ليس بيد الإنسان، بل هو بيد من له ملك السماوات والأرض، كما قال الله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى:49] وقال: {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً} [الشورى:50] ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام في العزل: (لو شاء الله أن يخلقه ما منعته) قال هذا أو معناه، فالأمر بيد الله، وتنظيم النسل هل هو للمرتقب المقبل أو للنسل الحاضر؟ كل ذلك بيد الله، ربما يريد الإنسان تنظيم النسل بناءً على أن عنده الآن ثلاثة أولاد ثم يأتي على هؤلاء الأولاد حادث يحصدهم جميعاً ولا يبقى له ولد، بناءً على أنه يريد أن ينظم النسل، ولكن في بعض الأحيان قد تضطر المرأة إلى تأجيل الحمل لسببٍ من الأسباب كمرضها أو ضعفها أو عجزها عن القيام بحضانة أولادها، فهذا لا بأس أن تتخذ ما يؤجل الحمل بشرط أن يكون ذلك برضا الزوج.
أما الجنين إذا حملت به المرأة فإنه كما قال الله عز وجل: {فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون:13] لا يجوز إنزاله؛ لأنه منذ كان نطفة ابتدأ تكوينه، وإذا كان العزل قد اختلف العلماء فيه فكيف بشيءٍ ابتدأ تكوينه؟ فلا يجوز إنزال الحمل منذ تكوينه إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك؛ لكون الأم لا تتحمل الحمل لمرضٍ في قلبها أو في صحتها أو في بطنها أو غير ذلك، فحينئذٍ ينزل إلى تمام أربعة أشهر، أي: إلى أن تنفخ فيه الروح، فإذا نفخ فيه الروح فإنه لا يجوز تنزيله أبداً بأي حالٍ من الأحوال؛ لأنه إذا نفخ فيه الروح صار إنساناً، والإنسان لا يجوز قتله بأي حالٍ من الأحوال.(26/8)
حكم نقل الطالبات في الحافلات وهن كاشفات الوجه
السؤال
فضيلة الشيخ: ما حكم نقل الطالبات في حافلة إلى المدرسة وهن كاشفات الوجوه؟
الجواب
كشف الطالبة أو المعلمة أو المرأة غير الطالبة وجهها والرجال ينظرون إليها حرام ولا يحل، ولو كانت في السيارة ولا يظهر من كان خلف الزجاج لكون الزجاج ساتراً، أما لو كانت بين النساء وبين السائق سترة فلا حرج عليهن في هذه الحال أن يكشفن وجوههن؛ لأنهن كاللاتي في حجرة منفردة عن الرجال، وأما إذا كان الزجاج شفافاً يرى من ورائه أو كان غير شفاف لكن ليس بينهن وبين السائق حاجز؛ فإنه لا يجوز لهن كشف وجوههن حيث يراهن السائق أو أحدٌ من الرجال.
السائل: هل الأجرة حرام؟ الشيخ: الأجرة ليست حراماً؛ لأن النساء لم يستأجرن هذه السيارة لأجل كشف الوجه، لكن يجب على السائق أن يأمرهن بتغطية الوجه، فإن أبين وأصررن على أن يكشفن وجوههن فليجعل على السيارة ستائر أو يتخذ من الزجاج المحجوب ويجعل بينه وبينهن سترة ويزول المحظور.(26/9)
حكم استعمال المرأة لعقاقير منع الحمل
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تستعمل موانع الحمل لمدة سنتين بدون عذر بحجة أنها تريد أن ترتاح، وهل يحق للزوج أن يمنعها من ذلك؟
الجواب
هذا السؤال يشبه السؤال السابق عن تنظيم النسل، فاستعمال المرأة دواءً يمنعها من الحمل إلى مدة سنتين، نسمي هذا تأجيل الحمل، وتأجيل الحمل جائزٌ عند الحاجة إليه، لكن بشرط أن يأذن الزوج بذلك، فإن لم يأذن فإنه لا يحل للمرأة أن تستعمل هذه الموانع بدون علمه؛ لأن الولد حقٌ للزوج وللزوجة، فإذا لم يرغب الزوج في أن تؤجل الحمل حرم عليها أن تستعمل ما يؤجله، والمرجع في هذا إلى الزوج وإلى الزوجة، أما كونه إلى الزوج فلأن الله عز وجل قال: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223] فالحارث هو الزوج، والحارث له أن يحرث أرضه متى شاء ويسقيها ويزرعها، كذلك الزوج لو أراد أن يعزل بحيث لا ينزل في الفرج فللزوجة أن تمنعه إذا لم ترض بذلك، ولهذا قال العلماء: يحرم العزل عن الزوجة الحرة بدون إذنها؛ لأن المرأة لها حقٌ في الولد، ولهذا لو تبين أن الزوج عقيم فللزوجة المطالبة بفسخ النكاح إذا لم ترض بكونه عقيماً؛ لأن المرأة لها حقٌ في الولد.
وخلاصة الجواب: أنه لا يجوز للمرأة أن تستعمل ما يؤجل الحمل إلا برضا الزوج، ثم إذا رضي الزوج ننظر إذا كان هناك حاجة لتأجيل الحمل فلا بأس، وإن لم يكن هناك حاجة فالأولى عدم ذلك.(26/10)
كيفية قضاء الفائت من صلاة السفر في الحضر
السؤال
فضيلة الشيخ: إنسان فاتته صلاة سفر فماذا يقضيه من الحضر إذا كان تركها عمداً؟
الجواب
إذا وجبت الصلاة في السفر فإنها تجب ركعتين، فإذا فاتته لغفلة أو نسيان أو نوم أو لإخلال في واجب ولم يعلم به إلا وهو في الحضر فإنه يقضيها ركعتين، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) أي: يصلي تلك الصلاة التي نسيها أو نام عنها بعينها ووصفها، إن كانت مقصورة فمقصورة، وإن كانت غير مقصورة فغير مقصورة.
كما أنه لو سافر بعد دخول الوقت ولم يصل الصلاة إلا في السفر فإنه يصلي ركعتين؛ وذلك لأن العبرة بفعل الصلاة لا بدخول وقتها.
أما إذا ترك الصلاة عمداً في حضر أو سفر فإنه لا يقضي منها ولا تبرأ ذمته ولو صلى ألف صلاة؛ لأن من ترك الصلاة عمداً حتى خرج وقتها ثم صلاها فإنها لا تقبل منه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) وتأخير الصلاة عن وقتها ليس عليه أمر الله ورسوله، بل عليه نهي الله ورسوله ولكن ماذا يصنع؟ نقول: إذا تاب تاب الله عليه، ولا يشترط للتوبة قضاء ما تركه عمداً.(26/11)
حكم إجزاء صلاة الجنازة عن تحية المسجد
السؤال
فضيلة الشيخ: إذا دخل رجل إلى المسجد فوجدهم يصلون صلاة الجنازة فصلى معهم، فهل تغني عن تحية المسجد؟
الجواب
إذا دخل وهم يصلون الجنازة وصلى معهم فإن كان يريد البقاء بعد انصرافهم بالجنازة فليصل تحية المسجد بعد صلاة الجنازة، وإن كان سيخرج مع الجنازة فليخرج وإن لم يصل تحية المسجد.(26/12)
حكم قطرات البول الخارجة بعد الاستنجاء
السؤال
فضيلة الشيخ: إذا بال الإنسان واستنجى وخرج ففي بعض الأحيان ينزل قطرات، فهل يعتبرها من أثر الاستنجاء يعني لا ينظر إليها؟
الجواب
هذه المسألة -أعني ما يحصل من بعض الناس أحياناً- إذا بال ثم استنجى وتوضأ ثم خرج ومشى فإن بعض الناس يحصل منه قطرات، ولهذا أسباب: منها ضعف إمساك المثانة بحيث يكون عنده ضعف في إمساك المثانة، فيتقاطر البول منه.
ومنها: أن بعض الناس إذا انتهى من البول جعل يمسح بإبهامه من أصل الذكر إلى رأس الذكر بحجة أنه يريد إخراج ما تبقى من البول، وهذا يضره؛ لأن قنوات البول رقيقة جداً ومع هذا التعصير ربما تتآكل وتضعف، ولهذا يُنهى الإنسان أن يعمل مثل هذا العمل -يعني التعصير من أسفل الذكر إلى رأسه- قال شيخ الإسلام رحمه الله: إن هذا من البدع، وإن الذكر مثل الضرع إن حلبته درَّ، وإن تركته قرَّ.
والإنسان إذا عرّض نفسه لهذا حصل منه ما ذكرت من القطرات التي تحدث إذا استنجى ثم توضأ ثم مشى، فإنه مع الحركة ينزل البول، فإذا تأكد الإنسان أن البول نزل فالواجب عليه أمران: الأمر الأول: تطهير ما أصاب هذا البول من بدنه أو سرواله أو ثيابه.
الأمر الثاني: إعادة الاستنجاء والوضوء؛ لأنه انتقض الوضوء، إلا إذا كان هذا أمراً مستمراً يحصل باستمرار، بمعنى أنه لا يحدث عند البول فقط، بل هو مستمر حتى لو كان له ساعة أو ساعتان من البول فإنه يخرج هذا، فإن هذا يسمى سلس البول، وحينئذ يستعمل ما يأتي: أولاً: إذا استنجى فليجعل حفاظة على ذكره حتى لا ينتشر البول.
ثانياً: لا يتوضأ للصلاة إلا إذا دخل وقتها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في المستحاضة: (توضئي لكل صلاة) فإذا خرج بعد هذا فإنه لا يضره؛ لأننا لو قلنا: ينتقض الوضوء فلو توضأ خرج ثانية، وبقي هكذا يتوضأ ويحدث ويتوضأ ويحدث، وهذا من الحرج الذي نفاه الله سبحانه وتعالى في قوله: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة:6] هذا إذا تيقن خروج البول.
أما إذا كان وهماً كما يوجد في بعض الناس الذين عندهم وساوس فإن هذا لا يلتفت إليه إطلاقاً يعرض عنه ويتلهى عنه وسيزول عنه بإذن الله.(26/13)
حكم السجود على العمامة
السؤال
بالنسبة للطاقية، السجود عليها جائز أم غير جائز؟
الجواب
السجود على (الطاقية) وعلى الغترة وعلى الثوب الذي تلبسه مكروه؛ لأن هذا شيء متصل بالمصلي، وقد قال أنس رضي الله عنه: (كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم في شدة الحر، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه) فدل هذا على أنهم لا يسجدون على ثيابهم أو على ما يتصل بهم إلا عند الحاجة، يقول: (إذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض) أما إذا لم تكن حاجة فإنه مكروه.
وعلى هذا فالسجود على طرف الطاقية مكروه؛ لأنه لا حاجة إليه، فليرفع الإنسان عند السجود طاقيته، حتى يتمكن من مباشرة المصلى.
أما الشيء المنفصل كأن يسجد الإنسان على سجادة أو على منديل واسع، يسع كفيه وجبهته وأنفه فإن هذا لا بأس به؛ لأنه منفصل، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه صلى على الخُمرة) ، وهي حصيرة صغيرة تسع كفي المصلي وجبهته.(26/14)
قراءة الفاتحة في الصلاة
السؤال
إذا كان الإمام لا يعطي المأموم فرصة لقراءة الفاتحة في الصلاة الجهرية فكيف يقرأ المأموم الفاتحة؟
الجواب
قراءة الفاتحة واجبة في كل صلاة، وواجبة في كل ركعة على الإمام والمنفرد والمأموم، إلا أنه يستثنى في حق المأموم حالة واحدة، وهي: ما إذا جاء والإمام راكع فإن الفاتحة تسقط عنه في هذه الحالة، وكذلك لو جاء والإمام قائم وكبر للإحرام وشرع في الفاتحة ثم ركع الإمام وخاف إن أتمها أن يرفع الإمام رأسه من الركوع، فحينئذٍ يسقط عنه ما لم يدركه من الفاتحة، ويكون مدركاً للركعة، ودليله حديث أبي بكرة رضي الله عنه أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع فأسرع وركع قبل أن يدخل في الصف، فلما قضى الصلاة قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (زادك الله حرصاً ولا تعد) وجعله مدركاً للركعة.
فإذا كانت الصلاة سرية فقراءة الفاتحة للمأموم لا إشكال فيها، وإذا كانت جهرية فإن المأموم يقرأ الفاتحة في سكتات الإمام، فإن لم يكن له سكتات -يعني: يواصل القراءة- فإنه يقرأ ولو كان الإمام يقرأ، لما رواه أهل السنن من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف ذات يوم من صلاة الصبح وكان الصحابة يقرءون خلفه فقال: ما لي أُنازع القرآن) أي: يغالب في القرآن، حيث يقرأ من وراءه، ثم قال لهم: (لا تقرءوا خلف الإمام إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها) .(26/15)
مسائل في الصلاة
السؤال
فضيلة الشيخ: إذا كنت إماماً وخلفي اثنان أو واحد ونصلي جماعة فسلمت بصوت منخفض، فتذكرت أني إمام وأن من خلفي لم يسمعوا فهل أعيد التسليم بصوت عالٍ؟
الجواب
إذا سلم الإمام بصوت منخفض لا يسمعه المأمومون فإنه لا يعيد السلام مرة ثانية، ولكن إذا سلم استغفر الله وانصرف فيعرف الناس أنه انتهى.
ومثل ذلك الفاتحة أيضاً، فلو أن الإمام نسي في الصلاة الجهرية أنه الإمام فقرأ الفاتحة سراً ثم ذكر فإنه يتمها ولا يعيدها، وقال بعض العلماء: بل يعيدها؛ لأن إعادتها جهراً إعادة لسنة وليست عبثاً، والإنسان مأمور بأن يأتي بالقراءة على وجه السنّة، لكن الأول أحوط؛ يبدأ من حين ذكر.
وفيه فائدة أيضاً: وهو أنه إذا ابتدأ من حين ذكر فلن يعود مرةً ثانية إلى ذلك، وبالتالي يكون دائماً متذكراً، لكن لو أعادها من الأول هان عليه أن ينسى وأن يعود مرة ثانية؛ لأن المأمومين لن يعلموا به إذا أعادها من أولها.
والخلاصة أن الإمام إذا سلم سراً نسياناً حتى أتم التسليمتين فإنه لا يعيدهما ويكفيه الانصراف، وإن أسر في الأولى ثم ذكر جهر في الثانية.(26/16)
ضعف حديث: (لم يُر للمتحابين مثل النكاح)
السؤال
فضيلة الشيخ: هناك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لم يُر للمتحابين مثل النكاح) فهل في هذا حجة لمن يجوِّز الحب بين النساء والرجال، جزاكم الله خيراً؟
الجواب
أولاً: هذا الحديث فيه ضعف ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه من الناحية الطبيعية أنه إذا قُدر أن يكون بين الرجل وبين امرأة من الناس محبة؛ فإن أكبر ما يدفع الفتنة والفاحشة أن يتزوجها؛ لأنه سوف يبقى قلبه معلقاً بها إن لم يتزوجها، وكذلك هي، فربما تحصل فتنة.
قد يسمع إنسان عن امرأة بأنها ذات خلق فاضل وذات علم فيرغب أن يتزوجها، وكذلك هي تسمع عن هذا الرجل بأنه ذو خلق فاضل وعلم ودين فترغبه، لكن التواصل بين المتحابين على غير الوجه الشرعي هذا هو البلاء، وهو قطع الأعناق وقصم الظهور، فلا يحل في هذه الحال أن يتصل الرجل بالمرأة، والمرأة بالرجل.
ويقول: إنه يرغب في زواجها خوفاً من الفتنة، وإلا فالأصل أنه لو حصل أن المرأة تخبر وليها أنها تريد فلاناً مثلاً فيتصل به كما فعل عمر رضي الله عنه حينما عرض ابنته حفصة على أبي بكر وعلى عثمان رضي الله عنه، وأما أن تقوم المرأة مباشرة بالاتصال بالرجل فهذا محل الفتنة.(26/17)
العقيقة عن السقط بعد أربعة أشهر
السؤال
فضيلة الشيخ: إذا أسقط الجنين في حدود أربعة أشهر هل يعق عنه، ويُصلى عليه؟
الجواب
قد ثبت في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الجنين إذا أتم أربعة أشهر نفخت فيه الروح، فإذا سقط بعد نفخ الروح فهو كما لو سقط عن تمام، فيغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن في المقابر.
وأما العقيقة ففيها خلاف، بعض العلماء يقول: يُعق عنه؛ لأنه سوف يبعث، وبعض العلماء يقول: لا يُعق عنه، وأرى أنه يُعق عنه إذا كان أبوه موسراً؛ لأن هذا فيه خير وصدقة وبر.(26/18)
حكم استخدام الصور في الهوية والرخصة
السؤال
ما رأي فضيلتكم في الصورة التي في حفيظة النفوس ورخصة القيادة، وهل يجوز الاستغناء عنها إذا أمكن للشخص؟
الجواب
رأيي في الصور التي تكون في حفيظة النفوس وفي رخصة القيادة وفي الدراهم أنه مما عمت به البلوى، وأنه لا يمكن التخلص منها، فلا يكون على الإنسان في ذلك حرج، فإذا علم الله من نيته أنه كاره لهذا؛ فإنه لا يلحقه إثم بلا شك.(26/19)
حكم من نسي لأي جهة رمي الجمار
السؤال
فضيلة الشيخ: إذا نسي الحاج لأي جهة رمي الجمار فما حكم الرمي؟
الجواب
يجب أن نعلم أن الشك إذا كان بعد الفراغ من العبادة فإنه لا يلتفت إليه أصلاً.
أما إذا كان أثناء العبادة فهذا إن غلب على ظنه أنه صواب فهو صواب، أو تيقن أنه صواب فهو صواب، وإن غلب على ظنه أنه خطأ أو تيقن أنه خطأ فهو خطأ، وإن شك بلا ترجيح فإنه خطأ، هذا إذا كان في أثناء العبادة، يعني: أنت واقف الآن ترمي ثم شككت هذا الموقف صحيح أم لا؟ هل هذا المرمى صحيح أم لا؟ أما بعد أن تنصرف فالأصل أنه صحيح ولا شيء عليك.
وإلى هنا ينتهي المجلس، ونسأل الله أن يتقبل منا ومنكم.(26/20)
لقاء الباب المفتوح [27]
في هذا الدرس نصيحة حول كيفية استقبال العام الجديد، حيث وأن هذا الدرس كان في أول السنة، وكيف نعوض ما فاتنا في السنة الماضية، وفي هذا اللقاء شرح بعض الآيات من أول سورة المطففين والتي فيها الوعيد الشديد لمن يطفف في المكيال، وأن من اكتال من الناس فاستوفاه ثم كال لغيره فأخسر فيه فقد جمع الشر الموجب للوعيد الذي ذكر في أول السورة.(27/1)
نصيحة مع استقبال العام الهجري الجديد
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا أول لقاء يحصل في هذا العام؛ وهو اللقاء الأسبوعي الذي يكون في كل يوم خميس، وهو يوافق الرابع من شهر المحرم عام (1414هـ) .
والنصيحة التي ينبغي للإنسان أن ينصح بها نفسه في استقبال هذا العام أن ينظر ماذا أودع في العام الماضي من الأعمال الصالحة؟ وماذا قام فيه من الأعمال التي تنفعه وتنفع غيره من المسلمين؟ ولاسيما طلبة العلم فإن طالب العلم عليه واجبان: واجب لنفسه وواجب لغيره، إذ أن العلم الشرعي إرث محمد صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن العلماء ورثة الأنبياء، وإذا نظرنا في حال الأنبياء وعلى رأسهم خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم وجدنا أنهم أبلوا بلاءً حسناً في عباداتهم الخاصة، وفي دعوتهم الخلق إلى الحق.
لقد كان النبي صلى الله عليه أتقى الناس وأخشى الناس لربه، وكان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه وتتورم من طول القيام، فيُسأل في ذلك فيقال له: إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فيقول: (أفلا أكون عبداً شكوراً) .
وفي مجال الدعوة إلى الله، دعا صلى الله عليه وسلم قومه إلى توحيد الله وعبادته، فرأى منهم الأذى حتى كانوا يُلقون سلا الجزور على ظهره وهو ساجد في بيت الله، وتمالئوا عليه فيما ذكر الله سبحانه وتعالى من قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال:30] .
فكان النقاش بينهم على هذه الأمور الثلاثة: الإثبات وهو الحبس، والقتل والإخراج، فأذن الله سبحانه وتعالى له بالخروج والهجرة من مكة إلى المدينة، ونصره الله سبحانه وتعالى عليهم حتى عاد بعد ثماني سنوات إلى مكة فاتحاً منصوراً ظافراً ولله الحمد.
فأقول: إن على طلبة العلم واجبين: الواجب الأول: لأنفسهم.
والواجب الثاني: لغيرهم من الناس.
أن يعلموهم ويرشدوهم ويدعوهم إلى الله، وأن يبينوا الحق الذي جاء به الكتاب والسنة بما يتعلمونه من أساتذتهم، وبما يتعلمونه بأنفسهم من الكتب، وبما يسمعونه من الأشرطة الصادرة عمن يوثق بعلمه.
ولا شك أن نشر العلم سببٌ للقيام بطاعة الله سبحانه وتعالى كما هو معروف، فإن الرجل يأتي إلى القوم يلقي بينهم كلمة أو موعظة مُوجهة فيتفرق الناس وقد فهموا ما قال، ثم يأخذون بتطبيقه في أنفسهم وفي غيرهم، وهذا أمر مشاهد معلوم.
وعلى الإنسان في مستقبل هذا العام أن يعد نفسه بالجد والاجتهاد وتتميم ما نقص في العام الماضي، وتحسين ما كان فيه شيء من الاعوجاج أو الانحراف حتى يستقبل هذا العام بجدٍ ونشاط، وليُعلم أن الإنسان إذا عود نفسه الكسل اعتاد عليه وصعب عليه أن ينشط بعد ذلك، وإذا عود نفسه النشاط وبث الوعي الديني في الأمة سهل عليه ذلك وكان ديدناً له، حتى إنه ليحزن ويضيق صدره إذا لم يقم بهذا الأمر.(27/2)
تفسير آيات من سورة المطففين
أما ما كنا نتحدث عنه في اللقاءات السابقة من تفسير الآيات الكريمات فنحن كنا قد توقفنا عند سورة المطففين، فنتكلم بكلام موجز على ما تيسر منها، فنقول:(27/3)
تفسير قوله تعالى: (ويل للمطففين)
إن الله ابتدأ هذه السورة بكلمة (ويل) ، و (ويل) تكررت في القرآن كثيراً، وهي على الأصح: كلمة وعيد يتوعد الله سبحانه وتعالى بها من خالف أمره، أو ارتكب نهيه، على الوجه المقيد في الجملة التي بعدها، فهنا يقول الله عز وجل: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1] فمن هؤلاء المطففين؟ المطففون فسرتهم الآية التي بعدها، فقال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين:2-3] (إذا اكتالوا على الناس) أي: إذا اشتروا منهم ما يكال استوفوا منهم الحق كاملاً بدون نقص، (وإذا كالوهم أو وزنوهم) أي: إذا كالوا لهم، أي: إذا باعوا الطعام كيلاً، فإنهم إذا كالوا للناس أو باعوا عليهم شيئاً وزناً (يخسرون) أي: ينقصون، فهؤلاء والعياذ بالله يستوفون حقهم كاملاً وينقصون حق غيرهم، فجمعوا بين الأمرين، بين الشح والبخل؛ الشح في طلب حقهم كاملاً بدون مراعاة أو مسامحة، والبخل بمنع ما يجب عليهم من إتمام الوزن والكيل.
وهذا الذي ذكره الله عز وجل في الكيل والوزن، وهو في الحقيقة مثال، فيقاس عليه كل ما أشبهه ممن طلب حقه كاملاً ممن هو عليه، ومنع الحق الذي عليه فإنه داخل في الآية الكريمة.
فمثلاً: الزوج يريد من زوجته أن تعطيه حقه كاملاً وألا تتهاون في شيء من حقه، لكنه عند أداء حقها يتهاون ولا يعطيها الذي لها، وما أكثر ما تشكو النساء من هذا الطراز من الأزواج والعياذ بالله؛ حيث إن كثيراً من النساء يريد منها الزوج أن تقوم بحقه كاملاً، لكنه لا يعطيها حقها كاملاً، وربما ينقص أكثر حقها؛ من النفقة، والعشرة بالمعروف وغير ذلك.
والغريب أيها الإخوة! أن هذا يقع كثيراً من الناس الذين ظاهرهم الالتزام، حتى إن بعض النساء تشير أنها ما اختارت هذا الزوج إلا لما له من السمعة الحسنة والالتزام، فإذا به ينقلب ويكون أسوأ حالاً بالنسبة لزوجته من أهل الفسق! فلا أدري عن هؤلاء الذين ظاهرهم الالتزام! هل يظنون أن الالتزام أن يقوم الإنسان بعبادة الله فقط، ويضيع حقوق الناس؟ إن ظلم الناس أشد من ظلم الإنسان نفسه بالتعدي على حق الله؛ لأن ظلم الإنسان نفسه في حق الله تحت المشيئة؛ إذا كان دون الشرك غفر له إن شاء وإن شاء عاقبه عليه، لكن حق الآدميين ليس داخلاً تحت المشيئة؛ لا بد من أن يُوفَّى، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع! قال: المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات كثيرة، فيأتي وقد ظلم هذا وشتم هذا وضرب هذا، وأخذ مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن بقي من حسناته شيء وإلا أخذ من سيئاتهم فطرح عليه ثم طرح في النار) .
فنصيحتي لهؤلاء الإخوة الذين يفرطون في حقوق أزواجهم سواءً كانوا من الملتزمين أو من غيرهم أن يتقوا الله عز وجل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بذلك في أكبر مجمع شهده العالم الإسلامي في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم في يوم عرفة في حجة الوداع، قال: (اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله) ، فأمرنا أن نتقي الله عز وجل في النساء، وقال صلى الله عليه وسلم: (استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان عندكم) أي: بمنزلة الأسرى؛ لأن الأسير إن شاء فكه الذي أسره وإن شاء أبقاه، والمرأة عند زوجها كذلك؛ إن شاء طلقها وإن شاء أبقاها، فهي بمنزلة الأسير عنده، فليتق الله فيها! كذلك أيضاً نجد بعض الناس يريد من أولاده أن يقوموا بحقه على التمام، لكنه مفرط في حقوقهم، فيريد من أولاده أن يبروه ويقوموا بحقه؛ أن يبروه بالمال وبالبدن وفي كل شيء يكون فيه البر، لكنه مضيع لهؤلاء الأولاد، غير قائمٍ بما يجب عليه نحوهم.
نقول: هذا مطفف كما قلنا في المسألة الأولى؛ مسألة الزوج مع زوجته: إنه إذا أراد منها أن تقوم بحقه كاملاً ويبخسها حقها نقول: إنه مطفف، وهذا الأب إذا أراد من أولاده أن يبروه تمام البر، وهو مقصر في حقوقهم، فنقول: إنه مطفف ونقول له: تذكر قول الله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين:1-3] .(27/4)
تفسير قوله تعالى: (ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون)
قال الله تعالى: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين:4-5] ألا يتيقن هؤلاء ويعلمون علم اليقين؟ فالظن هنا بمعنى اليقين؛ والظن بمعنى اليقين يأتي كثيراً في القرآن، كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:46] أي: هم متيقنون أنهم ملاقو الله، وهنا يقول عز وجل: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ} [المطففين:4] ألا يتيقن هؤلاء أنهم مبعوثون؟ أي: مُخرجون من قبورهم لله رب العالمين.(27/5)
تفسير قوله تعالى: (ليوم عظيم)
{لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين:5] هذا اليوم العظيم، ولا شك أنه عظيم، كما قال تعالى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1] عظيم في طوله وأهواله؛ فيما يحدث فيه، وفي كل معنى تحمله كلمة عظيم، لكن هذا اليوم العظيم هو على قوم عسير، وعلى قوم يسير، قال الله تعالى: {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر:10] وقال تعالى: {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر:8] ، لكنه بالنسبة للمؤمنين -جعلني الله وإياكم منهم- يسير، كأنما يؤدون صلاة الفريضة من سهولته ويسره، لاسيما إذا كان المؤمن ممن يستحق هذه الوقاية العظيمة، وكان من الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، المهم أن هذا يوم عظيم، لكنه بالنسبة للمؤمن يكون يسيراً ويكون على الكافر عسيراً.(27/6)
تفسير قوله تعالى: (يوم يقوم الناس لرب العالمين)
قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] ؛ يقومون من قبورهم حفاةً ليس لهم نعال ولا خفاف، عراة ليس عليهم ثياب؛ لا قمص ولا سراويل ولا أزر ولا أردية، غرلاً، أي: غير مختونين، بمعنى أن القلفة التي تقطع في الختان تعود يوم القيامة مع صاحبها، كما قال الله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104] ويعيده الله عز وجل لبيان كمال قدرته تعالى، وأنه يُعيد الخلق كما بدأه.
والقلفة إنما قطعت في الدنيا من أجل النزاهة عن الأقذار؛ لأنها إن بقيت فإنه ينحبس فيها شيء من البول، وتكون عرضةً للتلويث، لكن هذا في الآخرة لا حاجة إليه؛ لأن الآخرة ليست دار تكليف بل هي دار جزاء، إلا أن الله سبحانه وتعالى قد يكلف فيها امتحاناً، كما قال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:42-43] .
المهم أن الناس يقومون على هذا الوصف: (حفاةً عراةً غرلاً) وفي بعض الأحاديث: (بُهماً) قال العلماء: البُهم الذين لا مال لهم، ففي يوم القيامة لا مال يفدي به الإنسان نفسه من العذاب، وليس هناك ابن يفدي عن أبيه شيئاً، ولا أب يجزي عن ابنه شيئاً، ولا صاحب ولا خليل، كلٌ يقول: نفسي نفسي {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:37] نسأل الله تعالى أن يعيننا وإياكم على أهواله وأن ييسره علينا.
قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] وهو الله جل وعلا، وفي هذا اليوم تتلاشى جميع الأملاك إلا مُلك رب العالمين جل وعلا، قال الله تعالى: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:16-17] .
وإلى هنا ينتهي الكلام على هذه الآيات الكريمة من سورة المطففين.(27/7)
الأسئلة(27/8)
إمكان قضاء من تعجل في رمي الجمرات
السؤال
فضيلة الشيخ: حاج تعجل ثم تبين له أن رميه في اليوم الثاني عشر كان خطأً، فرجع ليلاً ورمى، هل ينقض تعجله ورجوعه إلى منى ليلاً؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
هذا الرجل الذي تعجل وخرج من منى قبل غروب الشمس ثم بان له أن رميه كان فيه خطأ فعاد فقضاه لا ينقض قضاء ما فاته لتعجله، أي: أن له أن يرمي في الليل ثم يخرج من منى؛ لأن هذا الرمي كان قضاءً لما فات، والله سبحانه وتعالى يقول: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:203] ، وهذا الرمي الذي حصل منه في الليل بعد الغروب إنما هو قضاء وليس أداءً، فليس عليه شيء إذا رمى في الليل ثم انصرف.
أما لو أخر الرمي يوم الثاني عشر إلى الليل، فإنه يبقى في تلك الليلة ليبيت في منى ثم يرمي الجمرات في اليوم الثالث عشر.(27/9)
تغيير المنكر باليد
السؤال
فضيلة الشيخ: تزوج قريبٌ لي قبل خمس عشرة سنة؛ قام خلال زواجه بالتقاط صور له ولعروسه وأهله وحضور الزفاف بواسطة آلة تصوير، ثم سافر بعروسه إلى ليبيا حيث يعمل هناك، وكان قد كلفني بطبع الصور وإرسالها له، ولما فعلت عادت إليَّ الصور بسبب تغيير في عنوانه، ولما كنت قد طمست كل الصور التي معي بعد أن هداني الله، فهل أحتفظ بصوره كأمانة عندي إلى حين ألقاه فأنصحه، أم أطمسها؟
الجواب
قال الله سبحانه وتعالى في الكتاب العزيز: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] وأرى أنه يجب عليك طمسها؛ لأنك قادر على التغيير بيدك.
إذاً عليك أن تطمسها، وتبين له أن ذلك منكر، وأنه يجب طمسها لحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال لـ أبي الهياج: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) ، اللهم إلا أن تخشى أن يترتب على ذلك مفسدة كبيرة، بحيث يجرك إلى المحاكم أو غير ذلك من الأشياء التي تضرك، فلا حرج عليك في هذه الحال أن ترسلها إليه فوراً ولا تبقيها عندك.(27/10)
تغليظ الشارع في تحريم الربا
السؤال
فضيلة الشيخ: شخص اضطر لأخذ الفوائد الربوية يقول: أليس الأفضل أن آخذها وأجعلها في بناء المساجد أو للفقراء بدلاً من أن يستفيد منها أعداء الإسلام؟
الجواب
الواقع أن هذا السؤال سؤال مهم لشدة الحاجة إلى معرفة الجواب المبني على الكتاب والسنة لا على استحسان العقل، ونحن إذا بنينا جواب هذا السؤال على الكتاب والسنة تبين لنا أنه لا يحل لهذا أن يأخذ هذا الربا؛ لقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:278-279] فهنا بين الله عز وجل أن الإنسان إذا تاب فليس له إلا رأس ماله فقط، لا يظلم ولا يُظلم.
وثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم الجمعة، فقال: (ألا وإن ربا الجاهلية موضوع، وإن أول رباً أضع من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله) ، فأنت ترى في هذا الحديث أن الرسول وضع الربا الذي كان معقوداً في الجاهلية قبل تقرر الأحكام في الإسلام، فما بالك بربا حصل بعد تقرر الأحكام في الإسلام؟! وعلى هذا نقول: لا يجوز للشخص أن يأخذ الربا من البنوك مهما كانت هذه البنوك، ثم نقول: لو فرضنا صدق ما قيل من أن هذه الفوائد ترسل إلى الكنائس وإلى محاربة المسلمين فإنه لا إثم عليه في ذلك، لماذا؟ لأن هذه الفوائد ليس فوائد ماله، إذ من الممكن أن يكون ماله الذي أعطاه هذا البنك تصرف فيه البنك تصرفاً خسر فيه أو تصرفاً لم يربح فيه، أو تصرفاً ربح فيه دونما وضع من الربا، فالقول: إن هذه فوائد ماله ليس بصحيح، هذه ليست فوائد ماله، هذه ربا يعطيها البنك من أعطاه هذا المال ينتفع به، وإذا لم تكن ثمرات ماله فليس عليه من إثمه نصيب فيما لو صُرفت إلى بناء الكنائس أو إلى سلاح يصوب إلى صدور المسلمين.
ثم نقول: إننا إذا منعنا هذا الربا وقد يكون أموالاً طائلة -قد يكون ملايين- إذا منعناه وقلنا للمسلمين: أيها المسلمون، إنكم بإيمانكم وإسلامكم لا يحل لكم أن تأخذوا الربا فسوف يضطر المسلمون إلى أن يبحثوا عن مصارف إسلامية وبنوك إسلامية يستغنون بها عن هذه البنوك الربوية؛ لأن الأزمات والحاجات والضرورات لا بد أن تبرز شيئاً ما، فإذا قيل للناس: هذا الربا الذي تدَّعون أنه فوائد لا يحل لكم، وأنتم إذا أخذتموه فقد أكلتم الربا حين أكلتموه، وإن تصدقتم به تقرباً إلى الله لم يقبل منكم وإن تصدقتم به تخلصاً منه، فما الفائدة من أن يلوث الإنسان يده بالنجاسة ثم يذهب ليغسلها.
فنقول: إن مُنع هذا، فإنه لا شك أنه سيكون سبباً لكون الناس يبحثون عن مصادر إسلامية، ويُكَوَّنون بنوكاً إسلامية يستغنون بها عن هذه البنوك الربوية.
ثم إننا نقول: لا شك أن علماء اليهود والنصارى يعلمون أن الربا محرم عليهم، فإن الله تعالى قال في القرآن: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء:161] فهم يعلمون هذا في كتبهم، ويعلمون كذلك أن المسلمين قد نهوا عنه، فيفرح أعداء المسلمين إذا رأوا أن المسلمين استحلوا الربا وأخذوه، ويعلمون أن المعاصي من أسباب الخذلان، فيرون أن أخذ المسلمين لهذه الأموال الربوية سهام صوبها المسلمون نحو صدورهم؛ لأن المعاصي سبب للخذلان، ولا يخفى علينا جميعاً ما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهم والله أعظم جند على وجه الأرض منذ خُلق آدم وقد كانوا تحت قيادة أعظم قائد من بني آدم، ومع ذلك حصلت عليهم الهزيمة لمعصية واحدة: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران:152] حصلت الهزيمة.
فإذا كانت معصية واحدة وهي دون الربا حصل فيها الخذلان فما بالك بالربا الذي جاء فيه من الوعيد ما لم يأتِ على أي معصية كانت إلا الشرك، كما قال ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فكيف نستحل الربا؟! فهؤلاء إذا علموا أننا استحللنا الربا لا شك أنهم يفرحون بهذا، ويقولون: الآن فعل المسلمون ما به خذلانهم، والواقع شاهد بهذا؛ فالمسلمون يمثلون اليوم جزءاً كبيراً من البشرية، ومع هذا تُقَطَّع أوصالهم قَطْعاً وهم يشاهدون، لم يستطيعوا أن يرفعوا رأساً بذلك، فهذه البوسنة والهرسك جمهورية إسلامية مستقلة معترف بها دولياً تمزق؛ يقتّل أبناؤها، وتنتهك أعراض نسائها، ويُيَتم أطفالها، والمسلمون لم يحركوا لذلك ساكناً! ولا يخفى علينا الوثيقة السرية التي عثر عليها الإخوة في البوسنة والهرسك الصادرة من رئيس وزراء بريطانيا إلى وزير خارجيته، حيث يقول: إن المسلمين لا يمكن أن يتحركوا تحركاً تستفيد منه البوسنة والهرسك؛ لأنهم تحت إمرتنا.
أو كلمة نحوها.
ويقول: إننا سنمانع بشدة أن تقوم جمهورية إسلامية في أوروبا، ونمانع بشدة أن نعطي المسلمين سلاحاً يدافعون به عن أنفسهم، وهذا تحدٍّ للشعور الإسلامي، لكن لماذا؟ لأن المسلمين مع الأسف عندهم من العصيان ما يوجب الخذلان والانكسار، نسأل الله العافية.
فلهذا نقول: إن هذه الأموال الربوية التي يقال عنها: إنها فوائد، هي والله خسائر، ولا يجوز أخذها بأي حالٍ من الأحوال، فأنتم أيها المسلمون! إذا شئتم التخلص من هذا الإثم اتركوا الربا، أنشئوا بنوكاً إسلامية تسير على نهج الله؛ على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبذلك تسلموا، لكن لو فرض أن البنك أصر على أخذ هذه الأموال الربوية كما يوجد في بعض البنوك؛ فبعض البنوك تقول: لا يمكن أن أقبل منك رد هذا الشيء؛ لأن هذا يخل بحساباتي فهنا تأخذها؛ لأنك مرغم عليها، ثم تتصدق بها تخلصاً منها لا تقرباً إلى الله بها.(27/11)
حكم الخروج عن بيعة ولي الأمر والقدح في العلماء
السؤال
هناك أمر بدأ ينتشر بين كثير من الشباب ألا وهو يتمثل في أمرين: عدم البيعة لولي الأمر، ثم أيضاً يترتب على هذا أمر ثانٍ ألا وهو القدح في هيئة كبار العلماء، وأن هيئة كبار العلماء تتكلم وفق ظروف خاصة ومعطيات معينة، وأن علماءنا لم يتكلموا إلا وفق مدركات وظروف تحتم عليهم المجاملة وغيرها من الطعن الصريح الذي نسمعه في هيئة كبار العلماء، فما توجيهكم لهؤلاء الشباب؟
الجواب
توجيهنا لهؤلاء الشباب أن يتقوا الله عز وجل في أنفسهم وفي إخوانهم من شباب الصحوة، وأن يعلموا أنه (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتةً جاهلية) وأن يعلموا أن شق عصا المسلمين من أعظم المنكرات، ويترتب عليه أعظم المفاسد، ثم إذا كانوا هنا في المملكة العربية السعودية فليشكروا الله على هذه النعمة؛ البلاد آمنة والحمد لله مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، فإذا حصلت الفوضى لا قدر الله زال هذا الأمن، وزال هذا العيش الرغيد، وأتت فتن وشرور متلاحقة متلاحمة لا يعلم مداها إلا الله، وليسأل هؤلاء الصغار كبارهم: ماذا كانت عليه البلاد قبل توحيدها وقبل اطمئنان أهلها؟ الجواب: لا يستطيع الإنسان أن يخرج من قريةٍ إلى قرية إلا بسلاح ومع ذلك هو خائف حتى في فراشه إذا نام.
فأنصح هؤلاء الشباب بألا يزيلوا هذه النعمة بما يحدث من تصرفاتهم الهوجاء.
أما طعنهم في هيئة كبار العلماء فهو طعنٌ مبنيٌ على عاصفة ولا أقول على عاطفة، وإن شئت قلت: على عاطفة لكنها عاصفة بواقع، نشأت من كلمات يسمعونها من بعض الناس تثيرهم وتهيجهم، وكذلك يسمعونها من بعضهم البعض فيثور بعضهم بسببها؛ هيئة كبار العلماء والحمد لله نقموا منها أنها أذنت للدولة بالاستعانة بالكفار في أزمة الخليج، وتكلم بعض الناس وقال: إن هذه الأزمة مفتعلة، وأن المقصود بها احتلال البلاد من الكفار وما أشبه ذلك، ورسموا خرائط ورسومات ووزعوها في أيدي الشباب وتبين خطأ هذا الشيء تماماً، وتبين والحمد لله ما حصل من درء الفتنة التي أرادها من أرادها من حكام العراق، وتبين أيضاً ما عند العراق من الأسلحة العظيمة التي يتعجب الإنسان كيف اقتنى هذه الأسلحة، وتبين أن هناك إرادة سيئة والله أعلم بها، فصار والحمد لله الخير فيما وقع.
نقموا من هيئة كبار العلماء البيان الأخير الذي صدر منهم بسبب تكوين لجنة لحقوق الإنسان أو للحقوق الشرعية أو لدفع الظلم أو ما أشبه ذلك، والواقع أن هيئة كبار العلماء لا تنكر أبداً إعانة المظلوم بل تؤيد إعانة المظلوم، وترى أن إعانة المظلوم فرض كفاية يجب على المسلمين أن يعينوه، وإذا لم يقم به من يكفي وجب على من قدر، وهذا أمرٌ مسلمٌ به ولا إشكال فيه، لكن الهيئة تنكر كونه على هذه الصفة، أي: تكوين لجنة للدفاع عن الحقوق الشرعية تحت ظل حكومةٍ شرعية، ومن المعلوم أن تكوين اللجان على هذا الوجه لا يكون تحت حكومة شرعية إلا بإذن هذه الحكومة، أرأيت لو أن رجلاً وجد قريةً ليس فيها قاض، فقال: أنا أريد أن أكون قاضياً في هذا البلد؛ لأن البلد ليس فيها قاضٍ والناس محتاجون للحكم بينهم فسأكون قاضياً، هل يملك هذا؟ الجواب: لا.
لا يملك أن ينصب نفسه قاضياً في هذا البلد تحت ظل حكومةٍ شرعية إلا بإذن هذه الحكومة الشرعية باتفاق العلماء واتفاق المسلمين.
ثانياً: لو أنه أتى إلى قرية ليس فيها هيئة قائمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال: هيا نكوِّن هيئة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر تحت ظل حكومةٍ قائمة شرعية هل يمكن هذا؟ لا يمكن تكوين طائفة لحفظ الحقوق الشرعية أو الدفاع عن المظلوم على هذا الوجه بدون إذن الدولة، لا شك أنه غير شرعي وأنه افتيات على ولي الأمر، وأنه يؤدي إلى الفوضى، فإنه إذا كونت هذه اللجنة نفسها قام أناس من أهل البدع وقالوا: نريد أن تكون لنا لجنة، وقام أناس من الصحفيين ومن العلمانيين ومن غيرهم وقالوا: نريد أن نُكوِّن لجنة.
ثم نقول: ما هو الضابط للظلم؟ كل خصمين عند قاضي لا بد أن يكون أحدهما يدعي أنه مظلوم، معنى هذا أن كل مسألة أو قضية يحكم فيها القاضي بشيء ويقول المحكوم عليه: أنا مظلوم، يلجأ إلى هذه اللجنة، وتحصل فوضى وبلبلة بين الحكام القضاة وبين الناس، ثم إننا لا نأمن أن يقوم غداً النصارى وهم أقلية في بلادنا -والحمد لله- فيقولون: نحن لنا حق؛ لأن الحق الشرعي في نظر العالم غير الحق الشرعي في نظر هؤلاء الإخوة الذين كونوا لجنة؛ لأن هذه اللجنة ترى أن الحق الشرعي ما قام على الشرع؛ على الوحي الذي نزل على محمد عليه الصلاة والسلام، لكن العالم لا يفهم هذا؛ ويرى أن الحق الشرعي ما حكم به نظاماً أو شرعاً إلهياً، حتى الأنظمة والقوانين عندهم شرعية، فيأتي مثل هذا النصراني ويقول: إن لي الحق في أن أقيم كنيسة، فيرفع الأمر إلى هذه اللجنة، وهذه اللجنة الآن لا ترى هذا الحق وترى أنه لا يمكن إقامة الكنائس في بلاد المسلمين، لكن يأتي خلفها لجنة مبنية على هذه اللجنة ولو على المدى الذي يكون بعيد المنظار فتوافق وتقول: نعم هذا حق شرعي، ويأتي أهل البدع ويقولون: لنا حق أن نعلن بدعنا، كما أن أهل السنة لهم حق أن يعلنوا سنتهم؛ نحن مسلمون وهم مسلمون، أيُّ فرق بين أن نعلن بدعتنا وأن يعلنوا هؤلاء سنتهم؟ ثم إنهم -أعني الإخوة الذين نصبوا أنفسهم هذا المنصب- كتب بعضهم عنوان هاتفه، فمن يأمن أن يأتي أناس مغرضون يريدون القدح في هذه الأمة السعودية وكل ساعة يتصلون عليه أنا مظلوم بكذا وكذا في قضية مفتعلة من أجل أن تكثر الطلبات عند هذه اللجنة في نصر المظلوم، فيتكون عندهم آلاف المسائل المفترضة المفتعلة وليس هناك شيء، لكن من أجل التشويه الإعلامي العالمي أو الداخلي.
ثم إننا نقول: ما الموجب لتكوين هذه اللجنة وفي البلد مكاتب للمحاماة مفتوحة بإذن الدولة ألا يُكتفى بهذا؟ إنك إذا سمعت تكوين هذه اللجنة ستقول: ربع المملكة مظلوم على الأقل، مع أن المملكة تقدر بإثني عشر مليوناً وأنا أقول: اجعلوها ثمانية ملايين، أي: نزل الثلث، ثمانية ملايين نسمة، لو أنك تريد أن تثبت ألف قضية فيها ظلم محقق أصر على بقائه ولم يحاول إزالة هذا الظلم ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، وألف قضية من ثمانية ملايين ليست بشيء، لكن لسنا نقول: هذه المملكة ربعها مظلوم ظلماً يحتاج إلى تكوين لجان للدفاع عنهم.
لذلك أقول: إن هيئة كبار العلماء لا يقولون: إن نصر المظلوم غير شرعي، ولا أن الدفاع عن الحقوق الشرعية غير شرعي، بل يرون هذا من الشرع وأنه فرض كفاية، لكن تكوين لجنة تحت ظل حكومةٍ شرعية بدون مراجعة في هذه الحكومة هو الخطأ، وهو الذي سيفتح باب شرٍ كبير، ولهذا رجع الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين عن هذه اللجنة وتبرأ من الانضمام إليها؛ لأنه عرف ما ينتج عنها من المسائل أو من الأضرار التي تكون قريبةً أو بعيدة، فنصيحتي لهؤلاء القوم الذين أشرت إليهم أن يتقوا الله عز وجل وألا يموتوا ميتةً جاهلية فيلقون الله عز وجل وهم على جاهليتهم، بل يجب عليهم الرجوع إلى الحق واعتقاد أن لولي أمر المسلمين في هذه البلاد بيعةً صحيحةً شرعيةً بايعه عليها أهل الحل والعقد، ومن المعلوم أن البيعة لا يشترط فيها أن يبايع كل إنسان حتى الطفل والعجوز في مخدعها، أبداً.
إذا بايعها أهل الحل والعقد ثبتت البيعة، فـ أبو بكر هل بايعه الناس كلهم في مكة والمدينة والطائف.
وغيرها من البلاد؟ لا.
لم يبايعوه إلا أهل الحل والعقد، وكذلك عثمان.
كانت البيعة في أصحاب الشورى الستة، وكذلك علي بن أبي طالب.
، فلا يشترط في البيعة أن يبايع كل إنسان، ولم يقل بهذا أحد من الناس، وأهل الحل والعقد في هذه البلاد بايعوا لولي الأمر هنا في البلاد، فثبتت بيعته شرعاً، ومن مات على غير بيعته فإن ميتته ميتة جاهلية، وإذا كان عند هؤلاء الإخوة شكٌ في الأمر فنحن مستعدون لأن يحضروا إلينا ونناقشهم في هذا الأمر رأفةً بهم وإحساناً إليهم؛ لئلا يموتوا ميتةً جاهلية، ولئلا يحدثوا في هذه البلاد فتناً لا يعلم مداها إلا الله عز وجل.
أما هيئة كبار العلماء فقد علمت الآن وجه ما نشروه من البيان، وإن كان البيان -في الواقع- مقتضباً؛ لأنهم لم يحبوا أن يطيلوا في الكلام وأخذوا بالزبدة فقط، ولكن وجه المنع ليس من أجل أن العلماء يعارضون نصر المظلوم أو يعارضون الدفاع عن الحقوق الشرعية، لكن يعارضون الكيفية التي صار بها هذا الشيء.(27/12)
حكم بيعة أمراء الجماعات الإسلامية
السؤال
فضيلة الشيخ: بالنظر إلى العالم الإسلامي اليوم نجد أن هناك كثيراً من الجماعات التي تدعو إلى الإسلام، وكل منهم يقول: أنا على منهج السلف، ومعي الكتاب والسنّة، فما هو موقفنا نحو هذه الجماعات، وما حكم إعطاء البيعة لأمير من أمراء هذه الجماعات؟
الجواب
الحكم في هذه الجماعات التي تدعي كل طائفة منها أنها على الحق سهل جداً، فإنا نسألهم: ما هو الحق؟ الحق ما دل عليه الكتاب والسنة، والرجوع إلى الكتاب والسنة يحسم النزاع لمن كان مؤمناً، أما من اتبع هواه فلا ينفع فيه شيء، قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] .
فنقول لهذه الجماعات: اجتمعوا ولينزع كل واحد منكم هواه الذي في نفسه، ولينو النية الحسنة أنه سيأخذ بما دلَّ عليه القرآن والسنة مبنياً على التجرد من الهوى، لا مبنياً على التقليد أو التعصب؛ لأن فهم الإنسان للقرآن والسنة على حسب ما عنده من العقيدة والرأي لا يفيده شيئاً؛ لأنه سوف يرجع إلى عقيدته.
ولهذا قال العلماء كلمة طيبة، قالوا: يجب على الإنسان أن يستدل ثم يبني، لا أن يبني ثم يستدل؛ لأن الدليل أصل والحكم فرع، فلا يمكن أن يُقلب الوضع ونجعل الحكم الذي هو الفرع أصلاً، والأصل الذي هو الدليل فرعاً.
ثم إن الإنسان إذا اعتقد قبل أن يستدل ولم تكن عنده النية الحسنة صار يلوي أعناق النصوص من الكتاب والسنة إلى ما يعتقده هو، وحصل بذلك البقاء على هواه، ولم يتبع الهدى.
فنقول لهذه الطوائف التي تدعي كل واحدة منها أنها على الحق: تفضل.
ائت بنية حسنة مجردة عن الهوى والتعصب وهذا كتاب الله وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولولا أن فيهما حل النزاع ما أحال الله عليهما، فإن الله لا يحيل على شيء إلا والمصلحة فيه: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] لكن البلاء الذي يحصل من عدم الاتفاق على الكتاب والسنة بسبب -فقط- الشرط الذي في الآية: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء:59] فإن بعض الناس قد يرجع إلى الكتاب والسنة لا عن إيمان، ولكن عن هوىً وتعصب لا يتزحزح عنه، فهذا ليس فيه فائدة.
ولكن على من هم على الكتاب والسنة، أن يستعينوا بالله عز وجل على هذه الطوائف وسيتبين الحق من الباطل، فقد قال الله عز وجل: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18] .
أما بالنسبة لإعطاء البيعة لرجل فهذا لا يجوز؛ لأن البيعة للولي العام على البلد، وإذا أردنا أن نقول: إن كل إنسان له بيعة تفرقت الأمة، وأصبح البلد الذي فيه مائة حي من الأحياء له مائة إمام ومائة ولاية وهذا هو التفرق، فما دام في البلد حكم شرعي فإنه لا يجوز إعطاء البيعة لأي أحد من الناس.
أما إذا كان الحاكم لا يحكم بما أنزل الله، فإن هذا له أحوال قد يكون هذا كفراً، وقد يكون ظلماً، وقد يكون فسقاً بحسب ما تقتضيه النصوص الشرعية، وعلينا إذا كان هذا الحاكم مصراً على كفر بواح عندنا فيه من الله برهان أن نسعى لإزالته ما استطعنا، لكن ليس علينا أن نقوم في وجهه، وليس معناه الخروج بالقوة؛ لأن هذا تهور مخالف للشرع وللحكمة، ولهذا لم يُؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بالجهاد في مكة؛ لأنه ليس معه قوة يستطيع بها أن يخرج هؤلاء من مكة أو يقتلهم، فكون هؤلاء النفر القليل الذين هم عزّل من السلاح المقابل لسلاح الحكومة يقومون على الحكومة لا شك أن هذا تهور مخالف للحكمة.
إذا رأيت كفراً بواحاً عندك فيه من الله برهان فانتظر الشرط الخامس وهو القدرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن بالخروج على الأئمة إلا بشروط وهي: أن نرى كفراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان، فشرط الوجوب أن يكون لدينا القدرة على إزالة هذا الحاكم وحكومته، أما بلا قدرة فالإنسان يجب عليه أن ينتظر الفرج من الله عز وجل وألا يناهض من يقضي عليه وعلى طائفته وعلى الآخرين.
وقوله: (أن تروا) أي: أنتم بأنفسكم فلا يكفي النقل؛ لأنه قد ينقل الشيء على غير وجهه، وقوله: (كفراً) يعني: لا فسقاً، فالحاكم لا يجوز الخروج عليه لو فسق بأكبر الفسوق ما عدا الكفر، يعني: لو كان يزني أو يشرب الخمر أو يقتل بغير حق لا استحلالاً ولكن ظلماً، فإنه لا يجوز أن نخرج عليه، وقوله: (بواحاً) أي: صريحاً لا يحتمل التأويل، أما الكفر الذي يحتمل التأويل فقد يكون هذا الحاكم فيه متأولاً.
وقوله: (فيه من الله برهان) يعني: عندنا دليل من الكتاب والسنة دون الأقيسة التي قد تخطئ وتصيب.
هذه أربعة شروط، والشرط الخامس لوجوب الخروج عليه: القدرة، وهذا الشرط -أعني القدرة- شرط في كل واجب؛ لقول الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ولقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] .
فهؤلاء الإخوة الذين يريدون أن يكوِّنوا طوائف لكل طائفة أمير بناءً على أن الحاكم عندهم ليس حاكماً شرعياً في نظرهم، نقول لهم: لا يجوز لكم تفتيت الأمة بأن يكون لكل طائفة أمير، هذا خطأ عظيم، وقد أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أنه ليس من هؤلاء في شيء، لكن عليهم أن يعدوا أنفسهم لإزالة هذا الحاكم الذي انطبقت عليه شروط جواز الخروج على الحاكم حتى يقويهم ويعينهم على إزالته.(27/13)
حكم من جاوز الميقات وأحرم من مقر إقامة أهله
السؤال
فضيلة الشيخ: رجل سافر من القصيم إلى جدة لزيارة أهله وهو من أهل جدة وقد نوى الاعتمار في هذا السفر، فهل يجوز له أن يؤخر إحرامه حتى يصل إلى أهله؟ الشيخ: الرجل الذي أهله في جدة أنشأ السفر لأجل زيارة أهله سواء اعتمر أم لم يعتمر لكن يقول: سأعتمر إذا بقيت أسبوعاً أو شهراً أو ما أشبه ذلك، فهذا لا يجب عليه أن يحرم من الميقات، كما أن الرجل من أهل مكة لو أنه سافر من القصيم إلى مكة ذهب إلى أهله وهو يريد أن يحج هذا العام، فإننا لا نلزمه أن يحرم إذا مر بالميقات؛ لأن هذا الرجل ذاهب إلى أهله، وكذلك المسألة الأولى الذي ذهب إلى أهله في جدة.
أما الذي من أهل الرياض فهو في جدة مسافر غير مستوطن، فإذا ذهب إلى جدة لغرض شغل أو زيارة أو تجارة أو وظيفة وهو يريد أن يعتمر في هذا السفر، فهذا السفر كان للأمرين، فإننا نقول: لا تتجاوز الميقات حتى تحرم؛ لأنك مسافر حتى وأنت في جدة.
السائل: وإذا كان متزوجاً ويسكن مع زوجته وأولاده في الرياض وأمه وأبوه في جدة فما الحكم؟ الشيخ: هذا إذا جاء إلى جدة فهو مسافر، فهنا إذا أراد أن يذهب إلى أهله للزيارة وهو يريد أن يعتمر نقول: لا بد أن تحرم من الميقات؛ لأن وطنه الرياض.
أما جدة فهي وطن أبيه وأمه، ولهذا لو كان في رمضان فله أن يفطر إذا سافر إلى مقر أبيه وأمه وهو ساكن في بلد آخر، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(27/14)
لقاء الباب المفتوح [28]
يتحدث الله عز وجل في هذه الآيات عن الفجار، وأن مصيرهم يوم القيامة في نار جهنم بل في سجين وهو أسفلها، وكان هذا جزاؤهم، لأنهم كذبوا بذلك اليوم ووصفوه بأنه أساطير الأولين، فكان الجزاء من جنس العمل.(28/1)
تفسير آيات من سورة المطففين
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: في هذا اليوم الخميس الحادي عشر من شهر المحرم عام (1414هـ) نفتتح اللقاء الثاني في هذا الشهر، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعله كاللقاءات السابقة لقاء خيرٍ وبركة وعلم نافع.
وإننا رأينا أن يستمر هذا اللقاء على الرغم من أن هذا الأسبوع هو أسبوع امتحانات، وقد يشتغل فيه كل من المدرسين والطلبة، لكننا نحب أن الإنسان إذا عمل عملاً أثبته، كما هي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان من هديه أنه إذا عمل عملاً أثبته واستمر فيه، إلا لوجود مانع شرعي، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قَل) .(28/2)
تفسير قوله تعالى: (كلا إن كتاب الفجار)
قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} [المطففين:7-8] .
(كلا) إذا وردت في القرآن لها معانٍ حسب السياق؛ قد تكون حرف ردع وزجر، وقد تكون بمعنى: حقاً، وقد يكون لها معانٍ أخرى يدل عليها السياق؛ لأن الكلمات في اللغة العربية ليس لها معنىً ذاتياً لا تتجاوزه، بل كثير من الكلمات العربية لها معانٍ تختلف بحسب سياق الكلام.
في هذه الآية يقول تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} [المطففين:7-8] فتحتمل أن تكون بمعنى: حقاً إن كتاب الفجار لفي سجين، أو تكون بمعنى الردع عن التكذيب بيوم الدين، وعلى كل حال بيَّن الله تعالى في هذه الآية الكريمة أن كتاب الفجار لفي سجين، والسجين قال العلماء: إنه مأخوذ من السجن وهو الضيق؛ أي: في مكان ضيق.
وهذا المكان الضيق هو نار جهنم -والعياذ بالله- كما قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} [الفرقان:13-14] ، وجاء في حديث البراء بن عازب الطويل المشهور في قصة المحتضر وما يكون بعد الموت أن الله سبحانه وتعالى يقول: (اكتبوا كتاب عبدي في سجين) أي: الكافر في الأرض السابعة السفلى، فسجين هو أسفل ما يكون من الأرض الذي هو مقر النار نعوذ بالله منها؛ فهذا الكتاب في سجين.
ثم عظم الله عز وجل هذا السجين بقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} [المطففين:8] فالاستفهام هنا للتعظيم، أي: ما الذي أعلمك بسجين؟ وهل بحثت عنه؟ وهل سألت عنه حتى بُين لك؟ والتعظيم قد يكون لعظمة الشيء رفعة، وقد يكون لعظمة الشيء نزولاً، وهذا التعظيم في سجين ليس لرفعته وعلوه، ولكنه لسفوله ونزوله.
ثم قال تعالى: {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين:9] (كتاب) لا يعود على سجين، وإنما يعود على كتاب في قوله: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ} [المطففين:7] فما هذا الكتاب؟ قال: {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين:9] أي: مكتوب لا يزاد فيه ولا ينقص، ولا يبدل ولا يُغير، بل هذا مآلهم ومقرهم -والعياذ بالله- أبد الآبدين.(28/3)
تفسير قوله تعالى: (ويل يومئذٍ للمكذبين)
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المطففين:10] (ويلٌ) سبق الكلام عنها في أول هذه السورة، وقلنا: إنها كلمة وعيد؛ يتوعد الله بها من يستحق الوعيد، وهي كثيرة في القرآن الكريم، وقوله: {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المطففين:11] والكلام كله من أول السورة إلى آخرها في يوم الدين والجزاء، وهؤلاء الذين يكذبون بيوم الدين توعدهم الله بالويل؛ لأن هؤلاء المكذبين بيوم الدين لا يمكن أن يستقيموا على شرع الله؛ لأنه لا يستقيم على شريعة الله إلا من آمن بيوم الدين؛ لأن من لم يؤمن به وإنما آمن في الحياة الدنيا فقط فهو لا يهتم بما وراءها، ولا يعمل لذلك، وإنما يبقى كالأنعام: {يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:12] .
ولهذا الله يقرن الإيمان به بالإيمان باليوم الآخر دائماً؛ لأن الإيمان بالله ابتداء، والإيمان باليوم الآخر انتهاء، فتؤمن بالله ثم تعمل لليوم الآخر الذي هو المقر.
فهؤلاء -والعياذ بالله- كذبوا بيوم الدين، ومن كذب به لا يمكن أن يعمل له أبداً؛ لأن العمل مبني على عقيدة، فإن لم تكن لك عقيدة فكيف تعمل؟! ولهذا قال: {وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} [المطففين:12] أي: ما يكذب بيوم الدين وينكره إلا كل معتدٍ أثيم، أي معتدٍ في أفعاله أثيم في أقواله، وقيل: معتدٍ في أفعاله أثيم في كسبه، أي: أن مآله إلى الإثم، والمعنيان متقاربان، المهم أنه لا يمكن أن يكذّب بيوم الدين إلا رجل معتدٍ أثيم، آثم كاسب للآثام التي تؤدي به إلى نار جهنم نعوذ بالله.
قال تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [المطففين:13] (إذا تتلى عليه) يعني: إذا تلاها عليه أحد، وهو يدل على أن هذا الرجل لا يفكر أن يتلو آيات الله، ولكنها تتلى عليه، فإذا تليت عليه قال: (أساطير الأولين) أي: هذه أساطير الأولين.
وأساطير: جمع أسطورة، وهي الكلام الذي يقال للتسلي، ولا حقيقة له ولا أصل، فيقول: هذا القرآن أساطير الأولين! لماذا لا ينتفع بالقرآن وهو أبلغ الكلام وأشده تأثيراً على القلب؟! حتى قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] .
ونكتفي بهذا القدر من الكلام على تفسير آيات هذه السورة.(28/4)
الأسئلة
.(28/5)
حكم تأخير المغرب والعشاء إلى بعد منتصف الليل يوم الإفاضة
السؤال
فضيلة الشيخ: في الإفاضة إلى المزدلفة يأتي بعض الناس متأخرين جداً، وربما إلى قبيل منتصف الليل، فيصلون المغرب والعشاء، فهل صلاة المغرب هنا في وقتها أي: صار وقت العشاء وقتاً لصلاة المغرب؟
الجواب
نعم.
الذين يأتون من عرفة إلى مزدلفة ولا يصلون إلى مزدلفة إلا متأخرين يجمعون جمع تأخير، فإنه ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم {أنه نزل في أثناء الطريق في مزدلفة فبال وتوضأ، وكان معه أسامة بن زيد فقال: يا رسول الله: الصلاة، قال: الصلاة أمامك ثم بقي إلى أن وصل إلى مزدلفة وصلى المغرب والعشاء جمع تأخير) ، لكن لو فرضنا أنه خشي أن ينتصف الليل قبل أن يصل إلى مزدلفة ففي هذه الحال يجب أن يصلي، ولا يجوز أن يؤخر صلاة العشاء أو المغرب إلى ما بعد منتصف الليل.(28/6)
رد شبهة من رد السنة لوجود أحاديث ضعيفة وموضوعة فيها
السؤال
فضيلة الشيخ: ما هو الرد على من يقول: إن السنة ليست بحجة؛ وذلك لورود الأحاديث الضعيفة والمكذوبة، فلو كانت حجةٌ مثل القرآن لحفظها الله عز وجل؟
الجواب
من قال: إن السنة ليست بحجة، وأراد بالسنة كل ما يُنسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من صحيح وحسن وضعيف، فهذا له وجه، ويرد عليه من وجه آخر.
فيقال له: إطلاقك أن السنة ليست بحجة خطأ فيجب التفصيل، فيقال: ما نسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وليس بصحيح فإنه لا ينسب إليه أصلاً، ولا يصح أن نقول: هو من السنة أو ليس من السنة، بل ساقط من الأصل؛ فلا يصح إطلاق السنة عليه.
وأما ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه حجة بلا شك، ولو لم يكن حجة لبطلت أكثر الشريعة؛ لأن أكثر الشريعة ثبتت بالسنة.
والسنة كما تعلم إما أن تكون ابتداءً، وإما تفسيراً للقرآن، وإما تفصيلاً لمجمله، وإما تقييداً لمطلقه، وإما تخصيصاً لعامه؛ فهي حجة بلا شك، وقد قال الله عز وجل: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] وقال: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [الجن:23] وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] ، والآيات في هذا كثيرة، فمن أنكر العمل بالسنة فقد أنكر العمل بالقرآن ولا شك؛ لأن القرآن دل على أن السنة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم وصحت إليه هي من شرع الله، فعلى هذا القائل الذي أطلق هذا القول أن يصحح قوله وأن يقول: ما ينسب إلى الرسول فهو ينقسم إلى قسمين: 1- قسم ليس بسنة فلا يكون حجة.
2- وقسم هو سنة فيكون حجة.
وأما قوله: لو كانت حجة لحفظها الله؛ لأنها من دين الله، فيقال: نعم.
هذا صحيح، والله تعالى قد حفظها ولله الحمد، فقيض الله من هذه الأمة أئمة وعلماء يميزون الصحيح من الضعيف، كما يميز الطبيب المرض المهلك من غير المهلك، وكما يُميز الرجل السليم من غير السليم؛ فقد ميزوها ومحصوها وبينوا الصحيح من الضعيف، واستقامت السنة ولله الحمد؛ وما زالت مستقيمة، ومن الكتب ما اتفق العلماء على ما فيه، مثل: صحيح البخاري وصحيح مسلم؛ فإن ما فيهما صحيح، حتى أطلق العلماء على أن ما فيهما يفيد العلم ليس الظن فقط؛ لأن الأمة تلقتهما بالقبول، ومُحال أن تتفق هذه الأمة الإسلامية على باطل.(28/7)
مفهوم هجر القرآن
السؤال
فضيلة الشيخ: إذا استمر الإنسان في حفظ القرآن وترك القراءة بالنظر، هل يعتبر هاجراً للقرآن، وما هو مفهوم هجر القرآن؟
الجواب
إذا منَّ الله على الإنسان بحفظ القرآن عن ظهر قلب واقتصر في قراءته على ذلك فإن هذا خير، وقد كان أكثر الصحابة رضي الله عنهم يعتمدون على الحفظ في الصدور؛ لأن كثيراً منهم كان لا يكتب، والنبي صلى الله عليه وسلم نفسه اعتمد في حفظ القرآن على حفظ القلب، فهو لا يكتب عليه الصلاة والسلام، ولا يقرأ من كتاب، ولهذا نقول: إن من حفظ القرآن عن ظهر قلب وصار لا يقرأ إلا عن ظهر قلب فإنه ليس بهاجر للقرآن، بل هو حافظ للقرآن ملازم له.
وأما مفهوم هجر القرآن فهو نوعان: 1- هجر لتلاوته.
2- هجر للعمل به.
والثاني أشد وأعظم؛ لأن الاستكبار عن العمل بما في القرآن قد يكون كفراً، أما هجر التلاوة فإنه لا يمكن لأي أحد من المسلمين أن يهجر تلاوة القرآن أبداً، حتى العجائز في بيوتهن لا يهجرن القرآن؛ لأنه ما من مسلم إلا ويقرأ الفاتحة وما تيسر من كتاب الله، وإذا قرأ الفاتحة -وهي أمُّ القرآن- وما تيسر فليس بهاجر للقرآن.
وعلى هذا نقول: هجر القرآن نوعان: الأول: هجر تلاوته، وهذا لا يُتصور من أحد من المسلمين، اللهم إلا من نشأ في بلاد بعيدة وصار لا يعرف حتى الفاتحة، وإلا فسوف يقرأ في الصلاة الفاتحة وما تيسر.
الثاني: هجر العمل به؛ وهذا هو الخطير، ولهذا قال الله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان:30] أي: يقرءونه ولا يعملون به، وهذا هو الخطر الذي يخشى على الأمة منه، ولقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في وصف الخوارج: (إنهم يقرءون القرآن ولا يتجاوز حناجرهم) ؛ لأنهم لا يعملون به، وإن عملوا به ظاهراً لكن القلوب خراب منه.(28/8)
تحريم بخس الناس أشياءهم
السؤال
فضيلة الشيخ: إن كثيراً من العمال الذين أتوا للخدمة في هذه البلاد يخالطوننا؛ يعملون معنا في المدارس والمساجد وكثيراً ما تُبخس حقوقهم، وقد تؤخر رواتبهم شهوراً كثيرة، حتى إن بعضهم أراد الحج في هذه السنة فأبى كفلاؤهم إلا أن يوقعوا على استلام رواتبهم لمدة عشرة أشهر أو يزيد، سؤالي هو: ماذا يجب علينا في إنكار هذا المنكر؟ وهل تبرأ ذممنا إذا أبلغنا المسئولين من قبل الحكومة عن ذلك؟
الجواب
الواقع أن سؤال الأخ هذا سؤال مهم إذ يقع فيه من الكفلاء كثيرون، وما أكثر الشكاوي التي ترفع إلينا وإلى غيرنا في هذا الموضوع، والحقيقة أنها ظاهرة خطيرة يخشى معها أن نصاب بنقمة من الله عز وجل تعم الصالح والطالح؛ لأن بخس الناس حقوقهم أمر خطير، فقد أرسل الله تعالى رسولاً من أجل إزالة هذا البخس، وهو شعيب عليه السلام: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف:85] .
وبخس الناس أشياءهم فساد في الأرض؛ فساد يعم الصالح والطالح، فيجب علينا جميعاً نحو هذه المشكلة أمور: نصيحة الكفيل وتخويفه من الله، وأن يقال له: استمع إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن ربه: (أن الله قال: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره) .
فنناصح هذا الكفيل ونخوفه بالله عز وجل، فإن اتعظ بوازع الإيمان وواعظ القرآن فهذا ما نريد، وهو أحسن من أن يتعظ بردع السلطان، فإن لم يرتدع وأصر على بخس هذا العامل الفقير حقه، فإنه يجب علينا أن نرفع الأمر للمسئولين وأن ندلي بشكايتنا وشهادتنا.
لنا الحق أن نشكو هذا الكفيل الذي أضاع حق مكفوله؛ لأننا نخشى أن تعمنا عقوبة هذه المصائب، فنشكو ونشهد على أن هذا الكفيل أضاع حق هذا المسكين الذي ترك أهله ووطنه وأصحابه؛ ليعيش هو وأهله، ثم يأتي هذا الرجل الظالم فلا يوفيه حقه، وعلى الحكومة أن تردع مثل هذا الكفيل ردعاً زاجراً يزجره وأمثاله حتى لو باعت ممتلكاته لتُوفي هؤلاء الفقراء الذين أضاع حقوقهم؛ لأنه إذا ضعف الوازع الإيماني وجب أن يقوى الرادع السلطاني؛ لأنه إذا ضعف الوازع الإيماني والرادع السلطاني تفلتت الأمور ولم تقض الحقوق.
فنصيحتي لهؤلاء الكفلاء أن يتقوا الله عز وجل، وأن يخشوا الله تبارك وتعالى، وأن يعطوا هؤلاء حقوقهم، وما ندري فلعل يوماً من الأيام يأتي ويكون هذا الكفيل مثل هؤلاء مكفولاً؛ فإن الناس في بلادنا هذه قبل عشرات السنين كانوا يذهبون إلى الشام والعراق والهند يطلبون لقمة العيش؛ لأنهم فقراء، ولولا أن الله منَّ علينا بمنابع هذا البترول لكنا أسوأ حالاً منهم، فليتقوا الله عز وجل، وليعطوا هؤلاء حقوقهم قبل أن يموتوا؛ فتؤخذ حقوق هؤلاء من حسناتهم، فإن بقي من حسنات الكفلاء وإلا أخذ من سيئات المكفولين وطُرح عليهم ثم طُرحوا في النار والعياذ بالله، هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
كما أني أنصح إخواني المواطنين المؤمنين الذين عندهم غيرة على إخوانهم وعلى بلادهم أن يناصحوا هؤلاء الكفلاء، فإن لم يفد فيهم النصح شيئاً فيرفعوا أمرهم إلى الحكومة، وليطلبوا من الحكومة بإلحاح أن يعاقبوا هؤلاء الكفلاء معاقبةً شديدة تردعهم وأمثالهم لئلا تحيط العقوبة بنا وبهم.
كما أن كثيراً من الكفلاء يغيبون عن المكاتب ويسافرون إلى غير بلدهم، وربما يختبئون في بيوتهم كما جرى لنا ذلك كثيراً؛ إذا أُعطينا رقم تليفون الكفيل واتصلنا به عدة مرات لا نجده، نعم ربما يختفون، ففي هذه الحال لا نتمكن من النصيحة.
فيجب أن نرفع الأمر إلى السلطة، والسلطة بنفسها تتقي الله عز وجل وتعطي هؤلاء المظلومين حقوقهم وتنتقم من هذا الذي بخسهم حقهم وأضاعه.(28/9)
حكم من مات وكانت إحدى أسنانه من ذهب
السؤال
فضيلة الشيخ: إذا توفي إنسان وكان أحد أسنانه من ذهب، هل يُترك هذا السن أو يُخلع؟ وإذا كان هذا الخلع يترتب عليه مضرة لبقية الأسنان فما الحكم، وهل ورد نص في ذلك؟
الجواب
أولاً: يجب أن نعلم أن السن الذهب لا يجوز أن يركب إلا عند الحاجة إليه، فلا يجوز أن يركبه أحد للزينة، اللهم إلا النساء إذا جرت عادتهن التزين بتحلية الأسنان بالذهب فلا بأس، أما الرجال فلا يجوز أبداً إلا لحاجة.
ثانياً: إذا مات من عليه أسنان من ذهب فإن كان يمكن خلع السن بدون مُثلة خُلع؛ لأن دفنه مع الميت إضاعة مال، والرسول صلى الله عليه وسلم (نهى عن إضاعة المال) وإن كان لا يمكن خلعه إلا بُمثلة بحيث تسقط بقية الأسنان فإنه يبقى ويدفن معه.
ثم إن كان الوارث بالغاً عاقلاً رشيداً وسمح بذلك تُرك ولم يعرّض له، وإلا فقد قال العلماء: إذا ظن أن الميت بلي حُفر القبر وأُخذ السنُّ؛ لأن بقاءه إضاعة مال، أما إذا كان الوارثون عقلاء مرشدين فهذا مالهم، لهم أن يسمحوا فيه ويبقى مع الميت ولا يحفر.(28/10)
تفسير حديث: (يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء)
السؤال
فضيلة الشيخ: روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يدخل فقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام.
) والسؤال هو عن أسباب دخول الأغنياء الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام، بينما نجد ولله الحمد الصحوة من الأغنياء بشكل واضح؛ يُسخِّرون أموالهم من أجل الدين فما توجيهكم لهذا الحديث؟
الجواب
ظاهر الحديث أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام أو بمدة أخرى تتفاوت عن الخمسمائة عام، ولكن هذا فيما إذا تساوى المؤمن الغني والفقير؛ فإن الله يَجْبُرُ هذا الفقير الذي لم يتنعم في الدنيا بما تنعم به الغني فيقدمه على الغني في دخول الجنة، أما إذا كان الغني عنده من الأعمال الصالحة ما يفوق الفقير فالظاهر -والله أعلم- أن الغني يسبق الفقير بحسب سبقه للعمل الصالح، ويكون هذا الحديث مقيداً بما إذا تساوى الغني والفقير، أو يقال: إن هؤلاء يسبقون الأغنياء دخولاً ولكن الأغنياء إذا دخلوا الجنة صاروا في منازلهم التي يستحقونها، وكانوا فوق الفقراء إذا كانوا يستحقون منزلة فوق الفقراء والجنة درجات {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام:132] .(28/11)
حكم إفراد يوم عاشوراء بالصيام دون شفعه بآخر
السؤال
فضيلة الشيخ: ما حكم صيام يوم عاشوراء فقط من غير صيام يوم قبله أو يوم بعده، وهو قادر على أن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده، لكن يشق عليه؟
الجواب
الأفضل أن الإنسان يصوم التاسع والعاشر من شهر الله المحرم، هذا هو الأفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم عاشوراء فقال: (أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله) لكنه قال: (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع) أي: مع العاشر، وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خالفوا اليهود، صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده) وفي رواية: (يوماً قبله ويوماً بعده) لكن لا شك أن المخالفة تكون إذا صام الإنسان يوماً قبله أو يوماً بعده.
فالأفضل أن يصوم قبله يوماً أو بعده يوماً، وإن صام التاسع مع العاشر فهو أفضل من صوم الحادي عشر مع العاشر، وإن صام الأيام الثلاثة؛ التاسع والعاشر والحادي عشر حصل له أجر صيام ثلاثة أيام من الشهر؛ لأن الإنسان إذا صام ثلاثة أيام من كل شهر كان كصيام الدهر، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان الأفضل في صيام الثلاثة أيام أن تكون الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، لكن يجوز أن يُصام في غير هذه الأيام الثلاثة، فقد قالت عائشة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام لا يبالي أصامها من أول الشهر أو وسطه أو آخره) ، وإن اقتصر على صوم اليوم العاشر فقط حصل له الأجر، لكن ينقص أجره عمن صام اليوم التاسع معه أو الحادي عشر، وقد قال بعض العلماء: إن صيام عاشوراء على ثلاثة مراتب: المرتبة الأولى: أن يصوم التاسع والعاشر والحادي عشر.
والمرتبة الثانية: أن يصوم التاسع والعاشر.
والمرتبة الثالثة: أن يصوم العاشر والحادي عشر.
وأما من اقتصر على العاشر فلا حرج عليه؛ لعموم الأدلة الدالة على فضيلة صوم اليوم العاشر، ولكن يبقى النظر فيما يحصل من الناس من الذبذبة في اليوم العاشر متى يكون؟ نقول: العبرة بأحد أمرين: إما رؤية هلال محرم، أو إكمال شهر ذي الحجة ثلاثين يوماً، فإذا لم يُر هلال شهر المحرم فإنه يتمم شهر ذي الحجة ثلاثين يوماً ومنازل القمر ليس بها عبرة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين) ، وهذا ينطبق على جميع الشهور، إذا لم يُر الشهر الداخل فإننا نكمل الشهر الذي قبله ثلاثين يوماً وبهذا نطمئن، أما كون الناس مذبذبين حتى إن بعض الناس قال: إن اليوم العاشر في يوم الجمعة، وسبب ذلك أنه نزل في الإذاعة حديثٌ للشيخ صالح اللحيدان كان حديثاً في العام الماضي، والعام الماضي اليوم العاشر فيه هو يوم الجمعة -فنزل الحديث في الإذاعة وهو حديث العام الماضي فسمعه الناس على أن العاشر هو يوم الجمعة فكانوا يسألون: هل هم أجلوا اليوم العاشر إلى يوم الجمعة؟ فقلنا: اليوم العاشر لا يتأجل ولا يمكن أن يتأجل، وسببه الخطأ في تنزيل الشريط الذي في العام الماضي لهذا العام.
وإلى هنا ينتهي هذا المجلس، ونسأل الله تعالى أن يعيدنا وإياكم عوداً حميداً، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح إنه على كل شيءٍ قدير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(28/12)
لقاء الباب المفتوح [29]
تحدث الشيخ عن بعض آيات سورة المطففين، وبين من خلالها حال المتقين الأبرار، وما لهم من النعيم المقيم في الدار الآخرة، ثم أجاب بعد ذلك على الأسئلة.(29/1)
تفسير آيات من سورة المطففين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو اللقاء الثالث في شهر المحرم عام (1414هـ) الذي يتم كل خميس من كل أسبوع، والذي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل فيه الخير والبركة.(29/2)
تفسير قوله تعالى: (كلا إن كتاب الأبرار)
قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين:18] في هذه الآية يخبر الله عز وجل خبراً مؤكداً بـ (إن) لأن (إن) في اللغة العربية من أدوات التوكيد، فإنك إذا قلت: الرجل قائم، فإن هذا خبر غير مؤكد، وإذا قلت: إن الرجل قائم، صار خبراً مؤكداً، فيقول الله عز وجل: {إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين:18] وهذا مقابل قوله: {إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين:7] فكتاب الفجار في سجين في أسفل الأرض، وكتاب الأبرار في عليين في أعلى الجنة، أي: أنهم في هذا المكان العالي، قد كُتب ذلك عند الله عز وجل قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} [المطففين:19] أي: ما الذي أعلمك ما عليون؟ وهذا الاستفهام يراد به التفخيم والتعظيم، يعني: أي شيء أدراك به فإنه عظيم.(29/3)
تفسير قوله تعالى: (كتاب مرقوم)
قال الله تعالى: {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين:20] هذا بيان لقوله: {إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ} [المطففين:18] أي: أن كتاب الأبرار كتاب مرقوم، مكتوب لا يتغير ولا يتبدل {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:21] أي: يحضره أو يشهد به المقربون؛ و (المقربون) عند الله هم الذين تقربوا إلى الله سبحانه وتعالى بطاعته، وكلما كان الإنسان أكثر طاعةً لله كان أقرب إلى الله، وكلما كان الإنسان أشد تواضعاً لله كان أعز وأرفع مكاناً عند الله.
قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] فالمقربون هم الذين تقربوا إلى الله تعالى بصالح أعمالهم فقربهم الله تعالى {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين:22-23] الأبرار: جمع بَرٍّ، والبَرُّ: كثير الخير كثير الطاعة كثير الإحسان في عبادة الله والإحسان إلى عباد الله، فهؤلاء الأبرار الذين منَّ الله عليهم بفعل الخيرات وترك المنكرات في نعيم: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [المطففين:22] والنعيم هنا يشمل: نعيم البدن ونعيم القلب.
أما نعيم البدن: فلا تسأل عنه، فإن الله سبحانه وتعالى قال في الجنة: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71] ، وقال تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] .
وأما نعيم القلب: فلا تسأل عنه أيضاً، فإنه يقال لهم وقد شاهدوا الموت قد ذبح: يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويقال لهم: ادخلوها بسلام، ويقال لهم: إن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً، وأن تصحوا فلا تمرضوا أبداً، وأن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وكل هذا مما يُدخل السرور على القلب فيحصل لهم بذلك نعيم القلب ونعيم البدن.
(والملائكة يدخلون عليهم من كل باب) يقولون لهم: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24] جعلني الله وإياكم منهم.(29/4)
تفسير قوله تعالى: (على الأرائك ينظرون)
قال تعالى: {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين:23] (الأرائك) جمع أريكة، وهي: السرير المزخرف المزين الذي وضع عليه مثل الظل، وهو من أفخر أنواع الأسرة، فهم على هذه الأسرة الناعمة الحسنة البهية، (ينظرون) أي: ينظرون ما أنعم الله به عليهم من النعيم الذي لا تدركه الأنفس الآن، {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17] وقال بعض العلماء: إن هذا النظر يشمل حتى النظر إلى وجه الله، وجعلوا هذه الآية من الأدلة على ثبوت رؤية الله تعالى في الجنة.
قال تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:24] تعرف أيها الناظر إليهم (في وجوههم نضرة النعيم) أي: حسن النعيم وبهاءه، أي: التنعم.
وأنتم تشاهدون الآن في الدنيا أن المنعمين المترفين وجوههم غير وجوه الكادحين العاملين؛ تجدها نضرة، وحسنة، ومنعمة، فأهل الجنة تعرف في وجوههم (نضرة النعيم) أي: التنعم والسرور؛ لأنهم أسرُ وأنعم ما يكون.(29/5)
الأسئلة(29/6)
الفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية
السؤال
ما الفرق بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية؟
الجواب
لله سبحانه وتعالى إرادة؛ وهذه الإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادة شرعية، وإرادة كونية، والفرق بينهما من وجهين: الفرق الأول: أن الإرادة الكونية تتعلق بالتكوين والخلق سواء كان مما يحبه الله أو مما لا يحبه الله.
أما الإرادة الشرعية: فتتعلق بالشرع وتختص فيما يحبه الله، فلا يريد الله شرعاً إلا ما يحبه.
والفرق الثاني: أن الإرادة الكونية لا بد أن يقع فيها المراد، بخلاف الإرادة الشرعية، ويظهر ذلك بالمثال، يقول تعالى: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً} [الرعد:11] قال الله تعالى: {فَلا مَرَدَّ لَهُ} [الرعد:11] لا بد أن يكون وإن كان سوءاً، فهذه إرادة كونية، أما الإرادة الشرعية كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْر} [البقرة:185] فلا يمكن أن يريد منا ما هو عسير علينا، بل إذا تعسر الأمر شرعاً خُفف، فالمسافر يفطر، والمريض يصلي قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنب.
وقد أراد الله تعالى من كل إنسان أن يكون مؤمناً تقياً، لكن أراد ذلك إرادة شرعية، ولهذا نجدها تتخلف، فمن الناس من لا يكون مؤمناً ولا تقياً.(29/7)
حكم اشتراط الطهارة من الحدث الأصغر للطواف
السؤال
هل تجب الطهارة من الحدث الأصغر للطواف، وما صحة حديث: (افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت) ؟
الجواب
أما الأول وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة رضي الله عنها: (افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت) فهذا لا يدل على وجوب الطهارة من الحدث الأصغر؛ لأن عائشة رضي الله عنها حائض، والحائض لا يمكن أن تقوم بطوافٍ ولا غيره، ولا يمكن أن تمكث في المسجد، فالعلة ليست عدم الطهارة إنما العلة أنها حائض.
وأما أن الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام فهذا لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو من كلام ابن عباس رضي الله عنه مع أنه منتقض وليس مطرداً؛ لأن الطواف يخالف الصلاة في أكثر من الكلام: 1- الطواف ليس له تحريم ولا تحليل بخلاف الصلاة.
2- الطواف لا يبطله الضحك والصلاة يبطلها الضحك.
3- الطواف لا يبطله الأكل والشرب، والصلاة يبطلها الأكل والشرب.
4- الطواف لا يشترط فيه القراءة لا الفاتحة ولا غيرها، والصلاة يشترط فيها.
5- الطواف لا يشترط فيه استقبال القبلة -بل لا بد أن تكون الكعبة عن يساره- والصلاة يشترط فيها ذلك.
فهو يخالف الصلاة في كثير من المسائل، وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم لا بد أن يكون مطرداً لا ينتقض، فلما انتقض هذا الحديث بما ذكرت؛ عُلم أنه ليس من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم.
ثم إنا إذا قلنا: بأنه لا يشترط الوضوء لا يعني أننا نقول: إنه ليس بمشروع، بل هو مشروع وأفضل ولا شك، الإنسان يطوف على طهارة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولأن الطائف سوف يصلي بعد الطواف ركعتين مباشرة ولا بد لهاتين الركعتين من الطهارة بالاتفاق.
وهذا الذي ذكرناه هو ما اختاره شيخ الإسلام رحمه الله ورجحه وقواه.(29/8)
الدم الخارج من غير السبيلين لا ينقض الوضوء
السؤال
فضيلة الشيخ: هل الدم الكثير يبطل الوضوء؟
الجواب
الدم الكثير الخارج من غير السبيلين لا ينقض الوضوء، سواء خرج من الأنف، أو من جرح، أو من الرأس، أو من أي مكان من البدن، إلا ما خرج من السبيلين، وذلك لأنه لا دليل على أن خروج الدم من غير السبيلين ينقض الوضوء، والسبيلان هما: القبل والدبر.(29/9)
من أنواع السحر المحرم
السؤال
فضيلة الشيخ: في بلادنا ما يسمى بالحواة جمع حاوٍ، وهو رجل يقوم بأعمال سحرية للتسلية في المدارس وفي أماكن النزهة، فيأخذ ورقة بيضاء ويدخلها في جيبه ويخرجها عملة ورقية من فئة الألف أو الخمسمائة، أو يدخل منديلاً في فيه ويخرجه عشرات المناديل معقودة ببعضها وبها أسلاك أو أمواس وما أشبه ذلك.
فهل هذا من السحر المحرم؟
الجواب
نعم.
هذا من السحر المحرم لا شك، وقد قال الله تعالى في شأن سحرة آل فرعون لما ألقوا حبالهم وعصيهم أن موسى عليه الصلاة والسلام {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66] خُيِّل له أنها حيات ملأت الأرض وأنها تسعى نحوه فخاف، فأمره الله أن يلقي عصاه {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الشعراء:45] .
وهذا يكون سحراً للعيون، وإلا فلا تأثير له في خلق الله عز وجل، فهذه المناديل التي أدخلها ليست إلا منديلاً واحداً، والورقة التي أدخلها وأخرجها نقوداً ليست إلا الورقة الأولى، لكنه سحر أعين الناس.(29/10)
سير الناس أثناء الجنازة
السؤال
فضيلة الشيخ: بالنسبة للجنازة أيهما أفضل: أن تكون تابعة أم متبوعة، وما حكم الدعاء بصوت عالٍ للميت والناس يؤمنون خلفه في حال الدفن؟
الجواب
ذكر أهل العلم أن التابع للجنازة إن كان راكباً فالأفضل أن يكون خلف الجنازة، وإن كان ماشياً فالسنة أن يكون خلفها أو يمينها أو شمالها.
والأمر في هذا واسع والعلماء قالوا: إن الركبان يكونون خلف الجنازة في عهدهم؛ لأن الناس كانوا يركبون على الإبل أو على الحمير أو ما أشبهها.
أما الآن فالأولى للركبان إذا كانوا في السيارات أن يكونوا أمامها؛ لأن وجودهم خلف المشيعين يزعجهم وربما يزعج المشيعين فيسرعوا إسراعاً فاحشاً يخشى على الميت مع قوة الرجِّ أن يخرج منه شيء، فلهذا أرى أن الركبان في السيارات في الوقت الحاضر يكونون أمام الجنازة، فإن لم يتيسر لهم ذلك فليكونوا خلفها بعيداً عن المشاة لئلا يزعجوا المشاة، والأمر بالنسبة للمشاة واسع؛ إن كانوا عن أمامها أو خلفها أو يمينها أو شمالها.
أما الدعاء للميت برفع الصوت عند الدفن فإنه بدعة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: (استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يُسأل) ولو كان الدعاء بصوت جماعي سنة لكان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو بذلك لأصحابه؛ لأن دعوته لهم أبرك وأقرب للإجابة، ولكن يقال للناس: كلٌ يدعو بنفسه لهذا الميت إذا دفن، فيستغفروا له ويسألوا الله له التثبيت ويكفي مرة واحدة، لكن إن كررها ثلاثاً فهو خير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا؛ دعا ثلاثاً.(29/11)
وقت صلاة الضحى
السؤال
فضيلة الشيخ: متى يكون آخر وقت صلاة الضحى، وما أفضل وقت لصلاتها؟
الجواب
صلاة الضحى أول وقتها إذا ارتفعت الشمس قيد رُمح، وهذا يكون بنحو ربع ساعة بعد طلوع الشمس، وينتهي وقتها قبيل الزوال، أي: إذا دخل وقت النهي، وذلك قبل زوال الشمس بعشر دقائق تقريباً.
وهذه الصلاة من الصلوات التي ينبغي أن تصلى في آخر وقتها؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الأوابين حين ترمضُ الفِصال) أي: حين يزداد حرُّ الشمس، لكن قبل الزوال بنحو ربع ساعة هذا هو الأفضل، وإذا كان لا يتيسر للإنسان هذا الوقت لكونه مشغولاً بوظيفةٍ أو دراسةٍ أو تجارةٍ، فإنه يصليها إذا ارتفعت الشمس قيد رمح؛ أي: بعد طلوع الشمس بنحو ربع ساعة.(29/12)
حكم من اعتمر وكان طوافه ناقصاً
السؤال
فضيلة الشيخ: رجل وامرأة اعتمرا وطافا ستة أشواط، وفي الشوط السابع دخلا ما بين الكعبة والحجر ثم رجعا إلى بلدهما، وارتكبا العديد من محظورات الإحرام من جماعٍ وغيره، فما الحكم في هذه الحالة وما الحكم لو لم يرتكبا أي محظور؟
الجواب
الطواف الذي يدخل فيه الإنسان بين الحجر والكعبة طواف ناقص؛ لأن الواجب أن يكون الطواف بجميع الكعبة مع الحجر؛ لقول الله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] وإذا كان طوافاً ناقصاً لم يكن عليه أمر الله ورسوله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: مردود عليه.
وبهذا يتبين أن طواف هذين الشخصين -الرجل وزوجته- طواف غير صحيح وأوصيك أن تخبرهما: أنه يجب عليهما الآن فوراً أن يلبسا ثياب الإحرام وأن يذهبا إلى مكة فيطوفا بنية العمرة، ويسعيا ويقصرا أو يحلق الرجل وتقصر المرأة وبذلك يحلان من إحرامهما هذا هو الواجب عليهما الآن.
وأما ما ارتكباه من فعل المحظور وهو صادر عن جهل منهما فلا إثم عليهما ولا فدية؛ لقول الله تبارك وتعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] .
السائل: لقد عرفا أن العمرة باطلة، ومع ذلك يرتكبان كثيراً من المحظورات بعد علمهما أنها باطلة؟ الشيخ: هذا عن جهل أيضاً؛ لأنهما ظنا أنها بطلت وحلا منها، كما أن الصلاة إذا بطلت خرج الإنسان منها، فهو أيضاً صادر عن جهل، لكن لو علما أنها باطلة وأنهما لا زالا محرمين ما فعلا شيئاً من المحظورات.
السائل: فضيلة الشيخ: هل تكون العمرة القادمة بنية القضاء للأولى؟ الشيخ: هي تكميل للأولى وليست قضاء؛ لأنهما لا يزالان الآن محرمين، لا يجوز لهما الطيب ولا أي شيء من محظورات الإحرام، ولذلك يجب عليك الآن أن تتصل بهما على الهاتف وتخبرهما بذلك، هذا واجب عليك، وواجب علينا، حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا نسيت فذكروني) .(29/13)
حكم رواية أحاديث الصفات بالمعنى
السؤال
فضيلة الشيخ: ما حكم رواية أحاديث الصفات بالمعنى؟
الجواب
رواية أحاديث الصفات بالمعنى أخشى أن يكون الراوي من أهل التعطيل، فيروي الحديث بالمعنى الذي هو يعتقده، مثل أن يتحدث عن نزول الله عز وجل إلى السماء الدنيا والحديث: (ينزل ربنا إلى سماء الدنيا في ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟) فيقول هذا الراوي بالمعنى معتقداً أن معنى الحديث: ينزل ملك من الملائكة فيقول: كذا وكذا، ثم يروي هذا الحديث على ما يعتقد هو من معنى، فيحصل بهذا ضلال كبير.
فرواية الحديث بالمعنى من أهل البدع لا تجوز بالنسبة لأحاديث الصفات؛ لأنهم ربما يروونها على ما يعتقدون من البدع، فيحرفون الكلم عن مواضعه لفظاً ومعنىً.(29/14)
ارتكاب بعض محظورات الإحرام جهلاً
السؤال
ما رأي فضيلتكم في رجل حج بنية القِران فلما طاف طواف القدوم سعى وقصر وبقي على إحرامه حتى أكمل حجة؟
الجواب
رأينا أنه لا شيء عليه، فهذا الرجل الذي أحرم قارناً ثم طاف وسعى رأى الناس يقصرون فقصَّر لا بنية التحلل واستمر على إحرامه، فليس عليه شيء؛ لأن غاية ما حصل منه أنه قص شعره جاهلاً، ففعل محظوراً من محظورات الإحرام جاهلاً، ومحظورات الإحرام إذا فعلها الإنسان ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً فلا شيء عليه.(29/15)
دعوى ضد شيخ الإسلام ابن تيمية وابن عبد الوهاب
السؤال
ما رأي فضيلتكم في هذه المقالة: إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما بين العقيدة لم يبينها من جميع نواحيها وإنما من توحيد الأسماء والصفات فقط؟ وأن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله لم يبينها إلا في توحيد الألوهية فقط؟
الجواب
نقول: هذه دعوى، والدعوى لا تقبل إلا ببينة، وهي صادرة إما من شخص لم يطالع كتب الشيخين ولم يستوعب ما كتباه في التوحيد، وإما من شخص له غرض بهذا الكلام يريد أن ينال من قدر هذين الشيخين اللذين منَّ الله بهما على العباد.
وشيخ الإسلام رحمه الله له كلام كثير في توحيد الربوبية مع الفلاسفة وغيرهم، وله كلام كثير في توحيد الألوهية، بل له كتب مستقلة في ذلك، مثل: رسالة العبودية، كلها في تحقيق توحيد الألوهية، وكذلك الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله له في هذا وهذا، ولكن لما كانت الصولة في عهد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لأهل الكلام وكان جلُّ كلامهم في الصفات وما يتعلق بها؛ صار أكثر ما كتب في هذه الناحية، والشيخ محمد بن عبد الوهاب لما كان في عهده صولة للشرك في العبادة صار أكثر ما كتب في توحيد العبادة.(29/16)
حكم تأخير الزكاة
السؤال
فضيلة الشيخ: ما حكم تأخير الزكاة شهراً أو شهرين حتى تسلم للحكومة؟
الجواب
الواجب على الإنسان أن يؤدي الزكاة فوراً، كما أن الدَّين لو كان لآدمي وجب عليه أن يؤديه فوراً إذا لم يؤجل وكان قادراً على تسليمه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مطل الغني ظلم) وقوله: (اقضوا الله فالله أحق بالقضاء) وعلى هذا فالواجب على الإنسان أن يبادر بدفعها، لكن إن كان من عادة الناس أن تأخذ زكاتهم الحكومة، وأخرها خوفاً من أن تأتي الحكومة وتطالبه بها فهذا لا حرج عليه، ينتظر حتى يأتي مبعوث الحكومة ويسلمها له.(29/17)
حكم من باع محلاً قبل حلول الزكاة
السؤال
فضيلة الشيخ: شخص باع محلاً قبل حلول زكاته بشهرين فمن الذي يدفع الزكاة؟
الجواب
إذا انتقل ملك المال الزكوي قبل تمام الحول، فإن كانت عروض تجارة كما قبضه المالك الأول يزكيه مع أمواله، مثال ذلك: إنسان عنده أرض للتجارة فباعها قبل حلول زكاته بشهرين، فإنه إذا حلت الزكاة يجب عليه أن يؤدي زكاة الدراهم التي باع بها هذه الأرض، أما لو باعها بدراهم ثم اشترى بالدراهم سكناً له قبل تمام الحول فإنه لا زكاة عليه.
أما الثاني الذي انتقلت إليه، فينظر: هل انتقلت إليه على وجه تجب فيه الزكاة مثل أن يكون اشتراها للتجارة فهذا ينبني حولها على حول ماله الذي عنده قبلها، وإن كان اشتراها ليبني عليها ويسكنها فإنه لا زكاة عليه.(29/18)
نصيحة لاستغلال الإجازة الصيفية
السؤال
فضيلة الشيخ: أريد توجيه الشباب في هذه العطلة وإسداء النصيحة خاصة للإخوة المدرسين في هذه الإجازة، هل الأفضل لهم أن يسافروا لنصرة إخوانهم في المشرق والمغرب من إعانات ونحوها؟ أو الأفضل لهم الانضمام للمراكز العلمية الصيفية لحفظ الشباب؟ أو الذهاب إلى العلماء والاستفادة من الدروس العلمية التي توجد في كل مكان، ثم نصيحة للذين يضيعون أوقاتهم في غير هذه الأمور الثلاثة؟
الجواب
أولاً: أنا لا أرى أن نسمي هذه الإجازة عطلة؛ لأنه ليس في أيام الإنسان المسلم المؤمن عطلة، بل ولا غير المؤمن، كلٌ يعمل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] نعم هي عطلة من الدراسة النظامية لكن لو سميت بدلاً من العطلة إجازة فهذا جيد.
ثانياً: بالنسبة لما سألت: هل الأفضل للأساتذة أن يذهبوا يميناً وشمالاً ليساعدوا إخوانهم أو يتفرغوا لطلب العلم، أو لتوجيه الشباب، أو للدعوة إلى الله؟ فهذه تختلف باختلاف الناس وباختلاف الحاجات، فالرجل الذي هو وعاء علم حفظاً وفهماً وإدراكاً نقول له: الأفضل أن تبقى في طلب العلم؛ لأن طلب العلم كما قال الإمام أحمد: لا يعدله شيء، فهو أفضل من الجهاد في سبيل الله إذا لم يتعين الجهاد؛ لأن الله تعالى قال في كتابه: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة:122] أي: وبقي طائفة، (لِيَتَفَقَّهُوا) أي: الطائفة الباقية، {فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] فجعل الله سبحانه وتعالى البقاء للتفقه في الدين معادلاً للخروج للجهاد في سبيل الله وهو أفضل منه؛ لأن الجهاد يُحتاج إليه في بعض الأوقات دون بعض، والناس محتاجون للعلم في كل شئون الحياة: في العبادات، والأخلاق، والمعاملات.
أما الجهاد في سبيل الله فالناس محتاجون إليه إما للدفاع عن دينهم وأوطانهم الإسلامية، وإما لأن تكون كلمة الله هي العليا؛ لأن الجهاد إما دفاع وإما هجوم، لكنه في جانب خاص من الحياة، وأما العلم فهو في جميع الجوانب، قال الإمام أحمد رحمه الله: العلم لا يعدله شيء لمن صلحت نيته.
أما الرجل الذي ليس وعاءً للعلم ولو جلس في الحلقات لا يفهم ولا يدرك شيئاً لكنه بصير بأحوال الجهاد قوي البدن قوي العزيمة، فالأفضل أن يخرج ويجاهد، وأما رجل ثالث لا يقوى على هذا ولا على هذا لكنه عنده إقناع وأسلوب في الدعوة والموعظة؛ يجلب القلوب ببيانه وموعظته، ويرقق القلوب ويدمع العيون، فنقول لهذا: تجوَّل وادع الناس في البلاد؛ لأن بلادنا محتاجة إلى طلبة علم ودعاة ليفقهوا الناس ويعلموهم، فإن كثيراً من أطراف البلاد -كما بلغنا- عندهم جهل كثير وهم يحتاجون إلى طلبة علم يعلمونهم.
فلقد سافر بعض الطلبة في الإجازة الربيعية إلى جهة الجنوب، ففرح الناس بذلك فرحاً عظيماً -بهؤلاء الطلبة- وصاروا يلاحقونهم في كل مكان، يتلقون منهم ويأخذون منهم، هذا وهم طلبة، فكيف إذا ذهب من هو أعلى منهم شأناً؟ سيكون له فائدة كبيرة بلا شك.
أما بالنسبة للشباب فإني أنصح الشباب أن يحرصوا على حفظ أوقاتهم وألا يتعودوا على الكسل والخمول، وأن يلزموا أهل الخير الذين يوجهونهم توجيهاً سليماً ويحفظون عليهم دينهم وأخلاقهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل الجليس الصالح كحامل المسك، إما أن يحذيك أو يبيعك أو تجد منه ريحاً طيباً، ومثل الجليس السوء كنافخ الكير؛ إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه رائحة خبيثة) ويروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل) .
فنصيحتي للشباب أن يحرصوا على أن يصطحبوا أهل الخير وأهل العقول وأهل التأني والتروي، وليحذروا من قرناء السوء، فإن قرناء السوء كالنار تحرق الثوب شيئاً فشيئاً حتى تأتي إلى الجسد فتأكله، وعليهم أن يلتحقوا بالمراكز الصيفية التي يقوم عليها رجال مأمنون ديناً وخلقاً وفكراً وتوجيهاً، أو يلتحقوا بحلقات تحفيظ القرآن لعلهم في هذه الإجازة يحفظون شيئاً من كتاب الله، فإن أفضل كتاب وأحق كتاب بالعناية هو كتاب الله عز وجل، ونسأل الله للجميع التوفيق، وأن يجعلنا ممن حفظ أوقاته فيما يرضي الله عز وجل.(29/19)
أقسام استعمال (لو)
السؤال
فضيلة الشيخ: هل كلمة (لو) أو (لولا) جائزة مطلقاً أم ممنوعة مطلقاً أم هناك تفصيل، خصوصاً أنها قد وردت بعض الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على الجواز وبعض الأخبار تدل على عدم ذلك؟
الجواب
استعمال (لو) أو (لولا) على أقسام: القسم الأول: أن تكون لمجرد الخبر، فهذه لا بأس بها ولا حرج فيها، مثل أن تقول: لولا أني مشغول لزرتك، وهذه ليس فيها شيء إطلاقاً؛ لأنها مجرد خبر، إن كان صدقاً فهو صدق وبر، وإن كان كذباً فله أحكام الكذب.
القسم الثاني: أن تكون للتمنّي، فهذه حسب ما يتمنّاه الإنسان، إن تمنى خيراً فخير، وإن تمنى شراً فشر، ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل الفقير الذي قال: لو عندي ما لفلان لعملت به مثلما عمل، وكان فلان يعمل بماله في الخير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فهو بنيته فهما في الأجر سواء) والثاني قال: لو أن لي ما لفلان لعملت به مثلما عمل فلان، وكان فلان يعمل في ماله بالشر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فهو بنيته فوزرهما سواء) .
القسم الثالث: أن تكون للندم على ما فات وللتحسر، فهذه منهي عنها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان) فهذه أقسام (لو) كما رأيت.(29/20)
أقسام إسناد الشيء إلى سببه
السؤال
فضيلة الشيخ: هل إسناد الأمور إلى الأسباب شرك مطلقاً أم هناك تفصيل؟
الجواب
إسناد الشيء إلى سببه ينقسم إلى أقسام: الأول: قسم يكون شركاً أكبر، مثل أن يقول: لولا الولي فلان لهلكت، والولي فلان مدفون مقبور لا ينفع أحداً شيئاً، ولا يصدر هذا القول إلا من شخص يعتقد أن للولي المدفون تصرفاً في الكون، فيكون شركاً أكبر مخرجاً عن الملة.
الثاني: جائز، وهو أن يضيف الشيء إلى سببه المعلوم شرعاً أو المعلوم حِساً، فهذا جائز لا بأس به، مثل أن تقول: لولا أن فلاناً توضأ لم تصح صلاته، هذا صحيح وواقع لو لم يتوضأ لم تصح صلاته، هذا السبب الشرعي.
ومثال السبب الحسي: أن يدخل رجل في بئر فيخرجه رجل آخر فيقول: لولا فلان أخرجني لهلكت، هذا أيضاً صحيح، لكن لا يعتقد أن فلاناً هو الذي استقل بإخراجه لكن يسره الله له فأنقذه.
ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب حيث أُخبر أن عمه أبا طالب في ضحضاح من النار، وعليه نعلان يغلي منهما دماغه، قال صلى الله عليه وسلم: (ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) وهو كثير في كلام العلماء إضافة الشيء إلى سببه المعلوم حساً أو شرعاً.
الثالث: أن يضيفه إلى السبب مع الله مقروناً بالواو، فهذا لا يجوز؛ بل هو من الشرك لكنه شرك أصغر، إلا أن يعتقد أن الثاني الذي مع الله له تصرف كتصرف الله فهذا شرك أكبر، مثل أن يقول: لولا الله وفلان لحصل كذا وكذا، فهذا لا يجوز حتى وهو يعتقد أن الله فوق كل شيء، بل يقول: لولا الله ثم فلان، أما إن اعتقد أن الله وفلاناً سواء في التأثير فهذا شرك أكبر.
وأهم شيء في هذا التقسيم الثلاثي أن الإنسان إذا قال: لولا كذا لكان كذا، إذا كان خبراً فإنه لا بأس، أو إذا كان مستنداً إلى سببٍ صحيح فإنه لا بأس بذلك.(29/21)
حكم من نوى الفطر في نهار رمضان
السؤال
فضيلة الشيخ: رجل مسافر وصائم في رمضان، نوى الفطر ثم لم يجد ما يفطر به، ثم عدل عن نيته وأكمل الصوم إلى المغرب فما صحة صومه؟
الجواب
صومه غير صحيح ويجب عليه القضاء؛ لأنه عندما نوى الفطر أفطر، أما لو قال: إن وجدت ماءً شربت وإلا فأنا على صومي ولم يجد الماء فهذا صومه صحيح؛ لأنه لم يقطع النية ولكنه علّق الفطر على وجود الشيء، ولم يوجد الشيء فبقي على نيته الأولى.
السائل: كيف نرد على من يقول: إنه لم يقل أحد من العلماء: إن النية من المفطرات؟ الجواب: نقول للذي قال هذا: إنه لا يعرف عن كتب أهل العلم شيئاً -كتب أهل العلم في الفقه والمختصرات- ففي زاد المستقنع يقول: ومن نوى الإفطار أفطر.
وأنا يا إخواني أحذركم من غير العلماء الراسخين المعروفين بالتقدم في العلم، وأحذركم منهم إذا قالوا، فلم يعلم قائلاً بذلك، أو لم يقل أحد بذلك؛ لأنهم قد يكونون صادقين؛ لأنهم لا يعرفون كتب أهل العلم ولم يطالعوها، ولا يعرفون عنها شيئاً، فلذلك هذا الذي تقول: إنه لم يقل أحد بذلك مع إنه في مختصرات الفقه: (من نوى الإفطار أفطر) ، ثم لو فرضنا إنه لم يوجد في كتب أهل العلم أليس النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات) ؟ بلى، قال ذلك، فإذا كان يقول: (إنما الأعمال بالنيات) وهذا الرجل نوى الإفطار هل يفطر؟ نعم.
يفطر.(29/22)
حكم الأذان لمن فاتته الصلاة
السؤال
هناك سؤال وُجه إلى أحد العلماء عن حكم أذان من فاتته الصلاة، يقول: إنه واجب؛ لأنه ثبت في حديث المسيء صلاته أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالأذان ثم الإقامة، والأمر للوجوب ولم يصرفه صارف فما حكم ذلك؟
الجواب
نقول له: أولاً: أثبت ما ادعيت أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر المسيء في صلاته أن يؤذن ويقيم.
ثانياً: إذا ثبت أنه أمره بذلك فإنا نقول: لعل الرسول صلى الله عليه وسلم أمره بذلك؛ لأن هذا الرجل قدم المدينة بعد أن أذّن الناس ولم يسمع الأذان، وقد كان بعيداً في البر مثلاً، ونحن نقول: إذا كان الإنسان وصل إلى المدينة وكان الأذان قد حصل وهو في البر ولم يسمع الأذان وليس في بلد حتى نقول: أذان الناس يكفيه فهذا نأمره بأنه إذا جاء فدخل المسجد أن يؤذن لكن أذاناً خفيفاً لا يسمعه إلا من معه فقط لئلا يشوش.
وأما إذا كان في البلد فإن أذان الناس يكفيه، ودليل هذا: الرجل الذي دخل والنبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه وقال: (من يتصدق على هذا فيصلي معه) لم يؤذن ولم يأمره بالأذان.
والحاصل أن نقول: إذا جاء الإنسان وقد فاتته الصلاة فإن كان في البلد فأذان المسلمين يكفيه؛ لأن الأذان إعلام بدخول وقت الصلاة وقد حصل، وإن كان خارج البلد كمسافر قدم البلد ووجد الناس قد صلوا فهنا نقول: يشرع أن يؤذن، لكن الأذان يكون بقدر ما يسمعه من معه لئلا يشوش على الناس.
وأما الإقامة فهي سنة حتى لمن فاتته الصلاة وهو في البلد؛ لأن الإقامة إعلام بقيام الصلاة، فكل من أراد الصلاة المفروضة فإنه يقيم.
وإلى هنا انتهى المجلس بحلول الأذان ونحن الآن نتكلم عن الأذان، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.(29/23)
لقاء الباب المفتوح [30]
فسَّر الشيخ رحمه الله آخر الآيات في سورة المطففين، حيث بيَّن النعم العميمة والعطايا الجزيلة التي يجدها الأبرار في دار القرار، وكما ضحك الكفار من المؤمنين في الدنيا؛ فكذلك المؤمنون يضحكون من الكفار في الآخرة، وإنما العبرة بالخواتيم.
ثم أجاب الشيخ بعد ذلك عن الأسئلة التي طرحت عليه.(30/1)
تفسير الآيات الأخيرة من سورة المطففين
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإننا في هذا اليوم الخميس الخامس والعشرين من شهر المحرم عام (1414هـ) نختتم اللقاءات في هذا الشهر؛ لأن هذا اللقاء هو الرابع في هذا الشهر.(30/2)
تفسير قوله تعالى: (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ)
قال الله تعالى: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:25-26] الضمير في قوله: (يسقون) يعني: الأبرار، يسقيهم الله عز وجل بأيدي الخدم الذين وصفهم الله بقوله: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة:17] * {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ} [الواقعة:18-19] .
فقوله: (يسقون من رحيق) أي: من شراب خالص لا شوب فيه ولا ضرر على العقل، لا يسبب ألماً في الرأس، بخلاف شراب الدنيا، فإنه يغتال العقل ويصدع الرأس.
أما هذا فإنه رحيق خالص ليس فيه أي أذى (ختامه) أي: بقيته وآخره، (مسك) أي: طيب الريح، بخلاف خمر الدنيا فإنه خبيث الرائحة، فهؤلاء القوم الأبرار لما حبسوا أنفسهم عن الملاذ التي حرمها الله عليهم في الدنيا أُعطوها يوم القيامة.
{وَفِي ذَلِكَ} [المطففين:26] أي: وفي هذا الثواب والجزاء، {فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] أي: فليتسابق المتسابقون سباقاً يصل بهم إلى حد المنافسة، وهو كناية عن السرعة في المسابقة، يُقال: نافسته، أي: سابقته سباقاً بلغ بي النفس، والمنافسة في الخير هي: المسابقة إلى طاعة الله عز وجل وإلى ما يرضي الله سبحانه وتعالى، والبعد عما يسخط الله.(30/3)
تفسير قوله تعالى: (وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ)
ثم قال الله عز وجل: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:27-28] مزاج هذا الشراب الذي يُسقاه هؤلاء الأبرار (من تسنيم) ، أي: من عينٍ رفيعة حساً؛ وذلك لأن (أنهار الجنة تفجر من الفردوس؛ والفردوس هو أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وفوقه عرش الرب عز وجل) كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الشراب يمزج بهذا الطيب الذي يأتي من التسنيم؛ أي: من المكان المسنّم الرفيع العالي، وهو جنة عدن.
وقوله تعالى: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:28] أي: أن هذه العين والمياه النابعة والأنهار الجارية يشرب بها المقربون.
وهنا سيقول قائل: لماذا قال: (يشرب بها) ؟ هل هي إناء يحمل حتى يقال: شرب بالإناء؟
الجواب
لا.
لأن العين والنهر لا يُحمل، إذاً لماذا لم يقل: يشرب منها المقربون؟ والجواب عن هذا الإشكال من أحد وجهين: الوجه الأول: فمن العلماء من قال: إن (الباء) بمعنى (من) فمعنى (يشرب بها) ، أي: يشرب منها.
الوجه الثاني: ومنهم من قال: إن يشرب ضُمنت معنى يروى، فمعنى (يشرب بها) أي: يُروى بها المقربون، وهذا الوجه أحسن من الوجه الذي قبله؛ لأن هذا الوجه يتضمن شيئين يرجحانه وهما: أولاً: إبقاء حرف الجر على معناه الأصلي.
ثانياً: أن الفعل (يشرب) ضُمِّن معنىً أعلى من الشرب وهو الريُّ.
فكم من إنسان يشرب ولا يروى، لكن إذا روى فقد شرب، وعلى هذا فالوجه الثاني أحسن وهو أن يُضمن الفعل (يشرب) معنى يروى.(30/4)
تفسير قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا)
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:29] (إن الذين أجرموا) أي: قاموا بالجرم وهو المعصية والمخالفة، (كانوا) أي: في الدنيا، من الذين آمنوا يضحكون استهزاءً وسخريةً واستصغاراً لهم.
{وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين:30] (وإذا مروا) الفاعل هل هم الذين أجرموا؟ أو الذين آمنوا؟ الآية تصلح لهذا وهذا، يصلح أن نقول: إذا مرَّ المؤمنون بالمجرمين، أو إذا مرَّ المجرمون بالمؤمنين.
والقاعدة التي ينبغي أن تفهم في التفسير: أن الآية إذا احتملت معنيين لا ينافي أحدهما الآخر وجب حملها على المعنيين؛ لأن ذلك أَعَمَّ، فإذا جعلنا الآية للأمرين كان المعنى: أن المجرمين إذا مروا بالمؤمنين وهم جلوس تغامزوا، وإذا مر المؤمنون بالمجرمين وهم جلوس تغامزوا أيضاً، فتكون شاملة للحالين، حال مرور المجرمين بالمؤمنين، وحال مرور المؤمنين بالمجرمين.
(يتغامزون) أي: يغمز بعضهم بعضاً، يقولون: انظر إلى هؤلاء سخريةً واستهزاءً واستصغاراً.
وقال تعالى: {وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين:31] إذا انقلب المجرمون إلى أهلهم (انقلبوا فكهين) يعني: متفكهين بما نالوه من السخرية من هؤلاء المؤمنين، فهم يستهزئون ويسخرون ويتفكهون بهذا ظناً منهم أنهم نجحوا وأنهم غلبوا المؤمنين ولكن الأمر بالعكس.
ثم قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين:32] (إذا رأوهم) أي: رأى المجرمون المؤمنين {قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين:32] ضالون عن الصواب، متأخرون، متزمتون، متشددون، إلى غير ذلك من الألقاب.
ولقد كان لهؤلاء السلف خلفٌ في زماننا اليوم وما قبله وما بعده، فمن الناس من يقول عن أهل الخير: إنهم رجعيون، إنهم متخلفون، ويقولون عن الملتزم: إنه متشدد متزمّت، وفوق هذا كله من قالوا للرسل: إنهم سحرة أو مجانين، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:52] فورثة الرسل من أهل العلم والدين سينالهم من أعداء الرسل ما نال الرسل؛ من ألقاب السوء والسخرية وما أشبه ذلك، ومن هذا تلقيب أهل البدع والتعطيل لأهل الإثبات من السلف بأنهم حَشوَّية، مُجسِّمة، مُشبِّهة، وما أشبه ذلك من ألقاب السوء التي ينفرون بها الناس عن الطريق السوي.
ثم قال تعالى: {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين:33] أي: أن هؤلاء المجرمين ما بعثوا حافظين لهؤلاء يرقبونهم ويحكمون عليهم بل الحكم لله عز وجل.(30/5)
تفسير قوله تعالى: (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا)
ثم قال تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين:34] (اليوم) يعني: يوم القيامة، الذين آمنوا يضحكون من الكفار، (فالذين) مبتدأ و (يضحكون) خبره و (من الكفار) متعلق بـ (يضحكون) والمعنى: فالذين آمنوا يضحكون اليوم من الكفار، وهذا والله هو الضحك الذي لا بكاء بعده، أما ضحك المجرمين من المؤمنين في الدنيا فسيعقبه البكاء والحزن والويل والثبور.
{عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين:35] أي: أن المؤمنين على الأرائك في الجنة، و (الأرائك) : هي السرر الفخمة الحسنة النظرة (ينظرون) أي: ينظرون ما أعد الله لهم من الثواب، وينظرون أولئك الذين يسخرون منهم في الدنيا، كما قال الله تعالى: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصافات:51-54] يقول لأصحابه في الجنة ويعرض عليهم أن يطلع كل إلى قرينه الذي كان في الدنيا ينكر البعث ويكذب به {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:55] في قعره وأصله، قال له: {تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:56-57] .
فأنت ترى الآن أن المؤمنين يرون الكفار وهم يعذبون في قعر النار، والمؤمنون في الجنة، قال: {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين:35] إذاً ينظرون شيئين: الشيء الأول: ما أعد الله لهم من النعيم، ومنه النظر إلى وجه الله عز وجل.
والثاني: ينظرون إلى هؤلاء المكذبين الذين كانوا في الدنيا يسخرون منهم ويستهزئون بهم، ينظرون إليهم وهم في عذاب الله.
ثم قال تعالى: {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:36] (ثوب) أي: جوزي، و (هل) هنا للتقرير، أي: أن الله تعالى قد ثوب الكفار وجازاهم جزاء فعلهم في الدنيا، وهو سبحانه وتعالى حكمٌ عدل، فحكمه دائرٌ بين العدل والفضل؛ بالنسبة للذين آمنوا حكمه وجزاؤه فضل، وبالنسبة للكافرين حكمه وجزاؤه عدل، فالحمد لله رب العالمين.
وبهذا يتم الكلام الذي يسره الله عز وجل على سورة المطففين، نسأل الله تعالى أن ينفعنا وإياكم به، وأن يجعلنا من المتعظين الواعظين إنه جواد كريم.(30/6)
الأسئلة
.(30/7)
حكم قراءة الإمام جزءاً من السورة في الصلاة
السؤال
فضيلة الشيخ: هل يجوز للإمام أن يقرأ بعض السورة أثناء الصلاة الجهرية؟
الجواب
نعم.
يجوز أن يقرأ المصلي سورة كاملة أو بعض سورة، سواء كان هذا البعض من أولها أو وسطها أو آخرها، لعموم قوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل:20] وعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأ ما تيسر معك من القرآن) لكن الأفضل أن يقرأ سورة كاملة؛ لأن هذا هو الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه حين قال له: (هَلاَّ قرأت {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1] ، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:1] ، و {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] ) وما أشبه ذلك، ولهذا قال العلماء: ينبغي أن يقرأ سورة تكون في الفجر من طوال المفصل، وفي المغرب من قصاره، وفي الباقي من أوساطه، وطوال المفصل من (ق) إلى (عم) وقصاره من (الضحى) إلى آخر القرآن، وأوساطه من (عم) إلى (الضحى) .
هذا هو الأفضل، وإن قرأ في المغرب بطواله أحياناً فهذا من السنّة، فإنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ فيها بالطور، وقرأ فيها بالمرسلات، وقرأ فيها بسورة الأعراف، لكن الغالب أن يقرأ من قصاره يعني: ينبغي أن تكون قراءته غالباً كما وصفنا؛ في الفجر من طوال المفصل، وفي المغرب من قصاره، وفي الباقي من أوساطه، وإن قرأ آيات من سورة فلا حرج؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (قرأ في ركعتي الفجر في الأولى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ.
) [البقرة:136] وفي الركعة الثانية: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} [آل عمران:64] ) لكن كون الإنسان لا يقرأ السورة كلها إلا نادراً كما يوجد عند بعض الأئمة؛ لا تكاد تسمعه يقرأ سورة كاملة بل دائماً يقرأ آيات من السورة، وهذا لا شك أنه خلاف السنة.(30/8)
حكم رمي جمرة العقبة بست حصوات
السؤال
فضيلة الشيخ: حاج رمى جمرة العقبة بست وفي اليوم الثاني عشر، ثم سأل فقال له من سأله: تعيد رمي جمرة العقبة، وتعيد الرمي في اليوم الحادي عشر ثم رمي الثاني عشر، ولكنه سأل آخر فقال له: يكفيك رمي جمرة العقبة بست، فاختار الأسهل فهل الترتيب واجب؟ وماذا عليه؟
الجواب
أما الذي أفتاه أولاً وقال له: ارم جمرة العقبة ليوم العيد ثم ارم ثلاث جمرات يوم الحادي عشر ثم ارم الجمرات الثلاث للثاني عشر، فقد سار على ما هو مشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله وهو: أنه لا بد من الترتيب، ولكن القول الراجح ما أفتاه به الآخر: وهو أنه يُعفى عن نقص الحصاة، فقد ذُكر أن الصحابة رضي الله عنهم كان بعضهم يرمي بست وبعضهم يرمي بسبع ولم ينكر أحد على الآخر، لاسيما لو تركها نسياناً، فالصحيح بأن رمي الست مجزئ.(30/9)
حكم قول: (بلى) بعد الآيات التي فيها استفهام
السؤال
فضيلة الشيخ: هل يقال بعد: {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:36] دعاء أم لا؟ والآيات الأخرى كذلك كقوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36] ؟
الجواب
يختلف الحكم بين {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:36] وبين {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] فالأولى تقرير، فـ (هل) فيها بمعنى قد، أما {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] و {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين:8] و {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:40] ، فهذا استفهام يحتاج إلى جواب، فإذا قلت: (بلى) فلا بأس، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال بعد قوله تعالى: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:40] قال: (سبحانك فبلى) فإذا أجاب الإنسان على الاستفهام وقال: (بلى) ، فلا بأس.(30/10)
مسألة: رؤية الله تعالى في المنام
السؤال
فضيلة الشيخ: بالنسبة لرؤية الله عز وجل في المنام، هل يصح القول بأن الرؤية يمكن أن تقع لأي مؤمن من المؤمنين؟
الجواب
رؤية الله تعالى في المنام في الدنيا -أما في الآخرة فليس هناك نوم- هذه جاءت في حديث اختصام الملأ الأعلى الذي أخرجه أهل السنن (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه في المنام) ورؤية الله لغير النبي صلى الله عليه وسلم لا أعلم أنها ثابتة ولا أدري هل تقع أم لا؟ لكنه قد ذكر أن الإمام أحمد رحمه الله رأى ربه في المنام، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الإنسان قد يرى ربه في المنام، وذلك بأن الله سبحانه وتعالى يضرب له مثلاً بحسب تمسكه بالدين، يراه رؤية حسنة يكون في ذلك مساعدة له على التمسك بالدين والاستمرار على ما هو عليه، فالله أعلم.
أنا أتوقف في أن الإنسان يرى ربه في المنام رؤيةً حقيقة، أما إذا كان الله تعالى يضرب له مثلاً يبين له تمسكه بدينه فهذا شيءٌ ليس بغريب.(30/11)
ضابط المعصية التي بها يصبح الفاعل فاسقاً
السؤال
هل المعصية الواحدة تجعل الإنسان فاسقاً؟ وهل هناك فرق بين المعصية الظاهرة مثل حلق اللحية وغيرها؟
الجواب
المعروف عند أهل العلم أن الكبيرة الواحدة تجعل الفاعل فاسقاً ما لم يتب منها، وأما الصغيرة فلا تجعله فاسقاً إلا إذا أصر وداوم عليها، فحلق اللحية -مثلاً- قد يكون بذلك فاسقاً؛ لأن إصراره على الصغيرة دليل على تهاونه بالرب عز وجل، وبأوامره أو نواهيه، وهذه كبيرة بالنسبة للقلب، ولهذا لا يبعد أن تكون الصغيرة الواحدة كبيرة إذا فعلها الإنسان استخفافاً بحكم الله عز وجل وعدم المبالاة، لا لهوىً نفسيٍ أوجب له أن يفعل ذلك، فقد تكون الصغيرة كبيرة.
قال بعض العلماء: وقد تكون الكبيرة صغيرة إذا قام بقلب الإنسان الحياء من الله عز وجل والخجل حال الفعل، ولكن نفسه الأمارة بالسوء ألجأته إلى الفعل، وهذا قد يكون فيه نظر، إنما كون الصغيرة تكون كبيرة بحسب ما قام بالقلب من التهاون بها فهذا ليس ببعيد، ولكن يبقى النظر فيما يترتب على فسقه؟ هل يترتب على ذلك أن نرد شهادته، أو أن نمنع إمامته، أو أن نمنع ولايته، وما أشبه ذلك؟ هذا محل خلاف بين العلماء، فبعض العلماء يقول: إن الإنسان إذا فسق سقطت ولايته حتى إنه لا يُزوج ابنته، ولا يكون إماماً في الجماعة، ولا تقبل شهادته، ولكن في هذا نظر؛ لأننا لو أخذنا بهذا القول لم نجد من الناس صالحاً للشهادة والولاية والإمامة إلا نادراً، وسوف أضرب لكم مثلاً بغير اللحية؛ اللحية قد يكون كثيرٌ من الناس يعفي لحيته ولا يتناولها بسوء لكن الغيبة قل من يسلم منها، وهي من كبائر الذنوب، إذا فعلها الإنسان مرة فقط ولم يتب كان بذلك فاسقاً تسقط عدالته، فلو أننا أخذنا بهذا القول بأن الفاسق لا يكون ولياً ولا إماماً ولا شاهداً ولا قاضياً فإن الأمر يكون مشكلاً جداً؛ لأنه قل أن يسلم أحدٌ من الغيبة، حتى الملتزمون إذا كانوا في مجالسهم ربما يغتابون، وقد يُسلط الملتزمون -مع الأسف- على اغتياب من غيبته أشد وأعظم، قد يُسلط هؤلاء الملتزمون على اغتياب العلماء والدعاة والأمراء والسلطان، واغتياب هؤلاء وغيرهم من ولاة الأمور ولو قلت ولايتهم -كمدير مدرسة مثلاً- أعظم من اغتياب عامة الناس، ويتضح ذلك بأننا إذا اغتبنا العلماء -مثلاً- قلّت ثقة الناس بهم، وإذا قلّت الثقة من الناس بهم؛ قل قبول الناس لما يقولون من شرع الله، وهذا خطر عظيم.
إذا اغتبنا الأمراء أو السلطان قلّت هيبة الناس لهم، وسهل التمرد عليهم وعصيانهم، وهذا إخلالٌ كبير بالأمن، ولذلك كانت غيبة ولاة الأمر من العلماء والأمراء أعظم من غيبة عامة الناس؛ لأن غيبة عامة الناس إن حصل فيها مفسدة فإنما تكون للشخص نفسه فقط؛ لأنه ليس قاعدة ولا قدوةً في شيء.
فالحاصل أن القول بأن الفاسق تسقط إمامته وولايته وشهادته قولٌ ضعيف، نعم.
لو فرض أن رد شهادته أو منع ولايته أو عزله عن الإمامة يحصل به فائدة له ولغيره، بحيث ينتهي عن المعصية وينزجر غيره لكان منعه من ذلك متوجهاً، ويكون هذا من باب التعزير بالعزل عن الولايات، والتعزير بالعزل عن الولايات سائغٌ شرعاً، فقد روي (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في قبلة المسجد وكانت من الإمام فعزل الإمام) وهذه العقوبة أصل في العزل عن الولايات والوظائف وما أشبه ذلك.(30/12)
حكم المداومة والاجتماع على دعاء معين
السؤال
بعض الناس لهم ورد دعاء يلتزمون به صباحاً ومساءً، بأن يدعو أحدهم ويؤمّن الباقون على هذا الدعاء بصوت مرتفع، ويسمى ورد الرابطة، ونصه هو: (اللهم إنك تعلم أن هذه القلوب قد اجتمعت على محبتك، والتقت على طاعتك، وتوحدت على دعوتك؛ فوثق اللهم رابطتها، وأدم ودها، واهدها سبلها، واملأها بنورك الذي لا يخبو، واشرح صدورها بفيض الإيمان بك وجميل التوكل عليك، وأحيها بمعرفتك، وأمِتها على الشهادة في سبيلك، إنك نعم المولى ونعم النصير) فما حكم هذا؟
الجواب
هذا الدعاء لا بأس به، دعاءٌ لا ينافي ما جاءت به السنة، وإن كان بلفظه لم يرد، لكن معناه صحيح، وأما الاجتماع عليه أو على غيره من الأدعية الواردة عن النبي عليه الصلاة والسلام واتخاذ ذلك راتبة بعد كل صلاة أو بعد صلاة الفجر، أو بعد صلاة المغرب بدعة؛ لأن هذا لم يفعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الصحابة، وكل عبادةٍ يتعبد بها الإنسان لم تُفعل في عهد النبي عليه الصلاة والسلام ولا في عهد أصحابه فإنها بدعة، وكل بدعةٌ ضلالة، فيُنهى عن ذلك ويقال: بدلاً من أن تجتمعوا على هذا الدعاء بصوتٍ مرتفع وتؤمّنوا عليه؛ كل أحد منكم يدعو لنفسه بما تيسر، مع أن الأفضل أن يكون الدعاء ليس بعد السلام بل قبل السلام؛ لأن ما بعد السلام ذكر، وليس دعاء، قال الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [النساء:103] ؟ وأما الدعاء فقال النبي عليه الصلاة والسلام في حديث ابن مسعود رضي الله عنه لما ذكر التشهد، قال: (ثم ليتخير من الدعاء ما أحب) فجعل النبي عليه الصلاة والسلام الدعاء بعد الفراغ من التشهد وقبل السلام، وجعل الله عز وجل بعد السلام الذكر ولم يذكر الدعاء.(30/13)
حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره
السؤال
فضيلة الشيخ: ما حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عموماً والصلاة عليه في التشهد الأخير وفي خطبة الجمعة؟
الجواب
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ركن من أركان الصلاة في التشهد الأخير عند كثير من أهل العلم لا تصح الصلاة إلا بها، أما في غير الصلاة فتجب الصلاة عليه إذا ذُكر اسمه، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (رغم أنف امرئٍ ذكرت عنده فلم يصلِّ عليك، قل: آمين، فقال: آمين) فيجب على الإنسان إذا سمع ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: صلى الله عليه وسلم.
أما في خطبة الجمعة فقد ذكر بعض العلماء أن من شرط صحة الخطبة أن يصلي الخطيب على النبي صلى الله عليه وسلم وقال بعض العلماء: إن ذلك سنة وليس شرطاً لصحة الخطبة.(30/14)
حكم تمثيل دور الصحابة والأئمة
السؤال
فضيلة الشيخ: ما حكم التمثيل بالصحابة والتابعين وما يحصل في المراكز الصيفية؟
الجواب
أرى أن التمثيل بالصحابة والأئمة من التابعين وغيرهم لا يجوز؛ لأن ذلك يؤدي إلى ازدرائهم واحتقارهم، لاسيما إن كان القائم بالتمثيل ممن ليس من أهل الصلاة كشخص حليق مثلاً، يجعل على نفسه لحية -كذباً- ويمثل أحداً من هؤلاء، فإن هذا لا يجوز.
والذي ينبغي هو تجنب التمثيل كله، لكن إذا كان التمثيل لا يشتمل على محرم وهو في علاج مشكلة من المشاكل فأرجو ألا يكون في ذلك بأس، أما إذا اشتمل على شيء محرم من كذب أو نحوه فإن ذلك لا يجوز، وقد جاء في الحديث: (ويل لمن حدث فكذب ليضحك به القوم، ويل له ثم ويل له) .(30/15)
حكم الدعاء بعد تكبيرة الإمام
السؤال
فضيلة الشيخ: هل ورد دعاء بعد تكبير الإمام تكبيرة الإحرام؛ لأني أرى بعض الناس يدعون بعد تكبيرة الإمام وربما دعوا بقول الله تعالى: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم:40] وهل هذا الدعاء يجوز؟
الجواب
لا يشرع الدعاء بعد تكبيرة الإحرام من الإمام، بل السنة إذا كبر الإمام أن تبادر وتكبر حتى تدرك فضل تكبيرة الإحرام، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا كبر فكبروا) والفاء تدل على الترتيب والتعقيب، يعني: من حين أن يكبر وينقطع صوته من الراء بقوله: (الله أكبر) فكبر أنت ولا تشتغل لا بدعاء ولا بتسوك ولا بمخاطبة من بجانبك، فإن هذا يفوت عليك إدراك فضل تكبيرة الإحرام، وأما الدعاء بقوله: (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي) فهذا من دعاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وليس بمشروط، لكن إن دعا به فلا بأس به ما لم يفوت عليه فضل تكبيرة الإحرام.(30/16)
كتاب (الحصن الحصين) في الميزان
السؤال
فضيلة الشيخ: أثناء تأدية الامتحان -يحفظكم الله- وجدت في جيب أحد الطلاب كتيباً يدعى (الحصن الحصين) هذا الكتاب يمنع شرور الإنس والجن ويحمي الحاضر، وإذا وضع في أحد المحلات التجارية فإنه يزيد الرزق على صاحب هذا المحل، ما رأي فضيلتكم في هذا؟
الجواب
رأيي أن ذلك لا يثبت ولا يصح، وكتاب الحصن الحصين يحتاج إلى النظر فيه وما يحتويه من الأدعية، فهو يشتمل على أدعية غير صحيحة، فالاعتماد عليه لا يصح.(30/17)
كفارة من اغتاب غيره
السؤال
فضيلة الشيخ: ما كفارة الغيبة، وهل يكفي الدعاء لمن اغتيب؟
الجواب
كفارة الغيبة إن علم صاحبك فاذهب إليه واستسمح منه، وإن لم يعلم فكفارة ذلك أن تستغفر له، وأن تذكر صفاته الحميدة في المجلس الذي اغتبته فيه؛ لأن الحسنات يذهبن السيئات.(30/18)
جواز ائتمام المتنفل بالمفترض
السؤال
فضيلة الشيخ: أمَّ متنفل مفترضاً، وكانت الفائتة لهذا المفترض أربع ركعات، فقام فصلى به ركعتين إماماً وسلم من الركعتين، ثم قام المفترض وأكمل الصلاة رباعية فما حكم ذلك؟
الجواب
لا حرج أن يكون المتنفل إماماً للمفترض، ولا حرج أيضاً أن يصلي المتنفل ركعتين ثم يسلم وبعد سلامه يكمل المفترض ما بقي من صلاة الفرض؛ لأن معاذ بن جبل رضي الله عنه كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم نفس الصلاة؛ فهي له نافلة ولهم فريضة.(30/19)
حكم الزكاة على من رغب عن شيء من ملكه ثم عرضه للبيع
السؤال
فضيلة الشيخ: اشترى شخص قطعة أرض كي يبني عليها منزلاً له، وبعد فترة غير رأيه وقرر أن يبيع هذه الأرض ولم تبع إلا بعد سنوات، فهل عليه زكاة عن هذه الأرض التي بقيت في ملكه عدة سنوات، مع العلم أنه اشترى قطعة أخرى وسيبني بمال الأرض الأولى منزله؟
الجواب
ليس عليه زكاة في ذلك فلو أن الإنسان رغب عن شيء من ملكه من أرض أو سيارة أو غير ذلك وعرضها للبيع وبقيت فلم يشترها أحد لمدة سنة أو سنتين أو أكثر فليس عليه في ذلك زكاة؛ لأن هذا ليس تجارة، والزكاة إنما تجب في التجارة، في الرجل الذي يبادل السلع لطلب الربح، أما هذا فلم يطلب ربحاً ولكنه زالت رغبته عن هذه الأرض فأراد بيعها، فليس عليه زكاة ولو بقيت عدة سنوات.
السائل: لكن لو باعها بربح؟ الشيخ: ولو باعها بربح، لكن إذا باعها وبقيت الدراهم عنده حتى أتمت السنة ففيها الزكاة، زكاة الدراهم.(30/20)
حكم الخطبة بعد صلاة الجنازة
السؤال
فضيلة الشيخ: رأيت في إحدى الدول الإسلامية في صلاة الجنازة أن الإمام يسلم تسليمتين، وبعد السلام يقوم ويخطب بالمصلين بأن الموت سيأتي لكل واحد منهم ويذكرهم بهذا الشيء، هل هذا له أصل؟
الجواب
أما التسليم مرتين في صلاة الجنازة فقد ذهب إليه بعض أهل العلم، ولا حرج أن يسلم الإنسان مرتين.
أما الخطبة بعد ذلك قبل أن ترفع الجنازة أو الخطبة في المقبرة بالترغيب أو الترهيب فإن هذا ليس بسنة، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا فرغ من الصلاة على الجنازة قام فذكر الناس، ولا أنه قام في المقبرة فذكر الناس، وغاية ما ورد أنه صلى الله عليه وسلم أتى إلى البقيع وفيه قوم ينتظرون اللحد ليدفنوا ميتهم، فجلس وجلس الناس حوله، وجعل يذكرهم صلى الله عليه وسلم وهو جالس لا على سبيل الخطبة.
وكذلك كان صلى الله عليه وسلم ذات يوم في المقبرة أيضاً، فقال: (ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار! فقالوا: يا رسول الله، أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ قال: لا.
اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم تلا قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5-10] ) .
أما أن يقوم قائم ويخطب الناس هناك، فإن هذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا سمعناه أيضاً عن الخلفاء الراشدين أو عن أحد من الصحابة.(30/21)
حكم بيع الرجل ما ليس عنده بالتقسيط
السؤال
فضيلة الشيخ: تقدمت بطلب إلى إحدى الشركات لشراء سيارة بالتقسيط، فأبلغوني بقيمة القسط والدفعة الأولى، وأبلغوني أن السيارة إن لم تكن موجودة فسوف يشترونها ثم يبيعونها عليَّ بالتقسيط، وإذا زالت رغبتي فيها فلي الحق أن أتراجع عن شرائي ولكن بعد فترة، وأبلغوني بأن الأمر انتهى وكأنهم اشتروها، فسألتهم هل كتبت باسم الشركة فقالوا: لا.
إنما عليك الحضور وأخذ أوراقها وتسجيلها باسمك في المرور، وأخبروني بأنه قد تكون وصلت إلى معرض يتعاملون معه أو لم تصل بعد السيارة، فلا أدري هل هذه الطريقة شرعية أم لا؟ وما هي الطريقة الشرعية؟
الجواب
أولاً: إذا كانت السيارة ليست عند البائع ولكنه باعك سيارة بشرط أن يشتريها لك ثم يبيعها لك، فهذا حرام ولا يجوز، إلا إذا باعها منك برأس مالها فلا بأس؛ لأنه ليس هناك رباً إذا باعها برأس مالها.
أما إذا باعها منك بربح فإن هذا الربح ربا، لكنه ليس رباً صريحاً؛ بل هو رباً مغلفاً بصورة عقد ليس بمقصود؛ فإن البائع لم يقصد الشراء لنفسه من الأصل إنما قصد الشراء لك، فيكون كالذي أقرضك القيمة بزيادة، وهذا هو الربا بعينه.
وأما إذا كانت السلعة موجودة عند البائع وقال: هذه السيارة نحن نبيعها بأربعين ألفاً نقداً، وإذا كنت تريدها بالتقسيط فنحن نبيعها منك بخمسين ألفاً؛ فَقَبِل فلا بأس، إذا كنت ستستعمل السيارة.
أما إذا كنت تريد أن تبيعها للانتفاع بثمنها فهذه مسألة يسميها العلماء (مسألة التورق) وفيها خلاف بين العلماء، منهم من أجازها ومنهم من قال: إنها لا تجوز.
أما إذا لم تكن موجودة عندهم فهذا حرام ولا يجوز؛ لأن هذا من بيع ما لا يملك، ولأن شراءها شراء صوري ليس مقصوداً، وإنما المقصود ما يأخذونه من الربا، والدليل على ذلك أيضاً ما ذكرت أنهم يقولون: نكتبها باسمك من المعرض، ولا نكتبها باسمنا، وهذا واضح جداً أنهم ما أرادوها حتى لو كتبها البائع باسمه ثم نقلها إليك في نفس الشيء.
أما قول بعضهم: إني لا ألزمك بالسيارة إن شئت فاتركها، فهذا كلام فارغ؛ لأن الرجل لم يأت يقول: أريد سيارة بعينها ثم بعد ذلك يتراجع أبداً.
فالذي نرى أن هذه الطريقة حرام، وإذا أردت بدلها فاذهب إلى صاحب معرض عنده سيارات وقل له: أنا أريد أن تبيع لي هذه السيارة بخمسين ألفاً مقسطة، وآتي لك بكفيل يغرم لك الثمن عند حلول الأجل، وإن شئت أيضاً أرهن السيارة، وهكذا تسلم من هذه الحيل.(30/22)
حكم من اعترف بأنه استدان ثم ادعى أنه أوفى
السؤال
ما رأي فضيلتكم في رجل أعطى لآخر ديناً من مال فمضت مدة فذهب إليه ليسترد الدين، فقال له المدين: أعطيت لك دينك، واختلفا في ذلك، فما هو الحكم؟
الجواب
إذا اعترف بأنه استدان لكن أوفى صار عندنا اعتراف ودعوى؛ اعترف أن عليه ديناً وادعى أنه أوفاه، فنحن نأخذه باعترافه ولا نصدقه بدعواه إلا إذا جاء ببينة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة على المدعي) .(30/23)
معنى حديث: (وكلتا يديه يمين)
السؤال
فضيلة الشيخ: جاء في حديث وصف يده سبحانه وتعالى بأن كلتا يديه يمين، وجاء في حديث آخر في صحيح مسلم: (أن الله عز وجل يوم القيامة يقبض السماوات والأرض بيمينه وتبقى شماله فارغة) فكيف الجمع بين الحديثين؟
الجواب
ليس هذا نص الحديث وإنما نصه هكذا: (يقبض الله السماوات بيمينه والأرض بشماله) والجمع بين الحديثين واضح، أن الله تعالى له يمين وشمال، لكن كلتا اليدين يمين، أي: يُمن وخير وبركة، فلا يتوهم واهم أنه إذا كانت له يد شمال أن يده الشمال قاصرة كما هي في المخلوقين، فالخلق أشرفهم البشر، والشخص يده الشمال قاصرة عن يده اليمين، ولهذا نُهي الإنسان أن يأكل بشماله، أو يشرب بشماله، أو يأخذ بشماله، أو يعطي بشماله، فلما كان البشر هذه صفة اليد الشمال عندهم، رُفع هذا الوهم بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كلتا يديه يمين) .(30/24)
حكم عملية طفل الأنابيب أو التلقيح الصناعي
السؤال
ما حكم التلقيح الصناعي -طفل الأنابيب- وهو أخذ ماء الرجل فيوضع في رحم المرأة عن طريق أنابيب بواسطة طبيب أو طبيبة؟
الجواب
التلقيح الصناعي يقال: إنه يؤخذ ماء الرجل ويوضع في رحم المرأة عن طريق أنابيب (إبرة) وهذه المسألة خطيرة جداً، ومن الذي يأمن الطبيب أن يلقي نطفة في رحم زوجة أخرى؟ ولهذا نرى سد الباب، ولا نفتي به إلا في قضية معينة بحيث نعرف الرجل والمرأة والطبيب، وأما فتح الباب فيخشى منه الشر.
وليست المسألة هينة؛ لأنه لو حصل فيها غش لزم إدخال نسب في نسب وصارت الفوضى في الأنساب، وهذا مما يحرمه الشرع، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا توطأ ذات حمل حتى تضع) فأنا لا أفتي في ذلك، اللهم إلا أن ترد إلي قضية معينة أعرف فيها الزوج والمرأة والطبيب.(30/25)
حكم إرث اللقيط ممن التقطه
السؤال
سأل شخص السؤال التالي: بعد أن صليت الفجر وبينما أنا أمشي في طريقي إلى بيتي وجدت طفلاً مرمياً في الأرض فأخذته فرضع مع ابنتي ثم توفيت ابنتي إلى رحمة الله تعالى، فرضع هو بدلاً من ابنتي، فبعد ذلك كبر وعلمته وعمل في إحدى الأشغال أو في أحد المصانع، فهل يجوز أن ينال ميراثاً مني أم لا؟
الجواب
هذا لقيط وُجد في السوق فالتقطه الرجل ورضع من امرأته ورباه، فهل يرث من الرجل لو مات أو يرثه الرجل لو مات اللقيط؟ أكثر العلماء أنه لا توارث بينهما؛ لأن أسباب الإرث ثلاثة: القرابة، والزوجية، وولاء العتق، وهذا ليس منها، وعلى هذا فإذا مات اللقيط فإن ميراثه يكون لبيت المال يؤخذ ما وراءه من المال ويعطى لبيت المال الذي تتولاه الحكومة.
وذهب بعض العلماء إلى أن اللقيط إذا لم يكن له أبناء أو بنات فإنه يرثه من التقطه، أي: من وجده ورباه؛ لأنه أولى الناس به، فقد تعب عليه ورباه حتى كان مثل أبنائه، وهذا هو القول الصحيح الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه.
وعلى هذا يكون الجواب: أنه إذا مات اللقيط ورثه اللاقط إذا لم يكن للقيط أولاد، فإن كان له زوجة -يعني: تزوج اللقيط- فإن الزوجة تأخذ ميراثها وهو الربع إذا لم يكن له أولاد والباقي لمن التقطه، هذا هو القول الراجح، أما لو مات اللاقط فإن اللقيط لا يرثه؛ لأنه لا نعمة للقيط على اللاقط فلا يكون له إرث منه.(30/26)
الصبر على تبعات الدعوة
السؤال
فضيلة الشيخ: رجل كان يحب الغناء فنصحته كثيراً وأعطيته الأشرطة النافعة وكنت أمسح له أشرطة الغناء وأبدلها بأشرطة نافعة، ثم بعد ذلك عاد للغناء مرة ثانية ثم إنه يسبني ويلعنني، وأنا أنصحه، فما حكم ذلك؟
الجواب
أقول: أبشر بالخير حيث أصابك الأذى في الدعوة إلى الله؛ لأن الإنسان إذا دعا إلى الله وأوذي في الله عز وجل وصبر كان له نصيب من الأجر لأجل الدعوة، وكان متأسياً بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الأنعام:34] فيؤجر على صبره وتأسيه بالأنبياء.
فاصبر على كلامه إذا لعنك، وأنت إن شاء الله لست أهلاً للعنة، فإن اللعنة تعود عليه، وإذا سبك فإن ذلك حسنات يهبها لك من حسناته، فاصبر واحتسب واسأل الله له الهداية، وكرر دعوته هو وغيره واصبر على ما أصابك، ألم تسمع أن لقمان قال لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] فلابد للإنسان الداعي إلى الله والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من أذى، فعليه الصبر والاحتساب وسيجعل الله له أجر الأمر والنهي والصبر على الأذى.(30/27)
مسألة التفضيل بين الصحابة
السؤال
ما رأي فضيلتكم في مسألة التفضيل بين الصحابة؛ فإنه قد قيل: أفضلهم: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، ونتوقف عندها، وهذا دأب السلف مستدلين بأثر ابن عمر أنه توقف كذلك ولم يذكر علياً، واعترض على الإجماع الذي نقله الحافظ ابن حجر أن أهل السنة كلهم يرون تفضيل علي بعد عثمان على غيره من الصحابة، لكن اعترض على هذا الإجماع؛ لأنه نقله عن أبي عمر ابن عبد البر وهو فيه شيء من التشيع فكيف يُجاب؟
الجواب
أولاً: إن ابن عبد البر رحمه الله من المتساهلين في نقل الإجماع؛ لأنه ينقل الإجماع في مسألة وإذا بحث الإنسان فيها وجد أنه لا إجماع فيها، وأما مسألة التفضيل فالصحابة ومن بعدهم أجمعوا على أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر لا خلاف في ذلك، ثم اختلفوا في عثمان وعلي، فمنهم من قدم عثمان ومنهم من قدم علياً، ومنهم من اقتصر على أبي بكر ثم عمر ثم عثمان وسكت، ومنهم من توقف، لكن يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في العقيدة الواسطية: إنه استقر رأي أهل السنة والجماعة على أن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، وأنهم أجمعوا ولا خلاف بينهم على أن الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، وأجمعوا أيضاً على أن هذا الترتيب في الخلافة حق ليس فيه منع لحق أحد، وقد خطب علي بن أبي طالب رضي الله عنه على منبر الكوفة، وأعلن بأن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر.
ومسألة التفضيل بين عثمان وعلي أمرها سهل ما دام قد وُجد فيها خلاف قديم بين أهل السنة، لكن الذي يُضلل فيها المخالف هو أن يقدم علياً على عثمان في الخلافة فيقول: إن علياً أحق منه، وأضل منه وأفظع وأظلم من قدم علياً في الخلافة على أبي بكر وعمر، وقال: إنهما ظلماه.
والعجب أني رأيت كلاماً مضحكاً يقول: إن أبا بكر وعمر كلاهما فاسقٌ ظالم، وعلي بن أبي طالب أيضاً كافر؛ لأنه لم يطالب بحقه، والسكوت عن الحق كفر، إذاً من بقي؟ معناه: أن كل الخلفاء صاروا كفاراً على رأي هذا القائل.
ومن يقول من الضلال المبتدعة: إن أبا بكر وعمر ظلما علي بن أبي طالب في الخلافة، فقد كذب في ذلك؛ لأن علي بن أبي طالب ممن بايعهما في الخلافة وأقر لهما بالفضل علناً.(30/28)
لقاء الباب المفتوح [31](31/1)
حكم اللحوم المستوردة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد: هذا هو اللقاء الأول من شهر صفر عام (1414هـ) ، وهو اللقاء الأسبوعي الذي نعقده يوم الخميس من كل أسبوع، ونظراً لتأخرنا هذا اليوم فإننا نرجو منكم المعذرة أولاً، ثم السماح لنا بعدم الكلمة التي تكون مقدمة للأسئلة؛ من أجل أن نستوعب أسئلة الحاضرين إن شاء الله تعالى.
السؤال
اللحوم المستوردة كثر عليها الكلام، وفي مجلة البحوث لهيئة كبار العلماء ذكر أحد من بعث من قبل الرابطة أنها فعلاً لا تذبح على الطريقة الإسلامية، خاصة الدجاج البرازيلي، وما رأيكم يا شيخ! في الدجاج الوطني؟
الجواب
أولاً: رأينا في اللحوم المستوردة أنها إذا جاءت من دول أهل الكتاب فإنكم -كما تعلمون- قد أحل الله لنا طعام الذين أوتوا الكتاب، فقال جل وعلا: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة:5] قال ابن عباس رضي الله عنهما: [طعامهم: ذبائحهم] وثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أكل من الشاة التي أهدتها له المرأة اليهودية في خيبر، وأكل صلى الله عليه وسلم من الطعام الذي دعاه إليه يهودي في المدينة، وكان فيه إهالة سنخة -أي: شحماً قديماً- وكذلك أقر عبد الله بن المغفل أن يأخذ الجراب الذي رمي به في خيبر وهو من ذبائح اليهود.
فإذا جاء الدجاج من دول أهل الكتاب فإنه حلال، هذا هو الأصل، وليس لنا ولا علينا أن نسأل كيف ذبحوه؟ وهل سموا عليه أم لا؟ ودليل ذلك ما ثبت في صحيح البخاري: (أن قوماً جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ وكانوا حديثي عهد بالكفر، فقال: سموا أنتم وكلوا) .
وقد جرى البحث في مجلس هيئة كبار العلماء، ودعوا وكلاء وزارة التجارة، وقالوا: إننا لا يمكن أن نأذن لشيء يرد إلا ونحن مطمئنون إلى أنه مذبوح ذبحاً شرعياً، ولنا وكلاء هناك، لكننا لا نقول: إن جميع المصانع أو مذابح أولئك القوم كلها على الطريقة الإسلامية، لكن ما يرد إلى المملكة فإنه محتاط له، هكذا قالوا لنا، وبناء على ذلك يكون حلالاً.
وكذلك الدجاج الوطني الذي يذبح هنا أيضاً لا شك في حله، وما يذكر من أنه يُعطى من الدم أو نحو ذلك لا يضر؛ أولاً لأن كثيراً من العلماء يقولون: إن النجاسة تطهر بالاستحالة، وإن الحيوان إذا أكل نجاسة تحولت النجاسة إلى دم، ثم إلى لحم مباح.
وثانياً: أن الجلالة التي حرمها أكثر أهل العلم هي التي يكون أكثر أكلها النجاسة، لا التي تأكل النجاسة، فتحرم حتى تحبس وتطعم طعاماً طاهراً ثلاثة أيام ثم تحل.
فلا ينبغي أن يدخل على الناس الشك في مآكلهم؛ لأنك إذا أدخلت عليهم الشك فهم بين أمرين: إما أن يأكلوا وهم قلقون، وإما أن يتجرءوا ويقولوا: لا نبالي حلالاً كان أم حراماً! وما وجد بأسواقنا سنأكله، فإدخال الشكوك على المسلمين في أطعمتهم وألبستهم بدون مستند شرعي أمر لا ينبغي.
ولهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام لهؤلاء القوم الذين شكوا في اللحم الذي يأتيهم من حديثي عهد بكفر، قال: (سموا أنتم وكلوا) كأنه يقول: ليس عليكم من فعل غيركم أي: أنتم أدوا ما تؤدون على الوجه المشروع ولا عليكم من سواكم.
السائل: والأجبان؟ الجواب: والأجبان طاهرة وحلال، والصحابة رضي الله عنهم فتحوا بلاد فارس وأكلوا من أجبانهم وهم فرس لا تحل ذبائحهم.(31/2)
حكم الاكتفاء بالأشرطة العلمية في طلب العلم
السؤال
ما حضرنا إلا حباً لك في الله، والسلام عليكم، والاطمئنان على صحتك، وطلب العلم والجلوس معكم، وسؤالي حول هذا الموضوع: ما رأيك في السفر إلى العلماء والجلوس معهم؟ هل تحث الشباب على ذلك؟ لأني سمعت البعض يقول: يكتفى بسماع الأشرطة ولا داعي للسفر؟
الجواب
أولاً: بارك الله فيك (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله به طريقاً إلى الجنة) ، ورحل جابر بن عبد الله -أحد الصحابة- إلى عبد الله بن أنيس لكي يأخذ منه حديثاً واحداً لمدة شهر على الإبل.
فالسفر لطلب العلم ولو لمسألة واحدة فيه أجر وخير كثير، والسفر لأجل زيارة الإخوان وإلقاء المودة والمحبة، وما الرائي كالسامع، وليس الخبر كالمعاينة؛ فأنت إذا جئت لرجل وشاهدته أشد بكثير مما إذا سمعت عنه، هذا أيضاً خير كثير، فأنت إن شاء الله لك أجر على سفرك من أجل السلام، وعلى سفرك من أجل العلم.(31/3)
تفسير قوله صلى الله عليه وسلم في التسبيح: (أو زاد عليه)
السؤال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر) وقال في حديث آخر: (ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل قال مثل ما قال أو زاد عليه) ومشايخ الطرق من الصوفية أخذوا من قوله: (أو زاد عليه) أن الزيادة مطلقة؛ فألزموا أتباعهم بالتسبيح عشرة آلاف مرة مثلاً، أو مائة ألف مرة، ويعطونهم مسبحة فيها نحو ألف حبة، فهل يؤخذ من هذا أن التسبيح عشرة آلاف مرة أو مائة ألف مرة جائز للإطلاق الوارد في الحديث؟
الجواب
التسبيح المحدد يؤخذ بما حدده الشرع، والمطلق يؤخذ بإطلاقه ولا يحدد، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر) .
لكن إذا زدت بدون تحديد، فقد جاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: إن شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ فأوصني، قال: (لا يزال لسانك رطباً بذكر الله) ، وقال تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35] لكن تحديدها بعشرة آلاف مرة، أو مائة ألف مرة، ثم اتخاذ هذه المسبحة التي تحوي على ألف حبة -كما ذكرت- يتقلدها الإنسان وتثقل رقبته، فكل هذا لا شك أنه ينهى عنه.
فيقال: خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فالنبي عليه الصلاة والسلام ما اتخذ مسبحة، لا صغيرة الحب، ولا كبيرة الحب، ولا عين لأمته مائة ألف، أو عشرة آلاف.
أو ما أشبه ذلك، فاذكر الله ذكراً كثيراً بدون تحديد.(31/4)
حكم إقامة الحدود من غير جهة الولي
السؤال
قد يُلقي رجال الحسبة القبض على بعض المجرمين، مثل: من يفعل اللواط أو يشرب الخمر، فإذا أُحيل هذا الرجل إلى المحكمة الشرعية قد تخرج صكاً في إدانته، ويفصل من عمله لمدة خمس سنوات أو يزيد، فهل لرجل الحسبة أن يطهر هذا المجرم بإقامة الحد عليه في المركز نفسه أو في الهيئة، علماً بأنه يعول أسرة، وقد يؤدي الأمر به إلى ضياع تلك الأسرة، جزاكم الله خيراً؟
الجواب
أولاً: المعروف أن رجال الحسبة لا يملكون التأديب، فإذا كانوا لا يملكونه؛ فلا يمكنهم تأديب أحد بدون إذن من ولي الأمر.
ثانياً: إذا قبض رجل الحسبة أو غيره على مجرم، فينظر هل هذا المجرم ممن عرف بالشر والفساد أم لا؟ فإذا كان كذلك فيجب أن يرفع أمره إلى ولي الأمر وإن ترتب عليه ما ترتب، وعائلته قد تكفل الله برزقهم: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6] .
أما إذا كان الرجل ليس معروفاً بالشر والفساد، ورأوا أن من المصلحة أخذ التعهد عليه وإطلاقه مع مراقبته بعد ذلك، فهذا لا بأس به؛ لأن مسائل التهم لا تستوجب الحدود الشرعية حتى يقال: إنه لا يمكن إسقاط الحد، وإنما تبيح التعزير؛ والتعزير إذا رأى من له الأمر أن يخفف عنه لمصلحة شرعية فلا بأس.(31/5)
حكم من نسي فصلى العصر قبل الظهر
السؤال
شخص مسافر وأراد أن يجمع صلاة الظهر مع العصر فلم يتذكر إلا بعد أن صلَّى العصر مع الجماعة فما الحكم؟ وهل الأفضل جمع التقديم أم جمع التأخير؟
الجواب
يصلي الظهر وليس عليه شيء، والأفضل في الجمع ما كان أيسر له، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم في السفر إذا ركب قبل أن تزول الشمس أخر الظهر إلى العصر، وإذا زالت الشمس قدم العصر مع الظهر، وكذلك المريض الذي يحل له الجمع يفعل ما هو أسهل له، فقد يكون الأسهل له أن يبكر، فيجمع جمع تقديم، مثل أن يجمع العشاء مع المغرب لينام مبكراً، وقد يكون الأمر بالعكس، مثل أن يأتي عليه وقت الظهر وهو نائم ويؤخر الظهر إلى العصر.
المهم أن الجمع سببه المشقة -مشقة الصلاة في وقتها- فإذا كان هذا هو السبب؛ فما كان أيسر في الجمع فهو أفضل.(31/6)
الضابط في مسألة دخول الأطفال على النساء
السؤال
كثيراً ما رأيت من خلاف بين الناس في مسألة دخول الأطفال على النساء، فبالنسبة لغير طلبة العلم رأيت تفريطاً، فبعضهم قد يسمح لمن كان في الثانية أو الرابعة عشر بالدخول على النساء، وربما بعضهم يكون أكبر من ذلك، ومع هذا لا يرون بذلك بأساً.
ورأيت أيضاً في المقابل عند بعض الإخوة الملتزمين بدين الله عز وجل تشدداً في ذلك، فيمنعون حتى من كان في الخامسة من عمره وربما في الرابعة ادعاءً منهم أن هذا الطفل فيه ذكاء، وأنه يلاحظ أو يميز بين الحسن والقبيح من النساء، فما هو الضابط لذلك مع الأدلة؟
الجواب
الضابط لهذا ذَكره الله عز وجل في القرآن، قال تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور:31] هذا هو الضابط.
فإذا رؤي من الطفل أنه يلحظ المرأة، أو يلمسها أو ما أشبه ذلك، أو يميل إلى الجميلة دون الأخرى، عرف أنه يظهر على عورات النساء، وهذا لا يكون إلا من السنة العاشرة فما فوق، إلا إذا كان الطفل يعيش في بيئة يتحدثون دائماً عن النساء وعن الشهوة فربما يكون له اطلاع على عورات النساء قبل أن يبلغ العاشرة، هذا بالنسبة لإظهار المرأة وجهها عنده.
أما بالنسبة للخلوة بالمرأة فهذا يجب التحرز منه؛ وذلك لأنه وإن كان الطفل ليس فيه ما يؤدي إلى الاحتجاب عنه؛ لكن إذا خلا بالمرأة فقد تكون المرأة نفسها فيها شيء من الفساد فتحاول أن تثير شهوته، وربما تمكنه من نفسها، أو ما أشبه ذلك.
فالخلوة شيء، وكشف المرأة وجهها للطفل شيء آخر، يعني: أن الخلوة يجب التحرز منها كثيراً لئلا تعبث المرأة بالطفل، وإذا علمنا أن من النساء من تدخل القرد عليها لتتمتع به فما بالك بالصبي لسبع سنين أو ثمان.(31/7)
حكم الدم الخارج من المرأة قبل الولادة
السؤال
بالنسبة للمرأة الحامل قبل أن تضع بأيام وينزل منها دم أو ما أشبه ذلك، متى تسقط عنها الصلاة؟
الجواب
يقول العلماء: إن النفاس هو الدم الذي يحصل عند الولادة مع الطلق، فإذا أتاها الطلق قبل الولادة بيوم أو يومين فهي نفساء، وأما الدم الذي بلا طلق فليس بنفاس حتى وإن كان في يوم وضعها، وإذا انقطع دم النفاس بعد الولادة بفترة فمتى طهرت وجب عليها أن تتطهر وتصلي ولا تنتظر تمام المدة.(31/8)
وقت ابتداء أحكام السفر وانتهائها في حق المسافر
السؤال
متى تبدأ أحكام السفر ومتى تنتهي بالنسبة للمسافر؟
الجواب
تبدأ أحكام السفر في حقه إذا خرج من بلده، وتنتهي إذا دخل بلده، مثلاً إذا سافر الإنسان من عنيزة، فإنه بمجرد خروجه من البنيان وما يتصل به تثبت له أحكام السفر، وعلى هذا فإذا كان يسافر بالطائرة فله أن يجمع ويقصر في المطار؛ أي مطار القصيم لأنه خارج البلد، أما المطار إذا كان داخل البلد فليس له أن يجمع ولا يقصر ولا يفطر في رمضان.(31/9)
السنن التي لا تفعل في السفر
السؤال
ما هي السنن التي لا تفعل في السفر؟
الجواب
الذي لا يفعل في السفر من السنن: سنة الظهر، والمغرب، والعشاء، وما عدا ذلك فكل النوافل تصلى في السفر.(31/10)
حكم استخدام الصابون المشتمل على شحم الخنزير
السؤال
وجدنا بعض المنشورات تقول: إن بعض الصابون يصنع من شحم الخنزير، فما رأيكم؟
الجواب
أرى أن الأصل الحل، في كل ما خلق الله لنا في الأرض، لقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة:29] فإذا ادعى أحد أن هذا حرام لنجاسته، أو غيرها فعليه الدليل، وأما أن نصدق بكل الأوهام، وكل ما يُقال؛ فهذا لا أصل له.
فإذا قال: إن هذه الصابونة من شحم خنزير قلنا له: هات الإثبات، فإذا ثبت أن معظمها شحم خنزير أو دهن خنزير؛ وجب علينا تجنبها.(31/11)
الجمع بين آية: (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل) وحديث: (من رأى منكم منكراً)
السؤال
كيف نجمع بين قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة:105] ، وبين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه،) إلى آخر الحديث؟
الجواب
ليس بين الآية والحديث منافاة، وليس بين الآية وبين قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر} [آل عمران:104] منافاة؛ لأن الآية التي ذكرت قوله: {لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] قيدت بقوله: إذا اهتديتم، ومن هدايتنا أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، لكن إذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يفيد شيئاً فحينئذٍ على الإنسان بخاصة نفسه، ولهذا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مر بالمعروف، وانه عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العوام) .
فآية المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة:105] هي فيما إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر، أو كان أمره ونهيه لا يفيد، ولهذا قرأ أبو بكر هذه الآية، وقال: (أيها الناس! إنكم تقرءون قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه) .(31/12)
حكم اجتماع الناس للعزاء
السؤال
ما حكم اجتماع الناس للعزاء؟
الجواب
اجتماع الناس للعزاء بدعة وليس من عادة السلف، وإن انضاف إلى ذلك صنع الطعام، والولائم، والاجتماع عليها؛ كان هذا من النياحة، كما كان الصحابة رضي الله عنهم يعدون الاجتماع إلى أهل الميت وصنع الطعام من النياحة، والنبي صلى الله عليه وسلم لعن النائحة والمستمعة.
ثم هذا الاجتماع لا ينفع الميت، ولا ينفع الحي، بل إن الحي ربما يزداد غماً وهماً، حيث يجتمع بعضهم إلى بعض ولا سيما النساء، فيشرعن في البكاء والندب، فليس فيه خير؛ بل فيه ضرر.
فالذي ينبغي لطلبة العلم أن ينهوا عن هذا، ومن أراد أن يعزي؛ فإنه يجد الرجل في المسجد، ويجده في السوق، أو غير ذلك، ثم العزاء أيضاً يكون لمن أصيب بالمصيبة، ليس لمن مات له قريب، فقد يموت للإنسان قريب ولا يهتم به، لكن إذا رأينا رجلاً مغموماً مهموماً متأثراً بالمصيبة جلسنا إليه، وقلنا: يا فلان! اصبر واحتسب، فلله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى.(31/13)
أقوال أهل العلم في حلول الأوراق النقدية بدلاً من النقدين
السؤال
ذكر الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في كتاب الفتاوى أن الدراهم الموجودة الآن لا تلحق ولا تقوم بالنقدين، فما وجه قوله؟ وهل هذا صحيح؟ وما الذي ينبني على ذلك؟
الجواب
الأوراق النقدية هذه تعرفون أنها حدثت أخيراً، وأنها لم تكن تعرف فيما سبق، فاختلف العلماء في شأنها إلى ستة أقوال: فمنهم من يقول: إنها مثل الثياب لا يجري فيها الربا، ولا تجب فيها الزكاة، وتعد عروض تجارة، إن قصد بها الإنسان تجارة؛ فهي تجارة، وإن قصد بها النفقة؛ فليس فيها شيء، ولو اجتمع عند الإنسان ملايين الملايين، ولا شك أن هذا القول باطل ولا عبرة به.
ومنهم من قال: إنه يجري فيها الربا؛ ربا الفضل، وربا النسيئة، وأنه لا يجوز أن تأخذ ريالاً بريالين، لا نقداً، ولا مؤجلاً، وهذا أيضاً قول شديد.
ومنهم من يقول: إذا اختلف الجنس جاز التفاضل دون النسيئة، فيجوز مثلاً أن أشترى دولاراً يساوي أربعة ريالات بخمسة ريالات، أو أن أبيعه بثلاثة ريالات وهو يساوي في السوق أربعة، لكن أنا محتاج له فقلت لمن هو عنده: أعطني دولاراً بأربعة ريالات، أو يساوي أربعة وأنا محتاج للفلوس، ولم أجد من يشتريه إلا بثلاثة؛ أبيعه، أو يكون ورقة ويحتاج الإنسان إلى فلوس نحاس أو حديد فأعطاه ورقة فئة عشرة وأخذ منه تسعة فلا بأس، لكن يشترط في الجميع القبض في مجلس العقد.
وهذا القول قول وسط بين المنع مطلقاً، وبين الإباحة مطلقاً، وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله؛ يرى أن بيع هذه النقود بعضها ببعض لا بأس به متساوياً ومتفاضلاً، بشرط ألا يكون مؤجلاً، والشيخ رحمه الله يتوسع أكثر مما قلت، يعني: يجوز عنده أيضاً أن يتأخر القبض إذا لم يكن محدداً بأجل، لكن ما ذكرته أنا هو الذي أختاره؛ أنك إذا بعت ورقة من فئة عشرة بتسعة ولم تقبض فإنه حرام ولا يصح البيع، وإن قبضت فلا بأس.(31/14)
لزوم الإحرام لمن نوى العمرة قبل أن يجاوز الميقات
السؤال
من أراد زيارة مدينة جدة مع أسرته، ثم بعد ذلك بيوم أو يومين يذهب للعمرة، هل هذا صحيح أم يبادر بالعمرة أولاً، وهل يحرم من جدة أم من الميقات بعد ذلك؟
الجواب
إذا كان عازماً على العمرة فإنه لا يجوز أن يتجاوز الميقات إلا بإحرام، وأرغب أن ينوي العمرة من حين أن يركب من بيته لينال أجر السعي للعمرة ولا ينوي أنه يسافر إلى جدة لزيارة أقاربه، أو لتجارته، أو ما أشبه ذلك، وإنما ينوي أن سفره للعمرة، وإذا وصل إلى الميقات أحرم منه وقضى عمرته، ثم انصرف إلى شغله في جدة.(31/15)
حكم وصف الإنسان بأنه خليفة الله
السؤال
كثيراً ما نقرأ ونسمع عن وصف الإنسان بأنه خليفة الله في أرضه، ويستدلون بقول الله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] ، وقوله سبحانه وتعالى لداود {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ.
} [ص:26] ، ويفرقون بينه وبين قول الله سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ} [الأنعام:165] ، فما هو الصحيح في هذا الشيء؟
الجواب
الصحيح بارك الله فيك! أنه إن أريد بالخليفة أنه وكيل عن الله في خلقه فهذا لا يجوز؛ لأن الله تعالى أعلم بخلقه، وهو متصرف فيهم، ولا يحتاج إلى واسطة أو وكيل، وإن أريد بذلك أنه قائم بأمر الله، منفذ لأمر الله، في عباد الله؛ فهذا لا بأس به.
وقد ذكر الله عدة آيات تدل على هذا المعنى مثل قوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ} [الأنعام:165] وقوله: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص:26] وما أشبه ذلك، فالخليفة إذا قصد به أن الإنسان وكيل لله، وأن الله عز وجل أسند الأمر إليه؛ فهذا لا يجوز، وإن أريد بذلك أنه خليفته، أي: منفذ لشريعة الله في أرض الله؛ فهذا لا بأس به، أي أنه يجوز أن يطلق عليه خليفة الله بالمعنى الذي ذكرت.(31/16)
ما تظهره المرأة من جسدها بين النساء
السؤال
ما الذي يجوز للمرأة كشفه عند النساء من جسدها؟
الجواب
يجب على المرأة أن تلبس اللباس الشرعي الذي يكون ساتراً، وكان لباس نساء الصحابة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره: من الكف إلى الكعب في بيوتهن، فإذا خرجن لبسن ثياباً طويلة تزيد على أقدامهن بشبر، ورخص لهن النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذراع من أجل ستر أقدامهن، هذا بالنسبة للمرأة المكتسية، فإن رفعت اللباس فهي من الكاسيات العاريات.
أما بالنسبة للمرأة الناظرة فإنه لا يجوز لها أن تنظر عورة المرأة، يعني: لا يجوز أن تنظر ما بين السرة والركبة، مثل أن تكون المرأة تقضي حاجتها مثلاً فلا يجوز للمرأة أن تنظر إليها؛ لأنها تنظر إلى العورة، أما ما فوق السرة أو دون الركبة، وكانت المرأة قد كشفت عنه لحاجة، مثل أنها رفعت ثوبها عن ساقها؛ لأنها تمر بطين مثلاً، أو تريد أن تغسل الساق وعندها امرأة أخرى؛ فهذا لا بأس، أو أخرجت ثديها لترضع ولدها أمام النساء؛ فهذا لا بأس أيضاً.
لكن لا يفهم من قولنا هذا كما تفهم بعض النساء الجاهلات أن المعنى: أن المرأة تلبس من الثياب ما يستر ما بين السرة والركبة فقط، هذا غلط عظيم على كتاب الله، وعلى سنة رسول الله، وعلى شريعة الله، وعلى سلف هذا الأمة؛ فمن قال: إن المرأة لا تلبس إلا سروالاً يستر من السرة إلى الركبة؟ وهل هذا لباس المسلمات؟! لا يمكن! فالمرأة يجب عليها أن تلبس اللباس الظاهر من الكف إلى الكعب، أما المرأة الأخرى التي تنظر؛ فلها أن تنظر على الصدر والساق، وليس لها أن تنظر إلى ما بين السرة والركبة، فيما لو كشفت الأخرى ثوبها.(31/17)
حكم دخول الحمام بأشرطة القرآن ونحوها
السؤال
ما حكم دخول الحمام بالشريط الذي سجل عليه القرآن الكريم؟
الجواب
لا بأس أن يدخل الحمام ومعه شريط سجل عليه شيء من القرآن؛ وذلك لأن الحروف لا تظهر على هذا الشرط، ولا يبين إلا الصوت إذا مر الشريط على الجهاز الذي يظهر به الصوت، فلا حرج أن يكون مع الإنسان أشرطة فيها قرآن، أو حديث، أو غيره؛ ويدخل بها الخلاء.(31/18)
وجوب استجابة الإمام الشاك للمأمومين إذا ما نبه
السؤال
أنا إمام مسجد أصلي بالجماعة، نسيت مرة في صلاة رباعية هل أنا في الركعة الثالثة أم الرابعة، فهل أعتبر تسبيح الجماعة خلفي إرشاداً لي أنني في الرابعة مثلاً؟
الجواب
نعم.
إذا شك الإمام هل صلى ثلاثاً أم أربعاً، ثم قام وسبحت له الجماعة، وهو لا يجزم بصواب نفسه؛ وجب عليه أن يرجع لتسبيحهم.
أما إذا لم يسبحوا؛ فإنه يبني على ما غلب عليه ظنه، فإذا غلب على ظنك أنك صليت ثلاثاً؛ فهات الرابعة، ثم اسجد للسهو بعد السلام، فإن نبهوك إذا قمت للرابعة اجلس ولا تقم للرابعة؛ اجلس لأنه ليس عندك يقين مثل يقينهم.(31/19)
حكم استقدام الأجنبي لزوجته للعمرة ومكثها إلى الحج
السؤال
أحدهم يريد استقدام أهله لأداء فريضة الحج، لكن استقدامهم مكلف ولا يطيقه، وهو من خارج السعودية، ولكن يمكن استقدامها للعمرة، ومن ثم يبقيها إلى موسم الحج، ثم يحج بها، ثم يرجعها؛ هل هذا الأمر جائز يا شيخ أم لا؟!
الجواب
إذا قدمت بمحرم فليس هناك مانع.
السائل: لكن الجلسة غير قانونية؛ لأنها إذا دخلت بعمرة فلا يمكن أن تجلس أكثر من خمسة عشر يوماً.
الجواب: على كل حال هذا يرجع للحكومة إذا خالف القانون، لكن المهم أنه لا يستقدمها إلا مع محرم.(31/20)
مسألة تقديم زكاة الذهب المتأخر مع المتقدم شراؤه
السؤال
سائلة تقول أنها تملك كمية من الذهب يختلف وقت امتلاكه، فهل لها أن تؤخر إخراج زكاة ذهبها كله في آخر وقت امتلكت فيه آخر قطعة منه؟
الجواب
الصواب أن لها أن تقدم المتأخر، وليس لها أن تؤخر المتقدم؛ لأن الزكاة إذا وجبت؛ فإنه لا يجوز تأخيرها إلا لمصلحة شرعية، وهنا لا توجد مصلحة شرعية، فالأحسن لها أن تقدم المتأخر، ولها أن تزكي كل شيء في وقته.
السائل: وإذا كانت لا تعلم وقت الامتلاك؟ الشيخ: إذا كانت لا تعلم مثل أن تشك هل ملكته في شهر محرم أو صفر؛ فإنه لا يجب عليها إلا الإخراج في آخر الوقت -أي: تعتبر صفر-.
أما إذا كانت تعلم أوقات الامتلاك فذلك له طريقان في إخراج الزكاة، يعني: نفرض أنها ملكت هذه القطعة في المحرم، وهذه القطعة في ربيع، والثالثة في جمادى، والرابعة في شعبان، نقول: أخرجي زكاة الجميع إن شئت، ويكون هذا تعجيلاً لزكاة المتأخر، ولا يجوز أن تؤخر المحرم إلى شعبان، والحاصل أن التقديم يجوز، والتأخير لا يجوز.
ولها طريق ثانٍ: أنها تزكي الذي ملكته في المحرم في محرم، والذي ملكته في الأشهر التي بعدها كلٌ في وقته.(31/21)
حكم قصر الصلاة لمن عمله خارج بلده ويعود في نهاية الأسبوع
السؤال
رجل مقر عمله خارج البلد الذي يسكنه، ويحتاج إلى للوصول له بما هو مسافة قصر، وهو يبيت في مقر عمله أربعة أيام ثم يرجع إلى بلده بقية الأسبوع، فهل يعتبر مسافراً؟
الجواب
هذا يعتبر مسافراً، مثل إنسان وكل إليه التدريس في قرية من القرى؛ يبقى فيها أسبوعاً، وفي عطلة آخر الأسبوع يرجع إلى أهله، فهذا يعتبر مسافراً، لكن يجب عليه أن يصلي مع المسلمين في جماعة.
السائل: لكن إذا رجع إلى بلده هل يعتبر مسافراً؛ لأنه سيرجع؟ الجواب: لا.
لأنه رجع إلى وطنه، فينقطع السفر.(31/22)
حكم من يقوم بإيصال كشوف الحسابات من البنوك إلى العملاء
السؤال
بالنسبة لسعاة البريد تأتيهم كشوف الحسابات من البنوك لإيصالها إلى عملاء البنوك، فما أدري حكم هذا بارك الله فيك؟
الجواب
هل يعلمون أن في هذه الخطابات ربا؟ السائل: يعلمون أن فيها كشف حساب.
الجواب: ليس في ذلك شيء؛ لأن كشف الحساب إذا لم يكن فيه ربا فليس فيه شيء.(31/23)
كيفية التعامل مع أهل البدع إذا كانوا معنا في العمل
السؤال
أنا أعمل في الشرقية، وفي الآونة الأخيرة دخل معنا الرافضة في العمل العسكري بكثرة، ونتعامل معهم في الأكل والشرب، والمجالسة والمخالطة، ونعلم بنواياهم الخبيثة، ومذهبهم التقية، ولا نعلم الولاء والبراء من ناحية هؤلاء، وكثير من إخواننا هناك يتعاملون معهم بضحك، وأخذ وعطاء، ومعاملة كثيرة، ولا يبدون الكراهية لهم، فما حكم هذا يا شيخ؟
الجواب
الذي أرى أن تحرصوا على أن تتألفوهم للأخذ بالسنة وتقولوا لهم: أنتم الآن مقرون أننا أهل السنة فهل أنتم تكرهون السنة أم لا؟ ونحن نوافقكم أن من آل البيت من ظُلم كـ الحسين بن علي رضي الله عنه، ولكن هذا لا يمنعنا من أن نتبع سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وجادلوهم بهذه الأشياء لكن بدون عنف؛ بإرادة هدايتهم، ولعل الله أن يهديهم، فإذا قالوا مثلاً: أئمة الشيعة فيهم كذا وكذا، قلنا: نعم.
وأئمة السنة فيهم الخير والصلاح، وجادلوهم لعله مع كثرة المجادلة -وأقصد المناشة- لعله يحصل في هذا خير.
السائل: يا شيخ! الموجودون في مجال العمل عامة ليس لهديهم علم ولا يفهمون، والولاء والبراء عندهم يأخذون ويعطون بشكل كبير؟ الشيخ: أنا قصدي أن هؤلاء الشيعة، أما السنة عوامهم أنهم ربما لا يعرفون عن هذا الشيء.
هذا أمرهم منتهي.
السائل: وإذا كان عليهم خطر منهم؟ الشيخ: إذا كان عليهم خطر منهم فيجب أن يعلم هؤلاء العامة الحق حتى لا يضلوا، أو أن نسألهم بين حين وآخر: هل قالوا لكم شيئاً؟ لأن قصدي أن أهل السنة يتألفون الشيعة ليدخلوهم في السنة.(31/24)
ضابط استمتاع الرجل بزوجته
السؤال
ما الضابط في حدود استمتاع الرجل بزوجته في جميع بدنها؟
الجواب
الضابط ألا يأتيها في دبرها، ولا يأتيها في القبل في حال الحيض أو النفاس، هذا هو الضابط؛ لأن الله قال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المعارج:29-31] .(31/25)
حكم الطعام الساقط على السفرة
السؤال
الطعام الذي يسقط على السفرة هل يدخل في حديث إماطة الأذى؟
الجواب
نعم.
الطعام الذي يسقط على السفرة داخل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا سقطت لقمة أحدكم، فليأخذها وليمط ما بها من أذى، ولا يدعها للشيطان) .(31/26)
تحريم قول القائل: (من سخرية القدر كذا وكذا)
السؤال
بعض الكتاب يقولون: من سخرية القدر كذا وكذا، فهل يجوز هذا القول؟
الجواب
لا يجوز للإنسان أن يقول هذا القول؛ لأن القدر تقدير الله عز وجل، وتقدير الله كله حكمة، نعم.
يسخر الله من بعض الناس كقوله تعالى: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة:79] لكن القدر من حيث هو قدر ليس سخرية، كله حكمة، وكله موافق للصواب، وكله جد، لكن من سخر بالله، وبأولياء الله؛ سخر الله منه، ومن سخرية الله بهؤلاء أنهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً، كما قال تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:14-15] .(31/27)
بيان استخلاف الله للإنسان في الأرض
السؤال
بالنسبة للخليفة عن الله عز وجل، أليس الخليفة يكون عن الغائب؟
الجواب
نعم.
لكن جعله خليفة، يعني: جعله يقوم بشرع الله عز وجل، وينفذ شرع الله في عباد الله.
قلت: إنه إذا أراد الإنسان بقول: خليفة الله، أنه نائب عن الله كما ينوب أحد عن الآخر؛ فهذا لا يجوز؛ لأن الله هو الذي بيده الملك، وإن أراد خليفة بمعنى: أنه قائم بأمر الله لينفذ شرع الله في عباد الله؛ فهذا ليس فيه بأس.(31/28)
حكم نظر المكلف بالنهي عن المنكر إلى الأفلام للتأكد من خبثها
السؤال
رجال الهيئة أو رجال الحسبة إذا ألقوا القبض على بعض الأفلام الخليعة، أو وصلهم بلاغ بهذه الأفلام، أو مثلاً بعض الصور، هل لهم أن ينظروا إلى هذه الأفلام للتأكد، أم المرء يكلف بنفسه؟
الجواب
لا بأس أن ينظر رجال الحسبة إلى هذه الأفلام؛ ليطلعوا على ما فيها من خبث، لكن من لا يأمن على نفسه؛ لا يجوز له أن ينظر.(31/29)
حكم سفر المرأة بدون محرم
السؤال
يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لا تسافر المرأة بدون محرم أكثر من يوم وليلة) أو كما قال، فكأن مفهوم الحديث أن ما قل عن ذلك أنه يجوز لها أن تسافر أقل من يوم وليلة؟
الجواب
التحديد بيوم وليلة أو بأكثر مختلف، ولهذا أخذ العلماء بالعموم، قالوا: ما دام ورد في يوم وليلة وثلاثة أيام علم أن القيد ليس بواجب.(31/30)
لقاء الباب المفتوح [32]
شرح الشيخ أوائل سورة الانشقاق، وما فيها من تفسير لتغير نظام الكون يوم القيامة، وعن حال الإنسان في الدنيا وأن نهايته إلى الله لا محالة.
ثم أجاب عن أسئلة كان من ضمنها سؤال عن علاقة الرعية بولاة الأمر، ومنهج أهل السنة والجماعة تجاههم، وأسئلة أخرى عن ضوابط بعض الإطلاقات الشرعية كلفظ الشهيد والنفاق وغير ذلك من الأسئلة.(32/1)
تفسير آيات من سورة الانشقاق
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو اللقاء الثاني لشهر صفر عام (1414هـ) ، في يوم الخميس العاشر من شهر صفر.
نبدأ كالعادة بالكلام على ما تيسر من كتاب الله سبحانه وتعالى، ونحن قد انتهينا من تفسير سورة النبأ إلى آخر المطففين.
يقول الله عز وجل: بسم الله الرحمن الرحيم: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق:1] وقد تقدم الكلام على البسملة، وبينا أن البسملة آية من كتاب الله مستقلة، وليست من السورة التي قبلها، ولا من السورة التي بعدها، وإنما يؤتى بها في ابتداء السور إلا سورة براءة، وليست آية من الفاتحة، وإن كان المكتوب في المصاحف أنها آية، لكن القول الراجح الذي هو مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وعليه عامة أصحابه؛ أنها ليست آية من الفاتحة وهو الذي دل عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن الله: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال: الحمد لله رب العالمين؛ قال: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم؛ قال: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين؛ قال: مجدني عبدي، وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم؛ قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل) .
وعلى هذا فتكون الآية الأولى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، والثانية: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ، والثالثة: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، والرابعة: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، والخامسة: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) ، والسادسة: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ، والسابعة: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) .
وهذا كما أنه الموافق لما دلت عليه السنة فهو الموافق أيضاً للسورة لفظاً ومعنى: أما لفظاً: فلتناسب الآيات في الطول؛ لأنه لو كانت صراط الذين أنعمت عليهم إلى آخر السورة آية واحدة لم تتناسب مع ما قبلها في الطول، وأيضاً لو كانت آية؛ لم تكن {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وسط الآيات بل تقع على هذا التقدير الخامسة؛ فالآيات الثلاث الأولى كلها لحق الله عز وجل، والآيات الثلاث الأخيرة كلها لحق الإنسان، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6-7] ، والآية الرابعة الوسطى بين الله وبين العبد، هذا هو القول الراجح في أن الفاتحة أولها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] .(32/2)
تفسير قوله تعالى: (إذا السماء انشقت)
أما السورة التي نبتدئ بها الآن فهي قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق:1] (انشقت) انفتحت وانفرجت، كقوله تعالى: {وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ} [المرسلات:9] ، وكقوله تعالى: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:37-39] ، إذاً فانشقاقها يوم القيامة.(32/3)
تفسير قوله تعالى: (وأذنت لربها وحقت)
قال تعالى: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق:2] (وأذنت) بمعنى: استمعت وأطاعت أمر ربها عز وجل أن تنشق؛ فانشقت مع أنها كانت كما وصفها الله تعالى سبعاً شداداً قوية، كما قال تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات:47] أي: بقوة، وقال: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً} [النبأ:12] فهذه السماء القوية العظيمة تنشق يوم القيامة وتنفرج بإذن الله سبحانه وتعالى، {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق:2] أي: وحق لها أن تأذن -أي: تسمع وتطيع- لأن الذي أمرها ربها وخالقها عز وجل، فتسمع وتطيع؛ كما أنها سمعت وأطاعت في ابتداء خلقها، قال الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] .
فتأمل أيها الآدمي البشر الضعيف كيف كانت هذه المخلوقات العظيمة تسمع وتطيع لله عز وجل بهذه الطاعة العظيمة في ابتداء الخلق وفي انتهاء الخلق، ثم قال: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق:2] تأكيداً لاستماعها لربها وطاعتها له.(32/4)
تفسير قوله تعالى: (وإذا الأرض مدت)
قال تعالى: {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ} [الانشقاق:3] وهذه الأرض التي نحن عليها الآن هي غير ممدودة: أولاً: لأنها كروية مدورة، وإن كانت جوانبها الشمالية والجنوبية منفتحة قليلاً -أي: ممتدة قليلاً- فهي مدورة الآن، ثم هي أيضاً معرجة فيها المرتفع جداً وفيها المنخفض، وفيها الأودية والسهول، والرمال؛ فهي غير مستوية، لكن يوم القيامة تمد مداً واحداً كمد الأديم -أي: كمد الجلد- كأنما تفرش جلداً أو سماطاً، تمد حتى إن الذين عليها -وهم الخلائق- يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، لكن الآن لا ينفذهم البصر؛ لو امتد الناس على الأرض لوجدت البعيدين منخفضين لا تراهم، لكن يوم القيامة إذا مُدت صار أقصاهم مثل أدناهم كما جاء في الحديث: (يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر) .(32/5)
تفسير قوله تعالى: (وألقت ما فيها وتخلت)
يقول تعالى: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق:4-5] ألقت ما فيها، ما الذي فيها؟ فيها جثث بني آدم تلقيها يوم القيامة؛ تلقي هذه الجثث فيخرجون من قبورهم لله عز وجل كما بدأهم أول الخلق، أي: كما خرجوا من بطون أمهاتهم؛ يخرجون من بطون الأرض، وأنت خرجت من بطن أمك حافياً عارياً أغرل إلا بعض الناس قد يخلق مختوناً، لكن عامة الناس يخرجون من بطون أمهاتهم غرلاً؛ كذلك تخرج من بطن الأرض يوم القيامة حافياً ليس عليك نعال، وعارياً ليس عليك كساء، وأغرل لست مختوناً، ولما حدث النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قالت عائشة: (يا رسول الله! الرجال والنساء؟ قال: الرجال والنساء بادياً عوراتهم، لكن الأمر أعظم من أن يهمهم ذلك) الأمر شديد، فكل إنسان لاهٍ عن غيره بنفسه، يقول تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:37] .
والإنسان إذا تصور الناس في ذلك الوقت مجرد تصور؛ فإنه يرتعد ويخاف، وإذا كان عاقلاً مؤمناً؛ عمل لهذا اليوم.(32/6)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه)
ثم قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] (الكادح) هو الساعي بجد ونوع مشقة، وقوله: (إلى ربك) يعني: إنك تكدح كدحاً يوصلك إلى ربك، انتبه! كدحاً يوصل إلى الله يعني: أن منتهى كدحك مهما كنت ينتهي إلى الله؛ لأننا سنموت، وإذا متنا رجعنا إلى الله عز وجل، فمهما عملت فإن المنتهى إلى الله عز وجل {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم:42] ، ولهذا قال: {كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً} [الانشقاق:6] حتى العاصي كادح، غايته الله عز وجل، قال تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية:25-26] لكن الفرق بين المطيع والعاصي: أن المطيع يعمل عملاً يرضي الله، يصل به إلى مرضاة الله يوم القيامة، والعاصي يعمل عملاً يغضب الله؛ لكن مع ذلك أين ينتهي؟ إلى الله عز وجل.
إذاً قوله تعالى: (يا أيها الإنسان) يعم كل إنسان، مؤمن أو كافر.
{إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] يقول النحويون: الفاء تدل على الترتيب والتعقيب، أي: فأنت ملاقيه عن قرب، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ} [الأنعام:134] وكل آتٍ قريب {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [الشورى:17] .
وإذا شئت أن يتبين لك أن ملاقاة الرب عز وجل قريبة؛ فانظر ما مضى من عمرك الآن، فلو مضى عليك مائة سنة؛ كأنما هذه المائة السنة ساعة واحدة، كل الذي مضى منها كأنه ساعة واحدة، إذاً هو قريب.
وإذا مات الإنسان أتظنون أن البرزخ الذي بين الحياة الدنيا والآخرة طويل؟! هو قريب كاللحظة، فالإنسان إذا نام نوماً هادئاً، ولنقل أربعاً وعشرين ساعة وقام كم يقدر النوم؟ دقيقة واحد، مع أنه يمكن أن يكون نام أربعاً وعشرين ساعة، فإذا كانت مفارقة الروح في الحياة يمضي بها الوقت بهذه السرعة؛ فما بالك إذا كانت الروح بعد خروجها من البدن مشغولة إما بنعيم أو جحيم؟! ستمر ملايين السنين على الإنسان وكأنها لا شيء؛ لأن امتداد الزمان في حالة يقظتنا ليس كامتداد الزمن في حالة نومنا، فالإنسان القائم من طلوع الشمس إلى زوالها يحس بأن الوقت طويل، لكن لو كان نائماً ما أحس بذلك الطول.
ألم تر إلى الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه {قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [البقرة:259] .
وأصحاب الكهف لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وتسعاً، فلما بعثوا قال بعضهم لبعض كم لبثتم؟ قالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم، وهذا يدل على أنه لا عجب أن ملايين السنين تذهب على هؤلاء الأموات وكأنها دقيقة واحدة؛ لأن حال الإنسان بعد أن تفارق روحه بدنه سواء كانت مفارقة كلية أو جزئية غير حاله إذا كانت الروح في البدن؛ لأنه يعاني من المشقة والمشاكل والهواجس، والوساوس، أشياء تطيل عليه الزمن، ولكن في النوم يتقلص الزمن كثيراً، وفي الموت يتقلص أكثر وأكثر، فهؤلاء الذين ماتوا ولهم ملايين السنين، أو آلاف السنين؛ كأنهم لم يموتوا إلا اليوم، ولو بعثوا وقيل لهم كم لبثتم؟ لقالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم.
وهذه مسألة قد يرد على الإنسان فيها إشكال، ولكن لا إشكال في الموضوع، مهما طالت المدة لأهل القبور فإنها قصيرة، ولهذا قال: (فملاقيه) فأتى بالفاء الدالة على الترتيب والتعقيب، وما أسرع أن تلاقي الله عز وجل! ثم قسم الله عز وجل الناس إلى قسمين: منهم من يأخذ كتابه بيمينه، ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم منهم، ومنهم من يأخذ كتابه وراء ظهره.(32/7)
الأسئلة(32/8)
وقوع الأجر لمن فعل فعلاً متعدياً بغير نية
السؤال
هل يثاب المسلم إذا عمل أعمالاً بغير نية، كإماطة الأذى عن الطريق، وكالمصافحة وحضور مجالس الذكر من غير نية يطلب الأجر من الله تعالى؟
الجواب
الأعمال الصالحة قسمان: النوع الأول: أعمال لازمة لا يتعدى نفعها للغير، فهذه إن عملها الإنسان بنية أثيب ولو بنية القيام بالواجب؛ يعني: ولو لم ينو الاحتساب لكنه نوى القيام بالواجب فإنه يثاب.
والنوع الثاني: عبادات متعدية ينتفع بها الغير، فهذه يؤجر على انتفاع الغير بها، وإن لم يكن له نية عند فعلها، ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من زرع زرعاً أو غرس شجرة فأصاب منها حيوان أو سرق منها؛ فإن له بذلك أجراً، مع أنه ربما يغرس ولا ينوي هذه النية، ولكن ما دام فيه انتفاع للناس فله أجر به، ويدل على هذا قوله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] وهذا إذا فعله الإنسان ولو لمجرد الإصلاح بدون قصد الثواب ففيه خير، ثم قال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:114] وهذا أمر زائد على الخير الذي ذكره الله في أول الآية.
فإماطة الأذى عن الطريق نفعها متعدٍ؛ فيثاب الإنسان عليه، وإن لم يكن له نية على هذه الإماطة.(32/9)
منهج أهل السنة في التعامل مع ولاة الأمر
السؤال
كما تعلمون أن من نعم الله تعالى على هذه البلاد أنها على منهج الكتاب والسنة، ولكن هناك من يقحم بعض المناهج أو الدعوات، وربما بعض المذاهب الضالة كمذهب الخوارج فهل ترون بهذا مسوغاً، أم أنه يفرق الأمة ويشتت الصف؟
الجواب
لقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبه يوم الجمعة وفي مناسبات أخرى أن خير الكلام كلام الله، وأن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا نظرنا إلى هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وجدنا أنه يريد أن تكون الأمة أمة واحدة، لا تتفرق، ولا تختلف، ولا يكون في قلوب بعضها شيء على الآخرين؛ حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم يترك ما هو اختياره لدرء الفتنة، وحتى أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالصبر على ولاة الأمور على ظلمهم، وعلى جورهم، وعلى أثرتهم واستبدادهم، وأخبر أن هذا سيكون فقال للأنصار رضي الله عنهم: (إنكم ستلقون بعدي أثرة -أي: استئثاراً عليهم- فاصبروا حتى تلقوني على الحوض) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (من رأى من أميره ما يكره فليصبر) ، وقال صلى الله عليه وسلم: حينما سأله رجل عن بعض الأمراء يسألون حقهم ويمنعون حق الرعية فقال: (اسمعوا وأطيعوا؛ فإن عليهم ما حُملوا، وعليكم ما حُملتم) .
ولا شك أن مما يخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم إيغار الصدور على ولاة الأمور، والحديث بما يوجب كراهتهم وبغضهم، وذلك لأن الأمة الإسلامية يقوم أمرها على صنفين من الناس: على العلماء، وعلى الأمراء، وهم أولو الأمر الذين قال الله عز وجل فيهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] .
قال المفسرون وغيرهم من أهل العلم: أولوا الأمر منا هم العلماء والأمراء، فالعلماء قادة الأمة بشريعة الله، والأمراء قادة الأمة بسلطان الله عز وجل، فلولا العلماء والأمراء ما استقامت الأمة؛ لأن العلماء يقودون الناس بالشريعة، والأمراء يقودون الناس بالسلطة والتنفيذ.
فإذا تكلم أحد في الأمراء، أو تكلم في العلماء بما يوجب عداوتهم والحط من قدرهم فإن الأمة تضيع؛ لأنه لا يكون لها علماء تثق بأقوالهم فتضيع الشريعة، وليس لديها أمراء تثق بتصرفاتهم فيضيع الأمن، ولهذا نرى أن من الخطأ الفاحش ما يقوم به بعض الناس من الكلام على العلماء أو على الأمراء فيملأ قلوب الناس عليهم بغضاً وحقداً، وإذا رأى شيئاً من هؤلاء؛ يرى أنه منكر، فالواجب عليه النصيحة، وليس الواجب عليه إفشاء هذا المنكر، أو هذه المخالفة، ونحن لا نشك أنه يوجد خطأ من العلماء، ويوجد خطأ من الأمراء؛ سواء كان متعمداً، أو غير متعمد، لكن ليس دواء المرض بإحداث مرض أعظم منه، ولا زوال الشر بشر أشر منه أبداً، ولم يضر الأمة الإسلامية إلا كلامها في علمائها وأمرائها، وإلا فما الذي أوجب قتل عثمان؟ هو الكلام فيه، تكلموا فيه وأنه يحابي أقاربه، وأنه يفعل كذا، ويفعل كذا، فحملت الناس في قلوبها عليه، ثم تولد من هذا الحمل كراهة، وبغضاء، وأهواء، وعداء؛ حتى وصل الأمر إلى أن قتلوه في بيته وتفرقت الأمة بعد ذلك.
وما الذي أوجب قتل أمير المؤمنين علي بن أبي طلب إلا هذا؟ خرجوا عليه وقالوا: إنه خالف الشرع وكفروه، وكفروا المسلمين معه، وحصل ما حصل من الشر.
فالواجب علينا أيها الإخوة! ونحن في هذا البلد -ولله الحمد- كما قال السائل بلد آمنة ومطمئنة، يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، وهي من خير ما نعلمه في بلاد المسلمين تطبيقاً للشريعة، وهذا أمر مُشاهد، ولا نقول: إنها تامة مائة في مائة، بل عندهم قصور كثير، ويوجد ظلم، ويوجد استئثار، لكن الظلم إذا نسبته إلى العدل وجدت أنه لا شيء، ومن الظلم أن ينظر الإنسان إلى الخطأ، ويغمض عينيه عن الصواب، فإذا كان كذلك فالواجب أن الإنسان يحكم بالعدل لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء:135] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} [المائدة:8] وشنئان يعني: بغض، ويجرم بمعنى يحمل -أي: لا يحملنكم بغض قوم على ألا تعدلوا {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ} [المائدة:8] .
فأقول: إننا -ولله الحمد- في بلاد آمنة ولله الحمد والمنة، وهي خير ما نعلمه في بلاد المسلمين في تطبيق الشريعة، فالواجب علينا أن نحرص على توحيد الكلمة ما استطعنا، وأن نجعل الخلاف الذي يكون بيننا من باب الاجتهاد المأجور صاحبه مع حسن النية؛ إما أجرين إن أصاب أو أجراً واحداً إن أخطأ، وأن نتناقش فيما بيننا -فيما يظن بعضنا أنه خطأ- حتى نصل إلى الصواب جميعاً، وإذا علم الله من نيتنا أننا نريد الحق يسره الله، ويسر لنا الاجتماع عليه، هذا ما أحببت أن أقوله حول هذا الموضوع، وأرى أنه يجب الكف عن نشر مساوئ الناس ولا سيما العلماء والأمراء، وأنه يجب إصلاح الخطأ بقدر الإمكان، ولكن بالطريقة التي يحصل بها المقصود ونسلم فيها من المحذور.(32/10)
حدود استئذان الوالدين
السؤال
ما هي حدود استئذان الوالدين؟
الجواب
الوالدان الأم والأب برهما واجب، وعقوقهما من كبائر الذنوب، كما في حديث أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس، فقال: ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور) .
لكن ليس كل شيء يُستأذن فيه الوالدان، فلو أراد الإنسان أن يصلي صلاة فريضة فلا يستأذن والديه، بل لو قالا: لا تصل مع الجماعة مثلاً، وجب عليه معصيتهما لقوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان:15] ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) ، ولا يجب استئذانهما أيضاً في صلاة النافلة إلا إذا كان لهما شغل وهما محتاجان إليه، فحينئذٍ يستأذنهما؛ لأنهما إذا احتاجا إليك كان القيام بحاجاتهما من البر، والبر واجب وصلاة النافلة تطوع، وحينئذ تستأذن منهما، وأما إذا كانا لا يحتاجان إليك، ولا ضرر عليهما فيما تفعل من الطاعة، فلا حاجة للاستئذان منهما.(32/11)
حكم الأماكن التي توجد داخل سور المسجد
السؤال
يوجد في بعض المساجد مكاتب وهي إما أن تكون في الطابق العلوي أو ملاصقة للمصلى، فهل تأخذ حكم المسجد؟
الجواب
يقول العلماء رحمهم الله: ما كان في داخل سور المسجد وبابه من الداخل فهو من المسجد، فتأخذ حكم المسجد يعني: أنه لا يلبث فيها الجنب إلا بوضوء، ولا يصح فيها البيع والشراء، وإذا دخلت فصلِّ ركعتين، أي تأخذ جميع أحكام المسجد المعروفة.(32/12)
ضابط لباس الشهرة
السؤال
يوجد في مدينتنا بعض الشباب الطيب الذين يلبسون العمامة وخاصة في المناسبات كالجمع والأعياد، وقمنا بالحديث معهم بأن لبسها ليس بسنة، وإنما هذا راجع إلى عرف البلد، وأنها قد يكون لباس شهرة وتميز في الوقت الحالي، وكان جوابهم أن هذا لبس الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد فعله ولنا فيه قدوة، والناس لما بعدوا عن الدين استنكروا هذا اللباس، فما رأيكم وتوجيهكم في هذا الأمر حفظكم الله ورعاكم؟
الجواب
رأينا أن هذا القول يحتاج إلى تعمق في الفقه، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس العمامة، ولبس الإزار، ولبس الرداء؛ لأن الناس كانوا يلبسونه، ومعنى ذلك: أن لبس ما اعتاده الناس ولم يكن محرماً بعينه فهو سنة.
أما ما كان محرماً بنوعه كالحرير للرجال، أو بصفته كلبس الرجال ما ينزل عن الكعب؛ فهذا لا يجوز ولو اعتاده الناس، لكن ما كان مباحاً وكان من عادة الناس؛ فإن السنة أن تلبس كما يلبسون؛ لأنك لو خرجت عن ذلك لصار شُهرة، ولا يمكن لأي إنسان أن يأتي بدليل على أن الرسول أمر بالعمامة، ولو أمر بها لعلمنا أنها عبادة؛ لأن كل ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو عبادة إلا في أشياء دل الدليل على أنها للإباحة، ولكن لا يوجد أي حديث يأمر بلبسها، إنما هي من فعل الرسول؛ لأن الناس كانوا يعتادون هذا، وقل لهؤلاء الإخوة: إذاً البسوا إزاراً ورداءً؛ لأن الرسول صلى عليه وسلم كان يلبس إزاراً ورداءً ويلبس القميص أحياناً.
فنقول للإخوة: إن فعلكم هذا شهرة ولا سيما إذا كان في المناسبات، وكأن الفاعل يقول للناس: انظروا إليَّ فإني أنا صاحب السنة، ومن ليس عليه هذا اللباس؛ فليس على السنة، هذا لسان حاله؛ وإن لم يذكره بلسان مقاله.
فنصيحتي لهم أن يلبسوا كما يلبس الناس، وهاهم علماؤنا السابقون واللاحقون ما رأينا أحداً منهم يفعل ذلك، وهم على جانب من الصلاح، والتقى، والعلم، والحرص على التمسك بالسنة، وهم أفقه من هؤلاء بلا شك.
وأقول: بلغهم أننا نشكرهم على حصرهم على اتباع السنة، ولكن أحب أن يتعمقوا في السنة أولاً، ويعرفوا ما يريده الشرع من اتحاد الناس واتفاقهم، وعدم اختلافهم حتى في الزي، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهرة في اللباس فقال: (من لبس ثوب شهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوباً مثله ثم ألهب فيه النار) .(32/13)
ضابط إطلاق كلمة (شهيد) في الشرع
السؤال
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (سيد الشهداء حمزة.
) إلى نهاية الحديث، فما هو الضابط في إطلاق كلمة شهيد؟ أهي على من مات في المعركة، أو على صالح حُبس أو سُجن فمات هل يطلق عليه لفظ شهيد؟
الجواب
كلمة شهيد لا شك أنها لفظ محبوب للنفوس {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد:19] ، ولكن لا يجوز أن نشهد لشخص بعينه أنه شهيد إلا من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم لوجوه: الوجه الأول: لو رأينا رجلاً يقاتل الكفار فقتل فإننا لا نقول: هذا شهيد، لكن نقول: نرجو أن يكون شهيداً، أو نقول على سبيل العموم: كل من قتل في سبيل الله فهو شهيد، وذلك أن الشهادة تنبني على أمر غير معلوم لنا، تنبني على نية القلب، ونية القلب غير معلومة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مكلوم يكلم في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله.
) وهذا احتراز من أحسن الاحترازات، كأنه يقول: ولا تحكموا على كل من قُتل أو جرح في سبيل الله أنه في سبيل الله؛ لأن الله أعلم بمن يكلم في سبيله، وحينئذ لا نأخذ بالظاهر، أي: لا نشهد بأن هذا شهيد؛ لأنه قد يكون في قلبه شيء لا نعلمه، فالإنسان قد يقاتل شجاعة، وقد يقاتل حمية، وقد يقاتل لعصبية وهي الحمية، وقد يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا وهذا في سبيل الله، لكن هذا مبني على النية.
الوجه الثاني: أننا لا نقول: فلان شهيد؛ لأننا لو قلنا: فلان شهيد؛ لزم أن نشهد له بأنه من أهل الجنة؛ لأن كل شهيد فهو من أهل الجنة لا شك، ولا يجوز أن نشهد لشخص بعينه أنه من أهل الجنة إلا من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم، ونحن إذا لم نقل: إنه شهيد، وكان عند الله شهيداً؛ لم تضره عدم شهادتنا له، وإذا قلنا: إنه شهيد، وهو ليس عند الله بشهيد، هل تنفعه شهادتنا له؟ فإذا كان الأمر كذلك؛ فلماذا نطلق ألسنتنا في أمر لا نعلمه؟ ولكن نقول: من قُتل في سبيل الله فهو شهيد، ونرجو أن يكون هذا الرجل ممن قتل في سبيل الله فينال الشهادة.(32/14)
ارتكاب المعاصي من أسباب عذاب القبر
السؤال
مر الرسول صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير) الحديث، فشهد أنهما يعذبان وهما من الصحابة، وبالقطع الصحابة أفضل ممن بعدهم، فهل يدل هذا على أن كل من مات منَّا أنه سيعذب؟
الجواب
لا.
هذان الرجلان يعذبان في أمر عصيا الله فيه، قال: (أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة) ، فمن فعل هذا فإنه يعذب في قبره.
ولسنا أفضل من الصحابة قطعاً، ولكن إذا تجنبنا هذا العمل الذي هو من أسباب التعذيب في القبر؛ فإننا لن نعذب إلا أن يكون هناك سبب آخر.(32/15)
حكم طلاق الحامل عند الغضب
السؤال
رجل نهى زوجته أن تضرب الأولاد ولكنها فعلت، فقال لها غاضباً: أنت طالق طالق طالق، وهي حامل، وبعضهم أفتاه بأنها طلقة واحدة، وبعضهم قال: ثلاث، وآخر قال: إن الطلاق لا يقع على الحامل، فما قولك؟
الجواب
قولنا: إننا في عصر كثر فيه المتكلمون بغير علم، ولهذا يجب على الإنسان ألا يعتمد على أي فُتيا إلا من شخص معروف موثوقٍ، فهذا الذي قال: إن الحامل لا تطلق جاهل جهلاً مركباً، والجهل المركب أشد من الجهل البسيط؛ لأن الجاهل جهلاً بسيطاً يعلم فيتعلم، لكن الجاهل جهلاً مركباً يرى أنه عالم فيتكلم بما لا يعلم، فالذي قال: إن الحامل لا تطلق، قد خالف القرآن لأن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] ثم قال في نفس السورة: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] إذاً فالحامل تطلق بهذا النص والإجماع، ولم يخالف أحد بذلك، حتى لو جامعها زوجها في الليل وطلقها في النهار فلا بأس.
فنقول للأخ السائل: زوجته طلقت إلا إذا كان غضب غضباً شديداً لم يملك نفسه معه؛ فلا طلاق عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا طلاق في إغلاق) ، لأن الغضب الشديد يحمل الإنسان على أن يقول شيئاً لا يريده، فإن كان في غضب يسير يملك نفسه ثم قال: أنت طالق، طالق، طالق، فالطلاق واحدة حتى على مذهب الحنابلة المشهور عندهم؛ لأن هذا لم يكرر الجملة، إنما كرر جزء الجملة، فالجملة قوله: أنت طالق، لكن هو قال: طالق طالق، فكرر الخبر فقط، قال الفقهاء من الحنابلة: فتطلق واحدة ولا يلزمه أكثر من واحدة إلا بنية، إذا نوى بقوله: طالق طالق طالق، كل واحدة بطلقة؛ فإنها تكون ثلاثاً، وهذا ما ذهب إليه الفقهاء رحمهم الله، ولكن الصحيح أنها لا تطلق إلا واحدة على كل حال، حتى لو قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق فهي واحدة، أو قال: أنت طالق ثلاثاً فهي واحدة، لقول ابن عباس رضي الله عنهما: [كان الطلاق الثلاث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فلما كثر ذلك في الناس قال عمر رضي الله عنه: أرى الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم] فأمضاه عليهم، فالقول الراجح في هذه المسألة أنها لا تطلق بهذا إلا واحدة فقط، وإذا لم يسبق منه طلقتان فله أن يراجعها فيُشهد اثنين على أنه راجع زوجته وهي في عصمته.(32/16)
ما يفعله من فاته قيام الليل
السؤال
متى أصلي صلاة القيام إذ لم أقم إلا بعد أذان الفجر؟
الجواب
إذا فات الإنسان قيام الليل لمرض أو نوم غلبه فإنه يصلي في النهار، ولكن إذا كان من عادته أن يوتر بثلاث يجعلها أربعاً، وإذا كان من عادته أن يوتر بخمس يجعلها ستاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غلبه نوم أو وجع من الليل صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة.(32/17)
حكم استعمال الإشارة في أحاديث الصفات لتقريب معنى الصفة ونحوه
السؤال
معلم يعلم الناس، ففي مبحث الصفات في العقيدة تراه يشير لتقريب الفهم، فمثلاً إذا أورد حديثاً في تجلي الرب لموسى أظهر خنصره، فيشير بالخنصر أو نحوه من أحاديث الصفات، فهل هذا العمل يسوغ؟ وإذا كان سائغاً فعلامَ يحمل نهي بعض السلف عن ذلك، كقول الشافعي وغيره، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
هذه مسألة خطيرة، ولسنا أحرص من النبي صلى الله عليه وسلم على إبلاغ الأمة، ولم يكن من عادته أنه صلى الله عليه وسلم يشير إذا تكلم عن الصفات، فإنه حدث أمته أن الرب عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل فيقول: (من يدعوني فأستجيب له) .
وهل الرسول صلى الله عليه وسلم قدم رجله ليرى الناس كيف ينزل الله؟ أبداً.
وقال: (إنه يأتي للفصل بين عباده يوم القيامة) ولم يقل هكذا وهكذا، وكذلك استوى الله على العرش ولم يقل كاستوائي على السرير، أو يحاول أن يكيف ذلك.
ولا شك أن الذي يُحدِّث العامة ثم يشير بيده إلى معنى الصفة لا شك أنه سوف يجعل في قلوب العامة التمثيل -أي: سينتقلون من المعنى إلى التمثيل- لأن العامي لا يفهم ولا يفكر، فنقول لمن أراد أن يبين أو أن يبلغ عن الله ورسوله ما أخبر الله به عن نفسه من الأسماء والصفات، نقول: يكفيك هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم إنه قد يورد علينا: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً)) [النساء:58] ووضع إصبعه على عينه والثانية على أذنه) ، فنقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد بيان تحقيق هذه الصفة، ثم إنه يحدث قوماً عندهم فهم وعندهم وعي، أما العامة ولا سيما في وقتنا هذا فإنهم لو حدثوا بوصف كل الصفات بالفعل لكان لبعضهم فتنة، وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: [إنك لن تحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم؛ إلا كان لبعضهم فتنة] وقال علي رضي الله عنه: [حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟] .
فإذا أورد علينا شخص مثل هذا الذي وقع من النبي صلى الله عليه وسلم في السمع والبصر، أو في قبض السماوات يوم القيامة، فإنا نقول له: لكل مقام مقال، ثم إننا نقتصر على ما جاء به النص فقط، فلا يشير في شيء آخر؛ لأنه لم يرد فيه النص.(32/18)
واجب الولد إذا تعارض أمر الوالد والوالدة له
السؤال
ما الحكم إذا تعارض أمر الوالد مع الوالدة؟
الجواب
إذا تعارض أمر الوالد والوالدة فيجب أن تداريهما وأن تقضي شغل الوالد وشغل الوالدة، فإذا تعذر ذلك يُنظر أيهما أكثر ضرراً إذا خالفته، فإن كان الأكثر ضرراً الوالد فاقض حاجة الوالد، وإن كانت الوالدة أكثر ضرراً فاقض حاجة الوالدة، وإن تساويا فقدم الوالدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن أحق الناس بحسن صحبتي قال: (أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك) .(32/19)
حكم تقسيم الناس إلى درجات من جهة التلقي
السؤال
بعض أهل العلم يقسم الناس من حيث التلقي إلى ثلاث مراتب: مرتبة الاجتهاد وهم العلماء، ومرتبة الاتباع وهم طلبة العلم، ومرتبة التقليد وهم العوام، فما رأي فضيلتكم في هذه القسمة؟
الجواب
نعم.
الناس يختلفون، فمنهم من يصل إلى درجة الاجتهاد ومنهم دون ذلك، ومنهم من يكون مجتهداً في مسألة من المسائل، يحققها ويبحث فيها ويعرف الحق فيها دون غيره، ومن الناس من لا يعرف شيئاً.
فالعامة مذهبهم مذهب علمائهم، ولهذا لو قال لنا قائل: إنني أشرب الدخان؛ لأن في البلاد الإسلامية الأخرى من يقول: إنه جائز، وأنا لي حرية التقليد، قلنا: لا يسوغ لك هذا؛ لأن فرضك أنت هو التقليد، وأحق من تقلد علماؤك، ولو قلدت من كان خارج بلادك أدى ذلك إلى الفوضى في أمر ليس عليه دليل شرعي، ولو قال: إنه سيحلق لحيته؛ لأن من علماء الأمصار من قال: لا بأس بذلك، نقول له: لا يمكن، أنت فرضك التقليد، لا تخالف علماءك، ولو قال: أنا أريد أن أطوف على قبور الصالحين؛ لأن من علماء الأمصار من قال: لا بأس بذلك، أو قال: أريد أن أتوسل بهم إلى الله، وما أشبه ذلك، قلنا: لا يمكن هذا.
فالعامي يجب عليه أن يقلد علماء بلده الذين يثق بهم، وقد ذكر هذا شيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله، وقال: العامة لا يمكن أن يقلدوا علماء من خارج بلدهم؛ لأن هذا يؤدي إلى الفوضى والنزاع، ولو قال: أنا لا أتوضأ من لحم الإبل؛ لأنه يوجد من علماء الأمصار من يقول: لا يجب الوضوء منه، ولقلنا: لا يمكن، يجب عليك أن تتوضأ لأن هذا مذهب علماءك وأنت مقلد لهم.
لكن العامي إذا استفتاك فأفته بما تراه أنه الراجح، وإذا كان الراجح يخالف ما عليه الناس؛ فأفته به سراً ما دامت المسألة اجتهادية وليس فيها نص، وقل له: هذه فتوى بيني وبينك.
أما إذا كان الذي عليه الناس مخالف للنص؛ فأفته علناً ولا تُبالِ، لكن لا تذكر له الخلاف، فإن العوام يقولون: إذا أردت أن تحيِّر فخيِّر، ولهذا دائماً نقول للطلبة: لا تبينوا الخلاف للعامة فتذبذبوهم، ونقول: أيضاً لمن يعرف القراءات السبع: لا تقرأ بها أمام العامة؛ لأنك لو قرأت بقراءة أخرى غير التي في المصحف عندهم شوش عليهم ذلك.(32/20)
أقسام النفاق وضوابطه
السؤال
كثيرون هم من يتهمون غيرهم بالنفاق في هذا الزمان، ويستدل بالآية: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142] وغيرها، فما هو ضابط النفاق؟
الجواب
النفاق -بارك الله فيك- نوعان: نفاق اعتقادي، ونفاق عملي، فالنفاق الاعتقادي محله القلب ولا يعلم به إلا الله، ولهذا بعض الصحابة الذين حصل منهم المخالفة، فقال عمر: [إنه نافق] فعارضه الرسول صلى الله عليه وسلم.
فالنفاق الاعتقادي محله القلب، ولا يجوز أن يرمي الإنسان به أحداً من المسلمين، وأهل الولاء لله ورسوله إلا ببينة واضحة.
والنفاق العملي: أن يأتي الإنسان خصلة من خصال المنافقين، فلا بأس أن تقول: هذا منافق لهذا الفعل، فإذا رأينا الرجل يحدث ويكذب؛ قلنا: هذا منافق نفاقاً عملياً في هذه المسألة، وإذا رأيناه قام إلى الصلاة وهو كسلان؛ نقول: هذا فيه خصلة من خصال المنافقين؛ لأنه أشبه بالمنافقين في قيامه إلى الصلاة على وجه الكسل، فالنفاق العملي واسع؛ فكل من وافق المنافقين في خصلة من خصالهم فإنه منافق في هذا العمل خاصة، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) ، هذه علامة المنافق، لكن هذه العلامات قد يقوم بها أناس من المسلمين؛ فنقول: هو منافق في هذه المسألة.(32/21)
أجود التفاسير النافعة المختصرة
السؤال
تعلمون حفظكم الله أن الإجازة الصيفية قادمة، فحبذا لو دللتمونا على بعض كتب التفسير تنصحونا بقراءتها، وتكون خالية من الإسرائيليات والموضوعات، وما تعليقكم على تفسير الجلالين من حيث الإسرائيليات جزاكم الله خيراً؟
الجواب
أنا أرى أن من خير التفاسير تفسير الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله على ما فيه من بعض الآيات التي يختصر فيها إختصاراً مخلاً، أو ربما يطويها ولا يتكلم عليها لكن هذا قليل، إنما فيه فوائد ما تكاد تجدها في غيره، فهو صالح لطالب العلم، والنقص الذي فيه يمكن للإنسان أن يتلافاه بمراجعة تفسير ابن كثير أو غيره كـ فتح القدير للشوكاني، وإن كان فيه ما فيه لكنه طيب.
والذي يصلح للعوام تفسير الشيخ عبد الرحمن بن سعدي؛ لأنه ليس فيه إسرائيليات، ولا أسانيد ولا شيء يشوش عليهم، وتفسير الجلالين لطالب العلم جيد؛ لأنه في الحقيقة زبدة، وكما تعلم أنه يتمشى في مسألة الصفات على مذهب الأشاعرة فلا يوثق به فيرد قوله في ذلك، لكن في غير ذلك جيد جداً من حيث سبكه للقرآن، وتنبيهه في كلمات وجيزة على أمور تخفى على بعض طلبة العلم، فإذا اجتمع الفتوحات الإلهية وهو ما يعرف بـ حاشية الجمل مع الجلالين كان طيباً.(32/22)
حكم حمل ما فيه صورة
السؤال
ما حكم حمل الأشياء التي فيها الصور؟
الجواب
إذا كان يحملها للضرورة، أو للحاجة فلا بأس، مثل النقود.
فالنقود الآن فيها صور الملوك، لكن هل نحن اخترنا ذلك؟ الجواب: لا.
لكننا مضطرون إلى هذا، ماذا نصنع في نقودنا؛ لابد أن ينقلها الإنسان، وكان الناس من قبل يحملون نقوداً فيها صور غير المسلمين، وهي صور مجسمة أيضاً، كانوا يحملون الريال الفرنسي، والريال الفرنسي فيه صورة ملك السويد أو غيرها، وهي صورة مجسمة تلمسها بيدك، ومن ورائها صورة الطير، ويحملون الجنيه الإفرنجي وعليه صورة جورج ملك الإنجليز، وعليها من الجانب الآخر فرس عليه راكب، ويلمس، لكن ماذا يصنع الناس، والحاجة مثل أن يحمل الإنسان بطاقته الشخصية من أجل أن يثبت شخصيته إذا دعت إليه الحاجة، فهذا لا بأس به إن شاء الله.
أما حمل صورة مقصود حملها للذكرى كصورة الصديق وما أشبهها فهذا لا يجوز، وقولي مقصود حملها احترازاً مما يوجد في بعض الصحف من الصور التي هي غير مقصودة -يعني الذي يقرأ الصحيفة ما قصد الصورة ولا يريدها- فهذا لا بأس من حملها؛ لأنها غير مقصودة، لكن لو قال قائل: أريد أن أشق الصورة فقط ويجعلها -أي الصورة- في جيبه فلا يجوز؛ لأنها حينئذٍ مقصودة.(32/23)
حكم الدعاء بعد الصلاة
السؤال
ما حكم الدعاء بعد الصلاة؟
الجواب
الدعاء بعد الصلاة إذا كان المقصود به رقع الخلل الذي فيها فإنه مشروع، ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم استغفر ثلاثاً، قال: (أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله) أي أسأل الله المغفرة، أما إذا كان دعاء لغير ذلك فالأفضل أن يدعو به قبل أن يسلم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن مسعود: (ثم ليتخير من الدعاء ما شاء) .
وليس من اللائق أن الإنسان إذا انصرف عن ربه بالسلام من الصلاة ذهب يدعو، بل الأليق أنك ما دمت بين يدي الله تناجيه وتدعوه عز وجل، ولهذا لم يكن من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم أنه إذا سلم من الصلاة دعا، إلا فيما يعتبر ترقيعاً لخللها كالاستغفار.
وما حفظ عنه بعد الفريضة ولا بعد النافلة فيما أعلم إلا مرة واحدة؛ وذلك حين وضع كفار قريش عليه سلى الناقة وهو ساجد تحت الكعبة قبل الهجرة، والقصة مشهورة معروفة، فإنه لما سلم رفع يديه يدعو وكأن هذا والله أعلم من أجل إغاظة هؤلاء الكفار وإدخال الرعب في قلوبهم؛ لأنه لو دعا وهو يصلي ما علموا بذلك، فلما فرغ من صلاته رفع يديه يدعو، فهذا له سبب، والله تعالى أعلم.
وإلى هنا ينتهي هذا المجلس، وإلى لقاء قادم إن شاء الله تعالى، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(32/24)
لقاء الباب المفتوح [33]
في هذا اللقاء بيان نعم الله الكثيرة وأهمها نعمة الإسلام، وعرّج الشيخ على التحذير من الفرقة والاختلاف، ثم أجاب على الأسئلة، ومن أهم ما أجاب عليه الشيخ مسألة القوانين الوضعية، وحكم الجهاد في هذا العصر، وما هو سبب اختلاف العلماء، ثم أشار بإشارة مهمة عن التحذير من فرقة المرجئة.(33/1)
نعم الله على عباده
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإننا نذكر الإخوة جميعاً بما أنعم الله به علينا في هذه الجلسة المباركة، وهذا اللقاء المبارك، وهو اللقاء الثالث في شهر صفر من عام (1414هـ) الذي يكون كل يوم خميس.(33/2)
نعمة الإسلام
إننا -ولله الحمد- في هذه البلاد نتمتع بنعم كثيرة، أهمها: نعمة الإسلام، فليس -ولله الحمد- في بلادنا شيء من خصال الكفر الظاهرة، أو البدعة الظاهرة، فالكل -ولله الحمد- على عقيدة التوحيد والعقيدة السلفية، عقيدة أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بالأمور التي خالف فيها أهل البدع لطريق السلف الصالح، وهذه أكبر نعمة على العبد؛ لأنها تتصل بها سعادة الدنيا والآخرة، كما قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] .(33/3)
نعمة الطعام والشراب
أما النعمة الثانية: فهي نعمة توفر الطعام، والشراب، واللباس، والمساكن، والمراكب؛ التي قد تكون غير متوفرة في كثير من البلاد الإسلامية وغير الإسلامية، فما أكثر الذين يموتون جوعاً، أو يتضورون جوعاً، وما أكثر الأمم الذين لا يجدون ما يكسون به عوراتهم أو يتقون به البرد، أو يتقون به الحر! وما أكثر الأمم الذين لا يجدون مساكن إلا عشاشاً أو أشجاراً يضعون عليها قطعاً من الثياب يتظللون بها! وهذا شيء معلوم بالأخبار المتواترة من الثقات الذين يذهبون إلى تلك البلاد، ومما نسمع من الإذاعات.(33/4)
نعمة الأمن
أما النعمة الثالثة فهي: نعمة الأمن، التي ترفل بها هذه البلاد، فالناس -ولله الحمد- في أمن كامل على أنفسهم وعلى أهليهم وعلى أموالهم، ليس هناك -ولله الحمد- اغتيالات ولا سطو على البيوت، ولا سرقة للأموال، حتى أن الأموال تكون في الأسواق ليس عندها حارس، ولكن الله سبحانه وتعالى يحرسها بما أودع في هذه البلاد من الأمن.
وهذه النعم الثلاث هي التي أشار الله تعالى إليها في قوله: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:3-4] .
فالإطعام من الجوع حاصل، والأمن من الخوف حاصل، وبقي علينا العبادة.
نحن -ولله الحمد- نرى أن بلادنا من خير البلاد الإسلامية، ولكن هل هذه النعم ستبقى، أو تزيد، أو تزول؟ الجواب جاء من عند الله عز وجل قال الله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] فإن شكرنا الله على هذه النعم، وقمنا بما يجب من حقوق الله، وحقوق عباد الله وأعظمها حقوق الوالدين.
أما حق النبي صلى الله عليه وسلم فإنه داخل في حق الله، ولهذا تجدون الآيات الكريمات يذكر الله تعالى فيها حقه، ثم حق الوالدين، قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [النساء:36] .
فلماذا لم يذكر حق الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أعظم من حق الوالدين؟ لأنه داخل في حق الله تعالى، إذ أن العبادة لا تتم إلا بالإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن إذا قمنا بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أدينا الحق.(33/5)
الحذر من التفرق والاختلاف
كذلك -أيضاً- يجب علينا أن نحذر من التفرق، وتمزق الكلمة، واختلاف القلوب؛ فإن ذلك يوجب الفشل والخذلان، كما قال الله عز وجل: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46] .
وأنا أرى في الساحة اختلافاً، وأرى قيل وقال، فهذا ينصر هذا القول، وهذا ينصر القول المضاد، وهذا ينتحل لهذا الرجل، وهذا ينتحل لرجل آخر، وكل شخص منهم يقف ضد الآخر، وهذا خطر عظيم، ما لنا ولزيدٍ أو لعمروٍ، نحن نتبع الحق أينما كان، ومن أي جهة كانت، وليس الحق مخصوصاً بشخصٍ معين دون شخصٍ آخر، ربما يأتي الحق من رجل كافر، وربما يأتي الحق من رجل فاسق، وربما يفوت الحق رجلاً مؤمناً يخطئ، وكل إنسان خطَّاء.
وقد تستنكرون أن أقول: إن الحق يأتي من رجل كافر! ولكنه يأتي من رجل كافر، ويجب قبوله، أليس الله تعالى يقول: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف:28] فقال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف:28] ولم يكذبهم في قولهم: {وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} [الأعراف:28] لأن قولهم: {وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} [الأعراف:28] حق فأبطل الله قولهم: {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف:28] ولم يبطل قولهم: {وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} [الأعراف:28] لأنه حق فيجب قبوله ولو كان من كافر، وهذا الرجل اليهودي الذي حدث النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله يجعل السماوات على إصبع والأرضين على إصبع، إلى آخر الحديث هل كذبه الرسول صلى الله عليه وسلم؟ أو قال: لا نقبل منك لأنك يهودي؟ لا.
صدَّقه، وضحك حتى بدت نواجذه تصديقاً لقوله، ثم قرأ قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:67] .
وإذا كان هذا هو الواقع؛ فالواجب علينا أن نتبع الحق أينما كان، وأن نأخذ به من أي مصدر كان.
فما بالنا ننتحل لزيد أو لعمرو ثم نقول: كل ما قاله فهو حق وصواب، وكل ما قاله الآخر فهو باطل وخطأ، فهذا لا يليق بالمؤمن إطلاقاً، اتبع الحق أينما كان، واعلم أن الإنسان قد يأتي بالحق الكثير ثم يخطئ مرة واحدة، أو يأتي بالخطأ الكثير ثم يصيب مرة واحدة، أو يكون خطؤه وصوابه متساويين، وفي الأحوال الثلاث كلها الواجب علينا: أن نأخذ بالحق وندع الباطل، وإذا رأينا من شخص خطأً ونحن نعلم حسن نيته فالواجب الاعتذار عنه لا التشنيع عليه؛ لأن التشنيع بأهل الحق من خصال النفاق، هم الذين إذا أمسكوا على أهل الإيمان خطأً واحداً بنوا عليه أخطاء كثيرة، وشنعوا عليه، وأشاعوا الفاحشة فيه.
أما المؤمن فإذا رأى من شخصٍ خطأً وهو يعرف منه حسن نيته، فإنه يعذره لحسن نيته، فليس كل إنسان يخطئ نعذره في خطئه، يمكن أن يخطئ متعمداً، لكن إذا علمنا حسن نية الرجل، وأن هذا خطأ فادح، وكل ابن آدم خطاء؛ فإن الواجب علينا أن نعذره، وألاَّ نتحدث ونشنع عليه أمام الناس، ثم الواجب علينا تارة أخرى أن نتصل به، ونقول: إنك قلت كذا، أو فعلت كذا، ثم نبين الخطأ، قد يكون الخطأ بفهمنا نحن، ويكون ما قاله هو صحيحاً، وقد يكون الخطأ منه، وإذا كان حسن النية رجع إلى الصواب حتى لو كان أكبر الناس، من لم يتواضع للحق فهو مستكبر، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) .
فالواجب علينا -أيها الإخوة- ألا يكون همنا القيل والقال، وقال فلان وقال فلان، وفلان على حق، وفلان على خطأ، الواجب علينا أن نتبع الحق أينما كان، وأن نأخذ به من أي مصدر كان، وإذا صدر من شخص خطأ -والإنسان معرض للخطأ- فإنه لا يجوز أن نشنع عليه بهذا الخطأ، بل نعتذر عنه أمام الناس متى علمنا حسن نيته، ثم نتصل به لمناقشته على ما نظن أنه خطأ؛ إذ قد يكون الخطأ منا لا منه، حتى تستقيم الأمة وتكون الكلمة واحدة، ولا يحصل تفرق ولا نزاع، وأنتم تعلمون -بارك الله فيكم- أنه إذا حصل التفرق والتمزق بين الأمة زالت هيبتها، وصارت فريسة للشيطان والهوى، لكن إذا عقدنا العزم على أن نكون يداً واحدة، وأن نكون قلباً واحداً، وأن نكون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم مخبراً خبراً يجب أن يطبق: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) وبهذا تتم أمورنا وتحسن أحوالنا، نسأل الله أن يتم لنا ذلك بمنه وكرمه.(33/6)
الأسئلة(33/7)
حكم صلاة المنفرد خلف الصف
السؤال
بعض الأحكام التي اختلف فيها الفقهاء قد ورد فيها نص من الكتاب والسنة، كصلاة المنفرد خلف الصف، هل يقال في هذا النص أو هذا الدليل: إنه ضعيف وليس حجة، ولا ينبني عليه حكم؟ أو يقال: إنه حديث صحيح، ولا اجتهاد مع النص؛ فأيهما قد ورد في هذه المسألة؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الاختلاف بين العلماء كثير في هذه المسألة وغيرها، وأسبابه -أيضاً- متعددة، قد يكون سبب الخلاف أن العالم لم يبلغه الحديث، ولا غرابة ألا يبلغه الحديث؛ لعلنا نذكر قصة خفي فيها الحديث على الخليفة الثاني في هذه المسألة وعلى من معه من الصحابة وذلك حينما توجه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى الشام، وفي أثناء الطريق قيل له: إن الطاعون وقع في الشام -والطاعون وباء فتاك- فوقف واستشار الصحابة كلهم؛ المهاجرين والأنصار، واختلفت آراؤهم، فمنهم من يقول: تقدم وتوكل على الله وما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأنت آتٍ لله عز وجل فاستمر، ومنهم من قال: لا تهلك المسلمين، لا تقدمهم على الطاعون يقتلهم ومعك الصفوة من المهاجرين والأنصار؛ فإذا قتلوا بالطاعون فهذه نكبة كبيرة ارجع.
اختلفوا لكن استقر رأيهم على أن يرجعوا، فأتى أبو عبيدة بن الجراح -أمين هذه الأمة- ومنزلته عالية عند أمير المؤمنين عمر، حتى أنه لما طُعن عمر رضي الله عنه قال: [لو كان أبو عبيدة حياً لخلفته على المسلمين] جاء أبو عبيدة إلى عمر فقال: [يا أمير المؤمنين! كيف ترد الناس؟ كيف ترجع؟ أتفعل هذا فراراً من قدر الله، قال: نفر من قدر الله إلى قدر الله، ثم ضرب له مثلاً، قال: لو كان هناك وادٍ -مجرى الماء- له شعبتان إحداهما مخصبة والثانية مجدبة، ولك إبل هل تعدلها عن المجدبة إلى المخصبة أم تذهب إلى المجدبة، قال: أعدلها من المجدبة إلى المخصبة، قال: بقدر الله، قال: بقدر الله، قال: هكذا نعدل] وفي أثناء ذلك جاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وكان قد تغيب لحاجة له، فسمع بالخبر فجاء إلى أمير المؤمنين فقال: يا أمير المؤمنين! إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الطاعون: (إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليها، وإذا وقع في أرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها فراراً منه) فوافق الاجتهاد النص.
فأقول لكم أولاً: قد يخفى على العالم النص فلا يبلغه فيقول بخلافه، وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع.
ثانياً: قد يبلغه النص لكن لم يتبين له صحته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: هذا حديث ضعيف، ولا يعمل به.
ثالثاً: ربما بلغه ويعتقد صحته لكن لا يفهمه على فهم الآخر، فيخطئ في الفهم، يتأول ويخطئ في التأويل.
رابعاً: قد يكون بلغه وهو عنده صحيح، ويفهمه فهماً صحيحاً لكن يظن أن له نصاً آخر يعارضه، يكون النص المعارض عنده أقوى من هذا.
خامساً: قد يكون ثبت عنده وليس له معارض، لكنه ظنه منسوخاً فيأخذ بما ظنه ناسخاً، مثل: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نتوضأ من لحوم الإبل، وهذا ثابت، فيه حديثان صحيحان عن النبي صلى الله عليه وسلم، حديث البراء وحديث جابر بن سمرة، ففي حديث جابر (كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار) ، فظن كثير من العلماء أن أكل لحوم الإبل لا ينقض الوضوء؛ لأن جابراً يقول: (كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار) فظن أن هذا الحديث ناسخ للحديث الأول؛ لأنه قال: آخر الأمرين، والحق أنه ليس بناسخ؛ لأن مورد النصين مختلف، وذلك في لحم الإبل نيئاً أو مطبوخاً، وهذا فيما مست النار، ثم ترك ذلك، فيخطئ من يظن أن حديث الوضوء من لحم الإبل منسوخ، المهم أن أسباب الخلاف كثيرة.
والمثال الذي ذكره الأخ السائل: وهو صلاة الإنسان منفرداً خلف الصف، للعلماء فيه أقوال متعددة: القول الأول: أن صلاته صحيحة سواء تم الصف الذي أمامه أم لم يتم، ولكنه ترك الأفضل، وهذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة، ورواية عن الإمام أحمد، انظر كيف أن أكثر العلماء على أن صلاة المنفرد خلف الصف صحيحة سواء تم الصف الأول الذي قبله أم لم يتم، يعتبر ثلاثة مذاهب ورواية في مذهب الإمام أحمد، وحملوا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) على نفي الكمال قالوا: لا صلاة أي: كاملة، وليس المعنى أن الصلاة غير صحيحة.
القول الثاني: أن صلاة المنفرد خلف الصف غير صحيحة، سواء تم الصف الذي قبله أم لم يتم، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي خلف الصف فأمره أن يعيد الصلاة، هذان قولان متقابلان.
القول الثالث: وسط، يقول: إن تم الصف الذي قبله فصلاته صحيحة، وإن لم يتم فصلاته غير صحيحة، وهذا القول أصح الأقوال؛ لأن الأدلة تجتمع في هذا القول، فيكون معنى: لا صلاة لمنفرد خلف الصف مع تمكن القيام في الصف، وأما إذا لم يتمكن فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، أين يذهب؟ هل يترك الفرض مع الجماعة أم ماذا؟ قال بعضهم: اذهب وتقدم مع الإمام وهذا ليس بحل، إذا تقدمت مع الإمام لزم من هذا تخطي رقاب الناس وشق الصفوف، وهذا يؤذي المصلين، كما رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يتخطى الرقاب يوم الجمعة فقال: (اجلس فقد آذيت) ثم إنه إذا تقدم وقام مع الإمام حصل بهذا مخالفة للسنة، فالسنة أن ينفرد الإمام بمكانه حتى لا يأتم الناس بإمامين، ولو كان مع الإمام أحد فأيهما الإمام؟ نقول: السنة أن يقف الإمام وحده في مكانه ليتبين أنه إمام، وهذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لو تقدم وصلى مع الإمام وجاء آخر ووجد الصف تاماً نقول: تقدم فصاروا ثلاثة، ثم جاء آخر وجد الصف تاماً نقول تقدم فصاروا أربعة، حتى يصبحوا عشرة مع الإمام وهذا غير ممكن أن يصف هؤلاء جميعاً مع الإمام، لكن لو وقف وصلى وحده خلف الصف ثم جاء آخر وقف معه وكونوا صفاً، فالقول الوسط الذي يقول: إذا وجدت الصف تاماً فصف وحدك ولا حرج، هذا هو الصحيح، وهو الذي تجتمع عليه الأدلة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، واختيار شيخنا عبد الرحمن بن سعدي فالمهم: أن العلماء والأئمة لا يمكن أن يخالفوا النص مع علمهم بأنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بتأويل أو بخفاء الدليل، أو بظن مرجح في غيره، أو بظن النسخ، فهذه أعذار أهل العلم في مخالفة ما يظهر من النصوص، وأنصح الأخ السائل والمستمعين -أيضاً- بقراءة (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أو رسالتنا الصغيرة التي ألفناها في هذا الموضوع، وهي (أسباب اختلاف العلماء وموقفنا من ذلك) ، ففي ذلك كفاية وفيها أمثلة -أيضاً- تزيدكم علماً، لأن فيها أمثلة لما خالف فيه بعض العلماء ظاهر النص، وأعذار أهل العلم في ذلك.(33/8)
حكم المحاماة ودراسة القانون الوضعي
السؤال
ما حكم عمل المسلم الذي يدرس القانون الوضعي؛ ثم يفتح مكتباً للمحاماة ويقف مرافعاً أمام المحاكم المدنية لإدارات الشركات؟ وما حكم ما يجمعه من مال؟
الجواب
وضع القوانين المخالفة للشرع مكان الشرع كفر؛ لأنه رفع للشرع ووضع للطاغوت بدله، وهذا يدخل في قوله عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] ولا حجة لمن قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) وهذه قوانين دنيوية نحن ما أتينا الصلاة والعبادات، والنكاح، والفرائض، لكن المعاملة بين الناس هي أمور دنيوية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) فنحن لا نكفر بذلك لأننا لم نرفع الشرع بل تصرفنا وفق الحديث (أنتم أعلم بأمور دنياكم) ؟!! نقول: لقد ضلوا فيما فهموا؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) في أمر الصناعة، وأمر الحرفة، لو جاء النجار وقال: كيف يصنع الباب؟ هل هو أعلم أم الرسول؟ هل النجار الماهر بالصنعة أعلم كيف يصنع هذا الباب أم النبي صلى الله عليه وسلم؟ الجواب: النجار؛ لأن الرسول تحدث عن هذا في أمر صناعي، وذلك أنه لما قدم المدينة وجد الناس يصعدون إلى فحل النخل ويأخذون الطلع، ثم يصعدون إلى النخلة ويلقحونها، فكم تعب الإنسان؟ أربع مرات، صعود الفحل والنزول منه، وصعود النخلة والنزول منها أربع مرات تقتضي جهداً ووقتاً، فقال لهم: (لو لم تفعلوا لصلح) لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يريد من المرء أن يكون حازماً، وألا يضيع دقيقة واحدة من عمره إلا في فائدة، فظن أن المسألة ليس فيها فائدة؛ لأنه لم يعش في بلد زراعة ونخيل، أين عاش؟ في مكة في بلد غير ذي زرع، ولا يعرف من هذا شيئاً، فتركوا النخل بدون تلقيح ففسد النخل وخرج البلح شيصاً، فجاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله! فسد النخل، فقال لهم: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) أي: أنتم أعلم في الحرفة والصنعة لا في الحلال والحرام، ولهذا نظم الرسول صلى الله عليه وسلم بيع النخل، فقد نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، وأطول آية في القرآن تتعلق بالبيع والدين في أمور الدنيا.
فهؤلاء الذين ظنوا أن وضع القوانين المخالفة للشرع في الحكم بين الناس والرجوع إليها عند التنازع أخطئوا في فهم هذا الحديث، والواجب أن يبلغوا أنهم مخطئون؛ فإن أصروا على المخالفة وعلى رفع الحكم الشرعي ووضع القانون بدله فهذا -والعياذ بالله- كفر.
وأما تعلم الإنسان للقوانين الوضعية، إذا كان يتعلمها من أجل أن يدفع الباطل بالحق؛ فهذا لا بأس به، وإذا كان يتعلمها من أجل أن يتبع ما فيها من القوانين المخالفة للشرع؛ فهذا حرام.
وفي هذا نقول: حتى المحاماة في بلد تحكم الشريعة فيه نقول: إذا كان المحامي يريد إيصال الحق إلى أهله؛ فلا بأس أن يمارس هذه المهنة، وإن كان يريد أن يغلب الناس في قوله ومحاماته بالحق أو بالباطل؛ فهذا حرام.(33/9)
حكم النذر المعلق في الطاعات
السؤال
رجل أصابه مرض فنذر نذراً إن شفاه الله أن يصوم أيام البيض، فشفاه الله، فبدأ يصوم أيام البيض، هل يستمر في صيامها رغم أنه بدأ يمل؟
الجواب
أولاً: النذر مكروه، ويكره للإنسان أن ينذر سواءً على الشفاء، أو على النجاح، أو على حصول شيء ضائع له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن النذر) .
ثانياً: إذا نذر نذر طاعة وجب عليه أن يوفي به، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه) وعلى هذا يجب على الأخ الذي نذر أن يصوم أيام البيض أن يصومها من كل شهر، إلا إذا كانت نيته أن يصومها من الشهر الذي يلي الشهر الذي شفاه الله فيه، فيكتفي بشهر واحد، أما إذا أطلق فيجب أن يصومها كل شهر.(33/10)
الفرق بين جماعة الإخوان والجماعة السلفية
السؤال
نريد أن نعرف ما الفرق بين جماعة الإخوان والجماعة السلفية؟
الجواب
والله -يا أخي- إنني أرى أن الواجب على الجميع أن يكونوا إخواناً في الله وأن يكونوا على طريقة السلف؛ كما قال تعالى ممتناً على المسلمين ومذكراً لهم: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:103] وإذا كانوا متآخين على طريق السلف فهذا طريق المؤمنين، أما إذا كان هناك مبادئ وأفكار تخالف ما كان عليه السلف الصالح؛ فإنه يجب أن تُعدل أو تبدل.(33/11)
الضابط في حمل الصور
السؤال
في الجلسة الماضية قلتم: إنه يجوز حمل الصور للضرورة فلو بينتم ضابط الضرورة؟
الجواب
الضرورة مثل أن تكون الصورة في النقود، أو في التابعية التي لابد للإنسان من حملها، أو في رخصة القيادة؛ هذه من الضرورات.
فالإنسان لا تهمه هذه الصورة ولا يقع في نفسه أي تعظيم لها، حتى الصور التي في النقود كصور الملوك لا يشعر الإنسان بأنه يعظم هذه الصورة.(33/12)
معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإذا أمن فأمنوا)
السؤال
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا أمن فأمنوا) فما معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا أمن فأمنوا) ؟
الجواب
معناه: إذا شرع في التأمين أو إذا بلغ موضع التأمين فأمنوا؛ لأنه ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال الإمام: ولا الضالين، فقولوا: آمين) وهذا نص في الموضوع، واللغة العربية قد يطلق فيها الفعل، ويراد الشروع فيه؛ وبعض الناس قال: إن قوله: إذا أمن أي: إذا انتهى من التأمين، وليس كذلك، بل إذا بلغ موضع التأمين فأمنوا، وحديث أبي هريرة في صحيح مسلم يوضح ذلك قال عليه الصلاة والسلام: (إذا قال الإمام: ولا الضالين، فقولوا: آمين) .(33/13)
موضع دعاء الاستخارة
السؤال
موضع دعاء الاستخارة هل هو في السجود أو بعد الانتهاء من الصلاة؟
الجواب
موضع دعاء الاستخارة إذا سلم من الركعتين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فليصل ركعتين ثم ليقل) وذكر الدعاء.(33/14)
توجيه أحاديث الرجاء وتعذيب العصاة
السؤال
بالنسبة للحديث الذي ورد في الرجل الذي يمنُّ الله عليه ويخلصه وكان له تسعة وتسعون سجلاً من الذنوب والمعاصي وضعت في كفة، ثم جيء بالبطاقة التي فيها شهادة أن لا إله إلا الله فرجحت البطاقة وطاشت السجلات، فما توجيهكم للحديث مع بقية الأحاديث التي هي معلومة؟ ولابد من تعذيب العصاة في جهنم مع أنهم جميعاً يقولون: لا إله إلا الله -وأيضاً- هل يصلح إيراد هذا الحديث وبقية أحاديث الرجاء على العوام، أو لابد من البيان؟
الجواب
أما الأول: فيجب أن نعلم أن من كان مؤمناً ولو كان إيمانه ضعيفاً، فإننا لا نجزم له بدخول النار؛ لقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فهذا الرجل الذي معه كلمة التوحيد وهي شهادة أن لا إله إلا الله، كان هذا الإخلاص التام مانعاً له من الخلود في النار، ومجوزاً أن يغفر الله له كما في الآية: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] وهذه الآية -كما تعلمون- ذكرت مرتين في سورة النساء.
وأما أحاديث الرجاء كهذا الحديث وغيره فهل يحسن أن تتلى على العوام؟ الجواب: يحسن أن تتلى على العوام مع أحد أمرين: إما أن يُشرح للعوام معناها، وإما أن يذكر معها أحاديث الوعيد حتى لا يغلب عليهم الرجاء فيقعوا في الأمن من مكر الله، ولا الخوف فيقعوا في القنوط من رحمة الله، ولهذا قال عبد الله بن مسعود كلمة جيدة قال: [إنك لن تحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة] فالواجب على الإنسان إذا ذكر مثل هذه الأحاديث أن يشرح معناها حتى لا يتلبس على العوام.(33/15)
حكم الجهاد في هذا العصر
السؤال
أرجو أن تبين مدى حاجة المجتمع الإسلامي للجهاد في سبيل الله؟
الجواب
هذه الحاجة بينها الله عز وجل في كتابه فقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39] فالناس في حاجة إلى قتال الكفار الآن حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، ولكن هل يجب القتال، أو هل يجوز القتال مع عدم القدرة عليه؟ الجواب: لا يجب، بل ولا يجوز أن نقاتل ونحن غير مستعدين له، والدليل على هذا أن الله عز وجل لم يفرض على نبيه وهو في مكة أن يقاتل المشركين، وأن الله أذن لنبيه في صلح الحديبية أن يعاهد المشركين ذلك العهد الذي إذا تلاه الإنسان ظن أن فيه خذلاناً للمسلمين.
كثير منكم يعرف كيف كان صلح الحديبية حتى قال عمر بن الخطاب: (يا رسول الله! ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قال: فلم نعط الدنّية في ديننا؟) فظن هذا خذلاناً، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لا شك أنه أفقه من عمر، وأن الله تعالى أذن له في ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري) .
انظر الثقة الكاملة في هذه الحالة الضنكة الحرجة، يعلن هذا ويقول: (لست أعصيه، وهو ناصري) سيكون ناصراً لي، وإن كان ظاهر الصلح أنه خذلان للمسلمين، وهذا يدلنا على مسألة مهمة، وهي: قوة ثقة المؤمن بربه، فهذا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الحال الحرجة يقول: (وهو ناصري) .
وفي قصة موسى عليه السلام لما لحقه فرعون وجنوده وكان أمامهم البحر وخلفهم فرعون وجنوده، ماذا قال أصحابه؟ قالوا: إنا مدركون، قال: كلا.
لا يمكن أن ندرك {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] سيهديني لشيء يكون فيه الإنقاذ، وحصل الإنقاذ وحصل هلاك فرعون وقومه.
فالمهم: أنه يجب على المسلمين الجهاد حتى تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله، لكن الآن ليس بأيدي المسلمين ولا يستطيعون جهاد الكفار، حتى ولا جهاد مدافعة في الواقع.
جهاد المهاجمة -لا شك- أنه الآن غير ممكن حتى يأتي الله عز وجل بأمة واعية تستعد إيماناً ونفسياً ثم عسكرياً، أما ونحن على هذا الوضع فلا يمكن أن نجاهد أعداءنا، ولذلك انظر إلى إخواننا في جمهورية البوسنة والهرسك ماذا يفعل بهم النصارى؛ يمزقونهم أشلاءً، وينتهكون حرماتهم، وقيل لنا: إنهم يذبحون الطفل أمام أمه، ويجبرونها على أن تشرب من دمه، نعوذ بالله! شيء لا يتصور الإنسان أنه يقع، ومع ذلك فإن الأمم النصرانية تماطل وتتساهل وتعد وتُخلف؛ والأمة الإسلامية ليس لها إلا التنديد القولي دون الفعلي، من بعضها لا من كلها، وإلا فلو أن الأمة الإسلامية فعلت شيئاً ولو قليلاً مما تقدر عليه لأثر ذلك، لكن مع الأسف أننا نقف وكأننا متفرجون لاسيما بعض ولاة الأمور في الأمة الإسلامية، الشعوب معها شعور، معها حركة قلبية، لكن لا يكفي هذا، والله إن الإنسان كلما ذكر إخوانه هناك تألم لهم ألماً شديداً، لكن ماذا نعمل؟ نشكو إلى الله عز وجل، ونسأل الله تعالى أن يقيم علم الجهاد في الأمة الإسلامية حتى نقاتل أعداءنا وأعداء الله لتكون كلمة الله هي العليا.
فالآن الخلاصة في الجواب: أن الجهاد واجب (حتى لا تكون فتنة) أي: صد عن سبيل الله، ولا يستطيع أعداء المسلمين أن يدعوا لدينهم، ويكون الدين كله لله، ولكن هذا بشرط أن يكون عندنا قدرة، وليس عندنا الآن قدرة، حتى ولا قدرة الدفاع مع الأسف، فكيف بقدرة المهاجمة، ولما كان المسلمون على الحق، ويعتمدون على رب العزة والجلال، ويمسكون المصحف بيد والرمح بيد، ويقدمون المصحف على الرمح فتحوا مشارق الأرض ومغاربها، وبدأ الناس يأتون إليهم من كل جانب {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً} [النصر:1-2] .
فبدأ الناس يقبلون على الإسلام؛ لأن الإسلام دين الفطرة، والقيم العالية، والأخلاق الفاضلة، فلو عرض للناس، وصور لهم نظرياً وتطبيقياً؛ ما أرادوا سواه، لكن -مع الأسف- المسلمون اليوم أكثر همهم ماذا عندك من المال؟ وكيف قصرك وبيتك؟ وكيف سيارتك؟ هذا أكثر حال الناس -مع الأسف- ولهذا تجد الغش في المعاملات، والكذب، والخداع، والمكر وكل شيء؛ لأن الناس شغلوا بما خلق لهم عما خلقوا له، نحن خلقنا للعبادة، وخلق لنا ما في الأرض جميعاً؛ فشغلنا بما خلق لنا عما خلقنا له، نسأل الله أن يحيينا وإياكم حياة طيبة، وأن يبدل الحال بخير منه.(33/16)
حكم الصلاة داخل الحجر
السؤال
هل الصلاة داخل الحجر جائزة في جميع الاتجاهات؟
الجواب
أعتقد أنك لو صليت في الحجر وظهرك إلى الكعبة لعدك الناس مجنوناً، لكن من الناحية النظرية لو أن الإنسان في الحجر وصلى إلى الجهة الشرقية منه أو الغربية لكفى؛ لأنه يصلي إلى جدار، والحجر من الكعبة.
أما أن يجعل الكعبة وراء ظهره، ويتجه إلى الشمال فإنه لا يجزئه؛ لأن جدار الحجر الشمالي ليس من الكعبة إذ أن الحجر ليس كله من الكعبة، بل من الكعبة مقدار ستة أذرع ونصف تقريباً.
وأما إذا جعلت الكعبة عن يسارك أو عن يمينك إلى الجدار الشرقي أو الغربي من الحجر الداخلي في حدود الكعبة، فإن ذلك يجزئك إن كانت الصلاة نفلاً، ولا يجزئك في الفريضة هذا هو القول المشهور عند أصحاب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، ولكن القول الصحيح أنها تجزئ الفريضة والنافلة إلا أنه ليس من المستحسن أن تدع الكعبة القائمة عن يمينك أو شمالك وتصلي إلى جدار من الحجر.(33/17)
حكم حجز الأماكن في المساجد
السؤال
ما حكم حجز الأماكن في المساجد حيث إن بعض الناس يجعل له مكاناً يحجزه ثم يجلس في الخلف حتى يأتي الإمام، ثم يتقدم يحرم الناس هذا المكان، وهو لا ينتفع به إلا عند الإقامة، مع علمكم بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا، والأحاديث توحي أن الصحابة لم يكونوا يفعلون هذا، حيث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الصف الأول: (حتى لو لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا) وحديث أنس في صحيح البخاري أنه قال: (حتى إذا قضيت الصلاة تبادروا إلى السواري) أو نحو ذلك، أفتونا مأجورين جزاكم الله خيراً؟
الجواب
تحجير الأماكن في المساجد يرى بعض العلماء أنها جائزة مطلقاً سواءً كان الإنسان في المسجد أو خارج المسجد، وهذا هو المشهور عند الحنابلة في كتب الفقه، أنه يجوز للإنسان أن يتحجر ومتى جاء دخل في مكانه، ولكن الصحيح أن هذا حرام، وأنه لا يجوز أن يتحجر؛ لأنه يمنع غيره مما هو أحق به منه؛ ولأن ذلك يؤدي إلى أن يتراخى هو أيضاً في الحضور؛ لأنه إذا اطمأن أن مكانه في الصف الأول تهاون ولم يأت إلا متأخراً؛ ولأنه يترتب عليه -أحياناً- أن يؤذي المصلين بتخطي رقابهم إذا لم يكن للمسجد مدخل من الأمام، هذا الذي نراه في هذه المسألة.
أما إذا كان الإنسان في المسجد بأن يضع شيئاً يحجز به المكان وهو في المسجد فهذا لا بأس به بشرط ألا يلزم منه التخطي لرقاب الناس، وعلى هذا إذا حجزت مكاناً في الصف الأول، ثم وصل الثاني إلى مكانك وحاذاه؛ فإنه يجب عليك أن تتقدم لئلا تتخطى رقاب الناس، ما لم يكن للمسجد مدخل من الأمام تدخل منه، فالصحيح في هذه المسألة التفصيل، وهو: أن من كان في المسجد فلا حرج عليه؛ لأنه حصل له التقدم، ولكن ربما يقوم بعض الناس حيث يرى أن ابتعاده عن الناس أخشع له في صلاته، أو ربما يكون ممن يجهرون بالقراءة فلا يحب أن يبقى في الصف الأول فيشوش على الناس، أو يحب أن يكون له مذاكرة في درس من الدروس يجب أن يكون بعيداً عن الصف، أو غير ذلك من الأغراض، فإذا أقيمت الصلاة تقدم إلى مكانه.(33/18)
حكم المرجئة ومن يعذر بجهله
السؤال
ما حكم المرجئة؟ وما حكم من يصف الذين يعذرون بالجهل بأنهم دخلوا مع المرجئة في مذهبهم؟
الجواب
أولاً: لا بد أن نعرف من هم المرجئة؟ المرجئة هم الذين يقولون: الإيمان عمل القلب، ولكن قولهم هذا باطل لا شك فيه؛ لأن النصوص تدل على أن الإنسان إذا عصى الله عز وجل نقص إيمانه، وأما العذر بالجهل فهذا مقتضى عموم النصوص، ولا يستطيع أحد أن يأتي بدليل يدل على أن الإنسان لا يعذر بالجهل، قال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15] وقال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] ولولا العذر بالجهل لم يكن للرسل فائدة، ولكان الناس يلزمون بمقتضى الفطرة ولا حاجة لإرسال الرسل، فالعذر بالجهل هو مقتضى أدلة الكتاب والسنة، وقد نص على ذلك أئمة أهل العلم: كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، لكن قد يكون الإنسان مفرطاً في طلب العلم فيأثم من هذه الناحية أي: أنه قد يتيسر له أن يتعلم؛ لكن لا يهتم، أو يقال له: هذا حرام؛ ولكن لا يهتم، فهنا يكون مقصراً من هذه الناحية، ويأثم بذلك.
أما رجل عاش بين أناس يفعلون المعصية، ولا يرون إلا أنها مباحة ثم نقول: هذا يأثم، وهو لم تبلغه الرسالة هذا بعيد، ونحن في الحقيقة -يا إخواني- لسنا نحكم بمقتضى عواطفنا إنما نحكم بما تقتضيه الشريعة، والرب عز وجل يقول: (إن رحمتي سبقت غضبي) فكيف نؤاخذ إنساناً بجهله وهو لم يطرأ على باله أن هذا حرام، بل إن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله قال: نحن لا نكفر الذين وضعوا صنماً على قبر عبد القادر الجيلاني وعلى قبر البدوي لجهلهم وعدم تنبيههم.
والمرجئة لم أعلم أن أحداً أخرجهم من الإسلام، وهم لا شك أنهم مخطئون، وأن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، كما يدل على ذلك نصوص كثيرة، وأن عدم عمل الصالحات ينقص من الإيمان.(33/19)
لقاء الباب المفتوح [34]
تحدث الشيخ رحمه الله عن تفسير الآيات الأخيرة من سورة الانشقاق، والتي أقسم الله تعالى فيها بالشفق وهو: الحمرة التي تكون بعد غروب الشمس، وأقسم أيضاً بالليل وما وسق أي: ما جمع، والمقسم عليه هو: قوله تعالى: (لتركبن طبقاً عن طبق) أي: حالاً عن حال، فذكر أحوال الزمان والمكان وأحوال القلوب والأبدان.(34/1)
تفسير آيات من سورة الانشقاق
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو اللقاء الأخير في شهر صفر عام (1414هـ) في يوم الخميس، وبه نختتم ما بقي من سورة الانشقاق.(34/2)
تفسير قوله تعالى: (فلا أقسم بالشفق)
انتهينا في اللقاء السابق إلى قول الله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق:16-19] هذه الجملة مكونة من قسم ومقسم به ومقسم عليه ومُقسِم.
فالقسم في قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} [الانشقاق:16] قد يظن الظان أن معنى (لا أقسم) نفي، وليس كذلك؛ بل هو إثبات و (لا) هنا جيء بها للتنبيه ولو حذفت في غير القرآن لاستقام الكلام، ولها نظائر مثل قوله: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1] {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة:1] {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ} [المعارج:40] {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ} [الحاقة:38] وكلها يقول العلماء: إن (لا) فيها للتنبيه، وأن القسم مثبت.
أما المُقسِم فهو الله عز وجل، وأما المُقسَم به في الآية فهو الشفق وما عُطف عليه، فإن قال قائل: لماذا يقسم الله على خبره وهو سبحانه الصادق بلا قسم؟ وكذلك يقسم النبي صلى الله عليه وسلم على خبره وهو صادق بلا قسم؟ قلنا: إن القسم يؤكد الكلام، والقرآن نزل باللسان العربي.
وإذا كان من عادة العرب أنهم يؤكدون الكلام بالقسم، صار هذا الأسلوب جارياً على لسانهم.
وقوله: (بالشفق) الشفق هو: الحمرة التي تكون بعد غروب الشمس وإذا غابت هذه الحمرة خرج وقت المغرب ودخل وقت العشاء، هذا قول أكثر العلماء، وبعضهم قال: إذا غاب البياض -وهو يغيب بعد الحمرة بنحو نصف ساعة- لكن الذي عليه الجمهور ويقال: إن أبا حنيفة رحمه الله رجع إليه هو أن الشفق هو الحمرة، وإذا غاب هذا الشفق فإنه يدخل وقت العشاء ويخرج وقت المغرب.(34/3)
تفسير قوله تعالى: (والليل وما وسق)
قال تعالى: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} [الانشقاق:17] هذا أيضاً مقسم به معطوف على الشفق، أي: وأقسم بالليل وما وسق، وهذان قسمان: الأول بالليل والثاني بما وسق.
الليل معروف، فما معنى (ما وسق) ؟ أي: ما جمع؛ لأن الليل يجمع الوحوش، والهوام، وما أشبه ذلك، فتجتمع وتخرج، تبرز من جحورها وبيوتها، وكذلك ربما يشير إلى اجتماع الناس بعضهم إلى بعض {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} [الانشقاق:18] القمر معروف، ومعنى إذا اتسق، أي: إذا اجتمع نوره وتم وكمل، وذلك في ليالي الإبدار، فأقسم الله عز وجل بالليل وما وسق، أي: ما جمع، وبالقمر؛ لأنه آية الليل.(34/4)
تفسير قوله تعالى: (لتركبن طبقاً عن طبق)
ثم قال بعد ذلك: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق:19] والخطاب هنا لجميع الناس أي: لتركبن حالاً عن حال، يشير إلى أن الأحوال تتغير، فيشمل أحوال الزمان، وأحوال المكان، وأحوال الأبدان، وأحوال القلوب، انتبه! يتضمن أربعة أشياء.
أحوال الزمان نعرف أنها تتنقل {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] فيوم يكون فيه السرور والانشراح وانبساط النفس، ويوم آخر يكون بالعكس حتى إن الإنسان ليشعر بهذا من غير أن يكون هناك سبب معلوم وفي هذا يقول الشاعر:
فيوم لنا ويوم علينا ويوم نُساءُ ويوم نُسرَّ
وهذا شيء يعرفه كل شخص منا بنفسه، تصبح اليوم مستأنساً فرحاً مسروراً، وفي اليوم الثاني تكون بعكس ذلك بدون سبب، لكن هكذا لابد أن الإنسان يركب طبقاً.
كذلك في أحوال الأمكنة: ينزل الإنسان هذا اليوم منزلاً، وفي اليوم الثاني منزلاً آخر، وثالثاً ورابعاً إلى أن تنتهي به المنازل في الآخرة، ومن قبل الآخرة في القبور، وهي منازل مؤقتة، القبور ليست هي آخر المنازل؛ بل هي مرحلة.
وسمع أعرابي رجلاً يقرأ قول الله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1-2] فقال الأعرابي: والله ما الزائر بمقيم، إن الأعرابي بفطرته عرف أن وراء هذه القبور شيئاً يكون المصير إليه؛ لأننا نعرف أن الزائر يزور ثم يرتحل.
وبهذا نعرف ما نقرأه في الجرائد: (فلان توفي ثم نقلوه إلى مثواه الأخير) أن هذه الكلمة خطأ كبير، ومدلولها كفر بالله عز وجل وكفر باليوم الآخر؛ لأنك إذا جعلت القبر هو المثوى الأخير؛ فهذا يعني أنه ليس بعده شيء، وهذا كفر بالبعث.
الذي يرى أن القبر هو المثوى الأخير وليس بعده مثوى؛ فهو كافر، والمثوى الأخير إما جنة وإما نار.
أحوال الأبدان: الأبدان يركب الإنسان فيها طبقاً عن طبق، واستمع إلى قول الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:54] .
أول ما يخلق الإنسان يكون طفلاً صغيراً، يمكن أن تجمع يديه أو رجليه بيد واحدة منك وتحمله بهذه اليد، يكون كائناً ضعيفاً، ثم لا يزال يقوى رويداً رويداً حتى يكون شاباً جلداً قوياً، ثم إذا استكمل القوة عاد فرجع إلى الضعف مرة ثانية، وقد شبه بعض العلماء حال البدن بحال القمر، يبدو هلالاً ضعيفاً، ثم يكبر شيئاً فشيئاً حتى يمتلئ نوراً، ثم يعود ينقص شيئاً فشيئاً حتى يضمحل، نسأل الله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة، نعم هذه حال الأبدان.
أما أحوال القلوب وما أدراك ما أحوال القلوب! أحوال القلوب هي البلية هي المصيبة هي النعمة هي النقمة، كل قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فإن شاء أزاغها، وإن شاء هداها، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث قال: (اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) .
القلوب لها أحوال عجيبة، تارة يتعلق القلب بالدنيا، وتارة يتعلق بشيء من الدنيا كالمال، فيكون المال أكبر همه، وتارة يتعلق بالنساء، وتكون النساء أكبر همه، وتارة بالقصور والمنازل، ويكون ذلك أكبر همه، وتارة يتعلق بالمركوبات والسيارات، ويكون ذلك أكبر همه، وتارة يكون مع الله عز وجل، دائماً يتعلق بالله سبحانه وتعالى، ويرى أن الدنيا كلها وسيلة إلى عبادة الله، وإلى طاعة الله؛ فيستخدم الدنيا؛ لأنها خُلقت له، ولا يجعل الدنيا تستخدمه، فانظروا -يا إخواني- أصحاب الدنيا هل تظنون أن الدنيا تخدمهم أم يخدمونها؟ هم الذين يخدمونها، هم الذين أتعبوا أنفسهم في تحصيلها، لكن أصحاب الآخرة هم الذين استخدموا الدنيا وخدمتهم الدنيا، ولذلك لا يأخذونها إلا عن طريق رضى الله، ولا ينفقونها إلا في رضى الله عز وجل، فاستخدموها أخذاً وصرفاً، لكن أصحاب الدنيا الذين تعبوا بها سهروا الليالي يراجعون الدفاتر، ويراجعون الشيكات، ويراجعون المصروفات، ويراجعون المدفوعات، ويراجعون ما أخذوا وما صرفوا هؤلاء في الحقيقة استخدمتهم الدنيا ولم يستخدموها، لكن الرجل المطمئن الذي جعل الله رزقه كفافاً يستغني به عن الناس، ولا يشقى به عن طاعة الله، هذا هو الذي خدمته الدنيا.
أحوال القلوب هي أعظم الحالات الأربع، ولهذا يجب علينا جميعاً -وأقول ذلك لنفسي قبلكم- أن نراجع قلوبنا كل ساعة وكل لحظة، أين يعيش القلب؟ بماذا ينشغل؟ لماذا ينصرف عن الله؟ لماذا يلتفت يميناً وشمالاً؟ ولكن نعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وغلب على كثير من الناس حتى إنه ليصرف الإنسان عن صلاته، التي هي رأس ماله بعد الشهادتين، فتجده إذا دخل في صلاته ذهب قلبه يميناً وشمالاً، حتى يخرج من صلاته ولم يعقل منها شيئاً، والناس يصيحون يقولون: صلاتنا لا تنهانا عن الفحشاء والمنكر، أين وعد الله؟ حينها يقال: يا أخي! هل صلاتك صلاة؟ إذا كنت من حين تكبر تفتح لك أبواب هواجس لا نهاية لها، فهل أنت مصلٍّ؟ صليت بجسدك لكن لم تصل بقلبك، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل لينصرف من صلاته وما كتب له إلا عُشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها) حسب ما يعقل منها، إذن فالقلوب تركب طبقاً عن طبق.(34/5)
تفسير قوله تعالى: (فما لهم لا يؤمنون)
ثم قال تعالى: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق:20] (فما لهم) أي شيء يمنعهم من الإيمان؟ كما قال تعالى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} [النساء:39] أي شيء يمنعهم من الإيمان؟ وأي شيء يضرهم إذا آمنوا؟ قال مؤمن آل فرعون: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر:28] فأي شيء على الإنسان إذا آمن؟ ولهذا قال موبخاً لهم: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق:20] .(34/6)
تفسير قوله تعالى: (وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون)
قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق:21] أي: لا يخضعون لله عز وجل، فالسجود هنا بمعنى الخضوع لله، وإن لم تسجد على الأرض؛ لكن يسجد قلبك لله ذلاً وخضوعاً إذا سمعت آياته، وجرب نفسك -يا أخي- إذا تُلي عليك القرآن هل قلبك يسجد ويلين ويذل؟ إن كان الأمر كذلك فأنت من المؤمنين الذين إذا تليت عليهم آيات ربهم زادتهم إيماناً، وإن لم يكن قلبك كذلك ففيك شبه من المشركين الذين إذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون.
ومن علامات الخضوع لله عز وجل عند قراءة القرآن: أن الإنسان إذا قرأ آية فيها سجدة سجد لله ذلاً وخضوعاً، وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب السجود -أي: سجود التلاوة- وقالوا: إن الإنسان إذا مر بآية سجدة ولم يسجد كان آثماً، والصحيح أنها ليست بواجبة وإن كان هذا القول -أعني: القول بالوجوب- هو مذهب أبي حنيفة واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، لكن هذا قول مرجوح.
وذلك أنه ثبت في الصحيح أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس يوماً فقرأ سورة النحل فلما وصل إلى آية السجدة نزل من المنبر فسجد ثم قرأها من الجمعة الثانية فمر بها ولم يسجد، فقال رضي الله عنه: [إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء] وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد، وسنته رضي الله عنه من السنن التي أُمرنا باتباعها، وعلى هذا فالقول الراجح أن سجود التلاوة ليس بواجب لكنه سنة مؤكدة.
فإذا مررت بآية فاسجد في أي وقت كنت، في الصباح، أو في المساء، أو في الليل، أو في النهار، تكبر عند السجود وإذا رفعت فلا تكبر ولا تسلم، هذا إذا سجدت خارج الصلاة، أما إذا سجدت في الصلاة فلا بد أن تكبر إذا سجدت، وأن تكبر إذا نهضت؛ لأنها لما كانت في الصلاة كان لها حكم سجود الصلاة.
قال الله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} [الانشقاق:22-23] ونقتصر على هذا؛ لأن الوقت الباقي نجعله للأسئلة وبقية السورة فإننا نتركها للجلسة القادمة، إن شاء الله.(34/7)
الأسئلة(34/8)
مسألة العزاء والتوسع فيها
السؤال
مسألة العزاء يتوسع الناس فيها، تجد إذا مات عند الناس ميت يُصنع الطعام ويؤتى بالذبائح، وإذا قلنا في ذلك يقولون: أناس يزورون أفلا نغديهم؟! وكذلك إذا كلمناهم في الجلوس للعزاء، قالوا: أين نستقبل الناس؟
الجواب
لنا رسالة صغيرة في أحكام التعزية وما يتعلق بها لو أخذت منها شيئاً يكون نافعاً، التعزية ليست تهنئة كما يهنأ الإنسان القادم، التعزية يراد بها أننا إذا رأينا شخصاً مصاباً متأثراً نكلمه بما يهون عليه المصيبة هذا هو المقصود منها، فنقول له -مثلاً- كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لإحدى بناته: (اصبري واحتسبي فإن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى) ولا حاجة إلى الاجتماع في البيت، فإن الاجتماع في البيت خلاف ما كان عليه السلف الصالح، حتى قالوا: كنا نعد الاجتماع عند أهل الميت، وصنعة الطعام من النياحة، والنياحة من كبائر الذنوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن النائحة والمستمعة.
ولكن إذا سمعنا أن شخصاً من الناس تأثر بموت قريبه، أو صديقه، أو ما أشبه ذلك؛ فإننا نحرص على أن نصل إليه ونقول: اصبر واحتسب، أما مجرد أن يموت القريب نجتمع ويجتمع الناس، وربما توقد الأنوار، ونأتي بالقراء فهذا لا يجوز، كان الناس إلى عهد قريب لا يفعلون هذا إطلاقاً، يموت الميت للإنسان، فإذا فرغوا من دفنه ورأوا أخاه أو أباه متأثراً عزوه ورجعوا إلى أهلهم، ثم من وجده في السوق أو في المسجد عزاه، وأما الاجتماع فلا شك أنه بدعة، وأنه ينهى عنه لا سيما إن صحبه ندب، كأن تجتمع النساء تقول: والله هذا كان كذا وكذا هذا أبو العائلة هذا صاحب البيت من للعائلة من للبيت، وما أشبه ذلك فإنه يكون من الندب المحرم، وعلى طلبة العلم أن يبصروا الناس قبل أن يتسع الخرق على الراتق.(34/9)
حكم العقد الذي يكون فيه أحد الطرفين غانم أو غارم
السؤال
ما الحكم إذا استقدمت عاملاً أو عاملين من البلاد المجاورة، أو غيرها، وهيأت له محلاً تجارياً، ووضعته فيه، وأعطيته الحرية، وقلت -مثلاً- سواء ربحتم خمسة أو غيرها الربح لكم وأن تعطوني -مثلاً- في كل شهر مبلغاً معيناً كألف ريال؛ وذلك لأني لا أعلم كم يربحون ربما لا ينضبط؟
الجواب
الحكم في هذا التحريم يعني: لا يجوز للإنسان أن يستقدم عمالاً، أو تجاراً، أو أن يتفق مع شخص من أهل البلد على أن يتجر في هذا الدكان، ويعطيه كل شهر كذا وكذا، ويكون بقية الربح لهم، فإن هذا من الميسر؛ لأنه قد يربح الدكان ربحاً كثيراًُ تكون النسبة التي اتفقوا عليها قليلة بالنسبة إلى هذا الربح، وقد لا يربح إلا قليلاً فتكون النسبة كثيرة، وقد لا يربح شيئاً أبداً وقد يخسر فهذا العقد متضمن للقاعدة الميسرية، وهي: إما غانم وإما غارم، فلا يحل ولا يجوز، وقد قال رافع بن خديج رضي الله عنه: [كان الناس يؤاجرون على الماذيانات، وإقبال الجداول، وأشياء من الزرع] يعني: يقول لك هذا ولي هذا، فيسلم هذا ويهلك هذا، ويهلك هذا ويسلم هذا، ولم يكن للناس كراء إلا هذا، فنهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
وإذا كان العامل أجنبياً ازداد الأمر حرمة؛ لأن الحكومة لا تسمح بهذا ولا توافق عليه، ونظام الدولة إذا لم يكن مخالفاً للشرع واجب الاتباع؛ لأن اتباعه من طاعة الله ورسوله، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] .
ويظن بعض الجهال القليلين العلم ضعيفين الإيمان أن الحكومة لا تطاع إلا فيما أمر الله به، وهذا ظن فاسد؛ لأن ما أمر الله به يجب علينا فعله إذا كان واجباً سواء أمرت به الحكومة أو لا؛ ولأننا لو قلنا: إن الحكومة لا تطاع إلا فيما أمر الله، لم يكن بينها وبين عامة الناس فرق في الطاعة، فكل إنسان يأمرك بما أمر الله به فهو واجب الاتباع إذا كان قد أوجب الله ذلك، لكن ولي الأمر له شأن خاص، فولي الأمر إن أمرك بما أمرك الله به صار فعلك واجباً من وجهين: من جهة أمر الله، ومن جهة أمر ولي الأمر، وإن أمرك بمحرم؛ فلا تطعه؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وإن أمرك بشيء ليس مأموراً به ولا منهياً عنه؛ فأطعه، وهذا هو الفرق بين ولي الأمر وبين سائر الناس، سائر الناس إذا أمروك بشيء فأنت بالخيار إذا لم يكن قد أمر الله به، وأما ولي الأمر فيجب أن تطيعه إلا في المعصية، فإذا قال ولي الأمر لا نسمح لأي شخص من المواطنين أن يسلم أحداً من غير المواطنين محلاً تجارياً يتجر فيه وجب علينا أن نكف عن هذا، ولا يحل لنا أن نخالف النظام؛ لأن معصية ولي الأمر معصية لله تعالى إلا إذا أمروا بمعصية.(34/10)
حكم أمر رجال الهيئة المرأة الكاشفة الوجه أن تحتجب
السؤال
لا شك أن من شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون عالماً بشروطه هل هو منكر أو غير منكر؟ وبعض الناس إذا رأى أحد رجال الهيئة يعترض على امرأة كاشفة الوجه يقول: لا يجب عليك أن تنكر؛ لأنها لا تخلو من حالتين: إما أن تكون مسلمة ترى عدم وجوب ستر الوجه، وإلا فتكون كافرة فلا يجب في الأصل أن تحتجب، هل ما يقول هذا صحيح، أو غير صحيح؟
الجواب
لا.
هذا غير صحيح؛ لأن المعاصي قسمان: قسم لا تضر إلا صاحبها فهذا ندعه ورأيه إذا كان أهلاً للاجتهاد، وقسم تضر غير صاحبها، ولا شك أن كشف المرأة وجهها لا يختص ضرره بها هي، بل يضر غيرها؛ لأن الناس يفتتنون بها، وعلى هذا يجب أن تنهاها سواء كانت كافرة أو مسلمة، وسواء كانت ترى هذا القول أو لا تراه، انهها وأنت إذا فعلت ما فيه ردع الشر سلمت منه.
أما ما كان لا يضر إلا صاحبه مثل رجل يشرب الدخان، وقال: أنا أرى حله ولا أرى أنه حرام، وعلمائي يقولون: إنه حلال، فهذا ندعه إذا كان عامياً؛ لأن العامي قوله قول علمائه، فإذا قال: أنا أرى أنه ليس بحرام نتركه؛ لأن هذا لا يضر إلا نفسه، إلا إذا ثبت صحياً أنه يضر الناس بخنقهم أو كان يؤذيهم برائحته، قد نمنعه من هذه الناحية، فاعرف هذه القاعدة.
إن المعاصي قسمان: قسم لا تضر إلا صاحبها فهذه إذا خالفنا أحد في اجتهادنا ندعه، وقسم تضر الغير فهذا نمنعه من أجل الضرر المتعدي، لكن إذا خيف من ذلك فتنة تزيد على كشف هذا الوجه فإنه يدرأ أعظم الشرين بأخفهما، يعني: لو فرض أنك لو فعلت هذا ربما تعاقب، وربما تفصل عن مكانك، أو ما أشبه ذلك مما هو متوقع؛ فلا تنكر الإنكار الشديد، ولكن من باب المشورة إذا رأيت امرأة كاشفة مع ولي أمرها تمسك ولي الأمر، وتقول: يا أخي! هذا لا يجوز؛ هذا حرام، هذا يضر أهلك ويضر غيرهم، تكلمه بالتي هي أحسن -باللين- لا تتكلم مع المرأة نفسها قد يكون في هذا ضرر أكبر عليك أنت.(34/11)
حكم الإخبار بموت الميت عبر مكبرات الصوت
السؤال
إذا مات الميت يأتون بسيارة عليها مكبر صوت ويطوفون في القرى، ويقولون: توفي إلى رحمة الله فلان الفلاني، ويعدون مكاناً يستقبلون فيه الناس ويصنعون لهم الطعام ويأتون بالمقرئ يقرأ، فما حكم هذه الأشياء؟ وهل الميت يستفيد من قراءته على أنه يأخذ أجراً على قراءته؟
الجواب
هذا محرم من عدة أوجه: أولاً: هو من النعي الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن النعي، وهو: الإخبار بموت الميت إلا إذا كان الميت لم يدفن وأخبرنا بموته من أجل كثرة المصلين عليه؛ فإنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وأمر الناس فخرجوا فصلوا عليه.
ثانياً: أن هذا العمل من عمل الجاهلية، وقد نهينا عن التشبه بهم.
ثالثاً: أنه نياحة حيث يجتمع الناس إلى أهل الميت، ويصنعون الطعام ويأكلونه.
رابعاً: أنه متضمن لمحرم وهو الاستئجار في قراءة القرآن؛ فإن هذا عمل محرم؛ لأن القرآن لا تقع تلاوته إلا قربة لله، وما لا يقع إلا قربة لا يصح أن تؤخذ عليه الأجرة، وأما انتفاع الميت بذلك فإنه لا ينتفع قطعاً، بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الميت ليعذب بما نيح عليه) فهو يعذب من هذا الصنيع، ولا ينتفع بقراءة المقرئ؛ لأن هذا المقرئ لا أجر له، قد استعجل أجره بما أخذ من الأجرة فليس له في الآخرة من خلاق، وإذا لم يكن له أجر في الآخرة؛ فإن الميت لا ينتفع بشيء، لذلك يجب أن يُنبه الفاعلون لهذا الأمر، وأن يحذروا منه، وأن يعلموا أنه ليس فيه إلا إضاعة المال، وإضاعة الأوقات، والوقوع في السيئات -والعياذ بالله-.(34/12)
الفرق بين الرجاء الشركي والرجاء المباح
السؤال
كما نعلم أن الشرك أقسام، والخفي منها علاجه أن الإنسان يقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً أعلمه، وأستغفرك لما لا أعلمه، لكن الأكبر مثل: الرجاء، والخوف؛ أحياناً المسلم قد يلتبس عليه، ولا يفرق بين الرجاء الشركي، والرجاء المباح، هل لكم أن تفصلوا في هذا الموضوع؟
الجواب
الرجاء الشركي هو رجاء العبادة، أن الإنسان إذا كان يرجو رجاءً يتضمن التذلل، والخضوع، والاعتماد على المرجو اعتماداً كلياً، وأن هذا المرجو بيده الأمر يفعل ما شاء، هذا هو الشركي، فإذا رجا الإنسان مخلوقاً على هذا الوجه؛ فهو شرك أكبر.
أما رجاء الإنسان فيما يمكن حصوله منه بدون أن يتعلق القلب به تعلق ذلٍّ وخضوع؛ فإنه لا بأس به، مثل أن تقول للشخص: أرجو أن تساعدني، أرجو أن تذهب لفلان تقول له: كذا وكذا، أرجو أن تفعل كذا وكذا، فهذا ليس فيه بأس وليس من الشرك في شيء؛ لأن رجاء الإنسان لربه ليس كرجائه لغيره، رجاء الإنسان لله رجاء تذلل، وخضوع، واعتماد، وإيمان بأنه قادر على ما يشاء، وهذا الرجاء إذا صرفه الإنسان لغير الله كان مشركاً شركاً أكبر، ورجاؤه لغير الله لا يتضمن مثل ذلك.(34/13)
الاستماع إلى القرآن لا يجزئ عن قراءته في منع دخول الشيطان البيت
السؤال
هناك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان لو قرأ سورة البقرة لا يدخل الشيطان بيته، لكن لو كانت السورة مسجلة على شريط هل يحصل نفس الأمر؟
الجواب
لا.
صوت الشريط ليس بشيء، لا يفيد؛ لأنه لا يقال: قرأ القرآن يقال: استمع إلى صوت قارئ سابق، ولهذا لو سجلنا أذان مؤذن فإذا جاء الوقت جعلناه في الميكروفون وتركناه يؤذن، هل يجزئ؟ لا يجزئ، ولو سجلنا خطبة خطيب مثيرة، فلما جاء يوم الجمعة وضعنا هذا المسجل وفيه الشريط أمام الميكروفون فقال المسجل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ثم أذن المؤذن ثم قام فخطب هل تجزئ؟ لا تجزئ، لماذا؟ لأن هذا تسجيل صوت ماض، كما لو أنك كتبته في ورقة، لو كتبت ورقة أو وضعت مصحفاً في البيت هل يجزئ عن القراءة؟ لا يجزئ.(34/14)
حكم من مات ولم يصم شهر رمضان لمدة أربع سنين بعذر المرض
السؤال
أمي ألمَّ بها مرض لمدة أربع سنوات وتوفيت، ولم تصم شهر رمضان، فما الحكم؟
الجواب
أطعم عن كل يوم مسكيناً الصاع لأربعة مساكين، صاع الأرز عن أربعة أيام.(34/15)
حكم إعطاء بعض العمال غير المسلمين من مال الزكاة لتأليف قلوبهم
السؤال
لو أن الإنسان آنس من أحد العمال الكفار خيراً والقرب من الإسلام هل يجوز أن يعطيه من الزكاة على أنه من باب المؤلفة قلوبهم أو لا يجوز؟ وما هو أفضل سبيل لدعوة هؤلاء الكفرة؟
الجواب
أما الرجل المقبل على الإسلام والذي تعرف منه الرغبة في الإسلام، إذا رأيت أنك إذا أعطيته مالاً ازدادت رغبته فأعطه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي المؤلفة قلوبهم يتألفهم على الإسلام، لكن بعض العلماء رحمهم الله قال: إنه لا يعطى إلا السيد المطاع في عشيرته؛ لأن إسلامه ينفع من وراءه، وأما الفرد فلا يعطى من التأليف، ولكن الصحيح أن الفرد يعطى لعموم الآية {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة:60] ولأنه إذا كان يجوز أن نعطيه لسد حاجة جسمه فإعطاؤه لينجو من النار من باب أولى.
فالصحيح أنه يعطى ولكن ينبغي للإنسان أن يُبين له أولاً ما يجب عليه في الإسلام كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ بن جبل حينما بعثه إلى اليمن: (أخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم) وذلك من أجل أن يدخل على بصيرة؛ لأن بعضهم لا يظن أن الإسلام فيه هذه العبادات فيدخل في الإسلام كأنه اسم من الأسماء، ثم إذا قيل له إن فيه كذا وفيه كذا فيرتد -والعياذ بالله- فيكون كفره الثاني أعظم من كفره الأول.
أما كيف نعامل هؤلاء فإن لكل حال مقالاً منهم من نرى أن فيه إقبالاً وليونة، فهذا نعامله بكل ما يقتضيه تأليف القلب بالدعوة، ندعوه -مثلاً- للبيت نهدي إليه هدايا نعطيه أشرطة نعطيه كتيبات ينتفع بها نثني عليه أمام الناس نفعل كل شيء يرغبه في الإسلام.(34/16)
حكم حلق اللحية خوفاً من الضرر والأذية
السؤال
كثير من المقيمين في هذا البلد وأكثرهم من المدرسين الذين يذهبون في الإجازة إلى بلادهم وهم من إحدى الدول العربية، فتكون لهم لحى فإذا أرادوا السفر حلقوها فلما نصحناهم أتوا بحجة قوية قالوا: نحن إذا أبقيناها أوذينا وربما نلقى في المعتقلات ومعنا أطفال وزوجات، فيقع الإنسان في حيرة معهم، فبماذا ننصحهم بارك الله فيكم؟
الجواب
إذا كنت ترى أن حجتهم قوية فالقوي يُعتمد، لكن نحن نرى أنها ليست بقوية، وذلك أن الله تعالى يقول في كتابه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10] فارتد وترك ما كان عليه مما أوذي عليه، هذه واحدة فنقول: اصبر واحتسب ثم نقول: أنت إذا اتقيت الله جعل لك مخرجاً، فكم من أناس نعرفهم نحن يذهبون إلى البلاد التي تشير إليها ومع ذلك لا يقال لهم شيء، يذهبون وهم ملتحون ويرجعون وهم على ما هم عليه ولا يقال لهم شيء.
فهذه الحكومات الظالمة الجائرة -نسأل الله أن يبدل المسلمين خيراً منهم- إذا لم تر الإنسان يتكلم فيهم أو له حركة فإنها لا تهتم، يكون متديناً أو غير متدين، يهمها أن أحداً تكون له حركة وله دعوة، فلذلك ربما يقبضون على شخص ليس له لحية، يحلق لحيته صباحاً ومساءً، ولكننا نعلم أن هؤلاء إنما سلطوا على المسلمين بسبب ذنوبهم، وإلا فمن يتصور أن أحداً يتولى على أمة مسلمة ثم يرغمها على عصيان الرسول عليه الصلاة والسلام، من يتصور هذا؟! ولكن الذنوب والمعاصي هي التي أوجبت أن يتسلط علينا هؤلاء، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129] .
فهؤلاء ما سلطوا على الأمة الإسلامية إلا بسبب أن الأمة الإسلامية انحرفت عن مسارها الصحيح، وإلا لكان حكامها مثلها، ويذكر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رجلاً من الخوارج أتى إليه قال: [يا علي! ما بال الناس معك يفعلون ويفعلون وكانوا مع أبي بكر وعمر سامعين مطيعين؟ قال له: لأن رجال أبي بكر وعمر أنا وأمثالي، ورجالي أنت وأمثالك] وهذا صحيح.
وقيل أن عبد الملك بن مروان سمع الناس يتكلمون فيه، ويتكلمون في ولايته، فجمع أشراف القوم وأعيان البلد وتكلم معهم بكلام فصيح، وقال لهم: أنتم تريدون أن نكون لكم مثل أبي بكر وعمر، فكونوا أنتم مثل رجال أبي بكر وعمر حتى نكون نحن مثل أبي بكر وعمر.
فلو فكرت في هؤلاء القوم الذين سلط عليهم هؤلاء الولاة لوجدت عندهم من البلاء والشر ما لا يعلمه إلا رب العباد، حتى إن بعض الثقات قدم أخيراً من بعض البلاد العربية وقال: إني والله كنت العام الماضي في وسط لندن ولم أر تبرج النساء في لندن كتبرجهن في هذه البلاد التي تسمى بلاداً إسلامية، أيُنا أحق بالستر والحجاب، نحن أم النصارى؟ نحن أحق، ومع ذلك هذه بلادنا، فإذا كان الشعب مثل هكذا فكيف لا يُسلط عليهم الولاة؟ فنسأل الله أن يصلح رعيتنا ورعاتنا، ويقينا وإياكم شر الفتن.(34/17)
قضية البوسنة والهرسك وواجب المسلمين
السؤال
أحد الإخوة يريد الجهاد في البوسنة هل تنصحه بالجهاد هناك أو في أي بلد ثانٍ؟
الجواب
أرى أن الواجب على المسلمين في مسألة البوسنة والهرسك غير ما يفعلونه اليوم، الحقيقة أن المسلمين لم يؤدوا الواجب بالنسبة للبوسنة والهرسك، وليس يهمني أنا أن يقتل شخص، أو يؤسر شخص، أو يقطع شخص أوصالاً؛ لأن هذه من المصائب التي يكفر الله بها السيئات، ومع الاحتساب يرفع الله بها الدرجات وكل إنسان سيموت، ومن لم يمت بمثل هذه الميتة مات بغيرها، لكن يهمني أن يقال جمهورية إسلامية قائمة معترف بها تسقط في أيدي النصارى! هذا هو الذي يجرح القلب ويدمي الكبد، أين المسلمون؟! كم من مليون من المسلمين؟ عدد هائل كبير.
والله لو كانوا جراداً أرسل على الصرب لأكلوهم أكلاً، ولكن أنا لا أدري هل الحكومات الإسلامية عاجزة أم ماذا؟ إن كانت عاجزة فالله يعذرها، والله يقول: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:91] فإذا كان ولاة الأمور في الدول الإسلامية قد نصحوا لله ورسوله، لكنهم عاجزون فالله قد عذرهم، لكن لا ندري هل تحقق فيهم هذا الشرط أم لا؟ هل تحقق فيهم أنهم نصحوا لله ورسوله؟ هل تحقق فيهم أنهم عاجزون؟ الله أعلم.(34/18)
لقاء الباب المفتوح [35]
تحدث الشيخ عن تفسير قوله تعالى: (بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) إلى آخر السورة، حيث ذكر بأن الله يتكلم عن الكافرين، بأنهم إذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون؛ بسبب تكذيبهم، وأن التقصير في الواجبات دليل على ضعف الإيمان والحكم بنقيضه، فبشر الله وأمر المسلمين بتبشيرهم بالعذاب، ثم خص المؤمنين بأنهم ناجون من العذاب، وأن لهم أجراً كبيراً.(35/1)
تفسير آخر آيات سورة الانشقاق
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو اللقاء الأول من شهر ربيع الأول عام (1414هـ) ، وهو اللقاء الذي يكون في كل يوم خميس من كل أسبوع.
في هذا اللقاء سنتكلم عن آخر سورة الانشقاق وهو قوله تبارك وتعالى: {بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ * فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [الانشقاق:23-25] .(35/2)
تفسير قوله تعالى: (بل الذين كفروا يكذبون)
لما ذكر الله سبحانه وتعالى أنه إذا قُرئ عليهم القرآن لا يسجدون، بيَّن سبحانه وتعالى أن سبب تركهم السجود هو تكذيبهم بما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ لأن كل من كان إيمانه صادقاً فلابد أن يمتثل الأمر ويجتنب النهي؛ لأن الإيمان الصادق يحمل صاحبه على ذلك، ولا تجد شخصاً ينتهك المحارم أو يترك الواجبات إلا بسبب ضعف إيمانه، ولهذا كان الإيمان عند أهل السنة والجماعة هو التصديق المستلزم للقبول والإذعان، فمتى رأيت الرجل يترك الواجبات أو بعضاً منها، أو يفعل المحرمات؛ فاعلم أن إيمانه ضعيف، إذ لو كان إيمانه قوياً ما أضاع الواجبات، ولا انتهك المحظورات، ولهذا قال هنا: {بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} [الانشقاق:22] أي: أنَّ تركهم السجود كان بسبب تكذيبهم لما جاءت به الرسل.(35/3)
تفسير قوله تعالى: (والله أعلم بما يوعون)
قال تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} [الانشقاق:23] أي: أنه سبحانه وتعالى أعلم بما يوعونه، أي: بما يجمعونه في صدورهم، وما يجمعونه من أموالهم، وما يجتمعون عليه من منابذة الرسل ومخالفتهم، بل ومحاربة الرسل وقتالهم، وأنتم تعلمون أن الكفار أعداء للرسل من حين بعث الله الرسل عليهم الصلاة والسلام وهم يجمعون لهم، ويكيدون لهم، فتوعدهم الله تعالى في هذه الآية: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} [الانشقاق:23] أي: بما يجمعون من أقوال، وأفعال، وضغائن، وعداوات، وأموال ضد الرسل عليهم الصلاة والسلام.(35/4)
تفسير قوله تعالى: (فبشرهم بعذاب أليم)
ثم قال تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الانشقاق:24] أخبرهم بالعذاب الأليم الذي لابد أن يكون، والخطاب في قوله: ((فَبَشِّرْهُمْ)) [الانشقاق:24] عام للرسول صلى الله عليه وسلم ولكل من يصح منه الخطاب، كل من يصح خطابه فإنه داخل في هذا، فنحن نبشر كل كافر بعذابٍ أليم ينتظره، كما قال تعالى: {وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ} [السجدة:30] .(35/5)
تفسير قوله تعالى: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات)
ثم قال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [الانشقاق:25] (إلا) هنا بمعنى (لكن) ولا تصح أن تكون استثناءً متصلاً؛ لأن الذين آمنوا ليسوا من المكذبين في شيء، بل هم مؤمنون مصدقون وهذا هو استثناء منقطع وتقدر (إلا) بـ (لكن) أي: لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون؛ الذين آمنوا بقلوبهم، واستلزم إيمانهم قيامهم بالعمل الصالح، فهؤلاء هم الذين ليس لهم عذاب ولا ينتظرون العذاب، بل لهم أجر غير ممنون.
فإن قيل: ما هو العمل الصالح؟ ف
الجواب
أن العمل الصالح ما جمع شيئين: الأول: الإخلاص لله تعالى بأن يكون الحامل على العمل هو الإخلاص لله عز وجل ابتغاء مرضاته وثوابه، وابتغاء النجاة من النار، -أي: لا يريد الإنسان بعمله شيئاً من الدنيا- ولهذا قال العلماء: إن الأعمال التي لا تقع إلا عبادة لا يصح أخذ الأجرة عليها كالأذان: -مثلاً- فلا يصح أن تؤذن بأجرة، والإمامة: فلا يصح أن تؤم بأجرة، وقراءة القرآن: فلا يصح أن تقرأ بأجرة، بخلاف تعليم القرآن فيصح بالأجرة؛ لأنه متعدٍّ وتكون الأجرة على العمل الذي هو التعليم لا على التلاوة، فلو أتى إنسان وقال: أريد أن أتلو القرآن بأجرة، فإن ذلك لا يصح ولا يحل؛ لأن من شرط العمل الصالح أن يكون مخلصاً لله عز وجل، ومن قرأ بأجرة أو تعبد بأجرة؛ فإنه لم يخلص العمل لله فلا يكون عمله مقبولاً.
الثاني: أن يكون متبعاً فيه شريعة الله التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: أن يتبع الإنسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمله فعلاً لما فعل، وتركاً لما ترك- فما لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم مع وجود سببه فالسنة تركه.
أي: إذا وجد سبب الشيء في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يفعله فإن السنة تركه.
ولهذا نقول: إن ما يفعله أكثر المسلمين اليوم من الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول بدعة ليس له أصل من السنة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحتفل بعيد مولده ولا خلفاؤه الراشدون، مع أننا نعلم علم اليقين أنه لو كان مشروعاً ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم بلا بيان للأمة؛ لأن عليه البلاغ، فلما لم يقل للأمة أنه يشرع الاحتفال بهذه المناسبة، ولما لم يفعله هو بنفسه، ولم يفعله خلفاؤه الراشدون، عُلم أنه بدعة لا يزيد فاعله من الله إلا بعداً نسأل الله العافية.
وهذه البدعة حدثت أول ما حدثت في القرن الرابع، أي: بعد مضي أكثر من ثلاثمائة سنة على الأمة الإسلامية، حدثت هذه البدعة وزعموا أنهم يعظمون فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحقيقة أن كل بدعة ليس فيها تعظيم للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو باتباع سنته، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1] .
ولننظر هذه البدعة! هل لها أصل من التاريخ؟ هل لها أصل من الشرع؟ نقول: ليس لها أصل من التاريخ، وذلك أن مولد الرسول صلى الله عليه وسلم مختلف فيه على أكثر من خمسة أقوال، بعد الاتفاق على أنه في ربيع، لكن مختلف في أي يوم هو، وقد رجح بعض علماء التاريخ المعاصرين أنه كان في اليوم التاسع وليس في الثاني عشر، فبطل من الناحية التاريخية أن يكون في اليوم الثاني عشر، أما من الناحية الشرعية فهو باطل لوجوه: الأول: أنه عبادة لم يشرعها الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا الخلفاء الراشدون الذين أمرنا باتباع سنتهم، فإن ادعى مدعٍ أن ذلك مشروع في القرآن والسنة، أو في عمل الخلفاء الراشدين، أو الصحابة؛ فعليه الدليل؛ لأن البينة على المدعي، ولن يستطيع إلى ذلك سبيلاً -أي: لن يستطيع أن يأتي بدليل واحد من الكتاب والسنة، أو قول الخلفاء الراشدين، أو الصحابة؛ على أنه يسن الاحتفال بيوم ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: أن نقول: هذا الاحتفال إما أن يكون حقاً أو يكون باطلاً، فإن كان حقاً؛ لزم من ذلك أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إما جاهلاً بالحق، وإما عالماً به وكاتماً له، وكلا الأمرين باطل يمتنع غاية الامتناع أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم جاهلاً بشيء من شريعة الله، أو يكون عالماً به ولكن لم يبينه للأمة؛ لأن الاحتمال الأول: يقتضي أن يكون جاهلاً بالشرع مع أنه هو صاحب الشرع.
والاحتمال الثاني: يقتضي أن يكون كاتماً ما أنزل الله إليه وحاشاه من ذلك، ولو كان كاتماً ما أنزل الله إليه لكتم قول الله تعالى: {وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37] .
ثالثاً: إذا تبين أنها بدعة، فإنه لا يحل لأحد أن يقيمها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) .
ولو اتبع الحق أهواءهم وصار كل من عنَّ له أن في أمرٍ ما مشروعية فيشرعه؛ لاختلفت الأمة، ولتمزق الدين، ولكان كل قوم لهم دين معين، وهذا خلاف ما جاءت به الشريعة الإسلامية من وجوب الاتفاق على كلمة الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
رابعاً: نقول: هذه بدعة لم تقتصر على مجرد الاجتماع، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر محاسنه، ومآثره، وشريعته، بل عدل عن هذا إلى قصائد المديح البالغة في الغلو غايته، بل المتجاوزة لطبيعة البشر إلى حقوق الله عز وجل، فقد كان هؤلاء الذين يجتمعون يترنمون بقصيدة البوصيري الذي كان يقول فيها يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن آخذاً يوم المعاد يدي عفواً وإلا فقل يا زلة القدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
قال بعض العلماء: إذا كان الأمر هكذا لم يبق لله شيء، ولم يكن الله تعالى هو الملجأ عند الشدائد والفزع، بل كان الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله، هو الملجأ وهذا غاية ما يكون من الغلو الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، فصار هؤلاء الذين يدعون أنهم يتقربون إلى الله بمثل هذه الاحتفالات، وأنهم هم المحبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم صاروا في الحقيقة هم الذين يبتعدون عن الله عز وجل بما أشركوا به ما لم ينزل به سلطاناً.
ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يرضى بمثل هذا أبداً، فإذا قالوا: إن منشأ هذا هو محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أجل أن نبين للنصارى أننا نعتني برسول الله كما كانوا يعتنون برسولهم فيجعلون من ميلاده عيداً، قلنا: إذا كنتم صادقين في محبة الله ورسوله فهنا ميزان قسط عادل هو قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] ولهذا كلما كان الإنسان أشد حباً لله كان أشد اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلما كان أقل حباً لله كان أقل اتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا رأيت الرجل يدعي محبة الله ورسوله لكنه لا يلتزم بالشريعة فاعلم أنه كاذب؛ لأن محبة الله ورسوله تنتج إنتاجاً لازماً هو اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم.
فالحاصل أنه يجب على طلبة العلم هنا في هذه البلاد وفي غيرها من البلاد الإسلامية أن يبينوا للعامة ولغير العامة أن هذا الاحتفال ليس له أصل من السنة، وأنه بدعة لا يزيد الإنسان إلا بعداً من الله عز وجل؛ لأنه شرع في دين الله ما ليس منه، فإن قال قائل: أليست الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم مشروعة كل وقت؟ فالجواب: بلى.
أكثر من الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم يُعظِم الله لك فيها أجراً، ومن صلى عليه مرة واحدة صلى الله عليه بها عشراً، لكن ترتيبها في ليلة معينة والاجتماع عليها وذكر المدائح والقصائد البالغة في الغلو غايته هذا هو الممنوع، ونحن لا نقول: لا تصلوا على الرسول، بل نقول: أكثروا من الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، ولا نقول: لا تحبوا الرسول، ولكن نقول: أحبوا الرسول أكثر مما تحبون أنفسكم، ولا يكمل إيمانكم إلا بذلك، ولكن لا تُحدِثوا في دينه ما ليس منه.
فالواجب على طلبة العلم أن يبينوا للناس، وأن يقولوا لهم: اشتغلوا بالعبادات الشرعية الصحيحة، واذكروا الله، وصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم في كل وقت، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأحسنوا إلى المسلمين في كل وقت، أما أن تجعلوا عيداً معيناً في السنة لم يجعله الله، فالله تعالى لم يجعل في السنة إلا ثلاثة أعياد فقط: عيد الأضحى، وعيد الفطر، وعيد الأسبوع يوم الجمعة، أما أن تحدثوا أعياداً أخرى فإنكم تحدثون في دين الله ما لم يشرعه.(35/6)
تفسير قوله تعالى: (لهم أجر غير ممنون)
ثم قال الله تبارك وتعالى: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [الانشقاق:25] (لهم أجر) أي: ثواب، (غير ممنون) أي: غير مقطوع بل هو مستمر أبد الآبدين، والآيات في تأبيد الجنة كثيرة ومعلومة في الكتاب والسنة، وليس من الصعوبة بحيث نسوقها إليكم الآن؛ لأنها واضحة ولله الحمد، فأجر الآخرة لا ينقطع أبداً، ليس كالدنيا هناك وقت تثمر الأشجار ووقت لا تثمر، أو وقت تنبت الأرض ووقت لا تنبت، كلا.
الأجر فيها دائم {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [مريم:62] .
فنسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من المؤمنين العاملين للصالحات المجتنبين للسيئات إنه جواد كريم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(35/7)
الأسئلة
.(35/8)
حكم الطلاق من حيث الوقوع والعدم
السؤال
ما حكم الطلاق من حيث الوقوع أو عدمه في الصورة التالية: وهي أن رجلاً قال لأخي الزوجة: اذهب إليها وقل لها إن لم تفعل كذا فهي طالق، فدخل إلى الغرفة ولم يخبرها ثم خرج، فقال للزوج: إنها ترفض أن تفعل ما تقول -أي: إن لم تفعل كذا فهي طالق- ولم تفعل ولم يخبرها، يعني كذب عليها فخرج الزوج من البيت ولم يقل شيئاً؟
الجواب
لا يقع الطلاق في هذه الحال؛ لأن المرأة لم تُخبر، فإذا تركت فعل ما قاله الزوج في الوقت الذي حدده وهي جاهلة؛ فليس على الزوج طلاق، وليس عليه يمين أيضاً.(35/9)
كيفية الدعاء للطفل الميت في صلاة الجنازة
السؤال
هل ورد في السنة دعاء خاص يدعى به للطفل الميت في الصلاة عليه؟ وهل في السنة نهي عن استلقاء المرأة على ظهرها؟
الجواب
أما الأول فليس فيه سنة صحيحة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن وردت أحاديث في صحتها نظر، وهو أن الطفل الذي لم يبلغ يدعى لوالديه، وقد ذكر بعض الفقهاء دعاءً مناسباً قالوا: اللهم اجعله فرطاً لوالديه، وذخراً وشفيعاً مجاباً، اللهم ثقل به موازينهما وأعظم به أجورهما، وألحقه بصالح سلف المؤمنين، واجعله في كفالة إبراهيم، وقه برحمتك عذاب الجحيم.
وأما استلقاء المرأة على ظهرها فإنه لا ينبغي خصوصاً إذا كان في البيت أحد فإنه قد يمر بها وهي على هذه الحال، وقد تحصل الفتنة، وأما إذا كانت وحدها في بيتها فلا بأس.(35/10)
الرد على القول بعصمة الصحابة
السؤال
قوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ) قال أحد مشايخ الصوفية: لقد رفع الرسول صلى الله عليه وسلم الخلفاء الأربعة إلى درجة العصمة حيث أمر الأمة باتباع سنتهم فهل أمرنا باتباع سنتهم وهو يعلم أنهم كانوا يخطئون؟ وما معنى كلمة مهديين؟ أليست تعني الحفظ من الله لهم من الوقوع في الأخطاء فما قولكم؟
الجواب
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) فبدأ صلى الله عليه وسلم بسنته أولاً، وهذا يعني أن سنة الخلفاء الراشدين إذا خالفت سنته فإنها لا تتبع، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: [يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر] والمتتبع لأقوال الخلفاء الراشدين يجد أن في أقوالهم ما يكون ناتجاً عن اجتهاد لكنه لم يصب السنة، وهذا أمر معلوم في التتبع، وهذا يدل على أنهم غير معصومين من الخطأ، ولكن إذا لم يكن في الأمر سنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم فلا شك أن سنتهم أقرب إلى الصواب من غيرهم، وأن قولهم حجة كما قال ذلك الإمام أحمد رحمه الله، ولكن لا يعني هذا قوله أنهم معصومون في كل قول يقولونه، أو في كل فعل يفعلونه.
وأما كونهم مهديين فالهداية تكون لهم ولغيرهم، لكن الهداية الأكثر لهم بلا شك؛ لأنهم خلفاء راشدون خلفوا النبي صلى الله عليه وسلم في أمته، عقيدة وعملاً ودعوة، ثم إنه وصفهم بالخلفاء الراشدين، ومعلوم أن الإنسان إذا أخطأ في مسألة من المسائل لم يكن راشداً فيها ولكنه مغفور له إذا كان ذلك ناتجاً عن اجتهاد.(35/11)
حكم الحلف بالطلاق
السؤال
من كان بينه وبين زوجته شجار فقال لها: عليَّ الطلاق لأفعلن كذا وكذا، سواء كانت واحدة أم ثلاث فما الحكم؟
الجواب
أولاً: أنصح الأزواج عامة ألا يتساهلوا بلفظ الطلاق، وألا يتسرعوا فيه، وأقول: إن الرجل إذا قال لزوجته: إن فعلت كذا فأنت طالق، أو عليَّ الطلاق أن تفعلي كذا، ثم خالفت؛ فإن أكثر العلماء يرون أنها تطلق على كل حال، ويقولون: إن هذا أتى بصريح الطلاق، فوجب أن يقع الطلاق، كما لو أتى به غير معلق، ومعلوم أن الإنسان إذا قال لزوجته: أنت طالق فإنها تطلق، ولكن إذا كان معلقاً بأن قال: إن فعلت كذا فأنت طالق، أو إن لم تفعلي كذا فأنت طالق، فجمهور العلماء قالوا: إن المعلق كالمنجز، وأنها إذا خالفت الزوج في ذلك طلقت بكل حال.
فإذاً المسألة خطيرة ليست بالهينة، ولكن ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أنه إذا قصد بذلك الحث أو المنع فإنه يكون حكمه حكم اليمين، أي: أن الزوجة لا تطلق ويكفر كفارة اليمين، فإذا قال لزوجته: إن فعلت كذا فأنت طالق، فإن فعلت فعلى قول جمهور العلماء تطلق، وعلى قول شيخ الإسلام نسأل الرجل ونقول: هل أردت أن الزوجة إذا فعلت هذا تكون طالقاً، فإن قال: نعم.
فحينئذٍ تطلق، وإذا قال: لا.
وإنما أردت أن أؤكد عليها المنع من هذا الشيء وأهددها بالطلاق قلنا: إذاً طلاقك في حكم يمين فتكفر كفارة يمين ولا يقع الطلاق، وبهذا عرفتم خطورة هذه المسألة وأنها ليست بالأمر الهين، نسأل الله الهداية للجميع.(35/12)
استغلال دعوة الكفار الذين بين أظهرنا إلى الإسلام
السؤال
يأتي إلى بعض مناطق المملكة عمال وأغلبهم كفار قد يكونون نصارى أو هندوس، ويسكنون في مناطق المملكة، وقد يكون بجوارهم طلاب علم، وطلاب العلم قد لا يدعونهم إلى الإسلام، ويحصل منهم جفاء في المعاملة، ويستمرون هكذا طيلة السنين، ويذهبون إلى بلادهم ولا يدعونهم، مع أن المسلمين لو كانوا في الخارج لبذل النصارى جهودهم في دعوتهم فما توجيهكم؟
الجواب
توجيهي أن الدعوة إلى الله واجبة على كل مسلم لكنها فرض كفاية إذا قام بها من يكفي سقطت عن الباقين، لقول الله تبارك وتعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] وقال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108] (أدعوا إلى الله) كل أحد، (أنا ومن اتبعني) ، فكلما كان الإنسان أشد اتباعاً للرسول صلى الله عليه وسلم؛ كان أشد دعوة لشريعته، ولا شك أن هؤلاء الإخوة الذين نزل إلى جانبهم قوم من الكفار ولم يدعوهم إلى دين الإسلام لا شك أنهم مقصرون، وأن الذي ينبغي بل الذي يجب عليهم أن يدعوا هؤلاء إلى دين الإسلام حتى بالتأليف، فلو دعوهم إلى البيت وقدموا لهم الطعام، ثم تحدثوا إليهم ودعوهم إلى الإسلام، وبينوا لهم محاسنه كان هذا طيباً.
ولكن بعض الإخوة تغلب عليهم الغيرة مع الجهل فينفر من هؤلاء، ويقاطعهم، ويعاملهم بالشدة والقسوة، حتى ينفروا من الإسلام بسبب هذا الرجل المسلم، ويظنون أن أخلاق هذا المسلم هي الأخلاق التي يأمر بها الإسلام.
والغيرة وإن كانت حسنة محمودة؛ لكنها إذا لم تقرن بالحكمة والعلم صارت في الحقيقة غيرة ضارة، فعلى هذا ننصح إخواننا هؤلاء وغيرهم بأن يدعوا إلى الله عز وجل، وكما تفضلت بأن النصارى يبذلون كل غالٍ ورخيص من أجل الدعوة إلى النصرانية، مع أنها دين باطل أبطله الإسلام، ولكنهم حريصون بوحي الشيطان إليهم على دعوة الناس للنصرانية مع أنها دين باطل منسوخ بالإسلام؛ فما بالنا نحن -ونحن أمة العزم والحزم والصدق- نتكاسل حتى عن جيراننا الذين لهم حق علينا لا ندعوهم إلى الإسلام، ولا أدري عن هؤلاء الإخوة هل يقومون بحق الجوار أو لا يقومون؟ وفي الحديث: (إذا طبخت مرقة؛ فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك) وفي الحديث الصحيح أيضاً: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره) وقال العلماء: إن الجار إذا كان غير مسلم فله حق الجوار، وإن كان مسلماً فله حق الجوار والإسلام، وإن كان مسلماً قريباً فله حق الجوار والإسلام والقرابة.
فانصح هؤلاء وقل لهم: ادعوا هؤلاء للدين، ربما يكون في دعوتهم خير (ولأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) وربما إذا اهتدى هذا الرجل دعا غيره كما هو مشاهد ومعلوم الآن.(35/13)
صفة دعاء السفر
السؤال
ذهبنا من القصيم إلى الرياض في سفر قبل أمس؛ فأشكل علينا أنا والإخوة سؤالان، نقول: متى يقال دعاء السفر؟ هل هو عند الخروج من المدينة أم عند ركوب الدابة؟ وعندما رجعنا من الرياض اختلف الشباب في المكان الذي يقال فيه دعاء السفر، فقال البعض: مكانه عندما نشرف على المدينة - عنيزة - ونراها؛ لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم كما يزعمون، وقال بعضهم: بل مكانه حال خروجنا من الرياض متوجهين إلى القصيم ويدل عليه سياق الحديث حيث قال صلى الله عليه وسلم في هذا الدعاء: (اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى) وقال: (اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل) فكيف يقول هذا وقد انتهى من سفره ووصل إلى أهله؟ أفتونا مأجورين.
الجواب
الدعاء المأثور يذكر إذا ركب الدابة أو السيارة، لقوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف:12-13] أي: ما جعل لنا من الفلك والأنعام، والآن نحن نركب الفلك لكنه فلك بري، والفلك ثلاثة أنواع: بري، وبحري، وجوي، ولا يعرف في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلا البحري لكنه الآن تنوع بهذا التنوع، فإذا استوى عليه قرأ الذكر وقال: (اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل) أما إذا رجع فإنه يقول: (آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون) إذا قفل من البلد التي رجع منها وعند رؤية بلده.
فالأول يقال في حال السفر فقط، لكن (آيبون تائبون) في الرجوع عند العودة، أما {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف:13] فيقوله كلما ركب الدابة، سواء في السفر أو في الحضر حتى إذا ركبت السيارة الآن من بيتك إلى المسجد تقول: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:13-14] .(35/14)
حكم بول وروث ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل
السؤال
بالنسبة للبول وروث الحيوانات التي يؤكل لحمها هل هي نجسة وتنقض الوضوء أم لا؟
الجواب
بول وروث الحيوان المأكول طاهر، ولا يلزم إذا أصابك منها شيء أن تغسل ثيابك أو بدنك، ودليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في الصلاة في مرابض الغنم، وهو محل ربضها عند المنام والمبيت، وهو لا يخلو من الروث ومن البول، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم العرنيين أن يلحقوا بإبل الصدقة ويشربوا من أبوالها وألبانها، ولكن لا يصلى في معاطن الإبل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، وليس من أجل نجاستها بل لمعنى لا نعقله عند بعض العلماء، أو هو معقول عند آخرين وهو يعني أن الإبل خلقت من الشياطين فيكون في معاطنها تأثير من هذه الإبل التي خلقت من الشياطين، فلذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في معاطنها.
وأما بول ما لا يؤكل لحمه وروثه فإنه نجس كالبغل والحمار والهر ونحو ذلك، وأما هل تنقض الوضوء؟ الجواب: لا تنقض الوضوء حتى الأشياء النجسة لا تنقض الوضوء؛ لأن النجس يجب غسله فقط ولا يجب الوضوء له.(35/15)
حكم الاحتفال بالمولد النبوي
السؤال
في بعض البلاد يقوم الناس بالاحتفال بالمولد النبوي كاحتفالهم بعيد الفطر أو عيد الأضحى، ويقوم رب البيت بالتوسعة على أولاده في الطعام والشراب والحلوى، وشراء الهدايا، والقيام بالزيارات للأهل فهل هذا من البدع؟ وما واجبنا تجاه هذا الأمر؟
الجواب
نعم.
هذا من البدع لا شك، وواجبنا نحو هذا الأمر أن نبين للناس أن هذا بدعة وأن كل بدعة ضلالة، ونقول: أربعوا على أنفسكم ولا تتعبوها بهذا الأمر الذي لا يزيدكم إلا ضلالاً، ثم نقول لهم: إذا كنتم تحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تقدموا بين يديه، ولا تدخلوا في دينه ما ليس منه، وهل جعل النبي صلى الله عليه وسلم عيداً للمسلمين سوى الأعياد الثلاثة؟! بل إنه لما قدم المدينة ووجد الأنصار يحتفلون بأعيادٍ لهم كانت في الجاهلية قال لهم: (إن الله أبدلكم بخيرٍ منها عيد الأضحى، وعيد الفطر) فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بما رغب في العيدين أن يدعوا الأعياد التي ليست أعياداً شرعية.(35/16)
ما يفعل الشخص عند الدخول على زوجته
السؤال
هل ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وضع يده على ناصية إحدى زوجاته؟ وما يجب أن يفعل من يدخل على زوجته ليلة البناء؟
الجواب
ورد من قول الرسول صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا ملك دابة، أو تزوج زوجة، أو ما أشبه ذلك أخذ بناصيتها وقال: (اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه) ولكن لو أن الإنسان فعل هذا أول ما يدخل على زوجته ربما يحصل منها نفرة؛ فليمسك برأسها كأنه يريد أن يقبلها ويقول هذا الذكر سراً حتى تحصل المصلحة بدون مفسدة.(35/17)
ما هي الصور التي يجب طمسها
السؤال
لو بينتم بعض الصور التي يجب طمسها؟
الجواب
الصورة التي يجب طمسها كل ما كان على صورة إنسان أو حيوان؛ فإنه يجب طمس وجهها فقط، ويكفي طمس وجهها عن بقية بدنها، أما صور الأشجار، والأحجار، والجبال، والشمس، والقمر، والنجوم؛ فإن هذا لا بأس به، ولا يجب طمسه.
أما صورة عين فقط أو وجه فقط فهذا ليس فيه شيء؛ لأنه ليس بصورة، هذا جزء منها وليس صورة.(35/18)
حكم إقامة الحجة وفهمها على أهل البدع
السؤال
بعض الإخوة ذهبوا بدعوة صلة أرحامهم في جنوب اليمن وأرحامهم هؤلاء تربوا وترعرعوا على أيدي علماء الصوفية ومما علموهم قالوا: إذا جاءكم أي شخص من الحجاز أو من نجد أو كان موحداً فهذا يعتبر وهابياً فلا تقبل منه، وأردنا أن ندعوهم إلى التوحيد فلم يقبلوا منا هذه الدعوة، فهل هذه حجة؟ وهل يشترط مع إقامة الحجة فهم الحجة أم لا؟
الجواب
لا شك أنه إذا قيل لهم: هذا هو الحق وهذا هو كتاب الله، وهذه هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد قامت عليهم الحجة؛ لأنهم عرب يفهمون بمجرد ما يسمعون، أما لو كان أعجمياً وكنت تتكلم أمامه باللغة العربية وهو لا يفهمها؛ فإن الحجة لم تقم عليه؛ لأنه لا يفهم ما تقول، فإذا كان يعلم ما تقول، وأتيت بالكتاب والسنة دليلاً ولكنه أصر وقال: سأتبع مشايخي فقد قامت عليه الحجة، ويكون هذا كالذين قال الله عنهم: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] إذاً نقول: سمونا ما شئتم، وهابية، أو حنبلية، أو نجدية، أو حجازية، أو ما شئتم، ألستم تؤمنون بالله ورسوله؟! ألستم ترون أن القرآن دليل، وأن السنة دليل؟! ولكن يبدو أن بعض الدعاة يكون منه انفعال، وإذا قالوا: نحن لا نأخذ منكم أنتم وهابية، ينفر منهم، أو يرد عليهم بالمثل، ويقول: أنتم ضلال، وأنتم فيكم كذا وكذا، فلا يحصل منه الدعوة بالحكمة.(35/19)
حكم نسيان الإمام للبسملة في الصلاة
السؤال
إذا نسي الإمام قراءة البسملة في الصلاة هل تبطل صلاته؟
الجواب
إذا نسي الإمام البسملة في الصلاة فإن صلاته لا تبطل، وكذلك المنفرد والمأموم؛ لأن البسملة ليست من الفاتحة، بل هي آية مستقلة يؤتى بها عند ابتداء السور إلا سورة براءة.(35/20)
حكم قول: إن كنت على خلاف كذا فعلي كذا
السؤال
ما رأيكم فيما يكون في المجالس، يقول الرجل لأخيه: إن كان ذلك على خلاف ما تقول علي حق؟
الجواب
إذا التزم القائل بهذا فلا حرج؛ لأن هذا من جانب واحد، وقصد القائل بذلك تأكيد قوله فهو يقول: إن كنت كاذباً فعلي كذا وكذا.(35/21)
حكم تلحين الأناشيد الإسلامية
السؤال
نجد بعض أشرطة الأناشيد الإسلامية فيها تلحين يشبه الأغاني فما حكم ذلك؟
الجواب
الذي أرى أن التلحين للأناشيد المباحة إذا كان تلحيناً كأغاني المطربين فإنه حرام؛ لأنه تشبه بقوم لا يجوز التشبه بهم، وكذلك إذا كانت هذه الأناشيد قد لحنت من رجال أصواتهم جميلة جذابة يخشى منها الفتنة، فإنها لا تجوز لما يخشى منها من الفتنة.(35/22)
حكم إتمام الصلاة الفائتة جماعة
السؤال
إذا كان الرجل عليه قضاء بعض الصلاة، فقام ليتم الصلاة فهل يتم هو ومن بجواره؟
الجواب
يعني: أنه إذا دخل اثنان في الصلاة وقد فاتهما بعض الصلاة فقال أحدهما للآخر: أكون إماماً لك فيما نقضي، فهل هذا جائز؟ يقول بعض العلماء، أنه جائز، ويقول بعض العلماء أنه لا يجوز؛ لأن الإنسان مأمور بأن يقضي ما فاته وحده: (ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) والذي نرى أنه لا بأس به ولكن الأحسن ألا يُفعل، بل يقضي كل إنسان وحده؛ لأنه إذا قضى بصاحبه جماعة فربما يشوش على غيره بالتكبير وبالقراءة إن كان فيما يقضيان قراءة جهرية، وربما يكون هو وصاحبه جماعة ويأتي اثنان آخران فيكونان جماعة وتتعدد الجماعات في مسجد واحد؛ فلهذا ينبغي ألا يفعل، لكن لو فُعل فالصحيح أن الصلاة لا تبطل، وقال بعض العلماء أنها تبطل.(35/23)
حكم جمع الصلاة للمسافر
السؤال
هل صحيح أن جمع الظهر والعصر جمع تأخير في سفر يصح عند غروب الشمس؟ وما هي السنة في الجمع في السفر؟
الجواب
أولاً: لا يجوز أن تؤخر صلاة العصر إلى اصفرار الشمس فضلاً عن تأخيرها إلى الغروب أو قربه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وقت العصر ما لم تصفر الشمس) سواء في جمع أو في غير جمع، في حضر أو في سفر.
ثانياً: إذا جاز الجمع فإنما يجوز الجمع في وقت الجواز، أي: لا يجوز أن يؤخر الجمع حتى تصفر الشمس، أما حكم الجمع في السفر فإنه جائز ولكن الأفضل ألا يجمع إلا عند الحاجة، والحاجة إنما تكون فيما إذا جد به السير، إذا كان مستمراً في سيره، أو وصل إلى البلد التي يريد وهي غير بلده، وصار متعباً وأراد أن يؤخر الصلاة حتى ينشط قليلاً فلا بأس، وفي هذه الحال -أي: فيما إذا احتاج المسافر إلى الجمع يكون الجمع أفضل- إما جمع تقديم أو تأخير حسب الأيسر له، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع إذا جد به السير، ولا يجمع إذا كان نازلاً.(35/24)
دخول الوضوء مع الغسل أثناء غسل الجنابة
السؤال
هل يقوم الغسل من الجنابة مقام الوضوء؟
الجواب
نعم.
إذا كان على الإنسان جنابة واغتسل مع المضمضة والاستنشاق كفى عن الوضوء، لقول الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6] ولم يذكر وضوءاً.(35/25)
حكم صلاة الجنازة في المقبرة
السؤال
يوجد مكان يصلى فيه على الجنازة في المقبرة ولا تقام فيه صلوات أخرى فهل يجوز إقامة صلاة الجنازة في المقبرة في هذا المصلى؟
الجواب
نعم.
لا بأس أن يصلى على الجنازة في المقبرة؛ لأنه لا دليل على المنع، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) ولا أعلم في ذلك سنة، ولكن ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى على القبر، وذلك في قصة المرأة التي كانت تقمُّ المسجد -أي: تنظفه من القمامة- فماتت في الليل فكأنهم تقالوا شأنها وقالوا: لا نخبر النبي صلى الله عليه وسلم بها، فلما سأل عنها النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: إنها ماتت ليلاً فقال: (هلا كنتم آذنتموني) -أي: أخبرتموني- ثم قال: (دلوني على قبرها) فدلوه على قبرها فخرج وصلى عليها صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على جواز الصلاة على الميت في المقبرة، ولا فرق بين المدفون وبين الذي لم يدفن بعد.(35/26)
حكم التسمية عند ذبح مجموعة من الدجاج
السؤال
قمت بزيارة إلى مزارع الدواجن الوطنية فرأيت كيف يذبحون الدجاج؛ ففي البداية يعلقون الدجاج يعني حتى ما يستطيع أن يتحرك ثم يمر على الذابح فيذبح بدون تسمية فسألت، لماذا لا تسمي؟ قال: لأني أنا أسمي في البداية ولا أستطيع أن أسمي على خمسمائة ألف دجاجة، فأقول عندما أدخل بسم الله، الله أكبر ويكفي هذا، فقلت: من سألت؟ قال: أهل العلم أفتوا بذلك وأجازوها فما أدري يا فضيلة الشيخ! جواز هذا الفعل؟
الجواب
لابد أن يسمي على شيء معين، سواء كانت واحدة أم أكثر -فمثلاً- إذا صف ألف دجاجة ثم عند تحريك الماكينة قال: باسم الله كفى، فإذا صف له ألف دجاجة -مثلاً- ثم تحركت الماكينة وتحركت الأمواس يكفي إذا قال: باسم الله على هذه المصفوفة، فإذا صف له مجموعة أخرى سمى عليها.
السائل: يقول أنا أسمي مرة واحدة ويكفي؟ الشيخ: يعني إلى أن تقف الماكينة لا يجوز هذا، إذ لابد أن تكون تسميته على معين.
السائل: الأمر الآخر يا شيخ! كنا في زيارة كذلك إلى مزارع استرا في تبوك وهم يذبحون طيور السمان فماذا يفعلون؟ يعلقون هذه الطيور، وبعد تعليقها تمر على مثل آلة ترش الماء على هذا الطائر فنوعاً ما يتخدر، ثم يمر على مثل الجدار ومكتوب عليه بسم الله والله أكبر، ثم يذهب إلى الآلة فيقطع رأسه، وقال المسئول: هذا يجزئ؛ فبسم الله والله أكبر مكتوب كتابة؟ الشيخ: كل هذا جهل ويجب بارك الله فيك الآن أنك ترفع ما شاهدت أنت مع إخوانك وتوقعون عليه وترسلونه إلى دار الإفتاء، وتبينون متى كان ذلك، هل في هذه السنة أو قبل سنوات؛ حتى تبرأ ذمتك لذلك.
السائل: يا شيخ! هم يقولون: إن مجموعة من المشايخ أفتوا بذلك.
الشيخ: لا.
قد يكون بعض المشايخ أفتى بشيء على غير هذا الوجه، ويمكن أنه أفتاه بما قلت أنا أي: أنه يجمع مجموعة ثم يحرك الماكينة على هذه المجموعة، وإن لم يسم على كل واحد بعينها، مثل ما لو رأى فرقة من الطير فرماها فقال: بسم الله، فسقط عشرون طائراً فإنها تحل.(35/27)
حكم الإيثار بالقربات
السؤال
موضوع الإيثار بالقرب، كأن نؤثر العالم أو الوالد بالصف الأول، فإذا كنا في الصف الأول -مثلاً- ووجدنا الأب أو العالم الشيخ في الصف الثاني، وأردنا أن نقدمه إلى الصف الأول -مثلاً- فهل هو مشروع، أو مكروه، أو يدخل في حدود الإباحة وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
الإيثار بالقرب على نوعين: النوع الأول: القرب الواجبة: فهذه لا يجوز الإيثار بها، ومثاله رجل معه ماء يكفي لوضوء رجل واحد فقط، وهو على غير وضوء، وصاحبه الذي معه على غير وضوء ففي هذه الحال لا يجوز أن يؤثر صاحبه بهذا الماء؛ لأنه يكون قد ترك واجباً عليه وهو الطهارة بالماء، فالإيثار في الواجب حرام، وأما الإيثار بالمستحب فالأصل فيه أنه لا ينبغي، بل صرح بعض العلماء بالكراهة، وقالوا: إن إيثاره بالقرب يفيد أنه في رغبة عن هذه القرب، لكن الصحيح أن الأولى عدم الإيثار، وإذا اقتضت المصلحة أن يؤثر فلا بأس، مثل أن يكون أبوه في الصف الثاني وهو في الصف الأول، ويعرف أن أباه من الرجال الذين يكون في نفوسهم شيء إذا لم يقدمهم الولد، فهنا نقول: الأفضل أن تقدم والدك، أما إذا كان من الآباء الطيبين الذين لا تهمهم مثل هذه الأمور فالأفضل أن يبقى في مكانه، ولو كان والده في الصف الثاني، وكذلك بالنسبة للعالم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.(35/28)
لقاء الباب المفتوح [36]
تحدث الشيخ في هذا اللقاء عن فضل مجالس العلم، وتدبر القرآن، ثم فسر آيات من سورة البروج، وذكر حكم البسملة وأنها إنما أنزلت للفصل بين السور.
وأجاب عن بعض الأسئلة، مثل: كيفية التعامل مع الشيعة، وحكم من يدعو غير الله ويعتقد فيه النفع والضر ومات على ذلك، وفسر المقصود بتكفير المعين عند ابن تيمية.(36/1)
فضل مجالس العلم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: نفتتح لقاءنا هذا، وهو اللقاء الثاني من شهر ربيع الثاني، يوم الخميس الحادي والعشرين من شهر ربيع الثاني عام (1414هـ) ، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك لنا جميعاً في أعمارنا وأعمالنا، وأن يجعل خير أعمارنا آخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا وأسعدها يوم نلقاه.
هذه اللقاءات المباركة بين العلماء وطلبة العلم، وبين طلبة العلم وعوام الناس، لا شك أنها لقاءات خيرة ونافعة، تجعل الناس يستبصرون في دينهم، ويتآلفون فيما بينهم، ويشكو بعضهم إلى بعض حوائجه ونوائبه، ولا غرابة في ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) وقال صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) وهذا هو الواجب في حق الأمة الإسلامية أن تكون جسداً واحداً، إذا تألم منه عضو تألم سائر الجسد له حتى يبرأ ويهدأ، وكذلك يجب أن يكونوا كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك النبي صلى الله عليه وسلم بين أصابعه إشارةً إلى أن البنيان كلما تراصّ وتلاءم كان أقوى له.
لقاءاتنا هذه ولله الحمد فيها بركة، يستفيد منها الحاضرون، ويستفيد منها المستمعون، ويستفيد منها السامعون بما مَنَّ الله به علينا في هذا الزمن من تسهيل الأشرطة المنتشرة بين الناس.
فقد يكون الإنسان قائداً لسيارته وهو يستمع إلى الشيخ يحدثه بدون تعب ولا ملل، ويكون الإنسان مضطجعاً في فراشه وهو يستمع إلى العلم، كل هذا بما مَنَّ الله به علينا من هذه الأشرطة، ولذلك نرى ولله الحمد آثار هذه الأشرطة في البيوت عند الصغار والكبار والنساء والرجال، وهذا لا شك أنه من الخير والبركة.
ومن عادتنا أننا نفتتح اللقاء بكلام على آيات من القرآن الكريم، ابتدأناها بسورة النبأ حتى وصلنا إلى سورة البروج، واخترنا هذا الجزء؛ لأنه يكثر سماعه من الناس في الصلوات، والقرآن الكريم لم ينزل لمجرد التلاوة بل نزل للتلاوة وللتدبر وللتذكر، كما قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] وكان الصحابة رضي الله عنهم لا يتجاوزون العشر آيات حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل.
والذي ليس له حظ من القرآن إلا التلاوة هو أمي في الحقيقة، كما قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78] أي: إلا قراءة، فوصفهم الله بأنهم أميون، مع أنهم يقرءون، فلا بد من أن يتعلم المسلمون معاني القرآن، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه الذي يسمى (مقدمة في علم التفسير) قال: إن الناس لو جعل لهم كتاب يدرسونه في الطب أو في أي علم كان، فلا بد أن يفهموا معناه حتى يستفيدوا منه، فإذا كان هذا في الكتب العلمية التي هي من كلام البشر، فكيف بأم العلم وأصل العلم الذي هو من كلام الله عز وجل، فهو أولى وأجدر أن نعتني به، ونفهم معناه وتفسيره، ونتلقاه من أئمة التفسير الذين عُرفوا بصحة العقيدة وسلامة المنهج.(36/2)
تفسير آيات من سورة البروج
وقفنا عند سورة البروج وفيها يقول الله سبحانه وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} [البروج:1-2] .
البسملة آية مستقلة في الكتاب العزيز، وليست من السورة التي قبلها ولا من السورة التي بعدها، يؤتى بها في أول كل سورة إلا سورة براءة، فإن الصحابة رضي الله عنهم لم يكتبوها في هذه السورة فبقيت بدون بسملة، وما اشتهر عند العوام من أن الجن اختطفوا بسملة سورة براءة، فهذا لا شك أنه باطل؛ لأن الله يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] ولا يمكن أن يسلط عليه الشياطين أو الجن حتى يختطفوا منه، بل إن الله تعالى حماه حين نزوله، وحماه بعد نزوله، وما ذكر عن بعض العلماء: أنه لم يذكر فيها البسملة؛ لأنها نزلت بالسيف؛ لأن فيها الأمر بقتال المشركين، فهذا غير صحيح؛ لأن البسملة بركة والجهاد في سبيل الله من أعظم ما يطلب فيه البركة.
على كل حال هي آية مستقلة من أول كل سورة إلا سورة براءة، وليست من الفاتحة على القول الراجح الذي دل عليه الحديث القدسي، وهو قوله تعالى فيما رواه عنه نبيه صلى الله عليه وسلم: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال: الحمد لله رب العالمين، قال: حمدني عبدي.
) إلى آخر الحديث، وهذا يدل على أن البسملة ليست من الفاتحة، وكذلك أول ما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم سورة (اقرأ) أقرأه إياها جبريل، ولم يكن فيها بسم الله الرحمن الرحيم، فدل هذا على أنها ليست من السورة.(36/3)
تفسير قوله تعالى: (والسماء ذات البروج)
قال تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج:1] الواو: حرف قسم، يعني: يقسم الله تعالى بالسماء ذات البروج، أي: صاحبة البروج، والبروج جمع برج، وهي المجموعة العظيمة من النجوم، وسُميت بروجاً لعلوها وارتفاعها وظهورها وبيانها، والبروج عند الفلكيين اثنا عشر برجاً جمعت في قول الناظم:
حمل فثور فجوزاء فسرطان فأسد فعذراء فميزان
فعقرب قوس فجدي وكذا دلو وذي آخرها الحيتان
فهي اثنا عشر برجاً؛ ثلاثة منها للربيع، وثلاثة للصيف، وثلاثة للخريف، وثلاثة للشتاء.
فيقسم الله تعالى بالسماء ذات البروج، وله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه، أما نحن فلا نقسم إلا بالله وبأسمائه وصفاته، ولا نقسم بشيء من مخلوقاته لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) ولقوله: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) .(36/4)
تفسير قوله تعالى: (واليوم الموعود)
قال تعالى: {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} [البروج:2] اليوم الموعود هو: يوم القيامة وعد الله سبحانه وتعالى به، وبينه في كتابه، ونصب عليه الأدلة العقلية التي تدل على أنه واقع حتماً، كما قال تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104] .
ثم قال تعالى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج:3] ذكر علماء التفسير في معنى الشاهد والمشهود عدة أقوال، يجمعها: أن الله أقسم بكل شاهد وبكل مشهود، والشهود كثيرون منهم: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو شهيد علينا.
ومنهم نحن -هذه الأمة- سوف نشهد على الناس.
وكذلك أعضاء الإنسان تشهد عليه يوم القيامة بما عمل من خير وشر.
وكذلك الملائكة يشهدون يوم القيامة، فكل من شهد بالحق فهو داخل في قوله: (وشاهد) .
وأما المشهود فهو يوم القيامة وما يعرض فيه من الأهوال العظيمة كما قال تعالى: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود:103] فأقسم الله بكل شاهد وبكل مشهود.(36/5)
تفسير قوله تعالى: (قتل أصحاب الأخدود)
ثم قال تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} [البروج:4] (قُتل) أي: أُهلك، وقيل: القتل هنا بمعنى اللعن، وهو الطرد والإبعاد من رحمة الله، وأصحاب الأخدود هم قوم كفار أحرقوا المؤمنين بالنار.
وقد وردت قصص متعددة في هؤلاء القوم منها شيء في الشام ومنها شيء في اليمن، والمقصود أن هؤلاء الكفار حاولوا أن يردوا المؤمنين عن دينهم، ولكنهم عجزوا فحفروا أخدوداً -أي: حفراً ممدودة- في الأرض كالنهر، وجمعوا الحطب الكثير وأحرقوا المؤمنين -والعياذ بالله- ولهذا قال: {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} [البروج:5] أي: أن الأخدود هو أخدود النار (ذات الوقود) أي: الحطب الكثير المتأجج.(36/6)
تفسير قوله تعالى: (إذ هم عليها قعود)
قال تعالى: {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} [البروج:6] أي: أن هؤلاء الذين حفروا الأخاديد وألقوا فيها المؤمنين، كان - والعياذ بالله - عندهم قسوة وجبروت، يرون النار تلتهم هؤلاء البشر وهم قعود عليها فاكهين كأن شيئاً لم يكن -والعياذ بالله- وهذا من الجبروت أن يرى الإنسان أحد البشر تلتهمه النار وهو جالس يتفكه بالحديث ولا يبالي: {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:7] أي: هم شهود على ما يفعلون بالمؤمنين، أي: حضور لا يغيب عنهم ما فعلوا بالمؤمنين، ولذلك استحقوا هذا الوعيد؛ بل استحقوا هذه العقوبة، أن الله أهلكهم ولعنهم وطردهم وأبعدهم عن رحمته.(36/7)
الأسئلة(36/8)
حال طوائف الشيعة وكيفية معاملتهم
السؤال
فضيلة الشيخ: هل عموم الشيعة الموجودين في هذا الزمان انقرضوا إلا طائفة الرافضة؟ وإذا لم يبق إلا هؤلاء الرافضة كيف يعاملهم من لا يعلم منهجهم، وهل يعاملهم كالمنافقين، أم ماذا؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وبعد: الشيعة: هم كل من يزعم أنه يتشيع لآل البيت، أي: لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم، وهم طوائف وفرق كثيرة، وقد ذكر المتكلمون على فرق هذه الأمة أنهم يزيدون على عشرين فرقة، وهذا يعني أننا لا يمكن أن نحكم على جميعهم بحكم واحد، بل لا بد أن ننظر ماذا يفعلون، وماذا يعتقدون في النبي صلى الله عليه وسلم، وماذا يعتقدون في الصحابة؟ فمثلاً: إذا قالوا: نحن نعتقد أن علي بن أبي طالب إله وربٌّ، كما يُذكر عن عبد الله بن سبأ الذي قابل علياً رضي الله عنه بالمواجهة الصريحة فقال: أنت الله، فأمر علي رضي الله عنه بالأخاديد فخدت ثم أحرقهم بالنار لشناعة قولهم والعياذ بالله.
كذلك أيضاً من قال: إن الصحابة ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا نفراً قليلاً من آل البيت فهم كفار أيضاً؛ لأن هذا يؤدي إلى القدح في الشريعة الإسلامية، وألا نثق بما نقل إلينا منها، لا القرآن ولا ما ينسب للرسول صلى الله عليه وسلم منها، وإذا كان هذا يتضمن القدح في الشريعة ونسفها فهو كفر بالله تعالى وكفر بشريعته أيضاً.
ومن قال: إن علياً ولي وأنه أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر؛ لأن المسلمين أجمعوا على أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل البشر.
والمهم أن ننظر إلى عقيدة هذا الرافضي أو الشيعي، فإذا كانت تقتضي الكفر حكمنا بكفره، وإذا كانت لا تصل إلى الكفر بل هي بدعة تجعله فاسقاً لا كافراً حكمنا بما تقتضيه بدعته.
أما معاملتهم فإننا نعاملهم بما تقتضيه المصلحة فكل ما تقتضيه المصلحة فإننا نعاملهم به، فلو كان من المصلحة أن نهاديه لندعوه إلى الحق ونبين له أنه هو الواجب، وأنه لا يجوز العدول عنه فلا حرج من أن نهاديه، ومن اقتضت حاله سوى ذلك فلنعامله بما تقتضيه حاله، وأما بالنسبة للتقية لا شك أنها من مذهبهم -أعني الرافضة - فهم يعتقدونها ديناً، ولكن قد لا يكون عند بعضهم تقية؛ لكنه رجل عامي مخدوع بكبرائهم وزعمائهم فلكل مقام مقال، والإنسان العاقل يستطيع أن يعامل الناس بتوفيق الله حسب ما تقتضيه حالهم.(36/9)
حكم من مات وهو يعتقد أن غير الله ينفع أو يضر
السؤال
فضيلة الشيخ: يعلم الله أننا نحبك في الله، وأما سؤالنا فهو عمن كان يعتقد بأن الأولياء المقبورين ينفعونهم أو يضرونهم! مع اعتقادهم بوجود الخالق، وإقامتهم للصلاة، فما مصير هؤلاء الناس بعد مماتهم؟ هل يكونون بحكم الكفرة أم الموحدين؟
الجواب
أسأل الله أن يحبك كما أحببتني فيه، وأن يجعلنا جميعاً من أحباب الله وأولياء الله.
أولياء الله سبحانه وتعالى هم الذين جمعوا بين وصفين: الإيمان، والتقوى، كما قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62-63] وحينئذٍ قبل أن نقول: إن هذا قبر ولي، يحتاج أن ننظر في سيرة هذا الميت، هل هو من المؤمنين المتقين؟ فإذا كان كذلك فإنه يرجى أن يكون من أولياء الله، أم هو من المخرفين المشعوذين الخداعين الذين يظهرون للناس بمظهر الصلاح، وهم أبعد الناس عن الصلاح فهذا ليس بولي، وإن زعم أنه ولي، هذا أولاً.
ثانياً: إذا تقرر أنه بما يظهر لنا من حاله أنه من المؤمنين المتقين، فإننا نرجو له الخير، ونعلم أنه هو نفسه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، وأنه ما آمن واتقى إلا خوفاً من عقاب الله، ليس له من الأمر شيء، فإذا كان هو لا يملك لنفسه شيئاً، فكيف يملك لنا؟ ثم كيف يملك لنا ذلك وهو الآن جثة هامدة، وربما أكلته الأرض؟ وإذا كان الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف:188] وقال له: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام:50] وقال له: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً * إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} [الجن:21-23] يعني: ليست وظيفتي إلا البلاغ، فإذا كان كذلك فمن دونه من باب أولى.
والصحابة رضي الله عنهم لما نزل بهم القحط والجدب في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في العام المشهور الذي يعرف بعام الرمادة، لم يستسقوا بالرسول صلى الله عليه وسلم ولم يأتوا إلى القبرة ليقولوا: يا رسول الله! ادعُ الله أن يسقنا، وادعُ الله أن يغيثنا، وإنما هم دعوا الله عز وجل، وطلب عمر من العباس أن يقوم فيدعو الله تعالى بالسقيا.
لكن مع ذلك فهؤلاء الذين يأتون إلى الأولياء ويدعونهم وهم جهال، ليس عندهم من يعلمهم، ولا من ينبههم، ولكنهم يقولون: نحن مسلمون يُصلون، ويتصدقون، ويصومون، ويحجون، ويجتهدون، ويتهجدون، لكن لا يعلمون عن هذا الأمر شيئاً، ولم ينبهم عليه أحد، ولم يخبرهم به أحد، فهؤلاء معذورون بجهلهم، ويُحكم بأنهم مسلمون، وأما من بلغه أن هذا شرك ولكنه أصر وقال: إن هذا دين آبائي وأجدادي ولا يمكن أن أحيد عنه، فهذا يحكم بكفره؛ لأن قوله هذا كقول من قال: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] .(36/10)
حكم إهداء الجوائز التشجيعية من التجار لزبائنهم
السؤال
فضيلة الشيخ: هناك بعض التجار يضع جوائز وهدايا للذين يشترون من المحل بمبالغ معينة فهل هذا جائز؟
الجواب
هذا لا بأس به بشرط أن يكون بيعه كبيع الناس، فمثلاً إذا كان هذا الكرتون عند الناس بعشرة وهو يبيع بعشرة، لكن وضع للناس جائزة لمن اشترى مائة كرتون مثلاً، أو اشترى بمبلغ ألف ريال، فهذا لا بأس به، هذا بالنسبة لواضع الجائزة.
أما بالنسبة للمشتري إذا كان يشتري الشيء بدون حاجة إليه لكن لعله يربح جائزة، فهذا حرام؛ لأنه إضاعة مال، وقد سمعت أن بعض الناس يشتري كراتين اللبن وهو لا يريدها ويريقها، ولكن من أجل أن ينال الجائزة، وهذا لا يجوز؛ لأنه من إضاعة المال، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال.
فالمسألة فيها الآن نظران: النظر الأول لواضع الجائزة، والنظر الثاني: للمشتري.
فواضع الجائزة إذا كان لا يضيف إلى سلعته مبلغاً زائداً من أجل الجائزة يعني: الناس يبيعون بعشرة وهو يبيع بعشرة، فهذا لا شيء عليه، أما بالنسبة للمشتري نقول له: هل أنت تشتري لأنك محتاج لهذه السلعة، وتقول: مادمت محتاجاً لها فكوني أشتري من هذا البائع الذي عنده الجائزة لعلها تصيبني أحب إليَّ من أن أشتري من شخص ليس عنده جائزة، فهذا لا بأس به.
أما إذا كان يشتري وليس له حاجة، ولكن لعله ينال الجائزة، فهذا حرام لأنه إضاعة للمال، ولأنه ربما يشتري أشياء كثيرة ولا يحصل على الجائزة، فيكون مغامراً مخاطراً.
بقي أن يقال في المسألة الأولى: إذا كان واضع الجائزة يبيع كما يبيع الناس، أفلا يكون هذا من باب قطع رزق الآخرين؛ لأنه ربما يقبل الناس على هذا ويتركون الآخرين؟ نقول: هذا صحيح، إنه قد يؤثر، فإذا رأى ولي الأمر أو من ينوب عنه -كالبلدية مثلاً التي ترعى أسواق الناس- منع مثل ذلك فلهم ذلك، ويكون هذا من باب التنظيم وحفظ الأسواق عن التلاعب.(36/11)
حرمة الحلف بغير الله
السؤال
في بداية التفسير علمنا أن الله عز وجل أقسم بمخلوقاته كالسماء والليل، ونجد بعض الناس يحلف ويقول: وحياة أولادي، ويقول: عليَّ الطلاق، أو حرام عليَّ ما أفعل كذا وكذا، فما حكم ذلك؟
الجواب
أما (وحياة أولادي) فهذا قسم صريح لا يجوز، وهو يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) .
وأما: عليَّ الطلاق لأفعلن فهذا ليس قسماً لكن له حكم القسم، فإذا قال: الحرام عليَّ ما أشرب من هذا الحرام عليَّ ما أزور فلاناً الحرام عليَّ ما آكل طعام هذا حرام عليَّ ما تذبح لي ذبيحة.
فهذا ليس بقسم من حيث الصيغة لكنه بمعنى القسم، والدليل على هذا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:1-2] فسمى الله التحريم يميناً، أما الحكم فنقول: إذا قلت مثل هذا فكفِّر عن يمينك، وذلك بأن تطعم عشرة مساكين، ولا فرق بين أن يقول: حرام عليَّ زوجتي، أو عليَّ الطلاق، أو حرام عليَّ أن أفعل كذا، لكن في مسألة الطلاق إن أراد الطلاق وقع إن حنث فيما قال.(36/12)
الفرق بين الشرك الأكبر والشرك الأصغر
السؤال
فضيلة الشيخ: ما هو الضابط في التفريق بين النصوص في الشرك الأكبر والأصغر؟
الجواب
هذا السؤال يسأل عنه كثير من الناس يقولون: ما الفرق بين الشرك الأصغر والشرك الأكبر؟ الشرك الأكبر هو: الذي إذا حصل من الإنسان خرج عن الملة.
والأصغر هو: الذي دون ذلك.
فصرف العبادة لغير الله شرك أكبر، وتعظيم المخلوق كتعظيم الله، بأن يجعل له حقاً في الربوبية، أو التعظيم كما يعظم الخالق؛ فهذا شرك أكبر.
وما دون ذلك فهو شرك أصغر، مثلاً: مسألة الحلف بغير الله شرك أصغر في الأصل، لكن لو كان في قلب الحالف أن الذي حلف به مثل الله؛ صار شركاً أكبر.
فالضابط أن ما أطلق عليه الشارع اسم الشرك، وهو لا يخرج من الملة فهو شرك أصغر، وما كان يخرج من الملة فهو شرك أكبر.
ويبقى علينا سؤال آخر: ما هو الذي يخرج من الملة؟ وما هو الذي لا يخرج؟ هذا يتوقف على النص الوارد، فمن جعل للمخلوق حقاً يختص به الخالق فهذا شرك أكبر، وما دون ذلك فهو شرك أصغر.
وأضرب لك مثلاً: لو أن إنساناً يعظم والده، وكلما جاء قبل يده أو قبل جبهته ووضع له النعال، وقرب له السيارة، فهذا تعظيم، ولو جاء لإنسان آخر وفعل به مثل ما فعل بوالده، فهذا جعل غير الوالد مثل الوالد، لكن لو قدم له النعال فقط، فهل يكون مساوياً لهذا الغير مع والده؟ طبعاً لا.(36/13)
حكم مخالفة المأموم للإمام في بعض السنن
السؤال
فضيلة الشيخ: ما حكم الإتيان ببعض السنن والتخلف البسيط عن الإمام كجلسة الاستراحة وكالإقعاء في الصلاة، وهل هذا يستوجب على المأموم المتابعة في الصلاة أم الإتيان بها، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
الأصل موافقة الإمام في الأفعال، وأقصد بالموافقة المتابعة بأن يأتي بها بعد الإمام مباشرة.
هذا هو السنة، وأما ما لا يقتضي التخلف عن الإمام مثل أن يجلس مقعياً بين السجدتين والإمام مفترش، أو أن يتورك في التشهد الأخير والإمام مفترش، فإن هذا لا يعد مخالفة، أو أن يرفع يديه إذا ركع، وإذا رفع من الركوع، والإمام لا يرى ذلك، فهذا لا يعد مخالفة، لأنه ليس فيه التخلف، وأما جلسة الاستراحة ففيها تخلف، لكن لكونه تخلفاً يسيراً لا نقول إنها حرام، لكن نقول الأولى أنك لا تجلس إذا كان الإمام لا يجلس، كما نص على هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوي قال: الأولى أن المأموم إذا كان يرى جلسة الاستراحة سنة والإمام لا يراها أن يتابع إمامه؛ لأن متابعة الإمام أفضل، وكذلك العكس لو أن الإمام يرى الجلسة، وأنت لا تراها، فإذا جلس فاجلس؛ لأن المتابعة أتم، فما أدى إلى تأخر المأموم عن الإمام فإنه لا يفعله، وما لا يؤدي إلى ذلك ولكن اختلاف في الصفة؛ فهذا لا بأس به، ولا يعد ذلك مخالفة.(36/14)
حكم الجهر بالبسملة في الصلاة
السؤال
هل نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم الجهر بالبسملة في الفاتحة في الصلاة؟
الجواب
ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه جهر لكن أحاديث الإسرار أكثر، وبعض العلماء ضعف ما ورد من الجهر وحكم بشذوذه، والشاذ لا يعمل به.
والأقرب أن يقال: المسألة ليس فيها كبير مخالفة، فلو صليت خلف إمام يجهر بالقراءة - قراءة البسملة- فلا تنكر عليه، لكن لك أن تسأل -مثلاً- هل هي سنة أو ليست بسنة؟ وإذا جهرت بها أحياناً تأليفاً للقلوب إذا صليت بقوم لا يرون الإسرار بها فلا بأس به، المهم ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك، فبعض العلماء قال: إنه ضعيف لأنه شاذ، وبعضهم قال: إنه صحيح لكن الأكثر الإسرار.(36/15)
حكم تكفير المعين
السؤال
ما معنى مقولة شيخ الإسلام ابن تيمية: تكفير المعين يحتاج إلى دليل معين؟
الجواب
أنت تعرف -بارك الله فيك- أن الأحكام تارة تكون معلقة بالوصف، وتارة تكون معلقة بالشخص، فمثلاً نقول: كل مؤمن هو من أهل الجنة، هذه كلمة عامة معلقة بوصف، كل مؤمن فهو في الجنة، وكل كافر فهو في النار، لكن هل تقول لهذا الشخص المعين: فلان من أهل الجنة؟ لا.
وهل تقول لهذا الشخص المعين: فلان من أهل النار؟ لا.
ففرق بين المعلق بالوصف والمعلق بالشخص.
فإذا قال الإنسان كلمة كفر، أو فعل فِعل كفر فإننا لا نكفره حتى ننظر ما الحامل له على هذا؟ ثم نعامله بما يقتضيه حاله.
رجل أكره على أن يسجد لصنم فسجد، ورجل آخر أكره على أن يقول كلمة كفر فقالها هل يكفر هذان الرجلان؟ لا؛ لأن الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل:106] فقوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} [النحل:106] يشمل من كفر بالقول أو الفعل، فهذا الرجل سجد لصنم مكرهاً، والرجل الذي قال كلمة كفر مكرهاً، هل فعله كفر أم لا؟ نعم.
فعله فعل كفر، فهل هو كافر؟ لا؛ لأنه وجد مانع من التكفير وهو الإكراه، والرجل الذي كان مسرفاً على نفسه، قال لأهله: إذا مت فاحرقوني وذروني في اليمّ، فعل هذا ظناً منه أنه ينجو بذلك من عذاب الله، ثم فعل أهله به ما قال، فجمعه الله عز وجل وسأله: لم فعلت هذا؟ قال: ربي خوفاً من عقابك، فغفر الله له، هذا الرجل فعله فعل كفر لماذا؟ لأنه شاك في قدرة الله على أن يجمعه ويعاقبه، لكن لما كان الحامل له على ذلك الخوف من عقاب الله عز وجل غفر الله له.
فمعنى كلام شيخ الإسلام رحمه الله أن يقال: إن الكفر معلق بالوصف يحكم به على كل حال، من كفر بالله فهو في النار، من سجد لصنم فهو كافر، من قال: إن مع الله إلهاً آخر، فهو كافر، لكن الشخص المعين لا تحكم عليه حتى تنظر، قد يكون جاهلاً ولا يدري، قد يكون متأولاً، وقد يكون هناك حال تستدعي أن يقول هذا الشيء بدون إرادة.
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله أشد فرحاً بتوبة العبد من رجل كانت له راحلة فضاعت في البر، فطلبها فلم يجدها، فأيس، فاضطجع تحت ظل شجرة ينتظر الموت، فإذا بخطام ناقته معلق بالشجرة، فأخذ بالخطام وقال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك) الكلمة هنا كلمة كفر؛ لأنه ادعى الربوبية لنفسه، وادعى العبودية لله، لكن لما كان لا يقصد هذا، إنما أخطأ من شدة الفرح كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخذه الله.(36/16)
حكم التصوير بالفيديو
السؤال
فضيلة الشيخ! هل يجوز التصوير بالفيديو؟
الجواب
التصوير بالفيديو حسب المصور، وماذا تريد أن تصور؟ فما يفعله بعض الناس الآن في أيام العرس يصورون المحفل، فهذا خطأ عظيم وجناية؛ لأن هذه الصورة سوف يشاهدها كل الناس، قد يكون فيه النساء متبرجات بزينة، قد يكون فيه النساء كاشفات الوجوه، قد يكون النساء فيما بينهن يتكلم بعضهن إلى بعض ويضحك بعضهن إلى بعض، فيحصل بذلك فتنة، هذا حرام ولا إشكال فيه، وقد يكون التصوير لنقل مواد علمية كتمرين على صناعة الشيء، أو على تحضير الشيء، المهم مادة علمية مفيدة، وقد يكون محاضرة لإنسان يتكلم مع الناس يرشدهم ويعظهم، فهذا لا شيء فيه، فالمهم أنه على حسب الشيء الذي يصور.(36/17)
كيفية زكاة الدين
السؤال
بالنسبة لزكاة الدين، إذا أسلف شخص شخصاً آخر كيف يزكي عن هذا؟ ولو تأخر المدين عن السداد ثلاث سنين؟
الجواب
الدين بارك الله فيك، هل فيه زكاة أم لا؟ فيه تفصيل، إذا كان الدين على معسر فلا زكاة فيه، ولو بقي عشر سنوات، لكن إذا قبضته فتؤديه سنة واحدة فقط، هذا إذا كان على فقير.
أما إذا كان على غني وامتدت المدة فتزكيه كل سنة، لكنك بالخيار إن شئت تدفع زكاته مع مالك كل سنة، وإن شئت إذا قبضته تزكي لما مضى، وأستحب أن تزكيه مع مالك؛ لأنه ربما يموت الإنسان ويتهاون الورثة في إخراج الزكاة، وربما يحصل أشياء تمنع الزكاة، فإذا أديته مع مالك يكون اطمئناناً لقلبك، أما إذا ماطل الغني: فإن كان لا يمكن مطالبته كالأب وكالسلطان وكالأمير المتسلط وما أشبه ذلك فهو كالمعسر ليس فيه زكاة إلا سنة قبضه.
وأما إذا ماطل وهو يمكن مطالبته تشكوه إلى الأمير ويسلمك فهذا عليك الزكاة فيه؛ لأن الأمر باختيارك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(36/18)
لقاء الباب المفتوح [37]
في هذا اللقاء تفسير آيات من سورة البروج، وهي المتعلقة بما كان من نقمة أعداء الله على أوليائه بسبب إيمانهم، وأن ملك الله تام لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه، وفي ختام اللقاء أجاب الشيخ على الأسئلة الموجهة إليه.(37/1)
تفسير آيات من سورة البروج
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو اللقاء الأخير من شهر ربيع الثاني عام (1414هـ) والذي يتم في يوم الخميس الثامن والعشرين من هذا الشهر، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يختم لنا ولكم بالخير، وأن يحسن لنا ولعامة المسلمين العاقبة.(37/2)
تفسير قوله تعالى: (وما نقموا منهم)
تكلمنا في الأسبوع الماضي على أول آيات سورة البروج إلى أن وقفنا على قول الله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] أي: ما أنكر هؤلاء الذين سعروا النار بأجساد هؤلاء المؤمنين إلا هذا، أي: إلا أنهم آمنوا بالله عز وجل: {إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} ، وهذا الإنكار أحق أن ينكر؛ لأن المؤمن بالله العزيز الحميد يجب أن يساعد ويعان، وأن تسهل له الطرق، أما أن يمنع ويردع حتى يصل الحد إلى أن يحرق بالنار؛ فلا شك أن هذا عدوان كبير، وليس هذا بمنكرٍ عليهم، بل هم يحمدون على ذلك؛ لأنهم عبدوا من هو أهل للعبادة وهو الله جل وعلا الذي خلق الخلق ليقوموا بعبادته، فمن قام بهذه العبادة فقد عرف الحكمة من الخلق وأعطاها حقها.
وقوله: (إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد) العزيز: هو الغالب الذي لا يغلبه شيء؛ فهو سبحانه وتعالى له الغلبة والعزة على كل أحد، ولما قال المنافقون: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون:8] قال الله تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8] .
قوله: (الحميد) بمعنى: المحمود، فالله سبحانه وتعالى محمود على كل حال، وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا جاءه ما يسر به قال: (الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات) وإذا جاءه خلاف ذلك قال: (الحمد لله على كل حال) .
وهذا هو الذي ينبغي للإنسان أن يقوله عند المكروه: (الحمد لله على كل حال) أما ما تسمعه من بعض الناس: الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه، فهذا خلاف ما جاءت به السنة، بل قل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله على كل حال) أما أن تقول: (الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه) فكأنك الآن تعلن أنك كاره ما قدر الله عليك، وهذا لا ينبغي، بل الواجب أن يرضى الإنسان بما قدر الله عليه مما يسوءه أو ما يسره؛ لأن الذي قدره عليك هو الله عز وجل وهو ربك، وأنت عبده وهو مالكك وأنت مملوك له، فإذا كان الله هو الذي قدر عليك ما تكره فلا تجزع، يجب عليك الصبر وألا تسخط، لا بقلبك ولا بلسانك، ولا بجوارحك، اصبر وتحمل الأمر وسيزول، فدوام الحال من المحال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً) .
فقوله جل وعلا: (الحميد) أي: المحمود على كل حال، من سراء أو ضراء؛ لأنه إن قدر السراء أو الضراء فهو ابتلاء وامتحان، قال الله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35] .
ولما رأى سليمان عليه السلام عرش بلقيس بين يديه في لحظة ماذا قال؟ قال: {هَذَا فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:40] .
فأنت يا أخي! إذا أصبت بالنعمة لا تأخذها على أنها دليل على رضا الله عنك، فتفرح وتمرح، هي نعمة لا شك، لكن اعلم أنك ممتحن بها، هل تؤدي شكرها أو لا تؤدي؟ وإن أصابتك ضراء فاصبر، فإن ذلك أيضاً ابتلاء وامتحان من الله عز وجل ليبلوك هل تصبر أو لا تصبر؟ وإذا صبرت واحتسبت الأجر من الله فإن الله يقول: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] .
ويجوز أن يكون معنى قوله: الحميد، هو الحامد فإنه سبحانه وتعالى يحمد من يستحق الحمد، يثني على عباده من المرسلين والأنبياء والصالحين، والثناء عليهم حمد لهم، فهو جل وعلا حامد وهو كذلك محمود، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها) لأنه لولا أن الله يسر لك هذه الأكلة أو الشربة ما حصلت عليها، قال الله تبارك وتعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة:63-64] أجب عن هذا السؤال، الله يسألنا (أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون) فما الجواب؟
الجواب
بل أنت يا رب {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} [الواقعة:65] بعد أن يخرج وتتعلق به النفوس؛ يجعله الله حطاماً ولم يقل عز وجل لو نشاء لم ننبته؛ لأن كونه ينبت وتتعلق به النفوس ثم يكون حطاماً أشد وقعاً على النفس من كونه لا ينبت أصلاً.
ثم انتقل للماء فقال: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} [الواقعة:68-69] الجواب: بل أنت يا ربنا، {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} [الواقعة:70] أي: مالحاً غير عذب لا يستطيع الإنسان أن يشربه {فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} [الواقعة:70] يعني: فهلا تشكرون الله على ذلك، وهنا لم يقل عز وجل لو نشاء لم ننزله من المزن؛ لأن كونه ينزل ولكنه لا يشرب ولا يطاق لملوحته أشد من كونه لم ينزل أصلاً، فتأملوا القرآن الكريم وستجدون فيه من الأسرار والحكم أشياء كثيرة.(37/3)
تفسير قوله تعالى: (الذي له ملك السماوات والأرض)
ثم قال الله تعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البروج:9] له وحده ملك السماوات والأرض لا يملكها إلا هو عز وجل، فهو يملك السماوات ومن فيها، والأرضين ومن فيها، وما بينهما وما فيهما، كل شيء ملك لله، ولا يشاركه أحد في ملكه، وما يضاف إلينا من الملك فيقال مثلاً: هذا البيت ملك لفلان، هذه السيارة ملك لفلان، فهو ملك قاصر وليس ملكاً حقيقياً؛ لأنه لو أن إنساناً أراد أن يهدم بيته بدون سبب هل يملك ذلك؟ لا.
هذا حرام عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال، لو أردت أن تحرق سيارتك بدون سبب هل تملك هذا؟ لا تملكه، حتى لو أنك فعلت لحجر القاضي عليك، ولأنه يمنعك من التصرف في مالك، مع أن الله قد منعك من قبل، إذاً ملكنا قاصر، والملك التام لله.
قوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج:9] مطلع عز وجل على كل شيء، ومن جملته ما يفعله هؤلاء الكفار بالمؤمنين من الإحراق بالنار وسوف يجازيهم على هذا يوم القيامة، ولكن مع فعلهم هذا الفعل الشنيع عرض عليهم التوبة، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10] قال بعض السلف: انظر إلى رحمة الله عز وجل، يحرقون أولياءه ثم يعرض عليهم التوبة يقول: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} وإن تابوا فماذا؟ فلا شيء عليهم، فتأمل يا أخي الكريم! رحمة الله عز وجل؛ حيث يحرق هؤلاء الكفار أولياءه والتحريق أشد ما يكون من التعذيب.
ثم يقول: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} [البروج:10] قال العلماء: فتنوا بمعنى: أحرقوا كما قال تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ * ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات:13-14] فهؤلاء أحرقوا المؤمنين وأحرقوا المؤمنات، يأتون بالرجل وبالمرأة ويحرقونهم بالنار، يقول عز وجل: (ثم لم يتوبوا) أي: لم يرجعوا إلى الله {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10] لأنهم أحرقوا أولياء الله، فكان جزاؤهم مثل عملهم، جزاءً وفاقاً.
في هذه الآيات من العبر: أن الله سبحانه وتعالى قد يسلط أعداءه على أوليائه، فلا تستغرب إذا سلط الله عز وجل الكفار على المؤمنين وقتلوهم وحرقوهم وانتهكوا أعراضهم، لا تستغرب فلله تعالى في هذا حكمة.
المصابون من المؤمنين أجرهم عند الله عظيم، وهؤلاء الكفار المعتدون أملى لهم الله سبحانه وتعالى، وهو يستدرجهم من حيث لا يعلمون، والمسلمون الباقون لهم عبرة وعظة فيما حصل لإخوانهم، فما لنا نحن الآن نسمع ما يحصل في البوسنة والهرسك من الانتهاكات العظيمة انتهاك الأعراض، وإتلاف الأموال، وتجويع الصغار والعجائز، نسمع أشياء تبكي فنقول: سبحان الله! ما هذا التسليط الذي سلط الله على هؤلاء المؤمنين، نقول: يا أخي! لا تستغرب فالله سبحانه وتعالى ضرب لنا أمثالاً لمن سبقونا، يحرقون المؤمنين بالنار، فهؤلاء الذين سلطوا على إخواننا في البوسنة والهرسك وغيرها من بلاد المسلمين، لا تستغرب، فهذا فيه رفعة درجات للمصابين وتكفير سيئات، وهو عبرة للباقين، علينا أن نعتبر بهذا، وهو أيضاً إغراء لهؤلاء الكافرين حتى يتسلطوا فيأخذهم الله عز وجل أخذ عزيز مقتدر.
وأيضاً في هذه الآيات من العبر: أن هؤلاء الكفار لم يأخذوا على المسلمين بذنب إلا شيئاً واحداً، وهو أنهم يؤمنون بالله العزيز الحميد، وهذا ليس بذنب، بل هذا هو الحق، ومن أنكره فهو الذي يُنكر عليه، نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينصر المسلمين في كل مكان، وأن يقينا شر أعدائنا، وأن يجعل كيدهم في نحورهم، إنه على كل شيء قدير.(37/4)
الأسئلة(37/5)
حكم الزيادة على الأذكار الثابتة في الشرع
السؤال
فضيلة الشيخ: بالنسبة للحديث الذي رواه الترمذي والحاكم أن رجلاً عطس ثم قال: الحمد لله والسلام على رسول الله، فقال له ابن عمر: وأنا معك.
الحمد لله والصلاة على رسول الله، ولكن ما هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل هذا القول بدعة؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم، الأذكار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم كاملة من كل وجه، فإذا كان المشروع للعاطس أن يقول: الحمد لله فقط فليقتصر الإنسان عليها، فإذا زاد عليها نظرنا إن كان يرى أن الزيادة عليها أفضل فهذا مبتدع، وإن كان يرى أن هذه الزيادة من باب الجائز ويفعلها أحياناً فهذه ليست ببدعة، لكن الأولى المحافظة على ما جاءت به الشريعة من الأذكار سواء في أذكار السلام أو العطاس أو غير ذلك، فإنه أفضل وأولى وأكمل.(37/6)
حكم قراءة القرآن بطريقة الإدارة
السؤال
فضيلة الشيخ: أناس يجلسون لقراءة القرآن فيقرأ كل واحد منهم بعض الآيات ويستمع الآخرون فهل في ذلك شيء؟
الجواب
هذه تسمى قراءة الإدارة، يعني: أنهم يجلسون كحلقة فتدور القراءة عليهم، بحيث يقرأ أحدهم جزءاً؛ ثم الثاني الجزء الذي بعده، ثم الثالث الجزء الثالث، أو على صفحة، أو على ورقة، أو يعيد القارئ الثاني فمن بعده ما قرأه الأول فهذا كله لا بأس به؛ لأنه غاية ما فيه أنهم يتساعدون ويطردون الملل عن أنفسهم، ولا حرج في ذلك.(37/7)
حكم قراءة الأذكار بشكل جماعي
السؤال
فضيلة الشيخ: ما الحكم إذا اجتمع بعض الناس فرددوا الأذكار الواردة بشكل جماعي؟
الجواب
هذا من الأشياء التي لا ينبغي للإنسان أن يفعلها؛ لأنه إذا فعل ذلك فإنه يحرم نفسه من أن يقول الذكر هو بنفسه، والقائل للذكر أفضل من المستمع، فالذي ننصح به هؤلاء: أن يقول كل واحد منهم الذكر الوارد في نفسه.(37/8)
حكم اختلاف نية الإمام والمأموم
السؤال
دخلنا المسجد وقت صلاة العصر ولم نصل الظهر، هل نصلي العصر بنية صلاة الظهر؟
الجواب
نعم.
ادخلوا معهم بنية الظهر، ولكل امرئ ما نوى، أنتم لكم ما نويتم، والإمام له ما نوى، ثم إذا انتهت الصلاة فصلوا العصر.(37/9)
الفرق بين الوجوب والإيجاب
السؤال
ما هو الفرق بين الوجوب والإيجاب في الواجب المخير؟
الجواب
الوجوب وصف للحكم، والإيجاب وصف للحاكم، فيقال: أوجب الله كذا، ويقال: هذا واجب، فالوجوب وصفٌ للحكم، يعني: يقال: هذا واجب وهذا غير واجب، فالله هو الذي يوجب، والواجبات كما تعرف بعضها معين ولا بديل لها، وبعضها معين وله بدل، وبعضها مخير، فالمعين الذي لا بدل له هذا أكثر الواجبات، والمعين الذي له بدل كخصال الكفارة كالظهار ففيه عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، هذا واجب وله بدل، والواجب المخير؛ كخصال الفدية، في حلق الرأس أثناء الإحرام قال تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] .(37/10)
حال حديث: (صوتان ملعونان.
) ومعناه
السؤال
فضيلة الشيخ: سؤالي عن حديث هل هو صحيح أم لا، ثم إذا كان صحيحاً ما معناه؟ الحديث يقول: (صوتان ملعونان: صوت عند المصيبة، وصوت عند الفرح) ؟
الجواب
هذا الحديث ضعيف، والمراد بالصوتين صوت عند المصيبة يعني بذلك: صوت النائحة، وصوت الفرح صوت الطرب الذي هو الغناء، هذا إن صح الحديث.(37/11)
حكم المولد النبوي
السؤال
فضيلة الشيخ: في لقاءات سابقة عرفنا البدعة وحكمها؛ ونجد أن بعض الناس في الاحتفالات بالمولد النبوي الشريف، يقولون: إن هذه الاحتفالات هي تأليف لقلوب المسلمين بعد أن تفرقت الأمة فما قولكم لهؤلاء؟
الجواب
قولنا لهؤلاء الذين يقولون: الاحتفال بالمولد تأليف للقلوب، وإحياء لذكرى رسول الله صلى الله عليه وسلم نقول: أولاً: لا نسلم بذلك؛ فإن هؤلاء الذين يجتمعون يتفرقون عن غير شيء، ولا يمكن أن تتآلف القلوب على بدعة إطلاقاً.
ثانياً: إن في هذا إحداث لشيء لم يشرعه الله، فالله تعالى قد جعل لتأليف القلوب اجتماعاً آخر، كل يوم يجتمع الناس في بيت من بيوت الله خمس مرات، وهي كافية في حصول التأليف، فنحن في غنى عن هذه البدعة التي ابتدعوها وقالوا: إنه يحصل بها التأليف.
وأما ذكرى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فسبحان الله العظيم! لا يكون للإنسان ذكرى للرسول عنده إلا على رأس كل سنة!! ألسنا نذكر الرسول في كل عبادة، فعندما تريد أن تتوضأ لا بد في الوضوء من أمرين: الإخلاص لله، والثاني: المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، فمتى استشعرت المتابعة؟ فأنت الآن تذكر الرسول صلى الله عليه وسلم، تتوضأ على أنك متبع للرسول صلى الله عليه وسلم، تصلي على أنك متبع للرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم الذكرى العلنية.
والحمد لله كل يوم خمس مرات على الأقل نعلن في الأذان: أشهد أن محمداً رسول الله، فنحن في غنى عن هذه البدعة؛ بدعة الاحتفال بالمولد.
فنرد عليهم بمثال ونقول: سبحان الله! أين أنتم من الصحابة؟ أين أنتم من التابعين؟ أين أنتم من تابعي التابعين؟ كل القرون المفضلة الثلاثة مضت ولم يحدث أحد هذا الاحتفال، لم يعرف هذا الاحتفال إلا في القرن الرابع فيما بعد الأربعمائة، هي بدعة ليس فيها شك، وبدعة غير محمودة، وكل بدعة ضلالة.(37/12)
حكم صلاة النافلة وقت إقامة الصلاة
السؤال
فضيلة الشيخ: في صلاة الفجر ندخل أحياناً فنجد بعض الناس يأتي بالسنة عند إقامة الصلاة، فهل ننكر عليهم هذا؟
الجواب
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) فهؤلاء الذين دخلوا في السنة بعد أن أقيمت الصلاة ليس لهم سنة، وإنما فعلوا حراماً وبطلت سنتهم، ونحن ننكر عليهم ولكن بالحكمة والحسنى، نأخذ بيده ونقول: يا أخي! الفريضة أفضل من النافلة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة) سيقول لك: هذا رأي علمائي، أن سنة الفجر لا بد منها قبل الصلاة ولو أقيمت الصلاة، قل له: أيهما أولى رأي علمائك أو قول النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إننا نقول: إذا أقيمت الصلاة وأنت في نافلة قد دخلت فيها فإن كنت في الركعة الأولى فاقطعها بدون سلام، وادخل مع الإمام وإن كنت قمت للثانية، فأتمها خفيفة.(37/13)
العمل الدعوي في صفوف الرجال والنساء
السؤال
يوجد بعض الإخوة الدعاة يعملون في مجال التمريض، وهذا المجال فيه اختلاط فهل يدعون الرجال فقط أم الرجال والنساء؟
الجواب
الواجب على الإنسان أن يدعو إلى دين الله عز وجل، لكن مخاطبة الرجل للمرأة ولو بالدعوة إلى الله قد تحدث به فتنة، فالأولى أن يكون هناك من الممرضات الصالحات من تدعو النساء، ومن الرجال من يدعو الرجال حتى لا تحصل الفتنة؛ لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فربما مع المخاطبة يدخل الشيطان بين المرأة والرجل.
فلكل مقام مقال.
أما لو كان هناك مثلاً نساء مجتمعات وقام رجل يخطب فيهن فهذا لا بأس به، لكن دعوة مباشرة لامرأة لا نرى أن فيها مصلحة؛ ولو كان فيها مصلحة ففيها مضرة أكثر.
وأما الممرضون فيدعوهم، لكن إن خفت أن ينفروا فادعهم واحداً واحداً، تدعو أحدهم مثلاً إلى بيتك وتسقيه القهوة وتؤنسه وتعرض عليه الإسلام.
وأما من لم يدع وهو قادر أخشى أن يأثم على ذلك.(37/14)
تعريف الحسنة والدرجة
السؤال
فضيلة الشيخ: ما الفرق بين الحسنة والدرجة؟ وهل الدرجة مثل الحسنة بعشر أمثالها أم لا؟
الجواب
الحسنة في العمل والدرجة في الثواب، قال الله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأحقاف:19] وقال: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام:160] فالحسنة وصف للعمل، والدرجة وصف للثواب، وفي الجنة مائة درجة أعدها الله تعالى للمجاهدين في سبيله.(37/15)
اختصاص الأجر بالصلاة داخل مسجد الكعبة دون غيره
السؤال
فضيلة الشيخ: هل الصلاة في المسجد المجاور للحرم تعادل الصلاة في الحرم نفسه؟
الجواب
الصلاة في المسجد النبوي خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، والمساجد المجاورة للمسجد النبوي لا يكون فيها ثواب المسجد النبوي، أما مكة فقد اختلف العلماء هل يحصل ثواب المسجد الذي فيه الكعبة للمساجد الأخرى أم لا، والصحيح أنه لا يحصل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا مسجد الكعبة) فقوله: (إلا مسجد الكعبة) نصٌّ في أن الذي فيه هذا التفضيل هو مسجد الكعبة، ومعلوم أنك لو صليت في مسجد بالعزيزية مثلاً ما قال الناس هذا مسجد الكعبة، لكن الصلاة في الحرم أي فيما كان داخل حدود الحرم، أفضل من الصلاة في الحل، يعني: لو صليت في مسجد العزيزية أو العوالي أو ما أشبه ذلك، فهو أفضل مما لو صليت في مسجد في الرياض أو ما أشبهه، والدليل على هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل بـ الحديبية وكان بعضها من الحرم وبعضها من الحل، (كان إذا حضرت الصلاة دخل إلى الحرم وصلى فيه) .(37/16)
حكم قطع شيء من الحيوان لمصلحة راجحة له
السؤال
فضيلة الشيخ: عندنا نوع من الماعز السوري الشامي له آذان طويلة يزيد طول الأذن الواحدة عن ثلاثين (سنتمتر) بحيث إذا شربت من الماء وقع نصف أذنها في الماء، فإذا أكلت من العلف اتسخت أذنها بالعلف أو التبن، ثم إذا شربت أو أكلت من المعلف أدى ذلك إلى اتساخ الماء أو العلف وقد يسبب لها التهابات في أذنها، لهذا يقوم بعض الناس بقطع شيء من أذنها -النصف أو أقل- للأسباب السابقة، وهذا يسبب تجميلاً لها؛ ويزيد في سعرها، علماً بأن هذا العمل خالٍ من الاعتقادات الجاهلية، ومثل ذلك قص القرون لما فيه من الأذى ولما في قصها من جمال وزيادة في الثمن، لذا يقصونها أو يضعون عليها دواء منذ الصغر فلا ينبت القرن، وكذلك الخصي للتسمين وطيب اللحم، فما حكم هذه الأعمال، من قطع أذن وقرون وخصي الخرفان والتيوس، فنرجو الإجابة منكم وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
هذه ثلاثة أشياء كما جاء في السؤال، الأول: قطع الأذن، وقال السائل: إنه لا يريد بذلك ما يريده الجاهليون من البحيرة وشبهها إنما يريد ثلاثة أمور: الأول: منع الأذى أو المرض بطول هذه الآذان.
الثاني: التجميل.
الثالث: زيادة القيمة.
وجوابنا على هذا أن نقول: لا بأس بذلك بشرط: ألا يكون في هذا ألم على البهيمة؛ لأن هذا الألم إذا لم يكن هناك سبب بين لا يجوز، فمن الممكن أن تبنج الأذن وتقطع، أو يعمل فيها عمل آخر بحيث لا تتأذى من القطع.
وأما قطع القرون فهو أهون؛ لأن القرون كما قال السائل ربما يحصل فيها أذية، تنطح بها من عاندها.
وأما الخصاء فهو أيضاً جائز إذا كان فيه مصلحة، ولكن يجب أن تتخذ الإجراءات اللازمة لمنع تألم البهيمة.(37/17)
حكم جمع المسافرين وقراءة آية الكرسي عليهم
السؤال
فضيلة الشيخ: هناك بعض الأفعال يفعلها بعض الناس إذا خرجوا إلى البر، فهم يجلسون ثم يأتي أبوهم أو أحد الأشخاص يقرأ آية الكرسي والمعوذات، ثم يخط على المكان أو على البيت فما حكم هذا الفعل؟
الجواب
سؤال الأخ يقول: إن بعض الناس إذا خرجوا في استراحة أو نزهة اجتمعوا، ثم خطوا عليهم خطاً، ثم قرأ عليهم كبيرهم من أب أو أخ أو غيرهما آية الكرسي، وهذا بدعة، ولم يكن هذا معروفاً في عهد السلف الصالح، والذي يشرع أن كل واحد منهم يقرأ آية الكرسي؛ لأن من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح، فالسنة أن يعلَّموا ويقال: كل واحد منكم يقرأ آية الكرسي.(37/18)
حد الزاني المحصن
السؤال
فضيلة الشيخ: الزاني المحصن ما حده؟
الجواب
الزاني المحصن حده الرجم بأن يقام أمام الناس ويرجم بحجارة لا هي كبيرة ولا صغيرة حتى يموت.
السائل: لكن كيف يجاب عن حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه في مسلم أنه قال: (جلد مائة والرجم) ؟ الشيخ: يجاب عن ذلك: بأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم خمسة ولم يجلدهم، فكأن الله سبحانه وتعالى خفف عن عباده؛ لأن حديث عبادة بن الصامت الذي يظهر من سياقه أنه أول ما جاء في الرجم من السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خذوا عني، خذوا عني، فقد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة، وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) لكن بعد ذلك رجم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع بين الجلد والرجم فيكون هذا نسخاً، أي أن الله تعالى نسخ الجمع بين الرجم والجلد.
فإن احتج شخص بأن عدم ذكر الجلد في الحديث لا يدل على عدمه فهذه دعوى من أبطل الدعاوى، ففي قصة الأجير الذي زنى بامرأة مستأجرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) هل قال: اجلدها؟ لم يقل اجلدها! وكذلك في قصة ماعز قال: اذهبوا به فارجموه، ولم يقل اجلدوه، وكذلك في قصة الذميين اليهوديين، وإذا تنزلنا مع هذا وقلنا هو فعل، فكون الرسول صلى الله عليه وسلم، يترك الجلد يدل على جواز الترك وأنه ليس بواجب.
وأما فعل علي رضي الله عنه، فهو اجتهاد منه فقد قال: [جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله] والاجتهاد لا يمكن أن تعارض به السنة.
لكن ليكن في ذهنكم أن ثبوت الزنا بالشهادة صعب، لا يأتي أحد ويزعم أنه رأى ذكر الزاني في فرج المرأة هذا صعب جداً، وكنا نقول في الماضي بجواز العمل بالصورة الملتقطة للزانيين، لكن تبين لنا أنه حتى الصورة لا يمكن العمل بها؛ لأنه يمكن أن تدبلج وهذا سهل، فالآن لما تقدم العلم في هذه الأمور صار كل شيء ممكن فكنا نقول في الأول: إذا وجدت الصورة بأن هذا الرجل يزني بامرأة فهذه بينة من أقوى البينات لكن تبين الآن أن المسألة فيها شك.(37/19)
حكم التضحية بشاتين إحداهما بنية التوزيع للجيران
السؤال
فضيلة الشيخ: إذا جاء وقت الأضحية أذبح شاتين؛ واحدة بنية الأضحية، وواحدة بنية توزيع اللحم لكي يتوفر اللحم في البيت وعلى الجيران، فهل أنا مصيب في هذا أم مخطئ؟ الشيء الثاني: الماعز التي قطعت أذنها وقرناها هل تكفي وتجزئ عن الأضحية؟
الجواب
هذا سؤال طيب، أما بالنسبة للمسألة الأولى فالسنة أن يضحي الإنسان بواحدة عنه وعن آل بيته، كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل، ونحن نعلم أن الرسول أكرم الخلق، ولكن اقتصر على واحدة، فالسنة خير؛ لكن لو زدت لهذا الغرض الذي ذكرت فلا بأس إن شاء الله.
وأما ما يتعلق بمقطوعة الأذن ومقطوعة القرن؛ فالصحيح أنها جائزة مجزئة لكنها مكروهة؛ لأنها ناقصة الخلقة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن أي: نطلب شرفهما وكمالهما.(37/20)
الخشوع في الصلاة أهميته وسبله
السؤال
فضيلة الشيخ: ما أهمية الخشوع في الصلاة؟ وكيف يكون الإنسان خاشعاً في صلاته؟
الجواب
أهمية الخشوع في الصلاة على وجهين: الوجه الأول: أنه كمال للصلاة، بل هو لب الصلاة، وروحها، والخشوع يعني: حضور القلب بحيث إن الإنسان يكون حال الصلاة وهو يقرأ ويركع ويسجد مستحضراً هذه العبادة العظيمة، فلا يفعل هذه الأشياء وقلبه في مكان بعيد.
والوجه الثاني: أن الخشوع في الصلاة أكثر ثواباً، وقد امتدح الله عز وجل الذين هم في صلاتهم خاشعون.
أما ما يعين على الخشوع فهو: أن الإنسان يفرغ قلبه إذا أقبل على الصلاة تفريغاً كاملاً، ويشعر بأنه واقفٌ بين يدي الله عز وجل، وأن الله عز وجل يعلم ما في قلبه كما يعلم تحركاته في بدنه، ليس كالملوك، يمكن أن تقف أمام الملك متأدباً بظاهرك وقلبك في كل مكان ولا يعلم، لكن الله عز وجل يعلم ظاهرك وباطنك، فاستحضر أنك بين يدي الله، وإذا قلت: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] استحضر أن الله يجيبك؛ لأنه ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قال: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] قال: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] قال: مجدني عبدي، وإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] قال: هذا بيني وبين عبدي نصفين، وإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] ، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل) .
لو أننا استحضرنا هذه المحاورة مع الله عز وجل، هل يمكن أن تلتفت قلوبنا يميناً أو شمالاً؟ لكن المصلي في غفلة؛ فمن أكبر العون على الخشوع أولاً: أن يتعقد الإنسان أنه واقف بين يدي الله.
ثانياً: أن يعتقد أن الخشوع من كمال الصلاة، وأن الإنسان ربما ينصرف من صلاته وما كتب له منها إلا نصفها أو ربعها أو عشرها.
ثالثاً: أن يعتقد كثرة الثواب بالخشوع، فهذه من الأسباب أن الإنسان يستحضر ذلك، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافع الأخبثان) لماذا؟ لأن قلبه مشغول.(37/21)
حكم صلاة العيد
السؤال
فضيلة الشيخ: ما حكم صلاة العيد، هل هي فرض كفاية أم فرض عين؟ وما الدليل على أنها فرض كفاية؟
الجواب
صلاة العيد فيها أقوال ثلاثة للعلماء منها: أنها سنة؛ لأن الأعرابي سأل النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره عن الصلوات الخمس قال: (هل عليَّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع) .
ومنهم من قال: إنها فرض كفاية، وقال إنها من شعائر الإسلام الظاهرة، ولهذا تفعل جماعة وتفعل في الصحراء، وما كان من الشعائر الظاهرة؛ فهو فرض كفاية كالأذان.
ومنهم من قال: إنها فرض عين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها حتى النساء الحيض، وذوات الخدور، والعواتق أمرهن أن يخرجن إلى مصلى العيد، وهذا القول أقرب الأقوال، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أنها فرض عين، لكن إذا فاتت لا تُقضى، يعني: لو جئت والإمام قد سلم فلا تقضيها؛ لأنها مثل الجمعة لا تقضى إذا فاتت، لكن الجمعة عنها بدل وهو الظهر؛ لأن الوقت هذا لا بد فيه من صلاة، وأما صلاة العيد فلم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن لها بدلاً.(37/22)
عدم ثبوت قصة استئذان ملك الموت النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
فضيلة الشيخ: ذكرت بعض كتب التاريخ أن ملك الموت أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه على شكل أعرابي ما صحة هذا الكلام؟
الجواب
هذا غير صحيح، كون ملك الموت أتى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام يستأذنه فهذا غير صحيح إطلاقاً، لكن ملك الموت أتى إلى موسى ليقبض روحه فضربه حتى فقأ عينه، فرجع ملك الموت إلى الله عز وجل وقال: أرسلتني إلى رجل لا يريد الموت، فقال الله له: اذهب إلى موسى وقل له يضع يده على ظهر ثور، فما كان من تحت يده من الشعر فله مثله من السنوات، قال: ثم ماذا؟ قال: ثم الموت؛ لأنه كما قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] هذه السنوات لو نفرض أنها ألف سنة، أو أكثر فإنها تمضي على الإنسان وكأنها ساعة، الآن كلنا أعمارنا مختلفة لكن الذي عاش منا طويلاً والذي عاش منا قصيراً، كلنا سواء في الماضي كأنه لم يكن، ولهذا لما قال ملك الموت لموسى ثم الموت، قال: يا رب إذاً قربني من البلاد المقدسة، فقربه الله عز وجل من البلاد المقدسة، وقُبض هناك وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن قبره عند الكثيب الأحمر ولو كنت ثمَّ لأريتكم إياه) .
أما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يأته ملك الموت ولم يستأذن منه، بل خطب صلى الله عليه وسلم في آخر حياته خطبة وقال: (إن عبداً خيره الله تعالى بين أن يعيش في الدنيا ما شاء الله أن يعيش، وبين لقاء ربه فاختار لقاء ربه) هكذا قال في آخر حياته، فبكى أبو بكر، فتعجب الناس كيف يبكي أبو بكر من هذه الكلمات، فكان النبي صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلم الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الذي ورد، أما أن ملك الموت جاء يستأذنه فهذا غير صحيح.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(37/23)
لقاء الباب المفتوح [38]
تكلم الشيخ في لقائه هذا على مسألة منتشرة بين الناس وهي مسألة التثبت في الأخبار، والنهي عن الإشاعة والتشهير، وخاصة بأولي الأمر من العلماء والأمراء، ووجوب طاعة ولي الأمر في غير معصية، ثم أجاب عن أسئلة، منها: حكم اتباع سنة الخلفاء الراشدين، وبيان ضوابط التكفير.(38/1)
أهمية التثبت في الأخبار
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو اللقاء الأول في شهر جمادى الأولى من عام (1414هـ) والذي يتم كل يوم خميس من كل أسبوع، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يثيب الجميع على ما يقدمونه من بحث عن العلم والتعلم، ونبشركم جميعاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) فنسأل الله أن ييسر لنا ولكم ذلك بمنه وكرمه.
نقول: إن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الجاثية:7] والأفاك هو ذو الإفك، والإفك هو الكذب، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع) ومعنى ذلك: أن الإنسان الذي يحدث بكل ما سمع فإنه سيثقل كاهله بالكذب؛ لأنه ليس كل ما قيل وكل ما ينقل يكون صدقاً، بل كثير من الأخبار ولاسيما مع الانفعالات والعواطف يكون كذباً ويزاد فيه وينقص.(38/2)
وجوب التثبت عند سماع الإشاعات
يجب على الإنسان إذا سمع عن شخص شيئاً أن يتأكد أولاً من صحة النقل، فقد يكون النقل خطأً، وهذا يقع كثيراً، وكثيراً ما نسمع مما ينسب إلى المشايخ أو الأمراء أو غيرهم من الناس، ثم إذا تحققنا منه وجدنا أنه كذب لا أصل له، وربما يكون له أصل لكن يزاد فيه، وهذه محنة عظيمة، فيجب أولاً أن نتحقق من صحة النقل، فإذا صح النقل، وأن فلاناً قال كذا، من أمير أو عالم أو وزير أو رجل عادي، فإننا نتأمل قبل أن نتحدث معه، نتأمل هل لكلامه وجهة نظر؟! هل هو اجتهاد يخطئ فيه ويصيب، وقد نكون نحن مخطئين وهو المصيب.
نتأمل قبل أن نتجاسر على الكلام معه بإنكار ما نسب إليه أو ما أشبه ذلك، وكثيراً ما ينقل الشيء ويكون النقل صحيحاً، ونعلم أن هذا الرجل قاله أو فعله، ثم إذا تأملنا وجدنا أن له مبرراً ومسوغاً، وإذا كان له مبرراً أو مسوغاً -وإن كان يجهله كثير من الناس- فإنه ليس أهلاً للملامة أو أهلاً للإنكار؛ لأنه قاله عن اجتهاد، وليس الشخص منا ينزل عليه الوحي بحيث يكون ما قاله حقاً أو ما فعله حقاً، فإن الوحي انقطع بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا تأملنا ما صح به النقل عنه، ووجدنا أن لقوله ولفعله مساغاً ومبرراً فإننا نسكت ولا نتكلم معه.
فإذا تبين لنا أنه لا مساغ لقوله ولا مبرر له، أو لا مساغ لفعله ولا مبرر له حينئذٍ نتكلم ولكن كيف الكلام؟ هل يكون الكلام بأن نشهر بهذا الرجل عند الناس، ونقول: هذا فلان فيه كذا وكذا؟ لا.
الواجب النصيحة بالحكمة بأن نذهب إليه ونقول: فعلت كذا أو قلت كذا، وهذا ليس بصحيح؛ لأنه يخالف قول الله عز وجل، كذا وكذا، أو قول الرسول صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، أو إجماع العلماء على كذا وكذا، فكيف تقول ذلك أو تفعل ذلك؟(38/3)
النهي عن التشهير وبيان خطره
ولا يجوز إطلاقاً أن نشهر به، لاسيما إن كان من العلماء أو كان من الأمراء؛ لأنك إذا شهرت بخطأ عالم من العلماء فأنت في الحقيقة أسأت إليه شخصياً كما تسيء إلى سائر الناس، ولكنك أضفت إلى هذه الإساءة إساءة إلى العلم الذي يحمله والشريعة التي يتكلم بها، فإن العلماء إذا سقطوا من أعين الناس، لم يبق لقولهم ميزان ولم يثق الناس بقولهم، وحينئذٍ يذهب جزء من الشريعة على يد هذا العالم الذي أخطأ مرةً واحدة، ولا أحد معصوم من الخطأ فتضيع بالتشهير به مصالح كثيرة، وهذه جناية عظيمة ليس على الشخص نفسه بل على الشخص وما يحمله من شريعة الله عز وجل كما هو معلوم، وإذا كان هذا مع الأمير وشهرت به فأنت أسأت إليه شخصياً كما تسيء إلى سائر الناس، وأسأت إلى الأمن مرة أخرى، وذلك لأن حُفّاظ الأمن هم الأمراء ومن جُعل لهم سلطة العقوبة والتنفيذ، فإذا شهرت بهم قَلَّت هيبتهم في نفوس الناس، وصاروا كعامة الناس لا أحد يهتم بهم، لا بأوامرهم ولا بنواهيهم، وحينئذٍ يختل الأمن ويحصل التمرد، فكان التشهير بالعلماء يستلزم التمرد على الشريعة التي يحملها هذا العالم ويتكلم بها، والتشهير بالأمراء يستلزم التمرد عليهم وانقضاض البنية التي يبنى عليها المجتمع من الأمن وانفلات الأمر، وهذه جناية عظيمة كبيرة، ولهذا قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] .
فمن هم أولو الأمر؟ أولو الأمر طائفتان من الناس: العلماء هم أولو الأمر في شريعة الله وتبيينها للخلق، والأمراء هم أولو الأمر في تنفيذ الشريعة وحفظ الأمن، أوجب الله طاعة هؤلاء؛ لأجل حفظ الشريعة وحفظ الأمن وانتظام الناس؛ لأن الناس لو تمردوا عليهم وجعلوا أمر الأمير أو أمر العالم كأمر زيد وعبيد لم يكن لهم سلطة على القلوب ولا على النفوس، وصاروا كعامة الناس، إن قالوا فالإنسان بالخيار إن شاء قبل ما قالوا وإن شاء رده، وإن أمروا فالإنسان بالخيار إن شاء أطاع وإن شاء عصى، وإلا فله الخيار إن شاء انتهى وإن شاء فعل، وهذه من كبار المسائل، ولهذا قال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] ما قال: وليطع بعضكم بعضاً، قال: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] فخص ولاة الأمور.(38/4)
حكم طاعة ولاة الأمر بالمعروف وإن كانوا عصاة
إذا أمروا بمعصية الله -مثلاً- كما لو قالوا للناس: لا تصلوا مع الجماعة، أو قالوا للناس: اشربوا الخمر، افعلوا كذا من الأشياء المحرمة، أو اتركوا شيئاً من الأشياء الواجبة، فهؤلاء لا يطاعون ولا سمع لهم ولا طاعة، فإذا أمرونا بالمعصية قلنا: لا.
لكن لو فعلوا المعصية هل لهم أمر علينا؟
الجواب
نعم.
لهم أمر علينا وإن فعلوا المعصية، لو كانوا يعصون فلهم أمرٌ علينا وطاعة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بطاعة ولاة الأمور حتى وإن رأينا منهم ما نكره، وأمر بطاعة ولاة الأمور حتى وإن ضربوا الظهر وأخذوا المال، وكونهم يعصون الله فمعصيتهم عليهم، لكن إذا أمرونا مباشرة وقالوا: افعلوا هذه المعصية أو اتركوا هذا الواجب، قلنا لا سمع ولا طاعة، وما يروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر بأمر، فقال بلال رضي الله عنه: لا سمع ولا طاعة؛ لأن عليك ثوباً جديداً أو ثوبين، فإن هذا لا أظنه يصح؛ لأن عمر له من الهيبة ما لا يمكن لـ بلال أن يتكلم بمثل هذا أمام الناس، ثم إن بلالاً رضي الله عنه عنده من احترام عمر ما لا يمكن أن يتكلم بمثل هذا أمام الناس، ثم لو فرضت صحته مثل الشمس، فلعل بلالاً قال ذلك؛ لأن من الناس من انتقد عمر في هذا الفعل، فأراد بلال من عمر رضي الله عنه أن يبين السبب الذي جعله يلبس ثوباً جديداً أو ثوبين، حتى يزول الإشكال الذي وقع في قلوب بعض الناس.(38/5)
واجبنا تجاه الأخبار المشاعة
أما أن يعلن إنكاره أمام الملأ فهذا بعيد جداً، ولكن إن صح فوجهه ما قلت: لعله سمع من يتكلم بهذا الكلام فأراد أن يبرأ ساحته مما يتكلم الناس به.
على كل حال يجب علينا إزاء ما نسمع من الأخبار أمور ثلاثة مرتبة: الأمر الأول: التثبت.
الأمر الثاني: التأمل.
الأمر الثالث: المواجهة والنصيحة، دون التشهير والإعلان، ولاسيما إذا كان الإنسان من ولاة الأمور من عالم أو أمير أو نحو ذلك.
وبهذا نسلك سبيل السلف الصالح رضي الله عنهم ويحصل الخير الكثير، وهذا لا يُفَوِّتُ شيئاً، فبدلاً من أن تنكر اليوم تثبت وتأمل ثم أنكر غداً أو بعد غد.
نحن نقول: تثبت وتبين لكن بهدوء وخطوات ثابتة متزنة مبنية على الحجة: المنقول والمعقول، وبهذا تتم الأمور وتصلح الأحوال.
نسأل الله تعالى أن يجمع قلوبنا على طاعته وتقواه، وأن يوحد كلمتنا بالحق، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(38/6)
الأسئلة(38/7)
حكم اتباع سنة الخلفاء الراشدين
السؤال
هل للخلفاء الراشدين الأربعة سنة متبعة؟ وهل المقصود بحديث العرباض بن سارية رضي الله عنه: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين.
) الخلفاء الأربعة أم يشمل غيرهم من الخلفاء، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
الخلفاء الأربعة هم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي باتفاق المسلمين وهم خلفاء راشدون لا شك، ولاسيما أبو بكر وعمر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا) وقال: (اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر) ولهم سنة متبعة لا شك في هذا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، لكن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم مقدمة على سنتهم إذا ثبتت السنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا عبرة بقول واحد منهم، ولا بقول جميعهم! مع أن هذا قد يكون مستحيلاً أن يتفقوا جميعاً على مخالفة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
أما أن تخفى على بعضهم السنة فهذا قد يقع، فهذا حديث الطاعون حين سافر عمر بن الخطاب إلى الشام وفي أثناء الطريق قيل له: إن هناك طاعوناً، فتوقف رضي الله عنه واستشار الصحابة الذين معه من المهاجرين والأنصار، ولم يكن عند أحدهم أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن استقر الرأي على أن يرجع إلى المدينة وألا يخاطر بالمسلمين، فأذن بالرحيل، فجاءه أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (أمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح) وكان عمر بن الخطاب يجله ويقدره، حتى قال حين طعن: لو كان أبو عبيدة حياً لجعلته خليفة من بعدي؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جعله أمين هذه الأمة، فقال: [يا أمير المؤمنين! كيف ترجع أتفر من قدر الله؟ قال: نعم، أفر من قدر إلى قدر الله!] أي: إن ذهبت إلى الشام فبقدر الله، وإن رجعت إلى المدينة فبقدر الله، ثم ضرب له مثلاً قال: [لو كان لك إبل في وادٍ له عدوتان -أي: شعبتان- إحداهما مخصبة والثانية مجدبة، بأي العدوتين ترعاها؟ قال: بالمخصبة، قال: أبقدر الله؟ قال: نعم، قال: إذاً تركت المجدبة بقدر الله، ورعيت المخصبة بقدر الله] وفي أثناء ذلك جاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وكان قد ذهب في حاجة له، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الطاعون: (إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليها، وإذا وقع وأنتم فيها فلا تخرجوا منها فراراً منه) ولا شك أن مثل هذا يُسَرُّ به أمير المؤمنين ويُسَرُّ به المؤمنون جميعاً، فالحاصل أن السنة قد تخفى على بعض الخلفاء، فيقول قولاً أو يفعل فعلاً يخالفها من غير قصد منه، لكن كون الأربعة يتفقون على مخالفة السنة هذا بعيد ولا أذكر له مثالاً، وإن كان! فإذا تعارضت سنة أي شخص من هذه الأمة مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فالواجب تقديم سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.(38/8)
حكم الغائب عن زوجته
السؤال
امرأة تزوجت رجلاً، وهذا الرجل سافر إلى بلد آخر، وغاب عنها سنين، ولا تدري هذه المرأة إن كان زوجها حياً أو ميتاً، فهل تطلق منه أو تنتظره؟
الجواب
هي بالخيار، إن شاءت رفعت القضية إلى المحكمة وطلبت الفسخ ولها أن تفسخ، وإن شاءت بقيت في عصمته حتى يُنظر في أمره.(38/9)
ضوابط تكفير أهل البدع
السؤال
فضيلة الشيخ: أنقل إليك سلام شباب الرياض، وخاصة شباب النسيم وحي النظيم، والسؤال يا شيخ: ما هو ميزان تكفير المبتدع؟
الجواب
أقول: عليك وعليهم السلام، ومسألة التكفير مسألة كبيرة عظيمة، أشد من التحليل والتحريم؛ لأن التحليل والتحريم لا يؤدي إلى استباحة الدم والمال، والتكفير يؤدي إلى استباحة الدم والمال؛ لأنك إذا قلت: هذا كافر، معناه: أنه مرتد، فإما أن يعود إلى الإسلام، وإما أن يقتل ويستباح ماله، فالمسألة كبيرة، ولهذا يجب على الإنسان أن يتقي الله عز وجل في نفسه، وأن يحفظ لسانه عن قول: فلان كافر، أو فلان مشرك، أو ما أشبه ذلك، والتكفير لا بد فيه من شرطين: الشرط الأول: أن نتحقق من الكتاب والسنة أن هذا الشيء كفر، فإذا لم نتحقق فلا يجوز أبداً أن نقول: إنه كفر، لابد أن نتحقق أنه كفر.
الشرط الثاني: أن نتحقق أن هذا الوصف الذي رتب الشرع عليه الكفر قد اتصف به هذا الرجل بحيث تكون الحجة قد قامت عليه، وفهمها ولكنه أبى واستكبر، وقال كما قال أسلافه: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] فإذا وجدنا رجلاً مبتدعاً سواءً كان من المقلدين العامة أو ممن فوقهم لكنه ليس مجتهداً في بدعته داعياً إليها، فإننا لا نكفره حتى تقوم عليه الحجة، ويُبيّن له الأمر، فإذا بُيَّن له الأمر فحينئذٍ نحكم بما تقتضيه دلالة الكتاب والسنة، لكون هذه البدعة مكفرة أو غير مكفرة، فالمسألة خطيرة.
واعلم أنه ربما يكون القول كفراً أو الفعل كفراً والقائل أو الفاعل ليس بكافر، ولعله قد بلغكم من قصة الرجل الذي أضل راحلته في أرضٍ فلاة ضاعت منه، وعجز أن يلقاها وعليها طعامه وشرابه، فاضطجع تحت شجرة ينتظر الموت، فإذا بزمام الناقة معلق بالشجرة فأخذه، ومن شدة الفرح قال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، هذه الكلمة كفر، لكنه أخطأ من شدة الفرح، فلم يكن عليه شيء، والرجل يُكره على الكفر ولا يكفر كما قال الله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106] .
إذاً هو يكفر ومع ذلك يرفع عنه حكم الكفر، من أجل الإكراه والخطأ، والرجل العاصي الذي كان قد أهلك نفسه بالمعاصي، قال لأهله: إذا مت فأحرقوني وذروني في اليم، خاف من قدرة الله عليه أن يعذبه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، ففعل أهله ذلك به أحرقوه وذروه، فجمعه الله عز وجل بقدرته كن فيكون، وسأله: لِمَ فعلت؟ قال: يا رب خوفاً من عقابك، فغفر الله له، مع أن الرجل شك في قدرة الله، والشك في قدرة الله كفر، لكن هذا الرجل لم يشك في قدرة الله تعالى استهانة بالله، لكن خوفاً من الله عز وجل أن يعاقبه فظن أنه إذا فعل ذلك سوف ينجو.
فعلى كل حال أنا أدعوك أنت أيها السائل! وأدعو أيضاً غيرك أن يتريثوا في إطلاق كلمة الكفر، حتى يتبين من الكتاب والسنة أن هذا كفر، ثم يتبين أن هذا الوصف ينطبق على هذا الرجل بعينه، ثم يحكم بما تقتضيه الشريعة الإسلامية وكما لا يجوز أن نقول: هذا حلال وهذا حرام إلا بإذن من الله، كذلك لا يجوز أن نقول: هذا كفر، أو ليس بكفر إلا بإذن الله.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(38/10)
لقاء الباب المفتوح [39]
ألقى الشيخ رحمه الله الضوء على آيات من أول سورة الطارق، فذكر ضمن هذا اللقاء معنى الطارق وأنه النجم، وسمي طارقاً لأنه لا يظهر إلا ليلاً تشبيهاً له بالقادم ليلاً، وذكر عظم هذا القسم وتأكيد الله له، ثم بين المقسم عليه (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ) أي: ما كل نفس إلا عليها حافظ، ثم شرح مدلول هذه الآية، وأجاب عن الأسئلة.(39/1)
تفسير آيات من سورة الطارق
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا اللقاء الثاني لشهر جمادى الأولى عام (1414هـ) ، الذي يقام أسبوعياً في كل خميس، نسأل الله تعالى أن ينفع به، وأن يجعل عملنا جميعاً خالصاً لوجهه الكريم نذكر الكلام على قول الله تبارك وتعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ * إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق:1-4] .(39/2)
تفسير قوله تعالى: (والسماء والطارق)
هذه آيات كريمة تتضمن القسم بالسماء وبالطارق.
أما السماء فهي معروفة، وأقسم الله سبحانه وتعالى بها لعظمتها وقوتها واتساعها وارتفاعها، ودلالتها على قدرة خالقها جل وعلا، وما له من العظمة والقوة والحكمة التي تبهر العقول، قال الله تبارك وتعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47] ، وقال تعالى: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً} [النبأ:12] ، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:32] والآيات في ذكر السماء وما تتضمنه من الدلالة على قدرة الله وقوته وعظمته وحكمته كثيرة في كتاب الله، ولهذا كانت جديرة بأن يقسم الله تعالى بها.
أما القسم الثاني فهو الطارق، أقسم الله تعالى بالطارق وهو النجم، وسمي طارقاً لأنه لا يتبين إلا بالليل، والطارق في اللغة العربية هو القادم ليلاً، كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه نهى أن يطرق الرجل أهله ليلاً) ، فسمي النجم بذلك؛ لأنه لا يتبين ضوؤه إلا في الليل، وليس هذا الوصف خاصاً بالثريا ولكنه عامٌ لكل نجم، سواء كان نوره قوياً أو كان نوره خفياً، وأقسم الله تعالى بالنجوم لأنها زينة للسماء، ورجوم للشياطين التي تسترق السمع، وعلامات يهتدى بها كما قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ} [الملك:5] وقال تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:15-16] .
فبالنجم يهتدي الخلق إلى الجهات الأربع؛ الشمال، والجنوب، والشرق، والغرب، ويهتدون أيضاً إلى اتجاه القبلة، كما يعرف ذلك من يمارس هذا الاستدلال، وإن كان الناس في عصرنا هذا -نظراً لوجود الآلات التي تبين هذا بدون كلفة ولا مشقة- قد غفلوا عن هذه العلامات، ولكنها لا تزال موجودة يعرفها من تتبعها وشاهدها وسبر سيرها.(39/3)
تفسير قوله تعالى: (وما أدراك ما الطارق * النجم الثاقب)
قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ} [الطارق:2] هذا استفهام تفخيم.
أي: أيُ شيء أعلمك بهذا الطارق الذي هو النجم؟ ثم بين عز وجل مراده بقوله: {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} [الطارق:3] أي: هو النجم الثاقب الذي يثقب الظلام بضيائه، مأخوذٌ من ثقب المسمار للخشبة، فهو يشق الظلام حتى يصل بنوره إلى الأرض، وهذا لا يتبين في وقتنا الحاضر في المدن؛ لأن الأرض مملوءة بأنوار الكهرباء، ولكن لو خرجت إلى البر بعيداً عن مواضع الكهرباء لرأيت إضاءة النجوم على الأرض ظاهرة، ويتبين ظهورها فيما إذا أظلمت السماء بالغيوم، حيث تكون الأرض مظلمةً أشد، ولهذا سمى الله سبحانه وتعالى النجم بالثاقب؛ لأنه يثقب الظلام بضيائه، أي يخرقه حتى يصل إلى الأرض.(39/4)
تفسير قوله تعالى: (إن كل نفس لما عليها حافظ)
ثم بين الله المقسم عليه بقوله: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق:4] (إن) هنا بمعنى (ما) وإذا جاءت (إلا) بعد (إن) فإن (إن) بمعنى (ما) ، أي: ما كل نفس، (ولما) هنا بمعنى (إلا) أي: ما كل نفس إلا عليها حافظ، أو كل نفس عليها حافظ، كما قال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] وكل نفس عليها حافظ يكتب ما يفعله الإنسان؛ لقوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10-12] ، وإنما أخبرنا الله عز وجل بذلك وأقسم عليه مؤكداً له من أجل أن نحذر، وأن نتجنب كل ما يكتب علينا من المعاصي؛ إما بتركه من الأصل، وإما بالتوبة منه إن وقع منا، وكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون.
فالمؤمن إذا علم أن عليه حافظاً يكتب ما يقول ويفعل؛ فإنه لا شك يحذر ويخاف أن يكتب عليه ما يفعله من المعاصي والمخالفات، كما قال الله تبارك وتعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] .(39/5)
الأسئلة(39/6)
حكم عطية الوالد لولده دون إخوانه
السؤال
أعطاني أبي قطعة من الأرض، ولي أشقاء أحياء، علماً بأنني قد بنيت له بيتاً قبل ذلك، فربما أعطاني هذه الأرض مكافأة لي على البيت الذي بنيته له، فهل هذا الفعل يجوز؟ وهل ترد هذه الأرض للورثة بعد وفاة والدي؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الأصل أنه لا يحل للوالد أن يعطي أحداً من أبنائه أو بناته شيئاً إلا إذا أعطى الآخرين مثله؛ لأن بشير بن سعد الأنصاري رضي الله عنه أعطى ابنه النعمان بن بشير عطية، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشهده على عطية ابنه، فقال له: (ألك بنون؟ قال: نعم.
قال: أنحلتهم مثل هذا؟ قال: لا.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) وقال له أيضاً: (أشهد على هذا غيري فإني لا أشهد على جور) فلا يجوز للأب أن يخص أحد أولاده من بنين أو بنات بشيء إلا إذا أعطى الآخرين مثله، أو إذا سمحوا وطابت نفوسهم عن اختيار ورضا وهم راشدون، فإن هذا أيضاً لا بأس به، وإلا إذا كان عطاء لدفع حاجة النفقة أو حاجة الزواج، مثل أن يكون أحدهم غنياً ولا يحتاج إلى نفقة أبيه، والثاني فقيراً يحتاج إلى نفقة أبيه، فينفق على هذا الفقير بقدر حاجته، فإن ذلك جائز وإن لم يعط الآخر الغني، وكذلك لو احتاج أحد الأبناء إلى زواج فزوجه؛ فإنه لا يلزمه أن يعطي الآخرين مثل ما أعطى هذا لزواجه، ولكن يجب عليه إذا بلغ الآخرون سن الزواج وأرادوا أن يتزوجوا أن يزوجهم كما زوج الأول.
وبهذه المناسبة أشير إلى مسألة يفعلها بعض الناس، وهي: أنه يكون له أولاد بلغوا سن الزواج فيزوجهم، ويكون له أولاد صغار ولم يبلغوا سن الزواج، فيوصي لهم بعد الموت بمقدار ما أعطى إخوتهم، فإن هذه الوصية حرام وباطلة، وذلك لأن تزويجه للكبار كان دفعاً لحاجتهم، وهؤلاء الصغار لم يبلغوا سناً يحتاجون فيه للزواج، فإذا أوصى لهم بعد موته بمثل ما زوج به الآخرين فإن ذلك حرام ولا يصح ولا تنفذ الوصية.
أما ما ذكره الأخ السائل من أن الأب منح ابنه أرضاً لكونه بنى لأبيه بيتاً، فإنه ينظر إذا كان الأب منحه هذه الأرض ونيته بذلك مكافأة على بناء البيت، أي أنه من الأصل لم يقبل تبرع ابنه ببناء البيت إلا بمكافأة، فكافأه بهذه الأرض وهي تقابل بناء البيت؛ فإن هذا لا بأس به، كما لو اشترى منه حاجة وأوفاه ثمنها.
وأما إذا كان الأب قد قبل تبرع الابن ببناء البيت، ولم يكن يخطر على باله أن يكافئه؛ فإنه لا يحل له أن يعطيه أرضاً دون إخوته، وإذا قدر أنه أعطاه فإنه يجب عليه في حياته أن يعطي الآخرين مثل ما أعطاه، أو يرد الأرض وتكون من جملة المال الذي يورث من بعده، فإن مات قبل ذلك فإن سمح الأولاد بهذه العطية فهي ماضية نافذة، كما لو سمحوا بها في حياته، وإن لم يسمحوا بها فإنها ترد في الميراث، وتورث من جملة ماله، وقال بعض أهل العلم: إنه إذا مات الأب قبل أن يردها فإنها تكون لمن أعطيت له، ويكون بذلك آثماً، ولكن ما ذكرناه أولاً، وهو أنه يجب على المعطى أن يردها إذا لم يسمح إخوته بذلك هو الصواب؛ إبراءً لذمة الميت، وإحلالاً للمال من جهة الحي.(39/7)
حكم لبس الساعات المطلية بالذهب
السؤال
فضيلة الشيخ: بعض الساعات تكون مطلية بالذهب، فما حكم لبسها؟
الجواب
الساعات المطلية بالذهب لا يحل لبسها للرجال إذا كان الذهب كثيراً، بحيث يجتمع منه شيء لو عرضت على النار، ويعرف هذا الصاغة.
أما إذا كان مجرد لون فلا بأس بلبسها للرجال، لكني أنصح بعدم لبسها؛ لأنه إذا لبسها اتهم بأنه يلبس الذهب، وصار ذلك سبباً للقدح فيه، أو إذا كان ممن يقتدى به فإنه ربما يغتر به أحد ويلبس ساعات الذهب الخالصة.(39/8)
ضابط العذر بالجهل
السؤال
فضيلة الشيخ: ما الضابط في العذر بالجهل في أمور العبادات؟ وهل كل من جهل شيئاً من أمور العبادات -وخاصة في المسائل الاجتهادية- يسقط عنه ما يترتب على تركه لهذا الأمر بسبب جهله؟
الجواب
العذر بالجهل ثابت بالقرآن والسنة؛ لقول الله تبارك وتعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] فقال الله تبارك وتعالى: قد فعلت، ولقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب:5] أي: ما تعمدت قلوبكم فعله على وجه مخالفة الشرع.
وكذلك في السنة ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم عدة قضايا تدل على العذر بالجهل، منها ما ثبت في صحيح البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: أنهم أفطروا في يوم غيم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم طلعت الشمس ولم يؤمروا بالقضاء.
ومنها: حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه، حين أصبح صائماً فكان يأكل، وكان قد وضع تحت وسادته عقالين أحدهما أبيض والثاني أسود، وجعل يأكل حتى تبين له العقال الأبيض من العقال الأسود، فأمسك، فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد بذلك بياض النهار وسواد الليل، وليس بياض الخيط الذي هو الحبل الأبيض من الأسود، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة.
ثم إن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] وهذا يدل على أنه إذا لم يكن ثمة رسل فإن لهم الحجة على الله، وكذلك لو كان لهم رسل ولكن لم يعلموا بذلك؛ لأنه لا فرق بين ألا يكون له رسول، وبين أن يكون له رسول لم يعلم به، وقال الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص:59] والآيات في هذا المعنى عديدة.
ولهذا نقول: كل إنسان فعل شيئاً محرماً جاهلاً به فإنه ليس عليه إثم، ولا يترتب عليه عقوبة؛ لأن الله تعالى أرحم من أن يعذب من لم يتعمد مخالفته ومعصيته.
ولكن يبقى النظر إذا فرط الإنسان في طلب الحق، بأن كان متهاوناً، ورأى ما عليه الناس ففعله دون أن يبحث، فهذا قد يكون آثماً، بل هو آثم بالتقصير في طلب الحق، وقد يكون غير معذور في هذه الحال، وقد يكون معذوراً إذا كان لم يطرأ على باله أن هذا الفعل مخالفة، وليس عنده من ينبهه من العلماء، ففي هذه الحال يكون معذوراً، ولهذا كان القول الراجح أنه لو عاش أحدٌ في البادية بعيداً عن المدن، وكان لا يصوم رمضان ظناً منه أنه ليس بواجب، أو كان يجامع زوجته في رمضان ظناً منه أن الجماع حلال، فإنه ليس عليه قضاء؛ لأنه جاهل، ومن شرط التكليف بالشريعة أن تبلغ المكلف فيعلمها.
فالخلاصة إذاً: أن الإنسان يعذر بالجهل، لكن لا يعذر في تقصيره في طلب الحق.(39/9)
البهاق من عيوب النكاح
السؤال
هل البهاق اليسير من عيوب النكاح؟ يعني: لو وجد الرجل في زوجته بهاقاً فهل يعد عيب؟
الجواب
نعم.
هو عيب لا شك؛ لأن الإنسان ينفر من هذا، ولا يمكن أن يركن إلى زوجته إلا أن يشاء الله، وهو عيب سواء في الرجل أو في المرأة، حتى الرجل لو كان به بهاق، وتزوجت المرأة منه غير عالمة به؛ فإنه عيب لها أن تفسخ النكاح به، ولكن إذا كان هذا البهاق مما يمكن معالجته؛ فإن الأولى والأفضل الصبر حتى ينظر هل يبرأ بالمعالجة أو لا يبرأ؛ لأن الفراق والطلاق ليس بالأمر السهل، أما إذا تعذر برؤه فإنه عيب.
والحاصل أن البهاق عيب يثبت به الفسخ سواء كان في الرجل أو في المرأة، ولكن إذا كان في الرجل فللمرأة الفسخ، فتطلب أن يفسخ النكاح فتفسخ النكاح وتتزوج غيره، لكن إذا كان في المرأة فالرجل معلوم أنه يجوز أن يفارق زوجته بالطلاق، لكن فائدة قولنا إنه له الفسخ: أنه إذا فسخ من أجل هذا العيب فله أن يسترد الصداق ممن غره.
وأما من جهة الإثم فالرجل يأثم والمرأة تأثم إذا كان فيهما هذا العيب أو غيره من العيوب التي تمنع كمال الاستمتاع ولم يخبر صاحبه، فإن كتمانه لا شك أنه محرم، وهو من الغش الذي تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من فاعله.(39/10)
حكم رقص الرجال على الطبول بأسلحتهم
السؤال
فضيلة الشيخ: إننا نحبك في الله عندنا في مناطقنا هناك في الجنوب في الأعراس يحصل رقص للرجال على الطبول بأسلحتهم، فهل هذا جائز؟
الجواب
أولاً: بارك الله فيك، اعلم أن الأصل في المعازف أنها حرام ومنها الطبول، ولا يحل منها إلا ما ورد الشرع به، والذي ورد به الشرع هو الدف، وكان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لا يرتاده إلا النساء، يضربن بالدف؛ والدف هو عبارة عن شيء مدور كالصحن، ويكون أحد جانبيه مستوراً بالجلد الذي يكون له الصوت، أي: أنه مفتوح من جانب ومختوم بالجلد من جانب، هذا هو الذي وردت به السنة.
أما الرقص للرجال فإنه لا يجوز؛ لأن الرقص من عادات النساء وليس من عادات الرجال، وأما اللعب بالسلاح بالبنادق والسيوف وما أشبه ذلك إذا لم يكن فيه طبول فهذا لا بأس به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مكن الحبشة أن يلعبوا في وسط مسجده صلى الله عليه وسلم برماحهم، لكن بدون رقص.(39/11)
هجر الرجل امرأته للتأديب
السؤال
رجل عنده امرأة وقد هجرها في الفراش لتأديبها، السؤال: كم مدة الهجر في الفراش، خاصة إذا كانت المرأة لا يفيد فيها هذا الهجر؟
الجواب
ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز ثلاث مراحل، فقال: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} [النساء:34] ، وهذا أول ما يبدأ به الإنسان امرأته حين يخاف نشوزها، {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء:34] هذه المرحلة الثانية، {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34] هذه المرحلة الثالثة، فإذا لم يفد بها الهجر فإنه يضربها، لكن ضرباً غير مبرح، أي: غير مؤلم ولا موجع؛ لأن المقصود هو التأديب، ولكن لا يلجأ إلى الضرب إلا في الحالات القصوى؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أنكر أن يجلد الرجل امرأته جلد العبد ثم يضاجعها؛ لأن هذا شيء غير مستساغ بمقتضى الطبيعة، فكيف تألف المرأة رجلاً ضربها قبل ساعات ثم الآن يضاجعها! هذا بعيد في النفوس والفطر، لهذا لا يلجأ إلى الضرب بعد الهجر الذي لم يفد إلا في حالة الضرورة القصوى، فإن صلحت الحال بعد الضرب وإلا فيُحَكَّم حكمان: حكم من أهله وحكم من أهلها، ويصلحا بينهما، ويجب على هذين الرجلين أن يتقيا الله عز وجل، وأن يأخذا بالعدل، وأن يريدا الإصلاح، وقد قال الله تعالى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً} [النساء:35] أي: الزوج والزوجة والحكمان: {يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35] .(39/12)
حكم القسم بما أقسم الله به
السؤال
في بداية تفسير قول الله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق:1] قلتم: إن الله عز وجل أقسم بالسماء، فنحن عند القراءة نقول: والسماء، فهل هذا يُعتَبر قسماً منا بغير الله؟
الجواب
تلاوة القرآن تلاوة لكلام تكلم الله عز وجل به.
أما إذا أردتُ أن أقسم فقلتُ: والسماء والطارق إن فلاناً حضر كان هذا حراماً؛ لكن إذا تلوته فأنا أُخبر بما أقسم الله به، لكن لو أردتُ أن أقسم من جديد وأقول: والسماء والطارق إن فلاناً حضر كان هذا حراماً؛ لأن الحلف بغير الله شرك، لكن إذا تلوته فأنا أخبر بما أقسم الله به.(39/13)
حكم سب الدهر وهل منه حديث: (الدنيا ملعونة) ؟
السؤال
فضيلة الشيخ! هل هناك تعارض بين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الدهر فأنا الدهر) وبين قوله في حديث آخر: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها.
) إلى آخر الحديث؟
الجواب
أولاً: الحديث الثاني الذي ذكرت في صحته نظر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا قدر أنه صحيح فإن هذا لا ينافي قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الدهر) لأن هذا خبر، والسبّ يقصد به اللوم والعيب والعتب على المسبوب، ومعنى كونه خبراً: أن الدنيا ليس فيها خير، لا هي ولا ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه وعالم أو متعلم، وفرق بين الخبر والإنشاء، وأما السب ففيه إنشاء، إنشاء اللوم والقدح للمسبوب، وأما الخبر فهو خبرٌ عن حال الشخص أو عن حال الشيء، كقول لوط عليه الصلاة والسلام: ((هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ)) [هود:77] ، هو لم يُرد أن يسب هذا اليوم ويقدح فيه، لكنه أراد أن يخبر بأنه يوم شديد عليه، فيجب الفرق بين الإنشاء والقدح والذم وبين مجرد الخبر، وهذا حسب نية الإنسان، لكن الغالب في قول القائل: لا بارك الله في هذا اليوم، وقول القائل: لا بارك الله في الساعة التي أتت بك، هذا في الغالب يراد به السب، فلينتبه اللبيب للفروق الدقيقة.(39/14)
حكم اعتقاد ضرر الطيب على الجروح وهل هو من شرك الأسباب
السؤال
فضيلة الشيخ! بعض طلبة العلم يقول: إن الطيب لا يؤثر على الجروح؛ لأن هناك دراسة أثبتت أن الطيب ليس له أثر على ألم الجرح أو انتفاخه، ولكن من اعتقد أن الطيب يضر فإنه يُوكَل إلى ما اعتقد، وبذلك يقع في شرك الأسباب، فهل هذا صحيح جزاك الله خيراً؟
الجواب
نحن نقول في هذا الأمر قاعدة مفيدة وهي: إن الشيء لا يثبت حكمه إلا عن طريق الوحي، أو عن طريق التجارب، ففي قوله تعالى عن النحل: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل:69] علمنا بأن فيه شفاء عن طريق الوحي، وكذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحبة السوداء: (الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا الموت) عرفنا ذلك عن طريق الوحي.
والطريق الثاني: التجارب، وهذا يكون معلوماً بالحس، والمعلوم عند الناس بالتجارب أن الجرح قد يتأثر بنوع من الطيب ليس بكل الأطياب، وهذا الشيء عندهم مجرب متعارف، وأنه بمجرد ما يحصل هذا الطيب عند المريض بالجروح تتفطر الجروح وتتورم، كما لو علمنا -مثلاً- أن تناول هذه الأعشاب مسهل للبطن أو موجب للقبض بالتجارب، فكل الأدوية الآن المصنوعة والموجودة عند الناس التي لم ينزل فيها وحي، كلها علمت بالتجارب، فالذي أعرف أن الجروح تتأثر ببعض الأطياب، والدليل على هذا أنهم يحتاطون، فيشرب الإنسان شيئاً من المر أو يضعه في أنفه، حتى لا تدخل الرائحة إلى مسام البدن.
فما علمنا أنه سبب حسي فإنه لا بأس أن نعتمده سبباً، وليس هذا من الشرك، أما الذي يكون بمجرد الأوهام فهذا لا أثر له، ولا يجوز أن نعتمده سبباً.(39/15)
حكم غسل الجمعة وحكم التسول
السؤال
فضيلة الشيخ: ما التحقيق في حكم غسل الجمعة، وهل حكمه الوجوب أو الاستحباب؟ وإذا كان القول بالوجوب هو المعتمد فهل يأثم من تركه؟ ثم إننا نلاحظ ظاهرة التسول في المساجد، فما موقفنا بالنسبة للمتسولين هل نمنعهم منعاً باتاً، أو نكون على حذر منهم، أو نتبين حالهم؟ ما هو التحقيق في هذا أدام الله النفع بكم؟
الجواب
هذان سؤالان: الأول: عن غسل الجمعة، والقول الصحيح في غسل الجمعة أنه واجب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) ونحن نعلم أن أبلغ الناس في التعبير وأفصحهم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن أن يطلق على شيء ليس بواجب أنه واجب، ونعلم أيضاً أن أنصح الناس في بيان مراده وهداية الخلق هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يقول: (واجب) وهو يريد غير واجب؛ لأنه لو أراد أنه غير واجب صار في هذا تلبيس على المخاطب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم منزه عن ذلك مبرأ منه، وهو أشد وأنصح الناس للخلق، ثم إنه قيده بوصف يقتضي الإلزام وهو قوله: (على كل محتلم) ، أي على كل بالغ، والبالغ هو أهل الإلزام؛ لأن غير البالغ لا يلزم بشيء، فالصحيح أنه واجب.
وأما ما يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل) فهذا حديث ضعيف لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وإذا قلنا: إنه واجب؛ فإنه يأثم بتركه، ولكن هل تصح الجمعة مع تركه؟ الجواب: نعم.
تصح مع تركه؛ لأن هذا الغسل ليس عن جنابة حتى نقول: إن الجمعة لا تصح، ويدل لصحتها قصة عثمان رضي الله عنه حين دخل وأمير المؤمنين عمر يخطب الناس يوم الجمعة، فلامه على ذلك فقال: [والله -يا أمير المؤمنين! - ما زدت على أن توضأت ثم أتيت.
فقال له عمر: والوضوء أيضاً؟] أي: كيف تقتصر على الوضوء وتترك الغسل؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل) فلامه على ترك الاغتسال أمام الناس، وأذن له أن يصلي الجمعة، ولو كانت لا تصح لقال: اذهب واغتسل.
أما موضوع التسول، فالواقع أن الناس يفسد بعضهم على بعض، فمن المتسولين من يتسول -والعياذ بالله- وهو في غنى، وهذا يصدق عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وما في وجهه مزعة لحم) فإذا علمت أنه غني وجب عليك أن تطرده، وأن تبين للناس غناه حتى لا يغتروا به، وإذا غلب على ظنك أنه غني فلا تعطه، وانصحه، وإذا شككت في الأمر فكِلْ أمره إلى الله، ولا يلزمك أن تقابله بشيء.
ولكن يبقى النظر أن من المتسولين من يقوم أمام الجماعة، ويتكلم بصوت مرتفع، ويشوش على الناس أذكارهم بعد الصلاة، وقد يستمر في الكلام حتى يشوش بكلامه على من أراد أن يتنفل، فمثل هذا يُمنع ويقال له: اخرج إلى باب المسجد من الخارج.(39/16)
حكم تأجير البيوت لمن لا يصلون
السؤال
لدي بيوت تأجير كثيرة، وسبق أن أجرتها عمالاً لمدة سنة، وهؤلاء العمال لا يصلون وعندهم بعض المنكرات، وبعد انتهاء العقد أخرجتهم منها، والآن البيوت مغلقة، وأنا بحاجة إلى تأجيرها، ولا يوجد لدينا سوى هؤلاء العمال؛ لأنها بيوت قديمة، ولا تؤجر للعوائل، فهل يجوز تأجيرها لهم؟
الجواب
لا بأس أن تؤجرها هؤلاء، وانصحهم بالبعد عن المعاصي التي تراها منهم وعن ترك الجماعة، وإذا قلنا: لا بأس بالنسبة للتأجير فلا بأس بالأجرة، وربما نقول: إذا كان في عدم تأجيرهم ردع لهم عن المعاصي وحث لهم على الصلاة مع الجماعة، فقد يقال بمنع تأجيرهم من أجل إصلاح حالهم.(39/17)
عدد الرضعات التي تحرم الزواج
السؤال
ابنة عمي وأنا ولد عمها، رضعت معها من جدتي أم أمي وأم أمها، مرتين فقط، فهل تحل لي أو أخواتها؟
الجواب
تحل لك هي وأخواتها مادام الرضاع مرتين، فالرضاع إذا كان مرتين أو ثلاثاً أو أربعاً فإنه لا يؤثر، وإذا صار خمساً، ورضعت أنت من جدتك خمس مرات صرت أخاً لخالاتك، فيكون بنات خالاتك محرمات عليك؛ لأنك خالهن من الرضاع.(39/18)
ضابط الإنكار بالقلب
السؤال
هل الرجل الذي يرى المنكر فينكر بقلبه ثم يسكت عنه يدخل فيمن ينجيهم الله يوم القيامة من السوء؟
الجواب
الذي يرى المنكر ويكرهه بقلبه، ولا يستطيع أن ينكره بلسانه فإنه معذور ويكفي هذا، ولكن إذا أنكره بقلبه فإنه لا يجوز له أن يبقى مع هؤلاء الفاعلين؛ لأن الله تعالى قال: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [النساء:140] .
وما يفعله بعض الجهال من بقائه مع أهل المنكر الذين يفعلون المنكر بين يديه؛ كشرب الدخان، أو يلعبون أشياء محرمة، ويقول: أنا أكره هذا بقلبي، نقول: هذا لا يكفي، إذا كنت تكرهه بقلبك حقاً فإن قلبك سوف ينفر منه، وإذا نفر القلب فإن الجوارح سوف تنفر منه أيضاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب) فعلى هذا نقول: إذا كرهته بقلبك ولم تستطع أن تنكره بلسانك؛ وجب عليك أن تغادر المحل، وإذا كنت تستطيع الإنكار بلسانك وجب عليك ذلك وإلا كنت آثماً.(39/19)
الجمع بين بقاء غير المسلمين في الجزيرة وبين أمره صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا منها
السؤال
قضية بقاء اليهود والنصارى في جزيرة العرب؛ كيف نوفق بين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب) ، وأنه (لا يجتمع فيها دينان) ، وكون الرسول صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند يهودي، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي أخرج يهود خيبر وأجلاهم عن الجزيرة قتله مجوسي فقال: [الحمد لله إذ لم يقتلني رجل سجد لله سجدة] ، فكيف نجمع بين هذا وذاك؟
الجواب
أما قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمع فيها دينان) فالمعنى: لا تقام شعائر الكفر في جزيرة العرب، أي: لا تبنى الكنائس، ولا ينادى فيها بالناقوس وما أشبه ذلك، وليس المعنى أنه لا يتدين أحد من الناس في نفسه فقط، بل المراد أنه لا يكون لهم كنائسُ أو معابدُ أو بِيَعٌ كما للمسلمين مساجد.
وأما قوله: (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب) فالمراد منها السُّكنى، وأما الأجراء وما أشبه ذلك فلا يدخلون في هذا؛ لأنهم ليسوا قاطنين بل سيخرجون.
وأما إبقاء الرسول صلى الله عليه وسلم يهود خيبر فيها، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبقهم إبقاءً مطلقاً عاماً، بل قال: (نقركم فيها ما شاء الله -أو قال-: ما شئنا) أي: إلى أمد، وهذا الأمد كان لانتهائه سبب، وذلك في عهد عمر رضي الله عنه، حيث اعتدوا على عبد الله بن عمر وعلى الرجل الذي بات عندهم، ولم يفوا بما عليهم؛ فطردهم عمر رضي الله عنه.(39/20)
حكم صلاة من صلى مع رجل بنية القصر ثم تبين أن الرجل متم
السؤال
كنت مسافراً إلى الرياض، وكنت أقصر صلاة الظهر فدخل معي رجل، وكان -والله أعلم- فيما تبين لي بعد ما أنهيت الصلاة أنه متم للصلاة، وليس عليه قصر كما قصرت أنا صلاة الظهر؛ لأنه أتى وأنا في التشهد الأخير، فلما سلمت من صلاة الظهر دخلت معه بنية العصر، وكنت أعتقد أنه يصلي قصراً، ودخلت العصر بنية ركعتين، ثم اتضح أن الرجل متم فأتممت معه العصر، فهنا صار عندي لبس فما الحكم؟
الجواب
هذا غلط منك، فإن أعدت صلاتك الآن أربعاً فهو أحسن، ولا تتعود هذا الشيء، ما دام مأموم بك يصلي الظهر دعه يقضي، وإذا قضى صلاته تصلي أنت وهو صلاة العصر، الرجل ربما نعذره بالجهل في هذه المسألة، لكن كونه الآن ما بقي عليه إلا مدة يسيرة ويسأل الناس في نفس الوقت.
السائل: تقضى قصراً أم أتم؟ الشيخ: لا.
تقضى تمام! لأنك دخلت على أنك متم.(39/21)
لقاء الباب المفتوح [40]
ألقى الشيخ رحمه الله في مستهل هذا اللقاء تفسير آيات من سورة البروج، وذكر ضمن ذلك: التوبة النصوح، وشروطها.
ثم أجاب عن أسئلة في أبواب شتى، منها: في الطلاق، والرضاع، والسفر، والعمل الوظيفي، وشيئاً من أحكام الزكاة، والصيام، وصلاة وطهارة المريض، وحكم الموسيقى، والعباءات النسائية، والاستشفاء بالدم وغيرها.(40/1)
تفسير آيات من سورة البروج
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو اللقاء الثالث في شهر جمادى الثانية من عام (1414هـ) الذي يكون كل خميس، نسأل الله تعالى أن ينفعنا جميعاً به، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يتوفانا على الإيمان.
اخترنا في أول لقاءاتنا أن نتكلم على التفسير من (جزء عم) الذي يبدأ بسورة النبأ؛ لأن هذا الجزء الأخير من الكتاب العزيز تكثر قراءته في الصلوات وغيرها، فأحببنا أن يكون الناس فيه على علم؛ لأن الفائدة العظمى من القرآن هي التدبر والاتعاظ، كما قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] .(40/2)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين فتنوا المؤمنين)
انتهينا إلى قوله تعالى في سورة البروج: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10] (فتنوهم) أي: أحرقوهم على قول بعض أهل العلم؛ لأن هؤلاء المجرمين خدوا أخاديد، أي: شقوا سراديب في الأرض، وأوقدوا فيها النيران، وأحرقوا فيها المؤمنين، فيكون معنى (فتنوا المؤمنين) أي: أحرقوا المؤمنين، وقيل: فتنوهم أي: صدوهم عن دينهم، والصحيح أن الآية شاملة للمعنيين جميعاً؛ لأنه ينبغي أن نعلم أن معاني القرآن أوسع من أفهامنا، وأننا مهما بلغنا من الذكاء والفطنة، فلن نحيط به علماً، إنما نعلم منه ما تيسر، والقاعدة في علم التفسير أنه إذا كانت الآية تحتمل معنيين لا يتضادان فإنها تحمل عليهما جميعاً.
فنقول: هم فتنوا المؤمنين بصدهم عن سبيل الله، وفتنوهم بالإحراق أيضاً، ولكن مع هذا يقول الله عز وجل: {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10] فدلت الآية الكريمة على أنهم لو تابوا لغفر الله لهم، حتى وإن فعلوا بأوليائه ما فعلوا، فإن الله يتوب عليهم؛ لأن الله يقول: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى:25] ، وقوله تعالى: {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} [البروج:10] أي: عذاب النار يعذبون بها، {وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10] يحرقون بها في نار جهنم نسأل الله العافية.
وفي الآية إشارة إلى أن التوبة تهدم ما قبلها، ولكن لا بد أن نعلم أن التوبة لا تكون توبة نصوحاً مقبولة عند الله إلا إذا اشتملت على شروط خمسة: الأول: الإخلاص لله عز وجل بأن يكون الحامل للإنسان على التوبة خوف الله عز وجل ورجاء ثوابه؛ لأن الإنسان قد يتوب من الذنب من أجل أن يمدحه الناس، أو من أجل دفع مذمة الناس له، أو من أجل مرتبةٍ يصل إليها، أو من أجل مال يحصل عليه، وكل هؤلاء لا تقبل توبتهم؛ لأن التوبة يجب أن تكون خالصة لله عز وجل.
أما من أراد بعمله الدنيا، فإن الله تعالى يقول في كتابه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} [هود:15-16] .
الثاني: الندم على ما حصل من الذنب، بمعنى ألا يكون الإنسان كأنه لم يذنب ولا يتحسر ولا يحزن، لا بد أن يندم إذا ذكر عظمة الله ندم، كيف أعصي ربي وهو الذي خلقني ورزقني وهداني فيندم؟ كما لو عصى الإنسان أباه فإنه يندم.
الثالث: أن يقلع عن الذنب، فلا تصح التوبة مع الإصرار على الذنب؛ لأن التائب هو الراجع، فإذا كان الإنسان يقول: أستغفر الله وأتوب إليه من أكل الربا، ولكنه لا يزال يرابي، هل تصح توبته؟ لا تصح، لو قال: أستغفر الله من الغيبة -والغيبة ذكرك أخاك بما يكره- ولكنه في كل مجلس يغتاب الناس، هل تصح توبته؟ لا.
كيف تصح وهو مصر على المعصية؟ فلابد أن يقلع، إذا تاب من أكل أموال الناس وقد سرق هذا، وأخذ مال هذا بالخداع والغش، فهل تصح توبته؟ لا.
حتى يرد ما أخذ من أموال الناس إلى أصحابها، لو فرضنا أن شخصاً أدخل مراسيمه في ملك جاره واقتطع جزءاً من أرضه، وقال: إني تائب، ماذا نقول له؟ نقول: رد المراسيم إلى حدودها الأولى، وإلا فإن توبتك لا تقبل؛ لأنه لا بد من الإقلاع عن الذنب الذي تاب منه.
الشرط الرابع: أن يعزم عزماً تاماً على ألا يعود إلى الذنب، فإن تاب وهو ينوي في نفسه أنه لو حصلت له فرصة لعاد إلى الذنب فإن توبته لا تقبل، لا بد أن يعزم عزماً أكيداً على ألا يعود.
الشرط الخامس: أن تكون التوبة في وقتٍ تقبل فيه التوبة؛ لأن هناك أوقاتاً لا تقبل فيها التوبة، وذلك في حالتين: الحالة الأولى: إذا حضره الموت فإن توبته لا تقبل، لقول الله تبارك وتعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء:18] أي: إذا أتاه الموت وشاهد العذاب، قال: تبت! هذا لا ينفع، وكمثال واقع لهذه المسألة، أن فرعون لما أدركه الغرق: {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ} [يونس:90] أي: بالله، ولم يقل: آمنت بالله، إذلالاً لنفسه، حيث كان يحارب بني إسرائيل على الإيمان بالله، والآن يقول: آمنت بالذي آمنوا به، فكأنه جعل نفسه تابعاً لبني إسرائيل، إلى هذا الحد بلغ به الذل ومع ذلك قيل له {آلْآنَ} [يونس:91] ؟ يعني: الآن تتوب؟ الآن تؤمن بالذي آمنت به بنو إسرائيل: {وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91] .
إذاً: إذا حضر الموت فإن التوبة لا تقبل، وأنا أسأل كل إنسان: هل يعلم متى يحضره الموت؟ لا يعلم، إذاً لا بد من المبادرة بالتوبة؛ لأنك لا تدري في أي وقت يحضرك الموت، فمن الناس من نام على فراشه في صحةٍ وعافية ثم حمل من فراشه إلى سرير التغسيل، ومن الناس من جلس على كرسي العمل يعمل ثم حُمل من كرسي العمل إلى سرير التغسيل، كل هذا واقع وأمثال هذه المفاجأة كثير، فإذاً يجب أن نبادر بالتوبة، نسأل الله أن يعيننا وإياكم على ذلك، بادروا بالتوبة، قبل أن تغلق الأبواب.
الحالة الثانية: إذا طلعت الشمس من مغربها، فإن الشمس إذا طلعت من مغربها ورآها الناس آمنوا، لكن الله يقول: {لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} [الأنعام:158] .(40/3)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات)
ثم قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج:11] .
لما ذكر عقاب المجرمين ذكر ثواب المؤمنين وهذه هي طريقة القرآن في عرض الترغيب والترهيب، والقرآن الكريم مثاني، تذكر فيه المعاني المتقابلة، يذكر فيه عقاب أهل النار ونعيم أهل الجنة، وصفات المؤمنين وصفات الكافرين، ونحو ذلك، من أجل أن يكون الإنسان سائراً إلى الله تعالى بين الخوف والرجاء، فيعرف نعمة الله عليه بالإسلام، ويعرف حكمة الله تعالى في وجود هؤلاء الكافرين المجرمين ويزداد حذراً من ذلك.
ونقتصر على هذا القدر ونؤجل الكلام على هذه الآية وما بعدها إن شاء الله إلى الأسبوع القادم من أجل أن نحصل على أجوبة لأسئلة كثيرة.
ونسأل الله التوفيق.(40/4)
الأسئلة(40/5)
حكم من نوى الطلاق ثم تراجع
السؤال
ما حكم رجل أمر زوجته -وهي قريبتي- أن تذهب إلينا، وسيرسل إليها بورقة الطلاق، لكنه لم يرسل بالورقة، ونوى إرجاعها؟ فما الحكم في ذلك؟ هل نردها إليه أم لا؟
الجواب
الطلاق لا يكون إلا باللفظ، أو بالكتابة أو بالإشارة من الإنسان الذي لا يستطيع أن يتكلم كالأخرس، وأما أنه قال لها: اذهبي إلى أهلكِ وستأتيكِ ورقتكِ، ولم تأتها ورقتها فهذا ليس بطلاق، ردها عليه الآن بدون أي شيء.(40/6)
حكم من جعل له نائباً يقوم بوظيفته لعذر
السؤال
رجل يعمل خادماً في أحد المساجد ثم أصيب بمرض يمنعه من القيام بهذا العمل، فوضع مكانه أحد العمال، بجزء من الراتب ويقول: إنه قد أخبر إدارة الأوقاف، فهل هذا العمل جائز أم لا؟
الجواب
إذا كانت الإدارة تسمح له بذلك فلا بأس، وإذا كانت إدارة الأوقاف لا تسمح بهذا، أو لم يقم نائبه بعمله كما يجب؛ فإنه لا يجوز وحينئذٍ إما أن يقوم بعمله أو يقدم استقالته.(40/7)
مقدار الرضاعة التي تبنى عليها أحكامها
السؤال
أنا رضعت مع خالي من جدتي -وهي أمه- فهل بناتي يحتجبن عنه، علماً بأني رضعت أكثر من خمس مرات؟
الجواب
إذا رضعت من جدتك خمس رضعات معروفة فقد صرت ولداً لها، وصار أولادها إخوانك الكبير والصغير، وإذا صاروا إخوانك صاروا أعمام بناتك، وعلى هذا فيجوز أن تكشف بناتك على أخوالك كلهم.(40/8)
حكم السفر لمن نوى الإقامة لمدة سنة أو أكثر
السؤال
نحن مجموعة من الشباب منا مَن هو مِن المدينة ومنا مَن هو مِن القصيم، توظفنا في منطقة الدوامي للتدريس، ونوينا الإقامة لمدة سنة، لكن هذه المدة قد تطول لأسباب خارجة عن إرادتنا، أي: من وزارة المعارف مثلاً، فهل نقصر الصلاة في هذه المدة أم لا؟
الجواب
نقول: لا يجوز أن تقصروا؛ لأن أمر الرجوع إلى أهليكم ليس بأيديكم، والأصل أن الموظف يبقى على وظيفته في مكانها إلا أن يتجدد شيء يوجب رده إلى أهله، أو إلى مكان آخر، فالذي أرى لكم ألا تقصروا وألا تترخصوا برخص السفر، بخلاف الإنسان الذي يحدد لنفسه الوقت، وأنه سيرجع بعد شهر أو شهرين أو نحو ذلك، فهذا له أن يقصر إلا أنه إذا كان في بلد تقام فيه جماعة، فإنه يجب عليه أن يصلي مع الجماعة.(40/9)
تشميت العاطس إذا تكرر منه العطاس
السؤال
هل ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أننا نقول لمن يعطس في المرة الثالثة: شفاك الله؟
الجواب
إذا عطس أحد وقال: الحمد لله، قل له: يرحمك الله، فإذا عطس ثانية فحمد الله، قل له: يرحمك الله، وإذا عطس ثالثة وقال: الحمد لله، قل له: عافاك الله إنك مزكوم، كذلك ادع له بالعافية.(40/10)
كيفية الترجيح عند التعارض في التضعيف والتصحيح
السؤال
أحسن الله إليك! أنا طالب مبتدئ، ولكن يشكل عليَّ بعض الأحيان إذا قرأت حديثاً صححه مثلاً بعض المتقدمين، ويضعفه المتأخرون، فماذا أفعل؟
الجواب
الجواب على هذا: أنه إذا كانت عندك قدرة على معرفة سبب التضعيف للحديث وقمت بتحقيقه فاتبع ما ترى أنه الحق سواء كان من كلام المتقدمين أو من كلام المتأخرين، أما إذا لم يكن عندك قدرة، وأنت تقول أنك طالب مبتدئ، فاتبع ما يقوله الأقدمون؛ لأنهم أقرب إلى الصواب من المتأخرين.(40/11)
حصول الذنب بعد طلوع الشمس من مغربها
السؤال
الذي يتوب ويأتي بذنب وقد طلعت الشمس من مغربها، فإذا تاب وقتها فهل تقبل توبته؟
الجواب
إذا أذنب الإنسان ذنباً وتاب منه ثم عاد إليه وتاب، ثم عاد إليه وتاب، فإنه كلما تاب يتوب الله عليه، فإذا وقع منه هذا الذنب بعد طلوع الشمس من مغربها وحصل ذلك فائتني إن شاء الله وسوف أفتيك.(40/12)
معنى قوله تعالى: (فتنوا المؤمنين)
السؤال
مر علينا في تفسير الآية: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} [البروج:10] فذكرتم تفسيرين لفتنتهم المؤمنين، إما أن يحرقوهم، أو يصدوهم عن دينهم، فهل تفسير الآية مقتصر على هذين المعنيين؟
الجواب
هكذا ذكر المفسرون أنهم صدوهم عن دينهم أو أحرقوهم، وقلنا: إن الآية شاملة للمعنيين جميعاً؛ لأن منهم من فُتن والعياذ بالله وارتد عن دينه، ومنهم من استمر على دينه فأحرق، هذا هو الذي يظهر لي، والله أعلم.(40/13)
حكم زكاة الطيور
السؤال
فضيلة الشيخ: الذين يربون الطيور هل عليهم زكاة؟
الجواب
الذين يربون الطيور إذا كانوا يريدون التجارة فعليهم زكاة؛ لأنها عروض التجارة، أي: الإنسان يتكسب منها فيبيع ويشتري فيها.
أما إذا كانوا يريدون التنمية فيأكلونها أو يبيعون منها ما زاد عن حاجتهم، فلا زكاة عليهم؛ لأن الزكاة لا تجب في الحيوان إلا في ثلاثة أصناف: الإبل، والبقر، والغنم فقط.(40/14)
حكم العادة السرية في نهار رمضان لمن جهل حكمها
السؤال
هناك فتى كان يفعل العادة السرية فأتى عليه رمضان ولم يبلغ بعد، وصام ذلك الشهر، ثم أتت عليه سنة أخرى فبلغ، ومع ذلك كان يفعل العادة السرية في نهار رمضان، وهو لا يعلم بالحكم، كان في السنة السادسة أو أولى متوسط، ولا يعلم عن هذا شيئاً، فما الحكم؟ ولا يعرف الآن عدة الأيام التي فعل فيها العادة السرية، فما هو ردكم على ذلك؟
الجواب
أولاً: إنك ذكرت أنه كان يفعل العادة السرية ولم يبلغ، يعني أنه لا ينزل، ولكن العادة جرت أن من عمل العادة السرية فإنه ينزل، وبهذا يبلغ ولو لم يكن له إلا عشر سنوات هذا شيء، لكن إذا استمر في فعل العادة السرية وهو لا يعرف عن حكم هذا الشيء، ويظن أن العادة السرية لا تفطر، فإنه لا قضاء عليه؛ لقول الله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] قال الله: قد فعلت.(40/15)
طرق معالجة الأولاد الذين يلعبون في المسجد
السؤال
إذا وجد أطفال في المسجد يعبثون كثيراً ويشغلون المصلين في الصلاة، هل يجوز لي أن أقول لأحد الصغار أن يلتفت في الصلاة، ويخبرنا من هم الذين يلعبون حتى نخبر أولياء أمورهم؟
الجواب
هل تقبل شهادته وهو صغير؟ على كل حال يجب النظر هل يمكن أن تقبل شهادة الصبيان بعضهم على بعض؛ لأن بعض العلماء يقول: لا تقبل شهادة الصبيان بعضهم على بعض، وبعضهم قال: تقبل ما داموا في المكان، مثال ذلك: إذا جرح أحد هؤلاء الصبيان، فقال المجروح لأبيه: هذا هو الذي جرحني، فأنكر الولد، وقال: ما جرحته، فشهد شاهدان من الصبيان أنه هو الذي جرحه، يقول بعض العلماء: لا تقبل شهادة الصبي.
وبعضهم قال: إذا لم يتفرقوا قبلت، أما إذا كانوا قد تفرقوا فلا تقبل؛ لأنهم ربما يلقنون.
على كل حال نرى أنك تتكلم -إذا كنت أنت الإمام- كلاماً عاماً، وتقول لأهل المسجد: جزاكم الله خيراً، صبيانكم إذا آذوا المصلين وامتهنوا المسجد فالإثم عليكم أنتم، فكل واحد يحفظ ابنه ويؤدبه، ويمكن أن توكل واحداً من هؤلاء الصبيان ممن تثق به يحرسهم، ولو لم يصل؛ لأنه لا تجب عليه الصلاة، ولا تقل له: التفت؛ لئلا يظن أن الالتفات ليس فيه بأس.(40/16)
حكم من استبدل سيارة بأخرى مع دفع الفارق
السؤال
عندي سيارة قديمة، استبدلتها بسيارة جديدة ودفعت الفرق، ما حكم هذا البيع؟
الجواب
لا بأس بهذا، يجوز للإنسان أن يبدل سيارة قديمة بسيارة جديدة، ويضيف إلى السيارة القديمة دراهم؛ لأن السيارات ليس فيها الربا، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأخذ البعير ديناً، ويوفي عنه بعيرين إلى أجل من إبل الصدقة، ويأخذ البعيرين ويعطي ثلاثة، ولا يأخذ التمر بالتمر إلا متماثلين؛ لأنه يجري فيه الربا، فالربا لا يجري إلا في المطعومات التي تقتات، مثل: التمر والشعير والبر والرز والذرة وما أشبهها، أو في الذهب والفضة.
وأما السيارات والأواني والدور والإبل والبقر والغنم فليس فيها ربا.(40/17)
توبة العاجز عن المعصية مع تمني فعلها
السؤال
هل تقبل توبة العاجز ومن لا يستطيع أن يعصي في وقت هو مريض فيه؟
الجواب
إذا كان هذا العاصي الذي يعجز عن المعصية لكنه يتمناها، ويقول في نفسه: لو كنت قادراً لفعلت، فإنه يكتب له وزر هذه المعصية، لكن إن كان من عادته أن يعملها، فإنه قد يكتب عليه وزرها كاملة، وإن لم يكن من عادته أن يعملها فإنه قد يكتب عليه وزر النية الجازمة، ودليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الرجل يكون عنده المال يصرفه في غير مرضاة الله، والرجل الفقير يقول: لو أن عندي مال فلان لعملت به عمل فلان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فهو بنيته، فهما في الوزر سواء) .
أما إذا كان من عادته أن يفعل المعصية، كما لو كان من عادته أن يشرب الخمر -والعياذ بالله- فمرض وامتنع عن الشرب لمرضه، ولكنه يتمنى لو أنه قادر حتى يعود لشرب الخمر، فهذا قد نقول: إنه يكتب عليه وزر العمل والنية؛ لأنه كان يعتاده كالذي كان يعمل العمل الصالح ثم عجز لمرض فإنه يكتب له كما لو كان صحيحاً.
وقد نقول: إن السيئات لا تقاس بالحسنات؛ لأن الحسنات فضل وأجر من الله، وهذا الرجل الذي عجز عن المعصية التي كان يعتادها لا نجزم بأنه يكتب له وزر عملها؛ لأنه لم يفعلها، وعلى كل حال: فالمؤكد أنه يكتب عليه وزر النية، أما وزر العمل، فإنني الآن متوقف فيه.(40/18)
من أحكام طهارة وصلاة المريض
السؤال
ما حكم شخص مقعد لا يستطيع الذهاب لقضاء الحاجة -أعزكم الله- وهو يلبس الحفاظة على صفة دائمة ولا يستطيع تبديلها عند كل صلاة، وذلك للمشقة فما حكم صلاته، كيف تكون طهارته؟
الجواب
هذا -بارك الله فيك- له أن يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، فيجمع الظهر والعصر جمع تأخير، في آخر وقت العصر ويتوضأ للظهر والعصر، ثم إذا دخل وقت المغرب صلى المغرب والعشاء جمع تقديم، ويكتفي بالوضوء الأول، وضوءاً واحداً في اليوم والليلة للصلوات الأربع، ووضوءاً آخر لصلاة الفجر، فأرجو ألا يكون في ذلك مشقة عليه، لكن لو فُرض أنه وجد عليه مشقة حتى في هذه الكيفية، فإنه يصلي على حسب حاله، لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] .(40/19)
كيفية زكاة العقارات
السؤال
إذا كان لدى الرجل أرض أو بيت ليست للعقار أو للبيع مثلاً، لكنه أحياناً يتحرى ارتفاع السعر أو يأتي من يرغب في شراء البيت، وينظر هل ازداد أو ما ازداد سعره، وليست عنده نية للبيع أصلاً فهل عليه زكاة؟
الجواب
إذا كان الرجل ممن يبيع ويشتري في العقارات فعليه الزكاة، أما إذا كان يريد أن يعمرها مثلاً ولم يقصد التجارة فهذه لا زكاة فيها، لكن إن باعها زكى قيمتها إن تمت السنة وهي عنده.(40/20)
حكم الرقص والموسيقى في رياض الأطفال
السؤال
عندنا في الكويت روضة للأطفال، وهذه الروضة يقام فيها موسيقى ورقص للأطفال، فهل يأثم الإنسان إذا أدخل أولاده أم لا لا يأثم؟
الجواب
يأثم الإنسان إذا أدخل أولاده هذه الروضة؛ لأن الرقص والموسيقى حرام، وإنني أوجه كلمتي إلى المسئولين عن هذه الرياض بأن يتقوا الله سبحانه وتعالى في أطفال المسلمين، وألا يعودوهم على ما حرم الله ورسوله، فإن المعازف حرام لما رواه البخاري في صحيحه عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف) الحِر قال العلماء يعني: الزنا، والحرير معروف أنه حرام على الرجال، والخمر معروف أنه حرام بالكتاب والسنة والإجماع، والمعازف هي: آلات اللهو وهي حرام.
فعلى القائمين على هذه الرياض أن يتقوا الله، وأن يمنعوا المعازف والرقص، وأن يعدوا شباب الأمة الإسلامية للجهاد وإعلاء كلمة الله، وكيف يطيب للإنسان قلب، أو تطمئن له نفس وإخوانه في البوسنة والهرسك يذبحون، ويُجعل الأطفال في خلاطات الإسمنت يخلطون خلط الإسمنت، وتنتهك أعراض الفتيات، أين الإسلام في قلوبنا؟ وأين الإسلام في قوم يربون أولادهم على ما حرم الله وهم يعلمون ما يفعل بإخوانهم في أقطار الدنيا؟ ولكن مع الأسف أن بعض الناس قسا قلبه والعياذ بالله حتى صار كالحجارة أو أشد قسوة نسأل الله العافية.
فأقول لهؤلاء: ليتقوا الله في أنفسهم وفي شباب المسلمين وليربوهم على التربية الإسلامية.
أما بالنسبة للشعب فأنا أنصحهم وأحذرهم من إدخال أولادهم في هذه الرياض، فإنهم آثمون معينون على الإثم والعدوان، ويوشك ألا يبرهم أولادهم إذا كبروا، وألا يدعوا لهم إذا ماتوا؛ لأنهم عصوا الله عز وجل فيهم، فيوشك أن يجعل الله هؤلاء يعصون آباءهم كما عصى آباؤهم الله فيهم، ويُسلطون عليهم.
أقول: بارك الله فيك لا يجوز أن تدخل أولادك في هذه الرياض.
وأقول: إذا كان ولابد فيجب على الآباء أن يكوِّنوا رياضاً تكون على حسابهم، ويكون فيها آداب إسلامية وأخلاق فاضلة، وتربية توجههم إلى الخير، وهذا ليس بصعب -والحمد لله- على من كان في مثل الكويت، عندهم -والحمد لله- من الثروة والمال ما الله به عليم، ثم يجب على إخواننا الكويتيين -وعلينا نحن أيضاً- أن نتعظ بما جرى قبل سنتين من أن الله سلط علينا جيراننا الذين يجب أن يكونوا معنا فصاروا علينا، لماذا لا نتعظ؟ وهل نأمن الآن أنه في يوم من الأيام تحصل مثل هذه الكارثة أو أكثر؟ لا يجوز أبداً أن ننسى هذه الكارثة حتى لا يحق علينا قول الله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:44-45] لا يجوز أن نتصف بصفات من قال الله فيهم: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:43] .(40/21)
حكم العباءات النسائية المطرزة
السؤال
فضيلة الشيخ: ما رأيك في العباءات النسائية التي تكون مطرزة، وعليها زخارف على الكمين ومن أسفلها؟
الجواب
أرى أن الأولى أن تقتصر النساء على العباءة السابقة، لأنها أستر وأبعد عن الفتنة، أما العباءات التي ظهرت حديثاً، فإذا لم يكن فيها تطريز يلفت النظر، أو قيطان تتدلى، أو ضيق يبين حجم الجسم فأرجو ألا يكن بها بأس، مع أنني والله أستثقل أن أقول ذلك؛ لأني أخشى أن يكون باباً لشرٍ أكبر؛ لأن النساء كما تعرفون يتدرجن من الأسهل إلى ما فوقه، ثم إذا اتسع الخرق على الراتق عجزنا عنه، لكن لا أستطيع أن أمنع شيئاً ليس به بأس من الناحية الشرعية، إلا أني أقول: الأولى المحافظة على ما كنا عليه من قبل؛ لأنه أقرب إلى اتباع السلف ونساء الصحابة، وأبعد عن الفتنة، وأكثر سداً لباب الشر والفساد.(40/22)
الشك في الرضاع
السؤال
فضيلة الشيخ: هذه امرأة تقول: إني أرضعت طفلاً ثلاث رضعات، ولكن الرضعتين الباقيتين، تقول: إني في شك منهما، ولكن امرأة أخرى تقول: إنها متأكدة أنها أرضعت الخمس، فما قولكم؟
الجواب
قولي: إن هذا الرضاع ثابت خمساً؛ لأن لدينا ثلاثاً متفقاً عليها، واثنتين توقفت فيها إحدى المرأتين، وجزمت بهما الثانية، وعلى هذا تكون الطفلة الراضعة أو الطفل الراضع على هذا الوجه ابناً لمن أرضعته، لا تحتجب عنه لا هي ولا بناتها.(40/23)
حكم بقاء الحائض في المسجد
السؤال
فضيلة الشيخ: أتينا من الكويت والشيخ سالم الطويل والشيخ حامد العثمان يقرأان عليك السلام، ويخبرانك أنهما يحبانك في الله، ويسأل الشيخ سالم يقول: هل يجوز للحائض الجلوس في المسجد تلقي دروساً؟
الجواب
أقول عليك وعليهما السلام، وبلغهما سلامي إن شاء الله إذا رجعت.
لا يجوز للحائض أن تجلس في المسجد، لا لإلقاء الدروس ولا لاستماع الدروس؛ لأن الحائض ليس لها المكث في المسجد، نعم لها المرور في المساجد إذا أمنت من تلويث المسجد، فإن كانت تخشى أن ينزل الدم حتى يلوث المسجد فإنه لا يجوز لها المرور.(40/24)
حكم الاستشفاء بالدم
السؤال
فضيلة الشيخ: هناك بعض الناس إذا عضه الكلب أو الثعلب المسعور يذهب إلى قبيلة يقال عنها (البرزان) ويأخذ من دمهم ويشربه، أو يشتريه بثمن، وهو يعلم أن الله هو الشافي، لكن يؤكد، ويقول: إنه لا يوجد غير دم هذه القبيلة يصلح لهذا، حتى إن هناك امرأة تبرعت بدمها لمن أصيب بمثل هذا، بعضهم يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم استضافهم فأكرموه ودعا لهم بأن يكون دمهم شفاء، هل هذا صحيح؟
الجواب
ليس بصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم استضافهم فأكرموه ودعا لهم.
أما ما ذكرت من أن دمهم يستشفى به، فهذا مشهور عند الناس، لكن لا يجوز شرعاً؛ لأن الدم حرام بنص القرآن قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] وقال تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام:145] .
وإذا كان حراماً فإنه لا شفاء فيه؛ لأن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها، فلذلك ننهى عن هذا الشيء، ونقول: هذا شيء لا أصل له، وقد فتح الله -له الحمد- الآن أبواباً كثيرة في الطب وتنقية الدم، وبإمكانهم أن يذهبوا إلى المستشفيات وينقوا دمهم من هذا الدم الخبيث، أو من هذا العضة الخبيثة.
السائل: فضيلة الشيخ: إنهم يقولون: إنهم مضطرون إلى الذهاب إلى هؤلاء، وقد قال الله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:173] فما تعليق فضيلتكم على ذلك؟ الشيخ: قلت لك هذا الشيء محرم، والمحرم لا يجوز إلا عند الضرورة، ولكن ما هي الضرورة؟ الضرورة أن نعلم أن الإنسان إذا فعل هذا الشيء زالت ضرورته، ونعلم كذلك أنه لا يمكن أن تزول ضرورته إلا بهذا الشيء، يعني ليس هناك ضرورة تبيح المحرم إلا بشرطين: 1/ أن نعلم أنه لا تزول ضرورته إلا بهذا.
2/ أن نعلم أن ضرورته تزول به.
ولهذا إذا كان الإنسان يخاف الموت، فله أن يأكل ميتة لتوفر الشرطين السابقين، أما هؤلاء فليت هناك ضرورة تدفعهم لفعل هذا الشيء المحرم.
بارك الله فيكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(40/25)
لقاء الباب المفتوح [41]
في هذه المادة يقف الشيخ وقفات في ظلال سورة البروج، مفسراً لآياتها، وبيان الأحكام والمسائل الواردة فيها، وبعد ذلك يجيب عن الأسئلة الواردة في هذا اللقاء.(41/1)
تفسير آيات من سورة البروج
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو اللقاء الأخير من شهر جمادى الأولى، عام: (1414هـ) ، الذي يتم في كل خميس من كل أسبوع.
نبدأ هذا اللقاء بما كنا نبدأ به أولاً من تفسير القرآن الكريم، وقد وصلنا إلى قوله تعالى في سورة البروج: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج:11] .(41/2)
تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات)
قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا} [البروج:11] هم الذين آمنوا بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، فإن هذا هو الإيمان كما فسره النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين سأله جبريل عن الإيمان؛ فقال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسوله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره) .
وأما قوله: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البروج:11] فالمراد: عملوا الأعمال الصالحة؛ والأعمال الصالحة هي التي بنيت على الإخلاص لله، واتباع شريعة الله، فمَن عمل عملاً أشرك به مع الله غيره، فعملُه مردودٌ عليه، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما يرويه عن ربه أنه تعالى قال: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركتُه وشركَه) .
وأما المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإن مَن عمل عملاً ليس على شريعة الله فإنه باطل مردود، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) .
وبناءً على ذلك تكون عبادة المرائي الذي يعبد الله؛ لكن يرائي الناس، أي: يُظْهِر العبادة ليراه الناس فيمدحوه، إذْ أنه لا يريد التقرب إلى الناس، بل يريد التقرب إلى الله؛ لكن يريد أن يمدحه الناس على تقربه إلى الله وعبادته لله، فهذا المُرائي عمله مردود أيضاً.
كذلك مَن تكلم بكلام؛ قرآنٍ، أو ذِكْرٍ، ورفع صوته ليسمعه الناس فيمدحوه على ذكره لله، فهذا أيضاً مُراءٍ، وعمله مردود عليه؛ لأنه أشرك فيه مع الله غيره، أراد أن يمدحه الناس على عبادة الله.
أما من تعبد للناس، فهذا مشركٌ شركاً أكبر، فمن قام يصلي أمام شخص تعظيماً له لا لله، وركع للشخص وسجد له فهذا مشرك شركاً أكبر مخرج من الملة.
وكذلك مَن ابتدع في دين الله ما ليس منه، كما لو رتَّب أذكاراً معينة في وقت معين، فإن ذلك لا يُقْبَل منه حتى ولو كان ذكرَاً لله، ولو كان تسبيحاً أو تحميداً، أو تكبيراً أو تهليلاً؛ لكنه رتبه على وجه لم ترد به السنة، فإن ذلك ليس مقبولاً عند الله عزَّ وجلَّ؛ لأنه عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله.
فالمهم أن الله اشترط مع الإيمان العمل الصالح، وبهذا نعرف أنه لا ينبغي لنا أن نركز دائماً على العقيدة، ونقول: نحن على عقيدة إسلامية، وعلى كذا، وعلى كذا، ولم نذكر العمل؛ لأن مجرد العقيدة لا يكفي، بل لا بد من العمل.
فينبغي عندما نذكر أننا على العقيدة الإسلامية أن نقول: ونعمل العمل الصالح؛ لأن الله يقرن دائماً بين الإيمان المتضمن للعقيدة وبين العمل الصالح؛ حتى لا يخلو الإنسان من عمل صالح، أما مجرد العقيدة فلا ينفع، فلو أن إنساناً يقول: أنا مؤمن بالله؛ لكنه لا يعمل، فأين الإيمان بالله؟! ولهذا كان القول الراجح من أقوال العلماء: أن تارك الصلاة كافر كفراً مخرج عن الملة، وقد بينا أدلة ذلك في رسالة لنا صغيرة، وكذلك تمر علينا في برنامج: (نور على الدرب) أسئلة حول هذا الموضوع، ونبين الأدلة بما يغني عن إعادتها هنا.
{لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البروج:11] .
{لَهُمْ} أي: عند الله.
{جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} : وذلك بعد البعث، فإنهم يدخلون هذه الجنات التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولهذا قال الله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] .
وقال الله في الحديث القدسي: (أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) لأن فيها من النعيم ما لا يتصوره الإنسان، والله تعالى يذكر أن في الجنات نخلاً، ورماناً، وفاكهةً، ولحمَ طير، وعسلاً، ولبناً، وماءً، وخمراً؛ لكن لا تظنوا أن حقائق هذه الأشياء كحقائق ما في الدنيا، أبداً؛ لأنها لو كانت حقائقها كحقائق ما في الدنيا لكنا نعلم ما أخفي لنا من هذا؛ ولكنها أعظم وأعظم بكثير مما نتصوره.
فالرمان وإن كنا نعرف معنى الرمان أنه على شكل معين، وطعم معين، وذو حبات معينة لكن ليس الرمان الذي في الآخرة كهذا؛ بل هو أعظم بكثير، لا يساويه من جهة الحجم ولا من جهة اللون، ولا من جهة المذاق؛ لكن كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: [ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء فقط، أما الحقائق فهي غير معلومة] .
وقوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البروج:11] : قال العلماء: (من تحتها الأنهار) أي: من تحت أشجارها وقصورها، وإلا فهي على السطح فوق، ثم إن هذه الأنهار جاء في الأحاديث أنها لا تحتاج إلى حفر، ولا تحتاج إلى بناء أخدود، وفي هذا يقول ابن القيم في النونية:
أنهارها في غير أخدود جرت سبحان ممسكها عن الفيضانِ
الأنهار المعروفة عندنا أنها تحتاج إلى حفر أو إلى أخاديد تمنع من تسرب الماء يميناً وشمالاً؛ لكن في الجنة لا تحتاج إلى أخدود، بل تجري حيث يشاء الإنسان، ويوجهها كما شاء، بدون حفر وبدون إقامة أخدود.
والأنهار هنا وفي آيات كثيرة مجملة؛ لكنها فُصِّلت في سورة القتال (سورة محمد) قال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً} [محمد:15] .
{ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج:11] .
{ذَلِكَ} : المشار إليه هو: الجنات وما فيها من النعيم.
{الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} أي: الذي به النجاة من كل مرهوب، وحصول كل مطلوب؛ لأن الفوز هو عبارة عن حصول المطلوب، وزوال المكروه.
والجنة كذلك فيها كل مطلوب، وقد زال عنها كل مرهوب، فلا يذوقون فيها الموت، ولا المرض، ولا السقم، ولا الهم، ولا النصب.
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها.(41/3)
تفسير قوله تعالى: (إن بطش ربك لشديد)
ثم قال تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} [البروج:12-13] .
{بَطْشَ} [أي: أَخْذَهُ بالعقاب شديد، كما قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:98] فبَطْشُ الله -أي: انتقامُه وأخذُه- شديدٌ عظيم؛ ولكنه لمن يستحق ذلك، أما من لا يستحق ذلك فإن رحمة الله تعالى أوسع، ما أكثر ما يعفو الله من الذنوب! ما أكثر ما يستر الله من العيوب! ما أكثر ما يدفع الله من النقم! وما أكثر ما يجري من النعم! لكن إذا أخذ الظالم لم يُفْلِته؛ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله ليُمْلِي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْه) وتلا قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] .
وعلى هذا فنقول: ((بَطْشَ رَبِّكَ)) [البروج:12] أي: فيمن يستحق البطش، أما من لا يستحقه؛ فإن الله تعالى يعامله بالرحمة، وبالكرم، وبالجود، ورحمة الله تعالى سبقت غضبه.(41/4)
تفسير قوله تعالى: (إنه هو يبدئ ويعيد)
قال تعالى: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} [البروج:13] أي: إن الأمر إليه ابتداءً وإعادة، وهذا كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [الروم:27] فهو الذي بدأ الأشياء، وإليه تنتهي الأشياء، الأشياء منه وإليه في كل شيء، الخلق من الله وإليه، الشرائع من الله وإليه، كل الأمور من الله وإليه، ولهذا قال: {يُبْدِئُ} [البروج:27] ولم يذكر ما الذي يبدؤه، فمعناه: أنه يبدئ كل شيء، ويعيد كل شيء، فكل الأمر بيده عزَّ وجلَّ.
فأنت اعرف أصلك من أين أنت! وأنك ابتدأت من عدم، واعرف منتهاك وغايتك، وأن غايتك إلى الله عزَّ وجلَّ.(41/5)
تفسير قوله تعالى: (وهو الغفور الودود)
قال تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج:14-15] .
{وَهُوَ الْغَفُورُ} أي: ذو المغفرة؛ والمغفرةُ سَتْرُ الذنب والعفوُ عنه، فليست المغفرةُ سترَ الذنب فقط؛ بل سترُه وعدمُ المؤاخذة عليه، كما جاء في الحديث الصحيح: (إن الله يخلو بعبده المؤمن يوم القيامة ويقرره بذنوبه، حتى يقر بها ويعترف، فيقول الله عزَّ وجلَّ: قد سترتُها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم) .
ذنوبنا كثيرة: ذنوب قلبية.
وذنوب قولية.
وذنوب فعلية ما أكثرها! لكن الله تعالى -ولله الحمد- يسترها.
يُذكر أن بني إسرائيل كانوا إذا أذنب الواحد منهم ذنباً وَجَدَهُ مكتوباً على باب بيته، فضيحةً وعاراً - والعياذ بالله -؛ لكننا نحن -ولله الحمد- قد ستر الله علينا، فنتوب إلى الله، ونستغفر من الذنوب، فتمحى آثارها نهائياً، ولهذا قال: {وَهُوَ الْغَفُورُ} [البروج:14] : أي الساتر لذنوب عباده، المتجاوز عنها، {الْوَدُودُ} [البروج:14] : مأخوذة من الود، والود: هو خالص المحبة، فهو جلَّ وعَلا ودود.
وما معنى ودود؟ هل معناه أنه محبوبٌ، أو أنه حابٌّ؟
الجواب
يشمل الوجهين جميعاً، قال الله تبارك وتعالى: {يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] فهو جلَّ وعَلا وادٌّ؛ يحب الأعمال، ويحب الأشخاص، ويحب الأمكنة.
وهو كذلك أيضاً محبوبٌ يحبه أولياؤه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] .
فكلما كان الإنسان أتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحب إلى الله، فهو جلَّ وعَلا وادٌّ وهو أيضاً مودود، أي: أنه يُحِبُّ ويُحَبُّ، يُحِبُّ سبحانه وتعالى الأعمال، ويحب العاملين، ويحب الأشخاص، بمعنى: أن محبة الله قد تتعلق بشخص معين، مثل قول الرسول عليه الصلاة والسلام في يوم خيبر: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب اللهَ ورسولَه، ويحبه اللهُ ورسولُه) فبات الناس، ثم غدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: (أين علي بن أبي طالب؟ قالوا: يشتكي عينيه، فدعا به، فأتى، فبَصَق في عينيه، فبرأ كأن لم يكن به وجع -في الحال-، ثم أعطاه الراية، وقال: انفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام) .
الشاهد قوله: (يحب اللهَ ورسولَه ويحبه اللهُ ورسولُه) فهنا أثبت أن الله يحب هذا الرجل بعينه، وهو علي بن أبي طالب.
ولما بعث رجلاً على سرية صار يقرأ لهم في الصلاة، ويختم بقراءة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] فلما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه بذلك؛ لأن عمله هذا غير معروف، أن الإنسان كلما قرأ في الصلاة يجعل آخر قراءته: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] فقال: سلوه: لأي شيء كان يصنع ذلك! فسألوه، فقال: إنها صفة الله، وأنا أحب أن أقرأها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخبروه أن الله يحبه) فهنا تجدون محبة الله قد علِّقت بشخص معين.
وقد تكون محبة الله معلقة بمعينين بأوصافهم، مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:4] .
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] .
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4] هذا ليس فيه شخص معين؛ لكن فيه شخص موصوف بصفة.
كذلك يحب الله سبحانه وتعالى الأماكن؛ فأحب البقاع إلى الله مساجدها.
وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام: (أن مكة أحب البقاع إلى الله) فهذه المحبة متعلقة بالأماكن.
فالله تعالى يُحِبُّ ويُحَبُّ، ولهذا قال: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:14] .(41/6)
تفسير قوله تعالى: (ذو العرش المجيد)
ثم بيَّن عَظَمَته وتمامَ سلطانه بقوله: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:15-16] .
{ذُو الْعَرْشِ} أي: صاحب العرش، والعرش هو الذي استوى الله عز وجل عليه وهو أعظم المخلوقات وأكبرها وأوسعها.
وقد جاء في الأثر: (أن السماوات السبع والأرضين السبع بالنسبة للكرسي كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض وأن فضل العرش على الكرسي كفضل الكرسي على هذه الحلقة) إذاًَ: الكرسي لا أَحَدَ يُقَدِّر سعته، وإذا كنا نشاهد من المخلوقات المشهودة الآن التبايُن العظيم في أحجامها، فكيف بالكرسي؟! أطلعني رجل على صورة الشمس وهي مصورة، وصورة الأرض، فوجدتُ أن الأرض بالنسبة لهذه الشمس كنقطة غير كبيرة في وعاء واسع كبير، وأنها لا تنسب إلى الشمس إطلاقاً، فهي ليست شيئاً، فإذا كانت هذه الأشياء المشهودة التي تدرَك بالتليسكوب وغيره، فما بالك بالأشياء الغائبة عنا؟! لأن ما غاب عنا أعظم مما نشاهد، قال الله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85] .
فالحاصل أن العرشَ الذي هو سقف المخلوقات كلها عرشٌ عظيم، استوى عليه الرحمن جلَّ وعَلا، كما قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] .
وقوله: {الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج:15] هذه فيها قراءتان: {الْمَجِيدُ} [البروج:15] بضم الدال.
و {الْمَجِيدِ} [البروج:15] بكسر الدال.
فعلى القراءة الأولى تكون وصفاً للرب عز وجل.
وعلى القراءة الثانية تكون وصفاً للعرش.
وكلاهما صحيح، فالعرشُ مجيدٌ، وكذلك الربُّ عز وجل مجيدٌ، ونحن نقول في التشهد: إنك حميدٌ مجيد.(41/7)
تفسير قوله تعالى: (فعال لما يريد)
قال تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16] كل ما يريده فإنه يفعله عز وجل؛ لأنه تام السلطان لا أحد يمانعه، ولا معقِّب لحكمه ولا رادَّ لقضائه: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد:11] .
فكل ما يريده فإنه يفعله؛ لكن ملوك الدنيا وإن عَظُمَت ملكيتهم لا يفعلون كل ما يريدون، ما أكثر ما يريدون ثم يوجد مانع يمنع مرادهم! أما الرب فهو ذو السلطان الأعظم، الذي لا يَرُدُّ ما أراده شيءٌ: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16] وفي هذا دليل على أن جميع ما وقع في الكون هو بإرادة الله عز وجل؛ لأن الله هو الذي خلقه، فيكون واقعاً بإرادته، ولكن اعلموا أن الله لا يريد شيئاً إلا لحكمة، فكل ما يقع من أفعال الله، فإنه لحكمة عظيمة، قد نعلمها وقد لا نعلمها.
ونتوقف عند هذه الآية الكريمة.
ونسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يتلون كتابه حق تلاوته، وأن يرزقنا فَهمه، ويعيننا على العمل به، إنه جواد كريم.(41/8)
الأسئلة(41/9)
حكم الرشوة والمحاباة في العمل
السؤال
فضيلة الشيخ! عندي سؤال أنقله نيابة عن أحد الزملاء في الرياض: هذا الرجل يعمل في أحد القطاعات العسكرية، وقد شَغَرَ عدة أرقام في نفس هذا القطاع؛ ولكن بمعنى أصح أنه في هذه المنطقة في الرياض المسافات بعيدة من حي إلى حي، وهناك أرقام عليها عدة طلبات، يريدها أصحاب هذه الطلبات، والعمل هو العمل؛ ولكن المسافة في هذه الأرقام تكون قريبة إلى هذا الشخص إذا انتقل هذا المحل، فيصير قريباً من عمله، وأريح له من العمل التابع له حالياً، وهو نفس العمل؛ لكن القريب فيه راحة، وهذا الرقم لا يستطيع أن يذهب إليه إلا إذا طلبه من صاحب الصلاحية الذي يوجد عنده الرقم، ودفع مبلغاً من المال قدره خمسين ألف ريال، فهل يجوز أن يدفع له هذا المبلغ، ليأخذ هذا الرقم، مع العلم أن هناك أناساً عندهم طلبات لنفس هذا الرقم؛ ولكنه يرفض، ويتمسك بهذا الرقم وغيره حتى يأخذ مقابلها هذا المال؟
الجواب
أقول: هذا العمل لا بأس به بشرط أن يحفظ الدراهم التي يعطيها إياه، ثم يبلغ الجهات المسئولة من أجل أن تنكِّل بهذا الرجل الذي نعتبره آكلاً للرشوة، خائناً لولي أمره؛ لأن الواجب على مَن وُكِل إليه مثل هذه الأمور أن ينظر ما هو أصلح للعمل، بقطع النظر عن فلان وفلان، وأن لا يحابي أحداً لقُرْبه، ولا أحداً لرشوته، ولا أحداً لفقره؛ بل ينظر إلى مصلحة العمل، فإن كان هذا الرجل يقدر على أن يكتب أشياء خفية فيما يعطيه من الرشوة أو الشيك مثلاً يحوِّله فلا بأس؛ لكن بشرط أن يوصل الأمر إلى المسئول الذي فوق هذا الذي وُكِلت إليه الصلاحية، من أجل أن ينكَّل به، ويذوق عقابه.
أما إذا كان لا يستطيع هذا فلا يحل له أن يعطيه الرشوة.
السائل: هناك أناسٌ تقدموا لهذا العمل، ولم يقدموا طلباتهم! الشيخ: أنا فاهم! حتى وإن لم يقدم أحد، فإن الرشوة لا تجوز.(41/10)
حكم الوسواس في ذات الله تعالى
السؤال
بعض العامة الذين يجهلون أمر التوحيد يوسوس لهم الشيطان في سؤال ألا وهو: من الذي خلق الله؟ فنريد من فضيلتكم التفضل بالإجابة.
الجواب
الإجابة على هذا السؤال قد أجاب النبي عليه الصلاة والسلام، حيث قال: (إن الناس يتساءلون: مَن خلق كذا؟! مَن خلق كذا؟! مَن خلق كذا؟! حتى يقولوا: مَن خلق الله؟! فإذا بلغت الحال إلى هذه فليقل: الله أحد، صمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفؤاً أحد، وليكف عن هذا)(41/11)
حكم تعدد الجماعة في المسجد الواحد
السؤال
فضيلة الشيخ: ما حكم تعدد الجماعة في مسجد له إمام راتب، ومؤذن راتب؟
الجواب
تعدد الجماعة على قسمين: القسم الأول: أن يكون ذلك راتباً بحيث تتعمد الجماعة الثانية التأخر، حتى تقيم جماعة أخرى، فهذه بدعة؛ لأن المسجد لا يقام فيه إلا جماعة واحدة.
والقسم الثاني: ألا يكون ذلك راتباً معتاداً؛ لكن بعد أن تنتهي الجماعة الأولى يأتي أناس يدخلون المسجد فيصلون جماعة فهذا مشروع وسنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان مع أصحابه ذات يوم، فدخل رجل قد فاتته الصلاة، فقال: (من يتصدق على هذا فيصلي معه) فقام أحد الصحابة فصلى معه.
ولأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله) .
وأما تَوَهُّمُ مَن تَوَهَّم من الناس أن إقامة الجماعة الثانية بدعة، فهذا صحيح فيما إذا كان على وجه الراتب المعتاد، أما ما كان طارئاً فإن إقامة الجماعة الثانية سنة؛ لأمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
السائل: ولو أقامها في البيت بعد انقضاء الجماعة الأولى؟ الشيخ: لا.
في المسجد أحسن؛ لأن إقامتها في المسجد ربما تكثر الجماعة، يدخل معه أناس يأتون فيما بعد، فيكون أفضل، ثم إن الغالب أن الإنسان يخرج من بيته إلى المسجد من أجل أن يصلي مع الجماعة، فتفوته، فيأتي وهم قد صلوا، فإذا أقامها في المسجد كان هذا أنفع له ولغيره؛ لأنه ربما لو رجع هو وصاحبه إلى البيت، وصليا جماعة، يأتي إنسان آخر مثلاً فدخل بعد انتهاء الجماعة الأولى ولا يجد جماعة، فتفوته الجماعة، فالأفضل أن تكون في المسجد.
نعم.
لو فُرِض أنه عَلِم في بيته أن الجماعة قد انتهت، فهنا نقول: لا فرق، صلِّ في بيتك؛ لأنه لو خرج إلى المسجد قد يخجل أن يقابله الناس وهم قد خرجوا من الصلاة، فيصلي في بيته.
أما إذا كان قد جاء ودخل المسجد ووجدهم قد صلوا فلا ينصرف، بل يصلي مع الجماعة في المسجد.(41/12)
معنى قوله تعالى في الحديث القدسي: (تركته وشركه)
السؤال
يا فضيلة الشيخ! في قوله تعالى: (من أشرك معي غيري تركته وشركَه) هل الترك له وقت محدد، أم عند توبة المشرك الذي أشرك، أم عندما يتوفاه الله؟
الجواب
قوله تعالى في الحديث القدسي: (تركتُه وشركَه) أي: نفس العمل الذي حصل فيه الشرك لا يقبله الله؛ لكن لو تاب منه، فإن الله يتوب عليه؛ لأن الله قال: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} [الفرقان:68-69] .
فالمراد بقوله: (تركتُه وشركَه) ليس المقصود منه تركتُه دائماً، بل تركتُه وشركَه في العمل الذي أشرك به فقط، ثم إذا تاب منه وآمن وعمل عملاً صالحاً بدل الله سيئاته حسنات.(41/13)
حكم إكرام النصراني
السؤال
فضيلة الشيخ! شخص يسأل ويقول: إنه تعرف على أحد النصارى عن طريق أحد أصدقائه، وهو لَمْ يعلم أنه نصراني، فكان يتعامل معه معاملة المسلم لأخيه المسلم، وبعد فترة تبيَّن أنه نصراني، حتى أنه في بعض الجلسات معه أثناء الأكل واستضافته في البيت عَلِم أنه نصراني فانقبض هذا الرجل، عندما علم أنه نصراني وهو لا يعلم، والآن هو محتار، وهذا الشخص يزوره بين الحين والآخر، ولا يستطيع التخلص، فكيف السبيل إلى التخلص من مثل هذه المواقف، خاصة وأن بعض المسلمين لا يجد طريقة إلى توصيل الفهم الصحيح للإسلام للنصارى؟ فأفتونا مأجورين جزاكم الله خيراً!
الجواب
الواجب عليه أن يعرض عليه الإسلام ويدعوه إليه، فإن كان يُحْسِن عرض الإسلام والدعوة إليه باشر ذلك بنفسه، وإن كان لا يُحْسِن طَلَبَ أَحَدَ الطلبة أن يحضُر إلى مَجلِسِه مع هذا النصراني، ثم يعرض عليه الإسلام، فإن رأوا منه إقبالاً فذلك هو المطلوب، ولعل الله أن يهديه، وإن لم يروا منه إقبالاً فالواجب عليه أن يقاطعه؛ لأن إكرام النصارى حرامٌ على المسلم، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه) فإكرامه باستقباله وضيافته وما أشبه ذلك محرمٌ إلا إذا كان يُرْجَى إسلامُه.
السائل: لكنَّ هذا النصراني عربي، وفي بعض المواقف الطريفة عَطَسَ وقال: الحمد لله، ثم إنه يبدأ السلام عند دخوله إلى البيت، وهذه من المُخْرَجات التي حَصَلَت منه! الشيخ: حتى لو قال: الحمد لله، فما دام لم يؤمن برسول الله، فلا ينفعه تحميدُه.
السائل: ونهاه صاحب السؤال يوماً عن شرب التدخين -أعني: أنه كان يدخن- فنهاهُ عن شرب الدخان، فانتهى! الشيخ: هذا ربما أنه قريب إن شاء الله.(41/14)
حكم معالجة منابت اللحية
السؤال
تعرفون أن الفتن زادت، والأدوية كَثُرت في الأعوام الأخيرة، فيقال مثلاً: إن اللحية إذا كان فيها نقاط في الوجه وليست كاملة ولا كثيرة، يقال: إن هناك علاجاً تُعالَج به، فتكتمل، وتصير مثلك هكذا، فهل هذا يجوز أم لا؟ إذا كان يُرْجَى نباتُه بنفسِه فلا يحاول؛ لأن هذا ليس بعيب، إذْ أن كثيراً من الشباب الذين في ابتداء نبات لِحاهُم لا تنبت اللِّحَى مستوية جميعاً، فينتظر.
أما إذا كان عيباً بحيث نعلم ونيئس أنه لن ينبت بنفسِه فلا حرج أن يعالج ذلك حتى يخرج الباقي، لا سيما إن كانت مشوهة.
أما إذا كانت غير مشوهة فالأفضل ألا يعالجها بشيء؛ لأني أخشى أن يكون هذا من جنس الوصل الذي لعن فيه الرسول عليه الصلاة والسلام الواصلة والمستوصلة.(41/15)
حكم من أسلم وانتحل الابتداع في الدين
السؤال
هناك كثير من النصارى عندما يسلم يتبع مذهباً غير مذهب أهل السنة والجماعة، مثل: التصوُّف، والتشيُّع، فهل نُكَفِّره؛ لأنه دَخَلَ مذهباً غير مذهب أهل السنة والسلف الصالح، أم ننظر إليه بحسب الفرقة التي دخل فيها؟
الجواب
إذا أسلم وانتمى إلى الإسلام، ثم اتخذ نِحْلَة مبتدَعة، فإننا نعطيه حكم أهل هذه النِّحْلَة، إن كانت البدعة مكفِّرة فهو كافر، ولن ينفعه انتقالُه من النصرانية إلى هذه البدعة المكفِّرة، وإن كانت لا تكفِّر فإنه لا يكفر؛ لكن ينبغي لـ أهل السنة أن يتلقوا هؤلاء الذين يسلمون؛ لأنه ربما يسلم راغباً في الإسلام، ثم يأتيه رجل مبتدع فيغره ويقول: هذا هو الإسلام، فيرتكب البدعة؛ لأنه لا يدري.
فالواجب على أهل السنة أن يتلقوا هؤلاء الذين أسلموا حديثاً حتى لا يتلقفهم أحدٌ له بدعة.
السائل: إذاً: يكفَّر، وهذا أمر عاديٌّ! الشيخ: كما قلتُ لك: إذا انتَحَلَ بدعة مكفِّرة فله حكم أصحابها، وإذا انتَحَلَ بدعة غير مكفِّرة فله حكم أصحابها.
لكن قد يقال: هذا النصرانيُّ الذي لا يعرف عن الإسلام شيئاً بدعتُه التي ارتكبها وهي مكفِّرة ارتكبها عن جهل، فهذا نعَلِّمه أولاً بأن ما انتحله غير صحيح، ثم إذا أصَرَّ حُكِمَ عليه بحكم أهل هذه البدعة.(41/16)
حكم الحلف بالذمة أو الحرج
السؤال
فضيلة الشيخ! حفظكم الله! ما قول فضيلتكم في بعض العامة إذا كان يصدر منه اليمين، فيكون في الذمة، كأن يقول: في ذمتي، أو يكون في الحرج، كأن يقول: أنت مني في حرج، فهل هذا يدخل في الشركيات؟
الجواب
إذا قال الإنسان: في ذمتي، أو قال: أنت مني في حرج، فهذا لا يدخل في الشرك؛ لأن الشرك هو القَسَم بغير الله، أما هذا فهو في حكم القَسَم أو في حكم اليمين؛ ولكنه ليس القَسَم الذي يدخل صاحبه في الشرك، إلا أنَّا نقول: كونه يحلف بالله فهذا هو الذي أمر به النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) .
وقال الله لنبيه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:1-2] .
فالأفضل لمن أراد الحلف أن يحلف بالله.
أما قوله: (في ذمتي) أو (أنت مني في حرج) أو ما أشبه ذلك، فهذا له حكم اليمين، ولكنه ليس يميناً يقال لقائله: إنه مشرك، فاليمين الذي يقال لصاحبه: إنه مشرك أن يقول: (ومُلْكِ فلان) أو (والرئيسِ الفلاني) أو (والنبي) أو (والكعبة) فهذا هو الذي يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: (مَن حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) .(41/17)
حكم الرقص
السؤال
فضيلة الشيخ! هذا سؤال من بعض الأخوات تسأل عن حكم الرقص إجمالاً وتفصيلاً، خاصة فيما يتعلق بالرقص في الوسط النسائي والمُبْتَذَل منه وغير المُبْتَذَل! وهل يليق بالمسلمة فعل هذا الأمر؟
الجواب
الرقص مكروه في الأصل؛ ولكن إذا كان على الرقصات الغربية وتقليد الكافرات صار حراماً، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَن تشبه بقوم فهو منهم) مع أنه أحياناً تحصل به فتنة، فقد تكون الراقصةُ امرأةً رشيقةً جميلةً شابَّةً فتفتن النساء، وإن كانت في وسط النساء، فتحصل من النساء أفعالٌ تدل على أنهن افتَتَنَّ بها، وما كان سبباً للفتنة فإنه يُنْهَى عنه.
هذا هو الجواب في حكم الرقص.
السائل: وإذا كان -يا شيخ- على سبيل العَرْضَة الموجودة، أو شيءٍ شبيهٍ منها، أعني: أن تصطف مجموعة من النساء، فيتقدمن خطوات ويتأخرن خطوات وينحرفن لليمين ولليسار؟ الشيخ: نحن نريد بالرقص الرقص التي تتمايل تمايلاً تاماً، حتى تصل أحياناً إلى قريب الأرض، ثم ترتفع، ثم تهتز يميناً وشمالاً.
أما مجرد الحركة اليسيرة فهذه لا تعتبر كالرقص الذي نريده.(41/18)
جواز الجمع والقصر في السفر
السؤال
جماعة كانوا خارجين إلى مدائن صالح للاتعاظ والاعتبار، وقد جمعوا صلاتي الظهر والعصر جمع تأخير، وصلوهما قصراً في مدائن صالح، فما حكم صلاتهم؟ الشيخ: هم مسافرون أم من أهل البلد؟ السائل: هم من خارج البلد، من مكان بعيدٍ قليلاً عن البلد.
الجواب
يجوز للإنسان المسافر أن يقصُر ويجمع حتى يرجع إلى بلده، سواء خرج لنزهة، أو خرج لعبادة؛ كالمعتمر والحاج، أو خرج لعلم، أو خرج لتجارة، المهم أنه ما دام مسافراً؛ فقد قال الله عز وجل: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء:101] ولم يخص الله ضرباً دون ضرب؛ بل أطلق وعمَّم.
وأنت ذكرتَ في سؤالك أن هؤلاء ذهبوا إلى مدائن صالح للاتعاظ والاعتبار، والاتعاظ والاعتبار نوعان: النوع الأول: الاتعاظ والاعتبار بما كان لهؤلاء القوم من القوة والقدرة، حيث كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً؛ فهذا لا يجوز لأن هذا يؤدي إلى تعظيمهم، ويُقَسِّي القلب.
والنوع الثاني: الاتعاظ والاعتبار بأخْذِ الله وعقوبته لهم، وأنهم على هذه العظمة لم يضروا الله شيئاً، ولم يعجزوا الله سبحانه وتعالى فهذا لا بأس به.
ومع ذلك فإني أخبرك وأخبر مَن يستمع ويتعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثلما أصابهم) .
فمن ذهب ودخل وهو يبكي خوفاً من الله عز وجل، فليفعل، وإلا فلا يدخل، بل يبتعد، ولهذا لما مر الرسول عليه الصلاة السلام بديارهم في ذهابه إلى تبوك أو رجوعه منها فقَنَّع رأسه ونَزَّله وأسرع المسير عليه الصلاة والسلام، فكيف بالذي يذهب وينزل بساحتهم؟! حتى ولو كان للاعتبار الديني فإننا لا نشير عليه بذلك، إذا كان يعتبر اعتباراً دينياً فليقرأ القرآن، القرآن إيمانُ المؤمن بما فيه أكبر من إيمانِه بما يشاهده، وإن كانت المشاهدة لا شك تعتبر زيادة في الإيمان؛ لكن على كل حال نقول: من ذهب إلى هؤلاء القوم على الوجه الذي اشترط الرسول: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، أن يصيبكم مثل ما أصابهم) .
السائل: ولكنهم قد صلوا قصراً وجمعاً! الشيخ: نعم، صلاتهم صحيحة؛ لأنهم مسافرون.(41/19)
معنى تواطؤ الرؤى كتواطؤ الشهادات
السؤال
فضيلة الشيخ! ما معنى قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الاختيارات الفقهية: أن تواطؤ الرؤى كتواطؤ الشهادات؟
الجواب
معناه: أن الرؤيا إذا تواطأت واتفقت فهي كتواطؤ الشهادات؛ يعني: أنها تقوِّي.
مثال ذلك: إذا رأى ثلاثة أو أربعة ليلة القدر في ليلة خمس وعشرين، فهذا هو تواطؤ هذه الرؤى، فيدل ذلك على أن لها أصلاً.
وإذا شهد رجلان على شخص ثم شهد ثالث ورابع، فالشهادة الثالثة والرابعة تقوِّي شهادة الرجلين الأوَّلَين.
وما قاله شيخ الإسلام رحمه الله في هذه المسألة صحيح، ومستند إلى قول الرسول عليه الصلاة والسلام للجماعة الذين أُرُوا ليلة القدر: (أَرَى رؤياكم قد تواطأت -لأنهم رأوا ليلة القدر في السبع الأواخر من رمضان- فمَن كان متحريها فليتحرَّها في السبع الأواخر) .(41/20)
حكم تلبية الدعوة لحضور الولائم بعد الإحداد
السؤال
فضيلة الشيخ! اعتاد بعض الناس في الآونة الأخيرة أنه إذا مات عن المرأة زوجها، وانتهت فترة الأربعة أشهر وعشراً، وهي ما تسمى بالحداد، أقام أقاربها ولائم، الابن مَرَّة، والأخت مَرَّة، وغيرهما مرَّة، وهكذا، فما حكم هذا العمل؟ وما حكم تلبية الدعوة بالنسبة لحضور هذه الولائم؟
الجواب
والله الذي يظهر لي -إن شاء الله- أنه ليس فيها شيء؛ لأن هذا شيء معتاد، وليسوا يفعلونه على سبيل التعبد، بخلاف نساء الجاهلية، فنساء الجاهلية إذا تمت السنة وكان النساء في ذلك الوقت من الجاهلية يعتَدِدْن بسنة كاملة، فتبقى في أقبح بيت، ولا تمس الماء، حتى لو حاضت لا تمس الماء ولا تغتسل، فتبقى منتنة رائحتها كريهة، وإذا خَرَجَت بعد سنة كاملة أخذت بَعَرَة ورمت بها، فتقول: كأنَّ كل ما مر عليَّ أهون عليَّ من رَمْي هذه البعرة، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: (قد كانت إحداكن ترمي بالبَعَرة على رأس الحول) .
والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله.(41/21)
لقاء الباب المفتوح [42]
تحدث الشيخ عن أواخر سورة البروج وما فيها من معاني قدرة الله في كل شيء، وما فيها من خبر إهلاكه تعالى للأقوام السابقة لما كذبوا وكفروا، وأخبر تعالى بأن الذين كفروا دائماً في تكذيب لآيات الله.(42/1)
تفسير آيات من سورة البروج
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو اللقاء الأول من شهر جمادى الثانية عام (1414هـ) ، والذي يتم كل أسبوع في يوم الخميس.
لقاؤنا هذا نفتتحه بالكلام على آيات من كتاب الله عز وجل في سورة البروج من قوله تبارك وتعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16] ؛ لأن ما سبق قد تكلمنا عنه.(42/2)
تفسير قوله تعالى: (فعال لما يريد)
قال تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16] هذا وصف لله سبحانه وتعالى أنه فعال لما يريد، فكل ما أراد سبحانه فإنه يفعله، لا يمنعه شيء من ذلك؛ لأن له ملك السماوات والأرض، ومالك السماوات والأرض لا أحد يمنعه من أن يفعل في ملكه ما شاء، وهذا كقوله تبارك وتعالى: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] ، فالخلق مهما كانوا لا يستطيعون أن يفعلوا ما شاءوا، بل قد يريدون الشيء إرادة جازمة وبكل قلوبهم، ويتمنون أن يفعلوه؛ ولكن لا يحصل لهم هذا، بل يحول بينهم وبينه قدر الله عز وجل، أما الرب تبارك وتعالى فإنه فعال لما يريد.
وفي الآية الكريمة إثبات إرادة الله سبحانه وتعالى، وهو كذلك، فإنه تعالى له إرادة كاملة تامة في خلقه حتى فيما يتعلق بأفعال الخلق؛ لا يكون فعلٌ من الناس إلا بإرادة الله كما قال الله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28-29] فعلق مشيئتهم بمشيئته سبحانه وتعالى.
وقال جلَّ وعَلا: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253] .
فهو سبحانه وتعالى إرادته شاملةٌ لِمَا يكون من فعله، ولِمَا يكون من فعل العباد، فأنا -مثلاً- لو تكلمت بكلامي هذا أو بغيره أو بما سبقه، فكل كلامي كائن بإرادة الله، ولو شاء الله ما تكلمتُ، وإذا شاء الله أن أتكلم تكلمتُ، فتنبعث من قلبي إرادة للكلام فأتكلم، ولهذا قال: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16] .(42/3)
تفسير قوله تعالى: (هل أتاك حديث الجنود)
ثم قال عز وجل: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ} [البروج:17] والخطاب لرسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أو لكل من يصح أن يتوجه إليه خطاب، والاستفهام للتنبيه؛ لأن الشيء إذا جاء باستفهام انتبه له الإنسان أكثر، فالله عز وجل يقول: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ} [البروج:17] ، فالجنود: جمع جند، وهو هنا مُبْهَم؛ لكنه فسره بقوله: {فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} [البروج:18] أي: هل أتاك خبرهم؟
و
الجواب
نعم، أتانا خبرهم، قص الله سبحانه وتعالى علينا من نبأ فرعون وثمود ما فيه عبرة لمن كان قلبه حياً {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] .(42/4)
تفسير قوله تعالى: (فرعون وثمود)
ذكر الله تعالى قصة فرعون في آيات كثيرة في القرآن الكريم وفي سور متعددة، وذلك لأن قصة فرعون مقدمة بين يدي رسالة موسى عليه السلام، وموسى كما هو معروف مبعوث إلى بني إسرائيل؛ وقد قص الله سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم من نبأ موسى ما لم يقصه من نبأ غيره؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سوف تكون هجرته إلى المدينة، والمدينة فيها ثلاث قبائل من اليهود ساكنة فيها، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يعلم من نبئهم الشيء الكثير؛ من أجل أن يكون على استعداد لمناظرتهم ومجادلتهم بالحق، حتى لا يخفى عليه من أمرهم شيء.
ففرعون: ملك مصر، وهل هو عَلَم شخص أو عَلَم وصف؟ بمعنى: هل فرعون اسم للجبار العنيد الذي بُعِث إليه موسى؟ أو أنه وصف لكل مَن مَلَك مصر وهو كافر؟ من العلماء من يقول: إنه علم شخص؛ يعني: أنه الذي أُرْسِل إليه موسى وهو جبار عنيد يسمى فرعون.
ومنهم مَن قال: إنه علم وصف لكل مَن مَلَك مصر كافراً، كما يقال: كسرى لكل مَن مَلَك بلاد الفرس، وقيصر لكل مَن مَلَك بلاد الروم، والنجاشي لكل مَن مَلَك الحبشة، وما أشبه ذلك.
والخلاف في هذا ليس بذاك المهم؛ لكن المهم أن فرعون قصته معروفة؛ كان جباراً عنيداً متكبراً، يَدَّعي أنه الرب، ويستهزئ بموسى، وبما جاء به من الآيات، ويتحداه، ويقول له صراحة وجهاً لوجه: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً} [الإسراء:101] ، ويفتخر ويقول لقومه: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف:51-53] .
وماذا كانت النتيجة؟! كانت النتيجة أن كفر به أخص الناس بكيده وهم السَّحَرة، فإن السَّحَرة لما جمعوا كل ما عندهم من السحر، وجاءوا لمقابلة موسى عليه الصلاة والسلام حيث إن موسى أتى بآية تشبه السحر؛ ولكنها ليست بسحر؛ بل هي آية من آيات الله، وهي أنه يضع العصا التي بيده -عصا من خشب-، فإذا وضعها في الأرض صارت حية تسعى، فقال الناس: هذا سحر، فجُمِع السَّحَرة كلهم؛ أكبرُ السَّحَرة وأحذقهم بالسحر جُمِعُوا في وقت حدَّده موسى، حيث قال له فرعون: {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوَىً} [طه:58] أي: مكاناً مستوياً منبسطاً حتى يشاهد الناس ما يشاهدون من السحر وأعمال السَّحَرة، فقال لهم: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} [طه:59] ، ويوم الزينة يوم عيدهم، ويوم العيد -كما تعلمون- يكثر فيه تجمع الناس، ويهنئ بعضُهم بعضاً بالعيد، فاجتمعوا -كما وعدهم موسى- يوم الزينة، وحُشِر الناس، ومتى حُشروا؟ لم يُحشروا في الليل، أو في آخر النهار، أو أول النهار؟ بل حُشروا ضحى في رابعة النهار.
ولَمَّا حشروا ألقى السَّحَرة كل ما يكيدون من كيد وسحر، {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه:66-67] ؛ لأنه شاهد شيئاً عظيماً، فأوحى الله إليه أن يلقي العصا، فألقى العصا فإذا هي تلقف ما يأفكون، حينئذ علم السَّحَرة أن موسى صادق وأنه ليس بساحر؛ لأنه لو كان ساحراً ما غلبهم بسحره، فآمنوا بالله وكفروا بفرعون، و {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:121-122] ، وتحدوا فرعون.
وفي النهاية كانت نهاية فرعون أن أغرقه الله عز وجل بالماء الذي كان يفتخر به بالأمس، في قوله: {وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] ، والأنهار: المياه، فأهلكه الله بجنس ما كان يفتخر به.
أما ثمود: فإن الله تعالى قد أعطاهم قدرة وقوة، وأترفهم، حتى كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً فارهين، ويتخذون من السهول قصوراً، وكانت لهم قوة وصرامة، فأُهْلِكوا حين كَذَّبوا نبيهم صالح عليه السلام أُهْلِكوا برجفة وصيحة، صِيْحَ بِهِم، وارتجفت بهم الأرض، فهَلَكوا عن آخرهم، {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود:67]-والعياذ بالله-.
فالله عز وجل يقول: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} [البروج:17-18] ، وماذا كان من نبئهم؟ وفي هذا التنبيه فائدتان: الفائدة الأولى: تسليةُ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتقويتُه، وأن الذي نصر الرسل من قبله سوف ينصره، ولا شك أن هذا يقوِّي العزيمة، ويوجب أن يندفع الإنسان فيما كُلِّف به من تبليغ الرسالة.
والفائدة الثانية: تهديدُ قريش الذين كذبوا الرسول عليه الصلاة والسلام، وأنهم ليسوا أشد قوة من فرعون وثمود، ومع ذلك أهلكهم الله سبحانه وتعالى.(42/5)
تفسير قوله تعالى: (بل الذين كفروا في تكذيب)
قال تعالى: {بَلِ} [البروج:19] للإضراب، وهو للانتقال من موضوع إلى آخر.
{الَّذِينَ كَفَرُوا} [البروج:19] أي: بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
{فِي تَكْذِيبٍ} [البروج:19] (في) للظرفية، كأن هؤلاء منغمسون في التكذيب، والتكذيب محيط بهم من كل جانب، وهذا أبلغ من قوله: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} [الانشقاق:22] في هذا الموضع، وإلاَّ فإن قوله: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} [الانشقاق:22] في موضعه يكون أبلغ؛ لأن القرآن الكريم قد يأتي بالكلمتين مختلفتين في موضعين، وتكون كل واحدة في موضعها أبلغ من الأخرى، إذ أن القرآن مشتمل على غاية البلاغة.(42/6)
تفسير قوله تعالى: (والله من ورائهم محيط)
قال تعالى: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:20] أي: غالِبُهم ومحيطٌ بهم، ومهما فروا فإن الله تعالى مدركهم لا محالة، فهو محيط بهم علماً وقدرةً وسلطاناً، ولَنْ يُفْلِتوا من الله سبحانه وتعالى إذا أراد بهم سوءاً، كما قال تعالى: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد:11] .
ثم قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:21-22] وسنتكلم على هذا إن شاء الله في اللقاء القادم؛ لأنه مهم، ونذكر المناسبة بين ختمه لهذه السورة بهاتين الآيتين، وبين ابتدائها بالسماء ذات البروج، وما ذكر فيها من العبر والقصص.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يتلون كتاب الله حق تلاوته، إنه على كل شيء قدير.(42/7)
الأسئلة(42/8)
تفسير معنى إرادة الله
السؤال
فضيلة الشيخ! هل الإرادة تكون بمعنى المحبة في قوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16] ؟
الجواب
قال العلماء: إرادة الله سبحانه وتعالى تنقسم إلى قسمين: إرادة بمعنى: المحبة، وإرادة بمعنى: المشيئة.
القسم الأول: الإرادة بمعنى: المحبة: وهي لا تكون إلا فيما يحبه الله عز وجل، مثل قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:27] فيريد بمعنى: يحب، وليست بمعنى المشيئة؛ لأنها لو كانت بمعنى المشيئة لتاب الله على كل أحد؛ لكنها بمعنى المحبة، فهو يريد أن يتوب علينا، وهذا حثٌّ لنا على التوبة؛ لأن الله يحب التوابين، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لَلَّهُ أشَدُّ فرحاً بتوبة عبده من أحدكم بناقته كان عليها طعامه وشرابه، وكان في أرض فلاة -ليس حوله أحد- فأضلَّ الناقة، وضاعت فطلبها، فلم يجدها، فاضطجع تحت شجرة ينتظر الموت، فبينما هو كذلك إذا بخطام ناقته متعلقاً في الشجرة، فأخذ بخطامها، وقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح) ، فقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء:27] : أي يحب.
القسم الثاني: الإرادة بمعنى: المشيئة: وهي الإرادة الكونية بمعنى: المشيئة، فهذه لا تتعلق بما يحبه فقط، بل تكون فيما يحبه وفيما لا يحبه، وذلك بمعنى: المشيئة، ومنها هذه الآية: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16] أي: لِمَا يشاء، كما قال تعالى في آية أخرى: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] .
وبناءً على ذلك لو قال لنا قائل: هل أراد الله المعاصي للناس؟! بمعنى: هل المعاصي التي هي من أعمال الناس من الكفر والفسوق والفجور، هل هي مُرادة لله، وهل أرادها الله؟! إن قلتُ: لا، فقد أخطأتُ.
وإن قلتُ: نعم، فقد أخطأتُ.
إذاً: لا بد من التفصيل! نقول: أما بالإرادة الكونية فقد أرادها، ولا يَخْرُج في مُلْكه شيء عن إرادته.
وإن أردتَ الإرادةَ الشرعية فإن الله لَمْ يُرِدْ ذلك؛ لَمْ يُرِدْ من العباد أن يكفروا ويفسقوا ويفجروا، بل هو يريد منهم أن يَصْلُحوا، ولكن حكمته عز وجل جعلت الناس ينقسمون إلى مؤمن وكافر.(42/9)
معنى قوله صلى الله عليه وسلم لما توفي ابنه إبراهيم: (إن له في الجنة مرضعاً)
السؤال
ثبت في صحيح البخاري من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي إبراهيم: (إن له في الجنة مرضعاً) ، فما توجيه الحديث؟
الجواب
إبراهيم هو ابن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو من مارية القبطية، أي: أنه مِن ولد السِّرِّيَّة وليس مِن ولد زوجةٍ، توفي وهو في زمن الرضاع قبل أن يُفْطم له نحو ستة عشر شهراً، فأخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأن له مرضعاً في الجنة، يعني: أن هذا الطفل في الجنة، وأن له من يرضعه.
أما كيف ذلك؟ فلا ندري؛ لأن هذا من أمور الغيب؛ وأمور الغيب علينا أن نؤمن بمعناها، وأن نتوقف عن كيفيتها، ولا نسأل: كيف؟! نؤمن بأن إبراهيم بن محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم له مرضع في الجنة، أما كيف ذلك؟! فليس لنا أن نسأل؛ لأننا نعلم أن الصحابة الذين قال فيهم الرسول هذه المقالة أحرص منا على العلم، ومع ذلك ما قالوا: كيف يا رسول الله؟! كيف يكون له مرضع في الجنة وقد مات؟! فنحن نقول كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: إن إبراهيم له مرضع في الجنة؛ ولكن لا ندري كيف ذلك.
؟! السائل: بلا تأويل! الشيخ: أبداً، هكذا نقول.(42/10)
حكم المريض الذي لا يستطيع الصلاة قائماً أو قراءة القرآن من المصحف
السؤال
هناك إنسان مريض إذا ذهب إلى المسجد لا يستطيع الصلاة واقفاً خوفاً من الناس، فيجلس، وإذا قرأ القرآن تنقلب الحروف سوداء، لا يستطيع قراءتها، وإذا خرج وذهب إلى البيت صلَّى بصورة عادية، وقرأ القرآن بصورة عادية، فهل يحق له الصلاة في البيت؟ الشيخ: قولك: إذا كان في المسجد وقرأ القرآن كانت الحروف سوداء، تعني: أنه يقرأ في المصحف؟ السائل: نعم.
الشيخ: وهو يصلي.
السائل: داخل المسجد قبل الصلاة.
الشيخ: مسألة القراءة قبل الصلاة هذه سنة، أعني: إن تيسرت وإلا يذكر الله بقلبه ولسانه، أو يقرأ ما يحفظه من القرآن بدون مصحف، فهذه ليست مهمة بتلك الأهمية.
لكن إذا كان الإنسان في بيته يستطيع أن يصلي الفريضة قائماً وإذا ذهب إلى المسجد لا يستطيع القيام، إما لتعبه من المشي، أو لخوفه من الناس، أو لأي سبب من الأسباب فقد اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة: فمنهم من يقول: يصلي في بيته قائماً، ولا يجوز أن يذهب إلى المسجد ويصلي قاعداً، وعللوا هذا بأن القيام ركن لا تصح الصلاة إلا به، وصلاة الجماعة واجبة، تصح الصلاة بدونها.
ومن العلماء من يقول: بل يجب عليه الذهاب إلى المسجد؛ لأنه دعي إلى الصلاة، وصلاة الجماعة واجبة عليه، فليذهب إلى الصلاة، ثم إن استطاع أن يصلي قائماً فعل، وإن لم يستطع فإنه يصلي قاعداً، وهذا القول أصح؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ، وهذا الرجل دعي إلى الصلاة، وسمع النداء، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام للرجل: (أتسمع النداء؟ قال: نعم، قال: فأجب) فليجب، ثم إذا وصل إلى المسجد إن قدر على القيام قام، وإلا صلى جالساً.
وهذا القول هو الصحيح، والقيام ليس بركن في حقه الآن؛ لأنه ليس بقادر عليه.
السائل: هو يختلف عقلياً داخل الصلاة! الشيخ: إذا كان يختلف عقلياً بحيث لا يدري ما يقول فهذا معذر في ترك الجماعة، فليصلِّ في بيته.(42/11)
حكم النشيد الوطني
السؤال
في بعض المدارس وفي نهاية الطابور الصباحي في المدارس يقوم الطلاب بترديد ما يسمى بالنشيد الوطني، فما رأيكم في هذا؟ الشيخ: ما هو النشيد الوطني؟ السائل: والله لا أحفظه؛ لستُ أدري إذا كان أحد الإخوان يحفظه! لكنَّه هو قولُهم:
سارعي للمجدِ والعلياءِ مَجِدِّي لخالق السماءِ
الشيخ: سارعي! يخاطب مَن؟! امرأة؟! أم أنه يخاطب نفسه؟! السائل: وطنَه.
مداخلة: العَلَم.
الشيخ: إذا كان العَلَم فيقال: سارعْ، أليس العَلَم مذكَّراً؟! مداخلة: إذاً: الراية.
الشيخ: الراية! السائل:
سارعي للمجدِ والعلياءِ مَجِدِّي لخالق السماءِ
وارفعي الخفَّاقَ أخضرْ يحمل النور المسطَّرْ
ردِّدي: الله أكبر
يا موطني
عاش الملك للعَلَم والوطن
الشيخ: على كل حال أرى أن الذي يجب أن يُسأل عنها هم الذين بيدهم إلغاؤه أو إبقاؤه، وهذه قاعدة أحب أن يتنبَّه لها من يُستفتَى، يأتي مثلاً بعض الناس ممن هم تحت إدارة معينة، ويكون في هذه الإدارة بعض التجاوزات، وبعض المنكرات، فيأتي أحد الإخوة يسأل عنها، ربما يجيب المجيب بحسن نية، فيتخذ السائل من هذا الجواب سُلَّماً للمنازعة مع المسئولين والتشويش عليهم، ولا يحصل المقصود؛ لأن المسئولين إذا جاءهم الأمر من أسفل قد لا يخضعون ولا يستجيبون، ويزيدون في ما هم عليه؛ لكن يجب أن تُعالَج هذه الأمور من فوق، فيُنْظَر: أولاً: هل العَلَم وهو جماد يُخاطَب بمثل هذا الخطاب أم لا؟! هذه واحدة.
ثانياً: عندما يقال:
عاش الملك للعَلَم والوطن
ما معنى هذه الكلمة؟! عاش المليك، لا بأس، ندعو له بالعيش الحميد، والحياة الطيبة، وأن يسدد الله خُطاه، وأن يدله على الخير، هذا لا بأس، ندعو له بذلك.
لكن العبارة الثانية:..
للعَلَم والوطن ما معنى للعَلَم والوطن؟! هل المعنى: عاش للعَلَم، وعاش للوطن؟! أم أن المعنى: أنني أقول ذلك تعظيماً للعَلَم وللوطن؟! ما ندري! والحقيقة أن الذي ينبغي هو أن نوجه شبابنا إلى التحمُّس للدين، لا للوطن؛ لأن التحمُّس للوطن، أو للقومية، أو ما أشبه ذلك لا ينبغي مع وجود التحمُّس لدين الله عز وجل، ولهذا ترك الصحابة أوطانهم بعد الفتوحات الإسلامية، وذهبوا يسكنون الكوفة، والبصرة، والشام، ومصر؛ لأن وطن المسلم هو ما يستقيم به دينُه.
فكوننا نربي الأجيال على الدفاع عن الوطن وما أشبه ذلك دون أن نشعرهم بأننا نحمي وطننا وندافع عن وطننا من أجل ديننا؛ لأن وطننا -والحمد لله- وأعني بذلك المملكة العربية السعودية هو من خير أوطان المسلمين إقامة لدين الله، فإذا كان الإنسان يريد بالوطنية أي: أن وطننا هو أحسن الأوطان في الوقت الحاضر بالنسبة لإقامة الدين، فأنا أدافع عن وطني؛ لأنه الوطن الإسلامي الذي يطبق من أحكام الشريعة ما لا يطبقه غيره، وإن كان عندنا خلل كثير، فهذا لا بأس، أما مجرد الوطنية فهذه دعوة فاشلة.
وكما تعلمون أن الدعوة إلى القومية العربية إبَّان رؤساء سبقوا وهلكوا وهلكت دعوتُهم صارت لها ضجة كبيرة، ودعوة عظيمة؛ ولكن فشلت إلى أبعد الحدود، حتى العرب أنفسهم الآن ليسوا على قلب واحد؛ هم متفككون، ولا أَدَلَّ على ذلك من أن اليهود الذين هم عدوٌّ للجميع صار كل واحد منهم يصالحهم على انفراد، ولا يعبأ بالآخرين، وتفككت القومية العربية.
ثم إن الدعوة إلى القومية العربية أخرجت ملايين المسلمين من الانطواء تحت لواء الإسلام أو الأمة الإسلامية على الأصح، وأدخلت في القومية العربية مَن هم أعداءٌ للإسلام من نصارى وغيرهم.
لهذا أنا أحث الموجِّهين الذين يوجهون الشباب إلى أن يحمِّسوهم للدعوة إلى الإسلام، وتشجيعه، والأخذ بتعاليمه، حتى تعود الأمة الإسلامية إلى ما كانت عليه من قبل، فتعتز بإسلاميتها، وتعتز بما عندها من شريعة الله عز وجل، ولا يمكن أن يُعِزَّ اللهُ قوماً بشيء ثم يتركوا هذا الشيء ليعتزوا بغيره أبداً، كما يُرْوَى عن عمر رضي الله عنه أنه قال: [إننا قوم أعزنا الله بالإسلام] يعني: أننا إذا تركنا الإسلام ذهبت العزة، وهذه حقيقة، فالعرب العرباء الذين هم عربٌ أقحاح هم الذين كانوا في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام وفيما قبله من زمن الجاهلية، ومع ذلك ما انتصروا على غيرهم من الفرس والروم إلا بالإسلام.(42/12)
مسألة التورُّق
السؤال
ما هو التورُّق؟ وما حكمه؟
الجواب
التورُّق: هو أن يحتاج الإنسان إلى دراهم ليشتري سلعة، ولم يجد مَن يقرضه، فيذهب إلى شخص ويشتري منه سلعةً بثمن مؤجل أكثر من ثمنها حاضراً، ثم يأخذ السلعة ويبيعها، ويشتري بثمنها السلعة التي يريد.
وكذلك كأن يحتاج الإنسان إلى أرض ليبني عليها سكناً له، وليس معه دراهم، ولا يجد من يقرضه، ويأبى صاحب الأرض أن يبيعها بثمن مؤجل، فيذهب إلى إنسان آخر ويقول: بِعْ عليَّ سيارات بثمن مؤجل أكثر من الثمن الحاضر، ثم يأخذ السيارات، ويبيعها، ويشتري بثمنها هذه الأرض.
هذا هو التورُّق، بمعنى: أن يحتاج إلى دراهم، فيشتري ما يساوي ألفاً بألف ومائة إلى أجل، ليبيعه، ويأخذ دراهمه ليشتري بها حاجته.
هذا هو التورُّق.
والعلماء رحمهم الله مختلفون فيه: منهم من أجازه، ومنهم من قال: هو مكروه، ومنهم من قال بتحريمه، وشدد فيه شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.(42/13)
حكم صلاة الجمعة على من يبعد عن المسجد ولا يسمع النداء
السؤال
جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن الجمعة على مَن سمع النداء، ويقول الإمام أحمد: إن الجمعة تجب على مَن يبعد عن المسجد بفرسخ فما دون، فما هو الفرسخ؟ وهل مَن يبعُد عن المسجد بأكثر من فرسخ أو لا يسمع النداء لا تجب عليه الجمعة؟
الجواب
يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] ، والجمعة لا تقام إلا في مكان واحد من البلد، مضى على ذلك عَهْدُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ولم تُعَدَّد الجُمَع في بلد واحد إلا في القرن الثالث أي: مضى على الأمة الإسلامية مائتا سنة وهم يصلون في مكان واحد.
وإذا كان الإنسان في البلد الذي تقام فيه الجمعة وجبت عليه الجمعة، ولو كانت بينه وبينها فراسخ، ما دام في البلد، وسواء كان يسمع النداء أو لا يسمعه؛ لأن المسجد هذا لكل أهل البلد.
أما إذا كان خارج البلد -أي: في ضواحي البلد- فهذا هو الذي قاله الإمام أحمد: ليس بينه وبين المسجد أكثر من فرسخ.
والفرسخ: ثلاثة أميال.
وإنما قلتُ لك: إنه مضى على هذه الأمة الإسلامية مائتا سنة ولم تُعَدَّد الجُمَع في المساجد وذلك من أجل أن تنتبه لما يفعله الناس اليوم حيث يعَدِّدون الجُمَع، حتى أصبحت في بعض البلاد كأنها صلاة عادية؛ كأنها صلاة ظهر تقام في كل مسجد، وهذا ليس في بلادنا والحمد لله؛ لكن في البلاد الأخرى، وهذا خطأ، فإن من حكمة الشرع أن يجعل لمعتنقي الشرع يوماً في الأسبوع يجتمعون فيه، ويصدرون عن إمام واحد، وعن رأي واحد، فإذا تعدَّدت الجُمَع زالت هذه الحكمة.(42/14)
الجمع بين قوله تعالى: (إنهم كانوا قبل ذلك محسنين) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)
السؤال
فسر بعضُهم قولَ الله تعالى في سورة الذاريات: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات:16] قالوا: المحسنون: هم الذين أحسنوا إلى الله سبحانه وتعالى، وأحسنوا إلى الناس، فكيف نوفِّق بين قول الرسول صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمر: (المسلم مَن سَلِم المسلمون مِن لسانه ويده) وبين الآية؟ وهل يكون هذا التعريف الذي في الحديث هو للإسلام الخاص؟ الشيخ: لم أفهم وجه الإشكال! السائل: يا شيخ! الذي يحسن إلى العباد ويحسن إلى رب العباد هل يكون مطبقاً لهذا الحديث السابق، ويكون إسلامه إسلاماً خاصاً فقط؟ الشيخ: قوله تبارك وتعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات:16] الإحسان في هذه الآية: إما في عبادة الله، وإما في معاملة عباد الله.
فالإحسان في عبادة الله: بيَّنه الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) .
والإحسان في معاملة الخلق: فسَّره النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً بقوله: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) .
وقوله عليه الصلاة والسلام: (من أحب أن يزَحْزَح عن النار ويُدْخَل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتَى إليه) ، فهذا هو الإحسان في معاملة الخلق.
والإحسان في الآية الكريمة: ذَكَرَ الله تعالى صنفاً منه ونوعاً منه في قوله: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17-18] إلى آخر الآيات، فالمهم أن الإحسان يكون في عبادة الله، ويكون في معاملة عباد الله.
أما قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (المسلم مَن سَلِم المسلمون مِن لسانه ويده) فهذا هو الإحسان في معاملة الناس.(42/15)
حكم الإعداد للجهاد
السؤال
هل الإعداد للجهاد فرض عين أم فرض كفاية؟
الجواب
الإعداد للجهاد ومباشرة الجهاد فرض كفاية، فلو وجدنا مثلاً أمة تستعد للجهاد في سبيل الله، وعندها ما يكفي صار في حق الآخرين سنة وليس بواجب، وإذا لم يوجد أحدٌ أَثِمَ الجميع في عدم الإعداد وعدم الجهاد.
لكن الأمر -كما ترى- في الوقت الحاضر ليس هناك صِدْقٌ مع الله، لا بالنسبة للناس، ولا بالنسبة لحكام الناس.
فأما الناس فتجدُ عامتهم وأكثرَهم غافلين عن هذا إطلاقاً، وليس عندهم استعداد، فهم في غفلة؛ بل لم يحصل منهم حتى جهاد أنفسهم عن محارم الله.
وأما الحكام فكما ترى، هم أيضاً غافلون عن هذا نهائياً، ولذلك أصبحت الأمة الإسلامية الآن أمةً ممزقة متفرقة، وأصبح الكفار هم الذين لهم السيطرة على العالم، ولا يمكن أن يكون لنا سيطرة على العالم وعلى الكفار إلا بالرجوع إلى الدين الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم وتطبيقِه عقيدةً وقولاً وعملاً؛ في عبادة الله، وفي معاملة عباد الله، ولهذا لَمَّا قال أبو سفيان لـ هرقل ما يعلمه من صفات الرسول عليه الصلاة والسلام ومعاملته، قال له هرقل: [إن كان ما تقولُه حقاً فسيملك ما تحت قدمي هاتين] .
فنحن الآن في حال يُرْثَى لها في الواقع، نسأل الله تعالى أن يعيد للأمة الإسلامية مجدها.
السائل: هل للإنسان إذا توفرت له الفرصة للإعداد، وأعد نفسه للجهاد بالسلاح، هل يصير الجهاد في حقه فرض عين؟ الشيخ: هو فرض كفاية؛ لا يكون الجهاد فرض عين إلا في أحوالٍ معينة عيَّنها العلماء: الأولى: إذا حضر الصف: لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:15-16] ، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن التولي يوم الزحف من الموبقات.
الثانية: إذا حاصر بلدَه العدو: فلا بد أن يدافع لفك الحصار عن بلده، وفي هذه الحال قال العلماء: إنه يكون فرض عين؛ لأن هذا كتقابل الصفَّين.
الثالثة: إذا استنفره الإمام: فلو قال: يا فلان اخرج، صار فرض عين، ولا يجوز أن يقول: مُرْ غيري، بل يجب أن يطيع.
الرابعة: إذا دَعَت الحاجة إليه بعينه: مثل أن يكون عارفاً بنوع من السلاح، ولا يستخدمه إلا مثلُه، فهنا يتعين عليه أن يباشِر القتال بهذا السلاح الذي لا يعرفه إلا هو.
هذه الأحوال الأربع هي التي ذكر العلماء أن الجهاد يكون فيها فرض عين، وما عدا ذلك فإنه فرض كفاية.
ثم إن كونه فرض كفاية أو فرض عين لا بد لها من شروط، أهمها: القدرة، فإن لم يكن عند الإنسان قدرة فإنه لا يُلْقِي بنفسه إلى التهلكة، قال الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] .(42/16)
كيفية الإفتاء في القضايا الخاصة
السؤال
لو أن إنساناً طلق زوجته فقال لها: أنت طالقٌ طالقٌ طالقٌ طالق، أربع مرات، ثم خرج من المجلس الذي كان فيه هو وزوجته، فلحقه أخو الزوجة فقال: أنت طلقتها؟ قال: نعم، هي طالقٌ طالق، مرتين، ثم رجع بعد مدة وقال: أريد زوجتي، وقال: إني كنتُ غضباناً، فأريد إعادة زوجتي، فما الحكم يا شيخ؟
الجواب
هذه قضية معينة ولا نفتي فيها بفتوى عامة؛ لكن نقول: مُرْ هذا الرجل الذي حصل منه هذا الكلام أن يتصل بنا أو بغيرنا من أهل العلم، ويسأل هو بنفسه، وإن كانت المسألة وقَعَتْ منك أنت فبعدما ينتهي المجلس أخبرك بالجواب -إن شاء الله-.(42/17)
الحكمة من تشابه الآيات في القرآن الكريم
السؤال
يا شيخ! ما الحكمة من تشابه الآيات في القرآن الكريم؟ الشيخ: من أي ناحية؟ من ناحية المعنى أم من ناحية اللفظ؟ السائل: من ناحية اللفظ!
الجواب
الحكمة من تشابه الآيات في القرآن الكريم من ناحية اللفظ هو: تكرار ما تفيد هذه الآيات من المعاني على النفوس، من أجل أن يهتم بها الإنسان، ولهذا تجد بعض السور تتكرر فيها الآية الواحدة عدة مرات، مثلاً: في سورة الرحمن كُرِّر قولُه تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] عدة مرات، أكثر من ثلاثين مرة، وفي سورة المرسلات كُرِّر قولُه تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:15] ، وذلك من أجل الاهتمام والعناية بهذا الأمر.
نسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق لما يحبُّ ويرضى، وأن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، والسلام عليكم.(42/18)
لقاء الباب المفتوح [43]
ضمن درس اللقاء فسر الشيخ رحمه الله آخر جزء في سورة البروج، وذكر أن الكفر يصدق على كل من كفر بالمصطفى صلى الله عليه وسلم، ثم تحدث عن اللوح المحفوظ وأنواع الكتابة، وأشار إلى أن التمسك بالكتاب والسنة مصدر عزنا ومجدنا، وأجاب ضمن أسئلته عن سؤال يتعلق باقتناء الدشوش، وآخر عن إطلاق كلمة (مسيحيين) على النصارى.(43/1)
تفسير آيات من سورة البروج
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو اللقاء الثاني في هذا الشهر.
شهر جمادى الثانية عام (1414هـ) والذي يتم في كل خميس من كل أسبوع.
وقد حصل بهذا اللقاء -ولله الحمد- خير كثير؛ حيث انتفع الناس به، مِن الحاضرين، ومِن الذين يستمعونه عبر الشريط وغيره، ولا شك أن هذا من نعمة الله سبحانه وتعالى على عباده في هذا الزمن الذي ضعفت فيه الهمم، وقلَّ فيه الطالبون للعلم؛ لكن جاء الله تعالى بهذه الوسائل العظيمة الكثيرة السهلة، فيستطيع الإنسان أن ينتفع بالعلم وهو يمشي في سيارته، أو وهو يأكل؛ يتغدى ويتعشى، أو وهو يشرب القهوة، أو في أي حال.
ولقاؤنا هذا اليوم يشتمل على تفسير بقية سورة البروج {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج:1] ، وعلى ما يرد من أسئلة نجيب عنها بتوفيق الله سبحانه وتعالى.(43/2)
تفسير قوله تعالى: (بل الذين كفروا في تكذيب)
انتهينا إلى قول الله تبارك وتعالى في سورة البروج: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:19-20] .
قوله: (الَّذِينَ كَفَرُوا) يشمل كل من كفر بالله ورسوله، سواء كان من المشركين، أو من اليهود، أو من النصارى، أو من غيرهم، وذلك لأن اليهود والنصارى الآن وبعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ليسوا على دين، ولا تنفعهم أديانهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، فمن لم يؤمن به فليس على شيء من دينه؛ بل إنه سبق لنا أن مَن لم يؤمن برسول واحد من الرسل فهو كافر بجميع الرسل، فمثلاً: مَن لم يؤمن بنوح أنه رسول، ولو آمن بغيره من الأنبياء فإنه مكذب لجميع الأنبياء، والدليل على هذا قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105] فبين الله أن هؤلاء كذبوا جميع الرسل مع أنهم لم يكذبوا إلا رسولاً واحداً؛ إذْ أنه ليس قبل نوح رسول.
كذلك الذي كذب بمحمد صلى الله عليه وسلم فهو مكذِّب لغيره من الرسل.
فإذا ادَّعت اليهود أنهم على دين، وأنهم يتبعون التوراة التي جاء بها موسى، نقول لهم: أنتم كافرون بِموسى، كافرون بالتوراة.
وإذا ادَّعت النصارى -الذين يُسَمُّون أنفسهم اليوم بالمسيحيين- أنهم مؤمنون بعيسى، قلنا لهم: كذبتم، أنتم كافرون بعيسى؛ لأنكم كافرون بمحمد عليه الصلاة والسلام.
والعجب أن هؤلاء اليهود والنصارى يكفرون بمحمد عليه الصلاة والسلام مع أنهم {يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157] و {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] أبناءهم؛ لكن العناد والكبرياء والحسد مَنَعَهم أن يؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109] .
فالحاصل أن قوله تعالى: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) يشمل كل من كفر بمحمد حتى من اليهود والنصارى، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي من هذه الأمة -أي: أمة الدعوة- يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بما جئتُ به إلا كان من أصحاب النار) .
كل الكفار {فِي تَكْذِيبٍ} [البروج:19] ، وقال: (فِي تَكْذِيبٍ) فجعل التكذيب كالظرف لهم، أي: أنه محيط بهم من كل جانب -والعياذ بالله-.(43/3)
تفسير قوله تعالى: (والله من ورائهم محيط)
قال تعالى: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:20] أي: أن الله تعالى محيط بهم من كل جانب، لا يشذُّون عنه، لا عن علمه، ولا سلطانه، ولا عقابه؛ ولكنه عز وجل قد يُمْلِي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِته.(43/4)
تفسير قوله تعالى: (بل هو قرآن مجيد)
قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:21-22] .
(بَلْ هُوَ) أي: ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام.
(قُرْآنٌ مَجِيدٌ) أي: ذو عَظَمة ومجد، ووَصْفُ القرآن بأنه مجيد لا يعني أن المجد وصفٌ للقرآن نفسِه فقط، بل هو وصف للقرآن ولِمَن تحمَّل هذا القرآن فحمله، وقام بواجبه مِن تلاوته حق تلاوته، فإنه سيكون له المجد والعزة والرفعة.
وقوله تعالى: {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:22] يعني بذلك: اللوح المحفوظ عند الله عز وجل الذي هو أم الكتاب، كما قال الله تبارك وتعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] ، هذا اللوح لو سألنا سائل: من أي مادة هو؟ نقول: الله أعلم! فلو قال: هل هو من خشب؟ أو من حديد؟ أو من زجاج؟ أو من ذهب؟ أو من فضة؟ لقلنا: لا ندري.
هو لوح كتب الله فيه مقادير كل شيء، ومن جملة ما كَتَبَ فيه: أن هذا القرآن سينزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فهو في لوح محفوظ.
قال العلماء: محفوظ: لا يناله أحد، محفوظٌ عن التبديل والتغيير، والتبديل والتغيير إنما يكون في الكتب الأخرى؛ لأن الكتابة من الله عز وجل أنواع، وأرجو أن تنتبهوا لهذا: النوع الأول: الكتابة في اللوح المحفوظ: وهذه الكتابة لا تُبَدَّل ولا تُغَيَّر، ولهذا سماه الله لوحاً محفوظاً، لا يمكن أن يُبَدَّل أو يُغَيَّر ما فيه، لأنه هو النهائي.
النوع الثاني: الكتابة على بني آدم وهم في بطون أمهاتهم:- لأن الإنسان في بطن أمه إذا تم له أربعة أشهر بعث الله إليه ملكاً موكَّلاً بالأرحام، فينفخ فيه الروح -بإذن الله-؛ لأن الجسد عبارة عن قطعة من لحم، إذا نفخت فيه الروح صار إنساناً، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقِه، وأجَلِه، وعملِه، وشقيٍّ أو سعيد.
النوع الثالث: الكتابة الحولية كل سنة:- وهي الكتابة التي تكون في ليلة القدر، فإن الله سبحانه وتعالى يقدر في هذه الليلة ما يكون في تلك السنة، قال الله تبارك وتعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4] ، فيكتب في هذه الليلة ما يكون في تلك السنة.
النوع الرابع: كتابة الصحف التي في أيدي الملائكة:- وهذه الكتابة تكون بعد العمل.
والكتابات الثلاث السابقة كلها تكون قبل العمل، لكن الكتابة الأخيرة هذه تكون بعد العمل، يُكتَب على الإنسان ما يعمل من قول بلسانه، أو فعل بجوارحه، أو اعتقاد بقلبه، فإن الملائكة الموكلين بحفظ بني آدم -أي: بحفظ أعمالهم- يكتبون، قال الله تعالى: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:9-12] .
فهذه الكتابة الأخيرة تختلف عن الكتابات الثلاث السابقة؛ لأنها كتابةُ ما بعد العمل حتى يُكتَب على الإنسان ما عمل، فإذا كان يوم القيامة فإنه يُعطَى هذا الكتاب، كما قال الله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:13-14] يعني: تُعطَى الكتاب، ويقال: أنت اقرأ، وحاسب نفسك، قال بعض السلف: لقد أنصفَك مَن جعلك حسيباً على نفسك.
وهذا صحيح، أيُّ إنصاف أبلغ من أن يقال لشخص: تفضَّل، هذا ما عملت، حاسِب نفسك! أليس هذا هو الإنصاف؟! أكبر إنصاف هو هذا.
فيوم القيامة تعطى هذا الكتاب منشوراً مفتوحاً أمامك ليس مغلقاً، تقرأ ويتبين لك أنك عملت في يوم كذا، في مكان كذا: كذا وكذا، فهو شيء محفوظ لا يتغير، وإذا أنكرتَ فهناك مَن يشهد عليك، {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ} [النور:24] يقول اللسان: نطقتُ بكذا، {وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24] تقول اليد: بطشتُ، وتقول الرجل: مشيتُ، بل يقول الجلد أيضاً، فالجلود تشهد بما لَمِسَت، {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:21] .
المهم الآن أن اللوح المحفوظ هو هذا اللوح الذي كتب الله فيه مقادير كل شيء، وهو محفوظ من التغيير، محفوظ من أن يناله أحد، والله سبحانه وتعالى يعلم ما كَتَب فيه، وقلنا: إنه محفوظ لأنه لا يتغير، وما بأيدي الملائكة يتغير، وقلنا: إن الكتابات أربعة: الأولى: كتابة اللوح المحفوظ.
والثانية: كتابة الأجنة.
والثالثة: الكتابة الحولية، تكون في ليلة القدر.
والرابعة: كتابة الأعمال بعد وقوعها، وتكون هذه بأيدي الملائكة، عن اليمين واحد من الملائكة، وعن الشمال واحد، يسجلان على الإنسان كلَّ ما يقول، نحن الآن نسجل في شريط في المسجل، فلا يفوت شيء من كلامنا، حتى النَّفَس يُدْرَك بهذا الشريط.
فالملائكة أيضاً يكتبون كل شيء: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] وقوله: {مِنْ قَوْلٍ} [ق:18] يقول علماء البلاغة عنها: إن النكرة في سياق النفي تفيد العموم، أيْ: أنَّ أيَّ قول تقوله فعندك رقيب عتيد حاضر لا يغيب عنك.
ويذكر أن الإمام أحمد رحمه الله كان مريضاً، وكان يئن في مرضه من شدة المرض، فدخل عليه أحد أصحابه، وقال: يا أبا عبد الله إن طاوساً -وهو رجل من التابعين معروف- يقول: إن الملائكة تكتُب على الإنسان حتى أنينه في مرضه، فأمسك -رحمه الله- عن الأنين.
فالأمر ليس بالأمر الهين.
نسأل الله تعالى أن يتولانا وإياكم بعفوه ومغفرته.
وإلى هنا ينتهي الكلام على هذه السورة العظيمة التي ابتدأها الله تعالى بالقسم بالسماء ذات البروج، وأنهاها بقوله: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:21-22] ، فمن تمسك بهذا القرآن العظيم فله المجد والعزة والكرامة والرفعة.
ولهذا ننصح أمتنا الإسلامية بادئين بأفراد شعوبها أن يتمسكوا بالقرآن العظيم، ونوجِّه الدعوة على وجهٍ أوكد إلى ولاة أمورها أن يتمسكوا بالقرآن العظيم، وألا يغرهم البهرج المزخرف الذي يَرِدُ من الأمم الكافرة التي تضع القوانين المخالفة للشريعة، المخالفة للعدل، المخالفة لإصلاح الخلق، أن يضعوا هذه القوانين موضع التنفيذ، ثم ينبذوا كتاب الله وسنة رسوله وراء ظهورهم، فإن هذا والله سبب التأخر، ولا أظن أحداً يتصور الآن أن أمة بهذا العدد الهائل تكون متأخرة هذا التأخر؛ وكأنها إمارة في قرية بالنسبة للدولة الكافرة؛ لكن سبب ذلك -لا شك- معلوم، وهو: أننا تركنا ما به عزتنا وكرامتنا وهو التمسك بهذا القرآن العظيم، وذهبنا نلهث وراء أنظمة بائدة، فاسدة، مخالفة للعدل، مبنية على الظلم والجور.
فنحن نناشد ولاة أمورنا، وأقصد بولاة أمورنا: ولاة أمور المسلمين جميعاً؛ لأننا أمة واحدة، وإن تفرقت بنا البلدان، واختلفت مِنَّا الألسن نناشدهم أن يتقوا الله عز وجل، وأن يرجعوا رجوعاً حقيقياً إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى يستتب لهم الأمن والاستقرار، وتحصل لهم العزة والمجد والرفعة، وتطيعهم شعوبهم، ولا يكون في قلوب شعوبهم عليهم شيء.
وذلك لأن الإنسان إذا أصلح ما بينه وبين ربه أصلح الله ما بينه وبين الناس، فإذا كان ولاة الأمور يريدون أن تُذْعِن لهم الشعوب وأن يطيعوا الله فيهم، فليطيعوا الله أولاً حتى تطيعهم أممهم، وإلا فليس من المعقول أن يعصوا الملك الأكبر، وهو الله عز وجل، ثم يريدون أن تطيعهم شعوبهم، هذا بعيد، بل كلما بعُد القلب عن الله بَعُد الناس عن صاحبهم، نسأل الله العافية، وكلما قَرُب من الله قَرُب الناس منه.
فنسأل الله أن يعيد لهذه الأمة الإسلامية مجدها وكرامتها، وأن يذل أعداء المسلمين في كل مكان، ونسأل الله تعالى أن ينصر إخواننا المسلمين في البوسنة والهرسك، وأن يعينهم على ما أصابهم من هؤلاء النصارى الذين لا يريدون أن تقوم للمسلمين قائمة في أي مكان، ونسأل الله أن يذل النصارى واليهود، وأن يكبتهم، وأن يردهم على أعقابهم خائبين، وكذلك كل عدو للمسلمين، إنه على كل شيء قدير.(43/5)
الأسئلة(43/6)
مفاسد الاستراحات
السؤال
يا شيخ! هناك شباب يجلسون في حوش، وبينهم وبين المسجد تقريباً كيلو أو كيلو إلا ربع، ويصلون بنفس الحوش، ويقولون: هل تجب علينا صلاة الجماعة؟! مع العلم أن بعضهم يخرج ويصلي مع الجماعة، فيصيروا متفرقين، بعضهم يصلي في الحوش، وبعضهم يصلي خارج الحوش! ثم بماذا تنصحهم على ذَهاب أوقات كثيرة عليهم من بعد العصر حتى الحادية عشرة أو الثانية عشرة ليلاً وهم جالسون جلوساً لا ثمرة فيه ولا فائدة؟
الجواب
هذه الظاهرة التي ذكرها السائل قد كان منها أن فتح الناس ما يسمى بالاستراحات، فعمروا أحواشاً وفيها شيءٌ من الأشجار أو النباتات، وصاروا يخرجون إليها من بعد صلاة العصر إلى منتصف الليل، أو قريباً من منتصف الليل، والغالب أنهم لا يحصلون على فائدة إلا مجرد ضياع الوقت، وأُنْسُ بعضِهم ببعض، وما أشبه ذلك، وقد تشتمل هذه الجلسات على شيء محرم، فقد سمعنا أن في بعض هذه الاستراحات دشوشاً، تلك التي لا يشك أحدٌ اليوم في أنها تدمر الأخلاق، وتدمر الأديان؛ لأنها تلتقط ما يُشاهَد على شاشة التلفاز بواسطتها مِمَّا يُبَث في البلاد الفاسدة من بلاد الكفر وغيرها.
فيكون عندهم هذا الدش، ثم يبقون يشاهدون ما يشاهدون فيه من المفاسد والمنكرات، فيزدادون بُعداً من الله -والعياذ بالله-وتسهل عليهم الأمور المنكَرة؛ لأنهم يمارسونها ويشاهدونها، ومن المعلوم أن من اعتاد على شيء هان عليه، ويقال في المثل السائر: (مع كثرة الإمساس يقل الإحساس) .
فهذه الاستراحات يحصل فيها مثل هذه المفاسد، وتحصل فيها مفسدة أخرى أيضاً وهي: ترك الصلاة مع الجماعة، فتجد هذا المكان قريباً من المسجد، ومع ذلك لا يصلون في المسجد، وإنما يصلون في مكانهم، مع أنهم يمكن أن يذهبوا إلى المسجد بكل راحة، ويرجعوا إلى المكان بكل راحة، فهم ليسوا كالذين هم في دائرة عمل، لو خرجوا إلى المسجد لتفرقوا ولتوزعوا ولتعطل العمل، أو في المدرسة لو خرج الطلاب إلى المسجد لانتثروا في المسجد، ولأساءوا إلى أهل المسجد، أو لتفرقوا إلى أهليهم ولم يصلوا، بمعنى: أننا لو عذرنا أصحاب المكاتب وأصحاب المدارس إذا صلوا في مكاتبهم ومدارسهم فإننا لن نعذر هؤلاء؛ لأن هؤلاء عدد محصور يمكن أن يذهبوا جميعاً ويرجعوا جميعاً، فلا عذر لهم -فيما نرى- في ترك الصلاة في المساجد، حتى لو صلوا جماعة؛ فإن ذلك لا يكفي عن حضور المسجد، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لقد هممتُ أن آمر بالصلاة فتُقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرِّق عليهم بيوتهم بالنار) .
قال: (إلى قوم) ، مع أن هؤلاء القوم ربما يقيمون الجماعة في مكانهم؛ لكن أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحضروا إلى المسجد.
وقال لرجل حين استأذنه في ترك الحضور: (هل تسمع النداء؟ قال: نعم، قال: فأجب!) .
فلو تبلغهم -جزاك الله خيراً- عني بأنه يجب عليهم أن يصلوا في المسجد ثم يرجعوا إلى مكانهم.
وكذلك أوجه النصيحة إلى من وضع الدش في هذه الاستراحات، وأقول له: اتقِ الله في نفسك، لا تكن سبباً لدمار الأخلاق، وفساد الأديان بما يُشاهَد في هذه الدشوش.
كما أنِّي -بالمناسبة- أحذر صاحب كل بيت من أن يضع في بيته مثل هذا الدش؛ لأنه سوف يُخَلِّفه بعد موته.
وإنِّي أسأل واضعَ الدش في بيته وهو يرى هذه المنكرات التي تُبَثُّ منه: هل هو بهذا ناصحٌ لبيته وأهله أم أنه غاشٌّ لهم؟! سيكون الجواب ولا بد: أنه غاش، إلا أن يكون ممن طبع الله على قلبه فلا يحس، فهذا شيء آخر؛ لكن سيقول: إنه غاش، فأقول له: اذكر قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (ما من عبد استرعاه الله على رعية، فيموت حين يموت وهو غاش لها إلا حرم الله عليه الجنة) .
فأنت الآن إذا مت وقد وضعت لأهلك هذا الدش الذي لا يَشُكُّ أحدٌ أنه غِشٌّ في البيت فإن البيت فيه نساء وفيه سفهاء من الصغار، لا يتحاشون الشيء المحرم، بمعنى أنه لو فُرِضَ أن إنساناً عاقلاً عنده هذا الدش، وليس في البيت أحد، ويقول: أنا أريد أن أطالع ما فيه مصلحة لي، أو أطالع أخبار الناس؛ ولكن إذا جاءت الأمور المنكَرة أقفلتُه، لو قال أحدٌ هكذا، لقلنا: ربما يكون لا بأس به، مع أنه على خطر أنَّ نفسَه تستدرجه فيقع في الهلاك، وعلى خطر من أنه إذا بقي بعد موته فسيرثه من لا يستخدمه إلا استخداماً سيئاً، ثم هو لا يدري متى يموت! لذلك نصيحتي لإخواني أن يبتعدوا عن هذا الدش، وأن يفروا منه فرارهم من الأسد، وإلا فكيف يليق بالإنسان أن يأتي بشيء يدمر أخلاقه وأخلاق أهله؟! نسأل الله العافية، اللهم عافنا.
السائل: فكيف يستفيد من وقته؟ الشيخ: أما قضاء الوقت، فتعرفون أن الوقت طويل من صلاة العصر إلى قريبٍ من منتصف الليل، لا سيما في أيام الصيف، فإن وقت العصر يطول، فهم لو كان عندهم مثلاً مسبح يقضون الوقت في السباحة، أو عندهم مثلاً أهداف يترامون عليها ولو بالبندقية الصغيرة التي تسمى (أم الحبة) ، وكذلك لو قضوا وقتهم في سباق على الأقدام، فكل هذا عمل طيب مريح للنفس، ثم يقرءون ما تيسر من كتب العلم النافعة، أو كتب القصص النافعة، وأهم من ذلك كله أيضاً أن يقرءوا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وسِيَر خلفائه الراشدين.(43/7)
زيادة (أقصى) في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد
السؤال
يا شيخنا! هناك بعض النُّسَخ من كتاب بلوغ المرام في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه (أن أعرابياً جاء إلى المسجد فبال في طائفة من المسجد، فزجره الناس، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما (أقصى) .
) ، هذه الكلمة الأخيرة لا توجد في الصحيحين!
الجواب
إذا كانت لا توجد في الصحيحين وليس لها معنى فمعنى ذلك أن اللقطة فيها غلط مطبعي، فالصواب: (فلما قضى بوله.
) أي: انتهى منه.
فإن كانت النسخة عندك فأرجعها إلى صاحبها.
السائل: نتركها مرة أخرى.
الشيخ: لا، ليس في المرة الأخرى.
السائل: أنا أظن أنها في رواية أخرى.
الشيخ: ليست في رواية أخرى، وليس لها معنى.(43/8)
حكم تأجير المحلات أو غيرها للبنك أو لمن يقيم بها المحرم
السؤال
كنتُ قد أفتيت عن البنك الذي يستأجر المحل الذي لا يوجد من يستأجره غيره، وقلتَ: إن ذلك حلال، وأنا عندي شك، ولا أدري هل الفتوى صحيحة أو غير صحيحة؟!
الجواب
والله يا أخي أنا أنصحك أنه كلَّما مرَّ عليك شيء يُنسب إليَّ أو إلى غيري من العلماء وأنت تستنكره فكذِّبه، وقل لمن قال لك: أطالبك بصحة نقلك؛ لأنه يُنقل عنا كثيراً خطأ وكذب، ويُنقل عن غيرنا أيضاً.
أما بالنسبة للسؤال فأنا ما قلتُ هذا أبداً.
وأقول: إنه لا يجوز لإنسان أن يؤجر دكانه أو بيته على البنك حتى لو تعطل مائة سنة، لأن الله قال في كتابه العظيم: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] ، وتأجير المحلات للبنوك تعاونٌ على الإثم والعدوان، وإذا كان قد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه (لعن آكلَ الربا، ومُوْكِلَه، وشاهدَيه، وكاتبَه) مع أن الشاهدَين والكاتب ليس لهم مصلحة إلا تثبيت الربا، فقد لعن الجميع وقال: (هم سواء) .
فخذ مني الآن: أنه لا يجوز أن تؤجَّر الأماكن على البنك؛ لأنه إنما وُضِع للربا، وهذا أصل وضعه، صحيحٌ أنه قد يكون له معاملات أخرى مباحة؛ لكن هو أصلاً مؤسَّسٌ للربا.
فبلِّغ الذي نقل عني هذا وقل: إني سألتُ فلاناً، فقال: هذا ليس بصحيح، ولا يجوز أن تؤجر البيوت أو الدكاكين لهذه البنوك حتى وإن تعطَّل مائة سنة.
السائل: حسناً -يا شيخ-! إذا أجَّرنا للبنك ففلوس البنك تكون حراماً، ولكن أي بنك من البنوك يا شيخ؟! الشيخ: البنوك الربوية معروفة.
السائل: وإذا أجَّرنا لحلاقين ودكاكين شرب الدخان؟! الشيخ: كل شيء تؤجره لمحرم فأنت شريك صاحبه في الإثم، وهو حرام عليك، حتى تأجير المكان للحلاق الذي يحلق اللحية حرام؛ لكن لو أجرته لحلاق على أنه يحلق الرءوس، ثم رأيته يحلق اللحى، فهذا الإثم عليه هو؛ لأن هناك فرقاً بين من استأجر الشيء ليعصي الله فيه وبين من استأجره فعصى الله فيه.
أفهمتم؟! هناك فرق بين من استأجر الشيء ليعصي الله فيه وبين من استأجره فعصى الله فيه.
فمثلاً: لو استأجر هذا الإنسان دكاناً للربا، فهذا حرام، وكذلك لو استأجره ليبيع فيه دخاناً، وكان يعرف المؤجر أنه استأجره ليبيع الدخان فيه، فهذا حرام أيضاًَ.
لكن لو استأجره لغرض مباح، ثم باع الدخان فيه، أو رابَى فيه، فليس عليه منه شيء.
السائل: وإذا اشترط في العقد؟ الشيخ: اشترط ماذا؟ السائل: أن لا يبيع فيه دخاناً أو ما شابهه؟ الشيخ: هذا طَيِّبٌ.
السائل: وهل له فسخ العقد؟ الشيخ: نعم.
له فسخه، فإذا اشترط عليه إذا أجَّره الدكان للحلاقة أن لا يحلق في لحيةً، ثم حلق، فله الفسخ.(43/9)
ضوابط إطلاق الكفر والشرك
السؤال
هل مَن وقع في الشرك الأكبر؛ مثل: مَن استغاث بغير الله، أو نَذَر نَذْراً لغير الله، هل يقال: إنه كافر، أم يقال: لا بد من قيام الحجة عليه؟
الجواب
كلُّ إنسان يقع في شرك ومثله يجهله فإنه لا يُحكم بشركه حتى تقوم عليه الحجة، كما أنَّ مَن وقع في معصية دون الشرك فإنه لا يُعاقب عليها إذا كان مثله يجهلها؛ فلو أن رجلاً زَنا وهو قريب عهد بالإسلام ولا يعلم أن الزنا حرام فإننا لا نقيم عليه الحد؛ لأنه جاهل، وكذلك الذي يستغيث بغير الله أو يدعو غير الله وهو جاهل ونعلم أن مثله يجهله فإنه لا يُحكم بكفره؛ لأن الآياتِ الصريحةَ كثيرة في أنه لا يُحكم بالكفر إلا بعد العلم، يقول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص:59] ولا ظُلْم إلا بالعناد والمُشاقَّة.
ويقول تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] ، فبيَّن أنه لا حجة للخلق على الله إلا إذا أرسل الرسول، وأعلمهم بأن هذا حرام وهذا شرك.
وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15] .
وقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:115] .
وقال الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة:115] .
والآيات في هذا المعنى كثيرة.
والإنسان لا يعرف ما حرَّم الله سبحانه وتعالى إلا بعلم مِن قِبَل الرسل.
فإذا كان هذا الإنسان مسلماً يصلي، ويصوم، ويزكي، ويحج، ويستغيث بغير الله وهو لا يدري أنه حرام، فهو مسلم؛ لكن بشرط أن يكون مثله يجهله، بحيث يكون حديث عهد بالإسلام، أو في بلادٍ انتشر فيها هذا الشيء، وصار عندهم كالمباح، وليس عندهم علماء يبينون لهم.
أما لو كان في بلدٍ التوحيدُ فيها ثابتٌ مطمئنٌ فإن ادعاءهَ الجهلَ قد يكون كاذباً فيه.(43/10)
مشيئة الله في التوبة على بعض العصاة دون البعض الآخر
السؤال
فضيلة الشيخ! يوجد سؤال يتردد دائماً في ذهني وهو: أنَّا نرى اثنين مِن الناس يكونان في معصية واحدة يفعلانها جميعاً، ثم فجأة يموت أحدُهما، والآخر يبقى، فيتوب الآخر، رغم أن هذا الإنسان الذي ماتَ قد ماتَ على المعصية، ونحن لا نشك في عدل الله عز وجل؛ ولكن من أجل التوضيح والمعرفة والعلم، ودحر شبهات الشيطان، فكيف يجوز في عدل الله عز وجل رغم أن الأعمار بيد الله عز وجل، كيف يجوز في عدله أن يمهل هذا حتى يتوب، وذاك لم يُمهل، بل توفاه الله عز وجل، فكانت هناك فرصة للثاني أن يتوب، والأول لم تكن له فرصة لكي يتوب، فكيف هذا؟!
الجواب
أسألك: هل أماته الله لينتقم منه؟! السائل: لا.
إنما هو أجله الذي قدَّره الله.
الشيخ: هو أجلٌ مقدَّر، وكون الله يمد للثاني العمر فهو فضلٌ من الله يؤتيه من يشاء، وأيضاً هذا الذي مات على معصية دون الشرك، هو تحت مشيئة الله عز وجل أيضاً، إن شاء غَفَر له بدون شيء، كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] .
ولا يخفاك الحديث الذي ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه ضرب مثلاً لأمته مع اليهود والنصارى برجل استأجر أُجَراءَ؛ جماعةً من الصبح إلى الظهر وأعطاهم أجرهم، وجماعةً من الظهر إلى العصر وأعطاهم أجرهم، وجماعةً من العصر إلى الغروب وأعطاهم مِثْلَي ما أعطى الأوَّلِين، أي: ضاعف لهم الأجر، فاحتج الأولون عليه: كيف تعطي هؤلاء مثلَينا أو مثلنا مرتين ونحن لا تعطينا مثلهم، قال: (هل أنا ظلمتكم شيئاً؟ قالوا: لا! قال: فهذا فضلي أوتيه من أشاء) ، بمعنى: أني استأجرتكم على عشرة عشرة، وأعطيتُ هؤلاء عشرين، ولا حق لكم عندي.
فالمهم أن المسألة ليس فيها إشكال أبداً، هذا مات بأجَلِه، والله عز وجل لم يُمِتْه لينتقم منه، وهو أيضاً تحت مشيئة الله إذا كان ذنبه دون الشرك.
أما هذا الذي مُدَّ له في الأجل أيضاً، فقد يتوب وقد لا يتوب، وربما يزداد إثماً على إثمه.(43/11)
حكم جمع المال لغرض معين فينفق في غيره
السؤال
هناك ما يعرف (ببطانية الشتاء) وتقوم بعض الجمعيات الخيرية بجمعها وتوزيعها على بعض المسلمين الذين يسكنون في المناطق الباردة، فتَجمع هذه الجمعيات ما يُعرف ببطانية الشتاء لتدفئة المسلم، فهل يمكن توسعة هذا النطاق؟! لأنه ما دام أن المقصود هو تدفئة المسلم، فإن بعض الأماكن يكون فيها الفقراء يحتاجون إلى ملابس شتوية مثلاً، أو يحتاجون إلى (بوتاجازات) أو ما شابهها للتدفئة، فيُشترى ذلك مِن الأموال التي جُمعت لشراء البطانيات؛ لأن المقصود واحد، وهو تدفئة المسلم؟
الجواب
الأَولى أن يكون التعبير لهذه الجمعية بعبارة: (معونة الشتاء) ، فإذا قيل: معونة الشتاء صار صالحاً للبطانيات، والثياب، والبوتاجازات، وغيرها، فالأحسن أن يُعَدَّل شعار الجمع لهؤلاء، فيقال: (معونة الشتاء) ، أو (وقاية الشتاء) مثلاً.
أما ما جُمِع لغرض معين فإنه لا يُصْرَف إلا في هذا الغرض المعين ما لم يتعطل، فمتى جمعنا بطانيةَ الشتاء لقرية من القرى، واستغنت بنصف المبلغ، وتحتاج إلى ثياب أو تدفئة، فهذه لا بأس بها، وأما إذا كان عاماًَ والناس محتاجون إلى بطانيات، فإنه لا يجوز صرفها في جهة أخرى.
السائل: ولكن بعض الناس يحتاجون إلى الملابس للتدفئة، ولا يحتاجون إلى البطانيات! الشيخ: نعم؛ لكن الشعار أو العنوان الذي جُمع به هو: البطانية، والناس محتاجون لها.
السائل: ولكن المعنى واحد إذا بدِّلت البطانيات بغيرها! الشيخ: لا يصلح أبداً.
إلا إذا كان مشهوراً بين الناس أن معنى بطانية الشتاء هو: معونة الشتاء، ولهذا يُعَدَّل الشعار من الآن، ويقال: معونة الشتاء، أو ما أشبه ذلك.(43/12)
العلة في تحريم الغناء والموسيقى
السؤال
سألني أجنبي سؤالاً في بداية إسلامه، حيث كان يسمع الأغاني ويحبها، فقال لي: لماذا حرم الإسلام الأغاني، رغم أن الموسيقى تريحني؟ فحاولتُ أن أشرح له فما استطعت! الشيخ: كلِّمه بلُغَتِه عن سؤالك هذا، واسأله: هل يوافق عليه أم لا؟ السائل: نعم، هو يقول: اكتفيتُ بجوابك في ذلك اليوم؛ لكنه يريد أن يقتنع.
الشيخ: دعه يسأل هو بلسانه من أجل أن يُسَجَّل.
السائل: هو يقول: لماذا الإسلام حرَّم الموسيقى؟
الجواب
حرم الإسلام الموسيقى؛ لأنها تشذ بالقلب، وتأخذ به، وتلهيه عن ذكر الله، والإنسان إنما خُلِق ليعبد الله عز وجل، فإذا تعلق قلبُه بهذه المعازف وهي الموسيقى صَدَّه عن ذكر الله عز وجل، ولذلك تجد المشغوفين بهذه الموسيقى تجده وهو يمشي يقول هكذا بيده، كأنه يضرب على الموسيقى؛ لأنها شغلت فكرَه وقلبَه، والإسلام يريد من أهله أن يكون اتجاههم دائماً إلى الله عز وجل.(43/13)
حكم تسمية النصارى بـ (المسيحيين)
السؤال
فضيلة الشيخ! أحسن الله إليكم! يَرِدُ على ألسنة بعض المسلمين كلمة (مسيحية) حتى أنهم لا يميزون بين كلمتَي نصراني ومسيحي، حتى في الإعلام الآن يقولون عن النصارى: مسيحيين، فبدل أن يقولوا: هذا نصراني، يقولون: هذا مسيحي، فنرجو التوضيح لكلمة المسيحية هذه، وهل صحيحٌ أنها تطلق على ما ينتهجه النصارى اليوم؟
الجواب
الذي نرى أن نسمي النصارى بالنصارى كما سماهم الله عز وجل وكما هو معروف في كتب العلماء السابقين، كانوا يسمونهم: اليهود والنصارى؛ لكن لما قويت الأمة النصرانية بتخاذل المسلمين سَمَّوا أنفسهم بالمسيحيين ليُضْفوا على ديانتهم الصبغة الشرعية ولو باللفظ، وإلا فأنا على يقين أن المسيح عيسى بن مريم رسول الله صلى الله عليه وسلم بريء منهم، وسيقول يوم القيامة إذا سأله الله: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116] سيقول: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ.
} [المائدة:116-117] إلى آخر الآية.
سيقول هذا في جانب التوحيد.
وإذا سئل عن الرسالة فسيقول: يا رب! إني قلت لهم: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6] ، فهو مقرر للرسالات قَبْلَه، وللرسالة بَعْدَه عليه الصلاة والسلام.
فأمر أمته بمضمون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ ولكن أمته كفََرَت ببشارته، وكفَرَت بما أتى به من التوحيد، فقالوا: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] .
وقالوا: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] .
وقالوا: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17] نسأل الله العافية.
الحاصل: أني أقول: إن المسيح عيسى بن مريم بريءٌ منهم، ومما هم عليه من الدين اليوم، وعيسى بن مريم يُلْزِمهم بمقتضى رسالته من الله أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ ليكونوا عباداً لله، قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64] .(43/14)
حكم الترحم على من مات وعنده خطأ عقدي
السؤال
فضيلة الشيخ! بالنسبة للعلماء الذين وقعوا في بعض الأخطاء في العقيدة؛ كالأسماء، والصفات، وغيرها، تمر علينا أسماؤهم في الجامعة حال الدراسة، فما حكم الترحُّم عليهم؟ الشيخ: مثل مَن؟ السائل: مثل: الزمخشري، والزركشي، وغيرهما.
السائل: الزمخشري، والزركشي.
الشيخ: الزركشي في ماذا؟ السائل: في باب الأسماء والصفات!
الجواب
على كل حال هناك أناس ينتسبون لطائفة معينة شعارها البدعة؛ كـ المعتزلة مثلاً، ومنهم الزمخشري، فـ الزمخشري مُعتزلي، ويصف المثْبِتِين للصفات بأنهم: حَشَوِية، مُجَسِّمة ويُضَلِّلهم فهو معتزلي، ولهذا يجب على مَن طالع كتابه الكشاف في تفسير القرآن أن يحترز من كلامه في باب الصفات؛ لكنه من حيث البلاغة والدلالات البلاغية اللغوية جيد، يُنْتَفع بكتابه كثيراً، إلا أنه خَطَرٌ على الإنسان الذي لا يعرف في باب الأسماء والصفات شيئاً.
لكن هناك علماء مشهودٌ لهم بالخير، لا ينتسبون إلى طائفة معينة مِن أهل البدع؛ لكن في كلامهم شيءٌ من كلام أهل البدع؛ مثل ابن حجر العسقلاني والنووي رحمهما الله فإن بعض السفهاء من الناس قدحوا فيهما قدحاً تاماً مطلقاً من كل وجه، حتى قيل لي: إن بعض الناس يقول: يجب أن يُحْرَقَ فتح الباري؛ لأن ابن حجر أشعري، وهذا غير صحيح.
فهذان الرجلان بالذات ما أعلم اليوم أن أحداً قدَّم للإسلام في باب أحاديث الرسول مثلما قدَّماه، ويدلك على أن الله سبحانه وتعالى بحوله وقوته -ولا أَتَأَلَّى على الله- قد قبلها، ما كان لمؤلفاتهما من القبول لدى الناس؛ لدى طلبة العلم، بل حتى عند العامة، فالآن كتاب رياض الصالحين يُقرأ في كل مجلس, ويقرأ في كل مسجد، وينتفع الناس به انتفاعاً عظيماً، وأتمنى أن يجعل الله لي كتاباً مثل هذا الكتاب، كلٌّ ينتفع به في بيته وفي مسجده.
فكيف يقال عن هذين: إنهما مبتِدعان ضالان، لا يجوز الترحُّم عليهما، ولا يجوز القراءة في كتبهما! ويجب إحراق فتح الباري، وشرح صحيح مسلم؟! سبحان الله! فإني أقول لهؤلاء بلسان الحال وبلسان المقال:
أَقِلُّوا عليهمُ لا أبا لأبيكمُ مِن اللومِ أو سدوا المكان الذي سدوا
من كان يستطيع أن يقدم للإسلام والمسلمين مثلما قدَّم هذان الرجلان، إلا أن يشاء الله.
فأنا أقول: غفر الله للنووي، ولـ ابن حجر العسقلاني، ولمن كان على شاكلتهما ممن نفع الله بهم الإسلام والمسلمين.
وأمِّنوا على ذلك.(43/15)
حكم صلاة كسوف القمر في النهار
السؤال
في يوم الإثنين القادم، الساعة السادسة والثلث صباحاً سيكسف القمر، هل يُصلَّى أم لا يُصلَّى؟
الجواب
ومن الذي سيشاهده الساعة السادسة؟! السائل: في جميع مناطق المملكة سيُشاهَد.
الشيخ: ما شاء الله! السائل: سيُشاهَد مكتملاً، أي: يكون مكتملاً في منتصف الساعة السادسة صباحاً.
الشيخ: لا، لا، هو ربما سيبدأ الساعة السادسة.
السائل: هو يبدأ الساعة السادسة.
الشيخ: لكنه لا يُشْرَع حتى يضيق، ثم إن العلماء قالوا: إذا كسف في النهار فإنه لا يُصلَّى؛ لأن سلطانه قد زال، والناس لا يتخوفون منه إذا كان في النهار؛ لأنه سواءً كَسَفَ أو لم يَكْسف لن يظهر لهم.(43/16)
ضابط العدل بين الأبناء ذكوراً وإناثاً
السؤال
نحن قادمون من الرياض، ووُدَّنا أن نلقي هذا السؤال: بالنسبة للعدل في العطايا بين الذكور والإناث، وكذلك الابن الذكر الذي يعمل مع والده في المحل أو المتجر، كيف تكون معاملته؟
الجواب
العدل -بارك الله فيك- بين الذكور والإناث يكون بما عدل الله به عز وجل: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء:11] ، فإذا أعطيتَ الذكر ريالين، فأعطِ الأنثى ريالاً.
لكن النفقة العدلُ فيها أن تعطي كل واحد ما يحتاج، فقد تحتاج الأنثى إلى خروص في أذُنَيها قيمتها مثلاً: (200) ريال، والذكر يحتاج إلى طاقية قيمتها مثلاً: (10) ريالات، إن كانت من الطاقيات الجيدة، وإلاَّ فهي -كما أظن- بريالين.
فعلى كل حال أعطِ هذا ما يحتاج وهذه ما تحتاج.
كما أنه لو احتاج أحدهما إلى الزواج زوِّجه، ولا تعطِ الآخرين مثله، إلا مَن بلغ حدَّ الزواج فزوِّجه.
هذه هي مسألة النفقة.
فالنفقة: العدل فيها أن تعطي كل واحد ما يحتاج.
وأما التبرع المحض فهو: أن تعطي الذكر مِثْلَي ما تعطي الأنثى.
أما من كان يشتغل مع أبيه في تجارته أو فلاحته فإن تبرع بذلك وأراد ثوابه من عند الله، فثواب الآخرة خير.
وإن قال: أنا أريد من الدنيا ما أريد، كما أن إخواني كل واحد منهم يشتغل لنفسه ويشتغل بماله، فهذا يجعل له والده إما أجرة شهرية، وإما نسبة من الأرباح؛ ولكن يَعُدُّه كأنه رجل أجنبي، وليس كأنه ولده، بل كأنه رجل أجنبي استأجره، فمثلاً: إذا كان مِثْلُه يُعطَي الأجنبي مرتبَ (2000) ريال، فليُعطِه (2000) ريال في الشهر، أو إذا كان مثلاً معه في فلاحته فليقُل له مثلاً: لك نصف الحاصل من المنتَج، أو ربعَه، أو ما أشبه ذلك، أو حسب ما يتفقان عليه، بشرط أن لا يحابيه.(43/17)
حكم الألعاب والموسيقى في الكمبيوتر
السؤال
نحن مَجموعة من الشباب جئنا لزيارتكم من الرياض حباً في الله، نسأل الله أن يتقبل منا، ومنكم.
فأثناء زياراتنا -الحقيقة- في الرياض نجد بعض الشباب مجتمعين على بعض الألعاب، هذه الألعاب فيها أجهزة، مثل الحاسب الآلي الذي يسمى: الكمبيوتر، فيكون في هذا الحاسب بعض المعلومات التي تفيدهم، وبعضها تكون ألعاباً فقط، فنجدهم في زياراتنا يجلسون على هذه الأشياء، وأثناء الألعاب تظهر بعض الموسيقى من حين لآخر، وكانوا يستفسرون عن هذا الشيء! فنريد الإجابة منكم؟
الجواب
أما إذا كان هذا الحاسب الآلي أو الكمبيوتر يفيد فهذا طيب، وهذا ربما قد يكون من جملة ما ينبغي أن يُقْتَرح على الذين يقومون على الاستراحات التي سأل عنها الأخ أولاً.
وأما الشيء الذي لا يفيد فهو لغوٌ من القول، وهو محسوب على الإنسان من عمره.
وأما المحرم فيجب الامتناع عنه، فالموسيقى هذه إذا جاءت يجب أن يخفض الصوت حتى لا تُسْمَع.
والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
جعلني الله وإياكم ممن ينتفعون بالعلم، ويعملون به، إنه على كل شيء قدير.(43/18)
لقاء الباب المفتوح [44]
في هذه المادة تحدث الشيخ عن يسر الشريعة وسماحتها، ثم بيان صفة المسح على الخفين والجبيرة، وبعد ذلك أجاب عن الأسئلة الواردة في هذا اللقاء.(44/1)
بيان سماحة الشريعة الإسلامية
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو اللقاء الأسبوعي الثالث لشهر جمادى الثانية عام: (1414هـ) والذي يتم في كل يوم خميس، نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفع به.
وقد أتممنا الكلام عن تفسير سورة البروج في اللقاءات الماضية.
أما اليوم فأرى أن نتكلم عما يتعلق بالوقت، وهو: مسح الجوارب والخفين؛ لأن زمن الشتاء عند العامة بدأ منذ يومين.
فنقول: إن الله سبحانه وتعالى جعل هذا الدين يسراً، فقال الله عز وجل في كتابه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] .
وقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إن الدين يسر) .
وقال صلى الله عليه وسلم وهو يبعث البعوث للدعوة إلى الله: (إنما بعثتم مُيَسِّرين ولم تبعثوا مُعَسِّرين، فيسِّروا ولا تعسِّروا) .
وهذه القاعدة العامة في الدين الإسلامي كل شرائع الإسلام تشهد لها، فأصل الشرائع يسيرة سهلة، ثم إذا طرأ ما يوجب التيسير تيسرت، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لـ عمران بن حصين: (صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب) .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] .
وفي أثناء الآيات قال: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:185] .
وفي الحج قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة:196] يعني: فلا يحلقه، وعليه {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] .
والقاعدة العامة: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] .
وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] .
كلها تعتبر طريقاً يجب على المسلم أن يسير عليه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] .(44/2)
وجوب الوضوء على كل محدث أراد الصلاة
ومن يسر الله عز وجل أنه فرض الوضوء عند إرادة الصلاة على كل مَن أحدث، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] .
ولهذا ينبغي لنا ونحن نتوضأ أن نستشعر أننا نمتثل أمر الله، كأن الله تعالى يخاطبنا الآن، فيقول: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] حتى نكون بذلك مخلصين لله عز وجل، وأن نستشعر أننا نقتدي بالرسول عليه الصلاة والسلام حتى تتحقق لنا المتابعة، أعني: كأن الرسول أمامنا الآن يتوضأ، فنحن نتبعه بذلك ليتحقق لنا بهذه العبادة الإخلاص والمتابعة، وهكذا بقية العبادات.
فيجب الوضوء، والواجب منه ما ذكره الله في القرآن: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] وجاءت السنة مبينة لبعض الإبهام في هذه الآية وهي: المضْمَضَة والاستنشاق، فإنهما واجبان في السنة، وهما داخلان في قوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] ؛ لأن الأنف والفم جزء من الوجه، وكذلك الأذنان، جاءت السنة ببيان مسحهما مع الرأس، وذلك لأنهما من الرأس، فعلى هذا لا بد من المضمضة والاستنشاق، ولا بد من مسح الأذنين.
هذه هي الوجبات في الوضوء؛ لكن الوضوءَ الأكملَ، هو ما توفر فيه الآتي: - النية: وهذه لا بد أن تقترن بكل عمل.
- البسملة.
- غسل الكفين ثلاثاً قبل غسل الوجه.
- البدء بالمضمضة والاستنشاق قبل غسل الوجه.
- تخليل اللحية الكثيفة التي لا تصف البشرة، وغسل اللحية إلى أصول الشعر إذا كانت تصف البشرة؛ لأنها لا تغطي البشرة، فتغسل من جهة البشرة التي لا تغطيها هذه اللحية.
- التثليث في الأعضاء ما عداء الرأس أحياناً وفي الأكثر الأغلب، وأحياناً يقتصر الإنسان على مرة، وأحياناً على مرتين، وأحياناً يفرِّق، فيغسل الوجه ثلاثاً، واليدين مرتين، والرجلين مرة، كما جاءت بذلك السنة.(44/3)
شروط المسح على الخفين
ومن نعمة الله وتيسيره في هذا الوضوء أنه إذا كان على الرجلين ما يسترهما من جوارب أو خفين وهما (الكنادر) فإن الإنسان يمسح عليهما؛ لكن في مدة محددة كما سيُبَيَّن وبشروط:(44/4)
أن يلبسهما على طهارة
لقول النبي صلى الله عليه وسلم للمغيرة بن شعبة لما أهوى لينزع خفيه، قال: (دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين) فمسح عليهما.
فإن لبسهما على غير طهارة لم يجز المسح، ولو نسي فمسح فإنه يلزمه إعادة الوضوء، وغسل الرجلين، وإعادة الصلاة؛ لأنه صلى على غير طهارة.(44/5)
أن يكون المسح في الحَدَث الأصغر لا في الأكبر
ودليله حديث صفوان بن عسال، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا سَفْراً -يعني: مسافرين- ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام بلياليهن إلا من جنابة؛ ولكن من غائط، وبول، ونوم) فإذا حصل على الإنسان جنابة وعليه جوارب وَجَبَ عليه أن يخلعهما، وأن يغسل قدميه؛ وذلك لأن الطهارة الكبرى وهي الغسل من الجنابة ليس فيها مسح إلا إذا كانت هناك جبيرة، ولهذا لا يُمسح الرأس فيها، بل يجب أن يُغسل غسلاً تاماً.(44/6)
أن تكون الجوارب أو الخفاف طاهرة
فلا يصح المسح على النجس؛ لأن النجس لا يزيد بالمسح عليه إلا خبثاً وتلويثاً لليد التي باشرت النجاسة؛ ولأن الإنسان في الغالب يمسح ليُصَلي، ولا صلاة في الشيء النجس، والدليل على أنه لا صلاة في الشيء النجس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذات يوم يصلي بأصحابه، فخلع نعليه، فخلع الصحابة نعالهم، فلما سلم سألهم: لماذا خلعتم نعالكم؟ قالوا: رأيناك خلعت نعليك فخلعنا نعالنا، فقال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذراً) أي: أنه خلعها من أجل ذلك، وهذا يدل على أنه لا بد أن يكون الملبوس طاهراً.(44/7)
أن يكون في الوقت المحدد شرعاً
الوقت المحدد شرعاً هو يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر، وتبتدئ هذه المدة من أول مرة مَسَحَ بعد الحدث، فإذا لَبِسها من صلاة الفجر مثلاً، وتوضأ لصلاة الظهر ومسحها، فابتداء المدة من الظهر، أي: من الوقت الذي مسح فيه، حتى يأتي مثله من اليوم التالي إذا كان مقيماً، أو في اليوم الثالث إذا كان مسافراً، فهي ثلاثة أيام بلياليها للمسافر، ويوم وليلة للمقيم.
والحكمة في هذا واضحة؛ لأن المسافر أحوج إلى ستر قدمه من المقيم.
هذه هي شروط المسح على الجوربين، أو على الخفين، وما عدا ذلك من الشروط التي ذكرها بعض الفقهاء فإنه ليس عليها دليل، وإنما هي تعاليم استنبطها الفقهاء تُسَلَّم لهم أو لا تُسَلَّم؛ لكن هذه هي الشروط التي يطمئن إليها الإنسان، وأنه لا بد من أن تتوفر في جواز المسح على الخفين أو الجوربين.(44/8)
المسح على الجبيرة
أما ما يتعلق بالجبيرة على جرح أو على كسر؛ فإذا كانت على جرح فالعلماء يقولون: يُتَّبَع ما يلي: أولاً: يغسل الجرح بالماء.
ثانياً: فإن كان يضرُّه مسحه، أي: بلَّ يدَه ومسح عليه.
ثالثاً: فإن كان يضره المسح، أو كان قد لُفَّ عليه شيء، فإنه يمسح هذه اللفافة في الحدثين الأصغر والأكبر، وكذلك اللَّصْقة على وَجَعٍ في الظهر أو في الرقبة أو ما أشبه ذلك، فإنه يمسح عليها في الحدثين الأصغر والأكبر.
رابعاً: فإن لم يكن هذا؛ بمعنى أن الجرح طريٌّ لا يمكن أن يُلَفَّ عليه، ولا يمكن أن يُمْسَحَ بالماء، فإنه يتيمم عنه.
فهذه مراتبٌ: غسلُه.
ثم مسحه.
ثم مسح اللفافة.
ثم التيمم.
وهذا يجوز في الحدث الأصغر وفي الحدث الأكبر؛ لأنها ضرورة فتتقدَّر بقَدْرها، حتى لو بقيت أياماً أو شهوراً، فإن الحكم لا يزال باقياً؛ لأن الحكم يتقدر بقدره.
والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.(44/9)
الأسئلة(44/10)
حكم الطهارة إذا خلع الجورب بعد مسحه
السؤال
إذا مسح الشخص على الجورب، ثم نزعه، هل تنتقض طهارته؟
الجواب
إذا مسح الجورب، ثم نزعه، فإنه طهارته لا تنتقض؛ بل هي باقية حتى يُحْدِث، فإذا طُلِب منا الدليل، قلنا: الدليل على من قال: إنها تنتقض؛ لأن هذه طهارة ثبتت بالشرع، فلا تنتقض إلا بدليل من الشرع، وليس في الكتاب والسنة ما يدل على أن خَلْع الجورب بعد مسحه ينقض الطهارة، فيبقى على طهارته حتى يُحْدِث، ثم يتوضأ.(44/11)
جواز تغيير الشيب بالحناء الأحمر مع الكتن الأسود
السؤال
هل يجوز خلط الحناء الأحمر مع الكَتَن الأسود، ووضعُه على شيب اللحية، وبعد الوضع يكون لون اللحية من بعيد أسود، ومن قريب يتضح ويميل لونه إلى البُنِّي الغامق؟
الجواب
السنة تغيير الشيب بالحناء، أو بالحناء والكَتَن، فإذا غيَّره بالحناء فإن الحناء يكون لونه أصفر، وإذا غيَّره بالحناء والكَتَن صار بين الحمرة والسواد، فلا بأس به، ولا حرج إن شاء الله.(44/12)
العلاج الصحيح لمن أصابه مس الجان
السؤال
فضيلة الشيخ! أحد إخواننا بعث إلينا بسؤال يقول فيه: نحن في حاجة إلى الدعاة، ومع ذلك فإن أحدنا انشغل بعلاج الممسوسين بالجن، فهل يجوز تعطيل الدعوة من أجل هذا العمل؟ وكيف يكون العمل الصحيح لعلاج الممسوس؟ وهل يجوز اشتراط أخذ المال، بحيث لا يعالِج بغيره؟
الجواب
الدعوة إلى الله عز وجل فرض كفاية، إذا قام بها من يكفي سقطت عن الباقين، فإن تعينت على الشخص بحيث لا يقوم غيره مقامه، فإنها مقدمة على القراءة على مَن به مس من الجن؛ وذلك لأن مصلحة الدعوة مصلحة مُتَيَقَّنة، ومصلحة القراءة على من به مس من الجن مصلحة غير مُتَيَقَّنة، وكم من إنسان قرئ عليه ولم يستفد شيئاً! فيُنْظَر! إذا كانت الدعوة مُتَعَيَّنة على هذا الرجل، لا يقوم غيره مقامه فيها، فإنه يجب عليه أن يدعو، ولو ترك القراءة على من به مس من الجن؟ أما إذا كانت فرض كفاية فيَنْظُر إلى الأصلح، وإذا أمكن أن يجمع بينهما، وهو الظاهر أنه يمكن الجمع بينهما، بأن يخصِّص لهذا يوماً ولهذا أياماً حسب الأهمية، فيحصل منه الإحسان إلى إخوانه الذين أصيبوا بهذه المصيبة، ومع ذلك يستمر في الدعوة إلى الله عز وجل، فإن حصل الجمع بينهما ما أمكن فهو الأولى.
أما العلاج الصحيح للممسوس بالجن فإنه يختلف؛ لكن أحسن ما يكون أن يُقْرَأ عليه القرآن؛ مثل قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:33-36] لأن هذا تَحَدٍّ لهم أنهم لا يستطيعون الفرار من الله عز وجل، وكذلك يُقْرَأ عليهم المعوذتين وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وآية الكرسي، وكذلك يتكلم معهم بالموعظة، كما يُذكر عن شيخ الإسلام أنه كان يعظهم، ويقول لهم: هذا حرام عليكم، ولا يحل لكم أن تؤذوا المسلمين، أو تظلموهم، أو ما أشبه ذلك.
أما أخْذ المال فإنه إذا لم يأخذ المال فهو أفضل وأقرب إلى الإخلاص والنفع، وإن أخذه بدون شرط فلا بأس، وإن كان هؤلاء الذين قرأ عليهم قد تركوا ما يجب عليهم للقارئ، وأبى أن يقرأ إلا بعوض فلا بأس، كما فعل أهل السرية الذين بعثهم النبي عليه الصلاة والسلام، فنزلوا على قوم فلم يضيِّفوهم، فأرسل الله تعالى على سيدهم عقرباً فلدغته، فطلبوا من يقرأ، فقالوا: لعل هؤلاء القوم الذين نزلوا بكم يقرءون، فأتوا إليهم، فقالوا: لا نقرأ عليه إلا بكذا وكذا -بقطيع من الغنم-، فأجاز هذا النبي صلى الله عليه وسلم.(44/13)
أيهما أولى: متابعة الإمام في الزيادة في الصلاة أم مخالفته؟
السؤال
حدث معنا مَرَّةً في الصلاة -يا شيخ- التالي: صلى بنا الإمام -جزاه الله خيراً- وفي بدء الركعة الثانية تدارك أنه ليس على طهارة، فانسحب وأحضر المؤذنَ، وقال له: أعد الصلاة، فكبر، وأعاد الصلاة من أولها، فجميع المصلين المأمومين صلوا خمساً؛ لأنهم احتاروا ماذا يفعلون! إلا ثلاثة فقط صلوا الرباعية وخالفوا الإمام الثاني، فأكملوا أربع ركعات، ولم يزيدوا الخامسة معه، أي: أنهم جلسوا بعد تمام أربع ركعات ولم يواصلوا مع الإمام الثاني، وبعد ذلك تقدم أحد الإخوة من الذين عندهم بعض العلم، فقال للإخوان الذين صلوا خمس ركعات: عليكم جميعاً أن تعيدوا صلاتكم، فقال له أحد الإخوة: إنهم احتاروا، وما كان عليهم إلا أن يتابعوا الإمام الثاني سلامةً، فهل يعتبر أنهم تعمدوا الخامسة، ولذلك عليهم الإعادة؟ أم أن متابعتهم للإمام الثاني كانت من باب الحيطة، ولذلك ليس عليهم إلا سجود السهو؟ فما هو الأفضل؟
الجواب
الأفضل في هذه الصورة إذا تذكر الإمام أنه ليس على طهارة أن يُخَلِّف مَن يصلي بهم بقية الصلاة بدون استئناف، فيقول مثلاً للمؤذن أو لمن وراءه ممن يمكن أن يصلي بالجماعة: يا فلان! تقدم فأكمل الصلاة بهم، ثم يكمل الصلاة بهم، ويبني على ما فعله الإمام الأول، إلا أنه في قراءة الفاتحة ينبغي أن يقرأها من أولها؛ ليكون الركن من إمام واحد، والباقي يكمله على ما هو عليه.
هذا هو الأفضل.
وإذا لم يفعل هذا بأن انصرف ولم يوكل أحداً ليقوم مقامه، فللمأمومين أن يقدموا واحداً منهم يكمل بهم، فإن لم يفعلوا أتموا فرادى.
وأما استئناف الصلاة فقد قال به بعض أهل العلم؛ لكن لا وجه له؛ لأن المأمومين معذورون، لا يدرون عن حَدَث الإمام، ولو علموا بحدث الإمام ما صلوا وراءه، ولَنَبَّهوه قبل أن يصلي بهم.
أما بالنسبة لهؤلاء الذين صلوا خمساً بناءً على أن هذا هو الواجب عليهم فليس عليهم شيء، ولا تلزمهم الإعادة؛ لأنهم معذورون بالجهل، ومجتهدون متأولون، وقد قال الله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] والمتاول لا سيما الباني على أصل ليس عليه شيء، ولهذا لم يأمر النبي عليه الصلاة والسلام المرأة المستحاضة أن تقضي ما فاتها من الصلاة التي كانت تتركها بناءً على أن الاستحاضة حيض، وكذلك ليس عليهم سجدةُ سهو؛ لأنهم لم يسَهَوا.(44/14)
حكم تجهيز المحلات وتأجيرها
السؤال
هناك معاملة انتشرت عند الكثير تسمى: بتجهيز المحلات؛ وصورتها: أن يأتي رجل إلى صاحب دكان كقطع غيار مثلاً أو ما شابه ذلك، فيقول له: سآخذ منك المحل ثلاث سنوات، وأعطيك كل شهر (10.
000) ريال، وبعد ثلاث سنوات أردُّ إليك المحل بالبضاعة التي استلمتُها منك كاملة، فما حكم هذه المعاملة؟ أحسن الله إليكم! الشيخ: إذا أخذ المحل يحصل البيع؟ السائل: لا.
لا يحصل عقد بيع، بل صورتها أن يأتي إليه ويقول له: آخذ منك المحل لمدة ثلاث سنوات، وأعطيك كل شهر (10.
000) ريال، أو (8000) ريال بحسب ما يتفقان عليه، وبالطبع لا يزيد على المبلغ المتفق عليه من دخل هذا المحل، وبعد الثلاث سنوات أردُّ إليك المحل كما كان بما فيه من بضاعة، وكأن صورتها في الظاهر صورة تجارة! الشيخ: الأغراض التي في المحل لِمَن؟ السائل: هي للمالك الأول، بدليل أنه سوف يردها إليه بعد ثلاث سنوات كاملة!
الجواب
هذا عقدٌ لا يصح -في الواقع-، إلا إذا قال: ثَمِّن الأغراض الموجودة الآن، وتكون في ملك الثاني، ويعطيه كل شهر (10.
000) على أنها أجرة للمحل، وتكون الأعيان الموجودة فيه للمستأجر الأخير، لا للأول، مُلكاً له، له غنمها، وعليه غرمها، فهذا لا بأس به.
أما ما ذكرتَ فلا يجوز؛ لأنه غرر واضح؛ لا ينطبق على المشاركات، ولا على الإجارة، ولا على البيع.
فنرى أنها لا تجوز، وأن الواجب على عامة الناس إذا حدثت مثل هذه المعاملات الجديدة أن يعرضوها على أهل العلم قبل أن يدخلوا فيها، والمعاملات من الدين، وليست خاضعة للعرف ولِمَا يتعامل به الناس، فلو كانت كذلك لقلنا: إن البنوك حلال، وإن الميسر حلال، وإن كل المعاملات التي اعتادها الناس في الخارج أو في الداخل حلال، مع أن المعاملات لا شك أنها من الدين، فالإنسان إذا أكل الحرام فإنه يبعُد أن يُستجاب دعاؤه والعياذ بالله.(44/15)
حكم المصارفة بدون قبض
السؤال
بالنسبة للحوالة، إذا أعطى رجلٌ رجلاً مبلغاً لكي يستلمه الرجلٌ الآخر في بلدة أخرى بعملة تلك البلدة، ويُشكل عليه -يا شيخ- اختلاف هذه العملة بالريالات، فهل هذا يدخل في ربا الفضل، أم أنه لا بأس به؟
الجواب
هذا يدخل في ربا النسيئة؛ لأنه مع اختلاف العملة لا يوجد ربا فضل؛ لكن يدخل فيه ربا النسيئة، ولهذا فإن الحوالة الصحيحة على أحد وجهين: إما أن يحولها بالدراهم إلى المكان الآخر، ثم هناك تجري المصارفة بالسعر الحاضر.
أو يشتري العملة التي في البلد الثاني يشتريها في البلد الأول، ويحوِّلها إلى البلد الثاني بعملة البلد الثاني.
أما ما ذكرتَ فهذه مصارفة بدون قبض، والمصارفة بدون قبض لا تجوز.(44/16)
حكم جمع العصر إلى الجمعة
السؤال
هل يصح الجمع بين الجمعة والعصر سواء في الحضر أو في السفر؟
الجواب
أولاً: في الحضر: قد يقع هذا، فقد يكون الإنسان مريضاً، فيحضر الجمعة، ويشق عليه أن يصلي العصر في وقتها، فيجمع.
وأما في السفر فهذا أيضاً يمكن، إذا كان المسافر مر بالبلد التي تقام فيه الجمعة وصلى معهم الجمعة.
وأما السفر الذي الإنسان فيه سائر فهذا ليس فيه جمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سافر ولم يكن يقيم الجمعة في أسفاره، حتى في يوم عرفة صادف يوم الجمعة، ومع ذلك لم يُقِمِ الجمعة صلى الله عليه وسلم.
ولكن لا يصح جمع العصر إلى الجمعة؛ لأن السنة إنما وردت بجمع العصر إلى الظهر، والجمعة ليست ظهراً كما لا يخفى؛ بل تُفارِقُ الظهرَ في أكثر من (20) وجهاً، وإذا كانت كذلك فإنها تعتبر صلاة منفردة مستقلة بنفسها، كصلاة الفجر، لا يُجْمَع إليها غيرها، فلا يحل للإنسان أن يجمع صلاة العصر إلى صلاة الجمعة، ولو كان ممن يباح له الجمع، أما من لا يباح له الجمع، فلا يجوز له أن يجمع إلى الجمعة ولا إلى الظهر.(44/17)
حكم العمل في مجال التصوير الفوتوغرافي
السؤال
أنا أعمل في مجالٍ يكثر فيه التصوير الفوتوغرافي، لتوفير هذا العمل ونشره في الصحف أو في كتيبات، فما مدى صحة هذه؟ حفظك الله؟
الجواب
إذا كان فيه مصلحة دينية فلا بأس، وأما إذا لم يكن فيه مصلحة فالورع أحسن، وذلك أن تتركه وتطلب عملاً آخر، أو تمتنع عن التصوير.(44/18)
مسألة انتقاض الوضوء بانتهاء مدة المسح
السؤال
هل ينتقض الوضوء بانتهاء مدة المسح؟
الجواب
الصحيح أنه لا ينتقض بانتهاء مدة المسح، فمثلاً لو كانت تنتهي مدة المسح الساعة الثانية عشرة ظهراً، وبقيتَ على طهارتك إلى الليل فأنت على طهارتك، وذلك لأنه ليس هناك دليل على انتقاض الوضوء بانتهاء مدة المسح، فانتهاء مدة المسح ينتهي به المسح فقط، ولا تنتهي بانتهائه الطهارة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما وقَّت المسح ولم يوقت الطهارة، وهذه قاعدة ينبغي لطالب العلم أن ينتبه لها، وهي: أن ما ثبت بدليل شرعي فإنه لا يرتفع إلا بدليل شرعي؛ لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان.(44/19)
أجر الجماعة الأولى وأجر الجماعة الثانية
السؤال
هناك شخص مؤذن في أحد المساجد، وعنده أولاد بالغين مكلفين، فيأتون إلى الصلاة متأخرين بعد أن تنتهي ويسلم الإمام، وذلك في أغلب الأوقات، فناقَشَ الإمامُ المؤذن في هذه الموضوع، فقال المؤذن: إن لهم أجر الجماعة حتى وإن لم يدركوا الجماعة الأولى وصلوا مع الجماعة الثانية، أهم شيء أن يأتوا ليصلوا في المسجد، يعني: لا تفوتهم السبع والعشرين درجة، وهذا المؤذن كفيف، فحاول الإمام أن يقنع هذا المؤذن أنه لا بد أن يأمرهم بالصلاة جماعة؛ لأنه بصفته مؤذناً فهو قدوة، حيث أن الإمام شاهد أن أغلب المصلين يتأخرون عن الصلاة بحجة أنهم شاهدوا أولاد المؤذن يتأخرون وهم كبار، فهذا الإمام لم يرَ بعد النصيحة نتيجة، فهل ينبغي أن يُبدي شيئاً من الجفاء سواءً للأب أو للأولاد؟ أو أنه يأخذهم بطريقةٍ ترونها أنتم جزاكم الله خيراً.
الجواب على هذا السؤال من شقين: الشق الأول: أنه لا يجوز أن نقتدي بمن فرط في الواجب؛ فتترك الواجب لأن فلاناً لا يقوم به، فأنت مسئول عن نفسك: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] فلا يجوز للإنسان أن يقول: لستُ بِمُصَلٍّ مع الجماعة؛ لأن أولاد المؤذن لا يصلون! وليس ذلك حُجَّةً عند الله عز وجل، كما لا يجوز للإنسان أن يفعل المحرم ويقول: فلان يفعله، حتى لو كان طالبُ علمٍ يفعلُ هذا المحرم، فلا يجوز للإنسان أن يفعله لأن هذا يفعله، بل أنت مسئول عن نفسك، ومسئول عما أجبت به المرسلين: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65] .
والشق الثاني: بالنسبة للمؤذن، الواجب عليه أن يأمر أولاده بالصلاة، وأن يضربهم عليها إذا بلغوا عشر سنين، حتى يؤدوا الصلاة مع الجماعة، ولا حرج عليه في هذه الحال أنه إذا أذَّن خرج وأيقظهم وأحضرهم إلى المسجد؛ لأن الخروج هنا لعذر، وأنه سيرجع ويصلي في المسجد.
وأما بالنسبة للإمام فأولاً: لا ينبغي أن يناقش المؤذن أمام الناس؛ لكن يناقشه سراً فيما بينه وبينه، فإذا ادَّعى المؤذن أنه لا يستطيع إحضارهم إلى المسجد فهناك جهات مسئولة يمكن أن تحضرهم، كهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تحضرهم إلزاماً؛ لأن هؤلاء ممن تلزمهم صلاة الجماعة.
وأما قول المؤذن: إنهم إذا صلوا في المسجد ولو بعد الجماعة الأولى فإن لهم أجر سبعٍِ وعشرين درجة فهذا ليس بصحيح، فأجر سبعٍ وعشرين درجة لا يكون إلا في الجماعة الأولى فقط، أما الثانية فلا شك أن الصلاة في جماعة أفضل من الصلاة على وجه الانفراد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في رجل دخل وقد فاتته الصلاة: (من يتصدق على هذا فيصلي معه) فقام أحد القوم فصلى معه.
ولأنه عليه الصلاة والسلام قال: (صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله) لكن كون الجماعة الثانية تنال أجر الجماعة الأولى فهذا ليس بصحيح، وإلا لكان كل الناس يذهبون إلى المسجد متى شاءوا، ويصلون جماعة ويقولون: أخذنا أجر سبع وعشرين درجة، فهذا لا أعلم أحداً قال به، أي: أن الصلاة الثانية كصلاة الأولى في الحصول على أجر سبع وعشرين درجة.
فلا أعلم أحداً قال بهذا.(44/20)
مسألة التورق من التحايل على الحرام
السؤال
عفا الله عنكم يا شيخ! توجد الآن بعض الشركات تقول لأي شخص: من أراد بيتاً أو سيارةً في أي مكان يأتي ويخبرنا بهذا البيت أو بهذه السيارة فنشتري له هذا البيت أو هذه السيارة، ثم نقسط عليه ثمن هذا البيت أو هذه السيارة أقساطاً، وفي نفس الوقت لا تُلْزِم هذه الشركةُُ إذا أخَذَت لهذا الشخص هذا البيت أو هذه السيارة، لا تلزمه بأخذ هذا البيت أو السيارة، فهو بالخيار، إن أراد أن يشتري أو أراد أن يرجع في كلامه.
فما حكم هذا البيع جزاكم الله خيراً؟
الجواب
هذه المعاملة فَشَت في الناس كثيراً، وهي -في الحقيقة- من الناحية الشرعية غير جائزة، ومن الناحية الاقتصادية ضارة.
فأما كونها غير جائزة من الناحية الشرعية: فمن المعلوم أنك لو أتيتَ إليَّ وقلتَ: أريد أن أشتري السيارة الفلانية بخمسين ألف ريال فأعطني (50.
000) ريال، وأعطيك بعد سنة (60.
000) ريال، فهل هذه المسألة جائزة، أو غير جائزة؟! غير جائزة، ولا إشكال في ذلك.
فشراء التاجر أو الشركة لهذه السيارة ليس إلا من أجل الوصول إلى هذه العشرة آلاف الزيادة التي كانت في الأول غير جائزة، والآن صارت بهذه الحيلة جائزة، فلا يمكن هذا، فإن المحرم محرم، ولا يزيد بالتحايُّل عليه إلا قُبْحاً، فهذه بمنزلة أن أقول: خذ (50.
000) واشترِ السيارة التي تريد، وبعد سنة أعطني (60.
000) ريال، لا فرق أبداً، إلا أن هذه الصورة التي ذكرتَ؛ أن يشتريها التاجر من المعرض ثم يبيعها عليك ما هي إلا مجرد حيلة فقط؛ فلولاك ما اشتراها لك، ولا فكَّر في شرائها، ولهذا تجده يحتاط لنفسه، فيذهب ليستطلع البيت وينظر هل يساوي هذا البيتُ الثمنَ أم لا يساويه، والسيارة كذلك، فهو يحتاط احتياطاً تاماً.
ثم إذا قُدِّر أنه اشتراه وتراجَعْتَ أنت عنه كَتَبَك في القائمة السوداء، فلا يعاملك بعد هذا أبداً، ثم إن كلمة: (إذا شاء رَدَّه قَبِِلْنا) ، هي كذَرِّ الرماد في العيون -كما يقولون-؛ فلا تظن أن هذا الرجل الذي أراد هذا البيت أو هذه السيارة أو هذه الأرض، واستعد للزيادة، لا تظن أنه يتراجع، فالرجل له غرض في هذا، ولا بد أن يشتري، ولو أنك أحصيت مَن تراجع، ما وجدتَ واحداً في الألف.
لذلك نرى أن هذه المعاملة حرام، وأنها حيلة على الربا بشراءٍ صوريٍّ ليس مقصوداً بذاته.
وإذا كان شيخ الإسلام -رحمه الله- يحرم التورُّق، وكذلك الإمام أحمد، وغيرهما من العلماء، والتورُّق: هو طلب العين الموجودة عند البائع، فهذا أخبث وأشد.
وبنو إسرائيل لما حُرِّمت عليهم الشحوم قالوا: لا نأكل الشحم؛ لكن نذيب الشحم، ونبيعه ونأكل ثمنه.
فأيهما أقرب للمحرم: هذه الحيلة، أو الحيلة التي ذكرتَ؟! الحيلة التي ذكرتَ أقرب؛ لأنها تصل إلى المحرم في أول درجة، أما حيلة بني إسرائيل فلا تصل إلى المحرم إلا بعد ثلاث درجات، ومع ذلك قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (قاتل الله اليهود! لَمَّا حُرِّمت عليهم الشحوم جَمَلوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه) .
فهذه والله حيلة على المحرم، وليس عندي إشكال في تحريمها، والإنسان الناصح لنفسه يبتعد عنها، وإن أفتاه الناس وأفتوه، والعبرة بالمقاصد لا بالصور، والتاجر ما قصد من الربح إلا الربا، ولا قصد بشراء السيارة إلا الربا.
ولكن نقول: نعم، لو كانت السيارة عنده موجودة، وباعها عليك بأكثر من ثمنها حاضراً، وأنت تريد السيارة نفسها، أو تريد أن تتكسب بها، فتشتريها من هذه البلاد وتبيعها في البلاد الأخرى للتتكسب بها، فهذا ليس فيه إشكال، وجائز.
أما إن اشتريتَها مِن عندِه وهي عندَه، وتريد أن تبيعَها وتأخذَ ثمنها فهذه هي مسألة التورُّق، وفيها خلاف بين العلماء، وشيخ الإسلام ابن تيمية يرى أنها حرام، وهي رواية عن الإمام أحمد.
ولو قال قائل: إن الربا الصريح أهون من المعاملة التي ذُكِرَت، فإن قوله لن يكون بعيداً من الصواب؛ لأن هذه المعاملة جمعت بين الحيلة والتحايل على الله عز وجل وبين الربا، فمفسدة الربا موجودة، وهي الزيادة التي أخذها هذا التاجر، فنسأل الله الهداية.
والحقيقة: أن الإنسان إذا رأى هذه المعاملات، ورأى معاملة البنوك، ورأى معاملة الميسر التي بدأت الآن تكثر؛ كالتأمين وما أشبه ذلك، يخشى والله من العقوبة؛ فإذا كان بنو إسرائيل يعذَّبون بأقل من هذا، فإننا والله لنَخْشى.
فلَمَّا حُرِّم عليهم صيد الحيتان يوم السبت ابتلاهم الله عز وجل، فصارت الحيتان تأتي يوم السبت شُرَّعاً على الماء، وغير يوم السبت لا يرون الحيتان، فتحايلوا فنصبوا شَبَكاً يوم الجمعة، وأخذوا الحيتان يوم الأحد، وقالوا: نحن لم نصد يوم السبت، الصورةُ أنهم لم يصيدوا صحيح؛ لكن في الحقيقة أنهم صادوا.
فالعبرة -يا إخواني- بحقائق الأمور لا بصورها.
فنحن نخشى من عقوبة تحل بنا بواسطة هذه الأمور، فلو كنا نبيع ونشتري على حسب الشرع، مبتعدين عن الحِيَل، وخداع رب العالمين لكان هذا أنفع وأبرك لنا.
فتبيَّن لنا من الناحية الشرعية أنها لا تجوز.
وأما كون هذه المعاملة ضارة من الناحية الاقتصادية، فإنها قد فتحت للفقراء باب التكالب على الديون لهذا السبب، فصار يهُون عليهم أن يشتري أحدهم السيارة بسبعين ألفاً؛ لأنه سيذهب إلى التاجر ويأخذها بكل سهولة؛ لكن لو لم تكن هذه الطريقة لذهب ليشتري له سيارة بستة عشر ألفاًَ على قدر حاجته، وعلى قدر ما عنده، فهذه المعاملة أثقلت كواهل كثير من الناس، وجرَّأتهم على التَدَيُّن، لا أقصد التَّدَيُّن مِن الدِّيْن، وإنما مِن الدَّيْن، فجرَّأتهم على التَّدَيُّن من الناس، حتى إذا مات وُجِد أن عليه مئات الألوف، وكل ذلك بسبب هذه المعاملة.
لهذا فنحن نحذِّر منها شرعياً واقتصادياً، ونقول: (ومَن يستغنِ يُغْنِهِ الله) .
(ومَن تَرَكَ شيئاً لله عوَّضه الله خيراً منه) .
السائل: ولكن الناس لا يدرون شيئاً عن هذا.
الشيخ: والله يا أخي نحن لنا فتوى في هذا، كتبنا فيه فتوى.
السائل: المشكلة أن بعض هذه الشركات تدَّعي أن عندها لجنة شرعية، وأن هذه اللجنة الشرعية أفتت بجواز هذا -يا شيخ-! الشيخ: على كل حال: الذي يلزمنا نحن البيان، وقد بيَّنا الآن، فمن سمع هذا الكلام فإن اقتنع به ورأى أن الحيلة لا تجعل الحرام حلالاً فليحمد الله على الهداية، ومن لم يقتنع فلكلٍّ درجاتٌ مما عملوا.
السائل: بعض الناس الآن صاروا يشتركون ثلاثةً أو أربعةً في شراء سيارة من أجل التقسيط.
الجواب: لا بأس، بشرط ألا يكون من مسألة التورُّق، فمثلاً الآن -انتبه! -: إذا اشتريتَ سيارة بالتقسيط فلها ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن تشتريها بالتقسيط لتَكُدَّها، سواء كان الكَدُّ للأجرة أو لحاجاتك، فهذه جائزة، ولا خلاف فيها.
الوجه الثاني: أن تشتريها لتتكسب بها لا لدفع حاجتك، فأنت لستَ محتاجاً؛ لكنك اشتريتَها من هذا البلد لتبيعها في بلد آخر بزيادة، فهذه أيضاً ليس فيها شيء.
الوجه الثالث: أن تشتريها لحاجتك إلى الدراهم؛ لكن ما وجدتَ أحداً يقرضك، فلجأتَ إلى هذه الطريقة، فهذه يسميها العلماء: مسألة التورُّق، وفيها الخلاف الذي ذكرتُ لكم.(44/21)
السنة في تخفيف سنة الفجر
السؤال
فضيلة الشيخ! هناك أدلة وردت في أفضلية تخفيف ركعتي سنة الفجر، فهل المراد بالتخفيف السرعة فيهما وأداء أدنى الكمال من ناحية التسبيح؟ ولو أُذِّن لصلاة الفجر وأنا في قنوت الوتر فهل أُعْتَبَر قد أدركتُ الوتر؟
الجواب
سنة الفجر السنة فيها التخفيف، فيقرأ الإنسان في الركعة الأولى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] وفي الثانية: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] أو يقرأ في الأولى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة:136] الآية في سورة البقرة، وفي الثانية: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران:64] .
وفي الركوع يخفف أيضاً، فيقتصر على أدنى الكمال، ثلاث مرات: سبحان ربي العظيم.
وفي السجود كذلك.
وفي التشهد أيضاً لا يطيله.
هذه سنة الرسول عليه الصلاة والسلام.
ولهذا نقول: لو أن الإنسان خرج من بيته إلى المسجد ولم يصلِّ الراتبة في البيت، فإن الأفضل إذا وصل المسجد أن يصلي سنة الفجر مع التخفيف، وتجزئ عن تحية المسجد، فهذا أفضل من أن يصلي تحية المسجد أولاً ثم السنة ثانياً؛ لأن تخفيف الرسول عليه الصلاة والسلام فيما ثبت استحبابه في هذا الوقت يدل على أنه لا ينبغي أن يُزاد في هذا الوقت على قدر المستحب، وهنا إذا صلى سنة الفجر عند دخول المسجد أجزأت عن تحية المسجد، فالأفضل أن يقتصر على الركعتين بنية الراتبة، وتجزئه عن تحية المسجد.
هذا بالنسبة للسؤال الأول.
أما بالنسبة للسؤال الثاني: إذا أذَّن وأنت في الوتر فأكمِل الوتر، وتكونُ مدركاً له.
أولاً: لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) .
وثانياً: أن غالب المؤذنين في الفجر يؤذنون قبل الوقت؛ لأنه ثبت عندنا من طريق الحساب -وهو مطبوع من بعض الإخوة الذين لهم شأن في الفلك- أن التقويم الموجود فيه تقديمٌ بخمس دقائق على الوقت، ومعنى هذا أن الإنسان في حِلٍّ إلى ما بعد (5) دقائق حسب التقويم الموجود، هذا في الفجر فقط، أما في بقية الأوقات فلم يُظْهِروا لنا اختلافاً، على أن بعض الإخوة يبالغ في مسألة الفجر، فيقول: إن الفجر لا يخرج إلا بعد التوقيت الموجود بثلث ساعة أو بربع ساعة؛ لكن هذا فيه شيء من المبالغة؛ لكن الخمس دقائق فقد قال لنا الإخوة الذين عندهم علم بالفلك أنها مُحَقَّقة في التقديم، ولهذا ينبغي لك إذا أذن المؤذن وأنت في البيت ألا تتعجل في ركعتي الفجر إذا عرفتَ أنه يؤذن على التقويم.
السائل: القاعدة الفقهية التي تقول: (تجزئ عن تحية المسجد) ، ما معنى تجزئ عن تحية المسجد.
الشيخ: تعني: أنه لا يُطالَب بها، فإذا قيل: تجزئ عن تحية المسجد فإن معنى هذا أنه لا يُطالَب بها؛ لأن المقصود أن يصلي ركعتين عند دخول المسجد، وقد حصل.(44/22)
الجمع بين حديثي إتيان العراف وتصديقه
السؤال
كيف نجمع بين الحديثين التاليين: حديث: (مَن أتى عرافاً فسأله عن شيء فَصَدَّقه، لم تُقْبَل له صلاةٌ أربعين يوماً) .
وحديث: (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدَّقه فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) ؟ فالسؤال هنا: هل التصديق يستمر مع الشخص، أم أنه ينقطع، حيث أنه صدقه في تلك اللحظة فقط، ولم يستمر في التصديق، كأن سأله شخص آخر، فدله، وهكذا؟
الجواب
أما لفظ الحديث الأول فليس فيه (فَصَدَّقه) والصحيح: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاةٌ أربعين يوماً) وليس فيه لفظ التصديق.
أما الثاني: ففيه التصديق، ووجهُ كُفْرِه بما أنزل على محمد: أنه إذا استقر في نفسه أن هذا صادق وهو أمر غيبي مُسْتَقْبَل؛ فإن ذلك يتضمن الكفر بقوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65] .
والتصديق يكفي فيه أن يصدقه في أول الأمر، وليس معناه أن ينتظر حتى يصدقه الواقع، أو لا يصدقه؛ لأنه إذا انتظر وقال: ننظر، هل يقع ما قال أو لا يقع، فهذا لم يصدقه في الواقع؛ لكن لا تُقْبَل له صلاةٌ أربعين يوماً.
فالتصديق أن يطمئن إلى قوله، ويرى أنه حق وأنه واقع.
أما أن يقول: سأجرب، فهذا ما صدَّقه.
كذلك لو أتى كاهناً أو عرافاً فسأله ليُظْهِر كذبه، فإن هذا لا بأس به، فقد سأل النبيُّ صلى الله عليه وسلم ابن صياد الذي يدعي أنه يأتيه مَن يأتيه، سأله عن شيءٍ أضْمَرَه له وهو سورة (الدُّخان) ، فقال: الذي في نفسك هو (الدُّخ) ولم يتمكن من الوصول إلى التلفظ به كاملاً، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (اخسأ! فلن تَعْدُوَ قَدْرَك) .(44/23)
نصيحة المتخلفين عن صلاة الجماعة بالأسلوب الحسن
السؤال
نريد من سماحتكم توجيه الأئمة إلى نصيحة المتخلفين عن الصلاة في جماعة بالأسلوب الأمثل!
الجواب
والله يا أخي! نصيحة المتخلفين عن الصلاة أن الإمام يأتي بالآيات والأحاديث التي فيها الترغيب في صلاة الجماعة، وفيها الترهيب من تركها على سبيل العموم، أي: مواعظ بين حين وآخر، ثم يباشر الذي يرى كثرة المتخلفين بالنصيحة بينهم وبينه.
السائل: ولا يكون لجماعة الناسِ في المسجد دخلٌ في النصيحة! الشيخ: ليس هناك مانع، لا بأس إذا كان هؤلاء الجماعة أناسٌ يَنصحون نصحيةً حقيقية لا مجرد فضيحة؛ لأن بعض الناس يقول: فعلنا وفعلنا، ورُحنا إلى فلان، وقلنا له: كذا، فهذا لا ينبغي، إلا لو قالوا ذلك لإنسان يمكنه أن يؤدب هذا المتخلف، كما لو قالوا ذلك عند ولي الأمر الذي يستطيع أن يؤدبه، أما إفشاء العيب بين الناس فهذا لا يجوز؛ لأن الإنسان لا يستفيد سواءً المُتَكَلَّم فيه ولا المُتَكَلِّم، فإذا تكوَّنت الجماعة من خمسة من الإخوان النشِطين الناصحين الذين يمكن أن يقتنع الإنسان بقولهم ونصيحتهم فهذا حسن، بشرط أن يكونوا كما قلتُ ناصحين لا فاضحين.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(44/24)
لقاء الباب المفتوح [45]
بدأ الشيخ بتفسير آيات من سورة الطارق، وذكر ما فيها من أحكام فقهية ومواعظ، وبعد ذلك أجاب عن الأسئلة من الحاضرين، وكان من أهمهما: سؤال عن الجماعات الإسلامية وحكم الانتماء إليها والعمل معها، وسؤال عن أصول عقيدة أهل السنة والجماعة.(45/1)
تفسير آيات من سورة الطارق
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو اللقاء الأخير من شهر جمادى الثانية عام: (1414هـ) ، الذي يتم كل يوم خميس من كل أسبوع، وقد لَمَسنا -ولله الحمد- فيه خيراً كثيراً من الإخوة الذين يحضرون، أو الذين يستمعون إلى الأشرطة المسجلة أو غيرهم، وهذا من نعمة الله سبحانه وتعالى على الجميع، ولا شك في هذا.
في درس الأسبوع الماضي تكلمنا عن حكم المسح على الخفين وما يتعلق به.
أما هذا الأسبوع فإننا سوف نستمر فيما كنا نقوم به من تفسير آخر جزء من القرآن؛ لأنه هو الذي يكثر وروده وسماعه على الناس.
وقد شرعنا في تفسير سورة الطارق بعد أن أكملنا ما سبقها.(45/2)
تفسير قوله تعالى: (والسماء والطارق)
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ} [الطارق:1-3] .
وهنا -كما ترون- فيه قسم أقسم الله تعالى به، وهو السماء، وكذلك الطارق.
وقد يُشْكِل على بعض الناس كيف يقسم الله سبحانه وتعالى بالمخلوقات، مع أن القسم بالمخلوقات شرك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) .
فلا يجوز الحلف بغير الله؛ لا بالأنبياء، ولا بالملائكة، ولا بالكعبة، ولا بالوطن، ولا بأي شيء من المخلوقات.
والجواب على هذا الإشكال أن نقول: إن الله سبحانه وتعالى له أن يقسم بما شاء من خلقه، وإقسامه بما يقسم به من خلقه يدل على عظمة الله عزَّ وجلَّ؛ لأن عِظَمَ المخلوق يدل على عِظَم الخالق.
وقد أقسم الله تعالى بأشياء كثيرة من خلقه، ومن أحسن من رأيته تكلم عن هذا الموضوع ابن القيم -رحمه الله- في كتابه: التبيان في أقسام القرآن، وهو كتاب جيد ينفع طالب العلم كثيراً.
فهنا يقسم الله تعالى بالسماء، والسماء هو كل ما علاك؛ كل ما علاك فهو سماء، حتى السحاب الذي ينزل منه المطر يسمى سماءً، كما قال الله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد:17] ، وإذا كان يُطْلَق على كل ما علاك؛ فإنه يشمل ما بين السماء والأرض، ويشمل السماوات كلها؛ لأنها كلها قد عَلَت وهي فوقك.
وأما قوله: {وَالطَّارِقُ} فهو قَسَمٌ ثان، أي أن الله أقسم بالطارق، فما هو الطارق؟ ليس الطارق هو الذي يطرق أهله ليلاً، بل فسره الله عزَّ وجلَّ بقوله: {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} [الطارق:3] ، هذا هو الطارق، والنجم هنا يحتمل أن يكون المراد به جميع النجوم، فتكون (أل) للجنس، ويحتمل أنه النجم الثاقب أي: النجم اللامع، أي: قوي اللمعان؛ لأنه يثقب الظلام بنوره، وأيَّاً كان فإن هذه النجوم من آيات الله عزَّ وجلَّ الدالة على كمال قدرته؛ في سَيْرها، وانتظامها، واختلاف أشكالها، واختلاف منافعها أيضاً.
قال الله تبارك وتعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16] .
وقال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ} [الملك:5] فهي زينة للسماء، ورجوم للشياطين، وعلامات يُهتدى بها.(45/3)
تفسير قوله تعالى: (إن كل نفس لما عليها حافظ)
ثم بيَّن المقْسَم عليه بقوله: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق:4] (إنْ) هنا نافية، يعني: ما كل نفس، و (لَمَّا) بمعنى (إلاَّ) يعني: ما كل نفس إلا عليها حافظ من الله.
وبيَّن الله سبحانه وتعالى مهمة هذا الحافظ في قوله: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10-12] هؤلاء الحفظة يحفظون على الإنسان عمله، وما له وما عليه، ويجده يوم القيامة كتاباً منشوراً، يقال له: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:14] .
هؤلاء الحفظة يكتبون ما يقوم به الإنسان من قول، وما يقوم به من فعل؛ سواء كان ظاهراً؛ كأقوال اللسان وأعمال الجوارح، أو باطناً حتى ما في القلب مما يعتقده الإنسان، فإنه يكتب عليه، لقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:16-18] هذا الحافظ يحفظ عمل بني آدم، وهناك حفظة آخرون ذكرهم الله في قوله: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] .(45/4)
تفسير قوله تعالى: (فلينظر الإنسان مم خلق)
قال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق:5] (اللام) هنا للأمر، والمراد بالنظر هنا: نظر الاعتبار، وهو النظر بالبصيرة، يعني: فليفكر الإنسان مم خلق؟ هل خُلِق من حديد؟! هل خلق من فولاذ؟! هل خلق من شيء قاسٍ قوي؟! والجواب على هذه التساؤلات: أنه {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق:6] ، وهو ماء الرجل، ووصفه الله تعالى في آية أخرى بأنه ماء مهين، ضعيف السيلان، ليس كالماء العادي المنطلق، ووَصَفَه الله تعالى في آية أخرى أنه (نطفة) أي: قليلٌ من الماء، وهذا هو الذي خلق منه الإنسان؛ والعجب أن يخلق الإنسان من هذا الماء المهين، ثم يكون قلبه أقسى من الحجارة -والعياذ بالله- إلا من أَلانَ الله قلبه لدين الله.(45/5)
تفسير قوله تعالى: (يخرج من بين الصلب والترائب)
ثم بيَّن أن هذا الماء {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق:7] : من بين صلب الرجل، وترائبه أعلى صدره، وهذا يدل على عمق مخرج هذا الماء، وأنه يخرج من مكان مكين في الجسد، والصواب أن هذا الوصف لماء الرجل.
وقال بعض العلماء: (يخرج من بين الصلب) : أي صلب الرجل، (والترائب) أي: ترائب المرأة؛ ولكن هذا خلاف ظاهر اللفظ.
والصواب أن الذي يخرج من بين الصلب والترائب هو ماء الرجل؛ لأن الله تعالى وصفه بذلك.(45/6)
تفسير قوله تعالى: (إنه على رجعه لقادر)
ثم قال تعالى: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} [الطارق:8-10] .
(إنه) : أي الله عزَّ وجلَّ.
(على رجعه) : أي على رجع الإنسان.
(لقادر) : وذلك يوم القيامة؛ لقوله: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق:9] ، فالذي قدر على أن يخلق الإنسان من هذا الماء الدافق المهين قادرٌ على أن يعيده يوم القيامة، وهذا من باب الاستدلال بالمحسوس على المنظور المترقَّب، وهو قياس عقلي، فإن الإنسان بعقله يقول: إذا كان الله قادراً على أن يخلق الإنسان من هذا الماء المهين ويحييه، إذاً فهو قادر على أن يعيده مرة ثانية، {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27] ، ولهذا يستدل الله عزَّ وجلَّ بالمبدأ على المعاد؛ لأنه قياس جلي واضح، ينتقل العقل من هذا إلى هذا بسرعة وبدون كلفة.(45/7)
تفسير قوله تعالى: (يوم تبلى السرائر)
قال تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق:9] : أي تختبر السرائر، وهي القلوب، فإن الحساب يوم القيامة على ما في القلوب، والحساب في الدنيا على ما في الجوارح، ولهذا عامَلَ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المنافقين معاملة المسلمين؛ حيث كان يُستأذَن في قتلهم فيقول: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) ، فكان لا يقتلهم وهو يعلم أن فلاناً منافق، وفلاناً منافق؛ لكن العمل في الدنيا على الظاهر، ويوم القيامة على الباطن، {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق:9] : أي تُخْتَبَر، وهذا كقوله: {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:9-10] .
ولهذا يجب علينا -يا إخوان- العناية بعمل القلب أكثر من العناية بعمل الجوارح، فعمل الجوارح علامة ظاهرة؛ لكن عمل القلب هو الذي عليه المدار، ولهذا أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن الخوارج، وهو يخاطب الصحابة، فيقول: (يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم) أي: إنهم يجتهدون في الأعمال الظاهرة؛ لكن قلوبهم خالية -والعياذ بالله- لا يتجاوز الإسلام حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية.
فعلينا -أيها الإخوة- أن نعتني بالقلوب، وإصلاحها، وأعمالها، وعقائدها، واتجاهاتها، قال الحسن البصري رحمه الله: والله ما سبقهم أبو بكر بصلاة ولا صوم، وإنما سبقهم بما وقر في قلبه من الإيمان، والإيمان إذا وقر في القلب حمل الإنسان على العمل؛ لكن العمل الظاهر قد لا يحمل الإنسان على إصلاح قلبه.
فعلينا -أيها الإخوة- أن نعتني بقلوبنا، وإصلاحها، وتخليصها من شوائب الشرك، والبدع، والحقد، والبغضاء، وكراهة ما أنزل الله على رسوله، وكراهة الصحابة رضي الله عنهم، وغير ذلك مما يجب تنزيه القلب عنه.(45/8)
تفسير قوله تعالى: (فما له من قوة ولا ناصر)
ثم قال تعالى: {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} [الطارق:10] أي: يوم القيامة ليس للإنسان قوة ذاتية، وهي: القوة الداخلية، (ولا ناصر) وهي: القوة الخارجية، فهو بنفسه لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، ولا أحد يستطيع أن يدافع عنه، قال الله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101] في الدنيا يتساءلون، يسأل بعضهم بعضاً، ويحتمي بعضهم ببعض؛ لكن يوم القيامة لا أنساب، لا تنفع القرابة، ولا يتساءلون.
فنسأل الله تعالى أن يصلح قلوبنا وقلوبكم، وأعمالنا وأعمالكم، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب.(45/9)
الأسئلة(45/10)
ضابط كلمة التوحيد المنجي من الخلود في النار
السؤال
كيف نجمع بين الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم: عن أبي الأسود الدؤلي أن أبا ذر حدثه فقال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، وعليه ثوب أبيض، ثم أتيته فإذا هو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ، فجلست إليه، فقال: (ما من عبد قال: (لا إله إلا الله) ، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة! قلت: وإن زَنَى وإن سرق؟ قال: وإن زَنَى وإن سرق! قلت: وإن زَنَى وإن سرق؟ قال: وإن زَنَى وإن سرق! ثلاثاً، ثم قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر، فخرج أبو ذر وهو يقول: وإن رَغِمَ أنفُ أبي ذر) .
وبين ما نراه وما نقرأه عن أصحاب الفرق الضالة؛ كـ الرافضة والخوارج، وما يكون من المنافقين؛ حيث إنهم يشهدون شهادة التوحيد، ويموتون عليها؟ أفيدونا وفقكم الله وأثابكم؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
حديث أبي ذر -كما سمعتم- يدل دلالة ظاهرة على أن هذا القائل -أي: قائل: (لا إله إلا الله) - مؤمن حقاً؛ لكن سولت له نفسه ففعل بعض المعاصي، بل بعض الكبائر من الزنا والسرقة وغير ذلك.
وطريق أهل السنة والجماعة أن الإنسان المؤمن، وإن فعل الكبيرة مآله الجنة، وما قبل الجنة من العقوبة راجع إلى الله عزَّ وجلَّ، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، ودليل ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] ، فصار جميع فاعلي المعاصي -وإن عَظُمَت- إذا كانت دون الكفر لا تمنع من دخول الجنة، فمآل فاعلها إلى الجنة؛ لكن قد يُعذَّب بما فعل من ذنب، وقد يغفر الله له، والأمر راجع إلى الله، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] .
أما المنافقون، وأهل البدع المكفِّرة التي تكفِّرهم بدعُهم فإنهم حقيقة لم يقولوا: (لا إله إلا الله) بقلوبهم؛ لأن هذا الانحراف الذي أدى إلى الكفر ينافي الإخلاص، وقولُ: (لا إله إلا الله) لابد فيه من الإخلاص.
أما أن يقول: (لا إله إلا الله) وهو يعتقد أن لا رب ولا إله -والعياذ بالله- أو يعتقد أن مع الله إلهاً يدبر الكون، أو يعتقد -مثلاً- أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ارتدوا كلهم بعد موته، أو يعتقد أن أبا بكر وعمر ارتدا بعد موت الرسول عليه الصلاة والسلام، أو ما أشبه ذلك من البدع المكفِّرة، فهؤلاء لم يخلصوا في قول: (لا إله إلا الله) ، فكانت بدعُهم هذه تنافي قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله -أو من قال: (لا إله إلا الله) - دخل الجنة) .
السائل: أي: أن الرسول لم يقل: من قال: (لا إله إلا الله) باللفظ فقط، بمعنى: أن قوله صلى الله عليه وسلم لا يشمل كل من قال: (لا إله إلا الله) ! الشيخ: لا.
لا.
بل لابد من الإخلاص، ولهذا استَمِعْ إلى قول الله تعالى في المنافقين: {يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142] ، وفي نفس السورة يقول: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} [النساء:145] ، ويقول عنهم: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون:1] هذه شهادة بالرسالة، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1] أي: كاذبون في قولهم.(45/11)
حكم أكل الحرام بقصد التدريب
السؤال
في بعض الجيوش الإسلامية تُخْتار فِرَقٌ تُدَرَّبُ على أكل الحيات، والضفادع، وشرب بولهم، بحجة أن ذلك يقويهم، فهل هذا يجوز؟ الشيخ: بول الإنسان نفسه، أم بول هذه الأشياء؟ السائل: بول الإنسان نفسه.
الجواب
هذا لا يجوز، ولا يحل، ولا يمكن أن يكون استحلال المعصية سبباً للنصر أبداً، بل المعصية سبب للخذلان، أرأيت قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران:152] يشير سبحانه وتعالى إلى غزوة أحد، وليس فيها إلا معصية واحدة، ومع ذلك خُذِل أشرف جيش على وجه الأرض من وقت خَلْق آدم إلى أن تقوم الساعة، وذلك بسبب هذه المعصية؛ وسببها أن الرسول عليه الصلاة والسلام رتب الجند، وقال لخمسين رجلاً من الرماة: كونوا هنا في مكان مُهِمٍّ ليحموا ظهور المسلمين، ولما انكشف المشركون وانهزموا، وجعل المسلمون يجمعون الغنائم نزل أكثر هؤلاء الرماة؛ لأنهم ظنوا أن المسألة انتهت، فذكَّرهم أميرهم بقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (لا تبرحوا) أي: عن مكانكم، سواءً كانت لنا أو علينا؛ ولكنهم رضي الله عنهم، وتجاوز عنهم، وعفا عنهم لم يمتثلوا، بل نزلوا، فحصلت الهزيمة بعد أن كان النصر في أول النهار للمسلمين، وذلك من معصية واحدة، فكيف بالذي يقول: اشرب بولك، وكُل الحيات، وما أشبه ذلك؟! هذا لا يقوله مسلم؛ بل الذي يظهر لي أن هذا مُتَلَقَّىً من الكفار الذين لا يحرمون ما حرم الله ورسوله.
السائل: هذا موجود في فِرَق الصاعقة الموجودة في بعض الدول الإسلامية! الشيخ: حتى ولو وُجد في أي مكان، فهذا لا يحل لهم أبداً، فالمحرمات لا تجوز إلا عند الضرورة، فإذا جاءت الضرورة عَرَف الإنسان كيف يأكل ويشرب، أما أن نجعله في حال الاختيار يشرب البول، ويأكل الحرام، خوفاً من أن يحتاج إلى ذلك فلا! بل نقول: إذا حلت الضرورة في تلك الساعة فقد أباح الله للإنسان أن يأكل ما حرم الله عليه، كما قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119] .(45/12)
صحة أحاديث: من شهد بالتوحيد دخل الجنة
السؤال
ورد عن بعض السلف في أحاديث التوحيد أن مَن شهد بالتوحيد دخل الجنة، وورد عن بعض السلف أن تلك الأحاديث منسوخة بأحاديث الفرائض، فهل هذا القول صحيح؟
الجواب
الصحيح أنه لا نسخ في هذا؛ ولكن ليكن معلوماً أن من شهد بالتوحيد مخلصاً فلا يمكن أبداً أن يَدَع الفرائض؛ لأن إخلاصه يحمله على فعلها، كيف يشهد أن لا إله إلا الله أي: لا معبود بحق إلا الله، ويقول: أنا أريد بذلك وجه الله، ثم لا يعمل العمل الذي يوصله إلى الله؟! فهذا لا يمكن، ولهذا مَن حافظ على ترك الصلاة ولم يصلِّ صار كافراً، حتى ولو قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر؛ فما دام أنه لا يصلي نقول: أنت كافر، لا فرق بينك وبين الذي يسجد للصنم؛ ولهذا جاء لفظٌ في رواية مسلم من حديث جابر: (بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة) .
السائل: بعضهم يفسر كلمة (منسوخة) أي: أنها مخصصة، فهل هذا صحيح؟ الشيخ: أبداً.
لم تخصص؛ لأننا نقول: إنه بالالتزام، متى شهد أن لا إله إلا الله حقاً فسوف تحمله هذه الشهادة على القيام بفرائض الله.(45/13)
المسح على الجوارب لمن لم ينو حال لبسها المسح عليها
السؤال
إذا لبستُ الجوارب على طهارة، ولَمْ أنوِ المسح، فهل لي أن أمسح إذا حان وقت الصلاة؟
الجواب
نعم.
إذا لبس الإنسان الجوارب -وهي: الشُّرَّاب- على طهارة، وإن لم ينوِ المسح إذا توضأ، فإنه يمسح حتى ولو فُرِضَ أنه لبسها في الصباح بعد الفجر ومن نيته أنه يخلعها قبل الظهر، فلو نوى أنه يخلعها قبل الظهر ثم جاء وقت الظهر ولم يخلعها فله أن يمسح عليها.
السائل: هل توقيتها يوماً وليلةً بالساعة؟ الشيخ: نعم.
توقيتها يوماً وليلة بالساعة.(45/14)
حكم الانتساب إلى الجماعات الإسلامية
السؤال
ما حكم الانتساب إلى الجماعات الإسلامية الموجودة الآن في الساحة؟ ونريد خطوطاً واضحة في التعامل معها؟
الجواب
أولاً: يا أخي! أنا لا أقر ولا أوافق على التكتل الديني، بمعنى: أن كل حزب يرى نفسَه أنه منفرد عن الآخرين؛ لأن هذا يدخل في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام:159] .
ولهذا تجد هؤلاء المتفرقين عندهم من كراهة بعضهم لبعض أشد من كرههم للفاسقين الذين يعلنون بفسقهم -كما نسمع- حتى إن بعضهم يضلل الآخر ويكفِّره بدون سبب للتكفير.
فأنا لا أرى التكتُّل والتحزب الديني، وأرى أنه يجب محو هذه الأحزاب، وأن نكون كما كان الصحابة رضي الله عنهم عليه؛ أمة واحدة، ومن أخطأ منا في طريق عَقَدي أو قولي أو فعلي فعلينا أن ننصحه وندله إلى الحق، فإن اهتدى فهذا المطلوب، وإن كان الصواب معه وجَبَ علينا الرجوع إلى ما كان عليه هو، وإذا كان الصواب معنا وأصَرَّ على ما هو عليه بلا تأويل سائغ، فحينئذ نحذر من رأيه ومما ذهب إليه دون أن نعتقد أننا في حزب وهو في حزب، فنشطِّر الأمة الإسلامية إلى شطرين أو أكثر.
فأرى أنه ينبغي لنا بل يجب علينا أن نكون ضد هذه الأحزاب، أي: ضد التحزب.
والحمد لله! الأمة كما اتفق أولها على جادَّة واحدة وطريق واحد فيمكن أن يتفق آخرها.
السائل: فهل تحذِّر من هذه الأحزاب؟! الشيخ: لا.
أنا أحذِّر من التحزب.
السائل: ولكن واقع الأحزاب بنفس هذا المعنى! الشيخ: لا؛ لأني لو قلت: أحد الأحزاب فقد يكون هذا الحزب على حق، فلا أحذِّر منه، بل أحذِّر من التحزب، وأرى أنه يجب على مَن يقال عنهم: إن هؤلاء من التبليغ، وهؤلاء من الإخوان، وهؤلاء من السَّلَفية، وهؤلاء من الإصلاح، وما أشبه ذلك، أرى أنه يجب أن يجتمع بعضُهم إلى بعض، وأن يتدارسوا الأمر، وأن يخرجوا بفكر واحد ورأي واحد.
أما أن يتعادَوا الآن كما هو في الساحة؛ فتجد هؤلاء يسبون هؤلاء، ويقعون في أعراضهم، فهذا يُوْهِنُ الجميع.
فالعامة إذا رأوا أنهم في عمىً؛ هذا يقول: الحق عندي، والباطل مع ذاك، وذاك يقول: الحق عندي، والباطل مع الآخر، فإنها تبقى متحيِّرة.
السائل: بِمَ تنصح طالب العلم اليوم؟ فهذا موضوع مهم ويحتاج إلى فتوى صريحة؛ لأن الشباب تفرقوا! الشيخ: أنا الآن أعطيتك فتوى صريحة: فأنا أرى أنه لا يجوز التحزب أبداً.
السائل: وبالنسبة للانتساب يا شيخ؟! الشيخ: ولا الانتساب، فالانتساب معناه: أنك تشعر بأنك منفرد عن الآخرين، وكيف تنفرد عن الآخرين وهم إخوانك من المؤمنين إذا ما أخطئوا في شيء عَمَلي أو عَقَدي، إذْ الذي ينبغي عليك أن تجتمع بهم وتناقشهم وتبين لهم الخطأ.
لكن ثق بأنهم إذا سمعوا -مثلاً- أن الآخرين يقدحون فيهم أو يحذِّرون منهم، فسيزداد تمسكهم بما هم عليه، حتى وإن كان باطلاً، فهذه طبيعة النفس البشرية.
ولكن لو أننا قلنا: يا جماعة! كلنا إخوان مسلمون، كلنا نريد الوصول إلى شريعة الله، فلنكن عليها سواءً، فإذا كان الله عزَّ وجلَّ يقول: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} [آل عمران:64] فكيف بإخواننا المسلمين؟! فمثلاًَ: التبليغيون: عندهم قاعدة: أن يخرج الإنسان ثلاثة أيام، أو أربعة، أو أسبوعاً، أو شهراً، فنبحث هذه الطريقة، وننظر ما هي؟ وعندهم كذلك: عدم الخوض في المسائل العلمية، والتعمق فيها، فنبحث معهم، ونقول: لماذا تقررون ثلاثة أيام، أو أربعة، أو أسبوعاً، أو شهراً، أو ما أشبه ذلك؟ لماذا؟ وننظر إذا كان لهم غرضٌ صحيح ومقصودٌ نافع، فلا نذهب لنُبَدِّعَهم، ونشهِّرَ بهم من أجل ذلك.
وإذا كانوا يكرهون المناقشة في العلم والتعمق فيه، نسألهم: لماذا؟ فإن قالوا: لئلا تحصل عداوة بين المتناقشين، قلنا: هذا غلط، فالإنسان الذي يريد الحق لو ناقشه غيرُه للوصول إلى الحق لا يكرهه، بل يقول: هذا من نعمة الله عليَّ أن أحداً يناقشني؛ حتى إذا كنتُ على خطأ تبيَّن لي خطئي.
السائل: عندنا في الكويت الشيخ سالم الطويل، والشيخ حَمَد العثمان يحاربان صراحة عدم الحزبية، ويضادون من بعض الجماعات إلا من رحم الله، فما نصيحتك لهما؟ الشيخ: أنا هذه نصيحتي -وقد سمعتَ الآن- لهما ولغيرهما.
وأنا أخبرك أيضاً أنه في مجلسنا هذا لا نتعرض لاسم شخص؛ لكن لكونك لا تدري عن منهجنا نسامحك في هذا، وإلا فإنا لا نرضى أن أحداً يذكر شخصاً معيناً، مهما كان.(45/15)
حكم الشجر النابت على القبور
السؤال
في القرية التي أنا موجود فيها الآن والقريبة من دُخْنَة يوجد قبر خارج هذه القرية، وقد نبتت على هذا القبر شجرة، فجاءت الإبل تأكل من هذه الشجرة، وتدوس على هذا القبر، وحفاظاً على هذا القبر وُضِعَ حول هذا القبر سُوْر، فهل هذا العمل جائز أم لا؟
الجواب
أولاً -بارك الله فيك-: هذه المسألة ليست مشكلة، هذه الشجرة تُقْلَع مع أصلها.
السائل: أنا أسأل عن السُّور الذي حول القبر يا شيخ! الشيخ: كُنْ معي، إذا قلعنا الشجرة من أصلها ما جاءت الإبل، وسلمنا من شر الإبل، وبقي القبر على ما هو عليه.
وأما البناية عليه.
فأخشى إن طال بالناس زمان أن يَضِلوا بهذا، فيعتقدو أنه قبر ولي أو صالح، ثم تعود مسألة القبور إلى هذه المملكة بعد أن طهرها الله منها على يد الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
فالآن لابد أن تبلغ القاضي عن الموضوع، خصوصاً إذا كان البناء قديماً كأنه حجرة، فهذا لابد أن يزال، والقبر إما أن يُنقل إلى مكان آخر إن كان بقي فيه رُفاتَ، وإن كان قد ذَهَبَ فقد ذَهَبَ.(45/16)
عدم حِلْ أكل الحرام بقصد التدريب
السؤال
بالنسبة للسؤال الثاني من هذا اللقاء وهو سؤال أكل الضفادع: نجد أن بعض التدريبات التي تحصل في الجيوش إنما لتكون في أوقات الشدة، أعني: في الحروب، حتى إذا اضطر الإنسان إليها فإنه يكون قد ألِفَها، ولا تكون مقصودةً بذاتها!
الجواب
لكن يا أخي! الإنسان إذا جاء ليأكل سواءً تدرَّب أو لم يتدرب، فإنه لا يحتاج إلى أن يتدرب، وهل يتدرب الشخص على الأكل؟ فالإنسان إذا جاع فإنه يأكل؛ ولكن يتدرب على ملاقاة الأعداء، وعلى الكر والفر، لا بأس بذلك؛ أما أن يتدرب على الأكل وعلى شرب البول فهذا ليس بصحيح.
السائل: ولكن في مناطق الشدة -يا شيخ- لا يجدون ما يأكلون؛ لأنها خالية من الطعام! الشيخ: حسنٌ! إذا وقعتَ في مناطق الشدة ولم تجد فيها إلا حيات أكلتَ وإن لم تتدرب.
إن الصبي يهديه الله إلى ثدي أمه، ويعرف مكان الثدي، والإنسان الكبير لا يعرف أنه إذا جاع يأكل الدابة أو الحية؟ فلا يحتاج هذا إلى تدرُّب أبداً.
وقد تقول: إنهم يدربونهم على السم! فنقول: السم ليس في نفس الجسم، بل يحصل السم من انفعال هذا الحيوان، ثم يبرز منه هذا السائل، كما أن الإنسان فيه الماء المهين الذي يُخلق منه الولد، فإنه لا يخرج إلا بعد أن توجد أسبابُه.(45/17)
حكم بيع الطيور غالية الثمن
السؤال
بعض الناس يشتغل في بيع الطيور بأسعار غالية، وقد يصل سعر حيوان واحد إلى (60.
000) ريال، أو إلى (5000) ريال، أو (10.
000) ريال، فما رأي فضيلتكم؟ الشيخ: أي طير هذا؟ هل هو الصقر؟ السائل: مثل الحمام.
الجواب
ذكروا أن هناك أنواعاً معينة تكون غالية، فيكون كل السوق على هذا السعر، فإذا كان هذا هو رغبة الناس فلا بأس.
لكن بالنسبة للحمام، فأنا أخشى أن قيمتها لم تَزِدْ هذه الزيادة إلا من أجل اللعب بها، واللعب بالحمام مضيعة للوقت، وتضييع الوقت منهي عنه، وإلا ما الفرق بين حمامة بخمسة ريالات وحمامة بخمسة آلاف؟! السائل: هناك نوع من الحمام يوصل الرسائل إلى الدمام، وإلى الكويت! الشيخ: كان هذا في الأول يوم أن كان الناس على الإبل والحمير، والآن الرسالة بالفاكس موجودة، وموجودة بالتليفون شفوياً، فليست هناك حاجة إليها الآن.
السائل: ومَن اشتغل في هذا يا شيخ؟! الشيخ: والله أرى أن هذا مما يُخشى أن يكون من إضاعة المال من جهة، ومن الإعانة على اللهو من جهة أخرى.
أما كونه من إضاعة المال فكيف أبذل خمسة آلاف في هذه الحمامة؟ فربما يأتي قط ويأكلها، أو تموت من العطش، أو ما أشبه ذلك؟!(45/18)
حكم إتيان العرافين
السؤال
ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قوله: (من أتى عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد) هل هذا كفرٌ مُخْرِجٌ من الملة، أم في هذا تفصيل؟
الجواب
الحديث: (من أتى عرافاً فصدقه.
) ، فإذا قال لك العراف: سيكون في الشهر الفلاني كذا وكذا، ثم صدقته، فهذا يتضمن تكذيب قوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65] ؛ لأنك الآن آمنت بأن الكلام من هذا الكاهن أو العراف حق، فيكون بذلك كفراً أكبر؛ لأن كل شيء يتضمن تكذيب ما قاله الله ورسوله فهو كفر، ولهذا جاء الحديث الذي رواه مسلم: (من أتى عرافاً فسأله لم تقبل له صلاةٌ أربعين يوماً) ، ولم يذكر الكفر؛ لأن هذا سأل مجرد سؤال ولم يصدقه، بخلاف ما لو سأله فصدقه، فإن تصديقه يتضمن تكذيب قوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65] ، ويكون كفراً مُخْرِجاً من الملة.
وقد شاهدنا -بحمد الله- كذبهم في أول السنة الميلادية في العام الماضي، فمع الأسف نشرت الصحف عن واحدة من الكاهنات أنها قالت أشياء كثيرة ستحدث، ولكننا لم نشاهد منها أي شيء، ولا واحداً منها؛ ولكنهم يُدَجِّلون على الناس، والناس مع ضعف الإيمان يتشبثون بكل شيء.(45/19)
حكم استنابة الغير في الإمامة إذا كان لدي أعمال
السؤال
ما الحكم في شخص يعمل في فِراشَة مسجد، ويأخذ المكافأة، ويجعل عاملاً هندياً يعمل في المسجد بدلاً عنه، ويعطيه (300) ريال من الراتب، والباقي يأخذه، وهو لا يعمل شيئاً؟
الجواب
أنا بلغني عن المسئولين في الأوقاف أن الفِراشَة لا يُقْصَد بها الشخص بعينه بل يُقْصَد العمل، فمتى أمَّنَ لهم الإنسان فِراشَةَ هذا المسجد وتنظيفه فليكن بأي طريق كان، وقالوا لي: لا بأس إذا كان الإنسان أخذ الفِراشَة وعنده عامل، أو استأجر عاملاً يقوم بهذا؛ يقولون: نحن لا نرى في هذا بأساً؛ لأنه ليس لنا إلا العمل فقط.
أما الإمام فلا يجوز له، فلو أن إماماً أراد أن يترك الإمامة ويجعل فيها رجلاً آخر، فإنه لا يجوز؛ لأن الإمام قد يُقْصَد بعينه لكونه قارئاً، أو لكونه عالماً، أو ما أشبه ذلك.
مع أني أرى أن الورع ترك هذا، وأن الإنسان إما أن يباشر الشيء بنفسه وإلا فليتركه لغيره من أناسٍ آخرين محتاجين، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه الاختيارات: مِنْ أَكْلِ المالِ بالباطل قومٌ يأخذون الوظائف، ويستنيبون غيرهم بيسير مما أخذوا.
وهذه تنطبق تماماً على المسألة التي قلتُ.
فأرى أن الورع أن لا يفعل الإنسان هذا؛ لكن لو فعل بِرِضى إدارة الأوقاف فلا حرج عليه.(45/20)
من أصول أهل السنة والجماعة
السؤال
ما هي أصول المسائل التي مَن خالفها فقد خالف منهج أهل السنة والجماعة؟
الجواب
هذه الأصول ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في العقيدة الواسطية، والعقيدة الواسطية كتابٌ مختصر معروف عند أكثر طلبة العلم؛ لكنه كتاب مبارك، فيه خير كثير.
ذكر رحمه الله لما أنهى الكلام على قصد السنة فقال: إن أهل السنة والجماعة وسَطٌ في فِرَق هذه الأمة، كما أن الأمة وسط في الأمم.
فأمتنا -ولله الحمد- وسط بين الأمم؛ بين اليهود والنصارى، في العقيدة، وفي الأعمال.
أولاً: في العقيدة:- نجد أن اليهود تنقَّصوا الله عزَّ وجلَّ حتى وصفوه بصفات المخلوقين الذميمة.
ماذا قالوا؟! {قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} [آل عمران:181] ، وقالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64] ، وقالوا: إن الله تعبَ، فاستراح يوم السبت بعد خَلْق السماوات والأرض، فأَلْحَقوا الخالق بالمخلوق.
والنصارى على العكس، أَلْحَقوا المخلوق بالخالق، وجعلوا عيسى بن مريم إلهاً مع الله، {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة:116] .
ثانياً: في الأعمال:- ففي الرسالات: اليهود كذبوا الأنبياء، وقتلوا الأنبياء بغير حق، والنصارى غالَوا في الأنبياء، وجعلوا عيسى إلهاً.
أما هذه الأمة -ولله الحمد- فقد خالَفَتْهم في هذين الأصلين وقالوا: إن الله سبحانه وتعالى موصوف بصفات الكمال، وأنه لا مِثْل له، ولم يصل أحد من المخلوقين إلى ما يختص بالله من الصفات.
وفي الرسل: قالت هذه الأمة: عباد الله ورسله، ليس لهم حق من الربوبية ولا من الألوهية، وهم صادقون مصدوقون.
وفي الحلال والحرام: نجد أن الله تعالى ضيَّق على اليهود المأكولات، {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام:146] .
والنصارى يستحلون كل خبيث، ويأكلون ما هبَّ ودبَّ، وهذه الأمة أحل الله لهم الطيبات، وحرم عليهم الخبائث.
وفي مسألة الحائض: نجد أيضاً أن اليهود لا يقربون الحائض، ولا يؤاكلونها، ولا يجتمعون معها في بيت، والنصارى بالعكس لا يهتمون بالنجاسات.
وهذه الأمة -ولله الحمد- وسط، يأكلون مع الحائض، ويجالسونها، ويباشر الرجل زوجته الحائض بما عدا الجماع.
فالحاصل: أن هذه الأمة وسط بين الأمم.
كذلك أهل السنة والجماعة وسط بين فِرَق الأمة في الأصول الخمسة التي ذكرها رحمه الله.
الأصل الأول: في باب الأسماء والصفات:- هم وسط بين الممثلة والمعطلة، فـ الممثلة: طائفة تقول: صفات الله تعالى كصفاتنا؛ فوجه الله كوجوهنا، وعينه كأعيننا، ويده كأيدينا، وما أشبه ذلك.
والمعطلة بالعكس، فهم ينكرون ما وصف الله به نفسه، ويقولون: ليس لله وجه، ولا يد، ولا عين، وما أشبه ذلك، و {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء:46] في هذه الأمور.
الأصل الثاني: في القَدَر:- كذلك أهل السنة والجماعة وسط في القَدَر، فهناك طائفتان ضالتان في مسألة القَدَر: الطائفة الأولى: الجبرية، تقول: إن الإنسان مُجْبَر على عمله، ولا اختيار له ولا إرادة، والطائفة الأخرى: القدرية، تقول: الإنسان مستقل بنفسه، وليس لله فيه تعلُّق، يفعل بدون مشيئةٍ من الله، وبدون خَلْق.
وأهل السنة والجماعة قالوا: إن الإنسان يفعل باختياره، وهو مختارٌ مُخَيَّر؛ ولكن أيَّ فعل يفعله فهو بمشيئة الله تعالى وخلقِه.
الأصل الثالث: في أسماء الإيمان والدِّين:- ففي أسماء الإيمان والدين نجد من الفرق المخالِفة: المعتزلة، والخوارج، من جهة، والمرجئة من جهة أخرى.
قالت المعتزلة والخوارج: إن الإنسان إذا زَنَى خرج من الإيمان، فلا يكون مؤمناً، ولا يَصْدُق عليه أنه مؤمن أبداً.
وقالت المرجئة وهم ضدهم: إن الإنسان وإن زَنَى وسرق فهو مؤمن كامل الإيمان، إيمانه مثل إيمان أطوع الناس لله.
وقال أهل السنة والجماعة: إذا زَنَى الإنسان أو سرق فإنه مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمنٌ بإيمانه، فاسقٌ بكبيرته.
الأصل الرابع: في الأحكام:- ففي أحكام الإنسان على فعله، ماذا يكون إذا فعل الكبيرة، قالت المعتزلة والخوارج: إنه يخلد في النار مع المنافقين؛ مع أبي جهل، وأبي لهب، وغيرهم، وقالت المرجئة: لا.
بل فاعل الكبيرة لا يدخل النار أبداً، ولا يمكن.
وأهل السنة والجماعة قالوا: إنه يستحق العقاب، وقد يغفر الله له.
الأصل الخامس: في أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام:- وهو الأصل الخامس الذي ذكره شيخ الإسلام، فأصحاب الرسول انقسمت فيهم أهل البدع إلى قسمين: قسمٌ كفَّروهم وضلَّلوهم كـ الرافضة، إلا آل البيت فإنهم غالَوا فيهم وأنزلوهم فوق منزلتهم، فصاروا ضالين في الصحابة من وجهين: مِن جهة تكفير وتضليل، عدا آل البيت، ومن جهة الغُلُو في آل البيت.
وهناك قسم ضدهم يُسَمَّى: الخوارج وهم النواصب، فقد كفروا علي بن أبي طالب، وخرجوا عليه، وقاتلوه، واستحلوا دمه.
أما أهل السنة والجماعة فقالوا: الصحابة رضي الله عنهم خير القرون وأفضل الأمة، ولهم حقهم الذي يجب علينا، ولآل النبي صلى الله عليه وسلم على المؤمنين به حقُّ القرابة مع الإيمان والصحبة إذا كانوا من الصحابة؛ ولكننا لا نغلو فيهم كما فعل الرافضة، ولا نقدح فيهم كما فعلت الخوارج، بل نعطي حقهم من غير غُلُو ولا تقصير.
كذلك من الأصول التي يختلف فيها أهل السنة وأهل البدع: الخروج على الأئمة: فـ الحرورية هؤلاء الخوارج خرجوا على إمام المسلمين، وكفَّروه، وقاتلوه، واستباحوا دماء المسلمين من أجل ذلك.
وأما أهل السنة والجماعة فيقولون: علينا أن نسمع ونطيع لولي الأمر فعل ما فعل من الكبائر والفسق ما لم يصل إلى حد الكفر البواح، فحينئذ نقاتله إذا لم يترتب على قتاله شر وفتن، وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن الخروج على الأئمة إلا بشروط وقال: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان) ، أربعة شروط: الأول: أن تروا، أي: بأعينكم، أو تعلموا ذلك.
الثاني: كفراً، لا فسقاً، أي: حتى لو رأى أنه يزني، أو يسرق، أو يقتل النفس المحرمة بغير حق، دون استباحة لذلك، فإنه ليس كافراً بل هو فاسق من جملة الفاسقين، ولا يحل لنا أن نخرج عليه، فالرسول قال: كفراً.
الثالث: بواحاً أي: صريحاً لا يمكن فيه التأويل، فإن أمكن فيه التأويل فإننا لا نكفره، ولا نخرج عليه.
الرابع: عندكم فيه من الله برهان، يعني: ليس الكفر الذي رأيناه بواحاً كفراً بقياس أو ما أشبه ذلك؛ بل يكون عندنا فيه برهان، ودليل واضح من الكتاب والسنة.
هذه أربعة شروط، وهناك شرط خامس يؤخذ من الأدلة الأخرى، وهو: أن يكون عندنا قدرة على إزاحة هذا الحاكم الكافر الذي كَفَرَ كفراً صريحاً عندنا فيه من الله برهان، فيكون لنا قدرة على ذلك، فإن لم يكن لنا قدرة صار الشر الذي نريد إزالته أكثر مما لو تركناه على حاله، ثم حاولنا بطريق أو بأخرى الإصلاح ما استطعنا.
ولهذا يخطئ بعض الإخوة الذين عندهم -ولله الحمد- غيرة إسلامية ودين، يخطئون حينما يخرجون على مَن ولَّاه الله تعالى إياهم، والله حكيم، فهو الذي يولِّي بعض الظالمين بعضاً، ولا تظنوا أن الولاة إذا ظلموا أو اعتدوا أن هذا تسليط من الله تعالى لمجرد مشيئة من الله، بل هو لحكمة؛ لأن الله قال: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129] .
والولاة لا يتسلطون على الرعية إلا بسبب الرعية، (كما تكونون يُوَلَّى عليكم) ، فبعض الناس الذين يحاولون الخروج على من ولاه الله عليهم ولو بالقوة هم يخطئون في الواقع من أوجه: الأول: أنه لابد من العلم بما حصل من هذا الذي ولاه الله عليهم، فلابد أن نعلم، فمجرد الكلام الذي يُنْقَل لا ينبغي أن يُصدَّق، وكم نُقِل إلينا من أقوال كاذبة، سواء في الولاة، أو فيمن هم دون الولاة، فإذا تحققنا وجدنا أنه لا أصل لها، ولهذا جاء الحديث: (إلا أن تروا كفراً) .
الثاني: إذا رأينا هذا الشيء بأعيننا، أو تواتر إلينا من ثقات، فلابد أن نعرضه على الكتاب والسنة، وننظر هل هو كفر أو فسق؟! الثالث: لابد أن يكون بواحاً، إذا ظننا أنه كفر فلا بد أن ننظر هل فيه برهان من الله؟ هل هو كفر صريح لا يحتمل التأويل؟ لأنه قد يكون كفراً؛ لكن يُعْذَر فيه الإنسان من جهة التأويل.
فلابد أن يكون بواحاً، صريحاً، واضحاً لا يحتمل التأويل.
الرابع: لابد أن يكون عندنا فيه من الله برهان، وهو الدليل القاطع الواضح.
وإنما ضيق النبي عليه الصلاة والسلام ذلك، أي: الخروج على الأئمة بهذه القيود التي قد يظنها بعض الناس صعبة؛ لأن ما يترتب على الخروج أشد ضرراً مما هم عليه.
وأنتم تشاهدون الآن ما حصل من الثورات، هل كانت الشعوب أسعد بعد الثورة منها قبل الثورة؟ أبداً.
بل بالعكس، وليس هناك حاجة إلى أن نعين بلاداً معينة في هذا المكان؛ لأن الأمر واضح.
فالمهم أن ننصح إخواننا المسلمين بعدم التسرع(45/21)
لقاء الباب المفتوح [46]
كان الحديث في هذا اللقاء عن تفسير الآيات الأخيرة من سورة الطارق، وتحدثت الآيات عن قسم الله بالسماء ذات الرجع، والأرض ذات الصدع، كما تحدث عن المناسبة بين القسم الذي في أول السورة والقسم الثاني، واستمر الشيخ في تفسير الآيات حتى آخر السورة، ثم أجاب عن الأسئلة.(46/1)
تفسير آيات من سورة الطارق
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن هذا اللقاء الأول لشهر رجب عام (1414هـ) ، وهو اللقاء الذي يتم كل يوم خميس من كل أسبوع، نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا جميعاً بما علمنا، وأن يجعلنا هداة مهتدين، صالحين مصلحين.
عادتنا أن نبدأ هذا اللقاء بتفسير آيات من كتاب الله، وقد ابتدأنا من سورة النبأ، وها نحن الآن في آخر سورة الطارق.(46/2)
تفسير قوله تعالى: (والسماء ذات الرجع)
قال الله تعالى بعد أن ذكر الإقسام بالسماء والطارق إلى قوله: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} [الطارق:9-10] قال تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} [الطارق:11-12] هذا هو القسم الثاني بالسماء، والقسم الأول ما كان في أول السورة قال: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} [الطارق:11] .
فهناك قال: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ} [الطارق:1-3] وهنا قال: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} [الطارق:11-12] {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} [الطارق:13] .
والمناسبة بين القسمين والله أعلم: أن الأول فيه إشارة إلى الطارق الذي هو النجم، والنجم هو كما نعلم ترمى به الشياطين الذين يسترقون السمع، وفي رمي الشياطين بذلك حفظ لكتاب الله عز وجل.
أما هنا فأقسم بالسماء ذات الرجع أن هذا القرآن قول فصل، فالقسم الأول مناسبته أن فيه الإشارة إلى ما يحفظ به القرآن حال إنزاله، وفي القسم الثاني الإشارة إلى أن القرآن حياة؛ لأنه قال: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} [الطارق:11] والرجع: هو المطر، يسمى رجعاً؛ لأنه يرجع ويتكرر، ومعلوم أن المطر به حياة الأرض.
{وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} [الطارق:12] الصدع: هو الانشقاق، يعني: التشقق لخروج النبات منها، فأقسم بالمطر الذي هو سبب خروج النبات، وبالتشقق الذي يخرج منه النبات، وكله إشارة إلى حياة الأرض بعد موتها.
والقرآن به حياة القلوب بعد موتها كما قال الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52] فسمى الله القرآن روحاً؛ لأنه تحيا به القلوب.
يقول عز وجل: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} [الطارق:11] أي: ذات المطر {وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} [الطارق:12] أي: ذات الانشقاق لخروج النبات منها.(46/3)
تفسير قوله تعالى: (إنه لقول فصل)
قوله: {إِنَّهُ} [الطارق:13] أي: القرآن {لَقَوْلٌ فَصْلٌ} [الطارق:13] فوصفه الله بأنه قول.
قول من؟ قول الله عز وجل، فهو الذي تكلم به وألقاه إلى جبريل، ثم نزل به جبريل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أضاف الله القرآن قولاً إلى جبريل وإلى محمد عليهما الصلاة والسلام فقال تعالى عن الأول: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:19-21] وقال عن الثاني -وهو الرسول صلى الله عليه وسلم-: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة:40-41] .
ففي الأول أضاف القول إلى جبريل؛ لأنه بلغه عن الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وفي الثاني أضافه إلى محمد؛ لأنه بلغه إلى الناس، وإلا فإن الذي قاله ابتداءً هو الله سبحانه وتعالى.
{إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} [الطارق:13] فصل: يفصل بين الحق والباطل، وبين المتقين والظالمين، بل إنه فصل، أي: قاطع لكل من ناوأه أو عاداه، ولهذا نجد المسلمين لما كانوا يجاهدون الكفار بالقرآن نجدهم غلبوا الكفار وقطعوا دابرهم، وقضى بينهم، فلما أعرضوا عن القرآن هُزموا وذُلوا بقدر بعدهم عن القرآن، فكلما ابتعد الإنسان عن كتاب الله ابتعدت عنه العزة، وابتعد عنه النصر، حتى يرجع إلى كتاب الله عز وجل.(46/4)
تفسير قوله تعالى: (وما هو بالهزل)
قال تعالى: {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق:14] أي: وما هو باللعب والعبث واللغو، بل هو حق، كلماته كلها حق، أخباره صدق، وأحكامه عدل، وتلاوته أجر، لو تلاه الإنسان كل أوانه لم يمل منه، وإذا تلاه بتدبر وتفكر فتح الله عليه من المعاني ما لم يكن عنده من قبل، وهذا شيء مشاهد اقرأ القرآن وتدبره، كلما قرأته وتدبرته حصل لك من معانيه ما لم يكن يحصل لك من قبل؛ كل هذا لأنه فصل وليس بالهزل، لكن الكلام اللغو من كلام الناس كلما كررته كرهته ومللته، أما كتاب الله فلا يمل منه قارئه.(46/5)
تفسير قوله تعالى: (إنهم يكيدون كيداً)
ثم قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً} [الطارق:15] (إِنَّهُمْ) أي: الكفار المكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم (يَكِيدُونَ كَيْداً) أي: يكيدون كيداً عظيماً للرسول صلى الله عليه وسلم ولمن اتبعه.
وانظر ماذا كانوا يفعلون بالمؤمنين أيام كانوا بـ مكة من التعذيب والتوبيخ والتشريد.
هاجر المسلمون مرتين إلى الحبشة، ثم هاجروا إلى المدينة، كل ذلك فراراً بدينهم من هؤلاء المكذبين المجرمين، الذين آذوهم بكل كيد، وأعظم ما فعلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم حين الهجرة، حيث اجتمع رؤساؤهم وأشرافهم يتشاورون ماذا يفعلون بمحمد صلى الله عليه وسلم.
فكلما ذكروا رأياً نقضوه، وقالوا: هذا لا يصلح، حتى أشار إليهم -فيما ذكر أهل التاريخ- الشيطان الذي جاء في صورة رجل، وقال لهم: إني أرى أن تختاروا عشرة شبان من قبائل متفرقة، وتعطوا كل واحد منهم سيفاً ماضياً حتى يقتلوا محمداً قتلة رجل واحد، فإذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل، فلم تستطع بنو هاشم أن تقتص من القبائل كلها، فيضطرون إلى أخذ الدية، وهذا هو الذي يريدون، فأجمعوا على هذا الرأي، واستحسنوا هذا الأمر.
وفعلاً جلس الشبان العشرة ينتظرون خروج النبي صلى الله عليه وسلم ليقتلوه، لكن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من الباب وهم جلوس ولم يشاهدوه.
وذكر أهل التاريخ أنه جعل يذر التراب على رءوسهم إذلالاً لهم ويقرأ قول الله تبارك وتعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9] .
ولا تتعجبوا كيف خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بينهم ولم يشاهدوه، لا تتعجبوا من هذا، فهاهي قريش حين اختبأ النبي صلى الله عليه وسلم في الغار -لما خرج من مكة يريد المدينة - اختبأ في الغار ثلاثة أيام ليَخفَّ عنه الطلب؛ لأن قريشاً صارت تطلبه، وجعلت لمن جاء بخبره مائة بعير، ولمن جاء به مع أبي بكر مائتي بعير، وهذه جائزة كبيرة.
فوقفوا على الغار الذي فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر -وكلنا يعلم أن الغار المفتوح إذا كان فيه أحد فسوف يُرى- ولكنهم لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبا بكر رضي الله عنه الذي قال: (يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى قدمه لأبصرنا، فقال: لا تحزن إن الله معنا، ما ظنك باثنين الله ثالثهما) فاطمأن أبو بكر.
هؤلاء القوم الذين وقفوا على الغار ليس عندهم قصور في السمع، ولا قصور في البصر، ولا قصور في الذكاء؛ ولكن أعمى الله أبصارهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن صاحبه، فلا تعجب إن خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين هؤلاء الشبان العشرة -كما قال أهل التاريخ- وجعل يذر التراب على رءوسهم ويقول: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9] .
هنا يقول عز وجل في سورة الطارق: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً} [الطارق:15-16] واقرأ قول الله تعالى في سورة الأنفال: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ} [الأنفال:30] يعني: يحبسوك {أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] .(46/6)
تفسير قوله تعالى: (فمهل الكافرين أمهلهم رويداً)
ثم قال عز وجل: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:17] مهِّل وأمهل معناهما واحد، أي: انتظر بمهلة، ولا تنتظر بمهلة طويلة: {أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:17] أي: قليلاً، و (رويداً) : تصغير رود أو إرواد، والمراد به: الشيء القليل.
وفي هذه الآية تهديد لقريش وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ووعد له بالنصر، وحصل الأمر كما أخبر الله عز وجل، خرج النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً منهم، وحصل بينه وبينهم حروب، وفي السنة الثانية للهجرة قتل من صناديد قريش وكبرائهم وزعمائهم نحو أربعة وعشرين رجلاً؛ منهم قائدهم أبو جهل، وبعد ثماني سنوات، بل أقل من ثماني سنوات دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً منصوراً ظافراً، حتى إنه قال -كما جاء في التاريخ- قال وهو ممسك العضادتي باب الكعبة، وقريش تحته: (ما ترون أني فاعل بكم؟ -لأن أمرهم أصبح بيده عليه الصلاة والسلام- قالوا: أخ كريم! وابن أخ كريم! قال: إني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92] اذهبوا فأنتم الطلقاء) وإنما منَّ عليهم هذه المنة صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم أسلموا، وقد قال الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال:38] .
هذا هو آخر ما تيسر من الكلام على سورة الطارق، وإني أحثكم على تدبر القرآن وتفهم معانيه، خذوا معانيه من أفواه العلماء الموثوقين، أو من كتب التفسير الموثوقة كـ تفسير ابن كثير، أو تفسير عبد الرحمن بن سعدي، وما أشبهها من التفاسير التي تعرفون أصحابها أنهم موثوقون في عقيدتهم وفي آرائهم.
نسأل الله أن يجعلنا ممن يتلون كتابه حق تلاوته، وأن ينفعنا به، وأن يجعله شفيعاً لنا يوم القيامة، إنه على كل شيء قدير.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(46/7)
الأسئلة(46/8)
من أحكام صلاتي الاستسقاء والعيد
السؤال
فضيلة الشيخ! بالنسبة لصلاة الاستسقاء والعيدين إذا فاتت الإنسان هل يقضيها أم لا؟ وإذا فاتته ركعة فهل يقضي التكبيرات أم لا؟ وبالنسبة للأئمة الذين لا يطلبون من المأمومين تسوية الصفوف فما نصيحتكم لهم؟
الجواب
هذا السؤال يأتي في مناسبة طيبة؛ لأنه صادف اليوم الذي أقمنا فيه صلاة الاستسقاء، والاستسقاء كما نعلم هو طلب السقيا، وطلب السقيا يكون على أوجه كثيرة، قد تستسقي وأنت في السجود، وقد تستسقي وأنت في مجلس بين أصحابك، وقد يستسقي الخطيب في يوم الجمعة، وقد يخرج الناس إلى مصلى العيد ليصلوا صلاة الاستسقاء.
وصفة صلاة الاستسقاء كصلاة العيد، أما الخطبة فإنها خطبة واحدة، وليست كخطبة العيد، فالعيد فيه خطبتان، وهذا هو المشهور عند أهل العلم، وقيل: للعيد خطبة واحدة، وهو الذي تدل عليه الأدلة الصحيحة السالمة من التضعيف، أن خطبة العيد واحدة لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخطب الرجال أولاً ثم ينزل إلى النساء فيعظهن.
أما الاستسقاء فهو خطبة واحدة، حتى على قول من يرى أن صلاة العيد لها خطبتان فهي خطبة واحدة؛ إما قبل الصلاة أو بعد الصلاة، فالأمر كله جائز، لو أن الإمام حين حضر إلى المصلى فاستقبل القبلة ودعا وأمن الناس على ذلك لكان كافياً، وإن أخر الخطبة إلى ما بعد الصلاة فهو أيضاً كافٍ وجائز، فالأمر في هذا واسع.
وإنما قلت ذلك لئلا يستنكر أحدٌ مما قد يفعله بعض الأئمة من الخطبة والدعاء في صلاة الاستسقاء قبل الصلاة، فإن فعل ذلك لا ينكر عليه؛ لأنه سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أما إذا فاتت الإنسان صلاة الاستسقاء فأنا لا أعلم في هذا سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لو صلى ودعا فلا بأس.
وأما صلاة العيد فإنها لا تقضى إذا فاتت؛ لأنها صلاة شرعت على وجه معين، وهو حضور الناس واجتماعهم على إمام واحد، فإذا فاتت فإنها لا تقضى.
وكذلك صلاة الجمعة فإنها إذا فاتت لا تقضى -أيضاً- لكن يصلي بدلها ظهراً؛ لأن هذا وقت الظهر، فإن لم يتمكن من الجمعة صلى الظهر.
أما العيد فلم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم عنها بدل، فإذا فاتتك مع الإمام فقد فاتتك، ولا يشرع لك قضاؤها، وأما بالنسبة للتكبيرات التي بعد تكبيرة الإحرام فإنك إذا دخلت مع الإمام بعد انتهاء التكبيرات فإنك لا تعيد التكبيرات؛ لأنها سنة فات محلها، فإذا فات محلها سقطت.
أما الركعة الثانية فسوف تكبر مع الإمام، وأما إذا فاتتك الركعة الأولى ولم تدخل مع الإمام إلا في الركعة الثانية فمن المعلوم أنك سوف تكبر التكبيرات التي يكبرها الإمام أو ما بقي منها، وإذا قمت إلى قضاء ما فاتك فإنك تكبر في الركعة التي تقضيها.
أما طلب الأئمة تسوية الصفوف في صلاة العيد وفي صلاة الاستسقاء فإنه مشروع كغيرها من الصلوات؛ وذلك لأن الناس إذا لم ينبهوا على هذا ربما يغفلون عنه، فكل صلاة يشرع فيها الجماعة؛ فإنه يشرع للإمام إذا كان الناس صفوفاً أن ينبههم وأن يقول: استووا، اعتدلوا.
وأما قول بعض الأئمة: استقيموا.
فإن هذا لا أصل له، ولم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بحثت عنها وسألت بعض الإخوان أن يبحثوا عنها، فلم يجدوا لها أصلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول بدل (أقيموا صفوفكم) (استقيموا) .
ولا وجه لقوله (استقيموا) ؛ لأن المراد بقوله (استقيموا) أي: على دين الله، وليس هذا محله؛ لأن هذا محل أمر الناس بإقامة الصفوف في الصلاة، فالمشروع أن يقول: أقيموا صفوفكم سووا صفوفكم وما أشبه ذلك.(46/9)
حكم استفتاء أكثر من عالم في المسألة الواحدة
السؤال
هل يجوز استفتاء أكثر من عالم؟ وفي حالة اختلاف الفتيا هل يأخذ المستفتي بالأيسر أم بالأحوط؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
لا يجوز للإنسان إذا استفتى عالماً واثقاً بقوله أن يستفتي غيره؛ لأن هذا يؤدي إلى التلاعب بدين الله وتتبع الرخص؛ بحيث يسأل فلاناً فإن لم يناسبه سأل الثاني، وإن لم يناسبه سأل الثالث وهكذا.
وقد قال العلماء في تتبع الرخص: فسق.
لكن أحياناً يكون الإنسان ليس عنده من العلماء إلا فلان مثلاً، فيسأله من باب الضرورة، وفي نيته أنه إذا التقى بعالم أوثق منه في علمه ودينه سأله، فهذا لا بأس به أن يسأل الأول للضرورة، ثم إذا وجد من هو أفضل سأله.
وإذا اختلف العلماء عليه في الفتيا، أو فيما يسمع من مواعظهم ونصائحهم -مثلاً- فإنه يتبع من يراه إلى الحق أقرب في علمه ودينه، فإن تساوى عنده الرجلان في العلم والدين فقال بعض العلماء: يتبع الأحوط وهو الأشد.
وقيل: يتبع الأيسر، وهذا هو الصحيح؛ أنه إذا تعادلت الفتيا عندك فإنك تتبع الأيسر؛ لأن دين الله عز وجل مبني على اليسر والسهولة، لا على الشدة.
وقد قالت عائشة رضي الله عنها في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً) .(46/10)
كيفية التخلص من الوساوس
السؤال
امرأة ابتلاها الله بوسواس في الطهارة، والشعور بعد الوضوء بمدافعة الخبث، وفي ذات مرة شعرت بمن يأمرها بسب القرآن وسب الله فما كان منها إلا أن بكت، فكيف علاجها والخلاص من هذا الوسواس؟
الجواب
هذا الوسواس مبتلى به كثير من الناس إذا لم يكن السؤال الذي يرد علينا بالتليفون مكرراً من سائلٍ واحد فما أكثر هذا في الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله، ودواء الوسواس كثرة التعوذ بالله من الشيطان الرجيم ولاسيما قراءة المعوذتين، فإنه ما استعاذ مستعيذ بمثلهما {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:1-2] وأول ما يدخل في ذلك شر الشيطان؛ لأنه من مخلوقات الله، وفي سورة الناس: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:1-4] .
فدواء ذلك بكثرة التعوذ بالله من الشيطان الرجيم، واللجوء إلى الله تبارك وتعالى، والعزيمة الصادقة، بحيث لا يلتفت الإنسان لما يرد على قلبه من الوساوس.
مثلاً توضأ مرة واحدة أو مرتين أو ثلاثاً فلا تلتفت إلى وسوسة الشيطان، حتى لو شعر الإنسان في نفسه أنه لم يتوضأ مثلاً، أو أنه أهمل شيئاً من أعضائه، أو أنه لم ينو فلا يلتفت لهذا الشيء.
وكذلك لو أنه في صلاته شعر أو وقع في نفسه أنه لم يكبر للإحرام لا يلتفت لذلك، يمضي في صلاته يكملها، وكذلك -أيضاً- لو خطر في قلبه ما ذكر من سب الله عز وجل أو سب المصحف أو غير ذلك من الكفر فلا يلتفت لهذا ولا يضره، حتى لو فرض أنه جرى على لسانه هذا الشيء وهو بغير اختيار فلا شيء عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا طلاق في إغلاق) فإذا كان طلاق الموسوس لا يقع؛ فهذا أولى بالعفو، لكن يعرض عن هذا، ولا يهتم به.
فوصيتي لهذه ولغيرها -ممن ابتلي بذلك-: الإكثار من الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، ومن قراءة السورتين العظيمتين: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] ومن العزيمة الصادقة وعدم الالتفات إلى تلك الوساوس الشيطانية.
ولو أوقع الشيطان في قلبه التشكيك في الله، أو ما أشبه ذلك؛ لا يهمه؛ لأنه ما تألم من هذا الشك إلا لإيمان في قلبه، فغير المؤمن لا يهمه شك أو لم يشك؛ لكن الذي يتألم من هذه الشكوك والوساوس مؤمن، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة: (ذلك صريح الإيمان) يعني: أن ما يلقي الشيطان في قلوبكم من مثل هذه الأمور صريح الإيمان -أي: خالصه- جعله من خالص الإيمان مع أن الشك يرد على القلب؛ لأن هذا الذي ورد على قلبه الشك لا يطمئن لهذا الشك ولا يلتفت إليه ويتألم منه ولا يريده، والشيطان لا يأتي إلا القلوب العامرة حتى يدمرها، فالقلوب الدامرة لا يأتيها؛ لأنها دامرة، قيل لـ ابن عباس أو ابن مسعود: إن اليهود يقولون نحن لا نوسوس في صلاتنا.
قال: [نعم.
وما يفعل الشيطان بقلب خراب؟!] .
فوصيتي لها -وأرجو أن تبلغها أو تشتري لها الشريط لتسمعه- أن تعرض عن هذا كله، وهي سوف تتألم أول ما تعمل هذا العمل، سوف ترى أنها صلت بغير طهارة، أو صلت بغير تكبيرة الإحرام، أو ما أشبه ذلك؛ ولكنها سوف تستريح بعد ذلك، ويزول عنها الشك والوسواس بإذن الله.
والحمد لله هناك أناس شكوا هذه الشكوى، وبلغوا بما ينبغي أن يقاوموها به؛ فعافاهم الله منها، نسأل الله لها العافية.(46/11)
الجمع بين ترك طلب الدعاء من الغير، وطلب عمر من أويس أن يدعو له
السؤال
فضيلة الشيخ! هل في طلب الإنسان من غيره ممن يرى على ظاهره الصلاح أن يدعو له بظهر الغيب، هل في ذلك ضعف في توكل ذلك الشخص الطالب للدعاء؟ وإن كان كذلك فما توجيهكم في طلب عمر من أويس القرني الدعاء له مع أن عمر أفضل من أويس؟
الجواب
طلب الإنسان من غيره أن يدعو له لو لم يكن فيه إلا أنه سأل الناس، وقد كان من مبايعات الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ألا يسألوا الناس شيئاً.
و (شيئاً) نكرة في سياق النفي تعم كل شيء، هذه هي القاعدة الأصولية، حتى كان عصا أحدهم يسقط منه وهو على راحلته فينزل ويأخذه لا يقول لأحد: ناولني العصا؛ لأنهم بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم ألا يسألوا الناس شيئاً، لو لم يكن فيه إلا هذا لكفى، لكن ربما يكون في قلب الإنسان احتقارٌ لنفسه وسوء ظنٍ فيسأل غيره، فيقال: يا أخي! أحسن الظن بالله عز وجل.
وأنت إذا كنت لست أهلاً لقبول الدعاء، فإن دعاء غيرك لا ينفعك، فعليك أن تحسن الظن بالله، ولا تجعل واسطة بينك وبين الله يدعو لك؛ ادع ربك أنت، فالله عز وجل يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف:55] فنفس دعائك لله عبادة، فكيف تفوت على نفسك هذه العبادة العظيمة؟ وكذلك فإن بعض الناس إذا طلب من شخص يظهر فيه الصلاح أن يدعو له فإنه ربما يعتمد على دعائه هذا ولا يدعو لنفسه أبداً، ثم إن فيه -أيضاً- مسألة ثالثة: وهي أنه ربما يحصل للذي طلب منه الدعاء غرور بنفسه، وأنه أهل لأن يطلب منه الدعاء.
لكن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال: إذا طلبت من أخيك الدعاء -تريد بذلك نفعه بإحسانه إليك، أو نفعه إذا دعا لك بظهر الغيب- إن الملك يقول: آمين، ولك بمثله.
فهذا لا بأس به، أما إذا أردت مجرد انتفاعك أنت فقط؛ فهذا من المسألة المذمومة.
أما ما ذكرت من طلب عمر رضي الله عنه من أويس أن يدعو له رضي الله عنه فهذا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وهو خاص بالرجل، ولهذا لم يطلب من عمر أو غيره أن يقول لـ أبي بكر رضي الله عنه: ادع الله لنا، وأبو بكر أفضل من عمر، وأفضل من أويس، وأفضل من بقية الصحابة، لكن هذا خاص بهذا الرجل الذي حث النبي صلى الله عليه وسلم ممن أدركه أن يقول له: ادع الله لي، والمسائل الخاصة لا تتعدى محلها.(46/12)
كيفية صلاة الاستسقاء لمن فاتته، وبيان الوقت الذي يكون فيه الدعاء
السؤال
بالنسبة للذي لم يدرك صلاة الاستسقاء، لو قلنا أن يصلي ما فاته، فهل يدعو قبل السلام أو بعد السلام؟ وهل يصليها كبقية النوافل في البيت مثلاً؟
الجواب
إذا قلنا بقضائها، وأنا قلت لا أعلم في هذا أثراً عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن إذا قضاها فهي صلاة نافلة، لكن يقضيها على صفة ما فعلها الإمام.
أما الدعاء فيدعو في أثناء الصلاة؛ لأن الإمام يدعو بعد الصلاة أن يوجهوا الناس في الخطبة فلذلك يدعو بعد الصلاة، لكن هذا الرجل ليس عنده من يخطب فيه، فالمختار أن يدعو أثناء الصلاة.(46/13)
نسخ القرآن بالسنة
السؤال
فضيلة الشيخ: في شأن النسخ، هل نسخ شيء من القرآن بالسنة؟
الجواب
لا أعلم شيئاً من القرآن نسخ بالسنة إلا مسألة اللوطي -نسأل الله العافية- فإن الله تعالى قال في القرآن: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَحِيماً} [النساء:16] فهذه الآية تدل على أن الفاعلين يؤذيان حتى يتوبا ويصلحان، فجاءت السنة: (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به) فهذا يستدل به على أن السنة تنسخ القرآن.
وعمل قوم لوط أكبر من الزنا -والعياذ بالله- وأفحش، والدليل على هذا أن الله قال في القرآن: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء:32] أي: فاحشة من الفواحش، وأما اللواط فقد قال لوط لقومه: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} [الأعراف:80] أي: الفاحشة العظمى الكبرى، ولهذا دخلت عليها (أل) فكان اللواط أعظم من الزنا، ويدل على هذا أن الله سبحانه وتعالى بعث رسولاً برسالة تامة لينذر من هذه الفعلة الشنيعة، وأن الله أهلك فاعلي هذه الفعلة الشنيعة بصفة عامة، فدل ذلك على أن اللواط أعظم من الزنا، ولهذا يجب على ولي الأمر إذا ثبت اللواط بين اثنين وكلاهما بالغ عاقل، ولم يكره أحد منهما يجب عليه أن يقتلهما امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ودرءاً لهذه المفسدة القبيحة والفاحشة الشنيعة نسأل الله العافية.
هذا الذي يحضرني بعد التتبع من نسخ القرآن بالسنة.
وأما من قال: إن قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:180] منسوخ بقوله صلى الله عله وسلم: (لا وصية لوارث) فهذا قول لا يصح: أولاً: لأن الحديث ليس فيه نسخ بل فيه التخصيص؛ لأن الآية فيها الأمر بالوصية للأقربين، وهذا يعم الوارث وغير الوارث، ثم رفع الحكم عن الوارث فقط، وهذا تخصيص لا نسخ؛ لأن النسخ رفع الحكم كله، لا رفع الحكم عن بعض أفراد العموم.
ثانياً: أن الحديث مبين للناسخ وليس ناسخاً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث) وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الله تعالى قسم الميراث وأعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية بعد هذا التقسيم لوارث.
لكن ليكن معلوماً لديك أنه حتى وإن لم يوجد مثال يسلم من المعارضة؛ فإن السنة إذا صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم فهي بمنزلة القرآن، يجب العمل بما فيها، وتصديق خبرها.(46/14)
كيفية قضاء من فاتته ركعة في صلاة الاستسقاء
السؤال
بالنسبة لصلاة الاستسقاء: لو فاتته الركعة الأولى، هل يكملها على أنها الثانية أو على أنها الأولى؟
الجواب
هذه المسألة مبنية على خلاف مشهور، هل ما يقضيه المأموم المسبوق أول صلاته أو آخر صلاته؟ والصحيح أن ما يقضيه هو آخر صلاته لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وما فاتكم فأتموا) ويظهر الخلاف فيما لو أدرك الإنسان في صلاة الظهر الركعتين الأخريين وقام يقضي فهل يقرأ مع الفاتحة شيئاً؟ إن قلنا: إن ما يقضيه أول صلاته، قرأ بعد الفاتحة ما تيسر من القرآن، وإذا قلنا: إنه آخر صلاته لم يقرأ، والصحيح أنه آخر صلاته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (وما فاتكم فأتموا) ولأن الإنسان إذا أدرك ركعة من صلاة المغرب فإنه يتشهد التشهد الأول بعد الركعة الأولى التي يقضيها، ولو كان أول صلاته لم يتشهد، لقلنا له: صل الركعتين اللتين تقضيهما بدون تشهد إلا الأخيرة، وبناءً على ذلك إذا أدرك الركعة الثانية في صلاة الاستسقاء أو العيد، ثم قام يقضي؛ فإنه لا يكبر في الثانية التي يقضيها إلا خمس مرات فقط.(46/15)
الفرق بين موالاة الكفار وتوليهم
السؤال
فضيلة الشيخ! ما هو الفرق بين موالاة الكفار وتوليهم؟
الجواب
الموالاة معناها: المناصرة والمساعدة على أمورهم الكفرية، ومن ذلك أن يقاتل المسلمون مع الكفار؛ يعني: مثلاً يقوم الكفار بغزو بلد من البلدان الإسلامية، فيتولاهم هذا المسلم، وينصرهم، ويساعدهم على هذه البلدة في القتال، سواءً بالسلاح، أو بإمدادهم بأي شيء يساعدهم على قتال المسلمين، هذا من موالاتهم، وهو -أيضاً- من توليهم، فإن الموالاة والتولي يراد بها هنا المناصرة وأن يكون يداً معهم على المسلمين.
وأما الاستعانة بهم فهذا يرجع إلى المصلحة، وإن كان في ذلك مصلحة؛ فلا بأس، بشرط أن نخاف من شرهم وغائلتهم، وألا يخدعونا، وإن لم يكن في ذلك مصلحة؛ فلا يجوز الاستعانة بهم؛ لأنهم لا خير فيهم.(46/16)
حكم استعمال بعض الطبول فيما يستعمل فيه الدف
السؤال
فضيلة الشيخ! هناك نوع من الطبول يكون مغطى من جهة، والجهة الثانية يكون مغطى معظمه إلا فتحة صغيرة، فهل يلحق هذا بالدف؟
الجواب
هذا -سلمك الله- يلحق بالطبل، وربما يكون أشد؛ لأن الفتحة اليسيرة تجعل الصوت يخرج من هذه الفتحة اليسيرة ويحصل له صفير وصوت أبلغ مما لو كان مختوماً كله أو مفتوحاً كله، فلا يجوز أن يستعمل هذا فيما يستعمل فيه الدف؛ لأن الدف أهون بلا شك من هذا، هذا يعطي صوتاً رناناً وسبباً للنشوة والطرب أكثر.(46/17)
معنى: (اقرأ وارق ورتل)
السؤال
الله سبحانه وتعالى يقول لصاحب القرآن: (اقرأ وارق ورتل) الحديث، هل المقصود بالقراءة: النظر أم الحفظ؟
الجواب
النصوص الواردة في فضل تلاوة القرآن تشمل تلاوته نظراً وتلاوته حفظاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو أراد الحفظ فقط لقال: من قرأ عن ظهر قلب، فلما لم يقيده فإن الواجب إطلاقه، وأن نقول: من قرأ من المصحف أو عن ظهر قلب فإنه ينال الأجر الثابت لتالي القرآن.(46/18)
حكم العباءات ذات الأكمام الضيقة أو الشفافة
السؤال
ظهر في الآونة الأخيرة عند النساء أكمام للعباءات ضيقة، ويكون حول هذا الكم تطريز أو نحوه، كذلك بعض العباءات يكون الطرف الأخير من الكم شفافاً، ما توجيهكم حول هذه الأشياء؟
الجواب
نحن نقول: لدينا قاعدة مهمة، وهي أن الأصل في اللباس والطعام والشراب والمعاملات الأصل فيها الحل، وأنها حلال، ولا يحل لأحد أن يحرم منها إلا ما دل النص على تحريمه، فإذا علمنا هذه القاعدة وهي قاعدة دل عليها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة:29] وقال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32] وقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275] .
فكل شيء لم يحرمه الله من هذه الأمور فهو حلال، هذا هو الأصل إلا إذا جاء الشرع بتحريمه كتحريم الذهب على الرجال، وتحريم الحرير على الرجال، إلا ما استثنى منه، وتحريم إسبال الإزار والسروال والقميص والعباءة للرجال، وما أشبه ذلك، فإذا طبقنا هذه المسألة التي حدثت أخيراً وهي العباءات الجديدة على هذه القاعدة قلنا: الأصل أنها حلال، إلا إذا كان في ذلك لفت نظر أو فتنة، لكونها مطرزة على وجه يلفت النظر، فحينئذ نمنعها لا لذاتها، ولكن لما يترتب عليها من الفتنة، وكذلك لو فرض أن النساء صنعن عباءات على شكل عباءات الرجال فإنهن يُمنعن من ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء، فهذه العباءات نقول: الأصل فيها الحل ما لم نعلم سبباً للفتنة أو لفت النظر، فتمنع حينئذ.
السائل: فضيلة الشيخ! هل للمدرسة أن تمنع البنات من لبس مثل هذه العباءات؟ الشيخ: لابد أن نعرف هل هذا حرام أم حلال؟ فإذا كان حراماً؛ فالواجب أنه يبلغ مدير التعليم أو على الأقل مديرة المدرسة حتى تكون المسألة عامة؛ لأنه ربما هذه المدرسة تمنع، والمدرسة الأخرى لا تمنع، ثم يحصل النزاع.
ولذلك فإني أنصح الإخوان جميعاً بأن الأمور المشتركة لا ينبغي أن ينفرد بالحكم فيها شخص واحد من هؤلاء المشتركين، بل الأولى أن يؤتى من الأصل، ويكون الأمر من أعلى، ولهذا دائماً يسألنا بعض الأحيان بعض الإخوان من العسكر أو غيرهم عن أشياء هي محرمة وليس عندنا فيها إشكال، لكن نخشى أن نعطيهم فتوى مكتوبة محررة تكون سبباً للنزاع فيما بينهم؛ لأنه قد يأتي إنسان ويقول: هذا ليس بحرام، أو يسأل أحداً ليس عنده علم أو متساهل فيفتيه بأنه ليس فيه بأس، ثم يحصل في هذا نزاع، فمثل هذه الأمور يجب التنبه لها، وأن يكون الأمر ممن له السلطة على هذه المجموعة، فإذا كان من هؤلاء الطالبات من تتساهل في اللباس أو تأتي باللباس المحرم فإنه ينبغي أن يُتصل بمديرة المدرسة، فإن كانت المديرة لها القول في هذا قالت، وإن لم يكن عرض الأمر على إدارة التعليم.(46/19)
حكم استخدام حبوب منع الحمل
السؤال
فضيلة الشيخ! تقول بعض النساء: إني أريد أن آخذ حبوب منع الحمل حتى يتم ولدي الرضاع، فهل عليَّ محظور في ذلك؟
الجواب
أولاً: بارك الله فيك! حبوب منع الحمل بلغني من عدة جهات من الأطباء أنها ضارة، وهذا وإن لم نعلمه من جهة الأطباء فنحن نعلمه من جهة أنفسنا؛ لأن منع الشيء الطبيعي الذي خلقه الله عز وجل وكتبه على بنات آدم لا شك أنه ضرر، فالله عز وجل حكيم، ما جعل هذا الدم الذي تفرزه العروق في وقت معين بصفة معينة إلا لحكمة، فكوننا نمنعه بهذه العقاقير ضرر بلا شك، لكني بلغني أن الأمر أكثر مما نتصور، وأنه قد يكون سبباً لفساد الرحم، وسبباً لتشويه خلقة الجنين، وسبباً لأمراض الأعصاب، وكل هذا يوجب الحذر منه.
وهنا طرق لمنع الحمل أسهل من هذا، لكن يبقى على النظر في المرتبة الثانية أو الدرجة الثانية، هل من المستحسن أن نقلل الحمل؟ الجواب: لا.
كلما كثر النسل فهو أفضل؛ لاسيما أننا الآن في وقت يجب أن نكثر من نسل الأمة السلفية حتى تكون قادرة على مواجهة أعدائها، فالمسألة لا ينظر إليها من زاوية الدنيا فقط، والله إن الإنسان يخشى من الرفاهية التي تخالف الشرع أن يقال فيه يوم القيامة: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة:45] .
لا تظنوا أن كل شيء هو الراحة في الدنيا، الدنيا متاع، والمرأة لابد أن تتعب {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} [الأحقاف:15] .
{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ} [لقمان:14] فلا أرى أن نقلل من النسل أبداً، بل نصبر ونحتسب، والله عز وجل يعين الإنسان على قدر مئونته، لكن أحياناً تكون المرأة مريضة لا تتحمل الحمل كل سنة؛ فحينئذ لا بأس بمنع الحمل كل سنة؛ إما عن طريق العزل الذي كان عليه الصحابة، وإما عن طريق آخر بمراجعة الأطباء، ثم ليس للمرأة أن تستعمل ما يمنع الحمل مطلقاً إلا بموافقة الزوج؛ لأن الزوج له حق في الأولاد.
وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(46/20)
لقاء الباب المفتوح [47]
في هذا اللقاء تفسير الثلاث الآيات الأولى من سورة الأعلى، والتي احتوت على كثير من المعاني العظيمة والفوائد القيمة التي ذكرها الشيخ خلال تفسيره لهذه الآيات، فذكر أن الخطاب الموجه للرسول في القرآن الكريم على ثلاثة أقسام مع ذكر مثال لكل قسم من هذه الأقسام، وقد استمر في تفسيره للثلاث الآيات حتى آخرها، ثم أجاب عن أسئلة الحضور.(47/1)
تفسير آيات من سورة الأعلى
الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإننا نستفتح لقاءنا الأسبوعي هذا وهو اللقاء الثاني من شهر رجب عام (1414هـ) ، والذي يتم في كل يوم خميس، نستفتحه بتفسير سورة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1] لأنه انتهى بنا المطاف في تفسير جزء النبأ إلى هذه السورة، واخترنا أن نفسر السور القصيرة وهي المفصل؛ لأنها تقرأ كثيراً في الصلوات على العامة، والقرآن نزل لأمور ثلاثة: الأول: التعبد لله سبحانه وتعالى بتلاوته، مما يترتب عليه الأجر، فإن من قرأ حرفاً من القرآن كان له به عشر حسنات.
والثاني: التدبر لمعانيه.
والثالث: الاتعاظ به، قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] ولا يمكن أن يتذكر أحد بالقرآن إلا إذا عرف المعنى؛ لأن الذي لا يعرف المعنى بمنزلة الذي لا يقرأ، كما قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78] أي: إلا قراءة، لهذا ينبغي للمسلم أن يحرص على معرفة معنى القرآن؛ حتى ينتفع به، وحتى يكون متبعاً لآثار السلف فإنهم كانوا لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل.(47/2)
تفسير قوله تعالى: (سبح اسم ربك الأعلى)
فنبدأ بأول سورة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1] البسملة سبق الكلام عليها، وأنها آية من كتاب الله مستقلة؛ ليست من الفاتحة ولا من البقرة، ولا من آل عمران ولا من أي سورة في القرآن، لكنها آية مستقلة تتنزل في ابتداء كل سورة، ولهذا كان الصحيح أن أول آية في الفاتحة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] والثانية: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] والثالثة: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] والرابعة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] والخامسة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] والسادسة: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] والسابعة: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] هذا هو القول الصحيح الذي دلت عليه سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول الله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1] والخطاب هنا للرسول صلى الله عليه وسلم، والخطاب الموجه للرسول في القرآن الكريم على ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن يقوم الدليل على أنه خاص به فيختص به.
والقسم الثاني: أن يقوم الدليل على أنه عام، فيعم.
والقسم الثالث: ألا يدل الدليل على هذا ولا على هذا، فيكون خاصاً به لفظاً، عاماً له وللأمة حكماً.
مثال الأول: قوله تبارك وتعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} [الشرح:1-2] وأيضاً قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} [النساء:79] فإن هذا من المعلوم أنه خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم.
ومثال الثاني: الموجه للرسول صلى الله عليه وسلم وفيه قرينة تدل على العموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] فوجه الخطاب أولاً للرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) ولم يقل يا أيها الذين آمنوا إذا طلقتم، ثم قال: {إِذَا طَلَّقْتُمُ} ولم يقل: يا أيها النبي إذا طلقت، فدل هذا على أن الخطاب موجه للرسول صلى الله عليه وسلم وللأمة.
وأما أمثلة الثالث فهي كثيرة جداً، يوجه الله الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد: الخطاب له لفظاً وللعموم حكماً، هنا يقول الله عز وجل: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (سَبِّحِ) يعني: نزه الله عن كل ما لا يليق بجلاله وعظمته، فإن التسبيح يعني: التنزيه، إذا قلت: سبحان الله يعني: تنزه الله عن كل سوء، عن كل عيب، عن كل نقص، ولهذا كان من أسماء الله تعالى: السلام، القدوس؛ لأنه متنزه عن كل عيب، ونحن نضرب لكم الأمثلة: من صفات الله تعالى: الحياة، هل في حياته نقص؟ لا.
حياة المخلوق فيها نقص: أولاً: لأنها مسبوقة بالعدم، فالإنسان ليس أزلياً.
وثانياً: أنها ملحوقة بالفناء {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26] .
ومن صفاته تعالى: السمع، وسمع الله ليس فيه نقص، يسمع كل شيء، حتى إن المرأة التي جاءت تشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم والتي ذكر الله تعالى قصتها في سورة المجادلة، كانت تحدث النبي صلى الله عليه وسلم وعائشة في الحجرة يخفى عليها بعض حديثها، والله تعالى يقول في كتابه: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1] .
ولهذا قالت عائشة: [الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، إن المرأة لتشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنه ليخفى علي بعض حديثها] .
إذاً: معنى سبحان الله: أي أنزه الله عن كل عيب ونقص.
وقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قال بعض المفسرين: إن قوله: (اسم ربك) يعني: مسمى ربك؛ لأن التسبيح ليس للاسم بل لله نفسه، ولكن الصحيح أن معناه سبح ربك ذاكراً اسمه، يعني: لا تسبحه بالقلب فقط، بل سبحه بالقلب واللسان، وذلك بذكر اسمه تعالى، ويدل لهذا المعنى قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:74] يعني: سبح تسبيحاً مقروناً بالاسم؛ وذلك لأن تسبيح الله تعالى قد يكون مقروناً بالقلب -بالعقيدة- وقد يكون باللسان، وقد يكون بهما جميعاً، والكمال أن يسبح بهما جميعاً: بقلبه لافظاً بلسانه.
وقوله: (رَبِّكَ) الرب: معناه الخالق المالك المدبر لجميع الأمور، فالله تعالى هو الخالق وهو المالك، وهو المدبر لجميع الأمور، وهل المشركون يقرون بذلك؟
الجواب
نعم.
يقرون بذلك، قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر:38] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87] وأخبر الله سبحانه وتعالى أنهم إذا سئلوا: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس:31] فهم يقرون بأن الله له الملك، وله التدبير، وله الخلق، لكن يعبدون معه غيره من الجهل، كيف تقر بأن الله هو وحده الخالق المالك المدبر للأمور كلها وتعبد معه غيره؟! إذاً: معنى الرب على هذا هو الخالق المالك المدبر لجميع الأمور، وكل إنسان يقر بذلك يلزمه ألا يعبد إلا الله، كما تدل عليه الآيات الكثيرة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:21] قال: (اعبدوا ربكم الذي خلقكم) يعني: لا تعبدوا غيره.
وقوله تعالى: {الْأَعْلَى} من العلو، وعلو الله عز وجل نوعان: علو صفة، وعلو ذات.
أما علو الصفة: فإنه أكمل الصفات لله عز وجل، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل:60] .
وأما علو الذات: فهو أن الله تعالى فوق عباده مستوٍ على عرشه، والإنسان إذا قال: يا الله! فأين يتجه؟ إلى السماء -إلى فوق- فالله جل وعلا فوق كل شيء مستوٍ على عرشه.
إذاً {الْأَعْلَى} إذا قرأتها فاستشعر في نفسك أن الله عال بصفاته وعالٍ بذاته، ولهذا كان الإنسان إذا سجد يقول: سبحان ربي الأعلى يتذكر بسفوله هو علو الله عليه، فالإنسان ينزل في حال السجود أشرف ما فيه وأعلى ما فيه وهو وجهه، ويجعله في الأرض التي تداس بالأقدام، فكان من الحكمة أن يقول: سبحان ربي الأعلى، يعني: أنزه ربي الذي هو فوق كل شيء؛ لأني نزلت أنا أسفل كل شيء، فتسبح الله الأعلى بصفاته والأعلى بذاته، وتشعر عندما تقول: سبحان ربي الأعلى، أن ربك تعالى فوق كل شيء، وأنه أكمل كل شيء في الصفات.(47/3)
تفسير قوله تعالى: (الذي خلق فسوى)
ثم قال: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى:2] (خَلَقَ) أي: أوجد من العدم -كل المخلوقات أوجدها الله عز وجل- قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الحج:73] استمع لهذا المثل: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج:73] والله مثل عظيم! كل الذين تدعون من دون الله لا يخلقون ذباباً ولو اجتمعوا له؛ ولو يجتمع جميع الآلهة التي تعبد من دون الله وجميع السلاطين وجميع الرؤساء وجميع المهندسين على أن يخلقوا ذباباً واحداً ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
الآن ونحن في هذا العصر وقد تقدم العلم هذا التقدم الهائل؛ لو اجتمع كل هؤلاء الخلق على أن يخلقوا ذباباً ما استطاعوا، حتى لو أنهم كما يقولون صنعوا آدمياً آلياً، ما يستطيعون أن يخلقوا ذباباً، هذا الآدمي الآلي ما هو إلا آلة تتحرك فقط، لكن لا تجوع ولا تعطش ولا تفرح ولا تحزن، ولا تتحرك إلا بتوجيه الإنسان لها عن طريق ما ركب فيه من آلات كهربائية.
الذباب لا يمكن أن يخلقه كل من سوى الله ولو اجتمعوا، فالله سبحانه وتعالى وحده هو الخالق، وبماذا يخلق؟ بكلمة واحدة، قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59] وقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] الخلائق كلها تموت وتفنى وتأكلها الأرض وتأكلها السباع وتحرقها النيران، وإذا كان يوم القيامة زجرها الله زجرة واحدة، اخرجي فتخرج {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات:13-14] {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس:53] كل العالم من إنس وجن، ووحوش وحشرات، وغيرها كلها يوم القيامة تحشر بكلمة واحدة.
إذاً: فالله عز وجل وحده هو الخالق، ولا أحد يخلق معه، والخلق لا يضعفه ولا يعجزه بل سهل عليه.
وقوله: {خَلَقَ فَسَوَّى} يعني: سوى ما خلق على أحسن صورة وعلى الصورة المناسبة؛ كالإنسان مثلاً كان خلقه على أحسن صورة كما قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:7-8] وقال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] .
لا يوجد في الخلائق شيء أحسن من خلقة الإنسان، رأسه فوق، وقلبه في الصدر، وعلى هيئة تامة، ولهذا كان أول ما يدخل في قوله: ((فَسَوَّى)) هو تسوية الإنسان.(47/4)
تفسير قوله تعالى: (والذي قدر فهدى)
قوله تعالى: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:3] قدر كل شيء عز وجل كما قال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان:2] قدره في حاله وفي مآله، وفي ذاته وفي صفاته، كل شيء له قدر محدود، الأجل محدود، والأحوال محدودة، والأجسام محدودة، كل شيء مقدر تقديراً كما قال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان:2] وقوله: {فَهَدَى} يشمل الهداية الشرعية والهداية الكونية.
الهداية الكونية: أن الله هدى كل شيء لما خلق له، قال فرعون لموسى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:49-50] تجد أن كل مخلوق قد هداه الله تعالى لما يحتاج إليه، انظر للطفل إذا خرج من بطن أمه وأراد أن يرضع، هل هناك أحد يقول له: ارفع رأسك والقم ثدي أمك؟ لا.
لكن يهديه الله عز وجل إلى هذا الثدي يرتضع منه.
انظر إلى أدنا الحشرات النمل مثلاً، أين تضع بيوتها؟ لا تضع بيوتها إلا في مكان مرتفع من الأرض على ربوة من الأرض، لماذا؟ لأنها تخشى من السيول أن تدخل بيوتها فتفسدها، وأيضاً إذا جاء المطر وكان في جحورها أو في بيوتها طعام من الحبوب تخرج به، فإذا طلعت الشمس تنشره، لماذا؟ لئلا يعفن، وهي قبل أن تدخره تأكل أطراف الحبة؛ لئلا تنبت فتفسد عليها، هذا شيء مشاهد فمن الذي هداها لذلك؟ هداها الله عز وجل، وهذه هداية كونية أنه هدى كل مخلوق لما يحتاج إليه.
أما الهداية الشرعية -وهي الأهم بالنسبة لبني آدم- فهي: الدلالة على شرع الله، وقد بينها الله عز وجل على وجه تقوم به الحجة، حتى الكفار قد هداهم الله -يعني: بين لهم- قال الله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17] يعني: استحبوا الكفر على الإيمان والعياذ بالله، والهداية الشرعية هي المقصودة من حياة بني آدم، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وإنما أخبرنا الله بذلك لأجل أن نلجأ إليه في جميع أمورنا، إذا علمت أنه هو الخالق بعد العدم، وأصابك مرض إلى من تلجأ؟ إلى الله، الجأ إلى الله؛ لأنه هو الذي خلقك وأوجدك من العدم، وهو قادر على أن يصحح بدنك، ولا حرج أن تتناول ما أباح الله لك من الدواء، لكن مع اعتقاد أن هذا الدواء سبب من الأسباب جعله الله عز وجل، وإذا شفيت بهذا السبب فمن الذي شفاك؟ الله عز وجل هو الذي جعل هذا الدواء سبباً لشفائك، لو شاء لجعل هذا الدواء سبباً لهلاكك، فإذا علمنا أن الله هو الخالق؛ فنحن نلجأ في أمورنا كلها إليه عز وجل.
إذا علمنا أنه هو الهادي؛ فإننا نستهدي بهدايته -بشريعته- حتى نصل إلى ما أعد لنا ربنا عز وجل من الكرامة.
نسأل الله تعالى أن يهدينا وإياكم صراطه المستقيم، وأن يحلنا وإياكم دار كرامته، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين.
وإلى هنا ينتهي الكلام على هذه الآيات الكريمة، وأحثكم مرة أخرى على تعلم معاني آيات القرآن إذا شئتم أن تنتفعوا به حقيقة، لكن من العلماء الموثوقين أو من تفاسير العلماء الموثوقين؛ لأن الناس تكلموا في كلام الله وبحثوا في معانيه، لكن منهم من هدي إلى الصراط المستقيم، ومنهم من حصل له انحراف لسبب من الأسباب؛ إما لقصور علمه، أو فهمه أو سوء نيته؛ لأن الإنسان قد يحرم الصواب بسبب سوء النية والعياذ بالله.(47/5)
الأسئلة(47/6)
قصيدة في مدح الشيخ ابن عثيمين
السؤال
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد: فضيلة الشيخ: أستأذنكم في قصيدة أتلوها:
يا أمتي! إن هذا الليل يعقبه فجر وأنواره في الأرض تنتشر
والخير مرتقبٌ، والفتح منتظر والحق رغم جهود الشر منتصر
وبصحبة بارك الباري مسيرتها نقية ما بها شوبٌ ولا كدر
ما دام فينا ابن صالح شيخ صحوتنا بمثله يرتجى التأييد والظفر
الجواب
أنا لا أوافق على هذا المدح؛ لأني لا أريد أن يربط الحق بالأشخاص، كل شخص يأتي ويذهب، فإذا ربطنا الحق بالأشخاص معناه أن الإنسان إذا مات قد ييئس الناس من بعده، فأقول: إذا كان يمكنك الآن تبديل البيت الأخير بقول:
ما دام منهاجنا نهج الأولى سلفوا بمثلها يرتجى التأييد والظفر
فهذا طيب، أنا أنصحكم ألا تجعلوا الحق مربوطاً بالرجال: أولاً: لأنهم قد يضلون، فهذا ابن مسعود رضي الله عنه يقول: [من كان مستناً فليستن بمن مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة] الرجال إذا جعلتم الحق مربوطاً بهم يمكن الإنسان أن يغتر بنفسه والعياذ بالله من ذلك، ويسلك طرقاً غير صحيحة، فالرجل أولاً لا يأمن من الزلل والفتنة، نسأل الله أن يثبتنا وإياكم.
ثانياً: أنه سيموت، ليس فينا أحد يبقى أبداً {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34] ثالثاً: أنه ربما يغتر إذا رأى الناس يبجلونه ويكرمونه ويلتفون حوله، وربما ظن أنه معصوم، ويدعي لنفسه العصمة، وأن كل شيء يفعله فهو حق، وكل طريق يسلكه فهو مشروع، ولا شك أنه يحصل بذلك هلاكه، ولهذا امتدح رجل رجلاً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (ويحك قطعت عنق صاحبك) وأنا أشكر الأخ على ما يبديه من الشعور نحوي، وأسأل الله أن يجعلني عند حسن ظنه أو أكثر، ولكن لا أحب المديح.(47/7)
حكم إطالة الإمام في الركوع حتى يدرك المتأخر الركعة
السؤال
فضيلة الشيخ! ما حكم إطالة الإمام في الركوع حتى يدرك المتأخر الركعة؟ أفتونا مأجورين.
الجواب
ذكر العلماء أنه يستحب للإمام إذا كان راكعاً وأحس بداخل أن ينتظر قليلاً، ولاسيما إذا كان هذا الركوع في آخر الركعات، لكن اشترطوا ألا يشق على المأمومين مثل أن يحس بداخل من باب المسجد وبين الصفوف مسافة طويلة، وهذا الرجل يمشي رويداً رويداً ويشق على المأمومين أن ينتظره، فهنا لا ينتظره؛ لأن الذين معه من أول الصلاة أولى بالمداراة من الثاني، ولعل أصل هذا في السنة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يطيل الركعة الأولى في الصلاة من أجل أن يحضر الناس، هذا بالنسبة للتطويل.
وأصل آخر بالنسبة للتخفيف: فقد كان إذا سمع بكاء الصبي أسرع في صلاته؛ مخافة أن تفتتن أمه، فلهذا أصل في الشريعة لكن بشرط ألا يشق على المأمومين.
وهناك -أيضاً- شرط آخر وهو: ألا يخشى الإمام أن يكبر الداخل تكبيرة الإحرام وهو راكع؛ لأنه إذا كبر تكبيرة الإحرام وهو راكع صارت صلاته نفلاً لا فريضة؛ لأن بعض الناس مع السرعة يكبر وهو يهوي بالركوع، فهذا لا يصح في الفريضة.(47/8)
التحذير من الميل لزوجة دون الأخرى
السؤال
فضيلة الشيخ! حدث أن والدي من قبل سبع سنوات تغير تغيراً كلياً في معاملته مع والدتي، ومعي، ومع إخواني، تغير في سلوكه ومعاملته، علماً أن هذا التحول من مدة طويلة تزيد عن ست سنوات، ولم يحدث هذا إلا بعد زواجه من امرأة أخرى، وثبت يقيناً أنه مسحور، لما يُرى على حاله من دلائل السحر ومن علاماته، فما رأي سماحتكم في حل هذه المشكلة المحيرة التي حولت البيت إلى جحيم لا يطاق؟ وهل من طريقة أو توجيه لهذا الرجل؟ جزاكم الله خيراً.
الجواب
الحمد لله رب العالمين، هذا السؤال يستحق العناية، وهو أن بعض الناس يتزوج امرأة جديدة على امرأة أولى، فيحبها، ثم يكون معها وينسى الأولى، وهذا لا شك أنه من كبائر الذنوب: أن يميل الإنسان مع إحدى زوجتيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل) وهذا وعيد شديد؛ لأن الخلائق جميعها تشهد على عقوبته، هذا أمر عظيم جداً، فالميل مع إحدى النساء -أي: مع إحدى الزوجات- من كبائر الذنوب، إلا شيئاً لا تملكه من المحبة وما يكون ناشئاً عنها، فهذا لا يستطيع الإنسان أن يسيطر عليه، ولهذا قال تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء:129] .
وأما ما ذكره أنه يمكن أن يكون سحراً فهذا مع الأسف انتشر في كثير من الناس اليوم: مسألة السحر، مسألة النفس، مسألة الجن، وهذا خطأ؛ لأن الإنسان إذا شعر هذا الشعور هلعت نفسه وضعفت، واستولى عليه الشيطان، وصارت الأفكار كلها تدور حول هذا الشيء، حتى يصبح الخيال حقيقة، لكن لو أن الإنسان اعتمد على الله عز وجل وتوكل على الله حق التوكل وصار قوياً بالله فإنه لا يهمه، ويعرض عن هذا كله، ويعتقد أن هذه الأمور تعرض للإنسان بدون هذه الأسباب.
يعرض للإنسان ضيق في الصدر، يعرض للإنسان خوف زائد، ويعرض للإنسان أشياء كثيرة حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة، أو أكثر من سبعين مرة) .
فنصيحتي لإخواني: ألا ينساقوا وراء هذه الأوهام والتخيلات، نحن لا ننكر أن الجن تمس الإنسان كما قال تعالى: {لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275] وهذه في المرابين، وكما جاءت السنة بذلك، لكن ليس معناه أن كل ما أصابنا يكون من مس الجن، حتى لو أصابنا زكام قلنا: هذا جني تلبس بنا، هذا خطأ، الواجب أن الإنسان يكون عنده قوة وتوكل على الله، ثم يستعمل الأوراد الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم كقراءة آية الكرسي في الليل، وكذلك قراءة سورة البقرة في البيت وما أشبه ذلك، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم كلما أحس هذه الأمور حتى تزول عنه.
كذلك -أيضاً- النفس نحن لا ننكر أن النفس لها تأثير، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العين حق ولو سبق القدر شيء لسبقته العين) لكن ليس كل ما يصاب به الإنسان يكون عيناً، إلا أنه إذا توهم الشيء فإنه مع كثرة التوهم والتخيل يكون حقيقة؛ ولهذا ننصح إخواننا المسلمين أن يكون عندهم اعتماد تام، وتوكل على الله عز وجل حتى تزول عنهم هذه الأوهام، وبالتالي أنصح هذا الرجل الذي تحدث عنه السائل بأن يتقي الله عز وجل، وأن يحاول ما استطاع العدل بين زوجتيه، والرجوع إلى أولاده بالحنو، والشفقة، والتأديب، والتوجيه، وألا يبتعد عنهم؛ لأنهم قطعة منه.
وأما العلاج والتداوي أخشى أني أوصي بالعلاج والتداوي معناه أني أقررته على ما توهم، قد لا يكون هذا سحراً، أما إذا كان مسحوراً كما جزم به السائل؛ فعليه أن يعالج نفسه بالقراءة والأذكار، أو يذهب إلى المعالجين لهذه الأمور ممن يوثق بدينهم وعقيدتهم.(47/9)
من يعطي صكه لغيره لإدخاله في صوامع القمح أو الشعير
السؤال
فضيلة الشيخ! ما رأيكم فيمن يعطي صكه لغيره لإدخاله في صوامع القمح أو الشعير باسم آخر وليس لصاحب الصك؟ يعني: الإنسان قد يكون عنده صك باستحقاقه لإدخال زرعه من شعير أو بر في الصوامع، ويأخذ عليه قيمة أكثر مما في السوق، ويكون إنسان آخر ليس عنده صك فيبيع الأول صكه على الآخر، أو يعطيه إياه مجاناً وتبرعاً ليدخل به الثاني زرعه على الصوامع وهو لا يستحق؟
الجواب
إن هذا حرام، حرام على الآخذ وعلى المعطي؛ لأن هذا يتضمن الكذب، فإن الزرع ليس لصاحب الصك، ويتضمن التحايل على أنظمة الحكومة، ويتضمن الخيانة، والواجب على الإنسان الذي عنده صك ولم يزرع تلك السنة أن يدعه للسنة الأخرى التي يزرع فيها، فإن ترك الزراعة نهائياً رد الصك على الصوامع، أما أن يعطيه من لا يستحقه ويكذب فيه على الدولة فهذا حرام، ولربما نقول: إن تأخر الأمطار في هذه السنين، وإن تأخر قبول الصوامع لكثير من الزرع كله بسبب الذنوب والكذب والتحايل.
فنصيحتي: أن يكون الإنسان صادقاً، مبيناً، واضحاً، صريحاً، والرزق لن يضيع منه شيء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب) .(47/10)
السنة في لبس الخاتم
السؤال
فضيلة الشيخ! هل من السنة لبس الخاتم من الفضة في الخنصر أو البنصر؟ أفتونا مأجورين.
الجواب
الخنصر أو البنصر سواء، ولا بأس أن يلبس في هذا أو ذاك، ولكن هل من السنة لبس الخاتم؟ في هذا خلاف بين العلماء؛ من العلماء من قال: إنه سنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لبس الخاتم، ولبسه الصحابة أيضاً، ولكن بشرط ألا يكون من الذهب إذا كان للرجال، ومنهم من قال: إنه سنة لذي السلطان: كالحاكم، والقاضي، والأمير، والمفتي، وما أشبه ذلك، وأما سائر الناس فليس لهم بسنة، ولكنه لا نهي فيه.(47/11)
حكم الصلاة على الإسفلت
السؤال
فضيلة الشيخ! ما رأيكم في الصلاة على الإسفلت المرشوش بالماء مثلاً؟ جزاكم الله خيراً.
الجواب
يجوز للإنسان أن يسجد على كل شيء من الأرض، وعلى غير الأرض -أيضاً- كفراش القطن والصوف، المهم فقط أن يمكن جبهته من الأرض، سواء سجد على فراش، أو على حصير، أو على الأرض، أو على رمل، أو على غير رمل.(47/12)
حكم طاعة الابن لأبيه في شراء السجائر
السؤال
فضيلة الشيخ! والدي يدخن ويأمرني أن أشتري له الدخان، هل أطيعه أم لا؟ علماً بأنه عاجز ومريض أفتونا جزاكم الله خيراً.
الجواب
الدخان حرام، ونصوص الكتاب والسنة العامة تدل على أنه حرام، وإذا كان حراماً وأمرك أبوك أن تأتي له به فقد أمرك بمعصية، فهل تطيع أباك في معصية؟ لا.
لا تطيعه في معصية؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وتقول لأبيك: أنا أنصحك عن هذا، لكن إذا وعدك بأنه سيحاول أن يتوب إلا أنه لا يستطيع أن يتوب مرة واحدة، وقال: ائت لي في اليوم بأربع سيجارات: واحدة في الصباح عند الفطور، وواحدة مع الغداء، وواحدة مع العشاء، وواحدة عند النوم، ولك علي أن أنقص كل يوم واحدة حتى أتركه فهنا لا بأس به؛ لأنه وعدك أن يتوب، ومعروف أن صاحب الدخان المبتلى -والعياذ بالله- لا يمكن في الغالب أن ينقطع منه مرة واحدة، أما إذا كان يستمر كل يوم يشرب عشر حبات ويستمر على ذلك فهذا لا تطعه، حتى لو غضب عليك، أو قاطعك، أو دعا عليك، فلا يضرك إن شاء الله.(47/13)
نصيحة لمن يرغبون في قراءة كتب النصارى
السؤال
فضيلة الشيخ! أخي يقول عن نفسه: أريد أن أقرأ في كتاب النصارى لكي أعرف الأمور التي حرفوها، فما هي نصيحتكم له ولأمثاله من شباب المسلمين الذين قدموا قراءة هذا الكتاب على حفظ كتاب الله سبحانه وتعالى؟ أفيدونا حفظكم الله ونفع المسلمين بعلمكم.
الجواب
أرى أنه لا يجوز للإنسان أن يقرأ كتاباً مضلاً من كتب اليهود، أو النصارى، أو المشركين، أو أهل البدع؛ إلا إذا كان عنده رصيد قوي يمكن أن يتحصن به، وأما إذا كان مبتدئاً في القراءة فلا يجوز له أن يبدأ بقراءة هذه الكتب الباطلة؛ لأنه ربما تأثر بما فيها من الباطل.
فهؤلاء ننصحهم بأن يتركوا هذه الكتب، حتى يحصنوا أنفسهم بالعلوم الشرعية الصحيحة قبل أن يدخلوا في هذه الكتب المضلة، فالإنسان إذا أراد أن يتحصن من السيل أخذ في بناء السدود والمصارف قبل مجيء السيل، لا يفعل ذلك بعد مجيئه، فنقول: أولاً حصنوا أنفسكم بمعرفة الشريعة، واغرسوها في قلوبكم حتى إذا تمكنتم فلا بأس أن تقرءوا لتردوا على شبهات القوم وأباطيلهم.(47/14)
منزلة أبناء النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
فضيلة الشيخ! هل كان أبناء النبي محمد صلى الله عليه وسلم من الصحابة أو من الأنبياء؟ جزاكم الله خيراً.
الجواب
أبناء النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة؛ لأن الله تعالى يقول: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] ولو كان أبناؤه من الأنبياء لكانوا من بعده.(47/15)
كيفية نصح الأب الذي يغضب من نصيحة ابنه
السؤال
إذا كان الأب يغضب من نصيحة ابنه، ويظن في نظره أن الابن ما زال صغيراً، فكيف ينصحه؟
الجواب
هل تجد غضب أبيك حين يغضب إذا نصحته أشد من غضب آزر حين قال لإبراهيم: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} [مريم:46] فدعه يغضب، لكن الإنسان الحكيم يداري ويتكلم في مواضع الكلام، قد يكون -مثلاً- أبو الإنسان، أو غير أبي الإنسان في حال ليس أهلاً لتقبل النصيحة، يعني: متضايق من شيء، مشتغل بأكل، فتترك الأمر حتى يكون على استعداد لقبول النصيحة.(47/16)
أنواع الهداية
السؤال
ذكرنا هداية الدلالة والهداية الكونية والهداية الشرعية، فهل هي بمنزلة هداية الدلالة والتوفيق؟
الجواب
هداية الدلالة والتوفيق في الشرعيات، لكن الهداية الكونية فيها دلالة ليس فيها شك.(47/17)
حكم التيمم مع وجود الماء في مكان بعيد عن مكان الصلاة
السؤال
فضيلة الشيخ! بعض الناس إذا خرج بسيارته ونزل في مكان وحان وقت الصلاة ولم يكن معه ماء فإنه يتيمم مع أن الماء قد يكون قريباً منه جداً، فما حكم تيمم هذا الرجل؟ وأيضاً يا شيخ! إذا نزل الرجل من مكان، أو في مسجد على الطريق، ولم يجد ماءً في هذا المكان، أو في هذا المسجد، فهل يجب عليه أن يبحث عن الماء؟
الجواب
قال الله سبحانه وتعالى في آية الوضوء والغسل: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة:6] قال العلماء قوله: (فَلَمْ تَجِدُوا) دليل على أنه طلبه؛ لأنه لا يقول: لم أجد إلا من طلب، وأما رجل يريد أن يكون الماء عنده في حمامات حول المسجد هذا قد لا يحصل، فالواجب على الإنسان إذا كان الماء قريباً منه أن يتطهر به، أما إذا كان بعيداً فلا بأس إذا حضرت الصلاة أن يتيمم ويصلي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل) يعني: يصلي بالماء إن كان حاضراً، وإلا بالتيمم.
ولكن يجب أن يبحث فربما يجد ماءً قريباً أو يجد أحداً يبيعه مثلاً، والحمد لله الآن ما تجد بقالة إلا وفيها ماء يباع، وكذلك ماء الصحة يمكن أن يتوضأ به الإنسان.(47/18)
الواجب على من سرق شاة وأكلها ثم تاب
السؤال
رجل في أيام غفلته سرق شاة ومعه جماعة، فذبحوها وأكلوها، وهذا الرجل تاب إلى الله سبحانه وتعالى، فهل يدفع بعض الذي يظن أنه جزء من الذبيحة، أو كل قيمة الشاة يتكفلها، مع العلم أن الآخرين ما تابوا؟
الجواب
الواجب عليه أن يدفع جميع قيمة الشاة؛ لأن الناس المتعاونين هم يدٌ واحدة، لكن في هذه الحالة هل يعرف صاحبها؟ فإذا كان لا يعرف صاحبها فيتصدق بالقيمة بالنية عن صاحبها؛ لأن المتفقين على شيء يكون جرم الجماعة كجرم الواحد، ولهذا لو اتفق جماعة على قتل إنسان فقتلوه يقتلون كلهم، ولو كانوا عشرة بواحد.(47/19)
حكم من توضأ بعد عصر يوم الجمعة ليصلي لأجل الدعاء
السؤال
فضيلة الشيخ! رجل عادةً يصلي سنة الوضوء، ولكنه توضأ بعد عصر الجمعة ليصلي لأجل الدعاء فما رأيكم؟
الجواب
هذا لا يجوز، إذا كان ليس من عادة الإنسان أنه يصلي إذا توضأ، لكن توضأ لأجل أن يصلي فهذا إن توضأ حرام عليه أن يصلي؛ لأن الصلاة التي ليس لها سبب في هذا الوقت حرام.
والوضوء للحرام حرام، فلا يجوز أن يتوضأ لأجل أن يصلي، لو كان يجوز أن يتوضأ ليصلي لم يكن للنهي فائدة، لكن إذا كان ليس من عادته أن يتقدم إلى المسجد، وفي يوم الجمعة توضأ وتقدم إلى المسجد فهذا لا بأس به، فيصلي تحية المسجد ويدعو بما شاء.(47/20)
حكم اقتناء بعض مجسمات الآلات الموسيقية للزينة
السؤال
فضيلة الشيخ! سبق مع بعض الإخوان نقاش في موضوع اقتناء بعض مجسمات الآلات الموسيقية للزينة، فهناك من ذكر قال: إن اقتناء هذه المجسمات معصية، وهناك من ذكر قال: إن تأثيم المسلم يحتاج إلى دليل، فكان هناك تعارض في النقاش؟
الجواب
على كل حال إذا كان لا يستعمل فالأصل أنه حلال، لكن لا نحب أن نوضع مجسماً كهذا بين الأهل والصبيان؛ لأنهم يألفون مثل هذه الصورة، ولا يستنكرونها في نفوسهم، والإنسان إذا لم يستنكر الصورة وأنس بها سهلت عليه، من هذه الناحية فقط، فقد تكون ذريعة يخشى أن يكون في المستقبل لا يهمه هذا الشيء، فالأولى منعها.(47/21)
صلاة ركعتين عند دخول مصلى العيد
السؤال
فضيلة الشيخ! هل نصلي ركعتين عند الدخول في مصلى العيد يوم العيد؟
الجواب
إذا دخلت مصلى العيد فلا تجلس حتى تصلي ركعتين؛ لأنه مسجد، والدليل على أنه مسجد: أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر الحيض إذا خرجن إلى صلاة العيد أن يعتزلن المصلى، وهذا يدل على أنه مسجد، وهناك من العلماء من يقول: صل ركعتين، وهناك من يقول: لا تصل، لكن نرى أنه يصلي، سواء قبل طلوع الشمس أو بعدها لا يجلس حتى يصلي ركعتين.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(47/22)
لقاء الباب المفتوح [48](48/1)
حكم اقتناء الدشوش
السؤال
فضيلة الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تعلمون حفظكم الله بأنه قد انتشر في هذا العصر بلاء عم وطم كثيراً من بيوت المسلمين وخاصةً في أشرف البقاع إلى الله مكة والمدينة؛ هذه البلية التي ابتلي بها كثير من الناس هي جهاز "الدش" ولا يخفى على أئمتنا العلماء ما يترتب على وجوده من الفساد والانحراف الظاهر والباطن في الدين والأخلاق.
فهل يحكم على مقتنيه بالدياثة، وخاصة من في بيته محارم؟ أم يحكم عليه بالسذاجة والجهل؟ وما نصيحتكم وتوجيهكم لهؤلاء الإخوة هدانا الله وإياهم إلى الصواب وبارك الله في أعمالكم؟
الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، تكلمنا على الدش في مثل هذا المجلس بكلام لا حاجة إلى إعادته في الواقع؛ لأننا لا نود أن تذهب مجالسنا في التكرار، وكذلك تكلمنا عليه في إحدى خطب الجمعة القريبة، والأشرطة موجودة في ذلك.
أما ما جاء ضمن السؤال: هل وجود الدش يعتبر من الدياثة؟ نقول: هذا ليس من الدياثة؛ لأن الديوث هو الذي يقر الفاحشة في أهله، وهذا الذي عنده الدش لو رأى رجلاً يحوم حول بيته فضلاً عن أن يفعل الفاحشة في أهله لقاتله، فلا يمكن أن نقول: إن هذه دياثة، لكن نقول: إنه سببٌ للشر والفساد، وهذا شيء معلوم، ولذلك أرى أن من الواجب على طلبة العلم في كل مكان أن يحذروا منه، وأن يبينوا أضراره، وإذا كان يلتقط أشياء فاسدة والكل يعرف فسادها وضررها فليأتِ بمثال ولا حرج، لكن الواجب التحري في النقل والصدق؛ لأن بعض الناس -نسأل الله لنا ولهم الهداية- يضيفون أشياء لم تكن؛ من أجل المبالغة في التنفير عنه، وكأنهم على رأي من يرى من العلماء أنه لا بأس بالحديث الضعيف في مساوئ الأخلاق للتنفير منها، وهذا ليس بصحيح.
أقول: التهاون في النقل ليس بصحيح؛ لأن لدينا في مجتمعنا من يحب أن يجد ثلمة في الدعاة ينتقدها عليهم، ثم يكون في هذا نزع الثقة مما يقوله الدعاة، فإذا تحرى الإنسان ونقل أدنى شر أو أعلى شر لكان الحق معه ولم يعترض عليه أحد، أما المبالغة التي توجب انتقاد الناس للدعاة والحط عليهم فلا تنبغي؛ لأن المقصود بيان الحق وهداية الخلق، وهذا لا يكون إلا بالصدق والتجرد في النقل والبلاغ.(48/2)
حكم الصلاة خلف الحليق وشارب الدخان
السؤال
فضيلة الشيخ! ما رأيك في إمام يشرب الدخان أو كان حليق اللحية؟
الجواب
مسألة الصلاة خلف الحليق: الصحيح في ذلك أن الصلاة خلف الفاسق صحيحة؛ لأنه لا يوجد دليل على عدم الصحة في إمامة الفاسق، لكن لا شك أنه لا يجوز لولي الأمر أن يرتب في المساجد من هو عاص ومجاهر بالمعصية؛ وصحيح -أيضاً- أنه إذا كان يوجد مسجد إمامه عنده من التقوى ما ليس عند هذا فليذهب إليه.(48/3)
حكم صلاة من يحسن الفاتحة خلف من يلحن فيها
السؤال
يقول الفقهاء: إذا صلى من يحسن الفاتحة خلف إمام يلحن فيها لحناً يغير المعنى لم تجزئ الصلاة، فهل هذا يعني وجوب الإعادة أم لا؟
الجواب
نعم.
إذا صلى من يحسن الفاتحة خلف من لا يحسنها وهو يعلم أن إمامته لا تصح، فمعلوم أن صلاته باطلة يجب عليه إعادتها، أما إذا كان يجهل وقد أتى المأموم بالفاتحة على وجه صحيح فصلاته صحيحة.(48/4)
حكم ترويج البضائع بالجوائز
السؤال
هناك ظاهرة انتشرت عندنا في الكويت وهي: أن كثيراً من الشركات تعلن عن بيع بضائعها، وتجعل جوائز لمن يشتري مثلاً بعشرة دنانير فما فوقها، وهذه الجوائز عبارة عن سيارات وأجهزة كهربائية وغيرها، وقد سمعنا أن فضيلتكم أجاز ذلك، فما قولكم -بارك الله في علمكم ونفع بكم-؟
الجواب
بارك الله فيك.
الآن التجارات وكذلك الصناعات بدأت تكثر السلع والصناعات، وأتخموا الناس منها، وصارت البيوت -كما تشاهدون الآن- كل واحد عنده في بيته عدة أنواع من الأواني، أو عدة أنواع من الألبسة، والشركات مادية بحتة، تجعل جوائز لمن يشتري منها فنقول: هذا لا بأس به بشرطين: الشرط الأول: أن يكون الثمن -ثمن البضاعة- هو ثمنها الحقيقي، أي: لم يرفع السعر من أجل الجائزة، فإن رفع السعر من أجل الجائزة قمار ولا يحل.
الشرط الثاني: ألا يشتري الإنسان السلعة من أجل ترقب الجائزة، فإن كان اشترى من أجل ترقب الجائزة فقط وليس له غرض في السلعة كان هذا من إضاعة المال، وقد سمعنا أن بعض الناس يشتري علبة الحليب أو اللبن وهو لا يريدها لكن لعله يحصل على الجائزة، فتجده يشتريه ويريقه في السوق أو في طرف البيت، وهذا لا يجوز؛ لأن فيه إضاعة المال، وقد (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال) .(48/5)
كيفية التعامل مع الجار المقصر في دينه
السؤال
فضيلة الشيخ! إذا كان لي جار لا يصلي أو كان على بعض المنكرات، وقدمت له النصيحة، أو أعطيته بعض الأشرطة التي تدله على الصواب، هل أكون بذلك أديت له النصيحة وأبرأت ذمتي منه؟
الجواب
الواجب على الإنسان إذا رأى من أخيه منكراً أن ينهاه عنه، وأن يدعوه إلى الخير بأي وسيلة، سواء عن طريق الأشرطة أو في كتيبات صغيرة، أو هو بنفسه يدعوه، فلا بأس أن تدعوه لبيتك وتصنع له مثلاً الطعام، ثم تكلمه في الموضوع، وقد يكون تأثير هذا الأخير أكثر من تأثير الأشرطة والكتيبات؛ لأن الأشرطة والكتيبات قد يسمعها ويقرأها وقد لا يسمعها ولا يقرأها، ولكن إذا اتصلت به أنت بنفسك وزرته في بيته أو دعوته إلى بيتك قد يكون هذا أنفع.
والمهم هو الإصلاح، وسبل الإصلاح تختلف باختلاف الناس واختلاف أحوالهم وتقبلهم، والعاقل الحكيم: هو الذي ينزل الأشياء في منازلها، فإذا فعلت ذلك كله مع الحرص على هدايته فقد أديت النصيحة، والله عز وجل يقول: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:21-22] .(48/6)
حكم قول الشاعر: (كل الوجود يفنى إلا هواك يا وطني)
السؤال
فضيلة الشيخ: ما رأيكم في بيت الشعر الذي يقول فيه الشاعر:
كل الوجود يفنى إلا هواك يا وطني
وهل من يردد هذا البيت دون قصد لمعناه يعتبر مشركاً أو كافراً؟ أفيدونا وفقكم الله لما يحبه ويرضاه.
الجواب
الوجود يدخل فيه الرب عز وجل؛ لأنه واجب الوجود، فمدلول هذه الكلمة خطير جداً وكفر، لكن قد يقولها القائل وهو لا يدري معناها، ثم إن الواجب يا إخواني ألا نكون وطنيين وقوميين، أي: ألا نتعصب لقومنا ولوطننا؛ لأن التعصب الوطني قد ينضم تحت لوائه المؤمن والمسلم والفاسق والفاجر والكافر والملحد والعلماني والمبتدع والسني، وطن يشمل كل هؤلاء، فإذا ركزنا على الوطنية فقط فهذا لا شك أنه خطير؛ لأننا إذا ركزنا على الوطنية جاء إنسان مبتدع إلى إنسان سني وقال له: أنا وإياك مشتركان في الوطنية، ليس لك فضل عليَّ ولا لي فضل عليك، وهذا مبدأ خطير في الواقع؛ والصحيح هو التركيز على أن نكون مؤمنين.
أما البيت الذي ذكر في السؤال: فإن اعتقد قائله معناه فقد كفر، وإن كان لا يعتقد مدلوله ولكن يقول ولا يدري فهذا لا نكفره؛ لأنه لا يدري معناه، لكن ننهاه عن هذا البيت ونبين -أيضاً- أن التعصب للوطن وكون الجامع بيننا هو الوطنية ليس بصحيح أبداً، ولا يستقيم الأمر إلا أن يكون الجامع بيننا الإيمان: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] والآية نزلت في المدينة، وكان في المدينة يهود قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إليها؛ ومع ذلك فلم يدخلوا في الآية مع أنهم مواطنون، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند يهودي.
فهذه مسألة خطيرة فالمبدأ الصحيح أن الذي يجمع بيننا هو الإسلام والإيمان، وبهذا نكسب المسلمين في كل مكان، أما احتجاج بعض دعاة الوطنية بقول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ مكة: (إنكِ أحب البقاع إلى الله) فلا حجة لهم في ذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل: إنك أحب البلاد إلي، بل قال: (أحب البقاع إلى الله) ولذلك قال: (ولولا أن قومكِ أخرجوني منك ما خرجت) فلم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك من أجل الوطنية وإنما من أجل أن مكة أحب البقاع إلى الله تعالى، وهو صلى الله عليه وسلم يحب ما يحبه الله.(48/7)
حكم من يشتغل في المسجد بالكلام ونحوه
السؤال
فضيلة الشيخ: ما رأيكم في الذين إذا حضروا إلى المسجد لأداء الصلاة اشتغلوا بالسواليف والكلام فيما بينهم حتى تقام الصلاة؟
الجواب
إذا دخل هؤلاء المسجد وصلوا تحية المسجد، وصلوا الراتبة إن كانت الصلاة مما لها راتبة قبلها، فإذا فعلوا ذلك فالأفضل أن يشتغلوا بالقرآن أو يشتغلوا بالتسبيح أو بأي شيء ينفعهم؛ لأنهم لا يزالون في صلاة ما انتظروا الصلاة، فإن تشاغلوا بكلام آخر نظرنا: إن كان مما يحرم فإنَّ تحدثهم به وهم في المسجد وفي انتظار الصلاة يكون أشد إثماً، وإن كان من الأمور المباحة فلا بأس بذلك ما لم يشوشوا على غيرهم، فإن شوشوا على غيرهم فإنه لا يحل لهم التشويش على المسلمين.(48/8)
حكم اللحن في القرآن من كبار السن
السؤال
عندنا امرأة يزيد عمرها على خمسين سنة، وفي قراءتها لسورة الفاتحة تقول: (اهدنا الصراط المستقين) بالنون بدل الميم، وإذا أرادت أن تقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] تقول: (إياك نعبد وإياك نستعيم) بالميم، فما هو رأي فضيلتكم في ذلك؟
الجواب
أرى أن تجلس معها أنت، أو تجلس معها بعض الأخوات لتعليمها القراءة الصحيحة، وخصوصاً لتعديل هذه الحروف التي تخطئ فيها من سورة الفاتحة، وليس كبر السن مانعاً لها من التعلم، فاجلس معها ولو أكثر من جلسة، ومع التكرار تتعلم إن شاء الله تعالى.(48/9)
حكم الزوجين إذا أسلم أحدهما دون الآخر
السؤال
فضيلة الشيخ: أسلم رجل هندوسي متزوج وزوجته لا زالت هندوسية في بلادها، وقد أخذ إجازة واتفق مع المسئول عنه أن يستقدمها إلى هنا من أجل دعوتها إلى الإسلام، فهل يجوز له أن يقضي وطره منها أثناء إجازته دون إخبارها بإسلامه؟ أفتونا أثابكم الله.
الجواب
لا يحل لهذا الرجل المسلم أن يستمتع بها إلا أن تسلم، والواجب عليه أن يعرض عليها الإسلام أولاً، فإن أسلمت فهي زوجته، وإن لم تسلم فليست زوجة له، ولا يحل له أن يستمتع بشيء منها؛ لأنها محرمة عليه، قال الله تبارك وتعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10] فالواجب عليه ألا يقربها بمعنى: لا يباشرها ويستمتع بها، بل يتحدث معها عن الإسلام، وعن محاسن الإسلام، ويرغبها شيئاً فشيئاً.(48/10)
حكم نسيان الإمام أو المأموم للفاتحة
السؤال
فضيلة الشيخ: إذا كانت قراءة الفاتحة ركناً من أركان الصلاة، لا تصح الصلاة إلا به، فما الحكم في إمام أو مأموم نسي قراءة الفاتحة؟
الجواب
هذا سؤال وجيه؛ فالفاتحة ركن لا تصح الصلاة إلا بها في كل ركعة، فإذا نسيها الإمام في الركعة الأولى ولم يتذكر إلا حين قام إلى الركعة الثانية صارت الثانية هي الأولى في حقه، وعلى هذا إذا سلم فلا بد أن يأتي بركعة أخرى عوضاً عن الركعة التي ترك فيها الفاتحة، أما المأموم فإنه لا يتابعه في هذه الركعة لكن يجلس للتشهد وينتظر حتى يسلم مع إمامه.
أما بالنسبة للمأموم إذا تركها فمن قال: إن المأموم ليست عليه قراءة الفاتحة فالأمر واضح أنه ليس عليه شيء.
ومن قال: إنها ركن في حقه، فهو كالإمام، فإذا تركها يأتي بعد سلام إمامه بركعة، إلا إذا جاء والإمام راكع أو جاء والإمام قائم، ولكنه ركع قبل أن يتمها، ففي هذه الحال تسقط عنه -أي: عن المأموم- في الركعة الأولى.(48/11)
حكم إعادة الأذان في المكبر
السؤال
فضيلة الشيخ: إذا أذن المؤذن بدون مكبر الصوت لانقطاع التيار الكهربائي، ثم بعد أذانه مباشرة جاء التيار، فهل يعيد الأذان في مكبر الصوت أم يكتفي بأذانه الأول؟
الجواب
يكفي أذانه الأول ولا حاجة للإعادة؛ لأن هناك مساجد أخرى حوله قد سمع الناس التأذين منها، أما لو كان مسجداً منفرداً ليس هناك غيره فهنا يعيد؛ حتى يعلم الناس بدخول وقت الصلاة.(48/12)
حكم الأكل المحتوي على ما يسمى بالجلاتين البقري
السؤال
فضيلة الشيخ: ما حكم الأكلات التي تحتوي على ما يسمى بالهلام أو الجلاتين البقري؟
الجواب
إذا علمنا أن البقرة ماتت بغير فعل آدمي أو أن ذابحها ما ذكاها ذكاة شرعية، أو كان ممن لا تحل ذكاته فهي ميتة لا يحل أكلها، فلو ذبح مجوسي بقرة فهي حرام ولو سمى الله ولو أنهر الدم، وإذا ذبح المسلم بقرة ولكن على غير الوجه الشرعي فهي -أيضاً- حرام وميتة، فإذا أخذ منها شيئاً وخلطه بغيره وظهر له أثر من طعم أو لون أو رائحة فهو حرام، وإن اضمحل فيها ولم يظهر له أثر فلا بأس به؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يأكلون من جبن المجوس، والمجوس ذبائحهم حرام؛ لكن لا يؤخذ من الأنفحة في الجبن إلا القليل الذي لا يظهر أثره في الطعام، فدل ذلك على أن الشيء الذي لا يظهر أثره لا أثر له.(48/13)
حكم استقدام خادمة من بلدها بدون محرم
السؤال
استقدمت خادمة من بلدها بدون محرم لصعوبة إحضار المحرم، وقد استقدمتها للحاجة الماسة إليها، فما حكم الشرع في ذلك؟
الجواب
أولاً ينبغي أن نستغني عن الخدم ما أمكن ولا نأتي بهم إلا للضرورة القصوى، وذلك لأن بقاء المرأة في البيت عاطلة لا تتحرك ولا تعمل مضر لها في بدنها، ويضرها في تفكيرها -أيضاً- لأنها ستبقى غير متحركة مما يؤدي إلى حدوث بعض الأمراض لها كالرهال والسكر، كما يحدث -أيضاً- تبلد في تفكيرها، فتستولي عليها الوساوس والهواجس الضارة، لكن إذا دعت الضرورة فلا بأس؛ إلا أننا نرى أنه لا بد من أمرين: الأمر الأول: أن تكون الخادمة مسلمة.
الأمر الثاني: أن يكون معها محرم.
أما الأمر الأول: فلأن الكافرة لا ينبغي أن تبقى بين جنبيك في بيتك مع أهلك وأولادك، لو لم يكن في ضررها إلا أن أهل البيت يقومون للصلاة وهذه المرأة لا تصلي فيقول الصغار: لماذا لا تصلي هذه المرأة؟ وهم يحبونها فيعتقدون حينئذ بعدم ضرورة الصلاة، هذا إن لم تكن تعلمهم دينها كما ذكر لنا من بعض الناس أنه يسمع الخادمة وهي تلقن الصبيان الصغار أن عيسى هو الله عز وجل نسأل الله العافية! وهذا ليس ببعيد؛ لأنه دين عندها، دين ينفع ويقرب إلى الله، فترى تعليمها الأطفال إحسان إليهم.
أما الثاني: وهو وجود المحرم؛ فلأننا سمعنا أشياء فظيعة إذا لم يكن معها محرم؛ ولاسيما إذا كان في البيت شباب مراهقين، فإنه يحصل في ذلك فتنة وشر وبلاء، وبه يتبين حكم الشريعة ألا تسافر المرأة إلا مع محرم، لهذا لا أرى رخصة في أن يأتي الإنسان بخادمة إلا ومعها محرمها، وسيستفيد من المحرم؛ يقضي حوائج البيت من السوق، وربما يكون سائقاً ينتفع به صاحب البيت، فالمهم أنه: أولاً: لا يؤتى بخادمة إلا للضرورة.
ثانياً: أن تكون مسلمة.
ثالثاً: أن يكون معها محرم.(48/14)
حكم أكل اللحوم المستوردة من بلاد الكفار
السؤال
ما حكم أكل اللحوم المستوردة من الدجاج أو اللحم التركي أو غيره؟
الجواب
الذي نراه أن اللحوم المستوردة حلال؛ لأن مجلس هيئة كبار العلماء أتى بوكلاء الوزارة -وزارة التجارة- وناقشهم في الموضوع، وقالوا: إن الذي يرد إلى المملكة مراقب ولا إشكال فيه، وهذا هو الظن أنه لن يرد إلى هذه البلاد إلا ما كان حلالاً، فنرى أنه ليس فيه شيء، لكن إذا قال إنسان: إن عنده شبهة في هذا اللحم فليدع ما فيه شبهة عنده ليستريح.(48/15)
حكم من يقول الشهادتين ويذبح لغير الله
السؤال
ما رأي فضيلتكم بمن يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم يذبح لغير الله، فهل يكون مسلماً؟ مع العلم أنه نشأ في بلاد الإسلام؟ الشيخ: الذي يتقرب إلى غير الله بالذبح مشرك شركاً أكبر، ولا ينفعه قول: لا إله إلا الله ولا صلاة ولا صوم ولا غيره، اللهم إلا إذا كان ناشئاً في بلاد بعيدة، لا يدري عن هذا الحكم، كمن يعيش في بلاد بعيدة يذبحون لغير الله، ويذبحون للقبور، ويذبحون للأولياء، وليس عندهم في هذا بأس، ولا يعلمون أن هذا شرك أو حرام، ولم تقم عليهم الحجة في ذلك فإن هذا يُعذر بجهله.
أما إنسان يقال له: هذا كفر.
فيقول: لا، ولا أترك الذبح للولي، فهذا قد قامت عليه الحجة فيكون كافراً، فإذا نُصح وقيل له: إن هذا شرك، وبينت له الأدلة في ذلك، وأقيمت عليه الحجة الشرعية فلم يعبأ ولم يهتم، صار مشركاً كافراً مرتداً يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
السائل: وهل هناك فرق بين المسائل الظاهرة والمسائل الخفية؟ الشيخ: الخفية بينة، مثل هذه المسألة لو فرضنا أنه يقول: أنا أعيش في قوم يذبحون للأولياء ولا أعلم أن هذا حرام فهذه تكون خفية؛ لأن الخفاء والظهور أمر نسبي قد يكون ظاهراً عندي ما هو خفيٌ عليك وظاهرٌ عندك ما هو خفي عليَّ.
السائل: وكيف أقيم الحجة عليه؟ وما هي الحجة التي أقيمها عليه؟ - الشيخ: الحجة عليه ما جاء في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163] وقال تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:1-2] فهذا دليل على أن النحر للتقرب والتعظيم عبادة، ومن صرف عبادة لغير الله فهو مشرك.
فتجب إقامة الحجة قبل التكفير، وذلك في كل المسائل التي يمكن أن يجهلها الناس، فلا نقسم المسائل إلى مسائل ظاهرة ومسائل خفية؛ لأن الظهور والخفاء أمر نسبي، قد تكون المسألة ظاهرة عندي وخفية عند غيري، فلابد إذاً من إقامة الحجة وعدم التسرع في التكفير؛ لأن إخراج رجل من ملة الإسلام ليس بالأمر الهين، وهناك موانع تمنع من تكفير الشخص وإن قال أو فعل ما هو كفر، منها: الخطأ، فالرجل الذي قال: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك) قال كلاماً كفرياً، ومع ذلك لم يكفر؛ لأنه أخطأ من شدة الفرح.
وكذلك إذا أكره رجل على الكفر فتكلم به لم يكفر إذا كان قلبه مطمئناً بالإيمان، لقوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} [النحل:106] والعلماء الذين يقولون: كلمة كفر دون صاحبها، هذا إذا لم تقم عليه الحجة ولم نعلم عن حاله، أما إذا علمنا عن حاله فما الذي يبقى؟ نقول: لا يكفر؟ معناه: لا أحد كافر؟ أي: لا يبقى أحد يكفر، حتى المصلي الذي لا يصلي نقول: لا يكفر؟ حتى ابن تيمية يقول: إذا بلغته الحجة قامت عليه الحجة.(48/16)
حكم صلاة الوتر جماعة في غير رمضان
السؤال
هل يجوز أن يصلي الوتر جماعة في غير شهر رمضان، كأن يكون قوم في سفر فيأتي وقت الوتر فيوترون جماعة ولو لمرة واحدة من غير صيغة استمرار ولا مواعدة كل عام؟
الجواب
لا بأس أن يصلي الإنسان النافلة في جماعة في بعض الأحيان؛ لأنه ثبت هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى معه ابن عباس رضي الله عنهما وصلى معه عبد الله بن مسعود، وصلى معه حذيفة بن اليمان، كل هذا وردت به السنة، فإذا فعلوا هذا ولم يتخذوها سنة راتبة فلا بأس.(48/17)
إمكان الجمع بين طلب العلم والزواج
السؤال
فضيلة الشيخ: هناك طالب علم شرعي يريد أن يتزوج ولكنه يخشى إن تزوج أن يتعطل وينشغل عن طلب العلم، فما نصيحتكم له؟ وماذا تشيرون عليه إذا أراد ترك الدراسة للجهاد؟
الجواب
الزواج لا يعوق عن طلب العلم، بل ربما يعين على طلب العلم؛ قد يوفق الإنسان لامرأة تقرأ وتكتب وتساعده، فإن لم تكن فأقل ما يكون أن يذهب عنه الوساوس والتفكير في الزواج، فالزواج يعين على طلب العلم؛ وإذا كان أبوه يريد أن يزوجه فلا يرفض، فخير البر عاجله، ولعل الله يهديه.
أما ترك الدراسة للجهاد فالذي أشير عليه به أن يبقى في الدراسة إذا كان عنده استعداد للعلم؛ لأن الناس يختلفون؛ لو جاءنا رجل قوي شجاع لكنه في طلب العلم ليس ذلك الرجل فهنا نقول: الأفضل له الجهاد، ولو جاءنا إنسان دون ذلك في القوة وفي الشجاعة لكنه وعاء علم نقول: الأفضل طلب العلم، فإن تساوى الأمران فطلب العلم أفضل.(48/18)
حكم من ذبح لغير الله وقد بلغته الحجة
السؤال
رجل مرض وذهب للكهنة وطلبوا منه أن يذبح للجن ويعلق شعر الذئب، وبُلِّغ بالحجة أن هذا شرك فذهب وفعل هذا، هل يطلق عليه بأنه مشرك بعد إبلاغه الأدلة الشرعية؟
الجواب
من ذبح للجن تعظيماً لهم أو خوفاً منهم فهذا شرك، وإذا بُلغ الإنسان بهذا ولكنه أصر على أن يفعل كان شركاً، لكنه إذا تاب ولو بعد أن فعل فإن الله يتوب عليه؛ لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38] ، ولقوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] ونسأل الله أن يغفر لنا ولكم، وأن يتولانا وإياكم في الدنيا والآخرة.(48/19)
لقاء الباب المفتوح [49]
تحدث الشيخ رحمه الله عن أهمية استغلال أيام الإجازة الصيفية، وذكر أن الناس في الإجازة على قسمين: منهم من استغل وقته بما يكون سبباً لرضا الرب جل جلاله، ومنهم من أمضى وقته في المعاصي، فخسر الدنيا والآخرة، ثم أجاب الشيخ بعد ذلك عن الأسئلة التي طرحت عليه.(49/1)
نصيحة لاستغلال الإجازة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو اللقاء الأخير من شهر رجب عام (1414هـ) ، وهو اللقاء الأسبوعي الذي يكون كل خميس، وسيكون هذا آخر لقاء قبل الإجازة، وتستأنف اللقاءات -إن شاء الله- بعد استئناف الدراسة في آخر شعبان، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يمن علينا وعليكم بالعلم النافع والعمل الصالح.
كنا بصدد أن ننتهي من تفسير سورة الأعلى، ولكن لعل المناسب في هذه الجلسة أن يكون هناك توجيه للناس لما سيفعلونه في هذه الإجازة.
فنقول ومن الله تعالى التوفيق: لا شك أن ساعات العمر أغلى من الدنانير والدراهم؛ لأن ساعات العمر تفوت ولا يمكن استرجاعها أبداً، وكل يومٍ يمضي فإنه يبعدنا من الدنيا ويقربنا إلى الآخرة، فتسير الأيام وتنقضي الساعات وتمضي السنوات وإذا بالإنسان ينتهي إلى الأجل المحتوم الذي قال الله تعالى عنه: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس:49] وإذا كانت هذه منزلة العمر وساعاته؛ فإن الواجب على العاقل فضلاً عن المؤمن أن يستغل هذه الساعات فيما خُلق له، والذي خلقنا له جميعاً هو عبادة الله عز وجل، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] .
والعبادة: اسم لكل ما يقرب إلى الله تعالى من قول أو عمل؛ سواء كان عمل الجوارح الظاهرة أو عمل القلب، وسواء كان قول اللسان الذي ينطق به أو قول القلب الذي هو الاعتقاد، فكل ما يقرب إلى الله فهو عبادة، والله تعالى لا يريد منا أن نبقى دائماً في صلاة، أو نبقى دائماً محبوسين في المساجد للذكر والقراءة؛ بل إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، فقد بلغه أن قوماً من أصحابه قال أحدهم: أنا أصوم ولا أفطر، وقال الثاني: وأنا أقوم ولا أنام، وقال الثالث: أنا لا أتزوج النساء، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ألا إني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه) .
وعلى هذا فنقول: إنه لا حرج على الإنسان أن يمتع نفسه بما أحل الله تعالى له من النعم؛ حتى يذهب عنه السآمة والملالة والتعب، لكن بشرط أن يكون فيما أحل الله له، وهذه الإجازة التي قررت للدارسين والمدرِّسين في أثناء العام ما هي إلا لهذا الغرض؛ لدفع الملل والسآمة والتعب، ولإعطاء النفس حظها مما أباح الله لها.
ينقسم الناس في هذه الإجازة إلى أقسام: - منهم من يستغلها بالسفر إلى بيت الله الحرام وإلى المدينة النبوية على ساكنها أفضل التحية والسلام.
- ومنهم من يستغلها بالسفر لزيارة الأقارب والأرحام.
- ومنهم من يستغلها للتجول في الدعوة إلى الله عز وجل وإرشاد الناس وتوجيههم.
- ومنهم من يستغلها للتفرغ في استعادة ما مضى من طلب العلم، واستذكار ما نسي من القرآن.
- ومنهم من يستغلها في مساعدة أبيه في بيع أو شراء أو حرث أو غير ذلك.
- ومنهم من يستغلها في الخروج إلى البر والتنزه على وجهٍ يكون مباحاً.
- ومنهم من يستغلها في الخروج إلى البر والتنزه لكن على وجهٍ محرم، يمضون أوقاتهم إما في مشاهدة ما يعرض في التلفاز من البرامج التي ترد إلينا من الخارج، إما عن طريق أشرطة الفيديو، أو عن طريق الدش الذي يلتقط كل شيء مما يفسد الأديان، ويهدم الأخلاق.
فهؤلاء خسروا الدنيا والآخرة خسروا الدنيا لأنهم لم يعملوا في هذه المدة فيما يرضي الله عز وجل، اللهم إلا في أداء الفرائض التي لابد منها كالصلاة والطهارة.
وخسروا الآخرة؛ لأن هذه المعاصي تكون سبباً لتعذيبهم وعقوبتهم في الآخرة، وربما تتراكم المعاصي على القلب حتى يختم عليه والعياذ بالله، كما قال الله تبارك وتعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [المطففين:13] أي: إذا تلي عليه القرآن وما فيه من عبر وعظات قال: هذا كلام مجالس وقصص لا حقيقة لها، {كَلَّا} [المطففين:14] أي: ليس القرآن أساطير الأولين {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] حتى لم يذوقوا طعم القرآن -نسأل الله العافية- فالمعاصي بريد الكفر كما قال العلماء رحمهم الله.
- ومن الناس من يستغل الإجازة في أخبث من هذا؛ في السفر إلى الخارج إلى بلاد الفساد والمجون، فيفعل هناك ما شاء من أنواع المعاصي، وغالباً أنه يدع الصلاة؛ فيخسر خسارة فادحة -والعياذ بالله- فيرجع وقد خسر الدنيا والآخرة، مظلم الوجه مسود القلب.
فالمهم أن الناس لهم نزعات وطرق في قضاء هذه الإجازة.
فالواجب على الإنسان العاقل أن يستغل وقته بما يكون سبباً لرضا ربه عز وجل، حتى إذا أتاه الموت أتاه وهو على أحسن ما يكون؛ لأن من ابتلي بالمعاصي في حال صحته وعنفوان شبابه ربما يستمر على هذه المعاصي، فإذا جاء وقت الحاجة إلى الطاعة إذا هو مفلس صفر اليدين، لا يتمكن من نطق الشهادة حال الموت نسأل الله العافية! فالإنسان العاقل ينظر في أيامه ولياليه بماذا أمضاها هل في طاعة الله تعالى أم في معصيته؟ فإن كان في طاعة الله فليحمد الله على ذلك، وليستمر عليه، وليسأله الثبات على ذلك إلى الموت، وإن كان على خلاف ذلك فليسارع بالتوبة والإنابة في وقت الإمكان؛ لأنه حين الموت لا ينفع الندم، ولا تفيد التوبة.
فأدعوكم ونفسي لاستغلال هذه الإجازة فيما يرضي الله عز وجل، وقد عرفتم ما يسر الله لنا ذكره من الأقسام التي يتوزع الناس عليها في هذه الإجازة، فأحث نفسي وإياكم على استغلالها فيما يرضي الله، بعبادة الله، وبنفع الخلق، وإعطاء النفس شيئاً من المتعة على وجهٍ مباح وهكذا.
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن عمروا أوقاتهم بطاعة ربهم، وأن يثبتنا على ذلك حتى الممات، وأن يتولانا في الدنيا والآخرة، إنه على كل شيء قدير.(49/2)
الأسئلة(49/3)
وسطية أهل السنة تجاه مرتكب الكبيرة
السؤال
فضيلة الشيخ جزاكم الله خيراً: في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بسمٍ فسمه بيده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً) ماذا يقصد بهذه الأبدية؟ هل هي خاصة بقاتل نفسه؟ وهل يجوز الترحم على من فعل ذلك بنفسه؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
هذا سؤال مهم جداً، وذلك أنه يأتي في الكتاب والسنة أحياناً نصوص فيها فتح باب الرجاء والأمل الواسع، مثل أن تكون أعمال صالحة يترتب عليها تكفير السيئات، أو دخول الجنة أو ما أشبه ذلك، فيفرح الإنسان ويستبشر بذلك ويقول: إذاً لا تضرني معصية ما دام هذا العمل اليسير يكفر عني السيئات، أو يكون سبباً في دخولي الجنة، فأعمل ما شئت من المعاصي، وتأتي أحياناً نصوص فيها وعيد شديد على بعض المعاصي أو بعض الكبائر، بل هي كبائر في الواقع ولكنها لا تخرج من الإسلام، فتجد الرجل يستحسر ويتوقف ويقول: ما هذا؟ ولذلك انقسم أهل القبلة -أي: المسلمون الذين ينتسبون إلى الإسلام- تجاه هذه النصوص إلى ثلاثة أقسام: - قسم غلَّب جانب نصوص الرجاء وقال: لا تضر مع الإسلام معصية، وهؤلاء هم المرجئة، يغلبون جانب الرجاء على جانب الخوف، ويقولون: أنت مؤمن، اعمل ما شئت فلا يضرك مع الإيمان معصية.
- وقسم غلب نصوص التخويف والزجر وقال: إن فاعل الكبائر مخلد في نار جهنم أبداً، ولو كان مؤمناً، ولو كان يصلي ويزكي ويصوم ويحج، وهؤلاء هم الوعيدية من المعتزلة والخوارج، قالوا: إن الإنسان لو فعل كبيرة كقتل نفسه مثلاً، أو قتل نفس غيره، أو زنا، أو سرق، فهو خالدٌ مخلد في نار جهنم وكل هؤلاء جانبوا الصواب، لا الأولون ولا هؤلاء.
وأهل السنة والجماعة وسط في ذلك، قالوا: نأخذ بالنصوص كلها؛ لأن الشريعة واحدة وصادرة عن مصدر واحد وهو الله عز وجل، إما في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الأمر كذلك فإنه يكمل بعضها بعضاً، ويقيد بعضها بعضاً، ويخصص بعضها بعضاً، فيأتي نص عام ونص خاص؛ فيجب أن نحمل العام على الخاص ونخصصه به، ويأتي نص مطلق ونص مقيد؛ فيجب أن نحمل المطلق على المقيد؛ لأن الشريعة واحدة، والمشرع واحد، فإذا كان كذلك فلا يمكن أن نأخذ بجانب دون آخر.
وبناءً على هذا يسلم الإنسان من إشكالات كثيرة، فيقال: إنه ورد في القرآن قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء:93] هذه خمس عقوبات:1- جزاؤه جهنم.
2- خالداً فيها.
3- غضب الله عليه.
4- لعنه.
5- أعد له عذاباً عظيماً.
عندما تقرأ هذه الآية تقول: إن قاتل المؤمن عمداً مخلد في النار، ولا يمكن أن يخرج منها؛ لأن الله قال: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء:93] ومن لعنه الله فقد طرده وأبعده من رحمته، وهذا يقتضي أنه لا يمكن أن يخرج من النار إلى الجنة أبداً، وكذلك ما أشار إليه السائل فيمن قتل نفسه، أنه خالد مخلداً أبداً، صرح في الحديث بالتأبيد، وهذا يقتضي ألا يخرج منها؛ لأن هذا خبر من الرسول صلى الله عليه وسلم، وخبر الرسول صدق لا يمكن أن يعتريه الكذب، ولا يمكن أن يتخلف مدلوله.
ولهذا نقول: هذه الأشياء تكون سبباً لذلك، قتل النفس سبب للخلود المؤبد في نار جهنم، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن هناك موانع من الخلود دلت عليها النصوص الشرعية؛ منها: أن يكون الإنسان معه شيء من الإيمان ولو أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، فإنه لا يخلد في النار، فنحمل هذه النصوص على هذه النصوص، ونقول: نصوص الوعيد جاءت عامة من أجل التنفير من هذا العمل والهروب منه، ولكن ليس هناك خلود مؤبد إلا للكافرين هذا وجه.
الوجه الثاني: قال بعض العلماء: هذه النصوص على ظاهرها، وذلك أنه قد يصاب الذي يقتل نفسه بالانسلاخ من الإيمان، فيكون حين قتل نفسه غير مؤمن، وإذا كان غير مؤمن فهو كافر خالد في النار؛ لأنه إذا نحر نفسه فإن كان مجنوناً فلا شيء عليه، وإن كان عاقلاً فلابد أنه فعل ذلك لسبب، وهذا السبب في الغالب لكي يستريح من النكبة أو الضائقة التي ألمت به، ومن زعم أنه إذا قتل نفسه نجا من الضائقة التي ألمت به فقد أنكر البعث، وأنكر عقوبة الآخرة، وإذا أنكر البعث وعقوبة الآخرة كان بذلك كافراً، فيكون مستحقاً للخلود المؤبد في النار؛ لأنه ليس من المعقول أن شخصاً يعدم نفسه ليستريح مما هو فيه إلا لظنه أن ينتقل إلى ما فيه الراحة له، ولا يمكن أن يكون أريح له وقد قتل نفسه، فيكون شاكاً أو متردداً أو جاحداً لعذاب الآخرة، وبذلك يكون كافراً.
وعلى كل حال يجب أن نعلم أن الكتاب والسنة صدرت من عند الله وحده، منها ما هو من كلامه جل وعلا وهو القرآن، ومنها ما هو من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن نصوص الكتاب والسنة بعضها يقيد بعضاً، ويخصص بعضها بعضاً، ولا تناقض بين نصوص الكتاب والسنة أبداً.
وأما مسألة الترحم عليه فيجوز الترحم عليه؛ لأنه ليس بكافر.(49/4)
معنى حديث: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)
السؤال
فضيلة الشيخ: نسأل الله العلي العظيم أن يمد في عمرك على طاعته نرجو منك إعراب هذا الحديث مع بيان معناه بارك الله فيك: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) .
الجواب
إعرابه كالتالي: (لا) : نافية.
(يقبل) : فعل مضارع مرفوع وعلامة الرفع ضمة ظاهرة في آخره.
الاسم الكريم (الله) : فاعل يقبل.
(صلاة) : مفعول يقبل.
و (صلاة) مضاف، و (أحدكم) : مضاف إليه، و (أحد) مضاف، والكاف: مضاف إليه، والميم علامة الجمع.
(إذا) : ظرف للزمان.
(أحدث) : فعل ماض مبني على الفتح، والفاعل ضمير مستتر جوازاً تقديره هو.
(حتى) : حرف غاية.
(يتوضأ) : فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد (حتى) ، وفاعله ضمير مستتر جوازاً تقديره هو.
هذا إعراب الحديث.
أما معناه: فهو أن الله تعالى لا يقبل الصلاة من الإنسان إذا أحدث حدثاً أصغر؛ لقوله: (حتى يتوضأ) دل على أن المراد بالحدث هو الأصغر، ولو أراد الحدث الأكبر لقال: حتى يغتسل.
(لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ) وظاهر الحديث أنه لا فرق بين الناسي والذاكر والجاهل والعالم، فلو أن الإنسان أحدث ثم صلى ناسياً أنه أحدث، وجب عليه أن يتوضأ ويعيد الصلاة، ولو صلى الإنسان وهو محدث لكنه جاهل بالحدث؛ مثل أن يأكل لحم إبل ولا يدري أنه لحم إبل، ثم يقوم ويصلي، ثم أخبر بأنه أكل لحم إبل فيجب عليه أن يتوضأ ويعيد الصلاة.(49/5)
حكم طاعة الوالدين في الأمر بطلاق الزوجة
السؤال
فضيلة الشيخ: كثير من الإخوة يشكون من أن الأم قد لا تحب زوجة الابن، ويكون الابن قد تعلق بزوجته وأحبها، فتأمره الأم بطلاقها، وكذلك قد يأمره الأب، فهل إذا رفض طلاق زوجته يعتبر عاقاً لوالديه؟
الجواب
لا يلزم الابن أن يطيع أبويه إذا أمراه بطلاق زوجته؛ لأن هذه تتعلق برغبة خاصة بالإنسان، ولا يلزمه أن يقبل ما أمره والداه به من مفارقة الزوجة، كما لو قالا له: لا تأكل من هذا الطعام، لا تأكل لحماً، لا تأكل أرزاً، لا تأكل الشيء المعين، وهو مما يشتهيه، فلا يلزمه طاعتهما في ذلك؛ لأنه لا مصلحة لهما في ذلك، وفيه ضررٌ عليه لفوات محبوبه.
فكذلك إذا قالا: طلق زوجتك.
لا يلزمه طلاقها إلا بسببٍ شرعي معلوم يقر به الزوج، فهنا يلزمه -لا من أجل أمرهما- حتى لو كانا لم يأمراه بذلك، وربما يورد مورد علينا قصة عبد الله بن عمر مع أبيه رضي الله عنهما، حيث أمر عمر ابنه عبد الله أن يطلق زوجته، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله أن يطلقها.
والجواب عن هذا: أن هذا الإيراد أورد على الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله الإمام المشهور حيث سأله سائل فقال: إن أبي يأمرني أن أطلق زوجتي.
فقال له: لا تطلقها.
فأورد عليه حديث عمر، فقال له الإمام أحمد جواباً سديداً، قال: وهل أبوك عمر؟ أي: هل أبوك مثل عمر لا يأمر إلا بشيء لابد منه؟ فالجواب: لا، وإذا كان الجواب بالنفي فلا يصح القياس.
وعلى الوالدين أن يتقيا الله عز وجل، وألا يفرقا بين الرجل وزوجه؛ لئلا يكونا مثل السحرة الذين يتعلمون من الشياطين ما يفرقون به بين المرء وزوجه، وإذا رأى الابن أن الحال لن تستقيم بوجود الزوجة مع الأم في بيت واحد، ففي هذه الحال يخرج من البيت هو وزوجته وينفردان عن الأم، قد يقول: لا ترضى الأم أن أنفرد بزوجتي في بيتٍ آخر، نقول: وإن لم ترض فيقال لها: إما أن تحسني العشرة وإما أن أخرج.
ولكن مع ذلك لا يظن الظان أننا نرجح في هذه الحال جانب الزوجة، فلو فرض أن الزوجة تسيء إلى الأم، فإن الواجب على الزوج أن ينهاها ويؤدبها.(49/6)
حكم الأشياء التي يشمها الكلب أو يلمسها
السؤال
فضيلة الشيخ: جميع الإخوة والأخوات في المنطقة الشرقية يسلمون عليك، وسؤالي هو: أنه يوجد نقاط تفتيش في بعض المؤسسات الكبرى يستخدم فيها الكلاب المدربة، فتدخل في مقدمة السيارة ثم تبدأ بالشم واللحس.
فهل تتنجس بذلك المقاعد والأماكن التي قام الكلب بشمها أو لحسها؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
أما الشم فإنه لا يضر؛ لأنه لا يخرج من الكلب ريق، وأما اللحس فيخرج فيه من الكلب ريق، وإذا أصاب ريق الكلب ثياباً أو شبهها فإنها تغسل سبع مرات، ولا نقول: إحداها بالتراب؛ لأنه ربما يضر، لكن نقول: يستعمل عن التراب صابوناً أو شبهه من المزيل ويكفي مع الغسلات السبع.(49/7)
حكم من جعل جوائز لمن يشتري من عنده سلعة معينة
السؤال
فضيلة الشيخ: عندنا في دولة الكويت أنواع من البيوع منتشرة الآن، يقوم التاجر بعرض بضاعته ويوزع كوبونات على المشترين بحسب قيمة شراء كل واحد، وهذه الكوبونات تدخل في سحب الجوائز، ثم تعمل بعد ذلك قرعة ويفوز بعض الناس بجوائز يوزعها عليهم هذا التاجر، فما حكم ذلك جزاكم الله خيراً؟
الجواب
هذا نوع من البيع نخاطب به البائع والمشتري، فنقول للبائع: هل أنت ترفع سعر السلعة من أجل هذه الجائزة أم لا؟ فإن كنت ترفع السعر فإنه لا يجوز؛ لأنه إذا رفع السعر واشترى الناس منه صاروا إما غارمين وإما غانمين، إما رابحين وإما خاسرين، فإذا كانت هذه السلعة في السوق -مثلاً- قيمتها عشرة فجعلها باثني عشر من أجل الجائزة فهذا لا يجوز؛ لأن المشتري باثني عشر إما أن يخسر الزائد على العشرة وإما أن يربح أضعافاً مضاعفة بالجائزة، فيكون هذا من باب الميسر والقمار المحرم، فإذا قال البائع: أنا أبيع بسعر الناس، لا أزيد ولا أنقص؛ فله أن يضع تلك الجوائز تشجيعاً للناس على الشراء منه.
ثم نتجه إلى المشتري فنقول له: هل اشتريت هذه السلعة لحاجتك إليها، وأنك كنت ستشتريها سواء كانت هناك جائزة أم لا، أم أنك اشتريتها من أجل الجائزة فقط؟ فإن قال: الأول.
قلنا: لا بأس أن تشتري من هذا أو من هذا؛ لأن السعر ما دام أنه كسعر السوق وأنت ستشتري هذه السلعة لحاجتك فحينئذ تكون إما غانماً أو سالماً، ففي هذه الحالة لا بأس أن تشتري من صاحب الجوائز.
وأما إذا قال: أنا أشتري ولا أريد السلعة، وإنما أشتري لأجل أن أحصل على الجائزة.
قلنا: هذا من إضاعة المال؛ لأنك لا تدري أتصيب الجائزة أم لا تصيبها.
وقد بلغني أن بعض الناس يشتري علب اللبن وهو لا يريدها، يشتريها ويريقها لعله يحصل على الجائزة، فهذا يكون من إضاعة المال، وقد ثبت (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال) .
بقي شيء ثالث: إذا قال قائل: هذه المعاملة ربما تضر بالبائعين الآخرين؛ لأن هذا البائع إذا جعل جوائز للمشترين وكان سعره كسعر السوق اتجه جميع الناس إليه، وكسدت السلع عند التجار الآخرين، فيكون في هذا ضرر على الآخرين، فنقول: هذا يرجع إلى الدولة، فيجب عليها أن تتدخل، فإذا رأت أن هذا الأمر يوجب اضطراب السوق؛ فإنها تمنعه إذا رأت أن المصلحة في منعه، أو إذا رأت أنه من التلاعب في الأسواق، والتلاعب في الأسواق يجب على ولي الأمر أن يمنعه منها.(49/8)
العمل فيما إذا تعارضت آراء العلماء
السؤال
فضيلة الشيخ: إذا تعارض رأي عالم مع رأي عالم آخر من أهل السنة والجماعة في مسألة ما فمن أتبع؟ علماً بأني لا أستطيع أن أرجح بين الأدلة، فما رأيكم؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
أسألك: ماذا يفعل المريض إذا اختلف طبيبان كل منهما يصف دواء غير الآخر؟ في هذه الحال يرجح المريض من يطمئن إليه قلبه أنه هو الأعلم والأوثق، وكذلك الأمر هنا، إذا ذهبت إلى شخصين من أهل العلم وتساويا عندك في العلم والثقة؛ لأنه ليس كل عالم يكون ثقة، فالعلماء ثلاثة: علماء ملة، وعلماء دولة، وعلماء أمة.
أما علماء الملة -جعلنا الله وإياكم منهم- فهؤلاء يأخذون بملة الإسلام، وبحكم الله ورسوله، ولا يبالون بأحد كائناً من كان.
وأما علماء الدولة فينظرون ماذا يريد الحاكم، يصدرون الأحكام على هواه، ويحاولون أن يلووا أعناق النصوص من الكتاب والسنة حتى تتفق مع هوى هذا الحاكم، وهؤلاء علماء دولة خاسرون.
وأما علماء الأمة فهم الذين ينظرون إلى اتجاه الناس هل يتجه الناس إلى تحليل هذا الشيء فيحلونه، أو إلى تحريمه فيحرمونه، ويحاولون -أيضاً- أن يلووا أعناق النصوص إلى ما يوافق هوى الناس.
فأنت -على كل حال- إذا اختلف عندك رأي عالمين فانظر أيهما أوثق في نظرك من حيث العلم، ومن حيث الدين، وخذ بما اطمأن قلبك إليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب) فإن لم يوجد عندك اطمئنان ولا ترجيح فبعض العلماء قال: تخير بين أن تأخذ بقول هذا أو بقول هذا، وبعض العلماء قال: تأخذ بالأشد لأنه الأحوط، وبعض العلماء قال: تأخذ بالأيسر لأنه الأوفق لروح الشريعة الإسلامية؛ لأن الشريعة الإسلامية مبنية على اليسر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدين يسر) وهذا لفظ البخاري، فما دمنا لم نعلم أن الدين منع هذا الشيء أو أوجب هذا الشيء فنحن في حل.(49/9)
حكم مراعاة الطالب أثناء وضع الدرجات لأدبه وسلوكه
السؤال
فضيلة الشيخ: هل يجوز للمدرس أثناء تصحيح أوراق الطلبة أو أثناء الاختبار الشفوي أن يراعي سلوك الطلبة في الفصل، فإن كان جيداً زاد له الدرجات ونحو ذلك؟ وأيضاً هل يجوز في أعمال السنة أن يزيد المدرس الطلاب درجة أو درجتين خوفاً من الظلم أو نحو ذلك، لأنكم تعلمون أن الظلم ظلمات يوم القيامة، وأن دعوة المظلوم مستجابة، وأن كثيراً من المدرسين يظلمون الطلاب ظلماً كبيراً دون أن يشعروا، فيخاف المدرس من هذا؟ أفيدونا وفقكم الله.
الجواب
هذا السؤال مهم بالنسبة للمدرسين، وأنا أعلم أنهم يجعلون درجات لسلوك الطالب وأخلاقه داخل المدرسة، فيجب على المدرس الذي يحدد هذه الدرجات أن يحكم بالعدل، وأن يتقي الله عز وجل، فإن كان أحد الطلبة أحسن سلوكاً وأخلاقاً فإنه يعطيه درجته التي يستحقها، وينقص من الطالب السيئ الأخلاق من درجات السلوك ما يستحقه، ولا يحابي في ذلك أحداً.
أما درجة العلوم والرياضيات والمستوى العلمي فلا يزيد فيها ولا ينقص منها نظراً لسلوك الطالب، وإنما يعطي كل طالب ما يستحقه من الدرجات أرأيت لو تحاكم رجلان إلى قاض أحدهما كافر والآخر مسلم فهل يهضم حق الكافر لأنه كافر؟ لا.
فمسألة الإجابة هي على حسب ما قدم لك من معلومات، سواءً كان سيئ الأخلاق أو حسن الأخلاق.
المسألة الثانية: إذا كان المدرس قد ظلم الطالب فهذا لا يخلو من حالين: الحال الأولى: أنه كان يظن حين معاملة الطالب أنه على صواب، وأنه مجتهد، وهذا الذي أداه إليه اجتهاده، مثل أن يوقفه في الفصل أو يضربه أو يطرده أو ما أشبه ذلك، لكنه في ذلك الوقت يرى أنه على صواب، ثم بعد التفكير يرى أنه أخطأ؛ فهذا ليس فيه ظلم، ولا يعاقب عليه الإنسان؛ لأنه في ذلك الوقت كان مجتهداً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر) .
ولو أننا قلنا لكل متصرف في شأن غيره: إنه إذا أخطأ بعد اجتهاده تحمل هذا الخطأ ووقع عليه العقاب؛ ما قبل أحد أن يتصرف في شأن غيره، ولتعطلت مصالح العباد، لكن من رحمة الله أن المتصرف لغيره كولي اليتيم والوكيل وناظر الوقف وغيرهم، إذا تصرفوا وهم حين التصرف يرون أن هذا هو الصواب بدون تفريط منهم، ثم بعد هذا تبين خطؤهم؛ فإنه لا شيء عليهم، لا ضمان في الدنيا ولا إثم في الآخرة.
الحال الثانية: أن يعلم أنه قد ظلم الطالب ظلماً حقيقياً، وهو في ذلك الوقت يعرف أنه إنما عاقبه انتقاماً لنفسه فقط؛ فحينئذ يسترضي الطالب دون أن يزيد في درجاته وإنما يعطيه حقه فقط؛ لأنه إذا زاد في درجاته أوقع الظلم على الطلبة الآخرين، وحصل من ذلك تشويش، وربما أدى ذلك إلى فقدان الطلبة ثقتهم في معلميهم، وهذا من أخطر الأمور؛ لأن الطالب إذا فقد ثقته في معلمه لم يهتم بأوامره، ولم يستفد منه حتى وإن أظهر أنه يستمع إليه وينصت إلى شرحه.(49/10)
حكم إتمام صيام كفارة القتل بعد رمضان
السؤال
أثابك الله يا شيخنا: لي قريب صدم شاباً فمات هذا الشاب، ولكن هذا القريب تهاون في صيام الشهرين حتى مات، وقد تطوعت أخته فصامت عنه الشهرين، لكن بقي منهما يومان وقد دخل شهر رمضان، فكيف تصوم هذين اليومين؟
الجواب
أقول: لا حرج عليها -إن شاء الله- إذا دخل رمضان وبقي عليها يومان أن تصومهما بعد رمضان، في اليوم الثاني والثالث من شهر شوال.(49/11)
الجمع بين قوله تعالى: (ما يبدل القول لدي) وبين مراجعة الرسول لربه في تخفيف الصلاة ليلة الإسراء
السؤال
فضيلة الشيخ: كيف نوفق بين قول الله عز وجل: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:29] وبين مراجعة الرسول لربه في حديث الإسراء في تخفيف الصلاة من خمسين إلى خمس صلوات؟ وجزاك الله خيراً.
الجواب
لا تعارض بين قوله تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [قّ:29] وبين ما ذكرت، فهل قال الله تعالى: ما نبدل القول؟ لا.
إنما قال: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق:29] فإنه: {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [يونس:64] لا أحد يستطيع أن يبدل كلمات الله.
وإذا قلنا: الآية مبنية لما لم يسمَّ فاعله، وأنه هو نفسه لا يبدل ما قال عز وجل؛ فنقول: إن ما حدث من مراجعته عليه الصلاة والسلام ربه في الصلاة كان لإتمام القول الذي ارتضاه أولاً أنها خمس، لكنه عز وجل شرع لنبيه خمسين لحكمة، وهي ظهور مدى تقبل الرسول صلى الله عليه وسلم ما يفرضه الله عليه هذا من وجه.
والوجه الثاني: أن يكتب لهذه الأمة أجر خمسين صلاة؛ لأننا الآن نصلي خمساً لكننا كالذي يصلي خمسين، ليس من باب أن الحسنة بعشر أمثالها، فكل عمل صالح الحسنة فيه بعشر أمثالها، لكن من باب أن الصلاة الواحدة تكتب لنا عشر صلوات، وهذه نعمة كبيرة، وهي من حكمة الله عز وجل ورحمته.
فيكون الأصل هو القول الأول الذي ارتضاه الله عز وجل وقضى بأنها ستكون خمس صلوات، لكنه فرضها خمسين لهذه الحكمة؛ أولاً: ليظهر مدى تقبل الرسول صلى الله عليه وسلم لفرائض الله تعالى، وإن كانت في صورة شاقة، ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أشد الناس قبولاً لما ألزمه به ربه تبارك وتعالى.
وثانياً: من أجل أن يكتب للأمة أجر خمسين صلاة مع أن الأمة تؤديها خمساً بالفعل، وهذا من رحمة الله تعالى بهذه الأمة.(49/12)
حكم توكيل شخص لاستخراج منحة مالية على نسبة تعطى له
السؤال
يا شيخ! أحسن الله إليك وأمد في عمرك هناك بعض الناس يتوسطون لبعض الأشخاص في المناخ السنوي أو ما يسمى بالعادة السنوية، وهذا الذي يتوسط يشترط على ذلك الشخص إذا خرج اسمه أول السنة أن يكون له نصف المبلغ المقرر، وبعضهم لا يشترط ولكن يعده صاحب الطلب أنه إذا خرج اسمه أن يعطيه نصف ما يتقرر له أو ربعه، فهل هذا جائز؟
الجواب
أولاً: طلب المناخ أو العادة إذا كان الإنسان في حاجة فلا بأس، وأما إذا لم يكن في حاجة فلا يجوز أن يطلب ذلك؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ما جاءك من هذا المال وأنت غير مستشرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك) ، ولأن الإنسان الغني لا يجوز له أن يسأل الناس ليستكثر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سأل الناس أموالهم تكثراً فإنما يسأل جمراً، فليستقل أو ليستكثر) .
ثانياً: إذا كان فقيراً أو محتاجاً فلا بأس أن يؤجر شخصاً يطالب له، ويقول: لك نصف المبلغ، أو ربع المبلغ، حسب ما يتفقان عليه.(49/13)
الإنكار في المسائل الخلافية
السؤال
فضيلة الشيخ: هل ينكر على المرأة التي تكشف الوجه، أم أن المسألة خلافية والمسائل الخلافية لا إنكار فيها؟
الجواب
لو أننا قلنا: المسائل الخلافية لا ينكر فيها على الإطلاق لذهب الدين كله؛ لأنك لا تكاد تجد مسألة إلا وفيها خلاف بين العلماء، نضرب مثلاً: رجل مس امرأةً بشهوة، وأكل لحم إبل، ثم قام ليصلي، وقال: أنا أتبع الإمام أحمد في أن مس المرأة لا ينقض الوضوء، وأتبع الشافعي في أن لحم الإبل لا ينقض الوضوء، وسأصلي على هذه الحالة فهل صلاته الآن صحيحة على المذهبين؟ هي غير صحيحة؛ لأنها إن لم تبطل على مذهب الإمام أحمد بن حنبل بطلت على مذهب الشافعي، وإن لم تبطل على مذهب الإمام الشافعي بطلت على مذهب الإمام أحمد؛ فيضيع دين الإنسان.
والمسائل الخلافية تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: اجتهادية يسوغ فيها الخلاف؛ بمعنى: أن الخلاف ثابت حقاً وله حكم النظر، فهذه لا إنكار فيها على المجتهد، أما عامة الناس فإنهم يلزمون بما عليه علماء بلدهم؛ لئلا ينفلت العامة؛ لأننا لو قلنا للعامي: أي قول يمر عليك لك أن تأخذ به، لم تكن الأمة أمة واحدة، ولهذا قال شيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: العوام على مذهب علمائهم.
فمثلاً: عندنا هنا في المملكة العربية السعودية أنه يجب على المرأة أن تغطي وجهها، فنحن نلزم نساءنا بذلك، حتى لو قالت لنا امرأة: أنا سأتبع المذهب الفلاني وكشف الوجه فيه جائز، قلنا: ليس لكِ ذلك؛ لأنكِ عامية ما وصلتِ إلى درجة الاجتهاد، وإنما تريدين اتباع هذا المذهب لأنه رخصة، وتتبع الرخص حرام.
أما لو ذهب عالم من العلماء الذي أداه اجتهاده إلى أن المرأة لا حرج عليها في كشف الوجه، ويقول: إن امرأتي سوف أجعلها تكشف وجهها.
قلنا: لا بأس، لكن لا يجعلها تكشف الوجه في بلاد يسترون الوجوه، يمنع من هذا؛ لأنه يفسد غيره، ولأن المسألة فيها اتفاق على أن ستر الوجه أولى، فإذا كان ستر الوجه أولى فنحن إذا ألزمناه بذلك لم نكن ألزمناه بما هو حرام على مذهبه، إنما ألزمناه بالأولى على مذهبه، ولأمر آخر وهو ألا يقلده غيره من أهل هذه البلاد المحافظة، فيحصل من ذلك تفرق وتفتيت للكلمة.
أما إذا ذهب إلى بلاده فلا نلزمه برأينا، ما دامت المسألة اجتهادية وتخضع لشيء من النظر في الأدلة والترجيح بينها.
القسم الثاني من قسمي الاختلاف: لا مساغ له ولا محل للاجتهاد فيه، فينكر على المخالف فيه؛ لأنه لا عذر له.(49/14)
من اعتمر ونسي أن يتجرد من السراويل
السؤال
فضيلة الشيخ: مواطن من أهل مدينة جدة ذهب إلى العمرة، فلما أتمها أخذ شيئاً من شعره، وعاد إلى بيته في جدة، فعندما خلع الإحرام وجد أنه لم يتجرد من السراويل، فما حكمه؟
الجواب
هذا ليس عليه شيء، وأنا سأعطيكم قاعدة تهتدون بها إن شاء الله تعالى: جميع المحرمات إذا فعلها الإنسان جاهلاً أو ناسياً أو مكرهاً فلا إثم عليه ولا كفارة ولا أي شيء؛ لأن الله تعالى قال: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] فقال الله تعالى: (قد فعلت) ثبت ذلك في صحيح مسلم، وقال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب:5] ، وقال في الكفر وهو أعظم المحرمات: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106] .
فإذا كان الإنسان محرماً، ونسي السراويل عليه حتى انتهى من الإحرام فلا شيء عليه، وكذلك لو أكل أو شرب وهو صائم ناسياً فلا شيء عليه، وكذلك لو ارتكب محظوراً جاهلاً؛ كإنسان حلق رأسه وهو محرم قبل أن يحل، أو غطى رأسه وهو محرم؛ فلا شيء عليه ما دام جاهلاً.
فأي شيء محرم في العبادة إذا فعله الإنسان جاهلاً أو ناسياً أو مكرهاً فلا إثم عليه ولا كفارة.(49/15)
الحجامة للصائم
السؤال
فضيلة الشيخ: نقل الحافظ ابن حجر في الفتح عن ابن حزم أنه قال: صح حديث (أفطر الحاجم والمحجوم) بلا ريب، لكن وجدنا من حديث أنس: (رخص النبي صلى الله عليه وسلم في الحجامة للصائم) وإسناده صحيح، فوجب الأخذ به؛ لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة، فدل على نسخ الفطر بالحجامة سواء كان حاجماً أو محجوماً انتهى.
وذكر الحافظ -أيضاً- حديثاً عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجامة للصائم، وعن المواصلة، ولم يحرمها إبقاءً على أصحابه) وهذا أيضاً ذكره ابن حجر رحمه الله تعالى وقال: إسناده صحيح، والجهالة بالصحابي لا تضر، فكيف نوفق بين هذه الأدلة وبين ما ذهبتم إليه -حفظكم الله- من إفطار الصائم بالحجامة؟
الجواب
نرد على هذا بما رد به الإمام أحمد: أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفطر الحاجم والمحجوم) وحديث أنس بن مالك الذي أشرت إليه فيه ضعف هذا أمر.
الأمر الثاني: إن قولنا بالإفطار هو من مصلحة الصائم في الواقع؛ لأن من المعروف أن الإنسان إذا سحب منه الدم فسوف يلحقه هبوط ومشقة وتعب، فإذا قلنا: إنه يفطر بالحجامة، معناه أنك لا تحتجم إلا للضرورة، فإذا كنت صائماً صيام فرض واحتجمت للضرورة فكل واشرب واقض ذلك اليوم، والآخرون يقولون: إذا احتجمت للضرورة فلابد أن تبقى على صومك ولو كنت في غاية ما يكون من الضعف.
فصار القول بأنه يفطر هو الأيسر الذي تقتضيه مصلحة الصائم وتدل عليه الأدلة الشرعية؛ لأننا نقول: إن كنت لا تحتاج إلى الحجامة فلا تحتجم إلا في الليل، وإن كنت تحتاج إليها ولابد -كما لو هاج عليك الدم- فنقول: احتجم، ونرخص له أن يأكل ويشرب حتى يستعيد قوته؛ فتبين بهذا أن القول بأنها تفطر هو القول الموافق للحكمة، وقد حقق شيخ الإسلام رحمه الله ذلك في رسالة له صغيرة تسمى: حقيقة الصيام، ومن أحب أن يتسع له الجواب فليرجع إليها فإنها مفيدة.
والتبرع بالدم مثل الحجامة؛ لأنه كثير، فيحصل به من الضعف ما يحصل بالحجامة، ولهذا لا يجوز للإنسان أن يتبرع بالدم وهو صائم صيام الفرض إلا للضرورة، فإذا كانت ضرورة تبرع بدمه وأفطر ذلك اليوم.(49/16)
حكم الاختلاط بين الرجال والنساء، وحكم قيادة النساء للسيارات
السؤال
فضيلة الشيخ: في بلادنا الكويت كثر الاختلاط في الجامعات؛ فالمدرس أحياناً يخلو بالبنت، وكذلك بالنسبة لتعليم النساء قيادة السيارات، نجد أن المدرب يخلو بالبنت وهو يدربها ساعة أو ساعتين، فما حكم ذلك جزاكم الله خيراً؟
الجواب
أقول بالنسبة للطالبات: الواجب عليهن أن يغطين وجوههن، وأما النظر إلى المدرس فهذا لا بأس به إذا لم يكن لشهوة أو لتمتع بالنظر إليه، وإنما كان من أجل التلقي منه، هذا لا بأس به؛ لأن نظر المرأة إلى الرجل ليس حراماً، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ فاطمة بنت قيس: (اعتدي في بيت ابن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده) وكان صلى الله عليه وسلم يستر عائشة وهي تنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد.
فالقول الراجح من أقوال العلماء: أن المرأة لا بأس أن تنظر إلى الرجل بشرط ألا يكون نظرها لشهوة أو تمتع.
وأما بالنسبة لتدريب الفتاة على قيادة السيارة وانفرادها برجلٍ يدربها فهذا لا يجوز، وهو أكبر فتنة مما لو انفرد بها في حجرة؛ لأن من المعلوم أن النفس تحب من أحسن إليها، وهذا المدرب إذا عامل الفتاة باللطف واللين يكون هناك فتنة كبيرة لا يتصورها الإنسان، وكيف عندما تجد الطالبة نفسها بجانبه يريها كيف يعمل عجلة القيادة، وكيف يعمل بالفرامل، وكيف يعمل كذا، فهذا خطير جداً جداً.
ثم إن من رأيي أنا أن المرأة لا تقود السيارة هل قلَّ الرجال وما بقي إلا أن نضطر إلى النساء؟!! أبداً ما قل الرجال، فهم كثيرون، وقيادة السيارة للمرأة فيها أخطار كثيرة، إذا كنا الآن نخشى من شبابنا إذا ذهبوا في السيارات إلى البر وغيره نخشى عليهم من الفتنة، فكيف بالمرأة؟ من يضبط المرأة إذا أخذت السيارة وخرجت إلى البر أو إلى أي إنسان تريده؟! الحقيقة أني أتعجب من بعض الناس كيف ينظرون إلى الأمور بظواهرها! يقولون: إن المرأة لا بأس أن تقود السيارة كما كانت النساء تركب الجمال في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
نقول: نحن لا ننكر أصل قيادة المرأة للسيارة، فليس هو في ذاته منكراً، لكن لما يترتب عليه من المفاسد الكثيرة العظيمة نمنعه، والشريعة الإسلامية جاءت لسد الذرائع الموصلة إلى المحرمات ثم ليس هناك ضرورة؛ فالشباب كثيرون والحمد لله، والمرأة إذا تعود أخوها أو ابنها قيادة السيارة كفاها.
فالواجب منع المرأة من قيادة السيارة؛ لا لأن ذلك حرام عليها، وإنما هو من باب سد الذرائع الموصلة إلى الحرام، ولما يترتب على ذلك من مفاسد محققة.
وإلى هنا ينتهي هذا اللقاء، ونسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم صالح العمل، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(49/17)
لقاء الباب المفتوح [50]
شرح الشيخ رحمه الله في هذا اللقاء آياتٍ في الصيام، وتحدث عن الحكمة من فرضية الصيام، والتيسير فيه خاصة وفي الدين عامة، ووقوع النسخ في الإطعام للقادر على الصيام، وذكر بعض الإيضاحات عن بعض أحكام الصيام.
ثم أجاب عن الأسئلة حول الصيام، وطاعة ولي الأمر، وغير ذلك.(50/1)
تفسير آيات الصيام
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:(50/2)
تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام)
فهذا يوم الخميس الثالث والعشرين من شهر شعبان، عام (1414هـ) ، وهو المجلس الأول في الإجازة الربيعية بمناسبة قرب شهر رمضان يحسن أن نتحدث قليلاً عن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] فهذه الآية الكريمة صدَّرها الله عز وجل بهذا النداء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:183] بوصف الإيمان؛ لأن وصف الإيمان يحمل الإنسان على القيام بالأمر واجتناب النهي، وهو وصف -لا شك- محمود محبوب إلى الخلق، فكل إنسان عاقل يحب أن يوصف بالإيمان، وكل إنسان يود أن يتمم إيمانه، فإذا نادى الله تعالى عباده بهذا الوصف المحمود المحبوب كان أدعى للقبول، وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه فيما يروى عنه: [إذا سمعت الله يقول: (يا أيها الذين آمنوا) فارعها سمعك؛ فإنه إما خير تؤمر به، وإما شرٌّ تنهى عنه] وما في جلستنا هذه هو خير نُؤمر به: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] أي: فرض، والفارض له هو الله عز وجل فرضه على عباده.
وقد جاء في السنة بأنه أحد أركان الإسلام الخمسة.(50/3)
تفسير قوله تعالى: (كما كتب على الذين من قبلكم)
وفي قوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] فائدتان: الفائدة الأولى: تسلية هذه الأمة، حتى لا يقول قائل: لماذا أُلزمنا نحن بترك شهواتنا من مطعوم، ومشروب، ومنكوح دون غيرنا من الأمم، فيكون في هذا نوع تسلية للأمة، وأنها لم تلزم بما لم تلزم به الأمم قبلها.
والفائدة الثانية: بيان استكمال هذه الأمة للفضائل التي سبقت للأمم من قبلها، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، وقد ضرب مثلاً لحاله مع إخوانه المرسلين بقصرٍ مشيد عُمِرَ، فكان الناس يطوفون به ويقولون: ما أحسن هذا القصر، إلا موضع لبنة فيه، وكان النبي صلى الله عليه هو الذي حل أو سد موضع هذه اللبنة وبه تم البناء، فتمت الشرائع -والحمد لله- بهذه الشريعة الإسلامية.(50/4)
تفسير قوله تعالى: (لعلكم تتقون)
بين الله عز وجل الحكمة من فرضية الصيام فقال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] لم يقل: لعلكم تجوعون، أو تعطشون، أو يشق عليكم مجانبة الأهل، بل قال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] فهذه هي الحكمة من فرض الصوم، ولهذا جاء في الحديث: (رب صائمٍ حظه من صيامه الجوع والظمأ) فما هي التقوى؟ التقوى عبارة عن اتخاذ وقاية من عذاب الله، ولا وقاية من عذاب الله إلا بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
ولهذا نقول: التقوى: فعل ما أمر الله به، وترك ما نهى عنه، وهذا أجمع تعريفٍ للتقوى.
وقد بين الرسول عليه الصلاة والسلام شيئاً من ذلك بقوله: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) فالذي لا يدع هذه الأشياء فإن الله سبحانه وتعالى لا يريد منه أن يدع الطعام والشراب؛ لأن هذا قد يكون فيه تعذيب للنفس والله تعالى يقول: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء:147] فالله عز وجل يريد منا أن ندع قول الزور والعمل به والجهل، وهذه هي الحكمة من الصوم، فلينظر الإنسان في نفسه هل قام بهذه الحكمة وهذه الغاية الحميدة أو كان صيامه فقط هو الإمساك عن الأكل والشرب والنكاح؟!(50/5)
تفسير قوله تعالى: (أياماً معدودات)
ثم بين الله عز وجل أن هذا الصيام ليس أشهراً ولكنه {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184] فهو قليل العدد، ثم هو قليل المشقة: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] إذاً: ليس فيه كثرة، وليس فيه مشقة؛ لأن المسافر إذا كان يفطر، والمريض الذي يشق عليه الصوم يفطر فقد انتفت المشقة، فالصوم يسير، ولله الحمد.
{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} .
{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} أي: يقدرون عليه {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} أي: من لا يريد الصوم فإنه يطعم عن كل يوم مسكيناً، وهذا تيسير؛ تصوم إن شئت، وإن شئت تطعم عن كل يوم مسكيناً، ولو كنت تطيقه.
{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً} وأطعم مسكيناً {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} فيخير الإنسان بين أن يصوم وبين أو يطعم ولو كان قادراً، وهذه من نعمة الله سبحانه وتعالى وتيسيره.
لكن هل بقي هذا الحكم؟ لا لم يبق هذا الحكم، بل نسخه ما بعده.(50/6)
تفسير قوله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن)
قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:185] فأوجب الله الصوم ونسخ الإطعام، لكن لما كان أول فرض الصيام قد يشق على الناس أن يصوموا رُغبُوا في الصوم، وخُيِّروا بينه وبين الإطعام، ثم لما استقر الفرض في نفوسهم، وقرت به أعينهم، أوجب الله عليهم الصيام، ولهذا لا يجوز للإنسان أن يطعم مع قدرته على الصوم، ثم إذا كان عاجزاً عن الصوم فإما أن يكون عجزه مستمراً؛ فهذا يطعم عن كل يوم مسكيناً، وإما أن يكون عجزه طارئاً يرجو زواله كالمريض مرضاً معتاداً فهذا ينتظر حتى يشفى ثم يصوم؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185] .(50/7)
تفسير قوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)
فقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة:185] هذا كالتعليل لقوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} [البقرة:185] أي: أنه رخص لكم الفطر في حال السفر وفي حال المرض؛ لأنه عز وجل يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر، ولهذا جاءت الشريعة الإسلامية بكل يسر ولله الحمد، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: (إن الدين يسر) وهذه جملة حصرية بمعنى أن الدين كله يسر ليس فيه مشقة، فلو تأملت أوامر الشريعة لوجدتها كلها سهلة يسيرة.
ثم إذا كان على الإنسان مشقة في شيء منها فإنها تنقسم إلى قسمين: إما أن تسقط بسبب المشقة، وإما أن ينتقل إلى بدل، ففي الوضوء إذا تعذر استعمال الماء فإنه يتيمم، فإن لم يجد ما يتيمم به سقط عنه الوضوء والتيمم، فهذا المثال للشيء الذي يسقط إلى بدل وإلى غير بدل، وهذا تيسير ولله الحمد فالدين كله يسر.
ولذا يجب على طالب العلم أن ينظر إلى هذه الزاوية أكثر مما ينظر إلى زاوية التعسير على الخلق؛ لأن ربهم الذي خلقهم هو الذي قال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} [البقرة:185] وكثيرٌ من الناس الآن نجده يعامل الناس بما هو أعسر وأشق، وهذا إن جاءت به الشريعة فلا بأس وليس بشاق إلا في تصور بعض الناس، وأما إذا لم تأتِ به الشريعة فإنه لا حجة له عند الله يوم القيامة إذا قال له لماذا عسرت على عبادي؟ وأنا ميسر لهم؟ ولهذا يجب أن ننظر إلى هذا نظرة فاحصة، وألا نلزم الناس بما لم يلزمهم الله به، وألا نحرم عليهم ما لم يحرمه الله عليهم، حتى وإن فرض أننا عندهم قدوة، وأنهم يطيعوننا فإننا في الواقع بينهم وبين الله، وسوف يسألنا الله عز وجل.(50/8)
تفسير قوله تعالى: (ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون)
وقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} [البقرة:185] أي: عدة رمضان، الفائدة من هذه الجملة ألا نتسرع في الإفطار، فمثلاً لو شهد شاهد واحد على دخول شهر شوال ليلة ثلاثين من رمضان فإننا لا نقبل شهادته حتى يأتي شاهد آخر يشهد بأنه رأى هلال شهر شوال، فإننا حينئذ نأخذ بقولهما، ونكون قد أكملنا العدة.
ثم قال تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185] وهذا بعد إكمال العدة إذا غابت الشمس ليلة عيد الفطر فإنه يشرع للناس أن يكبروا الله عز وجل على ما هداهم؛ لأن هدايته لهم نعمة كبيرة يستحق عليها الشكر: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185] .
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتمم لنا ولكم صيام رمضان وقيامه على أحسن وجه، وأن نقوم بذلك إيماناً واحتساباً، إنه على كل شيء قدير.(50/9)
الأسئلة(50/10)
المسحة المعتبرة في مدة المسح على الخفين
السؤال
فضيلة الشيخ: لو أن إنساناً توضأ لصلاة الفجر ثم لبس الخف، فلما أتت صلاة الظهر كان على طهارته، وأراد أن يجدد الطهارة، فمسح على الخف فهل تحسب المدة من هذا المسح أم لا؟
الجواب
يقول العلماء: لا تبتدئ مدة المسح إلا بعد المسح من الحدث، وعلى هذا فالمسح للتجديد لا تحسب منه المدة، كما في المثال الذي ذكرت، إذا جدد وضوءه لصلاة الظهر بدون حدث ومسح فإن المدة لا تبتدئ من هذا الوضوء، فإذا أحدث وتوضأ لصلاة العصر فإنها تبتدئ من هذا الوقت.(50/11)
مفطرات الصيام
السؤال
فضيلة الشيخ: أرجو أن تتكلم عن المفطرات في نهار رمضان ولو على وجه العموم؟
الجواب
مفطرات الصائم في رمضان وفي غير رمضان، ذكر الله في القرآن ثلاثة منها في قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [البقرة:187] هذه ثلاثة: الجماع، والأكل، والشرب.
وظاهر الآية الكريمة أنه لا فرق بين أن يكون الأكل والشرب نافعاً أو غير نافع أو ضار؛ لأن المأكول والمشروب إما نافع أو ضار أو ليس نافعاً ولا ضاراً، وكلها مفطرة، فلو بلع الإنسان خرزة سبحة فإنه يفطر بهذا ولو كانت لا تنفعه، ولو شرب دخاناً فإنه يفطر ولو كان ضاراً، ولو أكل تمرة فإنه يفطر ولو كانت نافعة.
وكذلك يقال في الشرب.
وجاءت السنة بالقيء، فإذا تقيأ الإنسان فإنه يفطر، فإن غلبه القيء فإنه لا يفطر.
وجاءت السنة بالحجامة، فإذا احتجم الإنسان وهو صائم وخرج منه دم فإنه يفطر هذه خمسة من المفطرات.
وألحق العلماء بهذا ما كان بمعنى الأكل والشرب مثل الإبر المغذية، وليست المغذية هي التي ينشط بها الجسم أو يبرأ بها، وإنما الإبر المغذية: هي التي تغني عن الأكل والشرب، وعلى هذا فجميع الإبر التي لا تغني عن الأكل والشرب لا تفطر، سواء كانت من الوريد أو من الفخذ أو من أي مكان.
كذلك أيضاً إنزال المني بشهوة يفطر بها الصائم، والدليل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن الله عز وجل: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) والمني من الشهوة -لا شك- لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وفي بضع أحدكم صدقة قالوا: أو يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: نعم.
أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟ فكذلك لو وضعها في الحلال كان له أجر) والذي يوضع هو المني، يضعه الرجل في رحم المرأة؛ ولهذا عدل صلى الله عليه وسلم إلى قوله: (أرأيتم لو وضعها) لما قالوا: (أو يأتي أحدنا شهوته) وعلى هذا فنزول المني بشهوة مفطرٌ للصائم، وأما تقبيل المرأة ولو بشهوة، أو المذي ولو عمداً؛ فإنه لا يفطر الصائم، لأن ذلك لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والأصل أن الصوم صحيح حتى يثبت بطريقٍ شرعي أنه فاسد، ولهذا لو قال لنا قائل: هذا الشيء يفطر به الصائم.
نقول له: هات الدليل؟ وإلا لكان كل واحد لا يروق له الشيء يقول: هذا مفطر، وهذا غير مفطر.
هذه المفطرات التي ذكرناها عامة للرجل والمرأة.
أما خروج دم الحيض والنفاس فهذا خاص بالمرأة، إذا خرج منها الحيض ولو قبل الغروب بدقيقة فإنها تفطر، وكذلك دم النفاس، وأما إذا خرج دم الحيض بعد الغروب ولو بلحظة فإنها لا تفطر.
وهذه المفطرات لا تفطر إلا بشروط ثلاثة: الشرط الأول: العلم.
والشرط الثاني: الذكر.
والشرط الثالث: الاختيار.
الأول: العلم: وضد العلم الجهل، فلو أكل الإنسان وهو يظن أن الفجر لم يطلع، ثم تبين أنه طالع فصيامه صحيح؛ لأنه لم يعلم أن الفجر قد طلع، ولو كانت السماء غيماً وغلب على ظنه أن الشمس غربت وأكل وشرب، ثم تبين أنها لم تغرب فصيامه صحيح؛ لأنه ليس بعالم أنها لم تغرب.
الثاني: الذكر كذلك إذا كان ناسياً فإنه لا يفطر، والنسيان ضد الذكر، فلو أكل أو شرب ناسياً فصومه صحيح، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه) .
الثالث: أن يكون مريداً -يعني: لما فعل- فإن كان مكرهاً، كما لو أكره الرجل زوجته على الجماع، وجامعها وهي صائمة؛ فإن صومها صحيح.
السائل: ما حكم البخور؟ الشيخ: ما يفطر البخور، لكن لا تستنشقه.(50/12)
حكم الاحتياط في الأذان للفجر بتقديمه أو تأخيره
السؤال
فضيلة الشيخ: بعض الأهل عندنا كانوا يأكلون بعد أذان الفجر.
ولما ذكرت لهم أن ذلك لا يجوز قالوا: ليس في ذلك شيء، فما حكم هذه الأيام الماضية؟
الجواب
كلمة (ليس في ذلك شيء) ليست بحجة، لكن لو قالوا: ما طلع الفجر، لكان له وجه، مثل أن يكونوا في البر وليس حولهم أنوار، وقالوا: لم نشاهد طلوع الفجر؛ لأن بعض الناس الآن يشككون في التقويم الموجود بين أيدي الناس، يقولون: إنه متقدم على طلوع الفجر، ويقولون: خرجنا إلى البر وليس حولنا أنوار، ورأينا الفجر يتأخر، حتى بالغ بعضهم وقال: يتأخر ثلث ساعة.
لكن الظاهر أن هذه مبالغة لا تصح، والذي نراه أن التقويم الذي بين أيدي الناس الآن -الذي هو تقويم أم القرى- فيه تقديم خمس دقائق في الفجر خاصة، يعني لو أكلت وهو يؤذن على التقويم فلا حرج، إلا إذا كان المؤذن يحتاط ويتأخر، فبعض المؤذنين جزاهم الله خيراً يحتاطون، ولا يؤذنون إلا بعد خمس دقائق من التوقيت الموجود الآن، وهذه المسألة مسألة خطيرة، وبعض جهال المؤذنين يتقدمون في أذان الفجر زعماً منهم أن هذا أحوط للصوم، لكنهم ينسون أنهم يهملون ما هو أشد من الصوم! وهو صلاة الفجر، فربما يصلي أحد الناس قبل الوقت، والإنسان إذا صلى قبل الوقت ولو بتكبيرة الإحرام ما صحت صلاته.
ثم هم -أعني هؤلاء المؤذنين قبل الفجر- يقولون: نحن نحتاط.
نقول: تحتاطون أكثر مما احتاط الله لعباده؟! إن الله يقول: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ} [البقرة:187] فلابد أن تتبين الفجر.
حتى التعبير القرآني لم يقل: حتى يطلع الفجر، بل قال: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ} [البقرة:187] فأنتم الآن عندما أذنتم منعتم عباد الله ألا يأكلوا ولا يشربوا في هذه اللحظة، معناه أنكم حرَّمتم على الناس ما أباح الله لهم، فيكون عليكم إثم من هذه الناحية أيضاً، حتى لو فُرض أن الناس تمهلوا ولم يصلوا فعليكم إثم من جهة أنكم منعتم عباد الله مما أحل الله لهم.
فالجهل داء قاتل، وبعض الناس يكون جاهلاً وينظر بعين الأعور، لا يرى إلا من جانب واحد، والجانب الثاني مهمل، وهذا غلط عظيم، ولذلك يجب على طلبة العلم أن ينبهوا الناس على هذه المسألة وخصوصاً المؤذنين، ويقولون: اتقوا الله في عباد الله! كيف تؤذنون قبل الفجر وتمنعون عباد الله مما أحل الله لهم؟! ربما كان الإنسان لتوه قام من النوم، عطشاناً ويريد أن يشرب، ولكن بورعه وتقواه لما سمع المؤذن أمسك، والمؤذن يؤذن قبل الفجر زعماً منه أن هذا هو الأحوط، فيحرم هذا الرجل المسكين من شربة الماء، فليس الأحوط أن تتبع الأشد؛ بل الاحتياط الحقيقي أن تتبع ما جاءت به الشريعة.(50/13)
حكم قضاء الدين عن المعسر بدون علمه
السؤال
فضيلة الشيخ: ما حكم دفع الزكاة على المَديِنْ المعسر بدون علمه؟
الجواب
حكم الزكاة على المدين المعسر الذي لا يجد الوفاء إلى غريمه بدون علم المدين الفقير جائز ومجزئ؛ لأن الآية الكريمة تدل على هذا قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة:60] فالتعبير مختلف بين الأربعة الأُول وبين الأربعة الأُخر.
الأربعة الأول كان التعبير باللام الدالة على التمليك {لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة:60] فلابد أن تملكهم، تعطيهم الزكاة وتتركهم يفعلون ما شاءوا من حاجاتهم، لكن في الغارمين قال: {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ} [التوبة:60] الغارمين: معطوف على الرقاب، فيكون التقدير (في) وعلى هذا فيجوز أن تذهب إلى الغريم الذي يطالب الفقير وتوفي عنه.
ولكن هل الأولى أن تذهب إلى الغريم وتوفيه دون علم الفقير أو أن تعطي الفقير؟ هذا فيه تفصيل: إذا علمت أن الفقير الذي تريد القضاء عنه رجل ديِّن يحب إبراء ذمته وأنك إذا أعطيته سوف يذهب إلى صاحبه ويوفيه فأعطه هو؛ لأن ذلك أجبر لخاطره، وأبعد من الخجل، وأسلم من الرياء الذي قد يصيب الإنسان، فكونك تعطي المدين في هذه الحال أولى.
أما إذا خشيت أن يكون المدين عابثاً، ولو أعطيته ما يوفي به دينه لذهب يلعب بها أو يشتري كماليات أو غيرها فلا تعطه إياها، اذهب إلى صاحبه الذي يطلبه ووفه حقه.(50/14)
ضوابط الجمع في المطر
السؤال
فضيلة الشيخ: بالأمس كان المطر يتساقط عندنا من صلاة العصر حتى صلاة العشاء في بلدة شمال بريدة، وكنت إماماً، وطلب المؤذن أن تجمع الصلاة وتحيرت في الأمر، لكن كان من إلحاح المؤذن أن نجمع فجمعنا الصلاة، وقد وردت فتوى لسماحتكم أنه لابد أن نتحقق من المطر وشدته وخروج الناس حال المطر، هل يؤثر عليهم، فأريد توضيح الضابط في هذا الجمع من جميع الجوانب جزاك الله خيراً؟
الجواب
يجب أن تعلم أن الأصل وجوب أداء الصلاة في وقتها، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103] وقد أجمع العلماء على أن تقديم الصلاة قبل وقتها بدون عذر شرعي حرام يقتضي عدم صحتها؛ لأن هذا خلاف ما أمر الله به، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) هذا هو الأصل، وهذا شيء محكم ليس فيه اشتباه.
فإذا وجد سبب للجمع -تقديم أو تأخير- فإن العلماء مختلفون في هذا؛ منهم من يرى أنه لا جمع إلا بـ عرفة ومزدلفة فقط، ومنهم من يرى الجمع بكل حال، وهذا رأي الرافضة، حيث يرون أنه يجوز الجمع بدون سبب، إن شئت اجمع وإن شئت لا، لكن الصحيح أن الجمع جائز للمشقة، والدليل على ذلك حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (جمع النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة من غير خوف ولا مطر) قالوا: (ما أراد من ذلك؟ قال: أراد ألا يحرج أمته) .
ومعنى (يحرج) أي: ألا يلحقها الحرج، فالحرج مرفوع في شريعتنا، فإذا كان في ترك الجمع حرج ومشقة على الناس إما لكون الأسواق وحلاً، أو لكون المطر ينزل يبلل الثياب ويؤذي الماشين، فهذا عذر، أما إذا كان ينزل قطرات يسيرة والجو دافئ والأسواق ليس فيها وحل، فلا تجمع حتى لو أصر المؤذن أو المأمومون، أرأيت لو صمت رمضان في شعبان هل يجوز؟!! فإذا قدمت العشاء مع المغرب بدون عذر فإنه لا يجوز، والعجيب الآن أنني أذكر أن الناس كانوا في السابق ليس هناك كهرباء والأسواق مظلمة ووحل وطين وليس هناك إسفلت، ومع ذلك كانوا لا يجمعون إلا لمشقةٍ شديدة، بحيث أن الإنسان لا يأتي إلى المسجد إلا ومعه عصا يتوكأ عليها، أو مطر وابل صيب، وهم أشد مشقة من الآن بكثير، الآن ولله الحمد غالب الأسواق مسفلتة ومضاءة، وليس هناك مشقة ولا حرج، فالتهاون في هذا غلط عظيم؛ فأنت لديك نص محكم، وهو وجوب الصلاة في وقتها وعندك سبب مبيح للجمع، فإذا كنت لم تتيقن أن السبب صحيح شرعي فلا تجمع، والإمام هو الذي له الحكم في هذه المسألة، المؤذن له الحكم في الأذان أما مسألة الصلاة والجمع فهذه إلى الإمام.(50/15)
ضابط الاستحلال الموجب للكفر
السؤال
فضيلة الشيخ! ما هو ضابط الاستحلال الذي يكفر به العبد؟
الجواب
الاستحلال: هو أن يعتقد حِلَّ ما حرمه الله.
وأما الاستحلال الفعلي فينظر: إن كان هذا الاستحلال مما يكفِّر فهو كافر مرتد، فمثلاً لو أن الإنسان تعامل بالربا، ولا يعتقد أنه حلال لكنه يصر عليه، فإنه لا يكفر؛ لأنه لا يستحله، ولكن لو قال: إن الربا حلال، ويعني بذلك الربا الذي حرمه الله فإنه يكفر؛ لأنه مكذب لله ورسوله.
الاستحلال إذاً: استحلال فعلي واستحلال عقدي بقلبه.
فالاستحلال الفعلي: ينظر فيه للفعل نفسه، هل يكفر أم لا؟ ومعلوم أن أكل الربا لا يكفر به الإنسان، لكنه من كبائر الذنوب، أما لو سجد لصنم فهذا يكفر لماذا؟ لأن الفعل يكفر؛ هذا هو الضابط ولكن لابد من شرط آخر وهو: ألا يكون هذا المستحل معذوراً بجهله، فإن كان معذوراً بجهله فإنه لا يكفر، مثل أن يكون إنسان حديث عهد بالإسلام لا يدري أن الخمر حرام، فإن هذا وإن استحله فإنه لا يكفر، حتى يعلم أنه حرام؛ فإذا أصر بعد تعليمه صار كافراً.(50/16)
حكم صيام المرضع والنفساء بعد الطهر
السؤال
امرأة نفست في شهر شعبان، وطهرت في عشرة رمضان، فهل لها أن تشرع في الصيام مع قدرتها على ذلك، ومع أن بعض الأطباء ذكر أن الطفل يصبر ست ساعات على الرضَّاعة؛ وهي قادرة على الصيام؟
الجواب
إذا كانت ترضع ولا ينقص لبنها فيجب عليها أن تصوم، متى طهرت المرأة من الحيض أو النفاس وجب عليها الصوم، إلا أنها إذا طهرت أثناء النهار لا يلزمها الإمساك.
- السائل: هي طهرت في عشرة رمضان؟ - الشيخ: يجب عليها أن تصوم العشرين الباقية وجوباً ما دام ليس على الولد ضرر، لكن إذا طهرت في أثناء اليوم لم يلزمها الإمساك بقية اليوم، تظل مفطرة، حتى الحائض لو طهرت مثلاً في نصف النهار تبقى مفطرة تأكل وتشرب، وهذا اليوم سيُقضى على كل حال.(50/17)
حكم الفطر للمسافر في رمضان
السؤال
فضيلة الشيخ: إذا كنت مسافراً ومكثت ثلاثة أيام هل يحق لي أن أفطر في السفر؟
الجواب
إذا كنت مسافراً يحق لك أن تفطر في أثناء الطريق وفي البلد التي مكثت فيها، مثلاً: لو ذهبت إلى مكة للعمرة خمسة أيام أو ستة أيام، أفطر في مكة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة، في ثمانية عشر أو عشرين من شهر رمضان، وبقي مفطراً بقية الشهر، ولم يصم، بل كان يأكل ويشرب ويقصر الصلاة، فلك أن تفطر في مكة أثناء السفر حتى ولو لم يكن في الصوم مشقة، لكن الأفضل أن تصوم إذا لم يشق عليك.(50/18)
حكم خروج المذي أثناء الصوم
السؤال
ذكرتم حديث (يدع شهوته وطعامه) دليلاً على إفطار من أنزل منياً بشهوة، فلماذا لم يأخذ المذي نفس الحكم؟
الجواب
لأن المذي ليس شهوة توضع في الرحم، ولهذا يخرج من غير إحساس به، ولولا أثره من الرطوبة ما عُلم به، فهو يحصل بدون شهوة عند خروجه.
نعم قد ينتج المذي عن شهوة كأن يقبل الرجل زوجته فيمذي، لكن هو نفسه ليس فيه شهوة، لا يجد لذةً عند خروجه، اللذة منفصلة عنه، ولهذا يخرج بدون دفق وبدون إحساس، ولا يشعر الإنسان إلا برطوبته.(50/19)
حكم طاعة ولي الأمر إذا منع شخصاً من الدعوة
السؤال
فضيلة الشيخ! إذا ندب الله عز وجل إلى أمر من الشريعة ندباً عاماً كالدعوة إلى الله مثلاً، ومنع من إيقاعه ولي الأمر، فهل يستجاب لولي الأمر في هذا مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف) مع الضابط إذا تيسر جزاك الله خيراً؟
الجواب
إذا قال ولي الأمر لشخص مثلاً: لا تدعُ إلى الله، فإن كان لا يقوم أحد سواه بهذه المهمة فإنه لا يطاع ولي الأمر في ذلك؛ لأنها تكون فرض عين على هذا الشخص، ولا طاعة لولي الأمر في ترك فرض عين.
أما إذا كان يقوم غيره مقامه، نظرنا: إذا كان ولي الأمر نهاه لأنه يكره دعوة الناس، فهنا يجب أن يناصح ولي الأمر في هذا، ويقال: اتق الله، لا تمنع من إرشاد عباد الله.
أما إذا كان نهيه هذا الشخص لسبب آخر يحدث من جراء كلام هذا الرجل، ورأى ولي الأمر أن المصلحة في إيقافه، وغيره قائم بالواجب؛ فإنه لا يحل لهذا أن ينابذ ولي الأمر، وقد كان عمار بن ياسر رضي الله عنه مع عمر بن الخطاب في سفره فأجنب عمار -أي: أصابته جنابة- فجعل يتمرغ في الصعيد كما تتمرغ الدابة -يعني: تقلب على الأرض ليشمل التراب جميع بدنه- ثم عاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمار: (إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا) وأراه التيمم.
ثم جاءت خلافة عمر [وصار عمار يحدث بذلك، فاستدعاه عمر رضي الله عنه يوماً من الأيام، وقال: كيف تحدث بهذا الحديث؟ لأن عمر يرى أن الجنب لا يتيمم، وأن التيمم في الحدث الأصغر فقط، ومن عليه جنابة ينتظر حتى يجد الماء ثم يغتسل ويصلي هذا رأيه.
فقال له عمار: يا أمير المؤمنين! أما تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا؟ فكأن عمر نسي هذا، فقال له: يا أمير المؤمنين! إن شئت بما جعل الله لك عليَّ من الطاعة ألا أحدث به فعلت.
فقال له عمر: لا.
نوليك ما توليت] يعني: فحدث به، والشاهد أنه ما أنكر عليه قوله: [إن شئت بما جعل الله لك علي من الطاعة ألا أحدث به فعلت] .
أما لو قال ولي الأمر مثلاً: لا تصل النافلة.
فنقول: صلها، لكن بدون منابذة، صلها في بيتك؛ لأن منابذة ولي الأمر يترتب عليها مفاسد كثيرة، لا بالنسبة لك أنت أيها المنابذ؛ لأنك -أنت أيها المنابذ- ربما تؤخذ وتؤذى، وأنت تعتقد أنك أوذيت في الله، لكن غيرك أيضاً يصاب بهذه المنابذة، وربما يقتدي بك غيرك ممن لا يعرف ما عرفت فينابذ بدون علم، وربما تُتحسس أخبار من حولك، ويؤتى بكل إنسان حولك ويؤذى بدون جريمة.
ثم إن الحط من قدر ولاة الأمور من العلماء أو الأمراء في أعين الناس له ضرر كبير؛ لأن قدر ولاة الأمور إذا سقط من أعين الناس تمرد الناس على ولي الأمر ولم يروا لأمره قيمة، وصاروا يرونه كسائر الناس، وإذا انحط قدر العلماء في أعين الناس لم يكن لما يقولونه للناس من شريعة الله قيمة، ولم يثق الناس بأقوالهم، ونبذت الشريعة من هذا الجسر؛ لأن قدرهم هُوِّن في أعين الناس، فصار الناس لا يبالون بهم، ولا يأخذون بأقوالهم، ويذهبون يأخذون من فلان وفلان ممن هو دونهم في فقه شريعة الله عز وجل.
فهذه الأمور لا ينبغي لنا أن ننظر إلى ظاهرها وسطحها؛ لأن لها غوراً بعيداً عميقاً، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ولاة الأمور الذين يطالبون بحقهم ويضيعون حق الله في رعيتهم فقال صلى الله عليه وسلم: (أعطوهم ما لهم واسألوا الله حقكم) حتى لو منعونا حقنا فنحن نعطيهم ما لهم علينا، ونسأل الله سبحانه وتعالى حقنا، وذلك بأن يهديهم حتى يقوموا به.
فينبغي لنا أيها الإخوة! ألا ننظر إلى الأمور من سطحيتها فقط؛ بل ننظر لما يترتب عليها من المفاسد العظيمة؛ والأمن حتماً له قيمة، فالدنيا كلها تبذل في سبيل الأمن، ويضحي الإنسان من نفسه بأشياء كثيرة من أجل الأمن، ولا يعرف قدر الأمن إلا من ابتلي بالخوف، واسألوا آباءكم الأولين عما كانت عليه هذه البلاد من الخوف فيما سبق؟! كان الناس لا يذهبون من بريدة إلى عنيزة أو من عنيزة إلى بريدة إلا مسلحين، وعلى خوف شديد؛ بل قال بعض الكبار: كنا -والله نخرج- في رمضان من بيوتنا بعد العشاء بل بعد المغرب ونحن نحمل السلاح.
يخافون على أنفسهم من عدو يدخل البلد أو غير ذلك، فنعمة الأمن والرخاء لا يساويها نعمة، وإذا انفلت الأمن من يرده؟ فيجب علينا أن نتجنب كل ما يثير الناس، ونحن لا نبرئ ولاة الأمور من الخطأ، ولاة الأمور من العلماء والأمراء عندهم خطأ كثير، لكن جاء في الأثر: (كما تكونوا يولِّ عليكم) .
انظروا إلى أحوال الناس، فمن حكمة الله أن الولي والمولى عليه يكونون متساويين كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129] كذلك يولي الله على الصالحين الصلحاء، وإذا نظرنا إلى أحوال الرعية وجدنا أنفسنا نحن الرعية عندنا تفريط في الواجبات وإخلال وتهاون، وتهافت على المحرمات، نجد الغش في المعاملات، والكذب والتزوير وشهادة الزور وأشياء كثيرة، فلو أن الإنسان تعمق وسلط الأضواء على حال المجتمع الإسلامي اليوم لعرف القصور والتقصير، فالمجتمع الإسلامي مجتمع صدق ووفاء وأمانة، وكل هذه مفقودة الآن إلا ممن شاء الله.
فإذا أضعنا نحن الأمانة فيما نحن أمناء فيه -وليس عندنا ولاية كبيرة- فكيف من له ولاية أمرنا؟ قد يكون أشد منا إضاعة للأمانة، لكن استقيموا يول الله عليكم من يستقيم.
ثم إن الأولى أيضاً، بل إن لم أقل الواجب أن ندعو لولاة الأمور سراً وعلناً، أن ندعو لهم بالتوفيق والصلاح والإصلاح؛ لأنهم ولاة أمورنا، أعطيناهم البيعة، فلابد أن نسأل الله لهم الصلاح حتى يصلح الله بهم، ويذكر أن الإمام أحمد رحمه الله قال: (لو أعلم أن لي دعوة مستجابة لصرفتها للسلطان) لأنه إذا صلح السلطان صلحت الأمة، وهذا صحيح.
فالواجب علينا -يا إخواني- ألا نيأس، وأن ندعو لولاة أمورنا أن يصلح الله لهم الأمور، وأن يعينهم على ما حملهم، وأن يبعد عنهم كل بطانة سوء؛ لأن ولي الأمر ليس وحده فله أعوان، وله وزراء، وله جلساء، تدعو الله أن يوفقه بجليس صالح وعون صالح، ووزير صالح، فهو من توفيق الله له وللرعية، وإن كان الأمر بخلاف ذلك فهو من شؤمه وشؤم الرعية.
ولهذا يجب أن ندعو الله لولاتنا أن يوفقهم للصلاح والإصلاح، وأن ييسر لهم البطانة الصالحة، ونسأل الله لنا ولكم التوفيق.
السائل: أحسن الله إليك: هل الكفاية قامت بدعوة الناس إلى الله عز وجل في أقطار الإسلام؟ الشيخ: لا.
لم تقم، لكن بلادنا -والحمد لله- فيها من يقوم بهذا؛ أكثر المتولين للمنابر اليوم -ولاسيما في المدن- كلهم طلبة علم، وكلهم -والحمد لله- يوجهون الناس توجيهاً هادفاً تحصل به الكفاية، صحيح أن في القرى من لا تحصل به الكفاية، ولكن اتقوا الله ما استطعتم، ولو أن كل قرية فيها طالب علم يعتمد عليه يرجع الناس إليه في الفتاوى والوعظ وغيره من أمور دينهم ودنياهم لكان جيداً، لكن ليس الأمر باليسير.
أما عن البلاد الإسلامية الأخرى فحدث ولا حرج، الخلل فيها كثير! خلاصة الفتوى: أنه يجب على من قيل له: لا تتكلم، ألا يتكلم، إلا إذا تعين الأمر عليه، إذا تعين فإنه يجب عليه أن يعصي ولي الأمر؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
السائل: أحسن الله إليكم يا شيخنا: أنتم تذكرون الآن أن الكفاية لم تقم في ديار الإسلام.
وليست الدعوة حكراً على بلد معين أو حدود معينة! الشيخ: على كل حال نحن لا نرى أن يمنع إنسان من أن يسافر إلى بلد آخر، إذا كان يريد أن يدعو إلى الله، لكن إذا كانت طريقة دعوته إلى الله هناك طريقة دعوته إلى الله في بلادنا بحيث يكون غير مؤهل في علمه وتصرفه، فلولي الأمر أن يمنعه؛ لأن العلة كلها هي عبارة عن أشياء ربما توجب للناس وللرعية كراهة أولياء الأمور أو ما أشبه ذلك.(50/20)
حكم صيام من كان مريضاً مرضاً مزمناً
السؤال
فضيلة الشيخ: هناك رجل مريض بمرض القلب، ولا يعمل عنده إلا جزء بسيط، يحتاج إلى الدواء باستمرار، يعني تقريباً كل ثمان ساعات أو ست ساعات، فهل يسقط عنه الصوم؟
الجواب
من كان عنده هذا المرض يسقط عنه الصوم، ويطعم عن كل يوم مسكيناً؛ إن شاء أعطى كل مسكين ربع صاع من الأرز، وإن جعل معه لحماً فهو أحسن، وإن شاء عشاهم في آخر ليلة من رمضان أو غداهم في يوم آخر في الفطر، كل ذلك جائز.(50/21)
ترجمة القرآن بالمعنى
السؤال
فضيلة الشيخ: ما حكم ترجمة القرآن وتفسيره تفسيراً حرفياً لغير العربية؟
الجواب
أسألك: هل يمكن أن يترجم القرآن ترجمةً حرفية؟ لا يمكن أبداً، فالمسألة مفروضة فرضاً لا واقعاً؛ لأن اللغات غير العربية تختلف عن العربية، وليست كالعربية في الترتيب ولا في الأسلوب، لهذا لا يمكن أن يترجم ترجمة حرفية، أما ترجمة القرآن ترجمة معنوية، بمعنى أن يأخذ الإنسان آية ويترجم معناها فهذا لا بأس به، بل قد يكون واجباً لمن احتيج إلى تفهيمه بذلك.(50/22)
حكم السفر قبل صلاة الجمعة
السؤال
فضيلة الشيخ: ما حكم السفر قبل صلاة الجمعة بساعتين؟
الجواب
السفر يوم الجمعة إن كان بعد أذان الجمعة الثاني فإنه لا يجوز لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] فلا يجوز للإنسان أن يسافر في هذا الوقت؛ لأن الله قال: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] وإذا كان السفر قبل ذلك فإن كان سيصلي الجمعة في طريقه مثل أن يسافر من بلده وهو يعلم أنه سيمر على بلد آخر في طريقه ويعرج عليه ويصلي الجمعة فيه فهذا لا بأس به، وإن كان لا يأتي بها في طريقه، فمن العلماء من كرهه، ومن العلماء من حرمه، ومن العلماء من أباحه، وقال: إن الله تعالى لم يوجب علينا الحضور إلا بعد الأذان.
والأحسن ألا يسافر إلا إذا كان يخشى من فوات رفقته أو مثل أن يكون موعد الطائرة في وقتٍ لا يسمح له بالحضور أو ما أشبه ذلك وإلا فالأفضل أن يبقى.(50/23)
الأسماء اللازمة والمتعدية في أسماء الله تعالى
السؤال
فضيلة الشيخ: ما الفرق بين الأسماء المتعدية والأسماء غير المتعدية في أسماء الله تعالى؟
الجواب
أسماء الله المتعدية معناها: أنها تتعدى للغير، واللازمة هي غير المتعدية، فمثلاً (الحي) من أسماء الله تعالى، وهو اسم غير متعد، فيجب أن نؤمن بالاسم وما دل عليه من الصفة وهي الحياة.
أما إذا كان متعدياً يعني يتعدى للغير مثل (الخالق) فهذا لابد أن تؤمن به، وإثبات الاسم الذي هو الخالق وإثبات الصفة وهي الخلق، وإثبات الحكم وهو أنه يخلق، لا تقول: إنه خالق فقط، لابد أن تؤمن أنه خالق ويخلق عز وجل.
(السميع) من المتعدي، ولهذا قال الله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} [المجادلة:1] فلا يكفي أن تقول: نؤمن بأن الله سميع وأن الله له سمع، ولا نؤمن أنه يسمع؛ فهذا لا يجوز، فلابد أن تؤمن أن الله سميع له سمع ويسمع.(50/24)
حكم دخول الكافر المسجد للحاجة
السؤال
فضيلة الشيخ! بالنسبة لدخول الكفار للمسجد لإصلاح بعض الأمور كالبرادات مثلاً داخل المسجد؟
الجواب
نعم.
لا بأس أن يدخل الكافر المسجد لإصلاح محتوياته، لكن يجب التحرز منه، بمعنى: أننا لا ينبغي أن نثق به في أنه يحكم العمل، ربما لا يحكم العمل، فلهذا لابد من التحرز بأن يكون عليه مشرف من المسلمين الناصحين، فهو ليس نجساً نجاسة حسية بل هو نجس نجاسة معنوية، ولهذا لو مس يدك وهو رطب لا تنجس يدك، إذاً: لا حرج من دخوله -كما قلت لك- لمصلحة المسجد، أما أن يدخل ليمكث في المسجد فلا.(50/25)
حكم صلاة الجماعة
السؤال
فضيلة الشيخ! إمام وخطيب جمعة لا يصلي الفجر مع الجماعة إلا نادراً، ذهبنا إليه وكلمناه ونصحناه فقال: لا أقبل قولكم فهي ليست بواجبة -يقصد صلاة الجماعة- ثم قال: لا أقتنع إلا بقول ابن عثيمين؟!
الجواب
قل له: يسلم عليك ابن عثيمين، ويقول لك: صلاة الجماعة واجبة، أوجبها الله سبحانه وتعالى حتى في حال الخوف، قال تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء:102] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سمع النداء ولم يجب فلا صلاة له إلا من عذر) واستأذنه رجل أعمى أن يصلي في بيته فأذن له، فلما ولى دعاه، وقال: (أتسمع النداء؟ قال: نعم.
قال: أجب) وقال صلى الله عليه وسلم: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً) .
وقال صلى الله عليه وسلم: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً يصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار) .
وقل له أيضاً: يوصيك ابن عثيمين بتقوى الله عز وجل، وأن تكون أسوة صالحة، وأن تحافظ على الصلوات مع الجماعة وجوباً، وأن تحافظ على السنن الراتبة وعلى جميع التطوع؛ لأن ذلك مما يرفعك عند الله وعند العباد.(50/26)
لقاء الباب المفتوح [51]
إن الله سبحانه وتعالى شرع لنا مواسم للخيرات نتقرب بها إليه ونطلب منه الفضل والرضا وخصها بالمدح والثناء، وندب إلى فعل الخيرات فيها، ولكن لا يعني انتهاء هذه المواسم انتهاء لفعل الخيرات، بل هي دائمة مستمرة، مطلوبة من الإنسان حتى يأتيه اليقين من ربه، وفي هذه المادة يتكلم الشيخ عما يشرع للإنسان من العبادات وأبواب الخير، ثم يجيب عن الأسئلة.(51/1)
الأعمال لا تنتهي بانتهاء مواسمها
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو اللقاء الأول من شهر شوال عام (1414هـ) وبه نفتتح لقاءاتنا من بعد شهر الصيام المبارك، نسأل الله تعالى أن يكتبها لنا ولا يكتبها علينا.
بعد هذا الشهر المبارك نذكر أنفسنا وإياكم بأنه إذا انتهى شهر الصيام فلا يعني هذا أنه انتهى الصيام، وإذا انتهى شهر القيام فلا يعني هذا أنه انتهى القيام، وإذا انتهى شهر الصدقة فلا يعني هذا أن الصدقة انتهت؛ لأن الأعمال لا تنتهي بانتهاء مواسمها، وإنما تنتهي الأعمال بانتهاء الأجل، لقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] فأمرنا بالبقاء على الإسلام إلى الموت، وقال تبارك وتعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] .
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عمله) وقال الحسن البصري رحمه الله: [إن الله لم يجعل لعمل عبده المؤمن أمداً دون الموت، ثم تلا قوله تعالى: ((وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)) [الحجر:99]] فالصيام لا زال مشروعاً والحمد لله.(51/2)
صيام النوافل
فيشرع للإنسان: - أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر من أوله أو أوسطه أو آخره لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صيام ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله) وقالت عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، لا يبالي أصامها من أول الشهر أم من وسطه أم من آخره) ولكن الأفضل أن تكون هذه الأيام الثلاثة أيام البيض، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر.
- هناك أيضاً صوم أسبوعي يتكرر بتكرر الأسابيع، وهو صوم يوم الإثنين والخميس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصومهما ويقول: (تعرض الأعمال يوم الإثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم) .
- هناك صوم حولي على مدار السنة وهو صوم يوم عرفة، قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (إنه يحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده) .
وصوم يوم عاشوراء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله) .
فالصيام -والحمد لله- لم يزل مشروعاً، وهذه الأيام التي تصام يكمل بها الخلل الحاصل في رمضان، بل يكمل فيها خلل صوم رمضان، لأن صوم رمضان لا بد أن يكون فيه خلل، إما كلمات محرمة يقولها الصائم، وإما فعلاً محرماً يفعله الصائم، وإما إخلالاً بواجب يخل به الصائم فيحتاج إلى ترقيع؛ لأن هذه خروق في الصيام تحتاج إلى ترقيع، فترقع بالنوافل، ولهذا جاء في الحديث أن النوافل تكمل بها الفرائض يوم القيامة، ويرقع بها خلل الفرض.(51/3)
صلاة النوافل
القيام لا يزال مشروعاً في كل ليلة، كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم حتى تتورم قدماه، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ حتى يطلع الفجر، وذلك كل ليله) .
إذاً: فالقيام مشروع في كل ليلة، والصلاة أيضاً مشروعة في كل وقت ما عدا أوقات النهي؛ فإنه لا يصلى فيها إلا الفرائض أو النوافل ذوات السبب، والصلاة شأنها عظيم؛ ولهذا قضى رجل للنبي صلى الله عليه وسلم حاجة؛ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (اسأل -يعني: ماذا تريد أن نكافئك به؟ - قال: أسألك مرافقتك في الجنة -انظر الهمة العالية! ما سأل شيئاً من الدنيا، سأل أن يكون رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة- فقال: أو غير ذلك؟ قال: هو ذاك يا رسول الله، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود) قال العلماء: بكثرة السجود، يعني: بكثرة الصلاة؛ لأن الصلاة يطلق عليها اسم السجود، حيث إنه ركن فيها، كما يقال: اعتق رقبة ويريد عبداً كاملاً، لكن لما كانت الرقبة لا يمكن وجود الحياة إلا بها أطلقت على جميع العبد.(51/4)
الصدقة وفضلها
الصدقة لم تنته برمضان، فكل وقت يشرع فيه الصدقة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار) أينا لم يخطئ؟ (كل بني آدم خطاء) ما أكثر أخطاءنا! وما أكثر إسرافنا على أنفسنا! والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، والصدقة صدقة وإن كانت شق تمرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) لأن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، وإذا تصدق الإنسان من طيب فإن الله تعالى يأخذ صدقته بيمينه ولو كانت عدل تمرة، فيربيها كما يربي الإنسان فلوه؛ حتى تكون مثل الجبل العظيم.
فتصدق -يا أخي- ثم اعلم أن الصدقة ليست هي التي يتصدق بها الإنسان على شخص أجنبي ليس من أهل بيته فقط، بل الصدقة على أهل بيتك أفضل من الصدقة على الأجانب، والإنفاق على أهل البيت صدقة، بل إن الدينار الذي تنفقه على نفسك صدقة أيضاً، والصدقة على القريب أفضل من الصدقة على البعيد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها صدقة وصلة، المهم أن تنفق الصدقة تبتغي بها وجه الله تعالى.
زار النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص فقال له: (واعلم أنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعله في فم امرأتك) (نفقة) أَيْ: أَيَّ نفقة، لأنها جاءت نكرة في سياق النفي، تشمل كل نفقة صغيرة أو كبيرة، قليلة أو كثيرة، فإنك تؤجر عليها بشرط: أن يكون ذلك لله، وأن تكون من طيب، وتبتغي بها وجه الله، مع أن إنفاقك على امرأتك واجب، لو لم تنفق لقالت: إما أن تنفق وإما أن تطلق، فأنت تنفق عليها تأليفاً لها وقياماً بواجبها، وخوفاً من أن تطالب بالطلاق، ومع ذلك تؤجر على النفقة عليها، فالأبواب -ولله الحمد- كثيرة واسعة.(51/5)
الذكر والتسبيح
إذا كان صوم رمضان إيماناً واحتساباً سبباً لمغفرة الذنوب وكذلك قيامه؛ فإن هناك أسباباً أخرى لكفارات الذنوب: (إذا قال الإنسان: سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) الله أكبر! نعمة عظيمة (سبحان الله وبحمده) فقط إذا قلتها مائة مرة غفر الله لك خطاياك وإن كانت مثل زبد البحر! ومعلوم أنه لا يمكن أن يحصي أحد زبد البحر.
وقولك: سبحان الله وبحمده لا يستغرق من وقتك كثيراً، أعتقد أن الإنسان إذا قاله بتوسط فإنه يكمله في عشر دقائق أو أقل، وتكمله أيضاً وأنت تمشي في السوق، وأنت جالس في بيتك، وأنت جالس تنتظر الصلاة، سبحان الله وبحمده مائة مرة، تغفر لك بها خطاياك وإن كانت مثل زبد البحر، ولهذا قال العلماء: ينبغي أن يقول هذا في آخر النهار، ليكفر ما عمله في نهاره، فالخير كثير! ولله الحمد، لكن نحتاج إلى احتساب.
عندما يتوضأ الإنسان في بيته ويسبغ الوضوء ويخرج إلى المسجد، لا يخرجه إلا الصلاة، أتدرون ما ثوابه؟ لا يخطو خطوة واحدة إلا رفع الله له بها درجة وحط عنه بها خطيئة، اللهم لك الحمد، الخطوة الواحدة لك فيها فائدتان: الأولى: أن الله سبحانه وتعالى يرفع لك بها درجة.
والثانية: أن يحط عنك بها خطيئة.
لكن أين المحتسبون؟ أين الذين يقدرون على هذا؟ أين الذين يشعرون حينما يخرجون من بيوتهم إلى المساجد بهذا الشعور؟ أكثر الناس إما جاهل بهذا فلا يدري، وإما عالم لكنه غافل لا يحتسب، ولهذا ينبغي لك أن تحتسب ما تعمله من خير على الله، بمعنى: أن ترجو بذلك ثواب الله.
فنسأل الله تعالى أن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يجعل بقاءنا في هذه الدنيا رفعة في درجاتنا، وقربى وزلفى لديه يوم القيامة، إنه على كل شيء قدير.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(51/6)
الأسئلة(51/7)
حكم الكدرة بعد الطهارة
السؤال
امرأة تقول: جاءها الحيض وتوقف عنها الدم في اليوم السادس من المغرب حتى الساعة الثانية عشر ليلاً، واغتسلت هذا اليوم وصامت اليوم الذي بعده، ثم جاءتها كدرة بنية وصامت هذا اليوم، هل يعتبر هذا من الحيض مع أن عادتها تجلس سبعة أيام؟
الجواب
هذه الكدرة ليست من الحيض، الكدرة التي تصيب المرأة من بعد طهارتها ليست بشيء، قالت أم عطية رضي الله عنها: (كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئاً) وفي رواية أخرى: (كنا لا نعدها شيئاً) ولم تذكر بعد الطهر.
والحيض دم وليس بكدرة ولا صفرة، وعلى هذا فيكون صيام هذه المرأة صحيحاً سواء في اليوم الذي لم تر فيه الكدرة أو اليوم الذي رأت فيه الكدرة؛ لأن هذه الكدرة ليست بحيض.(51/8)
إخراج الزكاة لأهل العراق
السؤال
هل يحق لنا أن نعطي الزكاة أو شيئاً منها إلى أهالي العراق؟
الجواب
الذي يظهر أن أهل العراق في حاجة شديدة اليوم، فالإنسان قد يتوقف في شخص يشك أنه غني، وأما إذا كنت يغلب على ظنك أنه أهل للزكاة فأعطه منها؛ وعلى هذا فلا بأس أن ترسل لهم من الزكاة إذا كنت تعلم أنهم اليوم فقراء، أو يغلب على ظنك ذلك، وأما إن كنت تعلم أنهم كانوا أغنياء في السابق وربما طرأ عليهم الفقر فمثل هؤلاء لا ترسل لهم من الزكاة وإنما أرسل إليهم من باب الصلة أو الصدقة، فأنت تعلم أن صلة الرحم فيها خير كثير وأجر كبير، وقد تكفل الله سبحانه وتعالى للرحم أن يصل من وصلها، وأن يقطع من قطعها.(51/9)
جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الصلاة من غير سفر ولا مطر
السؤال
ورد في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين صلاة الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، من غير سفر ولا مطر، فلما سألوا ابن عباس عن سبب ذلك، قال: لكي لا يشدد عليهم) أو كما في الحديث، أفيدونا عن ذلك وفقكم الله؟
الجواب
نعم، هذا الحديث كما ذكرت جاء في صحيح مسلم، وسئل ابن عباس رضي الله عنهما في ذلك فقال: (أراد ألا يحرج أمته) يعني: ألا يرهقها بحرج ومشقة.
ولهذا يجوز للإنسان متى لحقه حرج ومشقة في تفريق الصلوات أن يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، سواء في سفر أو في حضر، ولهذا نجمع في أيام الأمطار، ونجمع في أيام الرياح الباردة، ونجمع في المرض، فباب الجمع أوسع من باب القصر، القصر ليس له إلا سبب واحد فقط وهو السفر، فغير المسافر لا يقصر، حتى المريض مرضاً شديداً لا يمكن أن يقصر إلا إذا كان في غير بلده، كإنسان ذهب للمعالجة فهذا يقصر، وإن بقيت المعالجة سنين، لكن الجمع أوسع، الجمع سببه الحاجة، والقصر سببه السفر، ولهذا جاز للمستحاضة -التي يأتيها الدم باستمرار- أن تجمع؛ لأنه يشق عليها مع خروج الدم أن تتوضأ لكل صلاة.
قال العلماء: حتى المرضع التي يشق عليها أن تطهر ثيابها لكل صلاة من نجاسة طفلها، يجوز لها أن تجمع، لكن هذا الذي قاله أهل العلم في وقت يكون الناس في ضيق، وليس عند المرأة إلا ثوب واحد يشق عليها أن تغسله كلما بال عليها الصبي، أما الآن -الحمد لله- يمكن أن يكون للمرأة ثوب خاص للصلاة، وآخر حين وجودها مع أطفالها.(51/10)
حكم الاستغاثة بالأشراف والأولياء
السؤال
ما رأيك في مسلمين يستغيثون بالسادة والأولياء وغيرهم؟
الجواب
إذا كان في بلاد الإسلام التي يظهر فيها التوحيد، وليس فيها شيء من شعائر الكفر، وهو يعيش بينهم فإنه لا يعذر فيه؛ لأنه ليس هناك سبب يؤدي إلى الشرك، لكن في بلاد الإسلام التي يكون فيها شعائر الشرك كغالب البلاد الإسلامية في الوقت الحاضر، حيث توجد فيها القبور التي تعبد من دون الله ويستغاث بها، فذلك قد يعذر بالجهل؛ لأنه قد يكون عامياً لا يدري عن شيء أبداً، يعيش في هذه القرية وهم يهبون إلى السيد فلان والولي فلان ويستغيثون به، فكان معهم ولم ينبهه أحد على ذلك، فهذا يعذر بجهله ويحكم له بظاهر الحال.
ثم إن كان هناك شيء خفي عنا فأمره إلى الله يوم القيامة، أما في الدنيا فيحكم له بظاهر الحال وهو الإسلام؛ لأنه لو اعتقد أن هذا شرك ما فعله؛ لأنه يدين بالإسلام، ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويحج البيت، ويصوم، ولكنه في قوم نشئوا على هذا وشابوا عليه، ولا يعرفون أن هذا شرك، فهذا لا شك أنه يعذر؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة:115] وقال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:115] والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [إبراهيم:4] فلا بد من البيان، ولا بد من المعرفة، والله عز وجل أكرم من أن يعاقب من لا يعرف أن هذا ذنب.(51/11)
حكم المال الذي يؤخذ على العمال المتقدمين
السؤال
ما حكم أخذ صاحب المؤسسة من العمال الذين يستقدمهم عن طريق مكاتب الاستقدام في الداخل والخارج، فيقومون باستقدام العمال من الخارج لصاحب المؤسسة، ويعطونه مقابل كل فرد ألف ريال.
ما حكم هذا المال؟
الجواب
أنا أكره استقدام العمال على الوجه الذي عليه الناس اليوم؛ لأن استقدام العمال أصبح تجارة يتجر بها الناس، تجد الإنسان يأخذ فيزاً وهو لا يحتاجها، لكن يأخذها فيبيعها على فلان وفلان، أو يأخذها ويأتي بالعمال فيستغلهم بأن يأخذ منهم مالاً، سواء من المكاتب هنا أو من المكاتب الخارجية، فأنا أكره هذا إطلاقاً، وأقول: إن الإنسان لا يستقدم إلا من يحتاج إليه فعلاً، وحينئذٍ لا يمكن أن يبيع الفيزة، ولا أن يأخذ من العامل.
ثم كيف نقول أنه يأخذ من العامل ومن الشروط المعروفة بينهم: أن العامل يأتي لمدة ثلاثة شهور للتجربة، ثم إذا انتهت الشهور لا يعجبه هذا العامل فيقوم برده إلى أهله، فيكون بهذا أخذ منه مالاً بغير حق، أما لو يأخذ منه المال ويقول: إذا لم يقبله رد عليه ما أخذه، فهذا أهون.
فالآن معنا نقطتان: أننا لا نرى جواز استقدام العمال إلا لمن احتاج إليهم حقيقة، أما من استقدمهم ليتجر بهم فهذا لا يجوز، أما إذا احتاج إليهم ثم أعطوه مالاً ليقدمهم على غيرهم فإنه إذا قدر أنه لم يوفق في هذا العامل فليرد إليه ما أخذه؛ لئلا يكون ما أخذه بغير حق.(51/12)
كفارة الطلاق
السؤال
رجل يدخن فقال لزوجته: أنت طالق لو شربتُ الدخان.
تركه مؤقتاً ثم عاد إليه، ثم توقف وتاب، وهو الآن على توبته؟
الجواب
هذا ليس عليه إلا أن يكفر كفارة يمين، فيطعم عشرة مساكين، وذلك أن قوله لزوجته: أنت طالق إنما قاله تأكيداً للامتناع عن التدخين، وليس قصده فراق الزوجة، فعلى هذا نقول: ما دمت أردت تأكيد الامتناع منه ثم عدت إليه فليس عليك إلا كفارة يمين.(51/13)
رفع اليدين في الدعاء
السؤال
ما هو ضابط رفع اليدين في الدعاء؟
الجواب
رفع اليدين في الدعاء على ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما وردت به السنة، فهذا ظاهر أنه يسن فيه الرفع، مثل: دعاء الاستسقاء، إذا استسقى الإنسان في خطبة الجمعة أو في خطبة الاستسقاء فإنه يرفع يديه، وكرفع اليدين على الصفا وعلى المروة، وكرفع اليدين في عرفة بالدعاء، وكرفع اليدين عند الجمرة الأولى في أيام التشريق والجمرة الوسطى، ولهذا فإن في الحج ست وقفات: الوقفة الأولى: على الصفا.
والثانية: على المروة.
والثالثة: في عرفة.
والرابعة: في مزدلفة بعد صلاة الفجر.
والخامسة: عند الجمرة الأولى في أيام التشريق.
والسادسة: بعد الجمرة الوسطى في أيام التشريق.
هذا القسم لا شك أن الإنسان يرفع يديه فيه لورود السنة به.
والقسم الثاني: ما ورد فيه عدم الرفع مثل: الدعاء في الصلاة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح في الصلاة ويدعو ويقول: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب) ويدعو بين السجدتين: (رب اغفر لي) ويدعو في التشهد الأخير، ولا يرفع يديه في ذلك كله، وكذلك في خطبة الجمعة يدعو ولا يرفع يديه إلا في الاستسقاء أو في الاستصحاء، ومن رفع يديه في هذه الأحوال وأشباهها قلنا: إنه بدعة، ونهيناه عن ذلك.
القسم الثالث: ما لم يرد فيه الرفع ولا عدم الرفع، فهذا الأصل فيه أن من آداب الدعاء أن يرفع الإنسان يديه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً) وذكر النبي صلى الله عليه وسلم: (الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطمعه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك) فجعل النبي صلى الله عليه وسلم رفع اليدين إلى الله من أسباب إجابة الدعاء.
فهذه أقسام رفع اليدين، ولكن في القسم الذي ترفع فيه الأيدي هل إذا فرغ من الدعاء يمسح وجهه بيديه؟ الصحيح: أنه لا يمسح وجهه بيديه؛ لأن الحديث الوارد في ذلك ضعيف لا تقوم به حجة، فإذا رأينا شخصاً يمسح وجهه بيديه إذا انتهى من الدعاء بينا له أن السنة ألا تمسح وجهك بيديك؛ لأن الحديث الوارد في ذلك ضعيف.(51/14)
حكم جمع النية في أكثر من عبادة
السؤال
هل يمكن الجمع في النية بين صيام الثلاثة أيام من الشهر وصيام يوم عرفة، وهل يأخذ الأجرين؟
الجواب
تداخل العبادات قسمان: قسم لا يصح: وهو فيما إذا كانت العبادة مقصودة بنفسها، أو متابعة لغيرها، فهذا لا يمكن أن تتداخل العبادات فيه، مثال ذلك: إنسان فاتته سنة الفجر حتى طلعت الشمس، وجاء وقت صلاة الضحى، فهنا لا تجزئ سنة الفجر عن صلاة الضحى، ولا الضحى عن سنة الفجر، ولا الجمع بينهما أيضاً؛ لأن سنة الفجر مستقلة وسنة الضحى مستقلة، فلا تجزئ إحداهما عن الأخرى.
وكذلك إذا كانت الأخرى تابعة لما قبلها فإنها لا تتداخل، فلو قال إنسان: أنا أريد أن أنوي بصلاة الفجر صلاة الفريضة والراتبة، قلنا: لا يصح هذا؛ لأن الراتبة تابعة للصلاة فلا تجزئ عنها.
والقسم الثاني: أن يكون المقصود بالعبادة مجرد الفعل، والعبادة نفسها ليست مقصودة، فهذا يمكن أن تتداخل العبادات فيه، مثاله: رجل دخل المسجد والناس يصلون صلاة الفجر، فإن من المعلوم أن الإنسان إذا دخل المسجد لا يجلس حتى يصلي ركعتين، فإذا دخل مع الإمام في صلاة الفريضة أجزأت عنه الركعتين، لماذا؟ لأن المقصود أن تصلي ركعتين عند دخول المسجد، وكذلك لو دخل الإنسان المسجد وقت الضحى وصلى ركعتين ينوي بهما صلاة الضحى أجزأت عن تحية المسجد، وإن نواهما جميعاً فأكمل، فهذا هو الضابط في تداخل العبادات.
ومنه الصوم، فصوم يوم عرفة مثلاً المقصود أن يأتي عليك هذا اليوم وأنت صائم، سواء كنت نويته من الأيام الثلاثة التي تصام من كل شهر أو نويته ليوم عرفة، لكن إذا نويته ليوم عرفة لم يجزئ عن صيام الأيام الثلاثة، وإن نويته يوماً من الأيام الثلاثة أجزأ عن يوم عرفة، وإن نويت الجميع كان أفضل.(51/15)
حكم قصر الحاج من أهل مكة الصلاة
السؤال
هل يَقْصُر الحاج من أهل مكة في المشاعر؟
الجواب
المشهور عند أصحاب الأئمة الثلاثة الشافعي ومالك والإمام أحمد أن المكي لا يَقْصُر ولا يجمع؛ لأنه غير مسافر، إذ أن السفر ما بلغ ثلاثة وثمانين كيلو أو أكثر، والمعروف أن عرفة هي أبعد المشاعر عن مكة لا تبلغ هذا المبلغ، فعلى هذا لا يجمع أهل مكة ولا يقصرون، بل يتمون ويصلون كل صلاة في وقتها، سواء في عرفة أو في مزدلفة أو في منى.
وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أنهم يجمعون ويقصرون، وقال: إن هذا الجمع والقصر سببه النسك وليس سببه السفر، فيقصرون ولو كانوا في منى وهو أقرب المشاعر إلى مكة.
ولكن الصحيح أن القصر في منى وفي عرفة وفي مزدلفة ليس سببه النسك بل سببه السفر، والسفر لا يتقيد بالمسافة، بل يتقيد بالحال وهو أن الإنسان إذا خرج تأهب واستعد لهذا الخروج وحمل معه الزاد والشراب فهو مسافر، وإذا كان خروجاً يسيراً فيخرج في أول النهار ويرجع في آخره، فهذا ليس بمسافر.
وبناءً على ذلك نقول: إن الناس في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يتزودون للحج، أهل مكة وغير أهل مكة، ولهذا كان أهل مكة مع الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يجمعون ويقصرون تبعاً للرسول، ولم يقل: يا أهل مكة! أتموا وهذا القول هو القول الراجح وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
ولكن يبقى علينا في وقتنا الحاضر إذا نظرنا إلى منى وجدنا أنها أصبحت حياً من أحياء مكة، والذي يخرج إلى منى مثل الذي يخرج إلى العزيزية؛ بل ربما يكون بعض أفراد العزيزية الشرقية فوق منى، لذلك أرى أن من الأحوط لأهل مكة ألا يقصروا في منى.(51/16)
جواز تأخير الصلاة للمسافر
السؤال
المسافر إذا حان وقت الظهر وهو مسافر وليس عنده ماء فإذا أخر الصلاة إلى العصر وجد الماء، فهل له أن يصلي في وقت الظهر بالتيمم؟
الجواب
الأفضل لمن يرجو وجود الماء أن يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها، إن كانت لا تجمع بما بعدها كالفجر والعشاء والعصر، وإذا كانت تجمع لما بعدها فتأخيرها إلى وقت الثانية هو الأفضل، وإن تيمم وصلى فلا بأس؛ لعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] إلى أن قال: {فَإن لَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّبا} [المائدة:6] .(51/17)
حكم التحايل على المحرمات (العينة والتورق)
السؤال
مؤسسة تجارية يقصدها الناس بقصد التداين لشراء بعض السلع، فيقصدها المشتري فيخبرهم مثلاً بأنه يريد أن يشتري سيارة، فيجمعون له ثمن السيارة ويقسطون عليه الباقي بالزيادة المعروفة، فيقوم هذا المشتري الأول ببيعها لمشترٍ آخر، ويلجأ الثاني إلى نفس المؤسسة ليتدين منها بقصد تسديد ثمن هذه السيارة، فيزيدون عليه الأقساط، فيكون المشتريان لسلعة واحدة وتكون العملية على ثلاثة أو أربعة أشخاص، بينما المتدين منه جهة واحدة وهي المؤسسة، فما حكم ذلك يا شيخ؟
الجواب
هذه الطريقة من العقود ظلمات بعضها فوق بعض، وحيلة على محارم الله، فإن من المعلوم أنني لو أعطيتك أربعين ألفاً على أن تكون خمسين ألفاً إلى سنة فمن المعلوم أنها ربا لا يختلف فيه، فإذا جئت إلى شخص وأنت تريد الدراهم لكن لا تريد أن تقول: أعطني أربعين ألفاً بخمسين ألفاً إلى سنة؛ لأنه ربا صريح، ولكن قلت: أنا أشتري لك سيارة ثم أبيعها لك بثمن زائد على قيمتها من أجل التقسيط، ثم تذهب وتبيعها فإن بعتها على الذي اشتريتها منه فهي مسألة العينة، وإن بعتها على غيره فهي مسألة التورق.
لا شك أن مسألة العينة حيلة واضحة جداً على الربا، فبدل من أن يعطيك أربعين ألفاً بخمسين إلى سنة اشتريت هذا الشراء الصوري الذي يعلم الله وتعلم أنت ويعلم الدائن ويعلم الخلق كلهم أنه ليس المقصود بهذا الشراء الحقيقي، وإنما المقصود به أخذ أربعين ألفاً بخمسين، فهذه حيلة واضحة، ومن فعل هذا ففيه شبهٌ من اليهود نسأل الله العافية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل) .
وإذا كان اليهود دعا عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (قاتل الله اليهود! إنه لما حرمت عليهم الشحوم جملوها -يعني: أذابوها- ثم باعوها وأكلوا ثمنها) فاليهود لما حرم الله عليهم الشحوم قالوا: إذاً: لا نأكل الشحم لكن نذيبه ونبيعه ونأكل ثمنه، هذه الحيلة التي صنعها اليهود، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم أن يقاتلهم الله؛ لأنهم حرب على الله إذا فعلوا هذا الفعل.
وحيلة اليهود أبعد من حيلة هؤلاء؛ لأن اليهود ما أكلوا الشحم ولا باعوا الشحم أيضاً، ذوبوه ثم باعوه وأكلوا الثمن، أما هذا فبدلاً من أن يعطيك أربعين ألفاً وتكون عليك بخمسين ألفاً إلى سنة قال: تشتري هذه السيارة بخمسين ألفاً إلى سنة ثم يشتريها هو بأربعين ألفاً، فهذه المعاملة حرام على الدائن وعلى المستدين، وعلى من فعلها أن يتوب إلى الله قبل أن يأتيه الموت وهو متلبس بهذه الحيلة -والعياذ بالله- ومن تاب تاب الله عليه؛ لأن الله قال: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] .(51/18)
حكم تنظيم البرامج الدعوية
السؤال
ما حكم تنظيم البرامج الدعوية في المراكز الصيفية والرحلات البرية؟
الجواب
لا بأس أن تنظم الجماعات في الدعوة إلى الله عز وجل في أي وقت وفي أي مكان، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينظم أصحابه في الجهاد والصلاة والحج وفي كل شيء، يصفهم ويرتبهم، ويقول: أنت لك الراية، وهذا له العلم، وهذا في المجنبة اليمنى، وهذا في المجنبة اليسرى، وهذا في القلب، يعني: في وسط الجيش.
هكذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، كذلك العلماء قالوا: ينبغي في الجهاد أن يرتب الجيش، وينزل كل إنسان منزلته، ويجعل على كل طائفة عرفاء يبلغون القائد العام حاجات الناس، فالتنظيم أمر جاء به الشرع ولكنه مطلق، ومعنى: كلمة مطلق، أنه يخضع لما تقتضيه المصلحة في كل زمان ومكان، قد يكون تنظيمنا هنا في البلد مناسباً وصالحاً، ولكنه في بلد آخر لا يكون مناسباً ولا صالحاً، ولهم أنظمة خاصة بهم، فكل يراعي ما تحصل به المصلحة، وليس ذلك شيئاً محدثاً أو محرماً في الشرع، فإنه من الأمور التي جاءت السنة بمثله.(51/19)
شروط إقامة الحجة في التكفير
السؤال
هناك قضية تثار الآن حول ما يناط للتشريع العام فيما يحكم به الحكام، ويستدل أصحاب هذا الرأي بفتواكم حفظكم الله في المجموع الثمين بأن هذا الكفر وأنه واضح؛ لأنه تبديل لشرع الله، كذلك ينسب هذا إلى الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله.
فالسؤال هنا: هل ترد موانع التكفير أو ما اشترطه أهل السنة والجماعة في إقامة الحجة على من حكم بغير ما أنزل الله تشريعاً عاماً؟
الجواب
كل إنسان فعل مكفراً فلا بد ألا يوجد فيه مانع التكفير، ولهذا جاء في الحديث الصحيح لما سألوه هل ننابذ الحكام؟ قال: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان) فلا بد من الكفر الصريح المعروف الذي لا يحتمل التأويل، فإن كان يحتمل التأويل فإنه لا يكفر صاحبه وإن قلنا إنه كفر.
فيفرق بين القول والقائل، وبين الفعل والفاعل، قد تكون الفعلة فسقاً ولا يفسق الفاعل لوجود مانع يمنع من تفسيقه، وقد تكون كفراً ولا يكفر الفاعل لوجود ما يمنع من تكفيره، وما ضر الأمة الإسلامية في خروج الخوارج إلا هذا التأويل، فـ الخوارج كانوا مع علي بن أبي طالب على جيش أهل الشام، فلما حصلت المصالحة بين علي بن أبي طالب وأهل الشام خرجت الخوارج الذين كانوا معه عليه حتى قاتلهم وقتلهم والحمد لله، لكن الشاهد أنهم قالوا: حكمت بغير ما أنزل الله؛ لأنك حكمت البشر، فخرجوا عليه.
فالتأويل الفاسد هو بلاء الأمة؛ فقد يكون الشيء غير كفرٍ فيعتقدها هذا الإنسان أنه كفر بواح فيخرج، وقد يكون الشيء كفراً لكن الفاعل ليس بكافر لوجود مانع يمنع من تكفيره، فيعتقد هذا الخارج أنه لا عذر له فيخرج.
ولهذا يجب على الإنسان التحرز من التسرع في تكفير الناس أو تفسيق الناس، ربما يفعل الإنسان فعلاً فسقاً لا إشكال فيه، لكنه لا يدري، فإذا قلت: يا أخي! هذا حرام.
قال: جزاك الله خيراً.
وانتهى عنه.
إذاً: كيف أحكم على إنسان بأنه فاسق دون أن تقوم عليه الحجة؟ فهؤلاء الذي تشير إليهم من حكام العرب والمسلمين قد يكونون معذورين لم تتبين لهم الحجة، أو بينت لهم وجاءهم من يلبس عليهم ويشبه عليهم.
فلا بد من التأني في الأمر، ثم على فرض أننا رأينا كفراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان، وكلمة (رأينا) شرط، و (كفراً) شرط، و (بواحاً) شرط، و (عندنا فيه من الله برهان) شرط أربعة شروط.
فنقول: (أن تروا) أي: تعلموا يقيناً احترازاً من الشائعات التي لا حقيقة لها.
وكلمة (كفراً) احترازاً من الفسق، يعني: لو كان الحاكم فاسقاً فاجراً لكن لم يصل إلى حد الكفر فإنه لا يجوز الخروج عليه.
الثالث: (بواحاً) أي: صريحاً لا يتحمل التأويل، وقيل البواح: المعلن.
والرابع: (عندكم فيه من الله برهان) يعني: ليس صريحاً في أنفسنا فقط، بل نحن مستندون على دليل واضح قاطع.
هذه الشروط الأربعة شرط لجواز الخروج، لكن يبقى عندنا شرط خامس لوجوب الخروج وهو: هل يجب علينا إذا جاز لنا أن نخرج على الحاكم؟ هل يجب علينا أن نخرج؟ ينظر للمصلحة، إن كنا قادرين على إزالته فحينئذٍ نخرج، وإذا كنا غير قادرين فلا نخرج، لأن جميع الواجبات الشرعية مشروطة بالقدرة والاستطاعة.
ثم إذا خرجنا فقد يترتب على خروجنا مفسدة أكبر وأعظم مما لو بقي هذا الرجل على ما هو عليه، لأننا خرجنا ثم ظهرت العزة له، صرنا أذلة أكثر، وتمادى في طغيانه وكفره أكثر، فهذه المسائل تحتاج إلى تعقل، وأن يقترن الشرع بالعقل، وأن تبعد العاطفة في هذه الأمور، فنحن محتاجون للعاطفة لأجل تحمسنا، ومحتاجون للعقل والشرع حتى لا ننساق وراء العاطفة التي تؤدي إلى الهلاك.(51/20)
حكم العرضات الشعبية
السؤال
يقام في منطقة الجنوب عند البدو في حفلة العرس والأعياد ما يسمى بالعرضة، وهي لعبة جماعية للرجال ينشدون فيها بعض القصائد الحماسية بدون طبل ولا زار، فما حكم الشرع في نظركم؟
الجواب
أتوقف في تحريم هذا الشيء؛ لأن العارضات في المناسبات جاءت الشريعة بمثلها في لعب الحبشة برماحهم في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وأراد عمر أن يحصبهم، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (دعهم حتى يعلموا أن في ديننا فسحة) .
فأنا أتوقف في التحريم، هذا إذا لم تشتمل على شيء محرم كحضور النساء واختلاطهن بالرجال، فهنا تكون محرمة من أجل ذلك.(51/21)
لقاء الباب المفتوح [52]
في هذا اللقاء تفسير آيات من سورة الأعلى، حيث بين أن الله سبحانه وتعالى عالم بما يجهر به العباد وبما يسرونه ويكنونه من الأقوال والأفعال، كما رد من خلال الآيات على من يحتج بالقدر على المعاصي.(52/1)
تفسير آيات من سورة الأعلى
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو اللقاء الثاني والخمسون من اللقاءات الأسبوعية التي تعقد في كل يوم خميس من كل أسبوع، وهذا هو لقاء الأسبوع الثالث من شهر شوال عام (1414هـ) ، نتكلم فيه أولاً على ما بقي من سورة سبح اسم ربك الأعلى من قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى * وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:6-8] .(52/2)
وعد الله لنبيه بإقرائه القرآن
فهذا وعد من الله سبحانه وتعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أنه يقرئه القرآن ولا ينساه الرسول، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعجل إذا جاء جبريل يلقي عليه الوحي، فقال الله له: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:16-19] ، فصار النبي صلى الله عليه وسلم ينصت حتى ينتهي جبريل من قراءة الوحي ثم يقرؤه.
وهنا يقول: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى:6-7] يعني: إلا ما شاء الله أن تنساه، فإن الأمر بيده كما قال عز وجل: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] وقال: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:106-107] وربما ينسى النبي صلى الله عليه وسلم آية من كتاب الله تعالى، ولكنه سرعان ما يذكرها صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} [الأعلى:7] أي: أن الله تعالى يعلم ما يجهر به الإنسان ويتكلم به مسموعاً {وَمَا يَخْفَى} [الأعلى:7] أي: ما يكون خفياً لا يظهر، فإن الله يعلمه كما قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [قّ:16] فهو عز وجل يعلم الجهر، ويعلم أيضاً ما يخفى.(52/3)
وعد الله لنبيه بتيسيره لليسرى
قال تعالى: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:8] هذا أيضاً وعد من الله عز وجل لرسوله عليه الصلاة والسلام أن ييسره لليسرى، فما هي اليسرى؟ اليسرى: أن تكون الأمور ميسرة لا سيما في طاعة الله عز وجل، ولما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (ما منكم من أحد إلا وقد كُتب مقعده من الجنة ومقعده من النار -كل بني آدم مكتوبة مقاعدهم من الجنة إن كانوا من أهل الجنة، ومقاعدهم من النار إن كانوا من أهل النار- قالوا: يا رسول الله! أفلا ندع العمل ونتكل على ما كتب؟ قال: لا.
اعملوا فكل ميسر لما خلق له، فأهل السعادة ميسرون لعمل أهل السعادة، وأهل الشقاوة ميسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:5-7] ) .
وهذا الحديث يقطع حجة من يحتج بالقدر على معاصي الله؛ فيعصي الله ويقول: هذا مكتوب عليَّ.
فنقول له: هذا غلط؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) هل يحجزك أحد عن العمل الصالح لو أردته؟ أبداً.
هل يجبرك أحد على المعصية لو لم تردها؟ أبداً.
ولهذا لو أن أحداً أجبرك على المعصية وأكرهك عليها لم يكن عليك إثم، ولا يترتب على فعلك لها ما يترتب على فعل المختار لها، حتى الكفر وهو أعظم الذنوب قال الله تعالى فيه: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل:106] .
إذاً نقول: اعمل أيها الإنسان! اعمل الخير وتجنب الشر؛ حتى ييسرك الله لليسرى ويجنبك العسرى، فرسول الله صلى الله عليه وسلم وعده الله تعالى بأن ييسره لليسرى، فيسهل عليه الأمور؛ ولهذا لم يقع النبي صلى الله عليه وسلم في شدة وضيق إلا ووجد المخرج صلى الله عليه وسلم.(52/4)
معنى قوله تعالى: (فذكر إن نفعت الذكرى)
أمره تعالى أن يذكِّر فقال: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9] يعني: ذكِّر الناس ذكرهم بأيام الله، ذكرهم بآيات الله، عظهم {إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى:9] يعني: في محل تنفع فيه الذكرى؛ وعلى هذا فتكون (إن) شرطية، والمعنى: إن نفعت الذكرى فذكر، وإن لم تنفع فلا تذكر، أي: لا فائدة من تذكير قوم تعلم أنهم لا ينتفعون، هذا ما قيل في هذه الآية.
وقال بعض العلماء: ذكِّر على كل حال، فإن كل هؤلاء القوم تنفع فيهم الذكرى، فيكون الشرط هنا ليس المقصود به أنه لا يذكر إلا إذا نفعت، بل المعنى: ذكر إن كان هؤلاء القوم ينفع فيهم التذكير.
فالمعنى على هذا القول: ذكر بكل حال، والذكرى سوف تنفع تنفع من؟ تنفع المؤمنين، وتنفع المذكر أيضاً، فالمذكِّر منتفع على كل حال، والمذكَّر إن انتفع بها فهو مؤمن، وإن لم ينتفع بها فإن ذلك لا ينقص من أجر المذكِّر شيئاً.
إذاً: نحن نذكِّر سواء نفعت الذكرى أم لم تنفع.
وقال بعض العلماء: إن ظن أن الذكرى تنفع وجبت، وإن ظن أنها لا تنفع فهو مخير إن شاء ذكر وإن شاء لم يذكر، ولكن على كل حال نقول: لا بد من التذكير حتى وإن ظننت أنها لا تنفع، فإنها سوف تنفعك أنت، وسوف يعلم الناس أن هذا الشيء الذي ذكرتهم به إما واجب وإما حرام، وإن سكت والناس يفعلون المحرم أو يتركون الواجب قالوا: لو كان هذا محرماً لذكر به العلماء، أو لو كان هذا واجباً لذكر به العلماء، فلا بد من التذكير، ولا بد من نشر الشريعة سواء نفعت الموعظة أم لم تنفع.
ثم ذكَرَ الله عز وجل من سيذكَّر ومن لا يذكَّر، وسنتكلم على ذلك إن شاء الله في اللقاء القادم حتى يكون عندنا وقت أكثر للأسئلة.(52/5)
الأسئلة(52/6)
حكم من لا يعمل بما ينصح به
السؤال
ما الحكم في الناصح عموماً والمدرس خصوصاً الذي يحث طلابه على شيء من الطاعات لا يفعله، كالسنن الرواتب، وينهى طلابه عن شيء يفعله من المعاصي، وهل يدخل هذا ضمن الحديث الذي ورد في ذلك؟ أفيدونا وفقكم الله.
الجواب
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
الواجب على العبد أن يصلح نفسه أولاً، ثم يسعى في إصلاح غيره، فهنا واجبان: واجب للنفس وواجب للغير.
فالعاقل يبدأ أولاً بنفسه ثم يحاول إصلاح غيره، وقد أنكر الله عز وجل على من يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم فقال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] ولكن مع ذلك فالواجب على هذا الإنسان أن يأمر بالمعروف وإن كان لا يفعله، وكذلك يجب عليه أن ينهى عن المنكر وإن كان يفعله، لأنه لو ترك الأمر بالمعروف وهو لا يفعله أضاع واجبين، ولو ترك النهي عن المنكر وهو يفعله أضاع واجبين أيضاً، فإذا أضاع أحد الواجبين وجب عليه الثاني، ولو أن الإنسان لا يأمر إلا بما يفعل ولا ينهى إلا عما ترك لسقط كثير من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وأضرب لهذا مثلاً برجل ينهى عن الغيبة، والغيبة هي: ذكرك أخاك بما يكره، لكن هو يغتاب الناس، هل نقول: لا تنه عن الغيبة لأنك تغتاب الناس؟ لو قلنا بهذا لكان أكثر الناس لا ينهون عن الغيبة، من الذي يسلم من الغيبة إلا من شاء الله؟ لهذا نقول: مُر بالمعروف وإن كنت لا تفعله، لكن ذلك سوف يكون حجة عليك يوم القيامة، وانهَ عن المنكر وإن كنت تفعله، ولكن هذا سيكون حجة عليك يوم القيامة.
أما عن الحديث الصحيح الذي أشار إليه السائل فهو قوله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالرجل يوم القيامة فتندلق أقتاب بطنه -يعني: أمعاؤه والعياذ بالله- فيدور عليها كما يدور الحمار على الرحى، فيجتمع عليه أهل النار فيقولون: يا فلان! ما لك؟ ألست كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه) .(52/7)
حكم الرضيع من الزوج الأول بالنسبة لبنات الزوج الثاني
السؤال
امرأة تزوجت رجلاً وأنجبت منه بنات، ثم أرضعت مع هؤلاء البنات ولداً وأصبح أخاً لهن من الرضاعة، ثم طلقت هذه المرأة وتزوجت من شخص آخر وأنجبت منه بنات، فهل يكون هذا الولد أخاً لهؤلاء البنات اللاتي أنجبتهن من الزوج الآخر؟
الجواب
يقول: امرأة لها بنات، وأرضعت طفلاً، ثم تزوجت بعد زوجها زوجاً آخر وأنجبت منه بنات، فهل بنات الزوج الثاني يكن أخوات للطفل الذي رضع منها وهي في حبال الزوج الأول؟ هذا هو السؤال، والجواب: نعم.
بناتها من الزوج الثاني أخوات للطفل الذي رضع منها وهي في حبال الزوج الأول، لكنهن أخوات له من الأم؛ لأن الأم واحدة، وهنا نقول: الرضاع كالنسب، فكما أن الإنسان يكون له أخوات من الأم في النسب فإنه يكون له أخوات من الأم في الرضاع، وكذلك يكون للإنسان أخوات من الأب في النسب ويكون له أخوات من الأب في الرضاع، ويكون له أخوات شقيقات في النسب، ويكون له أخوات شقيقات في الرضاع.(52/8)
ضابط الطاهر والنجس في الجلود
السؤال
ما هو الضابط في استخدام الجلود سواء كانت مأكولة اللحم أو غير مأكولة اللحم، وسواء كانت مدبوغة أو غير مدبوغة؟
الجواب
أما جلود ما يحل بالذكاة فإنها طاهرة؛ لأنها صارت طيبة بالذكاة، كجلود الإبل والبقر والغنم والظباء والأرانب وغيرها، سواء دبغت أم لم تدبغ، وأما جلود غير المأكول كجلود الكلاب والذئاب والأسود والفيلة وما أشبهها فإنها نجسة، سواء ذبحت أو ماتت أو قتلت؛ لأنه وإن ذبحت لا تحل ولا تكون طيبة، فهي نجسة، وسواء دبغت أم لم تدبغ على القول الراجح؛ لأن القول الراجح: أن الجلود النجسة لا تطهر بالدباغ إذا كانت من حيوان لا يحل بالذكاة، أما جلود ما يموت قبل أن يذكى مما يؤكل لحمه فإنها إذا دبغت صارت طاهرة، وقبل الدبغ هي نجسة، فصارت الجلود الآن على ثلاثة أقسام: القسم الأول: طاهر، دبغ أم لم يدبغ، وهو جلود الحيوان المذكى إذا كان يؤكل.
القسم الثاني: جلود لا تطهر لا بعد الدبغ ولا قبل الدبغ، فهي نجسة، وهي جلود ما لا يؤكل لحمه.
القسم الثالث: جلود تطهر بعد الدبغ ولا تطهر قبله، وهي جلود ما يؤكل لحمه إذا ماتت بغير ذكاة.(52/9)
المسافر إذا صلى خلف إمام مقيم
السؤال
صلاة المسافر خلف الإمام المقيم، هل له القصر أم يجب عليه الإتمام؟ وما هو حكم من قصر خلف إمام مقيم خمس صلوات؟
الجواب
الواجب على المسافر إذا صلى خلف الإمام المقيم أن يتم، لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به) ولأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون خلف أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه في الحج في منى، فكان يصلي بهم أربعاً فيصلون معه أربعاً؛ ولأن ابن عباس رضي الله عنهما سئل: عن رجل مسافر يصلي وحده ركعتين ومع الإمام أربعاً، قال: [تلك هي السنة] .
وهذا واضح إذا ما دخل المسافر مع الإمام من أول الصلاة، لكن لو أدرك معه الركعتين الأخيرتين فهل يسلم؛ لأنه صلى ركعتين وفرضه ركعتان أو يأتي بما بقي؟ نقول: يأتي بما بقي، فيتم أربعاً لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) ؛ ولأن المأموم في هذه الحال ارتبطت صلاته بالإمام فلزم أن يتابعه حتى فيما فاته.
وأما من فعل ذلك فيما سبق، فكان يصلي ركعتين خلف إمام مقيم، فإنه يجب عليه إعادة ما صلاه فوراً متتابعة، وليس كما يفهمه بعض العوام أن الإنسان إذا كان عليه صلوات متعددة صلى كل صلاة في وقت مثلها، يعني: إذا فاته خمس صلوات -مثلاً- فإنه يصلي الظهر مع الظهر، والعصر مع العصر، والمغرب مع المغرب، والعشاء مع العشاء، والفجر مع الفجر، وليس الأمر كذلك؛ بل صلها تباعاً في آن واحد.
فيجب على الإنسان الذي قصر مع إمام مقيم أن يعيد تلك الصلوات ولو كان لا يعلم؛ لأنه لو كان يعلم لأثم، أما الآن فيسقط عنه الإثم لأنه لا يعلم، لكن ذمته تكون مشغولة بما فاته من الصلوات، فعليه أن يتحرى عدد الصلوات التي صلاها ويجتهد في ذلك ويعيدها.(52/10)
السنة في دخول الرجل على أهله ليلة العرس
السؤال
ما هو ضابط السنة في الدخول على الأهل ليلة الفرح؛ لأنه أشكل على كثير من الناس أنه يقرأ سورة البقرة ويصلي، وهذه عادة منتشرة الآن عند كثير من الناس؟
الجواب
إذا دخل الرجل على زوجته أول ما يدخل فإنه يأخذ بناصيتها -يعني: مقدم رأسها- ويقول: (اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه) ولكن إذا كان يخشى أن المرأة تنزعج إذا أخذ بناصيتها وقال هذا الدعاء؛ فإن بإمكانه أن يأخذ بناصيتها كأنما يريد أن يقبلها، ويقول هذا الذكر بينه وبين نفسه من غير أن تسمع، يقول بلسانه وينطق به لكن من غير أن تسمع لئلا تنزعج، وإذا كانت المرأة طالبة علم تعرف أن هذا مشروع فلا حرج عليه أن يفعل ويسمعها إياه.
وأما صلاة ركعتين عند دخوله الغرفة التي فيها الزوجة فقد ورد عن بعض السلف أنه كان يفعل ذلك، فإن فعله الإنسان فحسن وإن لم يفعله فلا حرج عليه، وأما قراءة البقرة أو غيرها من السور فلا أعلم له أصلاً.(52/11)
حكم العرضات الشعبية
السؤال
ما حكم العرضة الشعبية التي يتخللها الزير والشعر النبطي الذي لا يخلو من الهجاء والغزل والمدح والذم، جزاكم الله خيراً؟
الجواب
العرضة الشعبية إذا لم يكن لها سبب فإنها من العبث واللهو، وإذا كان لها سبب كأيام العيد فإنه لا بأس به، لا بأس أن يلعب الناس بالسيوف والبنادق وما أشبهها، وأن يضربوا بالدف، أما الطبل والزير والأغاني التي تتضمن الهجاء والسب فهي محرمة ولا يجوز للإنسان أن يحضر مثل هذه العرضات، ويجب النهي عنها ونصيحة الناس بعدم حضورها؛ لأن مجالس المنكر إذا حضرها الإنسان شاركهم في الإثم وإن لم يفعل، لقول الله تبارك وتعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء:140] .(52/12)
من أحكام سجود السهو
السؤال
إذا كان الإمام يصلي الظهر وأتى بركعة خامسة فهل يسجد للسهو قبل السلام أو بعد السلام؟ وهل على المأمومين الذين فاتتهم بعض الركعات أن يسجدوا مع الإمام أم يقضوا ما فاتهم، جزاك الله خيراً؟
الجواب
نعم.
إذا زاد الإمام في صلاته ركعة مثل أن يصلي الظهر خمساً فإن عليه أن يسجد للسهو، لحديث ابن مسعود رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر خمساً، فلما سلم قالوا له: يا رسول الله! أزيد في الصلاة؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: صليت خمساً، فثنى رجليه، واتجه إلى القبلة وسجد سجدتين) .
وعلى هذا فنقول: إذا زدت في صلاتك ركعة كخامسة في رباعية، ورابعة في ثلاثية، وثالثة في ثنائية؛ فإنك تسجد للسهو بعد السلام، كما يدل عليه حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أما المسبوق فإنه لا يسجد مع الإمام إذا كان سجوده بعد السلام؛ لأنه لا يمكنه متابعة الإمام، إذ أن الإمام سوف يسلم، وهذا المسبوق لن يسلم فيقوم المسبوق، ثم إن كان السهو الذي سجد من أجله الإمام قبل أن يدخل معه هذا المسبوق فلا سجود عليه، وإن كان السهو الذي سجد من أجله الإمام بعد أن دخل هذا المسبوق معه فإنه إذا سلم من صلاته -أعني: المسبوق- سجد سجدتين.
واعلم أن السجود بعد التسليم لا بد فيه من السلام بعد السجدة الثانية.(52/13)
حكم الاقتصار على توحيد الربوبية في الدعوة
السؤال
ما حكم من يقتصر في دعوته للناس على توحيد الربوبية ولا يتكلم عن أنواع التوحيد الأخرى، ويتكلم في فضائل الأعمال، وعندما يناقش في ذلك يقول: الناس لا يستفيدون من كلامكم في التوحيد، ونحن نريد أن ندل الناس على الحسنات، ونريد أن ندل الناس على أبواب الخير، فما قولكم في هذا؟
الجواب
الذي يقتصر على تقرير توحيد الربوبية دون توحيد الألوهية والأسماء والصفات لا شك أنه قاصر أو مقصر، فتوحيد الربوبية لا يغني عن توحيد الألوهية، ولو كان يغني عن توحيد الألوهية لم يقاتل النبي صلى الله عليه وسلم المشركين في عهده؛ لأن المشركين في عهده كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87] وقال تعالى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر:38] فهم يقرون بالربوبية ويعلمون أن الله عز وجل رب واحد لا شريك له، لكن لا يقرون بتوحيد الألوهية، فكانوا يقولون: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] .
فلا بد من تقرير توحيد الربوبية، وتقرير توحيد الألوهية، وتقرير توحيد الأسماء والصفات عند الحاجة إليه.
لا بد من هذا.
وفضائل الأعمال لا شك أن ذكرها يثير النفس ويرغبها في الأعمال الصالحة، لكن إذا كان الإنسان لديه أعمال صالحة، وكان مخلاً بالتوحيد فعلى أي شيء يبني أعماله الصالحة؟! التوحيد هو الأساس، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ معاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعثه إلى اليمن: (وليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) ، فلا بد من تقرير وتحقيق توحيد الربوبية وتقرير وتحقيق توحيد الألوهية، أرأيت لو أن شخصاً يؤمن بربوبية الله عز وجل إيماناً كاملاً لكنه يسجد للصنم أو للولي، هل نقول: هذا موحد؟ لا.
نقول: هذا مشرك، قد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار.(52/14)
الرد على من يدعي أن توحيد الألوهية أمر محدث
السؤال
إذا كان الرجل يكره توحيد الألوهية ويقول: إن هذا مما أحدثه محمد بن عبد الوهاب النجدي، فبماذا نرد عليه؟
الجواب
نرد عليه بأن نقول: هل محمد بن عبد الوهاب النجدي قبل القرآن، أم بعد القرآن؟ سيقول: بعد القرآن قطعاً؛ فنقول له: القرآن كله مملوء بتحقيق توحيد الألوهية، ونسرد له بعض الآيات في ذلك: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] .
والآيات في هذا كثيرة، والقرآن مملوء بها، إذاً: القرآن هو الذي دعا إلى توحيد الألوهية وأوجبه وألزم الناس به.(52/15)
حكم من يذهب إلى الجهاد ويترك طلب العلم
السؤال
كثيراً ما نرى شباباً يذهبون إلى الجهاد، ثم إذا عادوا يندمون على أنهم لم يطلبوا العلم الشرعي، فما توجيهكم للذين يريدون الذهاب للجهاد حديثاً؟
الجواب
الإنسان طبيب نفسه، وقد نقول للشخص: الأفضل أن تتفرغ لطلب العلم، ونقول لآخر: الأفضل أن تذهب إلى الجهاد.
إذا كان للإنسان رغبة في طلب العلم، وكان وعاءً للعلم: عنده حافظة، وفهم، وذكاء، وهو في الجهاد ليس بذاك، إنسان جبان، إنسان ضعيف البدن، فهنا نأمره بطلب العلم الشرعي، وعلى العكس من ذلك، لو كان رجلاً قوي البدن، شجاعاً، مقداماً، عارفاً بآلات الحرب، لكن في العلم ضعيف الذاكرة، قليل الفهم، فهنا نقول له: اذهب إلى الجهاد، وإذا كان هناك رجل ذكي حافظ قوي البدن لكنه يلحقه ملل وكسل في طلب العلم وعنده رغبة في الجهاد نقول له: جاهد.
فالإنسان طبيب نفسه، وكل إنسان يمكن أن نخاطبه بشيء غير الذي نخاطب به الرجل الآخر حسب ما يليق بحال كل واحد.(52/16)
حكم مصارعة الثيران
السؤال
في بعض البلاد تقام في المناسبات وباجتماع كثير من الناس مصارعة بين الثيران، ويأخذ صاحب الثور الفائز مبلغاً من المال، فهل في هذا العمل محذور شرعي؟ والمال الذي يأخذه صاحب الثور هل يحل له أخذه؟
الجواب
إذا كان في المصارعة بين الثيران ضرر على الثور فإنها حرام؛ لأنه لا يجوز أن نؤذي الحيوان أو أن نشق عليه، وإذا لم يكن بها ألم فإنها عبث ولهو لا خير فيها ولا فائدة منها، وهي مضيعة للوقت، وشراء الثيران من أجل هذه المصارعة إضاعة للمال، وأما إن كانت المصارعة على عوض فإنها حرام بكل حال.
فصار الآن الحكم في مصارعة الثيران: إن كانت تضر الثيران فهي حرام، أو بعوض فهي حرام، وإذا لم تكن كذلك فهي مضيعة للوقت مضيعة للمال، فلا يليق بعاقل أن يفعلها، وكذلك ننصح إخواننا الذين تروق لهم هذه المصارعة ويضيعون عليها أوقاتاً طويلة في مشاهدتها في التلفزيون نقول لهم: إن الوقت أغلى من أن يفنى في هذا العبث الذي لا خير فيه.(52/17)
معنى حديث: (الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري)
السؤال
ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله عن الله عز وجل: (الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري) هل هذا من أحاديث الصفات؟
الجواب
نعم.
هذا الحديث الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم هو حديث صحيح نأخذه بظاهره، ولكننا لا نتعرض لكيفيته كسائر الصفات؛ لأن كل ما ورد من صفات الله عز وجل فالواجب على المسلم قبوله واعتقاده، لكن دون تكييف أو تمثيل، فهل نعتقد أن هذا الإزار وهذا الرداء كأرديتنا وأزرنا؟ لا؛ أبداً.
يقيناً أنه ليس كذلك، لأن الله تعالى يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] .(52/18)
حكم صيام من داعب امرأته فأمذى
السؤال
صام إنسان صيام تطوع، فداعب امرأته حتى خرج المذي، فماذا عليه؟
الجواب
إذا داعب الصائم امرأته في فريضة أو نافلة فنزل منه المذي فإن صومه لا يفسد، لا الفرض ولا النفل، فالصوم صحيح ولا حرج عليه، أما إذا نزل منه المني فإنه يفسد صومه سواء كان ذلك في فريضة أم نافلة، ولا يحل لإنسان أن يداعب زوجته إذا عرف من نفسه أنه ينزل بهذه المداعبة؛ لأن بعض الناس يكون سريع الإنزال، فبمجرد ما يداعب المرأة أو يقبلها مثلاً أو ما أشبه ذلك ينزل، فنقول لهذا الرجل: لا يحل لك أن تداعب امرأتك ما دمت تخشى أن تنزل.(52/19)
حكم كشف المرأة شيئاً من جسدها أمام النساء
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تكشف شيئاً من صدرها، أو ما يسمى بالضلع أو ذراعيها أو من ساقيها عند النساء؟
الجواب
أما الذراعان فلا بأس أن تخرجهما عند النساء، وأما الرقبة فلا بأس أيضاً أن تظهرها عند النساء وكذلك الرأس، ولكننا ننصح نساءنا بنصيحة نرجو الله سبحانه وتعالى أن ينفع بها فنقول: كلما كانت الألبسة أضفى وأستر فهو أنفع لهن، وننهاهن أن يتتبعن ما يكون في هذه المجلات فيصنعن ما يعرض فيها؛ لأن هذا يجر المرأة إلى أن تتشبه بالنساء الكافرات سواء رضيت أم لم ترضَ، وكلما كانت النساء أستر فهو أفضل.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن نساء الصحابة كن يلبسن دروعاً -يعني: القمص- تكون ساترة من الكف إلى الكعب، من كف اليد إلى كعب الرجل، وهذا هو الأفضل.
والساق لا بأس أن يخرج، لكن لا نقول تلبس ثوباً يصل إلى الركبة؛ لأن هذا يخشى منه؛ لأن النساء يتدرجن حتى ترفع ثيابهن عن ذلك، لكن لو أن امرأة -مثلاً- رفعت ثوبها لتعمل عملاً من الأعمال وأختها تشاهدها فإن ذلك لا بأس به، أما أن يكون الثوب مفصلاً إلى الركبة فلا نرى ذلك بل نرى أنه يكون إلى الكعب.(52/20)
حكم التكبير أيام العيد بمكبر الصوت
السؤال
ما رأيكم فيمن يكبر في المسجد بالميكرفون في أيام العيد ويتابعه العامة؟
الجواب
نرى أن هذا لا ينبغي؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم ما كانوا يكبرون كما يكبرون في الأذان، ما كانوا يقصدون الأماكن المرتفعة ليكبروا عليها، بل كانوا يكبرون في أسواقهم، ومساجدهم، وبيوتهم، ومخيماتهم وفي منى دون أن يتقصدوا شيئاً عالياً يكبرون عليه، فأخشى أن يكون ذلك من باب التنطع الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون) والتنطع فيه الهلاك -والعياذ بالله- ليسعنا ما وسع السابقين الأولين.(52/21)
حكم ضم فصلين مختلفي المرحلة في فصل واحد
السؤال
في بعض المناطق التعليمية يحدث في القرى أن تضم الفصول بعضها إلى بعض، يعني: يضم الصف الأول مع الصف الثاني، فيحمل المدرس مسئولية أكبر مما يحمَّل مدرس آخر، فما الضابط في هذا الأمر؟
الجواب
هذا لا يمكن بارك الله فيك؛ لأن مقرر هؤلاء غير مقرر أولئك، فلا بد أن يحصل خلل ونقص، ثم إني أجزم بأن الوزارة لا ترضى بهذا؛ لأن معنى هذا أن الرجل سوف يسقط عن نفسه نصف الحصص، إذا كانت الفصول متساوية، فالواجب أن يدرس كل فصل على حدة، حتى لو لم يكن في الفصل إلا طالب أو طالبة.
وإذا كانت الوزارة هي التي تقرر ذلك لقلة عدد الطلاب أو لشيء تراه فهذا لها، لكن كلامي فيما إذا كان الأمر على خلاف نظام وزارة المعارف فإنه لا يجوز، وعلى كل حال فهذه المشكلة حلها عند وزارة المعارف وليس عندي.(52/22)
الأضحية عن الميت
السؤال
ما حكم الأضحية عن الميت؟
الجواب
الأضحية عن الميت إذا كان قد أوصى بها فإنه يضحى بها عنه، وإذا كان لم يوص بها فالدعاء له أفضل من أن يضحى له، فالمشروع أن الأضحية عن الأحياء فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، وأنت إذا ضحيت بالشاة عنك وعن أهل بيتك ونويت بها كل أهل بيتك وأقاربك الذين ماتوا فلا بأس؛ لأنهم يدخلون في العموم، وأما تخصيص الميت بأضحية تبرعاً من عندك فإن هذا ليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم يضح النبي صلى الله عليه وسلم عن زوجته خديجة رضي الله عنها مع أنها من أحب النساء إليه، ولم يضح عن عمه حمزة رضي الله عنه مع أنه من أحب الناس إليه، ولم يضح عمن مات من أقاربه وبناته، فدل ذلك على أن هذا ليس بمشروع، ولكن لو أن إنساناً فعل فإننا لا نعيبه، بل نرشده إلى ما هو أفضل وهو الدعاء للميت.(52/23)
صلاة العيد وقضائها
السؤال
هل صلاة العيد فرض عين أم فرض كفاية؟ وإذا فات الإنسان صلاة العيد هل يقضيها أم لا؟
الجواب
الذي يظهر أن صلاة العيد فرض عين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها، وإذا فاتته فإنه لا يقضيها؛ لأنه لم يرد قضاؤها بخلاف الجمعة، فإنها إذا فاتته يقضيها، لكن لا نقول يقضي نفس الصلاة، وإنما يصلي ظهراً؛ وذلك لأن هذا الوقت وقت صلاة إما جمعة وإما ظهر، فإذا فاتته الجمعة فإنه يصلي الظهر، أما العيد فإنه إنما يشرع على وجه الاجتماع، إن أدركت هذا الاجتماع فصل وإن لم تدركه فلا تصل.(52/24)
حكم من جامع أو احتلم ولم ينزل
السؤال
رجل أجرى عملية -أكرمكم الله- في ذكره، فصار إذا جامع زوجته لا ينزل في نفس الوقت، ويقول: أحتلم أحياناً في الليل ولا أنزل، فهل يجب عليه الغسل أم لا؟
الجواب
أما إذا جامع زوجته فإن عليه الغسل وعليها أيضاً، سواء أنزل أم لم ينزل؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل) ومعنى جهدها أي: جامعها، وفي لفظ لـ مسلم (وإن لم ينزل) .
وأما إذا كان باحتلام، يعني: احتلم أنه جامع ولكن لم ير شيئاً فإنه لا غسل عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ أم سليم رضي الله عنها حين سألته: (هل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ قال: نعم.
إذا هي رأت الماء) فاشترط صلى الله عليه وسلم لوجوب الغسل أن ترى الماء.(52/25)
اقتناء المجلات الإسلامية التي فيها صور
السؤال
ما حكم اقتناء المجلات الإسلامية التي فيها صور؟
الجواب
اقتناء المجلات الإسلامية التي فيها صور لا بأس به؛ لأن الرجل إنما اقتناها لما فيها من الفائدة وليس من أجل الصور، أما المجلات التي أصدرت من أجل الصور وتقتنى من أجل الصور، فإن هذه حرام لا يحل اقتناؤها؛ لأن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة.(52/26)
حكم البيع بالتقسيط مع عدم ملكية البائع للسلعة عند البيع
السؤال
ما حكم شراء الأراضي عن طريق شركة الراجحي، وإذا كانت لا تجوز فما هو وجه الشبهة في ذلك؟
الجواب
إذا كانت الأراضي عند البائع وجاء إنسان يشتري منه أرضاً نقداً فيقول البائع: بعتها عليك بعشرة آلاف، ثم جاء إنسان آخر يشتري أرضاً مثلها لكن ليس معه دراهم فقال صاحب الأرض: أنا أبيع عليك هذه الأرض باثني عشر ألفاً مؤجلة مقسطة، فهذا لا بأس به؛ لأن الأرض عنده، أما إذا قال: أنا أريد شراء أرض وليس عندي دراهم، فأذهب إلى التاجر وأقول: اشتر الأرض لي، ثم بعها عليَّ مقسطة بأكثر مما اشتريتها به فهذا حرام؛ لأن هذا حيلة على الربا، لأن هذا التاجر لو أنك ما أتيت إليه ما اشترى الأرض، فيكون كأنه أقرضك قيمتها بزيادة والقرض بزيادة ربا.
(كل قرض جر منفعة فهو ربا) ، وهذا القرض جر للمقرض منفعة وهو زيادة الثمن، فهذا حرام وهو من التحايل على محارم الله عز وجل.
وأما قول التاجر: لو أنَّ هذا الذي اشترى الأرض رجع في شرائه لقبلت أنا الأرض، فهذه كلمة -كما يقولون- من باب ذر الرماد في العيون؛ لأنه من المعلوم أنه قد احتاج الأرض وجاء يتوسل إليك أن تشتريها له ثم تبيعها عليه من المعلوم أنه لن يرجع فهو محتاج لها، فإذا قدر أنه رجع واحد من عشرة آلاف فليس هذا بعبرة، على أني سمعت أن الذي يرجع بعدما يشتري التاجر يكتب في القائمة السوداء بحيث أن التاجر لا يعامله بعد ذلك، وهذا كالتهديد له إن رجع، فسوف يقبل على كل حال.
فصارت المسألة فيها تفصيل: إن كانت السلعة عند البائع في الأصل قبل أن تأتيه فلا بأس أن يبيعها عليك بأكثر مما تساوي اليوم بثمن مقسط، وإن لم تكن عنده بل اشتراها من أجلك ثم باعها عليك بزيادة فلا يجوز.(52/27)
حكم الائتمام بالمسبوق
السؤال
ما حكم الائتمام بالمسبوق؟
الجواب
يعني: الائتمام بالمسبوق في حالة قضاء ما فاته، قال العلماء: إنه لا بأس بذلك، فينتقل هذا المأموم من ائتمام إلى إمامة، لكن مع هذا لا ننصح بذلك: أولاً: لأنه لم يرد عن الصحابة أن الإنسان إذا قضى ما فاته مع الإمام صلاها جماعة.
ثانياً: أن بعض العلماء قال: إن هذا لا يصح.
فيجتنب هذا من باب الاحتياط الداخل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) وقوله: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) فلا ينبغي فعله حتى وإن قيل بجوازه.(52/28)
من صور التحايل على أنظمة الدولة
السؤال
ما رأي الشرع فيما يفعله كثير من الناس من بيع العقار الذي يستلمه من الحكومة لبناء الأرض على شخص آخر مقابل مبلغ من المال، أي: يضع اسم آخر بدلاً عن اسمه يعطيه اسمه مقابل مبلغ من المال؟
الجواب
أولاً: إني لا أرى أن تقول لشخص: ما رأي الشرع في هذا؟ لأن الإنسان لا يمكن أن يكون كل ما يقوله شرعاً، قد يخطئ إنسان، فأنت إما أن تقول: ما رأي الشرع في نظركم، وإما أن تقول: ما رأيكم، أو ما تقولون في كذا.
نقول في الجواب على هذا السؤال: إذا اشترى إنسان أرضاً شراءً صورياً وذهب إلى كاتب العدل وكتبها باسمه، ثم عرضها على صندوق التنمية، والله تعالى يعلم أن هذه الأرض لشخص آخر غير من قدمها، وكذلك صاحبها يعلم ذلك، وكذلك المزور يعلم ذلك، فهل هذا كذب، أو صدق؟ هو كذب، والكذب حرام، والتحيل على أنظمة الدولة التي لا تخالف الشرع بطرق ملتوية خيانة.
إذاً؛ اجتمع في هذا: الكذب، وخيانة الدولة، والتحيل على أنظمتها، وأنظمة الدولة إذا لم تخالف الشرع تجب مراعاتها؛ لأن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] .
فالتحيل على إسقاط أنظمة الدولة كالتحيل على إسقاط شرع الله عز وجل؛ لأن طاعة الدولة فيما ليس بمحرم أمر واجب بإيجاب الله عز وجل، وفهم بعض الناس أو تفاهمهم بأن الدولة لا تجب طاعتها، إلا إذا كان الله قد أمر بهذا الشيء بعينه وهذا الفهم خطأ؛ لأنه إذا كان هذا الشيء قد أمر الله به بعينه صار لزاماً علينا إن كان واجباً أن نقوم به سواء أمرتنا به الدولة أو لم تأمرنا، ونقول: إن الله تعالى لم يأمرك به تفصيلاً لكن أمرك به إجمالاً، فالواجب علينا نحن الرعية الذين في أعناقنا بيعة لولاة أمورنا أن نطيعهم إلا في المعصية.
لو قالوا مثلاً: نزلوا ثيابكم إلى أسفل الكعبين، قلنا: لا.
لو قالوا: احلقوا لحاكم.
قلنا: لا.
لو قالوا لنا: اقطعوا أرحامكم.
قلنا: لا.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(52/29)
لقاء الباب المفتوح [53]
تكلم الشيخ رحمه الله في هذا اللقاء عن تفسير آيتين من سورة الأعلى وهما قوله تعالى: (قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى) فتحدث الشيخ عن الفلاح، وقال: هو الفوز بالمطلوب والنجاة من المهروب، كما تحدث عن التزكية، وأن قوله تعالى: (وذكر.
) أي: ذكر اسم الله تعالى بالتعبد له فصلى، وذكر أمثلة على ذلك.
ثم أجاب فضيلته عن أسئلة الحضور.(53/1)
تفسير آيات من سورة الأعلى
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو اللقاء الثالث والخمسون من اللقاء المسمى بلقاء الباب المفتوح، وهو اللقاء الرابع لشهر شوال عام (1414هـ) ، ونتكلم يسيراً على ما تبقى من سورة الأعلى.(53/2)
تفسير قوله تعالى: (قد أفلح من تزكى)
قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14-15] .
(أفلح) مأخوذ من الفلاح.
والفلاح: كلمة جامعة، وهو: الفوز بالمطلوب والنجاة من المهروب، فهي كلمة جامعة لكل خير، دافعة لكل شر، وقوله: {مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14] مأخوذ من التزكية وهو التطهير، ومنه سميت الزكاة زكاة؛ لأنها تطهر الإنسان من الأخلاق الرذيلة؛ أخلاق البخل والشح، كما قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] .
إذاً: {تَزَكَّى} [الأعلى:14] أي: تطهر، ومن أي شيء يتزكى؟ أولاً: من الشرك بالنسبة لمعاملة الله، فيعبد الله مخلصاً له الدين، لا يرائي، ولا يسمِّع، ولا يطلب جاهاً ولا رئاسة فيما يتعبد به الله عز وجل، وإنما يريد بهذا وجه الله والدار الآخرة، تزكى في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم بحيث لا يبتدع في شريعته، لا في الاعتقادات ولا الأقوال ولا الأفعال، وهذا التزكي بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم وهو اتباعه من غير ابتداع، لا ينطبق تماماً إلا على الطريقة السلفية طريقة أهل السنة والجماعة، الذين يؤمنون بكل ما وصف الله به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم على الطريقة السلفية، الذين لا يبتدعون في العبادات القولية ولا العبادات الفعلية شيئاً في دين الله.
تجدهم يتبعون ما جاء به الشرع ويقفون عند حدود ذلك، خلافاً لما يصنعه بعض المبتدعة في عباداتهم كالأذكار المبتدعة، إما في نوعها وإما في كيفيتها وصفتها، وإما في أدائها، كما يفعله بعض أصحاب الطرق من الصوفية وغيرهم.
كذلك يتزكى الإنسان في معاملة الخلق، بحيث يطهر قلبه من الغل والحقد على إخوانه المسلمين، فتجده دائماً طاهر القلب يحب لإخوانه ما يحب لنفسه، لا يرضى لأحدٍ أن يمسه سوءاً، بل يود أن جميع الناس سالمون من كل شر، موفقون لكل خير، ويفعل كل ما فيه المودة والمحبة، ومن ذلك: إفشاء السلام الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) .
فالسلام من أقوى الأسباب التي تجلب المحبة والمودة بين المسلمين، وهذا شيء مشاهد، فلو أن رجلاً مرَّ بك ولم يسلم عليك لصار في نفسك شيء منه، وإذا لم تسلم عليه صار في نفسه شيء منك، لكن لو سلمت عليه أنت أو سلم عليك هو لكان ذلك الرباط بينكما، وذلك مما يوجب المودة والمحبة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حثه على إفشاء السلام: (وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف) وأكثر الناس اليوم إذا سلم يسلم على من يعرف، وأما من لا يعرفه فلا يسلم عليه، وهذا خطأ؛ لأنك إذا سلمت على من تعرف دون غيره لم يكن السلام خالصاً لله، ولكن تسلم على من عرفت ومن لم تعرف من المسلمين حتى تنال بذلك محبة المسلمين لك، وذلك من تمام الإيمان الموصل إلى الجنة، جعلنا الله وإياكم من أهلها.(53/3)
تفسير قوله تعالى: (وذكر اسم ربه فصلى)
قال تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:15] أي: ذكر اسم الله تعالى بالتعبد له فصلى، ويدخل في ذكر اسم الله: الوضوء مثلاً، فالوضوء من ذكر اسم الله: أولاً: لأن الإنسان لا يتوضأ إلا امتثالاً لأمر الله.
ثانياً: أنه إذا ابتدأ وضوءه قال: باسم الله، وإذا انتهى قال: (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين) .
ومن ذكر الله عز وجل: خطبة الجمعة؛ فإن خطبة الجمعة من ذكر الله؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] وعلى هذا فقوله: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّه} [الأعلى:15] تشمل الخطيب يوم الجمعة، وقوله {فَصَلَّى} [الأعلى:15] أي: صلاة الجمعة وغيرها، فهذه الآية تشمل كل الصلوات التي يسبقها ذكر، وما من صلاة إلا ويسبقها ذكر في الغالب؛ حيث يتوضأ الإنسان قبيل كل صلاة فيذكر اسم ربه، ثم يصلي بعد ذلك.(53/4)
الأسئلة(53/5)
التفصيل في حكم من سب النبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
ذكرتم في بعض دروسكم أن الذي يسب الرسول صلى الله عليه وسلم أو أحد أصحابه فإنه يكفر وله توبة ولكن مع القتل أخذاً بثأر النبي صلى الله عليه وسلم وأخذاً بثأر أصحابه رضي الله عنهم، فإذا كان هذا الشاتم في زمن غفلة ومعصية ولكن لا يزال مسلماً فهل يطبق عليه حكم القتل بعد أن تاب وأناب وندم على ما فعل كما كان الحال مع الصحابي الجليل كعب بن زهير رضي الله عنه، وقصة شتمه للنبي صلى الله عليه وسلم معروفة، نرجو التوضيح والله يحفظكم؟
الجواب
يقول السائل: ذكرتم في بعض دروسكم أن من سب الرسول صلى الله عليه وسلم أو أحداً من أصحابه فإنه يكفر ويقتل، والأمر ليس كذلك، إنما الصواب: أن من سب الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه هو الذي يكفر، أما من سب أحداً من الصحابة فلا يكفر، لكن لو سب الصحابة عموماً أو سبهم إلا نفراً قليلاً فإنه يكفر، لكن الكلام الآن وموضوع الإجابة سيكون عن سب الرسول صلى الله عليه وسلم.
فنقول: إذا سب الرسول فإنه يكفر، سواء كان جاداً أو مازحاً أو مستهزئاً، فإنه يكفر لقول الله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65-66] ولكن إذا تاب تقبل توبته؛ لقوله تبارك وتعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] .
ولكن هل يسقط عنه القتل؟ الجواب على هذا: فيه تفصيل: إن كان الذي سب الرسول صلى الله عليه وسلم سبه وهو كافر لم يسلم بعد فإنه لا يقتل؛ لعموم قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38] .
أما إذا كان الذي سب الرسول مسلماً وارتد بسبب سبه الرسول صلى الله عليه وسلم فإن القول الراجح الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية أنه يقتل مع قبول توبته؛ أخذاً بالثأر للرسول صلى الله عليه وسلم.
فإن قال قائل: إنه قد وجد أناس سبوا الرسول صلى الله عليه وسلم وقبل توبتهم ولم يقتلهم.
قلنا: نعم.
هذا صحيح، لكن الحق في القتل لمن؟ للرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا عفا عنهم في حياته فالحق له، إن شاء قتلهم وإن شاء لم يقتلهم، لكن بعد موته لا نستطيع معرفة إن كان الرسول سيعفو عنهم أم لا، فإذا كانوا مستحقين للقتل بسبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو حق آدمي، ولم نعلم أنه عفا عنهم، فإن الواجب قتلهم.
ثم إن في قتلهم مصلحة وهو كف ألسنة غيرهم عن سب الرسول صلى الله عليه وسلم، أما هم فقد قبل الله توبتهم إذا كانت توبتهم نصوحاً، وأمرهم إلى الله، وإذا لم يقتلوا اليوم ماتوا غداً، وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة.
ويرى بعض العلماء أنه إذا تاب فلا تقبل توبته ويقتل كافراً، وهو المشهور في مذهب الإمام أحمد، قال في زاد المستقنع: ولا تقبل توبة من سب الله أو رسوله، ولكن هذا القول ضعيف؛ لأن الصواب: أن التوبة مقبولة متى صدرت على الوجه الصحيح، لكن إن كان سب الله فإنه لا يقتل، وإن كان قد سب الرسول فإنه يقتل، ولعلكم تتعجبون فتقولون: أيهما أعظم: سب الله، أم سب الرسول صلى الله عليه وسلم؟!! الجواب: سب الله أعظم بلا إشكال، إذاً فلماذا إذا تاب من سب الله قبلنا توبته ولم نقتله، وإذا تاب من سب الرسول قبلنا توبته وقتلناه؟ لأن من سب الله وتاب تاب الله عليه، وقد أخبر الله تعالى عن نفسه أنه يسقط حقه فقال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] فنحن نعلم أن الله تعالى قد عفا عنه بتوبته من سب الله، أما من سب الرسول فلا نعلم أن الرسول عفا عنه، وحينئذٍ يتعين قتله.
هذا وجه الفرق بينهما.
وذهب بعض العلماء: إلى أن من سب الله أو رسوله ثم تاب قبلت توبته ولم يقتل، فصارت الأقوال في المسألة ثلاثة، أرجحها أن توبته تقبل ويقتل.(53/6)
حكم الطواف بالقبور وعبادتها من دون الله
السؤال
في كثير من البلاد الإسلامية هناك أضرحة يطاف حولها وتعبد من دون الله، وفي بعض القرى هناك أضرحة رئيسية يطاف حولها يومياً، وفي بعض القرى هناك نحو تسعة وتسعين ضريحاً، وهذه يحج إليها ويطاف بها، وذكر أحد إخواني أنه طاف بها منذ صلاة الفجر إلى صلاة الظهر حتى أكمل الطواف، وفي هذه القرى مساجد تقام فيها الصلوات، ومع ذلك بلغتهم دعوة التوحيد، فما حكم هذه الصلوات؟ وما حكم هذه العبادات؟
الجواب
من طاف بالأضرحة -يعني: القبور- يدعو صاحب القبر، ويستغيث به، ويستنجد به، فهو مشرك شركاً أكبر، وقد قال الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72] وإذا صلى هؤلاء في المساجد وهم مصرون على هذا الشرك -أعني: دعاء أصحاب الأضرحة والاستغاثة بهم- فإن صلاتهم لا تقبل منهم ولا تنفعهم عند الله، لقول الله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:54] .
لكن الواجب على أهل العلم في تلك البلاد أن يكثفوا الدعوة، والذهاب إلى هؤلاء لبيان الحق لهم، وألا ييئسوا من روح الله، وإذا كان لا يمكن أن ندعوهم جهاراً على سبيل العموم؛ لأن من الناس من يقول: لو ذهبت إلى هؤلاء العامة وأدعوهم وأقول لهم: إن عملكم هذا شرك ربما يقتلونني، فإنه من الممكن أن يختار من زعمائهم من يختار، ويدعوه إلى بيته أو يزوره هو في بيته، ويتكلم معه بهدوء، ويبين له محاسن الإخلاص، ويبين له -أيضاً- أن هؤلاء الموتى لا يستجيبون له، كما قال الله تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14] وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5-6] فليكثف الدعوة معهم؛ لأن هؤلاء الذين يترددون إلى الأضرحة ويدعونهم يعتبرون في حكم أهل الجاهلية، فلا بد من دعوتهم وتكثيف الدعوة معهم، ولعلَّ الله سبحانه وتعالى أن يهديهم على أيدي إخواننا المصلحين.(53/7)
حكم سؤال الله أن يخرج المهدي
السؤال
جاءت الأحاديث في السنة وتواترت تواتراً معنوياً تذكر المهدي، ولكن سؤالي من شقين: الشق الأول: المهدي الحقيقي هل يجوز لنا سؤال الله سبحانه وتعالى أن يخرج فينا المهدي؟ الشق الثاني: كلمة "المتنظر" جاءت في كتابات إسلامية للمتأخرين تذكر المهدي المنتظر، فهل لهذا أصل؟ وجزاك الله خيراً.
الجواب
المهدي وردت فيه أحاديث انقسمت إلى أربعة أقسام: أحاديث موضوعة مكذوبة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأحاديث حسنة، وأحاديث صحيحة بغيرها.
والصحيح أنه سيخرج إذا اقتضت حكمة الله عز وجل خروجه، حين تملأ الأرض جوراً وظلماً، وانتبهوا لكلمة (تملأ الأرض) أي: لا يبقى عدل ولا إحسان، فإذا ملئت الأرض جوراً وظلماً ولم يبق عدل ولا إحسان حينئذٍ يبعث الله سبحانه وتعالى المهدي، يبين للناس الحق ويدعوهم إليه، ويهديهم الله عز وجل على يديه، هذا هو الصحيح المعتقد عندنا، وللشيخ عبد المحسن العباد محاضرة في مجلة الجامعة الإسلامية أيام كان الشيخ عبد العزيز بن باز رئيساً للجامعة، وهي محاضرة قيمة أحيل الأخ السائل عليها، حتى يتبين له حكم خروج المهدي.
أما كلمة "المهدي المنتظر" فهذا هو مهدي الرافضة الذي يدعون أنه في سرداب في العراق، وأنه حي، وأنه ينتظر الفرج، وأنه سوف يخرج، وجهالهم -كما نقل عنهم السفاريني رحمه الله- يخرجون في صباح كل يوم عند هذا السرداب ومعهم فرس ورمح وماء وعسل وخبز، كل يوم يقولون: ننتظر خروجه في هذا الصباح، من أجل أن يفطر بالخبز والماء والعسل، ثم يركب الفرس برمحه ويخرج إلى الناس يقاتل الظلمة؛ لأن عندهم أو كثير منهم أن كل الناس ظالمون، حتى أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ظلمة في رأيهم، يقولون: إنهم ظلموا علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأخذوا منه الخلافة واغتصبوها منه، فهم ظلمة وليسوا خلفاء، الخليفة المستحق للخلافة هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ومن العجب أن رأيت للشهرستاني في كتاب الملل والنحل قولاً عجباً قال: إن أبا بكر وعمر ظلمة، وإن علياً ظالم أيضاً؛ لأنه لم يأخذ بالثأر لنفسه.
نسأل الله العافية! صار هؤلاء عند الشرذمة ظلمة! لكن عامة الرافضة لا يقولون بهذا، يقولون: إن أبا بكر وعمر كانا ظالمين مغتصبين للخلافة، وأن علي بن أبي طالب هو الخليفة.
ولا شك أن قولهم هذا مرفوض بقول علي بن أبي طالب نفسه، فإنه صح عنه بالنقل المتواتر أنه قال على منبر الكوفة: [خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر] .
يعلنها رضي الله عنه وهذا هو تمام الإنصاف وتمام الحق والعدل منه رضي الله عنه، لكن من يدعون أنهم أتباعه خالفوا طريقه في هذا، وهو قد بايع أبا بكر وبايع عمر وآزرهما، وكان معهما، بل بايع عثمان رضي الله عنهما، وهذا معروف في السير والتاريخ، فإرداف كلمة (المنتظر) بكلمة (المهدي) هذه مأخوذة عن الرافضة.
ونحن نقول: إن هذا المهدي -أعني: مهدي أهل السنة لا مهدي الرافضة - سوف يخرج إذا اقتضت حكمة الله تعالى ذلك، بحيث تملأ الأرض ظلماً وجوراً، والذي يقول: اللهم أخرجه، فيه رائحة من الرفض؛ لأنه يعتقد الآن أن الأرض مملوءة ظلماً وجوراً، والأرض الآن -والحمد لله- ليست مملوءة ظلماً وجوراً، الأرض الآن فيها أناس يحكمون بالعدل، ويقضون بالحق، ويقيمون الشريعة بحسب المستطاع، سواء كانوا من أفراد الشعوب أو من حكام الشعوب، وهذا أمر يعرفه كل واحد، بل إن الناس اليوم ولا سيما الشعوب خير منهم بالأمس.
ظهر ولله الحمد فئات متعددة في البلاد الإسلامية كلها تنادي بالإسلام وتناضل من أجله، وتطبق من الإسلام ما استطاعت، فالإسلام الآن ولله الحمد في مستقبل، حتى في الأمم الكافرة كـ أمريكا وفرنسا وانجلترا وغيرها، فيها فئات كثيرة مسلمة تدعوا إلى الإسلام، والآن الإسلام له وزنه حتى في أمريكا في الوقت الحاضر والحمد لله، حتى إن رئيس أمريكا هنأ مسلمي أمريكا بعيد الفطر لهذا العام ومسلمي جميع العالم كما نقل عنه، وهذا يدل على أن الإسلام الآن أصبح له وزنه، وما ذكر من هؤلاء الطغاة -أعني: من طغاة الكفرة- أن الإسلام يهدد البشرية، فهذا من وحي الشيطان، الإسلام يهدي البشرية ولا يهدد البشرية، أي نظام أحسن من دين الله؟! {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] .
السائل: بعض المتقدمين من العلماء يطلق (المنتظر) على المهدي؟ الشيخ: لا يصح هذا، نقول: المهدي كما جاء في الحديث فقط، ولا نقول: المنتظر.(53/8)
حكم المعاملة التي يكون فيها أحد الطرفين غانماً أو غارماً
السؤال
يوجد عند بعض المكتبات التجارية إعلان يشتمل على أن من يدفع في الشهر مبلغاً معيناً من النقود فإنه يحصل على أمرين: الأمر الأول: يزود بالكتب الجديدة في مواد التخصص كالفقه ونحوه.
والأمر الثاني: يعطى بطاقة تخفيض (10%) إذا أتى يشتري.
فما حكم ذلك؟
الجواب
هذا نوع من الميسر الذي قال الله تعالى فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90] والميسر: كل معاملة مبناها على المغالبة؛ إما غانم وإما غارم، هذه القاعدة الشرعية في الميسر، فهذا الرجل الذي يدفع كل شهر خمسمائة ريال -مثلاً- قد يشتري كتباً تكون نسبة التنزيل فيها أكثر من ألف ريال، وقد لا يشتري شيئاً، فإذا فرضنا أنه يشتري كتباً نسبة التخفيض فيها أكثر من خمسمائة ريال صار غانماً وصاحب الدكان غارماً؛ لأنه يخسر، وإن لم يشتر صار صاحب الدكان غانماً وهذا غارماً؛ لأنه دفع خمسمائة ريال ولم يأخذ مقابلاً لها، فهذه المعاملة من الميسر ولا تحل.
والحقيقة أن مثل هذه المعاملات فشت الآن كثيراً، فلو فرض -مثلاً- أننا تخلصنا من الربا التي تقوم عليه كثير من البنوك اليوم، في كثير من معاملاتها تورطنا في الميسر، الآن كثرت هذه المعاملات والمغالبات، فإذا قدمنا أن الربا خفف كما هو الآن، اتجه بعض البنوك إلى فتح بعض الفروع إسلامية تتعامل حسب مقتضى الشريعة، تأتينا هذه البلايا في المعاملات وهي بلايا الميسر، فالواجب علينا أن ننتهي عن هذا عن كل معاملة تكون فيها مغالبة، إما غانم وإما غارم.(53/9)
حكم جمع نيتين في صيام يوم واحد
السؤال
هل يصح جمع نيتين في صيام يوم واحد، مثل أن يصوم أحد الأيام الست مع يوم واحد من الأيام البيض؟
الجواب
العبادات أحياناً تتساقط -أي: يسقط بعضها بعضاً- وهذا فيما إذا علمنا أن المقصود حصول هذه العبادة في هذا الوقت دون النظر إلى ذات العبادة، فمثلاً: إذا دخل الإنسان المسجد فإنه لا يجلس حتى يصلي ركعتين، فإذا دخل المسجد وهو يريد أن يصلي الراتبة فصلى الراتبة سقطت بذلك تحية المسجد؛ لأن المقصود ألا تجلس حتى تصلي وقد صليت، وكذلك لو دخلت والإمام يصلي فإن من المعلوم أنك سوف تدخل مع الإمام وتسقط عنك تحية المسجد.
وكذلك لو صام الإنسان أيام الست اكتفى بها عن صيام ثلاثة أيام من كل شهر، قالت عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر ولا يبالي في أول الشهر صامها أو وسطه أو آخره) ، وإذا كنت تريد أن تصوم أيام البيض بذاتها فإنك تصوم أيام الست في أول الشهر، ثم إذا جاءت أيام البيض قمت بصيامها؛ لأنك أردت أن يكون صيامك في هذا الوقت المعين، أما صيام ثلاثة أيام من كل شهر فإن صيام الأيام الست يجزئ عنها.(53/10)
حكم السترة ومقدارها
السؤال
ما حكم السترة وما مقدارها؟
الجواب
السترة في الصلاة سنة مؤكدة إلا للمأموم، فلا يسن له اتخاذها اكتفاء بسترة الإمام.
وأما مقدارها فقد جاء في الحديث: (إذا صلى أحدكم فليستتر ولو بسهم) وجاء في الحديث الآخر الذي رواه أبو داود بإسناد حسن: (فإن لم يكن فليخط خطاً) .
قال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام: ولم يصب من زعم أنه مضطرب، بل هو حسن، فالحديث ليس فيه علة توجب رده.
فنقول: أقلها خط وأعلاها مثل مؤخرة الرحل، وهي سنة في حق الإمام والمنفرد لا في حق المأموم.(53/11)
مدى صحة قول القائل عن النبي صلى الله عليه وسلم: أشرف خلق الله
السؤال
هناك أحد الأساتذة في الجامعة يقول: إن قولنا عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أشرف خلق الله) لا يصح، وإن هذا من عبارات التصوف، واستدل بقوله تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8] يقول: إننا لا نحصي خلق الله تعالى حتى ندعي أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم هو من أشرفها؟
الجواب
المشهور عند كثير من العلماء إطلاق هذه العبارات أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق كما قال الناظم:
وأفضل الخلق على الإطلاق نبينا فمل عن الشقاق
لكن الأحوط والأسلم أن نقول: محمد صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم، وأفضل البشر، وأفضل الأنبياء، أو ما أشبه ذلك اتباعاً لما جاء به النص، ولم أعلم إلى ساعتي هذه أنه جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق مطلقاً في كل شيء.
وأما الاستدلال بالآية: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8] ففي غير محلة؛ لأن هذه الآية في المركوبات قال الله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8] أي: مما تركبون، وهو -أيضاً- يخلق ما لا نعلم من غير ما نركب، لكن الاستدلال بهذه الآية على أن الله يخلق خلقاً خيراً من محمد صلى الله عليه وسلم فيه نظر، إنما الأسلم أن الإنسان في هذه الأمور يتحرى ما جاء به النص.
مثلاً لو قال قائل: هل فضل الله بني آدم عموماً على جميع المخلوقات؟ قلنا: لا؛ لأن الله تعالى قال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70] لم يقل: على كل من خلقنا، فمثل هذه الإطلاقات ينبغي على الإنسان أن يتقيد فيها بما جاء به النص فقط ولا يتعدى.
والحمد لله، نحن نعلم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وأشرف الرسل وأفضلهم وأكرمهم عند الله عز وجل، وأدلة ذلك من القرآن والسنة الصحيحة معروفة مشهورة، وأما ما لم يرد به دليل صحيح فإن الاحتياط أن نتورع عنه، أما كون هذه من عبارات الصوفية أو غير الصوفية فلا أدري، لكنه مشهور عند كثير من العلماء، تجدهم يقولون: إن محمداً أشرف الخلق.(53/12)
حكم قبول الموظف للهدية
السؤال
شخص يعمل في إحدى المؤسسات ويقوم بعمل جيد يواجه فيه الجمهور، وأحد العملاء المتعاملين معه أهدى له إهداء نتيجة هذا العمل، فهل يقبل هذا الإهداء من باب التشجيع له، أم يرده؟
الجواب
إذا كان هذا الرجل الذي أهدى إليه ممن يتعامل معه فلا يقبل الهدية؛ لأنه يخشى أن تكون رشوة، ومعلوم أن الهدية تجلب المودة والمحبة، وأنها تعصف بالإنسان عن اتباع الصراط المستقيم، فيخشى إذا جاءت معاملة من هذا الذي أهداه أن يقدمها على غيرها ولو في المستقبل البعيد، فنرى أن الإنسان الذي يباشر أعمالاً للجمهور أولى به ألا يقبل هدية ممن يتعامل معهم؛ لأنه سوف يحابيه ولو على الزمن البعيد.(53/13)
قبول توبة من أصيب بمرض لا يرجى شفاؤه
السؤال
هل تصح التوبة ممن أصيب بمرض لا يرجى شفاؤه؟
الجواب
نعم.
تصح التوبة من إنسان أيس من حياته إما بمرض لا يرجى شفاؤه كمرض السرطان مثلاً، وإما بتقديمه للقتل كرجل قدم ليقتص منه حتى ولو كان السياف على رأسه، وإما من إنسان محصن زنى واستحق الرجم حتى ولو كانت الحجارة قد جمعت لرجمه، فإنه تصح توبته؛ لأن الله تعالى يقبل توبة الإنسان ما لم يغرغر بروحه، قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء:17] ومعنى قوله: {يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء:17] أي: يتوبون قبل الموت، لقول الله تعالى بعد هذه الآية: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء:18] ولكن التوبة لا بد لها من شروط خمسة: الإخلاص، والندم على ما فعل، والإقلاع عنه في الحال، والعزم على ألا يعود في المستقبل، وأن تكون التوبة في الوقت الذي تقبل فيه، أي: بأن تكون قبل الموت أو قبل طلوع الشمس من مغربها.(53/14)
حكم التعامل مع البنوك الربوية لتسديد الضرائب من فوائدها
السؤال
أنا من دولة إرتيريا والحكومة هناك تضطهد المسلمين وتفرض عليهم ضرائب أكثر من دخلهم، فالذي يكسب ألف ريال مثلاً تفرض عليه الحكومة عشرين ألف ريال ضرائب، وعندنا بنوك تتعامل بالربا، فهل يجوز لنا التعامل معها لتسديد تلك الضرائب من فوائدها؟ وهل يجوز لنا أن ندفع الزكاة في سداد هذه الضرائب أم لا؟ أفيدونا مأجورين وجزاكم الله خيراً.
الجواب
هذان سؤالان، ونجيب أولاً عن السؤال الثاني فنقول: أما دفع الزكاة في هذه الضرائب فلا يجوز، ولا إشكال في ذلك؛ لأن الزكاة لها أهلها المختصون بها، وهم الذين ذكرهم الله في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة:60] .
وأما أخذ الربا لدفعه في هذه الضرائب الظالمة فأنا أرى أنه لا يجوز أيضاً؛ لأن الله قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة:278-279] (رءوس أموالكم) أي: بدون زيادة {لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] نعم لو فرض أن عائدات هذه البنوك تعود إلى هذه الحكومة الظالمة فهذا ربما يكون مسوغاً، لأن تأخذ هذا الربا لتدفع الظلم عن نفسك، لأنك سوف تأخذه من الدولة الظالمة لتدفع به ظلمها.
أما إذا كانت هذه البنوك لغير هذه الدولة الظالمة فلا أرى جواز الأخذ وإن كان بعض الناس يفتي بأن يأخذه الإنسان لا بنية التملك ولكن بنية توقي صرفه إلى مؤسسات نصرانية؛ لأن بعض الناس يدعي أنك إن لم تأخذ هذا الربا صرفته هذه البنوك في الدعوة إلى النصرانية التي يسمونها التبشير، ولا ندري هل هذا صحيح، أم لا؟ وعلى كل حال فخلاصة جوابي في هذه المسألة: أنه لا يجوز أخذ الربا من البنوك، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:178-279] فنص على رءوس الأموال.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبة عرفة في حجة الوداع أكبر مجمع للأمة الإسلامية قال: (إن ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله) فانظر: الآن عقد ربا في حال الشرك وأبطله الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يجوز أخذه، ولأن الإنسان لو أخذه فربما تغلبه نفسه ولا يخرجه من ملكه لا سيما إذا كان كثيراً، افرض أن الربا بلغ مليون ريال ربما يأخذه الإنسان وهو يريد أن يتخلص منه لكن تغلبه نفسه فيبقيه، ولأن الإنسان المسلم إذا أخذه اقتدى به غيره؛ لأنهم لا يدرون أن هذا الرجل أخذه ليتصدق به مثلاً، فيأخذه الناس الآخرون ولا يتصدقون به، ولأننا إذا منعنا الناس عن أخذ الربا من البنوك ألجأهم هذا إلى أن ينشئوا بنوكاً إسلامية تكون مبنية على الشريعة الإسلامية.
فالذي نرى: أن أخذ الربا لا يجوز بأي حال من الأحوال، إلا أننا نتوقف في هذه المسألة الأخيرة، وهي إذا كانت هذه البنوك الظالمة التي تفرض الضرائب على الناس وأخذ الإنسان من الربا بقدر مظلمته ليدفعه لهذه الدولة الظالمة، فهذا محل توقف عندي، والله أعلم بالصواب.(53/15)
حكم النذر والوفاء به
السؤال
نذرت امرأة نذراً إبان أزمة الخليج وقالت: إن نصر الله بلادنا لتذبحن أربع ذبائح وتطبخها وتوزعها، فما الحكم؟
الجواب
نقول: أولاً: ننهى هذه المرأة وغيرها عن النذر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر وقال: (لا يأتي بخير ولا يرد قضاء) والرب عز وجل أكرم من كونه لا يتكرم إلا بجزاء، هو يتكرم عليك سواء نذرت له أو لم تنذر، فكونك إذا أيست من الشفاء من المرض تنذر، أو إذا أيست من قدوم الغائب تنذر، أو إذا أيست من الانتصار تنذر، هذا خطأ وسوء ظن بالله عز وجل، الرب عز وجل أكرم من أن تنذر له ليتفضل عليك، ولكن إذا أنعم عليك فاشكره.
ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنه لا يأتي بخير) والذي لا يأتي بخير هل يفعله العاقل؟ لا يفعله، ولهذا حرم بعض العلماء النذر وقال: أحرمه؛ لأن الرسول نهى عنه، أحرمه؛ لأن الرسول قال: (لا يأتي بخير) فالإنسان لا ينذر لا لشفاء من مرض، ولا لقدوم غائب، ولا لانتصار طائفة أبداً.
لكن إذا ابتلي ونذر فلا بد من الوفاء بالنذر إذا نذر طاعة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه) فهذه المرأة عليها أن تذبح أربعاً من الغنم وتطبخها كما نذرت وتوزعها على الفقراء خاصة، وإذا رأت أن من المصلحة أن توزع على الفقراء وهي غير مطبوخة وأن هذا أنفع للفقراء فلتوزعها غير مطبوخة.(53/16)
نصيحة للإمام الذي يرى من نفسه التقصير وأنه لا يصلح للإمامة
السؤال
هذا شاب إمام لأحد المساجد وهو كما يقول: محبوب عند جماعة من رواد المسجد، ويعلم في قرارة نفسه أنه مقصر وعنده بعض المعاصي ولا يستحق الإمامة، ولا يستحق هذه المحبة والتقدير من الناس، ويخشى على نفسه إذا هو بقي في المسجد إماماً يخشى على نفسه من النفاق والرياء، فهل يبقى في المسجد -أي: يستمر في إمامة الناس-، أو يترك الإمامة خشية الرياء والنفاق؟
الجواب
أقول: إن هذا الشاب الذي وصفته بأنه محبوب عند قومه ولكن عليه إسراف فيما بينه وبين ربه أقول: إن هذا الذي حباه الله به من الإمامة ومحبة قومه له توجب أن ينزع عن الإسراف على نفسه، وأن يحسن العبادة، وأن يشكر الله عز وجل؛ لأن كون الإنسان يكون محبوباً عند قومه وهو إمام لهم نعمة من الله كبيرة، قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63] إلى أن قال: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] فليحمد الله على هذه النعمة، ولينزع من الإسراف على نفسه، وليجعل هذا من الأسباب التي تعينه على طاعة الله، وليبق في مكانه.
وكونه يقول: أخشى من الرياء، فهذه وسوسة يلقيها الشيطان في قلب الإنسان كلما أراد أن يعمل طاعة، يدخل عليه الشيطان ويقول: أنت مراء، فيجب عليه أن يطرح هذا ويعرض عنه ويستعين بالله عز وجل، فهو دائماً يردد في الصلاة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] .(53/17)
الجمع بين حديث الذين يدخلون الجنة ولم يسجدوا لله سجدة وأحاديث كفر تارك الصلاة
السؤال
كيف نوفق بين قوله صلى الله عليه وسلم في أقوام يدخلون الجنة ولم يسجدوا لله سجدة، والأحاديث التي جاءت بكفر تارك الصلاة؟
الجواب
يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: إنهم يدخلون الجنة ولم يسجدوا لله سجدة، على أناس يجهلون وجوب الصلاة، كما لو كانوا في بلاد بعيدة عن الإسلام أو في بادية لا تسمع عن الصلاة شيئاً، ويحمل -أيضاً- على من ماتوا فور إسلامهم دون أن يسجدوا لله سجدة، وإنما قلنا بذلك؛ لأن الحديث -الذي ذكرت- من الأحاديث المتشابهة، وأحاديث كفر تارك الصلاة من الأحاديث المحكمة البينة، واتباع المتشابه واطراح المحكم طريقة من في قلوبهم زيغ والعياذ بالله، كما قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:7] .
ولعله بلغك قصة الأصيرم من بني عبد الأشهل الذي خرج إلى أحد وقتل فوجده قومه في آخر رمق وقالوا: يا فلان! ما الذي جاء بك؟ أحدب على قومك، أم رغبة في الإسلام؟ قال: بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله ورسوله، فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إنه من أهل الجنة) مع أن هذا الرجل ما سجد لله سجدة، لكن منَّ الله عليه بحسن الخاتمة، نسأل الله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة.(53/18)
حكم الصلاة لمن سافر بعد دخول الوقت من حيث القصر والإتمام
السؤال
إذا سافر المسافر بعد دخول وقت الصلاة، أي: أن الوقت دخل عليه وهو في البلد ثم سافر، فهل يقصر، أم يتم؟
الجواب
إذا سافر الإنسان بعد دخول الوقت وصلى في مسيره فإنه يقصر صلاته كما أنه لو دخل عليه الوقت وهو في السفر ثم وصل بلده فإنه يتم الصلاة؛ لأن العبرة بفعل الصلاة لا بوقتها، فمتى فعل الصلاة في السفر قصرها، ومتى فعلها في الحضر أتمها.(53/19)
حكم استعمال الجن المسلمين
السؤال
امرأة تستعمل الجن بحجة أن من تستعملهم هم من الجن المسلمين، وإذا كان هذا لا يجوز فهل يجوز التستر عليها، خاصة إذا علم أنها تابت ولا نعلم صحة توبتها؟
الجواب
أحيل السائل في هذا السؤال -أي: في استعمال الجن المسلمين- على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى، وكذلك في كتاب النبوات، وكذلك في إيضاح الدلالة على عموم الرسالة فإنه صرح أنه يجوز للإنسان أن يستعمل الجن الصالحين، كما يستعمل الإنس الصالحين، ويعلم صلاحهم بطريقته، فإذا كانوا لا يستجيبون للإنسان إلا بكفره بأن يذبح لهم مثلاً، أو كانوا لا يستجيبون له إلا بتمكينهم من فعل الفاحشة به، أو كانوا لا يستجيبون له إلا بظلم الناس بإتلاف أموالهم كما لو قالوا له: نحن نأتي لك بإبل فلان مثلاً، فهؤلاء ليسوا صالحين فلا يجوز استعمالهم.
لكن إذا كانوا لا يفعلون إلا الخير فقد قال شيخ الإسلام رحمه الله: إن هذا من الدعوة إلى الخير، والجن مدعوون إلى الخير منهيون عن الشر، كما أن الإنس كذلك، وذكر رحمه الله قصصاً عن الصحابة في هذه المسألة، فارجع إلى كلامه رحمه الله في هذا الموضوع، وأظن أننا في كتابنا العقد الثمين أشرنا إلى مواضع كلامه رحمه الله بالصفحات فارجع إليها بارك الله فيك.
نسأل الله أن يجعل لقاءنا هذا لقاءً مباركاً نافعاً إنه على كل شيء قدير.(53/20)
لقاء الباب المفتوح [54]
هذا اللقاء هو عبارة عن تفسير آيات من سورة الأعلى تحدث الشيخ عن سبب إعراض الأشقى للذكرى وعدم الانتفاع بها، وبين ما سيلقاه يوم القيامة من عذاب بسبب إعراضه عن الذكرى.(54/1)
تفسير آيات من سورة الأعلى
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو اللقاء الرابع والخمسون من اللقاء المسمى بلقاء الباب المفتوح، ونتكلم على ما تبقى من سورة الأعلى.(54/2)
تفسير قوله تعالى: (ويتجنبها الأشقى)
قال تعالى: {وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى} [الأعلى:11] أي: يتجنب هذه الذكرى ولا ينتفع بها، والأشقى هنا اسم تفضيل من الشقاء، وهو ضد: السعادة، كما في سورة هود: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ} [هود:107-108] فالأشقى -والعياذ بالله- المتصف بالشقاوة يتجنب الذكرى ولا ينتفع بها، والأشقى هو: البالغ في الشقاوة غايتها وهذا هو الكافر، فإن الكافر يذكر ولا ينتفع بالذكرى.(54/3)
تفسير قوله تعالى: (الذي يصلى النار الكبرى)
قال تعالى: {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} [الأعلى:12-13] الذي يصلى النار الموصوفة بأنها الكبرى وهي: نار جهنم؛ لأن نار الدنيا صغرى بالنسبة لها، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ناركم جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم) أي: إن نار الآخرة فضلت على نار الدنيا بتسع وستين ضعفاً.
والمراد: نار الدنيا كلها ليست ناراً مخصوصة بل هي أشد ما يكون من نار الدنيا، فإن نار الآخرة فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً، ولهذا وصفها الله بقوله: {النَّارَ الْكُبْرَى} [الأعلى:12] ثم إذا صلاها لا يموت فيها ولا يحيا، المعنى: لا يموت فيستريح ولا يحيا حياة سعيدة، وإلا فهم أحياء في الواقع، لكنهم أحياء معذبون {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} [النساء:56] كما قال الله عز وجل: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} [الزخرف:77] وهو خازن النار {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] أي: يهلكنا ويريحنا من هذا العذاب {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] فيها العذاب المقيم، ويقال لهم: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:78] .
هذا معنى قوله: {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} [الأعلى:13] لأنه قد يشكل على بعض الناس كيف يكون الإنسان لا حي ولا ميت؟ فيقال: لا يموت فيها ميتة يستريح بها، ولا يحيا حياة يسعد بها، فهو -والعياذ بالله- في عذاب وجحيم وشدة، يتمنى الموت ولكن لا يحصل له، هذا هو معنى قوله تعالى: {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} [الأعلى:13] .(54/4)
الأسئلة(54/5)
امرأة حصلت على الطلاق بأمر المحكمة وزوجها غير راضٍ
السؤال
رجل تزوج امرأة ثم بعد أيام قليلة طلبت منه الطلاق، وهو يرغب في أن تبقى في عصمته، فقال لها بعد الدخول: إن شئت خالعتك.
فرفعت أمرها للقضاء -قضاء المحاكم الدستورية في الكويت - وحصلت على الطلاق، وهو يرغب في بقائها معه، فهل يقع هذا الطلاق؟
الجواب
هذه المرأة التي سألت زوجها الخلع، والخلع معناه: أن يفارق الزوج زوجته بعوض، سواء كان العوض منها أو من أبيها أو من رجل أجنبي.
ونحن نقول: أولاً: لا يحل للمرأة أن تسأل زوجها الطلاق إلا لسبب شرعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة) ، أما إذا كان هناك سبب شرعي بأن كرهته في دينه، أو كرهته في خلقه، أو لم تستطع أن تعيش معه وإن كان مستقيم الخلق والدين، فحينئذٍ لا حرج عليها أن تسأل الطلاق، ولكن في هذه الحال تخالعه مخالعة، بأن ترد عليه ما أعطاها ثم يفسخ نكاحها.
ودليل ذلك: (أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! ثابت بن قيس لا أعيب عليه في خلق ولا دين، ولكن أكره الكفر في الإسلام.
فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أتردين حديقته؟ وكان قد أصدقها حديقة.
فقالت: نعم.
يا رسول الله! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) فأخذ العلماء من هذه القضية أن المرأة إذا لم تستطع البقاء مع زوجها فإن لولي الأمر أن يطلب منه المخالعة، بل أن يأمره بذلك، قال بعض العلماء: يلزم بأن يخالع؛ لأن في هذه الحال لا ضرر عليه؛ إذ أنه سيأتيه ما قدم لها من مهر، وسوف يريحها.
أما أكثر العلماء فيقولون: إنه لا يلزم بالخلع، ولكن يندب إليه ويرغب فيه، ويقال له: (من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه) .
وأنا أرى أننا الآن أمام مشكلة: فبقاؤها في عصمته يمنعها من أن تتزوج بزوجٍ آخر، وظاهراً حسب حكم المحكمة أنها طلقت منه، وأنها إذا انتهت عدتها تجوز للأزواج، فأرى للخروج من هذه المشكلة أنه لا بد من أن يتدخل أهل الخير والصلاح في هذه المسألة، من أجل أن يصلحوا بين الزوج وزوجته، وإلا فعليها أن تعطيه عوضاً، حتى يكون ذلك خلعاً شرعياً.(54/6)
حكم من لا يرى البيعة لولي الأمر
السؤال
ما حكم من لا يرى البيعة لولي الأمر إن كان يترتب على ذلك خروج؟
الجواب
الذي لا يرى البيعة لولي الأمر يموت ميتة جاهلية؛ لأنه ليس له إمام، ومن المعلوم أن البيعة تثبت للإمام إذا بايعه أهل الحل والعقد، ولا يمكن أن نقول: إن البيعة حق لكل فرد من أفراد الأمة، والدليل على هذا: أن الصحابة رضي الله عنهم بايعوا الخليفة الأول أبا بكر رضي الله عنه ولم يكن ذلك من كل فرد من أفراد الأمة، بل من أهل الحل والعقد، فإذا بايع أهل الحل والعقد لرجل وجعلوه إماماً عليهم صار إماماً، وصار من خرج عن هذه البيعة يجب عليه أن يعود إلى البيعة حتى لا يموت ميتة جاهلية، أو يرفع أمره إلى ولي الأمر لينظر فيه ما يرى؛ لأن مثل هذا المبدأ مبدأ خطير فاسد يؤدي إلى الفتن والشرور.
فنقول لهذا الرجل ناصحين له: اتق الله في نفسك، واتق الله في أمتك، ويجب عليك أن تبايع لولي الأمر أو تعتقد أنه إمام ثابت، سواء بايعت أنت أم لم تبايع، إذ أن الأمر في البيعة ليس لكل فرد من أفراد الناس ولكنه لأهل الحل والعقد.
السائل: وإذا كان عذره تعدد الولايات الإسلامية، والبيعة تكون للإمام الواحد؟ الجواب: هذا عذر باطل مخالف لإجماع المسلمين، فتعدد الخلافات الإسلامية ثابت من عهد الصحابة رضي الله عنهم، وهي متعددة إلى يومنا هذا، والأئمة من أهل السنة كلهم متفقون على أن البيعة تكون للإمام أو للأمير الذي هم في حوزته، ولا أحد ينكر ذلك، وهذا الذي قاله تلبيس من الشيطان، وإلا فإنه من المعلوم أن طريق المسلمين كلهم إلى يومنا هذا أن يبايعوا لمن كانت له الولاية على منطقتهم، ويرون أنه واجب الطاعة.
فنسأل هذا الرجل: إذا كنت لا ترى أن البيعة إلا لإمام واحد على عموم المسلمين، فمعنى ذلك: أن الناس الآن أصبحوا كلهم بلا إمام، وهذا شيء مستحيل متعذر! لو أننا أخذنا بهذا الرأي لأصبحت الأمور فوضى، كل إنسان يقول: ليس لأحد عليَّ طاعة، ولا يخفى ما في هذا القول من المنكر العظيم.(54/7)
حكم الصلاة في المساجد التي فيها الصور
السؤال
هناك بعض الرخام المظلل بالأسود والأبيض تزين به جدران المساجد من الداخل، وهو مع الأسف يجلب من دول الشرك والكفر، ولهذا فهو يحتوي على كثير من الصور الظاهرة والمخفية التي تستبين بتدقيق النظر، وهي صور لأشخاص وحيوانات، فما حكم الصلاة في هذه المساجد؟ وحكم وضع هذا الرخام بالمسجد؟
الجواب
حكم وضع هذا الرخام الذي تظهر فيه الصور محرم، يعني: أنه محرم أن نضع في مساجد المسلمين رخاماً فيه الصور، ويجب على أهل الحي الذين سترت جدران مساجدهم بهذا أن يطالبوا بإزالتها، فإن لم يمكن فلا يصلوا في هذا المسجد، بل يطلبوا مسجداً آخر، ولهذا امتنع عمر رضي الله عنه من دخول الكنائس؛ لأن فيها صوراً.(54/8)
من مات بسبب السرعة وحكم مخالفة إشارات المرور
السؤال
الذي يسير بالسيارة بسرعة تزيد عن مائة وعشرين كيلو متراً في الساعة، أو يقطع الإشارة فيحصل عليه حادث فيموت، أو يموت شخص آخر معه أو في سيارة أخرى، هل يكون هذا القتل عمداً أو شبه عمد؟ وهل يجوز قطع الإشارة إذا كان لا يوجد في جهات أخرى سيارات، أخذاً بالقاعدة الأصولية (الحكم مع علته) ؟ أفيدونا وفقكم الله.
الجواب
أما مسألة السرعة، فالسرعة لا يمكن أن نحددها بحد معين؛ لأن ذلك يختلف، فهناك فرق بين خط عام سريع وخط خاص، وهناك فرق أيضاً بين شخص يمشي في البر وآخر يمشي في البلد، فالمهم أن السرعة تتقيد بحسب الحاجة إلى التهدئة، ولا يمكن ضبطها.
ثم إن السيارات نفسها تختلف، فبعض السيارات إذا زادت فيها على مائة وعشرين تكون مخاطراً، وبعض السيارات تكون سرعتها أوسع من هذا بكثير، فكل مقام له مقال.
أما بالنسبة لقطع الإشارة أرى أنه لا يجوز قطع الإشارة؛ لأن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] وولاة الأمر إذا وضعوا علامات تقول للإنسان: قف، وعلامات تقول للإنسان: سر، فهذه الإشارات بمنزلة القول؛ يعني: كأن ولي الأمر يقول لك: قف، أو يقول: سر، وولي الأمر واجب الطاعة، ولا فرق بين أن تكون الخطوط الأخرى خالية أو فيها من يحتاج إلى أن يفتح له الخط.
وقد سألت المدير العام للمرور هنا بـ المملكة العربية السعودية وقال: إن هذه الإشارات ليست للتنظيم ولكنها للإيقاف والحجز، وإذا كان كذلك فهذا لا ينطبق عليه ما أشار إليه السائل في قوله: الحكم يدور مع علته وجوده أو عدمه؛ لأن هذا أمر بالإيقاف وليس المعنى: قف! إن كانت الخطوط الأخرى مشغولة، بل المعنى قف نهائياً، وعلى هذا فلا يجوز للإنسان أن يتجاوز.
ثم إنه قد يرى الإنسان الخط غير مشغول، فإذا بإنسان يأتي مسرعاً ليتدارك الإشارة التي ترخص له بالسير فيحصل الحادث كما يقع هذا كثيراً، لذلك نرى أن الواجب الوقوف، والمسألة والحمد لله لا تعدو ثلاث دقائق ثم ينفتح له الخط.
أما قولك في أنه قتل عمد أو شبه عمد فليس عمداً ولا شبه عمد.(54/9)
مجاهدة اليهود في فلسطين
السؤال
بالنسبة لـ منظمة حماس الموجودة الآن في الأرض المحتلة وما تقوم به من عمليات استشهادية وغيرها ضد اليهود، هل هذا العمل شرعي؟ علماً بأنها قد تكون سبباً في انتقام اليهود بأشد مما قام به أعضاء هذه المنظمة، وكذلك قيامهم ضد دولتهم الجديدة هل هو شرعي؟
الجواب
نسمع أنهم يقومون بعمليات ضد اليهود، ونحن نرى أن اليهود أهل غدر وخيانة، ولا يمكن أن يفوا لأحد، وإن تظاهروا بما يتظاهرون به، فوراء هذا التظاهر ما وراءه من الشر، وإذا كانوا لم يفوا بالعهد لأشرف البشر محمد صلى الله عليه وسلم فكيف بمن دونه؟! نفهم أن اليهود أهل غدر وخيانة، وأما عملية حماس أو غيرها فنقول للسائل: إذا كنت مندوباً عنهم فأثبت لنا ذلك ونحن نفتيك إن شاء الله.(54/10)
ضوابط إمارة الأمير في السفر وحكم مخالفته
السؤال
إذا تأمر شخص على مجموعة أثناء السفر فما هي ضوابط إمارته عليهم؟ كذلك إذا خالفه أحد أفراد المجموعة أثناء السفر هل يكون آثماً، أم لا؟
الجواب
من المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر المسافرين أن يؤمروا عليهم واحداً لئلا تكون أمورهم فوضى، ولابد أن يكون مطاعاً فيما يتعلق بمصالح السفر، أما الأمور الأخرى فلا تلزم طاعته، فمثلاً: لو قال لإنسان من الذين معه: لا تصم وهو يحب أن يصوم يوم الإثنين مثلاً، فلا تلزمه طاعته في ذلك، لكن لو قال: ننزل في هذا المكان الآن لزمه طاعته.
وعلى الأمير أن يتقي الله عز وجل وأن يراعي الأمانة، وألا يتصرف إلا في مصلحة القوم، وكما أشرت إليه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالتأمير إلا ليطاع، حيث لا فائدة من أمير لا يطاع، ويطاع فيما يتعلق بمصلحة السفر خاصة، ومعلوم أننا إذا قلنا يجب طاعته فإنه يأثم من خالفه.(54/11)
كيفية النهي عن المنكر إذا كان علناً
السؤال
إذا كان المنكر علانية فهل ينكر علانية؟ وإذا كان الشخص يجاهر بالفسق ويدعو إلى الفسوق والمعاصي فهل يحذر منه الناس حتى يحذروا من شره؟
الجواب
المنكر إذا أعلن فيجب إنكاره علناً، لكن هل يجب تعيين الشخص القائم به؟ هذا ينظر فيه إلى المصلحة، إن اقتضت المصلحة أن نعين الشخص من أجل أن يرتدع عما هو عليه من المنكر فليذكر بعينه، وإذا كانت المصلحة تقتضي أن يعمم القول وأن يقال: يوجد من الناس من يفعل كذا، أو ما بال أقوام يفعلون كذا، أو ما شابه ذلك فهو أحسن، فالمهم أن المنكر إذا أعلن يجب إنكاره علناً، لكن تعيين الفاعل ينظر فيه إلى المصلحة، أما التحذير من هذا الفاعل سراً خوفاً من أن يفتتن به الناس فهذا واجب.(54/12)
الأشياء التي يبتدئ بها طالب العلم في تعلمه
السؤال
هناك بعض طلبة العلم يبدءون طلب العلم بكتب الحديث ليس بالمتون الفقهية، ويعللون ذلك: بأن المتون الفقهية خالية من أدلة الكتاب والسنة، فهل هذا صحيح؟
الجواب
الذي أرى أن يبدأ الطالب قبل كل شيء بفهم القرآن الكريم؛ لأن الله تعالى قال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] ، ولأن القرآن لا يحتاج إلى أي عناء في ثبوته؛ لأنه ثابت بالتواتر، لكن السنة فيها الصحيح وفيها الحسن وفيها الضعيف وفيها الموضوع، فهي تحتاج إلى عناء، ثم هي أيضاً تحتاج إلى جمع أطرافها، فقد يبلغُ الإنسانَ حديثٌ عن الرسول صلى الله عليه وسلم يكون له مخصص لعمومه، أو مقيد لإطلاقه، أو يكون هذا الحديث منسوخاً وهو لا يعلم، ولهذا تجد أن الذي يعتمد على فهمه من الأحاديث يخطئ كثيراً، ولا شك أن الأحاديث أو السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أصل من الأصول، فهي كالقرآن لوجوب العمل بها إذا صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما دعواه بأن المتون خالية مما قال الله ورسوله فنعم، أكثر المتون الفقهية ليس فيها الدليل، ولكن توجد الأدلة في شروحها، فليست خالية من الأدلة باعتبار شروحها التي تحلل ألفاظها وتبين معانيها.
والذي أرى أن يكون الإنسان بادئاً أولاً بكتاب الله عز وجل، وثانياً: بكتب الفقه المبنية على الكتاب والسنة؛ لأن هذه تضبط تصرفه وتصحح فهمه.
لكن لو سألنا: هل الأفضل أن أحفظ متناً من متون الفقه، أو متناً مختصراً من الحديث؟ رأينا له أن يحفظ متناً مختصراً من الحديث كعمدة الأحكام، وبلوغ المرام، ولكن لا يدع الاستئناس بكلام أهل العلم وأهل الفقه.(54/13)
التورع عن وصف الناس بألقاب السوء كالفسق أو العلمانية أو الحداثة
السؤال
ما رأيك في رجل تورع أن يرمي إنساناً بالكفر بينما لا يتورع أن يرميه بالعلماني أو الحداثي جزاكم الله خيراً؟
الجواب
معلوم أننا يجب أن نتورع عن وصف الإنسان بالكفر أو الفسق أو بـ العلمانية أو الحداثة أو غير ذلك من ألقاب السوء، حتى نتبين ثم نحكم عليه بما يستحق، والعلمانية والحداثة إذا كانت كفراً فلا فرق بين أن نرميه بأنه علماني حداثي أو نقول هو كافر، لكن كلمة الكفر صريحة واضحة، كل إنسان يعرف أنك إذا قلت: فلان كافر.
أنه خارج من الإسلام، لكن إذا قلت علماني أو حداثي ربما يفهم أن فيه شيئاً من العلمانية أو الحداثة الذي لا يوصل به إلى الكفر.
وعلى كل حال: الواجب ألا نتنابز بالألقاب، وألا نصف أحداً بسوء إلا إذا كان متصفاً به حقيقة، وكان في ذلك مصلحة تربو على مفسدة ذكره؛ لأن التسرع في هذه الأمور يؤدي إلى المفاسد، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن من دعا رجلاً بالكفر أو قال: عدو الله ولم يكن كذلك رجع على القائل) .(54/14)
حكم صلاة المأموم بجانب الإمام إذا لم يجد مكاناً في الصف
السؤال
ما حكم صلاة المأموم الذي لم يجد مكاناً في الصف ووقف عن يمين الإمام، وإذا حصل عارض للإمام هل يجوز له أن يؤم المصلين؟
الجواب
السنة أن الإمام يتقدم على المأمومين إذا كانوا اثنين فأكثر، ولا ينبغي أن يقف أحد بجانب الإمام إلا للضرورة القصوى، كما لو امتلأ المسجد ولم يجد مكاناً إلا إلى جنب الإمام فلا بأس، وإذا كانوا اثنين واحتاجا إلى أن يكونا جانب الإمام فليكن أحدهما عن اليمين والآخر عن الشمال، ولا يكونا جميعاً عن يمينه كما كان هذا هو المشروع أولاً، أنه إذا كان هناك ثلاثة أن يكون الإمام بين الاثنين، ثم نسخ ذلك حتى كان المشروع أن يكون الاثنين خلفه.
وأما ما يظنه بعض العامة الآن من أن الرجلين إذا احتاجا أن يكونا مع الإمام كانا عن يمينه فقط، هذا ليس له أصل، نعم إذا كان واحداً فلا يقف إلا عن يمينه.
أما إذا حدث للإمام حدث وانصرف من الصلاة فله أن يقول لبعض المأمومين: يا فلان! تقدم أتم بهم الصلاة.
فإن لم يفعل فللمأمومين أن يقدموا أحدهم، أو أن يكملوا الصلاة فرادى.(54/15)
حكم بيع التصريف وبيع البضاعة المشتراة من الخارج قبل وصولها المحل
السؤال
ما حكم الشرع في رأيكم في بيع التصريف وبيع البضاعة المشتراة من الخارج قبل أن تصل إلى المحل؟
الجواب
هذان سؤالان في سؤال واحد: السؤال الأول: ما حكم بيع التصريف؟ وصورته أن يقول: بعت عليك هذه البضاعة، فما تصرف منها فهو على بيعه، وما لم يتصرف فرده إليَّ، وهذه المعاملة حرام؛ وذلك لأنها تؤدي إلى الجهل ولابد، إذ أن كلاً من البائع والمشتري لا يدري ماذا يتصرف من هذه البضاعة، فتعود المسألة إلى الجهالة، وقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه: (نهى عن بيع الغرر) وهذا لا شك أنه من الغرر.
ولكن إذا كان لابد أن يتصرف الطرفان هذا التصرف فليقل من له السلعة: خذ هذه وبعها بالوكالة، وليجعل له أجراً على وكالته، فيحصل بذلك المقصود للطرفين، فيكون هذا الثاني وكيلاً عن الأول بأجرة ولا بأس بذلك.
أما بيع السلع قبل أن تصل: فهذا أيضاً لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم، فلا بد أولاً من حيازتها ثم بعد ذلك يبيعها، أما أن يبيعها وهي في بلد آخر ولا يدرى هل تصل سليمة أو غير سليمة فإن هذا لا يجوز.
فإن قال قائل: المشتري رضي بما تكون عليه السلع سواء نقصت أو لم تنقص.
قلنا: ولو رضي بذلك؛ لأنه قد يرضى بهذا عند العقد طمعاً في الربح، ثم إذا حصل ندم وتأسف ربما يحصل بينه وبين البائع نزاع، والشرع -ولله الحمد- قد سدَّ كل باب يؤدي إلى الندم وإلى النزاع والخصومة.
وكذلك أيضاً: لو تلفت قد يحصل نزاع بين الطرفين.
فالمهم أن هذا لا يجوز -بيع السلع- حتى تصل إلى مقرها عند البائع، ثم يتصرف فيها.(54/16)
الفرقة الناجية والطائفة المنصورة وحكم التفريق بينهما
السؤال
هل مسألة الفرقة الناجية والطائفة المنصورة من أصول الدين التي يوالى ويعادى عليها؟ وهل الذي يفرق بين الفرقة الناجية والطائفة المنصورة يكون مبتدعاً؟
الجواب
المعروف عند أهل السنة أن الفرقة الناجية هي المنصورة إلى قيام الساعة، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية: أما بعد فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة، فـ الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة وصفان لموصوف واحد ولا فرق بينهما.
وهذه المسألة ليست من المسائل الكبيرة التي يعادى من أجلها ويوالى من أجلها، إذا اختلف فيها فهم رجلين، فالواجب على كل إنسان يخالف غيره أن يبحث معه بحثاً هادئاً يقصد به الوصول إلى الحق، ثم إذا بقي كل منهم على ما يرى فأمره إلى الله، سوف يحاسبه الله عز وجل على نيته، ولكن نحن لا نلزم غيرنا بما نرى؛ لأننا إذا ألزمنا غيرنا بما نرى فقد وضعنا أنفسنا في غير موضعها؛ وضعناها في مرتبة العصمة لنا والخطأ لغيرنا، وهذا مذهب خطير؛ لأنه لا أحد يقبل قوله في كل حال إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيف يليق بالإنسان العاقل أن يحاول إلزام غيره برأيه ثم لا يقبل أن يلزمه غيره برأيه؟! أما مسألة التفريق بين الفرقة الناجية والطائفة المنصورة فأرى أن الخلاف في هذه المسألة لا يصل إلى البدعة، بل يجب أن يناقش فيها المخالف مناقشة هادئة، وسوف يتضح الحق إذا استعمل الطرفان أدب الخلاف وكان الحق مطلوباً للطرفين كليهما.(54/17)
حكم من توضأ وصلى الفجر وعليه حدث أكبر خشية فوات الجماعة
السؤال
في اللقاء الشهري الماضي سئلت عن إنسان صلى الفجر وهو عليه حدث أكبر، فخشي أن تفوته صلاة الجماعة فتوضأ ثم صلى، فلما سئلت في ذلك قلت: الأولى والأحرى أن يعيد الصلاة، فهل معنى قولك (الأولى والأحرى) أنه لا يلزمه إعادة الصلاة على سبيل الوجوب؟
الجواب
الصحيح أنه إذا فعل ذلك عن جهل فإنه يعذر بذلك، كما عذر النبي صلى الله عليه وسلم المسيء في صلاته ولم يأمره بقضاء ما فات من الصلوات، وكما عذر المرأة التي استحيضت وكانت تترك الصلاة، وكما عذر عمار بن ياسر حينما تمرغ في الصعيد يظن أن هذا هو الواجب عليه في التيمم، والشواهد على هذا كثيرة.(54/18)
حكم انتساب الرجل إلى غير أبيه من أجل الحصول على الجنسية أو غيرها
السؤال
هناك قضية تحدث الآن كثيراً وخصوصاً بين دول الخليج خاصة، وهي أنه يكون أحد أفراد هذه البلاد ثم يذهب فيتحصل على جنسية أخرى من إحدى دول الخليج ولكن ليست باسمه ولا باسم أبيه، وإنما بإضافته إلى عمه كأحد أولاده أو إلى خاله أو إلى أحد أقاربه، فيحصل بذلك على تلك الجنسية وكل ما يترتب عليها من رواتب وغير ذلك من مصالح، مع أنه هنا لديه جنسية ولديه أوراقه، وليس عنده أي مشكلة إلا أنه يفعل ذلك للحصول على بعض المصالح المادية، ولا يخفى على فضيلتكم خطورة الادعاء لغير الوالد وما ورد في ذلك من النهي الخطير، فما حكم هذا العمل؟
الجواب
هذا العمل محرم، ولا يحل للإنسان أن ينتسب إلى غير أبيه؛ لأنه يترتب عليه الكذب، ويترتب عليه الميراث، ويترتب عليه المحرمية، ويترتب عليه كل ما يترتب على النسب، ولهذا جاءت النصوص بالوعيد على من انتسب لغير أبيه، وهذا العمل أيضاً من كبائر الذنوب بل يجمع بين كبيرتين: وهما الكذب لأكل المال بالباطل، والانتساب إلى غير أبيه.
والواجب على الإنسان أن يعود إلى الحق في هذه المسألة، وأن يمزق التابعية التي ليست حقيقية، هذا الواجب عليه، وإني لأعجب أن يقدم الإنسان على هذا العمل المحرم من أجل طمع الدنيا، وقد قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً} [الإسراء:18] فأرجو منك أن تبلغ هذا الأخ أنه يجب عليه أن يمزق هذه التابعية التي ليست حقيقية، وعفا الله عما سلف، وما أخذه بهذه التابعية من الدراهم فإن الله تعالى يقول: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:275] يقول هذا في آكل الربا، وما دونه من باب أولى، لكن يجب عليه أن يتلف التابعية التي ليست حقاً.
السائل: يا شيخ! وإذا لم يترتب عليها آثار في المحرمية والميراث؟ الشيخ: شرعاً يترتب عليها، فمثلاً: إذا انتسبت إلى عمي على أنه أبي صار أولاده إخوة لي، هذا لازم ولابد من ذلك.
السائل: لكن يقول: الناس الآن قد يعلمون الحقيقة؟ الشيخ: لو علموا الحقيقة الآن لا يعلمونها في المستقبل، ثم هو كذب ومن كبائر الذنوب، كيف يستمر الإنسان على شيء من الكذب وكبائر الذنوب.(54/19)
حكم صلاة الإمام إذا صلى بالناس على غير وضوء وحكم صلاة المأمومين
السؤال
إذا كان إنسان صلى بمسجده إماماً وهو ليس على طهارة، فما حكم صلاة المأمومين؟ وهل تلزمهم الإعادة؟ وهل هو آثم بسبب صلاتهم؟
الجواب
إذا صلى الإنسان إماماً وهو على غير طهارة فإن كان متعمداً فهو آثم، ويجب عليه أن يعيد صلاته، وأن يتوب إلى الله ويستغفره، وإذا كان جاهلاً مثل أن يكون أكل لحماً ولا يدري أنه لحم إبل ثم تبين له بعد الصلاة أنه لحم إبل فليس عليه إثم، لكن عليه إعادة الصلاة؛ لأنه صلى بغير وضوء.
وكذلك إن كان ناسياً كما لو كان قد أحدث ونسي أن يتوضأ ثم صلى ثم ذكر؛ فإنه لا إثم عليه، لكن يجب عليه أن يتوضأ ويعيد الصلاة.
أما بالنسبة للمأمومين فليس عليهم إعادة صلاة أبداً، ولا إثم عليهم؛ لأنه ليس لهم إلا الظاهر، وهذا الرجل صلى بهم إماماً على أنه متطهر، وأنه ليس فيه مانع من صلاته، فهم معذورون؛ لأنهم قاموا بما يجب عليهم وليس عليهم شيء، حتى لو فرض أنه ذكر في أثناء الصلاة أنه محدث فإنه ينصرف ويقول لبعض المأمومين: أكمل بهم الصلاة.
ويكملون الصلاة التي ابتدءوها مع إمام محدث، ولا شيء عليهم.(54/20)
حكم غيبة الفاسق
السؤال
ما حكم غيبة الفاسق؟
الجواب
غيبة الفاسق محرمة؛ لأن الفاسق من المؤمنين، ولا يحل للإنسان أن ينتهك عرض أخيه المسلم، والدليل على أن الفاسق من المؤمنين قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178] المراد بأخيه المقتول: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة:178] فجعل المقتول أخاً للقاتل، ومعلوم أن القاتل قد فعل كبيرة من كبائر الذنوب العظيمة التي قال الله عنها: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء:93] وقال تعالى في الطائفتين المقتتلتين: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9] إلى قوله: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9] إلى أن قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10] .
ومعلوم أن اقتتال المؤمنين بعضهم مع بعض كفر، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) ، وإذا تبين أن الفاسق لم يخرج من الإيمان -وإن كان ناقص الإيمان- فإنه لا يجوز اغتيابه إلا إذا كان في ذلك مصلحة، فلا بأس من أن يقال مثلاً: فلان يفعل كذا وكذا تحذيراً مما صنع، وإن لم يكن في ذلك مصلحة فالأصل أن عرضه محتاط؛ لأنه من المؤمنين وقد قال الله تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12] .(54/21)
كيفية جمع المصلي بين الصلاة خلف سترة والصلاة في الصف الأول
السؤال
رجل دخل المسجد قبل إقامة الصلاة، وأراد أن يصلي تحية المسجد خلف سترة، مع العلم أنه لو صلى خلف السترة يفوت عليه الصف الأول، فهل يصلي خلف السترة، أو يصلي في الصف الأول؟
الجواب
إذا كان يفوت عليه الصف الأول فليتقدم إلى الصف الأول لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يقدروا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا) ، فليتقدم إلى الصف الأول والسترة خفيفة: (إذا صلى أحدكم فليستتر ولو بسهم) يمكن أن يضع الإنسان سواكه ويكون سترة.(54/22)
حكم شرب الدخان والحث على نصح المدخنين باللطف والرفق
السؤال
لا يخفى مدى انتشار الدخان المحرم في كل مكان في العمل وفي البيت وفي الأماكن العامة، السؤال: هل يجوز الجلوس معهم؟ وإذا كان المدخن في منزلك أو في مجلس عام فهل تتركه وتخرج؟
الجواب
كما ذكر الأخ أن الدخان حرام للأدلة العامة على تحريمه، وهو ليس فيه نص عن الرسول بعينه؛ لأنه لم يحدث إلا أخيراً، لكن قواعد الشريعة عامة، والإشارة في بعض النصوص إلى تحريمه قاضية بتحريمه، فإذا صار إلى جنبك مدخن وأراد أن يدخن فانصحه بلطف ورفق.
قل له: يا أخي! هذا حرام ولا يحل لك.
وفي ظني أنك إذا نصحته بلطف ورفق أنه سوف ينزجر، كما جرب ذلك غيرنا وجربناه نحن أيضاً، فإن لم ينته عن شرب الدخان فالواجب عليك أن تفارقه لقوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [النساء:140] ولكن هذا في الأماكن العامة، أما إذا كان في مكان الوظيفة ونصحته فلم ينته فحينئذٍ لا حرج عليك أن تبقى؛ لأنه ضرورة، ولا تستطيع أن تتخلص منه.
فهل يمكن أن نقول: إن الإنسان إذا كان السوق فيه نساء متبرجات ورجال يشربون الدخان فلا تذهب للسوق لقضاء حاجتك؟ لا نقول هذا، إذاً: فالشيء الذي يضطر الناس إليه وهو من الأماكن العامة التي لا يمكن التخلص منها -وإن كان فيه معصية- لا إثم عليهم في ذلك، لكن عليه أولاً أن ينصح صاحب المعصية لعل الله أن يهديه على يديه.(54/23)
حل إشكال حديث ابن عباس في جمع الرسول للصلاة من غير خوف ولا سفر
السؤال
كيف توجه حديث ابن عباس في صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، من غير خوف ولا سفر) ؟
الجواب
نعم، (جمع في المدينة بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، من غير خوف ولا مطر) ، وهذه رواية أصح من رواية: (ولا سفر) ؛ لأن قوله: (ولا سفر) يغني عنه قوله: (في المدينة) ، وعلى كل حال فإن هذا الإشكال الذي أوردته أورده الناس على ابن عباس رضي الله عنهما فقالوا: (ما أراد إلى ذلك؟ قال: أراد ألا يحرج أمته) أي: لا يلحقها حرج بترك الجمع.
فمتى كان في ترك الجمع حرج فإنه يجوز الجمع، أما إذا لم يكن هناك حرج فإن الجمع حرام ولا يجوز؛ لقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103] ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وقت هذه المواقيت وحدد الظهر من كذا إلى كذا والعصر كذلك، والمغرب والعشاء والفجر، فمن قدم شيئاً على وقته أو أخر شيئاً على وقته بغير عذر شرعي فإنه آثم ولا تقبل منه الصلاة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) .
ولا حجة في هذا الحديث لمن أجاز جمعاً بدون حاجة؛ لأن ابن عباس وضح هذا فقال: (أراد ألا يحرج أمته) ، لو قال: أراد أن يوسع لأمته، لكان فيه احتمال أن يكون مراده أن الجمع جائز وتركه أفضل، لكن لما قال: (أراد ألا يحرج أمته) ، علمنا أن المراد بذلك ما إذا كان في ترك الجمع حرج ومشقة.(54/24)
مدى استفادة الذين لا يستطيعون الحضور إلى الدروس من استماعهم للأشرطة المسجلة
السؤال
هناك بعض الشباب الذين عرفوا طريق الهداية إلى الله عز وجل وهم راغبون في طلب العلم، ويريدون صراحة الحضور عند المشايخ حتى يقرءوا عليهم كتباً في العقيدة وكذلك في الحديث، لكنهم لا يستطيعون لظروف أعمالهم وهم في منطقة نائية لكنهم يكتفون بالأشرطة، فهل تكفيهم عن الحضور عند العلماء؟ وهل يكون طالب علم كغيره، أم لا؟ حفظكم الله.
الجواب
أما كونهم تكفيهم فلا شك أنها تكفيهم عن الحضور إلى أهل العلم إذا كان لا يمكنهم الحضور، وإلا فإن الحضور إلى العلماء أفضل وأحسن وأقرب للفهم والمناقشة، لكن إذا لم يمكنهم فهذا يكفيهم للضرورة.
ثم هل يمكن أن يكونوا طلبة علم وهم يقتصرون على هذا؟ نقول: نعم.
يمكن إذا اجتهد الإنسان اجتهاداً كثيراً كما يمكن أن يكون عالماً إذا أخذ العلم من الكتب، لكن الفرق بين أخذ العلم من الكتب والأشرطة وبين التلقي من العلماء مباشرة: أن التلقي من العلماء مباشرة أقرب إلى حصول العلم؛ لأنه طريق سهل تمكن فيه المناقشة، بخلاف المستمع أو القارئ فإنه يحتاج إلى عناء كبير في جمع أطراف العلم والحصول عليه.
السائل: وهل يؤثر الاكتفاء بالأشرطة في معتقدهم؟ الشيخ: يؤثر في معتقدهم إذا كانوا يستمعون إلى أشرطة بدعية ويتبعونها، أما إذا كانوا يستمعون إلى أشرطة من علماء موثوق بهم فلا يؤثر على معتقداتهم بل يزيدهم إيماناً واحتساباً واتباعاً للمعتقد الصحيح.(54/25)
لقاء الباب المفتوح [55]
افتتح الشيخ رحمه الله اللقاء بذكر شروط الحج، وأنه لا يجب إلا على: المسلم، البالغ، العاقل، المستطيع، وتحدث عن كل شرط بما يوضحه، وفي الشرط الخامس قسم الاستطاعة إلى قسمين: بدنية، ومالية، وذكر ضمن شرحه لهذا الشرط نصيحة وتحذيراً في شأن الدين من أجل الحج.(55/1)
شروط الحج
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو اللقاء الثاني من لقاءاتنا الأسبوعية، والذي يتم في يوم الخميس من كل أسبوع، وهذا اليوم هو اليوم العاشر من شهر ذي القعدة عام (1414هـ) .
نستهل هذا اللقاء بمقدمة نتحدث فيها عن شروط وجوب الحج، فنقول: يجب الحج على كل مسلم، حر، بالغ، عاقل، مستطيع.(55/2)
الإسلام
فأما المسلم فضده الكافر، فلا يجب عليه الحج، وليس معنى قولنا: لا يجب الحج على الكافر أنه لا يعاقب على تركه، وإنما معناه: ألا نأمره به؛ لأننا نأمره أولاً أن يسلم، ثم بعد ذلك نأمره ببقية شرائع الإسلام، أما في الآخرة فإنه يعذب ويعاقب عليه، ولهذا يتساءل أصحاب اليمين عن المجرمين: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر:42-46] فذكروا الصلاة مع أن الصلاة لا تلزمهم إلا إذا أسلموا.(55/3)
الحرية
أما الحر فضده الرقيق المملوك، فلا يجب عليه الحج لأمرين: الأول: لأنه ليس عنده مال، إذ أن ما بيده من المال لمالكه.
الثاني: أنه مرهون لسيده في الواقع ولا يملك نفسه، فلا يستطيع أن يحج؛ لأنه مملوك لسيده.(55/4)
البلوغ
البالغ ضد الصغير، فلا يجب عليه الحج، كما أنه لا يجب عليه سائر العبادات؛ لأنه مرفوع عنه القلم، لكن لو حج الصبي فإنه يصح منه ولا يجزئه، فإذا بلغ أدى فريضة الإسلام.
وهنا ربما نتساءل: هل الأفضل في أوقاتنا هذه أن نحجج أولادنا الصغار، أم لا؟ نقول: الأفضل ألا نحججهم في هذه الأوقات؛ لأنه يحصل بذلك مشقة عظيمة على الطفل، وإشغال أبيه عن إتمام مناسكه، والمشقة مدفوعة ومرفوعة، فإن هذا ليس واجباً حتى نقول: نتحمل ونصبر، وإشغال الأب ينافي كمال حجه، والأب جاء ليحج حجاً كاملاً ويعتمر عمرة كاملة، وإذا كان مشغولاً بهؤلاء الأطفال ألهاه ذلك عن كمال حجه وعمرته.
أما في أيام السعة فإن النبي صلى الله عليه وسلم سألته امرأة حين رفعت إليه صبياً وقالت: (ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر) لكن في أيامنا هذه حيث الزحام الشديد الذي يكاد الرجل القوي أن يتعب منه، بل ربما يهلك بعض الناس، فإننا لا نرى أن يحجج الإنسان أطفاله، بل يريحهم ويستريح من عنائهم وتعبهم.(55/5)
العقل والاستطاعة
العاقل ضده المجنون، فالمجنون لا يجب عليه الحج، ولا يصح منه؛ لأنه فاقد الوعي ولا نية له.
وأما المستطيع، فالاستطاعة نوعان: استطاعة بالبدن، واستطاعة بالمال، فمن لم يكن مستطيعاً بماله فإنه لا يلزمه الحج كالفقير، والمدين، وما أشبههما، ولهذا نُطمئن المدينين بأنه لا حج عليهم، ولم يفرضه الله عليهم، وهم حتى الآن لم يكونوا أهلاً لفريضة الحج عليهم، ونقول: لا تقلقوا، أليس الرجل الفقير لا تلزمه الزكاة؟
الجواب
بلى.
لا تلزمه الزكاة، ومع ذلك لا يقلق، ولا يقول: ليتني كنت غنياً حتى أؤدي الزكاة، وكذلك أيضاً الإنسان الذي لا يستطيع الحج لوجود دين عليه، نقول له: لا تقلق يا أخي، حتى الآن لم تكن أهلاً للفريضة، ولو مت للقيت الله عز وجل غير آثم؛ لأنها لم تجب عليك، ولكن مع الأسف أن بعض الناس اليوم يرتكبون خطأ، فتجده مغرقاً بالدين، وربما يكون دينه حالاً فيذهب ويحج، مع أن الحج في هذه الحالة غير واجب عليه، فيأتي شيئاً غير واجب، ويدع شيئاً واجباً، والريال أو الدرهم الذي تنفقه في الحج أنفقه في قضاء الدين فهو خير لك.
والدين ليس بالأمر الهين حتى يتهاون به الإنسان، فإنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه) وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم إليه ميت وعليه دين ولم يخلف قضاءً امتنع من الصلاة عليه ولم يصل عليه، وسئل عن الشهادة -يعني: عن الرجل يقتل في الجهاد شهيداً- هل يكفر عنه بالشهادة؟ فقال: (نعم، وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدين، فإن جبريل قال لي ذلك) .
فالشهادة على فضلها لا تكفر الدين، لهذا يجب على الإنسان ألا يتهاون به، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يرشد الفقير الذي قال: (ليس عندي مهر فلم يقل له: استلف للمهر، وإنما قال له: التمس ولو خاتماً من حديد، قال: لا أجد.
قال: هل معك شيء من القرآن؟ قال: نعم.
قال: اذهب فقد ملكتها بما معك من القرآن) فلم يأذن له ولم يرشده إلى أن يستدين من أجل أن يتزوج مع أن الزواج واجب على الإنسان إذا كان ذا شهوة، ويخاف على نفسه.
فالذي أرجوه من إخواني أن يحرصوا غاية الحرص على إبراء ذممهم وعدم إشغالها بالدين، فإن ذلك من السفه في التصرف، ومن الخطأ في الناحية الدينية، ولا ينبغي للإنسان أن يستدين سلفاً أو غير سلف إلا إذا كانت هناك ضرورة أو شيء لا بد منه، أو إنسان يعلم أنه سيوفي عن قرب، كرجل يحتاج في أثناء الشهر شيئاً ويعلم أنه في آخر الشهر سيحصل على الراتب مثلاً ويوفي دينه، فهذا أمر سهل.
أما الاستطاعة بالبدن في الحج: فأن يكون الإنسان قادراً على أداء الحج بلا مشقة شديدة، فإن كان عاجزاً نظرنا؛ إن كان عجزه يرجى زواله، كإنسان جاء في وقت الحج وهو مريض مرضاً عادياً، فلينتظر حتى يبرأ ويحج، وإن كان عجزاً لا يرجى زواله كمرض السرطان مثلاً -نسأل الله لنا ولكم السلامة- فهنا نقول له: استنب من يحج عنك ما دام عندك المال، فيوكل شخصاً يحج عنه وتبرأ ذمته بذلك إذا حج عنه.
هذا ما أردنا أن نتكلم عليه حول هذا الموضوع، ونسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من دعاة الحق وأنصاره، ونسأله تعالى أن ينصر إخواننا المسلمين في كل مكان على أعدائهم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تنبيه: بالنسبة للسلام هل هو مشروع أن يسلم الإنسان وهو حاضر؟ وهل كان الصحابة إذا أراد أحد منهم أن يسأل الرسول عليه الصلاة والسلام عن شيء قال: السلام عليك يا رسول الله، ثم يسأل؟ الجواب: لا.
ولهذا لا حاجة للسلام لأن المسلم معنا، وإنما يسأل، فلا حاجة إلى أن يستفتح سؤاله بالسلام.(55/6)
الأسئلة(55/7)
حكم المعانقة والتقبيل عند الملاقاة
السؤال
انتشرت بين المسلمين في هذه الأزمنة بعض العادات مثل المعانقة والتقبيل عند الملاقاة، فما حكم ذلك؟
الجواب
لا أصل للمعانقة أو التقبيل عند الملاقاة، إلا إذا كان لها سبب كقدوم من سفر ونحوه، وكلنا نعلم أن أشد الناس محبة هم الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وإن أحق الناس بالاحترام هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا لاقوه لا يقبلونه، لا يقبلون رأسه ولا يديه ولا شيئاً من جسده -كالأكتاف مثلاً- إنما كانوا يصافحونه، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم: (سئل عن الرجل يلقى أخاه أينحني له؟ قال: لا.
قالوا: أيعانقه ويلتزمه؟ قال: لا.
قالوا: أيصافحه؟ قال: نعم) هذا هو المشروع.
وما ذكره السائل من أنه في عصرنا هذا أصبح الناس يتخذون التقبيل بدلاً عن المصافحة فهو حق، وما أكثر الناس الذين يقابلوننا فيأخذون برءوسنا لتقبيلها، ثم قد يصافحون وقد لا يصافحون، والسنة أن تصافح، وأما تقبيل الرأس فإن كان لسبب كما أشرنا آنفاً فهذا مما جاء في السنة كقدوم الغائب، وإن كان بغير سبب فإنه من الأمور المباحة، إذا كان الذي تقبل رأسه أهلاً لذلك؛ لكونه نافعاً للمسلمين بماله أو بعلمه فلا بأس أن تقبل رأسه، وكذلك الأب والأخ الكبير ونحو ذلك.(55/8)
جواز كتابة القرآن بمداد ثم وضعه في ماء ليشرب
السؤال
بعض الناس يكتبون آيات من القرآن ويمحونها بالماء ويشربونها، وإذا اعترض عليهم قالوا: إنه كلام الله نستشفي به.
هل يجوز هذا العمل؟ أفيدونا أثابكم الله.
الجواب
هذا العمل جائز، يجوز للإنسان أن يكتب القرآن بمداد يجوز شربه، ثم يوضع هذا المكتوب في ماء ويرج ثم يشرب، وقد كان بعض السلف يفعلون هذا، ويفعلونه في الأواني كالصحون وما أشبهها، إذا فعل الإنسان ذلك فله سلف فيه، وقد يستدل لهذا بعموم قول الله تبارك وتعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82] ، فإذا استشفي بالقرآن على هذا الوجه، وجُرِّبَ وصار نافعاً فإنه يدخل في عموم هذه الآية الكريمة.(55/9)
حكم الطلاق لمجرد التغيير
السؤال
هل الطلاق جائز مطلقاً بدون أسباب تذكر، لكن رغبة في التغيير فقط، حتى وإن ترتب على هذا مفسدة عظيمة بالنسبة للمرأة؟
الجواب
الأصل في الطلاق أنه مكروه، ولو قيل: الأصل أنه محرم لم يبعد، ويدل لهذا قول الله تبارك وتعالى في الذين يؤلون من نسائهم قال: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:226-227] وختم الآية بهذين الاسمين: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:227] وقوله: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة:227] يشعر بأن الله جل وعلا لا يحب هذا؛ لأن الفيئة -وهي الرجوع للمرأة بعد أن حلف ألا يجامعها- قال فيها: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:226] وهذا واضح في أن الله تعالى يحب أن يرجع هذا الذي آلى، وأما إن عزم الطلاق فإنه يشعر بأن الله تعالى يكره ذلك لقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:227] .
ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) وهذا الحديث ليس بصحيح لكنَّ معناه صحيح، أن الله تعالى يكره الطلاق ولكنه لم يحرمه على عباده للتوسعة لهم، فإذا كان هناك سبب شرعي أو عادي للطلاق صار ذلك جائزاً، وعلى حسب ما يؤدي إليه إبقاء المرأة إن كان إبقاء المرأة يؤدي إلى محظور شرعي لا يتمكن رفعه إلا بطلاقها فإنه يطلقها، كما لو كانت المرأة ناقصة الدين أو ناقصة العفة وعجز عن إصلاحها، فهنا نقول: الأفضل أن تطلق، أما بدون سبب شرعي أو سبب عادي فإن الأفضل ألا يطلق، بل إن الطلاق حينئذٍ مكروه.(55/10)
الصلاة خلف إمام مبتدع
السؤال
هل تصح الصلاة خلف إمام مسجد يقول: إن القرآن مخلوق، وإن صاحب الكبيرة مخلد في النار؟
الجواب
نقول: كلما كانت الصلاة خلف إمام أتقى لله فهي أفضل، فإذا كانت خلف مبتدع نظرنا؛ إن كانت بدعته مكفرة فإن الصلاة خلفه لا تصح؛ لأنه كافر، والكافر لا صلاة له ولا إمامة، وإن كانت بدعته مفسقة فإن الأولى ألا يصلى خلفه، لما في ذلك من غروره بنفسه إذا رأى الناس يصلون خلفه، وكذلك اغترار الآخرين بصلاة هذا الرجل خلفه، ولا سيما إن كان هذا الرجل ممن يشار إليه فإنه لا يصلى خلفه -ولو كانت بدعته مفسقة- لئلا يغتر الناس بصلاة المسلمين خلفه؛ فيكون ذلك سبباً في وقوعهم في شيء من بدعته.(55/11)
الصلاة التي يشرع فيها التورك
السؤال
هل التورك يكون في الصلاة الرباعية فقط؟
الجواب
التورك في التشهد الثاني من كل صلاة فيها تشهدان: كالمغرب والظهر والعصر والعشاء، وأما الصلاة التي فيها تشهد واحد فإنه لا يتورك فيها.
ثم التورك في التشهد الأخير الذي يعقبه السلام، فلو فرضنا أن الإنسان دخل مع الإمام في الركعة الثانية وجلس معه للتشهد الأول والتشهد الأخير، فإنه لا يتورك في تشهد الإمام الأخير؛ لأنه ليس الأخير بالنسبة له، بل يتورك في الأخير الذي يعقبه السلام.(55/12)
حكم حمل العصا
السؤال
هل ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث يدل على الاتكاء على العصا؟
الجواب
ورد حديث في فضل العصا، ولكنه حديث ضعيف، والصواب: أن حمل العصا ليس بسنة، لكن إذا كان في مكان يحتاج إلى حملها فهو سنة لدرأ الخطر، كما لو كان في أرض كثيرة الكلابِ العادِية التي تعدو على الإنسان، أو خاف على نفسه من إنسان آخر فحمل العصا، فهنا نقول: إنه مستحب للدفاع عن نفسه، أما بدون سبب فليس مستحباً.(55/13)
حكم الدعاء بما نعلم أن الله فاعله
السؤال
بالنسبة للدعاء فيما يعلم أن الله سبحانه وتعالى فاعله: كمن يدعو بالنصرة للإسلام، وقد ثبت في بعض الأحاديث أن المستقبل للإسلام فهل يجوز الدعاء في مثل هذه الأمور؟
الجواب
الدعاء بما نعلم بأن الله سيفعله لا بأس به، ولهذا نحن نقول: اللهم صل على محمد، فندعو له بالصلاة عليه، مع أن الله أخبرنا أنه يصلي عليه، فهو أمر معلوم؛ لأن الله وملائكته يصلون على النبي.
ونقول أيضاً: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة؛ آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً.
والوسيلة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو) ورجاؤه هذا إن شاء الله سيتحقق، وكذلك الدعاء بنصر الإسلام والمسلمين ليس معناه: أن الإنسان لا يؤمن بأن الله سينصر الإسلام.
لكن دعوته هذه تتضمن أن يتصف المسلمون بالإسلام الذي يستحق النصر من تمسك به؛ لأن المسلمين اليوم مع الأسف الشديد ليسوا على الطريق الذي ينبغي أن يكونوا عليه، بل ولا على السنة التي يجب أن يكونوا عليها، وكثير من المسلمين اليوم عندهم صدود عن سبيل الله، أي: أنهم صادون بأنفسهم، وصادون لغيرهم.
ما أكثر الباخلين بالزكاة، ما أكثر الشاكّين في أمر الإيمان بالله، وما أكثر الذين يغتابون عباد الله، وما أكثر الذين يأكلون لحوم الذين يأمرون بالقسط من الناس، فالمهم أن المسلمين اليوم مع الأسف الشديد على حال يرثى لها، ولو أنهم نصروا الله بنصرهم دينه لنصرهم الله كما نصر سلفهم الصالح.
كلنا يعلم أن العرب أمة ضعيفة مهينة ذليلة فقيرة قبل الرسالة، لكنهم بعد الرسالة وحين تمسكوا بالإسلام صاروا أمة عزيزة غالبة، حتى إن تاج كسرى -ملك أعظم دولة في ذلك الوقت- جيء به من المدائن إلى المدينة حتى وضع بين يدي الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهل فوق هذا العز من عز؟! لكن مع الأسف كما ترون اليوم أن المسلمين متخاذلون، ليس عندهم من القوة والعزيمة ما يدافعون به عن أنفسهم.
ولا أدل على ذلك مما نحن فيه اليوم، ففي بلاد الإسلام اليوم من تنتهك أعراضهم، وتهدم مساجدهم، وتغنم أموالهم، وتسبى ذريتهم من قبل النصارى، ونحن أمة لا نتكلم بما علينا أن نتكلم به، وما يفعل بالمسلمين اليوم في البوسنة أمر يفطر الأكباد في الواقع، فلو أن الإنسان منا تصور -لا قدر الله علينا إلا الخير- أن عدوه على أشراف المدينة ودخل المدينة، وأن صبيانه وفتيانه الصغار ينادون: جاءنا الصرب جاءنا الصرب.
ويبكون من هول ذلك المشهد، وهو قد تقطع كبده دماً لكنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً، فهل نحن نشعر بهذا الشعور الآن؟ أبداً، كل واحد منا على فراشه مع أهله، ولا كأن شيئاً يجري على إخوانه، فالنصارى ليسوا أعداء للبوسنة فقط، وليس نصارى البوسنة هم الأعداء فقط، النصارى أعداء لكل مسلم في كل بلاد الله، سواء كانوا من صرب البوسنة أم من غيرهم، لكن مع الأسف كثير من المسلمين يجهلون ذلك.
والله إن الإنسان أحياناً لا ينام سريعاً كما ينام في العادة إذا تذكر هؤلاء الإخوان المحصورين على يد هؤلاء الصرب المعتدين الظالمين.
ثم لننظر في موقف الأمم المتحدة ماذا صنعت؟ صارت أذل شيء في هذه الحرب، فالصرب يدخلون على الدبابات والأسلحة التي في حيازة الأمم المتحدة يدخلون وفيها الحرس، ثم يأخذونها يقاتلون بها المسلمين، ولا سمعنا أحداً رفع صوته مدوياً من رؤساء المسلمين ينكر هذا الفعل، فأين التناصر بين المسلمين؟! أين الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر؟! وكيف يمكن أن ننصر ونحن متخاذلون هذا التخاذل؟! فأنت إذا دعوت إلى الله بنصر المسلمين ودعوته بنصر الإسلام فإنك تدعو الله تعالى أن يهيئ المسلمين إلى حال يكونون فيها أهلاً للنصرة، فنسأل الله تعالى أن يعيد لنا عزنا ومجدنا، وأن يصلح ولاة أمور المسلمين حتى يكونوا كما أوجب الله عليهم، فالمسلمون اليوم ألف مليون أو أكثر، ومع ذلك -كما ترون- فإنها أمة ضعيفة مهينة لا تملك شيئاً من أمر نفسها، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(55/14)
الإثبات المفصل والنفي المجمل في الأسماء والصفات
السؤال
من قواعد أهل السنة والجماعة: إثبات أسماء الله عز وجل وصفاته، والنفي يكون مجملاً، فهل يمكن أن يأتي الإثبات مجملاً وأن يأتي مفصلاً؟ وإذا أمكن هذا فهل يؤدي هذا إلى الخروج عن القاعدة السابقة؟
الجواب
أولاً: أسماء الله وصفاته إذا جاءت في الإثبات فالأكثر فيها التفصيل، وشاهد هذا واضح في القرآن والسنة، تجد مثلاً قول الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر:22] إلى آخر السورة فيها أربعة عشر اسماً من أسماء الله، كل اسم يتضمن صفة أو صفتين؛ وذلك لأن صفات الإثبات كلها صفات كمال، فكلما تعددت وكثر الإخبار عنها ظهر من كمال الموصوف ما لم يكن معلوماً من قبل.
أما صفات النفي فإنها صفات نقص، نفاها الله تعالى عن نفسه، وإذا وقعت على سبيل الإجمال كانت أعظم في التعظيم، ولو جاءت على سبيل التفصيل لكان فيها شيء من الاستهزاء والسخرية.
وأضرب لكم مثلاً بما يكون في بني آدم: لو أن رجلاً قال لملك من الملوك: أنت رجل ذو سلطان قائم، أنت رجل حازم، أنت رجل قوي، أنت رجل تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، أنت رجل شديد على الكفار رحيم بالمؤمنين، أنت رجل ذو سلطة قوية، أنت رجل يخافك الأعداء.
لكانت هذه الصفات كلها مدحاً يفخر بها الملك.
لكن لو قال له: أنت ملك لست بزبال، ولا كناس، ولا منظف حشوش، ولا حلاق، ولا حجام.
وجعل يذكر صفات النقص وينفيها عن الملك؛ لكان هذا قدحاً يغضب منه الملك، فلهذا جاءت الصفات المنفية عن الله جل وعلا مجملة، مثل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65] وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} [الإسراء:111] وما أشبه ذلك، إلا أنها تذكر أحياناً بالتفصيل؛ وذلك لدفع توهم يقع من بني آدم، أو لرد فرية قالها المفترون.
فمثلاً قال الله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون:91] هذه صفة نفي خاصة؛ لكن قالها عز وجل ونفاها عن نفسه رداً على المفترين الذين قالوا: إن الله تعالى اتخذ ولداً، فالنصارى قالوا: المسيح ابن الله، واليهود قالوا: عزير ابن الله، والمشركون قالوا: الملائكة بنات الله.
أو جاءت لدفع توهم وبيان كمال، مثل قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] اللغوب: الإعياء والتعب، وهو صفة خاصة، لكن نفاها الله عن نفسه لئلا يتوهم متوهم بأن الله تعب لما خلق هذه المخلوقات العظيمة في هذه المدة الوجيزة، فنفاها عن نفسه، فصار الغالب في صفات الإثبات التفصيل، وفي صفات النفي الإجمال.
وقد يأتي التفصيل في باب النفي، كما يأتي الإجمال في باب الإثبات، كقوله تعالى: {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النحل:60] المثل الأعلى، أي: الوصف الأكمل، وهذه عامة ليس فيها تفصيل.(55/15)
واجب المسلم تجاه إخوانه المستضعفين
السؤال
ماذا نعمل الآن من أجل دعم إخواننا في البوسنة، خاصة وأن باب الجهاد لم يفتح حتى اليوم؟ وهل نوصف بالتقصير إذا متنا دون أن نجاهد أعداء الإسلام؟
الجواب
العمل -بارك الله فيك- أن يكون الإنسان مستعداً، وينوي نية جازمة أنه لو حصل دعوة للجهاد بالمال أو بالنفس فإنه يلبي ويجيب داعي الله، ويكون بهذا قد حدث نفسه بالغزو، حتى لا يموت على شعبة من النفاق.
وأيضاً: أنا أوصيكم أن تكثروا من الدعاء: أن يسلط الله سبحانه وتعالى على هؤلاء الصرب المعتدين جنداً من جنده، وأن ينزل بهم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين، وأن يشتت شملهم، ويفرق جمعهم، ويهزم جندهم، وأن يجعل بأسهم بينهم، إلى غير ذلك من الأدعية، وأن تستعينوا الله عليهم، اللهم إننا نستعينك على هؤلاء، وتدعون الله تعالى أن يثبت إخواننا في البوسنة على مقابلة هؤلاء الأعداء، ولولا أن الله سبحانه وتعالى قد ثبتهم لكانوا راحوا بالأمس، لأن سلاح أعدائهم وشراستهم أكثر بكثير مما عندهم.
إخواننا في البوسنة مجردون من السلاح كما هو معلوم، وهؤلاء عندهم من الأسلحة ما يعد الثالث أو الرابع في الدنيا كلها، اللهم ثبت إخواننا، ولا شك أن هذا إن شاء الله تعالى من كرامة الله لهم، وأن الله تعالى سيأخذ بأيديهم؛ لأن الله تعالى قال لرسوله: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49] ولكن أوصيكم بالدعاء في كل مناسبة؛ في السجود، بين الأذان والإقامة، في آخر الليل، في كل وقت، واجعلوا قلوبكم معهم، واشعروا بشعورهم أو أكثر، هم إخوانكم، ثم إنهم يواجهون اليوم قوماً كفرة من أهل الشرك والتثليث.
أما القنوت فإنه راجع لولاة الأمر، لكننا نحن نقنت فيما بيننا وبين أنفسنا فلا أحد يمنعنا من ذلك.(55/16)
شرح لفظة: (لا يسترقون) من حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب
السؤال
نريد إيضاح حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قول النبي صلى الله عليه وسلم عن السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب: (لا يسترقون.
) الحديث، فهل عموم العلاج يدخل في الحديث؟ وإذا كان لا يدخل فما الفرق بينه وبين الرقية لأن كلاً منهما سبب؟ وكيف نفهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة وغيرها أن يسترقوا من العين؟ وإذا علمنا رجلاً أصابته عين فهل نأمره بالرقية أم نرشده إلى الصبر والاحتساب؟ أرجو الإفادة وجزاكم الله خيراً.
الجواب
قوله في حديث السبعين ألفاً: (ولا يسترقون) أي: لا يطلبون الرقية من غيرهم، ولكنه عليه الصلاة والسلام أمر بالتداوي وأرشد إليه وقال: (ما أنزل الله داءً إلا وأنزل له دواء، علمه من علمه وجهله من جهله) والفرق بينهما من وجهين: الوجه الأول: أن تعلق الإنسان بالراقي أكثر من تعلقه بالتداوي؛ لأن الراقي إذا قدر الله تعالى أن ينتفع به المريض برقيته صارت العلاقة بينه وبين هذا المريض علاقة روحية، فربما يفتتن به ويقول: هذا من أولياء الله.
وما أشبه ذلك، وقد يحصل معه شيء من الشرك، ولهذا جاء بعدها: (وعلى ربهم يتوكلون) .
الثاني: أنه قد يطلب الرقية من شخص ليس أهلاً لذلك؛ لأنه لا يداوي بشيء حسي يعرف، فيرقي هذا الذي سئل بالرقية ثم يحصل الشفاء، لا بالرقية -لأنها غير شرعية- ولكن عند الرقية، فيفتتن الناس أيضاً بهذا الرجل، ويظنونه ممن تجاب دعوته، وممن يتبرك بقراءته وليس كذلك.
فلهذا قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يسترقون) ولم يقل: ولا يتداوون، وعلى هذا فالدواء مطلوب، وأما الاسترقاء فإن الأفضل تركه، لكن لو أنّ أحداً من الناس هو الذي تقدم وقرأ عليك ولم تمنعه فإن هذا لا يمنع من دخول الإنسان في الحديث؛ لأنك لم تطلب الرقية، وكذلك لو أنك رقيت على أخيك فإنك محسن إليه ولا تخرج بهذه الرقية من صفات هؤلاء السبعين ألفاً، ولهذا نقول: إن ما ورد في صحيح مسلم من زيادة وهي قوله: (ولا يرقون) زيادة شاذة ليست بصحيحة، والصواب: (ولا يسترقون) فقط، أما الرقية من العالم فلأن العالم معروف، فتطلب منه الرقية؛ لأنه إذا رقى على الإنسان فإنه ينتفع بذلك بإذن الله عز وجل، كالطبيب الذي يداوي.
أما هل نأمر الذي أصيب بالعين بالرقية، أو نأمره بالصبر؟ فنقول له: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشد إلى طريقة الشفاء من العين، حيث أمر الذي عاين أحد الصحابة أن يغتسل ويتوضأ، فيؤخذ من مائه فيصب على المصاب حتى يشفى.(55/17)
حكم من يعطي مالاً ليُحَجَّ عنه حج نافلة
السؤال
ما هو الضابط لمن يُحَجُّ عنه، خاصة أننا نجد كثيراً من المحسنين يخصص جزءاً من ماله لبعض الناس لكي يحج به، وبعضهم يصادف أن يكون عليه دين فهل لآخذ المال أن يسدد الدين من هذا المال، أم يجب عليه أن يحج به كله؟
الجواب
أما الإنسان الذي يُحَجُّ عنه، فإن السنة إنما جاءت في حج الفريضة فيمن لا يستطيع أن يحج بنفسه، ولم تأت في حج النافلة أبداً، غاية ما هنالك ما جاء في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة.
فقال: من شبرمة؟ قال: أخ لي أو قريب لي.
قال: حججت عن نفسك؟ قال: لا.
قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة) .
قد يتمسك بعض الناس بهذا الحديث فيقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسأله: هل حجه عن شبرمة فريضة أم نافلة؟ فيقال: الحج محتمل، لكن قوله: (حج عن نفسك ثم عن شبرمة) يدل على أن هذا الحج فريضة، فالاستنابة بالفريضة عند العجز جاءت بها السنة، والاستنابة في النافلة لم ترد بها السنة إطلاقاً، لكن بعض العلماء قاسها على الفريضة.
ثم إن بعض العلماء توسع في هذا وقال: يجوز للقادر أن يوكل من يحج عنه نفلاً، أما الفرض فإنه لا يجوز، أما أنا فلا أحب أن يتوسع الناس في هذا، نقول: من عنده فضل مال يريد أن يعطيه لمن يحج عنه، فليعطه لمن يحج فريضة، وتكون أنت قد ساعدت شخصاً في أداء فريضة فيكتب لك مثل أجره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جهز غازياً فقد غزا) .
وكذلك من جهز حاجاً فإنه يرجى أن يكون كالذي جهز غازياً، أي: يكتب له أجر الحج، هذا أفضل من أن نقول: خذ هذه الدراهم حج عني وأنت قادر على أن تحج بنفسك، أرأيت لو قلت لإنسان: أنا اليوم متعب فقد أديت الفريضة في صلاة الظهر ولا أستطيع أداء النافلة، فخذ هذه الدراهم وصل عني الراتبة؟! فلا شك أن هذا لا يجزئ، فلذلك ينبغي ألا نتوسع في هذه المسألة، وإنما نقول لمن كان عنده فضل مال: الأفضل أن تعين من يحج أو يعتمر ثم يكون لك أجر إن شاء الله تعالى.
وأما من أخذ للحج وعليه دين وقضى به شيئاً من دينه فلا بأس إذا أدى الحج على الوجه الذي ينبغي.(55/18)
ضعف حديث: (أقامها الله وأدامها) عند إقامة الصلاة
السؤال
نسمع من بعض الناس بعد إقامة الصلاة قولهم: أقامها الله وأدامها.
فما الحكمة في ذلك؟
الجواب
ورد في هذا حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قال المؤذن: قد قامت الصلاة قال: (أقامها الله وأدامها) لكن الحديث ضعيف لا تقوم به حجة.(55/19)
معنى: (المقام المحمود)
السؤال
هل صحيح أن المقام المحمود الذي وعده الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم هو مكان العرش كما ورد في بعض الآثار؟
الجواب
الصحيح أن المقام المحمود عام؛ كل مقام يحمده الناس فيه، ومن ذلك الشفاعة العظمى، حين يتدافع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الشفاعة، حتى تصل إليه صلى الله عليه وسلم فيشفع فيشفعه الله عز وجل، هذا هو الصحيح أنه عام.(55/20)
حكم تبييت النية في صيام النفل
السؤال
هل صيام الست من شوال ويوم عرفة يكون لها حكم صيام الفرض، فيشترط فيها تبييت النية من الليل؟ أم يكون لها حكم صيام النفل بحيث يجوز للإنسان أن ينوي صيامها ولو منتصف النهار؟ وهل يكون أجر الصيام منتصف النهار كأجر من تسحر وصام النهار إلى آخره؟
الجواب
نعم.
صيام النفل يجوز بنية من أثناء النهار، بشرط: ألا يكون فعل مفطراً قبل ذلك، فمثلاً: لو أن الإنسان أكل بعد طلوع الفجر، وفي أثناء اليوم نوى الصوم نقول هنا: صومك غير صحيح؛ لأنه أكل، لكن لو لم يأكل منذ طلع الفجر ولم يفعل ما يفطر، ثم نوى في أثناء النهار الصوم وهو نافلة فنقول: هذا جائز؛ لأنه وردت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم: وذلك حين دخل على أهله فطلب منهم طعاماً فقالوا: ليس عندنا شيء.
فقال: (إني إذاً صائم) .
ولكن الأجر لا يكون إلا من وقت النية، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) فما قبل النية فلا يكتب له أجره، وما بعده يكتب له أجره، وإذا كان الأجر مرتباً على صوم اليوم فإن هذا لم يصم اليوم كاملاً، بل بعض اليوم بالنية، وبناءً على ذلك: لو أن أحداً قام من بعد طلوع الفجر ولم يأكل شيئاً وفي منتصف النهار نوى الصوم على أنه من أيام الست ثم صام بعد هذا اليوم خمسة أيام فيكون قد صام خمسة أيام ونصف، وإن كان نوى بعد مضي ربع النهار، فيكون قد صام خمسة أيام وثلاثة أرباع؛ لأن الأعمال بالنيات، والحديث: (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال) .
وحينئذٍ نقول لهذا الأخ: لم تحصل على ثواب أجر صيام الأيام الستة؛ لأنك لم تصم ستة أيام، وهذا يقال: في يوم عرفة، أما لو كان الصوم نفلاً مطلقاً فإنه يصح ويثاب من وقت نيته فقط.(55/21)
حكم دفع الزكاة لأيتام أغنياء
السؤال
هناك أيتام أنا وليهم، توفي والدهم منذ سنوات، دخلهم الشهري من التقاعد نحو ثلاثة آلاف وخمسمائة ريال، واجتمع لديَّ خلال هذه السنوات مبالغ كبيرة، منها نحو مائة وخمسون ألفاً زكوات، فهل أمتنع عن أخذ الزكاة لهم؟ وماذا أفعل بما معي من الزكاة؟ وإذا كان لهم منزل متصدع أخذوه من الصندوق العقاري بمبلغ (مائتان وأربعون ألفاً) فهل أدفع المبلغ تبرئة لذمة الميت من هذا المبلغ؟ وإذا كان لهم أراضٍ من البلدية فهل نسورها من هذه المبالغ، أم لا؟
الجواب
أولاً: لا يحل لك أن تأخذ الزكاة لهم وعندهم ما يغنيهم؛ لأن الزكاة للفقراء والمساكين وليست للأيتام، وما أخذته مع وجود غناهم يجب عليك أن ترده إلى أصحابه إن كنت تعرفهم، وإن كنت لا تعرفهم فتصدق به عنهم بنية الزكاة عنهم؛ لأنك أخذته بنية الزكاة منهم.
وأما ما جمعت من الأموال من التقاعد فافعل ما ترى أنه أصلح؛ لقوله تبارك وتعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام:152] .
وأما دين صندوق التنمية العقارية فأنت تعرف أنه مؤجل مقسط، فتدفعه على حساب أقساطه، والميت بريء منه، إلا ما كان من الأقساط التي حلَّت قبل موته ولم يسددها، فأما التي لم تحل إلا بعد وفاة الميت فالميت منها بريء؛ لأنها متعلقة بنفس العقار، والعقار انتقل منه إلى ملك الورثة، فهم المطالبون بذلك، ولا تسدد من الزكاة؛ لأن عندهم ما يمكن أن تسدد منه.(55/22)
حكم الأخ إذا رضع من زوجة أخيه
السؤال
شخص رضع من زوجة أخيه، هل هذا الشخص الأصغر يكون محرماً لزوجات أخيه الأخريات؟ وهل يكون هذا الزوج الأكبر محرماً لزوجة أخيه الأصغر؟
الجواب
إذا رضع من زوجة أخيه صار ابن أخيه، وصارت زوجة أخيه التي أرضعته أماً له، وأما زوجات أخيه الأخريات فهذا فيه خلاف بين العلماء، يعني: زوجة الأب من الرضاع التي لم ترضع الطفل، هل تكون محرماً للراضع، أم لا؟ هذا فيه خلاف بين العلماء، يقول بعض العلماء وهم الجمهور: إنه يكون محرماً لزوجات أبيه من الرضاع.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنه لا يكون محرماً لزوجات أبيه من الرضاع؛ لأن الله تعالى قال: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء:23] وقال: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:23] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) .
فالذي نرى أن ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله أقرب إلى الصواب، وأن زوجات الآباء من الرضاع لسن محارم لأبنائهن من الرضاع، وكذلك بالعكس ابنك من الرضاع لا تكون أنت محرماً لزوجته؛ لأن الله تعالى قال: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء:23] ، هذا ما نراه في المسألة، وقد علمت رأي الجمهور أن الرضاع يؤثر في المصاهرة كما يؤثر في النسب.(55/23)
لقاء الباب المفتوح [56]
في هذه المادة تكلم الشيخ عن محظورات الإحرام التي يجب على المحرم أن يجتنبها حتى تكون أنساكه مقبولة بإذن الله تعالى، ثم بعد ذلك أجاب عن الأسئلة الواردة إليه في هذا اللقاء.(56/1)
محظورات الإحرام
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو اللقاء السادس والخمسون من اللقاءات الأسبوعية التي تتم كل أسبوع في يوم الخميس، وهذا الخميس هو اليوم السابع عشر من شهر ذي القعدة (1414هـ) وحيث أن موسم الحج قد اقترب فإن من الجدير أن يكون كلامنا فيما يتعلق بالحج والعمرة.
وقد مضى في الدرس السابق بيان من يجب عليه الحج والعمرة، أما الآن فإننا سنتكلم عما يترتب على الإحرام بالحج والعمرة، وهو الذي يسمى عند العلماء بمحظورات الإحرام؛ وذلك لأن من حكمة الله عز وجل أن جعل للعبادات شروطاً للصحة وموانع للصحة، فشروط الصحة: الشروط والأركان والواجبات، وموانع الصحة: هي المفسدات.(56/2)
الجماع
فمثلاً: الصلاة فيها موانع للصحة كالكلام في الصلاة فإنه يبطلها، والصيام له مبطلات وهي المفطرات، والحج له محظورات وهي الممنوعات حال الإحرام، وقد أشار الله سبحانه وتعالى إليها في القرآن الكريم، وجاءت السنة ببيانها كلها، ففي القرآن يقول الله عز وجل: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] الرفث: قال العلماء هو: الجماع ومقدماته من المباشرة والتقبيل وما أشبه ذلك، والسنة جاءت بتكميل هذا المحظور، وهو أن المحرم لا يحل له أن يتزوج ويُزوج ولا يخطب امرأة وهو محرم، وعلى هذا فالجماع والمباشرة لشهوة والنظر لشهوة وعقد النكاح والخِطبة كلها محرمة في الإحرام.
أولاً: الجماع؛ قال العلماء: إذا جامع الرجل في الحج قبل التحلل الأول ترتب عليه عدة أمور: الأول: الإثم لوقوعه فيما حرم الله.
الثاني: فساد نسكه هذا، فلا يجزئ عن الحج ولو كان نافلة؛ لأنه فسد.
والثالث: وجوب المضي فيه، وهذا من خصائص الحج أنه يمضي في فاسده، أما غير الحج إذا فعل الإنسان مفسداته فسد ووجب عليه أن يخرج منه، أما الحج فلو فعل الإنسان محظوراته فإنه لا يخرج منه، فنقول لهذا الرجل الذي فسد نسكه: استمر في النسك.
الرابع: قضاؤه؛ يعني قضاء هذا الحج الذي أفسده سواء كان فريضة أم نافلة.
الخامس: وجوب بدنة يذبحها ويفرقها على الفقراء؛ بدنة بالغة السن مثل التي تجزئ في الأضحية، وسالمة من العيوب التي تمنع من الإجزاء.
أما ما دون الجماع كالمباشرة ولو أنزل فيها فإنه لا يفسد بها النسك لكنها حرام، وتجب فيها الفدية، وسيأتي إن شاء الله ذكر الفدية فيما بعد.(56/3)
ما ينهى عن لبسه في الإحرام
ومن المحرمات في الإحرام ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل ما يلبس المحرم، قال: (لا يلبس القميص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف) خمسة أشياء لا يلبسها المحرم هي: القميص: وهو الثوب الذي يسمى الدرع، وهو كثيابنا التي نلبسها اليوم.
والعمامة: وهي التي تلف على الرأس ومثلها الغترة، والطاقية، بل قد ثبت في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في قصة الرجل الذي وقصته راحلته وهو واقف بـ عرفة فمات رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه، ولا تحنطوه، فإنه يأتي يوم القيامة ملبياً) .
ومعنى (لا تخمروا رأسه) أي: لا تغطوه، وانتبه لقوله صلى الله عليه وسلم: (وكفنوه في ثوبيه) فلو مات المحرم فلا نذهب إلى السوق ونأتي بخرقة نكفنه فيها، بل نكفنه في لباس الإحرام الذي مات وهي عليه، فغير المحرم معروف أنه يلف إذا مات بثلاث لفائف، لكن المحرم يكفن في إزاره وردائه ولا يغطى رأسه؛ لأنه يبعث يوم القيامة ملبياً، يعني: يقوم من قبره يقول: لبيك اللهم لبيك.
ونظيره في الجهاد: الرجل الذي يستشهد فيموت، يدفن في ثيابه، ويبعث يوم القيامة وجرحه يثعب دماً -أي: يسيل- قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللون لون الدم، والريح ريح المسك) .
والسراويلات: معروفة.
والبرانس: ثياب واسعة يكون لها شيء يغطي الرأس متصلاً بها، وأظن بعضكم قد رأى هذا النوع من اللباس، وأكثر من يلبسه أهل المغرب.
ولا الخفاف: يعني: (الكنادر) وكذلك الجوارب مثلها لا يلبسها المحرم.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يجد إزاراً فليلبس السراويل، ومن لم يجد نعلين فليلبس الخفين) فرخص النبي صلى الله عليه وسلم لمن لا يجد إزاراً أن يلبس السراويل، ولمن لا يجد نعلين أن يلبس الخفاف.
ولو أن إنساناً لبس فنيلة ليس فيها خياطة بأن تكون كلها منسوجة نسجاً فهذا حرام أيضاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم منع السراويل، وهي تستر أسفل البدن، كذلك الفنيلة تحرم؛ لأنها تستر أعلى البدن، ولو لبس إزاراً مرقعاً مخيطاً فإنه لا يحرم، وكذلك لو لبس نعالاً مخروزة فلا تحرم أيضاً.
إذاً: أريد أن أخرج من أذهانكم فكرة بعض الناس حيث يظن أن كل شيء فيه خياطة فهو حرام، وهذا ليس بصحيح، فالحرام ما حرمه الله ورسوله، وعلمتم الآن أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم في اللباس خمسة أشياء، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم ينص على المخيط أبداً.
ولهذا نقول: لو أننا عبرنا بما عبر به الرسول صلى الله عليه وسلم لكان أحسن؛ لأننا إذا قلنا: يحرم على المحرم لبس المخيط ساء فهم بعض الناس معناها، ولهذا كثيراً ما يسأل الناس إذا لبس أحدهم إزاراً مخيطاً: هل هو محرم؟ نقول: ليس بحرام فالرسول صلى الله عليه وسلم حدد خمسة أشياء فلا يحرم غير هذه الخمسة، إلا ما كان في معناها، فلو أن الإنسان لبس ساعة يد لم يكن ذلك حراماً عليه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يلبس) وعد الأشياء التي لا تلبس، وما سوى ذلك فإنه يلبس، ولو أن رجلاً تلفلف بالقميص، أي: جعله لفافة على صدره فهذا جائز وليس بحرام؛ لأنه لم ينه عن لبسه.
إذاً: يحرم على المحرم أن يلبس هذه الأصناف من اللباس، وما كان بمعناها فهو مثلها، فعليه لو أن إنساناً لبس مثلها على أكتافه لقلنا: هذا حرام؛ لأنه يشبه البرانس مثلاً أو قريب من البرانس جداً فيكون حراماً، لكن لو جعله لفافة تلفلف به، فجعل أعلاه أسفله، وجعله مثل الرداء لكان جائزاً، وتحريم هذه الأشياء الخمسة خاص بالرجال.(56/4)
الطيب
يحرم على المحرم الطيب: فلا يجوز للمحرم أن يتطيب لا في ثوبه ولا بدنه ولا بطعامه ولا بشرابه رجلاً كان أم امرأة، متى عقد الإحرام حرم عليه الطيب؛ والدليل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم في الذي وقصته راحلته، قال: (لا تحنطوه) والتحنيط: تطييب الميت؛ لأن الميت إذا مات يجعل له حنوط، يعني: أخلاطاً من الطيب، تجعل في قطن ثم توضع على عينه أو على أنفه أو مغابنه، حتى ينقل إلى قبره وهو على أحسن ما يكون من طهارة ونظافة وتطييب، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للاتي يغسلن ابنته: (اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك، واجعلن في الآخرة كافوراً) .
فهذا يدل على أننا ننظف الميت تنظيفاً تاماً، ثم نضع فيه الحنوط، ثم نلف عليه أكفانه، لكن قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تحنطوه) أي: لا تطيبوه، يدل على أن المحرم لا يطيب وهو كذلك، ودليل آخر وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تلبسوا ثوباً مسه الزعفران ولا الورس) فإن تطيب المحرم قبل أن يحرم وبقي أثر الطيب عليه بعد الإحرام فلا يضره، بل يسن للمحرم إذا اغتسل قبل أن يلبس ثوب الإحرام وقبل أن يعقد النية أن يطيب رأسه ويكثر فيه الطيب وكذلك لحيته، لقول عائشة رضي الله عنها: (كنت أرى وبيص المسك في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم) .
فالرسول صلى الله عليه وسلم كان له شعر يصل إلى كتفيه وإلى شحمة أذنيه أحياناً، وكان يفرقه فرقاً على الناصية، وفرقاً على الجانبين، ويضع فيه الطيب، وكان يكثر من الطيب، فيرى في مفارقه وبيص المسك، أي: بريقه ولمعانه وهو محرم، فإذا قال إنسان: إذا تطيبت في رأسي وتوضأت فماذا أفعل؟ لأني لو توضأت سوف أمس رأسي، وإذا مسحت رأسي سوف أمس الطيب، فهل هذا يضر؟ نقول: هذا لا يضر؛ لأنك لم تضع طيباً جديداً على بدنك بعد الإحرام، نعم لو فرضنا أن الإنسان يقصد أخذ شيء من الطيب الموجود على رأسه فيطيب به بقية بدنه فهذا حرام، أما شيء بغير قصد وإنما تتوضأ فتمس يدك الطيب، فإن هذا لا يضر.(56/5)
الزواج أو الخطبة
ومن المحرمات -أيضاً- في الإحرام: أن يتزوج المحرم النساء أو يخطب، فلو تزوج امرأة وهو محرم كان النكاح فاسداً؛ لأنه منهي عنه، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) وهذا الذي يتزوج وهو محرم عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله، فيكون مردوداً عليه.(56/6)
قتل الصيد
ومن المحرمات: قتل الصيد بعد الإحرام، لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95] والصيد: هو الحيوان الحلال البري المتوحش.
أولاً: الحيوان الحلال.
ثانياً: البري.
ثالثاً: المتوحش.
فالحيوان الحرام ليس من الصيد، فلو قتل المحرم ذئباً أو سبعاً أو حية أو ما أشبه ذلك فليس عليه شيء، والحيوان البحري لا يحرم على المحرم، فلو أحرم الإنسان بالسفينة في البحر كالذين يأتون من مصر أو يأتون من اليمن كلهم يأتون من طريق البحر، ويحرمون قبل أن يصلوا إلى جدة، فلو أنهم اصطادوا بالبحر سمكاً وهم محرمون كان هذا حلالاً.
والمتوحش هو الذي لا يألف الناس في بيوتهم، مثل: الظبا والحمام والنعام والإوز وأشياء كثيرة من أنواع الطيور والزواحف، وغير المتوحش وهو: الأهلي كالدجاج، فلا بأس أن يذبحه المحرم.(56/7)
أحوال الناس في محظورات الإحرام
إذا فعل الإنسان محظوراً في الإحرام وهو لا يدري أنه محظور يحسب أنه لا بأس به، مثل: أن يغطي رأسه؛ فيظن أنه إذا خاف من الحر جاز له أن يغطي رأسه فلا شيء عليه؛ فليس عليه إثم ولا فدية.
وكذلك لو نسي فغطى رأسه أو تطيب ناسياً فليس عليه إثم ولا فدية، لقول الله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] فقال الله: (قد فعلت) .
وإن فعل هذا متعمداً لكنه معذور؛ كرجل مريض يحتاج إلى لبس القميص فلبسه فليس عليه إثم، لكن عليه الفدية، كما قال أهل العلم، والدليل على هذا قول الله تعالى في الرأس: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] وبهذا نعرف أن فاعل المحظورات ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن يفعلها لحاجته إليها، فهذا ليس عليه إثم ولكن عليه الفدية، أو الكفارة.
القسم الثاني: أن يفعلها ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً، فهذا ليس عليه شيء، لا إثم ولا فدية، ولكن متى زال عذره وجب عليه التخلي، فإذا كان ناسياً فإنه متى ذكر يجب عليه أن يتخلى عن المحظور، وإذا كان جاهلاً فمتى علم وجب عليه أن يتخلى عن المحظور.
القسم الثالث: أن يفعلها لا لحاجة ولا لعذر من جهل أو نسيان أو إكراه، فهذا آثم وعليه الفدية فيما تجب فيه الفدية.
ونقتصر على هذا في محظورات الإحرام.(56/8)
الأسئلة(56/9)
نصيحة للشباب الذين يتهاونون بالطاعات
السؤال
فضيلة شيخنا! ما نصيحتكم لكثير من الشباب الذين قصروا في طاعة الله، وكثيراً ما نرى في أوقات الصلوات بعض الشباب -هداهم الله- يلعبون الكرة ويفحطون بالسيارات، فيعرضون أنفسهم وغيرهم للهلاك، نرجو توجيه كلمة نافعة لمثل هؤلاء الشباب، نفع الله بكم وأمتع بكم؟
الجواب
نصيحتي لإخواني المسلمين عموماً وللشباب الذين وصفت حالهم خصوصاً أن يتقوا الله عز وجل، وأن يعلموا أن هذا الدنيا دار عمل وليست دار مستقر، ومع هذا لا يدري الإنسان متى ينقل عن هذه الدنيا، فقد يصبح ولا يمسي، أو يمسي ولا يصبح، فالواجب أن يبادر بالتوبة والرجوع إلى الله عز وجل وليبشر التائب أنه إذا تاب محا الله عنه ما سبق من الإثم مهما عظم.
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68] وهذه أمهات المعاصي والعظائم: الشرك، وقتل النفس المحرمة بغير الحق، والزنا.
{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:68-70] .
فنصيحتي لنفسي أولاً ولإخواني المسلمين ثانياً المبادرة بالتوبة قبل أن يحل الأجل؛ لأنه إذا حل الأجل لم تنفع التوبة، قال الله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء:18] هذا ليس له توبة.
وهذا كلام الله عز وجل والشاهد من الواقع قصة فرعون، قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] فقيل له: {آلْآنَ} [يونس:91] يعني: أتتوب الآن: {وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91] فالحاصل أني أنصح نفسي أولاً وأتوب إلى الله مما صنعت، ثم أنصح إخواني ثانياً أن يبادروا بالتوبة قبل أن يحل الأجل ثم لا تنفع التوبة، وما أعظم الندم في تلك اللحظة! ما من ميت يموت إلا ندم، إن كان مسيئاً ندم ألا يكون استغفر، وإن كان محسناً ندم ألا يكون ازداد، كل ميت يندم: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99-100] .
فالشباب الذين أنعم الله عليهم بقوة شبابية أنصحهم أن يستغلوا هذه القوة وهذا الشباب فيما يرضي الله عز وجل وهم إذا عودوا أنفسهم على الطاعة سهلت عليهم، بل شق عليهم تركها، والكرة يمكن أن يلعبوها في وقت آخر، نحن لا نحرم عليهم الكرة إذا كانوا يلعبون من غير ترك الواجب، ومن غير الكلام المحرم، ومن غير كشف العورة، لما فيها من الراحة بعض الشيء وتقوية للبدن، والإنسان لا يمكن أن يكون دائماً في جد، فالنفس تمل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لربك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً) .(56/10)
حكم الانصراف من مزدلفة بعد منتصف الليل
السؤال
هل لي أن أنصرف من المزدلفة بعد منتصف الليل إذا كانت الحملة ستنصرف ومعها عدد من العجزة؟
الجواب
نعم.
لا بأس أن تنصرف، لكن الأولى أن تنتظر قليلاً حتى يغيب القمر؛ لأن السنة لم تقيد الانصراف بنصف الليل، لكنْ كثير من العلماء -رحمهم الله- قيدوه بنصف الليل؛ لأنه إذا مضى نصف الليل ثم دفع فقد بقي أكثر الليل في مزدلفة، لكن الوارد عن السلف كـ أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنه إذا غاب القمر دفعوا من مزدلفة، ومغيب القمر في ليلة العاشر تكون عند مضي ثلثي الليل تقريباً، فلو انتظرتم إلى آخر الليل لكان أحسن من الدفع في منتصف الليل.(56/11)
حكم الخداع والتحايل في شهادات التسنين
السؤال
فضيلة الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، عندنا ما يسمى بشهادة التسنين، وهي شهادة لتقدير عمر الشخص في حال عدم وجود شهادة الميلاد له، وتطلب شهادة الميلاد أو التسنين من الشخص في حالات كثيرة، منها: قبوله للدراسة، أو استخراج جواز سفر له أو لعلاجه أو شغله لوظيفة أو سنوات خدمته لتحديد سن الإعفاء من الخدمة، لكن بعض الناس صاروا يحتالون على ذلك، فمع أنهم يملكون شهادات ميلاد أصلية، نجدهم يستخرجون شهادات للتسنين؛ وذلك بقصد الحصول على بعض المصالح الدنيوية، كأن يزاد له في عمره قليلاً من أجل إدخاله في سن مبكرة للمدرسة، أو لأن سنه تخطى المقبول، أو لوظيفة مطلوب لها عمر محدد، وأما أغلب الناس فينقص من عمره سنوات في هذه الشهادة من أجل مصالح كثيرة، كالمنافسة مع الطلبة لدخول كلية الشرطة أو الجيش، أو الحصول على تذاكر سفر مخفضة للشباب وغير ذلك، فما رأيكم في هذه المفاسد وقد ابتلي بها خلق كثير؟
الجواب
أولاً: السلام والإنسان جالس مع إخوانه ليس بمشروع، وقد اعتاد كثير من الناس الآن إذا قدَّم السؤال وهو في نفس المكان أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله، ثم يقرأ السؤال، وكان الصحابة يجلسون مع الرسول صلى الله عليه وسلم فيسأل السائل بدون أن يقول السلام عليكم ورحمة الله.
والسلام إذا لم يكن له سبب شرعي لم يكن مشروعاً، فهنا نقول: قدموا السؤال بلا سلام إلا إذا دخل رجل وسلم ثم سأل.
أما موضوع التسنين -يعني: تقدير سنوات عمر الإنسان- فهذا يحتاج إليه من لم يكن معه شهادة ميلاد أو كان عنده شهادة ميلاد وضاعت ونسي السنة التي ولد فيها، فلا بأس أن يحدد ذلك بالتقدير؛ لأنه من القواعد الشرعية أنه إذا تعذر اليقين رجعنا إلى غلبة الظن، وأما من كان عنده شهادة ميلاد فكتمها فإنه آثم، لما في ذلك من الخداع والكذب والتحايل على أنظمة الدولة، وبالتالي أكل المال بالباطل إذا ترتب على ذلك أكل مال.
ونأسف أن يقع هذا من المسلمين اليوم؛ لأن هذا من صفات المنافقين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) وهذا خائن وكاذب؛ لأنه سيقول: ليس عندي شهادة ميلاد وهي عنده، وسيأخذ مثلاً على تلك الشهادة المقدرة بالسن مالاً يستحقه لو علم سنه، فيكون في ذلك خيانة فيما هو مؤتمن عليه، والواجب على المسلم أن يترفع عن هذا كله، وأن يعلم أن رزق الله لا ينال بمعصيته، والدليل على أن رزق الله لا ينال بمعصيته وإنما ينال بتقواه، قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2-3] .(56/12)
السنة في قضاء صلاة الليل
السؤال
فضيلة الشيخ: رجل فاتته صلاة الليل ولم يستيقظ إلا من النهار، فهل يصلي صلاة جهرية أم سرية؟
الجواب
إذا فاتت الإنسان صلاة الليل وقضاها في النهار فإنه يقضيها جهراً، وإذا فاتته صلاة النهار وقضاها وقت الليل فإنه يقضيها سراً، والدليل على ذلك السنة القولية والفعلية.
أما السنة القولية: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) والهاء تعود إلى الصلاة المنسية أو التي نام عنها، ونحن إذا صليناها نصليها كما كانت، فإذا نام الإنسان عن صلاة الفجر مثلاً ولم يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس نقول: إذا كنت في جماعة فاقرأ جهراً.
وأما السنة الفعلية: ففي حديث نوم الصحابة مع الرسول صلى الله عليه وسلم عن صلاة الفجر وكانوا في سفر ولم توقظهم إلا الشمس، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوموا من مكانهم ذلك، وقال: (هذا موضع حضرنا فيه الشيطان، ثم نزلوا فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم كما كان يصلي كل يوم) وهذا يدل على أنه جهر بالقراءة، فصارت القاعدة الآن: أنه إذا قضى صلاة ليل في نهار فإنه يجهر، وإذا قضى صلاة نهار في ليل فإنه يسر؛ لأن (القضاء يحكي الأداء) .(56/13)
حكم الغبن في البيع والشراء
السؤال
فضيلة الشيخ: إذا اشترى أحد المسلمين بضاعة من إخوانه بمقدار (2500) ريال، وهي تساوي في السوق (1500) ريال، هل يجوز أن يرفع أمره إلى المحكمة؟
الجواب
إذا اشترى سلعة بـ (2500) ريال، وهي لا تساوي إلا (1500) ريال، فإن كان البائع يعلم أن السعر (1500) ريال، ولكنه وجد هذا الرجل الغريب الذي لا يعرف الأسعار وباعها عليه بـ (2500) ، فإنه آثم ولا يحل له ذلك، وإذا علم المشتري بهذا فله الخيار، وهذا يسمى خيار الغبن؛ لأن (1000) من (2500) كثير، وأما لو كان الغبن يسيراً كـ (10%) ، فهذا لا يضر، ولا يزال الناس يتغابون بمثله.
أما إذا كان البائع لا يعلم، مثل: أن تكون هذه السلعة بـ (2500) ، ونزل السعر والبائع لا يدري بنزوله، فالبائع غير آثم، لكن حق المشتري باقٍ، وله الخيار؛ لأنه مغبون.
وبهذه المناسبة أود أن أنصح إخواني الذين يتعاطون البيع والشراء ألا يخدعوا الغريب من الناس، فبعض الناس مثلاً يأتيه صبي أو تأتيه امرأة أو يأتيه جاهل بالسعر، فيقول له: هذا بـ (100) ريال ويرفع السعر، والسعر (80) ريالاً؛ لأنه اعتاد أن أكثر الناس يماكسه وينازله حتى يصل إلى (80) ، فيأتي هذا الرجل الغريب فيقول له بمائة فيشتريها منه ويذهب مع أنه لو راجعه في السعر لنزله إلى (80) .
نقول: هذا الفعل حرام، يعني كونه يقول له بـ (100) ويأخذه هذا الرجل الغريب، نقول: هذا حرام عليه، فإذا تعلل بمنازلة الناس له ورغبتهم في التنزيل، قلنا: إذاً: لا بأس، لكن إذا رأيت الرجل سيأخذه بـ (100) وقيمته الحقيقية (80) وجب عليك حين رأيته أخذ السلعة بـ (100) دون كلام أن تخبره بالقيمة الحقيقية للسلعة، وهو سيشكر لك ذلك، فاستغلال جهالة الناس بالأسعار حرام وخيانة.
وهنا قاعدة ينبغي لنا جميعاً أن نسير عليها وهي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) فهل تحب أن أحداً يخادعك؟ لا يحب أحد ذلك، إذاً: فلا تخدع الناس، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه) سر على هذه القاعدة حتى يحصل لك الإيمان الكامل، وحتى تزحزح عن النار وتدخل الجنة.(56/14)
جبر النقص والخلل في الحج
السؤال
سماحة الشيخ: رجل حج في العام الماضي وأخل ببعض الواجبات وما دونها جاهلاً، وأراد أن يحج هذه السنة حجة متابعاً فيها لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فهل ينوي بها الفريضة أم أنها تكون نافلة، وتجبر النقص في حجه الماضي؟
الجواب
قبل الإجابة على هذا السؤال فلا بد أن نعرف الأشياء التي أخل بها في حجه، فإذا كان ترك شيئاً يبطل الحج كطواف الإفاضة وجب عليه أن يأتي به قبل أن يحج ثانية، وأما إذا كان ترك شيئاً من الواجبات التي لا يبطل الحج بتركها كالمبيت في منى مثلاً، فإن ذلك لا يبطل الحج، ولكن عليه أن يذبح شاة في مكة ويوزعها على الفقراء؛ نظراً لأن هذا الواجب له بدل، فليذبح البدل، هذا إذا كان قادراً، أما إذا لم يكن قادراً على ذبح الشاة فلا شيء عليه، وينوي أن تكون هذه الحجة الجديدة نافلة؛ لأنه قد حج الفريضة، أرأيت لو أن إنساناً ترك قول: "سبحان ربي العظيم" في فريضة كصلاة الفجر مثلاً، ثم انتهى من الصلاة فتذكر أنه ترك هذا الواجب، فليس عليه أن يعيد الصلاة لأجل ذلك، وإنما يكفيه أن يسجد للسهو.(56/15)
حكم التداوي بالمحرم
السؤال
فضيلة الشيخ: ما حكم التداوي بالمحرم؟ وهل يعتبر البنج وبعض المواد الكحولية التي توجد في بعض الأدوية من المحرم؟ وهل يستوي ذلك في ضرورة أو غير ضرورة؟
الجواب
التداوي بالمحرم لا يجوز؛ لأن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرمه عليها؛ ولأن الله لا يحرم علينا الشيء إلا لضرره، والضار لا ينقلب نافعاً أبداً، حتى لو قيل: إنه اضطر إلى ذلك فإنه لا ضرورة للدواء إطلاقاً؛ لأنه قد يتداوى ولا يشفى، وقد يشفى بلا تداوٍ.
إذاً: لا ضرورة إلى الدواء، لكن لو جاع الإنسان وخاف أن يموت لو لم يأكل جاز له أن يأكل الميتة، وأن يأكل الخنزير؛ لأنه إذا أكل اندفعت ضرورته وزال عنه خطر الموت، لكن الدواء لا تمكن الضرورة إليه كما سبق، اللهم إلا في شيء واحد وهو قطع بعض الأعضاء عند الضرورة، فلو حصل في بعض الأعضاء سرطان مثلاً، وقال الأطباء: إنه لا يمكن وقف انتشار هذا المرض إلا بقطع عضو، ومعلوم أن قطع الأعضاء حرام، لا يجوز للإنسان أن يقطع ولا أنملة من أنامله، فإذا قالوا: لا بد من قطع العضو كانت هذه الضرورة إذا تأكدوا أنه إذا قطع انقطع هذا الداء الذي هو السرطان.
أما البنج فلا بأس به، لأنه ليس سكراً، والسكر زوال العقل على وجه اللذة والطرب، والذي يبنج لا يتلذذ ولا يطرب، ولهذا قال العلماء: إن البنج حلال ولا بأس به.
وأما ما يكون من مواد الكحول في بعض الأدوية فإن ظهر أثر ذلك الكحول بهذا الدواء بحيث يسكر الإنسان منه فهو حرام، وأما إذا لم يظهر الأثر، وإنما جعلت فيه مادة الكحول من أجل حفظه فإن ذلك لا بأس به؛ لأن مادة الكحول ليس لها أثر فيه.(56/16)
حكم رد السلام والتأمين والصلاة على النبي والإمام يخطب
السؤال
فضيلة الشيخ: ما حكم رد السلام والتأمين والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم حال خطبة الإمام في يوم الجمعة؟
الجواب
السلام حال خطبة الجمعة حرام، يعني: لا يجوز للإنسان إذا دخل والإمام يخطب الجمعة أن يسلم، والرد عليه حرام أيضاً، ووجه كون ردِّه حراماً أنه كلام، وهذا خطاب شخص لا يستحق أن يرد عليه؛ لأن القاعدة أن كل من سلم في حال ليس له أن يسلم فيها فإنه لا يستحق الرد، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا قلت لصاحبك: أنصت.
يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت) مع أنك ناهٍ عن منكر، ومع ذلك يلغو -أي: يحرم- أجر الجمعة.
وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره في الخطبة فلا بأس بذلك، لكن بشرط ألا يجهر به؛ لئلا يشوش على غيره أو يمنعه من الإنصات، وكذلك التأمين على دعاء الخطيب لا بأس به بدون رفع الصوت؛ لأن التأمين دعاء.(56/17)
زيارة الأقارب وصلة الأرحام
السؤال
فضيلة الشيخ! شخص اعتاد زيارة أقاربه، وهؤلاء الأقارب عندهم بعض المنكرات في بيوتهم مثل ما يسمى بالدش، علماً بأنهم يعرفون أن حكم هذا حرام، فهل يقطع زيارتهم أو يزورهم؟
الجواب
إذا كان له أقارب فإن صلة الأقارب واجبة حتى وإن كانوا على حال لا تُرضي؛ لأن الله تعالى قال: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:14-15] ولم يقل: اقتلهما، بل قال: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] وكذلك صلة الرحم واجبة حتى مع كون القريب على حال لا ترضى، فيجب عليك أن تصلهم وإن كان عندهم الدش الذي مفسدته أكبر بكثير من مصلحته، وقد استغله أكثر الناس في المحرم، وأضاعوا به أوقاتهم وأموالهم، وفسدت به أخلاق كثير من الناس وأفكارهم.
فإن كانوا يشغلونه -الدش- على محرم وأنت حاضر فإنك لا تذهب إليهم حتى لا تشاركهم في المعصية، ومع هذا نشير على الإنسان أن يؤدي حق القريب بالمناصحة، يعني: يذهب ويناصحهم ويبين لهم أن هذا حرام -أي: مشاهدة الأشياء المحرمة حرام- حتى يؤدي ما أوجب الله عليه من نصيحتهم والإحسان إليهم.(56/18)
الاعتبار بأداء الصلاة
السؤال
فضيلة الشيخ: رجل خرج من بيته مسافراً وأدركته صلاة العصر قبل أن يخرج من البنيان أو المنطقة التي هو فيها، هل يقصر أم يتم الصلاة؟
الجواب
إذا أدركت المسافر الصلاة وهو في بلده فإن صلاها في بلده فإنه لا يقصر؛ لأنه لم يخرج، وإن خرج وفي أثناء الطريق صلاها فإنه يصليها ركعتين وإن كان قد أذن وهو في البلد، يعني: العبرة بفعل الصلاة، كما أنه لو دخل عليك الوقت وأنت في السفر ووصلت إلى بلدك قبل أن تصلي فإنك تصليها أربعاً.
إذاً القاعدة أن الاعتبار بأداء الصلاة؛ إن أديتها في سفر فاقصر، وإن أديتها في حضر فأتم.(56/19)
حكم الجمعيات الشهرية بين الموظفين
السؤال
فضيلة الشيخ: هل يجوز لمن اشترك في الجمعية الشهرية أن يحج بالمال الذي أخذه منها علماً بأنه أول من استلمها؟
الجواب
الجمعية أن يتفق الموظفون على أن يخصم كل شخص منهم من راتبه ألف ريال مثلاً، وتعطى للأول، وفي الشهر الثاني للثاني، وفي الشهر الثالث للثالث.
وهلم جراً، فهذا جائز ولا بأس به، فإذا صار الإنسان أول من أخذ فمعناه أنه ألزمه دين بما أخذ، ولكن لا بأس بأن يحج بهذا المال؛ لأنه يمكن قضاء هذا الدين ويعرف أنه متى حل أجل هذا الدين أوفاه.(56/20)
أهمية مراعاة الحكمة في الدعوة إلى الله
السؤال
فضيلة الشيخ! بعض الدعاة يرون أن نبدأ الدعوة إلى الله بأمور أخرى غير العقيدة لما يرون من انتشار الفتن والمغريات، فما رأيكم في ذلك جزاكم الله خيراً؟
الجواب
إذا كنت تدعو كفاراً فالواجب البدء بالتوحيد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن وقال: (ليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله) وأما إذا كنت تدعو مسلمين لكن عندهم بعض العقائد الفاسدة فلا تجادلهم بإنكار هذه العقائد؛ لأنهم يعتقدون أنها من الدين، ولكن حُثهم على الصلاة، على الصدقة، على الصيام، على الحج، حتى يألفوك ويطمئنوا إليك، ثم بعد ذلك بين لهم ما هم عليه من الخطأ.
فيفرق بين حال المدعو؛ لأن الكافر لو بدأته بالتوحيد وأنكر ورفض فهو كافر من الأصل، لكن هذا مسلم وأخطأ في بدعته التي ابتدعها وظنها حقاً.
إذاً: لا تبادره؛ لأنه ربما ينفر ولا يقبل منك شيئاً، لكن ادع إلى المسائل التي ليس فيها اختلاف، كمسائل الصلاة والصدقة، والصوم والحج، ثم بعد ذلك إذا اطمأنوا إليك واستأنسوا بك سهل بعد ذلك جداً أن تتعرض لما هم عليه من البدع، وتبين لهم أن البدع حرام وتطلب منهم التخلي عنها والعودة إلى السنة.(56/21)
حكم دم الفساد
السؤال
فضيلة الشيخ: امرأة حامل في الشهر الثامن، ووافق ذلك أن يكون شهر رمضان، وقد نزل منها الدم قبل أن تضع جنينها ثم وضعت الجنين بعد أربعة عشر يوماً من شهر رمضان، وذلك عن طريق عملية قيصرية، فهل تقضي الأيام التي نزل معها الدم أم لا، مع أنها كانت صائمة؟
الجواب
ليس عليها قضاء في الأيام التي صامتها قبل أن تضع الجنين؛ لأن هذا الدم ليس دم نفاس، وليس دم حيض، ويسمى هذا الدم وأمثاله عند العلماء دم فساد؛ لأن ما لا يصلح أن يكون حيضاً ولا نفاساً يكون دم فساد أو استحاضة.(56/22)
الإحرام من الميقات
السؤال
فضيلة الشيخ: هناك أناس يأتون من بلادهم قاصدين المدينة فيمرون بالميقات، فهل يلزمهم الإحرام من الميقات ويذهبون إلى المدينة محرمين، أو يذهبوا إلى المدينة دون إحرام ثم إذا رجعوا من المدينة إلى مكة أحرموا من ميقات أهل المدينة؟
الجواب
يذهبون بلا إحرام إلى المدينة؛ لأن هؤلاء لم يقصدوا مكة وإنما قصدوا المدينة، فيذهبون إلى المدينة، وإذا رجعوا من المدينة حينئذ يكونون قد توجهوا إلى مكة، فيحرمون من ميقات أهل المدينة وهي " ذو الحليفة " التي تسمى الآن " أبيار علي ".
والحمد لله رب العالمين.(56/23)
لقاء الباب المفتوح [57]
تحدث الشيخ رحمه الله تعالى عن كيفية أداء فريضة الحج، حيث عدد أنواع المناسك الثلاثة: التمتع والقران والإفراد، وأفضلها: التمتع ثم القران ثم الإفراد، وأسهبها بشيء من التوضيح والتفصيل وبيان الأحكام المتعلقة بكل واحدة منها.
ثم أجاب بعد ذلك عن الأسئلة.(57/1)
أنواع مناسك الحج
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو اللقاء السابع والخمسون من اللقاءات التي تتم في يوم الخميس من كل أسبوع، وهذا الخميس هو الرابع والعشرون من شهر ذي القعدة (1414هـ) ، وحيث إنه آخر لقاءات هذا الشهر، وآخر اللقاءات قبل موسم حج هذا العام، فإننا سنتكلم الآن على صفة المناسك.
المناسك ثلاثة أنواع: النوع الأول: التمتع.
النوع الثاني: القران.
النوع الثالث: الإفراد.
وأفضلها التمتع، ثم القران، ثم الإفراد.
فالتمتع: أن يحرم الإنسان عند الميقات بالعمرة، فإذا وصل مكة طاف وسعى وقصر، ثم حل حلاً كاملاً، وفي اليوم الثامن من شهر ذي الحجة يحرم بالحج.
أما القران: فهو أن يحرم بالعمرة والحج جميعاً عند الميقات، فإذا وصل مكة طاف طواف القدوم، وسعى للعمرة والحج، وبقي على إحرامه لا يحل منه إلا يوم العيد.
أما الإفراد: فهو أن يحرم عند الميقات بالحج مفرداً، فإذا وصل مكة طاف للقدوم وسعى للحج، وبقي على إحرامه إلى يوم العيد.
وبهذا عرفنا الفرق بين الأنساك الثلاثة، فالتمتع بين العمرة والحج يحل فيه الحاج حلاً كاملاً، وينفرد كل نسك منهما بأفعاله انفراداً تاماً عن الآخر، ففي العمرة طواف وسعي وتقصير، وفي الحج طواف وسعي وحلق أو تقصير.
أما القران: فإنه يبقى على إحرامه إلى يوم العيد وليس بين العمرة والحج حل، وليس على القارن إلا سعي واحد وطواف واحد، وهو طواف الإفاضة.
وأما طواف الوداع فهو واجب على الجميع، ولا فرق في الأفعال بين القران والإفراد؛ لأن كل واحد منهما يحرم من الميقات، وإذا وصل مكة طاف وسعى وبقي على إحرامه إلى يوم العيد، فليس بين القارن والمفرد فرق من حيث الأفعال، أما من جهة الأجر فالقارن أفضل من المفرد؛ لأنه يحصل على نسكين: حج وعمرة، ويحصل على أجر الهدي، إذ أن الهدي واجب على القارن كالمتمتع.(57/2)
كيفية حج التمتع
نسوق الآن الحج بصفة التمتع فنقول: إذا وصل الإنسان إلى الميقات فإنه يغتسل كما يغتسل من الجنابة، ويلبس ثياب الإحرام وهي بالنسبة للرجل إزار ورداءن أبيضان، إما جديدان وهو الأفضل أو نظيفان، ويتطيب في رأسه ولحيته، ولا يطيب ثوبي الإحرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تلبسوا ثوباً مسه الزعفران ولا الورس) ثم ينوي الدخول في النسك وهو العمرة، ويلبي فيقول: لبيك اللهم بعمرة، ويستمر على تلبيته، ويلبي بتلبية النبي صلى الله عليه وسلم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
فإذا وصل مكة طاف طواف العمرة، وفي هذا الطواف يسن للرجل أن يرمل في الأشواط الثلاثة الأولى ويمشي في الباقي، ويسن -أيضاً- أن يضطبع بردائه، والاضطباع: هو أن يجعل وسط الرداء تحت إبطه الأيمن وطرفيه على كتفه الأيسر، فيكون الكتف الأيمن مكشوفاً والكتف الأيسر مستوراً، وهذا الاضطباع يكون في الطواف فقط، وإذا فرغ من الطواف أزاله.
عند ابتداء الطواف يستلم الحجر الأسود ويقبله، فإن لم يتيسر استلمه وقبل يده والاستلام هو مسحه، وإن لم يتيسر استلامه أشار إليه وعندئذ يقول: باسم الله والله أكبر، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنّة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يجعل البيت عن يساره ويستمر في الطواف، وليس للطواف دعاء مخصوص لكل شوط، إلا ما يقال عند الحجر الأسود وبين الركن اليماني والحجر الأسود، يقول: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] .
فإذا وصل في الشوط الأول إلى الركن اليماني مسحه بدون تقبيل، فإن لم يتيسر له المسح لم يشر إليه؛ لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا حاذى الحجر الأسود في المرة الثانية، فإنه يكبر فقط ولا يقول: باسم الله والله أكبر.
إلخ؛ لأن ذلك إنما يكون في ابتداء الطواف فقط.
فإذا أتم سبعة أشواط تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة:125] ، وصلى ركعتين يخففهما، ويقرأ في الأولى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] بعد الفاتحة، وفي الثانية: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] بعد الفاتحة، فإذا فرغ منهما لم يجلس للدعاء ولا لغيره، بل يقوم ليخلي المكان لغيره ممن يريد أن يصلي خلف المقام.
ويتجه إلى الصفا، فإذا دنا منه قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158] يقرأها قبل أن يصعد إلى الجبل، ولا يقرأها إلا في هذا المكان فقط، إذا أقبل على الصفا أو المروة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرأها بعد ذلك.
فإذا صعد الصفا استقبل القبلة ورفع يديه ليدعو، فيكبر ثلاثاً ويقول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده) .
ثم يدعو بما أحب، ثم يقول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده) ثم يدعو المرة الثانية، ثم يقول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده) .
ثم ينزل متجهاً إلى المروة -يمشي كعادته- حتى يصل إلى العمود الأخضر وحينئذ يسعى -أي: يركض ركضاً شديداً- حسب ما تيسر له، إذا كان السعي متيسراً وكان المسعى غير مزدحم، فإذا كان مزدحماً بالساعين فليحرص على عدم إيذاء غيره، فيستمر في الركض إلى أن يصل إلى العمود الأخضر الآخر، ثم يمشي مشياً عادياً، فإذا وصل إلى المروة صعدها، واستقبل القبلة، وقال مثلما قال على الصفا هذا هو الشوط الأول.
والشوط الثاني: هو الرجوع من المروة إلى الصفا، وهكذا حتى يتم سبعة أشواط، فيكون مبتدئاً بـ الصفا منتهياً بـ المروة، فلو فرض أن إنساناً زعم أنه أكمل سعيه وأنهاه بـ الصفا، فهو إما أنه زاد شوطاً أو نقص شوطاً، فإذا فرغ من السعي قصر، بأن يقص شعر رأسه، ويكون القص من جميع الجوانب وليس من جانبين أو ثلاثة أو أربعة فقط، بل يعم جميع الرأس، وبهذا يحل من إحرامه تحللاً كاملاً ويحل له جميع محظورات الإحرام.
ويبقى متحللاً إلى اليوم الثامن من ذي الحجة، فإذا كان ضحى اليوم الثامن من ذي الحجة اغتسل وتطيب برأسه ولحيته، ولبس ثياب الإحرام وأحرم بالحج، وقال: لبيك اللهم حجاً، فإن كان في منى فهو في منى، وإن لم يكن في منى ذهب إليها وبقي فيها بقية يومه الثامن إلى أن يصلي الفجر يوم التاسع، فيصلي في منى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، خمس صلوات، ويكون قاصراً صلاته غير جامع، بل يصلي الظهر في وقتها ركعتين، والعصر في وقتها ركعتين، والمغرب في وقتها ثلاث ركعات، والعشاء في وقتها ركعتين والفجر ركعتين.
فإذا طلعت الشمس ارتحل متجهاً إلى عرفة، وإن تيسر له أن ينزل في نمرة -وهي موضع قرب عرفة وليس من عرفة - فلينزل به، وإن لم يتيسر استمر حتى يصل إلى عرفة وينزل فيها، فإذا زالت الشمس أذّن وصلى الظهر ركعتين ثم العصر ركعتين جمع تقديم؛ اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يتفرغ لاستماع خطبة إمام مسجد نمرة أو مسجد عُرنة، والاستماع الآن متيسر بواسطة الإذاعة ولله الحمد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في عرفة قبل أن يصلي الظهر والعصر، فلما فرغ أمر بلالاً فأذّن ثم أقام، فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر.
وبعد ذلك يتفرغ للدعاء والذكر وقراءة القرآن، وليحرص على الإلحاح في دعاء الله عز وجل في آخر النهار؛ لأنه موطن إجابة، فإذا غربت الشمس سار إلى مزدلفة، وفي هذا اليوم إن شاء يركب السيارة ويدعو الله سبحانه وتعالى وهو راكب على سيارته فهو أحسن إن تيسر، وإن كان بقاؤه في الأرض أخشع له وأحضر لقلبه فهو أفضل، فما كان أخشع له وأحضر لقلبه فهو أفضل، لكن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على راحلته راكباً.
فإذا غربت الشمس سار إلى مزدلفة، فإذا وصل أذّن فصلى المغرب، ثم صلى العشاء بأذان واحد وإقامتين، ثم يبقى في مزدلفة حتى يطلع الفجر، فإذا صلى الفجر جلس يذكر الله سبحانه وتعالى ويدعوه، فإن تيسر أن يكون عند المشعر الحرام -أي: عند المسجد الموجود في مزدلفة الآن- فهو أفضل، وإلا فكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وقفت هاهنا وجمع كلها موقف) أي: مزدلفة.
فإذا أسفر جداً وقبل أن تطلع الشمس سار إلى منى، حتى يصل إلى جمرة العقبة وهي آخر الجمرات مما يلي مكة، فيرميها بسبع حصيات متعاقبات يكبر مع كل حصاة، فإذا أتم سبع حصيات ذهب إلى المنحر فنحر هديه، ثم حلق رأسه، وبهذا يحل التحلل الأول، فيلبس الثياب ويتطيب، ثم ينزل إلى مكة فيطوف طواف الإفاضة ويسمى طواف الحج، ويسعى بين الصفا والمروة، وليس في هذا الطوف رمل؛ لأن الرمل إنما يكون في طواف القدوم، وليس فيه اضطباع؛ لأن الإنسان قد لبس ثيابه والاضطباع يكون بالرداء.
ثم يرجع بعد ذلك إلى منى فيبيت فيها ليلة الحادي عشر، فإذا زالت الشمس قبل أن يصلي الظهر ذهب إلى الجمرات ليرميها، فيرمي الجمرة الأولى بسبع حصيات متعاقبات، يكبر مع كل حصاة، ثم يتقدم قليلاً حتى لا يصيبه الحصى، وحتى لا يؤذيه زحام الناس، فيقف متجهاً إلى القبلة رافعاً يديه يدعو الله تعالى دعاءً طويلاً كما جاءت بذلك السنّة، وكذلك في الوسطى يفعل كما فعل في الأولى، أما جمرة العقبة فإذا رماها انصرف إلى خيمته.
فإذا زالت الشمس من اليوم الثاني عشر فعل مثلما فعل في اليوم الحادي عشر في رمي الجمرات، ثم إن شاء تعجل وخرج من منى، وإن شاء بقي إلى يوم الثالث عشر، والتأخر أفضل؛ لأنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن فيه زيادة خير، فيه زيادة المبيت ليوم الثالث عشر وزيادة الرمي، وكل هذا عمل صالح، لكن الله يسر، لعباده فمن شاء تعجل في اليوم الثاني عشر بعد رمي الجمرات، ومن شاء تأخر وهو الأفضل.
فإذا أراد أن يرجع إلى بلده فلا يخرج حتى يطوف للوداع سبعة أشواط بثيابه العادية وبدون سعي، ثم ينصرف إلى بلده.(57/3)
كيفية حج القران والإفراد
أما القران والإفراد: فكما ذكرنا أولاً أنه يطوف أول ما يقدم مكة ويسعى، ثم يبقى على إحرامه، فإذا كان اليوم الثامن خرج مع الناس وأكمل حجه، إلا أنه لا يسعى؛ لأنه قد سعى من قبل، فإن لم يكن سعى من قبل كما يفعل بعض الناس اليوم، يحرم بالحج مفرداً أو بالحج والعمرة قارناً، ثم يذهب إلى منى ولا يأتي البيت إلا يوم العيد، فمن فعل كذلك فعليه سعي بعد الطواف، أما من سعى بعد طواف القدوم وهو قارن أو مفرد فإنه يكفيه عن السعي في يوم العيد وما بعده.
هذه خلاصة أفعال الحج والعمرة، نسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم.
وليُعلم أن العبادة لا تقبل إلا بشرطين أساسيين: هما: الإخلاص لله تعالى، والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تكون المتابعة إلا إذا عرفت كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤدي المناسك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني مناسككم) وقد أخذ الصحابة عنه المناسك -ولله الحمد- ونقلوها إلى الأمة تامّة، فنسأل الله تعالى أن يجزيه عنا أفضل ما جزى نبياً عن أمته، وأن يجزي صحابته رضي الله عنهم خير ما جزى صحابياً من أصحابه، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.(57/4)
الأسئلة(57/5)
أنواع الوقفات في الحج
السؤال
كم في الحج من وقفات؟
الجواب
فيه ست وقفات: وقفة على الصفا، ووقفة على المروة، ووقفة في عرفة، ووقفة في مزدلفة، ووقفة بعد رمي الجمرة الأولى، ووقفة بعد رمي الجمرة الثانية في أيام التشريق.(57/6)
حكم الانطلاق من مزدلفة في آخر الليل
السؤال
هل يجوز للإنسان أن يدفع من مزدلفة في آخر الليل؟
الجواب
يجوز هذا لمشقة الزحام في النهار، وأما من كان قوياً لا يتأثر بالزحام فإن الأفضل أن يبقى إلى أن يصلي الفجر ويسفر جداً، ثم يدفع إلا أن يكون معه نساء، فيدفع من أجلهن فلا بأس.(57/7)
حكم رمي الجمرات الثلاث قبل زوال الشمس
السؤال
هل يجوز أن يرمي الجمرات الثلاث في يوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر قبل زوال الشمس؟
الجواب
لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرمِ إلا بعد الزوال، وقال: (خذوا عني مناسككم) .(57/8)
حكم رمي الجمرات ليلاً
السؤال
هل يجوز الرمي في الليل؟
الجواب
أما رمي جمرة العقبة يوم العيد فقد عُلم أنه يجوز أن يدفع في آخر الليل من مزدلفة، وإذا وصل إلى منى قبل أن يطلع الفجر فليرم ولا حرج عليه.(57/9)
حكم جمع رمي الجمرات الثلاث في يوم واحد
السؤال
هل يجوز أن يجمع الجمرات الثلاث في يوم واحد بمعنى أنه يؤخر رمي يوم الحادي عشر إلى يوم الثاني عشر؟
الجواب
لا يجوز ذلك، بل يجب أن يرمي كل يوم في يومه إلا لعذر، كما لو كان مكانه بعيداً في أقصى منى، ويشق عليه أن يتردد يومياً إلى الجمرات فلا بأس أن يجمع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للرعاة أن يرموا يوماً ويدعوا يوماً من أجل حاجتهم.(57/10)
حكم ترتيب أعمال الحج يوم العيد
السؤال
في يوم العيد يجب على الإنسان خمسة أشياء: الرمي، ثم النحر، ثم الحلق، ثم الطواف، ثم السعي، فهل يلزم ترتيبها على هذا النحو؟
الجواب
الأفضل ترتيبها هكذا، وإن قدم بعضها على بعض فلا حرج عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الناس يسألونه في يوم العيد في التقديم والتأخير، فما سئل عن شيء قدم أو أخر إلا قال: (افعل ولا حرج) .(57/11)
حكم الإقامة في بلد الكفار لغرض الدعوة إلى الله
السؤال
فضيلة الشيخ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين) والآن نجد مئات الآلاف من المسلمين يقيمون بين ظهراني المشركين، وقد ذهب محسنون فبنوا معاهد إسلامية هناك من أجل تعليم أبناء المسلمين أولاً والدعوة إلى الله ثانياً، فهل إذا طلب من معلم أن يذهب ويقيم هناك ليعلم أو ليدعو إلى الله هل يجوز له أن يقبل؟
الجواب
الإقامة بين ظهراني المشركين لا شك أنها ضرر، وأن الإنسان يعرض نفسه للفتنة والشر، ولكن إذا كان في الإقامة خير أكبر مثل أن يذهب هناك ليدعو الناس إلى دين الله أو ليعلم أبناء المسلمين العقيدة الصحيحة فإن هذا لا بأس به؛ لأن المصلحة هنا أكبر من المفسدة المتوقعة، على أنه يمكن أن يُحمل الحديث (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين) على أن المراد بذلك من لم يتمكن من إظهار دينه، وأما من تمكن من إظهار دينه فإنه لا يدخل في الحديث، لكن الأولى أخذه على العموم، فإذا كانت إقامته أنفع للإسلام والمسلمين فلا حرج.(57/12)
من آداب استماع القرآن
السؤال
سماحة الشيخ: في بعض السيارات تكون سماعات المسجل محاذية للأقدام، وقد توضع الأقدام والحذاء على السماعة.
والسؤال هو: عندما يشغل القرآن فهل يكون في هذا امتهان لكتاب الله تعالى؟ وهل يقاس هذا الفعل على فتواكم على من يمد أقدامه أمام كتاب الله تعالى، نرجو التوجيه والله يحفظكم؟
الجواب
إذا كانت السماعات كما ذكر تحت الأقدام أو عند حذاء الأقدام، فإنه لا يفتحه على القرآن الكريم؛ لأن كون القرآن الكريم يسمع من تحت قدم الإنسان لا شك أن فيه إهانة للقرآن، وإذا كان الإنسان لا بد أن يستمع إلى القرآن فليرفع السماعة عن محاذاة الأقدام.(57/13)
سبب عدول الخلفاء الراشدين عن حج التمتع إلى الإفراد
السؤال
لماذا عدل الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم عن التمتع إلى الإفراد، وهم من أحرص الناس على الخير؟
الجواب
عدل الخلفاء الراشدون إلى الأمر بالإفراد تأولاً منهم رضي الله عنهم، حيث رأوا أن الناس إذا تمتعوا وأخذوا الحج والعمرة في سفرٍ واحد بقي البيت ليس له من يعمره بالطواف والسعي؛ لأن الأسفار في ذلك الوقت كانت شاقة، فيصعب على الإنسان أن يتردد إلى البيت، فإذا حصل لهم عمرة وحج في سفر واحد واقتصروا على ذلك بقي البيت في بقية السنة مهجوراً، فرأوا أن الإفراد أفضل من أجل أن يبقى معموراً طوال السنة، وتأولوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من أجل أن تزول العقيدة الفاسدة التي كانت في الجاهلية، وهي أن أهل الجاهلية يقولون: لا يمكن العمرة في أشهر الحج، ويقولون: إذا انسلخ صفر، وبرئ الدبر، وعفا الأثر، حلت العمرة لمن اعتمر.
أي: لا تعتمر إلا بعد أن تمضي مدة بعد الحج، والقصد في ذلك أن يبقى البيت دائماً معموراً، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله في منسكه: إذا أفرد العمرة في سفر؛ فإن الإفراد أفضل بلا خلاف.
هكذا قال رحمه الله.
ولعله أخذه من عمل الخلفاء الراشدين، لكن في النفس من هذا شيء، فيقال: التمتع أفضل مطلقاً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر به وحتم فيه، ولم يقل: إلا من أتى بعمرةٍ من قبل، فلما لم يستثنِ عُلم أن التمتع أفضل، وأن ما ذهب إليه الخلفاء الراشدون إنما هو على سبيل التأويل، ولكن الأخذ بعموم كلام الرسول صلى الله عليه وسلم أولى.(57/14)
معنى (السلفية) وحكم الانتساب إليها
السؤال
فضيلة الشيخ جزاكم الله خيراً: نريد أن نعرف ما هي السلفية كمنهج، وهل لنا أن ننتسب إليها؟ وهل لنا أن ننكر على من لا ينتسب إليها، أو ينكر على كلمة سلفي أو غير ذلك؟
الجواب
السلفية: هي اتباع منهج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لأنهم هم الذين سلفونا وتقدموا علينا، فاتباعهم هو السلفية.
وأما اتخاذ السلفية كمنهج خاص ينفرد به الإنسان ويضلل من خالفه من المسلمين ولو كانوا على حق، واتخاذ السلفية كمنهجٍ حزبي فلا شك أن هذا خلاف السلفية، فـ السلف كلهم يدعون إلى الاتفاق والالتئام حول سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يضللون من خالفهم عن تأويل، اللهم إلا في العقائد، فإنهم يرون أن من خالفهم فيها فهو ضال، أما في المسائل العملية فإنهم يخففون فيها كثيراً.
لكن بعض من انتهج السلفية في عصرنا هذا صار يضلل كل من خالفه ولو كان الحق معه، واتخذها بعضهم منهجاً حزبياً كمنهج الأحزاب الأخرى التي تنتسب إلى دين الإسلام، وهذا هو الذي يُنكر ولا يمكن إقراره، ويقال: انظروا إلى مذهب السلف الصالح ماذا كانوا يفعلون! انظروا طريقتهم وفي سعة صدورهم في الخلاف الذي يُسوغ فيه الاجتهاد، حتى إنهم كانوا يختلفون في مسائل كبيرة، وفي مسائل عقدية، وعملية، فتجد بعضهم مثلاً يُنكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ربه، وبعضهم يقول: بلى، وترى بعضهم يقول: إن التي توزن يوم القيامة هي الأعمال، وبعضهم يرى أن صحائف الأعمال هي التي توزن، وتراهم أيضاً في مسائل الفقه يختلفون كثيراً، في النكاح، والفرائض، والبيوع، وغيرها، ومع ذلك لا يضلل بعضهم بعضاً.
فـ السلفية بمعنى أن تكون حزباً خاصاً له مميزاته ويضلل أفراده من سواهم فهؤلاء ليسوا من السلفية في شيء.
وأما السلفية اتباع منهج السلف عقيدة وقولاً وعملاً وائتلافاً واختلافاً واتفاقاً وتراحماً وتواداً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) فهذه هي السلفية الحقة.(57/15)
حكم نقل الوقف من المسجد
السؤال
فضيلة الشيخ: هل يجوز نقل الوقف على المسجد، مثل الدولاب إذا ضيّق على المسجد وإذا لم يكن للمسجد حاجة إليه؟
الجواب
نعم.
يجوز نقل الوقف إذا كان ذلك أصلح، فإذا استغني عن شيء بالمسجد كفراش أو دولاب أو غيره نقلناه إلى مسجد آخر بعينه إذا أمكن، وإن لم يمكن قمنا ببيع هذه الأشياء وأنفقنا ثمنها على المسجد، أما إذا كان من الأوقاف فإن الأوقاف هي التي تتصرف في ذلك وتفعل ما هو الأصلح.(57/16)
حكم من صلى نافلة مع من فاتته صلاة الجماعة
السؤال
رجل صلى الفجر في جماعة، ثم أتى رجل آخر تأخر عن صلاة الجماعة وطلب من الأول أن يصلي معه كنافلة ويكسب الآخر أجر الجماعة، فما حكم ذلك؟
الجواب
لا بأس إذا دخل رجل بعد صلاة الفجر أو بعد صلاة العصر وقد فاتته الصلاة أن يقوم معه آخر فيصلي معه ويتصدق عليه، فالقاعدة: أن كل صلاة نافلة لها سبب فليس فيها وقت نهي، كتحية المسجد، وسجود التلاوة، وصلاة الاستخارة في أمر يفوت قبل زوال وقت النهي، والصدقة على إنسان دخل بعد صلاة الفجر وما أشبه ذلك.(57/17)
من مات في رمضان وكان مريضاً من قبل دخول رمضان
السؤال
فضيلة الشيخ! لي أم مرضت قبل رمضان بتسعة أيام، وأخذت من رمضان خمسة أيام ثم توفيت، هل عليها صوم أم لا؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً.
الجواب
إذا كان مرضها لا يُرجى شفاؤه أطعم عنها عن كل يوم مسكيناً؛ لأن كل إنسان يأتيه رمضان وهو في مرض لا يرجى منه الشفاء فإنه يطعم عن كل يوم مسكيناً.(57/18)
حكم الترتيب بين السعي والطواف في الحج
السؤال
فضيلة الشيخ! هل يجوز السعي يوم العيد وتأخير الطواف إلى يوم الثالث عشر أو الرابع عشر أو الخامس عشر أو السادس عشر؟
الجواب
معنى السؤال أن الشخص إذا سعى للحج يوم العيد وأخر طواف الإفاضة إلى الخروج حتى يكفيه عن طواف الوداع فهل يجوز؟ نقول: لا بأس بهذا؛ لأن الترتيب بين السعي والطواف في الحج ليس بواجب، والدليل على ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم وقف يوم العيد وجعل الناس يسألونه عن التقديم والتأخير فما سُئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: (افعل ولا حرج) .
كذلك أيضاً: لو أنه أخر الطواف والسعي إلى حين خروجه فإنه لا بأس؛ لأن السعي بعد الطواف لا يمنع أن يكون آخر عهده بالبيت، لكن يجب عليه إن أخر طواف الإفاضة إلى الخروج أن ينوي به إما طواف الإفاضة فقط وإما طواف الإفاضة والوداع، أما أن ينوي به طواف الوداع فقط فإنه لا يجزئ عن طواف الإفاضة؛ لأن الذي يؤخر طواف الإفاضة الذي هو طواف الحج إلى الخروج إما أن ينويهما جميعاً فهذا له ما نوى، أو ينوي طواف الإفاضة فقط فهذا يكون طواف إفاضة ويسقط به طواف الوداع، وإما أن ينوي طواف الوداع فهذا يحصل له طواف الوداع ولكن لا يجزئه عن طواف الإفاضة وحينئذٍ يرجع وهو لم يستكمل حجه، فلينتبه لهذا.(57/19)
من وكِّل في حج فعليه فعل الأفضل
السؤال
فضيلة الشيخ! الذي ينوب عن العاجز لمرض أو وفاة في أداء المناسك، ما هي صفة ما يقوم به هذا النائب؟ وهل له أن يختار حج التمتع أو الإفراد؟
الجواب
النائب يقول: لبيك عن فلان.
ويجب على النائب أن يتمتع؛ لأن التمتع هو أفضل الأنساك، وكل إنسان وكل في شيء فالواجب عليه اتباع الأفضل، إلا إذا اختار موكله خلاف ذلك؛ لأن الوكيل مؤتمن ويجب عليه فعل الأصلح.(57/20)
حكم من وكَّل جمعية بذبح هديه
السؤال
فضيلة الشيخ: رجل حج ولم يستطع أن يذبح الهدي بنفسه، ولكنه وكل جمعية بذلك، فهل عليه شيء؟
الجواب
نقول: إن الأفضل أن يذبح الهدي بنفسه، أو يوكل مسلماً ويحضر ذبحه لأجل أن يأخذ منه شيئاً يأكله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حين أهدى مائة بعير أمر من كل بعير بقطعة فجعلت بقدر فطبخت، فأكل من لحمها وشرب من مرقها، وهذه مسألة للأسف يغفل عنها الكثيرون، وأما ما يتعلق بالإجابة على سؤال السائل: فإن الذبح يجزئ، ما دام وكل إنساناً أو جمعية معتمدة وموثوقاً بها.(57/21)
لا علاقة للنحر بالتحلل الأول
السؤال
فضيلة الشيخ: وضعت مدرسة مجلة وذكرت أن التحلل الأول لا يكون إلا بفعل ثلاثة أشياء: الرمي، والنحر، والحلق.
والتحلل الثاني: بالطواف والسعي، فما رأيكم في ذلك؟
الجواب
هذا ليس بصحيح؛ لأن النحر ليس له علاقة بالتحلل، فلو لم تنحر إلا في اليوم الثالث حللت، ولهذا لو رمى وحلق وطاف وسعى حل التحلل الأول كله وإن لم يكن ذبح الهدي؛ لأن النحر لا يجب على كل حاج، إنما يجب على المتمتع والقارن، ولهذا لم يتعلق به التحلل.(57/22)
حكم الكفارة على من قتل إنساناً خطأً ثم مات
السؤال
هناك شخصان حصل لهما حادث، ونعرف أن السائق لو عاش يعتبر عليه كفارة قتل خطأ، وتُوفي السائق فهل عليه شيء يلحق على القتل الخطأ؟
الجواب
هذا الذي قتل إنساناً خطأً ومات ليس عليه شيء؛ لأنه لم يتمكن من الفعل، وقد قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286] .(57/23)
حكم ركعتي الطواف خلف المقام والمطاف مزدحم
السؤال
فضيلة الشيخ: هل تجب صلاة ركعتي الطواف خلف المقام وإن كان المطاف مزدحماً؟
الجواب
الأفضل في ركعتي الطواف أن تكون خلف المقام، لكن إذا كان المطاف مزدحماً ووصل الطائفون إلى المقام فلا يجوز أن تصلي في المكان الذي يحتاج إليه الطائفون؛ لأن في ذلك إيذاءً لهم وتضييقاً عليهم، ويحصل لك انشغال وتشويش، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي الإنسان وهو مشغول البال، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان) ومدافعة الناس الطائفين وأنت تصلي أشد من مدافعة الأخبثين، وفي هذه الحالة نقول: صلِّ في أي مكان في المسجد، لكن الأفضل أن تجعل المقام بينك وبين الكعبة ولو كنت بعيداً.(57/24)
حكم من أخذ من عماله أجرة مكان العمل
السؤال
فضيلة الشيخ حفظك الله: شخص لديه محل خياطة واتفق هو وعماله الذين يعملون تحت كفالته بأن يأخذ منهم في نهاية الشهر مبلغاً من المال قدره خمسمائة ريال، وذلك مقابل أجرة المكان الذي يعملون فيه وهم راضون ومسرورون بذلك، فهل يجوز له ذلك؟
الجواب
هذا الفعل لا يجوز؛ لأن كون الإنسان يأتي بعمال ويجعلهم في هذا الدكان يعملون ويأخذ منهم كل شهر خمسمائة ريال أو أقل أو أكثر محرم؛ لأنه ظلم لهؤلاء العمال، فالعامل قد يحصل على خمسمائة في الشهر وقد لا يحصل، ثم فيما أظن أنه مخالف لنظام ولاة الأمر، وولاة الأمر تجب طاعتهم فيما نظّموه ما لم يكن هناك معصية.(57/25)
حكم التصوير بجهاز الفيديو
السؤال
فضيلة الشيخ: ما حكم التصوير بكاميرا الفيديو، مثل تصوير سباق الخيل وما أشبه ذلك؟
الجواب
إذا لم يكن فيه مضرة فلا بأس به، وأما تصوير سباق الخيل فقد يكون فيه مصلحة وهي الاهتمام بالخيل وركوبها، وهو أمر مشروع.(57/26)
حكم من أوصى للفقراء بثلث دخله السنوي
السؤال
رجل تُوفي وله زوجة وأخت من أبيه واثنان من أبناء أخيه، وأوصى هذا الرجل بثلث دخله السنوي أن تذبح باسمه أضحية كل سنة، وأن يوزع بقية الثلث على الفقراء والمساكين، فكيف تكون القسمة بين الورثة؟
الجواب
يخرج الثلث للوصية ويصرف فيما قاله الموصي، ثم يقسم الباقي على ورثته هكذا؛ للزوجة الربع، وللأخت من الأب النصف، والباقي لأبناء أخيه.
السائل: وإذا كان أوصى أن ينفق باقي الثلث على الفقراء والأقارب وليس له أقارب، فأين ينفق الباقي؟ الشيخ: على فقراء المسلمين.(57/27)
وجوب إعفاء اللحية
السؤال
فضيلة الشيخ: نسمع أن إعفاء اللحية سنّة فكيف يكون تاركها آثماً، علماً بأن السنة هي: ما أثيب فاعلها ولم يعاقب تركها؟
الجواب
أولاً: بارك الله فيك السنة تطلق على الواجب والمستحب، وكونها تطلق على المستحب فقط اصطلاح من الفقهاء، ولهذا قال أنس بن مالك: [من السنة إذا تزوج الرجل البكر على الثيب أقام عندها سبعاً، ثم دار]-أي: قسم بين الزوجتين- والسنة هنا بمعنى الواجب.
وسئل ابن عباس عن الرجل يصلي وهو مسافر ركعتين، فإذا صلى خلف الإمام صلى أربعاً، قال: [سنة نبيكم أو قال: تلك هي السنة] مع أن إتمام المسافر خلف من يصلي أربعاً واجب.
فإذا كان أحد العلماء عبر أنها سنة وهو من العلماء السابقين فيعني أنها واجبة، أي: أن إعفاء اللحية واجب، أما من عبَّر بأنها سنة من المتأخرين بعد الاصطلاح الذي اصطلحه الفقهاء فهو يعني أنها سنة لا يأثم تاركها، أي: أن إعفاء اللحية سنة لا يأثم به، لكن هذا القول مرجوح وضعيف، والصواب أنها سنةٌ واجبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خالفوا المشركين، وفروا اللحى وحفوا الشوارب) فيكون حلقها من هدي المشركين، وهدي المشركين واجب الاجتناب، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم) .(57/28)
الشك في رمي الجمرات
السؤال
فضيلة الشيخ: ما حكم الذي يرمي زيادة عن سبع جمرات خوفاً من أن بعضها لم يسقط في الحوض؟
الجواب
لا بأس إذا شك الإنسان هل رمى بسبع أو بأقل فيرمي احتياطاً حتى يطمئن أنه رمى بسبع حصيات وقعت في الحوض، المقصود أن تقع الحصيات في الحوض، فليحرص الإنسان أن يكون قريباً من الحوض بقدر المستطاع.(57/29)
معرفة التحلل الأول
السؤال
ما هو التحلل الأول؟
الجواب
إذا رميت جمرة العقبة يوم العيد وحلقت فقد تحللت التحلل الأول.(57/30)
مشروعية الحج كل عام
السؤال
فضيلة الشيخ: رجل يستطيع الحج كل سنة وقال له بعض الناس: إن في هذا إيذاء للحجاج، فهل هذا صحيح؟
الجواب
الصحيح أن الحج مشروع كل سنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رغّب فيه وقال: (والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) لكن إذا كنت تخشى الفتنة من تكرار الحج؛ وذلك بما يحدث من مشاهدة النساء والمزاحمة الشديدة بين الرجال والنساء وقد أديت الفريضة فهنا قد يقال: ترك الحج أفضل، واصرف الدراهم التي كنت تريد الحج بها في أعمال البر والصدقات، وذلك لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
أما الرجل الذي يحج ويؤدي الحج بتؤدة وبأدب شرعي ويمكن أن يستفيد الناس من علمه أو عمله وخلقه فهذا يشرع له أن يحج كل عام.(57/31)
حكم حج نساء مكة بدون محرم
السؤال
فضيلة الشيخ: بعض النساء من داخل مكة يذهبن إلى الحج بدون محرم مع جماعات من النساء عن طريق النقل الجماعي، فهل هذا جائز؟
الجواب
الصحيح أنه لا يجوز للمرأة أن تحج إلا بمحرم، حتى وإن كانت من أهل مكة؛ لأن ما بين مكة وعرفات سفر على القول الراجح؛ ولهذا كان أهل مكة يقصرون مع النبي صلى الله عليه وسلم في المشاعر.(57/32)
حكم السترة في الصلاة
السؤال
هل يأثم من يترك السترة في الصلاة؟
الجواب
إذا قلنا: إنها واجبة أثم، ولكن الصحيح أنها ليست بواجبة، بل هي سنة مؤكدة إلا للمأموم، فإنه لا يتخذ السترة؛ لأن سترة الإمام سترة له، وعلى هذا فلا يأثم المصلي إذا صلى دون سترة.(57/33)
حكم مخالفة منهج السلف في معاملة الحكام
السؤال
فضيلة الشيخ: ذكرتم في كلامكم عن السلفية، فالسؤال هو أن هناك رجلاً يظهر عليه اتباع السلف وعقيدته سليمة، وعنده من الحسنات الكثير، لكنه خالف السلف في منهج معاملة الحاكم، فهل يخرج من السلفية ويبدع؟
الجواب
لا شك أن منهج السلف هو الصبر على أذى الحكام، والدعاء لهم، وإقامة الجُمع والأعياد معهم، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله في العقيدة الواسطية: من طريقة أهل السنة والجماعة إقامة الجُمع والأعياد والحج والجهاد مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً.
وكما كان الإمام أحمد وغيره من الأئمة يعاملون الأمراء بما يقتضيه الحال من الدعاء لهم وسؤال الهداية لهم، وعدم إفشاء معايبهم أمام الناس، فالسكوت على الخطأ غلط، ونشر الخطأ غلط، والصواب بين هذا وهذا، كما هو في جميع الأشياء، هو الوسط، والوسط خير: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان:67] .
أما مسألة كونه يخرج عن السلفية أو لا يخرج فهذا شيء آخر، إنما الكلام على أن مذهب السلف هو الصبر على الأمراء والدعاء لهم، وعدم إثارة الناس عليهم، وتسكين الأمور، بل قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (اسمع وأطع، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك) ففي هذه المسألة التي وقع السؤال عنها خرج هذا الرجل عن مذهب السلف في معاملة الحكام، لكن قد يكون على مذهب السلف من وجه آخر.
وهذه المسألة من أخطر ما يكون على العامة وعلى ولاة الأمور وعلى الجميع؛ لأن الناس إذا شحنت قلوبهم ببغض ولاة الأمر فسدوا وصاروا يتمردون على أمره ويخالفونه، ويرون الحسنة منه سيئة، وينشرون السيئات ويخفون الحسنات، وإذا زيد على ذلك التقليل من شأن العلماء فسد الدين أيضاً، فتمرد الناس على الأمراء اختلال للأمن، وتمرد الناس على العلماء فساد للشريعة؛ لأن الناس إذا لم يثقوا بعلمائهم بشريعة الله فبمن إذاً يثقون بالجهال؟! أو كل واحد من الناس يركب رأسه ويفتي نفسه بنفسه وهذا لا يستقيم.(57/34)
حكم من اعتمر في أشهر الحج ثم عاد إلى بلده وهو يريد الحج
السؤال
رجل اعتمر في أشهر الحج ثم رجع إلى بلده بعد العمرة، وبلده تبعد مسافة قصر، وهو يريد أن يحج في نفس العام فهل يعد متمتعاً؟
الجواب
إن أتى بعمرة ثانية وحل منها ثم أحرم بالحج صار متمتعاً بالعمرة الثانية، أما إذا لم يأت بعمرة ثانية فإنه لا يكون متمتعاً بالعمرة الأولى؛ لأنه رجع إلى بلده، والمتمتع إذا رجع إلى بلده ثم عاد محرماً بالحج صار مفرداً؛ لأنه فصل بينهما بفاصل الإقامة في بلده، فأنشأ للحج سفراً جديداً وهذا هو المشهور أو المروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو أصح.(57/35)
الرد على من قال بوجوب التمتع في الحج
السؤال
فضيلة الشيخ حفظكم الله: كيف يكون الرد على من قال بوجوب التمتع؟
الجواب
الرد يكون من وجهين: الوجه الأول: ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سئل عن فسخ الحج مفرداً أو قارناً إلى العمرة ليصير متمتعاً، قيل له: ألكم خاصة أم للناس عامة؟ فقال: بل لنا خاصة.
الوجه الثاني: أن القائل بالوجوب ليس أعلم من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولا أفقه في دين الله منهما.
فإذا قال قائل: أما الأول فإنه معارض عن قول أبي ذر بأن سراقة بن مالك بن جعشم لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحلوا واجعلوها عمرة قال: ألعامنا هذا أم للأبد؟ قال: بل لأبد الأبد) وهذا يدل على أنه ليس خاصاً بالصحابة، قلنا: نخرج من هذا بأن مراد أبي ذر رضي الله عنه: الوجوب للصحابة خاصة، وأما بقية الناس فهو للاستحباب.
وبهذا نجمع بين قول الرسول صلى الله عليه وسلم وأمره بالتمتع وبين قول الخلفاء الراشدين بأن الوجوب في حق الصحابة؛ لأنهم الذي وُجِهوا بالخطاب، ومعصيتهم للرسول تؤدي إلى أن من بعدهم يعصيه من باب أولى؛ لأنهم أسوة، ثم إن الإشكال الذي يوجد عند الناس في ذلك الوقت، أنه لا يجمع بين العمرة والحج في سفرٍ واحد قد زال بتحلل الصحابة رضي الله عنهم فزال سبب الوجوب هكذا الجواب.
والصحيح أن التمتع أفضل وليس بواجب.(57/36)
حكم إمامة المسافر بالمقيم
السؤال
قوم كانوا على سفر، فأدوا صلاة المغرب والعشاء جمع تأخير، فهل للمقيم أن يأتم بهم في صلاة المغرب وهو ينوي صلاة العشاء، ثم يأتي بالركعة الرابعة بعد تسليم الإمام المسافر؟
الجواب
يجوز للإنسان المقيم أن يصلي العشاء خلف من يصلي المغرب، وإذا سلم من صلاة المغرب أتى بالركعة الباقية.(57/37)
حكم البضائع التي عليها صور اللاعبين
السؤال
فضيلة الشيخ طرحت في الآونة الأخيرة بعض البضائع عليها صور اللاعبين، فما حكم ذلك؟ وإذا كانت هذه الصور عبارة عن ملصق وقام المشتري بإزالته وجد تحتها جائزة فما الحكم؟
الجواب
أرى أن هذه البضاعة التي عليها صور اللاعبين تهجر وتقاطع؛ لأننا نسأل: ما فائدة الإسلام والمسلمين من بروز هذا اللاعب وظهوره على غيره؟ أعتقد أن كل إنسان سيكون جوابه بالنفي: لا فائدة من ذلك، فكيف نعلن عن أسماء هؤلاء وننشر صورهم وما أشبه ذلك؟! وكان الذي ينبغي أن يعدل عن هذا إلى مناصحة اللاعبين بالتزام الآداب الإسلامية: من ستر العورة، والمحافظة على الصلاة في الجماعة، وعدم التنافر فيما بينهم، وعدم التشاتم، وألا يستولي عليهم تعظيم الكافر إذا نجح في هذه اللعبة على غيره، هذا الذي ينفع.
فأرى أن تهجر هذه البضاعة وتقاطع، ثم إن الغالب أن هذه الشركة لم تضع الجوائز إلا لأنها تعرف أنها ستربح أضعافاً مضاعفة بالنسبة لما وضعت.
فنسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من أهل البصيرة في دين الله عز وجل، وأن يحمي بلادنا وشبابنا وديننا من كل مكروه وسوء إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(57/38)
لقاء الباب المفتوح [58]
في هذا اللقاء تفسير الآيات الأخيرة من سورة الأعلى، وما فيها من العبر والعظات، ثم تأتي الإجابة عن الأسئلة.(58/1)
تفسير آيات من سورة الأعلى
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو اللقاء الثامن والخمسون من اللقاء المفتوح، والذي ابتدأناه بعد انتهاء موسم الحج في يوم الخميس الثاني والعشرين من شهر ذي الحجة عام (1414هـ) ، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يختم عامنا هذا بالخير والعفو والمغفرة.
وقد بقي علينا من تفسير سورة الأعلى قول الله تبارك وتعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:9-19] .(58/2)
تفسير قوله تعالى: (قد أفلح من تزكى)
قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14] هذه الجملة جملة فعلية مؤكدة بـ (قد) : {قَدْ أَفْلَحَ} [الأعلى:14] والفلاح كلمة عامة يراد بها النجاة من المكروه والفوز بالمحبوب.
وقوله: {مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14] أي: من تطهر ظاهره وباطنه، فتطهر باطنه من الشرك بالله عز وجل ومن الشك، ومن النفاق، ومن العداوة للمسلمين، ومن البغضاء لهم، وغير ذلك مما يجب أن يتطهر القلب منه، وتطهر ظاهره من إطلاق لسانه وجوارحه في العدوان على عباد الله عز وجل؛ فلا يغتاب أحداً، ولا ينم عند أحد، ولا يسب أحداً، ولا يعتدي على أحد بضرب، أو جحد مالٍ، أو غير ذلك، فالتزكي كلمة عامة تشمل التطهر من كل درن ظاهراً أو باطناً.(58/3)
تفسير قوله تعالى: (وذكر اسم ربه فصلى)
قال تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:15] ذكر اسم ربه، أي: ذكر الله، ولكنه تعالى ذكر الاسم من أجل أن يكون الذكر باللسان؛ لأن الذكر باللسان ينطق اللسان فيه باسم الله، فيقول مثلاً: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، فيذكر اسم الله.
وقد ذكر بعض العلماء أن المراد بذكر اسم الله هنا خطبة الجمعة؛ لقوله بعد ذلك: {فَصَلَّى} [الأعلى:15] ولكن الصحيح أنها أعم من هذا، وأن المراد به كل ذكر اسم لله عز وجل، أي: كلما ذكر الإنسان اسم الله اتعظ وأقبل على الله وصلى، والصلاة معروفة: هي عبادة ذات أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم.(58/4)
تفسير قوله تعالى: (بل تؤثرون الحياة الدنيا)
ثم قال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:16-17] (بل) هنا للإضراب الانتقالي؛ لأن (بل) تأتي للإضراب الإبطالي، وتأتي للإضراب الانتقالي، أي: أنه سبحانه وتعالى انتقل عن الكلام ولم يبطله؛ انتقل ليبين حال الإنسان أنه مؤثر للحياة الدنيا؛ لأنها عاجلة، والإنسان خلق من عجل، ويحب ما فيه العجلة، فتجده يؤثر الحياة الدنيا، وهي في الحقيقة على وصفها دنيا؛ دنيا زمناً ودنيا وصفاً.
أما كونها دنيا زمناً فلأنها سابقة على الآخرة فهي متقدمة عليها، والدنو بمعنى القرب، وأما كونها دنيا وصفاً أي: ناقصة، فكذلك هو الواقع، فإن الدنيا مهما طالت بالإنسان فإن منتهاها الفناء، ومهما ازدهرت للإنسان فإن عاقبتها الذبول، ولهذا لا يكاد يمر بك يومٌ في سرور إلا وأعقبه حزن، وفي هذا يقول الشاعر:
فيوم علينا ويوم لنا ويوم نُسَاءُ ويوم نُسَرّ
تأمل حالك في الدنيا، تجد أنه لا يمر بك وقت ويكون الصفو فيه دائماً، بل لابد من كدر، ولا يكون السرور دائماً، بل لابد من حزن، ولا تكون الراحة دائماً، بل لابد من التعب.(58/5)
تفسير قوله تعالى: (والآخرة خير وأبقى)
قال تعالى: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:17] الآخرة خير من الدنيا وأبقى، خير بما فيها من النعيم والسرور الدائم الذي لا ينغص بكدر {لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:48] كذلك أيضاً هي أبقى من الدنيا؛ لأن بقاء الدنيا -كما أسلفنا- زائل مضمحل، بخلاف بقاء الآخرة فإنه أبد الآبدين.(58/6)
تفسير قوله تعالى: (إن هذا لفي الصحف الأولى)
وقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:18-19] (إِنَّ هَذَا) أي: ما ذكر من كون الإنسان يؤثر الحياة الدنيا على الآخرة، وينسى الآخرة مع كونها خيراً من الدنيا، وكذلك ما تضمنته الآيات من المواعظ {لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى} [الأعلى:18] أي: السابقة على هذه الأمة، {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:19] وهي صحف جاء بها إبراهيم وموسى عليهما الصلاة والسلام، وفيهما من المواعظ ما تلين به القلوب، وتصلح به الأحوال، نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا ممن أوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، ووقاه الله عذاب النار.(58/7)
الأسئلة(58/8)
حكم المخيمات القبلية في الأعياد والعطل
السؤال
ظهرت في الفترة الأخيرة مخيمات لاجتماع بعض القبائل في الأعياد، وأحياناً يكون ذلك في العطل، فهذا مخيم القبيلة الفلانية، وذاك مخيم القبيلة الفلانية، وأحياناً يكون الاجتماع في قصور الأفراح، أو في المزارع، فهل يدخل ذلك تحت العصبيات القبلية التي حرمها الإسلام، مع العلم أنها قد تتطور في المستقبل إلى نزاعات وعصبيات وتفاخر بين القبائل؟ أفيدونا وفقكم الله.
الجواب
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: كثيرٌ من القبائل بدءوا يجتمعون في الأعياد، أو في العطل من جميع أنحاء المملكة، وهذه بالنظر إلى أصلها فيها صلة رحم؛ لأن الأقارب يجتمع بعضهم إلى بعض، ويتدارسون أحوالهم، وربما حصل بذلك إعانة المحتاج وإغاثة الملهوف، ولكن الأمر قد يكون خطيراً فيما لو تطور هذا إلى تعصب للقبائل، ونسيان للآخرين من المؤمنين، وما دمنا لم نر هذا المحذور فإننا لا ننهى عنه، ونرى أن فيه خيراً وبركة، ولكن إذا كان في المستقبل يتطور إلى كلمات وقصائد يكون فيها المدح لهذه القبيلة، والتعرض لغيرها بالنقص والعيب؛ فحينئذ سيكون النهي.(58/9)
حكم التعامل مع رجل عنده أخطاء في العقيدة وغيرها
السؤال
فضيلة الشيخ حفظك الله: إذا كان هناك رجل عليه بعض الملاحظات، سواء كانت في العقيدة أو في غيرها، وفيه خير كثير، ما هو ضابط التعامل معه والاستفادة منه إذا كان صاحب قلم سيال، أو منصب مرموق، أو لديه من الطاقات ما ليس عند غيره؟
الجواب
إذا كان هذا الرجل مجاهراً بما عنده من البدعة؛ فإنه لا ينبغي للإنسان أن يتعامل معه وأن يتردد عليه؛ لأنه وإن كان لا يتأثر به فقد يغتر به غيره، بمعنى: أن الناس ينخدعون ويظنون أن هذا المبتدع على حق، فالذي ينبغي ألا يتردد الإنسان على أهل البدع، مهما استفاد منهم مالياً أو علمياً؛ لما في ذلك من التغرير بالآخرين.(58/10)
موقف الرجل تجاه ما يحصل بين أمه وزوجته
السؤال
فضيلة الشيخ: امرأة تعيش مع زوجها وأم زوجها في بيت واحد، ولكن أم الزوج تؤذي هذه الزوجة بالكلام، والسب، والشتم، والاحتقار مرات كثيرة، فهل من حق هذه الزوجة أن تطلب بيتاً لها ولأطفالها، مع العلم أن أم الزوج يعيش معها زوجها وابنتها الصغرى، ويستطيعون أن يخدموا أنفسهم بدون تعب؟ وما هو الموقف الصحيح للزوج من تصرفات أمه تجاه زوجته؟ ثم هل يقال: إن بقاءه مع أمه في بيت واحد مع هذه المشاكل يعد من البر؟ أفيدونا مأجورين.
الجواب
إذا كان هذا الشخص يستطيع تعديل هذا الوضع فليعدله، وإذا لم يكن هذا فلا أرى أن تبقى الزوجة مع أم زوجها على هذه الحال؛ لأنه ستكون الحياة نكداً على الزوجة، وعلى أم الزوج، وعلى الزوج نفسه، والقلوب كالزجاج، إذا انكسر فإنه لا ينجبر.
إن القلوب إذا تنافر ودها مثل الزجاجة كسرها لا يجبر
فعليك أن تفعل عدة أمور: أولاً: انظر من المخطئ.
ثانياً: عدّل الخطأ إن استطعت.
ثالثاً: إذا لم تستطع فليس من المصلحة أن تبقى الزوجة عند أم زوجها مع هذه المشاكل.(58/11)
موقفنا مما حصل بين الصحابة من القتال
السؤال
فضيلة الشيخ حفظك الله: أنا مدرس لمادة التاريخ، ونتناول في مادة التاريخ في منهج الصف الأول المتوسط معركتي صفين والجمل، ونواجه بعض الأسئلة من الطلاب: كيف يتقاتل الصحابة فيما بينهم؟ وكذلك يوردون علينا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) فما هو موقفنا في هذه الحالة؟
الجواب
موقفنا في هذه الحال أن نقف كما يقف أهل السنة والجماعة نحو ما شجر بين الصحابة، وهو أن نقول: هذه دماء طهر الله سيوفنا منها، فلنطهر ألسنتنا منها، وفي ذلك يقول الناظم:
ونسكت عن حرب الصحابة فالذي جرى بينهم كان اجتهاداً مجردا
فهم مجتهدون، وليس كل مجتهد يكون مصيباً، فالإنسان قد يجتهد ويخطئ، فهذا الاجتهاد الذي وقع منهم لا شك أنه وقع عن خطأ، والخطأ إذا صدر عن اجتهاد فإنه مغفور؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، فإن أخطأ فله أجر) .
فالواجب: إذا جاءنا سؤال من الطالب: كيف يكون هذا من الصحابة؟ أن نقول: الله أعلم.
الواجب أن نكف ألسنتنا عن ذلك ولا نسأل، ونقول: كل منهم مجتهد، فمن أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد.(58/12)
حكم طواف الوداع قبل انتهاء الرمي، وحكم التوكيل في الرمي
السؤال
مجموعة من الناس رجال ونساء يحجون، فإذا جاء اليوم الثاني عشر ينزلون بنسائهم صباحاً إلى الكعبة ليطفن طواف الوداع، ثم يرجعونهن إلى خيامهم في منى، ويرمون عنهن وعن أنفسهم، ثم ينزل الرجال للمرة الثانية إلى الكعبة ليطوفوا طواف الوداع، ثم يرجعون إلى أهليهم، فهل هذا العمل صحيح بحق نسائهم؟ مع العلم بأنهم يفعلون ذلك أثناء الزحام فقط، وهل عليهم دم أم لا؟ مع العلم بأن النساء لسن مريضات.
الجواب
طواف الوداع لا يجوز إلا بعد انتهاء النسك تماماً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت) وإذا طاف الوداع ثم عاد فرمى فقد جعل آخر عهده بالرمي، فمن طاف قبل انتهاء النسك فطوافه في غير محله، وإذا لم يعده بعد انتهاء النسك فعليه دم، يذبحونه في مكة ويوزعونه على الفقراء، فصار الآن على كل واحد من هؤلاء -رجالاً ونساءً- دم لطواف الوداع؛ لأنه وقع في غير محله.
وأما بالنسبة للرمي، فإذا كانوا متعجلين وكان الزحام شديداً فأرى أن النساء يوكلن حتى ولو كن نشيطات؛ لأنه زحام شديد، والمرأة -مهما كان- ضعيفة، وأما إذا كان عادياً غير شديد فإنهن لا يوكلن، فينظر في الأمر، فإذا كن وكلن مع قدرتهن في نفس الوقت على الرمي بأنفسهن؛ فهذا التوكيل غير صحيح، وعلى كل واحدة منهن دم، وأما إذا كان هناك حالة زحامٍ شديد؛ فإنه لا بأس أن يوكلن.
وهنا أنبه على هذه المسألة وهي مسألة الرمي، فإن كثيراً من الحجاج يتهاون بها ويوكل مع قدرته، وهذا لا يصح منه؛ لأن رمي الجمرات من جملة النسك، وقد قال الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّه} [البقرة:196] فكما أنك لا تقول للإنسان: اذهب وطف عني طواف الوداع، أو اذهب فطف عني طواف الإفاضة، أو اذهب فبت عني في مزدلفة، أو اذهب فقف عني في عرفة، فهكذا أيضاً لا يجوز أن توكل شخصاً فتقول له: ارم عني، اللهم إلا إذا كان غير قادر نهائياً، كمريض، وكبير، وامرأة حامل، وصبي لا يستطيع المزاحمة، وما أشبه ذلك.(58/13)
حكم من عُين إماماً لمسجد فشُغل ووكَّل غيره
السؤال
شاب عُين إمام مسجد، ونظراً لكثرة مشاغله وكَّل رجلاً أقدر منه وأحفظ لكتاب الله إماماً بدلاً منه، وإذا استلم الراتب أعطى هذا الرجل نصفه وجعل نصفه في خدمة الدعوة، فما الحكم في ذلك؟
الجواب
عمل هذا الرجل خطأ في كونه يلتزم لولي الأمر أن يقوم بإمامة هذا المسجد ثم يوكل غيره، والواجب عليه أن يتخلى عن المسجد أو يقوم بالواجب فيصلي فيه جميع الصلوات.(58/14)
حكم من صلى إلى الحجر واستدبر الكعبة
السؤال
فضيلة الشيخ! قلتم في مواضع: إنه لا يجوز الطواف بين الحِجر والكعبة، فهل تجوز الصلاة إذا استقبل الإنسان الحجر واستدبر الكعبة؟
الجواب
لا تصح الصلاة إذا استدبر الكعبة واستقبل الحِجرْ؛ لأن طرف الحِجرْ من الناحية الشمالية خارج الكعبة، فهو جدار في غير مكانه، فيكون الذي يواجهه من الكعبة فضاءً، ليس شيئاً شاخصاً قائماً يصلي إليه، ثم إني أظن أن مثل هذا الفعل لا يأتي إلا عن تلاعب أو سخرية، كيف يصلي والكعبة وراءه وهو مستقبل جدار الحِجرْ الشمالي؟! هذا لا يفعله إلا إنسان ساخر أو مستهزئ أو أحمق، إذ أنه ليس الحِجرْ كله من الكعبة، بل مقدار ستة أذرع ونصف فقط من الكعبة، والباقي ليس من الكعبة.(58/15)
حكم اختلاط الرجال والنساء في الأعراس وغيرها وما يحصل فيها من منكرات
السؤال
فضيلة الشيخ! لا يخفى عليك ما يحدث من اجتماع النساء والرجال في الأعراس والمناسبات، والأعياد، وما يحدث من رقص النساء أمام الرجال، ودق الطبول، ورمي المال فوق رءوس النساء، ومن الاختلاط الشديد الرهيب؛ فنريد النصح لهؤلاء الرجال والنساء، عسى الله أن ينفع بكم، وجزاكم الله خيراً.
الجواب
هذه الأمور مما يكثر السؤال عنها؛ وهو اجتماع الرجال والنساء في مكان واحد، ورقص النساء بينهم، وإلقاء النقود فوق رءوسهن، وهو منكرٌ عظيم، وفتنة شديدة، لاسيما في هذه المناسبة -مناسبة العرس- لأن كل إنسان في تلك اللحظة قد تتحرك شهوته لأدنى سبب، وإذا كانت النساء ترقص عندهم وهن كاشفات الوجوه أيضاً فهذا خطر جداً، والرقص لا ينبغي للنساء مع بعضهن فكيف في حضرة الرجال، لذلك أنصح هؤلاء أن يتقوا الله عز وجل، وألا يبدلوا نعمة الله كفراً، فيقابلوا نعمة الزواج بالمعاصي والمنكرات؛ لأنه يوشك أن تنزع هذه النعمة.
أما إذا كانت النساء وحدهن في مكان منعزل؛ فلا بأس أن يضربن بالدفوف ويغنين بالغناء المناسب لا المثير للشهوة؛ لأن ذلك كان معروفاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.(58/16)
مضاعفة السيئات في مكة
السؤال
فضيلة الشيخ! هل تتضاعف السيئات في مكة؟ وما كيفية مضاعفتها؟
الجواب
المضاعفة في مكة بالنسبة للسيئات ليست من ناحية الكمية ولكنها تتضاعف من ناحية الكيفية، بمعنى أن العقوبة تكون أشد وأوجع، والدليل على أنها لا تضاعف الكمية قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الأنعام:160] وهذه الآية مكية؛ لأنها في سورة الأنعام، لكن كما قال الله تعالى: {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25] أي: إن إيلام العقوبة في مكة أشد من إيلام العقوبة إذا فُعلت هذه المعصية خارج مكة.(58/17)
حكم اقتناء المجلات الإسلامية التي فيها صور
السؤال
فضيلة الشيخ: ما حكم اقتناء المجلات الإسلامية التي تحتوي على الصور؟
الجواب
المجلات عموماً إذا اقتناها الإنسان من أجل ما فيها من الصور فهذا حرام، ولا إشكال فيه، وإن اقتناها من أجل ما فيها من الفوائد ولا يبالي بما فيها من صور فأرجو ألا يكون به بأس؛ لأن مشقة التحرز من الصور في كل جريدة وفي كل مجلة ظاهرة، والمشقة تجلب التيسير، لكن الاستغناء عنها أحسن، وفي الكتب الشرعية ما هو خير وأوفى.(58/18)
لفظة: (فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل) هل هي مدرجة أم لا؟
السؤال
فضيلة الشيخ حفظكم الله: ذكرتم حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل) وقلتم: إن هذه الجملة الأخيرة مدرجة من قول أبي هريرة، وهي قوله: [فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل] وقد ذكر ابن حجر رحمه الله حديثاً آخر عن أبي هريرة، ثم قال في آخره: (هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعل) فقال الحافظ: هذا رد على من يقول إن هذه مدرجة فما قولكم في ذلك؟
الجواب
هذا الحديث الذي أشار إليه هو في صحيح مسلم، ليس فيه أن أبا هريرة خرج عن حد الوجه، لكنه غسل ذراعيه حتى أشرع في العضد، وغسل رجليه حتى أشرع في الساق، وهذا لا يُنكر؛ لأنه لا يمكن أن تغسل المرفق إلا إذا شرعت في العضد، ولا يمكن أن تغسل الكعب إلا إذا شرعت في الساق، وهذا صحيح.
ولكن الزيادة المذكورة في الحديث ليست بصحيحة، وهي من اجتهاد أبي هريرة؛ لأن جميع الواصفين لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكروا أنه صلى الله عليه وسلم كان يتجاوز الكعبين بشكل كبير، فمعنى قوله في الحديث الآخر: (هكذا رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل) أي: أنه رآه حين غسل ذراعيه أشرع في العضد، وحين غسل رجليه أشرع في الساق.(58/19)
درء التعارض بين النهي عن التشاؤم وحديث: (الشؤم في ثلاثة)
السؤال
فضيلة الشيخ! كيف نوفق بين حديث (نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التشاؤم) وقوله صلى الله عليه وسلم: (الشؤم في ثلاثة: في الفرس والمرأة والدار) ؟
الجواب
التشاؤم هو التطير بمرئي أو مسموع أو زمان، فيتشاءم مثلاً من النكاح في شوال، كما يفعل أهل الجاهلية، أو يسمع صوتاً يكون فيه مخالفة لما يريد فيتشاءم، أو يرى طيراً يطير جهة اليسار فيتشاءم، والتشاؤم منهي عنه؛ لأنه يؤدي إلى سوء الظن بالله، وإلى عدم الإقدام على ما فيه مصلحة العبد، وإلى التذبذب في أموره، وربما يؤدي إلى الوساوس التي يحصل بها المرض النفسي، فلهذا نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما حديث: (الشؤم في ثلاثة: في الفرس والمرأة والدار) فهذا الحديث ورد على وجهين: الوجه الأول: (إنما الشؤم في ثلاثة) .
ووجه آخر: (إن كان الشؤم في شيء ففي ثلاثة) .
ومراد الرسول صلى الله عليه وسلم: أن نفس هذه الأشياء قد يكون فيها شؤم، فمثلاً: قد يسكن الإنسان الدار ويضيق صدره ويقلق ويتألم من حين يدخلها، أو يشتري المركوب ويكون فيه حوادث كثيرة من حين اشترى -مثلاً- هذه السيارة؛ فيتشاءم منها ويبيعها، والمرأة كذلك، قد يتزوج المرأة وتكون سليطة اللسان بذيئة، تحزنه كثيراً وتقلقه كثيراً، فهذا هو الشؤم الذي يذكر في هذه الأمور الثلاثة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هذا الشؤم المنهي عنه الذي ليس له أصل، والذي يوجب للإنسان ما ذكرناه من المفاسد.(58/20)
حكم أداء الصلاة بعد وقتها
السؤال
فضيلة الشيخ: ما هو الواجب تجاه من يصلي الصلوات بعد فوات أوقاتها، كمن يصلي الفجر بعد طلوع الشمس؟
الجواب
أما الواجب تجاه هذا الرجل فهو النصيحة، أن تنصحوه وتخوفوه بالله، وتبينوا له ما في المحافظة على الصلاة من الأجر والثواب، فإن اهتدى فلنفسه، وإن لم يهتد فلا يضر إلا نفسه.
أما بالنسبة لفعله فإن كان يستيقظ ولكنه يتكاسل ويضع رأسه على الوسادة؛ فإن صلاته بعد طلوع الشمس لا تقبل منه ولا تنفعه عند الله، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) ومن المعلوم أن من لم يصلِّ صلاة الفجر إلا بعد طلوع الشمس عامداً ذاكراً قد عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله؛ فيكون عمله هذا مردوداً، ولا تقبل منه صلاته، فبلغوه عني ذلك: أنه إذا كان يُوقظ ولكنه يتكاسل ويبقى نائماً؛ فإن صلاته بعد طلوع الشمس لا تقبل منه، وسوف يحاسب عليها يوم القيامة.(58/21)
حكم التصوير في الحوادث المرورية
السؤال
نعمل في قسم الحوادث المرورية، ونحتاج في بعض الأحيان إلى تصوير بعض الحوادث المرورية للحفاظ على حق إخواننا المواطنين، ويدخل بعض الناس الموجودين أثناء الحادث داخل الصورة، فما حكم هذا؟
الجواب
هذا العمل ليس فيه بأس؛ لأنه تصوير لمصلحة بل لحاجة أو ضرورة، ولا يضر إذا كان تصوير هذا المكان يدخل فيه من ليس طرفاً في الحادث، ومن المعلوم أن التصوير بالكاميرا ليس هو الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم فيما نرى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما لعن المصورين الذين يضاهئون بخلق الله، ممن هو مصوِّر، أي: فاعل للصورة، أما التقاط الصور بالآلة (الفوتوغرافية) فليس من الفاعل، فهو لم يخطط للعين ولا الأنف ولا الشفة ولا الجبهة ولا الرأس، غاية ما هنالك أنه حبس هذه الصورة التي هي من فعل الله عز وجل في هذه البطاقة، ويدلك لهذا أنك لو كتبت إلى شخص كتاباً بيدك، ثم أُدخل هذا الكتاب في آلة التصوير ثم خرج، هل يقال: إن هذه الكتابة من صنع الآلة؟ لا.
إنما هي كتابة الأول، ولكنها حفظت بواسطة المواد التي طورها الناس الآن في البطاقة؛ فلا تدخل في التصوير أصلاً.
لكن إذا كان الإنسان يصور بالآلة (الفوتوغرافية) الفورية التي يحبسها عنده ويقتنيها فهذا ممنوع، لا لذاته، ولكن للغرض المقصود منه؛ وهو اقتناء الصورة لغير ضرورة، والمقصود الذي تريدونه أنتم بتصوير الحوادث مقصود صحيح، وأمر لا بد منه.(58/22)
حكم قصر الصلاة للمسافر
السؤال
أنا شخص أسكن في القصيم، ثم أذهب أحياناً إلى الرياض لزيارة الأهل، ولي غرفة هناك، وأجلس عندهم يومين أو ثلاثة أيام، فهل يحق لي أن أقصر الصلاة إذا صليت منفرداً؟ وهل حكمي حكم المسافر؟
الجواب
نعم.
حكمك حكم المسافر؛ لأن وطنك هو القصيم، وزيارتك لأهلك زيارة المسافر، ولهذا قصر النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وكان في السابق ساكناً فيها، وله فيها دور، لكنه لما هاجر صارت المدينة وطنه، فأنت إذا ذهبت إلى أهلك فأنت مسافر، ولكن يجب عليك أن تصلي مع الجماعة ما دمت سمعت الأذان وعلمت مكان المسجد، إنما لو فاتتك الصلاة فلك أن تقصر، وكذلك لو كان عليك جواربك فلك أن تمسح ثلاثة أيام، وكذلك لو كنت في رمضان فلك أن تفطر.(58/23)
هدية الزوج لإحدى زوجتيه دون الأخرى
السؤال
فضيلة الشيخ: رجل عنده زوجتان، ومن المتعارف عليه عندنا أن التي تنجب يعطيها زوجها هدية بعد انقضاء النفاس، فهل يلزمه أن يعطي الزوجتين إذا ولدت إحداهما، أو يعطي للوالدة فقط؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الأصل أنه لا يلزمه أن يعطي الأخرى التي لم تلد، كما أن الأخرى التي لم تلد إذا ولدت فإنه يعطيها ولا يعطي الثانية، والعدل أن يسوي بينهما في العطاء، بمعنى: أنه إذا أعطى التي ولدت أولاً مائة، يعطي الأخرى مائة إذا ولدت، ولا يلزمه أن يعطيها قبل أن تلد، لكن إذا كان يخشى من المشاكل، ورأى أن يعطي الاثنتين جميعاً كلما ولدت واحدة دفعاً للمشاكل؛ فهذا طيب ومن باب التأليف.(58/24)
حكم التصوير في الرحلات بالفيديو
السؤال
بالنسبة للتصوير بكاميرا الفيديو في الرحلات البرية والاحتفالات، ما هو الحكم؟
الجواب
أرى أنه لا يصور مع أنه حلال؛ لأن هذا التصوير يؤدي إلى ضياع مال بغير فائدة، وربما يكون الإنسان كلما أراد أن يتلّهى ذهب يراجع هذا المصوَّر، فأرى ألا يصور، وإن صور فلا بأس؛ ما دام الشيء المصور حلالاً.(58/25)
لقاء الباب المفتوح [59]
أخبر الله تعالى في أوائل سورة الغاشية عن أهوال يوم القيامة، وعن ذلة وجوه الكفار وشدة عذابهم في نار جهنم، وخبث طعامهم وشرابهم، وهذا فيه عبرة لمن يتدبر الآيات هذا ما تحدث عنه الشيخ رحمه الله، ثم أجاب عن الأسئلة.(59/1)
تفسير آيات من سورة الغاشية
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو اللقاء التاسع والخمسون من اللقاءات المعتادة في كل يوم خميس، وهذا الخميس هو آخر خميس من شهر ذي الحجة عام (1414هـ) ، وهو اليوم التاسع والعشرون منه، نسأل الله تعالى أن يختم لنا ولكم عامنا بالمغفرة والعفو والرضوان.
نبدأ هذا اللقاء بتفسير سورة الغاشية يقول الله عز وجل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] والبسملة آية من كتاب الله مستقلة، ليست من السورة التي بعدها، بل آية مستقلة، ولهذا كان القول الراجح أنها ليست من الفاتحة، وأن أول الفاتحة هو: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] .(59/2)
تفسير قوله تعالى: (هل أتاك حديث الغاشية)
يقول الله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] الخطاب إما للنبي صلى الله عليه وسلم وإما لكل من يصح خطابه، وهذا يأتي في القرآن كثيراً؛ يوجه الله الخطاب ويكون للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل من يتأتى خطابه ويصح خطابه، إلا أنه أحياناً يتعين أن يكون للرسول صلى الله عليه وسلم فقط، مثل قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] فهذا لا يمكن إلا أن يكون للرسول صلى الله عليه وسلم، وكقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67] هذا لا يمكن إلا للرسول صلى الله عليه وسلم.
وأحياناً يترجح العموم، مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1] فهذا أول الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وآخره: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1] فهو عام.
فقوله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} يجوز أن يكون الخطاب موجهاً للرسول صلى الله عليه وسلم وحده وأمته تبعٌ له، ويجوز أن يكون عاماً لكل من يتأتى خطابهم، والاستفهام هنا للتشويق، فهو كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف:10] ويجوز أن يكون للتعظيم؛ لعظم هذا الحديث عن الغاشية.
{حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [أي: نبؤها، والغاشية: هي الداهية العظيمة التي تغشى الناس، والمراد هنا يوم القيامة التي تحدث الله عنها في القرآن الكريم كثيراً، ووصفها بأوصاف عظيمة، مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1-2] .(59/3)
تفسير قوله تعالى: (وجوه يومئذ خاشعة)
ثم قسّم الله سبحانه وتعالى هذا اليوم إلى قسمين فقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} [الغاشية:2-3] و (خاشعة) أي: ذليلة، كما قال الله تعالى: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى:45] .
{عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} عاملة عملاً يحصل به النصب وهو التعب.
قال العلماء: وذلك أنهم يُكلَّفون يوم القيامة بجر السلاسل والأغلال، والخوض في نار جهنم -والعياذ بالله- كما يخوض الرجل في الوحل، فهي عاملة تعبة من العمل الذي تكلف به يوم القيامة؛ لأنه عمل عذاب وعقاب -نسأل الله العافية- وليس كما قال بعض الناس: إن المراد بها الكفار: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:104] وذلك لأن الله قيد هذا بقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} [الغاشية:2] يوم إذا أتت الغاشية، وهذا لا يكون إلا يوم القيامة.
إذاً: فهي عاملة ناصبة بما تكلف به من جر السلاسل والأغلال، والخوض في نار جهنم أعاذنا الله وإياكم منها.(59/4)
تفسير قوله تعالى: (تصلى ناراً حامية)
قال تعالى: {تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} [الغاشية:4] أي: تدخل في نار شديدة الحرارة التي بلغت من شدة حموها أنها فضِّلت على نار الدنيا بتسعة وستين جزءاً، أي: أن نار الدنيا كلها بما فيها من أشد ما يكون من الحرارة أهون من نار جهنم بتسعة وستين جزءاً.
ويدلك على شدة حرارتها أن هذه الشمس حرارتها تصل إلينا مع بعد ما بيننا وبينها، ومع أنها تنفذ من خلال أجواء باردة غاية البرودة تصل إلينا هذه الحرارة التي تدركونها ولاسيما في أيام الصيف، فالنار -أعاذنا الله وإياكم منها- نار حامية شديدة الحرارة.(59/5)
تفسير قوله تعالى: (تسقى من عين آنية)
قال تعالى: {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية:5-6] لما بين لنا مكانهم -والعياذ بالله- وأنهم في نار جهنم الحامية؛ بين طعامهم وشرابهم فقال: {تُسْقَى} أي: الوجوه {مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} أي: شديدة الحرارة، هذا بالنسبة لشربهم، ومع هذا لا يأتي هذا الشراب بكل سهولة أو كلما عطشوا سُقوا لا.
إنما يؤتون بهذا الشراب كلما اشتد عطشهم -والعياذ بالله- واستغاثوا، كما قال تعالى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ} [الكهف:29] هذا الماء إذا قرب من وجوههم شواها وتساقط لحمها، وإذا دخل في أجوافهم يقول عز وجل: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15] إذاً: لا يستفيدون منه لا ظاهراً ولا باطناً؛ لا ظاهراً بالبرودة فيبرد الوجوه، ولا باطناً بالرِّي، ولكنهم -والعياذ بالله- يغاثون بهذا الماء، ولهذا قال: {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} .
فإذا قال قائل: كيف تكون هذه العين في نار جهنم والعادة أن الماء يطفئ النار؟ ف
الجواب
إن أمور الآخرة لا تقاس بأمور الدنيا، فلو أنها قيست بأمور الدنيا ما استطعنا أن نتصور كيف يكون، أليست الشمس تدنو يوم القيامة من رءوس الناس على قدر ميل؟ والميل إما ميل المكحلة وهو نصف الإصبع، أو ميل المسافة كيلو وثلث أو نحو ذلك، وحتى لو كان كذلك فإنه لو كانت الآخرة كالدنيا لشوت الناس شياً، لكن الآخرة لا تقاس بالدنيا.
وأيضاً: يحشر الناس يوم القيامة في مكان واحد؛ منهم من هو في ظلمةٍ شديدة، ومنهم من هو في نور {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد:12] يحشرون في مكان واحد ويعرقون، فمنهم من يصل العرق إلى كعبيه، ومنهم من يصل العرق إلى ركبتيه، ومنهم من يصل إلى حقويه، ومع ذلك هم في مكان واحد.
إذاً: أحوال الآخرة لا يجوز أن تقاس بأحوال الدنيا، فلو قال قائل: كيف يكون الماء في النار؟ قلنا: أولاً: أحوال الآخرة لا تقاس بأحوال الدنيا.
ثانياً: إن الله على كل شيءٍ قدير.
ها نحن الآن نجد أن الشجر الأخضر توقد منه النار، كما قال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس:80] الشجر الأخضر إذا ضرب بعضه ببعض أو ضرب بالزند انقدح وخرج منه نار حارة يابسة، وهو رطب بارد، فالله على كل شيء قدير.
فهم يسقون من عين آنية في النار، ولا يتنافى ذلك مع قدرة الله عز وجل.(59/6)
تفسير قوله تعالى: (ليس لهم طعام إلا من ضريع)
أما طعامهم فقال تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:6-7] (الضريع) قالوا: إنه شجر ذو شوك عظيم، إذا يبس لا ترعاه البهائم، وإن كان أخضر رعته الإبل، وهو يسمى عندنا (الشبرق) ، فأهل النار -والعياذ بالله- في نار جهنم ليس لهم طعام إلا من هذا الضريع، ولكن لا تظنوا أن الضريع الذي في نار جهنم كالضريع الذي في الدنيا، بل يختلف عنه اختلافاً عظيماً، ولهذا قال: {لا يُسْمِنُ} [الغاشية:7] ولا ينفع الأبدان في ظاهرها {وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:7] فلا ينفعها في باطنها، فهو لا خير فيه؛ ليس فيه إلا الشوك والتجرع العظيم، والمرارة والرائحة المنتنة التي لا يستفيدون منها شيئاً.
ثم ذكر الله عز وجل القسم الثاني من أقسام الناس في يوم الغاشية فقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} [الغاشية:8] ، ونستكمل شرح بقية الآيات -إن شاء الله- في اللقاء القادم، نسأل الله أن يعيذنا وإياكم من النار، وأن يرزقنا وإياكم دار القرار، إنه على كل شيء قدير.(59/7)
الأسئلة(59/8)
أدلة عدم كفر تارك أركان الإسلام عدا الشهادتين والصلاة
السؤال
فضيلة الشيخ: ما هي الأدلة على أن تارك أركان الإسلام عدا الشهادتين والصلاة تهواناً أو كسلاً لا يكفر، مثل ترك الزكاة والصوم والحج؟ نرجو ذكر الأدلة مع الرد على أدلة المعارضين وجزاكم الله خيراً.
الجواب
أركان الإسلام خمسة كما هو معروف: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، فمن ترك الركن الأول فهو كافر بالإجماع، أي أن من أنكر شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فهو كافر، ولا خلاف بين المسلمين في ذلك.
وأما ترك ما سوى الشهادتين فإن أنكر فرضيته وهو قد عاش بين المسلمين فهو أيضاً كافر، ومن أقر بالفرضية ولكن تركه تهاوناً فهذا موضع خلاف بين العلماء.
فمنهم من قال: كل الأركان الأربعة إذا تركها الإنسان تهاوناً كفر.
وهذا رواية عن الأمام أحمد رحمه الله.
ومنهم من قال: لا يكفر بأي واحدة منها، أي: من الأربع.
ومنهم من قال: إن ترك الصلاة تهاوناً كفر، وأما غيرها فلا يكفر، وهذا القول هو الوسط، وهو الذي تؤيده الأدلة.
ودليل ذلك أن الله سبحانه وتعالى قرن الزكاة بالصلاة في مواضع كثيرة من القرآن، وهي الركن الثالث من أركان الإسلام، وهي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين والصلاة، وقد دل الدليل على أن تاركها لا يكفر، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفِّحت له صفائح من نار، وأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار) ، وهذا يدل على أن تارك الزكاة الباخل بها لا يكفر، ووجه الدلالة أنه يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، ولو كان يكفر لم يكن له سبيل إلى الجنة، فإذا كان لا يكفر بترك الزكاة فما دونها من باب أولى.
وقال عبد الله بن شقيق رحمه الله وهو من التابعين المشهورين: [كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة] ، والكفر يطلق أحياناً على غير الكفر الأكبر، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت) .(59/9)
حكم بذل العوض في الألعاب
السؤال
فضيلة الشيخ! ما رأي فضيلتكم في إقامة الدورات الرياضية في كرة القدم، بحيث إن كل فريق يدفع مبلغاً وقدره -على سبيل المثال- سبعمائة ريال، والمبلغ عبارة عن خمسمائة ريال اشتراك ومائتين تأمين، ترد إلى كل فريق بعد انتهاء الدورة، علماً بأن الخمسمائة ريال المتبقية تصرف على شراء الجوائز التي يتم توزيعها على الفائزين في المراكز الثلاثة الأولى، وكذلك على الحكام، وما يترتب عليه من تسوية الملعب وخلافه؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً.
الجواب
الذي نرى أن بذل العوض في الألعاب في جوازه نظر، وذلك أن هذه الألعاب تباح إن لم يكن فيها شيء محرم، ككشف العورة والتلهي عن الصلاة والسب والشتم فيما بين اللاعبين، فإن تضمنت هذا فهي حرام، فإن لم يكن فيها محرم فهي من الأمور المباحة ولا شيء فيها، ولكن كونها بعوض يدفع من الجميع ثم يكون للغالب، هذا لا يحل: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر) (لا سبق) أي: لا عوض (إلا في نصل أو خف أو حافر) .
ويعني بالنصل: السهام، والخف: الإبل، والحافر: الخيل.
واستثنيت هذه الأمور لما فيها من المعونة على الجهاد في سبيل الله.
وأما أخذ العوض في ما سوى ذلك فإنه حرام، إلا أن بعض العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية قال: إنه لا بأس بأخذ الرهان في مسائل العلوم الشرعية؛ لأن العلوم الشرعية نوع من الجهاد في سبيل الله، إذ إن الجهاد في سبيل الله يشمل الجهاد بالسلاح والجهاد بالعلم.
فما ذُكر في السؤال نرى أنه لا يجوز، أما إذا جاء إنسان من خارج، وأراد أن يتبرع بشيء للسابق منهم فأرجو ألا يكون فيه بأس، على أن في نفسي على بذل العوض على هذه الألعاب نظراً.(59/10)
طلب الدعاء ممن ترجى إجابته
السؤال
فضيلة الشيخ! ما حكم طلب المسلم الدعاء ممن يتوسم فيه الخير، ويكون ذاهباً إلى الحج أو سفر أو غيره، فيطلب منه الدعاء له بظهر الغيب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أثنى على أويس، وحث الصحابة رضوان الله عليهم على طلب الدعاء منه؟ وهل كره شيخ الإسلام ابن تيمية ذلك وخص الحديث بـ أويس؟ أفيدونا وفقكم الله.
الجواب
طلب الدعاء من الرجل الذي ترجى إجابته؛ إما لصلاحه أو لكونه يذهب إلى أماكن ترجى فيها إجابة الدعاء كالسفر والحج والعمرة وما أشبه ذلك هو في الأصل لا بأس به، لكن إذا كان يخشى منه محذور؛ كما لو يخشى اتكال الطالب على دعاء المطلوب، وأن يكون دائماً متكلاً على غيره في ما يدعو به ربه، أو يخشى من أن يُعجب المطلوب بنفسه، ويظن أنه وصل إلى حد يُطلب منه الدعاء فيلحقه الغرور، فهذا يمنع لاشتماله على محذور.
وأما إذا لم يشتمل على محذور فالأصل فيه الجواز، لكن مع ذلك نقول: إنه لا ينبغي؛ لأنه ليس من عادة الصحابة رضي الله عنهم أن يوصي بعضهم بعضاً بالدعاء، وأما ما يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عمر: (لا تنسنا يا أخي! من صالح دعائك) فإنه ضعيف لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما سؤال بعض الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاء، فمن المعلوم أنه لا أحد يصل إلى مرتبة النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فقد طلب منه عكاشة بن محصن أن يدعو له فيجعله من الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، فقال: (أنت منهم) ودخل رجل يسأله أن يسأل الله الغيث لهم فسأل.
وأما إيصاء النبي للصحابة أن يطلبوا من أويس القرني أن يدعو لهم فهذا لا شك أنه خاص به، وإلا فمن المعلوم أن أويساً ليس مثل أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي، ولا غيرهم من الصحابة، ومع ذلك لم يوصِ أحداً من الصحابة أن يَطلب من أحدهم أن يدعو لهم.
وخلاصة الجواب أن نقول: إنه لا بأس بطلب الدعاء ممن ترجى إجابته، بشرط ألا يتضمن ذلك محذوراً، ومع هذا فإن تركه أفضل وأولى.(59/11)
عدد تكبيرات صلاة الجنازة
السؤال
ورد في صحيح مسلم أن التكبيرات على الجنازة تكون أربع تكبيرات، وورد غير هذا العدد، فكيف الجمع بين الوارد في ذلك؟
الجواب
أكثر ما كبره النبي صلى الله عليه وسلم على الجنازة أربع تكبيرات فقط، لكن ثبت عنه أنه صلى الله عليه وسلم كبر خمساً؛ كما في حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه، وكذلك روي عنه الست إلى السبع، ولهذا قال العلماء: لا بأس بالزيادة على الأربع إلى سبع.
والأفضل للإنسان أن يأخذ بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم تارة وتارة: تارةً أربعاً، وتارة خمساً، وتارة ستاً، وتارةً سبعاً، كما جاءت به السنة، لكن الأكثر الأربع، واعلم أن كل شيء وردت به السنة على وجوه متنوعة فالأفضل أن تأخذ بهذا تارة وبهذا أخرى.(59/12)
إطلاق صفة التردد لله عز وجل
السؤال
فضيلة الشيخ ورد في حديث: (من عادى لي ولياً) في نهاية الحديث يقول الله عز وجل: (وما ترددت في شيء أنا فاعله كترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن) فهل في هذا إثبات صفة التردد لله عز وجل؟ أو كيف التوفيق في هذا الأمر؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
إثبات التردد لله عز وجل على وجه الإطلاق لا يجوز؛ لأن الله تعالى ذكر التردد في هذه المسألة: (ما ترددت في شيء أنا فاعله كترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن) ، وليس هذا التردد من أجل الشك في المصلحة، ولا من أجل الشك في القدرة على فعل الشيء، بل هو من أجل الرحمة بهذا العبد المؤمن، ولهذا قال في نفس الحديث: (يكره الموت وأكره إساءته، ولا بد منه) ، وهذا لا يعني أن الله عز وجل موصوف بالتردد في قدرته أو في علمه، بخلاف الآدمي فهو إذا أراد أن يفعل الشيء يتردد؛ إما لشكه في نتائجه ومصلحته، وإما لشكه في قدرته عليه؛ أي: هل يقدر أو لا يقدر، أما الرب عز وجل فلا.(59/13)
الاستنابة في الطواف والسعي
السؤال
فضيلة الشيخ: رجل حج مع زوجته مفرداً، ولم تستطع زوجته أن تطوف طواف الحج، فطاف عنها وذهب إلى بلده، فما الحكم؟
الجواب
أقول: من المعلوم أنه لا تصح الاستنابة في الطواف والسعي، وغاية ما ورد هو الاستنابة في رمي الجمرات، والذي يجب على هذه المرأة أن تعود الآن إلى مكة وتطوف طواف الإفاضة، وتسعى إن لم تكن قد سعت، وإن أتت بعمرة كاملة ثم أتت بما بقي من حجها فهو أحسن، حتى لا تدخل إلى مكة إلا وهي محرمة، وإن شق عليها ذلك فلا حرج أن تدخل مكة وتطوف طواف الإفاضة وترجع.(59/14)
أحوال الآخرة لا تقاس بأحوال الدنيا
السؤال
فضيلة الشيخ ذكرت في الآية أن أحوال الآخرة لا تقاس بأحوال الدنيا، ومثلت مثل الضريع، فهو شجر ولكنه ليس كشجر الدنيا، وجاء في غير موضع من الأحاديث أن الرمضاء أو الحر الشديد من فيح جهنم، فكيف نوجه هذا الأمر؟
الجواب
توجيهها سهل؛ لأن قوله: (من فيح جهنم) لا يعني أنها هي جهنم، فقوله: من فيحها، أي: من حرارتها، والإنسان إذا كان حول النار أصابه من حرها، لكن الحر الذي يصيبه من النار عند قربه منها ليس كالحر الذي يصيبه لو دخل فيها.(59/15)
حكم العمل في المؤسسات التي تتعامل مع البنوك الربوية
السؤال
هناك شخص يعمل وكيلاً لمؤسسات ومديرها شخص آخر وكان يعمل مع هذه المؤسسات لمدة طويلة، وخلال هذه المدة تبين أن المؤسسات أصبح رأس مالها بالملايين، ولكن تبين له فيما بعد أن المؤسسة كانت توقع صفقات مع البنوك، وحقيقة العلم أن المؤسسة عندها أموال وأرصدة بالملايين عند الدولة أكثر من الأموال التي أخذتها من البنك ولكن لم تصرف، وبمجرد أنها أخذت من البنك حتى ما سلمت تتأخر، وإذا تأخر مشروع يفرض عليها باليوم غرامات معينة كما هو متعارف عليه بالتعاقد مع الدولة، وبعدها تبين أن إحدى المؤسسات متعاملة مع البنك، وأن رواتبها ومشاريعها تمشي على هذا؛ لأن المؤسسة الآن واقفة ليس لديها سيولة مالية للشركات الأخرى، كالذي يعمل في مجال المقاولات الأخرى والكهرباء والسباكة.
إلخ، فتبين أنها تستلف من البنك أو توقع عقوداً مع البنك، فما حكم العمل في هذه المؤسسة؟ علماً أن الموظف هذا يعمل لدى المدير والمدير يرأسه في جميع المؤسسات الثلاث، وجميع المؤسسات المالك لها غير المدير، وإحدى المؤسسات يملكها نفس المدير هذا.
الجواب
هل هذا الموظف يكتب العقود التي بين الشركة وبين البنوك؟ السائل: لا يكتب، بل هو أنا يا شيخ! الشيخ: إذاً: أنت الآن لا تكتب الربا ولا تشهد عليه، ولا تأخذه ولا تعطيه، فلا أرى في هذا شيئاً، ما دام عملك سليماً فيما بينك وبين الشركة، فوزر الشركة على نفسها.
إذا لم تكن تذهب إلى البنوك ولا توقع على معاملة البنوك فلا شيء عليك، فالمؤسسة هذه -أولاً- لم تبنَ للربا، وليست مثل البنك الذي نقول: لا تتوظف فيه، فهي لم تؤسس للربا.
ثانياً: إنك لم تباشر الربا لا كتابةً ولا شهادةً ولا خدمةً، عملك منفصل عن الربا.(59/16)
حكم صلاة الفجر قبل دخول الوقت وثوقاً بالمؤذن
السؤال
فضيلة الشيخ: ما حكم صلاة جماعة من المسلمين يصلون الفجر قبل دخول الوقت، ليس تعمداً، ولكن تصديقاً لمن لا يعرف تبيين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وهم يثقون في هذا الرجل؟
الجواب
ما داموا واثقين منه ويعرفون أن هذا الرجل عنده علم بدخول الوقت فلا شيء عليهم؛ لأنهم لم يتبين لهم أنهم صلوا قبل الوقت، فإذا لم يتبينوا أخذوا بقول هذا الرجل الذي يثقون فيه ولا حرج.
لكن ينبغي للإنسان أن يحتاط ما دام شاكاً؛ فلا يصلي حتى يغلب على ظنه أو يتيقن، وعليه أن ينبه الجماعة على ذلك، يشير عليهم ويقول: انتظروا خمس دقائق أو عشر دقائق أو ربع ساعة خيراً من كونه يتقدم بدقيقة واحدة.(59/17)
حكم صلاة المسافر خلف المقيم
السؤال
فضيلة الشيخ! دخلت مسجداً وكنت في سفر، وهذا المسجد في المدينة وليس على طريق السفر، ودخلت وهم في الركعة الرابعة والأخيرة فصليت معهم ركعة، ثم قمت للركعة الثانية وكانت صلاة العصر فقصرت الصلاة، رغم أنهم أتموا قبلي، فما الحكم؟
الجواب
الأصل في المدينة أن الذين يصلون فيها يصلون أربعاً، أي: يتمون الصلاة، فهو مفرط، فيجب عليه الآن أن يعيد الصلاة أربعاً، وتكون صلاته الأولى نفلاً.(59/18)
واجبنا نحو استقدام الكفار إلى جزيرة العرب
السؤال
فضيلة الشيخ: في الآونة الأخيرة كثر استقدام الكفار إلى جزيرة العرب، فما واجبنا تجاههم وتجاه من يستقدمهم؟
الجواب
هذه الظاهرة التي ذكرت وهي: كثرة استقدام الكفار إلى بلاد المسلمين في الجزيرة العربية لا شك أنها ظاهرة تنذر بالخطر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما حدث وحذر مما سيحصل في المستقبل قيل: (يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث) وكثرة الخبث تشمل معنيين: المعنى الأول: أن يكثر الخبث من أهل الجزيرة، فيعملون بالمعاصي.
والثاني: أن يكثر الخبث ممن يرد إلى الجزيرة ويفد إليها، ولا أبين وأظهر من هؤلاء الجحافل العظيمة التي تأتي إلى الجزيرة العربية من الكفار.
والذي يزيد الإنسان حزناً أنهم كفار معروفون بالعداوة للمسلمين، وإيذاء المسلمين في بلادهم، بل ومحاربتهم وقتلهم، فيأخذون هؤلاء في أجورهم من الدراهم ما يستعينون بها على قتال إخواننا المسلمين في بلادهم، وهذا أمرٌ يجب أولاً على الحكومة التنبه له، والعمالة المسلمة في البلاد الإسلامية كثيرة، فـ باكستان مملوءة بالمسلمين، وإندونيسيا مملوءة بالمسلمين، وكذلك بعض دول أفريقيا، لكن مع الأسف إننا في غفلة عن هذا.
ثم إننا سمعنا من بعض السفهاء أنه يقول: اختر غير المسلم لئلا ينقطع الشغل بذهابه إلى الصلاة، أو بصيامه رمضان، أو بطلب العمرة، أو بطلب الحج، أو ما أشبه ذلك، ولا شك أن هذا الذي ينهج هذا المنهج لا شك أنه على خطر عظيم، وأن نهجه هذا يستلزم كراهته للإسلام، وإلا فإن المسلم الحق المؤمن يفرح بكثرة المسلمين، وكثرة من يقوم بشعائر الإسلام.
والمهم أنني معك في أن هذه الظاهرة ظاهرة خطيرة جداً جداً، ويجب علينا أن نناصح إخواننا ونقول: عندكم مسلمون، اذهبوا إليهم، فعندهم -والحمد لله- من القدرة الشيء الكثير، ثم إن هؤلاء الكفار الذين يأتون، يأتي بعضهم لعمل كل إنسان يستطيعه؛ تجده يأتي خادماً أو يأتي منظف أسواق في البلديات أو ما أشبه ذلك، وهذا كل أحد يطيقه، ليس هذا اختصاصاً لا يعرفه إلا الكفار حتى تقول: نحن معذورون إذا أتينا بهم، فلهذا ننصح إخواننا المسلمين أن يتقوا الله عز وجل، وأن يحرصوا على ألا يأتوا إلا بالمسلمين سواء كان خادماً كخادم البيت، أو خارج البيت، والمتصل بالبيت أشد وأشد؛ إذا أتي بإنسان ليس بمسلم، والواجب علينا التناصح فيما بيننا وأن نقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] فأتِ بإخوانك المؤمنين، ودع عنك هؤلاء.(59/19)
حكم قتل الحشرات بالجهاز الكهربائي
السؤال
فضيلة الشيخ: ما حكم الجهاز الكهربائي الذي يعلق بالمطاعم ويقتل الذباب والبعوض والحشرات؟
الجواب
نرى أنه لا بأس به، وأن هذا ليس من باب التعذيب بالنار؛ لأنه حسب ما نعرف عنه أن الحشرة تموت بالصعق الكهربائي، ويدل لهذا أنك لو أتيت بورقة وألصقتها بهذا الجهاز لم تحترق، مما يدل على أن ذلك ليس من باب الاحتراق لكن من باب الصعق، كما أن البشر لو مس سلك الكهرباء مكشوفاً لهلك بدون احتراق.(59/20)
حكم الشك في مسائل العبادة
السؤال
فضيلة الشيخ: ما حكم من حج مع رفقائه وهو جاهل بمناسك الحج والعمرة، وبعد ما قضى حجه ومضى على ذلك مدة عرف مناسك الحج والعمرة، وشك في السعي، فما الحكم؟
الجواب
الذي نرى أنه إذا شك الإنسان في أنه طاف أو سعى أو رمى مع طول المدة، فإنه لا يلتفت لهذا الشك؛ وذلك لأن النسيان يرد كثيراً على الإنسان، فليطرح الشك وليبعده عن قلبه؛ لأن الإنسان إذا طرأت عليه الشكوك وكثرت عليه تذبذب في حياته وتعب، ولحقه الوسواس في طهارته وصلاته، بل وفي أهله، فالذي أرى أن يعرض عن هذا الشك ويتلهى عنه.
إلا إذا تيقن فحينئذ يُفتى بما يقتضيه الحال، وأما إذا كان مجرد شك: هل سعى أم لم يسع، فالأصل أنه سعى، وأن هؤلاء الرفقة سيسعون وسيسعى معهم، فأرى أن يتلهى عن ذلك ولا يخطر على باله، والأصل السلامة.
ولهذا قال العلماء قاعدة ينبغي أن نفهمها وهي: أن الشك بعد فراغ العبادة لا يؤثر ما لم يتيقن.
فمثلاً: لو سلمت من الصلاة ثم بعد السلام شككت: هل صليت ثلاثاً أو أربعاً؟ فلا تلتفت إلى هذا الشك، إلا إذا تيقنت أنك صليت ثلاثاً فحينئذ تأتي بما يلزمك في هذه المسألة.(59/21)
ضوابط المبيت بمنى وحكم السكن خارجه
السؤال
فضيلة الشيخ: شخص حج وسكن خارج منى، ما هي الضوابط للمبيت في منى؟
الجواب
إذا لم يجد الإنسان مكاناً في منى فلينزل حيث انتهت الخيام، أما إذا كان يجد مكاناً فإن الواجب أن يبيت فيها، والضابط في المبيت: أن يكون في منى معظم الليل -أي: أكثر الليل- لكن من نزل من منى -مثلاً- لطواف الإفاضة في أول الليل، ثم لم يتيسر له من الزحام أن يرجع إلا بعد طلوع الفجر فإنه لا شيء عليه.(59/22)
جواز الجمع والقصر للمسافر
السؤال
أعمل في قرية تبعد (200) كيلو عن مكان سكني، وأرجع الخميس والجمعة إلى مدينتي، ويوم الأربعاء بعد الحصة الخامسة أصلي الظهر وأجمع العصر معه؛ لأنه يؤذن العصر وأنا في الطريق، وأقصر أيضاً، فهل هذا العمل صحيحاً؟
الجواب
أنتم الآن مسافرون لا شك، ما دامت القرية تبعد عن مدينتكم (200) كيلو وأنكم تبقون من السبت إلى الأربعاء فأنتم مسافرون من حين أن تخرجوا من بلادكم إلى أن ترجعوا إليها، لكم القصر ولكم الإتمام، ولكم الجمع ولكم الإفراد، لكن إذا كنتم في البلد يجب عليكم أن تصلوا مع الجماعة، فإذا فاتت عليكم الجماعة فلكم أن تقصروا.(59/23)
قول الصحابي وحجيته
السؤال
فضيلة الشيخ: بعض الناس قد يستدل للحكم على مسألة معينة بقول صحابي أو فعله أو فتواه، ويكون في السنّة دليل أشمل وأقوى وأوضح من فعل الصحابي، ويحتج على ذلك بأن ذلك من اتباع سنّة الخلفاء الراشدين وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم باتباعها.
فهل يعتبر فعل الصحابي سنة من سنة الخلفاء الراشدين أم لا؟
الجواب
أولاً -بارك الله فيك- العلماء مختلفون هل قول الصحابي حجة أم لا؟ فمن العلماء من قال: لا حجة إلا في ما قال الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10] وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] فلم يذكر طرفاً ثالثاً، فقول الصحابي كقول غيره ليس بحجة، لكن لا شك أن الصحابة أقرب إلى الصواب ممن بعدهم.
ومنهم من قال: إن قول الصحابي حجة إذا كان من أهل العلم والفقه؛ لأنك كما تعرف إذا جاء أعرابي عند النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم ثم رجع إلى إبله فهو صحابي، لكن قد يكون جاهلاً في كثير من مسائل العلم، أما إذا كان الصحابي من الفقهاء المعروفين بالفقه فإن قوله حجة بشرطين: الشرط الأول: ألا يخالف قول الله ورسوله؛ فإن خالف قول الله ورسوله وجب طرحه والأخذ بما قال الله ورسوله.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: [يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر!!] ، وقال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور:63] أي: عن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم: {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] قال الإمام أحمد: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك؛ لعله إذا رد بعض قول الرسول أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك، نسأل الله العافية.
الشرط الثاني: ألا يخالف قول صحابي آخر؛ فإن خالف قول صحابي آخر وجب النظر في الراجح؛ لأنه ليس قول أحدهما أولى بالقبول من الآخر، ولكن ننظر في الراجح، فإذا كان أحد المختلفين أدنى من الآخر في الفقه في دين الله قدم الأعلم، وهو مقتضى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) فقدم أولاً سنته؛ لأن سنته صلى الله عليه وسلم مقدمة على كل شيء.
مثال ذلك: ورد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه إذا كان في حج أو عمرة قبض على لحيته وقص ما زاد عن القبضة، فهذا في ظاهره مخالف لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وفروا اللحى وحفوا الشوارب) ، ففعل ابن عمر هنا لا يحتج به على عموم قول الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن قول الرسول مقدم على فعل ابن عمر، ثم إن ابن عمر كان يفعله إذا حج أو اعتمر لا مطلقاً، فبعض الناس يقول: إذا جاء نص عن الرسول عام وفعل صحابي فإنه يخصص هذا النص العام بفعل الصحابي.
ولكن هذا ليس بصحيح، بل إن بعض العلماء قال: إن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه لا يخصص عموم قوله، وممن ذهب إلى هذا الأخير: الشوكاني رحمه الله، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا) ، هذا الحديث عام في الصحراء والبنيان، وحديث ابن عمر: (رقيت يوماً على بيت حفصة، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة) ، وهو يقتضي أنه لا بأس باستدبار الكعبة إذا كان الإنسان في البنيان، فمن العلماء من قال: العبرة بعموم اللفظ: (لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها) وفعل الرسول هذا لا يخصص العام؛ لاحتمال أن يكون هذا خاصاً به، وأن له عذراً، أو أنه نسي أو ما أشبه ذلك.
المهم أن هذه القاعدة -أيضاً- وهي أن بعض العلماء يقول: فعل الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخصص قوله، فيقدم عموم قوله على خصوص فعله للاحتمالات التي ذكرناها، ولكن الصحيح أن فعله صلى الله عليه وسلم يخصص قوله؛ لأن الكل سنة، فإن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم قوله وفعله وإقراره، أما فعل غيره فلا يخصص قوله.(59/24)
التفصيل في مسألة القيام
السؤال
فضيلة الشيخ أحسن الله إليك نريد التفصيل في مسألة القيام عند الدخول أو عند السلام؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
ذكر ابن القيم رحمه الله كلاماً جيداً حول هذا الموضوع، وخلاصته أنه يقال: قام للرجل، وقام إلى الرجل، وقام على الرجل.
فأما القيام إلى الرجل فهو من السنّة، إذا كان الرجل الذي قمت إليه أهلاً لذلك، مثل لو دخل إنسان له فضل في علمه أو دينه أو ماله، ثم قمت لتتلقاه فهذا من السنّة، ولهذا لما جاء سعد بن معاذ رضي الله عنه وقد حكّمه النبي صلى الله عليه وسلم في اليهود وأقبل قال: (قوموا إلى سيدكم) ، ولأن هذا من الإكرام لذوي الفضل، وإكرام ذوي الفضل من محاسن الأعمال والآداب.
والثاني: القيام على الرجل، وهذا منهي عنه، نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: (لا تقوموا كما تقوم الأعاجم على ملوكها) حتى في الصلاة، إذا صلى الإمام جالساً فإن من وراءه يصلون جلوساً؛ لئلا يشبهوا الأعاجم في قيامها على ملوكها، فمثلاً لو كان الإمام لا يستطيع أن يصلي قائماً فصلى قاعداً، فعلى المأمومين الذين خلفه أن يصلوا قعوداً وإن كانوا قادرين على القيام، حتى لا يكونوا متشبهين بالأعاجم في القيام على ملوكهم.
ويستثنى من ذلك ما إذا كان في القيام على الرجل مصلحة، كإغاظة الكفار فلا بأس، بل قد يكون من الأمور المطلوبة، مثل قيام المغيرة بن شعبة رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يفاوض رسول قريش في صلح الحديبية، فإن المغيرة بن شعبة كان قائماً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه السيف؛ لأن في هذا إغاظة للمشركين، ولهذا كان الصحابة في ذلك الوقت يفعلون معه شيئاً لا يفعلونه في غيره؛ كان الرسول إذا تنخم النخامة استقبلوها بأيديهم ودلكوا بها وجوههم وصدورهم، كل هذا إغاظةً لقريش، ولهذا أثرت على رسول قريش لما رجع إلى قومه قال: يا قوم! دخلت على الملوك؛ كسرى وقيصر والنجاشي فلم أر أحداً يعظمه أصحابه مثل ما يعظم أصحاب محمد محمداً فالمهم أن القيام على الرجل منهيٌ عنه إلا إذا كان في ذلك مصلحة دينية.
القسم الثالث: القيام للرجل، وصورته أن يدخل رجل علينا فنقوم له تكريماً، فهذا لا بأس به، لكن الأولى تركه؛ لأن من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يكره أن يقوم أصحابه له، ولهذا كان الرسول يدخل ولا يقومون له وهو أشرف البشر عليه الصلاة والسلام، وكان يجلس حيث ينتهي به المجلس ولو عند الباب، لكنه إذا جلس في مكان كان ذلك المكان صدر المجلس.
فالخلاصة: أن القيام على ثلاثة أقسام: الأول: القيام للرجل.
الثاني: القيام على الرجل.
الثالث: القيام إلى الرجل.
وفيها الأحكام المذكورة آنفاً.(59/25)
حكم الرهان في المسائل الشرعية
السؤال
فضيلة الشيخ: بعض الطلاب في مذاكرة العلم يقولون: من يخطئ في مسألةٍ يكون مطالباً بشراء كتاب -مثلاً- لمن أصاب فيها، فهل هذا حلال؟
الجواب
هذه مسابقة، ويرى شيخ الإسلام أنه لا بأس بالمسابقة الشرعية، وقد علل ذلك -رحمه الله- موضحاً أن الجهاد يكون إما بالعلم، وأما بالسلاح، واستدل كذلك بما ذكر عن أبي بكر رضي الله عنه لما نزل قوله تعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:1-4] فالفرس هم الذين غلبوا الروم، والروم نصارى من أهل الكتاب، والفرس مجوس ليس لهم كتاب، قال الله تعالى: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم:4-5] لأن المؤمنين يحبون انتصار النصارى على الفرس؛ لأن النصارى أهل كتاب فهم أقرب إلى الصواب من المجوس، وقريش تحب أن ينتصر المجوس على الروم؛ لأن المجوس مشركون، فقالت قريش: لا يمكن للروم أن تغلب الفرس؛ لأن الفرس أقوى منهم، وهم لا يؤمنون بالقرآن، فراهنهم أبو بكر على شيء من الإبل إلى مدة سبع سنين، فمضت السنون السبع ولم يحدث شيء، فذهب أبو بكر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (زد في الأجل سنتين وزد في الرهان) لأن كلمة (في بضع سنين) من ثلاث إلى تسع، فأمره أن يحتاط فيزيد في الأجل ويزيد في العوض، ففعل أبو بكر، فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على الفرس.
ومن هذه المسألة استدل شيخ الإسلام على جواز الرهان في مسائل العلم الشرعي.(59/26)
حكم صلاة المنفرد خلف الصف
السؤال
ما حكم صلاة المنفرد خلف الصف، هل تصح أم تبطل؟
الجواب
قال الأئمة الأربعة: الشافعي، ومالك، وأبو حنيفة، وأحمد في رواية عنه: إن صلاة المنفرد خلف الصف صحيحة، سواء تم الصف أم لم يتم، وقالوا: إن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمنفرد خلف الصف) كقوله: (لا صلاة بحضرة طعام) وأن المعنى: لا صلاة كاملة، لكن هناك رواية عن أحمد أن الصلاة لا تصح لمنفرد خلف الصف بكل حال، عكس الرواية التي وافق فيها الأئمة الثلاثة، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد؛ أن صلاة المنفرد خلف الصف لا تصح بأي حال من الأحوال حتى ولو تم الصف.
وتوسط شيخ الإسلام رحمه الله فقال: إن كان الصف تاماً فإنها تصح صلاة المنفرد خلفه؛ لأنه الآن عاجز عن المصافة {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286] وإن كان الصف لم يتم فلا يصح أن يصلي خلف الصف منفرداً لعدم العذر، وهذا القول الذي اختاره شيخ الإسلام هو اختيار شيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله، وهو الذي نراه صواباً: أنه إذا كان الصف تاماً فصلِ وحدك، ولا تجذب أحداً، ولا تتقدم للصلاة مع الإمام.
هذا هو القول الصحيح الذي نراه أقرب إلى السنة من القول بالبطلان مطلقاً أو بالصحة مطلقاً.(59/27)
لقاء الباب المفتوح [60]
شرح الشيخ رحمه الله آيات من سورة الغاشية، وبين فيها صفة المؤمنين يوم القيامة، وعن وجوههم الناعمة بما أعطيت، وعن صفة الجنة بأنها عالية وصفة فرشها وثمرها، وأن المؤمنين رضوا بما أعطوا فيها، ثم أجاب عن الأسئلة.(60/1)
تفسير آيات من سورة الغاشية
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا لقاء الباب المفتوح الموفي ستين لقاءً من ابتدائه، وهو اللقاء الثاني من شهر محرم عام (1415هـ) ، وهو اليوم السابع من الشهر.(60/2)
تفسير قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناعمة)
في هذا اللقاء نتكلم على قول الله تبارك وتعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} [الغاشية:8-11] إلى آخر الآيات.
قسم الله سبحانه وتعالى الناس يوم القيامة إلى قسمين: القسم الأول: وجوه خاشعة عاملة ناصبة، وسبق الكلام على ذلك.
القسم الثاني: وجوه ناعمة، أي: ناعمة بما أعطاها الله عز وجل من السرور والثواب الجزيل؛ لأنها علمت ذلك وهي في قبورها، فإن الإنسان في قبره يُنَعّم؛ يفتح له بابٌ إلى الجنة، فيأتيه من روحها ونعيمها، فهي ناعمة.(60/3)
تفسير قوله تعالى: (لسعيها راضية)
قال تعالى: {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} [الغاشية:9] أي: لعملها الذي عملته في الدنيا؛ لأنها وصلت به إلى هذا النعيم وهذا السرور وهذا الفرح، فهي راضية لسعيها بخلاف الوجوه الأولى فإنها غاضبة والعياذ بالله وغير راضية على ما قدمت.(60/4)
تفسير قوله تعالى: (في جنة عالية)
قال تعالى: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الغاشية:10] الجنة: هي دار النعيم التي أعدها الله عز وجل لأوليائه يوم القيامة؛ فيها ما لا عين رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر، قال الله تبارك وتعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] .
وقال الله تبارك وتعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ إلى قوله: {أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:1-11] وقال الله تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71] فهم في جنة عالية، والعلو ضد السفول، فهي فوق السماوات السبع.
ومن المعلوم أنه في يوم القيامة تزول السماوات السبع والأرضون، ولا يبقى إلا الجنة والنار، فهي عالية، وأعلاها ووسطها الفردوس الذي فوقه عرش الرب جل وعلا.(60/5)
تفسير قوله تعالى: (لا تسمع فيها لاغية)
قال تعالى: {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} [الغاشية:11] أي: لا تسمع في هذه الجنة قولة لاغية، أو نفساً لاغية، بل كل ما فيها جد، وسلام، وتسبيح، وتحميد، وتهليل، وتكبير؛ يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس -أي: إنه لا يشق عليهم ولا يتأثرون به- فهم دائماً في ذكر لله عز وجل وتسبيح وأنسٍ وسرور، ويأتي بعضهم إلى بعض يزور بعضهم بعضاً، فهم في حبور لا نظير له، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها!(60/6)
تفسير قوله تعالى: (فيها عين جارية)
قال تعالى: {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} [الغاشية:12] وهذه العين بين الله عز وجل أنها أنهار {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً} [محمد:15] (جارية) أي: تجري حيث أراد أهلها؛ لا تحتاج إلى حفر ساقية ولا إلى إقامة أخدود كما قال ابن القيم رحمه الله:
أنهارها في غير أخدود جرت سبحان ممسكها عن الفيضان(60/7)
تفسير قوله تعالى: (فيها سرر مرفوعة)
قال تعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية:13-16] انظر للتقابل: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} [الغاشية:13] عالية، يجلسون عليها، يتفكهون {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} [يس:56] .(60/8)
تفسير قوله تعالى: (وأكواب موضوعة)
قال تعالى: {وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} [الغاشية:14] الأكواب جمع كوب وهو الكأس ونحوه {مَوْضُوعَةٌ} أي: ليست مرفوعة عنهم؛ بل هي موضوعة لهم متى شاءوا شربوا فيها من هذه الأنهار الأربعة التي سبق ذكرها.(60/9)
تفسير قوله تعالى: (ونمارق مصفوفة)
قال تعالى: {وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ} [الغاشية:15] النمارق: جمع نمرقة، وهي الوسادة أو ما يُتكأ عليه، مصفوفة على أحسن وجه، تتلذذ العين بها قبل أن يلتذذ البدن بالاتكاء عليها.(60/10)
تفسير قوله تعالى: (وزرابي مبثوثة)
قال تعالى: {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية:16] الزرابي: أعلى أنواع الفرش ((مَبْثُوثَةٌ)) منشورة في كل مكان، ولا تظنوا أن هذه النمارق، والأكواب، والسرر، والزرابي أنها تشبه ما في الدنيا؛ لأنها لو كانت تشبه ما في الدنيا لكنا نعلم نعيم الآخرة، ونعلم حقيقته، لكنها لا تشبه ما في الدنيا لقول الله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] ، فالأسماء واحدة والحقائق مختلفة، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: [ليس في الآخرة مما في الدنيا إلا الأسماء فقط] فنحن لا نعلم حقيقة هذه النعم المذكورة في الجنة، وإن كنا نشاهد ما يوافقها في الاسم في الدنيا، ولكن هناك فرق بين هذا وهذا.
ثم قال تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية:17] ويكون إن شاء الله الكلام عليه في لقاء مقبل، والآن إلى الأسئلة.(60/11)
الأسئلة(60/12)
الاستشهاد بالقرآن في سياق الكلام.
حكمه وشروطه
السؤال
فضيلة الشيخ! كثيراً ما يتناقل بعض الناس أثناء الحديث على ألسنتهم آيات من القرآن الكريم أو من السنة على سبيل المزاح، مثاله: كأن يقول بعضهم: فلان {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس:13] أو قول بعضهم للبعض: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] واليوم رأينا نون وما يعلمون.
وهكذا، ومن السنة: كأن يقول أحدهم إذا ذُكّر ونُصح بترك المعصية: يا أخي (التقوى هاهنا) أو قوله: (إن الدين يسر) وهكذا، فما قولكم في أمثال هؤلاء وما نصيحتكم لهم؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين.
أما من قال هذا على سبيل الاستهزاء والسخرية فإنه على خطر عظيم، وقد يقال إنه خرج من الإسلام؛ لأن القرآن لا يجوز بأي حال من الأحوال أن يتخذ هزواً، وكذلك الأحكام الشرعية كما قال الله تبارك وتعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة:64-66] .
ولهذا قال العلماء رحمهم الله: من قال كلمة الكفر ولو مازحاً فإنه يكفر، ويجب عليه أن يتوب، وأن يعتقد أنه تاب من الردة، فيجدد إسلامه، فآيات الله عز وجل ورسوله أعظم من أن تتخذ هزواً أو مزحاً.
أما من استشهد بآية على واقعة جرت وحدثت فهذا لا بأس به، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم استشهد بالآيات على الوقائع، فاستشهد بقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] حينما جاء الحسن والحسين يتعثران في أثوابهما، فنزل من المنبر صلى الله عليه وسلم وقال: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَة} [التغابن:15] فالاستشهاد بالآيات على الوقائع لا بأس به، وأما أن تنزّل الآيات على ما لم يرد الله بها ولاسيما إن قارن ذلك سخرية واستهزاء فالأمر خطير جداً.(60/13)
الجمع بين حديثي: (إن البحر هو جهنم) و (يؤتى بجهنم يوم القيامة ولها سبعون زمام)
السؤال
فضيلة الشيخ! ما وجه الجمع بين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن البحر هو جهنم) وقوله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى يوم القيامة بجهنم ولها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها) كيف نجمع بينهما؟
الجواب
أما الأول وهو قوله أنه قال: (إن البحر هو جهنم) فلا يصح هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن كثيراً من العلماء قالوا في قول الله تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير:6] إنها هي جهنم، ومعنى سجرت: أوقدت فتكون ناراً.
ولا منافاة بين هذا وهذا؛ لأن أحوال يوم القيامة لا تقاس بأحوال الدنيا؛ أحوال الدنيا يوم القيامة لا يعرفها أحد -أي: لا يعرف حقيقتها وكنهها- إلا الله عز وجل، أو من شاهدها يوم القيامة، أما الآن فأحوال الآخرة غير معلومة من حيث الحقيقة، ولا يمكن أن نقيسها بأحوال الدنيا، فيمكن أن تكون هذه البحار يؤتى بها يوم القيامة وهي نار تجر بسبعين ألف زمام، ولا غرابة في ذلك.
وأقول لكم: إنه لا يمكن أن تقاس أحوال الآخرة بأحوال الدنيا لئلا يشتبه عليكم شيء آخر أعظم من هذا، وهو أنه في يوم القيامة تدنو الشمس من الرءوس حتى تكون على قدر ميل، والميل: إما هو ميل المكحلة وهو قصير جداً، وإما ميل المسافة الذي هو كيلو ونصف تقريباً، وأياً كان فإننا لو قسنا أحوال الآخرة بأحوال الدنيا لكانت الشمس إذا قربت من الناس إلى هذا الحد انمحوا من الوجود لشدة حرارتها.
وأيضاً أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس يعرقون يوم القيامة على قدر أعمالهم، فمنهم من يبلغ العرق إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ العرق إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغ العرق إلى حقويه، ومنهم من يلجمهم العرق، وهم في مكان واحد.
ولو قسنا هذا بأحوال الدنيا لكان ذلك متعذراً، لكن أحوال الآخرة لا تقاس بأحوال الدنيا، وهذا أمر يجب على الإنسان أن يتفطن له وألا يقيس أحوال الآخرة بأحوال الدنيا، كما أنه لا يجوز أن يقيس صفات الله عز وجل بصفات المخلوقين، فمثلاً: إذا جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر) وهو نزول حقيقي يليق بجلاله وعظمته، وجاءت الآية الكريمة: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة:255] وقوله: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] فيقول: كيف يكون هذا؟ كيف يكون نزول الله عز وجل إلى السماء الدنيا، والسماء الدنيا بالنسبة إليه ليست بشيء؟ فيقال: يجب عليك السمع والتصديق في الأخبار، والسمع والطاعة في الأحكام، سواءً أدرك ذلك عقلك أم لم يدركه؛ لأن ما يتعلق بالرب جل وعلا لا يشبه ما يتعلق بالمخلوقين، فنحن نؤمن بأن الله ينزل نزولاً حقيقياً إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، ولكن كيف ذلك؟ الله أعلم، وقد سئل الإمام مالك رحمه الله عن قول الله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فقيل له: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟ فأطرق برأسه حتى علاه الرحضاء -وهو العرق- خجلاً وحياءً، وتحملاً لهذا السؤال العظيم، ثم رفع رأسه وقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.(60/14)
حكم إدراك التشهد الأخير يوم الجمعة
السؤال
فضيلة الشيخ! ماذا يفعل المأموم يوم الجمعة إذا جاء إلى الصلاة والإمام في التشهد الأخير، هل يقضي أربعاً أم يصلي اثنتين؟
الجواب
إذا جاء الإنسان والإمام في التشهد الأخير يوم الجمعة فقد فاتته الجمعة، فيدخل مع الإمام ويصلي ظهراً، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) فإن مفهوم هذا أن من أدرك أقل من ذلك لم يكن مدركاً للصلاة، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أدرك ركعة من الجمعة فليضف إليها أخرى) أي: فقد أدرك صلاة الجمعة إذا قام وأتى بالركعة الثانية.(60/15)
جواز سؤال الخطيب أثناء خطبة الجمعة لمن دخل ثم جلس: (أصليت؟)
السؤال
فضيلة الشيخ حفظك الله! إذا كان الخطيب يخطب الناس في صلاة الجمعة فدخل رجل فجلس دون أن يصلي ركعتين فأنكر عليه، هل يشرع في حقه تكرار الإنكار على الأشخاص الآخرين الذين يدخلون بعده ولم يعلموا؟ أرجو توضيح هذه المسألة وجزاكم الله خيراً.
الجواب
إذا دخل الإنسان والإمام يخطب يوم الجمعة ثم جلس فالخطيب لا ينكر عليه مباشرة، بل يقول كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، يقول له: (أصليت؟) فإن قال: لا.
فيقول له: (قم فصل ركعتين وخففهما) وإن قال: صليت.
انتهى الأمر، وكذلك لو دخل ثانٍ وثالث فإنه يقول لهم هذا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال قولاً أو فعل فعلاً في حادثة فهو لجميع الحوادث المماثلة.(60/16)
حكم سماع الأشرطة التي فيها ردود بين طلاب العلم
السؤال
فضيلة الشيخ! ما رأيكم في الأشرطة التي يكون فيها ردود بين طلاب العلم؟
الجواب
أرى أن الأشرطة التي يكون فيها أخذ ورد وإذا تأملته وجدته ليس إلا جدلاً أرى ألا تخرج؛ لأن هذه توجب تذبذب المستمعين، وانقسامهم إلى أقسام، أما إذا كان رداً لا بد منه بحيث يكون شخص أعلن في شريط شيئاً باطلاً لابد من بيانه فهذا لابد من نشره، أي: لابد من هذا الرد.
والإنسان يعلم ذلك بالقرائن، أي يعلم أن ما نشر مجرد جدال بين الناس أو أنه بيانٌ للحق، فما كان بياناً للحق فلا بد أن ينشر، وما كان مجرد جدال فلا أرى أن ينشر؛ لأن الناس في حاجة ماسة إلى ما يؤلف بينهم، لا إلى ما يفرق بينهم، وكما تعلمون -بارك الله فيكم- أن كثيراً من الناس لا يدركون الأمور على ما ينبغي، فربما يغتر أحدهم بهذا وربما يغتر أحدهم بهذا فتحل بذلك الفتنة.(60/17)
حكم الطيب الذي يحتوي على الكحول
السؤال
فضيلة الشيخ! ما حكم استعمال الطيب (الكولونيا) الذي يحتوي على الكحول؟
الجواب
الأطياب التي يقال إن فيها كولونيا أو إن فيها كحولاً لا بد أن نفصل فيها فنقول: إذا كانت النسبة من الكحول قليلة فإنها لا تضر، وليستعملها الإنسان بدون أن يكون في نفسه قلق، مثل أن تكون النسبة (5%) أو (2%) أو (1%) ، فهذا لا يؤثر.
وأما إذا كانت النسبة كبيرة بحيث تؤثر فإن الأولى ألا يستعملها الإنسان إلا لحاجة، مثل تعقيم الجروح وما أشبه ذلك، أما لغير حاجة فالأولى ألا يستعملها، ولا نقول: إنه حرام، وذلك لأن هذه النسبة الكبيرة أعلى ما نقول فيها إنها مسكر، والمسكر لا شك أن شربه حرام بالنص والإجماع، لكن هل الاستعمال في غير الشرب حلال؟ هذا محل نظر، والاحتياط ألا يستعمل، وإنما قلت: إنه محل نظر؛ لأن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91] ، فإذا نظرنا إلى عموم قوله: (فَاجْتَنِبُوهُ) أخذنا بالعموم وقلنا: إن الخمر يجتنب على كل حال، سواءً كان شراباً أو دهاناً أو غير ذلك، وإذا نظرنا إلى العلة: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91] تبين أن المحظور إنما هو شربه؛ لأن مجرد الادهان به لا يؤدي إلى هذا.
فالخلاصة الآن أن نقول: إذا كانت نسبة الكحول أو الكالونيا في هذا الطيب قليلة فإنه لا بأس به ولا إشكال فيه ولا قلق فيه، وإن كانت كبيرة فالأولى تجنبه إلا من حاجة، والحاجة مثل أن يحتاج الإنسان إلى تعقيم جرح أو ما أشبه ذلك.(60/18)
الجنة منازل بحسب الأعمال
السؤال
فضيلة الشيخ! هل الجنة على منزلة واحدة أم أنها متفاوتة في الكرامة والمنازل؟
الجواب
الجنة ليست سواءً وإنما هي بحسب الأعمال، لقول الله تبارك وتعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام:132] ولقوله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله) فالناس متفاوتون في الأعمال، فمن كمال عدل الله عز وجل أن يتفاوتوا في الثواب، لكن نعيم الجنة على سيبل العموم كامل من جميع الوجوه (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) واقرأ ذكر منازل الجنات في آخر سورة الرحمن حيث قال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] ثم قال بعد ذلك: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن:62] .
وهاتان الجنتان الأوليان والأخريان هنّ أيضاً متفاوتات بحسب أعمال الناس، كما أن النار -أعاذنا الله وإياكم منها- دركات بعضها أسفل من بعض وأشد عذاباً من بعض، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أهون الناس عذاباً في النار من هو في ضحضاح من نارٍ وله نعلان يغلي منهما دماغه) .(60/19)
حكم توزيع شريط وكتاب كل شهر على كل أسرة برسوم اشتراك تعاونية
السؤال
فضيلة الشيخ! لدي مشروع في قرية من القرى، وهو عبارة عن توزيع شريط وكتاب كل شهر على كل أسرة، بشرط الاشتراك بقيمة خمسين ريالاً، ونستغل هذه الفلوس في المسابقة من خلال هذا التوزيع على البيوت، فهل يجوز ذلك؟ وإذا كان هناك فائض من الأشرطة والكتب فأين تصرف؟
الجواب
إذا كان المقصود من هذه العملية المعاوضة، يعني أن نأخذ من كل إنسان تأتيه هذه الكتيبات خمسين ريالاً كل شهر على سبيل المعاوضة فإنها لا تجوز؛ لأن العوض مجهول؛ إذ لا يعلم الذي سلم الدراهم ماذا يأتيه من هذه الكتيبات ومن هذه الأشرطة.
وإن كان على سبيل التعاون وأنهم جعلوا صندوقاً يجمعون فيه كل شهر خمسين ريالاً، ثم يشترى من هذا المجموع كتيبات وأشرطة نافعة توزع على الناس، فهذا لا بأس به، وبناءً على هذا نقول: بالنسبة للفاضل الذي سألت عنه؛ فإذا فضل شيء بعد التصفية فإنه يستشار المساهمون في هذا أين تصرف؟ فإن وكلوا الأمر إلى القائم على هذا الصندوق فيما يرى أن فيه مصلحة، فليصرف الفاضل إليه.(60/20)
حكم الزواج بنية الطلاق
السؤال
فضيلة الشيخ! سمعنا فتوى تنسب للشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله، وقيل: إن فضيلتكم قد أفتيتم بذلك أيضاً، وهي أنه يجوز للإنسان أن يتزوج بنية الطلاق، فما صحة هذه الفتوى؟
الجواب
نعم.
ذكر الشيخ عبد العزيز وكذلك اللجنة الدائمة للإفتاء أنه يجوز للغريب أن يتزوج بنية الطلاق دفعاً لما يخشى منه من الوقوع في الفاحشة، وفرقوا بينه وبين نكاح المتعة بأن نكاح المتعة مؤجل لأجل مسمى؛ إذا انتهى الأجل انفسخ النكاح، وهو محرم -أعني: نكاح المتعة- وهذه المسألة -أعني تزوج الغريب بنية الطلاق- فيها خلاف بين العلماء، فمنهم من قال: إنه لا بأس أن يتزوج الغريب بنية الطلاق، أي: أنه زوجٌ لهذه المرأة ما دام في هذا البلد وبنيته أنه متى سافر طلقها.
وقال بعض العلماء: إنه لا يجوز؛ وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، والمعروف في كتب أصحابه المتأخرين أنه لا يجوز للغريب أن يتزوج بنية الطلاق، قالوا: لأن هذه نية متعة؛ لأنك لو سألت هذا الغريب لِمَ تزوجت؟ أتريد أن تكون زوجتك سكناً لك؟ أتريد أن يولد لك منها أولاد؟ لقال: لا أريد هذا ولا هذا، أريد أن أستمتع بها ما دمت في هذا البلد، وأن أحمي نفسي مما أخشاه من الوقوع في الفاحشة، فنقول: إذاً لم تقصد بهذا النكاح المقصود الشرعي من النكاح؛ لأن المقصود الشرعي في النكاح أن تكون المرأة سكناً للزوج، كما قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم:21] ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) .
ثم إن هذا القول يستغله ضعفاء الإيمان لأغراضٍ سيئة، كما سمعنا أن بعض الناس صاروا يذهبون في العطلة -أي: في الإجازة من الدروس- إلى بلاد أخرى ليتزوجوا فقط بنية الطلاق، وحُكي لي أن بعضهم يتزوج عدة زواجات في هذه الإجازة فقط، فكأنهم ذهبوا ليقضوا وطرهم الذي يشبه أن يكون زنا والعياذ بالله.
ومن أجل هذا نرى أنه حتى لو قيل بالجواز فإنه لا ينبغي أن يفتح الباب؛ لأنه صار ذريعة لما ذكرت.
أما رأيي في ذلك فإني أقول: عقد النكاح من حيث هو عقد صحيح؛ لأن كل إنسان يتزوج وفي نيته إن رغب بقي مع المرأة وإن لم يرغب تركها، لكن فيه غش وخداع، فهو يحرم من هذه الناحية، والغش والخداع هو أن الزوجة ووليها لو علما بنية هذا الزوج وأن من نيته أن يستمتع بها مدةً ثم يطلقها ما زوجوه، فيكون في هذا غش وخداع لهم، فإن بين لهم أنه يريد أن تبقى معه مدة بقائه في هذا البلد واتفقوا على ذلك صار نكاح متعة، لذلك أرى أنه حرام، لكن لو أن أحداً تجرأ ففعل فإن النكاح صحيح.(60/21)