كتاب القضاء
من يصح منه القضاء
...
كتاب القضاء
"إنما يصح قضاء من كان مجتهدا" لما في الكتاب العزيز من الأمر بالقضاء بالعدل والقسط وبما أراه الله ولا يعرف العدل إلا من كان عارفا بما في الكتاب والسنة من الأحكام ولا يعرف ذلك إلا المجتهد لأن المقلد إنما يعرف قوله إمامه دون حجته وهكذا لا يحكم بما أراه الله إلا من كان مجتهدا لا من كان مقلدا فما أراه الله شيئا بل أراه إمامه ما يختاره لنفسه ومما يدل على اعتبار الاجتهاد حديث بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار" أخرجه ابن ماجه وأبو داود والنسائي والترمذي والحاكم وصححه وقد جمع ابن حجر طرقه في جزء مفرد ووجه الدلالة منه أنه لا يعرف الحق إلا من كان مجتهدا وأما المقلد فهو(2/245)
يحكم بما قال إمامه ولا يدري أحق هو أم باطل فهو القاضي للناس على جهل وهو أحد قاضيي النار ومن الأدلة على اشتراط الاجتهاد قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} و {الظَّالِمُونَ} و {الْفَاسِقُونَ} ولا يحكم بما أنزل الله إلا من يعرف التنزيل والتأويل ومما يدل على ذلك حديث معاذ لما بعثه صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال له: "بما تقضي" قال: بكتاب الله قال: "فإن لم تجد" قال: فبسنة رسول الله قال: "فإن لم تجد" قال فبرأيي قال الماتن: وهو حديث مشهور قد بينت طرقه ومن خرجه في بحث مستقل ومعلوم أن المقلد لا يعرف كتابا ولا سنة ولا رأي له بل لا يدري بأن الحكم موجود في الكتاب أو السنة فيقضي به أو ليس بموجود فيجتهد برأيه فإذا ادعى المقلد أن حكم برأيه فهو يعلم أنه يكذب على نفسه لاعترافه بأنه لايعرف كتابا ولاسنة فإذا زعم أنه حكم برأيه فقد أقر على نفسه أنه حكم بالطاغوت وللسيد العلامة محمد بن إسمعيل الأمير رسالة مستقلة في تيسير الاجتهاد سماها إرشاد النقاد فليرجع إليها1 أقول الحاصل أن المقلد ليس ممن يعقل حجج الله إذا جاءته فضلا عن أن يعرف الحق من الباطل والصواب من الخطأ والراجح من المرجوح لا ينبغي أن ينسب المقلد إلى العلم مطلقا ولهذا نقل عضد الدين الإجماع على أنه لا يسم المقلد عالما وأما ما صار يستروح إليه من جوز قضاء المقلد من قلة المجتهدين في الأزمنة الأخيرة وأنه لو لم يل القضاء إلا من كان مجتهدا لتعطلت الأحكام فكلام في غاية السقوط فالمجتهدون في كل قطر ولكنهم في زمان غربة فمنهم من يخفي اجتهاده مخافة صولة المقصرين ومنهم من يحتقره المقلدون عن أن يكون مجتهدا لضيق إعطائهم وحقارة عرفانهم وتبلد أذهانهم وجمود قرائحهم وخمود أفكارهم ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهله ولقد عرفت مشايخي الذين أخذت عنهم العلم فأكثرهم مجتهدون وفي مدينة صنعاء من المجتهدين من يستغنى به عن القضاة المقلدين في جميع الأقطار اليمنية مع أنه لا يسلم لهم الاجتهاد إلا من كان مثلهم أو مقاربا لهم وأما أسراء التقليد فهيهات أن يذعن واحد واحد منهم لأحد بالاجتهاد مع أن العلوم المعتبرة في الاجتهاد عند هؤلاء المقلدين هي العلوم الخمسة المذكورة في كتب أصول الفقه وهي بالنسبة إلى ما يحفظ من وصفناه من المجتهدين شيء يسير قال الماتن رحمه الله: ومن غريب ما أحكيه لك أنه لما كثر الخلط من قضاة حضرة الخلافة استأذنت الخليفة
__________
1 وقد وفقنا الله إلي طبعها في مجموعة الرسائل المنبرية.(2/246)
حفظه الله في جمعهم لقصد ترغيبهم في العدل وترهيبهم عن الجور فاجتمع منهم نحو أربعين قاضيا فسألتهم عن شئ مما يتعلق بشروط القضاء المدونة في كتب الفروع فلم يهتد أحد منهم إلى الجواب على وجه الصواب بل اعترفوا جمعيا بالقصور عن فهم دقائق التقليد فضلا عن معرفة علوم الاجتهاد أو بعضها وليت أنهم إذا قصروا لم يقصروا في الورع فإن الورع يردع صاحبه عن المجازفة ويرشده إلى أن شفاء العي السؤال ويكفه عن التسلق لأموال المسلمين ويرده عن التسرع إليها بأدنى شبهة ولعمري أن القاضي إذا جمع بين الجهل وعدم الورع أشد على عباد الله من الشيطان لأنه يقضي بين الناس بالطاغوت موهما لهم أنه إنما يقضي بينهم بالشريعة المطهرة ثم ينصب الجبائل لاقتناص أموالهم ويأكلها بالباطل ولا سيما أموال اليتامى والنساء اللهم أصلح عبادك وتداركهم من كل ما لا يرضيك انتهى فإن قلت حديث أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بعث عليا إلى اليمن قاضيا فقال يا رسول الله: بعثتني بينهم وأنا شاب لا أدري ما القضاء قال: فضرب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في صدري وقال: اللهم اهده وثبت لسانه قال علي فوالذي فلق الحبة ما شككت في قضاء بين اثنين" أخرجه أهل السنن وغيرهم هل يدل على جواز قضاء من ليس بمجتهد لقوله "أنا شاب ولا أدي ما القضاء" قلت من تمسك بهذا فليأتنا برجل يدعو للقاضي الذي لا علم له بالقضاء بمثل هذه الدعوة النبوية حتى لا يشك بعدها كما لم يشك علي كرم الله وجهه بعد تلك الدعوة فإذا فعل هذا لنحن لا نخالفه والكلام على هذه المسألة يحتمل البسط وقد قضينا عنها الوطر في كتابنا ظفر اللاضي بما يجب في القضاء على القاضي فليراجع فإن فيه ما يشفي العليل ويهد إلى سواء السبيل "متورِّعاً عن أموال الناس عادلا في القضية حاكما بالسوية" لكون من لم يتورع عن أموال الناس لا يتورع عن الرشوة وهي تحول بينه وبين الحق كما سيأتي وهكذا من لم يكن عادلا لجرأة فيه أو مداهنة أو محاباة فهو يترك الحق وهو يعلم به فهو أحد قضاة النار لأنه عرف الحق وجار في الحكم قال في الحجة البالغة: أقول لا يستوجب القضاء إلا من كان عدلا بريئا من الجور والميل وقد عرف منه ذلك وعالما يعرف الحق لا سيما في مسائل القضاء والسر في ذلك واضح فإنه لا يتصور وجود المصلحة المقصودة إلا بها أقول: وأما توليه القضاء من جهة(2/247)
الظلمة فالسلطان الذي أوجب الله طاعته في كتابه العزيز وتوافرت الأحاديث الصحيحة بذلك هو من كان مسلما لم يفعل ما يوجب كفرا بواحا1 وكان مقيما لأعظم أركان الإسلام وأجل شعائره وهو الصلاة فهذا هو السلطان الذي تجب على الناس طاعته وامتثال أوامره ويحرم عليهم أن ينزعوا أيديهم في طاعته ولكن بشرط أن لا يكون ما يأمر به معصية لما ثبت "أن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" وأن الطاعة في المعروف فإذا أمر بما هو من الطاعة وجب الامتثال وأمره للعالم بأن يكون قاضيا هو أمر بطاعة يجب امتثاله بنص الكتاب والسنة ولا يقدح في ذلك كونه مرتكبا لشئ مما لا يحل له أو يظلم الرعية في بعض ما لا يحل له فإن ذلك أمر آخر لا يوجب سقوط طاعته ونعم القدوة السلف الصالح فقد كانوا يعملون لسلاطين بني أمية الأعمال ويلون لهم القضاء مع كونهم في العلم والعمل بمكان لا يجهله أحد وسلاطين تلك الأزمنة فيهم من يستحل الدماء بغير حقها والأموال بدون حلها نعم القضاء قد ورد فيه ما يدل على الترغيب تارة والترهيب أخرى بل ورد في الإمارة التي هي أعم من القضاء ما يشعر بأن تجنبها أولى والجمع بين الأحاديث فيما يظهر لي يرجع إلى الأشخاص فمن علم من نفسه القيام بالحق والصدع به وعدم الضعف في الأمر وقوة الصلابة في القضاء والعفة عن الأموال والتسوية بين القوي والضعيف فالدخول في القضاء أولى له إن لم يكن واجبا عليه بشرط أن يكون في العلم على الصفة التي قدمنا ذكرها ومن كان يضعف عن هذه الأوصاف فالترك أولى به وقد يجب عليه الترك ومما يرشد إلى هذا قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لأبي ذر: "إني أراك ضعيفا" ثم أرشده إلى عدم الدخول في الإمارة كما ثبت ذلك في الحديث المشهور وقد أوضحت المقام في رسالتي في القضاء وبسطت المقال على مسائل الإمامة في كتابي إكليل الكرامة في تبيان مقاصد الإمامة وهما هما في هذين البابين والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وهو المستعان وبه التوفيق
ويحرم عليه الحرص على القضاء وطلبه لحديث عبد الرحمن بن سمرة في الصحيحين وغيرهما قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها" وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي
__________
1 بفتح الباء والواو أي جهارا من باح بالشئ إذا أعلنه.(2/248)
وحسنه من حديث أنس قال: "قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: من سأل القضاء وكل إلى نفسه ومن جبر عليه ينزل عليه ملك يسدده " وأخرج البخاري وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة فنعم المرضعة وبئست الفاطمة" ولا ينافي هذه الأحاديث ما أخرجه أبو داود بإسناد لا مطعن فيه من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جوره فله الجنة ومن غلب جوره عدله فله النار" لأن إثم الطلب قد لزمه بالطلب وحصل له الثواب بعد ذلك بالعدل الغالب على الجور قال الماتن في نيل الأوطار: وقد كثر التتابع من الجهلة في هذا المنصب الشريف واشتروه بالأموال ممن هو أجهل منهم حتى عمت البلوى بهم جميع الأقطار اليمنية اهـ قلت: ومثل ذلك وقع في الحرمين الشريفين من جهة الترك فإنا لله وإنا إليه راجعون "ولا يحل للإمام تولية من كان كذلك" أي حريصا على القضاء أو طالبا له لحديث أبي موسى في الصحيحين قال: "دخلت على النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنا ورجلان من بني عمي فقال: أحدهما يارسول الله أمِّرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل وقال الآخر مثل ذلك فقال: "إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا يسأله أو أحدا يحرص عليه" والسر فيه أن الطالب لا يخلو غالبا من داعية نفسانية من مال أو جاه أو التمكن من انتقام عدو ونحو ذلك فلا يتحقق منه خلوص النية الذي هو سبب نزول البركات. أقول: وأما أخذ الرزق على القضاء فمال الله موضوع لمصالح المسلمين ولهذا قيل له بيت مال المسلمين ومن أعظم مصالح دينهم ودنياهم القاضي العادل في أحكامه العارف من الشريعة المطهرة بما يحتاج إليه في حله وإبرامه بل ذلك هو المصلحة التي لا توازنها مصلحة لأنه يرشدهم إلى مناهج الشرع ويفصل خصوماتهم بأحكام الله فهو المحتمل لأعباء الدين المترجم عنه لمن يحتاج إليه من المسلمين فرزقه من بيت المال من أهم الأمور ولا سيما إذا استغرق أوقاته في فصل خصوماتهم فقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم والخلفاء الراشدون ومن بعدهم من السلف الصالح يقسمون أموال الله بين المسلمين(2/249)
ويجعلون للعلماء نصيبا موفرا فالقاضي إذا كان متورعا عن أموال العباد قائما بمصالح الحاضر منهم والباد فقد استحق ما يكفيه من بيت المال من جهات منها كونه من المسلمين ومنها كونه عالما ومنها كونه قاضيا وأما ما اعتاده جماعة من القضاة من أخذ الأجرة من الخصوم على الرقوم فمن كان مكفيا من بيت مال المسلمين لا يحل له ذلك لأنه قد قبض أجرته من بيت المال وإن أظهر من يأتيه أن نفسه طيبة به فالذي أوجب طيبها كونه قاضيا وكون الأعراف قد جرت بمثل ذلك وإلا فهو لا يسمح له بماله لو لم يكن كذلك وهذا مما لا شك فيه ولا شبهة وأما إذا لم يكن مكفيا من بيت المال فشرط الحل أن يأخذ مقدار أجرته بطيبة من نفس من يقصده ويكون كالأجير له حكمه لكونه غير مؤجر من بيت مال المسلمين "ومن كان متأهِّلاً للقضاء فهو على خطر عظيم" لحديث أبي هريرة عند أحمد وأبي داود وابن ماجه والترمذي والحاكم والبيهقي والدارقطني وحسنه الترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "من جعل قاضيا بين الناس فقد ذبح بغير سكين" قال في الحجة البالغة: هذا بيان أن القضاء حمل ثقيل وأن الإقدام عليه مظنة للهلاك إلا أن يشاء الله انتهى وأخرج أحمد وابن ماجه والبيهقي من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "ما من حكم يحكم بين الناس إلا حبس يوم القيام وملك آخذ بقفاه حتى يقف به على جهنم ثم يرفع رأسه إلى الله عز وجل فإن قال ألقه ألقاه في مهوي فهوى أربعين خريفا" وفي إسناده عثمان بن محمد الأخنسي وفيه مقال1 وأخرج ابن ماجه والترمذي وحسنه والحاكم في المستدرك وابن حبان من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله مع القاضي ما لم يجر فإذا جار وكله إلى نفسه" وفي لفظ الترمذي: "فإذا جار تخلى عنه ولزمه الشيطان" وفي الباب أحاديث مشتملة على الترهيب وأحاديث مشتملة على الترغيب وقد استوفاها الماتن في شرح المنتقى "وله مع الإصابة أجران ومع الخطأ أجر إن لم يأل جهدا في البحث" يعني بذل طاقته في اتباع الدليل وذلك لأن التكليف بقدر الوسع وإنما وسع الإنسان أن يجتهد وليس في وسعه أن يصيب الحق البتة ودليله حديث عمرو بن العاصي الثابت في الصحيحين وغيرهما عنه صلى الله عليه وسلم "إذا اجتهد الحاكم فأصاب"
__________
1 وثقه ابن معين والبخاري وابن حبان.(2/250)
فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر " وقد ورد في روايات "أنه إذا أصاب فله عشرة أجور" وتحرم عليه الرشوة" وفي الأنوار في تفسير الرشوة وجهان: الأول أن الرشوة هي التي يشترط على قابلها الحكم بغير الحق أو الامتناع عن الحكم بالحق والثاني بذل المال لأحد ليتوسل بجاهه إلى أغراضه إذا كان جاهه بالقضاء والعمل فذلك هو الرشوة ويحرم على الرعية إعطاء الرشوة للحكام ليتوسلوا بذلك إلى ظلم ويحرم على الحكام أخذها قال الله تعالى: {َلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} كذا في المسوى وروى مالك بإسناده أن عبد الله بن رواحة قال: ليهود خيبر: "فأما ما عرضتم من الرشوة فإنما هي سحت وإنا لا نأكلها "والهدية التي أُهديت إليه لأجل كونه قاضيا" لحديث أبي هريرة عند أحمد والترمذي وحسنه وابن حبان وصححه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعنة الله على الراشي والمرتشي في الحكم" وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه وابن حبان والطبراني والدارقطني من حديث عبد الله بن عمرو كحديث أبي هريرة وأخرج أحمد والحاكم من حديث ثوبان قال: "لعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الراشي والمرتشي والرائش" يعني الذي يمشي بينهما وفي إسناد ليث بن أبي سليم قال البزار: إنه تفرد به وفي إسناده أيضا أبو الخطاب قيل: وهو مجهول وفي الباب عن عبد الرحمن بن عوف عند الحاكم وعن عائشة وأم سلمة أشار إليهما الترمذي وقد أجمع أهل العلم على تحريم الرشوة وقد استدل على تحريم الرشوة بقوله تعالى: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} كما روي عن الحسن وسعيد بن جبير أنهما فسرا الآية بذلك وحكي عن مسروق عن ابن مسعود أنه لما سئل عن السحت أهو الرشوة فقال: لا {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} و {الظَّالِمُونَ} و {الْفَاسِقُونَ} ولكن السحت أن يستعينك الرجل على مظلمته فيهدي لك فإن أهدى لك فلا تقبل "وقد سبق حديث في هذا المعنى في كتاب الهدايا ويدل على تحريم الهدية التي أهديت للقاضي لأجل كونه قاضيا حديث "هدايا الأمراء غلول" أخرجه البيهقي وابن عدي من حديث ابن حميد قال ابن حجر: وإسناده ضعيف ولعل وجه الضعف أنه من رواية اسمعيل بن عياش(2/251)
عن أهل الحجاز وأخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة قال ابن حجر: وإسناده أشد ضعفا وأخرجه سنيد بن داود في تفسيره من حديث جابر وفي إسناده إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف وأخرجه الخطيب في تلخيص المتشابه من حديث أنس بلفظ "هدايا العمال سحت" وأخرج أبو داود من حديث بريدة عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بلفظ "من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذه بعد ذلك فهو غلول" وقد بوب البخاري في أبواب القضاء باب هدايا العمال وذكر فيه حديث ابن اللتبية المشهور1 ومما يؤيد ذلك أن الهدية للقاضي لأجل كونه قاضيا نوع من الرشوة عاجلا أو آجلا قال ابن القيم: أما الهدية للقاضي ففيها تفصيل فإن كانت بغير سبب الفتوى كم عادته يهاديه أو من لا يعرف أنه مفت فلا بأس بقبولها والأولى أن يكافىء عليها وإن كانت بسبب الفتوى فإن كانت سببا إلى أن يفتيه بما لا يفتي به غيره ممن لا يهدي له لم يجز له قبول هديته لأنها تشبه المعاوضة على الإفتاء وأما أخذ الرزق من بيت المال فإن كان محتاجا إليه جاز له ذلك وإن كان غنيا عنه ففيه وجهان: وهذا فرع متردد بين عامل الزكاة وعامل اليتيم فمن ألحقه بعامل الزكاة قال النفع فيه عام فله الأخذ ومن ألحقه بعامل اليتيم منعه من الأخذ وحكم القاضي في ذلك حكم المفتي بل القاضي أولى بالمنع وأما أخذ الأجرة فلا يجوز لأن الفتيا منصب تبليغ عن الله ورسوله فلا تجوز المعارضة عليه كما لو قال: لا أعلمك الإسلام والوضوء والصلاة إلا بأجرة أو سئل عن حلال أو حرام فقال للسائل: لا أجيبك عنه إلا بأجرة فهذا حرام قطعا ويلزمه رد العوض ولا يملكه انتهي "ولا يجوز له الحكم حال الغضب" لحديث أبي بكرة في الصحيحين وغيرهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان" ولا يعارض هذا حديث عبد الله بن الزبير عن أبيه في الصحيحين وغيرهما "أنه اختصم هو وأنصاري فقال النبي صلى الله عليه وسلم للزبير: "اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى أخيك" فغضب الأنصاري ثم قال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر" لأن
__________
1 انظر فتح الباري 13 ص 132 – 125.(2/252)
النبي صلى الله عليه وسلم معصوم في غضبه ورضائه بخلاف غيره فإن الغضب يحول بينه وبين الحق ويختلط حال الغضب ويتشوش خاطره ويتكدر ذهنه ويذهل عن الصواب فلا يصلح الاستدلال بقضائه صلى الله عليه وسلم حال غضبه لهذا الفرق فالحق أن حكم الحاكم حال الغضب حرام وأما كونه يصح أو لا يصح فينبغي النظر في نفس الحكم فإن كان واقعا على الصواب فالاعتبار بذلك ومجرد صدوره حال الغضب لا يوجب بطلانه وهو صواب وإن كان واقعا على خلاف الصواب فهو باطل وإذا التبس الأمر هل هو صواب أو خطأ كما يحصل الاشتباه في كثير من مسائل الخلاف فالاعتبار بما رآه الحاكم صوابا لأنه متعبد باجتهاده فإن وجد حكمه الواقع حال الغضب بعد سكون غضبه صحيحا موافقا لما يعتقده حقا فهو صحيح لازم للمحكوم عليه وإن كان آثما بإيقاع الحكم حال الغضب كما تقدم فلا ملازمة بين الإثم وبطلان الحكم ثم ظاهر النهي التحريم وقد ذهب الجمهور إلى أنه يصح حكم الغضبان أن وافق الحق قال ابن القيم: ليس للمفتي الفتوى في حال غضب شديد أو جوع مفرط أو هم مقلق أو خوف مزعج أو نعاس غالب أو شغل قلب مستول عليه أو حال مدافعة الأخبثين بل متى أحس منه نفسه شيئا من ذلك يخرجه عن حال اعتداله وكمال نيته وبنيته أمسك عن الفتوى فإن أفتى في هذه الحال بالصواب صحت فتياه ولو حكم في هذه الحال فهل ينفذ حكمه أولا ينفذ فيه ثلاثة أقوال: النفوذ وعدمه والفرق بين أن يعرض له الغضب بعد فهم الحكومة فينفذ وبين أن يكون سابقا على فهم الحكومة فلا ينفذ في مذهب الإمام أحمد "وعليه التسوية بين الخصمين إلا إذا كان أحدهما كافرا" لحديث علي عند أبي أحمد الحاكم في الكنى أنه جلس بجنب شريح في خصومة له مع يهودي فقال: لو كان خصمي مسلما جلست معه بين يديك ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تساووهم في المجالس" وقد قال أبو أحمد الحاكم بعد إخراجه إنه منكر وأورده ابن الجوزي في العلل من هذا الوجه وقال: لا يصح ورواه البيهقي من وجه آخر من طريق جابر الجعفي عن الشعبي قال: خرج علي إلى السوق فإذا هو بنصراني يبيع درعا فعرف علي الدرع وذكر الحديث وفي إسناده عمرو بن سمرة عن جابر الجعفي وهما ضعيفان وأخرج أحمد وأبو داود والبيهقي والحاكم وصححه من حديث عبد الله بن(2/253)
الزبير قال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم" وفي إسناده مصعب بن ثابت عن عبد الله بن الزبير وهو ضعيف "والسماع منهما قبل القضاء" لحديث علي عند أحمد وأبي داود والترمذي وحسنه وابن حبان وصححه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا علي إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء " وللحديث طرق "و" يجب عليه "تسهيل الحجاب" لحديث عمرو بن مرة عند أحمد والترمذي والحاكم والبزار قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من إمام أو وال يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة1 والمسكنة إلا غلق الله باب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته" وأخرج أبو داود والترمذي من حديث أبي مريم الأزدي مرفوعا بلفظ "من تولى شيئا من أمر المسلمين فاحتجب عن حاجتهم وفقرهم احتجب الله عنه دون حاجته" قال ابن حجر في الفتح: إن سنده جيد وأخرج الطبراني من حديث ابن عباس بلفظ "أيما أمير احتجب عن الناس فأهمهم احتجب الله عنه يوم القيامة" قال ابن أبي حاتم هو حديث منكر "بحسب الإمكان" لأنه لنفسه عليه حقا ولأهله عليه حقا فلا يلزمه استيعاب كل أوقاته فإن ذلك يكدر ذهنه ويشوش فهمه ولا يحتجب كل أوقاته فإن ذلك ظلم لأهل الخصومات وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي موسى أنه كان بوابا للنبي صلى الله عليه وسلم لما جلس على قف2 البئر وثبت في الصحيح أيضا في قصة حلفه أن لا يدخل على نسائه شهرا "أن عمر استأذن له الأسود لما قال له يا رباح استأذن لي "وقد ثبت في الصحيح أيضا "أنه كان لعمر حاجب يقال له يرفأ "ويجوز له اتخاذ الأعوان مع الحاجة" لما ثبت في البخاري من حديث أنس "أن قيس بن سعد كان يكون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير "وقد يجب عليه ذلك إذا كان لا يمكنه إنفاذ الحق ودفع الباطل إلا بهم "و" يجوز للحاكم "الشفاعة والاستيضاع والإرشاد إلى الصلح" لحديث كعب بن مالك في الصحيحين وغيرهما "أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا كان له عليه في المسجد فارتفعت أصواتهما"
__________
1 الخلة بفتح الىلخاء الحاجة والفقر
2 قف البئر – بببضم القاف – هو الدكة التي تجعل حولها.(2/254)
حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته فنادى يا كعب فقال: لبيك يارسول الله قال: ضع من دينك هذا وأومأ إليه أي الشطر قال: قد فعلت يا رسول الله قال: قم فاقضه " وهذا الحديث فيه دليل على ما ذكرناه من الشفاعة والاستيضاع والإرشاد إلى الصلح لأنه شفاعة بمن عليه الدين باستيضاع من له الدين بعضه وفيه إرشاد إلى الصلح أيضا وقد سبق في كتاب الصلح ما يدل على مشروعيته من الكتاب والسنة والقاضي داخل في عموم الأدلة "وحكمه ينفذ ظاهرا فقط" لحديث أم سلمة في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذ فإنما أقطع له قطعة من النار" وقد حكى الشافعي الإجماع على أن حكم الحاكم لا يحلل الحرام قال النووي: والقول أن حكم الحاكم يحلل ظاهرا وباطنا مخالف لهذا الحديث الصحيح وللإجماع المذكور وبالجملة فلا وجه لما ذهبت إليه الحنفية من أن حكم الحاكم ينفذ ظاهرا وباطنا ويحلل الحرام وقد جاؤا في هذا المقام بما لا يتفق على من له في العلم قدم وتفصيل ذلك في نيل الأوطار ومسك الختام واللحن مفتوحة الحاء الفطنة يقال: لحنت للشئ بكسر الحاء ألحن له لحنا أي فطنت وأما اللحن بسكون الحاء فهو الخطأ قال في المسوى: اتفق أهل العلم على أن القضاء في الدماء والأملاك المطلقة لا ينفذ إلا ظاهرا واختلفوا في العقود والفسوخ فذهب أبو حنيفة إلى أنه ينفذ القضاء فيها ظاهرا وباطنا حتى لو شهد شاهدان زورا أن فلانا طلق امرأته فقضى به القاضي وقعت الفرقة بينهما بقضائه ويجوز لكل من الشاهدين أن ينكحها وقال الشافعي لا ينفذ باطنا وأما المسائل المختلف فيها مثل أن يقضي حنفي بشعفة الجار لرجل لا يعتقد ثبوتها أو مات رجل عن جد وأخ فقضى القاضي بالميراث للجد على مذهب الصديق رضي الله تعالى عنه والمحكوم له يرى رأي زيد أو مات رجل عن خال لا يرى توريث ذوي الأرحام فقضى له القاضي بالمال فأكثر أصحاب الشافعي على أنه ينفذ ظاهرا وباطنا لأنه أمر مجتهد فيه لا يتصور ظهور الخطأ(2/255)
موضوع عن الآخر لكونه معذورا فيه وعليه أكثر أهل العلم وفي الحديث دليل على أن بينة المدعي مسموعة بعد يمين المدعى عليه وعليه الشافعي1 انتهى "فمن قضي له بشئ فلا يحل له إلا إذا كان الحكم مطابقا للواقع" لما تقرر أن حكم الحاكم ظني سواء تعلق بمحكوم فيه قطعي أو ظني في إيقاع أو وقوع فلا ينفذ إلا ظاهرا لا باطنا فلا يحل به الحرام ولا يحرم به الحلال للمحكوم له والمحكوم عليه ولكنه يجب امتثاله بحكم الشرع ويجبر من امتنع منه فإن كان المحكوم له يعلم بأن الحكم له بباطل لم يحلل له قبوله ولا يجوز له استحلاله بمجرد حكم الحاكم من غير فرق ومن قال ينفذ حكم الحاكم ظاهرا وباطنا فمقالته باطلة وشبهتها داحضة وقد دفعها الله عز وجل في كتابه العزيز بقوله {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ودفعها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بقوله: "فمن قضيت له بشئ من مال أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار" هذا على تقرير أنهم يعممون المسألة في الأموال وغيرها والذي في كتبهم تخصيص ذلك بما عدا الأموال ولا يختلف في هذا من يقول بأن كل مجتهد مصيب ومن لا يقول بذلك لأن القائل بالتصويب لا يريد بذلك أن المجتهد قد أصاب ما في نفس الأمر وما هو الحكم عند الله عز وجل وإنما يريد أن حكمه في المسألة هو الذي كلف به وإن كان خطأ في الواقع ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن اجتهد فأصاب فله أجران" فجعله مصيبا تارة ومخطئا أخرى ولو كان مصيبا دائما لم يصح هذا التقسيم النبوي وبهذا نعرف أن المراد بقول من قال: كل مجتهد مصيب أنه أراد من الصواب الذي لا ينافي الخطأ لا من الإصابة التي تنافيه والله أعلم.
__________
1 أين الاستدلال على هذا في الحديث الذي سبق. وسيأتي في آخر كتاب الخصومة اختيار المصنف والشارح عدم قبول البينة بعد اليمين ولم يأت هناك بشئ من الأحاديث للاستدلال على أحد القولين.(2/256)
كتاب الخصومة
"على المُدَّعي البيِّنة" لقوله صلى الله عليه وسلم: "شاهداك أو يمينه" كما في الصحيحين(2/256)
من حديث الأشعث بن قيس وأخرج مسلم من حديث وائل بن حُجر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للكندي: "ألك بينة؟ " قال: لا قال: "فلك يمينه" "وعلى المنكر اليمين" لحديث ابن عباس في الصحيحين "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين على المدعى عليه"وأخرجه البيهقي بإسناد صحيح بلفظ "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" وأخرج ابن حبان من حديث ابن عمر نحوه وأخرج الترمذي من حديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده نحوه وقد ذهب إلى ذلك الجمهور وروي عن مالك أنه لا يتوجه اليمين إلا على من يبنه وبين المدعي اختلاط لئلا يبتذل أهل السفه أهل الفضل وهو رد للرواية بمحض الرأي "ويحكم الحاكم بالإقرار" وليس في ذلك خلاف ودلالة الكتاب العزيز على لزوم حكم الإقرار للمقر وفيه من ذلك الكثير الطيب فإن الله سبحانه رتب في كتابه العزيز أحكاما وعقوبات على حصول أمور هي إقرارات وإن لم يذكر فيها لفظ الإقرار وهو أقوى مستندات الحكم إذا لم يكن معلوم البطلان ولزوم المقر لما أقر به وجواز الحكم للحاكم بإقراره لا يحتاج إلى إيراد الأدلة عليه فقد كان النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يسفك به الدماء ويقيم الحدود ويقطع الأموال بل اكتفى به في أعظم الأمور وهو الرجم كما وقع من المقر عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كما في حديث "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" وهو في الصحيح كما سيأتي فكيف بالإقرار فيما هو أخف من الرجم "و" الحكم "بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين" لنص القرآن الكريم وليس في ذلك خلاف إذا كان الشهود مرضيين كما قال تعالى {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} أو رجل ويمين المدعي" لحديث ابن عباس عند مسلم وغيره "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد"وأخرج أحمد وابن ماجه والترمذي والبيهقي من حديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد"وهو من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر وقد روي من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن علي "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بشهادة شاهد واحد ويمين صاحب الحق"أخرجه أحمد والدارقطني وقد صحح حديث جابر أبو عوانة(2/257)
وابن خزيمة وأخرجه أبو داود وابن ماجه والترمذي من حديث أبي هريرة قال:" قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين مع الشاهد الواحد"ورجال إسناده ثقات وصححه أبو حاتم وأبو زرعة وأخرجه ابن ماجه وأحمد من حديث سرق ورجاله رجال الصحيح إلا الراوي له عن سرق فإنه مجهول وقد ذكر ابن الجوزي في التحقيق عدد من روى هذا الحديث يعني حكمه صلى الله عليه وسلم بالشاهد واليمين من الصحابة فزاد على عشرين صحابيا وإليه ذهب الجمهور من الصحابة فمن بعدهم ويروى عن زيد بن علي والزهري والنخعي وابن شبرمة والحنفية أنه لا يجوز الحكم بشاهد ويمين وأحاديث هذا الباب ترد عليهم قلت: قال مالك في الموطأ مضت السنة في القضاء باليمين مع الشاهد الواحد يحلف صاحب الحق مع شاهده ويستحق حقه فإن نكل أو أبى أن يحلف أُحلف المطلوب فإن حلف سقط عنه ذلك الحق وإن أبى أن يحلف ثبت عليه الحق لصاحبه قال مالك: وإنما يكون ذلك في الأموال خاصة ولا يقع ذلك في شئ من الحدود ولا في نكاح ولا في طلاق ولا في عتاقة ولا في سرقة ولا في فرية قال مالك: ومن الناس من يقول لا يكون اليمين مع الشاهد الواحد ويحتج بقول الله تبارك وتعالى {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} يقول: فإن لم يأت برجل وامرأتين فلا شئ له ولا يحلف مع شاهده قال مالك: فمن الحجة على من قال ذلك القول أن يقال له أرأيت لو أن رجلا ادعى على رجل مالا أليس يحلف المطلوب ما ذلك الحق عليه فإن حلف بطل ذلك عنه وإن نكل عن اليمين حلف صاحب الحق إن حقه لحق وثبت حقه على صاحبه فهذا مالا اختلاف فيه عند أحد من الناس ولا ببلد من البلدان فبأي شئ أخذ هذا وفي أي كتاب الله وجده فإذا أقر بهذا فليقر باليمين مع الشاهد وإن لم يكن ذلك في كتاب الله وإنه ليكفي ذلك ما مضى من السنة ولكن المرء قد يحب أن يعرف وجه الصواب وموقع الحجة ففي هذا يجيء بيان إن شاء الله تعالى قال في المسوى: وعلى هذا أهل العلم إلا مسألة القضاء بالشاهد الواحد مع يمين المدعي في الأموال خاصة قال الشافعي: يجوز ذلك وقال أبو حنيفة: لا يجوز وقد قال تعالى في حد القذف: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} وقال في الطلاق: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وقال في الدَّين:(2/258)
{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} وقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وهو عامل على الكوفة أن اقض باليمين مع الشاهد وإن أبا سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار سئلا هل يقضى باليمين مع الشاهد فقالا نعم. والحاصل أن شهود الزنا أربعة وشهود سائر الحقوق اثنان وشهود الأموال رجلان أو رجل وامرأتان فإن لم يتيسر قضي بيمين المدعي مع الشاهد الواحد
أقول: الحق أن الحكم بالشاهد العدل واليمين واجب وقد ثبت ذلك في السنة ثبوتا لا ينكره إلا من لا يعرف السنة وجملة من رواه من الصحابة زيادة على عشرين رجلا وللمانعين من ذلك أجوبة خارجة عن الإنصاف وأشف ما تمسكوا به أن الله تعالى أمر بإشهاد رجلين وقال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "شاهداك أو يمينه " ولا يخفاك أنه ليس في ذلك ما يفيد الحصر بل غاية ما فيه أن مفهومه يدل على عدم قبول الشاهد الواحد مع اليمين ولا حكم لهذا المفهوم مع وجود المنطوق وهو القضاء بالشاهد واليمين مع أن هذا المفهوم هو مفهوم لقب وهو مما لا يعمل به نحارير الأصول كما ذلك معروف وقد استوفى الماتن حجج الجميع في شرح المنتقى فليرجع إليه "و" يجوز الحكم "بيمين المنكر" لما قدمنا من أن اليمين على المنكر وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث وائل بن حُجر أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال للكندي: "ألك بينة" قال: لا قال: "فلك يمينه" فقال: يا رسول الله الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه وليس يتورع من شئ فقال "ليس لك منه إلا ذلك" "ويجوز الحكم بيمين الرد" لأن من عليه الحق قد رضي بها سواء قلنا إنها تجب على المدعي عند ردها من المنكر أم لا وقد استدل من لم يجعلها مستندا بمفهوم الحصر في قوله صلى الله عليه وسلم: "ولكن اليمين على المدعي عليه" كما في بعض ألفاظ حديث ابن عباس عند مسلم وغيره ولقوله في حديث وائل: "ليس لك منه إلا ذلك"ولكن هذا إنما يفيد أنها لا تجب على المدعي إذا ردها المنكر وأما أنه يفيد عدم جواز الحكم بيمين الرد إذا طلبها المنكر ورضي بها وقبل ذلك المدعي فحلف فلا وأما ما رواه الدارقطني والحاكم والبيهقي من حديث ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم رد اليمين على طالب الحق"(2/259)
فلو صح لكان صالحا لتخصيص ما تقدم ولكن في إسناده محمد بن مسروق وهو غير معروف وفي إسناده أيضا اسحق بن الفرات وفيه مقال وقد أشار القرآن الكريم إلى رد اليمين بقوله: {أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} ولكن فيه احتمال إذ يمكن أن يكون المراد برد اليمين عدم قبولها وأما النكول فلا يجوز الحكم به لأن غاية ما فيه أن من عليه اليمين بحكم الشرع لم يقبلها ويفعلها وعدم فعله لها ليس بإقرار بالحق بل ترك لما جعله الشارع عليه بقوله "ولكن اليمين على المدعى عليه" فعلى القاضي أن يلزمه بعد النكول عن اليمين بأحد الأمرين: إما اليمين التي نكل عنها أو الإقرار بما ادعاه المدعي وأيهما وقع كان صالحا للحكم به كما مر "و" يجوز الحكم "بعلمه" لأن ذلك من العدل والحق اللذين أمر الله بالحكم بهما وليس في الأدلة ما يدل على المنع من ذلك وحديث "شاهداك أو يمينه" لا حصر فيه ومما يؤيده جواز الحكم بعلم الحاكم ما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم للمدعي "ألك بينة" فإن البينة ما يتبين به الأمر وليس بعد العلم بيان بل هو أعلى أنواع البيان فإنه لا يحصل من سائر المستندات للحكم به إلا مجرد الظن بأن المقر صادق في إقراره والحالف بار في يمينه والشاهد صادق في شهادته وإذا جاز الحكم بمستند لا يفيد إلا الظن فكيف لا يجوز الحكم بالعلم واليقين وفي هذه المسألة مذاهب مختلفة وقد احتج أهل كل مذهب بحجج لا تصلح ولا تنطبق على محل النزاع وأقربها ما أخرجه أحمد والنسائي والحاكم من حديث أبي هريرة قال: جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للمدعي: "أقم البينة" فلم يقمها فقال للآخر: "احلف" فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ماله عنده شئ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد فعلت ولكن غفر لك بإخلاص لا إله إلا الله" وفي رواية الحاكم "بل هو عندك ادفع إليه حقه" وأما أقوال الصحابة فلا تقوم بها الحجة إلا إذا أجمعوا على ذلك عند من يقول بحجية الإجماع أقول: حكم القاضي بعلمه هذا هو الحق ومن منع من ذلك لم يأت بحجة واضحة وليس في الأدلة المقتضية لوجوب الشاهدين أو اليمين أو ما يقوم مقام أحدهما دليل يدل على انحصار مستند الحكم فيها ولا ريب أن الحاصل عن مثل الشهادة من عدلين أو يمين من ثقة أو نكول أو إقرار هو مجرد الظن للحاكم فقط لأن من الجائز أن يكذب الشاهدان ويفجر الحالف في يمينه(2/260)
ويكذب المقر في إقراره وأما العلم فلا يكون إلا عن مشاهدة أو ما يقوم مقامها وهو أولى من الظن بلا نزاع وقد تقرر في الأصول أن فحوى الخطاب معمول به عند جميع المحققين وهذا منه فإن العلم أولى من الظن عقلا وشرعا ووجدانا والأدلة العامة شاملة له كالآيات التي ذكروها وتخصيص الحدود بقول عمر مما لا يرتضيه الإنصاف لأن المقام من مجالات الاجتهاد واجتهاده ليس بحجة علىغيره ودعوى الإجماع هي من تلك الدعاوى التي قد عرفناك بها غير مرة وقد حقق الماتن هذا البحث في شرح المنتقى بما لم أجده لغيره
ولا تُقبل شهادة من ليس بعدل لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} الآية: وقد حكى في البحر الإجماع على أنها لا تصح شهادة فاسق قلت: شرط الشاهد كونه مسلما حرا مكلفا أي عاقلا بالغا ضابطا ناطقا عدلا ذا مروءة ليست به تهمة وعليه أكثر أهل العلم في الجملة غير أنهم اختلفوا في بعض التفاصيل فشهادة الذمي لا تقبل عند الشافعي على الإطلاق وقال أبو حنيفة: شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض جائزة وإن اختلفت مللهم وشهادة الصبيان لا تقبل عند الأكثرين إلا عند مالك في الجراح فيما بينهم خاصة مالم يصلوا إلى أهل بيتهم وأثر عبد الله بن الزبير أنه كان يقضي بشهادة الصبيان فيما بينهم من الجراح معارض بقول ابن عباس إنها لا تجوز لأن الله تعالى يقول: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وحد العدالة أن يكون محترزا عن الكبائر غير مصر على الصغائر والمروءة هي ما تتصل بآداب النفس مما يعلم أن تاركه قليل الحياء وهي حسن الهيئة والسيرة والعشرة والصناعة فإذا كان الرجل يظهر من نفسه شيئا مما يستحيي أمثاله من إظهاره في الأغلب يعلم به قلة مروءته وترد شهادته وإن كان ذلك مباحا "ولا" تقبل شهادة الخائن ولا ذي العداوة وإن كان مقبول الشهادة على غيره لأنه متهم في حق عدوه ولا يؤمن أن تحمله عداوته على إلحاق ضرر به فإن شهد لعدوه تقبل إذا لم يظهر في عداوته فسق "والمتهم والقانع لأهل البيت" لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن أحمد وأبي داود والبيهقي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت"(2/261)
والقانع الذي ينفق عليه أهل البيت ولأبي داود في رواية "ولا زان ولا زانية" قال ابن حجر في التلخيص: وسنده قوي والغمر بكسر المعجمة وسكون الميم بعدها راء مهملة الحقد أي لا تقبل شهادة العدو على العدو وأخرج الترمذي والدارقطني والبيهقي من حديث عائشة مرفوعا بلفظ "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر لأخيه ولا ظنين1 ولا قرابة" وفي إسناده يزيد بن زياد الشافعي وهو ضعيف وقد أخرج الدارقطني والبيهقي من حديث ابن عمر نحوه وفي إسناده عبد الأعلى وشيخه يحيى بن سعيد الفارسي وهما ضعيفان وأخرج أبو داود في المراسيل من حديث طلحة بن عبد الله بن عوف "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بعث مناديا أنها لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين"ورواه البيهقي من طريق الأعرج مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجوز شهادة ذي الظنة والحنة2 يعني الذي بينك وبينه عداوة"ورواه الحاكم من حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة يرفعه مثله قال ابن حجر: وفي إسناده نظر والمراد بالمتهم هو من يظن به أنه يشهد زورا لمن يحابيه كالقانع والعبد لسيده وقد حكى في البحر الإجماع على عدم قبول شهادة العبد لسيده قال في المسوى: ولا تجوز شهادة الوالد لولده ولا الولد لوالده ويجوز عليهما وكذا لا تقبل شهادة من جر إلى نفسه نفعا كمن شهد لرجل بشراء دار وهو شفيعها أو شهد للمفلس واحد من غرمائه بدين على رجل أو شهد على رجل أنه قتل مورثه فهذه كلها مواضع التهمة واتفقوا على قبول شهادة الأخ للأخ وسائر الأقارب واختلفوا في شهادة أحد الزوجين لصاحبه فلم يجزها أبو حنيفة وأجازها الشافعي أقول: الحق أن القرابة بمجردها ليست بمانعة سواء كانت قريبة أو بعيدة إنما المانع التهمة فإذا كان القريب ممن تأخذه حمية الجاهلية ولا يردعه عن العصبية دين ولا حياء فشهادته غير مقبولة وإن كان على العكس من ذلك فشهادته مقبولة والأصل في المنع من قبول شهادة المتهم حديث "لا تقبل شهادة ذي الظنة والحنة" والظنة هي التهمة ولم يرد ما يدل على منع شهادة القريب لأجل القرابة "والقاذف" لقوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ
__________
1الظنين المتهم بمعني مفعول من الظن – بكسر الظاء – وهي التهمة والشك.
2 الحنة بكسر الحاء وفتح النون المخففة – العاوة وهي لغة قليلة في الإحنة.(2/262)
شَهَادَةً أَبَداً} بعد قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} وقد وقع الخلاف في كتب التفسير والأصول في حكم التوبة المذكورة في آخر الآية قال مالك: الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا أن الذي يجلد الجلد ثم تاب وأصلح تجوز شهادته وهو أحب ما سمعت إلي في ذلك قلت: وعليه الشافعي وذهب أبو حنيفة إلى أن شهادة القاذف لا ترد بالقذف فإذا حد فيه ردت شهادته على التأبيد وإن تاب وأصل المسألة أن الاستثناء يعود إلى الفسق فقط في قول أهل العراق وإلى الفسق وعدم قبول الشهادة جميعا في قول أهل الحجاز وقال الشافعي: هو قبل أن يحد شر منه حين يحد لأن الحدود كفارات فكيف ترودنها في أحسن حاليه وتقبلونها في شر حاليه وإذا قبلتم توبة الكافر والقاتل عمدا كيف لاتقبلون توبة القاذف وهو أيسر ذنبا قيل: معنى قول أبي حنيفة أن القاذف ما لم يحد يحتمل أن يكون صادقا وأن يكون معه شهود تشهد بالزنا فإذا لم يأت بالشهداء وأقيم عليه الحد صار مكذبا بحكم الشرع لقوله تعالى: {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} فوجب رد شهادته ثم رد شهادة المحدود في القذف تأبيدي عنده لقوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} والتأبيد ينافي التعليق فلا يجري فيه القياس وقال الواحدي: أبد كل إنسان مقدار مدته فيما يتصل بقصته يقال: الكافر لا يقبل منه شئ أبدا معناه ما دام كافرا كذلك القاذف لا تقبل شهادته أبدا ما دام قاذفا فإذا زال عنه الكفر أبده وإذا زال عنه الفسق زال أبده لا فرق بينهما في ذلك "ولا" تقبل شهادة "بدوي على صاحب قرية" لحديث أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لاتجوز شهادة بدوي على صاحب قرية " أخرجه أبو داود وابن ماجه والبيهقي قال المنذري: رجال إسناده احتج بهم مسلم في صحيحه قال في النهاية: إنما كره شهادة البدوي لما فيه من الخفاء في الدين والجهالة بأحكام الشرع ولأنهم في الغالب لا يضبطون الشهادة على وجهها وبنحو هذا قال الخطابي وروي نحوه عن أحمد بن حنبل وذهب إلى ذلك جماعة من أصحاب أحمد وبه قال مالك وأبو عبيد وذهب الأكثر إلى القبول قال ابن رسلان: وحملوا هذا الحديث على من لم تعرف عدالته من أهل البدو والغالب أنهم لا تعرف عدالتهم انتهى. وهذا توجيه قوي ومحمل سوي "وتجوز شهادة من يشهد على تقرير فعله أو قوله إذا انتفت التهمة"(2/263)
لأنه لم يرد ما يمنع من ذلك حتى يخصصه من عموم الأدلة وأيضا حديث قبول خبر المرضعة وقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بعد خبرها "كيف وقد قيل "ورتب على خبرها التحريم وقد تقدم في الرضاع وهي شهدت على تقرير فعلها كما لا يخفى ولم يستدل المانع إلا على1 أن الشاهد إذا شهد على تقرير قوله أو فعله لم يخل من تهمة وقد قيدنا ذلك بانتفاء التهمة وأما تحليف الشهود عند الريبة فالظاهر أنه من جملة التثبيت المأمور به ولا سيما مع فساد الزمان وتواثب كثير من الناس على شهادة الزور وكثيرا ما يتحرج بعض المتساهلين في الشهادة عن اليمين الفاجرة والبعض بالعكس من ذلك ولم يرد ذلك على المنع من تحليف الشهود وأما الاستدلال بقوله تعالى {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} ففي انطباقه على محل النزاع خلاف وأما تفريق الشهود فهو من أعظم ما يستعان به على الفرق بين صدقة الشهادة وكذبها ولا سيما إذا سألهم الحاكم عن بعض الأحوال التي تجوز تواطؤهم عليها قال الماتن رحمه الله في حاشية الشفاء: ولقد انتفعت بتفريق الشهود وتنويع سؤالهم وقل ما تصح شهادة بعد ذلك والحاكم لا يحل له التساهل بل يجب عليه إكمال البحث عن كل ما يتوصل به إلى كشف الحقيقة وهذا منه "وشهادة الزور من أكبر الكبائر" لحديث أنس في الصحيحين وغيرهما قال: ذكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال: "الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين" وقال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قول الزور أو قال شهادة الزور" وفي الصحيحين أيضا من حديث أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر" قلنا بلى يارسول قال: "الإشراك بالله وعقوق الوالدين" وكان متكئا فجلس وقال: "ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت" ثم أقول: المراد بالشهادة الإخبار بما يعلمه الشاهد عند التحاكم بأي لفظ كان وعلى أي صفة وقع ولا يعتبر إلا أن يأتي بكلام مفهوم يفهمه سامعه فإذا قال مثلا رأيت كذا وكذا أو سمعت كذا وكذا فهذه شهادة شرعية وقد أحسن المحقق ابن القيم رحمه الله حيث قال في فوائده: ليس مع من اشترط لفظ الشهادة فيها دليل لا من كتاب ولا من
__________
1 لعل صوابه "بأن الشاهد" الخ.(2/264)
سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح انتهى وقد تقرر في محله أن اشتراط الألفاظ إنما هو صنيع من لم يمعن النظر في حقائق الأشياء ولا وصل إلى أن يعقل أن الألفاظ غير مرادة لذاتها وإنما هي قوالب للمعاني تؤدى بها فإذا قد حصلت التأدية للمعنى المراد فاشتراط زيادة على ذلك لم تدل عليه رواية ولا دراية "وإذا تعارض البيِّنتان ولم يوجد وجه ترجيح قسم المدعى" لحديث أبي موسى عند أبي داود والحاكم والبيهقي "أن رجلين ادعيا بعيرا على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فبعث كل واحد منهما بشاهدين فقسمه النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بينهما نصفين"وقد أخرج نحوه ابن حبان من حديث أبي هريرة وصححه وأخرجه ابن أبي شيبة من حديث تميم بن طرفة ووصله الطبراني عن جابر بن سمرة وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم قسمة المدعى إذا لم يكن للخمصين بينة فأخرج أحمد وابن ماجه والنسائي من حديث أبي موسى "أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دابة ليس لواحد منهما بينة فجعلها بينهما نصفين"وثبتت قسمة المدعى عنه صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى المذكور أولا بزيادة ذكرها النسائي فقال: "ادعيا دابة وجداها عند رجل فأقام كل منهما شاهدين فلما أقام كل واحد منهما شاهدين نزعت من يد الثالث أو دفعت إليهما" "وإذا لم يكن للمُدعِّي بينة فليس له إلا يمين صاحبه ولو كان فاجرا" لحديث الأشعت بن قيس في الصحيحين وغيرهما قال: "كان بيني وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال "شاهداك أو يمينه فقلت: إنه إذن يحلف ولا يبالي فقال: من حلف على يمين يقتطع بها مال أمريء مسلم لقي الله وهو عليه غضبان " وأخرج مسلم وغيره من حديث وائل بن حجر "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للكندي: "ألك بينة" قال: لا قال: "فلك يمينه" فقال يارسول الله: الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه وليس يتورع من شئ فقال: "ليس لك منه إلا ذلك" "ولا تُقبل البينة بعد اليمين" لما يفيده قوله صلى الله عليه وسلم "شاهداك أو يمينه " فاليمين إذا كانت تطلب من المدعي فهي مستند للحكم صحيح ولا يقبل المستند المخالف لها بعد فعلها لأنه لا يحصل بكل واحد منهما إلا مجرد ظن ولا ينقض الظن بالظن وقد ذهب إلى هذا(2/265)
بعض أهل العلم والخلاف معروف "ومن أقر بشئ عاقلا بالغا غير هازل ولا بمحال عقلا أو عادة لزمه ما أقر به كائنا ما كان" لما تقدم وأما تقييده بكون المقر عاقلا بالغا فلأن المجنون والصبي ليسا بمكلفين فلا حكم لإقرارهما وأما تقييده بكونه غير هازل فلكون إقرار الهازل ليس هو القرار الذي يجوز أخذه به وهكذا إذا أقر بما يحيله العقل أو العادة لأن كذبه معلوم ولا يجوز الحكم بالكذب "ويكفي مرة واحدة من غير فرق بين موجبات الحدود وغيرها كما سيأتي" لكون المقر بالشئ على نفسه قد لزمه إقراره واعتبار التكرار في الحدود سيأتي أنه لم يثبت عليه يوجب المصير إليه.(2/266)
كتاب الحدود
باب حد الزنا
...
كتاب الحدود
"باب حد الزاني"
والزنا من أكبر الكبائر في جميع الأديان قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} وعلى هذا اتفق المسلمون وإن كان لهم في حد الزنا اختلاف "إن كان بكرا حرا جلد مائة جلدة" لقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وفي قوله: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} نهي عن تعطيل الحدود وقيل نهي عن تخفيف الضرب بحيث لا يحصل وجع معتد به وقوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا} قيل: يجب حضور ثلاثة فما فوقهم وقيل: أربعة بعد شهود الزنا وقال أبو حنيفة الإمام والشهود إن ثبت الزنا بالشهود والأحاديث في هذا الباب كثيرة "وبعد الجلد يغرب عاما" لحديث أبي هريرة وزيد بن خالد في الصحيحين وغيرهما "أن رجلا من الأعراب أُتي رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال: يارسول الله أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله وقال الخصم الآخر وهو أفقه منه نعم فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "قل(2/266)
قال إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله الوليدة الغنم رد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد ياأنيس لرجل من أسلم إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" قال فغدا عليها فاعترفت فأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فرجمت قال مالك العسيف الأجير وفي البخاري وغيره من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي عام وإقامة الحد عليه وأخرج مسلم وغيره من حديث عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" وقد ذهب إلى تغريب الزاني الذي لم يحصن الجمهور حتى ادعى محمد بن نصر في كتاب الإجماع الاتفاق على نفي الزاني البكر إلا عن الكوفيين وقد حكى ابن المنذر أنه عمل بالتغريب الخلفاء الراشدون ولم ينكره أحد فكان إجماعا ولم يأت من لم يقل بالتغريب بحجة نيرة وغاية ما تمسكوا به عدم ذكره في بعض الأحاديث وذلك لا يستلزم العدم واختلف من أثبت التغريب هل تغرب المرأة أم لا فقال مالك والأوزاعي: لا تغرب المرأة لأنه عورة وظاهر الأدلة عدم الفرق قلت: والتغريب من جملة الإيذاء الذي أمر به القرآن قال: {فَآذُوهُمَا} وعليه الشافعي وقال أبو حنيفة: لا يغرب "وإن كان ثيبا جلد كما يجلد البكر" بما تقدم من الأدلة وبغيرها كرجمه صلى الله عليه وسلم لماعز ورجمه صلى الله عليه وسلم لليهودي واليهودية ورجمه للغامدية1 والكل في الصحيح "ثم يرجم حتى يموت" والرجم كان متلوا ثم نسخت تلاوته وأيضا يتناوله الإيذاء وعلى هذا أكثر أهل العلم وتكلموا في ترتيب هذه الدلائل مع حديث عبادة "الثيب بالثيب جلد مائة والرجم"وجمع علي كرم الله وجهه بين الرجم والجلد فقالوا: الجلد منسوخ فيمن وجب عليه الرجم لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامدية واليهوديين
__________
1قصة ماعز واللليهوديين والغامدية لم يذكر لم فيها الجلد وإنما اقتصر الرواة فيها على حكاية الرحيم فكيف يستدل بها الشارح على وجوب الحلد لا أدري.(2/267)
ولم يجلد واحدا منهم وقال لأنيس الأسلمي "فإن اعترفت فارجمها" ولم يأمر بالجلد وهذا آخر الأمرين لأن أبا هريرة قد رواه وهو متأخر الإسلام فيكون ناسخا لما سبق من الحدين الجلد والرجم ثم رجم الشيخان أبو بكر وعمر في خلافتهما ولم يجمعا بين الرجم والجلد قال في المسوى: في حديث عبادة ما يدل على أنه من آخر أحكام النبي صلى الله عليه وسلم لأن لفظه "خذوا عني "إلخ فيه إشارة إلى قوله تعالى {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} فهو متأخر عن هذه الآية وهذه الآية في سورة النساء وهي من آخر ما نزل فلا تدل رواية أبي هريرة إياه على النسخ بل الظاهر عندي أنه يجوز للإمام أن يجمع بين الجلد والرجم ويستحب له أن يقتصر على الرجم لاقتصار النبي صلى الله عليه وسلم على الرجم والحكمة في ذلك أن الرجم عقوبة تأتي على النفس فأصل الرجم المطلوب حاصل به والجلد زيادة عقوبة رخص في تركها فهذا وجه الاقتصار على الرجم عندي والعلم عند الله تعالى "ويكفي إقراره وما ورد من التكرار في وقائع الأعيان فلقصد الاستثباث" لأن أخذ المقر بإقراره هو الثابت في الشريعة فمن أوجب تكرار الأقراب في فرد من أفراد الشريعة كان الدليل عليه ولا دليل ههنا بيد من أوجب تربيع الإقرار إلا مجرد ما وقع من ماعز من تكرار الإقرار ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمره أو أمر غيره بأن يكرر الإقرار ولا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن إقرار الزنا لا يصح إلا إذا كان أربع مرات وإنما لم يقم على ماعز الحد بعد الإقرار الأول لقصد التثبت في أمره ولهذا قال له صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "أبك جنون" ووقع منه صلى الله عليه وسلم السؤال لقوم ماعز عن عقله وقد اكتفى صلى الله عليه وسلم بالإقرار مرة واحدة كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من قوله صلى الله عليه وسلم: "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه رجم الغامدية ولم تقر إلا مرة واحدة كما في صحيح مسلم وغيره وكما أخرجه أبو داود والنسائي من حديث خالد بن اللجلاج عن أبيه "أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم رجلا أقر مرة واحدة" ومن ذلك حديث الرجل الذي ادعت المرأة أنه وقع عليها فأمر برجمه ثم قام آخر فاعترف أنه الفاعل فرجمه وفي رواية أنه عفا عنه والحديث في سنن النسائي والترمذي ومن ذلك رجم اليهودي واليهودية فإنه لم ينقل أنهما كررا الإقرار فلو كان الإقرار أربع مرات شرطا(2/268)
في حد الزاني لما وقع منه صلى الله عليه وسلم المخالفة له في عدة قضايا فتحمل الأحاديث التي فيها التراخي عن إقامة الحد بعد صدور الإقرار مرة على من كان أمره ملتبسا في ثوب العقل وعدمه والصحو والسكر ونحو ذلك وأحاديث إقامة الحد بعد الإقرار مرة على من كان معروفا بحصة العقل ونحوه وأما اعتبار كون الشهود أربعة فذلك لمزيد الاحتياط في الحدود لكونها تسقط بالشبهة ولا وجه للاحتياط بعد الإقرار فإن إقرار الرجل على نفسه لا يبقى بعده ريبة بخلاف شهادة الشهود عليه وهذا أمر واضح وقد ذهب إلى ما ذكرنا جماعة من أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم وحكاه صاحب البحر عن أبي بكر وعمر والحسن البصري ومالك وحماد وأبي ثور والبتي والشافعي وذهب الجمهور إلى التربيع في الإقرار أقول: هذه المسألة من المعارك والحق أن الإقرار الذي يستباح به الجلد والرجم لا يشترط فيه أن يكون على مرة وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه رجم وأمر بالرجم وجلد بمجرد الإقزاز مرة واحدة كما ثبت ذلك في عدة أحاديث وأما سكوته صلى الله عليه وسلم في مثل قضية ماعز حتى أقر أربعا فليس فيها أن ذلك شرط بل غاية ما فيها أن الإمام إذا تثبت في بعض الأحوال حتى يقع الإقرار مرات كان له ذلك وقد بسط الماتن المسألة في شرح المنتقى فليرجع إليه فالمقام حقيق بالتحقيق "وأما الشهادة فلا بد من أربعة" ولا أعلم في ذلك خلافاً وقد دل على هذا الكتاب والسنة قال في المسوى: يثبت الزنا بالإقرار وبأربعة شهداء قال الله تعالى: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا} قلت: على هذا أهل العلم "ولا بد أن يتضمن الإقرار والشهادة التصريح بإيلاج الفرج في الفرج" لقوله صلى الله عليه وسلم لماعز: "لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت" فقال: لا يارسول الله قال: "أفنكتها؟ " لا يكني قال: نعم فعند ذلك أمر برجمهأخرجه البخاري وغيره من حديث ابن عباس وأخرج أبو داود والنسائي والدارقطني من حديث أبي هريرة قال: جاء الأسلمي رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهد على نفسه أنه أصاب امرأة حراما أربع مرات كل ذلك يعرض عنه فأقبل عليه في الخامسة فقال: "أنكتها قال: نعم قال: كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر قال نعم" الحديث وفي إسناده ابن(2/269)
الهضهاض1 قال البخاري: حديثه في أهل الحجار ليس يعرف إلا هذا الواحد2 وقد وقع من عمر بمحضر من الصحابة في استفصال شهود المغيرة بنحو هذا والقصة معروفة "ويسقط" الحد "بالشبهات المحتملة" لحديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادرؤا الحدود على المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام أن يخطيء في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة" أخرجه الترمذي وقد رواه الترمذي أيضا من حديث الزهري عن عروة عن عائشة وقد أعل الحديث بالوقف وأخرج ابن ماجه من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ "ادفعوا الحدود ماوجدتم لها مدفعا" وقد روي من حديث علي مرفوعا "ادرؤا الحدود بالشبهات" وروي نحوه عن عمر وابن مسعود بإسناد صحيح وفي الباب من الروايات ما يعضد بعضه ويقويه ومما يؤيد ذلك قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "لو كنت راجما أحداً بغير بينة لرجمتها" يعني امرأة العجلاني كما في الصحيحين من حديث ابن عباس "وبالرجوع عن الإقرار" لحديث أبي هريرة عند أحمد والترمذي "أن ماعزا لما وجد مس الحجارة فر يشتد حتى مر برجل معه لحي3 جمل فضربه به وضربه الناس حتى مات فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال: "هلا تركتموه" قال الترمذي: إنه حديث حسن وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة انتهى ورجال إسناده ثقات وأخرج أبو داود والنسائي من حديث جابر نحوه وزاد "أنه لما وجد مس الحجارة صرخ يا قوم ردوني إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي وأخبروني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير قاتلي فلم ننزع عنه حتى قتلناه فلما رجعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه قال: "فهلا تركتموه وجئتموني به" وقد أخرج البخاري ومسلم طرفا من هذا الحديث وفي الباب روايات وقد ذهب إلى ذلك أحمد والشافعية والحنيفة وهو مروي عن مالك في قول له وقد ذهب ابن أبي ليلى والبتي وأبو ثور ورواية عن مالك وقول للشافعي أن لا يقبل منه الرجوع عن
__________
1 اسمه عبد الرحمن بن الصامت. ووقع هنا وفي شرح أبي داود ج 4 ص 256 بالصاد المهملة وهو خطأ صوابه بالضاد المعجمة كما في التهذيب والتقريب والخلاصة.
2 صوابه: إلا بهذا الواحد. كما في شرح أبي داود والتهذيبب.
3 اللحي عظم الحنك.(2/270)
الإقرار "وبكون المرأة عذراء أو رتقاء1 وبكون الرجل محجوبا أو عنينا" لكون المانع موجودا فتبطل به الشهادة أو الإقرار لأنه قد علم كذب ذلك قطعا وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم بعث عليا لقتل رجل كان يدخل على مارية القبطية فذهب فوجده يغتسل في ماء فأخذ بيده فأخرجه من الماء ليقتله فرآه مجبوبا فتركه ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك والقصة مشهورة وهذا معناه قلت وقد أخرج مسلم وغيره ما حكاه الماتن وذكره جمع من أهل السير "وتحرم الشفاعة في الحدود" لما أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فهو مضاد الله في أمره" وفي الصحيحين من حديث عائشة في قصة المرأة المخزومية التي سرقت لما شفع فيها أسامة بن زيد فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: "أتشفع في حد من حدود الله" وفي لفظ "لا أراك تشفع في حد من حدود الله" وأخرج أحمد وأهل السنن وصححه الحاكم وابن الجارود2 أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له لما أراد أن يقطع الذي سرق رداءه فشفع فيه: "هلا كان قبل أن تأتيني به" وفي الباب أحاديث "ويحفر للمرجوم إلى الصدر" لكونه صلى الله عليه وسلم أمر بأن يحفر للغامدية إلى صدرها وهو في صحيح مسلم وغيره "أنه حفر لماعز حفرة ثم أمر به فرجم" كما في حديث عبد الله بن بريدة في قصة ماعز وأخرجها أحمد وزاد "فحفر له حفرة فجعل فيها إلى صدره" وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي من"حديث خالد بن اللجلاج عن أبيه أنه اعترف رجل بالزنا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحصنت قال نعم فأمر برجمه فذهبنا فحفرنا له حتى أمكننا ورميناه بالحجارة حتى هدأ" وقد ثبت في مسلم وغيره من حديث أبي سعيد قال: "لما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نرجم ماعز بن مالك خرجنا به إلى البقيع فوالله ما حفرنا له ولا أوثقناه"ويؤيد هذا ما وقع في حديث غيره أنه هرب كما تقدم ولكن ترك الحفر له لا ينافي ثبوت مشروعية الحفر قال ابن القيم: بعد تخريج حديث ماعز المتقدم بألفاظ وكل هذه الألفاظ صحيحة وفي بعضها أنه أمر
__________
1الرتق ضد الفتق والرتقاء المرأة التي التصق ختانها فلا يصل الرجل لشدة انضمام فرجها
2 يعني من حديث صفوان بن أمية وسيأتي في أول باب الرقة.(2/271)
فحفرت له حفيرة ذكرها مسلم وهي غلط من رواية بشير بن المهاجر وإن كان مسلم روى له في الصحيح فالثقة قد يغلط على أن أحمد وأبا حاتم قد تكلما فيه وإنما حصل الوهم من حفرة الغامدية فسرى إلى ماعز والله تعالى أعلم انتهى أقول: وجمع بين الحديثين بأنه فد كان حفر له حفرة صغيرة ثم خرج منها ورجموه وهو قائم كما تدل عليه رواية أبي سعيد وأما الحفر للمرأة فثابت وقد اختلف في مشروعيته والحق أنه مشروع "ولا ترجم الحبلى حتى تضع وترضع ولدها إن لم يوجد من يرضعه" لحديث سليمان بن بريدة عن أبيه عند مسلم وغيره أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم جاءته امرأة من غامد من الأزد فقال طهرني يارسول الله فقال: "ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه" فقالت: أراك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك قال: "وما ذاك" قالت: إني حبلى من الزنا قال: أنت؟ " قالت: نعم فقال لها "حتى تضعي ما في بطنك" قال: فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت قال فأتى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال: قد وضعت الغامدية فقال: "إذن لا نرجمها وندع ولدها صغير السن ليس له من يرضعه" فقام رجل من الأنصار فقال: إلي رضاعه يا نبي الله قال "فارجمها" وأخرج مسلم وغيره من حديث عمران ابن حصين "أن امرأة جهينة أتت النبي صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنا فقالت: يارسول الله أصبت حدا فأقمه علي فدعا نبي الله صلى الله عليه وسلم وليها فقال: "أحسن إليها فإذا وضعت فأتني" ففعل فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فشدت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت" الحديث وقد رويت هذه القصة من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وجابر بن عبد الله وجابر بن سمرة وابن عباس وأحاديثهم عند مسلم وقد اختلفت الروايات ففي بعضها ما تقدم في حديث بريدة وفي بعضها "أن النبي صلى الله تعالى عليها وآله وسلم أخر رجمها إلى الفطام فجاءت بعد ذلك فرجمت"وقد جمع بينهما مجموعات "ويجوز الجلد حال المرض بعثكال ونحوه1" لحديث أبي أمامة بن سهل عن سعيد بن سعد بن عبادة قال: "كان بين أبياتنا رويجل ضعيف مخدج فلم يرع الحي إلا وهو على أمة من إمائهم يخبث بها فذكر ذلك سعد بن عبادة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وكان ذلك الرجل مسلما فقال: اضربوه حده قالوا يا رسول الله:
__________
1 العثكال العذق من أعذاق النخل.(2/272)
إنه أضعف مما تحسب لو ضربناه مائة قتلناه فقال: خذوا له عثكالا فيه مائة شمراخ1 ثم اضربوه به ضربة واحدة قال: ففعلوا "وراه أحمد وابن ماجه والشافعي والبيهقي ورواه الدارقطني عن فليح عن أبي سالم عن سهل بن سعد ورواه الطبراني من حديث أبي أمامة بن سهل عن أبي سعيد الخدري ورواه أبو داود من حديث رجل من الأنصار وأخرجه النسائي من حديث أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه وإسناد الحديث حسن وقد أخرج مسلم وغيره من حديث علي قال: إن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها فأتيتها فإذا هي حديثة عهد بنفاس فخشيت أن أجلدها أن أقتلها فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أحسنت اتركها حتى تماثل" وقد جمع بين هذا الحديث والحديث الأول بأن المريض إذا كان مرضه مرجوا أمهل كما في الحديث الآخر وإن كان مأيوسا جلد كما في الحديث الأول وقد حكى في البحر الإجماع على أنه تمهل البكر حتى تزول شدة الحر والبرد والمرض المرجو فإن كان مأيوسا فقال أصحاب الشافعي: إنه يضرب بعثكول إن احتمله "ومن لاط بذكر قتل ولو كان بكرا وكذلك المفعول به إذا كان مختارا" لحديث ابن عباس عند أحمد وأبي داود وابن ماجه والترمذي والحاكم والبيهقي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به" قال ابن حجر: رجاله موثقون إلا أن فيه اختلافا وأخرج ابن ماجه والحاكم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اقتلوا الفاعل والمفعول به أحصنا أولم يحصنا" وإسناده ضعيف قال ابن الطلاع في أحكامه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم في اللواط ولا أنه حكم فيه وثبت عنه أنه قال: "اقتلوا الفاعل والمفعول به" رواه عنه ابن عباس وأبو هريرة انتهى وأخرج البيهقي عن علي "أنه رجم لوطيا" قال الشافعي: وبهذا نأخذ نرجم اللوطي محصنا كان أو غير محصن وأخرج البيهقي أيضا عن أبي بكر أنه جمع الناس في حق رجل ينكح كما تنكح النساء فسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فكان من أشدهم يومئذ قولا علي ابن أبي طالب
__________
1 الشمراخ الغصن من أغصان العثكال.(2/273)
قال: هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة صنع الله بها ما قد علمتم نرى أنه نحرقه بالنار فاجتمع أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على أن يحرقه بالنار فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن يحرقه بالنار وأخرج أبو داود عن سعيد بن جبير ومجاهد عن ابن عباس في البكر يوجد على اللوطية يرجم وأخرج البيهقي عن ابن عباس أيضا "أنه سئل عن حد اللوطي فقال: ينظر أعلى بناء في القرية فيرمى به منسكا ثم يتبع الحجارة" وقد اختلف أهل العلم في عقوبة اللواط بعد اتفاقهم على تحريمه وأنه من الكبائر فذهب من تقدم من الصحابة إلى أن حده القتل ولو كان بكرا سواء كان فاعلا أو مفعولا به وإليه ذهب الشافعي وحكى صاحب شفاء الأوام إجماع الصحابة على القتل وحكى البغوي عن الشعبي والزهري ومالك وأحمد وإسحق أنه يرجم محصنا كان أو غير محصن وروي عن النخعي أنه قال لو كان يستقيم أن يرجم الزاني مرتين لرجم اللوطي وقال المنذري حرق اللوطية بالنار أبو بكر وعلي وعبد الله بن الزبير وهشام بن عبد الملك وذهب من عدا من تقدم إلى أن حد اللوطي حد الزاني وقال الشافعي في الأظهر أن حد الفاعل حد الزنا إن كان محصنا رجم وإلا جلد وغرب وحد المفعول به الجلد والتغريب وفي قول كالفاعل وفي قول يقتل الفاعل والمفعول به وقال أبو حنيفة: يعزر باللواط ولا يجلد ولا يرجم أقول: قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقتل الفاعل والمفعول به وصح عن الصحابة امتثال هذا الأمر وقتلهم لمن ارتكب هذه الفاحشة العظيمة من غير فرق بين بكر وثيب ووقع ذلك في عصرهم مرات ولم يظهر في ذلك خلاف من أحد منهم مع أن السكوت في مثل إراقة دم امرىء مسلم لا يسوغ لأحد من المسلمين وكان في ذلك الزمن الحق مقبول من كل من جاء به كائنا من كان فإن اللواط مما يصح اندراجه تحت عموم أدلة الزاني فهو مخصص بما ورد فيه من القتل لكل فاعل سواء كان محصنا أو غير محصن وإن كان غير داخل تحت أدلة الزنا ففي أدلته الخاصة له ما يشفي ويكفي "ويعزر من نكح بهيمة" لكون1 الحديث المروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة" أخرجه أحمد
__________
1 لعل خير "كون" سقط من الأصل والمراد واضح وهو أن الحديث ضعيف.(2/274)
وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه فقد روى الترمذي وأبو داود من حديث أبي رزين عن ابن عباس أنه قال: "من أتى بهيمة فلا حد عليه" وقال: إنه أصح من الحديث الأول قال: والعمل على هذا عند أهل العلم وقد روى أبو يعلى الموصلي من حديث أبي هريرة نحو حديث ابن عباس في القتل ولكن في إسناده عبد الغفار1 قال ابن عدي: إنه رجع عنه وذكر أنهم كانوا لقنوه وقد وقع الإجماع على تحريم إتيان البهيمة كما حكى ذلك صاحب البحر ووقع الخلاف بين أهل العلم فقيل: يحد الزاني وقيل: يعزر فقط إذ ليس بزنا وقيل يقتل ووجه ما ذكرنا من التعزير أنه فعل محرما مجمعا عليه فاستحق العقوبة بالتعزير وهذا أقل ما يفعل به والحاصل: أن من وقع على بهيمة فقد ورد ما يدل على أنه يقتل ولكن لم يثبت ثبوتا تقوم به الحجة ولا وقع من الصحابة مثل ما وقع في اللواط وفي النفس شئ من دخوله تحت أدلة الزنا العامة فالظاهر التعزير فقط من غير فرق بين بكر وثيب "ويجلد المملوك نصف جلد الحر" لقوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} ولا قائل بالفرق بين الأمة والعبد كما حكى ذلك صاحب البحر وقد أخرج عبد الله بن أحمد في المسند من "حديث علي قال: أرسلني رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى أمة سوداء زنت لأجلدها الحد فوجدتها في دمها فأخبرت بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إذا تعالت من نفاسها فاجلدها خمسين" وهو في صحيح مسلم كما تقدم بدون ذكر الخمسين وأخرج مالك في الموطإ عن عبد الله بن عياش المخزومي2 قال: "أمرني عمر بن الخطاب في فتية من قريش فجلدنا ولائد من ولائد الإمارة خمسين خمسين في الزنا"وذهب ابن عباس إلى أنه لا حد على مملوك حتى يتزوج تمسكا بقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} الآية وأجيب بأن المراد بالإحصان هنا الإسلام قلت الإحصان في كلام العرب المنع ويقع في القرآن والسنة على الإسلام والحرية والعفاف والتزوج لأن الإسلام يمنعه عما لا يباح له وكذلك الحرية والعفاف والتزوج وقوله تعالى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء} أراد المزوجات وقوله تعالى: {أنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ
__________
1هو عبد الغفار بن عبد الله بن الزبير ولم أجد له ترجمة. انظر تلخيص الحبير ص 352.
2 عياش بالياء والشين المعجمة.(2/275)
فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أراد به الحرائر وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} أراد العفاف وقوله تعالى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} أراد المتزوجين وقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} أي تزوجن وعلى هذا أهل العلم "ويحده سيده أو الإمام" لعموم الأدلة الواردة في مطلق الحد ولحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب1 عليها ثم إن زنت فليجدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت الثالثة فليبعها ولو بحل من شعر" وقد ذهب إلى أن السيد يجلد مملوكه جماعة من السلف قال الشافعي: للسيد إقامة الحد على مملوكه دون السلطان وقال أبو حنيفة: يرفعه المولى إلى السلطان ولا يقيمه بنفسه
__________
1 أي لا بوبخها ولا يقرعها بالزنا بعد الضرب.(2/276)
باب السرقة
"من سرق مكلفا مختارا" وقد تقدم وجه اشتراط التكليف والاختيار "من حرز" أي مال محرز واستدل على ذلك بما أخرجه أبو داود2 من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سأله رجل عن الحريسة التي تؤخذ من مراتعها قال: "فيها ثمنها مرتين وضرب نكال وما أخذ من عطنه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن" قال يا رسول الله: فالثمار وما أخذ منها في أكمامها قال: "من أخذ بفمه ولم يتخذ خبنة فليس عليه شئ ومن احتمل فعليه ثمنه مرتين وضرب نكال وما أخذ من أجرانه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن" وقد أخرجه أيضا أحمد والنسائي والحاكم وصححه وحسنه الترمذي والحريسة3 التي ترعى وعليها حرس وكذا حديث "لا قطع في ثمر ولا كثر4"
__________
1 أي لا بوبخها ولا يقرعها بالزنا بعد الضرب.
2 هذه الرواية ليست رواية أبي داود بل نسيها صاحب المنتقي لمسند أحمد وسنن النسائي وهي سنن النسائي بلفظ قريب من هذا اللفظ ج 2 ص 261.
3 الحريسة هي ما يحرس بالجبل. وفي الأصل الحرسية وهو خطأ انظر النسائي ج 2 ص 261 والشوكاني ج 7 ص 300.
4 الكثر بفتح الكاف والثاء جمار النخل.(2/276)
عند أحمد وأهل السنن والحاكم وصححه ابن حبان والبيهقي من حديث رافع بن خديج وقد ذهب إلى اعتبار الحرز الأكثر وذهب أحمد وإسحق والظاهرية وطائفة من أهل الحديث إلى عدم اعتباره واستدلوا على عدم الاعتبار وإن كان قيامهم مقام المنع يكفيهم بما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والنسائي ومالك في الموطإ والشافعي والحاكم وصححه1 من حديث صفوان بن أمية قال: "كنت نائما في المسجد على خميصة لي فسرقت فأخذنا السارق فرفعناه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بقطعه فقلت يارسول الله: أفي خميصة ثمن ثلاثين درهما أنا أهبها له قال: "فهلا كان قبل أن تأتيني به" وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي من حديث ابن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع يد سارق سرق برنسا من صفة النساء ثمنه ثلاثة دراهم"وقد أخرج مسلم معناه وقد روي نحو حديث صفوان من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وضعف إسناده ابن حجر ويجاب عن الاستدلال بهذه الأحاديث على عدم اعتبار الحرز بأن المساجد حرز لما دخل إليها ولو كان على صاحبه فيكون الحرز أعم مما وقع تبيينه في كتب الفقه ولكنه يشكل على من اعتبر الحرز حديث قطع جاحد الوديعة وسيأتي ويمكن أن يكون ذلك خاصا بما ورد فيه فلا يعارض ما ورد في اعتبار الحرز في غيره قال في المسوى: ذهب أبو حنيفة إلى أنه لا قطع في سرقة شئ من الفواكه الرطبة ولا الخشب ولا الحشيش عملا بعموم حديث رافع وتأوله الشافعي على معنى اشتراط الحرز وقال: نخيل المدينة لا حوائط لأكثرها فلا تكون محرزة وإنما خرج الحديث مخرج العادة يوضح ذلك حديث الجرين2 وقطع عثمان في أترجة قال في الحجة البالغة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل فإذا آواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن" أقول: أفهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الحرز شرط القطع وسبب ذلك أن غير المحرز يقال فيه الالتقاط فيجب الاحتراز عنه قلت والحرز ما يعده الناس حرزا لمثل ذلك المال فالمتبن حرز للتبن والإصطبل للدواب والمراح للغنم والجرين للثمار وأما إذا كان المال في صحراء أو في مسجد فإنما حرزه أن يكون له ناظر بحسب ما جرت العادة من النظر وعليه أهل العلم في الجملة "ربع دينار فصاعدا" لحديث عائشة
__________
1 في المستدرك ج 4 ص 380 ولم نر فيه تصحيحه له
2 هو موضع تجفيف التمر.(2/277)
في الصحيحين وغيرهما قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا"وفي رواية لمسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا" وفي لفظ لأحمد "اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا في ماهو أدنى من ذلك" وكان ربع الدينار يؤمنذ ثلاثة دراهم والدينار اثني عشر درهما"وفي رواية للنسائي قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن" قيل لعائشة ما ثمن المجن؟ قالت: ربع ديناروفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر قال: "قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجن ثمنه ثلاث دراهم" وقد عرفت أن الثلاث الدراهم هي صرف ربع دينار كما تقدم في رواية أحمد قال الشافعي: وربع الدينار موافق لرواية ثلاثة دراهم وذلك أن الصرف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر دراهما بدينار وهو موافق لما في تقدير الديات من الذهب بألف دينار ومن الفضة باثني عشر ألف درهم وقد ذهب إلى كون نصاب القطع ربع دينار أو ثلاثة دراهم الجمهور من السلف والخلف ومنهم الخلفاء الأربعة وفي المسألة اثنا عشر مذهبا قد أوضحها الماتن في شرح المنتقى وأما ماروي من حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده" فقد قال الأعمش: كانوا يرون أنه بيض الحديد والحبل كانوا يرون أن منها مايساوي ثلاثة دراهم كذا في البخاري وغيره قال الحجة البالغة الحاصل: أن هذه التقديرات الثلاث كانت منطبقة على شئ واحد في زمانه صلى الله عليه وسلم ثم اختلف بعده ولم يصلح المجن للاعتبار لعدم انضباطه فاختلف المسلمون في الحديثين الأخيرين فقيل: ربع دينار وقيل ثلاثة دراهم وقيل: بلوغ المال إلى أحد القدرين وهو الأظهر عندي وهذا شرعه النبي صلى الله عليه وسلم فرقا بين التافه وغيره لأنه لا يصلح للتقدير جنس دون جنس لاختلاف الأسعار في البلدان واختلاف الأجناس نفاسة وخساسة بحسب اختلاف البلاد فمباح قوم وتافههم مال عزيز عند آخرين فوجب أن يعتبر التقدير في الثمن وقيل لا يعتبر فيها وأن الحطب وإن كان قيمته عشرة دراهم لا يقطع فيه قال في المسوى: ذهب الشافعي إلى حديث عائشة أن نصاب السرقة ربع دينار وذهب مالك إلى حديث ابن عمر والجواب من قبل الشافعي عن حديث ابن عمر أن الشئ(2/278)
التافه قد جرت العادة بتقويمه بالدراهم وكانت الثلاثة دراهم تبليغ قيمتها ربع دينار يوضح ذلك حديث عثمان فإنه يدل على أن العبرة بالذهب ومن أجل ذلك ردت قيمة الدراهم إليه بعد ما قومت الأترجة بالدراهم ويوضح ذلك أيضا وقوع اثني عشر ألف درهم موضع ألف دينار في الدية وقال أبو حنيفة: لا تقطع في أقل من عشرة دراهم أقول: أصح ما روي أن ثمن المجن ثلاثة دراهم وهي ربع دينار وقد ورد التقدير بربع دينار في الروايات الصحيحة والنهي عن القطع فيما دونه فنصاب السرقة إما ثلاثة دراهم أو ربع دينار هذا هو الحق وما روي من زيادة ثمن المجن فقد بين سقوط الاستدلال به في شرح المنتقى
قطعت كفه اليمنى لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} قلت: اتفق أهل العلم على أن السارق إذا سرق أول مرة تقطع يده اليمنى ثم إذا سرق ثانيا تقطع رجله اليسرى واختلفوا فما إذا سرق ثالثا بعد قطع يده ورجله فذهب أكثرهم إلى أنه تقطع يده اليسرى ثم إذا سرق أيضا تقطع رجله اليمنى ثم إذا سرق أيضا يعزر ويحبس وعليه الشافعي وقال أبو حنيفة: لا تقطع يده اليسرى ورجله اليمنى ولكن يعزر ويحبس "ويكفي الإقرار مرة واحدة" لما قدمنا في الباب الأول وقد قطع النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يد سارق المجن وسارق رداء صفوان ولم ينقل أنه أمره بتكرار الإقرار وأما ما وقع منه صلى الله عليه وسلم من قوله:"للسارق الذي اعترف بالسرق "ما إخالك سرقت" قال: بلى مرتين أو ثلاث" فهذا هو من باب الاستثبات كما تقدم وقد ذهب إلى أنه يكفي الإقرار مرة واحدة مالك والشافعية والحنفية وذهب ابن أبي ليلى وأحمد وإسحق إلى اعتبار المرتين والحق هو الأول "أو شهادة عدلين" لكون السرقة مندرجة تحت ما ورد من أدلة الكتاب والسنة في اعتبار الشاهدين "ويندب تلقين المسقط" لحديث أبي أمية المخزومي عند أحمد وأبي داود والنسائي بإسناد رجاله ثقات أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بلص اعترف اعترافا ولم يوجد معه متاع فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما إخالك سرقت" قال: بلى مرتين أو ثلاثا وقد روي عن عطاء أنه قال: كان من مضى يؤتى إليهم بالسارق فيقول: أسرقت قل: لا وسمى أبا بكر وعمر" أخرجه عبد الرزاق وفي الباب عن جماعة من الصحابة "ويحسم موضع القطع" لئلا يسري(2/279)
فيهلك فإن الحسم سبب عدم السراية لما أخرجه الدارقطني والحاكم والبيهقي وصححه ابن القطان من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بسارق قد سرق شملة فقالوا يا رسول الله: إن هذا قد سرق فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "ما إخاله سرق" فقال السارق بلى يا رسول الله فقال: "اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه ثم ائتوني به" فقطع فأتي به فقال: "تب إلى الله" فقال: قد تبت إلى الله قال "تاب الله عليك" "وتعلق اليد في عنق السارق" لما أخرجه أهل السنن وحسنه الترمذي من حديث فضالة ابن عبيد قال: "أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق فقطعت يده ثم أمر بها فعلقت في عنقه"وفي إسناده الحجاج بن أرطاة قال النسائي: هو ضعيف لا يحتج بحديثه قال في الحجة البالغة: إنما فعل هذا للتشهير وليعلم الناس أنه سارق وفرقا بين ما يقطع اليد ظلما وبين ما يقطع حدا "ويسقط بعفو المسروق عليه قبل البلوغ إلى السلطان لا بعده فقد وجب" لحديث صفوان المتقدم وأخرج النسائي وأبو داود والحاكم وصححه من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب" قلت: وعليه أهل العلم ويحرم الشفاعة للسارق إذا بلغ أمره السلطان أن لا يقطع يده "ولا قطع في ثمر ولا كثر ما لم يؤوه الجرين إذا أكل ولم يتخذ خبنة1 وإلا كان عليه ثمن ما حمله مرتين وضرب نكال" لحديث عمرو بن شعيب ورافع بن خديج المتقدمين في أول الباب والكثر جمار النخل أو طلعها وإلزامه بالثمن مرتين تأديب له بالمال ولم يكتف صلى الله عليه وسلم بذلك بل قال "وضرب نكال" ليجمع له بين عقوبة المال والبدن والخبنة ما يحمله الإنسان في حضنه وقد تقدم ضبطها وتفسيرها" وليس على الخائن والمنتهب والمختلس قطع" لحديث جابر عند أحمد وأهل السنن والحاكم والبيهقي وصححه الترمذي وابن حبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع" وأخرج ابن ماجه بإسناد صحيح من حديث عبد الرحمن بن عوف بنحو حديث جابر وأخرج ابن ماجه أيضا والطبراني من
__________
1الخبنة – الخاء وإسكان الباء – معطف الإزار وطرف الثوب أي لا يأخذ منه في ثوبه قاله ابن الأثير.(2/280)
حديث أنس نحوه قلت وعلى هذا أهل العلم "وقد ثبت القطع في جحد العارية" لما أخرجه مسلم وغيره من حديث عائشة قالت: "كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بقطع يدها"وأخرج أحمد والنسائي وأبو داود وأبو عوانة في صحيحه من حديث ابن عمر مثل حديث عائشة وقد ذهب إلى قطع جاحد العارية من لم يشترط الحرز وهم من تقدم وذهب الجمهور إلى أنه لا يقطع يد جاحد العارية قالوا: لأن الجاحد للعارية ليس بسارق لغة وإنما ورد الكتاب والسنة بقطع السارق ويرد بأن الجاحد إذا لم يكن سارقا لغة فهو سارق شرعا والشرع مقدم على اللغة وقد ثبت الحديث من طريق عائشة وابن عمر كما تقدم وكذا من حديث جابر وابن مسعود وغير هؤلاء وقد وقع في رواية من حديث ابن مسعود عند ابن ماجه والحاكم وصححه "أنها سرقت قطيفة من بيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "ووقع في مراسيل حبيب بن أبي ثابت "أنها سرقت حليا "فيمكن أن تكون هذه المخزومية قد جمعت بين السرقة وجحد العارية.(2/281)
"باب حد القذف"
رمي المحصنات بالزنا كبيرة قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} واتفق على ذلك المسلمون "من رمى غيره بالزنا وجب عليه حد القذف ثمانين جلدة" لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وقد أجمع أهل العلم على ذلك واختلفوا هل ينصف للعبد أم لا فذهب الأكثر إلى الأول وروى مالك عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: "أدركت عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان والخلفاء هلم جرا فما رأيت أحدا جلد عبدا في فرية أكثر من أربعين "وذهب ابن مسعود والليث والزهري والأوزاعي وعمر بن عبد العزيز وابن حزم إلى أنه لا ينصف لعموم الآية. أقول: الآية الكريمة عامة يدخل تحتها الحر والعبد والغضاضة بقذف العبد للحر أشد منها بقذف الحر للحر وليس في حد القذف ما يدل على تنصيفه للعبد لا من الكتاب(2/281)
ولا من السنة ومعظم ما وقع التعويل عليه هو قوله تعالى في حد الزنا: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} ولا يخفى أن ذلك في حد آخر غير حد القذف فإلحاق أحد الحدين بالآخر فيه إشكال لا سيما مع اختلاف العلة وكون أحدهما حقا لله محضا والآخر مشوبا بحق آدمي قال في المسوى: من رمى إنسانا بالزنا فإن كان المقذوف محصنا يجب على القاذف جلد ثمانين إن كان حرا فإن كان عبدا فجلد أربعين فإن كان المقذوف غير محصن فعلى قاذفه التعزير وكذا لا حد في النسبة إلى غير الزنا إنما فيه التعزير وشرائط الإحصان خمسة: الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والعفة من الزنا حتى إن من زنى في أول بلوغه ثم تاب وحسنت حالته وامتد عمره فقذفه قاذف لا حد عليه وعلى هذا أهل العلم وإذا عفا المقذوف لم يجلد قاذفه وإذا قذف أبوا رجل وقد هلكا فله المطالبة بالحد وفي الأنوار حد القاذف وتعزيره حق الآدمي يورث عنه ويسقط بعفوه وعفو وارثه إن مات أو قذف ميتا وهو حق جميع الورثة وفي الهداية لا يصح عفو المقذوف عندنا وفيها لو قال يا ابن الزانية وأمه ميتة محصنة فطالب الابن بحد القذف حد القاذف لأنه قذف محصنة ولا يطالب بحد القذف للميت إلا من يقع القدح في نسبه بقذفه وهو الوالد والولد ومذهب الشافعية والحنفية أن الوالد لا يجلد بقذفه ولده وإذا قذف جماعة جلد حدا واحدا وعليه أبو حنيفة وقال الشافعي: إذا اختلف المقذوف فلا تداخل والتعريض الظاهر ملحق بالصريح وعليه مالك وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يلحق به ولا يحد إلى بالصريح أقول: التحقيق أن المراد من رمي المحصنات المذكور في كتاب الله عز وجل هو أن يأتي القاذف بلفظ يدل لغة أوشرعا أو عرفا على الرمي بالزنا ويظهر من قرائن الأحوال أن المتكلم لم يرد إلا ذلك ولم يأت بتأويل مقبول يصح حمل الكلام عليه فهذا يوجب حد القذف بلا شك ولا شبهة وكذلك لو جاء بلفظ لا يحتمل الزنا أو يحتمله احتمالا مرجوحا وأقر أنه أراد الرمي بالزنا فإنه يجب عليه الحد وأما إذا عرض بلفظ محتمل ولم تدل قرينة حال ولا مقال على أنه قصد الرمي بالزنا فلا شئ عليه لأنه لا يسوغ إيلامه بمجرد الاحتمال "ويثبت ذلك بإقراره مرة" لكون إقرار المرء لازما له ومن ادعى أنه يشترط التكرار مرتين فعليه الدليل ولم يأت في ذلك دليل من كتاب ولا سنة "أو بشهادة عدلين" كسائر(2/282)
ما تعتبر فيه الشهادة كما أطلقه الكتاب العزيز "وإذا لم يتب لم تقبل شهادته" لقوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} ثم ذكر بعد ذلك التوبة "فإن جاء بعد القذف بأربعة شهود" يشهدون على المقذوف بأنه زنى "سقط عنه الحد" لأن القاذف لم يكن حينئذ قاذفا بل قد تقرر صدور الزنا بشهادة الأربعة فيقام الحد على الزاني "وهكذا إذا أقر المقذوف بالزنا" فلا حد على من رماه به بل يحد المقر بالزنا وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه جلد أهل الإفك كما في مسند أحمد وأبي داود وابن ماجه والترمذي وحسنه وأشار إلى ذلك البخاري في صحيحه فثبت حد القذف بالسنة كما ثبت بالقرآن ووقع في أيام الصحابة جلد من شهد على المغيرة بالزنا حيث لم تكمل الشهادة وذلك معروف ثابت.(2/283)
"باب حد الشرب"
شرب الخمر كبيرة وعليه أهل العلم "من شرب مسكرا مكلفا مختارا" وقد تقدم دليله "جلد على ما يراه الإمام إما أربعين جلدة أو أقل أو أكثر ولو بالنعال" لما ثبت في الصحيحين من حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال وجلد أبو بكر أربعين"وفي مسلم من حديثه "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر فجلد بجريدتين نحو أربعين" قال: وفعله أبو بكر فلما كان عمر استشار الناس فقال عبد الرحمن: أخف الحدود ثمانين فأمر به عمر وفي البخاري وغيره من حديث عقبة بن الحرث قال: جيء بالنعيمان أو ابن النعيمان شاربا فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان في البيت أن يضربوه فكنت فيمن ضربه بالنعال والجريد وفيه أيضا من حديث السائب بن يزيد قال: "كنا نؤتى بالشارب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إمرة أبي بكر وصدرا من إمرة عمر فنقوم إليه نضربه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا حتى كان صدرا من إمرة عمر فجلد فيها أربعين حتى إذا عتوا فيها وفسقوا جلد ثمانين1"
__________
1عتوا من العتو وهو التجبر والمراد هنا أنهما كهم في الطغيان والمبالغة فلي الفساد في شرب الخمر قاله ابن حجر "ج 12 ص 59" ولفظ الحديث الذي هنا ليس لفظ البخاري ل لفظ أحمد في المسند ج 3 ص 449.(2/283)
وفيه أيضا من حديث أبي هريرة نحوه وفي الباب أحاديث يستفاد مجموعها أن حد السكر لم يثبت تقديره عن الشارع وأنه كان يقام بين يديه على صورة مختلفة بحسب ما يقتضيه الحال فالحق أن جلد الشرب غير مقدر بل الذي يجب فعله هو إما الضرب باليد أو العصا أو النعل أو الثوب على مقدار يراه الإمام من قليل أو كثير فيكون على هذا من جملة أنواع التعزير وفي الصحيحين عن علي أنه قال: "ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت وأجد في نفسي شيئا إلا صاحب الخمر فإنه لو مات وديته وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه" قلت: وعليه أهل العلم إلا أن الشافعي يقول: أصل حد الخمر أربعون وما زاده عمر على الأربعين كان تعزيرا لما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بشارب فضربوه بالأيدي والنعال وأطراف الثياب فلما كان أبو بكر سأل من حضر ذلك المضروب فقومه أربعين فضرب أربعين حياته ثم عمر حتى تتابع الناس فاستشار عمر فضرب ثمانين ثم قال علي: حين أقام الحد على وليد بن عقبة لما بلغ أربعين حسبك جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين وجلد أبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي" قال في الحجة البالغة: ثم قال أي النبي صلى الله عليه وسلم: "بكتوه فأقبلوا عليه يقولون ما اتقيت الله ما خشيت الله ما استحييت من رسول الله" وروي أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أخذ ترابا من الأرض فرمى به وجهه انتهى وروى مالك عن ابن شهاب أنه سئل عن حد العبد في الخمر فقال: بلغني أن عليه نصف الحد في الحر وأن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمر قد جلدوا عبيدهم نصف حد الحر في الخمر ولا يجوز للإمام أن يعفو عن حد قال سعيد بن المسيب: ما من شئ إلا يحب الله أن يعفو عنه ما لم يكن حدا قلت: وعليه أهل العلم "ويكفي إقراره مرة أو شهادة عدلين" لمثل ما تقدم ولعدم وجود دليل يدل على اعتبار التكرار "ولو على القيء" لكون خروجها من جوفه يفيد القطع بأنه شربها والأصل عدم المسقط ولهذا حد الصحابة الوليد بن عقبة لما شهد عليه رجلان أحدهما أنه شربها والآخر أنه تقيأها فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتى شربها كما في مسلم وغيره "وقتله في الرابعة منسوخ" لما رواه الترمذي والنسائي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم "إن شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد في الرابعة فاقتلوه ثم أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك برجل قد شرب في الرابعة فضربه(2/284)
ولم يقتله"ومثله أخرج أبو داود والترمذي من حديث قبيصة بن ذؤيب وفيه "ثم أتي به يعني في الرابعة فجلده ورفع القتل" وفي رواية لأحمد من حديث أبي هريرة "فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسكران في الرابعة فخلى سبيله" أقول: قد وردت الأحاديث بالقتل في الثالثة في بعض الروايات وفي الرابعة في بعض وفي الخامسة في بعض وورد ما يدل على النسخ من فعله صلى الله عليه وسلم وأنه رفع القتل عن الشارب وأجمع على ذلك جيمع أهل العلم وخالف فيه بعض أهل الظاهر.
"فصل والتعزير في المعاصي التي لا توجب حدا ثابت بحبس أو ضرب أو نحوهما ولا يجاوز عشرة أسواط" لحديث أبي بردة بن نيار في الصحيحين وغيرهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله" وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وحسنه وقال الحاكم: صحيح الإسناد من حديث بهز بن حكيم "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم حبس رجلا في تهمة يوما وليلة" وقد ثبت أن عمر أمر أبا عبيدة بن الجراح أن يربط خالد بن الوليد بعمامته لما عزله عن إمارة الجيش كما في كتب السير وسبب ذلك أنه استنكر منه إعطاء شئ من أموال الله وتقدم في باب السرقة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وضرب نكال " أقول: هذا الفصل يراد به كل عقوبة ليست بحد من الحدود المتقدمة والآتية فمنها الضرب ولكن يكون عشرة أسواط فما دون لحديث أبي بردة المتقدم ولا تجوز الزيادة على ذلك ولكن ليس في هذا الحديث مايدل على وجوب التعزيز بل غاية ما فيه الجواز فقط وقد اطلع رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على جماعة ارتكبوا ذنوبا لا توجب حدا فلم يضربهم ولا حبسهم ولا نعى ذلك عليهم كالمجامع في نهار رمضان والذي لقي امرأة فأصاب منها ما يصب الرجل من زوجته غير أنه لم يجامعها وغير ذلك كثير ومن أنواع التعزير الحبس ويجوز الحبس مع التهمة وهكذا يجوز حبس من كان يخشى على المسلمين معرته وإضراره بهم لو كان مطلقا فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان بقد الإمكان ولا يمكن القيام بهما في حق من عرف بذلك إلا بالحيلولة بينه وبين الناس بالحبس ومنها النفي كما فعله صلى الله عليه وسلم بجماعة من المخنثين. ومنها ترك المكلمة كما فعله صلى الله عليه وسلم بالثلاثة(2/285)
الذين تخلفوا عنه حتى ضافت عليهم الأرض بما رحبت ومنها الشتم الذي لا فحش فيه كقول الله تعالى حاكيا عن موسى عليه السلام: {فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} ومن ذلك قول يوسف عليه السلام لإخوته: {أنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً} لما نسبوه إلى السرقة وقال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: "إنك امرؤ فيك جاهلية" كما في البخاري لما سمعه صلى الله عليه وسلم يسب امرأة وفي مسلم "أن رجلا أكل بشماله عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "كل بيمينك" فقال: لا أستطيع فقال: "لا استطعت ما منعه إلا الكبر" قال: فما رفعها إلى فيه" وفي مسلم " من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا" وفي مسلم أيضا "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "لا وجدت" وفي الترمذي "إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك" وقال صلى الله عليه وسلم للخطيب: "بئس خطيب القوم أنت" أخرجه مسلم وغيره ووقع منه صلى الله عليه وسلم من هذا الجنس شئ كثير وكذلك وقع من الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح من ذلك ما يرشد إلى جوازه إذا ظن فاعله تأثيره في المرتكب للذنب.(2/286)
"باب حد المحارب"
"هو أحد الأنواع المذكورة في القرآن القتل أو الصلب أو قطع اليد والرجل من خلاف أو نفي من الأرض" لقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} قلت: أكثر أهل العلم على أن هذه الآية نزلت في أهل الإسلام لا الكفار بدليل قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} والإسلام يحقن الدم سواء أسلم قبل القدرة عليه أو بعدها وإنما أضاف الحرب إلى الله ورسوله إيذانا بأن حرب المسلمين كأنه حرب الله تعالى ورسوله أقول: ظاهر القرآن الكريم أن من صدق عليه أنه محارب لله ورسوله ساع في الأرض فسادا فإن عقوبته إما القتل أو الصلب أو القطع من خلاف أو النفي من الأرض من غير فرق بين كونه قتل أو لم يقتل والظاهر أنه لا يجمع له بين هذه الأنواع ولا بين اثنين منها ولا يجوز تركه عن أحدها هذا معنى(2/286)
النظم القرآني فإن قلت: كيف عقوبة الصلب هل يفعل به ما يصدق عليه مسمى الصلب ولو كان قليلا قلت يفعل به ما يصدق عليه أنه صلب عند أهل اللغة فإن كان الصلب عندهم هو الذي يفضي إلى الموت فذاك وإن كان أعم منه فالامتثال يحصل بفرد من أفراده وقال الشافعي: المكابرون في الأمصار قطاع وقال أبو حنيفة: لا وظاهر مذهب الشافعي في صفة الصلب أنه يقتل ويغسل ويصلى عليه ثم يصلب ثلاثا ثم ينزل ويدفن وقيل يصلب حيا ثم يطعن حتى يموت مصلوبا وقال أبو حنيفة: لا يغسل ولا يصلى على قاطع الطريق ومعنى النفي عند الحنفية الحبس حتى يرى عليه أثر الصلاح وعند الشافعي للإمام أن يحبس أو يغرب أو يطلبه للتعزيز والطلب نفي أيضا لأنه حامل على هربه "يفعل الإمام منها مارأى فيه صلاحا لكل من قطع طريقا ولو في المصر إذا كان قد سعى في الأرض فسادا" هذا ظاهر ما دل عليه الكتاب العزيز من غير نظر إلى ما حدث من المذاهب فإن الله سبحانه قال: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} فضم إلى محاربة الله ورسوله أي معصيتهما السعي في الأرض فسادا فكان ذلك دليلا على أن من عصى الله ورسوله بالسعي في الأرض فسادا كان حده ما ذكره الله في الآية ولما كانت الآية الكريمة نازلة في قطاع الطريق وهم العرنيون كان دخول من قطع طريقا تحت عموم الآية دخولا أوليا ثم حصر الجزاء في قوله: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} فخير بين هذا الأنواع فكان للإمام أن يختار ما رأى فيه صلاحا منها فإن لم يكن إمام فمن يقوم مقامه في ذلك من أهل الولايات فهذا ما يقتضيه نظم القرآن الكريم ولم يأت من الأدلة النبوية ما يصرف ما يدل عليه القرآن الكريم عن معناه الذي تقتضيه لغة العرب وأما ما روي عن ابن عباس كما أخرجه الشافعي في مسنده أنه قال في قطاع الطريق: "إذا قتلوا وأخذوا الأموال صلبوا وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض "فليس هذا الاجتهاد مما تقوم به الحجة على أحد ولو فرضنا أنه في حكم التفسير للآية وإن كان مخالفا لها غاية المخالفة ففي إسناده ابن أبي يحيى وهو(2/287)
ضعيف جدا لا تقوم بمثله الحجة وأما ما روي عن ابن عباس أيضا "أن الآية نزلت في المشركين"كما أخرجه أبو داود والنسائي عنه فذلك مدفوع بأنها نزلت في العرنيين وقد كانوا أسلموا كما في الأمهات ولو سلمنا ما روي عن ابن عباس لم تقم به حجة من قال باختصاص ما في الآية بالمشركين لما تقرر من أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب على أن في إسناد ذلك علي بن الحسين بن واقد وهو ضعيف وقد ذهب إلى مثل ما ذهبنا إليه جماعة من السلف كالحسن البصري وابن المسيب ومجاهد وأسعد الناس بالحق من كان معه كتاب الله وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العرنيين أنه فعل بهم أحد الأنواع المذكورة في الآية وهو القطع كما في الصحيحين وغيرها من حديث أنس والمراد بالصلب المذكور في الآية هو الصلب على الجذوع أو نحوها حتى يموت إذا رأى الإمام ذلك أو يصلبه صلبا لا يموت فيه فإن اسم الصلب يصدق على الصلب المفضي إلى الموت والصلب الذي لا يفضي إلى الموت ولو فرضنا أنه يختص بالصلب المفضي إلى الموت لم يكن في ذلك تكرار بعد ذكر القتل لأن الصلب هو قتل خاص وأما النفي من الأرض فهو طرده من الأرض التي أفسد فيها وقد قيل إنه الحبس وهو خلاف المعنى العربي "فإن تاب قبل القدرة عليه سقط عنه ذلك" لنص القرآن بذلك وهو قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قلت: معناه عند الشافعي إذا تاب قاطع الطريق قبل القدرة عليه يسقط عنه من العقوبة ما يختص بقطع الطريق فإن كان قتل يسقط تحتم القتل ويبقى عليه القصاص فالولي فيه بالخيار إن شاء استوفاه وإن شاء عفا عنه وإن كان قد أخذ المال سقط عنه قطع اليد والرجل وقيل في سقوط قطع اليد حكمه حكم السارق في البلد إذا تاب وإن كان قد قتل وأخذ المال سقط عنه تحتم القتل والصلب وإذا تاب بعد القدرة لا يسقط عنه شئ من العقوبات ولا يسقط سائر الحدود بالتوبة قبل القدرة عليه وهذا أظهر قولي الشافعي والقول الثاني: أن كل عقوبة تجب حقا لله تعالى مثل عقوبات قاطع الطريق وقطع السرقة وحد الزنا والشرب تسقط بالتوبة لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له وأقول: الآية ليس فيها إلى الإشارة إلى عفو الله ورحمته لمن تاب قبل القدرة(2/288)
وليس فيها القطع بحصول المغفرة والرحمة لمن تاب ولو سلم القطع فذلك في الذنوب التي أمرها إلى الله فيسقط بالتوبة الخطاب الأخروي والحد الذي شرعه الله وأما الحقوق التي للآدميين من دم أو مال أو عرض فليس في الآية ما يدل على سقوطها ومن زعم أن ثم دليلا يدل على السقوط فما الدليل على هذا الزعم.(2/289)
"باب من يستحق القتل حدا"
"هو الحربي" ولا خلاف في ذلك لأوامر الله عز وجل بقتل المشركين في مواضع من كتابه العزيز ولما ثبت عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ثبوتا متواترا من قتالهم وأنه كان يدعوهم إلى ثلاث ويأمر بذلك من يبعثه للقتال والمرتد لقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" وهو للبخاري وغيره من حديث ابن عباس وحديث "لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان" الحديث وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود وحديث أبي موسى في الصحيحين أيضا "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال له: "اذهب إلى اليمن" ثم أتبعه معاذ بن جبل فلما قدم عليه ألقى له وسادة وقال: انزل وإذا جاء رجل عنده موثق قال: ما هذا؟ قال: كان يهوديا فأسلم ثم تهود قال: لا أجلس حتى يقتل قضاء لله ورسوله "قال في المسوى: من ارتد عن الإسلام إن كان في منعة من قومه جمع الإمام المسلمين وقاتلهم قال تعالى: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} وفي هذا الآية إخبار عما علم الله تعالى وقوعه وقد ارتد أكثر العرب في زمن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه فبعث إليهم المسلمين وقاتلهم حتى رجعوا وعلى هذا أهل العلم ومن ارتد عن الإسلام وليس له منعة قتل وعليه أهل العلم وإذا كان المرتد رجلا واختلفوا في المرتدة قال الشافعي: تقتل وقال أبو حنيفة: لا تقتل ولكن تحبس حتى تسلم
أقول: الأدلة الدالة على قتل المرتد عامة ولم يرد ما يقتضي تخصيصها وأما حديث النهي عن قتل النساء فذلك إنما هو في حال الحرب فإن(2/289)
النساء المشركات لا يقتلن وليس ذلك محل النزاع ثم قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قتل عدة نساء كاللاتي أمر بقتلهن يوم الفتح لما كان يقع منهن السب له وكذلك قتل امرأتين من بني قريظة وغير ذلك ثم ليس النهي عن قتل النساء مستلزما لتركهن على الكفر إذا امتنعن من الإسلام والجزية فإنه لا يجوز التقرير على الكفر فإذا قالت امرأة لا أسلم أبدا ولا أعطي الجزية وصممت على ذلك كان تركها حينئذ كافرة غير جائز لأحد من المسلمين ومن ههنا يلوح لك أن النهي عن قتل النساء إنما هو لأجل كونهن مستضعفات يحصل منهن الانقياد للإسلام بدون ذلك وليس عندهن غناء في القتال ولهذا كان سبب النهي عن قتلهن أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة مقتولة فقال: "ما كانت هذه لتقاتل ثم نهى عن قتلهن" فانظر كيف جعل النهي عن قتلهن معللا بعدم المقاتلة وأما قول بعض أهل العلم إن المتأول كالمرتد فههنا تسكب العبرات ويناح على الإسلام وأهله بما جناه التعصب في الدين على غالب المسلمين من الترامي بالكفر لا بسنة ولا قرآن ولا لبيان من الله ولا لبرهان بل لما غلت مراجل العصبية في الدين وتمكن الشيطان الرجيم من تفريق كلمة المسلمين لقنهم الزمان بعضهم لبعض بما هو شبيه الهباء في الهواء والسراب في البقعية1 فيالله وللمسلمين من هذه الفاقرة2 التي هي أعظم فواقر الدين والرزية التي ما رزيء بمثلها سبيل المؤمنين وأنت إن بقي فيك نصيب من عقل وبقية من مراقبة الله عز وجل وحصة من الغيرة الإسلامية علمت وعلم كل من له علم بهذا الدين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الإسلام قال في بيان حقيقته وإيضاح مفهومه إنه: "إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله" والأحاديث بهذا المعنى متواترة فمن جاء جاء بهذه الأركان الخمسة وقام بها حق القيام فهو المسلم على رغم أنف من أبى ذلك كائنا من كان فمن جاءك بما يخالف هذا من ساقط القول وزائف العلم بالجهل فاضرب به في وجهه وقل له قد تقدم هذيانك هذا
__________
1 كذا في الصل وصوابه القيعة "جمع قاع كاجيرة جمع جار والقاع ما انبسط من الأرض واتسع وفيه يكون السراب"
2 الفاقرة الداهية التي تكسر الظهر.(2/290)
برهان محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه
دعوا كل قول عند قول محمد ... فما آمن في دينه كمخاطر
وكما أنه تقدم الحكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قام بهذه الأركان الخمسة بالإسلام فقد حكم لمن آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره بالإيمان وهذا منقول عنه نقلا متواترا فمن كان هكذا فهو المؤمن حقا وقد ورد من الأدلة المشتملة على الترهيب العظيم من تكفير المسلمين والأدلة الدالة على وجوب صيانة عرض المسلم واحترامه ما يدل بفحوى الخطاب على تجنب القدح في دينه بأي قادح فكيف بإخراجه عن الملة الإسلامية إلى الملة الكفرية فإن هذه جناية لا تعد لها جناية وجرأة لا تماثلها جرأة وأين هذا المجترىء على تكفير أخيه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت عنه في الصحيح أيضا "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه" ومن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت عنه في الصحيح أيضا "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" ومن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام" وهو أيضا في الصحيح وكم يعد العاد من الأحاديث الصحيحة والآيات القرآنية والهداية بيد الله عز وجل {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} هذا ما أفاده الماتن العلامة في السيل وقال أيضا: اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة أن "من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما" هكذا في الصحيح وفي لفظ آخر في الصحيحين وغيرهما "من دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه"أي رجع وفي لفظ في الصحيح "فقد كفر أحدهما" ففي هذه الأحاديث وما ورد مرودها أعظم زاجر وأكبر واعظ عن السراع في التكفير وقد قال عز وجل: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} فلا بد من شرح الصدر بالكفر وطمأنينة القلب به وسكون النفس إليه فلا اعتبار بما يقع من طوارق عقائد الشرك لا سيما مع الجهل بمخالفتها لطريقة الإسلام ولا اعتبار بصدور فعل كفري لم يرد به فاعله الخروج عن الإسلام إلى ملة الكفر ولا اعتبار بلفظ يلفظ به المسلم يدل على الكفر(2/291)
وهو لا يعتقد معناه فإن قلت قد ورد في السنة ما يدل على كفر من حلف بغير ملة الإسلام وورد في السنة المطهرة ما يدل على كفر من كفر مسلما كما تقدم وورد في السنة المطهرة إطلاق الكفر على من فعل فعلا يخالف الشرع كما في حديث "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" ونحوه مما ورد مورده وكل ذلك يفيد أن صدور شئ من هذه الأمور يوجب الكفر وإن لم يرد قائله أو فاعله به الخروج من الإسلام إلى ملة الكفر قلت: إذا ضاقت عليك سبل التأويل ولم تجد طريقا تسلكها في مثل هذه الأحاديث فعليك أن تقرها كما وردت وتقول من أطلق عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم اسم الكفر فهو كما قال ولا يجوز إطلاقه على غير من سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين كافرا إلا من شرح بالكفر صدرا فحينئذ تنجو من معرة الخطر وتسلم من الوقوع في المحنة فإن الإقدام على ما فيه بعض البأس لا يفعله من يشح على دينه ولا يسمح به فيما لا فائدة فيه ولاعائدة فكيف إذا كان على نفسه إذا أخطأ أن يكون في عداد من سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كافرا أفهذا يقود إليه العقل فضلا عن الشرع ومع هذا فالجمع بين أدلة الكتاب والسنة واجب وقد أمكن هنا بما ذكرناه فتعين المصير إليه فحتم على كل مسلم أن لا يطلق كلمة الكفر إلا على من شرح به صدرا ويقصر ماورد مما تقدم مورده
وهذا الحق ليس به خفاء ... فدعني عن بنيات1 الطريق
ويأبى2 الفتى إلا اتباع الهوى ... ومنهج الحق له واضح
وكيف يحكم بالكفر على من حكى قولا كفريا صدر من كافر فإن القرآن الكريم قد اشتمل على ما يأبى عنه الحصر من حكاية ما هو كفر بواح من أقوال الكفار وهكذا لا يحكم بكفر من كفر مكرها فقد استثناه القرآن الكريم بقوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} وكفى به اهـ. "والساحر" لكون عمل السحر نوعا من الكفر ففاعله مرتد يستحق ما يستحقه المرتد وقد روى الترمذي والدارقطني والبيهقي والحاكم من حديث جندب قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "حد الساحر
__________
1 بنيات الطريق – بالتصغير – هي الطرق الصغار التي تتشعب من الجادة.
2 ويأبي الواو للعطف وووليست من البيت اهـ.(2/292)
ضربة بالسيف" قال الترمذي: والصحيح عن جندب موقوفا قال: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وغيرهم وهو قول مالك بن أنس وقال الشافعي: إنما يقتل الساحر إذا كان يعمل في سحره ما يبلغ به الكفر فإذا عمل عملا دون الكفر لم نر عليه قتلا اهـ. وفي إسناد هذا الحديث إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف وأخرج أحمد وعبد الرزاق والبيهقي "أن عمر بن الخطاب كتب قبل موته بشهر أن اقتلوا كل ساحر وساحرة"والأرجح ما قاله الشافعي لأن الساحر إنما يقتل لكفره فلا بد أن يكون ما عمله من السحر موجبا للكفر قال في المسوى: السحر كبيرة قال تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} واختلف في ذلك أهل العلم فقال مالك وأحمد: يقتل الساحر وقال الشافعي: ما تقدم ولو قتل الساحر رجلا بسحره وأقر إني سحرته وسحري يقتل غالبا يجب عليه القود عند الشافعي ولا يجب عند أبي حنيفة ولو قال سحري قد يقتل وقد لا يقتل فهو شبه عمد ولو قال أخطأت إليه من غيره فهو خطأ تجب فيه الدية المخففة وتكون في ماله لأنه ثبت باعترافه إلا أن تصدقه العاقلة فتكون عليهم أقول: لا شك أن من تعلم السحر بعد إسلامه كان بفعل السحر كافرا مرتدا وحدّه حد المرتد وقد تقدم وقد ورد في الساحر بخصوصه أن حده القتل ولا يعارض ذلك ترك النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لقتل لبيد بن الأعصم الذي سحره فقد يكون ذلك قبل أن يثبت أن حد الساحر القتل وقد يكون ذلك لأجل خشية معرة اليهود وقد كانوا أهل شوكة حتى أبادهم الله وفل شوكتهم وأقلهم وأذلهم وقد عمل الخلفاء الراشدون على قتل السحرة وشاع ذلك وذاع ولم ينكره أحد "والكاهن" لكون الكهانة نوعا من الكفر فلا بد أن يعمل من كهانته ما يوجب الكفر وقد ورد أن تصديق الكاهن كفر فبالأولى الكاهن إذا كان معتقدا بصحة الكهانة ومن ذلك حديث أبي هريرة عند مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى كاهنا أوعرافا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم" وفي الباب أحاديث "والساب لله أو لرسوله أو للإسلام أو للكتاب أو للسنة والطاعن في الدين" وكل هذه الأفعال موجبة للكفر الصريح ففاعلها مرتد حده حده وقد(2/293)
أخرج أبو داود من حديث علي "أن يهودية كانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه فخنقها رجل حتى ماتت فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم دمها" ولكنه من رواية الشعبي عن علي وقد قيل إنه ما سمع منه وأخرج أبو داود والنسائي من حديث ابن عباس "أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم فقتلها فأهدر النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم دمها" ورجال إسناده ثقات وأخرج أبو داود والنسائي عن أبي برزة قال: "كنت عند أبي بكر فتغيظ علي رجل فاشتد غضبه فقلت: أتأذن لي يا خليفة رسول الله أن أضرب عنقه قال: فأذهبت كلمتي غضبه فقام فدخل فأرسل إلي فقال: ما الذي قلت آنفا قلت: ائذن لي أضرب عنقه قال: أكنت فاعلا لو أمرتك قلت نعم قال: لا والله ما كان لبشر بعد محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم" وقد نقل ابن المنذر الإجماع على أن من سب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وجب قتله ونقل أبو بكر الفارسي أحد أئمة الشافعية في كتاب الإجماع أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم بما هو قذف صريح كفر باتفاق العلماء فلو تاب لم يسقط عنه القتل لأن حد قذفه القتل وحد القذف لا يسقط بالتوبة وخالفه القفال فقال: كفر بالسب فيسقط القتل بالإسلام قال الخطابي: لا أعلم خلافا في وجوب قتله إذا كان مسلما اهـ وإذا ثبت ما ذكرنا في سب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فبالأولى من سب الله تبارك وتعالى أو سب كتابه أو الإسلام أو طعن في دينه وكفر من فعل هذا لا يحتاج إلى برهان أقول: وقريب من هذا من جعل سب الصحابة شعاره ودثاره فإنه لا مقتضى لسبهم قط ولا حامل عليه أصلا إلا غش الدين في قلب فاعله وكراهة الإسلام وأهله فإن هؤلاء هم أهله على الحقيقة أقاموه بسيوفهم وحفظوا هذه الشريعة المطهرة ونقلوها إلينا كما هي فرضي الله عنهم وأرضاهم وأقمأ1 المشتغلين بثلبهم وتمزيق أعراضهم المصونة وقد رأينا في التواريخ ما صار يفعله أهل الشام والمغرب من قتل من كان كذلك بعد مرافعته إلى حكام الشريعة وحكمهم بسفك دمائهم وهذا وإن كان عندنا غير جائز لما عرفناك من عصمة دم المسلم حتى يقوم الدليل الدال على جواز سفكه ولكن فيه القيام التام بحقوق أساطين الإسلام "والزنديق" وهو الذي يظهر
__________
1 القماءة الذلة والصغار. وأقمأه صغره وذلله.(2/294)
الإسلام ويبطن الكفر ويعتقد بطلان الشرائع فهذا كافر بالله وبدينه مرتد عن الإسلام أقبح ردة إذا ظهر منه ذلك بقول أو فعل وقد اختلف أهل العلم هل تقبل توبته أم لا والحق قبول التوبة قال في المسوى: في باب حكم الخوارج والقدرية وأشباههم قال الشافعي: ولو أن قوما أظهروا رأي الخوارج وتجنبوا الجماعات وأكفروهم لم يحل بذلك قتالهم بلغنا أن عليا رضي الله تعالى عنه سمع رجلا يقول لا حكم إلا لله في ناحية المسجد فقال علي: كلمة حق أريد بها باطل لكم علينا ثلاث لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا ولا نبدؤكم بقتال وقال أهل الحديث من الحنابلة يجوز قتلهم أقول: الظاهر عندي دراية ورواية قول أهل الحديث أما رواية فلقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "فأين لقيتموهم فاقتلوهم" وأما قول علي فمعناه أن الإنكار على الإمام والطعن فيه لا يوجب قتلا حتى ينزع يده من الطاعة فيكون. باغيا أو قاطع طريق وإذا أنكر ضروريا من ضروريات الدين يقتل لذلك لا للإنكار على الإمام بيان ذلك أن المفتي إذا سئل عن بعض أفعال زيد حكم بالجواز وإذا سئل عن بعضها الآخر حكم بالفسق ثم إذا سئل عن بعضها الآخر حكم بالكفر فههنا لم يظهر هذا الرجل عنده إلا الإنكار في مسألة التحكيم فحكم حسبما أظهر ولو أنه أظهر إنكار الشفاعة يوم القيامة أو إنكار مسألة التحريم فحكم حسبما أظهر ولو أنه أظهر إنكار الشفاعة يوم القيامة أو إنكار الحوض الكوثر وما يجري مجرى ذلك من الثابت في الدين بالضرورة لحكم بالكفر وأما حديث "أولئك الذين نهاني الله عنهم" ففي المنافقين دون الزنادقة بيان ذلك أن المخالف للدين الحق إن لم يعترف به ولم يذعن له لا ظاهرا ولا باطنا فهو الكافر وإن اعترف بلسانه وقلبه على الكفر فهو المنافق وإن اعترف به ظاهرا وباطنا لكنه يفسر بعض ما ثبت من الدين ضرورة بخلاف ما فسره الصحابة والتابعون وأجمعت عليه الأمة فهو الزنديق كما إذا اعترف بأن القرآن حق وما فيه من ذكر الجنة والنار حق لكن المراد بالجنة الابتهاج الذي يحصل بسبب الملكات المحمودة والمراد بالنار هي الندامة التي تحصل بسبب الملكات المذمومة وليس في الخارج جنة ولا نار فهو الزنديق قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "أولئك الذين نهاني الله عنهم" في المنافقين دون الزنادقة وأما دراية فلأن الشرع كما نصب القتل جزاء للارتداد ليكون مزجرة(2/295)
للمرتدين وذبا عن الملة التي ارتضاها فكذلك نصب القتل في هذا الحديث وأمثاله جزاء للزندقة ليكون مزجرة للزنادقة وذبا عن تأويل فاسد في الدين لا يصح القول به ثم التأويل تأويلان: تأويل لا يخالف قاطعا من الكتاب والسنة واتفاق الأمة وتأويل يصادم ما يثبت بقاطع فذلك الزندقة فكل من أنكر الشفاعة أو أنكر رؤية الله يوم القيامة أو أنكر عذاب القبر وسؤال منكر ونكير أو أنكر الصراط والحساب سواء قال لا أثق بهؤلاء الرواة أو قال أثق بهم لكن الحديث مؤول ثم ذكر تأويلا فاسدا لم يسمع ممن قبله فهو الزنديق وكذلك من قال في الشيخين أبي بكر وعمر مثلا: ليسا من أهل الجنة مع تواتر الحديث في بشارتهما أو قال إن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبوة ولكن معنى هذا الكلام أنه لا يجوز أن يسمى بعده أحد بالنبي وأما معنى النبوة وهو كون الإنسان مبعوثا من الله تعالى إلى الخلق مفترض الطاعة معصوما من الذنوب ومن البقاء على الخطإ فيما يرى فهو موجود في الأئمة بعده فذلك هو الزنديق وقد اتفق جماهير المتأخرين من الحنفية والشافعية على قتل من يجري هذا المجرى والله تعالى أعلم اهـ. "بعد استتابتهم" لحديث جابر عند الدارقطني والبيهقي "أن امرأة يقال لها أم رومان ارتدت فأمر النبي صلى الله عليه تعالى عليه وآله وسلم أن يعرض عليها الإسلام فإن تابت وإلا قتلت"وله طريقان ضعفهما ابن حجر وأخرج البيهقي من وجه آخر ضعيف عن عائشة "أن امرأة ارتدت يوم أحد فأمر النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن تستتاب فإن تابت وإلا قتلت" وأخرج أبو الشيخ في كتاب الحدود عن جابر "أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم استتاب رجلا أربع مرات" وفي إسناده العلاء بن هلال وهو متروك وأخرجه البيهقي من وجه آخر وأخرج الدارقطني والبيهقي "أن أبا بكر استتاب امرأة يقال لها أم قرفة كفرت بعد إسلامها فلم تتب فقتلها"قال ابن حجر: وفي السير أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قتل أم قرفة1 يوم قريظة وهي غير تلك وأخرج مالك في الموطأ والشافعي "أن رجلا قدم على عمر بن الخطاب من قبل أبي موسى فسأله عن الناس فأخبره فقال: هل من
__________
1أم فرقة في الزورقائي على المواهب بكسر القاف وسكون الراء وتأتي تأنيث.(2/296)
مغربة خبر1 قال نعم: رجل كفر بعد إسلامه قال: فما فعلتم به قال: قربناه فضربنا عنقه فقال عمر: هلا حبستموه ثلاثا وأطعمتموه كل يوم رغيفا واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله إني لم أحضر ولم أرض إذا بلغني" وقد اختلف أهل العلم في وجوب الاستتابة ثم كيفيتها والظاهر أنه يجب تقديم الدعاء إلى الإسلام قبل السيف كما كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يدعو أهل الشرك ويأمر بدعائهم إلى إحدى ثلاث خصال ولا يقاتلهم حتى يدعوهم فهذا ثبت في كل كافر فيقال للمرتد إن رجعت إلى الإسلام وإلا قتلناك وللساحر والكاهن والساب لله أو لرسوله أو للإسلام أو للكتاب أو للسنة أو للطاعن في الدين أو الزنديق قد كفرت بعد إسلامك فإن رجعت إلى الإسلام وإلا قتلناك فهذه هي الاستتابة وهي واجبة كما وجب دعاء الحربي إلى الإسلام وأما كونه يقال للمرتد بأي نوع من تلك الأنواع مرتين أو ثلاثة أو في ثلاثة أيام أو أقل أو أكثر فلم يأت ما تقوم به الحجة في ذلك بل يقال لكل واحد من هؤلاء ارجع إلى الإسلام فإن أبى قتل مكانه قال في المسوى: اختلفت الروايات عن أبي حنيفة والشافعي في ذلك وفي المنهاج ويجب استتابة المرتد والمرتدة وفي قول يستحب وهي في الحال وفي قول ثلاثة أيام فإن أصرّا قتلا وفي الهداية إذا ارتد المسلم عن الإسلام عرض عليه الإسلام فإن كانت له شبهة كشفت عنه ويحبس ثلاثة أيام فإن أسلم وإلا قتل وفي الجامع الصغير يعرض عليه الإسلام فإن أبى قتل قيل تأويل الأول أنه إن استمهل يمهل ثلاثة أيام وعن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه يستحب أن يؤجله طلب ذلك أو لم يطلب اهـ. أقول: الأدلة الصحيحة المصرحة بقتل المرتد لم يثبت في شئ منها الاستتابة بل فيها الأمر القتل للفور وما ورد عن بعض الصحابة من إنكار قتل المرتدين قبل الاستتابة فليس بحجة ولا يصلح لتقييد ما ثبت عن الشارع ودعوى أن ذلك إجماع بواسطة عدم الإنكار دعوى باطلة فالحق أن المرتد يقال له ارجع إلى الإسلام فإن أجاب وجب حقن دمه وإن لم يجب تعين قتله
__________
1مغربة بضم الميم وفتح الغين وتشديد الراء المكسورة. أي من خبر جديد جاء من بلد بعيد قاله في اللسان.(2/297)
في ذلك الوقت وقد حصل الدعاء المشروع بمجرد قولنا له ارجع إلى الإسلام "والزاني المحصن واللوطي مطلقا والمحارب" وقد تقدم الكلام فيهم وأما الديوث فلم يصح في قتله شئ وأصل دم المسلم العصمة وليس كل معصية مبيحة للقتل بل معاصي مخصوصة ورد الشرع بها ولا سيما بعد ورود الحصر في حديث "لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث" وليس هذا منها. فالحاصل: أن الديوث من أعظم العصاة مع ما في ذلك من الهجنة المنافية للدين والمروءة وأما أنه يقتل فلا ولا كرامة وأما قتل الباطنية فالحق أنهم مع تسترهم بالكفر لا يحل قتل أحد منهم إلا بعد أن يفعل أو يقول ما هو كفر بدون تأويل ولا سيما والمشهور عنهم أنهم يظهرون لعوامهم الإسلام والصلاح ويوهمونهم أنهم على الحق فإن صح هذا فجميع عوامهم لا يعلمون أنهم على الكفر بل يعتقدون أنه على الحق فهم إلى تعريفهم بالحق أحوج منه إلى القتل فلا يجوز قتل أحد من الباطنية وهم البواهر في أرض الهند إلا بعد أن يظهر منه كفر بواح لأن كلمتهم إسلامية ودعوتهم نبوية وإن كانوا على شفا جرف هار من أمور الدين.(2/298)
كتاب القصاص
وجوب القصاص
...
كتاب القصاص
ووجوبه بنص الكتاب العزيز {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} وبمواتر السنة كحديث "لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث" منها {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود وفي مسلم وغيره من حديث عائشة وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يفتدي وإما أن يقتل" وأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث أبي شريح الخزاعي قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول: "من أصيب بدم أو خبل والخبل الجراح فهو بالخيار بين إحدى ثلاث: إما أن يقتص أو يأخذ العقل أو يعفو فإن أراد رابعة فخذوا على يده" وفي إسناده سفيان بن أبي العوجاء السلمي وفيه مقال وفيه أيضا محمد بن إسحق وقد عنعن وقد أخرج البخاري(2/298)
وغيره من حديث ابن عباس قال: "كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن فيهم الدية" فقال الله تعالى لهذه الأمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} الآية {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} قال: فالعفو أن يقبل في العمد الدية والاتباع بالمعروف أن يتبع الطالب بمعروف ويؤدي إليه المطلوب بإحسان {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} فيما كتب على من كان قبلكم "ولا خلاف بين أهل الإسلام في وجوب القصاص عند وجود المقتضي وانتفاء المانع "يجب على المكلف المختار" وقد تقدم وجهه العامد لما أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم وصححه من حديث عائشة بلفظ "لا يحل قتل مسلم إلا في إحدى ثلاث خصال: زان محصن فيرجم ورجل يقتل مسلما متعمدا ورجل يخرج من الإسلام فيحارب الله ورسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض" وأخرج الترمذي وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ "من قتل متعمدا أسلم إلى أولياء المقتول فإن أحبوا قتلوا" الحديث وهو معلوم بالأدلة والإجماع من أهل الإسلام أن القصاص لا يجب إلا مع العمد ولا بد أن يكون عدوانا لأن من قتل عمدا مقتولا يستحق القتل شرعا لم يجب القصاص عليه قلت: عند الشافعي القتل على ثلاثة أنواع: عمد محض وهو أن يقصد قتل إنسان بما يقصد به القتل غالبا سواء كان بمحدد أو مثقل فيجب فيه القصاص عند وجود المكافىء أو الدية مغلظة في مال الجاني حالة والثاني شبه العمد وهو أن يقصد ضربه بما لا يموت مثله من مثل ذلك الضرب غالبا بأن ضربه بعصا خفيفة أو حجر صغير ضربة أو ضربتين فمات فلا يجب فيه القصاص ويجب به الدية مغلظة على عاقلته مؤجلة إلى ثلاث سنين فإن كان المضروب صغيرا أو مريضا يموت منه غالبا أو كان قويا غير أن الضارب والى عليه بالضرب حتى مات يجب القود والثالث الخطأ المحض وهو أن لا يقصد ضربه وإنما قصد غيره فأصابه أو حفر بئرا فتردى فيه إنسان أو نصب شبكة حيث لا يجوز فتعلق بها رجل ومات فلا قود عليه وتجب الدية مخففة على العاقلة في ثلاث سنين ثم القتل ينقسم باعتبار المقتولين إلى أقسام ولكل قسم حكم يخصه إما في القود وإما في الدية وإما فيهما جميعا قتل الحر وقتل العبد وقتل الذكر وقتل الأنثى وقت المسلم وقتل الكفار وقتل الجنين ولا اعتبار لكون المقتول(2/299)
شريفا أو وضيعا جميلا أو دميما صغيرا أو كبيرا غنيا أو فقيرا وإذا وجب القود على إنسان فترك له شئ من الدم بأن عفا أحد الورثة صار موجبه الدية للآخرين وسيأتي تفصيلها وأما إنكار القصاص في دار الحرب مطلقا فلا وجه له من كتاب ولا سنة ولا قياس صحيح ولا إجماع فإن أحكام الشرع لازمة للمسلمين في أي مكان وجدوا ودار الحرب ليست بناسخة للأحكام الشرعية أو لبعضها فما أوجبه الله تعالى على المسلمين من القصاص ثبت في دار الحرب كما هو ثابت في غيرها مهما وجدنا إلى ذلك سبيلا ولا فرق بين القصاص وثبوت الأرش إلا مجرد الخيار المبني على الهباء فإن كل واحد منهما حق لآدمي محض يجب الحكم له به على خصمه وهو مفوض إلى اختياره وغاية ما ثبت في هذا ما وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم من وضع الدماء التي وقعت في أيام الجاهلية وليس في هذا تعرض لدماء المسلمين فهي على ما ورد فيها من أحكام الإسلام ولا يرفع شيئا من هذه الأحكام إلا دليل يصلح للنقل وإلا وجب البقاء على الثابت في الشرع من لزوم القصاص ولزوم الأرش "إن اختار ذلك الورثة وإلا فلهم طلب الدية" لما تقدم من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "من قتل له قتيل فهو بخير النظرين" "وتقتل المرأة بالرجل والعكس والعبد بالحر والكافر بالمسلم" لما أخرجه مالك والشافعي من حديث عمرو بن حزم "أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب في كتابه إلى أهل اليمن أن الذكر يقتل بالأنثى" ورواه أبو داود والنسائي من طريق ابن وهب عن يونس عن الزهري مرسلا ورواه النسائي وابن حبان والحاكم والبيهقي موصولا مطولا من حديث الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده وفي هذا الحديث كلام طويل وقد صححه ابن حبان والحاكم والبيهقي وقال ابن عبد البر: هذا كتاب مشهور عند أهل السير معروف ما فيه عند أهل العلم يستغنى بشهرته عن الإسناد لأنه أشبه التواتر في مجيئه لتلقي الناس له بالقبول وقال يعقوب بن سفيان: لا أعلم في جميع الكتب المنقولة كتابا أصح من كتاب عمر بن حزم هذا فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين يرجعون إليه ويدعون رأيهم وقال الحاكم: قد شهد عمر بن عبد العزيز وأما عصره الزهري بالصحة لهذا(2/300)
الكتاب1 ومما استدل به على ذلك ما في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس "أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين فقيل لها من فعل بك هذا فلان أو فلان حتى سمي اليهودي فأومأت برأسها فجيء به فاعترف فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فرضّ رأسه بين حجرين"وقد استوفى الماتن ذلك البحث في شرح المنتقى وإلى ذلك ذهب الجمهور واختلفوا هل تستوفي ورثة الرجل من ورثة المرأة نصف الدية أم لا وقد حكى ابن المنذر الإجماع على قتل الرجل بالمرأة إلا رواية عن علي وعن الحسن وعطاء ورواه البخاري عن أهل العلم هذا في قتل الرجل بالمرأة وأما قتل المرأة بالرجل فالأمر واضح وهكذا قتل العبد بالحر والكافر بالمسلم والفرع بالأصل وليس في ذلك خلاف وأما العكس من هذه الصور الثلاث فقد قيل: إنه يقتل الحر بالعبد وهو محكي عن الحنفية وسعيد بن المسيب والشعبي والنخعي وقتادة والثوري هذا إذا كان العبد مملوكا لغير القاتل وأما إذا كان مملوكا له فقد حكى في البحر الإجماع على أنه يقتل السيد بعبده إلا عن النخعي وهكذا حكى الخلاف عن النخعي وبعض التابعين الترمذي واستدل المثبتون بما أخرجه أحمد وأهل السنن وحسنه الترمذي من حديث الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل عبده قتلناه ومن جدع2 عبده جدعناه"وفي إسناده ضعف لأنه من رواية الحسن عن سمرة وفي سماعه منه خلاف مشهور واستدل المانعون بقوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} وفي الاستدلال بالآية إشكال كالإشكال في استدلال من استدل بقوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} واستدلوا أيضا بما أخرجه الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن رجلا قتل عبده متعمدا فجلده النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ونفاه سنة ومحا سهمه من المسلمين ولم يقد به وأمره أن يعتق رقبة"وفي إسناده إسمعيل بن عياش ولكنه رواه عن الأوزاعي وهو شامي وإسمعيل قوي في الشاميين وفي إسناده أيضا محمد بن عبد العزيز الشامي وهو ضعيف وأخرج البيهقي وابن عدي من حديث عمر
__________
1 لم أجده مطولا في النسائي كما قال الشارح إلا أن يكون في السنن الكبرى اانسائي ولم نرها وهو في مستدرك الحاكم مطولا "ج 1 ص 395"
2 الجدع قطع الأنف والأذن والشفة وهو بالأنف أخص فإذا أطلق غلب عليه. قاله ابن الأثير.(2/301)
قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "لا يقاد مملوك من مالكه ولا ولد من والده" وفي إسناده عمر بن عيسى الأسلمي وهو منكر الحديث كما قال البخاري وأخرج الدارقطني والبيهقي من حديث ابن عباس مرفوعا "لا يقتل حر بعبد" وفي إسناده جويبر وغيره من المتروكين وأخرج البيهقي عن علي قال: "من السنة لا يقتل حر بعبد" وفي إسناده جابر الجعفي وهو متروك وأخرج البيهقي من حديث علي نحو حديث عمرو بن شعيب وفي الباب أحاديث تشهد لهذه وتقويها "لا العكس" أي لا يقتل مؤمن بكافر لحديث علي أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "ألا لا يقتل مؤمن بكافر" وأخرجه أحمد والنسائي وأبو داود والحاكم وصححه وأخرج أحمد وابن ماجه والترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نحوه وأخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر وأخرج البخاري وغيره عن علي "أنه قال له أبو جحيفة1: هل عندكم شئ من الوحي ما ليس في القرآن فقال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهماً يعطيه الله رجلا في القرآن وما في هذه الصحيفة قلت: وما في هذه الصحيفة قال: المؤمنون تتكافأ دماؤهم وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر "وقد أجمع أهل العلم على أنه لا يقتل المسلم بالكافر الحربي وأما بالذمي فذهب إلى ذلك الجمهور وبه قال أبو حنيفة ولم يأت من ذهب إلى قتل المسلم بالذمي بما يصلح للاستدلال به قال مالك: الأمر عندنا أن لا يقتل مسلم بكافر إلا أن يقتله قتل غيلة فيقتل به قلت: وعليه الشافعي إلا أنه أسقط هذا الاستثناء لأن الأحاديث الصحيحة في هذا الباب مثل حديث علي وعبد الله بن عمر ساكتة عنه "والفرع بالأصل لا العكس" أي لا يقتل الأصل بالفرع لحديث "لا يقتل الوالد بالولد" أخرجه الترمذي من حديث عمر وفي إسناده الحجاج بن أرطاة ولكن له طريق أخرى عند أحمد والبيهقي والدارقطني ورجال إسناده ثقات وأخرج نحوه الترمذي أيضا من حديث سراقة وفي إسنادها ضعف وأخرج أيضا من حديث ابن عباس وقد أجمع أهل العلم على ذلك لم يخالف فيه إلا البتي ورواية عن مالك "ويثبت القصاص في الأعضاء ونحوها والجروح مع الإمكان"
__________
1 قوله أبو جحيفة بتقديم الجيم على الحاء اهـ. من هامش الصل.(2/302)
لقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} وهي وإن كانت حكاية عن بني إسرائيل فقد قرر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس في الصحيحين وغيرهما "أن الربيع كسرت ثنية جارية فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص" وأما تقييد ذلك بالإمكان فلكون بعض الجروح قد يتعذر الاقتصاص فيها كعدم إمكان الاقتصار على مثل ما في المجني عليه وخطاب الشرع محمول على الإمكان من دون مجاوزة للمقدار الكائن في الجني عليه فإذا كان لا يمكن بمجاوزة للمقدار أو بمخاطرة وإضرار فالأدلة الدالة عليى تحريم دم المسلم وتحرم الإضرار به بما هو خارج عن القصاص مخصصة لدليل الاقتصاص قلت: إن كل طرف له مفصل معلوم فقطعه ظالم من مفصله من إنسان اقتص منه كالإصبع يقطعها من أصلها أو اليد يقطعها من الكوع أو من المرفق أو الرجل يقطعها من المفصل يقتص منه وكذلك لو قلع سنه أو قطع أنفه أو أذنه أو فقأ عينه أو جب ذكره أو قطع أنثييه يقتص منه وكذلك لو شجه موضحة1 في رأسه أو وجهه يقتص منه ولو جرح رأسه دون الموضحة أو جرح موضعا آخر من بدنه أو هشم العظم فلا قود فيه لأنه لا يمكن مراعاة المماثلة فيه وكذلك لو قطع يده من نصف الساعد فليس له أن يقطع يده من ذلك الموضع وله أن يقتص من الكوع ويأخذ حكومة لنصف الساعد وعلى هذا أكثر أهل العلم في الجملة وفي التفاصيل لهم اختلاف "ويسقط بإبراء أحد الورثة ويلزن نصيب الآخرين من الدية" لما تقدم من كونه أمر القصاص والدية إلى الورثة وأنهم بخير النظرين فإذا أبرؤا من القصاص سقط وإن أبرأ أحدهم سقط لأنه لا تبعض ويستوفي الورثة نصيبهم من الدية وأخرج أبو داود والنسائي من حديث عائشة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "وعلى المقتتلين أن ينحجزوا الأول فالأول وإن كانت امرأة" وأراد بالمقتتلين أولياء المقتول وينحجزوا أي ينكفوا عن القود بعفو أحدهم ولو كانت امرأة وقوله: "الأول فالأول" أي الأقرب فالأقرب هكذا فسر الحديث أبو داود وفي إسناده حصن بن عبد الرحمن ويقال ابن محصن أبو حذيفة
__________
1 من أوضحت الشجة بالرأس فهمي موضحه يعني كشف العظم.(2/303)
الدمشقي قال أبو حاتم الرازي: لا أعلم من روى عنه غير الأوزاعي ولا أعلم أحد نسبه1 وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن يعقل2 عن المرأة عصبتها من كانوا ولا يرثون منها إلا ما فضل عن ورثتها وإن قتلت فعقلها بين ورثتها وهو يقتلون قاتلها" وفي إسناده محمد بن راشد الدمشقي المكحولي وقد وثقه غير واحد وتكلم فيه غير واحد فقوله: "وهم يقتلون قاتلها" يفيد أن ذلك حق لهم يسقط بإسقاطهم أو إسقاط بعضهم وقد ذهب إلى ذلك الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه "فإذا كان فيهم صغير ينتظر في القصاص بلوغه" دليله ما قدمنا من أن ذلك حق لجميع الورثة ولا اختيار للصبي قبل بلوغه3" ويهدر ما سببه من المجني عليه" لحديث عمران بن حصين في الصحيحين وغيرهما "أن رجلا عض يد رجل فنزع يده من فيه فوقعت ثنيتاه فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال "يعض أحدكم يد أخيه كما يعض الفحل لا دية لك" وفيهما أيضا من حديث يعلى بن أمية4 وإلى ذلك ذهب الجمهور" وإذا أمسك رجل وقتل آخر قتل القاتل وحبس الممسك" لحديث ابن عمر عند الدارقطني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر يقتل الذي قتل ويحبس الذي أمسك" وهو من طريق الثوري عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر ورواه معمر وغيره عن اسمعيل قال الدارقطني والإرسال أكثر وأخرجه أيضا البيهقي ورجح المرسل وقال أنه موصول غير محفوظ قال ابن حجر ورجاله ثقات وصححه ابن القطان وأخرج الشافعي عن علي "أنه قضى في رجل قتل رجلا متعمدا وأمسكه آخر قال: يقتل القاتل ويحبس الآخر في السجن حتى يموت "وقد ذهب إلى ذلك الحنفية والشافعية ويؤيده قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وبالجملة: فقتل القاتل مندرج تحت الأدلة المثبتة للقصاص وأما حبس الممسك فذلك نوع من التعزير استحقه بسبب إمساكه للمقتول وقد روي
__________
1 وذكره ابن حبان في الثقات.
2 العقل هو الدية وأصله أن القاتل كان إذا قتل قتيلا جمع الدية من الإبل فعقلها بفناء ألياء المقتول أي شدها في عقلها ليسلمها إليهم. قاله ابن الأثير.
3 هي خلافية ةةوالخلاف مفصل في بداية المجتهد لابن رشد "ج 2 ص 336 – 337"
4 يعني نحوه.(2/304)
عن النخعي ومالك والليث أنه يقتل الممسك كالمباشر للقتل لأنهما شريكان وفي الموطإ "أن عمر بن الخطاب قتل نفرا خمسة أو سبعة برجل واحد قتلوه قتل غيلة وقال عمر: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا "قال مالك: الأمر عندنا أنه يقتل في العمد الرجال الأحرار بالرجل الحر الواحد والنساء بالمرأة كذلك والعبيد1 بالعبد كذلك أيضا في المسوى: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم قالوا: إذا اجتمع جماعة على قتل واحد يقتلون به قصاصا اهـ. أقول: إذا اشترك جماعة من الرجال أو الرجال والنساء في قتل رجل عمدا بغير حق قتلوا به كلهم وهذا هو الحق لأن الأدلة القرآنية والحديثية لم تفرق بين كون القاتل واحد اأو جماعة والحكمة التي تشرع القصاص لأجلها وهي حقن الدماء وحفظ النفوس مقتضية لذلك ولم يأت من قال بعدم جواز قتل الجماعة بالواحد بحجة شرعية بل غاية ما استدلوا به على المنع تدقيقات ساقطة ليست من الشرع في قبيل ولا دبير2 كما فعله الجلال في ضوء النهار والمقبلى وقد نقض الماتن ذلك في أبحاث أجاب بها على بعض علماء العصر واستوفى جميع الحجج وقوله: "قتلوه غيلة "أي حيلة يقال: اغتالني فلان إذا احتال حيلة يتلف بها ماله ويقال الغيلة هي أن يخدعه حتى يخرجه إلى موضع يخفى فيه ثم يقتله "تمالأ عليه أهل صنعاء "أي تعاونوا عليه واجتمعوا إليه قال في الهدي: وعلى أن قتل الغيلة يوجب قتل القاتل حدا فلا يسقط العفو ولا نعتبر فيه المكافأة وهذا مذهب أهل المدينة وأحد الوجهين في مذهب أحمد اختاره شيخنا وأفتى به اهـ وقال قبل هذا ما لفظه وعلى أن حكم ردء المحاربين حكم مباشرتهم فإنه من المعلوم أن كل واحد منهم يعني العرنيين لم يباشر القتل بنفسه ولا سأل النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن ذلك اهـ. وفي قتل الخطإ الدية والكفارة لنص الكتاب العزيز على ما في النظم القرآني من القيود والتفاصيل وقد وقع الإجماع على وجوب الدية والكفارة في الجملة وإن وقع
__________
1 في الأصل "بالعبيد" وهو خطأ صححناه من الموطأ "ص 342" طيع الهند.
2 القبيل ما وليك والدبير ما خالفك. ويقال القبيل فتل القطن والدبير فتل الكتان والصوف ومعنى قولهم " ما يعرف قبيله من دبيره" ما يدري شيئا. ملخص من اللسان
وجعله الزمخشري من المجاز وهو ظاهر.(2/305)
الخلاف في بعض الصور كوجوب الكفارة من مال الصغير إذا قتل لأن عمده خطأ والخلاف في وجوب الكفارة من ماله معروف فمن لم يوجبها جعل إيجابها من باب التكليف فقال: لا تجب إلا على مكلف ومن أوجبها جعله من خطاب الوضع وهكذا المجنون والكفارة هي ما ذكر الله سبحانه من تحرير الرقبة وما بعده من الإطعام والصوم وأما الدية فسيأتي بيانها وبيان الخطإ المحض والخطإ الذي هو شبه العمد "وهو ما ليس بعمد أو من صبي أو مجنون" قال مالك في الموطإ: الأمر المجتمع عليه عندنا أنه لا قود بين الصبيان وأن عمدهم خطأ ما لم تجب عليهم الحدود ويبلغوا الحلم وأن قتل الصبي لا يكون إلا خطأ قلت: وعلى هذا أكثر أهل العلم "وهي على العاقلة وهم العصبة" لحديث أبي هريرة في الصحيحين قال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة عبد أو أمة ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها وأن العقل على عصبتها" وفي لفظ لهما "وقضى بدية المرأة على عاقلتها" وفي مسلم وغيره من حديث جابر قال: "كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل بطن عقولة1" وأخرج أبو داود وابن ماجه2 "أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الآخرى ولك واحدة منها زوج وولد فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عاقلة القاتلة وبرأ زوجها وولدها قال: فقال عاقلة المقتولة ميراثها لنا فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ميراثها لزوجها وولدها" وصححه النووي وفي إسناده مجالد وهو ضعيف وقد تقدم حديث عمرو بن شعيب قريبا وفيه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن تعقل عن المرأة عصبتها" الحديث وقد أجمع العلماء على ثبوت العقل وإنما اختلفوا في التفاصيل وفي مقدار ما يلزم كل واحد من العاقلة أقول: الأدلة قد وردت بما يستفاد منه أن القبيلة تعقل عن الجاني منها وأن البطن يعقل عن الجاني منه والقرابة يعقلون عن القريب الجاني ولا منافاة بين هذه الأحاديث بل يجمع بينها بأن القرابة إذا قدروا على تسليم ما لزم فهم أخص من غيرهم وإن احتاج اللازم إلى زيادة عليهم ولم يقدروا على الوفاء لزم البطن ثم القبيلة وبمجموع ما ورد في العقل يرد على من قال إنه غير ثابت في الشريعة مستدلا بمثل
__________
1 بضم العين وإنما دخلت الهاء لإفادة المرة الواحدة. قله الشوكاني.
2 يعني من حديث جابر ...(2/306)
قوله تعالي: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وبمثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يجني جان إلا على نفسه" لأن أدلة العقل أخص مطلقا فالعمل بها واجب والظاهر أن العقل لازم في كل جنايات الخطإ من غير فرق بين الموضحة وما دونها وما فوقها.(2/307)
كتاب الديات
الأصل في الدية أنها تجب أن تكون مالا عظيما يغلبهم وينقص من مالهم ويجدون له ألما عندهم ويكون بحيث يؤدونه بعد مقاساة الضيق ليحصل الزجر وهذا القدر يختلف باختلاف الأشخاص "ودية الرجل المسلم مائة من الإبل أو مائتا بقرة أو ألف شاة أو ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم أو مائتا حلة" تقدير الدية بذلك لحديث عطاء بن أبي رباح عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية عطاء عن جابر عن النبي صلى عليه وسلم قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة" رواه أبو داود مسندا ومرسلا وفيه عنعنة محمد بن إسحق وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من كان عقله في البقر على أهل البقر مائتي بقرة ومن كان عقله في الشاء ألفي شاة" وفي إسناده محمد بن راشد الدمشقي المحكولي وقد تكلم فيه غير واحد ووثقه جماعة وفي حديث عمرو بن حزم "أن في النفس الدية مائة من الإبل" وهو حديث صحيح قد تقدم تخريجه في قتل الرجل بالمرأة وفيه أيضا "وعلى أهل الذهب ألف دينار" وأخرج أبو داود من حديث ابن عباس "أن رجلا من بني عدي قتل فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفا" وأخرجه الترمذي مرفوعا ومرسلا وأخرج أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانمائة دينار أو ثمانية آلالف درهم ودية أهل الكتاب على النصف من دية المسلمين قال: فكان كذلك حتى استخلف عمر فقام خطيبا فقال: ألا إن الإبل قد غلت قال ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل(2/307)
الورق اثني عشر ألف درهم وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة" ولا يخفى أن هذا لا يعارض ما تقدم فقد وقع التصريح فيه برفع ذلك إلى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وقد اختلف أهل العلم في مقادير الدية والحق ما ثبت من تقدير الشارع كما ذكرناه وفي الموطأ أن عمر بن الخطاب قوم الدية على أهل القرى فجعلها على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم "قال مالك: فأهل الذهب أهل الشام وأهل مصر وأهل الورق أهل العراق قلت: عليه مالك وهو القول القديم للشافعي إلا أنه قال يقدر بتقدير عمر بن الخطاب عند إعواز الإبل والإبل هي الأصل في باب الديات ثم رجع وقال: الأصل فيها الإبل فإذا أعوزت تجب قيمتها بالغة ما بلغت وتأول حديث عمر على أن قيمة الإبل كانت قد بلغت في زمانه اثني عشر ألف درهم أو ألف دينار لحديث عمرو بن شعيب المتقدم وقال أبو حنيفة: الدية مائة من الإبل أو ألف دينار أوعشرة آلاف درهم وقال صاحباه: على أهل الإبل مائة من الإبل وعلى أهل الذهب والورق ألف دينار أوعشرة آلاف درهم وعلى أهل البقر مائتا بقرة وعلى أهل الشاء ألفا شاة وعلى أهل الحلل ألف حلة "وتغلظ دية العمد وشبهه" واتفقوا على أن التغليظ لا يعتبر إلا في الإبل دون الذهب والورق أقول: قد اختلفت الأحاديث في الديات تغليظا وتخفيفا ولكل قسم فالدية المغلظة في الخطأ الذي هو شبه العمد والدية المخففة في الخطأ المحض والأحاديث مصرحة بذلك فليرجع إليها والمذاهب مختلفة وليس الحجة إلا في الدليل لا في القال والقليل "بأن يكون المائة من الإبل في بطون أربعين منها أولادها" لحديث عقبة بن أوس عن رجل من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم فتح مكة فقال: "ألا وإن قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر فيه دية مغلظة مائة من الإبل منها أربعون ثنية إلى بازل عامها كلهن خلفة1"أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والبخاري في تاريخه وساق اختلاف الرواة فيه وأخرجه أيضا
__________
1الثنية من الإبل ما دخل في السادسة والبازل الذي أتم ثماني سنين ودخل في التاسعة وحينئذ يطلع نابه وتكمل قوته ثم يقال له بعد ذلك بازل عام وبازل عامين والخلفة بفتح الخاء المعجمة وكسر اللام الحامل من النوق.(2/308)
الدارقطني وأخرج أحمد وأبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عقل شبه العمد مغلظ كعقل العمد ولا يقتل صاحبه وذلك أن ينزو الشيطان بين الناس فتكون دماء في غير ضغينة ولا حمل سلاح" وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والبخاري في التاريخ والدارقطني من حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إن قتيل الخطأ شبه العمد قتيل السوط أو العصا فيه مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها" وصححه ابن حبان وابن القطان وأخرج هذا الحديث من تقدم ذكره من حديث ابن عمر وفي الباب أحاديث وقد ذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أن القتل على ثلاثة أضرب: عمد خطأ وشبه عمد ففي العمد القصاص وفي الخطأ الدية وفي شبه العمد وهو ما كان بما مثله لا يقتل في العادة كالعصا والسوط والإبرة مع كونه قاصدا للقتل دية مغلظة وهي مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها وممن ذهب إلى هذا زيد بن علي والشافعية والحنفية وأحمد وإسحق وقال مالك والليث: إن القتل ضربان: عمد وخطأ فالخطأ ما وقع بسبب من الأسباب أو غير مكلف أو غير قاصد للمقتول ونحوه أو للقتل بما مثله لا يقتل في العادة والعمد ما عداه والأول لا قود فيه وقد حكى صاحب البحر الإجماع على هذا مع كون مذهب الجمهور على خلافه "ودية الذمي نصف دية المسلم" لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عقل الكافر نصف دية المسلم" أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وحسنه وابن الجارود وصححه وأخرجه أيضا ابن ماجه بنحوه وأخرج ابن حزم من حديث عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دية المجوسي ثمانمائة درهم" وأخرجه أيضا الطحاوي والبيهقي وابن عدي وفي إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف وأخرج الشافعي والدارقطني والبيهقي عن سعيد بن المسبب قال: كان عمر يجعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف ودية المجوسي ثمانمائة "وقد ذهب إلى كون دية الذمي نصف دية المسلم مالك وقال الشافعي: إن دية الكافر أربعة آلاف درهم كذا روي عنه والذي في منهاج النووي أن دية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم ودية المجوسي ثلثا عشر دية المسلم" قال شارحه المحلي: إنه قال بذلك عمر وعثمان(2/309)
وابن مسعود وحكى في البحر عن زيد بن علي وأبي حنيفة أن دية المجوسي كالذمي وذهب الثوري والزهري وزيد بن علي وأبو حنيفة إلى أن دية الذمي كذية المسلم وروي عن أحمد أن ديته مثل دية المسلم إن قتل عمدا وإلا فنصف الدية احتج القائلون بتنصيف دية الذمي بالنسبة إلى دية المسلم بما تقدم واحتج القائلون بأنها كدية المسلم بقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} ويجاب بأن هذا الإطلاق مقيد بما ثبت عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من كونها على النصف من دية المسلم وعند الترمذي "عقل الكافر نصف عقل المؤمن" "قال ابن القيم: هذا حديث حسن يصحح مثله أكثر أهل الحديث وعند أبي داود "كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمانمائة دينار وثمانية آلاف درهم ودية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلم فلما كان عمر رفع دية المسلمين وترك دية أهل الذمة لم يرفعها فيما من الدية" انتهى "ودية المرأة نصف دية الرجل والأطراف وغيرها كذلك في الزائد على الثلث" لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديته" أخرجه النسائي والدارقطني وصححه ابن خزيمة وأخرج البيهقي من حديث معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دية المرأة نصف دية الرجل" قال البيهقي: إسناده لا يثبت مثله وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن علي أنه قال: "دية المرأة على النصف من دية الرجل في الكل" وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة عن عمر وقد أفاد الحديث المذكور أن دية المرأة على النصف من دية الرجل وأن أرشها1 إلى الثلث من الدية مثل أرش الرجل وقد وقع الخلاف في ذلك بين السلف والخلف وأخرج مالك في الموطأ والبيهقي عن ربيعة بن عبد الرحمن أنه قال: سألت سعيد بن المسيب كم في أصبع المرأة قال: عشر من الإبل قلت: فكم في إصبعين قال: عشرون من الإبل قلت: فكم في ثلاث أصابع قال: ثلاثون من الإبل قلت: فكم في أربع قال: عشرون من الإبل قلت: حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها قال سعيد: أعراقي أنت؟ قلت: بل عالم متثبت أو جاهل متعلم قال:
__________
1قال أبو منصور: أصل الأرش الخدش ثم قيل لما يؤخذ دية لها أرش. نقله في اللسان.(2/310)
هي السنة يا ابن أخي. "وتجب الدية كاملة في العينين والشفتين واليدين والرجلين والبيضتين وفي الواحدة منها نصفها وكذلك تجب كاملة في الأنف واللسان والذكر والصلب وأرش المأمومة والجائفة ثلث دية المجني عليه وفي المنقلة عشر الدية ونصف الدية ونصف عشرها وفي الهاشمة1 عشرها وفي كل سن نصف عشرها وكذا في الموضحة" لحديث عمرو بن حزم الذي تقدم تخريجه وتصحيحه وفيه "أن في الأنف إذا أوعب جدعة الدية وفي اللسان الدية وفي الشفتين الدية وفي البيضتين الدية وفي الذكر الدية وفي الصلب الدية وفي العينين الدية وفي الرِّجل الواحدة نصف الدية وفي المأمومة ثلث الدية وفي الجائفة ثلث الدية وفي المنقلة خمسة عشر من الإبل وفي كل إصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل وفي السن خمس من الإبل وفي الموضحة خمس من الإبل "وأخرج أحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في الأنف إذا جدع كله بالعقل كاملا وإذا جدعت أرنبته فنصف العقل وقضى في العين نصف العقل والرّجل نصف العقل واليد نصف العقل والمأمومة ثلث العقل والمنقلة خمسة عشر من الإبل" وقد أخرجه أبو داود وابن ماجه بدون ذكر العين والمنقلة وفي إسناده محمد بن راشد الدمشقي المكحولي وقد تكلم فيه جماعة ووثقه جماعة2 وأخرج الترمذي وصححه من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دية أصابع اليدين والرجلين سواء عشر من الإبل لكل أصبع" وأخرج نحوه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان من حديث أبي موسى وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في كل أصبع عشر من الإبل وفي كل سن خمس من الإبل والأصابع سواء والأسنان سواء" وأخرج أحمد وأهل السنن وابن خزيمة وابن الجارود وصححاه من حديث عمرو بن شعيب أيضا عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "في المواضح خمس من الإبل" وفي البخاري وغيره من حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله تعالى عليه
__________
1 المأمومة هي الجناية البالغة الدماغ. والجائفة هي الطعنة التي تبلغ الجوف التي تنقل العظم أو تكسره. والهاشمة هي الشجة التي تهشم العظم.
2 والحق أنه ثقة.(2/311)
وآله وسلم قال: "هذه وهذه يعني الخنصر والإبهام سواء" وأخرج أبو داود وابن ماجه من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأسنان سواء الثنية والضرس سواء" والمراد بالمأمومة الجناية التي بلغت أم الدماغ أو الجلدة الرقيقة التي عليه وإلى إيجاب ثلث الدية فيها ذهب علي وعمر والحنفية والشافعية والمراد بالجائفة الجناية التي تبلغ الجوف وإلى إيجاب ثلث الدية فيها ذهب الجمهور والمراد بالمنقلة الجناية التي تنقل العظام عن أماكنها وقد ذهب إلى إيجاب خمسة عشر ناقة فيها علي وزيد بن ثابت والشافعية والحنفية والمراد بالهاشمة التي تهشم العظم وقد أخرج الدارقطني والبيهقي وعبد الرزاق من حديث زيد بن ثابت "أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب في الهاشمة عشرا من الإبل" وقد قيل: إنه موقوف لكن لذلك حكم الرفع في المقادير والمراد بالموضحة التي تبلغ العظم ولا تهشم وقد اختلف في المنقلة والهاشمة والموضحة هل هذا الأرش هو بالنسبة إلى الرأس فقط أم الرأس وغيره والظاهر أن عدم الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقام كما تقرر في الأصول" وما عدا هذه المسماة فيكون أرشه بمقدار نسبته إلى أحدها تقريبا لأن الجناية قد لزم أرشها بلا شك إذ لا يهدر دم المجني عليه بدون سبب ومع عدم ورود الشرع بتقدير الأرش لم يبق إلا التقدير بالقياس على تقدير الشارع وبيان ذلك أن الموضحة إذا كان أرشها نصف عشر الدية كما ثبت عن الشارع نظرنا إلى ما هو دون الموضحة من الجنايات فإن أخذت الجناية نصف اللحم وبقي نصفه إلى العظم كان أرش هذه الجناية نصف أرش الموضحة وإن أخذت ثلثه كان الأرش ثلث أرش الموضحة ثم هكذا وكذلك إذا كان المأخوذ بعض الأصبع كان أرشه بنسبة ما أخذ من الأصبع إلى جميعها فأرش نصف الأصبع نصف عشر الدية ثم كذلك وهكذا الأسنان إذا ذهب نصف السن كان أرشه نصف أرش السن ويسلك هذا في الأمور التي تلزم فيها الدية كاملة كالأنف فإذا كان الذاهب نصفه ففيه نصف الدية والذكر ونحو ذلك فهذا أقرب المسالك إلى الحق ومطابقة العدل وموافقة الشرع.
أقول: اعلم أن كل جناية فيها أرش مقدر من الشارع كالجنايات التي في حديث عمرو بن حزم الطويل وفي غيره مما ورد في معناه فالواجب الاقتصار في المقدار على الوارد في النص وكل جناية ليس فيها أرش(2/312)
من الشارع بل ورد تقدير أرشها عن صحابي أو تابعي أو من بعدهما فليس في ذلك حجة على أحد بل المرجع في ذلك نظر المجتهد وعليه أن ينظر في مقدار نسبتها من نسبة الجناية التي ورد فيها أرش مقدر من الشارع فإذا غلب في طنه مقدار النسبة جعل لها من الأرش مقدار نسبتها مثلا الموضحة ورد في الشرع تقدير أرشها فإذا كانت الجناية دون الموضحة كالسِّمحاق والمتلاحمة والباضعة والدامية1 فعليه أن ينظر مثلا مقدار ما بقي من اللحم إلى العظم فإن وجده مقدار الخمس والجناية قد قطعت من اللحم أربعة أخماس جعل في الجناية أربعا من الإبل أو أربعين مثقالا لأن مجموع أرش الموضحة خمس من الإبل أو خمسون مثقالا وإن وجد الباقي من اللحم ثلثا جعل أرش الجناية بمقدار الثلثين من أرش الموضحة ثم كذلك إذا بقي النصف أو الربع أو الخمس أو العشر وهكذا في سائر الجنايات التي لم يرد تقدير أرشها فإنه ينبغي النسبة بينها وبين ما ورد تقدير أرشه من جنسها وحينئذ لا يحتاج الحاكم العالم إلى تقليد غيره من المجتهد كائنا من كان ولا يبقى تقسيم للجناية إلى ما يجب فيه أرش مقدر وما تجب فيه حكومة "وفي الجنين إذا خرج ميتا الغرة" لحديث أبي هريرة في الصحيحين "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة عبد أو أمة" وهو ثابت في الصحيحين بنحو هذا من حديث المغيرة ومحمد بن مسلمة والغرة بضم المعجمة وتشديد الراء أصلها البياض في وجه الفرس وهنا هي2 العبد أو الأمة كأنه عبر بالغرة عن الجسم كله وأما إذا خرج الجنين حيا ثم مات من الجناية ففيه الدية أو القود وهذا إنما هو في الجنين الحر والخلاف في الغرة طويل قد استوفاه الماتن في شرح المنتقى "وفي العبد قميته وأرشه بحسبها" لاخلاف في ذلك وإنما اختلفوا إذا جاوزت قيمته دية الحر هل تلزم الزيادة أم لا؟ والأولى اللزوم وأرش الجناية عليه منسوب من قيمته فما كان فيه في الحر نصف الدية أو ثلثها أو عشرها أو نحو ذلك ففيه في العبد نصف القيمة أو ثلثها أو عشرها أو نحو ذلك أقول: وجه
__________
1السمحاق جلده ورقيقه فوق قحف الرأس إذا انتهت إليها الشجة سميت سمحاقا. والمتلاحمة هي التي أخذت في اللحم ولم تبلغ السمحاق. والباضعة هي التي تقطع الجلد وتشق اللحم وتدمي إلا أنه لا يسيل الدم. فإن سال فهي الدامية.
2 في الأصل "في" وهو خطأ.(2/313)
قول من قال إنها تجب قيمة العبد وإن جاوزت دية الحر أن العبد عين من الأعيان التي يصح تملكها فكما يجب على متلف العين قيمتها وإن جاوزت دية الحر كذلك يجب على متلف العبد ووجه قول من قال إنه لا يلزم ما زاد على دية الحر أن العبد من نوع الإنسان وهو دون الحر في جميع الصفات المعتبرة فغاية ما ينتهي إليه أن يكون إنسانا حرا في الكمال فتجب فيه الدية وأما الزيادة على ذلك فلا لأن دية الحر هي نهاية ما يجب في الفرد من هذا النوع الإنساني والأول أرجح من حيث الرأي وأما من طريق الرواية فلم يصح عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في ذلك شئ وقد روي عن علي مثل القول الأول وروي عنه مثل القول الثاني وأما الدابة إذا قتلها قاتل ففيها قيمتها وإذا جنى عليها كان الأرش مقدار نقص قيمتها بالجناية وهذا وإن لم يقم عليه دليل بخصوصه فهو معلوم من الأدلة الكلية لأن العبد وسائر الدواب من جملة ما يملكه الناس فمن أتلفه كان الواجب عليه قيمته ومن جنى عليه جناية تنقصه كان الواجب عليه أرش النقص كما لو جنى على عين مملوكة من غير الحيوانات وكان الأولى أن يكون المملوك كسائر الدواب يجب في الجناية عليه نقص القيمة *(2/314)
"باب القسامة"
صورة القسامة أن يوجد قتيل وادعى وليه على رجل أو على جماعة وعليهم لوث ظاهر واللوث ما يغلب على القلب صدق المدعي بأن وجد فيما بين قوم أعداء لا يخالطهم غيرهم كقتيل خيبر وجد بينهم والعداوة بين الأنصار وبين أهل خيبر ظاهرة أو اجتمع جماعة في بيت أو صحراء وتفرقوا عن قتيل أو وجد في ناحية قتيل وثم رجل مختضب بدمه أو يشهد عدل واحد على أن فلانا قتله أو قاله جماعة من العبيد والنسوان جاؤا متفرقين بحيث يؤمن تواطؤهم1 ونحو ذلك من أنواع الموت فيبدأ بيمين المدعي فيحلف خمسين يمينا ويستحق دعواه فإن نكل المدعي عن
__________
1هذا بناء على ما شاع وفهمه الفقهاء قديما وحديثا من أن اليبنة هي شهادة شاهدين حرين ذكرين عدلين. ولسنا نرى هذا رأيا صحيحا ولا دليل عليه لديهم بل البينة كل ما بين الحق وأظهره فإذا شهد جماعة من العبيد أو النساء متفرقين وأمن تواطؤهم وتبين صدقهم فشهادتهم بينة صحيحه يجب الحكم بالقصاص عندها وهذا هو الحق الواضح.(2/314)
اليمين ردت إلى المدعى عليه فيحلف خمسين يمينا على نفي القتل ويجب بها الدية المغلظة فإن لم يكن لوث فالقول قول المدعى عليه مع يمينه كما في سائر الدعاوى ثم يحلف يمينا واحدا أو خمسين يمينا قولان: أصحهما الأول فإن كان المدعون جماعة توزع الأيمان عليهم على قدر مواريثهم على أصح القولين ويجبر الكسر والقول الثاني كل واحد منهم خمسين يمينا وإن كان المدعى عليهم جماعة ووزع على عدد رؤسهم على أصح القولين إن كان الدعوى في الأطراف سواء كان اللوث أو لم يكن فالقول قول المدعى عليه مع يمينه هذا كله بيان مذهب الشافعي وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يبدأ بيمين المدعي بل يحلف المدعى عليه وقال إذا وجد قتيل في محلة يختار الإمام خمسين رجلا من صلحاء أهلها ويحلفهم على أنهم ما قتلوه ولا عرفوا له قاتلا ثم يأخذ الدية من أرباب الخطة فإن لم يعرفوا فمن سكانها أقول: اعلم أن هذا الباب قد وقع فيه لكثير من أهل العلم مسائل عاطلة عن الدلائل ولم يثبت في حديث صحيح ولا حسن قط ما يقتضي الجمع بين الأيمان والدية بل بعض الأحاديث مصرح بوجوب الأيمان فقط وبعضها مصرح بوجوب الدية فقط والحاصل: أنه قد كثر الخبط والخلط في هذا الباب إلى غاية ولم يتعبدنا الله بإثبات الأحكام العاطلة عن الدلائل ولا سيما إذا خالفت ما هو شرع ثابت وكانت تستلزم أخذ المال الذي هو معصوم إلا بحقه ولهذا ذهب جماعة من السلف منهم أبو قلابة وسالم بن عبد الله والحكم بن عتيبة وقتادة وسليمان بن يسار وإبراهيم بن علية ومسلم بن خالد وعمر بن عبد العزيز إلى أن القسامة غير ثابتة لمخالفتها لأصول الشريعة من وجوه قد ذكرها الماتن رحمه الله في شرح المنتقى وذكر ما أجيب به عنها من طريق الجمهور فليراجع "إذا كان القاتل من جماعة محصورين ثبتت وهي خمسون يمينا" لقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "فتبرئكم اليهود بخمسين يمينا" وهو في الصحيحين من حديث سهل بن أبي حثمة "يختارهم ولي القتيل والدية إن نكلوا عليهم وإن حلفوا سقطت" لما أخرجه مسلم وغيره من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار عن رجل من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم(2/315)
"أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية" وقد ثبت أنهم في الجاهلية كانوا يخيرون المدعى عليهم بين أن يحلفوا خمسين يمينا أو يسلموا الدية كما في القسامة التي كانت في بني هاشم كما أخرجه البخاري والنسائي من حديث ابن عباس وهي قصة طويلة وفيها "أن القاتل كان معينا وأن أبا طالب قال له اختر منا إحدى ثلاث: إن شئت أن تؤدي مائة من الإبل فإنك قتلت صاحبنا وإن شئت حلف خمسون من قومك أنك لم تقتله فإن أبيت قتلناك به فأتى قومه فأخبرهم فقالوا: نحلف فأتته امرأة من بني هاشم كانت تحت رجل منهم كانت قد ولدت منه فقالت يا أبا طالب: أحب أن تجيز ابني هذا برجل من الخمسين ولا تصبر1 يمينه حيث تصبر الأيمان ففعل فأتاه رجل منهم فقال يا أبا طالب: أردت خمسين رجلا أن يحلفوا مكان الإبل فيصيب كل رجل منهم بعيران هذان البعيران فاقبلهما مني ولا تصبر يميني حيث تصبر الأيمان فقبلهما وجاء ثمانية وأربعون فحلفوا قال ابن عباس: فوالذي نفسي بيده ما حال الحول ومن الثمانية والأربعين عين تطرف" "وإن التبس الأمر كانت من بيت المال" لحديث سهل بن أبي حثمة قال: "انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود إلى خيبر وهي يومئذ صلح فتفرقا فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلا فدفنه ثم قدم المدينة فانطلق عبد الرحمن بن سهل وحيصة وحويصة أبناء مسعود إلى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فذهب عبد الرحمن يتكلم فقال "كبر كبر وهو أحدث القوم فسكت فتكلما فقال: أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم فقالوا: كيف نحلف ولم نشهد ولم نر قال: فتبرئكم اليهود بخمسين يمينا فقالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار فعقله النبي صلى الله عليه وسلم من عنده" وهو في الصحيحين وغيرهما وفي لفظ "فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه فوداه بمائة من إبل الصدقة" وقد اختلف أهل العلم في كيفية القسامة اختلافا كثيرا وما ذكره الماتن هو أقرب إلى الحق وأوفق لقواعد الشريعة المطهرة وقد وقع في رواية من حديث سهل المذكور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع
__________
1 الصبر في الأصل الحبس واليمين والمصبورة المحبوسة وقبل لها ذلك وغن كان صاحبها في الحقيقة هو المصبور – لأنه لزم بها وحبس عليها وكانت لازمة له من جهة الحكم – لأنه إنما صبر أي حبس من أجلها فوضعت بذلك مجازا.(2/316)
برمته فقالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف" وقد أخرج أحمد والبيهقي عن أبي سعيد قال: "وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قتيلا بين قريتين فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فذرع ما بينهما فوجد أقرب إلى أحد الجانبين بشبر فألقى ديته عليهم" قال البيهقي تفرد به أبو إسرائيل عن عطية ولا يحتج بهما وقال العقيلي هذا الحديث ليس له أصل وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي عن الشعبي "أن قتيلا وجد بين وداعة وشاكر فأمرهم عمر بن الخطاب أن يقيسوا ما بينهما فوجدوه إلى وادعة أقرب فأحلفهم خمسين يمينا كل رجل ما قتلته ولا علمت قاتلا ثم أغرمهم الدية فقالوا: يا أمير المؤمنين لا أيماننا دفعت عن أموالنا ولا أموالنا دفعت عن أيماننا فقال عمر: كذلك الحق" وأخرج نحوه الدارقطني والبيهقي عند سعيد بن المسيب وفيه "أن عمر قال: إنما قضيت عليكم بقضاء نبيكم صلى الله عليه وسلم" قال البيهقي: رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم منكر وفيه عمر بن صبيح1 أجمعوا على تركه وقال الشافعي: ليس بثابت إنما رواه الشعبي عن الحرث الأعور وهذا لا تقوم به حجة لضعف إسناده على فرض رفعه وأما مع عدم الرفع فليس في ذلك حجة سواء ورد بإسناد صحيح أو غير صحيح والرجوع إلى قسامة الجاهلية التي قررها النبي صلى الله عليه وسلم هو الصواب وقد تقدم ذكرها وقد أخرج أبو داود من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار عن رجل من الأنصار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود: "وبدأ بهم يحلف منكم خمسون رجلا فأبوا فقال للأنصار: استحقوا فقالوا: نحلف على الغيب يا رسول الله فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم دية على اليهود لأنه وجد بين أظهرهم" وهذا إذا صح لا يخالف ما ذكرناه من وجوب الدية على المتهمين إذا لم يحلفوا ولكنه مخالف لما ثبت في الصحيحين إن كانت هذه القصة هي تلك القصة وقد قال بعض أهل العلم إن هذا الحديث ضعيف لا يلتفت إليه
__________
1صبيح بالتصغير كذا هو في التقريب وفي التهذيب "صبح" بإسكان الباء وضبطه بذلك الخزرجي في الخلاصة والحديث في سنن الدارقطني "ص 359" وفيه عن عمر بن صبيح كما هنا وعمر هذا كذاب يضع الحديث.(2/317)
كتاب الوصية
على من تجب الوصية
...
كتاب الوصية
"تجب على من له ما يوصي فيه" لحديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما حق امريء مسلم يبيت ليلتين وله شئ يريد أن يوشي فيه إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه" وقد ذهب إلى الوجوب عطاء والزهري وأبو مجاز وطلحة بن مصرف وآخرون وحكاه البيهقي عن الشافعي في القديم وبه قال اسحق وداود وأبو عوانة وابن جرير وذهب الجمهور إلى أن الوصية مندوبة وليست بواجبة ويجاب عنه بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} ونسخ وجوبها للوالدين والأقربين لا يستلزم نسخ وجوبها في غير ذلك ويجاب عنه أيضا بحديث الباب فإنه يفيد الوجوب قال في المسوى: وعليه أهل العلم قال محمد: وبهذا نأخذ هذا حسن جميل قال النووي: قال الشافعي معنى الحديث الجزم والاحتياط وأن المستحب تعجيل الوصية وأن يكتبها في صحته "ولا تصح ضرار" لحديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار" ثم قرأ أبو هريرة {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} إلى قوله: {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} "أخرجه أبو داود والترمذي وأخرج أحمد وابن ماجه معناه وقالا: فيه "سبعين سنة "وقد حسنه الترمذي وفي إسناده شهر بن حوشب وفيه مقال وقد وثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأخرج ابن منصور موقوفا بإسناد صحيح عن ابن عباس "الإضرار في الوصية من الكبائر" وأخرجه النسائي مرفوعا بإسناد رجاله ثقات والآية الكريمة مغنية عن غيرها ففيها تقييد الوصية المأذون بها بعدم الضرار وقد روى جماعة من الأئمة الإجماع على بطلان وصية الضرار والحاصل: أن وصية الضرار ممنوعة بالكتاب والسنة ومن جملة أنواع الضرار تفضيل بعض الورثة على بعض فإن النبي صلى الله عليه وسلم سمى ذلك جورا كما في حديث النعمان بن بشير الصحيح ومن جملتها أن تكون لإخراج المال مضارة للورثة فإن من(2/318)
أوصى بماله أو بجزء منه لقربة من القرب مريدا بذلك إحرام الورثة جميع ميراثهم أو بعضه فوصيته باطلة لأنه مضار وظاهر الأدلة أنه لا ينفذ من وصية الضرار شئ سواء كانت بالثلث أو بما دونه أو بما فوقه بل هي رد على فاعلها فتكون أحاديث الإذن بالثلث مقيدة بعد الضرار وقد جمع الماتن رحمه الله في هذا رسالة مختصرة "ولا" تصح "لوارث" لحديث عمرو بن خارجة "أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" أخرجه أحمد وابن ماجة والنسائي والترمذي والدارقطني والبيقهي وصححه الترمذي وأخرجه أيضا أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وحسنه من حديث أبي أمامة وفي إسناده إسمعيل بن عياش وهو قوي إذا روى عن الشاميين وهذا الحديث من روايته عنهم لأنه رواه عن شرحبيل بن مسلم وهو شامي ثقة وقد حسنه الحافظ أيضا وأخرجه أيضا الدارقطني من حديث ابن عباس قال ابن حجر: رجاله ثقات ولفظه "لا تجوز وصية لوارث إلا أن تشاء الورثة" وأخرج الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا وصية لوارث إلا أن تجيز الورثة" قال في التلخيص: إسناده واه وفي الباب عن أنس عند ابن ماجه وعن جابر عند الدارقطني وعن علي عنده أيضا وقد قال الشافعي: إن هذا المتن متواتر فقال: وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: "لا وصية لوراث" ويأثرونه عمن حفظوه عنه ممن لقوه من أهل العلم فكان نقل كافة عن كافة فهو أقوى من نقل واحد انتهى فيكون هذا الحديث مقيدا لقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا} وقد ذهب إلى ذلك الجمهور قال مالك في الموطأ: السنة الثابتة عندنا التي لا اختلاف فيها أنه لا يجوز وصية لوارث إلا أن يجيز له ذلك ورثة الميت قلت: وعليه أهل العلم "ولا" تصح "في معصية" لحديث أبي الدرداء عند أحمد والدارقطني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم ليجعلها لكم زيادة في أعمالكم" وأخرجه ابن ماجه والبزار والبيهقي من حديث أبي هريرة وفي إسناده ضعف وأخرجه أيضا الدارقطني والبيهقي من حديث أبي أمامة وإسناده ضعيف وأخرجه العقيلي في الضعفاء(2/319)
من حديث أبي بكر الصديق وفيه متروك وأخرج ابن السكن وابن قانع وأبو نعيم والطبراني من حديث خالد بن عبد الله السلمي وهو مختلف في صحبته وهي تنتهض بمجموعها وقد دلت على أن الإذن بالوصية بالثلث إنما هو لزيادة الحسنات والوصية في المعصية معصية قد نهى الله عباده عن معاصيه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فلو لم يرد ما يدل على تقييد الوصية بغير المعصية لكانت الأدلة الدالة على المنع من معصية الله مفيدة للمنع من الوصية في المعصية "وهي في القرب من الثلث" لحديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما قال: "لو أن الناس غضوا من الثلث فإن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "الثلث والثلث كثير" ومثله حديث سعد بن أبي وقاص "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال له: "الثلث والثلث كثير أو كبير لما قال: أتصدق بثلثي مالي قال: لا قال: فالشطر قال: لا قال: فالثلث قال: الثلث والثلث كثير أو كبير لما قال: أتصدق بثلثي مالي قال: لا قال: فالشطر قلا: لا: فالثلث قال: الثلث والثلث كثير أو كبير إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس" وهو في الصحيحين وغيرهما وقد ذهب الجمهور إلى المنع من الزيادة على الثلث ولو لم يكن للموصي وارث وجوز الزيادة مع عدم الوارث الحنفية واسحق وشريك وأحمد في رواية وهو قول علي وابن مسعود واحتجوا بأن الوصية مطلقة في الآية فقيدتها السنة بمن له وارث فبقي من لا وارث له على الإطلاق وقد أخرج أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي زيد الأنصاري "أن رجلا أعتق ستة أعبد عند موته ليس له مال غيرهم فأقرع بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتق اثنين وأرق أربعة" وفي لفظ لأبي داود أنه قال صلى الله عليه وسلم "لو شهدته قبل أن يدفن لم يدفن في مقابر المسلمين" وقد أخرج الحديث مسلم وغيره من حديث عمران بن حصين وفي لفظ لأحمد "أنه جاء ورثته من الأعراب فأخبروا رسول الله صلى اله عليه وسلم بما صنع فقال أو فعل ذلك! لو علمنا إن شاء الله ما صلينا عليه" اعلم أن الثلث المأذون به لكل واحد باعتبار ما يفعله الميت لنفسه من القرب المقربة التي لم تكن قد وجبت عليه بإيجاب الله تعالى فما كان من هذا القبيل فهو من الثلث المأذون به وأما ما كان قد تقدم له وجوب على الميت سواء كان حقا لله عز وجل كالزكارة والكفارات التي يعتقد الميت وجوبها والحج أو حق الآدمي كالديون فإنه يجب إخراجه من رأس المال قبل كل شئ(2/320)
ولا وجه للتفصيل الذي ذكروه بين ما يتعلق بالمال ابتداء وما يتعلق به انتهاء فإن ذلك لا تأثير له أصلا فالحاصل: أن الميت إذا مات وجب إخراج ما قد وجب عليه من حقوق الله وحقوق الآدميين من رأس تركته ثم ينظر فيما بقي فإن كان الميت قد أوصى بقرب لم يتقدم لها وجوب عليه بل أراد التقرب بها وجب إخراجها من ثلث الباقي لأن الله سبحانه قد أذن له أن يتصرف بثلث ماله كيف شاء بشرط عدم الضرار كتفضيل بعض الورثة على بعض أو إخراج المال عنه لا لمقصد ديني بل لمجرد إحرامهم ثم ينظر في تلك القرب التي جعلها الميت لنفسه عند الموت فإن استغرقت ثلث الباقي من دون زيادة ولا نقصان فإنفاذها واجب وإن زادت لم ينفذ الزائد إلا بإذن من الورثة فإذا أذنوا فقد رضوا على أنفسهم بخروج جزء مما يملكونه سواء كان قليلا أو كثيرا وإن نقصت عن استغراق الثلث كان الفاضل من الثلث للورثة فهذا هو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه وأما جعل بعض حقوق الله الواجبة من الثلث وبعضها من رأس المال فلا أصل لذلك إلى مجرد خيالات مختلة ثم اعلم أن الظاهر عندي أنه لا فرق بين حقوق الله الواجبة وحقوق الآدميين في مخرجها من التركة وأنه لا يجب تقديم حقوق الآدمي على حقوق الله بل جميعها مستوية في ذلك لأنها قد اشتركت في وجوبها على الميت ولا فرق بين واجب وواجب ومن زعم أن بعضها أقدم من بعض فعليه الدليل على أنه لو قال قائل: إن حقوق الله أقدم من حقوق بني آدم مستدلا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم "فدين الله أحق أن يقضى" لم يكن بعيدا من الصواب لولا أن المراد بقوله: "يقضى" أي يفعله الفاعل كالقريب يحج عن قريبه ويصوم عنه لا أن المراد أنه يدفع المال ليفعل ذلك فاعل آخر فإن ذلك يحتاج إلى دليل يدل على أنه يصح فضلا عن أنه يجب "ويجب تقدم قضاء الديون" لحديث سعد الأطول1 عند أحمد وابن ماجه بإسناد رجاله ورجال الصحيح "أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم وترك عيالا قال: فأردت
__________
1 كذا بالأصل تبعا للشوكاني والصواب: "سعد بن الأطول"كما في جميع كتب التراجم وفي النسخة صحيحة مخطوطة عتيقة من المنتقى وكذا في مسند أحمد "ج 4 ص 136 وج 5 ص 7" وفي طبقات ابن سعد "ج 7 قسم 1 ص 39".(2/321)
أن أنفقها على عياله فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "إن أخاك محتبس بدينه فاقض عنه" فقال: يا رسول الله قد أديت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأة وليس لها بينة قال "فأعطها فإنها محقة" وليس في ذلك خلاف وقد دل عليه قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} "ومن لم يترك ما يقضي دينه قضاه السلطان من بيت المال" لحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما "أنه صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: "من خلف مالا أو حقا فلورثته ومن خلف كلا1 أو دينا فكله إلي ودينه علي" وأخرج نحوه أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والدارقطني من حديث جابر وأخرجه أيضا البيهقي والدارقطني من حديث أبي سعيد وأخرجه أيضا الطبراني من حديث سليمان وأخرجه ابن حبان في ثقاته من حديث أبي أمامة.
__________
1 الكل بفتح الكاف العيال والثقل من كل ما يتكلف.(2/322)
كتاب المواريث
"هي مفضلة في الكتاب العزيز" ومعلومة لأهل العلم والتمييز قال الماتن: لم نتعرض ههنا لذكرها واقتصرنا على ذكر ما ثبت في السنة أو الإجماع ولم نذكر ما كان لا مستند له إلا محض الرأي كما جرت به عادتنا في هذا الكتاب فليس مجرد الرأي مستحقا للتدوين فلكل عالم رأيه واجتهاده مع عدم الدليل ولا حجة في اجتهاد بعض أهل العلم على البعض الآخر وإذا عرفت هذا اجتمع له مما في الكتاب العزيز وما ذكرناه ههنا جميع علم الفرائض الثابت بالكتاب والسنة فإن عرض لك من المواريث ما لم يكن فيهما فاجتهد فيه برأيك عملا بحديث معاذ المشهور انتهى "ويجب الابتداء بذوي الفروض القدرة وما بقي فللعصبة" لحديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي لأولى رجل ذكر" والمراد بالفرائض هنا الأنصباء المقدرة وأهلها هم المستحقون لها بالنص وما بقي بعد إعطاء ذوي الفرائض فرائضهم فهو لأولى رجل ذكر "والأخوات مع البنات عصبة" أي يأخذن ما بقي من غير تقدير كما(2/322)
يأخذه الرجل بعد فروض أهل الفروض" لحديث ابن مسعود عند البخاري وغيره "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قضى في بنت وبنت ابن وأخت بأن للبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت" وقد أفاد هذا أن لبنت الابن مع البنت السدس تكملة الثلثين "ولبنت الابن مع البنت السدس تكملة الثلثين" وقد قيل: إن ذلك مجمع عليه "وكذا الأخت لأب مع الأخت لأبوين وللجدة أو الجدات السدس مع عدم الأم" لحديث قبيصة بن ذؤيب عند أحمد وأبي داود وابن ماجه والترمذي وصححه وابن حبان والحاكم قال: "جاءت الجدة إلى أبي بكر فسألته ميراثها فقال: ما لك في كتاب الله شئ وما علمت لك في سنة رسول الله شيئا فارجعي حتى أسأل الناس فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أعطاها السدس فقال: هل معك غيرك فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال: مثل ما قال المغيرة بن شعبة فأنفذه لها أبو بكر قال: ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر فسألته ميراثها فقال: مالك في كتاب الله شئ ولكن هو ذاك السدس فإن اجتمعتما فهو بينكما وأيكما خلت به فهو لها "قال ابن حجر: وإسناده صحيح لثقة رجاله إلا أن صورته مرسل فإن قبيصة لا يصح سماعه من الصديق ولا يمكن شهوده القصة قاله ابن عبد البر وقد اختلف في مولده والصحيح أنه ولد عام الفتح فيبعد شهوده القصة وأخرج عبد الله بن أحمد في مسند أبيه وابن منده في مستخرجه والطبراني في الكبير من حديث عبادة بن الصامت "أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قضى للجدتين من الميراث بالسدس بينهما" وهو من رواية إسحق بن يحيى عن عبادة ولم يسمع منه وأخرج أبو داود والنسائي من حديث بريدة "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم جعل للجدة السدس إذا لم يكن دونها أم" وصححه ابن السكن وابن خزيمة وابن الجارود وقواه ابن عدي وفي إسناده عبيد الله العتكي وهو مختلف فيه وأخرج الدارقطني عن عبد الرحمن ابن يزيد مرسلا قال: "أعطى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثلاث جدات السدس ثنتين من قبل الأب وواحدة من قبل الأم" وأخرجه أيضا أبو داود في المراسيل عن إبراهيم النخعي وأخرجه أيضا البيهقي من مرسل الحسن. وأخرجه(2/323)
الدارقطني من طرق عن زيد بن ثابت وفي الباب آثار غير ما ذكر قال في البحر: مسألة فرضهن يعني الجدات السدس وإن كثرن إذا استوين وتستوي أم الأم وأم الأب لا فضل بينهما فإن اختلفن سقط الأبعد بالأقرب ولا يسقطهن إلا الأمهات والأب يسقط الجدات من جهة والأم من الطرفين أقول: التفاصيل والتفاريع المذكورة في الكتب ينبغي إمعان النظر في مستنداتها ومجرد اجتهاد فرد من أفراد الصحابة ليس بحجة على أحد وكذلك اجتهاد جماعة منهم لم يبلغوا حد الإجماع "وهو للجد مع من لا يسقطه" لحديث عمران بن حصين "أن رجلا أتى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال: إن ابن ابني مات فما لي من ميراثه؟ قال: لك السدس فلما أدبر دعاه قال: لك سدس آخر فلما أدبر دعاه فقال: إن السدس الآخر طعمة" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن الحسن "أن عمر سأل عن فريضة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجد فقام معقل بن يسار المزني فقال: قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ماذا قال السدس قال مع من قال لا أدري قال: لا دريت فما تغني إذن" وهو منقطع لأن الحسن لم يسمع من عمر وقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما حديث الحسن عن معقل وقد اختلف الصحابة فمن بعدهم اختلافا كثيرا ورويت عنهم قضايا متعددة وقد دل الدليل على أنه يستحق السدس وأنه فرضه فإذا صار إليه زيادة فهو طعمة وذلك كما في حديث عمران وإنما قيدنا استحقاقه للسدس بعدم المسقط لأنه إذا كان معه من يسقطه كالأب فلا شئ له وهكذا إذا كان مع الجد من يسقطه الجد فله الميراث كله أقول: ليس في الأحاديث المتقدمة ذكر من كان معه من الورثة ولم يبق بعد ذلك إلا مجرد روايات من علماء الصحابة ومن بعدهم وتمثيلات وتشبيهات ليست من الحجة في شئ ولا يبعد أن يقال: بأنه أحق بالميراث من الأخوة والأخوات مطلقا لأنه إن لم يكن والدا حقيقة فهو بمنزلة الوالد والأب يسقط الأخوة والأخوات مطلقا ومن زعم أنه وجد في الأب من المزايا ما لا يشاركه فيها الجد فعليه الدليل ومن قال إن ثم دليلا يقتضي أن الجد يقاسم الأخوة ويأخذ الباقي بعد الأخوات فعليه أيضا الدليل "ولا ميراث للإخوة والأخوات مطلقا الابن أو ابن(2/324)
الابن أو الأب" ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم "وفي ميراثهم مع الجد خلاف" لعدم ورود الدليل الذي تقوم به الحجة فذهب جماعة من الصحابة منهم أبو بكر وعمرإلى أن الجد أولى من الإخوة وذهب جماعة منهم علي وابن مسعود وزيد بن ثابت إلى أن الجد يقاسم الإخوة والخلاف في المسألة يطول فمن قال إنه يسقط الإخوة قال: إنه يصدق عليه اسم الأب وأجاب الآخرون بأنه مجاز لا تقوم به الحجة ووقع الخلاف في كيفية المقاسمة كما هو مبين في كتب الفرائض "ويرثون" أي الأخوة مع البنات إلا الإخوة لأم لحديث جابر عند أحمد وأبي داود وابن ماجه والترمذي وحسنه والحاكم قال: "جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنتيها من سعد فقالت يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك في أحد شهيدا وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا ولا تنكحان إلا بمال فقال: يقضي الله في ذلك فنزلت آية الميرات فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال: "أعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك" فهذا دليل على ميراث الإخوة مع البنات وأما الإخوة لأم فلا يرثون مع البنت لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً} الآية هي في الإخوة لأم كما في بعض القراآت "ويسقط الأخ لأب مع الأخ لأبوين" لحديث علي قال: "إنكم تقرؤن هذه الآية {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} "وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية وإن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات الرجل يرث أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه" أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي والحاكم وفي إسناده الحرث الأعور ولكنه قد وقع الإجماع على ذلك والمراد بالأعيان الإخوة لأبوين والمراد ببني العلات الإخوة لأب ويقال للإخوة لأم الأخياف "وأولو الأرحام يتوارثون وهم أقدم من بيت المال" لقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} فإنها تفيد أنه إذا مات ميت ولا وارث له إلا من هو من ذوي أرحامه وهو من عدا العصبات وذوي السهام في مصطلح أهل الفرائض فإنه يرثه وقوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} ولفظ الرجال والنساء والأقربين يشمل ذوي الأرحام ومما يؤيد ذلك حديث المقدام(2/325)
بن معد يكرب عند أحمد وأبي داود وابن ماجه والنسائي والحاكم وابن حبان وصححاه عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "من ترك مالا فلورثته وأنا وارث من لا وارث له أعقل عنه وأرثه والخال وارث من لا وارث له يعقل عنه ويرثه" وأخرج أحمد وابن ماجه والترمذي وحسنه من حديث عمر عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بلفظ "والخال وارث من لا وارث له" وأخرجه بهذا اللفظ من حديث عائشة الترمذي والنسائي والدارقطني وحسنه الترمذي وأعله الدارقطني بالاضطراب وأخرجه عبد الرزاق عن رجل من أهل المدينة وأخرجه العقيلي وابن عساكر عن أبي الدرداء وأخرجه ابن النجار عن أبي هريرة كلها مرفوعة وهو حديث له طرق أقل أحواله أن يكون حسنا لغيره ومن ذلك حديث "ابن أخت القوم منهم" وهو حديث صحيح ومن ذلك ما ثبت من جعله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ميراث ابن الملاعنة لورثة ابن الملاعنة لورثة أمه وهم لا يكونون إلا ذوي الأرحام والكلام على هذه الأحاديث مبسوط في شرح المنتقى ويمكن أن يقال إن حديث "فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر "يدل على أن الذكور من ذوي الأرحام أولى من الإناث فيكون حديث نفي ميراث العمة والخالة مفيدا لهذا المعنى ومقويا له مع حديث "الخال وارث" وبذلك يجمع بين الأحاديث وقد قال بمثل ذلك أبو حنيفة وقد اختلف في ذلك الصحابة فمن بعدهم وإلى توريث ذوي الأرحام ذهب الجمهور وهذه الأدلة كما تفيد إثبات التوارث بين ذوي الأرحام تفيد تقديمهم على بيت المال ومما يؤيد ذلك حديث عائشة عند أحمد وأهل السنن وحسنه الترمذي "أن مولى للنبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم خر من عذق نخلة فمات فأتي به النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال: هل له من نسب أو رحم قالوا: لا قال: أعطوا ميراثه بعض أهل قريته "فقوله: أو رحم فيه دليل على تقديم ميراث ذوي الأرحام على الصرف إلى بيت مال المسلمين وأخرج أبو داود من حديث ابن عباس قال: "كان الرجل يحالف الرجل ليس بينهما نسب فيرث أحدهما الآخر فنسخ ذلك آية الأنفال فقال: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} وفي إسناده علي بن الحسين بن واقد وفيه مقال وأخرجه أيضا الدارقطني وأخرج نحوه ابن سعد عن أبي الزبير وفي ذلك(2/326)
دليل على أن الآية في توريث ذوي الأرحام محكمة وبها نسخ ما كان من الميراث بالمخالفة فإن تزاحمت الفرائض فالعول وذلك هو الحق الذي لا يمكن الوفاء بما أمر الله به إلا بالمصير وقد أوضح الماتن ذلك في رسالة مستقلة سماها إيضاح القول في إثبات مسألة العول ودفع جميع ما قاله النافون للعول وقد أوضحت المقام في دليل الطالب على أرجح المطالب فليراجع ولا يرث ولد الملاعنة والزانية إلى من أمه وقرابتها والعكس لحديث سهل بن سعد في الصحيحين وغيرهما في حديث الملاعنة "أن ابنها كان ينسب إلى أمه فجرت السنة أنه يرثها وترث منه ما فرض الله لها "وأخرج أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم"أنه جعل ميراث ابن الملاعنة لأمه ولورثتها من بعدها" وفي إسناده ابن لهيعة وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث وائلة بن الأسقع "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "إن المرأة تحوز ثلاثة مواريث: عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت عنه" قال الترمذي حسن غريب وفي إسناده عمر بن روبة1 التغلبي وفيه مقال وقد صحح هذا الحديث الحاكم: وأخرج أحمد وأبو داود من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لا مساعاة2 في الإسلام من ساعى في الجاهلية فقد ألحقته بعصبته ومن ادعى ولدا من غير رشدة3 فلا يرث ولا يورث" وأخرج الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "أيما رجل عاهر بحرة أو أمة فالولد ولد زنا لا يرث ولا يورث" وفي إسناده أبو محمد عيسى بن موسى القرشي الدمشقي قال البيهقي: ليس بمشهور4 وأخرج أبو داود من حديث عمرو بن شعيب أيضا عن أبيه عن جده "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قضى أن كل مستلحق ولد وزنا لأهل أمه من كانوا حرة أو أمة وذلك فيما استلحق في
__________
1في الصل "رويبة" وهو خطأ وصوابه "روبة" بضم الراء وسكون الواو كما ضبطه ابن حجر في التقريب والحديث رواه الحاكم في المستدرك وصححه "ج 4 ص 341".
2 المساعاة الزنا يقال ساعت الأمة إذا فجرت وساعاها فلان إذا فجر بها.
3 رشدة بكسر الراء وإسكان الشين يقال: هذا ولد رشدة إذا كان لنكاح صحيح ويجوز فتح الراء أيضا
4 وثقة دحيم.(2/327)
أول الإسلام" وفي إسناده محمد بن راشد المكحولي الشامي وفيه مقال وقد أجمع العلماء على أن ولد الملاعنة وولد الزنا لا يرثان من الأب ولا من قرابته ولا يرثونهما وأن ميراثهما يكون لأمهما ولقرابتهما وهما يرثان منهم "ولا يرث المولود إلا إذ استهل" لحديث أبي هريرة عند أبي داود عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "إذا استهل المولود ورث" وفي إسناده محمد بن إسحق وفيه مقال معروف وقد روي عن ابن حبان تصحيحه وأخرج أحمد في رواية ابنه عبد الله في المسند عن المسور بن مخرمة وجابر بن عبد الله قالا: "قضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لا يرث الصبي حتى يستهل" وأخرجه أيضا الترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي بلفظ "إذا استهل السقط صلي عليه وورث" وفي إسناده إسمعيل بن مسلم وهو ضعيف قال الترمذي: وروي مرفوعا والموقوف أصح وبه جزم النسائي وقال الدارقطني في العلل: لا يصح رفعه والمراد بالاستهلال صدور ما يدل على حياة المولود من صياح أو بكاء أو نحوهما ولا خلاف بين أهل العلم في اعتبار الاستهلال في الإرث وميراث العتيق لمعتقه ويسقط بالعصبات وله الباقي بعد ذوي السهام لحديث "الولاء لمن أعتق" وهو ثابت في الصحيح وأخرج أحمد عن قتادة عن سلمى بنت حمزة "أن مولاها مات وترك ابنته فورث النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ابنته النصف وورث يعلى النصف وكان ابن سلمى" ورجال أحمد رجال الصحيح ولكن قتادة لم يسمع من سلمى بنت حمزة وأخرجه أيضا الطبراني وأخرج الدارقطني من حديث ابن عباس "أن مولى لحمزة توفي وترك ابنته وابنة حمزة فأعطى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ابنته النصف وابنة حمزة النصف" وأخرج ابن ماجة ونحوه من حديث ابنة حمزة وكذلك أخرجه النسائي وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو ضعيف وقد وقع الاختلاف في اسم ابنة حمزة فقيل: سلمى وقيل: فاطمة وفي الحديثين دليل على أن لذوي سهام العتيق سهامهم والباقي للمعتق أو لعصبته وقد وقع الخلاف فيمن ترك ذوي أرحامه ومعتقه فروي عن عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عباس أن مولى العتاق لا يرث إلا بعد ذوي الأرحام وذهب غيرهم إلى أنه يقدم على ذوي الأرحام ويأخذ الباقي بعض ذوي السهام ويسقط بالعصبات وقد روي أن المولى(2/328)
كان لحمزة واستدل به من قال: إنه يكون لذوي سهام المعتق الباقي بعد ذوي سهام العتيق والصحيح أنه مولى ابنة حمزة وقد أخرج ابن أبي شيبة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "إن ميراث الولاء للأكبر من الذكور ولا ترث النساء من الولاء إلا ولاء من أعتقن أو أعتقه من أعتقن" وأخرج البيهقي عن علي وعمر وزيد بن ثابت "أنهم كانوا لا يورثون النساء من الولاء إلا ولاء من أعتقن "وأخرج البرقاني على شرط الصحيح عن هذيل بن شرحبيل قال "جاء رجل إلى عبد الله بن الزبير فقال: إني أعتقت عبدا لي وجعلته سائبة فمات وترك مالا ولم يدع وارثا فقال عبد الله: إن أهل الإسلام لا يسيبون وإنما كان أهل الجاهلية يسيبون وأنت ولي نعمته فلك ميراثه وإن تأثمت وتحرجت في شيء فنحن نقلبه ونجعله في بيت المال" "ويحرم بيع الولاء وهبته" لحديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "أنه نهى عن بيع الولاء وهبته" وفي الباب أحاديث قد تقدم بعضها منها حديث "الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب" وقد صححه ابن حبان والبيهقي من حديث ابن عمر أيضا وقد ذهب الجمهور إلى عدم جواز بيع الولاء وهبته وخالف في ذلك مالك وتقدمه بعض الصحابة ولا توارث بين أهل ملتين لما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والدارقطني وابن السكن من حديث عبد الله ابن عمرو "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "لا يتوارث أهل ملتين شتى" وأخرج الترمذي من حديث جابر مثله بدون لفظ "شتى1" وفي إسناده ابن أبي ليلى وأخرج البخاري وغيره من حديث أسامة عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: قال "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" وهو أيضا في مسلم وأخرج البخاري وغيره حديث "وهل ترك لنا عقيل من رباع" وكان عقيل
__________
1في الصل "شيئا" وهو يوافق بعض نسخ أبي داود ولكن الصحيح "شتى" وهو الذي شرح عليه الشارحون وهو الموفق لنسخة التحقيق لابن الجوزي العتيقة الصحيحة التي بدار الكتب المصرية انظر عون المعبود "3: 85" ويوافق رواية الدارقطني "457": "لا يتوارث أهل ماتين شتى مختلفتين" فهذا اللفظ يؤكد أن الرواية "شتى" للوصف بالاختلاف.(2/329)
وطالب كافرين وقد أجمع أهل العلم على أنه لا يرث المسلم من الكافر ولا الكافر من المسلم والخلاف في توارث الملل الكفرية المختلفة وعموم حديث عبد الله بن عمرو وجابر يقتضي عدم التوارث قال في المسوى: والكفر ملة واحدة يرث اليهودي من النصراني وبالعكس. أقول: وأما المرتد فكافر ليس من أهل ملة الإسلام فقد شملته الأحاديث المتقدمة فمن زعم أنه يرث مال المرتد قرابته المسلمون فعليه الدليل الصالح للتخصيص "ولا يرث القاتل من المقتول" لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "لا يرث القاتل شيئا" وأخرجه أبو داود1 والنسائي وأعله الدارقطني وقواه ابن عبد البر وأخرج مالك في الموطأ وأحمد وابن ماجه والنسائي والشافعي وعبد الرزاق والبيهقي عن عمر بن الخطاب قال: "سمعت النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول: "ليس لقاتل ميراث" وفيه انقطاع وأخرج الدارقطني من حديث ابن عباس مرفوعا "لا يرث القاتل شيئا" وفي إسناده كثير بن سليم2 وهو ضعيف وأخرج البيهقي عنه حديثا آخر بلفظ "من قتل قتيلا فإنه لا يرثه وإن لم يكن له وارث غيره" وفي لفظ " وإن كان والده أو ولده" وفي إسناده عمرو بن برق3 وهو ضعيف وأخرج الترمذي وابن ماجه من حديث أبي هريرة بلفظ "القاتل لا يرث" وفي إسناده إسحق بن عبد الله بن أبي فروة وهو ضعيف وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا وهي تدل على أنه لا يرث القاتل من غير فرق بين العامد والخاطئ وبين الدية وغيرها من مال المقتول وإليه ذهب الشافعي وأبو حنيفة وأكثر أهل العلم وقال مالك والنخعي: إن قاتل الخطأ يرث من المال دون الدية وهو تخصيص بغير مخصص4 ويرده على الخصوص ما أخرجه الطبراني "أن عمر بن
__________
1 أنا في شك كثير من نسبة هذا الحديث لأبي داود لأني لم أجده في السنن ولم ينسبه ابن حجر في التخيص إليه. والشوكاني إنما يأخذ من التلخيص. والله أعلم.
2 في الأصل "مسلم" وهو خطأ صححناه من تلخيص الحبير ومن كتب التراجم.
3 لم أجد له ترجمة ولكن نقل تضعيفه ابن حجر في التلخيص ص "265" ويفهم تضعيفه أيضا من كلام لأحمد وعبد الرزاق نقله البخاري في التاريخ الصغير ص "214".
4 بل استدلوا بحديث فيه التفرقة بين قتل الخطإ والعمد وفيه كلام طويل والظاهر أنه ضعيف انظر نصب الرواية للزيلعي "2: 334 – 335".(2/330)
شيبة1 قتل امرأته خطأ فقال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "أعقلها ولا ترثها" وما أخرجه البيهقي "أن عديا الجذامي2 كان له امرأتان اقتتلتا فرمى إحداهما فماتت فلما قدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أتاه فذكر ذلك له فقال له" "أعقلها ولا ترثها" وأخرج البيهقي أيضا "أن رجلا رمى بحجر فأصاب أمه فطالب في ميراثها فقال له صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "حقك من ميراثها الحجر وأغرمه الدية ولم يعطه من ميراثها شيئا" وفي الباب آثار عن جماعة من الصحابة مصرحة بذلك ساقها البيهقي وغيره قلت: وعليه عامة أهل العلم أن من قتل مورثه لا يرثه عمدا كان القتل أو خطأ: إلا أن أبا حنيفة قال: قتل الصبي لا يمنع الميراث كذا في المسوى وأما إرث المماليك من بعضهم البعض أو من مواليهم فقد قيل: إنه وقع الإجماع على أن الرق من موانع الإرث وفي دعوى الإجماع نظر فإن الخلاف في كون العبد يملك أو لا يملك معروف ومقتضى ذلك إثبات الميراث وليس في المقام ما يدل على عدم الإرث وقد ورد من حديث ابن عباس "أن رجلا مات على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ولم يترك وارثا إلا عبدا فأعطاه ميراثه "أخرجه أحمد وأهل السنن وحسنه الترمذي وقد قيل: إنه صرف إليه ذلك صرفا وهو خلاف الظاهر
__________
1ليس في الصحابة من هذا اسمه وغنما تبع المؤلف الشوكاني تبع نسخة التلخيص وفيها خطأ من الناسح وصوابه "عمر بن شيبة بن أبي كثير الأشجعي عن أبيه" وأبوه هذا اختلف في اسمه كثير وفي إسناد الحديث إليه ونقل ابن الأثير عن سعيد القرشي قال: "ما أرى له صحبة"انظر أسد الغابة "3" 8" والإصابة "3: 218 – 219".
2 عدي هذا مختلف في إسناد الحديث إليه انظر أسد الغابة "3: 391 – 394" والإصابة "4: 233".(2/331)
كتاب الجهاد والسير
فضل الجهاد
...
كتاب الجهاد والسير
"الجهاد" قد ورد في فضله والترغيب فيه من الكتاب والسنة ما هو معروف وقد أفرد ذلك بالتأليف جماعة من أهل العلم وحررت فيه كتاب العبرة بما جاء في الغزو والشهادة والهجرة وهو أجمع ما جمع في ذلك في هذا القطر والعصر وقد أمر الله بالجهاد بالأنفس والأموال وأوجب على عباده أن ينفروا إليه وحرم عليهم(2/331)
التثاقل عنه وصح عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال: "لغدوة1 أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها " وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الجنة تحت ظلال السيوف" كما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي موسى وابن أبي أوفى وثبت في صحيح البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار" وثبت عنه صلى الله عليه وسلم قال: "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها" كما في الصحيحين من حديث سهل بن سعد وأخرج أهل السنن وصححه الترمذي من حديث معاذ بن جبل "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من قاتل في سبيل الله2 فواق ناقة وجبت له الجنة" فناهيك بعمل يوجب الله لصاحبه الجنة ويحرمه على النار ويكون مجرد الغدو إليه أو الرواح منه خيرا من الدنيا وما فيها "فرض كفاية" لما أخرجه أبو داود عن ابن عباس قال: " {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} و {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ} إلى قوله {يَعْمَلُونَ} نسختها الآية التي تليها {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ} وقد حسنه ابن حجر قال الطبري يجوز أن يكون {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} خاصا والمراد به من استنفره النبي صلى الله عليه وسلم فامتنع قال ابن حجر: والذي يظهر لي أنها مخصوصة وليست بمنسوخة وقد وافق ابن عباس على دعوى النسخ عكرمة والحسن البصري كما روى ذلك الطبري عنهما ومن الأدلة الدالة على أنه فرض كفاية أنه كان صلى الله عليه وسلم يغزو تارة بنفسه وتارة يرسل غيره ويكتفي ببعض المسلمين وقد كانت سراياه وبعوثه متعاقبة والمسلمون بعضهم في الغزو وبعضهم في أهله وإلى كونه فرض كفاية ذهب الجمهور وقال الماوردي إنه كان فرض عين على المهاجرين دون غيرهم وقال السهيلي كان عينا على الأنصار وقال ابن المسيب: إنه فرض عين وقال قوم إنه كان فرض عين في زمن الصحابة أقول: الأدلة الواردة في فرضية الجهاد كتابا وسنة أكثر من أن تكتب ههنا ولكن لا يجب ذلك إلا على الكفاية فإذا قام به البعض سقط عن الباقين وقبل أن يقوم به البعض هو فرض عين على كل مكلف وهكذا يجب على من استنفره الإمام أن ينفر ويتعين ذلك عليه ولهذا توعد الله سبحانه من لم ينفر مع
__________
1 الغدوة المرة من الغدو وكذلك الروحة المرة من الروح
2 بفتح الفاء وضمها ما بين الحلبتين من الراحة.(2/332)
رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدل على عدم وجوب الجهاد على الجميع قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} فتحمل هذه الآية على أنه قد قام بالجهاد من المسلمين من يكفي وأن الإمام لم يستنفر غير من قد خرج للجهاد وبهذا تعرف أن الجمع بين هذه الآيات ممكن فلا يصار إلى القول بالترجيح أو النسخ وأما غزو الكفار ومناجزة أهل الكفر وحملهم على الإسلام أو تسليم الجزية أو القتل فهو معلوم من الضرورة الدينية ولأجله بعث الله تعالى رسله وأنزل كتبه وما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بعثه الله سبحانه إلى أن قبضه إليه جاعلا هذا الأمر من أعظم مقاصده ومن أهم شؤنه وأدلة الكتاب والسنة في هذا لا يتسع لها المقام ولا لبعضها وما ورد في موادعتهم أو في تركهم إذا تركوا المقاتلة فذلك منسوخ باتفاق المسلمين بما ورد من إيجاب المقاتلة لهم على كل حال مع ظهور القدرة عليهم والتمكن من حربهم وقصدهم إلى ديارهم وأما غزو البغاة إلى ديارهم فإن كان ضررهم يتعدى إلى أحد من أهل الإسلام إذا ترك المسلمون غزوهم إلى ديارهم فذلك واجب دفعا لضررهم وإن كان ضررهم لا يتعدى فقد أخلوا بواجب الطاعة للإمام والدخول فيما دخل فيه سائر المسلمين ولا شك أن لك معصية عظيمة لكن إذا كانوا مع هذا مسلّمين للواجبات غير ممتنعين من تأدية ما يجب تأديته عليهم تركوا وشأنهم مع تكرير الموعظة لهم وإقامة الحجة عليهم وأما إذا امتنعوا من ذلك فقد تظاهروا بالبغي وجاهروا بالمعصية وقد قال الله عز وجل: {إِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} وقد أجمع الصحابة على العزيمة التي عزمها أبو بكر الصديق رضي الله عنه من المقاتلة لمن فرق بين الصلاة والزكاة وسيأتي الكلام على صفة مقاتلة البغاة في الفصل الذي عقده الماتن لذلك "مع كل بر وفاجر" لأن الأدلة الدالة على وجوب الجهاد من الكتاب والسنة وعلى فضيلته والترغيب فيه وردت غير مقيدة بكون السلطان أو أمير الجيش عادلا بل هذه فريضة من فرائض الدين أوجبها الله تعالى على عباده المسلمين من غير تقييد بزمن أو مكان أو شخص أو عدل أو جور فتخصيص وجوب الجهاد بكون السلطان عادلا ليس عليه أثارة من علم وقد يبلي الرجل الفاجر في الجهاد ما لا يبليه البار العادل وقد وجد بهذا الشرع كما هو معروف وأخرج أحمد في المسند من(2/333)
رواية ابنه عبد الله1 وأبو داود وسعيد بن منصور من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "ثلاث من أصل الإيمان: الكف عمن قال لا إله إلا الله لا تكفره بذنب ولا تخرجه عن الإسلام بعمل والجهاد ماض مذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل" ولا يعتبر في الجهاد إلا أن يقصد المجاهد بجهاده أن تكون كلمة الله هي العليا كما ثبت في حديث أبي موسى في الصحيحين وغيرهما قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية يقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" "إذا أذن الأبوان" لحديث عبد الله بن عمرو قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فاستأذنه في الجهاد فقال: "أحي والدك؟ قال نعم قال: ففيهما فجاهد" وفي رواية لأحمد وأبي داود وابن ماجه "قال يا رسول الله إني جئت أريد الجهاد معك ولقد أتيت وإن والدي يبكيان قال: "فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما" وقد أخرج هذا الحديث مسلم من وجه آخر وأخرج أبو داود من حديث أبي سعيد "أن رجلا هاجر إلى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من اليمن فقال: "هل لك أحد باليمن؟ " فقال أبواي فقال: "أذنا لك؟ " فقال: لا فقال: "ارجع إليهما واستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما" وصححه ابن حبان وأخرج أحمد والنسائي والبيهقي من حديث معاوية بن جاهمة السلمي "أن جاهمة أتى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله أردت الغرو وجئتك أستشيرك فقال: "هل لك من أم" قال نعم فقال: "الزمها فإن الجنة عند رجليها" وقد اختلف في إسناده اختلافا كثيرا وقد ذهب الجمهور إلى أنه يجب استئذان الأبوين في الجهاد ويحرم إذا لم يأذنا أو أحدهما لأن برهما فرض عين والجهاد فرض كفاية قالوا: وإذا تعين الجهاد فلا إذن ويدل على ذلك ما أخرجه ابن حبان من حديث عبد الله بن عمر قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فسأله عن أفضل الأعمال قال: "الصلاة" قال ثم مه قال: "الجهاد" قال فإن لي والدين قال: "آمرك بوالديك خيرا" فقال: والذي
__________
1 الأحسن التعبير بأن يقول "وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد مسند أبيه" لأن أحمد لم يرو عن ابنه زاد بل عبد الله روى عن أبيه المسند وروى في أثنائه بعض أحاديثه عن غير أبيه وقد كثر للشارح هذ للتعبير وهو خطأ.(2/334)
بعثك نبيا لأجاهدن ولأتركنهما قال: "فأنت أعلم" قالوا: وهو محمول على جهاد فرض العين أي حيث يتعين على من له أبوان أو إحداهما توفيقا بين الحديثين1 "وهو مع إخلاص النية يكفر الخطايا إلا الدين" لحديث أبي قتادة عند مسلم وغيره "أن رجلا قال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله يكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدين فإن جبرائيل عليه السلام قال لي ذلك" وأخرج مثله أحمد والنسائي من حديث أبي هريرة وأخرج مسلم وغيره من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "يغفر الله للشهيد كل ذنب إلا الدَّين فإن جبرائيل عليه السلام قال لي ذلك" وأخرج الترمذي وحسنه من حديث أنس نحوه "ويلحق به" أي بالدين كل "حقوق الآدميين" من غير فرق بين دم أو عرض أو مال إذ لا فرق بينها "ولا يستعان فيه" أي في الجهاد "بالمشركين إلا لضرورة" لقوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لمن أراد الجهاد معه من المشركين: "ارجع فلن أستعين بمشرك" فلما أسلم استعان به وهو في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة وأخرج أحمد والشافعي والبيهقي والطبراني نحوه من حديث حبيب بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده ورجال إسناده ثقات وأخرج أحمد والنسائي من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تستضيئوا بنار المشركين" وفي إسناده أزهر بن راشد وهو ضعيف وبقية إسناده ثقات وقد أخرج الشافعي من حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بناس من اليهود يوم خيبر" وأخرجه أبو داود في مراسيله من حديث الزهري وأخرجه أيضا الترمذي مرسلا وقد أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث ذي مخبر2 قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ستصالحون الروم صلحا وتغزون أنتم وهم عدوا من ورائكم" وقد ذهب جماعة من العلماء إلى عدم جواز الاستعانة بالمشركين وذهب
__________
1 ولعل الأحسن في التوفيق بين الحديثين أان يجعل ذلك إلى رأي الإمام والمكلف فإن كانت المصلحة تنفي بأحدهما وجب تقديمه. وقد كان المهاجرون والأنصار يجاهدون ولم نر في شئ من الروايات أنهم كانوا يلتزمون استئذان الوالدين في كل غزو.
2 بكسر الميم وإسكان الخاء المعجمة وفتح الباء. ويقال بميم مفتوحة بدل الباء وهو ابن أخي الجاشي.(2/335)
آخرون إلى جوازها وقد استعان النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالمنافقين في يوم أحد وانخزل1 عنه عبد الله بن أبي بأصحابه وكذلك استعان بجماعة منهم في يوم حنين وقد ثبت في السير أن رجلا يقال له قزمان خرج مع النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يوم أحد وهو مشرك فقتل ثلاثة من بني عبد الدار حملة لواء المشركين حتى قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليأزر2 هذا الدين بالرجل الفاجر" وخرجت خزاعة مع النبي صلى الله عليه وسلم على قريش عام الفتح وهم مشركون فيجمع بين الأحاديث بأن الاستعانة بالمشركين لا تجوز إلا لضرورة لا إذا لم تكن ثم ضرورة "وتجب على الجيش طاعة أميرهم إلا في معصية الله" لحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني" وعن ابن عباس في قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} قال: "نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي بعثه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في سرية" أخرجه أحمد وأبو داود وهو في الصحيحين وفيهما أيضا من حديث علي قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا فعصوه في شئ فقال: اجمعوا لي حطبا فجمعوا ثم قال: أوقدوا نارا فأوقدوا ثم قال ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا وتطيعوا فقالوا: بلى قال: فادخلوها فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار فكانوا كذلك حتى سكن غضبه وطفئت النار فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لو دخلوها لم يخرجوا منها أبدا" وقال: "لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف" والأحاديث في هذا الباب كثيرة وفيها التصريح بأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وإنما تجب طاعة الأمراء ما لم يأمروا بمعصية الله "وعليه" أي على الأمير "مشاورتهم والرفق بهم وكفهم عن الحرام" لدخول ذلك تحت قوله {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} وقد كان
__________
1 انخزل بالزاي أي انفرد.
2 يقال أزرا وآزره إذا أعانه ابن عامر "فآزره فاستغلظ" علي فعله وقرأ الباقون "فاآزره".(2/336)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور الغزاة معه في كل ما ينو به ووقع منه ذلك في غير موطن وأخرج مسلم وغيره من حديث أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم شاور أصحابه حين بلغه إقبال أبي سفيان" والقصة مشهورة وأجاب عليه سعد بن عبادة بقوله: "والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها "وأخرج أحمد والشافعي من حديث أبي هريرة قال: "ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرج مسلم وغيره من حديث عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به" وأخرج مسلم أيضا من حديث معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجتهد لهم ولا ينصح لهم إلا لم يدخل الجنة" وأخرج أبو داود من حديث جابر قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلف في المسير فيرجي الضعيف ويردف ويدعو لهم" وأخرج أحمد وأبو داود من حديث سهل بن معاذ عن أبيه قال "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة كذا وكذا فضيق الناس الطريق فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى من ضيق منزلا أو قطع طريقا فلا جهاد له" وفي إسناده إسمعيل بن عياش وسهل بن معاذ ضعيف وقد جاءت الأدلة المفيدة للقطع بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأحق الناس بذلك الأمير "ويشرع للإمام إذا أراد غزوا أن يوري بغير ما يريده" لحديث كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها" وهو في الصحيحين وغيرهما "و" يشرع له أن "يذكي العيون ويستطلع الأخبار" لحديث جابر في الصحيحين وغيرهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب: "من يأتيني بخبر القوم قال الزبير أنا" الحديث وثبت في صحيح مسلم وغيره "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عينا ينظر عير أبي سفيان "وثبت" أنه بعث من يأتيه بمقدار جيش المشركين يوم بدر وغيره" وكان يأمر من يستطلع أخبار العدو ويقف في المواضع التي بينه وبينهم وذلك مدون في الكتب الموضوعة في السيرة والغزوات "و" يشرع له أن "يرتب الجيوش ويتخذ الرايات والألوية" وقد وقع منه صلى الله عليه وسلم من ترتيب جيوشه عند ملاقاته للعدو ما هو مشهور وكان يأمر بعضا يقف في هذا المكان وآخرين في المكان الآخر وقال(2/337)
للرماة يوم أحد إنهم يقفون حيث عينه لهم ولا يفارقوا ذلك المكان ولو تخطفه هو ومن معه الطير وقد كانت له رايات كما في حديث ابن عباس عند الترمذي وأبي داود قال: "كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء ولواؤه أبيض" وأخرج أبو داود من حديث سماك بن حرب عن رجل من قومه عن آخر منهم قال: "رأيت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم صفراء" وفي إسناده مجهول وأخرج أهل السنن والحاكم وابن حبان من حديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة ولواؤه أبيض" وفي حديث الحرث بن حسان "أنه رأى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم رايات سودا" أخرجه الترمذي وابن ماجه ورجاله رجال الصحيح وفي الباب أحاديث "وتجب الدعوة قبل القتال إلى إحدى ثلاث خصال إما الإسلام أو الجزية أو السيف" لحديث سليمان بن بريدة عن أبيه عند مسلم وغيره قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال: "اغزوا بسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم الذي يجري على المسلمين ولا يكون لهم في الفئ والغنيمة شئ إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أبوا فاسألهم الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم وإن أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم" الحديث وفي الباب أحاديث وقد ذهب الجمهور إلى وجوب الدعوة لمن لم تبغلهم الدعوة ولا تجب لمن قد بلغتهم وذهب قوم إلى الوجوب مطلقا وقوم إلى عدم الوجوب مطلقا "ويحرم قتل النساء والأطفال والشيوخ إلا" أن يقاتلوا فيدفعوا بالقتل "لضرورة" لحديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما قال: "وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان" وأخرج أبو داود من حديث أنس "أن رسول الله قال: "لا تقتلوا شيخا(2/338)
فانيا ولا صغيرا ولا امرأة" وفي إسناده خالد بن الفرز1 وفيه مقال وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم والبيهقي من حديث رباح2 بن ربيع أنه قال صلى الله عليه وسلم: "لا تقتلوا ذرية ولا عسيفا" والعسيف الأجير وأخرج أحمد من حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع" وفي إسناده إبراهيم بن إسمعيل بن أبي حبيبة وهو ضعيف وقد وثقه أحمد وأخرج أحمد أيضا والإسماعيلي في مستخرجه من حديث كعب3 بن مالك عن عمه "أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث إلى ابن أبي الحقيق بخيبر نهى عن قتل النساء والصبيان" ورجاله رجال الصحيح وأخرج أحمد والترمذي وصححه من حديث سمرة مرفوعا بلفظ "اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم4" وقد قيل: إنه وقع الاتفاق على المنع عن قتل النساء والصبيان إلا إذا كان ذلك لضرورة كأن يتترس بهم لمقاتلة أو يقاتلون وقد أخرج أبو داود في المراسيل عن عكرمة "أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بامرأة مقتولة يوم حنين فقال: "من قتل هذه؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله غنمتها وأردفتها خلفي فلما رأت الهزيمة فينا أهوت إلى قائم سيفي لتقتلني فقتلتها" فلم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم " ووصله الطبراني في الكبير قلت: قال الشافعي: النهي عن قتل نسائهم وصبيانهم إنما هو في حال التميز والتفرد وأما البيات فيجوز وإن كان فيه إصابة ذراريهم ونسائهم "والمثلة" لما تقدم قريبا في حديث سليمان بن بريدة عن أبيه عن جده وفيه "ولا تمثلوا " وأخرج نحو ذلك أحمد وابن ماجه من حديث صفوان بن عسال وأحاديث النهي عن المثلة كثيرة "والإحراق بالنار" لحديث أبي هريرة عند البخاري وغيره قال:
__________
1 الفرز بكسر الفاء وفتحها وسكون الراء وآخره زاي.
2 اختلف في اسمه هل هو "رباح" بفتح الراء والباء أو رباح بكسر الراء والباء المثناة والراجح الثاني وبه جزم البخاري وابن حبان والدارقطني وابن عبد البر وغيرهم.
3 كذا في الأصل. وفي نيل الأوطار "ابن كعب بن مالك عن عمه" وكلاهما مشكل ولم استطيع العثور على الحديث في مسند أحمد ولم أعرف من "ابن كعب" هذا فإنه إن كان المراد به أحد أبناء كعب بن مالك الأنصاري السلمي الشاعر – وهو أحد ثلاثة الذين تاب الله عليهم – فقد نص ابن حجر في الإصابة على أنه ليس له أخ فلا يكون إذن لابنه عم وإن كان غيره فلا أدري من هو والعم عبد الله.
4 الشرخ الشاب. قال أحمد بن حنبل: "الشيخ لا يكاد يسلم والشاب أقرب إلى الإسلام". نقله ابن حجر في تلخيص "370"(2/339)
"بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث فقال: "إن وجدتم فلانا وفلانا لرجلين فاحرقوهما بالنار" ثم قال حين أردنا الخروج: " إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا وإن النار لا يعذب بها إلا الله فإن وجدتوهما فاقتلوهما" وأما تحريق الشجر والأصنام والمتاع فقد ثبت الإذن بذلك عن الشارع إذا كان فيه مصلحة "و" يحرم "الفرار من الزحف إلا إلى فئة" وقد نطق بذلك القرآن الكريم قال الله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} وثبت في الصحيحين وغيرهما أن الفرار من الزحف هو من السبع الموبقات ولا خلاف في ذلك وفي الجملة وإن اختلفوا في مسوغات الفرار وقد جوز الله تعالى الفرار إلى الفئة وأما التحرف للقتال فهو وإن كان فيه تولية الدبر لكنه ليس بفرار على الحقيقة قال في المسوى: قوله {إلَّا مُتَحَرِّفاً} هو أن ينصرف من ضيق إلى سعة أو من سفل إلى علو أو من مكان منكشف إلى مستتر ونحو ذلك مما هو أمكن له في القتال قوله: {أوْ مُتَحَيِّزاً} أي يصير إلى حيز فئة من المسلمين يستنجدهم ويقاتل معهم وبالجملة يجب ثبات المسلمين يوم الزحف في مقابلة زحفهم من الكفار والفرار حينئذ كبيرة "ويجوز تبييت الكفار" لحديث الصعب ابن جثامة في الصحيحين وغيرهما "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم سئل عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب من نسائهم وذراريهم ثم قال: "هم منهم" وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث سلمة بن الأكوع قال: بيتنا هوازن مع أبي بكر الصديق وكان أمره علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم والبيات هو الغارة بالليل قال الترمذي: وقد رخص قوم من أهل العلم في الغارة بالليل وأن يبيتوا وكرهه بعضهم قال أحمد وإسحق: لا بأس به أن يبيت العدو ليلا "والكذب في الحرب" لما ثبت عند مسلم وغيره من حديث جابر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث محمد بن مسلمة لقتل كعب بن الأشرف قال يا رسول الله: فأذن لي فأقول قال: " قد فعلت" يعني يأذن له بأن يخدعه بمقال ولو كان كذبا كما وقع منه في هذه القصة وهي أيضا في البخاري وأخرج مسلم من حديث أم كلثوم بنت عقبة قالت: لم أسمع النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يرخص في شيء من الكذب مما يقول الناس إلا في الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث(2/340)
المرأة زوجها. وهذا الكذب المذكور هنا هو التعريض والتلويج بوجه من الوجوه ليخرج عن الكذب الصراح كما قاله جماعة من أهل العلم "والخداع" في الحرب لما في الصحيحين من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحرب خدعة1" وفيهما من حديث "أبي هريرة قال: سمى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الحرب خدعة" قال النووي: واتفقوا على جواز خداع الكفار في الحرب كيفما أمكن إلا أن يكون فيه نقض عهد.
"فصل وما غنمه الجيش كان لهم أربعة أخماسه وخمسه يصرفه الإمام في مصارفه" لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} قلت: اتفق أهل العلم على أن الغنيمة تخمس فالخمس للأصناف التي ذكرت في القرآن وأربعة أخماسها للغانمين وقوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} ذهب عامة أهل العلم إلى أن ذكر الله تعالى للتبرك به وإضافة هذا المال إليه لشرفه ثم بعد ما أضاف جميع الخمس إلى نفسه بين مصارفها واختلفوا في سهم ذوي القربى قال أبو حنيفة: إنما يعطون لفقرهم وقال الشافعي: لقرابتهم مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كالميراث غير أنه أعطى القريب والبعيد من ذوي القربى ولا يفضل عنده فقير على غني ويعطى الرجل سهمين والمرأة سهما ومن ذلك ما ورد في القرآن في الفئ والغنيمة وأخرج أبو داود والنسائي من حديث عمرو بن عبسة قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعير من المغنم فلما سلم أخذ وبرة من جنب البعير ثم قال: "ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس والخمس مردود فيكم " وأخرج نحوه أحمد والنسائي وابن ماجه من حديث عبادة بن الصامت وحسنه ابن حجر وأخرج نحوه أيضا أحمد وأبو داود والنسائي ومالك والشافعي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وحسنه أيضا ابن حجر وروي نحو ذلك أيضا من حديث جبير بن مطعم والعرباض بن سارية "ويأخذ الفارس من الغنيمة ثلاثة أسهم والراجل سهما" لما ورد في ذلك من الأحاديث منها حديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما وله ألفاظ فيها التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم "أسهم
__________
1 بفتح الخاء وإسكان الدال وهي أفصح الروايات واصحها ابن الأثير.(2/341)
للفارس وفرسه ثلاثة أسهم وللراجل سهما" وفيهما معنى ذلك من حديث أنس ومن حديث عروة البارقي ومنها حديث الزبير بنحو ذلك عند أحمد ورجاله رجال الصحيح وحديث أبي رهم عند الدارقطني وأبي يعلى والطبراني وحديث أبي هريرة عند الترمذي والنسائي وحديث جرير عند مسلم وغيره وحديث عتبة بن عبد عند أبي داود وحديث جابر وأسماء بنت يزيد عند أحمد وفي الباب أحاديث وقد ذهب إلى ذلك الجمهور وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الفارس يأخذ له ولفرسه سهمين والراجل سهما وتمسكوا بحديث مجمع بن جارية عند أحمد وأبي داود وقال: "قسمت خيبر على أهل الحديبية فقسمها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على ثمانية عشر سهما وكان الجيش ألفا وخمسمائة فيهم ثلثمائة فارس فأعطى الفارس سهمين والراجل سهما" وهذا الحديث في إسناده ضعف وقال أبو داود إن فيه وهما وإنه قال ثلثمائة فارس وإنهم كانوا مائتين "ويستوي في ذلك القوي والضعيف ومن قاتل ومن لم يقاتل" لحديث ابن عباس عند أبي داود والحاكم وصححه أبو الفتح في الاقتراح على شرط البخاري "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قسم غنائم بدر بالسوي بعد وقوع الخصام بين من قاتل ومن لم يقاتل "ونزول قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} وأخرج نحوه أحمد برجال الصحيح من حديث عبادة بن الصامت وأخرج أحمد من حديث سعد بن مالك قال: "قلت يا رسول الله: الرجل يكون حامية القوم ويكون سهمه وسهم غيره سواء قال "ثكلتك أمك ابن أم سعد وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم " وأخرجه البخاري أيضا والنسائي عن مصعب بن سعد قال: "رأى سعد أن له فضلا على من دونه فقال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: " هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم " وأخرج نحوه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه قال في الحجة البالغة: ومن بعثه الأمير لمصلحة الجيش كالبريد والطليعة والجاسوس يسهم له وإن لم يحضر الواقعة كما كان لعثمان يوم بدر "ويجوز تنفيل بعض الجيش" لما أخرجه مسلم وغيره "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أعطى سلمة بن الأكوع سهم الفارس وسهم الراجل جمعهما له "وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وعزاه المنذري في مختصر السنن إلى مسلم "أن النبي صلى الله تعالى عليه آله وسلم نفل سعد بن أبي(2/342)
وقاص يوم بدر سيفا" وقد ذهب إلى ذلك الجمهور وحكى بعض أهل العلم الإجماع عليه واختلف العلماء هل هو من أصل الغنيمة أو من الخمس وقد ورد في تنفيل السرية حديث حبيب بن مسلمة عند أحمد وأبي داود وابن ماجه وصححه ابن الجارود وابن حبان والحاكم "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم نفل الربع بعد الخمس في بدأته الثلث بعد الخمس في رجعته "وأخرج نحوه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه ابن حبان من حديث عبادة بن الصامت وأخرج أحمد وأبو داود وصححه الطحاوي من حديث معن بن يزيد قال: "سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول: " لا نفل إلا بعد الخمس" وفي الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة سوى قسم عامة الجيش والخمس في ذلك كله "وفيهما "أنه نفل بعض السرايا بعيرا بعيرا "وفي الباب أحاديث قال في الحجة البالغة: وعندي إن رأى الإمام أن يزيد لركبان الإبل أو للرماة شيئا أو يفضل العراب على البراذين لشئ دون السهم فله ذلك بعد أن يشاور أهل الرأي ويكون أمرا لا يختلف عليه لأجله وبه يجمع اختلاف سير النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأصحابه في الباب "وللإمام الصفي وسهمه كأحد الجيش" لحديث يزيد بن عبد الله بن الشخير عند أبي داود والنسائي وسكت عنه أبو داود والمنذري قال: "كنا بالمربد1 إذ دخل رجل معه قطعة أديم فقرأناها فإذا فيها من محمد رسول الله إلى بني زهير بن أقيش2 إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأديتم الخمس من المغنم وسهم النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وسهم الصفي فأنتم آمنون بأمان لله ورسوله فقلنا: من كتب لك هذا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال المنذري: ورواه بعضهم عن يزيد بن عبد الله وسمى الرجل النمر بن تولب وأخرج أبو داود عن الشعبي مرسلا قال: "كان للنبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم سهم يدعى الصفي إن شاء عبدا وإن شاء أمة وإن شاء فرسا يختاره قبل الخمس" وأخرج أبو داود أيضا من حديث ابن عون مرسلا نحوه وأخرج أحمد
__________
1 بكسر الميم وإسكان الراء وفتح الباء محلو بالبصرة من أشهر محالها وأطيبها.
2 بضم الهمزة وفتح القاف وإسكان الياء وآخره شين معجمة.(2/343)
والترمذي وحسنه من حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم تنفل سيفه ذا الفقار يوم بدر" وأخرج أبو داود من حديث عائشة قالت: "كانت صفية من الصفي" وأخرج أبو داود أيضا من حديث أنس نحوه ويعارضه ما في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس أيضا قال: "صارت صفية لدحية الكلبي ثم صارت لرسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية إنه اشتراها منه بسبعة أروس "ويرضخ من الغنيمة لمن حضر" لحديث ابن عباس عند مسلم وغيره "أنه سأله سائل عن المرأة والعبد هل كان لهما سهم معلوم إذا حضر الناس فأجاب أنه لم يكن لهما سهم معلوم إلا أن يحذيا1 من غنائم القوم "وفي لفظ "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغزو بالنساء فيدواين الجرحى ويحذين من الغنيمة وأما يسهم2 فلم يضرب لهن" وأخرج أبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه من حديث عمير مولى آبي اللحم "أنه شهد خيبر مع مواليه فأمر له صلى الله عليه وسلم بشئ من خرثي3 المتاع" وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي من حديث حشرج بن زياد عن جدته أم أبيه "أنها خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة خيبر سادسة ست نسوة فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث إلينا فجئنا فرأينا فيه الغضب فقال: مع من خرجتن وبإذن من خرجتن فقلنا يا رسول الله: خرجنا نغزل الشعر ونعين في سبيل الله ومعنا دواء للجرحى ونناول السهم ونسقي السويق فقال قمن فانصرفن4 حتى إذا فتح الله عليه خيبر أسهم لنا كما أسهم للرجال قال: فقلت لها يا جدة وما كان ذلك؟ قالت: تمرا" وفي إسناده رجل مجهول وهو حشرج وقال الخطابي إسناده ضعيف لا تقوم به الحجة وأخرج الترمذي عن الأوزاعي مرسلا قال: "أسهم النبي صلى الله عليه وسلم للصبيان بخيبر" وحديث حشرج كما عرفت ضعيف وهذا مرسل فلا ينتهضان لمعارضة ما تقدم وحمل الإسهام هنا على الرضخ
__________
1 حذاه حذور أعطاه وأحذيته من الغنيمة أحذيته أعطيته منها والحذوة بكسر الحاء وضمها مع إسكان الذال فيها العطية.
2 في الأصل "وأما السهم" وصححناه من صحيح مسلم "5: 197" ونيل الأوطار "8: 113" وفي رواية الترمذي "1: 294" "يسهم بالياء مضارع أسهم.
3 الخرثي بضم الخاء المعجمة وإسكان الراء وكثر الثاء وتشديد الياء أردأ المتاع والغنائم وهي سقط المتاع.
4 لفظ الحديث كله هنا هو لفظ أبي داود "3: 26" إلا قوله "فانصرفن" فإنه ليس فيه بل هو في رواية مسند أحمد بن حنبل "5: 271".(2/344)
جمعا بين الأحاديث وقد اختلف أهل العلم في ذلك فذهب الجمهور إلى أنه لا يسهم للنساء والصبيان بل يرضخ لهم فقط إن رأى الإمام ذلك "ويؤثر المؤلفين إن رأى في ذلك صلاحا" لحديث أنس في البخاري وغيره "أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الغنائم في أشراف قريش تأليفا لهم وترك الأنصار والمهاجرين" وهكذا ثبت في الصحيح من حديث ابن مسعود وغيره" أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وأعطى عيينة مثل ذلك وأعطى أناسا من أشراف العرب" والقصة مشهورة مذكورة في كتب السير بطولها والمراد بأشراف قريش أكابر مسلمة الفتح كأبي سفيان بن حرب وسهل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى وحكيم بن حزام وصفوان بن أمية "وإذا رجع ما أخذه الكفار من المسلمين كان لمالكه" لحديث عمران بن حصين عند مسلم وغيره "أن العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أصيبت فركبتها امرأة من المسلمين ورجعت إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وقد كانت نذرت أن تنحرها إن نجاها الله عليها فقال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك العبد" وأخرج البخاري وغيره عن ابن عمر "أنه ذهب فرس له فأخذه العدو فظهر عليهم المسلمون فرد عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبق عبد له فلحق بأرض الروم وظهر عليه المسلمون فرده عليه خالد بن الوليد بعد النبي صلى الله عليه وسلم" وفي رواية لأبي داود "أن غلاما لابن عمر أبق إلى العدو فظهر عليه المسلمون فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابن عمر ولم يقسم" وقد ذهب الشافعي وجماعة من أهل العلم إلى أن أهل الحرب لا يملكون بالغلبة شيئا من أموال المسلمين ولصاحبه أخذه قبل الغنيمة وبعدها وروي عن علي والزهري وعمرو بن دينار والحسن أنه لا يرد أصلا ويختص به أهل المغانم وروي عن عمر وسليمان بن ربيعة وعطاء والليث ومالك وأحمد وآخرين إن وجده صاحبه قبل القسمة فهو أحق به وإن وجده بعد القسمة فلا يأخذه إلا بالقيمة وقد روي عن ابن عباس الدارقطني مثل هذا التفصيل مرفوعا وإسناده ضعيف جدا وروي عن الفقهاء السبعة قال في المسوى: وعليه أكثر أهل العلم في الجملة ولهم في التفاصيل اختلاف "ويحرم الإنتفاع بشئ من الغنيمة قبل القسمة إلا(2/345)
الطعام والعلف" لحديث رويفع ابن ثابت عند أحمد وأبي داود والدارمي والطحاوي وابن حبان "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "لا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتناول مغنما حتى يقسم ولا يلبس ثوبا من فئ المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه ولا أن يركب دابة من فئ المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه" وفي إسناده محمد بن إسحق وفيه مقال معروف وقال ابن حجر: إن رجال إسناده ثقات وقال أيضا: إن إسناده حسن وأخرج البخاري من حديث ابن عمر قال: "كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب فنأكله ولا نرفعه" زاد أبو داود "فلم يؤخذ منهما الخمس" وصحح هذه الزيادة ابن حبان وأخرج أبو داود والبيهقي وصححه من حديث ابن عمر أيضا "أن جيشا غنموا في زمن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم طعاما وعسلا فلم يأخذوا منهم الخمس" وأخرج مسلم وغيره من حديث عبد الله ابن مغفل قال: أصبت جرابا من شحم يوم خيبر فالتزمته فقلت: لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا فالتفت فإذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم متبسما وأخرج أبو داود والحاكم والبيهقي من حديث ابن أبي أوفى قال: "أصبنا طعاما يوم خيبر وكان الرجل يجيء فيأخذ منه مقدار ما يكفيه ثم ينطلق" وأخرج أبو داود من حديث القاسم مولى عبد الرحمن عن بعض أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "كنا نأكل الجزر في الغزو ولا نقسمه حتى إن كنا لنرجع إلى رحالنا وأخرجتنا مملوءة منه" وقد تكلم في القاسم غير واحد وقد ذهب إلى جواز الانتفاع بالطعام والعلف للدواب بغير قسمة الجمهور سواء أذن الإمام أو لم يأذن وقال الزهري: لا يأخذ شيئا من الطعام ولا غيره وقال سليمان بن موسى يأخذ إلا أن ينهى الإمام قال مالك في الموطأ: لا أرى بأسا أن يأكل المسلمون إذا دخلوا أرض العدو من طعامهم ما وجدوا من ذلك كله قبل أن تقع في المقاسم وقال أيضا: أنا أرى الإبل والبقر والغنم بمنزلة الطعام يأكل منه المسلمون إذا دخلوا أرض العدو كما يأكلون من الطعام وقال: ولو أن ذلك لا يؤكل حتى يحضر الناس المقاسم ويقسم بينهم أضر ذلك بالجيوش قال: فلا أرى بأسا بما أكل من ذلك كله على وجه المعروف والحاجة إليه ولا أرى أن يدخر ذلك شيئا يرجع به إلى أهله قلت: وعليه أهل العلم "ويحرم الغلول" لحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما في قصة العبد(2/346)
الذي أصابه سهم فقال الصحابة: هنيئا له الشهادة يا رسول الله فقال: "كلا والذي نفس محمد بيده إن الشعلة لتلتهب عليه نارا أخذها من الغنائم يوم خيبر لم تصبها المقاسم قال: ففزع الناس فجاء رجل بشراك أو شراكين فقال يا رسول الله: أصبت هذا يوم خيبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شراك من نار أو شراكان من نار" وأخرج مسلم من حديث عمر بن الخطاب قال: "لما كان يوم خيبر قتل نفر من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقالوا: فلان شهيد وفلان شهيد وفلان شهيد حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "كلا إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة" وأخرج البخاري وغيره من حديث ابن عمر قال: "كان على ثقل النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم رجل يقال له كركرة1 فمات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هو في النار فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها" وقد قال الله سبحانه {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وثبت في البخاري وغيره من حديث أبي هريرة "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته فرس على رقبته شاة" الحديث وقد نقل النووي الإجماع على أنه من الكبائر وقد ورد في تحريق متاع الغال ما أخرجه أبو داود والحاكم والبيهقي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأبا بكر وعمر حرقوا متاع الغال وضربوه" وفي إسناده زهير بن محمد الخرساني2 وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم والبيقهي من حديث عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وجدتم الغال قد غل فأحرقوا متاعه واضربوه" وفي إسناده صالح بن محمد بن زائدة تكلم فيه غير واحد3 "ومن جملة الغنيمة الأسرى" ولا خلاف
__________
1اختلف في ضبطه فقيل بفتح الكافين وقيل بكسرهما وقال النووي: إنما اختلف في كافه الأولى وأما الثانية فهي مكسورة اتفاقا.
2زهير ثقة وإنما أنكروا عليه بعض أحاديث وقد روى له الجماعة كلهم وإنما شك في هذا الحديث البيهقي فقد ظن أن زهيرا هنا غير زهير بن محمد الخراساني التميمي وزعم أنه مجهول ولكن الحديث ثابت عن الخراساني. انظر عون المعبود"3: 22"والجوهر النقي في الرد على البيهقي ج 2ص 20.
3 وقد صححه الحاكم ووافقه الذهبي. وقال البخاري: هو باطل ليس بشئ. وقال الدارقطني أنكروا هذا الحديث على صالح بت محمد وهذا حديث لم يتابع عليه ولا أصل لهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. انظر المستدرك "ج 2: 127" وعون المعبود "ج 3" 21".(2/347)
في ذلك "ويجوز القتل أو الفداء أو المن" لقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} وقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم القتل للأسرى وأخذ الفداء منهم والمن عليهم ثبوتا متواترا في وقائع ففي يوم بدر قتل بعضهم وأخذ الفداء من غالبهم وأخرج البخاري من حديث جبير بن مطعم "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أسارى بدر: "لو كان مطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له" وفي مسلم من حديث أنس "أنه صلى الله عليه وسلم أخذ الثمانين النفر الذي هبطوا عليه وأصحابه من جبال التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوهم ثم إن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أعتقهم فأنزل الله عز وجل {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} الآية" وقد ذهب الجمهور إلى أن الإمام يفعل ما هو الأحوط للإسلام والمسلمين في الأسارى فيقتل أو يأخذ الفداء أو يمن وقال الزهري ومجاهد وطائفة لا يجوز أخذ الفداء من أسرى الكفار أصلا وعن الحسن وعطاء لا يقتل الأسير بل يتخير بين المن والفداء وعن مالك لا يجوز المن بغير فداء وعن الحنفية لا يجوز المن أصلا لا بفداء ولا بغيره.
"فصل ويجوز استرقاق العرب" لأن الأدلة الصحيحة قد دلت على جواز استرقاق الكفار من غير فرق بين عربي وعجمي وذكر وأنثى ولم يقم دليل يصلح للتمسك قط في تخصيص أسر العرب بعدم جواز استرقاقهم بل الأدلة قائمة متكاثرة على أن حكمهم حكم سائر المشركين منها حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما "أنها كانت عند عائشة سبية من بني تميم فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: أعتقيها فإنها من ولد إسمعيل" وأخرج البخاري وغيره "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: حين جاء وفد هوازن مسلمين فسألوه أن يرد عليهم أموالهم وسبيهم فقال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "أحب الحديث إلي أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين إما السبي وإما المال" الحديث وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر "أن جويرية بنت الحرث من سبي بني المصطلق كاتبت عن نفسها ثم تزوجها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على أن يقضي كتابتها فلما تزوجها قال الناس أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلوا ما بأيديهم(2/348)
من السبي" وأخرجه أحمد من حديث عائشة وقد ذهب إلى جواز استرقاق العرب الجمهور وحكى في البحر عن الحنفية أنه لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف واستدل بقوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} الآية ولا يخفى أنه لا دليل في الآية على المطلوب ولو سلم ذلك كان ما وقع منه صلى الله عليه وسلم مخصصا لذلك وقد صرح القرآن الكريم بالتخيير بين المن والفداء فقال: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} ولم يفرق بين عربي وعجمي واستدلوا أيضا بما أخرجه الشافعي والبيهقي "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين لو كان الاسترقاق جائزا على العرب لكان اليوم إنما هو أسرى "وفي إسناده الواقدي وهو ضعيف جدا ورواه الطبراني من طريق أخرى فيها يزيد بن عياض وهو أشد ضعفا من الواقدي وقد أخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الفدية من ذكور العرب في بدر وهو فرع الاسترقاق أقول: قد سبى صلى الله عليه وسلم جماعة من بني تميم وأمر عائشة أن تعتق منهم كما تقدم وبالغ صلى الله عليه وسلم فقال: من فعل كذا فكأنما أعتق رقبة من ولد إسمعيل وقال لأهل مكة: "اذهبوا فأنتم الطلقاء" والحاصل: أن الواجب الوقوف على ما دلت عليه الأدلة الكثيرة الصحيحة من التخيير في كل مشرك بين القتل والمن والفداء والاسترقاق فمن ادعى تخصيص نوع منهم أو فرد من أفرادهم فهو مطالب بالدليل وأما أسر نساء العرب فالأمر أظهر من أن يذكر والوقائع في ذلك ثابتة في كتب الحديث الصحيحين وغيرهما وفي كتب السير جميعها "وقتل الجاسوس" لحديث سلمة بن الأكوع عند البخاري وغيره قال: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم عين وهو في سفر فجلس عند بعض أصحابه يتحدث ثم انسل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اطلبوه فاقتلوه" فسبقتهم إليه فقتلته فنفلني سلبه. وهو متفق على قتل الجاسوس الحربي وأما المعاهد والذمي فقال مالك والأوزاعي: ينتقض عهده بذلك وأخرج أحمد وأبو داود عن فرات بن حيان أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتله وكان عينا لأبي سفيان وحليفا لرجل من الأنصار فمر بحلقة من الأنصار فقال: إني مسلم فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله إنه يقول إنه مسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن منكم رجالا نكلهم إلى إيمانهم منهم فرات بن حيان" وفي إسناده أبو همام الدلال(2/349)
محمد بن محبب ولا يحتج بحديثه1 وهو يرويه عن سفيان ولكنه قد روى الحديث المذكور عن سفيان بشر بن السري البصري وهو ممن اتفق على الاحتجاج به البخاري ومسلم2 ورواه عن الثوري أيضا عباد بن موسى الأزرق العباداني وهو ثقة "وإذا أسلم الحربي قبل القدرة عليه أحرز أمواله" لحديث صخر بن عيلة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أسلم الرجل فهو أحق بأرضه وماله" أخرجه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات وفي لفظ "إن القوم إذا أسلموا أحرزوا أموالهم ودماءهم "وأخرج أبو يعلى من حديث أبي هريرة مرفوعا "من أسلم على شئ فهو له" وضعفه ابن عدي بياسين الزيات الراوي له عن أبي هريرة قال البيهقي: وإنما يروى عن ابن أبي مليكة وعن عروة مرسلا وقد أخرجه عن عروة مرسلا سعيد بن منصور برجال ثقات "أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر بني قريظة فأسلم ثعلبة وأسيد ابن سعيه3 فأحرز لهما إسلامهما أموالهما وأولادهما الصغار "ومما يدل على ذلك الحديث الصحيح الثابت من طرق أنه صلى الله عليه وسلم قال: "فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " وقد ذهب الجمهور إلى أن الحربي إذا أسلم طوعا كانت جميع أمواله في ملكه ولا فرق بين من أسلم في دار الحرب أو دار الإسلام "وإذا أسلم عبد الكافر صار حرا" لحديث ابن عباس عند أحمد وابن أبي شيبة قال: "أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الطائف من خرج إليه من عبيد المشركين" وأخرجه أيضا سعيد بن منصور مرسلا قصة أبي بكرة في تدليه من حصن الطائف مذكورة في صحيح البخاري ورواها أبو داود عن الشعبي عن رجل من ثقيف قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد إلينا أبا بكرة وكان مملوكنا فأسلم قبلنا فقال: "لا هو طليق الله ثم طليق رسوله" وأخرج أبو داود والترمذي وصححه من حديث علي قال: "خرج عبدان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني يوم الحديبية قبل الصلح فكتب إليه
__________
1 أبو همام وثقه أبو حاتم وأبو داود والحاكم والبغوي. وإنما زعم ذلك المنذري.
2 رواية بشر رواها في مسنده عن علي بن المديني عن بشر "ج 4: 336" وإسناده صحيح جدا.
3 أسيد بفتح الهمزة وكسر السين ويروى "أسد" بالتكبير. ورواه ابن اسحاق في السيرة "أسد" بالتصغير وخطأه الذهبي في المشتبه. و"سعيه" بفتح السين وإسكان العين وفتح الياء المثناة وآخره هاء. وقيل "سعنة" بالنون وهو خطأ وثعلبة أخو أسيد فصواب العبارة "فأسلم ثعلبة وأسيد ابنا سعية".(2/350)
مواليهم فقالوا: ولله يا محمد ما خرجوا إليك رغبة في دينك وإنما خرجوا هربا من الرق فقال ناس: صدقوا يا رسول الله ردهم إليهم فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا وأبى أن يردهم وقال: هم عتقاء الله عز وجل" وأخرج أحمد عن أبي سعيد الأعشم قال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبد إذا جاء فأسلم ثم جاء مولاه فأسلم أنه حر وإذا جاء المولى ثم جاء العبد بعد ما أسلم مولاه فهو أحق به" وهو مرسل
والأرض المغنومة أمرها إلى الإمام فيفعل الأصلح من قسمتها أو تركها مشتركة بين الغانمين أو بين جميع المسلمين لأن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قسم أرض قريظة والنضير بين الغانمين وقسم نصف أرض خيبر بين المسلمين وجعل النصف الآخر لمن ينزل به من الوفود والأمور ونوائب الناس كما أخرجه أحمد وأبو داود من حديث بشير ابن يسار عن رجال من الصحابة وأخرج نحوه أيضا أبو داود من حديث سهل بن أبي حثمة وقد ترك الصحابة ما غنموه من الأراضي مشتركة بين جميع المسلمين يقسمون خراجها بينهم وقد ذهب إلى ما ذكرناه جمهور الصحابة ومن بعدهم وعمل عليه الخلفاء الراشدون وأخرج مسلم وغيره من حديث أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "أيما قرية أتيتموها فأقمتم فيها فسهمكم فيها وأيما قرية عصت الله ورسوله فإن خمسها لله ورسوله ثم هي لكم" أقول: قسمة الأموال المجتمعة للمسلمين من خراج ومعاملة وجزية وصلح وغير ذلك ينبغي تفويض قسمتها إلى الإمام العادل الذي يمحض النصح لرعيته ويبذل جهده في مصالحهم فيقسم بينهم ما يقوم بكفايتهم ويدخر لحوادثهم ما يقوم بدفعها ولا يلزمه في ذلك سلوك طريق معينة سلكها السلف الصالح فإن الأحوال تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة فإن رأى الصلاح في تقسيم ما حصل في بيت المال في كل عام فعل وإن رأى الصلاح في تقسيمه في الشهر أو الأسبوع أو اليوم فعل ثم إذا فاض من بيت مال المسلمين على ما يقوم بكفايتهم وما يدخر لدفع ما ينوبهم جعل ذلك في مناجزة الكفرة وفتح ديارهم وتكثير جهات المسلمين وفي تكثير الجيوش والخيل والسلاح فإن تقوية جيوش المسلمين هي الأصل الأصيل في دفع المفاسد والخيل والسلاح وجلب المصالح ومن أعظم موجبات تكثير بيت المال وتوسيع دائرته العدل في الرعية(2/351)
وعدم الجور عليهم والقبول من محسنهم والتجاوز عن مسيئهم هذا معلوم بالاستقراء في جميع دول الإسلام والكفر فما عدل ملك في رعيته إلا ونال بعدله أضعاف أضعاف ما يناله الجائر يحوره مع ما في العدل من السلامة من انتقام الرب عز وجل في هذه الدار أو في دار الآخرة فإنها جرت عادة الله سبحانه بمحق نظام الظلم وخراب بنيانه وهدم أساسه حتى صارت دول الظلمة من أعظم العبر للمعتبرين فإنه لا بد أن يحل بهم من نكال الله وسخطه ما يعرفه من له فطنة واعتبار وتفكر ومن نظر في تواريخ الدول رأى من هذا ما يقضي منه العجب. فالحاصل: أن الظالم ممن خسر الدنيا والآخرة أما خسران الآخرة فواضح معلوم من هذه الشريعة بالضرورة وأما خسران الدنيا فهو وإن تم له منها نصيب نزر فهو على كدر وتخوف ونغص وتحيل ووحشة من رعيته فلا يزال متوقعا لزوال ملكه في كل وقت بسبب ما قد فعله بهم وهم مع ذلك على بغضه وهو منطو على بغضهم وينضم إلى ذلك كله تناقص الأمر وخراب البلاد وهلاك الرعية وفقر أغنيائهم ففي كل عام هو في نقص مع ما جرت به عادة الله عز وجل من قصم الظلمة وهلاكهم في أيسر مدة فأقل الملوك مدة أشدهم بطشا وأكثرهم ظلما وهذا هو الغالب وما خالفه فنادر فأين حال هؤلاء الظلمة في الدين والدنيا من حال الملوك العادلين بالرعية المحبوبين عندهم الممتعين بلذة العدل مع لذة العيش الصافي عن كدر المخاوف التي لا يأمن الظلمة هجومها عليهم في كل وقت ولو لم يكن من ذلك كله إلا الأمن من عقاب الله وانتقامه بل الرجاء في ثوابه وجزيل إفضاله وما وعد به العادلين في الآخرة مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر لكان مغنيا "ومن أمنه أحد المسلمين صار آمنا" لحديث علي عند أحمد وأبي داود والنسائي والحاكم عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم" وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا بلفظ "يد المسلمين على من سواهم تتكافأ دماؤهم ويجير عليهم أدناهم ويرد عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم" وأخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر مطولا وأخرجه ابن ماجه من حديث معقل بن يسار مختصرا بلفظ "المسلمون يد على من سواهم تتكافأ دماؤهم"(2/352)
وأخرجه الحاكم من حديث أبي هريرة مختصرا أيضا وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة أيضا بلفظ "إن ذمة المسلمين واحدة فمن أحقر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" وهو في الصحيحين من حديث علي وأخرجه البخاري من حديث أنس وفي الباب أحاديث وقد أجمع أهل العلم على أن من أمنه أحد المسلمين صار آمنا قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على جواز أمان المرأة انتهى وأما العبد فأجاز أمانه الجمهور وأما الصبي فقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن أمان الصبي غير جائز انتهى وأما المجنون فلا يصح أمانه بلا خلاف قلت: إنما يصح الأمان من آحاد المسلمين إذا أمن واحد أو اثنين فأما عقد الأمان لأهل ناحية على العموم فلا يصح إلا من الإمام على سبيل الاجتهاد وتحري المصلحة كعقد الذمة ولو جعل ذلك آحاد الناس صار ذريعة إلى إبطال الجهاد "والرسول كالمؤمن لحديث ابن مسعود عند أحمد وأبي داود والنسائي والحاكم "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال لرسولي مسلمة: "لو كنت قاتلا رسولا لقتلتكما" وأخرج أحمد وأبو داود من حديث نعيم بن مسعود الأشجعي "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال لهما: "والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما" وقد أخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان وصححه "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال لأبي رافع لما بعثه قريش إليه فقال: يا رسول الله لا أرجع إليهم فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد ولكن ارجع إليهم فإن كان في قلبك الذي فيه الآن يعني الإسلام فارجع " "وتجوز مهادنة الكفار" وملوكهم وقبائلهم إذا اجتهد الإمام وذوو الرأي من المسلمين فعرفوا نفع المسلمين في ذلك ولم يخافوا من الكفار مكيدة "ولو بشرط وإلى أجل أكثره عشر سنين" لحديث أنس عند مسلم وغيره "أن قريشا صالحوا النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فاشترطوا عليه أن من جاء منكم لا نرده عليكم ومن جاء منا رددتموه علينا فقالوا يا رسول الله: أنكتب1 هذا؟ قال: "نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاء منهم سيجعل
__________
1 بالنون كما في صحيح مسلم طبع الآستانة.(2/353)
الله له فرجا ومخرجا" وهو في البخاري وغيره من حديث المسور بن مخرمة ومروان مطولا وفيه أن مدة الصلح بينه صلى الله عليه وسلم وبين قريش عشر سنين وقد اختلف أهل العلم في جواز مصالحة الكفار على رد من جاء منهم مسلما وفعله صلى الله عليه وسلم قد دل على جواز ذلك ولم يثبت ما يقتضي نسخه وأما قدر مدة الصلح فذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز أن يكون أكثر من عشر سنين لأن الله سبحانه قد أمرنا بمقاتلة الكفار في كتابه العزيز فلا يجوز مصالحتهم بدون شئ من جزية أو نحوها ولكنه لما وقع ذلك من النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان دليلا على الجواز إلى المدة التي وقع الصلح عليها ولا تجوز الزيادة عليها رجوعا إلى الأصل وهو وجوب مقاتلة الكفار ومناجزتهم الحرب وقد قيل إنها لا تجوز مجاوزة أربع سنين وقيل ثلاث سنين وقيل لا تجوز مجاوزة سنتين "ويجوز تأييد المهادنة بالجزية" لما تقدم من أمره صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بدعاء الكفار إلى إحدى ثلاث خصال منها الجزية وحديث عمرو بن عوف الأنصاري في الصحيحين وغيرهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم هو صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي" وأخرج أبو عبيد عن الزهري مرسلا قال: "قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية من أهل البحرين وكانوا مجوسا" وأخرج أبو داود من حديث أنس "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بعث خالدا إلى أكيد ردومة فأخذوه فأتوا به فحقن دمه وصالحه على الجزية" وأخرج أبو عبيد في كتاب الأموال عن الزهري "أن أول من أعطى الجزية أهل نجران وكانوا نصارى" وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم على أهل اليمن على كل حالم دينارا كل سنة أو قيمته من المعافري يعني أهل الذمة منهم رواه الشافعي في مسنده عن عمر بن عبد العزيز وهو ثابت في حديث معاذ المشهور عند أبي داود وأخرج البخاري وغيره من حديث المغيرة بن شعبة" أنه قال لعامل كسرى أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية" وأخرج البخاري عن ابن أبي نجيح قال: قلت لمجاهد ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينار؟ قال جعل ذلك من قبيل اليسار وقد وقع الاتفاق على أنها تقبل الجزية من كفار العجم من اليهود والنصارى والمجوس قال مالك(2/354)
والأوزاعي وفقهاء الشام: إنها تقبل من جميع الكفار من العرب وغيرهم وقال الشافعي: إن الجزية تقبل من أهل الكتاب عربا كانوا أو عجما ويلحق بهم المجوس في ذلك وقد استدل من لم يجوز أخذها إلا من العجم فقط بما وقع في حديث ابن عباس عند أحمد والترمذي وحسنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقريش: "أنه يريد منهم كلمة تدين لهم بها العرب ويؤدي إليهم بها العجم الجزية" يعني كلمة الشهادة وليس هذا مما ينفي أخذ الجزية من العرب ولا سيما مع قوله صلى الله عليه وسلم في حديث سليمان بن بريدة المتقدم "وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال" وفيها الجزية قال في المسوى في باب أخذ الجزية من أهل الكتاب: قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} قلت: عليه أهل العلم في الجملة وقال الشافعي: الجزية على الأديان لا على الأنساب فتؤخذ من أهل الكتاب عربا كانوا أو عجما ولا تؤخذ من أهل الأوثان والمجوس لهم شبهة كتاب وقال أبو حنيفة: لا يقبل من العرب إلا الإسلام أو السيف وفي حديث ابن شهاب "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس البحرين وأن عمر بن الخطاب أخذها من البربر" وفي حديث جعفر بن علي بن محمد بن أبيه "أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس فقال ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهم: سنوا بهم سنة أهل الكتاب" قلت: وعليه أهل العلم قال مالك: مضت السنة أن لا جزية على نساء أهل الكتاب ولا على صبيانهم وأن الجزية لا تؤخذ إلا من الرجال الذين قد بلغوا الحلم قلت وعليه أهل العلم وأما قدرها فضرب عمر بن الخطاب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الورق أربعين درهما مع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام قلت: قد صح من حديث معاذ "بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافريا" فاختلفوا في الجمع بينه وبين حديث عمر فقال الشافعي: أقل الجزية دينار على كل بالغ في كل سنة ويستحب للإمام المماكسة ليزداد ولا يجوز أن ينقص من دينار وأن الدينار مقبول من الغني والمتوسط والفقير وتأول أبو حنيفة حديث عمر على الموسرين وحديث معاذ على الفقراء لأن(2/355)
أهل اليمن أكثرهم فقراء فقال: على موسر أربعة دنانير وعلى كل متوسط ديناران وعلى كل فقير دينار وعن عمر بن عبد العزيز من مر بك من أهل الذمة فخذ بما يديرون به من التجارات من كل عشرين دينارا فما نقص فبحساب ذلك حتى يبلغ عشرة دنانير فإن نقصت ثلث دينار فدعها ولا تأخذ منها شيئا واكتب لهم بما تأخذ منهم كتابا إلى مثله من الحول قلت: عليه أبو حنيفة وقال الشافعي: الذي يلزم اليهود والنصارى من العشور هو ما صولحوا وقت عقد الذمة وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله أن يضعوا الجزية عمن أسلم من أهل الجزية حين يسلمون قلت عليه أبو حنيفة وقال الشافعي: لا تسقط بالإسلام ولا بالموت لأنه دين حل عليه كسائر الديون انتهى "ويمنع المشركون وأهل الذمة من السكون من1 جزيرة العرب" لحديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أوصى عند موته بثلاث: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ونسيت الثالثة" والشك من سليمان الأحول وأخرج مسلم وغيره من حديث عمر "أنه سمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول: "لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلما" وأخرج أحمد من حديث عائشة "أن آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: " لا يترك بجزيرة العرب دينان" وهو من رواية ابن إسحق قال: حدثني صالح بن كيسان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عنها والأدلة هذه قد دلت على إخراج كل مشرك من جزيرة العرب سواء كان ذميا أو غير ذمي وقيل إنما يمنعون من الحجاز فقط استدلالا بما أخرجه أحمد والبيهقي من حديث أبي عبيدة بن الجراح قال: "آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب" وهذا لا يصلح لتخصيص العام لما تقرر في الأصول من أن التخصيص بموافق العام لا يصح وقد حكى ابن حجر في فتح الباري عن الجمهور أن الذي تمنع منه المشركون من جزيرة العرب هو الحجاز خاصة قال: وهو مكة والمدينة واليمامة وما والاها لا فيما سوى ذلك مما يطلق عليه اسم الجزيرة وعن الحنفية يجوز مطلقا إلا المسجد الحرام وعن مالك يجوز دخولهم الحرم للتجارة
__________
1 سكن يتعدي بنفسه وبالباء وبفي وأما بمن فلم أره ولا أظنه صحيحا بل هو استعمال ينبو عن كلام الفصحاء.(2/356)
وقال الشافعي: لا يدخلون الحرم أصلا إلا بإذن الإمام أقول: الأحاديث مصرحة بإخراج اليهود من جزيرة العرب وذكر الحجاز هو من التنصيص على بعض أفراد العام لا من تخصيصه لأنه قد تقرر في الأصول أن مفاهيم اللقب لا يجوز العمل بها إجماعا إلا عند الدقاق ولفظ الحجاز يدل على أن غيره من موضع الجزيرة يخالفه بمفهوم لقبه هذا هو الصواب الذي ينبغي التعويل عليه وقد جمع المغربي مؤلف شرح بلوغ المرام رسالة رجح فيها التخصيص وقد دفعها الماتن رحمه الله بأبحاث ليس هذا موضع ذكرها قال في المسوى في باب لا يدخل المسجد الحرام كافر: قال الله تعالى: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} قلت: قوله {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} معناه المسجد الحرام وما حوله من الحرم يدل عليه قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} وعليه أهل العلم قالوا لا يجوز لكافر أن يدخل الحرم بحال سواء كان ذميا أو لم يكن وإذا جاء رسول من دار الكفر إلى الإمام وهو في الحرم فلا يأذن في دخوله بل يخرج الإمام إليه أو يبعث من يسمع رسالته قلت: قد صح في غير حديث أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أدخل الكفار في مسجده من ذلك ربط ثمامة بن أثال بسارية من سواري المسجد فقال الشافعي: لا يدخلون المسجد إلا بإذن مسلم وقال آخرون يجوز له الدخول ولو بغير إذن وتأويل الآية على قولهم أنهم أخيفوا بالجزية أقول: لا ريب أن مواطن العبادة المعدة للمسلمين ينبغي تنزيهها من أدران المشركين فهم الذين لا يتطهرون من جنابة ولا يغتسلون من نجاسة فإن كان تلويثهم لمساجد المسلمين بالنجاسات او استهزاؤهم بالعبادة مظنونا فذلك مفسدة وكل مفسدة ممنوعة ما لم يعارضها مظنة إسلام من دخل منهم المسجد لما يسمعه ويراه من المسلمين فإن تلك المفسدة مغتفرة بجنب هذه المصلحة التي لا يقادر قدرها وأما إذا كان تلويثهم المسجد غير مظنون فلا وجه للمنع ولا سيما قد تقرر أنه صلى الله عليه وسلم كان ينزل كثيرا من وفود المشركين مسجده الشريف وهو أفضل من غيره من المساجد غير المسجد الحرام ثم قال في المسوى: قال مالك قال ابن شهاب: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلى يهود خيبر" قال مالك: وقد أجلى عمر بن الخطاب يهود نجران وفدك(2/357)
فأما يهود خيبر فخرجوا منها ليس لهم من الثمر ولا من الأرض شئ وأما يهود فدك فكان لهم نصف الثمر ونصف الأرض لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان صالحهم على نصف الثمر ونصف الأرض فأقام لهم عمر بن الخطاب نصف الثمر ونصف الأرض قيمته من ذهب وورق وإبل وحبال وأقتاب ثم أعطاهم القيمة وأجلاهم منها قلت: عليه أهل العلم قالوا الحجاز يجوز للكافر دخولها بالإذن ولا يقيم بها أكثر من مقام السفر فإن عمر رضي الله تعالى عنه لما أجلاهم أجل لمن يقدم منهم تاجرا ثلاثا انتهى.
"فصل ويجب قتال البغاة حتى يرجعوا إلى الحق" لقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} فأوجب الله سبحانه قتال الطائفة الباغية حتى ترجع إلى أمر الله ولا فرق بين أن يكون البغي من بعض المسلمين على إمامهم أو على طائفة منهم قال في المسوى: قال الواحدي والبغوي وغيرهما: نزلت هذه الآية في ضرب كان بينهم بالجريد والأيدي والنعال فأصلح النبي صلى الله عليه وسلم بينهم والظاهر أنها في قتال ومضاربة يكون في الغضب بين المسلمين حيث يكون حكم الله تعالى معلوما لقوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} وليست في البغاة وهم الذين لهم منعة وشبهة فنصّبوا رئيسا وخرجوا على الإمام العدل إذ ليس هناك قاطع يطلب منهم الفيء إليه بل كل فرقة منهما تدعي أن ما ذهبت إليه هو الحق الموافق لكتاب الله وإنما يستفاد حكم البغاة من آثار علي رضي الله تعالى عنه حين قاتل أهل البصرة وأهل الشام وأهل النهروان وهذا أحسن ما فهمت في هذه الآية والعلم عند الله تعالى انتهى أقول: اعلم أن هذا الفصل مستفاد من اجتهادات الصحابة رضي الله عنهم وأكثر من روي عنه في ذلك علي كرم الله وجهه ولم يثبت في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم شئ إلا حديث ابن مسعود الآتي وقد ضعفه جماعة من المسلمين وقد أجمع المسلمون على بعض الأحكام كعدم جواز سبي البغاة. والحاصل: أن أصل دم المسلم وماله العصمة ولم يأذن الله عز وجل بسوى قتال الطائفة الباغية حتى تفيء فيجب الاقتصار على هذا ويكون الجائز قتال من لم يحصل منه الفيء وإن كان جريحا أو(2/358)
منهزما من غير فرق بين من له فئة ومن لا فئة له ما دام مصرا على بغيه وأما المال فلا يجوز أخذ شئ منه هذا ما عندي في ذلك فإن ثبت ما يخالفه فالثابت شرعا أولى بالاتباع "ولا يقتل أسيرهم ولا يتبع مدبرهم ولا يجاز على جريحهم ولا تغنم أموالهم" لما أخرجه الحاكم والبيهقي عن ابن عمر "أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال لابن مسعود: " يا ابن أم عبد ما حكم من بغى من أمتي قال: الله ورسوله أعلم فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: لا يتبع مدبرهم ولا يجهز على جريحهم ولا يقتل أسيرهم" وفي لفظ "ولا يذفف على جريحهم ولا يغنم منهم" سكت عنه الحاكم وقال ابن عدي: هذا الحديث غير محفوظ وقال البيهقي: ضعيف وقال صاحب بلوغ المرام إن الحاكم صححه فوهم لأن في إسناده كوثر بن حكيم وهو متروك1 وصح عن علي من طرق نحوه موقوفا والصحيح أنه نادى بذلك منادي علي يوم صفين ولم يثبت الرفع وأخرج ابن أبي شيبة والحاكم والبيهقي من طريق عبد خير عن علي بلفظ "نادى منادي علي يوم الجمل ألا لا يتبع مدبرهم ولا يذفف على جريحهم" وأخرج سعيد بن منصور عن مروان بن الحكم قال: "صرخ صارخ لعلي يوم الجمل لا يقتلن مدبر ولا يذفف على جريح ومن أغلق بابه فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن" وأخرج أحمد في رواية الأثرم واحتج به عن الزهري قال: "هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون فأجمعوا أن لا يقاد أحد ولا يؤخذ مال على تأويل القرآن إلا ما وجد بعينه" وأخرج البيهقي عن أبي أمامة قال:" شهدت صفين فكانوا لا يجيزون على جريح ولا يقتلون موليا ولا يسلبون قتيلا" وأخرج البيهقي عن علي أنه قال يوم الجمل: "إن ظفرتم على القوم فلا تطلبوا مدبرا ولا تجيزوا على جريح وانظروا إلى ما حضروا به الحرب من آلة فاقبضوه وما سوى ذلك فهو لورثتهم" قال البيهقي: هذا منقطع والصحيح أنه لم يأخذ شيئا ولم يسلب قتيلا ويؤيد جميع هذه الآثار أن الأصل في دماء المسلمين وأموالهم الحرمة فلا يحل شئ منها إلا بدليل شرعي والمراد بالإجازة على الجريح والإجهاز والتذفيف
__________
1وكذلك قال الذهبي في مختصر المستدرك انظر المستدرك "ج 2ص 155".(2/359)
أن يتمم قتله ويسرع فيه وما حكاه الزهري من الإجماع على عدم القود يدل على أنه لا قصاص في أيام الفتنة وقد أخرج هذا الأثر عن الزهري البيهقي بلفظ "هاجت الفتنة الأولى فأدركت يعني الفتنة رجالا ذوي عدد من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ممن شهد معه بدرا وبلغنا أنهم يرون أن هذا أمر الفتنة لا يقام فيها على رجل قاتل في تأويل القرآن قصاص فيمن قتل ولا حد في سبي امرأة سبيت ولا يرى عليها حد ولا بينهما وبين زوجها ملاعنة ولا يرى أن يقذفها أحد إلا جلد الحد ويرى أن ترد إلى زوجها الأول بعد أن تعتد عدتها من زوجها الآخر ويرى أن يرثها زوجها الأول" انتهى قال في البحر: ولا يجوز سبيهم ولا اغتنام ما لم يجلبوا به إجماعا لبقائهم على الملة وحكى عن النفس الزاكية والحنفية والشافعية أنه لا يغنم منهم شئ أقول: وأما الكلام فيمن حارب عليا كرم الله وجهه فلا شك ولا شبهة أن الحق بيده في جميع مواطنه أما طلحة والزبير ومن معهم فلأنهم قد كانوا بايعوه فنكثوا بيعته بغيا عليه وخرجوا في جيوش من المسلمين فوجب عليه قتالهم وأما قتاله للخوراج فلا ريب في ذلك والأحاديث المتواترة قد دلت على أنه يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية وأما أهل صفين فبغيهم ظاهر لو لم يكن في ذلك إلا قوله صلى الله عليه وسلم لعمار: "تقتلك الفئة الباغية" لكان ذلك مفيدا للمطلوب ثم ليس معاوية ممن يصلح لمعارضة علي ولكنه أراد طلب الرياسة والدنيا بين قوم أغتام1 لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا فخادعهم بأنه طلب بدم عثمان فنفق ذلك عليهم وبذلوا بين يديه دمائهم وأموالهم ونصحوا له حتى كان يقول علي لأهل العراق أنه يود أن يصرف العشرة منهم بواحد من أهل الشام صرف الدراهم بالدينار وليس العجب من مثل عوام الشام إنما العجب ممن له بصيرة ودين كبعض الصحابة المائلين إليه وبعض فضلاء التابعين فليت شعري أي أمر اشتبه عليهم في ذلك الأمر حتى نصروا المبطلين وخذلوا المحقين وقد سمعوا قول الله تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} وسمعوا الأحاديث المتواترة في تحريم عصيان الأئمة ما لم يروا كفرا بواحا وسمعوا قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمار: "أنه تقتله الفئة الباغية"
__________
1الغتمة بضم الغين المعجمة وإسكان التء عجمة في المنطق. وؤجل أغتم لا يفصح شيئا.(2/360)
ولولا عظيم قدر الصحابة ورفيع فضل خير القرون لقلت: حب الشرف والمال قد فتن سلف هذه الأئمة كما فتن خلفها اللهم1 غفرا ثم اعلم أنه قد جاء القرآن والسنة بتسمية من قاتل المحقين باغيا كما في الآية المتقدمة وحديث عمار بن ياسر المتقدم فالباغي مؤمن يخرج عن طاعة الإمام التي أوجبها الله تعالى على عباده ويقدح عليه في القيام بمصالح المسلمين ودفع مفاسدهم من غير بصيرة ولا على وجه المناصحة فإن انضم إلى ذلك المحاربة وله القيام في وجهه فقد تم البغي وبلغ إلى غايته وصار كل فرد من أفراد المسلمين مطالبا بمقاتلته لقوله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا} الآية وليس القعود عن نصرة الحق من الورع بعد قوله الله عز وجل: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} والحاصل: أنه إذا تبين الباغي ولم يلتبس ولا دخل في الصلح كان القعود عن مقاتلته خلاف ما أمر الله به وأما مع اللبس فلا وجوب حتى يتبين المحق من المبطل لكن يجب السعي في الصلح كما أمر الله به وليس من البغي إظهار كون الإمام سلك في اجتهاده في مسألة أو مسائل طريق مخالفة لما يقتضيه الدليل فإنه ما زال المجتهدون هكذا ولكنه ينبغي لمن ظهر له غلط الإمام أن يناصحه ولا يظهر الشناعة عليه على رؤس الأشهاد بل كما ورد في الحديث أنه يأخذ بيده ويخلو به ويبذل له النصيحة ولا يذل سلطان الله ولا يجوز الخروج على الأئمة وإن بلغوا في الظلم أي مبلغ ما أقاموا الصلاة ولم يظهر منهم الكفر البواح والأحاديث الواردة بهذا المعنى متواترة ولكن على المأموم أن يطيع الإمام في طاعة الله ويعصيه في معصية الله فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وقد ابتلي علي رضي الله عنه بقتال البغاة على اختلاف أنواعهم وإذا كانت الإمامة الإسلامية مختصة بواحد والأمور راجعة إليه مربوطة به كما كان في أيام الصحابة والتابعين وتابعيهم فحكم
__________
1دخل الشارح في مأزق لا قبل له به ولا قوة فيه فماله ومال الصحابة ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه. والحض يري مالا يرى الغائب وهذه الفتن قد تنسي الحليم حلمه. والذكي عقله فلا ندري عذر من كان مع معاوية من الصحابة رضي الله عنهم وقد غلب على الشارح ما يغلب على الأعجام من القذف المزري بأهل الأنصاف وظهور الحجة وتمام الأدلة على أن الحق بجانب علي لا يسيغ لنا أن نحكم بالبغي على الصحابة الذين خالفوه فقد تكون لهم أعذار لا نعلمها ومآل الجميع إلى مولاهم يحاسبهم ويقضي بينهم يوم الفصل والله أعلم.(2/361)
الشرع في الثاني الذي جاء بعد ثبوت ولاية الأول أن يقتل إذا لم يتب عن المنازعة وأما إذا بايع كل واحد منهما جماعة في وقت واحد فليس أحدهما أولى من الآخر بل يجب على أهل الحل والعقد أن يأخذوا على أيديهما حتى يجعل الأمر في أحدهما فإن استمرا على التخالف كان على أهل الحل والعقد أن يختاروا منهما من هو أصلح للمسلمين ولا تخفى وجوه الترجيح على المتأهلين لذلك وأما بعد انتشار الإسلام واتساع رقعته وتباعد أطرافه فمعلوم أنه قد صار في كل قطر أو أقطار الولاية إلى إمام أو سلطان وفي القطر الآخر أو الأقطار كذلك ولا ينفذ لبعضهم أمر ولا نهي في غير قطره أو أقطاره التي رجعت إلى ولايته فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين وتجب الطاعة لكن واحد منهم بعد البيعة على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه وكذلك صاحب القطر الآخر فإذا قام من ينازعه في القطر الذي قد ثبت فيه ولايته وبايعه أهله كان الحكم فيه أن يقتل إذا لم يتب ولا يجب على أهل القطر الآخر طاعته ولا الدخول تحت ولايته لتباعد الأقطار فإنه قد لا يبلغ إلى ما تباعد منها خبر إمامها أو سلطانها ولا يدري من قام منهم أو مات فالتكليف بالطاعة والحال هذه تكليف بما لا يطاق وهذا معلوم لكل من له اطلاع على أحوال العباد والبلاد فإن أهل الصين والهند لا يدرون بمن له الولاية في أرض المغرب فضلا عن أن يتمكنوا من طاعته وهكذا العكس وكذلك أهل ما وراء النهر لا يدرون بمن له الولاية في اليمن وهكذا العكس فاعرف هذا فإنه المناسب للقواعد الشرعية والمطابق لما يدل عليه الأدلة ودع عنك ما يقال في مخالفته فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في أول الإسلام وما هي عليه الآن أوضح من شمس النهار ومن أنكر هذا فهو مباهت لا يستحق أن يخاطب بالحجة لأنه لا يعقلها والله المستعان
"فصل وطاعة الأئمة واجبة إلا في معصية الله" باتفاق السلف الصالح لقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} وللأحاديث المتواترة في وجوب طاعة الأئمة منها: ما أخرجه البخاري من حديث أنس مرفوعا "اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله" وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم "من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى(2/362)
الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني" وفي الصحيحين أيضا من حديث ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم "على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا "ولا يجوز الخروج" بعد ما حصل الاتفاق عليهم ما أقام الصلاة ولم يظهروا كفرا بواحا لحديث عوف بن مالك عند مسلم وغيره قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنوهم ويلعنونكم قال قلنا يا رسول الله: أفلا ننابذهم عند ذلك قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية ولا ينزعن يدا عن طاعة" وأخرج مسلم أيضا وغيره من حديث حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيكم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنسان" قال قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك قال: "تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع" وأخرج مسلم أيضا وغيرهم من حديث عرفجة الأشجعي قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه" وفي الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت قال: "بايعنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان" والبواح بالموحدة والمهملة قال الخطابي: معنى قوله بواحا يريد ظاهرا وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم "من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة فميتته جاهلية" وأخرج نحوه أيضا عن ابن عمر وفي الصحيحين من حديث ابن عمر "من حمل علينا السلاح فليس منا" وأخرجاه أيضا من حديث أبي موسى وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وسلمة بن الأكوع والأحاديث في هذا الباب لا يتسع المقام لبسطها وقد ذهب إلى ما ذكرناه جمهور أهل العلم وذهب بعض أهل العلم إلى جواز الخروج على الظلمة أو وجوبه تمسكا بأحاديث الأمر بالمعروف(2/363)
والنهي عن المنكر وهي أعم مطلقا من أحاديث الباب ولا تعارض بين عام وخاص ويحمل ما وقع من جماعة أفاضل السلف على اجتهاد منهم وهو أتقى لله وأطوع لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ممن جاء بعدهم من أهل العلم قال في الحجة البالغة: ثم إن استولى من لم يجمع الشروط لا ينبغي أن يبادر إلى المخالفة لأن خلعه لا يتصور غالبا إلا بحروب ومضايقات وفيها من المفسدة أشد مما يرجى من المصلحة وبالجملة فإذا كفر الخليفة بإنكار ضروري من ضروريات الدين حل قتاله بل وجب وإلا لا وذلك حينئذ فاتت مصلحة نصبه بل يخاف مفسدته على القوم فكان قتاله من الجهاد في سبيل الله انتهى "ويجب الصبر على جورهم" لما تقدم من الأحاديث وفي الصحيحين من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية" وفيها من حديث أبي هريرة مرفوعا "أعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم" وأخرج أحمد من حديث أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا أبا ذر كيف بك عند ولاة يستأثرون عليكم بهذا الفيء قال والذي بعثك بالحق أضع سيفي على عاتقي وأضرب حتى ألحقك قال: أولا أدلك على ما هو خير لك من ذلك تصبر حتى تلحقني" وفي الباب أحاديث كثيرة "وبذل النصحية لهم" لما ثبت في الصحيح من أن "الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين" من حديث تميم الداري بهذا اللفظ والأحاديث الواردة في مطلق النصيحة متواترة وأحق الناس بها الا "وعليهم" أي على الأئمة "الذب عن المسلمين وكف يد الظالم وحفظ ثغورهم وتدبيرهم بالشرع في الأبدان والأديان والأموال وتفريق أموال الله في مصارفها وعدم الاستئثار بما فوق الكفاية بالمعروف والمبالغة في إصلاح السيرة والسريرة" وذلك معلوم من أدلة الكتابة والسنة التي لا يتسع المقام لبسطها ولا خلاف في وجوبها جميعا على الإمام وهذه الأمور هي التي شرع الله تعالى نصب الأئمة لها فمن أخل من الأئمة والسلاطين بشئ منها فهو غير مجتهد لرعيته ولا ناصح لهم بل غاش خائن وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث معقل بن يسار قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلى حرم الله عليه الجنة" وفي لفظ لمسلم "ما من أمير يلي أمور المسلمين(2/364)
ثم لا يجتهد لهم ولا ينصح لهم إلا لم يدخل الجنة" وأخرج مسلم وغيره من حديث عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به" وبالجملة فعلى الإمام والسلطان أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالخلفاء الراشدين في جميع ما يأتي ويذر فإنه إن فعل ذلك كان له ما لأئمة العدل من الترغيبات الثابتة في الكتاب والسنة وحاصلها الفوز بنعيم الدنيا والآخرة وآخر دعوانا أن الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
"تم والحمد لله رب العالمين الجزء الثاني من الروضة الندية شرح الدرر البهية للصديق بن حسن بن علي الحسيني القنوجي البخاري ملك بهو بال وبه ينتهي الكتاب.(2/365)