وأما قوله: "وبرجوعه" فوجهه ظاهر لأنه رجع قبل الوقت الذي تنفذ فيه الوصية ويستحقها من هي له وهو قوت الموت.
وأما قوله: "أو المجيز في حياته" فوجهه أن إسقاط حقه إنما يستقر بموت الموصي لأنه وقت النفوذ فإذا رجع قبله كان الرجوع صحيحا وإذا رجع بعده لم يصح لأنه مكلف مختار رضي لنفسه فلا يبطل ذلك الرضا بعد وقت الإستقرار وإلا استلزم هذا الرجوع عن الرضا جواز الرجوع عن سائر ما يرضى به الإنسان فلا تستقر معاملة وقد عرفناك أن الرضا هو المعتبر في جميع المعاملات.
وأما قوله: "فيعمل بناقضة الأولى" فوجهه أنه وقع نقض الأولى في الوقت الذي يجوز له فيه أن يرجع لأنه رجوع قبل وقت الإستقرار فكان العمل على ما ثبت الموصي عليه إلى وقت الإستقرار وهو موته.
[فصل
وإنما يتعين وصيا من عينه الميت وقبل وهو حر مكلف عدل ولو متعددا أو إلى من قبل فيجب قبولها كفاية ويغني عن القبول الشروع وتبطل بالرد ولا تعود بالقبول بعده في الحياة إلا بتجديد ولا بعدها إن رد في وجهه ولا يرد بعد الموت من قبل بعده أو قبله إلا في وجهه وتعم وإن سمى معينا ما لم يحجر عن غيره والمشارف والرقيب والمشروط علمه وصي لا المشروط حضوره ولكل منهما أن ينفرد بالتصرف ولو في حضرة الآخر إن لم يشرط الإجتماع ولا تشاجرا] .
قوله: "فصل: وإنما يتعين وصيا من عينه الميت" الخ.
أقول: أما اشتراط القبول فلا بد منه إذ لا يلزم الإنسان الدخول في شيء حتما وأما اشتراط الحرية فلا وجه له بل العبد كالحر إذا أذن له سيده وإذا مات السيد ولم يأذن له المالك الآخر كان ذلك في حكم موت الوصي الحر حيث لم يوص فتكون الولاية للوارث أو للإمام والحاكم على ما سيأتي.
وأما اشتراط التكليف فقد قدمنا في أول كتاب الوصايا وجه ذلك وأما اشتراط أن يكون عدلا فلم يرد ما يدل على اعتبار العدالة في الوصي كما لم يرد اعتبار العدالة في الوكيل والرسول والشريك ونحوهم وقد رضيه الميت لنفسه وأقامه مقامه بعد موته فوجب امتثال ذلك وإذا تصرف تصرفا يخالف الحق فسيأتي أنها تبطل وصايته.
وأما قوله: "ولو متعددا" فليس في هذا نزاع فللموصي أن يوصي إلى الواحد والإثنين والجماعة.(1/928)
وأما قوله: "وإلى من قبل فيجب قبولها كفاية" فلا وجه لهذا الإيجاب بل لكل أحد أن يمتنع من قبولها إذا لم يرد ما يدل على أنه يجب على الإنسان واجب بإيجاب إنسان آخر عليه فإذا لم يقبلها أحد كان ذلك لعدم الوصي من الأصل وسيأتي الكلام فيه.
وأما كونه يغني عن القبول الشروع فوجهه ظاهر لأنه لا يشرع إلا وقد رضي.
وأما كونها تبطل بالرد فوجهه أنه لا يجب على الإنسان أن يدخل نفسه في أعمال لم يوجبها عليه الشرع بل ذلك مفوض إلى اختياره.
وأما قوله: "ولا يعود بالقبول في الحياة إلا بتجديد" فوجهه أن كونه وصيا قد بطل بالرد فلا يعود وصيا إلا بتجديد الوصاية إليه من الموصي وإلا كان ذلك تصرفا في مال الغير بغير مقتض وهو ممنوع لثبوت العصمة لأموال العباد إلا بإذن من الله سبحانه أو من أربابها.
وأما قوله: "ولا بعدها إن رد في وجهه" فقد عرفناك أن الوصاية قد بطلت بالرد ولا فرق بين الرد في وجه الموصي أو في غير وجهه.
وأما قوله: "ولا يرد بعد الموت من قبل بعده" إلخ فلا وجه له لأن استمراره على ذلك لم يجب عليه بإيجاب الشرع ومجرد قبوله لا يستلزم استمراره حتى يقال إنه أوجب ذلك على نفسه فله أن يعزل نفسه متى شاء وكأنه لا وصي من الأصل فيكون لكل وارث ولاية كاملة إن وجد وإلا فللإمام والحاكم كما سيأتي.
قوله: "وتعم وإن سمى معينا".
أقول: لا وجه لهذا لأن التعيين يقتضي قصر إقامته مقام نفسه على ذلك المعين فتصرفه في غيره تصرف في مال الغير بغير إذنه ولا بإذن الشرع إلا أن يفهم ذلك من قصده كان التعميم من حيث القصد لا من حيث تسمية المعين.
قوله: "والمشارف والرقيب والمشروط علمه وصي".
أقول: ليس ها هنا ما يقتضي أن يكون وصيا لا من لفظ ولا قصد وإثبات أحد هذه الأمور لشخص لا يستلزم إثبات ما هو زائد عليها وهو الوصاية المقتضية لما سيأتي من التصرف وغاية ما هنا أنه يكون إلى المشارف المشارفة على التصرفات الواقعة من الوصي فيشير على الموصي بما يستحسنه ويراه صوابا وهكذا الرقيب يكون مراقبا للوصي فيخبر بما وقع منه وليس إليه غير ذلك وأما المشروط علمه فغاية ما هناك أنه لا ينفذ تصرف الوصي حتى يعلم به وإذا علم نفذ وليس له حل ولا عقد ولا إمضاء ولا إبطال إلا أن يظهر من قصد الموصي زيادة على ما تدل عليه هذه الألفاظ كان الإعتبار بالقصد فإذا قصد إثبات الوصاية لكل واحد من هؤلاء كان المؤثر في ذلك هو هذا القصد لا تلك الألفاظ وأما إذا كان الأوصياء اثنين أو أكثر فالأمر كما ذكره المصنف من أن لكل(1/929)
واحد منهم أن ينفرد بالتصرف ولو في حضرة الآخر إلا أن يشرط الموصي الإجتماع فهو كالحجر لكل واحد منهما أن يتصرف منفردا وهكذا إذا حصل التشاجر بينهم فإن ذلك يوجب التوقف عليهم حتى يجتمع رأيهم.
[فصل
وإليه تنفيذ الوصايا وقضاء الديون واستيفاؤها والوارث أولى بالمبيع بالقيمة ما لم تنقص عن الدين فبالثمن ولا عقد فيهما وينقض البالغ ما لم يأذن أو يرض وإن تراخى والصغير بعد بلوغه كذلك إن كان له وقت البيع مصلحة ومال فلا] .
قوله: "فصل: وإليه وحده تنفيذ الوصايا وقضاء الديون".
أقول: وجهه أنه أقامه مقام نفسه بعد موته فكان إليه تنفيذ الوصايا لأن هذا هو أعظم المقاصد التي قصدها الموصي وقضاء الديون هو من تنفيذ الوصايا بل من أهمها ومن ذلك استيفاء الديون التي للميت على الغير إذا كان لها مدخل في تنفيذ الوصايا وإلا كان أمرها إلى الوارث لأنها قد صارت ملكا له فلا يحل التصرف في ملكه وقد انقطع حق الميت عن التركة فلم يبق إلى وصية إلا ماله تعلق بوصاياه.
قوله: "والوارث أولى بالمبيع" الخ.
أقول: الوجه في هذه الأولوية أن المبيع إنما هو لقصد قضاء ما على الميت أو ما يحتاج إليه في تجهيزه فإذا بذل الوارث ما يبذله المشتري كان أحق به لأن التركة انتقلت من ملك الميت إلى ملكه فلا يخرج عن ملكه مع بذل القيمة ويكون بين الورثة على التوريت وكأنه من جملة الميراث لا يحتاج إلى تجديد عقد ولكن لا وجه لقول المصنف بالأقل من القيمة أو الثمن بل هو أحق بقيمته التي سيباع بها من الغير فيسلمها موفرة حتى تبقى العين في ملكه وإذا وقع البيع من غير اطلاع الوارث كان له النقض لما وقع من البيع وأخذ المبيع بما كان قد دفعه المشتري فيه ما لم يأذن أو يرض وللوصي أو المشتري أن يطالباه بذلك فيأخذ أوي ترك وليس له أن يتراخى بعد العلم لا كما قال المصنف.
وأما الصغير فإن كان له في المبيع مصلحة ومعه مال كان وليه مفرطا في ترك الطلب فله أن يطلب عند بلوغه وإن لم يكن له مصلحة ومال فليس في الإمكان أبدع مما كان وقد نفذ تصرف الولي والوصي.(1/930)
[فصل
وله أن يستقل بقضاء المجمع عليه والمختلف فيه بعد الحكم مطلقا وقبله حيث تيقنه والوارث صغير أو موافق وإلا فلا وللموافق المرافعة إلى المخالف وما علمه وحده قضاه سرا فإن منع أو ضمن ضمن ويعمل باجتهاده ويصح الإيصاء منه لا النصب] .
قوله: "فصل: وله أن يستقل بقضاء المجمع عليه" الخ.
أقول: وجه هذا أن الوصية من الموصي ليست بحكم على الغير يلزمه امتثاله فوصية كذلك لأنه مأمور من جهته فما كان مما لا نزاع فيه ولا خلاف ولا ضرار ولا مخالفة للشرع بوجه من الوجوه كان للوصي الإستقلال بفعله وما لم يكن كذلك لم يكن له إلا بحكم الحاكم لقطع الخلاف ودفع معرة النقض من بعد وليس كل مختلف فيه يحتاج إلى حكم الحاكم بل إذا كان مذهب الموصي والوصي هو وجوب التخلص من ذلك ولم يكن ثم منازع من وارث أو غيره كان له الإستقلال فهكذا ينبغي أن يقال وإذا كان الوارث صغيرا كان الأمر إلى وليه فإن لم يكن له ولي كان له عند بلوغه الدعوى على الوصي بماله فيه حق شرعي.
وأما كون للموافق المرافعة إلى المخالف فلا بد أن يكون على بصيرة بأن عند المخالف الصواب وبيده الحق وإن فعل ذلك كان الواجب علينا الأخذ على يده ومنعه من ذلك.
وأما قوله: "وما علمه وحده قضاه سرا" فوجهه أنه على بصيرة وقد أمره الوصي بالنيابة وأقامه مقامه فكان عليه أن يقضي ديونه الثابتة عليه بالشرع وأثبتها وأحقها بالقضاء ما كان الوصي يعلم به ويتيقنه وإذا نوزع رافع إلى الحاكم ليقطع عنه اللجج.
ولا وجه لقوله فإن منع أو ضمن ضمن بل ليس لأحد من الورثة منعه ولا تضمينه فيما هو معلوم لديه ومتيقن عنده وغاية ما يستحقه المخاصم له هو المرافعة إلى الحاكم فيحكم في ذلك بوجه الشرع ويقطع ما عرض بينهم من الخصومة.
قوله: "ويعمل باجتهاده".
أقول: إذا عرف للموصي قصد كان العمل عليه ووجب على الوصي امتثاله لأن التنجيز والتقييد هو عائد إلى أمره للوصي بالنيابة فليس له أن يفعل غير ما رسمه له الموصي إلا أن يأمره بما لا يحل فليس له الإمتثال كما تقدم ومع التباس الأمر عليه ووقوع الخلاف في الحادثة ترافع إلى حاكم الشرع فما قضى به عمل عليه وقد قدمنا ما يغني عن التكرار ها هنا.
وأما قوله: "ويصح الإيصاء منه" فوجهه أنه قد ثبت له التصرف فيما أقامه الموصي فيه مقامه فله أني جعله إلى الغير في حال حياته ويكون له بمنزلة الوكيل وله أيضا أن يوصي به بعد(1/931)
موته إلى وصيه وليس في الشرع ما يمنع من هذا فالأصل الجواز وبهذا تعرف أن له أن ينصب معه من يعينه على التنفيذ لأن الأمر قد صار إليه والتنفيذ قد تعين عليه وليس بهذا بأس ولا عنه مانع من رواية ولا دراية.
[فصل
ويضمن بالتعدي والتراخي تفريطا حتى تلف المال فإن بقي أخرج الصغير متى بلغ وعمل باجتهاد الوصي وبمخالفته ما عين من مصرف ونحوه ولو خالف مذهبه قيل إلا في وقت صرف أو في مصرف واجب أو شراء رقبتين بألف لعتق والمذكور واحدة به وبكونه أجيرا مشتركا وإنما يستحقها إن شرطها أو اعتادها أو عمل للورثة فقط وهي من رأس المال مطلقا ومقدمة على ما هو منه] .
قوله: "فصل: ويضمن بالتعدي".
أقول: التعدي سبب مستقل للضمان لأنه أمر بأمر فليس له أن يتعداه ولا يخالفه فإن فعل فقد اختار لنفسه ضمان ما تلف بسبب تعديه وهكذا إذا تراخى تفريطا لا لسبب من الأسباب فإن تراخيه تساهل منه ومخالفة لأمر الموصي يوجب عليه الضمان لأن التنجيز قد صار واجبا عليه وإن أراد الخلوص من الوصايا فعل قبل أن يفرط بالتراخي فيتلف مال الغير بسببه.
وأما قوله: "فإن فعل أخرج الصغير متى بلغ" فالذي ينبغي في هذا أن يقال قد بطلت وصايته بتعديه أو تفريطه فإن لم يتلف المال كان الأمر إلى الوارث كما سيأتي أن لكل وارث ولاية كاملة مع عدم الوصي فإن كان الوارث صغيرا كان الأمر إلى وليه وإلا ناب عنه الإمام أو الحاكم ولا وجه لانتظار لبلوغه ولا العمل باجتهاد الوصي وهكذا يضمن الوصي بمخالفة ما عين الموصي إذا تسبب عن ذلك تلف شيء من المال لأنه مأمور بأمر فمخالفته له سبب لضمانه.
وأما قوله: "وبكونه أجيرا مشتركا" فوجهه أنه قد صار بالأجرة أجيرا مع كونه وصيا فيضمن ضمان الأجير وقد قدمنا الكلام على ما صرح به المصنف من تقسيم الأجير إلى خاص ومشترك وإثبات أحكام لكل واحد منهما فليرجع إليه.
وأما كونه لا يستحق الأجرة إلا مع الشرط أو الإعتبار فذلك ظاهر أما مع الشرط فلكون الموصي قد رضي بذلك فكان عليه القدر المشروط من الأجرة وأما مع الإعتياد فلكون معاملته محمولة على ما جرت به عادته ولكن إذا لم يعلم بذلك الوصي لم يجب عليه ولا على وارثه دفع ما يعتاده من الأجرة بل يدفع إليه أجرة المثل.
وأما قوله: "أو عمل للورثة" فلا وجه له بل لا بد من الشرط عليهم أو الإعتياد للأجرة(1/932)
في مثل ذلك وإلا فالأصل عندهم في المنافع عدم العوض فكان عليهم هنا أن لا يجعلوا مجرد العمل للورثة سببا لاستحقاق الأجرة.
وأما دعوى أن أجرة الوصي من رأس المال ومقدمة على ما هو منه فكلام لم يربط بدليل ولا اقتضاه رأي صحيح وغاية ما هناك أن تكون أجرته من مخرج ما يباشر إخراجه وتنفيذه فما كان من الرأس كانت أجرته فيه من الرأس وما كان من الثلث كانت أجرته فيه من الثلث تنزيلا له منزلة المستحقين لشيء من التركة من دين لهم أو صرف إليهم.
[فصل
فإن لم يكن فلكل وارث ولاية كاملة في التنفيذ وفي القضاء والإقتضاء من جنس الواجب فقط ولا يستبد أحد بما قبض ولو قدر حصته ويملك ما شرى به ويرجعون عليه لا على أي الغريمين فإن لم يكونوا فالإمام ونحوه] .
قوله: "فصل: فإن لم يكن فلكل وارث ولاية كاملة".
أقول: القرابة لها زيادة اختصاص والورثة لهم أيضا مزيد خصوصية على سائر القرابة الذين لا يرثون ويدل على هذا ما أخرجه أحمد "4/136، 5/7"، وابن ماجه "2433"، وابن سعد وعبد بن حميد وابن نافع والباوردي والطبراني في الكبير والضياء في المختارة بإسناد رجاله ثقات عن سعد بن الأطول أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم وترك عيالا قال فأردت أن أنفقها على عياله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أخاك محتبس بدينه فاقض عنه"، فقال: يا رسول الله قد أديت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأة وليس لها بينة, قال: "فأعطها فإنها محقة".
وأما تقييد القضاء والإقتضاء والتنفيذ بكونه من جنس الواجب فوجهه ظاهر لأن في العدول عن الجنس مخالفة لقصد الموصي وقد يكون فيه مخالفة لغرض سائر الورثة.
وأما كونه لا يستبد أحد من الورثة بما قبض فوجهه واضح لأنه مشترك بين جميعهم ولا وجه لقوله ويملك ما شرى به ولكنه بنى على عدم تعين النقد فيملك ويغرم لهم مثله والظاهر أن لهم المطالبة بإرجاع عين النقد الذي قبضه لأنه فيما عدا نصيبه غاصب وقد قدمنا في الغصب ما قدمنا.
وأما قوله: "فإن لم يكونوا فالإمام والحاكم" فوجهه شمول ولايتهما بمثل هذا فإن تنفيذ وصايا الموصي بما يجب عليه التخلص عنه وبما يتقرب به من القرب حق عليهما لأن إهمال ذلك منكر والقيام به أمر بمعروف وهما أحق الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(1/933)
[فصل
وندب ممن له مال غير مستغرق بثلثه في القرب ولو لوارث ومن المعدم بأن يبره الإخوان] .
قوله: "فصل: وندب ممن له مال غير مستغرق بثلثه في القرب".
أقول: التقرب إلى الله عزوجل بطاعاته مشروع لعباده في كل وقت وإليه وقع الترغيب بالآيات والأحاديث الكثيرة وحالة الوصية من جملة الأوقات التي تدخل تحت تلك الأدلة ولا سيما والموصى أحوج ما كان إلى التقرب بالبر والإحسان ومثل هذا لا يحتاج إلى الإستدلال عليه بمثل قوله: "إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم" الحديث المتقدم.
وأما اشتراط أن يكون ماله غير مستغرق بالدين فوجهه أن قضاء ما يجب قضاؤه أهم من التقرب بما لا يجب وألزم وأحق.
وأما التقييد بالثلث فإن كان له وارث فهو صحيح وإن لم يكن له وارث فله أن يجاوزه كما قدمنا تحقيقه.
قوله: "ولو لوارث".
أقول: إن كان الدليل على جواز الوصية للوارث هو ما ورد في القرآن من الوصية للوالدين والأقربين فقد وقع الإتفاق على أنه منسوخ غير ثابت الحكم والقول بأنه نسخ الوجوب وبقي الندب غير مسلم ولو سلمنا لكان ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من أنه: "لا وصية لوارث"، رافعا لهذا الندب ودافعا له فإنه قد ثبت ذلك من طرق منها ما أخرجه أحمد "4/182"، والنسائي "6/247"، والترمذي "2121"، وصححه وابن ماجة والدارقطني والبيهقي من حديث عمرو بن خارجة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب على ناقته وأنا تحت جرانها وهي تقصع بجرتها وإن لغامها يسيل بين كتفي فسمعته يقول: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث"، ومنها ما أخرجه أحمد "5/267"، وأبو داود "2870"، والترمذي "2120"، وابن ماجه "2713"، وحسنه الترمذي من حديث أبي أمامة قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بقول: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث"، وما قيل من أن في إسناده إسماعيل بن عياش فقد تقرر عند الأئمة الحفاظ أنه قوي إذا روى عن الشاميين وهذا من روايته عن الشاميين لأنه رواه عن شرحبيل بن مسلم وهو شامي ثقة وقد صرح في روايته بالتحديث فلم يبق للحديث علة يعل بها ومنها ما أخرجه الدارقطني من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجوز وصية لوارث إلا أن يشاء الورثة"، وقد حسنه ابن حجر في التلخيص وقال في الفتح رجاله ثقات قال لكنه معلول فقد قيل أن عطاء الذي رواه عن ابن عباس هو الخراساني وأخرج نحوه البخاري "5/372"، من طريق عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس موقوفا قال: إلا أنه في تفسيره إخبار بما كان من الحكم قبل نزول القرآن فيكون في حكم المرفوع انتهى. وقد تقرر أن الرفع(1/934)
زيادة غير منافية والعمل بها واجب فلا علة حينئذ للحديث ومنها ما أخرجه الدارقطني أيضا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة"، وفي إسناده مقال وفي الباب عن أنس عند ابن ماجه "2714"، وعن جابر عند الدارقطني وعن علي عنده أيضا وإسناده ضعيف وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة وقد حكى ابن حجر عن الشافعي أنه قال وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: "لا وصية لوارث"، ويؤثرونه عمن حفظوه عنه ممن لقوه من أهل العلم فكان نقل كافة عن كافة فهو أقوى من نقل واحد انتهى.
ولا يخفاك أن هذا حكم على الحديث بأنه متواتر فلم يبق ما يوجب الإشتغال بالكلام على طرقه والعمل بالمتواتر واجب وهو ينسخ الكتاب العزيز إذا تأخر فلو قدرنا أن آية الوصية للوالدين والأقربين لم تنسخها آية المواريث لكان هذا الحديث يكفي في نسخها وقد قدمنا لك أن الإتفاق كائن على أنها منسوخة إما بآية المواريق أو بالحديث وأيضا هذا الحديث يقيد ما ورد مطلقا في القرآن لقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] ، وما ورد في السنة كالحديث الذي تقدم من قوله: "ما حق امرىء مسلم يبيت ليلتين وله شيء يريد أن يوصي فيه"، وهكذا يقيد قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم"، وهكذا سائرها ورد في مشروعية الوصية مطلقا فلم يبق في المقام ما يقتضي التوقف عن إبطال الوصية للوارث وقد أفردنا هذا البحث برسالة مستقلة وكتبنا فيه أبحاثا مطولة في جوابات أسئلة
وذكرت في تفسيري ما ينبغي المراجعة له.
قوله: "ومن المعدم بأن يبره الإخوان".
أقول: وجه هذا أن ذلك قد يكون منشطا لهم إلى صلته بالدعاء وغيره وأيضا إذا قد وقعت منه الوصية لحقه ما وصل به لأن الوصية سعي فيدخل تحت قوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] ، وقد وردت الأدلة الكثيرة بأنه يلحق الإنسان أنواع من القرب وإن لم يوص وقد ذكرنا هذه الأنواع التي وردت بها الأدلة في شرحنا للمنتقى فليرجع إليه.(1/935)
كتاب السير
[فصل
ويجب على المسلمين شرعا نصب إمام مكلف ذكر حر علوي فاطمي ولو عتيقا لا مدعي سليم الحواس والأطراف مجتهد عدل سخي بوضع الحقوق في مواضعها مدبر(1/935)
أكثر رأيه الإصابة مقدام حيث يجوز السلامة لم يتقدمه مجاب وطريقها الدعوة ولا يصح إمامان] .
قوله: "فصل: يجب على المسلمين نصب إمام".
أقول: قد أطال أهل العلم الكلام على هذه المسألة في الأصول والفروع واختلفوا في وجوب نصب الإمام هل هو قطعي أو ظني؟ وهل هو شرعي فقط؟ أو شرعي وعقلي؟ وجاءوا بحجج ساقطة وأدلة خارجة عن محل النزاع والحاصل أنهم أطالوا في غير طائل ويغني عن هذا كله أن هذه الإمامة قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الإرشاد إليها والإشارة إلى منصبها كما في قوله: "الأئمة من قريش" وثبت كتابا وسنة الأمر بطاعة الأئمة ثم أرشد صلى الله عليه وسلم الإستينان بسنة الخلفاء الراشدين فقال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين الهادين"، وهو حديث صحيح وكذلك قوله: "الخلافة بعدي ثلاثون عاما" [أحمد "5/221"، الترمذي "2226"، أبو داود "4647"، ووقعت منه الإشارة إلى من سيقوم بعده ثم إن الصحابة لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قدموا أمر الإمامة ومبايعة الإمام على كل شيء حتى إنهم اشتغلوا بذلك عن تجهيزه صلى الله عليه وسلم ثم لما مات أبو بكر عهد إلى عمر ثم عهد عمر إلى النفر المعروفين ثم لما قتل عثمان بايعوا عليا وبعده الحسن ثم استمر المسلمون على هذه الطريقة حيث كان السلطان واحدا وأمر الأمة مجتمعا ثم لما اتسعت أقطار الإسلام ووقع الإختلاف بين أهله واستولى على كل قطر من الأقطار سلطان اتفق أهله على أنه إذا مات بادروا بنصب من يقوم مقامه وهذا معلوم لا يخالف فيه أحد بل هو إجماع المسلمين أجمعين منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه الغاية فما هو مرتبط بالسلطان من مصالح الدين والدنيا ولو لم يكن منها إلا جمعهم على جهاد عدوهم وتأمين سبلهم وإنصاف مظلومهم من ظالمه وأمرهم بما أمرهم الله به ونهيهم عما نهاهم الله عنه ونشر السنن وإماتة البدع وإقامة حدود الله فمشروعية نصب السلطان هي من هذه الحيثية ودع عنك ما وقع في المسألة من الخبط والخلط والدعاوي الطويلة العريضة التي لا مستند لها إلا مجرد القيل والقال أو الإتكال على الخيال الذي هو كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
ثم من أعظم الأدلة على وجوب نصب الأئمة وبذل البيعة لهم ما أخرجه أحمد والترمذي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه من حديث الحارث الأشعري بلفظ: "من مات وليس عليه إمام جماعة فإن موتته موتة جاهلية"، ورواه الحاكم من حديث ابن عمر ومن حديث معاوية ورواه البزار من حديث ابن عباس.
وأما اشتراط أن يكون مكلفا فوجهه واضح لأن الصغير لا يصلح لتدبير أمور المسلمين بل لم يصلح لتدبير أمر نفسه فكيف يصلح لتدبير أمر غيره؟!
وأما كونه ذكرا فوجهه أن النساء ناقصات عقل ودين كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان كذلك لا يصلح لتدبير أمر الأمة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في الصحيح: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة".(1/936)
قوله: "حر".
أقول: أما الإمارة والسلطنة فلا مانع من ذلك ولا ورد في الشرع ما يدفعه بل ورد ما يقويه ويؤيده كما في الأحاديث الصحيحة المصرحة بطاعة السلطان كان عبدا حبشيا وقد أمر صلى الله عليه وسلم مولاه زيد بن حارثة وكذلك ولده أسامة بن زيد على أكابر المهاجرين والأنصار كما ذلك معروف في كتب الحديث والسير وأما الإمامة فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم منصبها وصرح بما يصلح لها كما سيأتي.
قوله: "علوي فاطمي".
أقول: العلوي الفاطمي هو خيرة الخيرة من قريش وأعلاها شرفا وبيتا ولا ينفي ذلك صحتها في سائر بطون قريش كما تدل عليه الأحاديث المصرحة بأن: "الأئمة من قريش" وهي كثيرة جدا وإن لم تكن في الصحيحين بل عددها في كل مرتبة من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم زيادة على عدد المتواتر والمتواتر قطعي ويؤيد ذلك ما ثبت في الصحيحين [مسلم 1819"، وغيرهما أحمد "3/383، 379، 383"] ، من طرق أن الناس تبع لقريش في الشر والخير وقد بين هذا الخير والشر بقوله صلى الله عليه وسلم: "قريش ولاة الناس في الخير والشر إلى يوم القيامة"، كما في حديث عمرو بن العاص عند الترمذي "2227"، والنسائي وكما في حديث ابن عمر في الصحيحين [البخاري "2195، 7140"، مسلم "1820"، وغيرهما أحمد "2/29، 2/93، 128"] ، بلفظ: "لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان"، وهو مروي من طريق غيره في الصحيح [البخاري "13/113، 114"] ، أيضا.
فهذه الألفاظ تدل على أن المراد الإمامة الإسلامية وأما أمر الجاهلية فقد انقرض ومن جملة ما يدل على هذا أحاديث: "الأئمة من قريش"، كما ذكرنا ومن جملة ما يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "الخلافة بعدي ثلاثون عاما ثم ملك بعد ذلك"، وهو حديث حسن ومعنى الخلافة معنى الإمامة في عرف الشرع وهؤلاء الذين نص النبي صلى الله عليه وسلم على خلافتهم هم الخلفاء الأربعة وليس المراد بالإمامة هنا هو المعنى اللغوي الشامل لكل من يأتم به الناس ويتبعونه على أي صفة كان بل المراد الإمامة الشرعية ومن هذا قول أبي بكر يوم السقيفة محتجا على الأنصار إن العرب لا تعرف هذا الأمر لغير هذا الحي من قريش [البخاري "7/19، 20"، أحمد "1/55، 56"] ، وقد حكى القاضي عياض والنووي الإجماع على أن الخلافة مختصة بقريش لا تجوز في غيرهم.
قوله: "سليم الحواس والأطراف".
أقول: وجهه أن المقصود بالولاية العامة هو تدبير أمور الناس على العموم والخصوص وإجراء الأمور مجاريها ووضعها مواضعها وهذا لا يتيسر ممن في حواسه خلل لأنها تقتضي نقص التدبير إما مطلقا أو بالنسبة إلى تلك الحاسة.
وأما سلامة الأطراف فلا وجه لاشتراطها فإن الأعرج والأشل لا ينقص من تدبيره شيء(1/937)
ويقوم بما يقوم به من ليس كذلك ومعلوم أنه لا يراد من مثل الإمام السباق على الأقدام ولا ضرب الصولجان ولا حمل الأثقال.
قوله: "مجتهد".
أقول: المقصود من نصب الأئمة هو تنفيذ أحكام الله عزوجل وجهاد أعداء الإسلام وحفظ البيضة الإسلامية ودفع من أرادها بمكر والأخذ على يد الظالم وإنصاف المظلوم وتأمين السبل وأخذ الحقوق الواجبة على اما اقتضاه الشرع ووضعها في مواضعها الشرعية فمن بايعه المسلمون وقام بهذه الأمور فقد تحمل أعباء الإمامة فإن انضم له إلى هذه الإمامة كونه إماما في العلم مجتهدا مطلقا في مسائله فلا شك ولا ريب أنه أنهض من الإمام الذي لم يبلغ رتبة الإجتهاد لأنه يورد الأمور ويصدرها عن علو ولكن لا دليل على أنه لا يولي الأمر إلا من كان بهذه المنزلة من الكمال وفي هذه الغاية القصوى من محاسن الخصال وليس النزاع في الأكمل ولا في الأفضل بل المراد فيمن يصلح لتولي هذا المنصب ومن قام بتلك الأمور ونهض بها فهو المراد من الإمامة والمراد بالإمام وعليه أن ينتخب من العلماء المبرزين المجتهدين المحققين من يشاوره في الأمور ويجريها على ما ورد به الشرع ويجعل الخصومات إلى أهل هذه الطبقة فما حكموا به كان عليه إنفاذه وما أمروا به فعله ومعرفة أهل هذه الطبقة لا يخفى على العقلاء الذين لا نصيب لهم في العلم فإنه لا بد أن يرفع الله لهم من الصيت والشهرة ما يعرف به الناس أنهم الطبقة العالية من جنس أهل العلم وليس للإمام إذا لم يكن مجتهدا أن يستبد بما يتعلق بأمور الدين ولا يدخل نفسه في فصل الخصومات والحكم بين الناس فيما ينوبهم لأن ذلك لا يكون إلا من مجتهد كما قدمنا من القضاء.
والحاصل أنه لا دليل في المقام يوجب علينا اشتراط اجتهاد الأئمة حتى يجب المصير إليه ولا إجماع حتى يكوت التعويل عليه وليس في المقام إلا مجرد المجادلة بمباحث راجعة إلى الرأي البحت كما يعرف ذلك من يعرفه وما أهون مثلها على المحققين من علماء الدين المتقيدين بالدليل المحكمين للشرع.
قوله: "عدل".
أقول: العدالة ملاك الأمور وعليها تدور الدوائر ولا ينهض بتلك الأمور التي ذكرنا أنها المقصودة من الإمامة إلا العدل الذي تجري أفعاله وأقواله وتدبيراته على مراضي الرب سبحانه فإن من لا عدالة له لا يؤمن على نفسه فضلا عن أن يؤمن على عباد الله ويوثق به في تدبير دينهم ودنياهم ومعلوم أن وازع الدين وعزيمة الورع لا تتم أمور الدين والدنيا إلا بها ومن لم يكن كذلك خبط في الضلالة وخلط في الجهالة واتبع شهوات نفسه وآثرها على مراضي الله ومراضي عباده لأنه مع عدم تلبسه بالعدالة وخلوه من صفات الورع لا يبالي بزواجر الكتاب والسنة ولا يبالي أيضا بالناس لأنه قد صار متوليا عليهم نافذ الأمر والنهي فيهم فليس لأهل الحل والعقد أن يبايعوا من لم يكن عدلا إذا قد اشتهر بذلك إلا أن يتوب ويتعذر عليهم العدول إلى غيره فعليهم أن يأخذوا عليه بأعمال العادلين والسلوك في مسالك(1/938)
المتقين ثم إذا لم يثبت على ذلك كان عليهم أمره بما هو معروف ونهيه عما هو منكر ولا يجوز لهم أن يطيعوه في معصية الله ولا يجوز لهم أيضا الخروج عليه ومحاكمته إلى السيف فإن الأحاديث المتواترة قد دلت على ذلك دلالة أوضح من شمس النهار ومن له اطلاع على ما جاءت به السنة المطهرة انشره صدره لهذا فإذا به يجتمع شمل الأحاديث الواردة في الطاعة مع ما يشهد لها من الآيات القرآنية وشمل الأدلة الواردة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وشمل الأدلة الواردة في أنه لا طاعة في معصية الله وهي كثيرة جدا لا تيسع لها إلا مولف بسيط.
قوله: "سخي بوضع الحقوق في مواضعها".
أقول: قد عرفناك أن هذا من مقاصد الإمامة ومن الأمور التي تراد بها ومثل هذا أن لا يأخذها إلا من مواضعها الشرعية ولا فائدة للتنصيص على جزئيات ما توحيه العدالة وتقتضيه فإنه إذا أخذ الشيء من غير موضعه كان ظالما والظالم ليس بعدل وإذا شح عن وضعه في موضعه كان أيضا ظالما لمن هو له والظالم ليس بعدل.
قوله: "مدبر أكثر رأيه الإصابة".
أقول: وجهه أن من لم يكن أكثر رأيه الإصابة هو في عداد الحمقى الذين لا يصلحون لتدبير أنفسهم فضلا عن تدبير سائر المسلمين.
والحاصل أنه إذا كان عاقلا متأنيا في الأمور متجنبا للعجل والحرد ومباشرة الأمور حال الغضب كان غالب تدبيره الإصابة ولا سيما إذا اقتدى بكتاب الله وسنة رسوله في المشاورة لأهل الرأي فإن الله سبحانه قد ندب إلى ذلك رسوله المعصوم فكيف لا يقتدي به غيره ويمتثل أمر الله سبحانه وثبت في الصحيح [مسلم "12/124"] ، "أن النبي صلى الله عليه وسلم شاور الصحابة حين بلغه إقبال أبي سفيان"، وقد أطبق العقلاء حسن الإستشارة في الأمور ومعلوم أن اجتماع الرأي من رجلين أحزم من رأي الواحد نفسه فكيف إذا طابق على ذلك الرأي جماعة كما قال القائل:
ورأيان أحزم من واحد ... ورأي الثلاثة لا ينقض
وما أحسن قول القائل في المشورة:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... برأي نصيح أونصيحة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... فريش الخوافي قوة للقوادم
قوله: "مقدام حيث تجوز السلامة".
أقول: لا بد أن يكون مع الإمام من قوة القلب وشدة البأس ما يحمله على مناجزة الأعداء ومثاغرة الخارجين على الإسلام فإن كان من الجبن بمكان يمنعه عن ذلك فقد أصيب بسبب هذه الغريزة التي يبغضها الله بفقدان أعظم المقاصد من إمامته لأنه يتنكب عن مواطن(1/939)
القتال ويضعف عن مصابرة النزال فيسري جبنه إلى غيره وتعم بذلك البلوى ويتسلط على المسلمين الأعداء ومع هذا فقد يحمله جبنه وضعف قلبه على عدم إقامة الحدود والقصاص والتنكيل بمن سعى في الأرض فسادا وضرب أعناق من أوجب الشرع ذلك عليه وإن كانوا عددا جما فمن كان معروفا بهذه الغريزة لا يجوز لأهل الحل والعقد أن يبايعوه وإذا ابتلوا بمبايعته فلا يجوز لهم أن يتابعوه في فشله وجبنه بل يقيمونه يوقومون معه فإن قعوده عن الحرب في الوقت الذي تحق فيه الحرب يفضي بالمسلمين إلى الضرر العظيم في أبدانهم وأموالهم وحرمهم.
قوله: "لم يتقدمه مجاب".
أقول: وجه هذا أنه إذا قد تقدمه من أجابه الناس وبايعوه فالثاني باغ خارج على الإمام وقد قدمنا أنها قد تواترت الأحاديث في النهي عن الخروج على الأئمة ما لم يظهر منهم الكفر البواح أو يتركوا الصلاة فإذا لم يظهر من الإمام الأول أحد الأمرين لم يجز الخروج عليه وإن بلغ في الظلم أي مبلغ لكنه يجب أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر بحسب الإستطاعة وتجب طاعته إلا في معصية الله سبحانه وقد ثبت في الصحيح [مسلم "46/1844"، عنه صلى الله عليه وسلم الأمر بقتل الإمام الآخر الذي جاء ينازع الإمام الأول وكفى بهذا زاجرا وواعظا.
قوله: "وطريقها الدعوة".
أقول: طريقها أن يجتمع جماعة من أهل الحل والعقد فيعقدون له البيعة ويقبل ذلك سواء تقدم منه الطلب لذلك أم لا لكنه إذا تقدم منه الطلب فقد وقع النهي [البخاري "6622، 6722، 7146، 7147"، مسلم "1652"] ، الثابت عنه صلى الله عليه وسلم عن طلب الإمارة فإذا بويع بعد هذا الطلب انعقدت ولايته وإن أثم بالطلب هكذا ينبغي أن يقال على مقتضى ما تدل عليه السنة المطهرة ومن طريقها أيضا أن يعهد الخليفة الأول إلى الخليفة الآخر كما وقع من أبي بكر لعمر ولم ينكر ذلك الصحابة ومن طرقها أيضا أن ينص الإمام الأول على واحد من جماعة يتوالون عليه ويبايعونه كما فعل عمر إلى أولئك النفر من الصحابة ولم ينكر ذلك عليه.
والحاصل أن المعتبر هو وقع البيعة له من أهل الحل والعقد فإنها هي الأمر الذي يجب بعده الطاعة ويثبت به الولاية وتحرم معه المخالفة وقد قامت على ذلك الأدلة وثبتت به الحجة.
قوله: "ولا يصح إمامان".
أقول: إذا كانت الإمامة الإسلامية مختصة بواحد والأمور راجعة إليه مربوطة به كما كان في أيام الصحابة والتابعين وتابعيهم فحكم الشرع في الثاني الذي جاء بعد ثبوت ولاية الأول أن يقتل إذا لم يتب عن المنازعة وأما إذا بايع كل واحد منهما جماعة في وقت واحد فليس أحدهما أولى من الآخر بل يجب على أهل الحل والعقد أن يأخذوا على أيديهما حتى يجعل الأمر في(1/940)
أحدهما فإن استمرا على الخلاف كان على أهل الحل والعقد أن يختاروا منهما من هو أصلح للمسلمين ولا تخفى وجوه الترجيح على المتأهلين لذلك.
وأما بعد انتشار الإسلام واتساع رقعته وتباعد أطرافه فمعلوم أنه قد صار في كل قطر أو أقطار الولاية إلى إمام أو سلطان وف يالقطر الآخر أو الأقطار كذلك ولا ينفذ لبعضهم أمر ولا نهي في قطر الآخر وأقطاره التي رجعت إلى ولايته فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين ويجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة له على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه وكذلك صاحب القطر الآخر فإذا قام من ينازعه في القطر الذي قد ثبتت فيه ولايته وبايعه أهله كان الحكم فيه أن يقتل إذا لم يتب ولا تجب على أهل القطر الآخر طاعته ولا الدخول تحت ولايته لتباعد الأقطار فإنه قد لا يبلغ إلى ما تباعد منها خبر إمامها أو سلطانها ولا يدرى من قام منهم أو مات فالتكليف بالطاعة والحال هذه تكليف بما لا يطاق وهذا معلوم لكل من له اطلاع على أحوال العباد والبلاد فإن أهل الصين والهند لا يدرون بمن له الولاية في أرض المغرب فضلا عن أن يتمكنوا من طاعته وهكذا العكس وكذلك أهل ما وراء النهر لا يدرون بمن له الولاية في اليمين وهكذا العكس فاعرف هذا فإنه المناسب للقواعد الشرعية والمطابق لما تدل عليه الأدلة ودع عنك ما يقال في مخالفته فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في أول الإسلام وما هي عليه الآن أوضح من شمس النهار ومن أنكر هذا فهو مباهت لا يستحق أن يخاطب بالحجة لأنه لا يعقلها.
[فصل
وعلى من تواترت له دعوته دون كماله أن ينهض فيبحثه عما يعرفه وغيره عما لا يعرفه وبعد الصحة تجب طاعته ونصيحته أو بيعته إن طلبها وتسقط عدالة من أباها ونصيبه من الفيء ويؤدب من يثبط عنه أو ينفى ومن عاداه فبقلبه مخطىء وبلسانه فاسق وبيده محارب وله نصيبه من الفيء إن نصر.
والجهاد فرض كفاية ويخرج له ولكل واجب أو مندوب غالبا وإن كره الوالدان ما لم يتضررا] .
قوله: "فصل: وعلى من تواترت له دعوته" الخ.
أقول: قد أغنى الله عن هذا النهوض وتجشم السفر وقطع المغاوز ببيعة من بايع الإمام من أهل الحل والعقد فإنها قد ثبتت إمامته بذلك ووجبت على المسلمين طاعته وليس من شرط ثبوت الإمامة أن يبايعه كل من يصلح للمبايعة ولا من شرط الطاعة على الرجل أن يكون من جملة المبايعين فإن هذا الإشتراط في الأمرين مردود بإجماع المسلمين أولهم وآخرهم سابقهم(1/941)
ولاحقهم ولكن التحكم في مسائل الدين وإيقاعها على ما يطابق الرأي المبني على غير أساس يفعل مثل هذا.
وإذا تقرر لك ما ذكرناه فهذا الذي قد بايعه أهل الحل والعقد قد وجبت على أهل القطر الذي تنفذ فيه أوامره ونواهيه طاعته بالأدلة المتواترة ووجبت عليهم نصيحته كما صرحت به أحاديث النصيحة لله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
وأما قوله: "وبيعته" فقد عرفناك أنها السبب الذي ثبتت به الولاية ووجبت عنده الطاعة ولكن على كل مسلم في ذلك القطر أن يقبل إمامته بعد وقوع البيعة له ويطيعه في الطاعة ويعصيه في المعصية ولا ينازعه ولا ينصر من ينازعه فإن لم يفعل هكذا فقد خالف ما تواتر من الأدلة وصار باغيا ذاهب العدالة مخالفا لما شرعه الله ووصى به عباده في كتابه من طاعة أولي الأمر ومخالفا لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من إيجاب الطاعة وتحريم المخالفة كما عرفناك.
وأما كونه يسقط نصيبه من الفيء فلم يرد ما يرد على هذا لأنه رجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم.
وأما قوله: "ويؤدب من يثبط عنه" فالواجب دفعه عن هذا التثبيط فإن كف وإلا كان مستحقا لتغليظ العقوبة والحيلولة بينه وبين من صار يسعى لديه بالتثبيط بحبس أو غيره لأنه مرتكب لمحرم عظيم وساع في إثارة فتنة تراق بسببها الدماء وتهتك عندها الحرم وفي هذا التثبيط نزع ليده من طاعة الإمام وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من نزع يده من طاعة الإمام فإنه يجيء يوم القيامة ولا حجة له ومن مات وهو مفارق للجماعة فإنه يموت موتة جاهلية"، [مسلم "1851"، أحمد "2/70، 82، 123، 133، 154"] .
وأما قوله: "ومن عاداه" إلخ فلا يخفاك أن الممنوع منه إنما هو المعصية له وترك الطاعة في غير المعصية والخروج عليه لما تواتر من الأحاديث كما عرفت ومن مقدمات الخروج عليه ما تقدم ذكره من التثبيط وتهييج الشر وإذكاء ناره وفتح أبوابه.
وأما كون له نصيبه من الفيء إن نصر فالظاهر أنه لا يسقط نصيبه وإن أثم بمجرد عدم النصرة وترك الطاعة كما تقدم.
قوله: "والجهاد فرض كفاية".
أقول: الأدلة الواردة في فرضية الجهاد كتابا وسنة أكثر من أن تكتب ها هنا ولكن لا يجب ذلك إلا على الكفاية فإذا قام به البعض سقط عن الباقين وقبل أن يقوم به البعض هو فرض عيني على كل مكلف وهكذا يجب على من استنفره الإمام أن ينفر ويتعين ذلك عليه ولهذا توعد الله سبحانه من لم ينفر مع رسوله الله صلى الله عليه وسلم فقال: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [التوبة: 39] . وعاتبهم لما تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة: 120] ، إلى آخر الآية وعلى استنفار الإمام يحمل قوله(1/942)
سبحانه: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة: 41] ، ويدل على عدم وجوب الجهاد على الجميع قوله عزوجل: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122] ، فتحمل هذه الآية على أنه قام بالجهاد من المسلمين من يكفي وأن الإمام لم يستنفر غير من قد خرج للجهاد وبهذا تعرف أن الجمع بين هذه الآيات ممكن فلا يصار إلى القول بالترجيح أو النسخ.
وأما قوله: "ولكل واجب" فوجه ذكره ها هنا استيفاء ما يجب الخروج له أو يندب وإن كره الولدان ما لم يتضررا ولا يخفاك أن الواجبات مختلفة فمنها ما لا يتم القيام به إلا بالخروج إليه كالجهاد والحج والهجرة ونحو ذلك وكل واحد من هذه وجوب الخورج له مقيد بقيود مشروطة بشروط هي مقررة في مواطنها وأما ضم الخروج للمندوبات إلى الخروج إلى الواجبات مع كراهة الأبوين فغير صواب لأن تجنب ما يكرهانه واجب فكيف يخرج للمندوب مع كراهتهما لخروجه وكيف يجوز ذلك وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في صحيح [البخاري "3004"، وغيره مسلم "2549"، أحمد "2/188، 2/193، 197، 221"، النسائي "6/10"، الترمذي "1671"] ، من حديث عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد فقال: "أحي والداك؟ "، قال: نعم قال: "ففيهما فجاهد"، وأخرج أحمد "2/160، 194، 204"، وأبو داود 2528"، والنسائي "7/143"،وابن حبان من حديثه أيضا أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أريد الجهاد معك ولقد أتيت وإن والدي يبكيان, قال: "فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما"، وأخرج أبو داود "2530"،وصححه ابن حبان من حديث أبي سعيد أن رجلا هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن فقال: "هل لك أحد باليمن؟ "، فقال: أبواي فقال: "أذنا لك"، قال: لا, قال: "ارجع إليهما فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما"، وأخرج أحمد "3/429"، والبيهقي والنسائي "6/11"، من حديث معاوية بن جاهمة السلمي أن جاهمة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أردت الغزو وجيئتك أستشيرك, فقال: "هل لك من أم؟ "، قال: نعم فقال: "الزمها فإن الجنة عند رجليها".
وإذا كان هذا في الجهاد الذي هو سنام الدين وأساسه فما بالك بما عداه من الواجبات فضلا عن المندوبات وقد ذهب الجمهور إلى وجوب استئذان الوالدين للجهاد وجزموا بتحريمه إذا منعا منه أو أحدهما لأن برهما فرض عين والجهاد فرض كفاية.
[فصل
وإليه وحده إقامة الحدود والجمع ونصب الحكام وتنفيذ الأحكام وإلزام من عليه حق الخروج منه والحمل على الواجب ونصب ولاة المصالح والأيتام وغزو الكفار والبغاة إلى ديارهم وأخذ الحقوق كرها وله الإستعانة من خالص المال بما هو فاضل عن(1/943)
كفاية السنة حيث لا بيت مال ولا تمكن من شيء يستحقه أو استعجال الحقوق أو قرض يجد قضاءه في المستقبل وخشي استئصال قطر من أقطار المسلمين والإستعانة بالكفار والفساق حيث معه مسلمون يستقل بهم في إمضاء الأحكام وقتل جاسوس وأسير كافرين أو باغيين قتلا أو بسببهما والحرب قائمة وإلا حبس الباغي وقيد وأن يعاقب بأخذ المال وإفساده وعليه القيام بما إليه أمره وتسهيل الحجاب إلا في وقت أهله وخاصة أمره وتقريب أهل الفضل وتعظيمهم واستشارتهم وتهد الضعفاء والمصالح ولا يتنحى ما وجد ناصرا إلا لأنهض منه وأن يؤمر على السرية أميرا صالحا لها ولو فاسقا وتقديم دعاء الكفار إلى الإسلام غالبا والبغاة إلى الطاعة وندب أن يكرره عليهم ثلاثا وتنشر فيها الصحف وترتب الصفوف] .
قوله: "فصل: وإليه وحده إقامة الحدود".
أقول: لا شك أنه الأولى بذلك من غيره لعموم ولايته ولما كان عليه الأمر في أيام النبوة وأيام الخلفاء الراشدين وأما كونها إليه وحده لا يجوز لغيره إقامتها فغير مسلم وقد قدمنا في الحدود ما فيه كفاية وكذلك قدمنا في القضاء ما يغني عن الإعادة هنا.
وأما تنفيذ الأحكام فإن كان القاضي قادرا على إنفاذ ما حكم به فذلك إليه وإلا كان على الإمام بل وعلى كل قادر تنفيذ ما حكم به إذا كان جاريا على الحق موافقا للصواب لأنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهكذا إلزام من عليه حق الخروج منه هو من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإمام أولى الناس بذلك ولكنه إذا تقاعد لم يسقط الوجوب على غيره من أهل القدرة على الإلزام.
قوله: "والحمل على الواجب".
أقول: أدلة الكتاب والسنة الكثيرة المتواترة قد دلت على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل مسلم وهذا هو أعظم أعمدة الدين وأقوى أساساته وأرفع مقاماته ولا شك أن الحمل على فعل الواجب يدخل تحت أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإذا قام بذلك الإمام فهو رأس الأمة وصاحب الولاية العامة وكان قيامه مسقطا للوجوب على غيره وإن لم يقم فالخطاب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باق على كل مكلف يقدر على ذلك والعلماء والرؤساء لهم مزيد خصوصيته في هذا لأنهم رءوس الناس والمميزون بينهم بعلو القدر ورفعة الشأن وقد جاء الجلال في شرحه لهذا الكتاب في هذا الموضع بما هو سراب بقيعة وتعرض للكلام على ما كان له عنه مندوحة فإنه وقع في خلاف إجماع المسلمين وضرورة الدين.
وأما قوله: "ونصب ولاة المصالح والأيتام" فمثل هذا يكون إلى الحاكم كما يكون إلى الإمام بل يكون إلى كل صالح له من المسلمين ولم يرد ما يوجب اختصاصه بالإمام لا من دراية ولا رواية.(1/944)
قوله: "وغزو الكفار والبغاة إلى ديارهم".
أقول: أما غزو الكفار ومناجزة أهل الكفر وحملهم على الإسلام أو تسليم الجزية أو القتل فهو معلوم من الضرورة الدينية ولأجله بعث الله رسله وأنزل كتبه ومازال رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بعثه الله سبحانه إلى أن قبضه إليه جاعلا لهذا الأمر من أعظم مقاصده ومن أهم شئونه وأدلة الكتاب والسنة في هذا لا يتسع لها المقام ولا لبعضها وما ورد في موادعتهم أو في تركهم إذا تركوا المقاتلة فذلك منسوخ باتفاق المسلمين بما ورد من إيجاب المقاتلة لهم على كل حال مع ظهور القدرة عليهم والتمكن من حربهم وقصدهم إلى ديارهم.
وأما غزو البغاة إلى ديارهم فإن كان ضررهم يتعدى إلى أحد من أهل الإسلام إذا ترك المسلمون غزوهم إلى ديارهم فذلك واجب دفعا لضررهم وإن كان لا يتعدى فقد أخلوا بواجب الطاعة للإمام والدخول فيما دخل سائر المسلمين ولا شك أن ذلك معصية عظيمة لكن إذا كانوا مع هذا مسلمين للواجبات غير ممتنعين من تأدية ما يجب عليهم تركوا وشأنهم مع تكرير الموعظة لهم وإقامة الحجة عليهم وأما إذا امتنعوا من ذلك فقد تظاهروا بالبغي وجاهدوا بالمعصية وقد قال الله عزوجل: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] ، وقد أجمع الصحابة على العزيمة التي عزمها أبو بكر الصديق رضي الله عنه من المقاتلة لمن فرق بين الصلاة والزكاة وسيأتي الكلام على صفة مقاتلة البغاة في الفصل الذي عقده المصنف لذلك.
وأما قوله: "وأخذ الحقوق كرها" فوجهه ظاهر واضح بل يجب عليه مقاتلتهم إذا لم يسلموها كما تدل عليه الأحاديث الصحيحة وهي قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة" إلخ وقد دخل أخذ الحقوق كرها تحت ما تقدم من قوله وإلزام من عليه حق الخروج منه والحمل على الواجب لأنها أهم الحقوق الواجبة ومنعها ظلم لمن جعلهم الله مصرفا لها من الثمانية الأصناف.
قوله: "والإستعانة من خالص المال" الخ.
أقول: وجه هذا أن مع خشية استئصال الكفار لقطر من أقطار المسلمين مع وجود بيت مال المسلمين وعدم التمكن من الإقتراض واستعجال الحقوق قد صار الدفع عن هذا القطر الذي خشي استئصاله واجب على كل مسلم ومتحتم على كل من له قدرة على الجهاد أن يجاهدهم بماله ونفسه ومن الإستعداد له للجهاد كالباعة في الأسواق والحراثين تجب عليهم الإعانة للمجاهدين بما فضل من أموالهم فإن هذا من أهم ما أوجبه الله على عباده والأدلة الكلية والجزئية من الكتاب والسنة تدل عليه وعلى الإمام أن لا يدع في بيت المال صفراء ولا بيضاء ويعين بفاضل ماله الخالص ولكن الواجب أن يأخذ ذلك على جهة الإقتران ويقضيه من بيت مال المسلمين عند حصول ما يمكن القضاء منه لأن دفع ما ينوب المسلمين من النوائب يتعين إخراجه من بيت مالهم وهو مقدم على أخذ فاضل أموال الناس لأن أموالهم خاصة بهم(1/945)
وبيت المال مشتركا بينهم فإن كان لا يمكن القضاء من بيت المال في المستقبل فقد حق الوجوب على المسلمين كما قدمنا.
وإذا تقرر لك هذا فاعلم أن هذه الإستعانة المقيدة بهذه القيود المشروطة باستئصال قطر من أقطار المسلمين هي غير ما يفعله الملوك في زمانك من أخذ أموال الرعايا زاعمين أن ذلك معونة لجهاد مؤلف قد منعوه ما هو مؤلف به من بيت مال المسلمين أو جهاد من أبي من الرعايا أن يسلم ما يطلبونه منه من الظلم البحت الذي لم يوجبه الشرع أو جهاد من يعارضهم في الإمامة وينازعهم في الزعامة فاعرف هذا فإن هذه المسألة قد صارت ذريعة لعلماء السوء يفتون بها من قربهم من الملوك وأعطاهم نصيبهم من الحطام ومع هذا ينسون أو يتناسون هذه القيود التي قيدها المصنف بها وفاء بأغراض من يرجون منه الأغراض والأمر لله العلي الكبير.
قوله: "والإستعانة بالكفار والفساق".
أقول: أما الإستعانة بالفساق فلا مانع منها لأنهم من جملة المسلمين ولم يرد ما يدل على أنه لا يستعان إلا بمن كان مؤمنا صحيح الإيمان غير ملابس للمعاصي وقد استعان النبي صلى الله عليه وسلم بالمنافقين في كثير من حروبه وهم في الظاهر أشر من فساق المسلمين وفي البطان أضر من المعلنين بالشرك ولهذا كانوا في الدرك الأسفل من النار.
وأما الإستعانة بالكفار فلا تجوز على قتال المسلمين لأنه من تعاضد الكفر والإسلام على الإسلام وقبح ذلك معلوم ودفعه بأدلة الشرع لا يخفى وأما الإستعانة بالكفار على الكفار فقد وقع ذلك منه صلى الله عليه وسلم في غير موطن ووقع منه الرد لمن أراد إعانته من المشركين على قتال المشركين وقال لهم: "إنه لا يستعين بمشرك"، [مسلم "15/1817"، أحمد "14/41"] ، ويمكن الجمع بأن الجواز مع الحاجة ورجاء النفع والرد مع عدمهما أو أحدهما فيكون ذلك مفوضا إلى نظر الإمام.
وأما قوله: "حيث معه مسلمون" إلخ فوجهه أنه صلى الله عليه وسلم ما استعان بأحد من المشركين أو المنافقين إلا ومعه طائفة من خلص المسلمين.
قوله: "وقتل جاسوس وأسير كافرين أو باغيين".
أقول: أما الكفار فدماؤهم على الأصل الإباحة كما في آية السيف فكيف إذا نصبوا الحرب فظفر المسلمون بأسير أو جاسوس منهم فإنه يجوز للإمام قتلهما كما قتل صلى الله عليه وسلم من قتل من أسرى بدر وكما فعل في بني قريظة [البخاري "7/411"] ، وحكما قال الله عزوجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] ، وله المن أو الفداء كما قال الله عزوجل: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] ، فعرضت بهذا أنه لا وجه لقوله قتلا أو بسببهما فإنه لم يرد في الشرع ما يدل على هذا الإشتراط في حق الكفار أبدا وأما البغاة فدماؤهم معصومة بعصمة الإسلام لا يجوز قتلهم إلا دفاعا إذا صالوا على المسلمين وبغوا عليهم ولم يرد في الشريعة ما يدل على قتل أسيرهم ولا قتل جاسوسهم سواء كانت الحرب قائمة أم لا بل ورد ما يدل(1/946)
على أنه لا يقتل أسير البغاة كما سيأتي في الفصل الذي أفرده المصنف لذكر أحكام البغاة فإن كان الأسير أو الجاسوس من البغاة قد قتلا قتلا يوجب عليهما القصاص كان قتلهما قصاصا وهو باب آخر غير باب البغي.
وأما قوله: "أو بسببهما" فلا وجه له لأن التسبب للقتل لا يوجب القصاص كما تقدم في الجنايات.
والحاصل أن هذه المسألة مبنية على غير أساس من طرفيها جميعا والصواب ما ذكرناه فاعرفه.
وأما قوله: "وإلا حبس الباغي وقيد" فهذا إن رآه الإمام صلاحا كان ذلك جائزا لأنه قد استحق ببغيه ما يستحقه العصاة من التعزير ولو لم يكن إلا كفه عن البغي بحبسه حتى يصلح ويتوب.
قوله: "وأن يعاقب بأخذ المال أو فساده".
أقول: قد تقرر بالأدلة الثابتة في الكتاب العزيز وفي السنة المطهرة عصمة مال المسلم وتحريم أكله بالباطل وأنه لا يحل بطيبة من نفسه وأن أصل دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم الحرمة فالواجب العمل على هذا الأصل والثبوت عليه وعدم الخروج عنه إلا بدليل ناهض يصلح للنقل فما ورد على وجه الصحة مما فيه العقوبة بأخذ المال أو إفساده كان مقصورا على محله لا يتعداه كما هو شأن ما ورد على خلاف القياس فضلا عن خلاف ما هو قطعي من قطعيات الشريعة هذا على فرض أنها لم تنسخ العقوبة بالمال وأنها ثابتة في تلك المواضع التي كان ورودها فيها وأما إذا كانت منسوخة فقد انقطع عرق مفسدتها وانهدمت ذريعتها وبطل حكمها وأراحنا الله من الإشتغال بها فإن هذه المسألة صارت ذريعة يتوصل بها إلى نهب أموال الرعايا ويصولون بها على من أنكر عليهم وقد تكررت مني الأبحاث فيها وأفردتها برسالة مستقلة فاشدد يديك على ما ذكرناه ولا تقبل إلا حجة صحيحة ثابتة عمن تقوم به الحجة فإنه لا يحجة فيما ورد عن بعض الصحابة ولا يجوز العمل به فيما لم يرد فيه دليل فكيف والدليل القطعي قائم بعصمة مال المسلم.
قوله: "وعليه القيام بما أمره إليه".
أقول: لما فرغ المصنف رحمه الله من ذكر ما هو للإعلام من الرعية ذكر ما هو عليه ومن جملة ذلك القيام بما أمره إليه وقد تقدم ذكره مفصلا لأن ذلك هو الغرض المقصود من نصبه إماما.
وأما قوله: "وتسهيل الحجاب" فوجهه أنها لما كانت حوائج المسلمين متعلقة به وهم محتاجون إليه لدفع ما ينوبهم ورفع ما نزل بهم كان احتجابه إضرارا بهم وإهمالا لحوائجهم وهذا خلاف ما هو المقصود من إمامته والمطلوب من زعماته فلو لم يرد في النهي عن الإحتجاب شيء لكان هذا كافيا فكيف وقد وردت الأدلة المصرحة بأشد الوعيد عليه إذا احتجب(1/947)
عنهم كما في حديث أبي مريم الأزدي عند أبي داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ولاه الله شيئا من أمور المسلمين فاحتج دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة"، وأخرجه أيضا أحمد "4/231"، والترمذي "1332"، والحاكم من حديث عمرو بن مرة الجهني وهذا الوعيد عن الإحتجاب لا يختص بالإمام بل يعم كل من ولي شيئا من أمور المسلمين ولا يجب عليه استغراق الأوقات لأنه يحتاج إلى النظر في أمور المسلمين خاليا وتدبير ما يتعلق بهم ومفاوضة وقت طعامه وشرابه ونومه وما يمس حاجته إليه وقد أشار المصنف إلى بعض هذا بقوله: إلا في وقت حاجته وخاصة أمره.
قوله: "وتقريب أهل الفضل وتعظيمهم".
أقول: قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجالس أكابر الصحابة ويشاورهم في أموره ويأذن لهم في أوقات لا يأذن لغيرهم فيها كما هو معروف بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلط نفسه بكثير من الصحابة ويجلس إلى أصل الصفة وهم فقراء المسلمين الذي لا أهل لهم ولا مسكن والأمر في هذا معلوم وفي تقريب أهل الفضل فوائد جليلة فيها أن الإمام يجري الأمور على ما عندهم من النظر فيما فيه صلاة المسلمين فإن فضلهم يقتضي ذلك وأما تعظيمهم فهو أيضا من حق المسلم على المسلم ومن تنزيل الناس منازلهم كما ورد بذلك الدليل الصحيح وأما استشارتهم فقد قدمنا الكلام على ذلك عند قوله أكثر رأيه الإصابة.
قوله: "وتعهد الضعفاء".
أقول: هذا من أهم الواجبات على الأئمة وأعظم معين عليه تسهيل الحجاب والبحث عن أحوالهم بثقات يرفعون حوائج المحتاجين إليه ويوصلون أغراضهم إلى مقامه وقد كان الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدور بالليل لمثل هذا المقصد فيأتي منازل الضعفاء والمحتاجين ويسألهم عن حالهم.
قوله: "ولا يتنحى ما وجد ناصرا إلا لأنهض منه".
أقول: الأنهضية هي باعتبار ما هو معظم المقصود من نصب الأئمة ومن ذلك حياطة المسلمين ودفع عدوهم والأخذ على يد ظالمهم وإنصاف مظلومهم وتأمين سبلهم وتفريق بيت مالهم فيهم على ما أوجبه الشرع فمن كان ناهضا بهذه الأمور ونحوها فيه يحصل مقصود الإمامة وينتفع الناس بولايته ويشملهم الأمن والدعة ويطيب عيشهم ويأمنون فيه على أنفسهم وأموالهم وحرمهم وإن كان غيره أكثر علما منع أو أوسع عبادة أو أعظم ورعا فإنه إذا كان غير ناهض بهذه الأمور فلا يعود على المسلمين من علمه وعبادته وورعه فائدة ولا ينفعهم كونه مريدا للصلاح وإجراء الأمور مجاريها الشرعية مع عجزه عن ذلك وعدم قدرته على إنفاذه.
قوله: "وأن يؤمر على السرية أميرا صالحا لها".
أقول: صلاح أمير السرية أن يكون عارفا بقيادة الجيش بصيرا بترتيب المحاربين في مواطن(1/948)
الحرب ثابت القدم عند ملاحمة القتال قوي القلب واسع الصدر حسن التدبير خبيرا بالكيفية التي يكون بها رجاء انتصار الجيش يقدم إذا وجد الإقدام مغنما يحجم إذا رأى الإحجام حزما وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبعث سرية قليلة ولا كثيرة إلا وجعل عليها أميرا كما هو معلوم من كتب الحديث والسير.
وأما قوله: "ولو فاسقا" فإن اقتضت ذلك الضرورة ودفعت إليه الحاجة فلا بأس ويأخذ عليه الإمام ما يخشى على الجيش من جهة فسقه ويأخذ على الجيش أن لا يطيعوه في معصية الله وفي الصحيحين [البخاري "8/58"، مسلم "1840"، وغيرهما أبو داود "2625"، النسائي "4205"، أحمد "1/82، 94، 124"] ، من حديث علي قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار وأمرهم أن يسمعوا له وييطعوا فأغضبوه في شيء فقال: اجمعوا لي حطبا، فجمعوا ثم قال: أوقدوا نارا، فأوقدوا ثم قال: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى قال: فادخلوها, فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار, فكانوا كذلك حتى سكن غضبه وطفئت النار فلما رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له فقال: "لو دخلوها لم يخرجوا منها أبدا"، وقال: "لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف".
قوله: "وتقديم دعاء الكفار إلى الإسلام".
أقول: كان على المصنف أن يزيد على هذا فيذكر أنهم إذا أبوا دعاهم إلى الجزية والأحاديث الواردة في توصيته صلى الله عليه وسلم لأمراء الجيش أن يقدموا الدعوة على الحرب كثيرة جدا حتى أخرج أحمد "1/231، 236"، وأبو يعلى والحاكم والطبراني بإسناد رجاله رجال الصحيح من حديث ابن عباس قال: ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما قط إلا دعاهم وأخرج أحمد وأبو داود "3988"، والترمذي "3222"، وحسنه من حديث فروة ابن مسيك قال: قلت: يا رسول الله أقاتل بمقبل قومي ومدبرهم؟ قال: "نعم"، فلما وليت دعاني فقال: "لا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى الإسلام".
وإذا رأى الإمام في ترك الدعوة صلاحا فعل فقد ثبت في الصحيحين [البخاري "2541"، مسلم "1/1730"، وغيرهما أبو داود "2633"] ، من طريق نافع لما كتب إليه ابن عون يسأله عن الدعاء قبل القتال فكتب إليه إنما كان ذلك في أول الإسلام وقد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم وأصاب يومئذ جويرية ابنة الحارث ثم قال نافع حدثني به عبد الله بن عمر وكان في ذلك الجيش وأخرج البخاري "4038، 4039، 4040"، وغيره عن البراء بن عازب قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطا من الأنصار إلى أبي رافع فدخل عبد الله بن عتيك بيته ليلا فقتله وهو نائم وفي الصحيحين [البخاري "3012"، مسلم "26/1745"، وغيرهما أحمد "4/38، 71، 72، 73"ن أبو داود "2672"، الترمذي "1570"، ابن ماجة "3839"] ، من حديث الصعب بن جثامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب من نسائهم وذراريهم فقال:(1/949)
"هم منهم"، وقد جمع بين هذه الأحاديث وما ورد في معناها بأنه يجب تقديم الدعوة لمن لم يبلغهم الدعوة ولا يجب إن كانت قد بلغتهم ولكنها تستحب فقط قال ابن المنذر وهو قول جمهور أهل العلم.
وهكذا تقديم الإمام دعاء البغاة عليه إلى الرجوع إلى طاعته لأنهم بغوا بسبب الخروج من طاعته فإن لم يرجعوا إلى الطاعة التي أوجبها الشرع للأئمة فقد بغوا وقد قال الله عزوجل: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] .
وأما كون الدعاء يندب أن يكون عليهم ثلاثا فلا دليل على ذلك وإن كان التكرير أبلغ في المعذرة وأدخل في الإنذار.
قوله: "وتنشر فيها الصحف".
أقول: هذه بدعة لم يرد بها الشرع ولكنه إذا رأى الإمام أن في ذلك مزيد تأثير من بغي وارعواء من فارق الحق فلا بأس به لأنها قد ترتبت عليه مصلحة.
وأما ما ذكره من ترتيب الصفوف فذلك أمر يرجع إلى الممارسين للحرب العارفين بما فيه رجاء الغلب وتمام النصرة فإن كان ترتيب المجاهدين صفوفا هو الذي يقتضيه التدبير أمر الإمام بذلك وإن كان الأنفع جعلهم كراديس أو تفريقهم في الجوانب أو خروج بعضهم إلى القتال ووقوف البعض الآخر ردءا له فعل ذلك.
[فصل
فإن أبوا وجب الحر بإن ظن الغلب فيفسق من فر إلا متحيزا إلى فئة ردءا أو منعة وإن بعدت أو لخشية الإستئصال أو نقص عام للإسلام.
ولا يقتل فان ومتخل وأعمى ومقعد وصبي وامرأة وعبد إلا مقاتلا أو ذا رأي أو متقي به للضرورة لا بمسلم إلا لخشية الإستئصال وفيه الدية والكفارة ولا يقتل ذو رحم رحمه إلا مدافعة عن نفسه أو غيره أو لئلا يحقد من قتله] .
قوله: "فصل: فإن أبوا وجب الحرب إن ظن الغلب".
أقول: هذا هو الذي ثبت في الأدلة الصحيحة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر أمراء الجيش بالدعوة إلى الإسلام أو الجزية فإن أبوا قاتلوهم وأما تقييد ذلك بظن الغلب فلم يرد ما يدل عليه بل يجب القتال مع تجويز أن يكونوا غالبين أو مغلوبين والحرب سجال:
ومن ظن ممن يلاقي الحروب ... بأن لا يصاب فقد ظن عجزا
وأما إذا علموا بالقرائن القوية أن الكفار غالبون لهم مستظهرون عليهم فعليهم أن يتنكبوا(1/950)
عن قتالهم ويستكثروا من المجاهدين ويستصرخوا أهل الإسلام وقد استدل على ذلك بقوله عزوجل: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ، وهي تقتضي ذلك بعموم لفظها وإن كان السبب خاصا فإن سبب نزولها أن الأنصار لما قاموا على زرائعهم وإصلاح أموالهم وتركوا الجهاد أنزل الله في شأنهم هذه الآية كما أخرجه أبو داود "2512"،والنسائي والترمذي "2972"، وصححه والحاكم أيضا وقد تقرر في الأصول أن الإعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ومعلوم أن من أقدم وهو يرى أنه مقتول أو مأسور أو مغلوب فقد ألقى بيده إلى التهلكة.
قوله: "فيفسق من فر" الخ.
أقول: قد ثبت أن الفرار من موبقات الذنوب كما في حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات"، [البخاري "2766، 5764، 6857"، مسلم "89"، أبو داود "2874"] ، ثم عد منهن "التولي يوم الزحف"، وقد قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال:65] ، وناهيك بمعصية يبوء صاحبها بغضب الله عليه ولكن لا بد أن يكونوا كما أخرجه البخاري وغيره عن ابن عباس قال لما نزلت: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 66] ، فكتب عليهم أن لا يفر عشرون من مائتين ثم نزلت الآية: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [النفال 66] ، الآية فكتب أن لا يفر مائة من مائتين فإذا كان المسلمون مثل نصف المشركين حرم عليهم الفرار وإلا كان جائزا وقد استثنى الله سبحانه المتحرف للقتال والمتحيز إلى فئة فليس هذا من الفرار المحرم والفئة تكون ردءا وتكون منعة كما قال المصنف ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للطائفة التي فرت إليه: "أنا فئتكم" كما في حديث ابن عمر عند أحمد "2/58، 70، 99، 100"، وأبي داود "2647"،وابن ماجه والترمذي "1716"، وحسنه وفي إسناده يزيد بن أبي زياد وفيه مقال معروف.
وأما قوله: "أو لخشية الإستئصال أو نقص عام" فوجهه أن المصابرة والإقدام على القتال مع أحد الأمرين يعود على المسلمين بالوهن والضعف وقد وقع الفرار في أيام النبوة في غير موطن وعذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كانوا قد خشوا مثل ذلك بل سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجوع خالد بن الوليد واستخراجهم من ملاحمة المشركين فتحا والقصة معروفة في كتب السير والحديث وكان ذلك بعد أن قتل أمير الجيش وهو زيد بن حارثة ثم الأمير الذي بعده وهو عبد الله بن رواحة ثم أخذ الراية خالد ورجع بالمسلمين.
قوله: "ولا يقتل فان" الخ.
أقول: وجهه ما أخرجه أبو داود "2614"، من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امرأة"، وفي إسناده خالد بن الفرز وفيه مقال وأخرج أحمد "14/65" من حديث ابن عباس بلفظ: "ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع"، وفي إسناده إبارهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة(1/951)
وهو ضعيف ووثقه أحمد وفي الصحيحين [البخاري "6/148"، مسلم "24، 25/1744"، وغيرهما الترمذي "1569"، أبو داود "2668"، ابن ماجة "2741"، أحمد "2/122، 123"] ، من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان وأخرج [أحمد "3/488"، وأبو داود "2669"، والنسائي وابن ماجه "2842"] ، وابن حبان والحاكم والبيهقي من حديث رباح بن ربيع عنه صلى الله عليه وسلم: "لا تقتلوا ذرية ولا عسيفا"، وأخرج أحمد "3/435"، بإسناد رجاله رجال الصحيح عن ابن كعب بن مالك عن عمه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان وأخرج أحمد 5/12، 20"، أيضا بإسناد رجاله رجال الصحيح من حديث الأسود بن سريع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتلوا الذرية في الحرب"، وأخرج أحمد "والترمذي وصححه من حديث سمرة بلفظ: "لا تقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم". وأخرج البيهقي من حديث علي نحو حديث ابن عباس وأخرج ابن أبي حاتم من حديث جرير نحوه أيضا.
فهذه الأحاديث قد دلت على المنع من قتل الشيخ الفاني والمتخلي للعبادة والنساء والصبيان والعسيف وهو الأجير ولا بد أن يكون الشيخ فانيا لا إذا بقي له قوة بحيث يقدر على القتال فإنه يقتل وإن لم يقاتل كما يدل عليه حديث سمرة المذكور ولكن هذا الحديث من رواية الحسن عن سمرة وقد مر غير مرة أنه لم يسمع منه إلا حديث العقيقة وأيضا في إسناده الحجاج بن أرطاة وفيه مقال مشهور والأولى أن يقال إن وصف الشيخ بكونه فانيا مقيد بما أطلق فيه ذكر الشيخ فيحمل المطلق على المقيد ولا يحرم إلا قتل الشيخ الفاني ولم يرد ما يدل على عدم جواز قتل الأعمى والمقعد إلا أنهما بمنزلة الشيخ في عدم القدرة على القتال فيجوز إلحاقهما به.
وأما العبد فلم يرد ما يدل على عدم جواز قتله وقد كان المسلمون يقتلون من قاتل من المشركين من أحرارهم وعبيدهم وقد يكون للعبد مزيد تأثير في القتال على الأحرار كما كان من وحشي يوم أحد ولا يصح قياسه على العسيف لأن العسيف لايقاتل وإنما هو لحفظ المتاع والدواب وإن قاتل جاز قتله ولهذا قال المصنف: "إلا مقاتلا" فمن قاتل من هؤلاء جاز قتله.
وأما جواز قتل ذي الرأي فلم يرد ما يدل عليه بعد اتصافه بوصف ما يوجب عدم جواز قتله من كونه شيخا أو متخليا للعبادة أو امرأة إلا أن يقال إن لحوق الضرر بالمسلمين بما يصدر عنه من الرأي فقد يكون أشد من مقاتلة المقاتل ولكن هذا رأي مجرد والتخصيص للأدلة بمجرد الرأي لا يصح عند المنصفين.
قوله: "أو متقى به للضرورة".
أقول: الوجه في قتل الترس ما يلحق المسلمين من الضرر بتركه فإن الكفار لو جعلوا من لا يبيح الشرع قتله منهم تروسا لهم ليحصنوا أنفسهم من سهام المسلمين ورماحهم وكان يخشى من مخالطتهم للمسلمين بالقتال أن يكثر القتل في المسلمين أو يغلبوا جاز قتل الترس دفعا للمفسدة العظيمة بمفسدة دونها بمراحل وأدلة الشريعة الكلية تقتضي هذا وأما إذا كان الترس(1/952)
مسلما وخشي استئصال المسلمين لمخالطة الكفار لهم بالقتال وملاحمتهم لهم فلا شك أن قتل واحد أو جماعة أهون من استئصال جيش المسلمين وإدخال الوهن على كل مسلم في الأقطار الإسلامية فهذا أهون من دفع المفسدة الكبيرة بمفسدة صغيرة وفي الشر خيار ولكن لا يكتفى في ذلك بمجرد الظنون الكاذبة والخيالات المختلة فإن خطر قتل المسلم عظيم بل لا بد أن يكون خشية الاستئصال مما تتفق عليه عقول أهل الرأي والتجارب.
وأما لزوم الدية فوجهه واضح لأن المقتول مسلم لا يهدر دمه وهكذا لزوم الكفارة على ما قد مر تحقيقه في موطنه.
قوله: "ولا يقتل ذو رحم رحمه".
أقول: الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة قد دلت دلالة أوضح من الشمس على قتل المشركين ولم يثبت في المنع من قتل ذي الرحم لرحمه ما تثبت به الحجة قط حتى يصلح لتخصيص الأدلة الصحيحة ومع هذا فهو معارض بمثله فيجب الرجوع إلى ما ثبت في القرآن والسنة فاعرف هذا فليس ها هنا ما يوجب التخصيص ولا التقييد.
[فصل
ويحرق ويغرق ويخنق أن تعذر السيف وخلوا عمن لا يقتل وإلا فلا إلا للضرورة ويستعين بالعبيد للضرورة ولا ضمان عليه لا غيرهم من الأموال فيضمن وترد النساء مع الغنية] .
قوله: "فصل ويحرق إلخ".
أقول: قد أمر الله بقتل المشركين ولم يعين لنا الصفة التي يكون عليها ولا أخذ علينا أن لا نفعل إلا كذا دون كذا فلا مانع من قتلهم بكل سبب للقتل من رمي أو طعن أو تغريق أو هدم أو دفع من شاهق أو نحو ذلك ولم يرد المنع إلا من التحريق فقد ثبت في صحيح البخاري ["6/149"، وغيره أبو داود "2674"، الترمذي "1571"، أحمد "2/307، 338، 453"،] ، من حديث أبي هريرة قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث فقال: "إن وجدتم فلانا وفلانا - لرجلين - فأحرقوهما بالنار"، ثم قال حين أردنا الخروج: "إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا وإن النار لا يعذب بها إلا الله فإن وجدتموهما فاقتلوهما"، فهذا الحديث قد دل على منع التحريق على كل حال فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد الأمر بإحراق رجلين مشركين قد بالغا في الأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم واستحقا القتل ثم علل ذلك بهذه العلة التي تفيد أنه لا يجوز التحريق بالنار لأحد من عباد الله سواء كان مشركا أو غير مشرك وإن بلغ في العصيان والتمرد على الله أي مبلغ فما وقع من بعض الصحابة محمول على أنه لم يبلغه الدليل.(1/953)
وبما ذكرناه تعرف أنه لا وجه لقول المصنف إن تعذر السيف ومن جملة ما لا يجوز أن يكون القتل به المثلة لثبوت النهي عنها في الأحاديث الكثيرة فيكون ذلك مخصصا لأدلة قتل المشركين على كل حال وبكل سبب من أسباب القتل وأما حديث: "إذا قتلتم فأحسنوا القتلة" فالمراد بالإحسان ترك التعذيب وتعجيل ما يحصل به الموت وليس ذلك مختصا بقتل السيف.
وأما قوله: "وخلوا عمن لا يقتل" فوجهه ما تقدم من النهي عن قتلهم فإذا لم تدع الضرورة إلى ما يعم من يجوز قتله ومن لا يجوز قتله كان الواجب اجتناب قتل من لا يجوز قتله وترك السبب الذي لا يمكن فيه تخصيص من يجوز قتله ومن لا يجوز كالرمي بالمنجنيق والمدافع وما يشابه ذلك وقد قدمنا ما يدل على جواز تبييت الكفار وهو سبب يعم من يجوز قتله ومن لا يجوز قتله وبهذا تعرف صحة قول المصنف من التقييد بقوله إلا للضرو.
قوله: "ويستعين بالعبيد للضرورة".
أقول: إذا دعت الحاجة إلى الاستعانة بهم وجب على المالكين لهم أن يأذنوا لهم بذلك ولا يجوز لهم أن يمتنعوا من الإذن فإن العبيد من جملة أموال المسلمين وقد تقدم في الاستعانة من خالص المال ما تقدم وليس للإمام أن يستعين بهم من غير إذن المالكين لهم وعلى هذا يحمل رد من رده رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم.
وأما قوله: "ولا ضمان عليه" فظاهر وقوله: "لا غيرهم من الأموال" فقد أغنى عنه ما تقدم في الاستعانة بخالص المال بتلك الشروط.
قوله: "وترد النساء مع الغنية".
أقول: أخرج البخاري "6/80"، وغيره أحمد "6/358"، من حديث الربيع بنت معوذ قال كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسقي القوم ونخدمهم ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة وأخرج مسلم "142/1812"، وغيره ابن ماجة "2856"، من حديث أم عطية الأنصارية قالت: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات أخلفهم في رحالهم وأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى وأقوم على الزمني وأخرج مسلم أيضا وغيره عن أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوة معها من الأنصار يسقين الماء ويداوين الجرحى.
فهذه الأحاديث تدل على جواز خروجهن مع الغزاة لا سيما إذا كان لهن حاجة في ذلك ولا ينافي هذا ما أخرجه البخاري وغيره من حديث عائشة أنها قالت: قلت: يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: "لكن أفضل الجهاد حج مبرور" فإنه إنما يدل على أن أفصل الجهاد الحج المبرور وهو غير محل النزاع.(1/954)
[فصل
ويغنم من الكفار نفوسهم إلا المكلف من مرتد ولو أنثى وعربي ذكر غير كتابي فالإسلام أو السيف وأموالهم ولا يستبد غانم بما غنم ولو طليعة أو سرية بقوة ردئهم إلا بشرط الإمام أو تنفليهم فلا يعتق الرحم ونحوه ومن وطيء ردها وعقرها وولدها ولا حد عليه ولا نسب وللإمام قيل ولو غائبا الصفي وهو شيء واحد ثم يقسم الباقي بعد التخميس والتنفيل بين ذكرو مكلفين أحرار مسلمين قاتلوا وكانوا ردءا ولم يفروا قبل إحرازها للراجل سهم ولذي الفرس لا غيرها سهمان إن حضر بها ولو قاتل راجلا ومن مات أو أسر أو ارتد بعد الإحراز فلورثته ويرضخ وجوبا لمن حضر من غيرهم ولا يطهر بالاستيلاء إلا ما ينجس بتذكيتهم أو رطوبتهم ومن وجد ما كان له فهو أولى به بلا شيء قبل القسمة وبعدها بالقيمة إلا العبد الآبق] .
قوله: "فصل: ويغنم من الكفار نفوسهم".
أقول: هذا معلوم من أدلة الكتاب والسنة وإجماع المسلمين سابقهم ولاحقهم وأما استثناء المرتد فوجهه قوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه"، وقوله: " لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث"، والحديثان صحيحان مشهوران وإنما لم يجز استرقاقه لأنه لما خرج من دين الإسلام كان علينا إرجاعه إليه أو قتله ولهذا يقول الله عزوجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] ، فإذا ابتغى أن يبقى على الكفر الذي خرج عليه بعد أسره ويصير عبدا لمن أسره لم يقبل منه ذلك.
قوله: "وعربي ذكر غير كتابي".
أقول: الأدلة الصحيحة قد دلت على جواز استرفاق الكفار من غير فرق بين عربي وعجمي وذكر وأنثى ولم يقم دليل يصلح للتمسك به فقط في تخصيص أسراء العرب بعدم جواز استرقاقهم بل الأدلة قائمة متكاثرة على أن حكمهم حكم سائر المشركين وقد سبى صلى الله عليه وسلم جماعة من بني تميم وأمر عائشة أن تعتق منهم وبالغ صلى الله عليه وسلم فقال: "من فعل كذا فكأنما أعتق رقبة من ولد إسماعيل"، وقال لأهل مكة: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
والحاصل أن الواجب الوقوف على ما دلت عليه الأدلة الكثيرة الصحيحة من التخيير في كل مشرك بين القتل والمن والفداء والاسترقاق فمن ادعى تخصيص نوع منهم أو فرد من أفرادهم فهو مطالب بالدليل وأما ما يروى من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: "لو كان الاسترقاق على العرب جائزا لكان اليوم وإنما هو أسر"، فلم يصح هذا من وجه بل في إسناده من هو غاية في الضعف".
وأما أسر نساء العرب فالأمر أظهر من أن يذكر الوقائع في ذلك ثابتة في كتب الحديث(1/955)
الصحيحين [البخاري "5/170"، مسلم "1/1730"، وغيرهما وفي كتب السير جميعها ولهذا قيد المصنف العربي بكون ذكرا ولا وجه لقوله غير كتابي لأنه إذا كان استرقاق العربي الذي ليس بكتابي غير جائز عنده فكيف يجوز استرقاق من له مزية مع كونه عربيا لا توجد في سائر من ليس بكتابي من العرب وهو كونه متبعا شريعة مقتديا بنبيه فإنه أولى بالاحترام من عابد الوثن.
قوله: "وأموالهم".
أقول: ليس في هذا خلاف وأدلة الكتاب والسنة مصرحة بذلك.
وأما قوله: "ولا يستبد غانم" بما غنم فوجهه أن الغنيمة جعلها الله للغانمين وفوض قسمتها إلى نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعده إلى أئمة المسلمين فاستبداد أحد القائمين بما غنمه خلاف ما شرعه الله لعباده وخيانة المسلمين وغلول للغنيمة وكل ذلك قبيح قد دلت الأدلة على منعه وتحريمه وإثم صاحبه ويخرج من ذلك ما ورد الترخيص فيه كما في حديث ابن عمر عند البخاري "6/255"، وغيره أبو داود "2701"، قال كنا نصيب فيمغازينا العسل والعنب فناكله ولا نرفعه وما أخرجه مسلم [البخاري "7/481"، مسلم "72/1772"، وغيره أبو داود "2702"، أحمد "4/86، 5/65"، النسائي "4440"] ، من حديث عبد الله بن المغفل قال: أصبت جرابا من شحم يوم خيبر فالتزمه فقلت: لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متبسما وفي الباب أحاديث.
وإذا عرفت هذا أن ما غنمه الجيش مشترك بينهم جميعا من غير فرق بين أن يكونوا هم الغانمين له بأنفسهم أو غنمته طليعتهم أو سريتهم التي لم تغنم تلك الغنيمة إلا بقوة الجيش الذي أرسلها أما لو لم يكن الأمر كذلك فإن الطليعة والسرية تصير كالجيش المستقل وتستحق ما انفردت به.
قوله: "إلا بشرط الإمام".
أقول: وجهه ما ثبت في الصحيحين [البخاري "3142"، مسلم "1751"، بوغيرهما أبو داود "2717"، الترمذي "1562"، ابن ماجة "2837"] ، من حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: "من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه"، وفي الحديث قصة وأخرج أحمد وأبو داود بإسناد رجاله رجال الصحيح من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: "من قتل رجلا فله سلبه" فقتل أبو طلحة عشرين رجلا وأخذ أسلابهم، وأخرج مسلم ["1753"، وغيره أبو داود "2719"] ، أن عوف بن مالك قال لخالد بن الوليد أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل قال: بلى وفي الصحيحين [البخاري "6/168"، مسلم "45/1754"، وغيرهما أبو داود "2654"] ، من حديث سلمة بن الأكوع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قصة قتله للرجل صاحب الجمل الأحمر: "من قتل الرجل؟ " قالوا: سلمة بن الأكوع, قال: "له سلبه أجمع" وفي الصحيحين [البخاري "3141"، مسلم "1752"] ، وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بسلب أبي جهل لمعاذ بن عمرو بن الجموح لكونه(1/956)
الذي قتله وقد ذهب الجمهور إلى أن القاتل يستحق سلب من قتله سواء كان أمير الجيش قال قبل ذلك: "من قتل قتيلا فله سلبه" أم لا, وذهب من عداهم أنه لايستحقه القاتل إلا أن يشرط الإمام له ذلك ويدل على ما ذهب إليه الجمهور أن الأمر كان مشتهرا عند الصحابة في حياته صلى الله عليه وسلم أن السلب للقاتل وإن لم يقل الإمام ذلك كما في حديث عوف بن مالك المذكور.
قوله: "أو تنفيله".
أقول: وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع بعد الخمس في بدأته ونفل الثلث بعد الخمس في رجعته أخرجه أحمد "4/160"، وأبو داود "2748، 2749، 2750"، وابن ماجه "2853"، من حديث حبيب بن مسلمة وصححه ابن حبان وابن الجارود والحاكم وأخرج أحمد "3/470"، وابن ماجه "2753"، وصححه ابن حبان من حديث عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل في البدأة والربع وفي الرجعة الثلث وأخرج أحمد وأبو داود وصححه الطحاوي من حديث معن بن يزيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا نفل إلا بعد الخمس"، وفي الصحيحين [البخاري "6/237"، مسلم "40/1750"، وغيرهما أبو داود "2746"] ، من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة سوى قسم عامة الجيش والخمس في ذلك كله واجب وفي الصحيحين [البخاري "6/237"، مسلم "35/1749"، وغيرهما أبو داود "2744"، أحمد "2/62، 112"] ، من حديث ابن عمر أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية قبل نجد فخرجت فيها فبلغت سهماننا أثنى عشر بعيرا ونفلنا صلى الله عليه وسلم بعيرا بعيرا وفي الباب أحاديث كثيرة.
وأما قوله: "فلا يعتق الرحم" فوجهه أن ملك الغانم في الغنيمة غير مستقر حتى يتعين له سهمه فيها وذو الرحم إنما يعتق على رحمه إذا ملكه ملكا مستقرا لا سيما مع تجويز أن يخص الإمام بعض الغانمين بشيء من الغنيمة على جهة التنفيل أو يرضخ لمن حضر من غير القائمين.
وأما كون من وطىء المسبية وجب عليه ردها وعقرها وولدها فوجهه أنه وطىء ما لم يستقر ملكه عليه لا في كله ولا في بعضه وأما كونه لا يحد فوجهه أن مجرد كون له نصيب في الغنيمة في الجملة شبهة والحدود تدرأ بالشبهات.
قوله: "وللإمام – قيل: ولو غائبا - الصفي".
أقول: وجهه ما أخرجه أبو داود "2999"، والنسائي "4146"، ورجاله رجال الصحيح عن يزيد بن عبد الله قال كنا بالمربد إذ دخل رجل معه قطعة أديم فقرأناها فإذا فيها: "من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني زهير بن أقيش إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأديتم الخمس من المغنم وسهم من النبي صلى الله عليه وسلم ومهم الصفي أنتم آمنون بأمان الله ورسوله"، فقلنا: من كتب لك هذا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج أبو داود "2994"، بإسناد رجاله رجال الصحيح وصححه ابن حبان والحاكم من حديث عائشة قالت وكانت صفية من الصفي ولكنه يعارض هذا ما ثبت في الصحيحين بالبخاري "4/419"، مسلم "87/1365"،(1/957)
وغيرهما من حديث أنس بن مالك قال صارت صفية لدحية الكلبي ثم صارت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وله طرق في الصحيحين وما فيهما مرجح على ما هو خارج عنهما كما هو معلوم.
ومما يدل على ثبوت الصفي للأئمة ما أخرجه أحمد "17/221"، والترمذي "4/130"، وحسنه من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم تنقل سيفه ذا الفقار يوم بدر وأخرج أبو داود "2991"، والنسائي "4145"، عن عامر الشعبي مرسلا قال "كان للنبي صلى الله عليه وسلم سهم يدعى الصفي إن شاء عبدا وإن شاء أمة وإن شاء فرسا يختاره قبل الخمس"، وأخرج أبو داود "2992"، بإسناد رجاله ثقات عن ابن عون قال سألت محمد بن سيرين عن سهم النبي صلى الله عليه وسلم والصفي قال كان يضرب له سهم مع المسلمين وإن لم يشهد والصفي يؤخذ له رأس من الخمس قبل كل شيء وهو مرسل ومجموع ما ذكرنا يدل على ثبوت الصفي للإمام بعد أن يضرب له بسهم حضر أو غاب.
قوله: "بعد التخميس والتنفيل".
أقول: أما كون القسمة تكون بعد التخميس فذلك بنص القرآن قال الله سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] ، الآية ولا خلاف في ذلك وأما كون القسمة تكون بعد التنفيل فوجه ذلك ما قدمنا ذكره قريبا.
وأما قوله بين ذكور فوجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل لمن كان يحضر من النساء سهما كسهم الرجال كما في صحيح مسلم "137/1812"، وغيره من حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغزو بالنساء فيداوين الجرحى ويحذين من الغنيمة وأما بسهم فلم يضرب لهن".
وأما ما أخرجه أحمد "5/271"، وأبو داود "2729"، من حديث حشرج بن زياد عن جدته أم أبيه "أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم لها ولمن معها من النساء كما أسهم للرجال عند فتح خيبر"، فحشرج هذا مجهول وفي بقية إسناده ضعيف فلا تقوم به حجة فضلا عن أن يعارض ما في الصحيح وقد حمل ذلك على الرضخ.
قوله: "مكلفين".
أقول: وجه اشتراط كونهم مكلفين أن الغنيمة جعلها الله للمقاتلين من الرجال وليس الصبيان ممن يقاتل ولهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يأذن في الغزو إلا لمن قد صار مكلفا كما في كتب الحديث والسير ولا تقوم الحجة بما أخرجه الترمذي عن الأوزاعي قال أسهم النبي صلى الله عليه وسلم للصبيان بخيبر لا سيما مع إرساله ومخالفته للأحاديث الصحيحة وقد حمل هذا الإسهام على الرضح.
قوله: "أحرارا".
أقول: وجهه أن العبيد ليسوا من أهل الغزو وكما تقدم وإنما يستحق الغنيمة الغانمون لها وقد أخرج مسلم وغيره عن ابن عباس أنه سئل عن المرأة والعبد هل كان لهما سهم معلوم قال: إنه لم يكن لهما سهم معلوم إلا أن يحذيا من غنائم القوم وأخرج أحمد(1/958)
"1/319"، وأبو داود "2727"، والترمذي "4/137"، وصححه من حديث ابن عباس أيضا قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المرأة والعبد والمملوك من الغنائم دون ما يصيب الجيش وهذا محمول على الرضخ ومثله ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه من حديث عمير مولى آبي اللحم قال شهدت خيبر مع سادتي فكلموا في رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بي فقلدت سيفا فإذا أنا أجره وأخبر أني مملوك فأمر لي بشيء من خرثي المتاع.
قوله: "قاتلوا أو كانوا ردءا".
أقول: وجهه ما قدمنا لك من أن الغنيمة إنما هي لمن غنمها من الغزاة والردء له حكم الجيش المقاتل لأنه يزيدهم قوة ورغبة في القتال ويزيد العدو ضعفا وفشلا ورهبة للإقدام على من قابلهم من جيش المسلمين وما ورد من إعطائه صلى الله عليه وسلم لمن حضر عند القسمة ولم يكن مقاتلا ولا ردءا فهو محمول على الرضخ لا على الإسهام لهم كما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي موسى أنه قدم هو وجعفر بن أبي طالب ومن كان معهم في السفينة التي رجعوا فيها من الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وانه كان قدومهم عليه صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر فأسهم لنا أو قال فأعطانا منها وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئا إلا لمن شهد معه إلا لأصحاب سفينتينا مع جعفر وأصحابه قسم لهم معهم.
وأما قوله: "إن لم يفروا قبل إحرازها" فوجهه أن هؤلاء مع الفرار لم يكن لهم أثر في تحصيل الغنيمة بل ما حصل بسبب فرارهم من الوهن الداخل على الغزاة المقاتلين أكثر مما حصل من التقوية بحضورهم قبل إحراز الغنيمة.
قوله: "للراجل سهم ولذي الفرس لا غير سهمان".
أقول: الحق ما ذهب إليه الجمهور من أنه يعطي الفارس مع فرسه ثلاثة أسهم والراجل سهما واحدا وعلى هذا دلت الأحاديث الصحيحة الكثيرة ولم يرد دليل صحيح ولا حسن يدل على ما قاله المصنف من أن لذي الفرس مع فرسه سهمين فقط وغاية ما استدل به المصنف ومن قال بقوله حديث مجمع بن جارية الأنصاري قال: قسمت خيبر على أهل الحديبية فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمانية عشر سهما وكان الجيش ألفا وخمسمائة فيهم ثلاثمائة فارس فأعطى الفارس سهمين والراجل سهما أخرجه أحمد وأبو داود وقد صرح الحفاظ بضعف إسناد هذا الحديث مع توهيم راويه حيث قال فيهم ثلاثمائة فارس وإنما كانوا مائتي فارس ومع هذا فهو يمكن تأويل قوله فأعطى الفارس سهمين والراجل سهما أنه أعطى الفارس سهم فرسه وذلك سهمان وله سهم ثالث مع سائر الرجال ويدل على أن هذا هو المراد أن ابن أبي شيبة روى هذا الحديث في مصنفه بهذا الإسناد فقال للفرس وأخرجه أيضا أحمد "14/79"، عن أبي أسامة وابن نمير معا بلفظ أسهم للفرس.
والحاصل أنه يجب على كل حال تأويل ذلك اللفظ المذكور في حديث مجمع بن جارية(1/959)
لأن الأحاديث الكثيرة الصحيحة عن جماعة من الصحابة أنه صلى الله عليه وسلم أسهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه.
وأما قوله: "إن حضر الوقعة بها ولو قاتل راجلا" فوجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم لكل فارس وفرسه ثلاثة أسهم ولم يسأل هل قاتل عليها أم لا وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم.
وأما قوله: "ومن مات" إلخ فلا حاجة إلى ذكره لأن ما صار إلى الميت يورث عنه من غير فرق بين الغنائم وغيرها.
قوله: "ويرضخ وجوبا لمن حضر من غيرهم".
أقول: لا دليل على مشروعية هذا الرضخ إلا ما تقدم في النساء والصبيان والعبيد وأما ممن عداهم فيجوز للإمام أن يخصص بعض من له قدم في الإسلام بشيء من الغنيمة كما في حديث أبي موسى المتقدم قريبا وأما ما يروى بلفظ: "الغنيمة لمن شهد الوقعة" فلم يصح رفعه فلا تقوم به حجة.
والحاصل أن الغنيمة قد صارت مستحقة للغانمين فإيجاب شيء فيها لغيرهم بل ندبه يحتاج إلى دليل بل لا يجوز أن يقال إن الرضح مباح لأنه تصرف في ملك الغير بغير أمره ولايجوز قياس غير النبي صلى الله عليه وسلم عليه لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
قوله: "ولا يطهر باستيلاء إلا ما ينجس بتذكيتهم أو رطوبتهم".
أقول: وجه هذا ما أخرجه احمد وأبود اود من حديث جابر بن عبد الله قال كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصيب من آنية المشركين وأسقيتهم فنستمتع بها ولايعيب ذلك عليهم فالمصنف رحمه الله لما اعتقد نجاسة رطوبة الكفار ووقف على مثل هذا الحديث ظن أن الاستيلاء بمجرده يوجب الطهارة وليس الأمر كذلك وقد تقدم أنه لا وجه للقول بنجاسة الرطوبة وكذلك ما ينجس بالتذكية لا نفس المذكي فقد تقدم الكلام عليه في الذبائح.
فإن قلت: حديث أبي ثعلبة الثابت في الصحيحين [البخاري "5496"، مسلم "1930"، وغيرهما قال: قلت: يا رسول الله إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل من آنيتهم؟ قال: "إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها"، يدل على وجوب غسلها قلت قد ثبت في رواية أحمد وأبي داود أنه قال في السؤال وأنهم يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر فالأمر بالغسل هو لهذا لا لمجرد الرطوبة وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه توضأ في مزادة مشركة [البخاري "1/447، 448"، مسلم "682"، كما تقدم وأكل من الشاة التي أهدتها له يهودية من خيبر وأجاب دعوة يهودي إلى خبز شعير وإهالة سنخة [مسلم "8/1641"] .
قوله: "ومن وجد ما كان له" الخ.
أقول: لم يثبت ما يدل على أنه يخرج من ملكه حتى يقال هو أولى به قبل القسمة وبعدها بالقيمة بل هو باق على ملك مالكه وأخذه منه على غير ما أذن به الشرع لا يترتب عليه حكم الملك أصلا فيأخذه قبل القسمة وبعدها ولا يلزمه شيء ويرجع من قد صار في نصيبه(1/960)
بالقسمة على الغنيمة فيعطى منها بقدر ما استحق ولا فرق بين العبد وغيره وقد ثبت في الصحيح [مسلم "8/1641"، أن المشركين أخذوا ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء فأخذتها امرأة من الأنصار كانت في أسرهم ورجعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت في الصحيح [البخاري "6/182"، أنه ذهب فرس لابن عمر فأخذه المشركون فظهر عليهم المسلمون فرد عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبق عبد له فلحق بأرض الروم فظهر عليهم المسلمون فرده عليه خالد بن الوليد بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهذه التكاليف إنما وقع المصنف فيها لما سيأتي من أنهم يملكون علينا وأن دار الحرب دار إباحة وسيأتي الكلام على ذلك.
[فصل
وما تعذر حمله أحرق والحيوان بعد الذبح ويقتل من كان يجوز قتله والسلاح يدفن أو يكسر ولا يملكون علينا ما لم يدخل دارهم قهرا ولا البغاة وغير ذي الشوكة من الكفار مطلقا] .
قوله: "فصل: وما تعذر حمله أحرق".
أقول: قد ثبت الإحراق والقطع في نخل بني النضير كما في الصحيحين [البخاري "7/329"، مسلم "29، 3/1746"، وغيرهما أبو داود "2615"، ابن ماجة "2845"، أحمد "2/8، 52، 80، 123، 140"] ، من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع نخل بني النضير وحرق ونزل في ذلك قوله عزوجل: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا} [الحشر: 5] ، الآية وثبت في الصحيحين [البخاري "3036، 6090"، مسلم "135، 2475"، وغيرهما ابن ماجة "159] ، أن جرير بن عبد الله حرق ذا الخلصة بالنار فبرك صلى الله عليه وسلم على خيل أحمس ورجالها خمس مرات وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أسامة بن زيد قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قرية يقال لها ابنى فقال: "ائتها صباحا ثم حرق"، وفي إسناده ضعيف وقد ذهب الجمهور إلى جواز التحريق والتخريب في بلاد العدو وكرهه الأوزاعي والليث وأبو ثور وليس معهم على المنع دليل ولا يصح التمسك بما في الموطأ عن أبي بكر أنه قال ليزيد بن أبي سفيان حين بعثه إلى الشام "ولا تعقرن نخلا ولا تحرقه" فإن قول الصحابي لا تقوم به الحجة منفردا فكيف إذا خالف ما صح عن الشارع وقد تقدم في قوله: "ويحرق ويغرق ويخنق"، قيام الدليل على عدم جواز إحراق من استحق القتل من كافر وغيره وهكذا الحيوان لا يجوز تحريقه إلا بعد الذبح لورود النهي عن التعذيب بالنار وعن تعذيب خلق الله.
وأما قوله: "ويقتل من يجوز قتله" فذلك ثابت بأدلة الكتاب والسنة وبإجماع المسلمين.(1/961)
وأما قوله: "والسلاح يدفن أو يكسر" فإذا تعذر حمله عن بلاد العدو كان على الإمام أن يأمر المسلمين بإتلافه ونحوه من آلات الحرب بأي سبب من الأسباب المقتضية للتلف.
قوله: "ويملكون علينا ما لم ندخل دارهم قهرا".
أقول: التعرض لمثل هذا من فضول العلم التي لا تدعو إليها حاجة فإن كون الكافر يملك ما أخذه على المسلم ويخرج بذلك عن ملك المسلم لم يرد في كتاب ولا سنة ولا قياس صحيح ولا إجماع وإنما قال ما لم يدخل دارهم لأنه سيأتي أن دار الحرب دار إباحة فعلى هذا أنهم لا يملكون علينا إلا ما أخذوه ولم يجوزوه إلى دار الحرب وهذا من عجائب الأحكام وغرائب التفريع.
وأما الاستدلال بما روى من قوله صلى الله عليه وسلم: "هل ترك لنا عقيل من رباع؟ " فليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صرح بأنه قد ملكها وغاية ما هنالك أنه صلى الله عليه وسلم ترك المطالبة للمشتري لها من عقيل ولا سيما وقد صاروا مسلمين عند أن قال صلى الله عليه وسلم هذه المقالة.
وأما قوله: "ولا البغاة وغير ذي الشوكة" فظاهر ويجب أن يجعل الكفار وأرباب الشوكة مثل هؤلاء لا يملكون علينا.
[فصل
ودار الحرب دار إباحة يملك كل فيها ما ثبتت يده عليه ولنا شراؤه ولو والدا من ولد إلا حرا قد أسلم ولو ارتد ولا قصاص فيها مطلقا ولا تأرش إلا بين المسلمين وأمانهم لمسلم أمان لهم منه فلا يغنم عليهم ويرد ما اشتراه ممن غنمه بعد الأمان ولا يف بمحظور شرطه من لبث أو غيره وله استرجاع العبد الآبق ولغير المستأمن أخذ ما ظفر به ولا خمس عليه] .
قوله: "فصل ودار الحرب دار إباحة" الخ.
أقول: وجه هذا أن الله سبحانه أمرنا بقتال أهل الشرك وأباح لنا دماءهم وأموالهم ونساءهم فكانوا من هذه الحيثية على أصل الإباحة سواء وجدناهم في دارهم أو في غير دارهم وينبغي تقييد هذا الإطلاق بأن المسلم وماله إذا كان فيهما فعصمة دمه وماله باقية لا يجوز لأحد من المسلمين أن يخالف تلك العصمة لأن كون دار الحرب دار إباحة هي من تلك الحيثية التي ذكرناها لا مطلقا وقد أشار المصنف إلى هذا بقوله: "إلا حرا قد أسلم".
وأما جواز شراء ما أخذ من دار الحرب ممن هو في يده فذلك ظاهر لأن الآخذ له قد ملكه فإن كان الآخذ مسلما لم يصح قوله ولو والدا من ولد لأن المسلم مخاطب بأحكام الإسلام ومن جملتها عتق رحمه عليه وإن كان كافرا فلا بأس بشراء رحمه منه لأنه وإن كان(1/962)
مخاطبا بالشرعيات فذلك باعتبار إثمه على تركها وأما صحتها منه في حال كفره فلا لأن الإسلام شرط.
وأما قوله: "ولو ارتد" فوجهه ما تقدم من أن المرتد لا يسترق بل يطالب بالإسلام فإن فعل وإلا قتل.
قوله: "ولا قصاص فيها مطلقا".
أقول: هذا لا وجه له لا من كتاب ولا سنة ولا قياس صحيح ولا إجماع فإن أحكام الشرع لازمة للمسلمين في أي مكان وجدوا ودار الحرب ليست بناسخة للأحكام الشرعية أو لبعضها فما أوجبه الله على المسلمين من القصاص ثابت في دار الحرب كما هو ثابت في غيرها مهما وجدنا إلى ذلك سبيلا ولا فرق بين القصاص وثبوت الأرش إلا مجرد الخيال المبني على الهباء فإن كل واحد منهما حق لآدمي محض يجب الحكم له به على خصمه وهو مفوض إلى اختياره وغاية ما ثبت في هذا ما وقع منه صلى الله عليه وسلم من وضع الدماء التي وقعت في أيام الجاهلية وليس في هذا تعرض لدماء المسلمين فهي على ما ورد فيها من أحكام الإسلام ولا يرفع شيئا من هذه الأحكام إلا دليل يصلح للنقل وإلا وجب البقاء على الثابت في الشرع من لزوم القصاص ولزوم الأرش.
قوله: "وأمانهم لمسلم أمان لهم منه".
أقول: لا ملازمة بين الأمانين لا شرعا ولا عقلا ولا عادة فيجوز للمسلم الداخل دارالحرب بأمان أهلها أن يأخذ ما قدر عليه من أموالهم ويسفك ما تمكن منه من دمائهم فلا يتم قوله فلا يغنم عليهم ولا قوله ويرد ما اشتراه ممن غنمه بعد الأمان.
وأما قوله: "ولا يف بمحظور" إلخ فوجهه ظاهر لأن هذا الأمان هو في حكم المصالحة في قدر موته ولا يجوز الدخول في الصلح الذي يحل حراما أو يحرم حلالا كما ورد بذلك الدليل الصحيح وأيضا المحظور محظور بحكم الشرع فيكف يجوز شرطه للكفار فضلا عن إن يجوز الوفاء به لهم.
وأما قوله: "وله استرجاع العبد الآبق" فقد قدمنا أنه يجوز له أن يأخذ من أموالهم ما قدر عليه فجواز أخذ عبد المسلم الذي أبق منه ثابت بفحوى الخطاب.
وأما قوله: "ولغير المستأمن ما فظر به" فقد أغنى عنه ما تقدم من أنه يغنم من الكفار نفوسهم وأموالهم وما تقدم في أول هذا الفصل من قوله ودار الحرب دار إباحة.
وأما قوله: "ولا خمس عليه" فلا يخفاك أنه إذا صدق على ما أخذه أنه غنيمة فقد دخل تحت قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] ، فلا بد من دليل يخصص هذه الصورة ولا دليل.(1/963)
[فصل
ومن أسلم في دارنا لم يحصن في دارهم إلا طفله لا في دارهم فطفله وماله المنقول إلا ما عند حربي غيره وأم ولد المسلم فيردها بالفداء ولو بقي دينا والمدبر بالفداء ويعتقان بموت الأول والمكاتب بالوفاء للآخر ولأوهم للأول] .
قوله: "فصل: ومن أسلم في دارنا لم يحصن في دارهم" الخ.
أقول: الإسلام عصمة لمال الرجل ولأولاده الذين لم يبلغوا فمن زعم أنه يحل شيء من مال من أسلم لكون المال في دار الحرب لم يقبل منه ذلك إلا بدليل يدل على النقل من عصمة الإسلام ولا دليل وقد قدمنا الإشارة إلى هذا في الكلام على دار الحرب.
وإذا عرفت هذا علمت أنه لا حاجة إلى الاستدلال على هذا بما لا تقوم به الحجة فإن الأحاديث الصحيحة المصرحة بأن الكفار إذا تكلموا بكلمة الإسلام عصموا بها دماءهم وأموالهم يغني عن غيرها ومن غرائب الرأي المبني على غير صواب الفرق بين إسلام الكفار في دارنا وبين إسلامهم في دارهم وبين المال المنقول وغير المنقول فإن هذا ليس عليه أثارة من علم ويرد هذا الفرق ما أخرجه أحمد "4/210"، وأبو داود "3067"، بإسناد رجاله ثقات أن النبي صلى الله عليه وسلم رد على بني سليم أرضهم وقال: "إذا أسلم الرجل فهو أحق بأرضه وماله"، وأخرج سعيد بن منصور بإسناد رجاله ثقات أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر بني قريظة فأسلم ثعلبة وأسيد بن سعيد فأحرز لهما إسلامهما أموالهما وأولادهما الصغار وفي الباب أحاديث.
وكما أنه لا وجه لهذا كله لا وجه لقوله إلا ماله عند حربي فإن الإسلام يحصن جميع أمواله سواء كان في دار الإسلام أو في دار الحرب وسواء كانت عند مسلم أو عند حربي.
وأما قوله: "وأم ولد المسلم فيردها بالفداء" فقد قدمنا لك أن مال المسلم يعود إليه على أي صفة كان ومماليكه الذين لم ينجز عتقهم من جملة أمواله فتخصيص أم الولد والمدبر والمكاتب بالذكر من عجائب الرأي المبني على الخيال وإيجاب الفداء على السيد ليس هو إلا بمجرد المحافظة على ما تقدم من أن الكفار يملكون علينا وقد عرفت ما فيه.
وإذا تقرر لك هذا فلا حاجة لنا إلى الكلام على ما ذكره من التفصيل في العتق.
[فصل
والباغي من يظهر أنه محق والإمام مبطل وحاربه أو عزم أو منع منه أو منعه واجبا أو قام بما أمره إليه وله منعه وحكمهم جميع ما مر إلا أنهم لا يسبون ولا يقتل جريحهم ولا مدبرهم إلا ذا فئة أو لخشية العود كلكل مبغي عليه ولا يغنم من أموالهم(1/964)
إلا الإمام ما أجلبوا به من مال وآله حرب ولو مستعارا لذلك إلا غصبا ولا يجوز ما عدا ذلك لكن للإمام فقط تضمينهم وأعوانهم حتى يستوفي الحقوق ولا ينقض له ما وصفوه من أموالهم في قربة أو مباح مطلقا أو محظور وقد تلف وللمسلم أخذ ما ظفر به من مال لله معهم لنفسه مستحقا أو ليصرف] .
قوله: "فصل: والباغي من يظهر أنه محق" الخ.
أقول: قد جاء القرآن والسنة بتسمية من قاتل المحقين باغيا فقال الله عزوجل: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات: 9] ، وثبت في الصحيح أن عمار بن ياسر تقتله الفئة الباغية فالباغي هو من خرج من طاعة الإمام التى أوجبها الله على عباده ويقدح عليه في القيام بمصالح المسلمين ودفع مفاسدهم من غير بصيرة ولا على وجه المناصحة فإن انضم إلى ذلك المحاربة له والقيام في وجهه فقد تم البغي وبلغ إلى غايته وصار كل فرد من أفراد المسلمين مطالبا بمقاتلته لقوله سبحانه: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا} [الحجرات: 9] ، الآية وليس القعود عن نصرة المحق من الورع بعد قول الله عزوجل: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} .
والحاصل أنه إذا تبين الباغي ولم يلتبس ولا دخل في الصلح كان القعود عن مقاتلته خلاف ما أمر الله به وأما مع اللبس فلا وجوب حتى يتبين المحق من المبطل لكن يجب السعي في الصلح كما أمر الله به وليس من البغي إظهار كون الإمام سلك في اجتهاده في مسألة أو مسائل طريقا مخالفة لما يقتضيه الدليل فإنه ما زال المجتهدون هكذا ولكنه ينبغي لمن ظهر له غلط الإمام في بعض المسائل أن يناصحه ولا يظهر الشناعة عليه على رؤوس الأشهاد بل كما ورد في الحديث أنه يأخذ بيده ويخلو به ويبذل له النصيحة ولا يذل سلطان الله وقد قدمنا في أول كتاب السير هذا أنه لا يجوز الخروج على الأئمة وإن بغوا في الظلم أي مبلغ ما أقاموا الصلاة ولم يظهر منهم الكفر البواح والأحاديث الواردة في هذا المعنى متواترة ولكن على المأموم أن يطيع الإمام في طاعة الله ويعصيه في معصية الله فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وأما قوله: "أو منع منه" فوجهه أن المأمور إذا لم يدفع إلى الإمام ما يجب دفعه إليه فهو باغ من هذه الحيثية وهكذا إذا لم يطعه في واجب أوجبه الله عليه للإمام من جهاد أو ولاية بالحق أو نصيحة وهكذا إذا قام بما أمره إلى الإمام فإنه أقعد نفسه في المقعد الذي لا يصلح له إلا من ثبتت له الإمامة بمبايعة المسلمين فيكون من هذه الحيثية باغيا.
قوله: "وحكمهم جميع ما مر".
أقول: هذه الإحالة غير حسنة فإنه إذا لم يغنم من أهل البغي نفوسهم ولا أموالهم ولا يجوز فيهم الأحكام التي سيتذكرها كان غالب أحكامهم المخالفة لما مر في أحكام الكفار فلم يكن لهذه الكلية وجه لأنه لم يبق تحتها بعد الاستثناء إلا النادر من الأحكام.(1/965)
وأما قوله: "إلا أنهم لا يسبون" فهذا معلوم لا يخالف فيه أحد من المسلمين أجمعين.
وأما قوله: "ولا يقتل جريحهم ولا مدبرهم" فقد أخرج الحاكم وصححه البيهقي من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن مسعود: "يا ابن أم عبد: ما حكم من بغى من أمتي؟ " قال: الله ورسوله أعلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتبع مدبرهم ولا يجهز على جريحهم ولا يقتل أسيرهم"، وفي إسناده كوثر بن حكيم وهو ضعيف قال البيهقي هذا الحديث ضعيف انتهى ولكنه يقويه ما أخرجه ابن أبي شيبة والحاكم والبيهقي من طريق عبد خير عن علي بلفظ نادى منادي علي يوم الجمل ألا لا يتبع مدبرهم ولا يذفف على جريحهم وأخرج سعيد بن منصور عن مروان بن الحكم قال صرخ صارخ لعلي يوم الجمل لا يقتلن مدبر ولا يذفف على جريح ومن أغلق بابه فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن قال ابن حجر قد صح عن علي من طرق وأخرج البيهقي عن أبي أمامة قال: شهدت صفين فكانوا لا يجيزون على جريح ولا يقتلون موليا ولا يسلبون قتيلا وأخرج أيضا عن أبي فاختة أن عليا أتي بأسير يوم صفين فقال: لا تقتلني صبرا فقال: لا أقتلك صبرا إني أخاف الله رب العالمين ثم خلى سبيله وفي الباب آثار كثيرة عن علي لأنه ابتلي بقتال البغاة على اختلاف أنواعهم.
قوله: "إلا ذا فئة أو لخشية العود".
أقول: ظاهر الحديث المتقدم قريبا والآثار عن علي أنه لا يتبع مدبرهم ولم يثبت التقييد بأن لا يكون ذا فئة أو يخشى عوده فالواجب الوقوف على ما دلت عليه الأدلة وإن كان الباغي هاربا إلى فئة أو خشي عوده وتخصيص الدليل بمجرد الرأي غير مقبول على أنه لا يحتاج إلى الاستدلال على عدم جواز قتل الهارب من البغاة بما ذكرناه بل يكفي في ذلك العصمة الإسلامية الثابتة بمثل قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" والباغي مسلم معصوم الدم والمال وإنما جاز قتاله ما دام باغيا مقاتلا لقوله عزوجل: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات: 9] ، فلا يجوز قتال الباغي ولا مقاتلته إلا حال الحرب لا بعد الهرب رجوعا إلى العصمة الإسلامية.
قوله: "كلكل مبغي عليه".
أقول: ليس معنى البغي مختصا بنوع منه دون نوع أو بطائفة دون طائفة بل يشمل كل من حصل منه البغي سواء كان البغي منه على الإمام أو على طائفة من المسلمين أو على فرد من أفرادهم فإن ذلك يندرج تحت قوله عزوجل: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} .
قوله: "ولا يغنم من أموالهم" الخ.
أقول: البغاة مسلمون فاموالهم من غير فرق بين ما حضروا به معهم في القتال وما لم يحضروا به معصومة بالعصمة الإسلامية فمن ادعى أن شيئا منها قد خرج عن العصمة(1/966)
الإسلامية فعليه الدليل على أنه قد تقدم عن أبي أمامة أنه قال شهدت صفين فكانوا لا يجيزون على جريحهم ولا يقتلون موليا ولا يسلبون قتيلا وأما ما روي عن علي أنه قال يوم الجمل وانظروا إلى ما حضروا به الحرب من آلة فاقبضوه وما سوى ذلك فهو لورثتهم فقد قال البيهقي إنه منقطع قال: والصحيح أنه لم يأخذ شيئا ولم يسلب قتيلا انتهى وأخرج البيهقي أيضا عن علي أنه كان لا يأخذ سلبا وبهذا تعرف أنه لا فرق بين ما أجلبوا به وما لم يجلبوا به وبين آلة الحرب وغيرها وبين المغصوب وغيره.
قوله: "ولكن للإمام فقط تضمينهم وأعوانهم" الخ.
أقول: هذا صواب لأنهم أخذوا هذه الأموال من غير حلها فجاز للإمام أن يأخذها منهم أو مثلها لأنه مأمور بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ على يد الظالم وإنصاف المظلوم وهذا منه ولا فرق بين أن يكون الذي أخذوه من أموال بني آدم أو من الأموال التي لبيت مال المسلمين لأن الكل مظلمة ومن استشكل مثل هذا وأورد في تأييد بحثه فيه ما لا يسمن ولا يغني من جوع فلم يصب.
قوله: "ولا ينقض له ما وضعوه من أموالهم" الخ.
أقول: قد قدمنا أن تضمينهم لما أخذوه ظلما وعدوانا حق ولكن ما تقربوا به من أملاكهم وأخرجوه عنهم قد وقع موقعه فليس للإمام أن ينقضه ويجعله عوضا عما أتلفوه لأن ذلك قد خرج عن أملاكهم وصار لمصرفه فلا يحل نقضه بحال وهكذا ما أخرجوه عن أملاكهم في مباح أو محظور لأن الذي أخرجوه لم يبق لهم فيه ملك وصار ملكا لمن قد صار في يده والخطاب عليهم في الضمان إنما هو في أملاكهم الباقية تحت أيديهم.
وأما قوله: "وللمسلم أخذ ما ظفر به من مال الله معهم لنفسه" فلا وجه له بل يأخذه ويرده إلى بيت مال المسلمين ليصرفه الإمام في مصارفه وليس له أن يصرف في نفسه مع وجوده وإن كان مستحقا.
[فصل
ومن أرسل أو أمنه قبل نهي الإمام مكلف مسلم متمنع منهم دون سنة ولو بإشارة أو تعال لم يجز خرمه فإن اختل قيد رد مأمنه غالبا ويحرم للغدر ولا يمكن المستأمن من شراء آلة الحرب إلا بأفضل والبينة على المؤمن بعد الفتح إلا الإمام فالقول له] .
قوله: "فصل: ومن أرسل" الخ.
أقول: وجهه أن تأمين الرسل ثابت في الشريعة الإسلامية ثبوتا معلوما فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصل إليه الرسل من الكفار فلا يتعرض لهم أحد من أصحابه وكان ذلك طريقة مستمرة وسنة ظاهرة(1/967)
وهكذا كان الأمر عند غير أهل الإسلام من ملوك الكفر فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يراسلهم من غير تقدم أمان منهم لرسله فلا يتعرض لهم متعرض.
والحاصل أنه لو قال قائل: إن تأمين الرسل قد اتفقت عليه الشرائع لم يكن ذلك بعيدا وقد كان أيضا معلوما ذلك عند المشركين أهل الجاهلية عبدة الأوثان ولهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقهما"، قاله لرسولي مسيلمة أخرجه أحمد "3/487"، وأبو داود "2761"، فقوله: "لولا أن الرسل لا تقتل"، فيه التصريح بأن شأن الرسل أنهم لا يقتلون في الإسلام وقبله ومثل هذا ما ثبت في حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم قال لرسولي مسيلمة: "لو كنت قاتلا رسولا لقتلتكما"، أخرجه أحمد "1/384"، وأبو داود "2762"، والنسائي والحاكم وفيه ابن مسعود قال فمضت السنة أن الرسل لا تقتل.
وقوله: "أو أمته قبل نهي الإمام مكلف مسلم".
أقول: الأدلة في هذا كثيرة جدا فمن ذلك حديث علي عند أحمد "1/122"، وأبي داود "4530"، والنسائي "8/24"، والحاكم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم"، ومن ذلك ما أخرجه أحمد "2/191، 192، 211"، وأبو داود "2751"، وابن ماجه 2685، 2659"، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا بلفظ: "يد المسلمين على من عداهم تتكافأ دماؤهم ويجير عليهم أدناهم ويرد عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم"، وأخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر مطولا وأخرجه ابن ماجه من حديث معقل بن يسار مختصرا وأخرجه أيضا مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: "ذمة المسلمين واحدة فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" وهو أيضا متفق عليه من حديث علي بأول من هذا وأخرجه البخاري من حديث أنس وفي الباب أحاديث وقد دخل في قوله: "أدناهم" العبد والمرأة والصبي لكنه حكى ابن المنذر الإجماع على أن أمان الصبي غير جائز فكان هذا الإجماع مخرجا له من الدخول تحت ذلك اللفظ وأما المرأة فقال ابن المنذر أيضا أجمع أهل العلم على جواز أمان المرأة انتهى ويدل على ذلك ما أخرجه الترمذي وحسنه من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن المرأة لتأخذ للقوم يعني تجير على المسلمين"، وأخرج أبو داود 2764"، والنسائي عن عائشة قالت إن كانت المرأة لتجير على المؤمنين فيجوز وثبت في الصحيحين [البخاري "357"، مسلم "336"، وغيرهما أبو داود "2763"، الترمذي "2735"، النسائي "1/126"، أحمد "6/343، 423، 425"، من حديث أم هانىء وأنها أجارت رجلا يقال له فلان بن هبيرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانى".
وأما العبد فهو داخل أيضا في قوله: "يسعى بذمتهم أدناهم" وقد أجاز أمانة الجمهور وقال أبو حنيفة: إن قاتل جاز أمانة وإلا فلا وأما اشتراط الإسلام فلكون الأدلة إنما دلت على(1/968)
الأمان الصادر من المسلمين أو أحدهم وهكذا اشتراط أن يكون ممتنع منهم لأنه لو كان تحت حكمهم لم يجز أمانة لأنه في حكم أن المكره ولا بد في صحة الأمان من الاختيار.
قوله: "دون سنة".
أقول: لا دليل على هذا التوقيف بل المتعين الرجوع إلى ما في الأدلة من الإطلاق وقد جاءت بتصحيح الأمان ولم يقيد بوقت لكن يجوز للمسلمين أذا كان الأمان الواقع من أحدهم مطلقا أن يوقتوه وإن كان لمدة طويلة أن يجعلوه للمدة التي تقتضيها المصلحة فإن رضي من وقع له التأمين بذلك وإلا رد إلى مأمنه.
وأما قوله: "ولو بإشارة" أو تعال فظاهر لأن المراد الإشعار بالتأمين بكل شيء يحصل به الشعور.
وأما قوله: "لم يجز خرمه" فليس في هذا خلاف بين أهل الإسلام بل هو من ضروريات الدين وقد تكرر الأمر بالوفاء به والنهي عن عدم الوفاء به في الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة وصح الذم للغادر والوعيد له في غير حديث.
وأما قوله: "فإن اختل قيد رد مأمنه" فوجهه أن الأمان لم يصح والذي قد وقع الأمان له قد اعتقد صحته ولولا ذلك لم يأت إلينا فوجب على المسلمين إرجاعه إلى مأمنه ولا يحل لهم استحلال شيء من دمه أو ماله ولو كان التأمين له بعد نهي الإمام عن التأمين إذا كان من وقع له التأمين جاهلا للنهي.
وأما قوله: "ويحرم للغدر" فقد أغنى عنه قوله لم يجز خرمه والوجه في هذا التحريم هو ما قدمنا.
وأما قوله: "ولا يمكن المستأمن من شراء آلة الحرب" فوجه ذلك أنه يعود بها إلى دار الحرب فتكون قوة للكافرين على المسلمين إلا بأفضل فلا بأس لأن المصلحة في مثل ذلك كائنة وأما بما كان مماثلا له فالظاهر أنه لا بأس بذلك لأنها قد اندفعت المفسدة.
قوله: "والبينة على المؤمن".
أقول: أي على الذي وقع له التأمين ووجه ذلك أن الأصل عدم الأمان فالقول قول المنكر والبينة على المدعي ولا فرق بين أن يكون ذلك قبل الفتح أو بعده إلا أن يظهر من القرائن ما يثبت به الظاهر لمن وقع له التأمين فإن الظاهر مقدم على الأصل فيكون القول قوله كما تقدم.
وأما قوله: "إلا الإمام فالقول له" فوجهه أن له أن ينشيء الأمان متى شاء فيكون القول قوله في تأمين من قد أمنه على كل حال.(1/969)
[فصل
وللإمام عقد الصلح لمصلحة مدة معلومة فيفي بما وضع ولو على رد من جاءنا مسلما ذكرا تخلية لا مباشرة أو بذل رهائن او أمال منا أو منهم ولا يرتهن مسلم وتملك رهائن الكفار بالنكث ويرد ما أخذ السارق وجاهل الصلح وبدي من قتل فيه ويؤذن في دارنا أنه إن تعدى السنة منع الخروج وصار ذميا فإن تعداها جاهلا خير الإمام] .
قوله: "فصل: ويجوز للإمام عقد الصلح لمصلحة" الخ.
أقول: وجه هذا أن الله سبحانه قال في كتابه: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] ، فدل ذلك على جواز المصالحة إذا طلبها الكفار وجنحوا إليها وقيل لا يحوز ذلك لقوله سبحانه: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} ولا يخفاك أنه لا معارضة بين الآيتين فإن الآية الأولى دلت على أن الكفار إذا جنحوا للسلم جنحنا لها والآية الأخرى دلت على عدم جواز الدعاء من المسلمين إلى السلم فالجمع بينهما بأنه يجوز عقد الصلح إذا طلب ذلك الكفار ولا يجوز طلبه من المسلمين إذا كانوا واثقين بالنصر وقد أوضحنا الكلام على الآيتين في تفسيرنا فليرجع إليه وقيل لا يجوز المصالحة أصلا وأن ما ورد في جوازها منسوخ بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] ، ونحوها ولا وجه لدعوى النسخ وأيضا الجمع ممكن بأنهم يقتلون ويقاتلون ما لم يجنحوا إلى السلم.
وأما كون المدة معلومة فوجهه أنه لو كان الصلح مطلقا أو مربدا لكان ذلك مبطلا للجهاد الذي هو من أعظم فرائض الإسلام فلا بد من أن يكون مدة معلومة على ما يرى الإمام من الصلاح فإذا كان الكفار مستظهرين وأمرهم مستعلنا جاز له أن يعقده على مدة طويلة ولو فوق عشر سنين وليس في ذلك مخالفة لعقدة صلى الله عليهو آله وسلم للصلح الوقع مع قريش عشر سنين فإنه ليس في هذا ما يدل على أنه لا يجوز أن تكون المدة أكثر من عشر سنين إذا اقتضت ذلك المصلحة.
وأما قوله: "فيفي بما وضع" فهذا معلوم لا خلاف فيه والآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة في هذا المعنى أكثر من أن تحصر.
قوله: "ولو على رد من جاءنا مسلما".
أقول: وجهه ما وقع منه صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية مع قريش فإنهم شرطوا عليه أن يرد من جاء منهم مسلما فوفى لهم بذلك ووصل إليه بعد عقد الصلح وهو في الحديبية أبو جندل وأبو بصير فردهما كما هو في الصحيح وثبت أيضا في هذا الحديث أنهم أجازوا للنبي صلى الله عليه وسلم أبا جندل فلم يرده إليهم وثبت في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد غليهم النساء لقوله عزوجل: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ} [الممتجنة: 10] ، إلى آخر الآية وهكذا لم يرد إليهم العبيد كما أخرجه أبو داود "2700"،والترمذي "10/217، 218"، وقال حسن صحيح من حديث(1/970)
علي قال: خرج عبدان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني يوم الحديبية قبل الصلح فكتب إليه مواليهم فقالوا: والله يا محمد ما خرجوا إليك رغبة في دينك وإنما خرجوا هربا من الرق فقال ناس: صدقوا يا رسول الله ردهم إليهم فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا"، وأبى أن يردهم وقال: "هم عتقاء الله عز وجل" فقوله صلى الله عليه وسلم: "هم عتقاء الله"، يدل على أنهم يصيرون حرارا بفرارهم إلى المسلمين وهكذا لم يرد صلى الله عليه وسلم من هرب إليه من عبيد المشركين يوم الطائف ومنهم أبو بكرة كما في صحيح البخاري "8/45"، ومسند أحمد 14/112"، وغيرهما.
وأما قوله: "تخلية لا مباشرة" فوجهه ظاهر لأن في المباشرة إعانة على منكر سوغته الضرورة فيجب التوقف على مجرد التخلية.
واعلم أن إرجاع من فر من المشركين إلى المسلمين وأراد الدخول في الإسلام فيه من المخالفة لما تقتضيه الشريعة وتوجبه العزة الإسلامية ما لا يخفى فلا يجوز ذلك إلا عند أن يغلب على ظن الإمام أنه إذا لم يفعل ذلك وقع بالمسلمين من ضرر الكفار ما هو أعظم من ذلك واشد إضعافا للشوكة الإسلامية قواها الله سبحانه.
وأما قوله: "أو على بذل رهائن أو مال" إلخ فإذا رأى الإمام في ذلك صلاحا فعله.
وأما قوله: "ويرد ما أخذه السارق" إلخ فهذا ظاهر لأن مقتضى الصلح أن لا يقع شيء من ذلك.
وأما قوله: "ويؤذن من في دارنا" إلخ فلا وجه للتوقيف بالسنة بل يجوز للإمام أن يصالحه على ما يرى فيه صلاحا وإن طالت المدة وغذا انقضت المدة رد إلى مأمنه وإذا تعدى المدة عامدا كان الإمام مخيرا في شأنه إذا تعداها جاهلا فإن جهله عذر له فيرد إلى مأمنه هكذا ينبغي أن يقال.
[فصل
ويجوز فك أسراهم بأسرانا ط لا بالمال ورد الجسد مجانا ويكره حمل الرؤوس وتحرم المثلة قيل ورد الأسير حربيا] .
قوله: "فصل: ويجوز فك أسراهم بأسرانا".
أقول: قد قال الله عزوجل: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] ، والفداء أعم من أن يكون بالمال أو بفك الأسرى منهم بالأسرى منا فإن ذلك كله فداء وقد وقع منه صلى الله عليه وسلم فك أسير من بني عقيل بأسيرين من أصحابه كانا عند ثقيف كما في صحيح مسلم "1641"، وغيره الترمذي.(1/971)
وأما قوله: "لا بالمال" فهذا مدفوع بما وقع منه صلى الله عليه وسلم في يوم بدر من أخذا لفداء من أسراء المشركين وهو أيضا مدفوع بالقرآن {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] ، ولا يعارضه قوله عزوجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] ، فإن غاية ما في هذه الآية تقديم الإثخان على الفداء وليس فيها أنه لا يجوز الفداء.
وأما قوله: "ويجوز رد الجسد مجانا" فلا وجه للتقييد بقوله مجانا لأن أموال الكفار يجوز التسلف لها بكل ممكن وليس هذا من باب المبايعة حتى تدخل في بيع الميتة وبيع النجس.
قوله: "ويكره حمل الرؤوس".
أقول: إذا كان في حملها تقوية لقلوب المسلمين أو إضعاف لشوكة الكافرين فلا مانع من ذلك بل هو فعل حسن وتدبير صحيح ولا وجه للتعليل بكونها نجسة فإن ذلك ممكن بدون التلوث بها والمباشرة لها ولا يتوقف جواز هذا على ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن تقوية جيش الإسلام وترهيب جيش الكفار مقصد من مقاصد الشرع ومطلب من مطالبه لا شك في ذلك وقد وقع في حمل الرؤوس في أيام الصحابة وأما ما روي من حملها في أيام النبوة فلم يثبت شيء من ذلك.
قوله: "وتحرم المثلة".
أقول: الأحاديث في النهي عنها كثيرة جدا وقد قدمنا طرفا من ذلك وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي من يبعثه من جيوش المسلمين للجهاد بالوصايا المشهورة ومنها أن لا تمثلوا.
وأما قوله: "قيل: ويحرم رد الأسير حربيا" فلا وجه له فقد رد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرى بدر وهم باقون على كفرهم وقد خير الله عباده بين المن والفداء كما في قوله: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] ، ومقتضى جواز أخذ الفداء أن يرجعوا على دينهم الذي كانوا عليه لأنهم لو أسلموا لم يؤخذ منهم الفداء بل يجوز للإمام أن يرد الأسير حربيا بدون فداء إذا رأى في ذلك صلاحا وهو مقتضى التخيير بين المن والفداء فإن المن هو أن يمن عليه بفك أسره وإرجاعه إلى قومه إلى ما كان عليه وقد وقع ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم في غير موطن.
[فصل
ويصح تأبيد صلح العجمي والكتابي بالجزية ولا يردون حربيين ويلزمون زيا يتميزون به فيه صغار من زنار ولبس غيار وجز وسط الناجية ولا يركبون على الأكف إلا عرضا ولا يظهرون شعارهم إلا في الكنائس ولا يحدثون بيعة ولهم تجد يد ما(1/972)
خرب ولا يسكنون في غير خططهم إلا بإذن المسلمين لمصلحة ولا يظهرون الصلبان في أعيادهم إلا في البيع ولا يركبون الخيل ولا يرفعون دورهم على دور المسلمين ويبيعون رقا مسلما شروه ويعتق بإدخالهم إياه دار الحرب قهرا] .
قوله: "فصل: ويصح تأبيد صلح العجمي والكتابي بالجزية".
أقول: ظاهر الأدلة يقتضي أن بذل الجزية من أي كافر يوجب الكف عن مقاتلته وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث الأمراء من أصحابه بالجيش على الطوائف المختلفة فيذكر في جملة ما يوصيهم به أنهم إذا بذلوا الجزية قبل منهم ذلك كما في حديث بريدة عند مسلم وغيره قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر أميرا على جيش أو سرية ثم ذكر فيه: "فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم"، فإن قوله كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا امر أميرا على جيش أو سرية يدل عى أن هذا كان شأنه في كل جيش يبعثه ولا ينافي هذا قوله تعالى في أهل الكتاب: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ، فإن أهل الكتاب هم نوع من أنواع الكفار الذين يجب الكف عن قتالهم إذا أعطوا الجزية ولا ينافي ذلك أيضا ما ورد من الأمر بقتال المشركين في آية السيف وغيرها فإن قتالهم واجب إلا أن يعطوا الجزية فإنه يجب الكف عنهم كما يجب الكف عنهم إذا أسلموا ولا ينافي هذا التعميم ما وقع منه صلى الله عليه وسلم من الأمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب لأن غايته أنها لا تجوز مصالحتهم بالجزية في جزيرة العرب وذلك لا ينافي جواز المصالحة لهم بضرب الجزية عليهم إذا كانوا في غير جزيرة العرب.
والحاصل أن من ادعى أن طائفة من طوائف الكفار لا يجوز ضرب الجزية عليهم بل يخيرون بين الإسلام والسيف فعليه الدليل ولا دليل تقوم به الحجة إلا ما ورد في المرتد كما قدمنا وكما سيأتي إن شاء الله.
وأما قوله: "ولا يردون حربيين" فقد تقدم قريبا أن التخيير بين المن والفداء يفيد أنه يجوز ردهم حربيين بعد المن عليهم أو بعد أخذ الفداء منهم ولم يرد ما يدل على المنع من هذا وغاية ما هنا أنهم عند تسليم الجزية في أمان أهل الإسلام بتسليم ما يستحقون به عصمة دمائهم وأموالهم وهو الجزية وقد تقدم أن المؤمن يرد إلى مأمنه فإذا أراد الإمام ردهم إلى دار الحرب كان له ذلك لمصلحة يراها كما كان له أن يرد الأسرى حربيين.
قوله: "ويلزمون زيا يتميزون به فيه صغار" الخ.
أقول: وجهه أن الله سبحانه قد قال في كتابه: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ، فهذه الجملة الحالية قد أفادت أنه ينزل بهم ما فيه صفار في ملبوسهم وبيوتهم ومركوبهم ونحو ذلك من شؤونهم ويمنعون مما يخالف الصغار وهو التشبه بالمسلمين في ملبوسهم وبيوتهم ومركوبهم ونحو ذلك وقد أخذ عليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه عهدا ذكر فيه ما يعتمدون عليه في حالهم ومالهم وكنائسهم ومن جملته أنهم لا يتشبهون بالمسلمين في ملبوساتهم في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر وفيه أنهم يجزون(1/973)
مقاديم رؤوسهم وأن يشدوا الزنانير على أوساطهم ولا يظهرون صليبا ولا شيئا من كتبهم في طريق المسلمين وفيه أنهم لا يضربون ناقوسا إلا ضربا خفيفا ولا يرفعون أصواتهم بالقراءة في شيء من حضرة المسلمين وهذا العهد العمري أخرجه ابن حزم عن عبد الرحمن بن غنم قال: كتبت لعمر حين صالح نصارى الشام وشرط عليهم أن لا يحدثوا في مدينتهم ولا حولها ديرا ولا كنيسة وفيه أنهم لا يجدون ما خرب منها.
والحاصل أن إلزامهم بما ذكره المصنف وما ذكره غيره من الفقهاء قد دلت عليه الآية القرآنية المتقدمة وكفى بها.
قوله: "ولا يسكنون في غير خططهم إلا بإذن المسلمين لمصلحة".
أقول: الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما [البخاري "6/170"، 8/132"، مسلم "20/1637"، أبو داود "3030"، الترمذي "1607"] ، عن جماعة من الصحابة قد تضمنت الأمر للأمة بإخراج اليهود من جزيرة العرب فلا وجه لمنعهم من سكون غيرها وإلزامهم أن يسكنوا في خططهم فإنهم قد صاروا بتسليم الجزية والتزام الصغار أهل ذمة ووجب على المسلمين رعايتهم وحفظ دمائهم وأموالهم وتركهم يسكنون حيث أرادوا في غير جزيرة العرب ولا ينافي الأمر بإخراجهم من جزيرة العرب ما ورد في حديث آخر من الأخر بإخراجهم من الحجاز كما أخرجه أحمد "1/195"، من حديث أبي عبيدة بلفظ: "أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب"، فإن ذلك هو من التنصيص لعى بعض أفراد العام وقد تقرر في الأصول أنه لا يصلح للتخصيص وهو الحق وغاية ما فيه الدلالة على تأكيد الأمر في ذلك الخاص لتخصيصه بالنص عليه وحده ومثل هذا لا يوجب إهمال دلالة الدليل على ما عداه.
وأما قوله: "إلا لمصلحة" فهو من التخصيص للدليل الصحيح بنوع من أنواع المناسب المذكورة في علم الأصول ولا يصلح لذلك فقد قرر أهل الأصول أنفسهم أن من شرط العمل به أن لا يصادم دليلا وهو هنا قد صادم الدليل.
وأما قوله: "ولا يظهرون الصلبان في أعيادهم إلا في البيع" فقد تقدم في العهد العمري أنهم لا يظهرون صليبا ولا شيئا من كتبهم في طريق المسلمين ولا منع من إظهار ذلك كنائسهم حيث لم يحضرهم أحد من المسلمين.
وأما قوله: "ولا يركبون الخيل" فوجهه أنه يخالف الصغار وفي العهد العمري أنهم لا يركبون سراجا ولا يتقلدون سيفا ولا يتخذون شيئا من السلاح.
وأما قوله: "ولا يرفعون دورهم على دور المسلمين" فوجهه أيضا أن ذلك يخالف الصغار.
واما قوله: "ويبيعون رقا مسلما شروه" فوجهه أيضا أن ثبوت ملكهم للعبد المسلم يخالف الصغار أيضا لأنه واحد من المسلمين وللمالك على ملكه من العزة والعلو ما هو عكس معنى(1/974)
الصغار وأيضا هو من سبيل على المؤمنين وقد قال عزوجل: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] ،
وأما قوله: "ويعتق بإدخالهم إياه دار الحرب قهرا" فوجهه ما تقدم من أن دار الحرب دار إباحة يملك كل فيها ما تثبت يده عليه فإذا ثبتت يده على نفسه صار حرا ووجه التقييد بقوله قهرا أنه إذا دخلها راضيا مختارا كان ذلك قادحا في إسلامه مبطلا لحرمته.
[فصل
وينتقض عهدهم بالنكث من جميعهم أو بعضهم إن لم يبايتهم الباقون قولا وفعلا وعهد من امتنع من الجزية إن تعذر إكراهه قيل أو نكح مسلمة أو زنا بها أو قتل مسلما أو فتنة أو دل] .على عورته أو قطع طريقا
قوله: "فصل: وينتقض عهدهم بالنكث" الخ.
أقول: ثبوت الذمة لهم مشروط بتسليم الجزية والتزام ما ألزمهم به المسلمون من الشروط فإذا لم يحصل الوفاء بما شرط عليهم عادوا إلى ما كانوا عليه من إباحة الدماء والأموال وهذا معلوم ليس فيه خلاف وفي آخر العهد العمري فإن خالفوا شيئا مما شرطوه فلا ذمة لهم وقد حل للمسلمين منهم ما يحل من أهل العناد والشقاق انتهى وهذا الانتقاض لعهدهم إذا كان من جميعهم فأمره واضح وأما إذا كان من بعضهم فليس على الآخرين إلا مباينتهم كما قال المصنف فإن لم يفعلوا لم تكن مجرد المخالطة نقضا لعهد من لم ينكث إلا أن يظهر منهم الرضا بذلك النكث والموافقة للناكثين.
وأما قوله: "وعهد من امتنع من الجزية" فوجهه ظاهر فإنها هي السبب الأكبر في حقن دمائهم وعصمة أموالهم ولا وجهه للتقييد بقوله إن تعذر إكراهه لأنه قد صار بالامتناع من الجزية غير ذمي فيحل منه ما يحل من الحربي وهو قد صار بهذا الامتناع كما قال الشاعر:
فكنت كالساعي إلى متعب ... موائلا من سبل الراعد
قوله: "قيل أو نكح مسلمة" الخ.
أقول: إذا فعل الذمي ما يستباح به دم المسلم كان دمه حلالا بفحوى الخطاب وذلك كأن يطعن في الإسلام أو يسب نبينا صلى الله عليه وسلم وأما هذه الأمور التي ذكرها المصنف حاكيا لها عن الغير فإن كان قد أخذت على الذمي في عهده فقد حل دمه بمجرد المخالفة للعهد المأخوذ عليه وإن لم يؤخذ عليه في عهده كان مستحقا لما يوجبه عليه الشرع في ذلك الفعل فيقتل إن قتل مسلما ويحد إن زنا بمسلمة ويحد حد المحارب إن قطع طريقا ويفرق بينه وبين المسلمة التي نكحها(1/975)
مع التعزير له ولها إن كانا معتقدين صحة ذلك وكذلك يعزر إن فتن مسلما إذا لم تكن الفتنة له بشيء مما يرجع إلى الطعن في الدين فهكذا ينبغي أن يقال.
[فصل
ودار الإسلام ما ظهرت فيه الشهادتان والصلاة ولم تظهر فيها خصلة كفرية ولو تأويلا إلا بجوار وإلا فدار كفر وإن ظهرتا فيها خلاف م وتجب الهجرة عنها وعن دار الفسق إلى خلي عما هاجر لأجله أو ما فيه دونه بنفسه وأهله إلا لمصلحة أو عذر ويتضيق بأمر الإمام] .
قوله: "فصل ودار الإسلام" الخ.
أقول: الاعتبار بظهور الكلمة فإن كانت الأوامر والنواهي في الدار لأهل الإسلام بحيث لا يستطيع من فيها من الكفار أن يتظاهر بكفره إلا لكونه مأذونا له بذلك من أهل الإسلام فهذه دار إسلام ولا يضر ظهور الخصال الكفرية فيها لأنها لم تظهر بقوة الكفار ولا بصولتهم كما هو مشاهد في أهل الذمة من اليهود والنصارى والمعاهدين الساكنين في المدائن الإسلامية وإذا كان الأمر العكس فالدار بالعكس.
وأما قوله: "ولو تأويلا" فباطل من القول وخطل من الرأي فإن هذه المسائل التي اختلف فيها أهل الإسلام وكفر بعضهم بعضا تعصبا وجرأة على الدين وتأثيرا للأهوية لو كان ظهورها في الدار مقتضيا لكونها دار الكفر لكانت الديار الإسلامية بأسرها ديار كفر فإنها لا تخلوا مدينة من المدائن ولا قرية من القرى من ذاهب إلى ما تذهب إليه الأشعرية أو المعتزلة أو الماتريدية وقد اعتقدت كل طائفة من هذه الطوائف ما هو كفر تأويل عند الطائفة الأخرى وكفاك من شر سماعه والحق أنه لا كفر تأويل أصلا وليس هذا موضع البسط لهذه المسألة فخذها كلية تنج بها من موبقات لا تحصى ومهلكات لا تحصر وسيأتي عند الكلام على قوله والمتأول كالمرتد ما ينبغي أن يضم إلى ما هنا لتكمل الفائدة.
واعلم أن التعرض لذكر دار الإسلام ودار الكفر قليل الفائدة جدا لما قدمنا لك في الكلام على دار الحرب وأن الكافر الحربي مباح الدم والمال على كل حال ما لم يؤمن من المسلمين وأن مال المسلم ودمه معصومان بعصمة الإسلام في دار الحرب وغيرها وإن كانت الفائدة هي ما تقدم من كونهم يملكون علينا ما دخل دراهم قهرا فقد أوضحنا لك هنالك أنهم لا يملكون علينا شيئا وإن كانت الفائدة وجوب الهجرة عن دار الكفر فليس هذا الوجوب مختصا بدار الكفر بل هو شريعة قائمة وسنة ثابتة عند استعلان المنكر وعدم الاستطاعة للقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعدم وجود من يأخذ على أيدي المنتهكين لمحارم الله فحق على العبد(1/976)
المؤمن أن ينجو بنفسه ويفر بدينه إن تمكن من ذلك ووجد أرضا خالية عن التظاهر لمعاصي الله وعدم التناكر على فاعلها فإن لم يجد فليس في الإمكان أحسن مما كان وعليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه كما أرشد إلى ذلك الصادق المصدوق فيما صح عنه وإذا قدر على أن يغلق على نفسه بابه ويضرب بينه وبين العصاة حجابه
كان ذلك من أقل ما يجب عليه وقد أوضحت أمر الهجرة وما هو باق منها وما قد نسخ في شرحي للمنتقى فليرجع إليه.
وأما ما ذكره المصنف من إثبات دار الفسق تقليدا لمن شذ من المعتزلة فلا وجه لذلك أصلا ولا تتعلق به فائدة قط وإن زعم ذلك من لم يكن مستبصرا.
واما قوله: "إلا خلى عما هاجر لأجله" فوجهه ظاهر لأن الانتقال من شر إلى شر ومن دار عصاة إلى دار عصاة ليس فيه إلا إتعاب النفس بقطع المفاوز فإن كان التظاهر بالمعاصي في غير بلده أقل مما هو ببلده كان ذلك وجها للهجرة وفي الشر خيار.
وأما قوله: "إلا لمصلحة" فوجهه ظاهر فإنها إن كانت المصلحة العائدة على طائفة من المسلمين ببقائه ظاهرة كأن يكون له مدخل في بعض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو في تعليمه معالم الخير بحيث يكون ذلك راجحا على هجرته وفراره بدينه فإنه يجب عليه ترك الهجرة رعاية لهذه المصلحة الراجحة لأن هذه المصلحة الحاصله له بالهجرة على الخصوص تصير مفسدة بالنسبة إلى المصلحة المرجوة بتركه للهجرة.
وأما كون الهجرة تتضيق بأمر الإمام بها فوجهه ما قدمنا من وجوب طاعة الأئمة فيما يأمرون به من الطاعة والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة كثيرة جدا.
[فصل
والردة باعتقاد أو فعل أو زي أو لفظ كفري وإن لم يعتقد معناه إلا حاكيا أو مكرها ومنها السجود لغير الله وبها تبين الزوجة وإن تاب لكن ترثه إن مات أو لحق في العدة وباللحوق في تعتق أم ولده ومن الثلث مدبرة ويرثه ورثته المسلمون فإن عاد رد له ما لم يستهلك حسا أو حكما.
وحكمهم أن يقتل مكلفهم إن لم يسلم ولا تغنم أموالهم ولا يملكون علينا إلا ذوي شوكة وعقودهم قبل اللحوق لغو في القرب وصحيحة في غيرها موقوفة وتلغو بعده إلا الاستيلاد ولا تسقط بها الحقوق ويحكم لمن حمل به في الإسلام به وفي الكفر به ويسترق ولد الولد وفي الولد تردد والصبي مسلم بإسلام أحد أبويه وبكونه(1/977)
في دارنا دونهما ويحكم للملتبس بالدار والمتأول كالمرتد وقيل كالذمي وقيل كالمسلم] .
قوله: "فصل: والردة باعتقاد" الخ.
أقول: اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة أن: "من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما" هكذا في الصحيح [البخاري "10/514"] ، وفي لفظ آخر في الصحيحين [البخاري "6045"، مسلم "61"] ، وغيرهما: "من دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه"، أي رجع وفي لفظ في الصحيح: "فقد كفر أحدهما"، ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير وقد قال الله عزوجل: {مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} [النحل: 106] ، فلا بد من شرح الصدر بالكفر وطمأنينة القلب به وسكون النفس إليه فلا اعتبار بما يقع من طوارق عقائد الشر لا سيما مع الجهل بمخالفتها لطريقة الإسلام ولا اعتبار بصدور فعل كفري لم يرد به فاعله الخروج عن الإسلام إلى ملة الكفر ولا اعتبار بلفظ تلفظ به المسلم يدل على الكفر وهو لا يعتقد معناه فإن قلت قد ورد في السنة ما يدل على كفر من حلف بغير ملة الإسلام وورد في السنة المطهرة ما يدل على كفر من كفر مسلما كما تقدم وورد في السنة المطهرة إطلاق الكفر على من فعل فعلا يخالف الشرع كما في حديث: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض"، [البخاري "3/573"] ، ونحوه مما ورد مورده وكل ذلك يفيد أن صدور شيء من هذه الأمور يوجب الكفر وإن لم يرد قائله أو فاعله الخروج من الإسلام إلى ملة الكفر؟ قلت: إذا ضاقت عليك سبل التأويل ولم تجد طريقا تسلكها في مثل هذه الأحاديث فعليك أن تقرها كما وردت وتقول من أطلق عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم اسم الكفر فهو كما قال ولا يجوز إطلاقه على غير من سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين كافرا إلا من شرح بالكفر صدرا فحينئذ تنجو من معرة الخطر وتسلم من الوقوع في المحنة فإن الإقدام على ما فيه بعض البأس لا يفعله من يشح على دينه ولا يسمح به فيما لا فائدة فيه ولا عائدة فكيف إذا كان يخشى على نفسه إذا أخطأ أن يكون في عداد من سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كافرا فهذا يقود إليه العقل فضلا عن الشرع ومع هذا فالجمع بين أدلة الكتاب والسنة واجب وقد أمكن هنا بما ذكرناه فتعين المصير إليه فحتم على كل مسلم أن لا يطلق كلمة الكفر إلا على من شرح بالكفر صدرا ويقصر ما ورد مما تقدم على موارده وهذا الحق ليس به خفاء فدعني من بنيات الطريق:
يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ... ومنهج الحق له واضح
وأما قوله: "إلا حاكيا أو مكرها" فالأمر فيه واضح ووجهه بين وكيف يحكم بالكفر على من حكى قولا كفريا صدر من كافر فإن القرآن الكريم قد اشتمل على ما لا يأتي عليه الحصر من حكاية ما هو كفر بواح من أقوال الكفار وهكذا لا يحكم بكفر من كفر مكرها فقد(1/978)
استثناه القرآن الكريم بقوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل: 106] ، وكفى به.
وأما قوله: "ومنها السجود لغير الله" فلا بد من تقييده بأن يكون سجوده هذا قاصدا لربوبية من سجد له فإنه بهذا السجود قد أشرك بالله عزوجل وأثبت معه آلاها آخر وأما إذا لم يقصد إلا مجرد التعظيم كما يقع كثيرا لمن دخل على ملوك الأعاجم أنه يقبل الأرض تعظيما له فليس هذا من الكفر في شيء وقد علم كل من كان من الأعلام أن التكفير بالإلزام من أعظم مزالق الأقدام فمن أراد المخاطرة بدينه فعلى نفسه تجنى براقش.
قوله: "وبها تبين الزوجة".
أقول: وجه ذلك اختلاف الملتين وقد جاءت الأدلة من الكتاب والسنة بما يدل على ذلك على تفصيل في ذلك قد تقدم في النكاح عند قول المصنف وينفسخ بتجدد اختلاف الملتين فليرجع إليه.
وأما قوله: "لكن يرثه صاحبه إن مات أو لحق" فالظاهر أن مال المرتد باق على ملكه ولم يرد ما يدل على أنه يخرج عن ملكه بمجرد الردة فإن مات كان ماله لمن يستحق ميراثه في حال كفره وإن لحق بدار الحرب صار له مال كأموال أهل دار أهل الحرب في الإباحة ومن زعم أن ماله يخرج عن ملكه بمجرد الردة من غير لحوق فعليه الدليل.
وأما كونها تعتق أم ولده ومدبرة فوجهه ظاهر لأنه قد أوقع سبب عتقها في حال إسلامه فاستحاق تنجيز ذلك.
وأما كونه يرثه ورثته المسلمون فلا أعرف لهذا وجها ولا أجد عليه دليلا والأدلة مصرحة بأنه لا توارث بين مسلم وكافر على العموم ولا يصلح للتخصيص إلا دليل تقوم به الحجة ولا حجة فيما يروى عن بعض الصحابة فإن ذلك محمول على الاجتهاد واجتهاد الصحابي لا يخصص ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجماع المسلمين.
وأما قوله: "فإن عاد رد ما لم يستهلك حسا أو حكما" فلا وجه لهذا الرد فقد خرج المال عن ملكه باللحوق فإن كان قد ثبتت عليه يد أحد المسلمين فقد استحقه وصار ملكا له فلا ينزع عنه إلا بوجه يوجب رفع ما دخل به في ملكه وأما إذا عاد المرتد إلى الإسلام قبل لحوقه فقد عرفناك أن ماله باق على ملكه فمن أتلف شيئا منه ضمنه وما كان باقيا فهو باق على ملكه.
قوله: "وحكمهم أن يقتل مكلفهم إن لم يسلم".
أقول: وجهه ما أخرجه البخاري "6/149"، وأحمد "1/217، 282"، وأهل السنن أبو داود "4351"، الترمذي "1458"، النسائي "7/104"، ابن ماجة "2535"، من حديث ابن عباس بلفظ: "من بدل دينه فاقتلوه"، وما في الصحيحين [البخاري "12/268"، مسلم "1733"] ، من حديث أبي موسى في بعض المرتدين أنه قال: لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله ومن أدلة قتل المرتد حديث: "لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث"، وقد تقدم وفي الباب أحاديث وقتل المرتد إن لم يرجع إلى الإسلام مجمع عليه ويؤيد هذا قوله عزوجل: {وَمَنْ(1/979)
يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آلا عمران: 58] ، فإن مقتضى هذه الآية أنه لا يقبل منه إلا الإسلام فإن لم يفعل قتل لأنه لو ترك مرتدا لكان قبل قبل منه غير دين الإسلام ولا فرق بين الذكر والأنثى لعموم قوله ومن يبتغ وقوله من بدل دينه ولم يثبت ما يدل على تخصيص الإناث.
واما قوله: "ولا تغنم أموالهم" فقد عرفناك مما قدمنا أنها قبل اللحوق باقية في ملكهم وبعد اللحوق يصير فيئا لمن يسبق إليهم.
وأما قوله: "ولا يملكون علينا" إلخ فقد قدمنا أن أهل الحرب لا يملكون علينا والمرتدون مع اللحوق حكمهم حكمهم.
وأما قوله: "وعقودهم قبل اللحوق لغو في القرب" فوجه ذلك أنه صار بالردة كافرا قبل لحوقه ولا قربة لكافر.
وأما قوله: "صحيحة في غيرها موقوفة" فلا وجه لقوله موقوفة لأن ماله باق على ملكه قبل لحوقه فيصح منه كل تصرف فيه.
وأما قوله: "فيلغو بعده" فصحيح لأن ماله قد خرج عن ملكه باللحوق.
وأما قوله: "إلا الاستيلاد" فمراد المصنف أنه إذا كان قد استولد أمة له قبل أن يرتد فإن هذا لا يلغي لأنه قد فعل السبب مسلما فلا وجه لإلغائه وقد أغنى عنه ما تقدم من قوله: "وباللحوق تعتق أم ولد".
قوله: "ولا يسقط بها الحقوق".
أقول: الحقوق الثابتة عن المرتد من دين أو نحوه باقية في ذمته وهي باقية في ملك مالكها فلا يجوز الحكم عليه بأنها قد خرجت عن ملكه بارتداد من هي عليه لأن المرتد وإن فارق دينه فهو لم يتخلص مما هو عليه بوجه يقتضي السقوط فيدفع ذلك من ماله الذي تركه ببلاد الإسلام فإن لم يكن له مال كان لمن له الحق مطالبته به متى ظفر به.
قوله: "ويحكم لمن حمل به في الإسلام به" الخ.
أقول: لا فرق بين من حمل به في الإسلام ومن حمل به في الكفر أنهما يولدان على الإسلام لما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء"، ثم يقول أبو هريرة: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الآية فالمولود من الكفار مطلقا يولد على الفطرة الإسلامية حتى يعرب عنه لسانه فإن كفر فأبواه هما اللذان كفراه وقد أخرج أحمد عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فإن أعرب عنه لسانه فإما شاكرا وإما كفورا".
وأما قوله: "ويسترق ولد الولد" الخ فلا وجه له بل هذاالولد الذي حمل به في الإسلام(1/980)
أو الكفر إذا اختار الكفر جاز استرقاقه فضلا عن استرقاق ولده ولا وجه للتردد وقد قدمنا البحث عن هذا في استرقاق كل كافر من غير فرق بين عربي وعجمي.
قوله: "والصبي مسلم بإسلام أحد أبويه".
أقول: إذا كان مولودا على الفطرة الإسلامية وكان ذلك كافيا في الحكم له بالإسلام فإسلامه مع إسلام أحد أبويه أظهر وأظهر ولا يحتاج إلى الاستدلال بدليل يخص هذه الصورة وهكذا لا يحتاج إلى الاستدلال بدليل يخص قوله وبكونه في دارنا دونهما لأنه قد اجتمع له الولادة على الفطرة والكون في دار الإسلام فكان من جملة من يحكم له بالإسلام بالسببين المذكورين كما استحق من أسلم أحد أبويه أن يحكم له بالإسلام بالسبيين وهما الولادة على الإسلام مع إسلام أحد أبويه وقد كان أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه فمع إسلام أحدهما قد صار
داعيا إلى الإسلام كما صار بدعوة الآخر إلى الكفر وداعي الإسلام أرجح وأقدم لأن الإسلام يعلو ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا.
وأما قوله: "وللملتبس بالدار" فلا وجه له بل ينبغي الحكم للملتبس بالإسلام لأنه مولود على الفطرة كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
قوله: "والمتأول كالمرتد" الخ.
أقول: ها هنا تسكب العبرات ويناح على الإسلام وأهله بما جناه التعصب في الدين على غالب المسلمين من الترامي بالكفر لا لسنة ولا لقرآن ولا لبيان من الله ولا لبرهان بل لما غلت مراجل العصبية في الدين وتمكن الشيطان الرجيم من تفريق كلمة المسلمين لقنهم إلزامات بعضهم لبعض بما هو شبيه الهباء في الهواء والسراب البقيعة فيا لله وللمسلمين من هذه الفاقرة التي هي من أعظم فواقر الدين والرزية التي ما رزىء بمثلها سبيل المؤمنين وأنت إن بقي فيك نصيب من عقل وبقية من مراقبة الله عزوجل وحصة من الغيرة الإسلامية قد علمت وعلم كل من له علم بهذا الدين أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الإسلام [مسلم "1/8"] ، قال في بيان حقيقته وإيضاح مفهومه: "أنه إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان وشهادة أن لا إله إلا الله"، والأحاديث بهذا المعنى متواترة فمن جاء بهذه الأركان الخمسة وقام بها حق القيام فهو المسلم على رغم أنف من أبى ذلك كائنا من كان فمن جاءك بما يخالف هذا من ساقط القول وزائف العلم بل الجهل فاضرب به في وجهه وقل له قد تقدم هذيانك هذا برهان محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه:
دعوا كل قول عند قول محمد ... فما آمن في دينه كمخاطر
وكما أنه قد تقدم الحكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قام بهذه الأركان الخمسة بالإسلام فقد حكم لمن آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره بالإيمان وهذا منقول عنه نقلا متواترا فمن كان هكذا فهو المؤمن حقا وقد قدمنا قريبا ما ورد من الأدلة المشتملة على الترهيب العظيم من تكفير المسلمين والأدلة الدالة على وجوب صيانة عرض المسلم واحترامه(1/981)
يدل بفحوى الخطاب على تجنب القدح في دينه بأي قادح فكيف إخراجه عن الملة الإسلامية إلى الملة الكفرية فإن هذه جناية لا تعدلها جناية وجرأة لا تماثلها جرأة وأين هذا المجترىء على تكفير أخيه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، وهو ثابت في الصحيح [البخاري "13"، مسلم "45"] ، ومن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت عنه في الصحيح [مسلم "32/2564"، أيضا: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه"، ومن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت عنه في الصحيح أيضا: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"، ومن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام"، وهو أيضا في الصحيح وكم يعاد العاد من الأحاديث الصحيحة والآيات القرآنية والهداية بيد الله عزوجل: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56] .
[فصل
وعلى كل مكلف مسلم الأمر بما علمه معروفا والنهي عما علمه منكرا ولو بالقتل إن ظن التأثير والتضيق ولم يؤد إلى مثله أو أنكر منه أو تلفه أو عضو منه أو مال مجحف فيقبح غالبا ولا يخشن إن كفى اللين ولا في مختلف فيه على من هو مذهبه ولا غير ولي على صغير بالإضرار إلا عن إضرار] .
قوله: "فصل: ويجب على كل مكلف الأمر بما علمه معروفا والنهي عما علمه منكرا".
أقول: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هما العمادان العظيمان من أعمدة هذا الدين والركنان الكبيران من أركانه ولا يتسع لما ورد في ذلك من الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة النبوية إلا مؤلف مستقل وهو مجمع على وجوبهما إحماعا من سابق هذه الأمة ولاحقها لا يعلم في ذلك خلاف وإنما وقع الخلاف بينهم في قيود قيدوا بها هذا الوجوب وسيأتي الكلام عليها.
وإذا عرفت هذا كان كل مسلم يجب عليه إذا رأى منكرا أن يغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه كما صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وظهور كون هذا الشيء منكرا يحصل بكونه مخالفا لكتاب الله سبحانه أو لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو لإجماع المسلمين ثم إذا كان قادرا على تغييره بيده كان ذلك فرضا عليه ولو بالمقاتلة وهو إن قتل فشهيد وإن قتل فاعل المنكر فبالحق والشرع قتله ولكنه يقدم الموعظة بالقول اللين فإن لم يؤثر ذلك جاء بالقول الخشن فإن لم يؤثر ذلك انتقل إلى التغيير باليد ثم المقاتلة إن لم يمكن التغيير إلا بها فإن كان غير قادر على الإنكار باليد أنكر باللسان فقط وذلك فرضه فإن لم يستطع الإنكار باللسان(1/982)
أنكر بالقلب وهذا يقدر عليه كل أحد وهو أضعف الإيمان كما قاله الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم وبهذا تعرف أن اشتراط ظن التأثير إنما هو في الإنكار باليد ثم في الإنكار باللسان وأما الإنكار بالقلب فهو فرض على كل مسلم ولا يحتاج إلى تقييده بظن التأثير لأنه أمر كائن في القلب لا يظهر في الخارج ولا يحصل به تأثير.
وأما قوله: "والتضيق" إلخ فوجه ذلك أنه لا يكون الشيء منكرا من فاعله إلا عند فعله أو عند الشروع في مقدماته ولكنه إذا ظن أن المنكر لا محالة واقع من فاعله ولو بعد حين كان عليه أن ينكر وإن لم يحضر وقت فعله لأن الكف عنه قبل الشروع فيه أو الانتهاء لفعله أقطع لعرقه وأحسم لمادته.
قوله: "إن لم يؤد إلى مثله أو أنكر منه".
أقول: اعتبار هذا الشرط منه فإنه إذا كان القيام في مقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤدي إلى تجريء من وقع الأمر أو النهي له كما يفعل ذلك كثير من الظلمة الذين لايرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ولا ينزجرون بزواجر الله بل يجاوزون ما هم فيه إلى ما هو أشد منه قمعا لمن ينكر عليهم وسدا لباب إقامة حجة الله عليهم وحسما لمادة موعظة الواعظين لهم وقطعا لذريعة المناصحة من الناصحين وتأييسا للمظلومين على الفرج فلا يطمعون بعدها في الالتجاء إلى أهل العلم والفضل فها هنا يحق السكوت والرجوع إلى الإنكار بالقلب لأن التعرض للإنكار باليد واللسان ينشأ عنه اتساع دائرة المنكر على المظلومين ويحل بهم زيادة على ما هم فيه من المصيبة النازلة بهم وفي الشر خيار وقد ارتفع الوجوب بل ارتفع الجواز لأنه يوجب حدوث مظلمة مع تلك المظلمة ومنكمع ذلك المنكر ومن أعظم ما يؤدي إليه الإنكار أن يفضي إلى تلف نفس المنكر أو عضو منه أو يذهب بماله مع عدم حصول التأثير الذي هو المطلوب بالإنكار وأي تأثير وقد تضاعف بسببه الشر وتزايد لأجله الظلم وانتهكت حرمة مع الحرمة وانضمت مصيبة إلى مصيبة بخلاف ما قدمنا من أنه يجب عليه المقاتلة إذا لم يمكن التقيد إلا بها فإنه هنالك على ثقة من التأثير وتمام ما تصدى له وأقل الأحوال أن يحصل معه الاحتمال وأما هنا فقد انقطع طمعه وارتفع رجاؤه مع ما انضم إلى ذلك من التأدية إلى ما هو أنكر منه.
قوله: "ولا يخشن إن كفى اللين".
أقول: وجه هذا أنه يجب التوقف في الإنكار على قدر الحاجة وقد حصل المطلوب هنا بدون التخشين فالانتقال إلى التخشين مع تأثير التليين انتقال لم يأذن الله به ولا اقتضته الضرورة وقد أشار إلى سلوك هذا المسلك قول الله عزوجل: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] ، فإذا كان الله سبحانه قد أرشد رسله إلى التأدب بهذا الأدب مع أكفر الكفرة وأعظم العتاة المتمردين عليه فسلوكه مع القائمين مقام الإنكار الذين هم غير رسل مع بعض العصاة أو الظلمة من المسلمين أولى وأحق وأقدم وألزم.(1/983)
قوله: "ولا في مختلف فيه على من هو مذهبه".
أقول: هذه المقالة قد صارت أعظم ذريعة إلى سد باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهما بالمثابة التي عرفناك والمنزلة التي بيناها لك وقد وجب بإيجاب الله عزوجل وبإيجاب رسوله صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة الأمر بما هو معروف من معروفات الشرع والنهي عما هو منكر من منكراته ومعيار ذلك الكتاب والسنة فعلى كل مسلم أن يأمر بما وجده فيهما أو في أحدهما معروفا وينهي عما هو فيهما أو في أحدهما منكرا وإن قال قائل من أهل العلم بما يخالف ذلك فقوله منكر يجب إنكاره عليه أولاثم على العامل به ثانيا وهذه الشريعة الشريفة التي أمرنا بالأمر بمعروفها والنهي عن منكرها هي هذه الموجودة في الكتاب والسنة وأما ما حدث من المذاهب فليست بشرائع مستجدة ولا هي شرائع ناسخة لما جاء به خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم وإنما هي بدع ابتدعت وحوادل في الإسلام حدثت فما كان فيها موافقا للشرع الثابت في الكتاب والسنة فقد سبق إليه الكتاب والسنة وما كان منها مخالفا للكتاب والسنة فهو رد على قائله مضروب به في وجهه كما جاءت بذلك الأدلة الصحيحة التي منها: "كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد" فالواجب على من علم بهذه الشريعة ولديه حقيقة من معروفها ومنكرها أن يأمر بما علمه معروفا وينهى عما علمه منكرا فالحق لا يتغير حكمه ولا يسقط وجوب العمل به والأمر بفعله والإنكار على من خالفه بمجرد قول قائل أو اجتهاد مجتهد أو ابتداع مبتدع.
فإن قال تارك الواجب أو فاعل المنكر قد قال بهذا فلان أو ذهب إليه فلان أجاب عليه بأن الله لم يأمرنا باتباع فلانك بل قال لنا في كتابه العزيز: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] ، فإن لم يقنع بهذا حاكمه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما أمرنا الله سبحانه في كتابه بالرد إليهما عند التنازع.
قوله: "ولا غير ولي على صغير بالإضرار إلا لإضرار".
أقول: وجه هذا أن قلم التكليف مرفوع عن الصغير فإذا رآه يعمل معصية من المعاصي فتلك إنما هي معصية بالنسبة إلى المكلفين لا إلى من لا تكليف عليه لكنه يحول بينه وبينها لأنه إذا اعتاد الإقدام عليها قبل التكليف هان عليه مقارنتها بعد التكليف والولي أقدم من غيره ثم أهل الولايات ثم سائر الناس وأما إذا أقدم الصغير والمجنون على بدن الغير أو على ماله وجب علينا الدفع عنه لأن بدنه وماله معصومان بعصمة الإسلام وترك الصبي أو المجنون يفعلان ذلك منكر لا بالنسبة إليهما بل بالنسبة إلينا ونحن مأمورون بإنكار المنكر بل يجب ذلك علينا ولو كان فاعله من غير بني آدم فإن الدابة إذا أقدمت على بدن المسلم أو ماله كان حقا علينا أن ندفعها عنه ونحول بينها وبينه حفظا لحرمته وحرمة ماله وقياما بما أوجب الله له علينا فإن لم يندفع الصبي أو المجنون أو الدابة إلا بالإضرار بهم كان ذلك واجبا علينا.(1/984)
[فصل
ويدخل الغصب للإنكار ويهجم من غلب في ظنه المنكر ويريق عصيرا ظنه خمرا ويضمن إن أخطأ وخمرا رآها له أو لمسلم ولو بنية الخل وخلا عولج من خمر ويزال لحن غير المعنى في كتب الهداية وتحرق دفاتر الكفر إن تعذر تسويدها وردها وتضمن وتمزق وتكسر آلات الملاهي اللاتي لا توضع في العادة إلا لها وإن نفعت في مباح ويرد من المكسور ماله قيمة إلا عقوبة وبغير تمثال حيوان كامل مستقل مطلقا أو منسوج أو ملحم إلا فراشا أو غير مستعمل لا المطبوع مطلقا وينكر غيبة من ظاهره الستر وهي أن تذكر الغائب بما فيه لنقصه بما لا ينقص دينه قيل أو ينقصه إلا إشارة أو جرحا أو شكا ويعتذر المغتاب إليه إن علم ويؤذن من علمها بالتوبة ككل معصية] .
قوله: "فصل: ويدخل الغصب للإنكار".
أقول: وجه هذا أن النهي عن المنكر فرض وإذا لم يم إلا بدخول المنزل وجب ذلك لأن ما لا يتم الواجب إلا به يجب كوجوبه وهذا المنزل الذي فيه المنكر إن كان لفاعلي المنكر فلا حرج في دخوله قط وإن كان لغيرهم فليس في دخوله من المعصية ما يوازن بعض ما في ترك إنكار المنكر من المعصية ولا شك ولا ريب أن مفسدة ترك إنكار المنكر يجب تقديمها على مفسدة دخول المكان الغصب لإجماع أهل العلم على تأثير أعظم المفسدتين على اخفهما فالقول بأن إنكار المنكر بالدخول معارض بمثله من دخول الغصب جمود وغفلة.
قوله: "ويهجم من غلب في ظنه المنكر".
أقول: أما مجرد الظن فلا يكفي في مثل هذا بل لا بد من العلم على ما فيه من التجسس المنهي عنه بنص القرآن الكريم ولكن لمصلحة إنكار المنكر أرجح من مصلحة ترك التجسس ومفسدة ترك إنكار المنكر أشد من مفسدة التجسس وأيضا يمكن الجمع بأن تحريم التجسس مقيد بعدم العلم بوقوع المنكر لأنه لا يسمى تجسسا إلا إذا كان فاعله على غير بصيرة من أمره وقد دخل صلى الله عليه وسلم على حمزة لما جب أسنمة شارفي علي بن أبي طالب وقعد في بيته يشرب وتغنيه القينات كما هو ثابت في الصحيح.
قوله: "ويريق عصير ظنه خمرا".
أقول: وجهه كون ذلك مظنة للمنكر ولكن مجرد الظن لا يغني في مثل هذا بل لا يجوز الإقدام على الإراقة إلا بعلم فإذا علم بذلك وجبت عليه الإراقة لأن بقاء الخمر مع وجود من يجوز عليه شربها من الفسقة واجب وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإراقة الخمور [البخاري "5582، 5583"] ، عند نزول تحريمها وفعل ذلك كل من عنده شيء منها فهذه سنة قائمة وشريعة ثابتة والقول بأن المحرم إنما هو شربها لا عينها كلام لا حاصل له ولا يدل عليه رواية ولا دراية(1/985)
وهذا القول بأن إراقتها عند نزول تحريمها إنما كان لقطع ذريعة شربها فإن هذا بعينه كائن في غير زمن الصحابة الذين هم خير القرون وهم أتقى لله من أن يكونوا مظنة لعدم امتثال ما قد نزل تحريمه عليهم من جهة الله سبحانه بل مثل هذه المظنة حاصل فيمن بعدهم من الفسقة المتمرئين على محارم الله عزوجل.
واما قوله: "وخمرا رآها أو لمسلم" فوجهه ظاهر إذا كان على بصيرة ولم يكن ذلك بمجرد الظن.
واما قوله: "ولو بنية الخل" فلا وجه له لأن هذا العصير لم يقصد به المعصية بل قصد به ما هو حلال جائز كما روي عنه صلى الله عليه وسلم أن الخل خير الإدام [مسلم: "167/2052"، أبو داود "2821"، النسائي "3805"] ، وهكذا قوله: "وخلا عولج من خمر"، فإنه لا وجه له لما ذكرناه والأمر في هذا ظاهر.
قوله: "ويزال لحن غير المعنى في كتب الهداية".
أقول: وجه هذا أن بقاءه لا سيما مع مظنة أن يعمل به عامل ممن ليس له بصيرة كاملة منكر يجب على الواقف عليه أن يغيره بحسب الإمكان ومثل هذا داخل تحت أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنه لم يخص صورة دون صورة ومن هذا قوله ويحرف دفاتر الكفر لأن بقاءها منكر لتجويز أن يقف عليها من يميل إلى شيء مما فيها وإذا أمكن تسويدها فقد حصل المطلوب ولم يبق فيها ما يجب قطع ذريعته وحسم مادته فإرجاعها لمالكها بعد التسويد متوجه لأنها باقية في ملكه وقد زال ما كان فيها من المنكر.
قوله: "وتمزق وتكسر آلات الملاهي" الخ.
أقول: وجه هذا هو ما قدمناه في إراقة الخمر وقد أخرج أحمد "5/257، 268"، وغيره من حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله بعثني رحمة وهدى للعالمين وأمرني أن أمحق المزامير والكبارات - يعني البرابط - والمعازف والأوثان التي كانت تعبد في الجاهلية"، ولا يخفاك أن محقها تكسيرها وتمزيقها وإذا كان هناك في مثل آلات هذه الملاهي التي هي أقل مفسدة من عين الخمر فإراقة الخمر ثابتة بالأولى كما قدمنا وفي إسناد هذا الحديث علي بن زيد الشامي وقد تكلم فيه بعض أهل العلم بما لا يوجب طرح روايته وترك العمل بما جاء من طريقه
وأما كونه يرد من الكسور ماله قيمة فلا بد من تقييده بكونه لا يصلح لتجديد آلة أخرى لا كلا ولا بعضا.
قوله: "وبغير تمثال حيوان كامل" الخ.
أقول: الأدلة في تحريم التصوير كثيرة جدا وورد ما يدل على تغييرها على العموم سواء كانت تمثال حيوان أو غيره كما في حديث عائشة عند البخاري "10/385"، وغيره قالت إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك في بيته شيئا فيها تصاليب إلا نقضه والتصاليب صور الصليب وفي لفظ في البخاري وغيره [أحمد "17/285"] : "لم يكن يدع في بيته ثوبا فيه(1/986)
تصليب إلا نقضه"، وفي الصحيحين [البخاري "5954، 5957، 5961"، مسلم "2105"] ، وغيرهما من حديث عائشة أنها نصبت سترا وفيه تصاوير فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزعه قالت فقطعته وسادتين فكان يرتفق عليهما وورد ما يدل على عدم تحريم تصوير غير الحيوان ومن ذلك ما أخرجه أحمد "2/305، 478"، وأبو داود "4158"،والترمذي 2806"، وصححه من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل الليلة فقال: إني كنت أتيتك الليلة البارحة فلم يمنعني أن أدخل البيت الذي أنت فيه إلا أنه كان في البيت تمثال رجل وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل وكان في البيت كلب فمر برأس التمثال الذي في بابا لبيع يقطع حتى يصير كهيئة الشجرة"، الحديث فإن قوله: "حتى يصير كهيئة الشجرة"، يدل على جواز تصوير ما عدا الحيوان ومن ذلك ما في الصحيحين [البخاري "2225، 5963"، مسلم "2110"، وغيرهما من حديث ابن عباس وجاءه رجل فقال إني أصور هذه التصاوير فأفتني فيها؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل مصور في النار يجعل بكل صورة صورها نفسا يعذبه في جهنم فإن كنت لا بد فاعلا فاجعل الشجرة وما لا نفس له"، ولا يخفاك أن قوله: "يجعل له بكل صورة صورها نفسا" يدل على أن هذا الوعيد هو في تصوير حيوان وأما قول ابن عباس فإن كنت لا بد فاعلا فاجعل الشجرة وما لا نفس له فليس هو من الرواية بل من قوله واقتصاره صلى الله عليه وسلم في هذه الرواية على الوعيد على تصوير ما له نفس لا ينافي وجوب تقييد ما كان على غير صور الحيوانات من سائر المخلوقات كما يفيد ذلك ما تقدم من حديثي عائشة لكن حديث أبي هريرة المذكور قد دل على جواز تصوير الشجر فيمكن الجمع بأن التصالب فيها صورة حيوان وهكذا التصاوير المذكورة في حديث عائشة الآخر فيكون المنع متوجها إلى تصوير الحيوان فقط.
وأما قوله: "أو منسوج أو ملحم" فوجهه أنه يصدق على ذلك أنه تصوير ولا يصلح لتخصيص بعض صور التصوير ما ورد عن بعض الصحابة من قوله إلا رقما من ثوب كما يصلح قول ابن عباس لتخصيص التحريم بما هو من الحيوانات.
وأما قوله: "إلا فراشا" فوجهه ما تقدم في حديث عائشة أنها جعلت من الستر الذي نزعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسادتين وكان رسول الله يرتفع عليهما وفي لفظ لأحمد ["6/103"] : "فلقد رأيته متكئا على أحدهما وفيه صورة".
قوله: "وينكر غيبة من ظاهره الستر" الخ.
أقول: الغيبة قد تطابق على تحريمها الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله عزوجل: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات: 12] ، فهذا نهي عام لكل ما يطلق عليه اسم الغيبة ثم ذكر الله سبحانه لذلك مثالا يؤكد تحريمها ويشدد إثمها فقال: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} [الحجرات: 12] ، فإن لحم الإنسان مستكره من حيث الطبع للنوعية الواقعة بين الأفراد الإنسانية ولو كان لحم عدو فكيف وهو لحم أخ فكيف إذا كان ميتا.
وأما السنة فإن الإحاديث الصحيحة القاضية بتحريم الغيبة الثابتة في الصحيحين وغيرهما ومن ألفاظهما الثابتة في الصحيح [مسلم "2589"] ، أنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة فقال: "الغيبة ذكرك(1/987)
أخاك بما يكره"، فقال السائل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وأم لم يكن فقد بهته".
وأما الإجماع على التحريم فقد نقله الثقات وإذا تقرر لك هذا فقد علمت أنها من أشد المنكرات وأعظم المحرمات فإنكارها على فاعلها واجب على كل مسلم وقد صحت أحاديث تحريم الأعراض كتحريم الدماء والأموال كما في حديث خطبة حجة الوداع [البخاري "105، 1741، 3197، 4406، 4662، 5550، 7078، 7447"، مسلم 1679"، أبو داود 1948"، ابن ماجة "233"، أحمد "5/37، 39، 49" وغيره مسلم "2564"، الترمذي ط1927"] ، وما لا يجوز من الغيبة وتكلمنا على كل صورة من الصور الست التي استثناها العلماء بما يشفي ويكفي مما لم يسبق إليه أحد فليرجع إلى ذلك إن شاء الله.
وأما قوله: "لنقصه بما لا ينقص دينه" فلا يخفاك أن الأدلة قد دلت على تحريم ذكره بما يكره من غير فرق بين ما ينقص دينه وما لا ينقصه وما يزعمونه من أنه ورد حديث بجواز ذكر الفاسق بما فيه فليس لذلك أصل واستثناء بعض أهل العلم المجاهر بالمعاصي وعموم الأدلة وإطلاقاتها ترد عليه.
وأما ما استدل به البعض وهو ما أخرجه الطبراني بلفظ: "حتى متى تورعون عن ذكر الفاجر اهتكوه حتى يحذره الناس" فأين يقع هذا الحديث على فرض أن له إسنادا يثبت وكيف يخصص به الجبال الرواسي من الكتاب والسنة والإجماع على أنه لم يكن في لفظه ما يشابه ألفاظ النبوة التي أعطي صاحبها جوامع الكلم فلا يبعد أن يكون موضوعا ومن استروح إلى مثل هذا الدليل الذي لا يسمن ولا يغني من جوع فقد استجره الشيطان إلى الوقوع في هذه المعصية العظيمة المعادلة لظلم الظالمين بسفك الدماء ونهب الأموال فهذا المغتاب قد صار في عداد الظالمين وفي المنزلة التي هم بها من الإثم والعقوبة بلا فائدة له ولا عائدة إلى غضب الله عليه وعقوبته له وأما الظلمة بسفك الدماء وأخذ الأموال فقد انتفعوا بظلمهم بالدنيا بالتشفي والانتفاع بالأموال وهذا البائس صار كما قال الشاعر:
وتركت حظ النفس في الدنيا وفي ... الأخرى ورحت عن الجميع بمعزل
قوله: "الإشارة".
أقول: وجه جواز ذلك أنه قد ثبت مشروعية المشاورة ثم مشروعية المناصحة وهي من جملة حقوق المسلم على المسلم كما ثبت ذلك في الصحيح ولكن ليس ها هنا ما يضطر هذا المشير إلى الغيبة فإنه يمكن القيام بذلك بدونها كأن يقول للمستشير لا أشير عليك بهذا أو لا تفعل كذا أو نحو ذلك وليس عليه زيادة على هذا فإن الدخول في اغتياب من وقعت فيه المشاورة فضول من المشير لم يوجبه الله عليه ولا تعبده به ولا ألجأته إليه الضرورة.
قوله: "أو جرحا".(1/988)
أقول: وجه هذا إجماع المسلمين سابقهم ولاحقهم على جرح من يستحق الجرح من الرواة والشهود ولولا ذلك لوجد الكذابون إلى الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم مجالا واسعا وقالوا ما شاؤوا ووجد شهود الزور إلى أخذ أموال العباد طريقا قريبة ولكنه يجب التوقف من ذلك على قدر الحاجة فإن كفى الإجمال لم يجز للجارح أن يتعرض للتفصيل وإن لم يكف الإجمال كان له أن يأتيم أن التفصيل بما لا بد منه.
قوله: "أو شكا".
أقول: إن كان المشكو عليه ممن لا ينتفع به الشاكي ولا يرجو منه فائدة فليس ذلك بمسوغ للغيبة وإن كان ينتفع به ويرجو منه إراحته مما وقع فيه فهذا جائز وقد استثنى الله سبحانه ذلك في كتابه بقوله: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] .
قوله: "ويعتذر المغتاب إليه إن علم".
أقول: وجهه أن الغيبة مظلمة وجناية على عرض مسلم معصوم فالتوبة منها واجبة ولا يكون ذلك إلا بالتحلل من المظلوم والتضرع إليه بأن يعفو ولا وجه لقوله إن علم لأن المظلمة قد وقعت سواء علم أو لم يعلم فلا مخلص عنها إلا عفوه عنه.
قوله: "ويؤذن من علمها بالتوبة ككل معصية".
أقول: وجه ذلك أنه يدفع عن نفسه استمرار اعتقاد من علم منه ذلك بأنه ممن يجترىء على ما حرمه الله سبحانه من الغيبة تخليصا لهم من الاستمرار على اعتقاد قد زال سببه وتخليصا لنفسه من أن يكون محلا كذلك مخيرا عليه عاصيا لله بسببه وهكذا سائر المعاصي ومما يرشد إلى هذا ما ثبت ثبت في الصحيح [البخاري "2035، 2038، 3101"، مسلم "24/2175"، أبو داود "2470"] ، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجلين رأياه وهو يمشي مع بعض نسائه فقال لهما: "إنها فلانة"، فاستنكرا هذه المقالة منه صلى الله عليه وسلم لأنه المعصوم عن كل ذنب المبرأ من كل شين فقال لهما: "خشيت أن يقذف الشيطان في قلوبكما"، يعني فتظنان ظن السوء.
[فصل
ويجب إعانة الظالم على إقامة معروف أو إزالة منكر والأقل ظلما على إزالة الأكثر مهما وقف على الرأي ولم يود إلى قوة ظلمه ويجوز إطعام الفاسق وأكل طعامه والنزول عليه وإنزاله وإعانته وإيناسه ومحبته لخصال خير فيه أو لرحمة لا لما هو عليه وتعظيمه والسرور بمسرته في حال والعكس في حال لمصلحة دينية.
وتحرم الموالاة وهي أن تحب له كل ما تحب وتكره له كل ما تكره فيكون(1/989)
كفرا أو فسقا بحسب الحال "ص بالله" أو يحالفه ويناصره انتهى.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين] .
قوله: "فصل: ويجب إعانة الظالم على إقامة معروف أو إزالة منكر".
أقول: قد قررنا فيما سبق أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الفرائض الإسلامية وأهم الواجبات الدينية والظالم إذا قام بذلك فقد قام بحق وإذا احتاج إلى من يعينه على ذلك كانت إعانته واجبة لأنها إعانة على حق وقيام لأجل الحق لا لأجل الظالم نفسه ومعلوم أن الحق لا يخفى فهذا المعين للظالم على الحق قد دخل تحت قول المصنف فيما سبق فصل ويجب على كل مكلف الأمر بما علمه معروفا والنهي عما علمه منكرا لأنه مع حاجة الظالم القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى إعانته قد صار مكلفا بذلك لتكليفه به ابتداء فلا حاجة إلى ذكر هذه الصورة بخصوصها ها هنا ومن هذا القبيل إعانة الأقل ظلما من الفسقة على الأكثر ظلما إذا كان يندفع بهذه الإعانة ظلم الأكثر ظلما أو بعضه فإن هذا داخل تحت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وأما قوله: "مهما وقف على الرأي" فوجهه أنه إذا لم يقف على رأي المعينين له من المؤمنين خبط في الضلالة لكن ليس المطلوب إلا توقفه على رأيهم في نفس دفع ظلم الأكثر ظلما إلا في جميع أموره فإن المفروض أنه ظالم وعليهم الإنكار عليه في ظلمه الخاص به بما يجب عليهم وما يستطيعونه.
وأما قوله: "ما لم يؤد إلى قوة ظلمه" فليس له كثير فائدة لأن المفروض أنه أقل ظلما وأنه يندفع بقيامه وإعانة المعينين له ظلم الأكثر ظلما أو بعضه فلو كانت هذه الإعانة مؤدية إلى قوة ظلمه بحيث يصير مثل الظالم الآخر أو أكثر ظلما منه كان في إعانته إنشاء ظلم لم يكن وإحداث منكر لم يقع وترك التعرض لذكر مثل هذا أقوم من التعرض لدفع منكر هو واقع لا بسبب إعانتهم لفاعله لأنهم مشاركون في هذا الظلم من التعرض لدفع منكر هو واقع لا بسبب إعانتهم لفاعله لأنهم مشاركون في هذا الظلم لا في ذاك.
قوله: "ويجوز إطعام الفاسق وأكل طعامه".
أقول: هذا الجواز معلوم لا شك فيه وقد جاز في الكفار قال الله عزوجل: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5] ، وقد أكل النبي صلى الله عليه وسلم من طعام الكفار كما في الشاة التي أهدتها له اليهودية بعد أن طبختها لكن إذا كانت مؤاكلة الفاسق تؤدي إلى فتور المؤمن عن القيام بما يجب عليه إنكاره على الفاسق أو تؤدي إلى تجريء الفاسق على فسقه كان هذا وجها للمنع من هذه الحيثية لا من حيثية كونه فاسقا.
قوله: "والنزول عليه" الخ.
أقول: الدليل على من زعم أنه لا يجوز النزول على الفاسق ولا إنزاله ولا محبته فإنه رجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم وما هو فيه من الفسق يجب إنكاره عليه بما(1/990)
يقتضيه الشرع باليد ثم باللسان ثم بالقلب وليس الممنوع إلا أن يحبه لأجل فسقه ومعصيته لا لأجل كونه رجلا من المسلمين ولا لأجل كونه رحما له وإذا كان مجرد الأخوة الإسلامية كافيا في جواز المحبة كان جوازها لخصال الخير والرحامة مما لا ينبغي أن يتردد فيه ولا يحتاج إلى النص عليه وقد قال الله سبحانه في الكفار: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ} [الممتحمة: 8] ، الآية.
قوله: "وتعظيمه والسرور بمسرته" الخ.
أقول: هذا يكفي في جواز كون الفاسق رجلا من المسلمين كما قدمنا ومعلوم وجود الأخوة الإسلامية بين المطيع والعاصي من المسلمين وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، وقال: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه"، [البخاري "2442"، مسلم ط2580"، أبو داود "4893"، الترمذي "1426"] ، والأحاديث [البخاري "6076"، مسلم ط2559"، أبو داود "4910"، الترمذي "1935"] ، في هذا الباب كثيرة وكذلك العمومات القرآنية.
وبهذا تعرف أنه لا وجه لتقييد الجواز بقوله: "لمصلحة دينية" وإنما الممنوع أن يعظمه لمعصيته وفسقه أو يسر بما يسر من خصال الشر التي هي من معاصي الله سبحانه.
قوله: "وتحرم الموالاة".
أقول: هذه الموالاة للفاسق هي واجبة من حيث كونه رجلا من المسلمين ومن حيث كونه أخا للمؤمنين كما يدل على هذا الحديث المتقدم: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" وهو في الصحيح ومعناه ثابت في الكتاب والسنة ثبوتا لا يخفى ولا يتحقق عدم جواز الموالاة إلا في موالاته لأجل ما هو عليه من الفسق والفجور.
وأما قول المصنف: "فيكون كفرا أو فسقا فتسرع إلى التكفير والتفسيق على غير بصيرة وهكذا لا تحرم محالفة الفاسق على حق ومناصرته حيث تحق المناصرة وذلك بأن يكون محقا فيما حولف به أو نوصر عليه وإنما الممنوع محالفته في باطل ومناصرته على ما هو عليه من الفسق,
وبهذا تعرف أنه لا بد من التفصيل في جميع ما ذكره المصنف ها هنا فإن قلت: إذا التبس علينا ما هو المقصود من هذه المداخلة للفسقة والمحبة والموالاة والمحالفة والمناصرة؟ قلت: يجب علينا حمل ذلك على المحمل الحسن والمقصد الصالح فإن هذا مع كونه الواجب علينا بأدلة الكتاب والسنة هو أيضا من أسباب الفوز بخير الدنيا والآخرة.
[وإلي هنا انتهي هذا المؤلف المسمي بالسيل الجرار المتدفق علي حدائق الأزهار بقلم مؤلفه محمد بن علي الشوكاني غفر الله له وكان الفراغ منه في ضحوة يوم الجمعة لعله سلخ شهر محرم من شهور سنة خمس وثلثين بعد المئتين والألف من الهجرة النبوية، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات والصلاة والسلام على رسوله خاتم المرسلين وعلي آله وصحبه الطاهرين] .(1/991)
[وكان فراغي من رقمه بعناية مؤلفه حماه الله تعالى وجزاه ثواب ما ابتغاه في آخر نهار الجمعة المبارك لعله تاسع شهر حمادي الآخرة من شهور سنة خمس وثلاثين.
وأنا الفقير إلي رحمة الله الغني الرزاق، أحمد بن محسن إسحاق غفر الله له ولوالديه وللمؤمنين. آمين] .(1/992)